سليمان حسين
مُضمرات النصِّ والخطاب
دراسة
في عالم جبرا إبراهيم جبرا الروائي
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999
البريد الالكتروني:
Enternet : aru@net.sy
Email : unecriv@net.sy
(((
الإهداء...(
إليهم يُشيدون كوناً بلحمِ الَحَجَرْ
إلينا لتُبنى قُبورٌ بنا ونقتاتَ لَحْمَ الضَّجَرْ
إلى كُلِّ مَنْ لَمْ يتلقَّ هديةً إلى الآن
(
المقدّمة: فحوى التّناول النّقديّ
العمل الرّوائيّ موازاة إبداعيّة فنيّة تخييلية للواقع والتاريخ، موازاة فاعلة، بمعنى أنها لا تقتصر على النقل الواقعيّ التسجيليّ وإنما تنزع إضافة إلى ذلك، إلى البحث في حلول مآزق العالمِ، وهذا دأب الرّوايةِ العظيمة التي تتنوع معالجتها وحلولها، وتجعل طموحها الأكبر البحث في تلك الحلول، وتنبع عظمة الرّواية من قدرتها على عرض مجموعة من المآزق الكبرى ومعالجتها معالجة توازيها بمستواها الإشكاليّ والفنيّ وهذا يعني أنّ منزع الرّواية الفكريّ والأيديولوجيّ هو المنزع الأساس في العمليّة الإبداعيّة، وهو الهدف الأسمى للإبداع، ولهذا عددنا القدرة علىتحرّي رؤى العالم وآفاقه وقضاياه والبحث في فحواه المرتكز الذي يَهَبُ الرّواية عظمتها، ولكنّنا لا نستطيع في أي حالٍ من الأحوال أن نغفل المكّون الأساسيّ الثاني في أيّ عملٍ إبداعيّ مكتوب أو ملفوظ، وهو البنية النصيّة بعناصرها ومكوّناتها كافة،..... ابتداءً بالعنصر الأهمّ (اللغة) وعبوراً إلى المكوّنات الفنّية من تصوير وتخييل ونظم وامتداد دلالة وانحيازها، وانتهاءً بقدراتٍ فنية خاصة يتميز بها كلّ فنّ، بل كل نوع عن الآخر، فالأدوات التي تميز الرّواية، مجال بحثنا، عن الأنواع الأدبيّة الأخرى طرائق السّرد والحوار والتعّامل الخاصّ مع الزّمان والمكان وطرائق بناء الشخصيّات وانبناء الحدث...(1/1)
لهذا نجد أن وظيفة أيّ دراسة تتوجه إلى النّص الرّوائيّ لمقاربته استيعاءُ البحث في جميع مضمراته النصيّة والخطابيّة؛ لأن التكامل في استيعاء مكوّنات الحديث الرّوائي يقرّب من فهم العالم الكليّ، ويجعل هذا الفهم أكثر دقّة، يضاف إلى ذلك أنه يساعد على إظهار القدرات الإبداعيّة وتوضيحها وتقديمها بسهولة ويسر إلى المتلقي علاوة على كشف المضمرات المخبوءة غير الظاهرة للمعاينة النقديّة.
اعتماداً على ما تقدّم يمكن أن نقول بجرأة كافية وبدلائل ستأتي لاحقاً في فصول البحث كافة: إن العالم الرّوائي لجبرا إبراهيم جبرا ينتمي إلى العالم الروائي الذي تحدثنا عنه والذي تميّزه قدرات إبداعية فائقة تمنحه سمات الرّواية العظيمة.
إن بحثنا هذا الذي ندّعي فيه شمول العناصر الدّراسية حاملُ الامتداد إلى مكوّنات حّدي الحديث الرّوائي النّصّ والخطاب، فتحت مصطلح (الخطاب) درست المضامين وامتدادات النّصَ النّفسية ومضمراته الأيديولوجية وما يتعلق بها من رؤى وأفكار وعوالم. وفي مجال مصطلح (النصّ) درست العناصر الفنيّة التي ينبني عليها عالم النّصَ الفنّي من لغةٍ وتصوير وسرد وحوار وشخصيّات وحدث وزمان ومكان...
وهذا مادعا إلى البحث في محورين اثنين:
المحور الأول:درس هذا المحور في باب خاصّ بعنوان: الرّواية والأيديولوجيا، وقد أوليناه اهتماماً كبيراً، لأننا كما أسلفنا، نرى أنّه المنزع الأيديولوجي الأساس الوظيفي للإبداع.(1/2)
وكان أهمّ فصول هذا الباب: المصادر الأيديولوجيّة للرّوائيّ جبرا إبراهيم جبرا وتجليها في خطابه الرّوائيّ وأهم هذه المصادر المصدر المسيحي والثقافة الغربية بمكوّناتها كافة؛ ويتجلى ذلك في مترجماته التي تجاوزت الثلاثين في جميع الحقول المعرفيّة، وكذلك تجلّت في نفسه الأدبية منابع الثقافة العربية التراثية والحداثية على حدّ سواء؛ وهو مما أعطى مصادره الأيديولوجية تنوعاً وثراءً، وأدخله في عالم التّحوّلات الأيديولوجيّة بين مناطق أيديولوجية متباينة أَفَضْنا البحث فيها عن حياة الكاتب وفي إبداعه الرّوائيّ. واعتماداً على المقولة التي طرحناها من أنّ الفنّ الرّوائيّ موازاة للواقع، درسنا مكوّنات الواقع الاجتماعية والسّياسية استقصاءً تاماً لجميع المشاهد الاجتماعية والسّياسيّة والمآزق التي يعاني منها المجتمع العربيّ والحلول التي وضعها مجتمع الخطاب الرّوائي لهذه المآزق، فكان الحلّ الأوّل، وهو حلّ السّلطة، القمع والمصادرة بكافة أشكالها، والحلّ الثانيّ حل المثقف وهو متعدّد الأشكال اعتماداً على المرجعيّة الأيديولوجية للباحث عن الحلول الأخرى؛ فالحل الذي تطرحه فئة أيديولوجية تنتمي إلى الماضي هو حلّ العودة إلى الصحراء ومفارقة المدنيّة، وتطرح فئة أيديولوجية أخرى حلّ الضّياع في أروقة فوضى المجتمع، لأنها تؤمن بلا جدوى المجتمع ولا جدوى الكون. ويأتي الحلّ الثالث ليطرح التكنولوجية والأفق الحضاري بديلاً حضارياً ليدرج المجتمع العربي في حركة التسابق الحضاريّ بين أمم المجموعة الأرضيّة.(1/3)
ويخلق هذا التباين في الحلول، وفي تصورات المستقبل لدى طارحي الحلول تناقضات متوازية مع تناقضيات العالم؛ عالم الواقع، ولا تجدي جميع الحلول المطروحة فتقع الذات في مصيدة الاغتراب؛ لذلك رأينا من المهمّ بل الضروريّ أن نتابع هذا الاغتراب على مستوياته كافة؛ الفرديّ والجماعي والاغتراب الرّوحيّ والانسلاخ القوميّ والطبقيّ وأن نبحث في نشوء هذه الظاهرة وأسباب نشوئها وحلولها على الرّغم من أنّ الخطاب عرضها أحد الحلول التي تحدثنا عنها في بحث المجتمع والسياسة، ويقترن مفهوم الاغتراب في وجه من وجوهه بمفهوم آخر وهو التغريب أو ما دعوناه بالانسلاخ القوميّ، وقد طرح التغريب الفكريّ حلاً أيضاً إضافة إلى التغريب التكنولوجي، وما نقصده بالتغريب الاندماجي أو الاندغام الفكريّ والحضاريّ بالغرب الذي ندعوه الآخر المباين، والذي حاول معتنقوه أن يلغوا هذا التباين بين الذات والآخر؛ ولهذا بحثنا في فصل من الفصول العلاقة التبادلية بين الذات والآخر، ودققنا البحث ووسّعناه في رؤية الذات للآخر؛ لأنها المرتكز الأساس في هذه العلاقة، ولأن الذات (ونقصد بها المجتمع العربي بعناصره الثقافية والاجتماعية والحضارية) هي التي كانت تنزع في مطامحها ووآفاقها إلى الآخر في ضوء نظرية ابن خلدون في العلاقة بين الأمة الغالبة والأمة المغلوبة، والأمة القوية والأمة الضعيفة.(1/4)
ومما لا شك فيه أن اهتمامنا البالغ بهذه القدرات البحثية للخطاب كان وليد إحساسنا بضرورة فهم العالم الروائي، والأهم من ذلك إحساسنا بضرورة البحث في المعضلات الحضارية والثقافية التي تعانيها أمتنا في شتى المجالات، وكان اهتمامنا بخطاب جبرا؛ لأنه يعالج هذه المآزق الكبرى في تاريخ أمتنا الماضي والحاضر، والبحث عن آفاق جديدة للمستقبل العربي المتلامح، وفي هذا قد نلتمس لأنفسنا العذر في تقصيرنا الذي وقعنا فيه في بحثنا هذا لعدم إيفاء البنية النصية حقها من المعالجة وتغليب الرؤية الأيديولوجية ورؤيا المستقبل عليها.
وقد عالج الجزء الثاني من البحث البنية النصية بمفرداتها المكونّة وعناصرها جميعها، مع الاعتراف بأن هذا الجزء من البحث لم يكن ليرقى إلى إرضائنا بطرائقه وبكمّه الذي لم يغطِّ العالم الروائي، بل لم يغطِّ بحث بنية النصّ كما نطمح إليه، وجاء الزمن وهو القدرة النصية الروائية المهمة البحث الأوّل في مكونات النصّ، ولم تخلُ دراسة الزّمن من عودة الخطاب؛ لأن الخطاب طرح الزمن قدرة خطابية مؤثرة، لها فعلها ودلالاتها النفسية والفكرية واهتم هذا الفصل بدراسة هيكليّةِ الزمان وتقنياته بين مشهد وتلخيص واستباق وقفز واسترجاع وفراغ زمني لكل رواية منفردة، وقد جاءت الدراسة مستعينة ببعض البيانيات التي توضح سيرورة الزمن وتسلسله وحركته.
وعالج الفصل الثاني المكان الروائي وطبيعة المكان وعلاقته بمكان الواقع ودلالاته النفسية، وأداءه الرمزي وطرائق تصوير المكان وأنواعه، وفي الفصل التالي درسنا الشخصيات وأنماطها وفق محدِّدين اثنين: الفعل والانفعال، وقمنا بدراسة الشخصيات التي تؤلف نماذج درسية نامية بمعنى أنها شخصيات ذات قِوام يمنحها سمات الشخصية؛ من تغيّر ونمّو وتحرّك ورؤيا فكريّة وعالم نفسي متكامل سلبياً أو إيجابياً.(1/5)
وترتبط الشخصيات ارتباطاً وثيقاً بالحدث؛ لأنها الصانع الأمثل للحدث، وهذا ما جعلنا نقوم بدراسة الحدث وتكوينه وصناعته وطرائق البناء الحدثي ووصف الحدث وأنواعه وصلته بالواقع والمتخيل ودرجة التخيل وعنفه.
وفي فصل آخر تناولنا التقنية النصية المعمارية للنص وهي السرد والحوار وفق البحث في طرائق السرد وفي أنواعه ومواقع الحوار في السرد وكمه وضروراته وخصائصه التقنية.
وقد حاولنا الخروج بالدراسة الرّوائية عن النّمط المألوف، فتناولنا النصّ الرّوائي تناولاً تحليلياً مستعينين بالمقاربة النقدية للشعر في دراسة الصورة الشعرية وحاولنا إيضاح مناطق التداخل أو (التناصّ) بين الصورة الشعرية والصورة الرّوائية ووضحنا أنواع التصوير الرّوائيّ؛ كالتصوير الثابت الشبيه (بالفوتوغراف) والمتحرك (الشبيه بالسينما) وفرّقنا بينه وبين التصوير البلاغيّ الذي يعتمد التشبيهات والاستعارات والمجازات والرّموز.
وكان الفصل الختامي فصل اللغة، المكوّن النّصيّ الأساس والأول في العملية الإبداعية ومرتكز أي نص وقوامه الذي لا يكتسب وجوده إلا به وتنوعت مفردات البحث اللغوي؛ إذ درست لغة العناوين ولغة الافتتاحيات والخواتيم والأنماط والبنى اللغوية السائدة في الرّواية ليصل البحث إلى خاتمته التي صنفت الدّراسات الروائية العربية وفق الطرائق أو المناهج التي أتبعتها في التأليف أو المقاربة النقدية كما يلي:
أولاً: الدّراسات الخطابية:
1- دراسات الموضوع أو دراسات العرض.
2- الدراسات السيكولوجية.
3- الدراسات الأيديولوجية.
4- الدراسات الاجتماعيّة والسّياسيّة.
ثانياً: في الدّراسات النّصيّة:
1- الدّراسات الرّمزية.
2- الدّراسات البنائية.
3-الدّراسات اللغوية.
وذلك مقدمة للوصول إلى معايير وقيم نقديّة يمكن أن تكون ركائز لنظرية نقدية روائيّة عربية متلامحة.(1/6)
وختاماً نقول: إنّ هذا البحث محاولة تطمح أن تكون جادة وأن تحقق ما تصبو إليه من الشمول في البحث والاستقصاء ويسعدنا أن نكون قدوضعنا صُوَّةً ولو واحدة وضئيلة في الطريق إلى فهم المضمرات النصيّة والخطابيّة في الحديث الرّوائيّ.
سليمان حسين
دمشق في 18 / 7 / 1995
(((
((
الباب الأوّل
الرواية و الأيديولوجية
الفصل الأوّل
المصادر الأيديولوجية لجبرا
وتجليها في خطابه الرّوائيّ
التمهيد: الرّواية والأيديولوجيا، مفهومات وعلائق:
يحتاج كل بحث يتناول حقلاً من حقول المعرفة الإنسانية إلى تحديد أوليّ لمفهومات المصطلحات التي يستعملها؛ بخاصة إذا كانت هذه المصطلحات تشكل عنواناً رئيسياً فيه؛ لأن مساءلة البحث ومحاورته تكون وفق التحديد المقترح للمفهوم؛ ولأنّ الموضوع المتناول يقبل النسبية في الطرح وفي الفهم، بل يفتش عنها؛ وذلك كلّه يكون خاضعاً لمنهج الباحث ومرجعيّته الاجتماعية والفكريّة وخاضعاً أيضاً لتكوينه الثقافيّ والنفسيّ والحضاريّ.
من المعروف الآن عند أكثر الدّارسين في أكثر الحقول المعرفية أنّ علومهم ومعارفهم بأنواعها وتفصيلاتها قد حدّدت مفهومات نهائية لمصطلحاتها وتوافَقَ جميع مستعملي المصطلح على دلالته وكمّه المعرفيّ المحمول فيه وأصبحت المصطلحات منتمية، دون إشكال، إلى حقلها. إلا أنّ بعض المصطلحات في بعض العلوم بقي يعاني إشكالية مزدوجة في فهمه واستعماله، ودارت حوله منازعات ومناقشات حادّة لم تتوقف عند طرح الأفضليات والتعديلات بل تعدته إلى النقض والإلغاء، ويمكننا أن نشير إلى "الأيديولوجية" مصطلحاً مثالاً على هذه الإشكالية.(1/7)
خضع المصطلح (الأيديولوجية) في سير تطوره وانتمائه إلى حقل الدلالة القصدية المصطلحية، لآلية تدريجية ارتقائية ليس بالمفهوم القيمي للارتقاء، ولكن بالمفهوم التطوري الموضوعي؛ فهو؛ كأي مصطلح، كان في الأصل دالاً لغوياً وضعياً بسيطاً ثم انتقل إلى الدائرة المصطلحية التي حَدّت وضعه اللغوي بوضع إضافيّ زائد على وضعه الخام. ونحن في هذه المقدمة لسنا ملزمين بتقصِ تاريخيّ لتطور المصطلح ونموه والحديث عن إشكالية التحديد؛ إنما ما تفرضه طبيعة الدّراسة هو تحديد المفهوم الخاصّ المقترح في البحث والبناء عليه.
إنّ مفهومنا للمصطلح مليء بالمعنى يحتمل محمولات متعددة لا يكتفي بالتعريفات الجزئية التي تخدم فئة اجتماعية أو علمية أو سياسية(لأنّ المصطلح في أصل نشوئه نشأ ونما على أيدي هذه الفئات) وإنما يؤلف بين هذه التعريفات ويضيف ويعدل.
"إنّ مفهوم الأيديولوجيا يقتضي وضعاً اجتماعياً وتاريخياً خاصاً يعيش أثناءه الفرد المنتمي إلى جماعة أو طبقة أو مجموعة ثقافية حالة تجعله عاجزاً عن إدراك تعبير صادق تام ومستقيم عن واقع حياته العامة، بما فيها من علاقات سياسية واجتماعية وتطلعات إلى المستقبل أي تصور الحاضر والماضي والمستقبل إما معكوساً أومشتتاً أو معكراً غير واضح(1).
وبعبارة أكثر وضوحاً وشمولاً ودقة نقول:
__________
(1) الأيدولوجية العربية المعاصرة: عبد الله العروي، ترجمة: محمد عيتاني، دار الحقيقة، بيروت، ط4، 1981، ص 13، من المقدمة.(1/8)
1 - تستعمل (الأدلوجة)(1) في معنى القناع في مجال المناظرة السياسية، تخلق تفكيراً وهمياً تتضمن تقريرات وأحكاماً حول المجتمع، تنبع عن مصلحة وتهدف إلى إنجاز عمل معين وتقود إلى نسبية فيما يتعلق بالقيم.
2 - أما (الأدلوجة) في معنى رؤية كونية فإنّها تحتوي على مجموعة من المقولات والأحكام حول الكون، تستعمل في اجتماعات الثقافة لإدراك دور من أدوار التاريخ، وتقود إلى فكر يحكم على كلّ ظاهرة إنسانية بالرجوع إلى التاريخ كقصد يتحقق عبر الزمن.
3 - وتستعمل (الأدلوجة) في معنى معرفة الظاهرات الآنية والجزئية في مجال نظرّية المعرفة، ونظرية الكائن تتضمن أحكاماً حول الحق، ووظيفتها إظهار الكائن للإنسان الذي هوجزء من ذلك الكائن ويقود هذا الاستعمال حتماً إلى النظرية الجدلية(2).
ويقوم الجدول التالي باختزال هذه المفاهيم وترتيبها وفق علاقتها الجدلية، وفق تقاطعاتها وتوازياتها وتداخلاتها(3):
أدلوجة ... التفكير ... المضمون ... الوظيفة ... المرجع ... المجال ... النظرية
1 ... قناع ... وهمي ... المجتمع ... الإنجاز ... المصلحة ... المناظرة ... النسبية
2 ... رؤية كونية ... نسبي ... الكون ... الإدراك ... التاريخ ... اجتماعات الثقافة ... التاريخية
3 ... معرفة ... آني ... الحق ... تظاهرة الكون ... الجدل ... نظرية المعرفة والكائن ... الجدلية
__________
(1) في كتاب العروي مفهوم الأديولوجيا يقترح: "أن نُعَرِّبها تماماً وندخلها في قالب من قوالب الصرف العربي"، ويقول: (سأعطي المثل، فأستعمل كلمة [أدلوجة] على وزن أفعولة وأصرفها حسب قواعد اللغة العربية وهكذا أقول أدلوجة ج أداليج وأدلوجات، وأدلج إدلاجاً ودلج تدليجاً، وأدلوجي ج أدلوجيون.
(2) مفهوم الأيديولوجيا: [الأدلوجة] عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي (التنوير) الدار البيضاء، ط1، 1983، ص 13.
(3) المصدر نفسه ص 12.(1/9)
ويشرح العروي توضعات الصُّوى على الخطّ البياني لهذا الجدول وتراتيبه وفق جدل العلاقات بين المفاهيم والاستعمالات: (لقد وضعنا الاستعمالات الثلاثة الأولى في خطوط أفقية، وربطنا بكل استعمال ما يستتبعه من مفاهيم وضعنا الاستعمال الرابع في خط عمودي لأنه مشترك بين الاستعمالات الأخرى)(1).
لم نَتَبَنَّ هذا الفهم إلا لأننا توهمنا أنه يكاد يكون أوفى التعريفات، فأكثر الحدود التي رصدناها في الأدبيات التي حدّت الأيديولوجية(2) كانت تنطلق من منطلقات غرضية إضافة إلى ذلك فإنّ (العروي) طرح المفهوم من وجهة نظر تدرس الأيديولوجيا العربية بما يتناسب والوضع العربي؛ لذلك من هذا الفهم تحددت لدينا مجموعة تفرعات انضوت تحته واتخذت مفهومات متعددة كانت تنويعاً على العنوان الرئيسيّ "الأيديولوجيا" وهذا التعدد يشمل مفهومات: الدين، الثقافة، المجتمع، السياسة، الحضارة من خلال مفهوم الذات والآخر ومفهوم العالم ويشمل أيضاً مفهومات أخرى جزئية تندرج تحت العناوين السابقة في بعض جوانبها وتتداخل في بعض الجوانب.
__________
(1) المصدر نفسه ص 13.
(2) يمكن رصد مفهوم الأيديولوجيا في تطوره وحدوده المتنوعة في الكتب التالية:
1- الأيديولوجيا وثائق من الأصول الفلسفية؛ ميشيل فادية، ترجمة أمينة رشيد - سيد البحراوي، دار التنوير- بيروت، الطبعة الأولى، 1982.
2- الأيديولوجيات؛ فرناند دومون، ترجمة وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق، 1977.
3- أيديولوجية السلطة وسلطة الأيديولوجية، جوران ثربورن، ترجمة إلياس مرقص، دار الوحدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1982.
أثبت الأيديولوجيا بالألف دون التاء المربوطة، ولكن حيث وردت في المقبوسات بالتاء؛ فذلك لأن النصوص استعملتها مع الياء المشددة.(1/10)
الحديث الرّوائي، بمجمله، مفرز اجتماعي تاريخي يعتمد التاريخ ويتكئ عليه وهو إلى ذلك عملية تاريخية مخططة منظمة (وفق مفهوم خاصّ) تنتقل بين آفاق متعددة أولها أفق الكاتب المنتج وآخرها أفق المتلقي الذي يخضع سلباً أو إيجاباً لتاريخية الخطاب الرّوائيّ جزءاً من الحديث وبين الأيديولوجيا بمفهومها الذي اعتمدته لابدّ من وضع الترسيمة التالية:
التاريخ [ (الواقع) + (الحلم) ]
ينتقل إلى نصّ يحمل خطاباً، بتدخل الذات التي تحمل التاريخ والواقع وتحمل:
الحلم (الرؤية، الرؤيا) + (المرجعية الأيديولوجية).
إنّ واقع التاريخ هو الماضي المنجز الحادث المنتهي إلى اللحظة الرّاهنة، وحلم التاريخ هو الحاضر بسيرورته، والمستقبل بضبابيته. أيّ أنّ.
التاريخ (الواقع) + (الحلم) + ذات (تحمل التاريخ والواقع) +
حلم (إنسانيّ، حضاريّ اجتماعي) ( [خطاب روائي محمول في نص] هو
الحديث الروائي(1).
نتيجة يمكن أن نقول إنه :(على ما في هذه الترسيمة "الفرضية" من
نقص أو خلل).
فإنها تشكل تصورنا العام للعلاقة بين (الأيديولوجيا) والحديث الروائي وتعطي هذه النتيجة تعريفاً عاماً للحديث يكون فيه"بنية دلالية تنتجها ذات ضمن بنية نصيّة. منتجة في إطار بنية سوسيونصية"(2). (
__________
(1) إن استعمال الحديث الروائي يقتضي مفهومات محددة محتواة فيه؛ فهو يستعمل هنا للدلالة على مكونية (الخطاب والنص).
(2) انفتاح النصّ الروائيّ؛ سعيد يقطين، المركز الثقافي العربيّ، الدار البيضاء، بيروت (ط1)
1989، ص 5.
... أورد سعيد يقطين هذا المفهوم حداً للنصّ ولكنني من خلال مفاهيمي للمصطلحات (النصّ، الخطاب الحديث)، وجدت أن هذا الحد يناسب الحديث الروائي.(1/11)
والأدب مؤسسة اجتماعية)(1)تتأسس على بناء (أيديولوجي)، بجميع الأنواع الأدبية من شعر ورواية... والرّواية هي النوع الأدبي النموذجي للمجتمع (البورجوازي) النوعية... وذلك النوع الملحمي الكبير ذلك التصوير الحكائيّ للكلية الاجتماعية(2).
إنّ هذه المقولة تظهر لنا ترافق ظهور هذا الجنس الأدبي (الرّواية) مع ظهور تشكيل اجتماعي جديد مما يعني وجود علاقة بينهما (لأنّ) الأيديولوجية لا تظهر كشيء قائم بذاته، كشيء مستقل اسمه الأيديولوجية؛ الأيديولوجية تظهر عبر الأدب والدساتير والعادات والأخلاق والفلسفات....الخ.
" إن ما يلاحم بين مفهومات ومضامين هذه الحقول المشتركة، أي المشترك بينها هو الأيديولوجية والرواية كجنس أدبي تندرج ضمن حقل الأدب الذي هو أحد مظاهر الأيديولوجيا وأحد حقولها"(3).
المصادر الأيديولوجيّة لجبرا
وتجلّيها في خطابه الرّوائيّ
إنّ دراسة التأثيرات والبحث في المصادر الأيديولوجية للكاتب لا تشكل هدفاً مقصوداً لذاته، وإنما هي منطلق يبني عليه البحث نتائجه ومعطياته؛ وهذا لا يمنع أن تكون التأثيرات في بعض الأحيان هدفاً إذا اقتضت ذلك طبيعة البحث.
__________
(1) نظرية الأدب، رينيه ويلك، أوستن وارن، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، د.ت. ص 119.
(2) الراوية كملحمة بورجوازية: جورج لوكاتش، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت (ط1) 1979.
(3) الرواية والواقع؛ محمد كامل الخطيب، دار الحداثة، بيروت (ط1) 1981، ص 107.(1/12)
في دراستنا للتأثيرات، وفي بحثنا عن المتكأ الواقعيّ للخطاب(1)وفق ما تحتمه علينا طبيعة البحث ستقوم هذه الدراسة بوظيفة ذات أهمية كبيرة في تحليل الخطاب وفهمه وتأصيل مرجعيته، لأنها تضيء لنا المفهومات الغائية والدلالات التاريخية والرمزية لمرامي الخطاب، وتقوم فوق ذلك بإحضار العالم (خلف الإبداع)، الذي يحاول الكاتب تغييبه في عمله بقصد أو دون قصد، وهذا الإحضار قد لا يكون تاماً في شكلٍ من أشكاله، إلا أنّه يكفي حضور جزء منه ليوضح التوازي بين التاريخ وبين الخطاب، التوازي الذي يعد مطمحاً من مطامح الرواية العظيمة والذي سنرى أهميته القصوى للخطاب، لأنّ مرجع الخطاب عامة والخطاب الروائي خاصة هو التاريخ(2).
إنّ المبدع منحاز أصلاً إلى فنّه، وعلى هذا فإن مقاربتنا له ينبغي أن تكون محاولة اكتشاف؛ وهو بذكائه يحاول أن يوجه القارئ نحو هدفه الذي يقصد إليه ويقوم أحياناً برمي صوى مضللة في طريق امتداد أفق الباحث إلى عالمه.
إننا في دراستنا هنا للمصادر الأيديولوجية، بكل عناصرها، سنحاول القفز فوق هذه الصوى فور الشّك وعدم الاطمئنان إلى مايقدمه الكاتب من إضاءات قد يكون بينها مايبهر البصيرة النقدية أو يضلها بخفوته.
__________
(1) الخطاب عنصر مكون لصيغة الحديث الروائي، وهو عنصر يتعلق بالمضامين مرتبط بآفاق الحديث الأيديولوجية.
(2) التاريخ هنا ذو دلالة غير مصطلحية، دلالة مملوءة بالمعنى، المعنى الكلي، الكوني، والتاريخ بمعنى الواقع الحادث (اليومي) والواقع المستقبلي ممكن الحدوث، ويشمل التاريخ الحركة الاجتماعية أيضاً.(1/13)
لكن ما يتمتع به جبرا من خصوصية(1)، جعلنا أولاً نعتمد على اعترافاته وتصريحاته، وثانياً: اضطر إلى الاتكاء عليها، لأنها ليست مجرد صوى تضليلية وضعت في الطريق الخطأ، وإنما خضعت للفحص والاستنطاق (استنطاق النص) في سياقها الذي وضعت توطئه له أووسيلة إثبات، وأيضاً في سياقها الإبداعي التاريخي (الزمني) للكاتب نفسه، ولسنا بمدعين أن استنطاق النص لدينا جاء مطلق الدقّة، إنما هو محاولة تتوخى أن تكون جادة. ومما يجعلنا نطمئن - وإن نسبياً- إلى هذه الاعترافات والتصريحات، اتساقها وتواؤمها في جميع الأنساق الإبداعية لدى جبرا.
عندما يعي المؤلف عالمه الإبداعي ويعي مصادر هذا العالم، فذلك يعني أنه يصدر عن رؤية للعالم، مخططها واضح في ذهنه، ويعني أيضاً أنه يمتلك أداته ويعي العملية الإبداعية ومراميها ويخطط لها:
"عندما أخذت أراجع نفسي بشأن أحداث الطفولة وجدت أنني، عبر أكثر من أربعين سنة من الكتابة، استعرت العديد منها في مقالاتي وقصصي القصيرة وبخاصة في رواياتي"(2).
__________
(1) جبرا إبراهيم جبرا من الكتاب الذين يتميزون بتوازي رؤياهم الإبداعية في جميع ما أنتجوه، فالقضية التي نجدها في أحد الفضاءات الإبداعية كالنقد مثلاً نجدها أيضاً في فضاء آخر كالرواية أو القصة أو الشعر وخير مثال على ذلك كتابه "الحلم والفن والفعل".
(2) البئر الأول جبرا إبرهيم جبرا ، رياض الريس للكتب، والنشر لندن، د.ت(المؤلف يوقع في نهاية الكتاب) بغداد ص 12.(1/14)
هذا الاعتراف يفتح لنا أفقاً يسوغ البحث تحت العنوان الذي طرحناه في بداية الفصل، ويغني عن الخوض في مسوغات البحث. إن الباحث يهتدي إلى فحوى اعتراف جبرا دون الاتكاء على مقولاته واعترافاته، وما اعترافاته إلا صوى يمكن الاهتداء بها؛ وما يستنتج أن هناك كمّاً وفيراً من واقع الكاتب محتوى في كتابته، حتى لو لم يعترف بذلك. إن جبرا يتحدث في اعترافه السابق عن مرحلة واحدة من حياته هي الطفولة، فإذا كان خلال أربعين سنة من الكتابة قد استعار العديد من أحداث طفولته، فماذا يمكن أن يقول في المراحل اللاحقة من حياته ذات التأثير الكبير على الإنسان وفكره؛ إن ما يتعلق بالطفولة يحمل في خبرة الإنسان على شكل أحلام ورؤى، لكن ما يتعلق بما بعدها يحمل على شكل أفكار وعوالم وتصورات وطموحات؛ لذلك فالمراحل اللاحقة (مراحل التأثير الثقافي الأيديولوجي) مراحل مهمة أيضاً في سيرورة الخط التطوري لجبرا ومحمولها غني وخصب.
من هذا يتضح مدى الحاجة إلى البحث في المصادر الأيديولوجية التي تشكل المرجعية التاريخية للخطاب الروائي، وتمنحه مشروعيته خطاباً منتمياً إلى العالم إلى (التاريخ) إننا عندما نبحث في تأثير المحيط والبيئة فلسنا نقصد الأخذ المنفعل السالب أو الأخذ الحيادي أو التقبل الساذج غير النقدي للواقع والمحيط.
" ولكن الذات والمحيط قد يكونان أحياناً على طرفي نقيض ويكون على الذات أن ترفض، بضرب من الجنون أن تجد انعكاساً في المحيط وأن تتخلص من فعله المدمر".(1)
__________
(1) المصدر نفسه، ص 13، أجريت بعض التعديلات في المقبوس ليلائم سياق الكلام. دون الإخلال بالدلالة.(1/15)
تتنوع المصادر المشكلة للعالم الثقافي والحضاري والرؤيوي لجبرا تنوعاً، انعكس بكليته على عالمه الروائي، فأغناه غنى عظيماً في جزء كبير منه وأفقده بعض الأحيان عفوية الفن، وساقه أحياناً أخرى إلى التداخل والتناقض والارتباك في الأداء وفي الحشد اللا متوازن؛ لكن السمة الجوهرية لهذا التنوع الهائل في إضفاء صفة الكونية(1)على العالم الروائي الذي خلقه واقع (جبرا) وتاريخه وحلمه ورؤيته وكان هذا العالم (الفعل والفن) منصهرين في ثلاثية طموح الكاتب (الفن والحلم والفعل)(2)المشروع الأسمى للإبداع.
أولاً: المصدر المسيحي:
__________
(1) يركز جبرا في أكثر بحوثه النقدية ولقاءاته وحواراته على كونية المبدع الذي ينتج أدباً كونياً.
(2) من الطموحات الهيكلية لجبرا وكتابته تحقيق الحلم بطريق الفن ليغدو الحلم واقعاً، ويصبح هاجس الأدب والفن نقل الحلم إلى الواقع إلى التاريخ، ولهذا كتب بغزارة وبحماسة عقيدية عن هذه القضية في أكثر مقالاته ومما كتبه عنها بشكل مباشر مقالة باللغة الإنكليزية ترجمها هومرة وغيره مرة أخرى ثم أصدر كتاباً يحمل العنوان ذاته "الحلم والفن والفعل".(1/16)
تؤكد العلوم التي تدرس الإنسان(1) في علاقته بالعلم والمحيط والبيئة على الآثار المحمولة في خبرته التراكمية عبر تراكم الزمن، ولا تنكر هذه العلوم ما للبيئة والمحيط من تأثير يخلد -بتفاوت ما- مدى حياة الكائن بخاصة ما يتعلق بأفكاره وعقائده وإدراكه العالم وتحليله إياه، ويتفاوت التأثير تبعاً لعوامل كثيرة منها العامل الجغرافي والعامل الاجتماعي والعامل الحضاري المكوِّن للنفس الحضارية في المجتمع، لذلك نرى المجتمعات التي تحتل العالم القديم جغرافياً وحضارياً تكون طامحة بفطرة تكوينها وبتكدّس خبرتها (الغيبية) إلى الغيب وإلى التعامل معه على أسس أصبح لها قانونها الاجتماعي الذي يبدو أنه قانون خالد ممتزج بالنفس الحضارية لأبناء هذا العالم، لا تستطيع أن تهجره، وإن حاولت فإنما تغترب عنه وتعيش حالة شك وحيرة، ولكنها تبحث عن التعويض في الفن أو في التصوف ويكون للفن وسيلة للبحث عن ذلك الطموح (الحلم)، ويشكل التصوف ردة أخرى إلى الغيب وعالمه، والفن والتصوف يخلق كُلٌّ آفاقه التعويضيّة بحسب طبيعته:
فالفن يتناول الواقع، يحوّله، يعدّله، يحذف منه أو يضيف إليه أو يقوم بتقويضه من جذوره، ويخلق التصوف البديل في روابط نفسية وهمية حيناً وإبداعيّة حيناً آخر.
__________
(1) يدرس علم نفس الشخصية من ناحية تركيبها أو أبعادها الأساسية ونموها وتطورها ومحدداتها الوراثية والبيئية-أماعلم الاجتماع فإنه يهتم بدراسة الشخصية الإنسانية من حيث هي نتاج الحضارة أو ثقافة معينة تشتمل أنساقاً وأنظمة اجتماعية (الأبعاد الأساسية للشخصية، أحمد محمد عبد الخالق، دار الطليعة - بيروت ط2، 1983، ص 29 و30.(1/17)
إذاً، فالعقيدة مكوِّن مهمّ من مكوّنات النفس الحضارية للأمة التي ينتمي إليها الكاتب ودافع ثقافيّ وموجّه أيديولوجيّ؛ لهذا سنقوم بدراسة الآثار المسيحية في الكاتب ودافع ثقافيّ وموجّه أيديولوجيّ؛ لهذا سنقوم بدراسة الآثار المسيحية في الكاتب وانعكاس هذه الآثار في خطابه والبحث عن أصداء المسيحية ليس ديناً فحسب وإنما حالة روحية صوفية حضارياً باعثاً وموجهاً.
يتخذ التأثر بالمسيحية وانعكاساته في الخطاب آفاقاً متعددة أهمها:
1- المكان: وعي التّمايز، وعي التمازج:
"يتوصل الفرد إلى تحقيق وحدته وتماسكه وإلى إحساس نفسه ككل عندما يقيم بينه وبين المكان والزمان تمايزاً واعياً".(1)
__________
(1) الذات ومقوماتها، أنطون رومانس، دراسات عربية، العدد 3، السنة 19 كانون الثاني 1983.(1/18)
كيف يمكننا أن نفهم هذه المقولة في ضوء دراستنا لعلاقة جبرا بالمكان؟ إنّ هذه المقولة تعتمد في فهمنا للذات على وجهة نظر سيكولوجية أحادية الرؤية، فترى أنّ التمايز الواعي [بين الذات في جهة، والزمان والمكان في الجهة الثانية]، هو التوصل إلى تحقيق وحدة الفرد، إنّ هذه النتيجة تبسيطية وبسيطة في آن معاً، وهي صحيحة من وجهة النظر(السيكولوجية)، ولكننا سنرى أن علاقة الكاتب المبدع بالمكان تُخضع هذه النظرية إلى إضافات قد تكون أكثر أهمية من النظرية نفسها، إلى ذلك قد يُلاحظ تناقض بين العلاقة المطروحة في مقولة "أنطون رومانس" وبين علاقة جبرا بالمكان، ولكن هذا التناقض يبقى تناقضاً ظاهرياً فالعلاقة بين جبرا والمكان علاقة صَهْرية صوفيّة يتخذ فيها المكان الصفات القدسية ويعتلي ليكون حجّة ومقصداً روحياً، ويشكل رمزاً لتحديد هوية الكائن فلكي تتحقق الديمومة ويظفر الإنسان بالخلود لابد من الالتحام بالأرض (المكان) (أرض الرسالة) حيث الاتصال والاتحاد مع الله بخيوط المكان وعندها يتحول المكان إلى وسيط بين الكائن وبين مقصوده الإله (المطلق)، نلاحظ أنّ العلاقة الأولى (علاقة وعي للتمايز) ويبدو وهماً أنّ العلاقة الثانية في ظاهرها امتزاج صوريّ، إنّ هذا الوهم ينفي ذاته، لأنّ الامتزاج يوحي بعمق فكريّ روحيّ ونراه لا يتناقض مع العلاقة الأولى، فهو حالة بناء على النظرية التي قال بها "رومانس”" إن وعي التمايز عن الزمان والمكان في رأي "رومانس" هو الذي يحقق كينونة الذات ولكن هذا الوعي الذي يؤدي إلى وعي الذات يعود في حالة جبرا وأبطاله إلى إلغاء هذا التمايز وإضافة وعي جديد زائد على التمايز وهو وعي الاندغام بالزمان والمكان.
تشرح الترسيمة التالية قدرة الزمان والمكان عند جبرا الشرح الذي يتكئ على مقولة "انطون رومانس":
(1) ... الكائن الغفل ... + ... وعي التمايز عن الزمان والمكان ... الوحدة والتماسك والتحقق الكلي
((1/19)
2) ... الكائن (الخاص) جبرا وأبطاله ... + ... الوحدة والتماسك والتحقق الكلي ... تمازج واندغام بالمكان والزمان.
المطلق(1)
وإذا نظرنا إلى أسباب هذا الوعي الجديد نجد أن الظروف الاجتماعية والتاريخية والدينية قامت بتنمية وعي التمايز ورفعه إلى وعي التمازج والانصهار.
لقد وعى جبرا سبباً مهماً للبحث عن هذا المطلق الذي كان يوماً ما في تاريخ العرب حافزاً على التقدم والازدهار"لقد نبهتنا نكبتنا الكبرى إلى الذبول الذي أصاب شعباً كبيراً قروناً عديدة، إلى حقيقة العنة الرّوحية التي ما عدنا نستطيع تحملاً لها"(2).
لذلك لابد من البحث عن الخلاص وإلغاء المسافة بينه وبين الألوهية فعلى الإنسان أو الشاعر أن يعمق هذا الإدراك بفعل كفعل النّدامة. "إنه فعل ديني مأساوي إذ يرى الإنسان الهاوية السحيقة بينه وبين الألوهية التي يمد ذراعه المستيئسة نحوها ولن ينضم إليها إلا بعد أن يضع جسر الإدراك والاعتراف على شفتي الهاوية الفارغة(3) والارتماء بين شفتي هذه الهاوية الفارغة لملئها هو ما سعى إليه جبرا وجعل أبطاله القلقين يطمحون إليه.
__________
(1) ملاحظة (1) المستطيل المزود بسهم موجه، يشير إلى أن الفكرة المحتواة فيه قابلة للتحول والانطلاق والتداخل في فكرة أخرى. والمستطيل دون سهم يدل على الاكتفاء بالحد الفكري الذي تحتويه الفكرة.
ملاحظة(2) المعادلة الأولى (1) "مقولة رومانس: وعي التمايز".
المعادلة الثانية (2) "حالة جبرا وأبطاله: وعي التمايز".
(2) النار والجوهر: جبرا إبراهيم جبرا- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط3- 1982، ص 38.
(3) المصدر السابق، 43.(1/20)
يتردد مثل هذا الكلام عن الألوهية والأنسنة ومدّ جسر الخلاص بينهما على لسان (وليد مسعود) و(مريم الصفار) في (البحث عن وليد مسعود) عندما يختليان في بيت منعزل: "وليد أهكذا يكون الانتقال... من الأنسنة إلى الألوهية؟ تقصدين العودة من الألوهية إلى الأنسنة"(1).
لقد ميز وعي جبرا للمكان طفو هذا الوعي العميق إلى حيز الإدراك، وهذه الصفة مميزة له ولأبطاله وهذا ماسنراه في عمق البحث، حيث نرى أنّ كل إحساس أو كل اتصال بالعالم أو فهم له لا يستطيع الرّسوّ كثيراً في راقات اللاوعي ولكنه يصعد بقوة إلى الإدراك والوعي، ويحلل جبرا مدى ارتباطه بالمكان مرجعاً هذا الارتباط إلى مَلَكَةٍ شاعرية فطرية وإلى الفترة التكوينية من طفولته ومراهقته ويُرجعه أيضاً إلى التثبيت بالتنامي والتمرين والتدريب:"في أكثر ما كتبت عبر السنين، كان الزمن يستأثر بناحية أساسية من تفكيري وخيالي وأنا لا أعي..... غير أن الذي كنت أسبق إلى وعيه كان المكان، فطرياً...أولّ الأمر، ولكن بشكل أكثر وضوحاً أكثر إدراكاً مني لأبعاده مع تنامي التجربة وتنامي القدرة على الإمساك بشوارد الذهن... ولكنّ وعي المكان ذاته كان أشبه بشاعرية بصرية يستسلم لها المرء عفوياً دونما نقد أو تفحّص...... وهذا كله يعود عندي...... إلى تجربة المكان إبان الطفولة وسنوات المراهقة، تلك الفترة التكوينية التي تجعل الإنسان ماهو عليه جوهرياً حتى النهاية"(2).
__________
(1) البحث عن وليد مسعود، ص 225.
(2) تأملات في بنيان مرمري- جبرا إبراهيم جبرا- دار رياض نجيب الريس لندن- الطبعة الأولى- 1988، ص 87.(1/21)
هذا التحليل يعتمد مرجعيتين ثقافيتين هما: علم النفس بفرعه الاجتماعي، والدراسة الفلسفية لعلاقة الإنسان بعالمه وإدراكه إياه، وهذا التحليل تحليل واعٍ للعلاقة الجوهرية بين الإنسان والمكان، يشخّصهما في أوليتهما (الخام) وهو ما سنراه واضحاً في رؤية أبطال جبرا وعلاقتهم بالمكان، ثم ينتقل جبرا إلى إكمال صورة المكان في إدراكه ووعيه ويُرَمِّز المكان ويضيف إلى العلاقة الأولية مكمّلاتها، إذْ يُعطي البعد الماديّ للمكان بُعداً آخر روحياً ليتمّ التوازن الذي يدفع إلى السكينة في التوجّه النفسي نحو المكان:
"فقد كان المكان...حيز المعيشة الآنية... حيز حبل السُّرَّة بين الولد ووالديه في غرفة صغيرة ويعني من ناحية أخرى ذلك الفضاء الفسيح الهائل الذي كانت الغرفة الصغيرة في تجربتي الشخصية تقوم به وكأنها ليست أكثر من كهف في منسرح جبلي حيث يقوم التّضاد لذيذاً مُحَفِزاً بين الداخل والخارج بين المكان كرقعةٍ محددةٍ، والمكان كفضاء لا يحدّ إلا بأفقٍ قصيٍّ، جباله زرقاء متلألئة وبسماءِ غيومها متناثرة"(1).
يشكل المكان في العالم الداخلي لجبرا رمزاً نفسياً (أمومياً) وهذا يشي بارتباط حميم، ولو فصل ظاهرياً أو مادياً، فإنه يبقى قائماً في العالم (الجوّانيّ) له والمكان لا يوصل إلى السكينة إلا إذا قام بعملية التضاد بين رمزية الكهف وبين رمزية الفضاء.
ولكن يجب أن ننتبه إلى أنّ جبرا درس علاقته بالمكان علاقة فردية طرفها الأول جبرا (النفسي) وطرفها الثاني المكان مسقطاً عليه خبرته الفكرية والنفسية معاً مغفلاً طرفاً مهماً في دراسة كهذه هي الطرف الاجتماعي المؤثر المهم والرئيسي في فهم العالم والمكان. لأنّ المكان، إضافة إلى كونه علاقة فردية بالعالم، علاقة اجتماعية، وفهمه دلالة اجتماعية أيضاً.
__________
(1) المصدر السابق ص 88.(1/22)
ويضيف جبرا تحليلاً يعيدنا إلى علاقة الإنسان البسيطة بالطبيعة وعلاقته الأولية بغرضه ودافعه الخام: "يعود به الحس الغامض، إلى ذلك الذي يلخص تجربة الإنسان الأصيلة بالمأوى، حسّ دخول المغارة كعودة إلى رحم الأمن والطمأنينة لكيما يعاوده الشعور عند خروجه بأنه أضحى في الملتقى بين المكان كعَراء.... يثيره بضيائه ووهجه والمكان ككهف يحميه بصمته وطراوته"(1).
هذه إشارة واضحة إلى عالم الانعزال الصوفي و التلذذ بطراوة الكهفية وبصمتها والالتجاء إلى الذات؛ لأنها الموئل الوحيد في عالم الاغتراب ولكنّ اللذة لا تتحقق إلا حيث يقوم التضادّ ويحدث انطلاق إلى العراء الذي يتوهج ويضيء ليمنح الكهف جدواه ومسوّغه، ولكنْ ماهي وظيفة هذا الكهف، إنه مرة أخرى محاولة الاتصال بالغيب.
إذا بحثنا في روايات جبرا عن تجليات هذه الرّمزية المكانيّة؛ فلن تحتاج جهداً كبيراً للوصول إلى ذلك، ونجد الفهم العميق للمكان ولعلاقة الإنسان به في كثير من المواقف التي عرض لها أبطاله خاصة الفلسطينيين منهم، وأعني الذين يقومون بتمثيلهِ في الروايات (فوديع عسّاف) (بؤرة السفينة) ينتبه إلى الأهمية العظيمة للمكان في حياة الشاعر العربيّ -القديم بخاصة- وينتبه إلى العشق الكبير للأماكن، ليس فقط، لأنها مرتبطّة بالأحبة، وإنما تكتسب أهميتها من علاقة الشاعر بها ومن كون المكان ذا أهمية بنفسه، إلى جانب ارتباطه بالمحبوب؛ لذلك يشير وديع عساف بإعجاب إلى الشعراء الذين ذكروا الأمكنة مكرّرة في أشعارهم "كأنها أسماء الأحبة".
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أو في هذه الأبيات لذلك المسكين الذي لا يعرف عنه إلا أن المنذر قتله لأنه التقى به يوم بؤسه (عبيد بن الأبرص):
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ ... فالقُطَّبيّاتُ فالذُّنوبُ
فَراكِسٌ فثعيلباتٌ ... فَذَاتُ فِرقَينِ فالَقِليبُ
__________
(1) تأملات في بنيان مرمري، ص 90.(1/23)
ولما لم يذكر اسم مكان يصلح قافية للشطر الثاني، قال: ليس بها منهم غريب وكيف يذكر شاعر هذه الأسماء كلّها، إذا لم تكن كلّها وصخورها ورمالها جزءاً من دمه ولحمه وعظمه؟ ولكنه يعتمد أيضاً على ما تثيره من عشق مماثل في قلب السّامع أيضاً، نحن يكفينا أن يقال (بغداد) لترقص فينا الأضلع وإذا قلت لمى وبغداد، انسرحت فينا قصائد من الأخيلة"(1).
ومازال فهم الشاعر العربيّ للمكان منذ خمسة عشر قرناً محمولاً في ذات العربيّ إلى الآن وهذا يشير إلى أن المكان ممتزج بالنفس الحضارية للعربيّ لأسباب تتعلق بالرّحيل والتنقل والغربة، ولأسباب أخرى....
ب - عناصر المكان:
1- الصّخر: عندما يختار الكاتب عناصر المكان التي تشكل خيوط الارتباط بينه وبين العالم ويسميها؛ تتحدد لنا نسبياً مرموزاته ودلالاتها النفسية والفنية والحضارية وتتوضح المرامي الاجتماعية للخطاب.
- العنصر الأول المكون لرمزية المكان: الصخرة، الحجر،
(الرمز والأسطورة) الحجر الصخرة؛ الأساس الأولي للبناء، لبناء بيت الاطمئنان والسكينة، وهما التجلّي المادّي لعالم المكان "مكوناً الأشكال المرئية سواء منها ما صنعته الطبيعة أو ما صنعه البشر"(2).
إنّ الترميز بمعناه الشعري المجازيّ الذي يعتمد اللغة بأدنى وحداتها البنيوية لا يظهر بشكل واضح إلا في روايتي جبرا (السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) وتتعدد مظاهر هذا الترميز ودلالاته ؛ لذلك سنعرضها وفق ترتيب يكاد يكون تطورياً يخضع لنظام ما، نسبياً.
__________
(1) السفينة، جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب بيروت، الطبعة الثانية، 1979، ص 25.
(2) تأملات في بنيان مرمري ص 88.(1/24)
"القدس أجمل مدينة في الدنيا على الإطلاق.... ارتقيت كل مافيها من تلال وهبطت كلّ مافيها من منحدرات بين بيوت من حجر أبيض وحجر وردي وحجر أحمر بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض... كأنها جواهر منثورة على ثوب الله"(1).
2- أولعنا بقرية عين كارم، لأنها تجمع بين الصخر والشجر والماء وربما لأنها مسقط رأس المعمدان"(2).
3- "الصخور امرأة رائعة هائلة، ترتفع وتنخفض ارتفاع وانخفاض البطن والنهدين"(3).
1- في المعادلة الأولى تكون الصخرة ذات مظهر جمالي مكمّل فني للوحة في حُلُمِِ الكاتب يُظهر فيها التّمازج بين الأرض (الصّخر) والسماء، إذ تستدعي الصخور الملونة صورة الإله بأبهى مايمكن وقد رصع ثوبه بجواهره.
2- ويتجلى في المعادلة الثانية ارتباط وثيق بين الصخر والماء ماء المعمودية المحمول النفسي الخبري الذي يعود في جذوره إلى (البئر الأولى) التي سقى منها جبرا (ينابيع رؤياه)(4) ينابيع عالمه؛ لذلك نرى التجلّي المسيحيّ واضحاً دالاً على ذاته.
__________
(1) السفينة، جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب بيروت، الطبعة الثانية، 1979، ص 17 و 18.
(2) المصدر السابق، ص 57.
(3) . المصدر السابق ، ص 59.
(4) يعبر جبرا في عناوين كتبه بنجاح عن مصادر ثقافته ورؤاه وآرائه في الكون وفي الإنسان وفي الأدب والفلسفة، في كتابه (ينابيع الرؤيا) أظهر مفاهيمه حول الأدب والنقد والفن، وفي "البئر الأولى" احتفظ لنا برمزية الماء وأضاف ينبوعاً آخر إلى ينابيع رؤياه.(1/25)
3- ولكي يتم جبرا هذا العالم الموحد في ذات البطل قام بإسباغ الأنوثة على الصّخر، وقد يكون هذا الرّمز أدق الترميزات؛ لأن الصلة الواقعية الحقيقية قائمة بين الجسد والصخر ليس من ناحية الصلابة وإنما من ناحية الملمس في الماء فالإحساس بملمس الصخرة الملساء في الماء يعطي شعوراً بالأنوثة وأخصّ الصخور البيض والصّفر (صخرها الأصفر الوردي الأملس في نعومة بشرة النساء اللواتي يردنها كل صباح ومساء).(1)
يلاحظ إذاً أن الإبداع لدى الكاتب لا يتم ولا تتم ينابيعه ومصادره إلا بهذا الرمز من خلال تحليلات مادية لعالم الروح في الجسد.
وعلى هيئة حوريات أسطورية تنبجس الصخور من الماء لتكون أنثى رائعة هائلة ترتفع وتنخفض ارتفاع وانخفاض النهدين والبطن والفخذين.
والملاحظ هنا أن الرمز جاء مقلوباً ليحقق لذة التضاد، فالمعهود أنّ الماء عندما يريد أن يحقق المعجزة ينبجس من الصخر، وفي الصورة تأتي المعجزة على شكل أنثى، أو على شكل الأنوثة ذاتها، في صورة عكس للصورة الأولى وتتكرر هذه الدلالات وتتنوع في خطاب جبرا فإذا أخذنا النص التالي الذي يجمع مرموزات الصخرة جميعاً توضحت لنا أهمية هذا الرمز ودلالاته خطاباً وفناً.
"لقد جعلنا من الصّخر سرّا نتقاسمه فيما بيننا، قلنا: إن الصخر يرمز إلى القدس شكلها شكل الصخرة.. فلسطين صخرة تبنى عليها الحضارات لأنها صلدة عميقة الجذور تتصل بمركز الأرض، والذين يصمدون كالصّخر يبنون القدس يبنون فلسطين كلّها. والمسيح من اختار ليكون خليفة له؟ سمعان الصخرة! والعرب ما الذي ابتنوه ليكون أجمل ما ابتنى الإنسان من عمارة؟ قبة الصخرة، وهؤلاء المزروعون في المنحدر؟ في الليلة المقمرة ترى رؤوسهم وأكتافهم ناتئة من حفرها، وإذا هي صخر. وبركة السلطان ما الذي نهواه فيها؟ الصخر الذي يحيط به الماء كلما كان هناك ماء فلنتغزل بالصّخر"(2).
__________
(1) السفينة ص 58.
(2) . المصدر نفسه، ص 56، 57.(1/26)
لتسهيل دراسة هذا النص سنقوم بتفتيته إلى مجموعة من المقولات:
1 - "قلنا إن الصخر يرمز إلى القدس":
هذه معادلة بسيطة في طرفيها وهي علاقة استبدال أو انتقال بين رمز ومرموز إليه يختفي وراء هذا الانتقال عالم مرمي إليه الإشارة الضمنية إلى قدسية الصخرة لارتباطها بالمقدس الديني ويكفي أن نعيد هذه المعادلة بضم الدال في القُدُس لنفهم هذا الارتباط (الصخرة ترمز إلى القُدُس).
2 - "فلسطين صخرة تبنى عليها الحضارات لأنها صلدة عميقة الجذور وتتصل بمركز الأرض".
ترتقي هذه المعادلة إلى الفهم الحضاري الإيجابي لرمز الصخرة ولإظهار وجه آخر للمقولة "صخرة تتحطم عليها.. "إن فلسطين صخرة للبناء وليست صخرة للتحطيم على الرغم من أن الواقع التاريخي الراهن يفرض عليها أن تكون أولاً صخرة مُحَطِّمَة ثم صخرة بانية، ولكن بطل جبرا في السفينة (وديع) اكتفى بمرحلة البناء وأسقط المرحلة الأولى التي لا يمكن أن تتم الثانية دونها. وهذا توازن في رؤية وديع الذي يُكوِّن حلمه ويبنيه على هذه الفرضية الحلم (البناء دون الانتباه للواقع).
ويأخذ العمق التاريخي دوراً في دلالة الرّمز؛ دوراً قيمياً: لأن التاريخ والجذور مهمان في التأصيل والتثبيت وتسويغ الوجود.
3 - هنا لا يتوقف الصخر عند رمزية الارتباط بالغيب ولكنه ينتقل ليحمل دلالة وطنية واجتماعية في آن معاً دون فصلها عن سياقها الذي ينتظمها إلى جانب المسيح والله، وتنشأ دائرة خِصْبٍ: خصب الروح (الله والمسيح) ممتزجاً بخصب الانتماء الدنيويّ (الوطن)، وبخصب البقاء والاستمرار والخلود (المرأة)؛ دائرة الخصب هذه تعطي خصباً يدنو من المطلق.
"هؤلاء المزروعون في المنحدر؟ في الليلة المقمرة ترى رؤوسهم وأكتافهم ناتئة من حفرها وإذا هي صخر".
"والمسيح من اختار ليكون خليفة له؟ سمعان الصخرة".
"وبِرْكة السلطان ما الذي نهواه فيها؟ الصخر الذي يحيط به الماء كلما كان هناك ماء فلنتغزل بالصخر".(1/27)
4 - " والعرب، ما الذي ابتنوه ليكون أجمل ما ابتنى الإنسان من عمارة؟ قبة الصخرة" الأفق الحضاري للصخرة واضح هنا ويؤكد جبرا في كثير من الأحيان في وصفه الكنائس والمساجد التي زارها.
5 - ويظهر الأفق الاجتماعي من خلال "الذين يصمدون كالصخر يبنون القدس يبنون فلسطين كلها". الصخر إذاً، الرمز الذي يتحول إلى رمز أسطوري يجمع بين أقانيم الحياة العظمى: آفاق المقدس الديني المفتشة عن الغيب وآفاق الحضارة وأفق النضال الوطني والاجتماعي وآفاق الحب الإنساني الممزوج بالجسد، وهذا هو طموح جبرا الذي يسعى إليه عبر (وديع عساف)، للتوحد مع الله والمسيح والذوبان في الوجود، لأن ذلك يمنح العلم جدواه وتسويغه فإذا استقل الإنسان عن الوجود عن الله لم يعد هناك مسوغ لوجوده، أو لِقِيَمِه، ومن أجل اكتشاف سر الوجود وسر العالم، فعلى شكل نشيد يتبادله (فايز ووديع)، نشيد كنسيّ يتوصّلان إلى سر الوجود أولاً: سر وجود المدينة (صخر وماء)(1) وإلى سر وجود الإنسان "العِرق، الجذور، الرَّحِم"(2).
إذا كانت الصخرة محمّلة بكلّ هذه المضامين، فلابد من أن يحملها (وديع) في راقات ذاته وطيّات جسده وفي كريّات دمه، الصّخور الزرقاء بلون السماء "أنا أحمل صخورها البركانية الزّرقاء كلّها في دمي"(3).
يتلامح لنا من كلّ ما حُمِّل الصّخر من دلالات في السفينة أن مصدر هذا (الطوطم) في جذوره يعود إلى المسيحية مكوِّناً دينياً في ذات الكاتب وشخصياته ممثَّلة بعالم الطفولة، الذي ارتبط بالرّوح الكنسيّة لأنّ الكاتب قضى طفولته بين جدران الكنيسة، كهف الاتصال بالغيب.
وفي الكتاب المقدس نقرأ النص التالي حيث تتوضح لنا العلاقة الحميمة فيما بين هذه الرموز ويظهر عمق الارتباط بين روح جبرا والروح المسيحيّ:
__________
(1) السفينة ص 59.
(2) السفينة ص59.
(3) السفينة ص 24.(1/28)
"هلم نرنّم للرّبّ نهتف لصخرة خلاصنا نتقدّم أمامه بحمد وبترنيمات، نهتف له لأنّ الربّ إله عظيمٌ ملك كبير على كلّ الآلهة. الذي بيده مقاصير الأرض وخزائن الجبال. الذي له البحر وهو صنعه ويداه وسكبتاه اليابسة"(1).
ويُوضح المشهد التّالي رمزيّة الصّخرة في البحث عن (وليد مسعود):
"دفعتُ الشرشف عني، وقفزتُ عارية إلى الأرض شاعرة بعزيمة هائلة في جسدي، وأخذتُ يده واقتدته إلى باب الدار.... وتركتُه وركضتُ حافية إلى الأشجار التي لم أكن أعرفها في عتمةٍ وامضةٍ طريةٍ باردةٍ أدور حول كل جذع وأحوم حول صخرة، الحجارة المكسورة الحادة أحسّها تنغرز في قدمي فتزيدها خفة، وجسدي الوثنيّ المشرّع لوحشيةِ الليل المثخن بالنجوم ينفذ في الأشياء كلّها وتنفذ الأشياء كلّها فيه، أهو تلاشٍ هذا الوجد كلّه، أم وجود، وجود عنيف كلّه عدتُ راكضة واخترقت حوضاً من أشجار الورد محاطاً بحلقة من الصخور...
وتوقفت بغتة وانحنيتُ والتقطت صخرة من الحوض وحملتها، رغم ثقلها... وناولتُهُ الصخرة فأخذها مني قائلاً: رائعة مثلك ودفعني بها برفق إلى الداخل وشعرتُ بصلابتها الندية على خاصرتي...وعدنا إلى غرفة النوم... وألقى هو بالحجر على الفراش... ثم استدار نحوي وركع بين ركبتيّ، وانهال على نهديّ وشفتيّ يمتلكني للمرة الأولى.. وبين الحين والحين ألمح، وراء كتفيه الصخرة غائرة بثقلها في الفراش"(2).
لا نستطيع هنا أن نغفل الرابط الواضح بين رمزية الصخرة وبين الباعث الديني ولكن الجو الذي يخلقه هذا المشهد يُذكّر بالطقوس الوثنية التي كانت تُمارس في معابد الآلهة إذ كانت النساء يمارسن (البغاء المقدس) لخدمة الآلهة والمعبد والكهنّة، وتظهر في هذا المشهد نزعة (عشتار) الأم المقدسة بطريق ربط الجسد بالصخرة.
__________
(1) الكتاب المقدس - المزامير- المرموز الخامس والستون ص 900.
(2) البحث 227- 228.(1/29)
عشتار "المرأة الحاقدة الشجاعة، المخادِعة، الطموحة العدائية، المحبوبة المحبة"(1).
ويقوم وليد هنا بدور: "الملك الرجل المطاوع وغير المقاوم المفتون بهبات ثدييها التواق إلى الخلود بالالتحام الجسدي معها"(2).
"في الإصحاح 94 ومايليه نقرأ أن السيد المسيح قبل أن يسلم نفسه [للصلب](3)قد جمع حوارييه الاثني عشر لرفع صلاة إلى الإله الربّ وتأدية رقصة دورانية كان هو قائدها من كلماته في تلك الصلاة: دأب الألوهة الدوران... سأنفخ في المزمار لترقصوا كلكم دوراناً، من تقاعس عن الرقص فإنه سرّ هذا الاجتماع"(4).
ربما يكون رقص (وليد مسعود) تلك الرقصة الدائرية المترنّحة (المولوية) محاولة بحث عن السر الذي توصل إليه (فايز وديع) في السفينة، سر الوجود وسر الإنسان فلذلك قام (وليد) برقصته الدورانية على التراتيل الدينية وعلى أصوات "الأجواق وهي تصيح: تعظم نفسي الرب لأنه اختارني من بين النساء جميعاً... وكيف يكون التعظيم إلا بالرقص والتهليل؟ وراح يدور ويترنح في الفسحة الصغيرة بين الفراش والحائط"(5).
__________
(1) المرأة والألوهة: محمد وحيد خياطة - دار الحوار- اللاذقية، سوريا، الطبعة الأولى، 1984، ص 48.
(2) المرأة والألوهة: محمد وحيد خياطة - دار الحوار- اللاذقية، سوريا، الطبعة الأولى، 1984، ص 48.
(3) الكلمة التي ترد بين قوسين تكون مضافة لمناسبة اللغة.
(4) لغز عشتار: فراس السواح- سومر للدراسات والنشر والتوزيع، قبرص، الطبعة الأولى 1985، ص 73، لم أعثر على هذا الكلام في الكتاب المقدس.
(5) الكلمة التي ترد بين قوسين تكون مضافة لمناسبة اللغة.(1/30)
كأنّ مراوحته هذه هي حالة المراوحة بين (الألوهة والأنسنة) كما يسميها، إنّ الرقصة الدورانية للسيد المسيح وحوارييه قبل أن يساق إلى الصلب ترمي إلى الارتباط بالألوهة لأن دأب الألوهة الدوران، وهو الذي ينفخ في المزمار ليحرك الألوهة في حوارييه، لأن الألوهة التي تحركت في (وليد وفي مريم) نتيجةٌ لألوهة (وليد) التي مصدرها النشيد الكنسيّ للعذراء والدة المسيح، إذاً فالمزمار تنفخه الأنثى العذراء المقدسة للوصول إلى سرّ الاجتماع بين الأنثى (مريم الصفار) غيرِ العذراء البديل المعوض عن العذراء وبين الرجل "الذكر" (وليد مسعود).
لقد كانت رقصة وليد تمهيداً وفاتحة لانفجار عنيف في مريم الصفار خلق في داخلها عالماً يعود بنا إلى جزء من عوالم السفينة في ترميز الصخرة، تعود مرة أخرى الصخرة إلى الظهور ولكن، هنا، بشكل مختلف نسبياً عنه في السفينة. والمشهد السابق الذي روته مريم في فصل (مريم الصفار تتعلق بصخرة تسكن أعماقها) يوضح هذا الانفجار.
ثم تتساءل (مريم) محاولة تفسير رمزيّة الصخرة لديها، وتتساءل عن مصدر العنفوان الداخلي الذي تفجر فيها وتطرح أسباباً تريدها أن تكون هي المصدر؛ لأنها تطمئنّ إليها فترى أن السبب الأول ربما يكون البحث عن الوجود، بمعنى التأكد من الوجود والتثبت منه وإخراجه إلى السطح من غوره في أعماق الذات؛ فلابد عندها من الارتباط بجزء من العالم يرمز إليه، يختزله ويجرّده في الذات، وهذا الجزء يجب أن يكون قريباً من طبيعة المرتبط به ليتم التجانس في الارتباط. والسبب الثاني ربما يكون تلاشياً، والتلاشي في مثل حالة (مريم) يحقق الوجود وهو يسعى أيضاً إلى الارتباط بالعالم على طريقة المتصوفة (محاولة إيجاد الذات بالآخر المتلاشى به).(1/31)
ويمكننا أن نقول أيضاً: إنّ الصّخر جزء من الأرض؛ الالتحام به يُفضي إلى الالتحام بها (بالأرض) وهذا قد يكون محاولة لتسويغ الفعل الجنسيّ بربطه بالفعل الوطني؛ لأنّ هناك حالة خُصاء وطنّي يُعَوِّض عنها بالفحولة الجنسية إلى جانب ربطه بالأفق الحضاري الذي يُرمِّز الحجر للخصب الجنسيّ المرتبط بالمُقدّس:
مثل الجبل في الدلالة على الأرض، الصّخر والحجر المنتزعان(1) من الأرض لذا كان للأم الكبرى العديد من الثقافات حَجَرٌ مقدّس تُعبد من خلاله كما هو الحال في حجر عشتار الأسود وحجر سيبيل وحجر اللات"(2).
ولكنها في النهاية تضطر إلى إرساء تلك الصخرة في أعماقها:
(لتبقى لغزاً جميلاً، لغزاً مشحوناً) يغني حياتها السّيكولوجية سلباً أو إيجاباً "سنة بعد سنة"... تكبر وتكبر وتغدو جبلاً، ومريم على قمّتها، تتشبّث بها زوابع الرغبة تمزقها، وتصغر وتصغر وتغور في الفراش، فتغور وراءها تبحث عنها تريد الإمساك بها وتفلت من أصابعها(3) وتنضم الصخرة إلى مجموعة الخفايا الغائرة :"في الخفاء بقي كل شيء غائراً في أعماقي كتلك الصخرة"(4).
يقول فاروق وادي مؤكداً الجذور الدينية في شخصيات جبرا:
"الجذور الدينية المسيحية نجدها في الشخصيات الثلاث (جميل، وديع، وليد)... هكذا يتحول المسيح لدى جميل ممتزجاً بالرؤية الحسية،.... ويؤكد (وديع عساف) على عواطفه الدينية الصوفية التي تتحرك بموسيقى الكنيسة.... لكنه أيضاً يربط بين الوطني والديني من خلال الصخرة التي توحد بين التجربة الدينية والتجربة الوطنية لديه....(5)
__________
(1) في المرجع (المنتزع).
(2) . لغز عشتار فراس السواح- سومر للدراسات والنشر، قبرص، الطبعة الأولى، 1985، ص 173.
(3) البحث عن وليد مسعود، ص 228، تصرفت في النص، بتحويل ضمير المتكلم إلى الغائب.
(4) نفسه ص 232.
(5) ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية؛ فاروق وادي، ص 157.(1/32)
إنّ هذا الاستنتاج صحيح، ولكن تنقصه إضافات ما؛ فنقول أولاً: الجذور يُستحسن لو استبدل به التجذر لكان أكثر دقة في الدلالة، وقد أغفل فاروق وادي العنصر المرتبط الثالث وهو المرأة، والجسد بالذات ويقول أيضاً:"وفي حياة وليد مسعود تجربة دينية أشد عمقاً، منها محاولته في صباه معايشة تجربة صوفية في كهف بعيد.
وقد تكون تجربة وليد مسعود أشد عمقاً من الناحية الإجرائية إذ يعود (فاروق وادي) نفسه فيرى أن هذه التجربة "كانت تجربة فاشلة".
إذاً فتجربة وليد مسعود ليست بعمق تجربة وديع من الناحية الدينية الروحية، لقد تدخلت في تجربة وليد روح التكنولوجيا وعدلت في روحه الديني بينما ما زلنا نرى الدفق الروحي الهائل في تجربة وديع الذي يقول: "أنا إن كانت لديّ عاطفة حقيقية، فهي عاطفة دينية صوفية، عواطفي تتحرك بموسيقى الكنيسة، فالألحان التي تتصاعد أليمة جريحة من حناجر المرتلين، وألحان الأرغن الهادر في السقوف الشاهقة، وهذه الإشارات الضارعة الخاشعة إلى الله وربّ الأرباب وملكوت السماء.. وهذه كلّها تغمرني بأحاسيسٍ كالهستيريا. فأنا أريد أن أتمزّق عندها أتمزق فرحاً وطرباً، وأسىً وحزناً".
أين تجربة وليد إذاً من تجربة وديع؟
وسنرى في حديثنا حول التحوّل الأيديولوجي كيف تحول وليد أيديولوجيا، وهذا ينفي تميّز عمق التجربة الدينية لدى (وليد) عنها لدى (وديع).
إن الخط البياني لتطور التجذر الديني في أشخاص جبرا الثلاثة ليس خطاً تصاعدياً في العمق ولكنه خط متعدد الذرى ومتفاوتها، فالتجربة الأولى تجربة جميل فران في (صيادون) تتجذر فيها التجربة المسيحية عند ذروةٍ ما، وتتصاعد هذه الذروة في حالة (وديع عساف) في (السفينة) نفسيا"ً وروحيّاً لتشكّل ذروةَ الذرى، لكنّها عند وليد تتخذ خطاً ذروياً متعدداً.(1/33)
"إن الشخصيات الثلاثة مؤمنة، والتجربة الدينية تسكن شخصيتها، وتربط الإحساس الديني بأحاسيس الحبّ والجمال والتّعاطف الإنسانيّ، وهي مثالية في طموحها الهادف إلى ربط التأمل الصوفي بالصّراع الوطني"(1)مكرر.
ويرى فاروق وادي أن هناك وجهاً آخر متناقضاً مع الحسّ الدّيني ومتصالحاً مع هذا الحسّ داخل الشخصية، هذا الوجه هوالرغبة الحسية.
ويرى أيضاً أنّ (جميل فران) يفصل مشاعره العاطفية عن رغبته الجسدية ويحمل (وديع عساف) مفهوماً متناقضاً للجسد.. "أما وليد مسعود فإنه في بداية مراهقته يقف في الكنيسة ليخترق أجساد النساء ويلتهمها بِنَهَمٍ، ويدفع به إخلاصه للجسد إلى تحديد علاقته بالدّين تاركاً مساحة من حياته وتجربته للجسد. ويظل في حياته مُخلِصاً للجسد.... وسواء شدّته المرأة إليها بروحها أوبجسدها(2) فإنه لا يتنكر للجسد مطلقاً".(3)
لا نستطيع أن نجاري مقولة (وادي) ونقبلها لأن الرؤية الكلية للعناصر التي تطمح إليها الشخصية تنكسر بقبول مقولة التناقض، وكذلك الرؤية الكلية لجبرا إبراهيم جبرا، وهو الذي يرى "أن من يأخذ ناحية واحدة من تفكيره فإنه سيكتشف فيما بعد أن إهماله النواحي الأخرى قد تركت(4) فجوة في دراسته"(5).
لابد لنا من أن نشير إلى أنّ التناقض تناقض صوريّ، فالحس الديني والرّغبة الحسية تقوم بينهما علاقة مَعْبَر (جسر) ومَطْمَح؛ الطرف الأول في العلاقة المَعْبَر (وهو الرغبة الحسية) والطرف الثاني المَطْمح (وهو الحس الديني) فلذلك تنتفي مقولة التناقض لتكون علاقة وسيلة وهدف.
2- البحر:
__________
(1) 50) ثلاث علامات ص 157.
(2) الأفضل استخدم أم مع سواء.
(3) ثلاث علامات، ص 158.
(4) الصواب أن يقول : ترك فجوة.
(5) نفسه ، ص 143.(1/34)
صُوَّةٌ أخرى من الصُّوَى الرمزيّة التي تحقق الارتباط بين الطامح ومطمحه (المطلق)؛ هنا يفترق البحر واقعياً، عن الصخر بأنه ذو أفق واقعي حقيقي ممتد يضاف إلى أفقه الرمزي، كما أن غموض الصّخرة الموحي بواسطة قساوتها يختلف عن غموض البحر ووحيه بوساطة طراوته وامتداده، على الرغم من المجاورة المكانية بينهما لكنهما، عندما يأتلفان، يشكلان رمزية خاصّة، نظاماً رمزياً ثنائياً، كما رأينا في بحثنا لرمز الصخرة (صخر وماء).
عندما يُفارق البَحْر (رمزاً) الصّخور، فإنّه يؤدي وظيفته الرّمزية المستقلة (المَعْبَر) وليس كما رأينا في الصخرة (الاندماج والامتزاج) وإنما هو قناة بين المنطلق والمُسْتَقَر. ولا يمكن أن يكون البحر مستقراً، لأنّه مُسْتقرُّ الموت ( من أحداث السفينة انتحار فالح، ومحاولة انتحار السائح).
إن البحر بناء رمزيّ ثانٍ فوق بناء رمزيّة الصّخر يستند إلى رمزيّة الصخر (منطلق الخلاص) والصّلة الامتزاجية بينهما "البحر جسر الخلاص"(1).
الإنسان (الباحث عن خلاصه) يمتزج بالصّخر ويَعْبُر به البحر ليصل إلى المطلق.
الإنسان + الصّخر ( البحر ( المُطْلق
ويكتسب البحر جماله من ارتباطه بالمقدّس الوطنيّ (الأرض) إلى جانب ارتباطه هناك في اللامرئيّ اللامحدود) بالسّماء. فالثلاثة متمازجة، ومتماثلة إضافة إلى امتلاكه البُعد الحضاريّ:
"هذا البحر الأزرق يتألق، غير مكترث غير حافل، أنا أعرف ذلك، لأنّه يظن أنه يجمع حضارات الدنيا على شطآنه، ولكنه أيضاً يحمل لطعات من شاطئنا تجعله على هذا التألق، هذا الحسن. أنا أحب البحر المتوسط، وأركب السفينة فيه؛ لأنّه بحر فلسطين بحر يافا وبحر هضاب القدس الغربية، فأنت إذا صَعدْتَ هضاب القدس. ونظرتَ غرباً لن تعرف أين تنتهي الأرض وأين يبدأ البحر وأين يلتقي الاثنان بالسّماء. فهي ثلاثتها متداخلة متمازجة ومتماثلة(2).
__________
(1) السفينة ، ص 5.
(2) نفسه، ص23.(1/35)
ولا ينسى جبرا صفة مهمة تقليديّة من صفات البحر هي الجلالة والحكمة، مع شيء طفيف من الأنوثة: "البحر الطّريّ النّاعم، الأشيب، العطوف"(1).
ويظهر البحر "مستمداً من تجربة الإنسان الأولى صورة لتجربة الإنسان المعاصر في عُريه وضياعه، وفي عودته المخصبة إلى البحر (ذلك الرمز العديد المعاني رمز الحياة والله والأزل)، الجالب بعبابه الذهب والفضة والرخام والعاج إلى الجبل وإلى مرافئ الأمان".(2)
وتكتمل هذه الصورة المكوَّنة من مشهد الحياة والله والذهب والفصة والرخام والعاج.
"بالأمواج... أنغام الفرح والأسى المرتبطة بالله والملائكة والقديسين وتندمج فيها أنغام الحب والمتعات العنيفة الخفية"(3).
2- طبيعة الشخصية:
يؤكد جبرا في أكثر من مكان -بخاصة عندما يتعلق الحديث بالرؤية وبالقلق الكونيين والبعد الحضاري للقضايا البعد الغيبيّ الديني في الشخصية: شخصيته هو أولاً ثم شخصياته التي يخلقها ثانياً.
إن (النَّفْسَ) الديني ببعده الإلهي مصدر الطمأنينة (نَفْسٌ) طافح في كل ما أنتجه جبرا، هذا النفس الذي كان سائداً عند جميع (التموزيين) الذين أطلق عليهم جبرا هذا الاسم وكان منهم، وهذا النفس لا تغذوه صورة المسيح الإنسان... الميت الحيّ فحسب، بل رموز الصلوات الكنسية المستقاة من [الكتاب المقدس بشقيه] منغمة بنغم كهنوتي... لخلق جو الدعوة إلى الإيمان، الدعوى إلى الرجوع إلى الله، رمز الحب الأكبر المسكوب على الجرح والدم".(4)
__________
(1) نفسه، ص5.
(2) النار والجوهر، سبق ذكره، ص 40.
(3) السفينة، ص 20.
(4) النار والجوهر، ص 45 و 47، نصان يتحدث فيهما جبرا عن شعر يوسف الخال ولكن وجدتُ أنهما مناسبان تماماً لحالة جبرا.(1/36)
هذه الرؤية الدينية التي لايدركها إلا الأقلون بعد المعاناة والضياع والتّمرد؛ لأنها تجسد الألم بقدر ما تجسد اللذّة وتجعل من كليهما مشكلة دينية بالمعنى الفلسفي الأعمق نجد فيها رمزاً لمعاناة هذا الجيل بنكبته المريعة وأمله الكبير"(1).
لقد أدرك جبرا هذه الرؤية نتيجة لأكثر من معاناةٍ وأكثر من ضياعٍ وعاش المشكلة الدينية بعمقها الفلسفي وعمقها الإنساني، وجعل أبطاله أيضاً يعيشونها.
وإذا تفحصنا مواقف بعض أبطاله في رواياته؛ فإننا نجدها متأثرة بعمق النفس الديني.
فوديع عساف في (السفينة) الذي يرفض جميع أنواع العواطف يرى أن العاطفة الوحيدة التي في داخله هي العاطفة الدينية التي تتحرك على أنغام الكنيسة:
"أنا إن كانت لديّ عواطف فهي دينية تتحرك بموسيقى الكنيسة"(2).
ويرى أن المسيح يلازمه "حافياً كبير القدمين، تقطر أصابعه الطويلة بالمعجزات وهو يكاد لا ينطق"(3).
"ومحاكمة جميل فران للمسيحية (صيادون ص 35. 27) لا تشكل خروجاً عن الإيمان بالروح أو تحولاً إلى نقيض مادي بل هي نقد للمسيحية الأوربية التي حولت المسيح إلى فكرة مجردة"(4). وتأكيد للإيمان الشرقي الذي يراه أكثر نقاء بل هو الإيمان الحقيقي.
ويحاول وليد مسعود في بداية حياته القيام بتجربة صوفيّة في كهف بعيد عند منقطع المدينة ولكن هذه المحاولة تفشل.
"وفي كنيسة المهد، ومغارتها الميلادية المظلمة المنارة بقناديل زيتية قديمة [أحست مريم الصفار] على غير ما توقع، بأنها جزء من تلك الأرض الحجرية الصلبة، جزء من صمودها وعنادها، جزء من قدسيتها"(5).
__________
(1) النار والجوهر، ص 45 و 47، نصان يتحدث فيهما جبرا عن شعر يوسف الخال ولكن وجدتُ أنهما مناسبان تماماً لحالة جبرا.
(2) السفينة ، ص 19.
(3) السفينة ، ص 94.
(4) ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية، فاروق وادي، ص 156.
(5) البحث عن وليد مسعود، ص 234.(1/37)
ثانياً: الثَّقافَةُ الغَرْبيَّةُ "المُكَوِّن الأساسيّ":
"سواء شئنا أو لم نشأ فإننا في نظرتنا إلى الأدب كما في نظرتنا إلى السياسة والاجتماع متأثرون كل التأثر بالنظرة الغربية"(1).
تعد الثقافة الأوروبية عند جبرا إبراهيم جبرا مكوّناً أساسياً ومكوّناً مميزاً له، ساعد في خلق آفاق جديدة وأثرى المساحة الإبداعية التي يتحرك عليها الكاتب، ودعم رؤاه.
1 - المطالعات:
(قبل الاتصال بالحضارة الغربية المباشرة)
لم تكن المؤثرات الثقافية الغربية في جبرا وليدة اتصاله المباشر بالغرب وإنما تمتد في جذورها إلى بداية حياته الثقافية، فهو يصرح بذلك مشيراً إلى أن ميوله إلى الغرب الثقافي كانت منذ حداثة سنه:
"بدأنا في تلك الفترة ننتبه إلى الشعر الإنكليزي: درسنا شكسبير في نصوصه الأصلية... وكنت بالغ الحماسة لدراسة الأدب الأجنبي في تلك الفترة بدأت مطالعة المجلات الإنكليزية وشراء الكتب الإنكليزية"(2).
وفي كثير من اللقاءات والحوارات التي أجريت معه يعترف بهذا الانسياق المبكر نحو الغرب وثقافته ويبين أسباب الاندفاع ونتائجه الإيجابية، فيعيد بعض هذه الأسباب إلى الظروف التاريخية السياسية والصراع العربي الصهيوني وذلك من أجل رفد الحركة الوطنية بسلاح فكري جديد، ولكن في تقديرنا أن هذا ليس الهدف الوحيد وإن كان هدفاً حقيقياً، فالطبيعة الخاصّة لجبرا (من نظرة شمولية إلى العالم وطموح إلى الكونية على ألا تتعارض هذه الكونية مع الأصول والجذور والمبادئ التي يفترض أن تميز مبدعاً فذا ينتمي إلى شعب له ظروفه التاريخية الخاصة) ساعدت على هذا التوجّه يقول:
__________
(1) الحرية والطوفان، جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1979. ص 43-44.
(2) ينابيع الرؤيا -جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1979. ص 121.(1/38)
"هذه البدايات هي التي جعلتني... أنتبه مع بعض أصدقائي إلى تخلّفنا الفكري فالصّراع الذي كنّا نخوضه في تلك الأيام مع الصهيونية جعل يُشعرنا بأن لابُدّ له من أن يرفد بسلاح فكري أمضى... كان علينا أن نقوم بثورة فكرية... كنا متأثرين بفكر الثورة الرومانسية بوجه خاص فلقد وقعت في تلك الأيام في حب عنيف لشلي... ولشِلي كتاب شعري اسمه "ثورة الإسلام"(1).
هذا الربط القوي بين الواقع المتردي للحركة السياسية العربية والحركة الفكرية قد يكون مسوغاً كافياً للبحث عن رافد جديد وسلاح فكري إضافي يساعد في نمو الحركة الوطنية، كما يرى جبرا.
والمرحلة الثانية:
في رحلة العلاقة بين جبرا والثقافة الغربية هي مرحلة الاتصال المباشر بالحياة الأوروبية والاطلاع على منجزاتها الحضارية والعلمية والثقافية وهذه المرحلة هي المرحلة ذات التأثير الجوهر في التكوين الثقافي والأيديولوجي لجبرا، وبرصد بسيط لهذه المرحلة نجد ما لها من أثر بعيد العمق في تكوينه. مرة أخرى نجد جبرا يشير إلى هذا المصدر الثقافي المهم وإشارته مملوءة بالإعجاب والاندهاش مرة، ومرة بالتحفظ والامتعاض والإحساس بالقهر والاغتراب:
"كانت المؤثرات الثقافية في إنكلترا مؤثرات أساسية"(2).
"هذه نقطة هامة جداً؛ لأنّها من الأشياء التي سحرتني، كانت القنابل تتساقط على المدن الإنكليزية، ولكن النشاط الفني والفكري فيها في عنفوانه"(3).
"أتمنى لو كنت شحاذاً في القدس، ولا أميراً في إنكلترا"(4).
__________
(1) ينابيع الرؤيا، ص 121.
(2) ينابيع الرؤيا، ص 121.
(3) ينابيع الرؤيا، ص 122.
(4) ينابيع الرؤيا، ص 121.(1/39)
نلاحظ أن جبرا كان يبحث في أوربة عن المفقود في وطنه، عن الأفق الحضاري الذي حُرِم منه الوطن العربي ورزح تحت وطأة الجهل والتخلف، واندهاش جبرا يعود إلى الإصرار الغربي على التعلق بهذا الأفق ولكنه سرعان ما اكتشف الغائب فيه وأحسَّ بغربته عنه، والغربة قادته إلى اغتراب جعله يتمنى أن يكون شحاذاً في القدس ولا يكون أميراً في إنكلترا.
إن الصدمة الحضارية هي المرجع الرئيسي لتفسير هذا الموقف لجبرا. فموقف الاندهاش كان وليد الصدمة الإيجابية، والاغتراب كان نتيجة للصدمة السلبية، لقد رأى في أوربا أفقاً حضارياً مذهلاً في تقدمه التكنولوجي وآلته الحضارية وفي تطوره الفكري، ولكنه أيضاً رأى في أوربا العداء للإنسان، كونه لا ينتمي إلى عالمها، وكونه ينتمي إلى عالم مقهور، إضافة إلى أنه يعاني من آثار هذا التقدم الهائل الذي يستخدم لقهر أبناء وطنه ولسلب شعبه، هذا التفارق في التوجه الغربي وفي التقدم خلق ذلك الموقف المتباين.
ولاشك في أن للمطالعات التي قام بها جبرا في أثناء وجوده في أوروبا أثراً كبيراً على تطور رؤيته للإنسان والعالم ولرؤية الذات ورؤية الآخر ويظهر أثر هذه المطالعات في المواقف الفكرية والدراسات النقدية والبحوث والمقالات التي كتبها على مدى مسيرة حياته الثقافية والفكرية، وليس مسوغاً لنا أن نقوم بإحصاء للكتب التي قرأها جبرا، أولاً لصعوبة العمل وعدم القدرة على الحصول على الإحصاء الدقيق، وثانياُ: لأن المنهج لا يتطلب مثل هذا الإحصاء لإثبات أثر الثقافة الغربية فيه، ولكننا سنرى أثر هذه المطالعات من مناقشتنا لبعض القضايا الفكرية عند جبرا ماطرحه منها بشكل مباشر أو ما استنتجناه من متابعتنا لآرائه في النقد والأدب والفن والعالم والحياة والإنسان، ويكفي أن نشير إلى ما يعرضه جبرا معدّداً أنواع الدراسات التي تابعها في إنكلترا ويوضح أن هذه المرحلة هي ذات الأثر الحقيقي:(1/40)
"في انكلترا درسْتُ الأدب الإنكليزي لقناعتي بضرورة التعرف إلى الأدب في الغرب. هنا أصبحت المؤثرات الفكرية حقيقية تعرّفت على الأدب من جديد وبطريقة جديدة، وفي كامبردج بدأت أدرس النقد المُمَنْهَج المُبَرْمَج، ومن أفلاطون وأرسطو إلى ليسنغ وكولردج وأرنولد وتين وسانت بوف وإليوت... وأدركت من خلال هؤلاء النقاد ضرورة قراءة علم النفس حتى أحقق فهماً أعمق للنصوص فقرأت فرويد ويونغ... قرأتُ بِنَهَم فلسفة ديكارت وهيوم وشبنغلر،
لقد أثر فيّ شبنغلر بكتابه (انحطاط الغرب)... ثم قرأت توينبي الذي فتح أفقي على قضية نشوء الحضارات واندثارها.. كنتُ محاطاً باستمرار بمن يتكلم الإنكليزية، وأدرس الأدب الإنكليزي، وأقرأ كتباً إنكليزية باستمرار حتى أصبحت كتابة الرسائل بالعَرَبيّة بالغة الصعوبة وابتدأت أجرب بكتابة الشعر باللغة الإنكليزية".(1)
لقد قرأ جبرا إذا اقتصرنا على هذا الذي عدّده خلاصة الفكر الأوروبي المعاصر وأشهر ما أبدعه العقل في الغرب في جميع ميادين المعرفة من فكر وفلسفة ونقد ونفس وتاريخ وحضارة، وهذا الرصد الثقافي المتنوع كاف لخلق تغيير ما في عالم الكاتب، وإضافة تصورات جديدة إلى عالمه وإلغاء جزء منه، إلى حد أنه يرى أن هناك إلغاء للقدرة على الكتابة بالعربية لأن الإنكليزية حلّت محلها.
ولا يكتفي جبرا بهذا الاعتراف، إذ نجد له تصريحات أخرى تؤكد هذه الفكرة، فهو يرى أن الإنكليزية ذات آفاق أوسع تخلق في الذهن طاقات هائلة على التعبير عكس العربية التي كان يحس بها قاصرة عما يطمح إليه.
__________
(1) ينابيع الرؤيا، ص 121 و 122.(1/41)
"فقلت: سأكتب بالإنكليزية، وكنتُ أشعر أن كتابتي بها تجعل ذهني أكثر اتساعاً وطاقتي على التعبير لا تقتصر عن أي شيء تريد تناوله..... وبعد ذلك بدأت في كتابة(1) بعض القصص والمقالات بالعربية وكنتُ أشعر أنها ليست الشيء الذي أريد أن أكتبه"(2).
على مافي هذا الكلام من تحامل على اللغة العربية وتراجع عن فهم رسالة الأديب في البحث عن آفاق وأبعاد من أجل تطوير اللغة، لغة الكاتب القومية، فإنه يظهر لنا مايمكن أن ندعوه استلاب الكاتب، فالكاتب مستلب ومأخوذ بالآخر، فإذا كانت اللغة العربية غير قادرة على استيعاب طموحه فبماذا أولاً نفسر ترجماته الرائعة لمسرحيات شكسبير التي وازت الأصل إن لم تفقه في بعض الأحيان(3) وبماذا أيضاً نفسر القدرة الفائقة واللغة العالية في رواياته خاصة في روايتي (السفينة والبحث عن وليد مسعود) هاتان الروايتان فاقتا بلغتهما روايته التي كتبها بالإنكليزية (صيادون في شارع ضيق).
التفسير الذي نراه مناسباً هو أن الكاتب لم يكن يستطيع القبض على آلية حسّه اللغوي أي لم يكن قابضاً على آلية اللغة نفسها، فلذلك لم يكن قادراً على الوصول بها إلى ما يطمح، ولكن بعد أن استوت لغته وتملكها استطاع أن يسيرها واستطاع أن يخلق لغته الخاصة النابعة من روحه الحضاري والثقافي والدليل على ذلك واضح في اعترافاته بعد ذلك عندما قال:
__________
(1) استخدم الكاتب حرف الجر (في) بطريقة غير مناسبة ويفضل الباء.
(2) جريدة الحياة، العدد 10005- تاريخ 15/6/1990 من أرشيف دار البعث- قسم التوثيق والمعلومات- الرمز 1/2/10 من مقابلة أجراها مع جبرا-محمد عبد الواحد- القاهرة.
(3) هناك مواقف لغوية في مكبث مثلاً عالية في الأداء واللغة والفكرة أبدع فيها جبرا في الترجمة فاقت في بعضها ماكتبه مثلاً في (البحث عن وليد مسعود) أو (السفينة).(1/42)
"كانت تداعبني فكرة ترجمة مسرحية (الملك لير) حيث إنها المسرحية الوحيدة التي تستحق الترجمة ولكنها مستحيلة التحويل إلى اللغة العربية وحسمت التردد لأنني أثق بلغتنا العربية وقدرتها على الاستيعاب إذا عرفت كيف أستخدم إمكانيات التعبير"(1).
ويطالعنا جبرا برأي مستهجن مستغرب فيقول لنا:
"فرحت بالكتابة الإنكليزية والكتابة بالإنكليزية علمتني الكتابة بالعربية"(2).
لمناقشة هذا الكلام واختباره نضع على طرفي المعادلة روايتين من رواياته، على الطرف الأول نضع روايته التي كتبها بالإنكليزية (صيادون في شارع ضيق)(3) وعلى الطرف الثاني أياً من رواياته الأخرى، ولنقل على سبيل المثال (السفينة) أو (البحث عن وليد مسعود)، (قبل المقارنة علينا أن ننتبه إلى أمر مهم وهو أننا لانقارن بين النص الإنكليزي لـ (صيادون) وبين النص العربي لإحدى الروايتين الأخريين ولكننا نقارن بين نصين مكتوبين باللغة العربية أحدهما مترجم وهنا تكمن خطورة المقارنة، والآخر مكتوب العربية في الأصل وهو مكتمل الشروط الإبداعية لأن نسغ الإبداع مستمد مباشرة من مؤلفه، ولكن الأول منقول من لغة لها خصائصها وأساليبها وعوالمها إلى لغة أخرى تختلف كل الاختلاف بخصائصها وأساليبها وعوالمها، والمقارنة هنا ليست بمنأى عن المزالق والوقوع في التعميمات، ولكن على الرغم من كل ما تقدم ستحاول المقارنة أن تكون مبتعدة عن الأمور الإشكالية وتبقى في الحدود الآمنة نسبياً:
لغة الرواية:
__________
(1) جريدة البيان - العدد 3294- أبو ظبي- تاريخ 24/6/1989.
استخدم الكاتب حرف الجر( في) بطريقة غير مناسبة ويفضل الباء.
(2) جريدة الحياة، سبق ذكرها.
(3) صيادون في شارع ضيق، رواية لجبرا إبراهيم جبرا كتبها باللغة الإنكليزية سنة 1960، وترجمها محمد عصفور.(1/43)
مهما يكن من تصورنا للمفقود في الرواية المترجمة فلابد من أن تحتفظ بنسبة جيدة من الروح الأصل، والمؤلف الذي هو جبرا كتبها من منظور الروح العربي، من منظور ذاته التي تنتمي إلى النفس الحضارية العربية والمترجم كذلك ينتمي إلى المجال نفسه.
وجبرا يشيد بهذه الترجمة ويعدها ترجمة رائعة فهو راضٍ عنها وهي تحقق جزءاً كبيراً من طموحه الفكري واللغوي، ويَعُدُّ مترجِمُها ملمّاً بعالم المؤلف وبطريقة تفكيره؛ فلذلك كانت الترجمة رائعة ناجحة، يقول:
"وساعده على الإحاطة بعالم الرواية أنه كان يقرأ كل أعمالي ويعرف طريقة تفكيري ثم إنه قبل أن ينشر الترجمة راجع معي مخطوطاتها ونقحها فجاءت ترجمة رائعة ناجحة"(1).
لذلك فإنه يمكن القول بشيء من الحذر إن الرواية لم تفقد كثيراً من خصوصيتها وإنما فقدت خصوصية التعبير باللغة الإنكليزية (كلغة)، إذاً، نستطيع أن نستنتج أن لغة الرواية المترجمة على الرغم من مستواها الذي أرضى جبرا، لا ترقى إلى لغة الروايات الأخرى المكتوبة بالعربية فذلك التعبير الجليل عن الإنسان وفكره ورؤاه الذي نجده في (السفينة) أو (البحث عن مسعود) ضئيل في (صيادون).
وذلك الأسلوب المتطور المتقدم في التقنية الفنية بكل تفاصيلها الإبداعية والبلاغية ووسائل البناء الفني لا نجده في (صيادون) ذات السرد التقليدي، وهذا سندرسه في فصول خاصة به في ثنايا البحث.
ونرى جبرا يتراجع عن قوله السابق ورأيه الذي طرحه حول قصور اللغة العربية عن طموحاته الفنية ويقول:
"نظرتي السابقة كانت موجهة إلى الأساليب أما اللغة فكنت أشعر دائماً أنها طاقة لكنها غير مستغلة بما يكفي"(2).
__________
(1) جريدة الحياة، سبق ذكرها.
(2) جريدة الحياة، سبق ذكرها،(1/44)
يفرق جبرا بين اللغة والأساليب، وهذا مفهوم ترفضه الدراسات الحديثة كالأسلوبية والألسنية"(1)؛ ولأن اللغة تصبح بمفهوم الكاتب هنا مجرد ألفاظ وهذا الافتراض يفتت اللغة إلى مستويات لا تقبلها، ويجزئ النظام الكلي لبنية العناصر المكونة للغة، إن التعبير الأكثر دقة عن ما يرمي إليه جبرا هو (التقنية) التقنية الفنية البنائية للنوع الأدبي:
"ففي الفن الروائي بالإضافة إلى استعمال اللغة هناك استعمال التقنية وهي مهمة جداً والأدب الإنكليزي كان له فضل إفادتي في هذه الناحية".
إن هذا الكلام مسوغ جداً وهو يدخل في إطار المثاقفة والتأثر والتأثير، وربما يكون مقصد جبرا الحديث عن تقنية الفن كبناء فني مستقل عن اللغة.
الشّخصيّات المسكونة بالثقافة الغربيّة:
__________
(1) قد يكون فهمي لمقصد جبرا هنا خاطئاً فتعبير الأساليب في قوله: نظرتي كانت موجهة إلى الأساليب غير موضح بالوصف وهو مطلق الدلالة اعتماداً على مقولات سابقة حول اللغة حسب مفهوم الأساليب اللغوية وليس الأساليب الفنية للأنواع الأدبية.(1/45)
إن جميع شخصيات جبرا التي تمتلك تميزاً حضارياً وأفقاً ثقافياً عالياً وحساً إنسانياً متطوراً شخصيات وفية لواقع جبرا فهي مسكونة بالثقافة الأوروبية في نمطها المتطور المتقدم الذي يعد حتى في موطنه (أوربا) نمطاً متقدماً عالياً فالشخصية التي تحمل الثقافة الأوروبية لا تأخذ العادي منها وإنما تبحث عن الميدان الذي يمنحها بل يعبر عن كينونتها وتكوينها، وتتميز في هذا الميدان وتبدو أصيلة فيه كأنّها تنتمي إلى الإطار الاجتماعي والثقافي والحضاري الذي أنتجها ولا تكتفي بذلك، وإنما تنتقل إلى إطار المنتج المبدع المضيف إلى الحقل الذي استوردته ولكنها، أحياناً، تقوم بعزل هذا الرصيد الثقافي المستورد عن أفقه الأصل وتحاول إسقاطه على أفقٍ لا يحتمله اجتماعياً؛ ولذلك فهي تحاول استيراد آفاق مُكَمِّله لهذا الرصيد ليمكنها أن تُنْتِشَ وتثمر فيه، وهي في ذلك ناجحة ضمن هذه (المزرعة الاصطناعية) ولكنها فاشلة في إطار الحقل الكبير، ولعل الإخفاق الاجتماعي الهائل في بنية المجتمع العربي والريث الحضاري الذي يعانيه هما الدافعان الرئيسيان لهذه العملية الحلمية(1) (التطورية) وقد يكمن حلم الكاتب في خلق موازيات روائية (شخصيات) لذاته كمثقف متعدد هو أيضاً محاولة لإثبات إمكانية الخروج عن الواقع بتطويره وبعثه من جديد، إلا أن هذا الخروج يتحول إلى "تمايز" اغترابي، ذي منحى سلبي في أكثر تجلياته إيجابية لدى الشخصية هو الإبداع الفوهي (الكلامي):
__________
(1) يرد الحلم في البحث للتعبير عن مستويين دلاليين الأول الحلم الإبداعي وماهيته وعلاقاته التكوينية الداخلية وعلاقته الخارجية بالمبدع (الحالم) وهي لا تحمل السلب في التعبير، والثاني يتعلق بالحلم الحضاري بالمستقبل الذي يعبر عنه بالحلم حلم التغيير "البعث الانتشال". وقد يكون الحلم متجهاً نحو الماضي يتصوره وفق هدف معين يعبر عن رغبة وغاية للحالم.(1/46)
"لم يكن عبثاً أو مصادفة أن كل شخصيات جبرا إبراهيم جبرا...تحمل مفهومات وثقافة الغرب، والغرب الرأسمالي تحديداً، في وجه مفهومات الإقطاع والتخلف معبرة عن لحظة الراهن الاجتماعي التاريخي"(1).
وهذا ما أشار إليه جبرا وإن كان قد استخدم لغة مختلفة عندما أرجع سبب التوجه إلى الثقافة الغربية إلى رَفد الحركة الوطنية وتزويدها بأفكار ومُثّل وقيم جديدة.
لن نحتاج هنا إلى تقصّ لجميع الشخصيات المسكونة بالثقافة الغربية، لأن هذا الموضوع سيتقاطع مع فصول أخرى في البحث ودراستها في تلك الفصول أكثر دقة وعمقاً.
التَّرجمة:
من النشاطات الإبداعية التي يقوم بها جبرا إبراهيم جبرا الترجمة، إذ نستطيع أن نقول بشيء من التحفظ: إن جبرا هو أكثر مترجمي الأدب المكتوب باللغة الإنكليزية قدرة إبداعية على نقل النّصّ بصورة لا تقل عن صورته الإبداعية في الأصل لذلك عَدَدْتُ الترجمة بين النشاطات الإبداعية؛ لأنها شكلت عند جبرا خصوصية ميزته عن أكثر المترجمين، وهذه الخصوصية مستمدة من خصوصيات أخرى ومدعّمة بها، لتنشئ علاقة تبادلية بشكل دائرة تأثر وتأثير فالإبداع الروائي رافد أساسي للقدرة على الترجمة وكذلك الكتابة الشعرية والفن والنقد... وكل ذلك أعطى جبرا رصيداً انصبَّ في قدراته، وساعده على الارتقاء بفنّ الترجمة والنجاح فيه نجاحاً يرفعه إلى الإبداع.
الترجمة وسيلة مهمّة من وسائل المثاقفة، بل كانت وما زالت في أحيان كثيرة الوسيلة الوحيدة، خاصة في المسائل الفكرية والثقافية والحضارية، في التبادل الثقافي بين الأمم فالترجمة عمل متعدد، يحمل في ذاته مجموعة أعمال تغني الحياة الثقافية والإبداعية للذي يقوم بها، فلابد للمترجم من معرفة دقيقة باللغتين معاً المنقول منها والمنقول إليها:
__________
(1) الرواية والواقع، محمد كامل الخطيب، ص 25.(1/47)
"فمن أجل أن تترجم، لا تكفي معرفة اللغة الأجنبية، بل عليك أن تعرف لغتك بطريقة أفضل"(1).
ولابد من معرفة ثقافية واسعة وشاملة بالموضوع المترجم وبفضائه الاجتماعي والتاريخي والفني ومما لاشك فيه أنّ هذه العناصر توفرت لجبرا وأنّه كان ملمّاً بالفضاء الخاصّ بترجماته على تنوعها، فالثقافة الأوروبية ثقافة تكوينية عنده وجميع آفاقها متناولة بنسبية ما، ولابد أيضاً من مَلَكةٍ خاصّة لدى المترجم كي يترجم عَمَلاً فنياً له قيمته الإبداعية الكبرى ضمن مسيرة الإبداع الإنساني، وما هو معروف أن جبرا رجل مبدع يتحرك على فضاء إبداعي متنوّع وهذا مايوضح ما قلناه سابقاً، ويؤكد ما صرح به جبرا حول الترجمة التي لم تكن عنده وظيفية، وإنما هي حالة تثقيفية يقوم خلالها بنقل الحالات الثقافية المحبذة لديه الذي تؤدي أغراضاً فكرية ورؤيوية.
"أنا موجود جداً في ما أترجم.. لماذا؟ لأني لا أترجم كوظيفة بل أترجم ما أحب لذلك تجد الكتب التي ترجمتها من النوع الذي يتناغم مع تفكيري وموقعي من الحياة، والترجمة ليس آلة ولا كمبيوتر، المترجم إنسان. خاصّة إذا كانت له مواقف فكرية وإبداعية فلابد أن يتفاعل مع المنقول ويتداخل في محاولاته لنقل الشحنة الأصلية فيضع كثيراً من نفسه... إنّ المترجم يضع رؤيته في النص".(2)
لا شك في أنّ مثل هذا الكلام دقيق ومُهمّ فهو على المستوى النظري صحيح وكذلك إذا قمنا بفحصه في المستوى العملي الإبداعي لجبرا نجده أيضاً دقيقاً وصحيحاً يعكس تجربة الكاتب:
__________
(1) جريدة البيان، سبق ذكرها.
(2) الدوحة، إبريل 1985، حوار أحمد عنتر مصطفى، ص 139.(1/48)
1- إن أصداء ترجماته في كتاباته الإبداعية متعددة ومتنوعة يكاد لا يخلو منها مؤلف فأصداء (الصخب والعنف)(1) حالة إبداعية تسعى إلى فخامة النسج الروائي وتسعى إلى الخلود والديمومة عبر رؤاها الكونية تتردد في (البحث عن وليد مسعود) ولا تخلو "الغرف الأخرى" من محاور فنية لأجواء (ألن روب غربية)(2) وكذلك نجد الأصداء الشكسبيرية (خاصة المكبثية) من (المنولوجات الفلسفية) العالية أو الحوارات (حول الكون والإنسان والعالم) واضحة في أكثر رواياته خاصة (السفينة) و(البحث) ويزخر الرّوح الروائيّ لجبرا بعوالم (أدونيس "تموز").
2- ولئلا تكون النظرة إلى حالة التأثر قاصرة فلابد من الإشارة إلى أن جبرا قام بتطوير مترجماته خاصة (الإبداعية) منها، لأنه كما يشير إلى ذلك أضاف إلى النص رؤيته وعالمه وخبرته، فلسنا متجنين إذا قلنا إن مكبث مثلاً أو هاملت (شكسبير) ليسا هما مكبث وهاملت (جبرا).
3 - لعبت الظروف التاريخية السياسية التي مرّ بها الوطن العربي دوراً بارزاً ومؤثراً في توجهات المثقف العربي من البحث عن تفسير للوضع العربي إلى البحث عن حلول وآفاق سياسية وفكرية واجتماعية من أجل إنقاذ ما تبقى وهو الحركة الوطنية التي تسعى إلى التغيير والثورة، وكانت نكسة حزيران ذات أثر صاعق على "المثقف العربي" فكانت موجهاً للحركة الثقافية بنسبة معينة نحو آفاق وأبعاد ربما رُئي فيها الأدب تعويضاً واستشرافاً لمستقبل عربي متخلّص متطهّر.
"نكبة حزيران عام 1967 هي التي حسمت القرار بالنسبة إليّ، ففي مسرحية (الملك لير) الغضب الكافي والشرّ الكافي والرّعب والظلم وقد استندت على المسرحية لتلعب دور المطهّر والمخلّص من رعب تلك الأيام"(3).
__________
(1) الصخب والعنف وليم فوكنر، من مترجمات جبرا.
(2) خاصة في روايته "الجنية".
(3) جريدة البيان، سبق ذكرها.(1/49)
لكن هذا الخلاص فرديّ وآني معاً، فالبحث هنا يقتصر على خلاص الذات على الطريقة الصّوفية، على التطهر بالرّقى، وإن كان بشكل حالة إبداعية.
وهذا يعني أنّ الثقافة الغربية كانت ملاذاً لكثير من الأدباء العرب؛ لأنها تعني لهم قيمة حضارية عُليا، استطاعوا من خلالها أن ينشئوا رؤية مستقبلية ميّزتهم بعضَ الأحيان واستلبتهم أحياناً أخرى.
إنّ جبرا لم يكن حذراً من التعامل مع الثقافة الغربية بكلِّ مكوناتها؛ بل كان يتفهمها بدقّة ويغرق نفسه بها أكثر الأحيان؛ لأنها تتجاوب مع رؤاه وأفكاره، وهو في نقده تعامل بكثرة مع المناهج الغربية واستفاد منها وليس كما قيل:
"إن الناقد يتعامل مع المناهج الغربية بحذر دون أن يغرق نفسه فيها"(1).
لم يكن ذلك من جبرا حذراً وإنما كان فرزاً وتفهماً وتصنيفاً، بعلمية وموضوعية إن المثال(2) الذي طرحته (ماجدة حمود) ليس دقيق الدلالة على أن جبرا كان حذراً في تعامله مع المناهج الغربية، فمجرد احترازه بالكلمات (لا أدري إن جاز لنا أن نزعم) لا يعني الحذر، وإنما هي فوهيات احترازية في قضية تستدعي الاحتراز؛ لأنها قضية إشكالية لا تحتمل الجزم أو التعميم.
الثقافة العربيّة:
1 - التراثيّة:
__________
(1) المنهج النقدي لدى جبرا إبراهيم جبرا، ماجدة حمود، مجلة الأسبوع الأدبي، العدد (43) الخميس 1 ت 1988.
(2) تقول الدكتور (حمود) على سبيل المثال: يستفيد من نهج تين في تفسير إبداع الحواريات لدى نزار قباني بردها إلى العامل الوراثيّ (العِرق) ولكن لنلاحظ حذره ودقته التعبيرية في هذا (ولا أدري إن جاز لنا أن نزعم أن نزاراً في حوارياته على تميزها بأسلوبه ربما كان يستمد من سليقة مردها كامن في دم أسرته إذا تذكرنا أن سلفه (عم أبيه) كان ذلك الرائد المسرحي الموسيقي الكبير الشيخ أبو خليل القباني.(1/50)
إن نظرة جبرا إلى العالم ورؤيته التكاملية والشمولية وطموحه الكوني من الأسباب التي منعته من إقصاء الثقافة التراثية عن سياق ثقافته، وهو من المفكرين القليلين المتزنين الذين فهموا الأصالة والمعاصرة بعلمية وموضوعية بعيداً عن الإغراض والانحياز والتحزّب، فهو يدرك إدراكاً واعياً أن التراث العربي حجر الأساس في حركة الثقافة العربية، ويعي أن الأصالة مفهوم مُسْتَغْرق في الحداثة، لذلك لم تكن مفهوماته لهذه القضايا مفهومات زمنية وإنّما متعلقة بطبيعة الإنتاج الأدبي والفكري وبفهم المنتج للعالم وبامتلاكه رؤية أو عدم امتلاكه؛ ومن هذا المفهوم انطلق جبرا في دراسته لبعض شعراء التراث العربي كما في دراسته لشعراء الحداثة، واهتدى إلى المساحات الواسعة المشتركة بين الطرفين، كلّ هذا بوعيه للحداثة أيضاً على حقيقتها كما سنرى، لقد قام جبرا بدراسة المتنبي على سبيل المثال دراسة رؤيوية، وهي لا تتناقض مع انتماء المتنبي إلى الزمن التراثي ولا مع انتماء جبرا إلى الحداثة والزمن الحداثي.
ودرس مجموعة من الشعراء التراثيين جمعتهم قضية واحدة هي قضية (الفعل) إذ يمكننا أن ندعو هؤلاء الشعراء (شعراء الفعل) اعتماداً على فهم جبرا، ودراسته وتحليله لشعر هؤلاء ومن بينهم (المتنبي، عنترة، طرفة، وعبيد) في إطار دراسة للحلم والفعل والفن عَنْوَن لها كتاباً نقدياً خاصّاً.
يوضّح جبرا رؤيته في مسألة العودة إلى الجذور قائلاً:(1/51)
"تكون العودة إلى الجذور لازمة، على أن نتعامل معها بوعي حديث تغذّيه معارف العصر كلّها... إنّ هذه العودة يجب أن يشفعها عقل مشبع بقضايا عصرنا وأساليبه، في زمان كوني باتت الفنون فيه يتصل بعضها ببعض عبر الفوارق القومية. جذورنا، والحالة هذه، تمدنا بتلك الحيوية التي تستنبع من تراثنا المتميز بنكهته، لتتفاعل مع نزعات إنسان اليوم وإيقاعات وجوده الجديد الذي تتحكم به قوى فكريّة وتكنولوجية، يجب أن نكون أنداداً أكفاء لها، العودة إلى الجذور إذاً ليست مجرد رومانسية لجعل الماضي يبدو أجمل وأهم من الحاضر، وهو خطأ يقع فيه الكثيرون من الفنانين والنقاد، فيتنازلون بذلك عن حقهم المطلق في الخلق وإبداع مالم يعرف في الماضي من أساليب في القول والنغم والرؤيا. وفي حالة كهذه تكون العودة إلى الجذور انكفاء، لا أصالة تكون انعزالاً عن المستقبل"(1).
لقد عكست الرواية هذا المفهوم في الرؤية الحضارية والسياسية للواقع الذي جسدته في نصّ، وهذا سيظهر في فصول قادمة من البحث، وظهرت الثقافة التراثية في توصيفات خطابية قام بها النص للوصول إلى دلالة، ففي السفينة مثلاً نجد توظيفاً خاصاً للثقافة التراثية وفق المفهوم الذي يحدده جبرا بدقة وذلك في دراسة علاقة الإنسان بالمكان، لقد درسها علاقة إنسانية معزولة عن إطارها الزمني وهو في هذا العزل يوكد رؤيته الإيجابية للتراث، فالتّجديد الإنساني هو إضافة وتراكم:
"إن شعراء العرب القدامى كانوا يعشقون أسماء الأماكن ويكررونها في شعرهم كأنها أسماء الأحبة؟
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أو في هذه الأبيات لذلك المسكين الذي لا يعرف عنه إلا أن المنذر قتله لأنه التقى به يوم بؤسه عبيد بن الأبرص تذكيره؟
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ ... فالقطّبياتُ فالذُّنوبُ
فَراكِسٌ فثعيلباتٌ ... فَذَاتُ فِرقَينِ فالَقِليبْ
__________
(1) ينابيع الرؤيا، ص 72.(1/52)
وكيف يذكر شاعر هذه الأسماء كلها إذا لم تكن كلها صخورها ورمالها جزءاً من دمه ولحمه ولكنّه يعتمد أيضاً على ما تثيره من عشق ماثل في قلب السامع أيضاً نحن يكفينا أن يقال بغداد، لترقص فينا الأضلع"(1).
إننا نرى هنا أن "الماضي لدى المجددين جذر ومنبت وجذع تستمد منه اللغة طاقتها ويستمد الإبداع عصارة الديمومة فيصبح كلّ جديد فرعاً آخر من دوحة عظيمة، دون أن يعيد الفرع شكل الفرع الآخر، وهنا سرّ حيوية هذا الجديد"(2).
وفي النهاية لابد أن أشير إلى نقطة جوهرية خلفت هذا المفهوم المتزن للتراث عند جبرا وهي قضية وعيه للزمن فهو يرى أن الزمن ليس تسلسلاً أفقياً وإنما هو دائري يقول:
"عندي هذا الشعور القوي الذي يبدو أنّه تبلور عند العرب عبر قرون الحضارة العربية وهو أن الزمن دائري، وهو شعور ضمنّي قوي متغلغل في المخيلة العربية"(3).
إذاً فالنتيجة التي نتوصل إليها أن هناك اتساقاً بين فكر الكاتب ورؤيته للعالم، وهو ينطلق في إدراكه ووعيه العالم من (استراتيجية) نظرية فكرية يتكئ عليها.
2- الحداثية:
إن مفهوم (الحداثة) والموقف من هذا المفهوم مُسْتَغْرَقانِ ومُتَضَّمنان جدلياً في مفهوم (التراث) والموقف منه، بخاصة لدى جبرا إبراهيم جبرا، الذي أوضح لنا جزءاً من مفهومه للحداثة من خلال عرض مفهومه للتراث.
__________
(1) السفينة ، ص 24-25.
(2) الرحلة الثامنة، الغلاف الخلفي.
(3) ينابيع الرؤيا، ص 66.(1/53)
تتقاطع المفاهيم الحداثية لجبرا بطبيعتها ومنشئها مع مفاهيم الثقافة الأوروبية وإذا كان لنا أن ننظر في أسباب هذا التقاطع فلابد من العودة قليلاً إلى بحث تاريخ الحداثة الثقافية والأدبية العربية وإلى عوامل تبلورها وتطورها، لنجد أن الثقافة الأوروبية كانت عاملاً جوهرياً وحاسماً ساعد على ظهور تيار الحداثة وذلك بكونه مصدراً من أهم المصادر التي استمدت الحداثة منه أفكارها، ومفاهيمها الجديدة ودفعت إلى خلق روح الحداثة العربية على المستويات الثقافية و الفكرية والحضارية سواء أكان ذلك إيجابياً أم سلبياً وذلك ما دعا إلى ظهور تيارات كثيرة صنفت بحسب موقفها من الغرب وحضارته.
يشير جبرا إلى أن تيار "التجديد جاءنا من أوروبا"(1) موضحاً هذه الفكرة في إطار ما يسمى بالمثاقفة والحوار بين الحضارات، مؤكداً أن الحداثة الأوروبية نفسها والتجديد الأوروبي "الذي حدث في أساليب الفن في أوروبا في مطلع هذا القرن اكتشف اكتشافاً عن طريق الفن الزنّجي والسّومري أو العربيّ"(2).
__________
(1) نفسه ، ص 128.
(2) نفسه ، ص 128.(1/54)
وانطلاقاً من هذا المفهوم كانت المواقف الحداثية لديه، وكان جبرا من المؤسسين الرواد لمجلة (شعر) المجلة الرائدة في مجال الدفاع عن الحداثة وكان له الفضل في إبداع كثير من صوى الحداثة الأدبية وإليه يعود الفضل في إطلاق (مصطلح)(1) "الشعراء التموزيون" على مجموعة شعراء الحداثة الذين كانت لهم طريقتهم الخاصة في الاستفادة من الإرث الحضاري القديم، هذا إلى جانب مجموعة من القضايا التي(2) أثارها في كتبه النقدية وفي رواياته، جاءت في عمق الإشكاليات العربية سواء أكان ذلك في المستوى الثقافي أم في المستوى الحضاري أو السياسي.
وكان للمناقشات التي أثارها أثر كبير في ترسيخ مفهوم الحداثة في سياق التراث العربي، ولم تكن الحداثة عند جبرا موضوعاً رؤيوياً يحوي الأشكال والمضمونات التي تفرض على الإنسان العربي بكل تصنيفاته تحدياً أمام الواقع فالحداثة ضرورة للشاعر والأديب والمفكر إذا وجد نفسه محاطاً بمجتمع لا يسير بالسرعة نفسها التي يسير هو فيها"(3).
قد أولى جبرا قضية الأشكال الفنية اهتمامه فبحث بدأب وعشق عن أشكال، عن بنى، جديدة متأثراً تارة بالأشكال الأوروبية وتارة باحثاً عن أشكال الهوية المتميزة للإبداع العربي.
وفي سعيه لتطوير الأشكال نجح في خلق شكله المميز في السياق الروائي العربي وإذا أردنا استقصاء المواقف الروائية التي وظفها الكاتب على جميع المستويات فلن نستطيع الوصول إلى ذلك بسهولة ولكن هذه المواقف تتقاطع في البحث مع عناوين متعددة بعضها درسناه، والبعض الآخر في الفصول الأخرى.
__________
(1) "النار والجوهر" ، ص 38، وكذلك ينابيع الرؤيا ص 13.
(2) من هذه القضايا قضية الشعر الحر التي دافع عنها بمنطلق علمي حار ودقيق وبرؤية واضحة تطورية واعية لحركة التاريخ الكلية التي تخضع لحتميات التقدم.
(3) ينابيع الرؤيا، ص 128.(1/55)
إن النقد الأدبي يمكن أن يستوعب الدعوة المباشرة إلى الحداثة الأدبية ولكن عالم جبرا الشمولي لا يكتفي بالتحديث الأدبي في مستوى واحد من مستويات الفعل الحداثي؛ لذلك تنوعت آفاق التعبير للدعوة إلى جميع المستويات، وكانت الرواية في المستويين الاجتماعي والسياسي المساحة الإبداعية الأكثر نجاحاً في نقل هذه الوظيفة (الخطابيّة).
البحث عن عالم جديد:
قام الخطاب الروائي بتصوير البنى الاجتماعية والسياسية العربية المتخلفة وأظهر نتائجها التي تراكم التخلف وصور المدى المأساوي الذي يمتد إليه هذا التراجع والتخلف وصور أيضاً المحاولات التحديثية على اختلاف أنواعها ففي الروايات جميعها ابتداء من (صراخ) ومروراً بـ (صيادون) و(السفينة) وانتهاءً (بالبحث عن وليد مسعود) نجد تصويراً للصّراع الحضاري الحادّ بين المفاهيم الموروثة والمفاهيم الجديدة، ويتراوح ذلك بين (تصوير التمرّد العارم الذي يريد إسقاط كلّ البنى الاجتماعية السّائدة وتدميرها والسّير إما إلى الأمام وإما إلى الوراء) وبين الحلم الاجتماعي والسياسي الواعي لنقض قيمٍ سائدةٍ وبائدةٍ ومحاولة بلورة مجتمع عربي جديد، لذلك نستطيع أن نقول: إن جبرا كان يعقد في رواياته مؤتمرات تحديثية هي صدى مؤتمرات الواقع، فتقوم المحاورات وتستمر الندوات في هذا المؤتمر الذي غالباً ما يعقد خارج المجتمع، بعيداً عن الحقيقة يبتغون الحقيقة فالسفينة والصالونات والحدائق الفارهة والعالم السحري والسري معاً هي مواطن هذه المؤتمرات.
فرضيّة التحوّل الأيديولوجيّ:(1/56)
شهدت العصور العربية تحولات أيديولوجية هائلة، فإذا عدنا إلى الجزء الذي يمكن أن نطمئن إليه من التاريخ العربي نجد مجموعة من التحولات الفكرية والدينية كان منها التحول الكبير (ظهور الإسلام)، ثم ما كادت الدولة العربية تتخذ هيكليتها التي تعطيها شكل دولة حتى بدأت مظاهر التحول النسبي عن الإسلام واتخذت هذه التحولات أشكالاً متعددة (مذاهب، وفرقاً ومدارس فلسفية) واستمر الوضع على هذه الحالة إلى العصر الحديث عصر الانقلابات الأيديولوجية على المستويين العربي والعالمي، هذه الانقلابات هزت كيان المجتمع العربي وخلقت في بنيته (الطبقية) وبنيته الثقافية والحضارية إشكالات ومآزق وأزمات لم يكن لأكثرها حلول.
? الإشكالية الأكثر تعقيداً هي دراسة حالة فردية ضمن فرضية تحولها الأيديولوجية لذلك لابد من الاعتراف بالمزالق والفجوات التي ستعاني منها الدراسة وتترك خللاً ما في التحليل.
? إن الفرضية التي سنناقشها الآن هي أن جبر إبراهيم جبرا تحول إيديولوجياً أولاً عن انتمائه التاريخي (المسيحية) إجرائياً إلى الإسلام وثانياً تحوله الأيديولوجي العام.
? الواقع الإجرائي يشير إلى أنّ جبرا قام بتحويل انتمائه الديني من المسيحية إلى الإسلام، لكن: هل كان هذا التحول تحولاً حراً اعتمد الحركة الآلية المتوالدة لحركة الفكر عنده، أم أنه طفرة وظيفية قام بها لملاءمة وضع مافي محيطه الخارجي؟
قد تكون الإجابة عن هذا السؤال صعبة ومركبة ولكننا سنعتمد على تمظهرات الحالة (المسيحية) عند جبرا في مستوياته الإبداعية، ما يعبر منها عن فكرة مباشرة كالنقد، أو ما يختفي وراء المؤلف ويتراءى من خلاله، وقد درسنا المصدر المسيحي وتجلياته الواضحة في مستويي إبداعه.(1/57)
إذا كان هناك تحول ما في أيديولوجية جبرا الدينية فهو ليس إلغاء لموروث ديني سابق، وإنما هو إزاحة وظيفية تتعلق بالظرف الاجتماعي والتاريخي والبيئة المسيطرة، وإضفاء دلالات ومحمولات إضافية بفعل الزمن والتراكم الحضاري إن الانتقال إلى الإسلام عند جبرا لم يقم إلا بفعل إضافي بل بإدغام الفعل الحضاري والديني الإسلامي بالفعل الإنساني الحضاري الذي ورثه، أي أنه قام بجمع المكملات فيما بينها وهذا الجمع لم يتوقف عند حدي الإسلام والمسيحية وإنما كانت هناك تحولات أخرى قد لا تتلاءم مع الحدين السابقين.
يرجع علي الفزّاع تحول جبرا الافتراضي إلى التفارق القيمي بين مسيحية أوروبة ومسيحية الشرق فيقول:
"لعل السبب الحقيقي لتحول جبرا عن مسيحيته يعود إلى تخلي أوروبة المسيحية عن نصرة القدس حين داهمها الصهاينة الغزاة ولشعوره بأن المسيحيين الأوربيين ينظرون إلى مسيحي آسيا نظرة احتقار وازدراء، وبالتالي فهو يرى أن اعتناقه للمسيحية وسط عالم إسلامي أمر لا طائل تحته"(1).
يستنتج الفزاع هذه النتيجة من كلام في (صيادون) لجميل الفرّان يقول فيه: "منذ ألف وخمسمائة سنة والمسيحية دين للأوروبيين دون غيرهم. فما علاقتنا نحن العرب والآسيويين وسكان البحر الأبيض المتوسط بها. لقد بدأت عندنا ولكن اليونان والرومان أخذوها منا وكل ما بقي منها مجموعة بالية من الطقوس لم نضف إليها شيئاً طوال ألف سنة وماهو الدور الحضاري الخلاق الذي لعبته مسيحيتنا وسط عالم إسلامي؟ كان يجب علينا بعد القرن الثامن أن نسلم أنفسنا لقوى الإسلام الجديدة تسليماً تاماً لا جزئياً، كما فعلنا وعلى هذا فإننا لم نتمتع بالفائدة الكاملة لانتمائنا إلى أرض أجدادنا"(2).
__________
(1) جبرا إبراهيم جبرا، دراسة في فنه القصصي، علي الفزاع، ص 14.
(2) صيادون، ص 26 و27.(1/58)
إذا سلمنا بفرضية التحول الأيديولوجي التي يطرحها جميل فران وأسقطناها على جبرا وجزمنا كلياً بحدوث التحول فهل نتوقف عند (صيادون) في طرح هذا الموضوع والمعروف أن (صيادون) هي الرواية الأولى التي طرحت القضية. إذا كان لابد من توخي الحقيقة والدقة؛ فلابد لنا من أن ننظر إلى اللواحق الروائية الأخرى التي أظهرت بقوة الحسّ المسيحي لأبطال جبرا خاصة الفلسطينيّ منهم وإذا كان جميل فران يمثل جبرا في (صيادون) فإن (وديع عساف في السفينة) و(وليد مسعود في البحث عن وليد مسعود)، لا يقلان دلالة على نيابتهما الواقعية عن جبرا.
علينا أيضاً أن ننتبه إلى الهدف من تأليف (صيادون) والهدف من كتابتها بالإنكليزية، وهذا الانتباه يوحي إلينا بأن انفتاح النص على الغرب ووظيفته هذا الانفتاح التي حدّدها جبرا سابقاً يقللان من إمكانية الاطمئنان إلى الكلام الذي يقوله جميل والاطمئنان إلى أن جبرا يتبنى هذا الكلام. إن الوظيفة المحددة بالتوجه نحو الغرب ومحاورته وشرح الذات أمامه قد تكون عاملاً مساعداً على طرح هذه الأفكار ، مع اختلاف في السفينة التي تتوجه إلى الذات لتوضح التوجه الأيديولوجي الحقيقي وكذلك في (البحث عن وليد مسعود).
إن (علي الفزاع) يجتزئ من حركة التاريخ أجزاءً ويحكم بوساطتها ويخرج الأمور من سياقاتها ويلغي جميع الظروف الاجتماعية والفكرية والصراعات السياسية والأيديولوجية ويحول التاريخ من الفعل إلى التاريخ المعزول، ويجتزئ كذلك من السياق الروائي جزءاً ويبني عليه.
يخضع التحول الأيديولوجي العربي عامة، وعند جبرا خاصة لأزمات عدة، أولها الأزمة الكونية التي تعد مأزق كل مبدع ثم الأزمة الحضارية العربية التي هي في أساسها أزمة طبقية ثم الأزمة السياسية العربية بكل أبعادها وأزمة الصراع الحضاري بين الذات والآخر.(1/59)
لذلك لا يمكن أن نقبل أو نطمئن إلى رأي (الفزاع) الذي جعل من مجرد حضور جبرا بعض "دروس القرآن والتربية الإسلامية حين كان طالباً في القدس، مقدمة جيدة لمعرفته بالإسلام ونشوء شيء من الألفة والتواصل بينه وبين هذه العقيدة"(1).
إن التواصل بين جبرا والمسيحية ضارب في الأعماق إذ لا يمكن بشكل من الأشكال أن يرقى إليه تواصل بعض الدروس مهما كثرت وعظم أمرها.
ويتوصل الفزاع إلى حكم شائن يوجهه إلى جبرا يتهمه فيه بالحياد وبأنه "لم يلتزم في يوم من الأيام بفكر معين أو بنظرية محددة، وإنما وقف موقف المحايد من كل التيارات الفكرية والسياسية التي عرفتها البلاد العربية في هذا القرن سواء منهاما كان وافد على هذه البلاد أو ماكان منها منبثقاً من طبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها الأمة"(2).
إن الإبداع الحقيقي كل الإبداع لا يمكن أن يكون نتاج الحياد، إنه إنتاج الموقف والرؤية والرؤيا.
والفزاع يعترف بإصرار بأن جبرا تحول من المسيحية إلى الإسلام ومجرد التحول يعدخرقاً واضحاً لمقولة الحياد لأنه ليس فاعلاً ولا منفعلاً والتحول الأيديولوجي هو موقف صارم من العالم ومن الأفكار. يضاف إلى ذلك إلى أن اتهام الفزاع لجبرا غير المبني على أساس علمي من أن جبرا لا علاقة له بالأفكار الوافدة، وَهْمٌ و(تلفيق) لأنّ الدارس (الفزاع) يظهر وكأنّه يجهل (جبرا) وحياته بكليتها وتفصيلاتها ويرجم بالغيب لأنه أغفل الأمور التالية:
1 - يعد جبرا من أشد مبدعي العصر العربي الحالي تأثراً بالثقافة والفكر الأوروبيين الوافدين، وهذا ما رأيناه في دراستنا لأثر الثقافة الأوروبية في الكاتب.
__________
(1) جبرا إبراهيم جبرا، دراسة في فنه القصصي، علي الفزاع، ص 15.
(2) جبرا إبراهيم جبرا، دراسة في فنه القصصي، علي الفزاع، ص 15.(1/60)
2 - ويعدّ أيضاً من أكثر كتاب العصر الحالي (تبشيراً) بالرؤية الأوروبية في الفكر والثقافة والتكنولوجيا والرؤية الاجتماعية إلى درجة جعلت أحد الدارسين يصنف جبرا مع الليبراليين المتغربين. والاتهام الآخر الذي يرى فيه الفزاع أنّ جبرا وقف موقف الحياد من التيارات الفكرية والسياسية التي كانت منبثقة من طبيعة المرحلة- يدحض بالأفكار التالية:
آ - كان جبرا على المستوى الثقافي والأدبي من الأنصار الأقوياء والمدافعين المتحصنين بأصالة علمية وفهم موضوعي دقيق للعالم والتاريخ، عن الحداثة عقيدةً، ويكفي أن نشير إلى أنه كان من المؤسسين الأوائل(1) (لمجلة شعر) التي كانت (رائدة الدفاع عن الحداثة) رؤية وعقيدة، في الصراع الحاد بل المصيري الذي دار على مدى عقود بين أنصار (الحداثة) وأنصار (التراث).
ب - الإصرار القومي عند جبرا على تحقيق ثلاثيته التي أشرنا إليها
(الحلم والفن والفعل) يشكل موقفاً كونياً هو صلب الدعوة إلى التغيير التي كانت منبثقة من طبيعة المرحلة التاريخية العربية وهي الأساس الحضاري الذي يتكئ عليه جميع مفكري الأمة ومبدعيها من أجل التخلص من الرَّيث الحضاري العربي.
ولنشر إلى استنتاجات الفزاع التي تناقض جميع طروحاته السابقة فعندما قرأ نقد جبرا استنتج أن:
"أولى القضايا ولعلها أهمها وأكثرها شيوعاً عنده هي قضية الحرية.. وللحرية في مفهوم جبرا ثلاثة أبعاد رئيسية: البعد السياسي، والبعد الاجتماعي، والبعد الفني"(2).
"والالتزام هو ثانية القضايا النقدية"(3)و"إنسانية الأديب ثالثة القضايا النقدية عند جبرا"(4) و"رابعة هذه القضايا قضية المعاصرة...."(5).
__________
(1) أصوات وخطوات عبد الرحمن مجيد الربيعي.
(2) جبرا إبراهيم جبرا، دراسة في فنه القصصي، علي الفزاع ص 33.
(3) نفسه ، علي الفزاع ص 33.
(4) نفسه، علي الفزاع ص 34.
(5) نفسه، علي الفزاع ص 35.(1/61)
إن البحث عن الحرية في بعدها السياسي هو أهم قضية طرحت في هذا القرن وقد التزمها جبرا باعتراف (الفزاع) وكذلك هي في بعديها الاجتماعي والفني ويعود بشكل سافر ليثبت قضية نفاها في البداية وهي قضية الالتزام وكذلك المعاصرة.
النتيجة التي نتوصل إليها أن الفزاع تناقض بين مقولته الرئيسية (الحياد) وبين استنتاجاته من نقد جبرا (الذي يشكل أكثر مواقفه ورؤاه المباشرة) تناقضاً يشير إلى ذاته.
خلط الفزاع بين مفهوم (التحزب) الانتماء إلى الحزبية التنظيمية أو الالتزام الحر بالأفكار والنظريات والعقائد والدفاع عنها. إنّ جبرا لم يكن حيادياً وليس الكاتب على درجة من السطحية تجعله يقوم بردّات فعل طفلية فيتخذ موقف الحياد لمجرد إحساسه بأنه ضيف في بلد غير بلده وليضمن لنفسه السلامة (ومتى كانت رسالة الأديب أن يحس الأديب " بالتأدب" أمام الواقع الاجتماعي أو السياسي لأنه ضيف؟)
متى كان الأديب يبحث عن سلامته واستمراره في البقاء إن هذا شأن كائنات الطبيعة يقول الفزاع:
"فشعوره بأنه مجرد ضيف سواء في لندن أو في بغداد هو الذي جعله يحجم عن الانتماء لهذه الجهة أو تلك ولهذا الفكر أو ذاك، وذلك لكي يضمن لنفسه السلامة واستمرارية البقاء في البلاد التي كانت تستضيفه"(1).
"كما أن مثل ذلك الحياد يضمن لجبرا أن يكون مقبولاً مفكراً وكاتباً لدى كافة الأوساط الثقافية والمهتمين بشؤون الأدب"(2). "وعلى العكس من ذلك كان سيجد نفسه مرفوضاً كاتباً ومفكراً فيما لو انحاز إلى فكر معين أو مذهب بعينه"(3).
لقد جعل الفزاع من جبرا رجلاً انتهازياً يسعى وراء السلامة والبقاء ومتسلقاً بين الأوساط الثقافية.
__________
(1) جبرا إبراهيم جبرا، دراسة في فنه القصصي، علي الفزاع ص 17 و18.
(2) نفسه ، علي الفزاع ص 17 و18.
(3) نفسه ، علي الفزاع ص 17 و18.(1/62)
وجد الكاتب المبدع ليكون (رافضاً) وإذا كان رافضاً فلابد من أن يكون مرفوضاً إن السؤال المهم الذي نطرحه على الفزاع هو: هل كان جبرا مقبولاً في جميع الأوساط؟ على الأقل في وسط التيار الفكري الجارف الذي عاصره (التيار الرّجعيّ) النقيض لانتمائه الفكري والأيديولوجي والفني، وهل كانت الفئات التي كان ينتمي الى عقيدتها راضية عنه بعد تحوله المعلن من المسيحية إلى الإسلام.
في النهاية يمكن أن أقول: إن هناك تحولات أيديولوجية، بعضها شكل عنوانات كبرى في مسيرة جبرا وبعضها كان تنويعاً على هذه العنوانات وتفصيلاً لها.
التحوّلات الأيديولوجيّة في الخطاب:
في هذه الصفحات تحاول الدراسة البحث في الطرف الخطابي فقط على الرغم من أن الضرورة الدراسية تقتضي الانتباه إلى الطرف الثاني (التحول الأيديولوجي للكاتب نفسه)، الذي يحدد صوى في البحث عن معطيات الخطاب- لكن طبيعة البحث لا تسمح بذلك.
آثرت دراسة التحولات الأيديولوجية دراسة "فردية" أولاً لكل رواية مستقبلة عن الأخرى لأنها تمثل تاريخاً فنياً اجتماعياً منجزاً مستقلاً، ولكن هذا الاستقلال ليس استقلالاً كلياً، فكل رواية مرتبطة بما قبلها وبما بعدها، لتشكل كلاً متطوراً وثانياً لكل شخصية متحولة، منفردة عن الشخصيات الأخرى لأن الكاتب يعرضها -أكثر الأحيان- نموذجاً فردياً في تحوله، وليس هناك تحولات جماعية أو طبقية كاملة ضمن الطبقة الواحدة لأن الطبقة الاجتماعية المؤرخ لها في الخطاب طبقة واحدة وأي تحول فيها لابد من أن يكون تحولاً عنها وعن مفاهيمها وعوالمها إلى طبقات أخرى، كما أن العالم الاجتماعي بمفهومه الأرحب مصور معزولاً عن آفاقه الاجتماعية الأخرى، مجتزأ من مكملاته الطبقية، فنحن نتلقى العوالم والطبقة والأشخاص أكثر الأحيان مصنوعين أيديولوجياً في بوتقة الكاتب، ليلقوا عنوة على مسيرة التاريخ الروائي.
التحوّل العام:(1/63)
مايقصد بالتحول العام التغيرات الأيديولوجية التي طرأت على الخطاب وتكوينه بنسبته إلى سياقه العام الذي ينتمي إليه.
إن حديثاً عن خطاب روائي وخطاب أيديولوجي يدخلنا في عالم التحولات فالمعروف أن الخطاب الروائي في الخطاب الأدبي العربي يعد تحولاً أدبياً وتحولاً في بنية الأيديولوجية العربية كما كان الخطاب الروائي تحولاً أيديولوجياً في بنية الأيديولوجية الغربية من الإقطاع إلى البرجوازية، بل تحولاً في نمط التعبير وإن كان هذا التحول تحولاً نحو الإضافة أو الزيادة.
لقد ظهرت في المجتمع العربي قوى جديدة تؤثر فيه من الداخل والخارج إضافة إلى القوى الفاعلة التي كان خاضعاً لها سابقاً فحدثت مجموعة من التفاعلات بين هاتين المجموعتين، ونشبت مجموعة من الصراعات أنتجت خطابات أيديولوجية جديدة انعكست في مضامين أدبية روائية؛ لأن الرواية النوع الملائم لمثل هذه الخطابات بل يمكن أن نقول إن هذه الخطابات ربما كانت عنصراً مساعداً على نشوء فن الرواية في الأدب العربي.
1 - في "صراخ": تظهر التحولات العامة بشكل اجتماعي بسيط وبمثال جمالي جزئي على حالات التحول، تطرح مجموعة من القيم والمفاهيم المباشرة الخارجه عن الترميز العام لتحول بعض الشخصيات مثل بطل الرواية "أمين سماع"، و"ركزان" التي تدعي رفض الماضي في سبيل الحاضر.
ولكن هذه التمفصلات الترميزية تبقى خاضعة لاحترازات فوق أدبية تتمثل في مفهوم القارئ، وهذا ما سنناقشه على مستوى فردي، لذلك سنتوجه في الدراسة إلى أمثلة مباشرة تطرح تحولاً ما، في بعض القيم الاجتماعية والمفاهيم الجمالية وتطرح بعض التساؤلات على مسيرة المجتمع والتاريخ.
تقدم (صراخ) فرضية مهمة فحواها "إنّنا في عصر انتقال حتى في مسائل الذوق" ص34.(1/64)
ولكنها لا تناقش من وجهة النظر العميقة التي توصف هذا التحول وإنما تبقيه في راقاته السَّطحية وتتمثل بتحول النظرة إلى جسد المرأة فالذوق القديم كان يتلذذ بالجسد المملوء المكتنز، أما ابن العصر الحديث فيرى الأمر على عكس ذلك.
وتثير الرواية ثنائية الروح والجسد وتتوصل إلى محاولة نصرة الجسد على الروح أي قلب المعادلة القديمة التي تميت كل مقومات الجسد لترفع على أنقاضه شموخ الروح:
" لقد اكتفينا من القرون المظلمة التي كان يُعَدّ الجسد(1) فيها عدواً للإنسان لقد حان لنا أن نجعل الروح عدونا"ص37.
وتُرجع الرواية ذلك الاهتمام المفرط بالجسد، وبجسد المرأة ذاته إلى التحول التقني (التكنولوجيا) الذي أثر على مجموعة القيم السائدة في المجتمع:
"من الواضح أن التأكيد على الجسد هو نتيجة من نتائج التقدم الآلي
"ص 36 و37.
وربطت الرواية بين الجسد والتقدم معاً والروح والتخلف معاً:
"وإن كان التقدم الآلي هو الذي يؤكد على الجسد فأنا من دعاة التقدم الآلي، إني أضيق ذراعاً بكل ماهو متأخر"،ص37.
والنظرة القاصرة إلى مسألة الروح واضحة في المناقشة الساذجة التي يعرضها (عمر) إحدى شخصيات الرواية لمحاولة تأكيد نظريته وإثباتها، إنها محاولة لسفسطة القضية، وإغفال النصف البشري (روحانية الكفاح) إنها إسقاط عبثي للجزء الأهم الذي يمنح الإنسان إنسانيته وجدواه في العالم.
"حيثما يفقد المرء التقدم الآلي يجد الفقر والقذارة، ومكافحة المرء لفقره تشغله عن جسده، إلا ماكان غريزياً حيوانياً فيه فيكسو كفاحه بثوب من الروحانية ويعظم فقره بعبارات دينية ويموت أخيراً ميتة الحيوان من الجهد والإرهاق. دون أن يعرف دقائق الحس واللذة"،ص37و38.
__________
(1) الأصوب أن يجعل (الجسد) اسماً لكان.(1/65)
إنه هنا يولي التكنولوجيا أهمية كبيرة ويؤمن بأنها مخلِّص العالم ولا ينتبه باستخفاف متعمد، إلى التفسير الاجتماعي الطبقي لهذه الظاهرة ويخرج ظاهرة الفقر التي ربطها بالخديعة والروحية خارج سياقها الاجتماعي الحقيقي، ويربطها بالتقدم الآلي ولا ينتبه إلى أن التقدم الآلي نفسه هو ظاهرة اجتماعية خاضعة للمفهوم الطبقي في المجتمع وعزله أيضاً فكرة مجردة.
إن الدعوة الصارخة التي أطلقها عمر للعداء مع الروح لا تخرج خارج صفحات (صراخ) وتتلاشى بلا أصداء فيما يلي من روايات جبرا؛ (فالسفينة) تحاول جاهدة من أجل الوصول إلى شاطئ يجمع بين الروح والجسد على أن الجسد هو المسيطر، فبعد أن خاضت (العملية الروائية) تجربة الروح ورفضتها في صراخ لصالح الجسد عادت لتخوض تجربة الجسد في السفينة وترفضه بحثاً عن مصالحة حقيقية بينهما في (البحث عن وليد مسعود) وتمثل ذلك في محاولة (وليد مسعود) المصالحة بين الروح والجسد من خلال الربط بين الجنس والألوهة، ومن خلال بحث (مريم الصفار) بجسدها عن استقرارها الروحي.
المتحولون أيديولوجياً في الخطاب.
آ - المتحولون في (صراخ في ليل طويل):
1 - (ركزان) الصراخ آخر الليل "التحول، الانتحار".
ركزان هانم شخصية من شخصيات (صراخ) سليلة أسرة إقطاعية تقوم أختها (ع__-(1/66)
______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ______- ____تمراراً له؛ لأنها قامت بفعل تدميري اكتفت به، ولم تقم بمحاولة بناء جديد سوى محاولة الزواج من أمين، وهذا يتنافى مع ما طرحناه من مفهوم التحول البناء (التحول الثوري) لذلك تقول:
هذا القصر المتباعد الأطراف كلّه لي ولست أريده، لي عدة من الفدادين في القرى المجاورة ولست أريدها، ليست هذه كلها إلا ملحقات الماضي وأدوات زينته... إنها سرابيل الموت التي ضحت عنايت بحياتها من أجلها... أما ما أريده فهو الحاضر، أريد حاضراً حرّاً طليقاً" ص 80 و81.
هذا النفس التدميري لا يمكن أن نعدّه نوعاً من التثوير والرّفض الإيجابي، فهو لا يخرج عن كونه حالة تمرد فردية، تخضع للطبع الخاصّ بالشخصيّة؛ والرّفض (رفض القصر والأراضي) مع الاعتراف بملكيتها لايعني إلا التمرد الشخصي والفرضية التي تحول هذا الرفض التدميري التمردي إلى رفض بناء هي استثمار هذه الرموز (التي اعتبرتها من الماضي) لصالح الحاضر وليس تدميرها.
نشير بحذر إلى التفسيرات التي تعيد الرفض إلى مرجعية تاريخية في بعده الحضاري التغييري فقد "كانت العلاقة بالماضي وموروثه إحدى المشكلات الأساسية التي واجهت المثقفين العرب" وهذه "هي قضية جبرا إبراهيم جبرا في صراخ"(1).
__________
(1) الرواية والواقع، محمد كامل الخطيب، ص 21.(1/67)
إذا كان الأمر كذلك فإن جبرا أخفق في معالجة مفهوم التخلص من الماضي والانصراف إلى الحاضر تلك الإشكالية المهمّة في تاريخ الثقافة والحضارة العربيتين؛ لأن (صراخ) ربطت بين الفائت زمنياً والفائت حضارياً وفكرياً ودغمتهما وأعطتهما رموزاً ساذجة وكلّفت نموذجاً بشرياً قاصراً بأداء هذه المهمة هو (العانس) ذات الطبيعة الخاصّة، وذات الانتماء الخاصّ.
إذاً نستطيع أن نقول إن (صراخ) لم تفلح في نقل رؤى الكاتب في هذه القضية، وجبرا من المثقفين القليلين الذين استوعبوا مسألة الماضي والحاضر، (الحداثة والتراث) بطريقة عملية غير متطرّفة ولكنه لم ينجح في تجسيد فهمه المتزن المتوازن في قصته (صراخ في ليل طويل)(1).
أمين سماع: بطل" القصة" كاتب وصحفي تكلّفه عنايت بكتابة تاريخ أسرتها الاقطاعية يقوم بذلك على مضض وتأفف فيه شيء من الاصطناع، لأن الرضى يبدو واضحاً من خلال سياق القصّ، يتزوج ابنة تاجر غني لينتقل من أصوله الريفية القروية الفقيرة إلى وضع طبقي جديد. لكن هذا الوضع لا يستمر لأن زوجته تهجره لسنتين، وتعود إليه ليكتشفها في فراشه، ولكنه يرفضها ويطردها.
__________
(1) . نشرت صراخ لأول مرة في بغداد عام 1955 (حسب كتاب أعلام الفكر والأدب في فلسطين ليعقوب العودات (البدوي الملثم) 1979 ص 88-89) ويرى البعض أنها نشرت في فلسطين في القدس في صيف 1946 (شؤون فلسطينية العدد 43 آذار 1975 ص 71)، ونحن نرى أن القصة نشرت في بغداد عام 1955 لأن الظروف في فلسطين قبل النكبة لم تكن مواتية للتأليف والنشر بسبب المعارك الدموية التي قامت بين العرب واليهود ولأننا بحثنا في عدة مراجع، ولم نجد أي إشارة إلى نشرها قبل نكبة 1948 وخاصة فهرس د.محمد يوسف نجم (صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية المعاصرة، واصف أبو الشباب).(1/68)
يرى (محمد كامل الخطيب) في ذلك رفضاً (للنظرة إلى الوراء) في مثل هذا القول نرى نسبية واضحة، فالوراء ليس واحداً بالنسبة لأمين إن هناك ماضيين رئيسيين الماضي الأول تاريخ آل ياسر والثاني زواجه وحبه لسمية لقد رفض سمية، لأنه مقترن بلواحق اجتماعية خاصة، لم يرفضها لأنها تنتمي إلى طبقة غير طبقته، وإنما رفضها لأسباب إجرائية، لأنها هجرته ثم عادت إليه.
والماضي الأجدر بالرفض هو كتابة تاريخ آل ياسر، لكنه لم يقم بذلك بل حاول إقناع ركزان بالاستمرار بالكتابة ليحصل على مكافأته المادية واتهمها بالجنون عندما حرقت الوثائق؛ إذاً فالماضي مجزّأ عند أمين ومرفوض في جزء منه ولاعتبارات غير تطورية أو تثويرية:
"إن أمين بذلك إنما ينمذج (المثقف) البرجوازي الصغير ذا الأصول الريفية الفقيرة الذي ظهر على مسرح المجتمع في الخمسينات ثم سيطر في الستينات والسعبينات"(1).
وليد مسعود: التحوّل المتعدد:
1- التحول الديني: يُعَدّ وليد مسعود نموذجاً للمثقف العربي الإشكالي في رؤيته للعالم، وفي تفسيره إياه؛ فقد جاء العالمَ ووعاه في بداية حياته بطريقة خاصة كان جزءٌ منه بالتلقين الديني الذي يخلق داخل الإنسان تصورات تطرح على العالم نظاماً (وهمياً) وقابلية للتشكل والتغير.
كانت إرادته تسعى إلى "الانطلاق في عوالم رائعة لا يعرف أحد عنها شيئاً (ومعه) صبية البلدة كلهم... يشهرون السيوف في وجه الدنيا" ص184.
وعندما يُرسَل إلى الدير "ليترهّب" ص 111، ويتعلم أسس الدين، يهرب إلى كهف بعيد مع مجموعة من أصدقائه ليتنسكوا فيه ولكنهم يعودون بالإكراه إلى الدير.
__________
(1) الرواية والواقع، محمد كامل الخطيب، ص21.(1/69)
إن الحلم الذي يسعى إليه وليد مسعود في امتشاق سيفه في وجه الدنيا ماهو إلا حلم تغييري؛ بذرة يحاول العالم كله إيقاف انتعاشها، القيد الاجتماعي -والقيد الديني الذي هو أصله ذو منشأ اجتماعي، فمحاولة الهروب من الدير والتنسّك محاولة تمردية فطريّة لخلق البديل المتصوَّر للحالة الدينية الواقعية وخلق مصالحة بين الطموح المتصوّر في الحالة الدينية في طرف بين الواقع الديني الذي يصنعه المجتمع في طرف آخر، كل ذلك يمكن أن يُعدّ تمهيداً كبيراً من أجل التحوّل فعندما تخفق جميع المحاولات للمصالحة وتخفق جميع الوعود الدينية أمام طغيان الشر والفقر في العالم وعندما تنكشف خديعة هذه الوعود، فلابد من التحوّل الذي قد يكون جذرياً.
إن التحول (الديني) الذي يسعى إليه وليد مسعود بل الذي أُكره عليه لا يريده أن يكون تحوّلاً فردياً ففي محاولته الهرب تصور آخر:
"مازلت مأخوذاً بكلمات المسيح: إن المساكين الفقراء سوف يرثون الأرض، ولذا فإن ثوار القرى الفلسطينية هم الذين في النهاية سيغيرون كل شيء، فلما أرسلت إلى إيطاليا لأدرس اللاهوت... حسبتُ أنني سأجد هناك المنطق الذي سيبرر حلمي الذي لم يتح لي فهمه في الكهف بوادي الجمل. وإذا بي أكتشف أن ما أرسلوني لدراسته قد جعلوه وسيلة لتثبيت العالم لا لتغييره، أردت تغيير الأعماق تلك الأعماق التي بها سوف يخلق الإنسان بشراً جديداً. وإذا كل ما أراه هو العمل بجنون على مسخ السطح وردم الأعماق"ص186و187.
وبعد أن ينكسر الحلم، حلم التغيير، ويحدث اغتراب قسري عن العالم، إذ يصبح العالم منفياً عن الذات، لابد من البحث عن بدائل روحية وفكرية وحضارية تقنع الطموح المتأصل في الذات:(1/70)
"قررت هجر الدير نهائياً.. قررت الهرب إلى الدنيا، ولم يكن قراري نتيجة خيبة أمل فيما كنتُ أدرس وحسب لقد بات بعد أشهر من الحيرة والقلق أمراً لابد منه، إن أنا أردت الإخلاص لنفسي لوطني للعالم، إن أردت الإخلاص لحريتي وحرية الآخرين"،ص188.
2 - من الروح إلى الجسد:
مرة أخرى تعود ظاهرة (صراخ) "إشكالية ثنائية الروح والجسد إلى الظهور لكن الظاهرة التي كانت في (صراخ) محاولة إلغاء الروح ومعاداة قراراتها لصالح انتصار الجسد لم تعد هنا بهذه الحدّة وإنما ظهرت بأسلوب يطمح إلى المواءمة بين طرفي الثنائية، فوليد مسعود الذي حمل روحانيته الشرقية وسافر إلى إيطاليا ليؤكد هذه الروحانية ويتم فهم الأسرار التي لم يفك ختمها في بلده، وجد أنه غير قادر على الاستمرار واكتشف أنه لم يخلق ليكون راهباً:
"أنا لم أصنع للرهبنة"ص 189.
ولم يفلح وليد في محاولة نكران الجسد لصالح الروح (بفرضية الفصل بينهما) تلك الفرضية التي يلح التناول الديني لها على رفعها إلى مرتبة المقدس الذي لا يخرق ولكن ذلك الشاب (وليد مسعود) الطافح برؤاه وبعالمه الداخلي وبقدراته يخرق هذا المقدس ويتحول عنه، إن التحول عن الرؤية الدينية يعني تحولاً عن مقولاتها وفرضياتها؛ لذلك يمكن أن نقلب المعادلة ونحكم بالتحول عن مقولات الدين ورؤاه وفرضياته لدى (وليد مسعود):
"وجدتني عاجزاً عن نكران جسدي كلياً وعيني تلتهم وجوه الفتيات في الكنيسة بنهم شديد كأنها تريد أن تحتوي في داخلها جمالاً يكون زاداً لمتعتي الحبيسة في الأيام والليالي الكثيرة التي لن أرى فيها، في أروقة الدير وجهاً لامرأة...
وهربت هذه المرة إلى الأبد"ص189.
لقد غادر وليد مسعود الدير ليغادر بذلك (ضمن تصورنا لحالة التحول الاغترابي) الفكر الديني ومفهوماته حول الحياة والعالم والإنسان.(1/71)
واستدراكاً على ماورد سابقاً أقول: إن الجسد الذي انتصر ليس الجسد بمطلقه بل على الجسد أن يحقق شرطاً لازماً هو ارتباطه بالروح؛ فعندما يدخل وليد مع (كارلو) الرجل الأعرج، الذي يعمل معه في المصرف، إلى دار للبغاء يأبى التفاعل مع أي من النساء الخمس الموجودات، وكذلك يرفض التعامل مع السادسة التي كان يتوقع في البداية أن تكون مناسبة له. فلكي يحقق الجسد سلطته عليه أن يفسح المجال أمام مكملته الجدلية الروح التي تعني شرط التحقق الجسدي.
ولا تغيب سلطة الروح عن عالم (وليد) فهي (ضمنياً) تظهر بالمعنى السامي والنقي وذلك استنتاج من طروحاته حول النقيض المفترض (الجسد).
"بابتعادي عن حياة التأمل التي علموني أن أعتبرها وحدها حياة الروح أدركت أنني قد سقطت أخيراً في عالم الجسد، عالم الحس، وعالم الزمن"، ص192.
إن الإشكالية التي نشأت في العالم الداخلي لوليد هي محاولة المصالحة بين الروح والجسد المصالحة التي تشكل المرحلة الثالثة (في المنحني التطوري لقضية الروح والجسد في خطاب جبرا)، من اختبار هذه القضية التي بدأت في (صراخ) وكانت مرحلتها الثانية في (صيادون والسفينة).
ومحاولة المصالحة مرتبطة بهدف هو (الوطن)، لأن المصالحة تعني الفعل الذي يحتاجه الوطن.
ومحاولة إيجاد وشائج بين التأمل والحس (السقوط في عالم الجسد عالم الحس عالم الزمن)، هي دخول إلى الفعل، إلى مطمح التغيير، إلى العملية التطويرية في الوطن.
(((
الفصلُ الثاني
الاجْتِمَاعيُّ والسياسيُّ
الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية في فلسطين والعراق في مرحلة إنجاز الخطاب(1/72)
لم يخل تاريخ العراق على امتداد مراحله (منذ العصر الإسلامي مروراً بالعصرين الأموي والعباسي وكذلك العثماني وانتهاء بالتاريخ الحديث والمعاصر من التناقضات السياسية والاجتماعية والحضارية الحادة إلى درجة كانت فيها هذه التناقضات إشكالية أعيت منطق الجدل التاريخي بقطبيه (المادي والمثالي) وأدهشته، شأن العراق في ذلك شأن الأقطار العربية الأخرى التي عانت مثل هذه التناقضات، بيد أن الظروف التاريخية في العراق حملت خصوصية ذات أبعاد حضارية مختلفة؛ ذلك بسببٍ من اختلاف العمق الحضاري للدولة العباسية التي كان العراق محرقها الحضاري؛ والتي شكلت ذروة التطور العربي حضارياً، لتكون بعد ذلك مهبط الانزلاق للحضارة العربية الإسلامية.
إن هذا البحث عن سياقية المسألة لن يضطرنا إلى الرجوع إلى تفاصيل تاريخية وحضارية (نظراً لطبيعة البحث مع ضرورة مثل هذه العودة والبحث عن السياقات) لكنّ الحديث سيكون مقصوراً على الفترة القصيرة الحديثة من تاريخ العراق(1)،
__________
(1) يمكن العودة إلى مجموعة مراجع في التاريخ الفكري والسياسي والاجتماعي للعراق منها:
1 - صفحات من تاريخ الحركة الطلابية العراقية 1869-1968 عباس ياسر حسن، مطبعة الأمين د.ت.د.ط.
2 - تطور الفكر الحديث في العراق، يوسف عز الدين، دار المناهل (مطبعة أسعد) بغداد.
3 - تاريخ العراق السياسي الحديث، عبد الرزاق الحسيني، مطبعة العرفان، صيدا، لبنان، 1948م، ثلاثة أجزاء، د.ط. وربما تكون الطبعة الأولى.
4- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. علي الوردي، مطبعة الإرشاد والشعب،
بغداد، ج2،1971.
5- تاريخ العراق القريب 1920 المس بيل، ترجمة جعفر الخياط، وزارة التربية والتعليم 1971.(1/73)
التي تفيد في استجلاء آفاق الخطاب الروائي والوقوف على مصادره الواقعية، وهذا لا يعني أننا لن نحاول العودة إلى السياق التاريخي العربي الفائت قليلاً أو كثيراً بحسب ما يستدعي المبحث وما يتطلب الخطاب، وهذه العودة لن تكون في المقدمة التاريخية وإنما ستتأتى في دراسة الخطاب وتحت عنوان هذا الفصل بالذات.
1- الظرف السياسي:
((ظلت سياسة العراق الخارجية تسير وفق الخطوط التي وضعتها بريطانيا وكبلت القطر بالمعاهدات والأحلاف العسكرية للمحافظة على امتيازاتها. وبقي العراق معزولاً عن الركب العربي الذي تمسك بفكرة الحياد، وكانت السياسة الاقتصادية والتجارية تُرسم لمصلحة بريطانيا وكبار التجار والرأسماليين، أما السلطة الحاكمة، فبقيت تتآمر على الدول العربية... في الوقت الذي ما زالت الحريات السياسية معدومة، وكان نظام الحكم مستنداً إلى النظام الملكي الفاسد الذي تلتقي مصلحته مع مصلحة الإقطاعيين وأصحاب رؤوس الأموال الذين سخّروا ملايين العمال والفلاحين لمصلحتهم))(1).
وكان للأحداث العربية في أقطار الوطن العربي أثر كبير في الحركة السياسية العراقية، فقد قامت حركات تضامنية مع الشعب المصري أث__- ______- ______- ______- _____- ______ً
_____û_ضے______¼_________Times New Roman_d_____-
_____-
______ً
_____û_عے______گ ________Times New Roman_d_____-
_____- ______ً _____û_ضے______گ ___²____Simplified Arabic Backslanted_s†____- _____ً ______û_هے______گ ___²____Simp(2)ified Arabic Backslanted_
Q____-
__________
(1) صفحات من تاريخ الحركة الطلابية العراقية 1969-1968 عباس ياسر حسن، ص 71.
(2) نفسه ، ص 71.(1/74)
______- ______ً ______û_عے______گ _______Times New Roman_c_____- ______ً ______û_çے______گ _______Times New Roman_c ____- ______- ______ً ______û_تے______گ ___²____Simplified Arabic Backslanted_k____- ______ً ______û_ئے______¼____²____Simplified Arabic Backslanted_‡____- ______- ______- _____- ______- _____- ______- _____- ______- _New Roman_d_____-
_____- ______ً _____û_ضے______گ ___²____Simplified Arabic Backslanted_s†____- _____ً ______û_هے______گ ___²____Simplif(1)ed Arabic Backslanted_
Q____-
فالوعي بغيٌ والتحرر سبة ... والهمس جُرْمٌ والكلامُ حرامُ
ومُدافعٌ عمّا يدينُ مخرِّبٌ ... ومُطالِبٌ بحقوقهِ هدّامُ))
ص 310.
وتعود المقولة التي رأيناها في السفينة إلى الظهور في (البحث)، وهي أنّه عند قيام الثورة في بغداد كان بعض المثقفين يعيشون في الغرب وفي أمريكا وكانوا يشاركون في الثورة بالمظاهرات في أماكن وجودهم، لكننا نجد اختلافاً هنا في (البحث) حيث يكون الهدف من وراء الاشتراك في المظاهرات والقيام بخطف الطائرات، والنضال ليس الفعل النضالي بمعناه الإنساني من أجل استرداد الحقوق والدفاع عن الحرية وكرامة الإنسان؛ وإنما هناك غرض آخر مناهضة القائم:((كم مرة في لندن مشيت مع المتظاهرين وأنا لا يهمني بالضبط ما الذي يتظاهرون بشأنه إنهم ضد شيء ما قائم، وأنا ضد كل شيء قائم، فلأضف صيحتي إلى صيحاتهم لو رضي الفدائيون لكنت معهم كلما أرادوا اختطاف طائرة، ولكنهم يقولون: إنني متقدم في السن ولا يصدقون أنني في أيار 1968 إذ كنتُ في باريس أحاول أن أكمل صفقة تجارية رحتُ أشارك الطلبة في مظاهراتهم الكاسحة الجنونية)) ص 340.
- مجتمع (عالم بلا خرائط)؛ (اللامجتمع):
__________
(1) تطور الفكر الحديث في العراق، يوسف عز الدين، دار المناهل للتأليف والترجمة والنشر، مطبعة أسعد، بغداد، 1976، ص 46.(1/75)
إذا ناقشنا العناصر الاجتماعية المكونة لمجتمع الخطاب في هذه الرواية في ضوء العنوان (عالم بلا خرائط)؛ نجد أن المفترض الدلالي الذي يؤديه العنوان هو غياب الحدود التي تحدّ العالم بكل مكوناته الاجتماعية وغير الاجتماعية، وهذا يعني أن غياب الحدود التي تشكل المجتمع هي غياب المعالم الأساسية للمجتمع، والنتيجة غياب المجتمع، وإذا فحصنا الرواية في ضوء هذا المفهوم فإننا نجد نوعاً من التوافق والتوازي بين مفهوم العنوان ومضمون الخطاب الاجتماعي؛ لأننا لا نجد مجتمعاً بالمعنى الحقيقي. وإنما نجد شخصيات تطرح رؤى وأفكاراً ومقتراحات.
1 - السلوكات الاجتماعية: يعرض الخطاب بعض السلوكات التفصيلية في الحياة الاجتماعية كسلوك الرجل نحو زوجته في إطار الظلم الاجتماعي التقليدي السائد؛ إذ تقوم المرأة بكبرى التضحيات من أجل الوصول إلى الرجل الذي تريد، ولكن الرجل يقوم بالاستغناء عنها والتخلي بعد كل ما قدمته من أجله:((كان أبوك يحب أمك، لكن أهلها زوجوها لرجل آخر وكان ذلك الرجل تاجراً غنياً غير أنها لم تستطع البقاء معه أكثر من ستة أشهر، اضطر بعدها لأن يطلقها وبعد مشاكل وتعقيدات تزوجت أباك، قاطعت أهلها وحاربتهم وكان أبوك فقيراً لكن قوياً، ولما فتح الله عليه بدل أن يشكر الله ويجازي أمك على التعب والفقر والعذاب بدأ وأنت تعرف الباقي))ص37.
إن هذا الموقف ثنائي الحدّ السلبيّ، فالزّواج الاجتماعي التقليديّ: الرجل الغني ثم العذاب والطلاق مشهد سلبي من مشاهد الحياة الاجتماعية، والمشهد الثاني هو غدر الرجل الذي أحبته وعادت أهلها من أجل الزواج منه.(1/76)
ويعرض الخطاب إلى ذلك بعض السلوكات الاجتماعية التي تعتمد الخرافة في تغيير العالم وتحليل مجرياته فالعمة (نصرة) عمة علاء تقوم بدور المتنبئ بكل مايحدث لعلاء والمستغرَب أن الروائيّ منتج الخطاب يحاول إقناع القارئ بأن جميع تنبؤات (نصرة) تتحقق كأنها ضمير الخطاب، وقدرته الخارقة، وهذا مرفوض في خطاب واقعي كتب في مرحلة سادت فيها الحاجة إلى مزيد من العلمية والموضوعية وكذلك فإن هذه الطروحات لا تتسق ومسيرة الرّواية نفسها، غير أنه يمكن أن نسوغ للخطاب هذا الطّرح إذا كانت شخصية (العمة نصرة) شخصية رمزية أي وضعها الكاتب لتكون رمزاً ليس أكثر.
((أحسست شيئاً لزجاً دافئاً يتمدد إلى جانبي على السّرير قفزت مرعوباً ونظرت، كانت حيّة سوداء لم أرَ في حياتي واحدة بحجمها وقبحها.. الله سبحانه وتعالى، نجّاك الله من التالية، قالت إنها تعرف أن عدّواً يرقد في سريري وأكدت لي أنها صرخت وأحرقت بخوراً وضربت بجُمع يدها على ظلّ تكثف أمامها وبقيت فترة غير قصيرة خائفة))ص 107.
- السلوك الآخر الّذي يشكّل سائداً اجتماعيّاً، ربما يكون مردّه إلى حالة (سيكلوجية) إضافة إلى حالة اجتماعية؛ وهي الشعور بعقدة النقص أمام السلطة والحكومة إلى حد الخُصاء:((صفاء لم يُحب السياسة في يوم من الأيام، كان ينظر إليها نظرة هي مزيجٌ من الخوف والاحترام العميق والكراهية... يتصبّب عرقاً وهو يُثبت العلم في ساحة المدرسة في عيد الدولة، ثم ما صار يبديه فيما بعد من مودة مبالغ فيها تجاه كل ما يمتُ إلى السلطة، حتى موظف الماء والكهرباء باعتبارهما ممثلين للسلطة كان يتعامل معهما بمودة زائدة، ويبالغ كثيراً في الثناء على أعمال الحكومة...
دون أن يحسّ به أحد قلت له ذات مرة، وقد دقَّ شرطي بابنا يسأل عن جار مطلوب للمحكمة: هذا مجرد شرطي إصرارك على دعوته ثم ذهابك معه إلى قرب بيت الجار غير مناسب، قال: إنه ممثل الحكومة وأنت تعرف معنى الحكومة ألا تعرف))ص 114.(1/77)
- ويعود الخطاب قليلاً إلى تصوير الموقف الاجتماعي الذي اتخذه (عدنان طالب) في (صيادون) حين ترك طبقته، وذهب ليعيش في الأحياء الفقيرة، ليساعد الفقراء وينام جائعاً كي يقوم بإطعام بعض الفقراء، وفي
(عالم بلا خرائط) يتكرر هذا المشهد، ولكنه عارض إذا ما قيس بمشهد (صيادون) وأقل عمقاً من معالجة الخطاب إياه في هذه الرواية: ((يتحدث عنه، إنساناً، نام المرات الكثيرة جائعاً لكي يساعد الفقراء، وكيف أنه دخل السجن مرة من أجل أصدقائه ومرة دفاعاً عن رجل مظلوم))ص 157. ويبدو أن
(عدنان طالب) كان في ذهن جبرا وهو يتحدث عن هذا الإنسان.
ويرصد الخطاب مجموعة القيم الاجتماعية السائدة وذلك ضمن اتساقٍ واندراجٍ تحت الرؤية العامّة التي ترى سيطرة الشرّ على العالم وكذلك على المجتمع:((يرى النفاق والكذب والغش ويرى الذين يملكون الآلاف يسرقون من الذين لا يملكون شيئاً وبعد ذلك يذهبون للصلاة ويتظاهرون بالتقوى)) ص157.
وتعود أجواء (وديع عساف) الناقمة على القيم الاجتماعية المتفجرة بشعور الغضب إلى (عالم بلا خرائط): ((مات الصدق مختنقاً تحت رزم النقود، وتحوّل الديوك الفحول إلى خصيان: الكراسي، الحفلات، السفر، السفارات، وتلك الامتيازات التي كنا نأتي ننظر إليها أو نقترب منها غدت أحلاماً تراود الكثيرين ثم جاءت بعد ذلك أمور كثيرة: السلطة القوة، النفوذ، العقارات، لتقييم أهرامات ضخمة جديدة بدل تلك الأهرامات الشفافة التي طالما حلمنا بها وبنيناها في معاركنا وأقبية سجوننا)) ص 142.(1/78)
وتسيطر على (عالم بلا خرائط) خرائط اجتماعية غير إنسانية، لكن الخطاب يأبى تركها دون عرض الموقف النقيض والمحارب، ويمزج بين المواجهة الكلامية التي تتمثل بالشِّعر، وبين المواجهة بالرشاش التي تتمثل، بالمقابل المناضل، وتجعل هاتين المواجهتين في ذات واحدة. هي ذات (أدهم) أخي (علاء الدين نجيب) محور الخطاب، وهذا الحُلمُ في الشاعر الثائر المقاتل يتسق ويتوازى مع حلم جبرا ومطمحه في تحقق الشاعر الفاعل الذي يعدّ هاجساً يطمح إليه وقد رأينا في كثير من كتبه النقدية كيف تناول شعراء الفعل (كعنترة) و(عروة بن الورد) و(عبد الرحيم محمود)... وكيف يصرّ في كل مساحاته وفضاءاته الإبداعية على أن يثبت العلاقة بين الفن والفعل وتحقيق الحلم وخَلْقه بالفنّ وقد أشرنا إلى هذه القضية في ماسبق، وأشرنا إلى أن لجبرا كتاباً يحمل عنواناً مهماً في الدلالة على هذه القضية (الحلم والفن والفعل):
((بقي أدهم بعيداً عن كل هذه الدسائس العائلية المالية على طريقته، رشاشه في يد، وقصائده الهجائية في معظمها في يد (صراع التجّار) كان يسمّيه ويضيف (جشع الطفيليين) وينصرف إلى شؤون الجبهة التي كرّس لها حياته)) ص 342.
ويبدو أن موضوعة النضال والحرمان من النضال، بمفهومه الفعلي، ذات دلالة نفسية عميقة في الروح الإبداعي لجبرا، لأنها موضوعة تتكرر منذ (صيادون) إلى (عالم بلا خرائط)، لذلك يمكن إرجاعها إلى الطموح الداخلي له، وتفسير هذه الظاهرة في ضوئه، ويبدو أن مطمح جبرا الواقعي لم يسمح لجبرا بذلك؛ فكانت هذه الظاهرة التعويضية في أبطاله وفعله الإبداعي، ومايدعونا إلى هذا التفسير هو الإصرار القوي على عرض هذا الفعل في كل رواية من رواياته، ففي (السفينة) نجد العمل الفدائي الذي يقوم به (وديع عساف) وصديقه الشهيد (فايز) وكذلك في (البحث عن وليد مسعود) حيث يقوم مروان ووليد باقتحام (أم العين) ويقوم والده (وليد مسعود) بعملية نسف شارع يهودي في القدس.(1/79)
- إن الخروج من المأزق المأساوي الذي هيمن على الحياة الإنسانية العربية لا يمكن أن يكون في نظر الخطاب إلا بالحل الثوري بالعنف، وهذا وعي خطابي متطور، لأن العنف العدواني لا يمكن أن يزول إلا بالعنف المضاد المشروع الذي يهدف إلى إزالة العدوان وإعادة مسيرة الحياة إلى طبيعتها:((هذه المأساة هل تطهّر نفس الناس أم تحطّمها؟ هذا الصدأ الذي يغلفه كل شيء حتى الروح، لا يمكن أن يزول إلا بالبارود أما التجارة التي استمرت بالقضية ثلاثين سنة أو يزيد فلا تنتهي إلا بحذف التجار والأوغاد واللصوص والمدعين)) ص188.
- وتبدو القيم الاجتماعية في (عالم بلا خرائط) مبنية على أسس طبقية في بعض توجهاتها وعلى أسس عشائرية في أكثر الأحيان، ويتم الاعتماد على القيم القديمة اعتماداً كلياً في الحكم على سيرورة الحياة الاجتماعية ((خالي يحمل على كتفيه الماضي والقيم القديمة)).ص181.
القيم التي سوّدتها فئة (المبطونين والدراويش والأغوات): ((لن أدافع عن قسوة البشر الذين راحوا، ولن أكون غبياً لكي أدافع عن هياكل الدراويش والأغوات، وأولئك المبطونين الذين اختبؤوا طيلة الفترة التي حارب خلالها البائسون والفقراء، الذين لا أسماء لهم حتى إذا انتزعوا الاستقلال وحرروا أرض الوطن، جاء أبناء الدروايش والأغوات والمبطونين لكي يعفروا وجوههم في اللحظات الأخيرة بغبار المعركة ويرفعوا أصوات الفقراء لكي ينتزعوا
كل شيء لأنفسهم)).ص94.
ويقوم الخطاب بتوصيف الحياة الاجتماعية في مدنه: "كانت الحياة عذاباً لا يرحم.... هكذا كانت في كل مكان في المطلة، في غسرين، وتفاريت وعين فجار، هنا في كل مكان حتى الذين سافروا، الذين استدانوا وباعوا كل مافوقهم وتحتهم لكي يؤمنوا ثمن تذكرة الباخرة، انقطعت أخبارهم وكثير منهم غرقوا في البحر، ماتوا من الجوع، ماتوا من القهر والذين لم يتيسر لهم ثمن بطاقة الباخرة، وظلوا كانوا ينتظرون الموت في كل لحظة كانت أياماً صعبة))ص 72.(1/80)
كما سنرى في مبحث الذات والآخر (الرؤية الحضارية) يولي الخطاب أهمية كبرى لمسألة الهجرة؛ سواء في ذلك الهجرة الداخلية والهجرة الخارجية، وهنا ترجّح أهمية البحث في الهجرة الخارجية، لأنها ذات بعد مأساوي في حياة المجتمع العربيّ؛ إذ تحاول عناصر المجتمع البحث عن الحلول والخلاص فيكون الخلاص من العالم الماثل إلى العالم الآخر ضمن رحلة (يوليسيزية) مع فارق أن (يوليسيز) قد عاد من بحر ضياعه، أما أبناء الوطن المهاجرون فيتمون هجرتهم إلى المجهول واللاعودة ويترافق هذا التصوير المأساوي مع تصوير ذاكري لمعارك (السفر برلك) التي كانت لها نتيجة، لم يتعرض لها المجتمع البدائي، كارثة (على الرغم من أنها من فعل الإنسان) تظهر وكأنها فعل غيبي قدر لا علاقة للإنسان به، ويتحول الخطاب إلى دراسة الحالة الاجتماعية دراسة (عرقية):((مثل الغربان لم يبقوا مثلما كان أجدادهم، ولم يعرفوا أن يكونوا مثل أهل المدن، إن القبائل في عمورية من الكثرة والتداخل إلى درجة لا يمكن عندها أن يضع الإنسان فاصلاً بين قبيلة وأخرى، كما أن هذه الفواصل لا تعني شيئاً لأن معظمها وَهْمٌ، سوف يَنْظُرُ إليها الآخرون بكثير من الهزء والسخرية، فالحياة في حركتها الجديدة وقوانينها الجديدة لا تترك مجالاً لأحد لكي يتوقف، ولو للحظات، لكي يقول: إن قبيلة كذا انحدرت من فلان، وكان أصلها كذا، ولذا فإن الحياة يجب أن تكون كذا))ص180 و181.
وهذا التحليل لفحوى الظاهرة الاجتماعية يتوصل إلى فهم آخر جديد لنمط الحياة الحديثة، وبخاصة مجتمع المدينة الحديثة التي لم يعد فيها مجال للبحث عن الأعراق والأصول ولم تعد هذه العناصر الاجتماعية مهمة في تجديد العلاقات الاجتماعية وفي سَنِّ القيم: ((عمورية الآن تقوم على أسس جديدة: المال وتداخل العلاقات الشخصية)).ص 181.
- الخطاب السياسي:(1/81)
يتحول الخطاب ذاكرياً في أرجاء الزّمن السياسي العربي ولكن هذه الأرجاء لا تتسع لتشمل مساحة كبيرة من الواقع السياسي، ولا تغوص في عمقه لترصده وتحلله من جميع جوانبه، ولا يخرج الخطاب المتخيل عن موازاة الواقع، ومن مفردات هذا الواقع المظاهرات التي كانت تقوم في بغداد ضدّ الأحلاف العسكرية الأجنبية كحلف بغداد مثلاً:((أوقفتني الشرطة لاشتراكي في مظاهرة ضد الأحلاف العسكرية الأجنبية وبقيت في النظارة ثلاثة أيام))ص85.
وهذا يستدعي الحديث عن القمع السياسي الذي تمارسه السلطة ضد الذين يعترضون على إرادتها التي تسعى إلى بيع الوطنية وإلى تمكين المتسلط الأجنبي من السيطرة على الوطن، ويستدعي أيضاً تصوير النضال ضد هذه السلوكات الخيانية التي تسلكها الحكومة التي يفترض أن تكون وطنية:((في أواخر الثلاثينات، وطوال الأربعينات، برز من أسرتنا شاب يدعى شهاب... وقد برز عن طريق مقالاته النارية في جريدة المستقبل التي أسسها بالتعاون مع بعض أقرانه وجعلها لسان حال حزب صغير استقطب يومئذ عدداً كبيراً من المثقفين الشباب))ص 204.(1/82)
ثم تقوم الشرطة بعد ذلك بإعدام شهاب بتهمة التآمر على أمن الدولة أما اللقطة المهمة التي يلتقطها الخطاب في سياق معالجة السياسة هي هزيمة حزيران 1967 ليصور مدى تأثير هذه الهزيمة على الشعور العربي وفتكها في ضميره:((حياة الناس في أوائل ذلك الصيف الحزين عام 1967 غدت الصورة أكثر وضوحاً، كنتُ مخطئاً، لأنني كنتُ بعيداً عن عمورية في ذلك الصيف، كنا نرى وهناً في الابتسامات الساخرة في الأسئلة الجارحة، في طريقة التحية، لا أبالغ إذا قلت: إننا تحولنا إلى مجموعة من المتسولين العاجزين ننتظر الآخرين وهم يراقبوننا، لا زلت أتذكر كيف اضطرت إلى المرابطة في غرفتي ثلاثة أيام متوالية، لا أريد أن أرى أحداً ولا أدع أحداً يراني كنت، كطريقة لتعذيب النفس، آكل الخبز اليابس، أو على علب اللحم الفارغة.. كنت أخاف من عيني بواب العمارة، من سؤاله أو من ابتسامة بائع التبغ)) ص187.
مايلفت النظر مرة أخرى هنا كما يحدث دائماً في خطاب جبرا أن الأحداث السياسية الكبرى سواء السلبي منها والإيجابي تحدث بينما يكون المثقف خارج وطنه...(1/83)
وتأتي إدانة المدينة من خلال تحميلها مسؤولية الأحداث السياسية السلبية في الحياة السياسية العربية، وهذه الإدانة مضمرة في جميع أنحاء الخطاب سواء السياسي والاجتماعي والحضاري وهذا الإضمار في (عالم بلا خرائط) يأتي من خلال محاولة إعطاء المدينة بعض العذر بطريقة ساخرة:((ليس من حقي أن أدين المدينة فأقول:إنها لم تكن موجودة عام 1948 وأنها لم تستطع أن تصل عام 1967، وأنها لم تقتنع عام 1973، لا أريد أن أقول هذا؛ لأنه ليس دقيقاً، ولأن المدينة، الضجة، الإذاعة، والصحافة بعض القطع العسكرية الرمزية، كانت موجودة، أو حاولت أن تكون موجودة في أعماقها كانت المدينة غانية، ولعلها ماتزال كذلك، إنها تشعر بنوع من الاستقرار والثقة وتحاول أن تتهرب أو تؤجل الكثير من الأمور لعلها تنام، ليلة وتقوم فتجد كل شيء وقد وجد حلاً له)) ص381.
الاجتماعي والسياسي:(المجتمع الرمزي) في "الغرف":
لا نستطيع أن نتحدث (بجرأة) في رواية (الغرف الأخرى) عن مجتمع ما، بل إننا لا نجد مجتمعاً فيها البتة؛ لأنها نَحَتْ في معالجتها منحى رمزياً حُلمياً ولم تتناول المجتمع بالمفهوم الإصطلاحيّ السائدوإنما خلقت (اجتماعاً) بشرياً (تصادفياً) عرضت من خلاله مقولة الاغتراب الإنساني بشكل هشّ إذ لم يكن الهدف من ورائه مقولة خطابية ما وإنما كانت محاولة تجريبية في عامل
(الشكل الروائي) الحديث.
مُجْتَمع المثقفين(1/84)
- اختص جبرا ابراهيم جبرا في خطابه الروائي بخلق عالم اجتماعي من المثقفين اقتصر في رؤيته للعالم ومعالجته إياه على هذا المجتمع المفصول المجتزأ من عالم المجتمع الأكبر الكلي، لذلك نستطيع أن نقول: إن العزل الاجتماعي لهذه الفئة خارج السياق الاجتماعي (سياق الكلية الاجتماعية) زاد في اغتراب العمل الروائي الذي يتناول في الأصل عناصر اجتماعية مغتربة، ففي (صراخ) نجد (أمين سماع) وجميع الذين يشاركونه الفعل الروائي فئة مثقفة تقود العملية الثقافية وتحدد رؤية المجتمع وتشيد البناء الأعلى في المجتمع، من خلال خوض صراعات فكرية حول مفاهيم اجتماعية وجمالية وسلوكية معينة ولكن مجتمع (صراخ) يعد مجتمعاً ضئيلاً في مستوى المعالجة والرؤية والاتساع، وإذا انتقلنا إلى (صيادون)؛ فإننّا ننفتح على تنوع في آفاق المجتمع الثقافي المتصارع ربما يكون التنوع الأكثر بين روايات جبرا جميعها وذلك لوضوح التباين بين العناصر المتصارعة ولجعل الصراع بين الأفكار في الخطاب هدفاً رئيسياً وليس عنصراً مساعداً أو تكوينياً دافعاً، أما (السفينة) فتبحث عن خصوصية معينة، الهدف الأكبر فيها الامتداد إلى معالجة الصراع بين القيم؛ قيم السائد الاجتماعي وبين قيم الطارئ الثقافي؛ لأن الصراع داخل الفئة المثقفة يخفت عنه في (صيادون) ويتحول إلى حوار بنائي غرضه التجريب والبحث والتساؤل أكثر الأحيان وينتقل ليحاور الغيب ويطرح عليه وعنه بعض التساؤل وفي (البحث عن وليد مسعود) نجد الصراعات الثقافية صراعات فردية ليس أكثر، فعلى الرغم من الوهم الذي يسيطر على القارئ والخطاب نفسه (والذي يوحي بالصراع العظيم المتباين بين طروحات فئة المثقفين في فهم العالم وفي البحث عن التغيير والخلاص) نجد بقليل من الفحص والتدقيق أن الأفق العام لأصحاب النظريات أفق مشترك، وليست التباينات كالتي رأيناها في (صيادون) وإنما هي متجاورة ومتقاطعة، وينشأ الصراع من التباين الذاتي، والطبائع(1/85)
الفردية التي ترد إلى بعض القضايا الاجتماعية (السيكولوجية) كالبحث عن السيطرة والحسد والبحث عن التنافس في وهم التناقض وفي (عالم بلا خرائط) هذا العنوان الموحي (الموهِم) يتشتت الصراع في ثنايا العمل الروائي ولا نستطيع القبض عليه ويتحول من صراع بين الأفكار إلى صراع داخل الفرد، صراع العوالم الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية في ذات المثقف الفرد.
تصبح معادلة الصراع في الخطاب وفق الترسيمة:
(صراخ) محاولة التأسيس للصراع الفكري (صيادون) انفجار الصراع تنوعاً وتبايناً (السفينة: تخصيص الصراع وتوجيهه وتحويله عن مساره (البحث عن وليد مسعود) (تآخي الآفاق الفكرية) (الصراع الفردي الشخصي) و(الصراع في السلوك والجزئيات) انكماش الصراع وانحساره وتبئيره.
صورة العدو
العنف و مشروعية العنف المضاد
ينتمي مفهوم العدو في معنى من معانيه إلى تجليات مفهوم (الآخر) ويعدُّ واحداً منها، غير أن خصوصية العلاقة بين الفلسطيني وعدوه كعلاقة تَنَافٍ تامّ لابد فيها لأحدهما من أن ينفي وجود الآخر، ولا يمكن أن يلتقيا بالمعنى الإيجابي بل لا يمكن اللقاء بمعنى الالتقاء في نقطة الحياد أو نقطة الخواء أو التوازي أو التجاور؛ لأنهما نقيضان، والنقائض لا تلتقي إلا في الصراع أو في مواجهة الإفناء.(1/86)
إنها الإمكان الوحيد للقاء، وقد رأينا في الأدب الفلسطيني وفي الرواية الفلسطينية ذاتها محاولة لفحص بعض إمكانات هذا اللقاء. فقد طرح سميح القاسم في (روايته) إلى (الجحيم أيها الليلك)(1) بطريقة رمزية فرضية اللقاء بين العربي الفلسطيني رجلاً وبين الصهيونية امرأة وقام أيضاً بمحاولة عكس جنس طرفي العلاقة، فجعل الرجل صهيونياً والمرأة فلسطينية ولكنه، بعد عملية ترميزية عالية نصاً وخطاباً قام فيها "الليلك" (اللون الرمز) بمحاولة خداع، توصل إلى استحالة مثل هذا اللقاء على الرغم من أنه اختار من الحتميات الإنسانية الجانب الأكثر قابلية على الإطلاق وهو الجانب العاطفي وعلاقة الرجل بالمرأة بالذات، ولكن الليلك في النهاية ينهزم وينتصر المنطق الطبيعي؛ منطق التنافي ويَضْبِطُ الفلسطينيُّ الليلكَ في لحظة وضوح ويرسله بعنف إلى الجحيم ويقرر سميح القاسم:((أن العدوين المتجابهين هنا هما العرب واليهود هذا مايبدو على السطح لكن الجبهة أعمق بكثير وأكثر تعقيداً، هنا يدور القتال الحقيقي بين الليل والنهار... بين عناصر الزمن ومكوناته المتناقضة، بين الخير الذي في الإنسان والشر الذي فيه بين البناء والهدم والحب والكراهية))(2).
__________
(1) درست هذه الرواية في مقال بعنوان (إلى الجحيم أيها الليلك، انفتاحات النص: الفائت الراهن-المستقبل) سليمان حسين، مجلة إلى الأمام العدد 2114،الجمعة15/21/11/1991ص 40-43.
(2) إلى الجحيم أيها الليلك، سميح القاسم، سلسلة أدب الأرض المحتلة، دار ابن رشد.(1/87)
جاءت هذه الصورة التي حددها سميح القاسم صورة ناضجة واعية في مرحلة من استقرار الروع الفلسطيني ورسو الوعي فيها على قاع من الوضوح، وربما تكون (إلى الجحيم أيها الليلك) ذروة وعي الذات في مسيرته نحو تحديد هوية العدو ووعيه وأقول ربما لأنني لم أستقرئ ماكتبه كاملاً لأستنتج ما استنتجت وربما تكون المرحلة الزمنية التي تبلور فيها إبداع "القاسم" هي المؤثر، لقد جعلت جميع ما تقدم في شكل مدخل لفحص رؤية العدو لدى جبرا في خطابه الروائي الذي عاصر جميع مراحل إيجاد العدو واقعياً، وعاصر العدو الصهيوني فنياً في أكثر رواياته بل فلنقل في جميع رواياته باستثناء "صراخ في ليل طويل" وذلك بسبب المرحلة الزمنية التي كتبت فيه وهي المرحلة التي لم يكن العدو بعد قد أظهر ذاته للوجود، أو لتقصير من منتج الخطاب.
1 - صورة العدو في "صيادون في شارع ضيق":
يمكن القول: إن "صيادون" تشكل في خطاب جبرا استهلالاً (خطابياً) فيما يتعلق بالعنوان المطروح للدراسة وهذا الاستهلال منحها خصوصية فحواها، تعدد مستويات التصوير، وعفويتها وصدقها الواقعي.
يبدأ مفهوم العدو بالتبلور والتمظهر على أشكال متعددة أهمها:
أ- العدو "الشبح"، الإرهابيون (رسل الموت) ص20.(1/88)
أول تجل واقعي للعدو في "صيادون" يتوازى مع تجليات ظواهر العالم التي تكون في بداية تشكُّلها ظواهر مجهولة، فقد ظهر العدو الصهيوني مجهولاً غيبياً في مستهل الرواية، بعد أن توافد عدد كبير من اليهود إلى فلسطين واستوطنوا في مناطق كثيرة منها بمساعدة الجيش البريطاني وتآمره على العرب الفلسطينيين وتواطئه مع اليهود، وبدأ اليهود الصهاينة يشنون هجمات إرهابية مكثفة ضد القرويين الفلسطينيين والأهلين الآمنين حتى أن الجيش البريطاني نفسه لم ينجُ، في مرحلة متأخرة من هجمات الإرهاب الصهيوني وكانت المذابح أهم علائم الجريمة الصهيونية:((كان الإرهابيون اليهود يقتلون البريطانيين، وكانوا ينسفون دوائر الحكومة ومعسكرات الجيش ونوادي الضباط)) ص17.
لقد كان هذا قبل قرار التقسيم بعد أن ((كانت الأمم المتحدة قد اقترحت تقسيم فلسطين إلى شطرين صمم الإرهابيون على تحقيق ذلك التقسيم الدامي فأخذوا يلقون براميل الـ (TNT) في الأسواق ويقتلون خمسين شخصاً كل مرة)) ص17و18.
وبعد ذلك أخذوا (يوجهون أنظارهم نحو البيوت العربية الجميلة).
لقد ظهر العدو في هذه المرحلة ظهوراً طيفياً شبحياً ((لا وجود له
ولا اسم)) ص19.
ولكن الذي له وجه واسم وعدد هو الضحايا الذين لا حول لهم ولا يملكون أمام هذا العدو إلا الخوف ((ونحن نرتجف من الخوف)) ص20.
((وكان القرويون العرب يذبحون في الظلام الغادر على أيدي رجال لم يروهم من قبل))ص20.
في مقابل ذلك العدو المتخفي المسلح لم يكن أمام الشعب إلا المحاولة اليائسة للدفاع عن النفس بالسلاح.البسيط البدائي والذخيرة النادرة:((جاء الثلاثة أو أربعة من الناس بمسدسات قالوا إنهم سيحمون بيوتهم بها، وعرض علي أحد القرويين بندقية "ماوند" ألمانية قديمة ومعها خمس رصاصات فاشتراها أخي ولم يكن أي منا قد أطلق رصاصة في عمره))ص18.
(((1/89)
كانت مجموعة من المتطوعين غير المنظمين أو المسلحين تحاول أن تصد الاكتساح الذي تقوم به قوة شديدة التنظيم حسنة التسليح عديمة الرحمة))ص20.
ب - العدو: (الذئبية، الثعلبية) الثنائية اليهودية الأزلية:
اليهود كائنات عجيبة تجيد بإدهاش لعبتها الأزلية((تخفي الذئاب بجلود الحملان)).
فقد بدؤوا بالاحتيال على الشعب الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه ومحاولة السيطرة عليه من خلال معتقداته و((ظهر عدد من البعثات التبشيرية بعثات أمريكية ماهرة تتحدث عن حب عيسى للمسيحيين والمسلمين على السواء)).ص140.
ولكن الناس الذين لا يمكن أن ينخدعوا، لوعي فطري فيهم لإيمان راسخ بحقهم وتاريخهم وحضارتهم استطاعوا أن يفهموا هذه المناورات الاستعمارية وظهر اليهود على حقيقتهم، فهؤلاء المبشرون ماهم إلا صهاينة مقنعون يتجسسون على أحوالنا ويدعون بطريق غير مباشر لجمع شتات اليهود في أرض الميعاد)).ص141.
وقد قام اليهود بمقاومة هذا النوع من العدو، لأنه نوع يشكل خطراً من القتل والتهجير: ((فقد ضرب اثنان منهم ضرباً مبرحاً))ص141.
وليس هؤلاء على درجة من الذكاء تجعلهم قادرين علىتمرير خدعهم ومخططاتهم لأن دعواتهم مكشوفة سافرة فأحد هؤلاء الذي زار شقيق (جميل بطل الرواية) في بيته يدعو إلى (( العودة بتنبّؤات حزقيال حتى ولو أدى ذلك إلى موت الألوف من غير اليهود)).ص141. وهذه الدعوة ليست إلا فصلاً من فصول (التلمود) أو (بروتوكولاً من بروتوكولات حكماء صهيون).
جـ - نُفاةُ الحضارة:(1/90)
على الرغم من التراكم الحضاري البشري الذي جعل الإنسان يتوصل إلى أرقى درجات سلم القيمة، فإن العدو الصهيوني قادر بسهولة فائقة على الارتداد إلى الطفولة الحضارية البدائية بالمعنى الهمجي السلبي وقادر على أن يستخدم هذه الهمجية أيضاً لأن يلغي الزمن المتكدس في ذات الإنسان العربي ويؤجل قيمه التي بناها في خبرته عبر تراكم الزمن وفي لحظة واحدة تقوم هذه المجموعة الهمجية بقوتها العمياء بإلغاء شعب له مقوماته وآفاقه الحضارية وتطلعاته ووجوده الحتم في المستقبل، ويسلبه كل مدخراته الإنسانية ومنجزاته التي تمنحه صفة شعب وتهبه صفة موجود، لذلك صورت الرواية حالة الشعب الفلسطيني الذي جعل الصهاينة شعباً ((تجمعاً بشرياً يبحث عن حاجاته الأولية إذ تحولت المسألة إلى مسألة حاجات أولية يساق فيه الشعب بالتدريج إلى حيث بدأ الجنس البشري حيثما بدأ الزمن))ص24.
ولهذا أصبح التفكير منصباً على البحث عن مخرج للقضية التي أصبحت في خطر، فلم يكن هناك سوى (( العودة إلى مرحلة الصيد))ص24.
ولذلك ظهر العدو أيضاً مصدر تخلف وداعياً إليه، لأنه من الطبيعي أن الهم الأكبر للعدو أن يبقى خصمه ضعيفاً ومتخلفاً لكي يستطيع السيطرة، فقد سعى العدو الصهيوني إلى استغلال جميع التناقضات الداخلية واستغلال جميع الدعوات والأفكار التدميرية وتبنيها، وهذا العدو مهتم بأن تكون الأمة العربية كليّاً تسعى في أقصى طموح لها إلى الصحراء.
((فالصهاينة يتمنون لو نعتقد نحن بأن علينا أن نعود إلى الصحراء)) ص99.
لم يتجسد العدو في ساحة المواجهة بالمعنى الحقيقي، مواجهة الصراع، صراع التنافي، فالعدو نفسه لا يسعى إلى الصراع وجهاً لوجه لأنه غير قادر عليه، وإنما اكتفى في مرحلته باتباع الأساليب التي تضمن له تحقيق أهدافه دون أن تكون هناك مواجهة، إلى جانب أن الشعب الضحية غير قادر أيضاً على هذه المواجهة في خلال الظروف التي يعيشها وقد جاءت صورة العدو تصويرية استنتاجية.(1/91)
نجحت "صيادون" في تصوير الرؤية الواقعية للعدو في مرحلته التاريخية تلك، فجميع أقطار الوطن العربي والفلسطينيون خلال هذه المرحلة لم يكونوا قادرين على تحديد تصور واضح للعدو وعلى تحديد لقدراته العسكرية والبشرية والتقنية، وإنما بقي التصور وهمياً.
إن هذا الرصد الواقعي لواقع القضية الفلسطينية في منحى من مناحيه كان نتيجة لمعاينة حقيقية معينة ليست مستمدة من مصادر فوق الواقع لذلك كانت صادقة، بمعنى الصدق الواقعي.
2 - العدو في السفينة:
اقترب تصوير العدو في السفينة من (التأريخية) بمعنى الذِّكر الإخباري التأريخي وجعل الخطاب نوعاً من التوثيق يظهر أهمية أخرى للخطاب على المستوى التاريخي، لكن جبرا كي يخرج من هذه الوثائقية (التي قد تنأى بالعمل الأدبي بعيداً عن طبيعته) حاول اختصار الوثائقية وترميز الواقع بحدث روائي تطغى عليه الروح العاطفية وروح المواجهة المباشرة التي لم تحدث في "صيادون" هذا الحدث يظهر بداية المواجهة الفعلية بين الفلسطيني والعدو إذ يقوم ((وديع عساف)) و(( صديقه فايز)) بوساطة رشاش كان في سيارتهما مع بضع قنابل يدوية بمواجهة ((مصفحة يهودية)) ص62-63، يستشهد خلالها ((فايز)) ممثلاً باستشهاده البطولة الوطنية في مشهد يبرز العنف المضاد في وجه العنف العدواني وتعد السفينة استهلالاً نوعياً لعملية المواجهة بمحاولة افتتاح صراع العنف وإنتاج العنف التحريري.
- أمام انفتاح إرادة العنف المضاد هذه وبعد وضوح العدو وفهم الخصم إياه ظهر العدو في مستويين متراسلين قيمياً فيما بينهما:
المستوى الأول: الوحش اليهودي، تسيطر في هذا المستوى الصورة الشبحية الطيفية، على تصوير الخطاب للعدو ((الوحش الذي التهم أجمل نصف في أجمل مدن الدنيا "القدس")).(1/92)
وتشكل الصورة هذه استمراراً تراسلياً لما رأيناه في "صيادون" بسبب التداخل التاريخي بين "السفينة" و"صياون" ومايميز وعي السفينة الإضافي على وعي "صيادون" يمكن أن يرد إلى الوعي المتطور لرؤية الكاتب وإدراكه لعمق الصراع العربي و(الفلسطيني) الصهيوني وإلى المخاطب الذي ينفتح عليه النص إذ كان أحد مرامي الخطاب في "صيادون" التوجه إلى (الآخر) فكتبها بالإنكليزية وصاغها وفق المرامي الأيديولوجية لمخاطبة الآخر، وكان المرمى الرئيسي في السفينة التوجه بل الانفتاح، كما سنرى، على الذات (الفردية والجماعية). ولكن الصورة السابقة، لا تستمر حتى النهاية، وتتبدد لتظهر مكانها المواجهة: ((ففي أوائل أيار عام 1948 كانت القدس الجديدة ساحة قتال بين العرب واليهود ولم يكن الجيش اليهودي قد غادرها، وإن كان قد ترك الأمر للعرب واليهود متظاهراً بالحياد التام وكان المجاهدون العرب، قد ضمنوا السيطرة على البلدة القديمة قد تمركزوا في بضعة أحياء من المدينة الجديدة))ص60-61.
- الغدر اليهودي البريطاني: (العدو اليهودي البريطاني):
((كان من المقرر أن ينسحب الجيش البريطاني في الخامس عشر من أيار من عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف لتدخل الجيوش العربية من الجنوب والشرق والشمال، وتنتهي مهمة تطهير القدس وبقية فلسطين في أسبوعين أو ثلاثة)) ص61. لكن اليهود كعادتهم وتنفيذاً لمصلحة البريطانيين في فلسطين ولتظل المنطقة تحت السيطرة الاستعمارية، حاكوا مؤامرتهم وبدأ ((الجيش البريطاني في الصباح الباكر من اليوم الرابع عشر من أيار [تحركاته وأخذ] يخرج بسياراته ومعداته، ويتحرك قبل موعده بيوم واحد..[لقد كان] الجيش ينسحب ويسلم المدينة الجديدة لليهود، خطوة خطوة تحت حمايته، [وكان] الزحف اليهودي من كل اتجاه يملأ الفراغ الذي يتركه الإنكليز في أعقابهم)).ص 61-62.
العدو في "البحث عن وليد مسعود"(1/93)
- يتراجع العدو في "البحث" كما في الواقع عن كونه الفاعل الوحيد القوي المتغلب دائماً ويقوم العنف المضاد (المشروع) بمحاولة نفي العنف العدواني (غير المشروع) وتحدث المواجهة هنا بين كيانين لكل منهما قوامه وهيكله، فالعدو منذ "صيادون" ينشئ ذاته ويقويها ويحتل وينفي الآخر ويلغيه، وتحولت الضحية لتكون فاعلة تشكل ذاتاً تستطيع المبادرة والفعل لذلك حل العنف المضاد (التحريري) محل تصوير العدو المنحسر.
يقوم (مروان وليد) بمجموعة عمليات آخرها اقتحام قرية (أم العين) هو ومجموعة من رفاقه وتكون الأخيرة ملحمة الاستشهاد(1).
ويعتقل (وليد مسعود) بعد عشرين عاماً من قيامه بنسف شارع (بن سوميخ) ثم بعد اختفائه يلتحق بصفوف الثورة الفلسطينية، وأمام هذا التكتل للمقاوم لم ينتف العدو ولم تستطع الجبهة المفتوحة أن تلغيه أو تسيطر عليه فهو لم يزل موجوداً قوياً (يضرب ولا يهرب). ليس لشجاعة فيه وإنما اعتماداً على وحشية وعلى وسائل البطش التي زوّد بها لينفذ إرادته العمياء:((ضربني نصري بالحجر على وجهي، لأنني كسبت منه خمس بيضات ملونات يوم العيد الكبير ولكنه ضربني وهرب، هنا لا يهربون يضربونك ويقفون على رأسك، لأن يديك مقيدتان، وشعبك مقيد)). ص244.
هذه المفارقة الإنسانية في عالم الفلسطيني أصابته بصدمة إنسانية هائلة جعلته يتساءل بغضب وبجنون حول إنسانية هذا العالم، ولكنه لم ينهر ولم يسقط في غمرة السقوط وإنما بقيت روحه المقاومة حتى آخر لحظة في حياته فقرر أن يعود للالتحاق بالثورة والنضال.
__________
(1) في "البحث عن وليد مسعود" أفرد الكاتب فصلاً خاصاً للمقاومة حكى فيه قصة العملية الفدائية التي قام بها مروان بن وليد مسعود بعنوان (مروان وليد يقتحم أم العين مع رفاقه)، ص 295.(1/94)
إن الانتقال إلى (العنف المضاد) إن الفعل يعد تطوراً واضحاً في تسلسل أحداث القضية، وقد بدأت القضية تتعقد وتتخذ أبعاداً لا تقف عند حدود صراع طرفين متناقضين عدوين بوضوح: معتدٍ ومعتدى عليه ولكن بعض التدخلات طرأت على وضوح العداء بين الطرفين ليس من الجانب (الضحية) وإنما من جانب المعتدي، تشير الرواية إلى مثال على هذا، إن في صفوف العدو جزءاً تحوّل إلى العداوة قسراً لا اختياراً، فبعد أن يُجلد وليدمسعود لا يستطيع العدو إدانته بما يتهمه به ويقرر إبعاده، يخاطبه أحد الجنود (الإسرائيليين) بلهجة عراقية(ويبدو أنه من اليهود العراقيين الذين هاجروا إلى فلسطين): ((بعد ساعتين سنتركك، أتذهب إلى بغداد، فنظرتُ إلى وجهه إلى عينيه كانت حزينتين جداً))، ص 248.
إن هذا المظهر الجديد في بنية (المجتمع) الجديد المقام بالقوة العمياء والقرصنة واللصوصية ذو دلالة مهمة وكبيرة على مافيه من تناقض وتنافر وتمايز بين المجموعات التي تشكله، وقد قصر الخطاب في عرض هذا الموضوع تقصيراً واضحاً فليس فيه إلا هذا المثال وليس هناك من مسوغ لذلك.
نتائج:
1 - اتخذ تصور العدو وتصويره في خطاب جبرا منحى تطورياً خطياً في منحى التصوير ابتدأ فيه الخط زمنياً بـ "صيادون" وانتهى بالبحث عن وليد مسعود:
1 - لقد كان العدو طاغياً في ظهوره الفاعل في "صيادون" يصوغ المصير الحضاري والمستقبل لطرفي العلاقة علاقة الصراع، ولكن السفينة تنمي في هذه العلاقة طرفها المقهور وتنقله إلى المواجهة وتحول إيجاد الصراع الفردي على صراع متبادل، أي انتقال الصراع من صراع إيجاد العدو ونفي للفلسطيني إلى صراع وجود للطرفين وتناف فيما بينهما ويعد التطور في السفينة تطوراً إيجابياً لصالح الطرف الفلسطيني، مع الانتباه إلى أن السفينة خلقت المقاومة على شكل مصادفة فرضتها على وديع وفايز.(1/95)
وتتطور هذه المقاومة لتصبح ثورية بالمعنى الدقيق موجهة منظمة تكون فيها المواجهة فعلاً إرادياً خاضعاً للمبادرة المنظمة المخططة وفق أسس علمية وموضوعية في ((البحث عن وليد مسعود)).
2 - تظهر الضحية الوطنية على مستويات ثلاثة أيضاً ففي "صيادون" كون الضحية غير فاعلة وهي مسالمة لا علاقة لها بالعنف أياً كان نوعه، مثال على ذلك يمكن أن نطرح: ليلى شاهين التي أحبها (جميل فران) وحمل يدها المبتورة في ذاكرته كانت ضحية وطنية، رمزاً لشعب نكل به وقُتِلَ دون أدنى ذنب، يمكن أن ندعو هذه الضحية (النبوية).
وفي منحى التطور تعرض السفينة الضحية الوطنية بطلاً وطنياً يستشهد في المقاومة ويستطيع مع رفيقه قبل استشهاده الفعل في العدو وإسقاط كثير من القتلى الأعداء القتلة، والفعل هنا مزدوج: المقاومة حتى الشهادة أولاً، وهي قيمة للفعل بل هي فعل في ذاتها والتأثير في العدو وهو الفعل الثاني، بل الجزء الثاني المتمم من الفعل.
ويبلغ مدى تصوير الضحية ذروة المنحني في "البحث عن وليد مسعود" حيث تكون بطلاً وطنياً مبادراً يقوم بتكرار العمل الفدائي المنظم ويؤثر بقوة في العدو ويشكل رمزاً فلسطينياً للمقاومة.
3 - العدو في "صيادون" عدو مزدوج (البريطانيون واليهود) حيث يظهر الاستعمار البريطاني متآمراً مساعداً للصهيونية على إقامة دولتهم واحتلال فلسطين، يتحول هذا الجزء من العدو في السفينة إلى ماسنبحثه في مفهوم الآخر مع أن مرحلة السفينة التاريخية لا تخلو من الحالة الاستعمارية وإن كانت أكثر الدول العربية في هذه المرحلة نالت الاستقلال، وكذلك يغيب الأمر عن (البحث عن وليد مسعود)، وتتحول القضية إلى مايمكن أن ندعوه الصراع الحضاري بين الذات والآخر.
4 - بين "صيادون" و"البحث عن وليد مسعود" ينحسر دور العرب في المواجهة ولا يظهر العرب في المقاومة إلا في " صيادون" ممثلين بجيش الإنقاذ ولكنهم بعد ذلك يغادرون ساحة الحسبان المقاوم في الخطاب.(1/96)
5 - انتقل الصراع من فاعل واحد في "صيادون" يصوغ المصائر المستقبلية إلى محاولة الفعل في السفينة، إلى الصراع بمعناه الحقيقي المتبادل أي انتقاله من صراع إيجاد ونفي إلى صراع وجود للطرفين.
6 - اتسم التصوير بالتوازي بين الخطاب والواقع وذلك بنسبية مامع بعض التقصير غير المسوغ في تصوير العدو وذلك سعياً للتوازي التام مع الواقع.
الوطن الكبير : العجز الكبير
يعرض الخطاب هذه المقولة وفق خط بياني يبدأ بالواقعية التاريخية التوثيقية في "صيادون" وينقلها في الرواية نفسها إلى الواقعية النفسية التي تصور الخيبة والخذلان من عدم قدرة الجيش العربي (جيش الإنقاذ على الفعل) في حرب عام 1948، وتضع الفلسطينيين في حصار الأرض وعلى صعيد روحهم ونفسهم الحضاريتين، يمكن بعبارة احترازية أن ندعو هذه المرحلة من الخط البياني مرحلة الاكتشاف، اكتشاف العجز في الواقع العربي.
إن فصل معالجة هذه المقولة في الخطاب عن سياقها الروائي في "صيادون" يفقدها الانتماء التاريخي للواقع ويجعلها مجرد ((حادثة ورد فعل)) ويقصيها خارج الفعل التاريخي لذلك علينا أن ندرسها ضمن سياقها في الرواية التي كانت افتتاحية الخطاب فيها تصويراً للواقع الاجتماعي والحضاري للمدينة العربية مرمزاً ببغداد وقد رأينا في دراستنا ((للاجتماعي والسياسي)) مدى التخلف والتردي في هذا الواقع لذلك لم يأتِ تصوير العجز مدهشاً؛ لأنه من حتميات مفرزات الواقع، لقد مهد الخطاب لهذه النتيجة ولم يبدأ بعرضها مباشرة؛ لأن منزع الخطاب خاصة في رواية "صيادون" منزع موضوعي أكثر من كونه نفسياً.
لقد أظهرت (صيادون) الرواية الأقرب إلى واقع الحدث زماناً ومكاناً مأساة أخرى لعجز الوطن، ففي حين أن الجيش العربي جاء للإنقاذ شكل حصاراً عربياً ضد أبناء فلسطين، بعد أن كان الأمل معقوداً براية هذا الجيش.
(((1/97)
كنا نتخذ أمكنتنا في الأماكن التي اعتبرناها استراتيجية لصد العدو انتظاراً لمجيء الجيش العربي للإنقاذ...وطال الوقت وتتابعت المآسي واحتفظنا، رغم كل مخاوفنا، بقليل من الأمل، ولكن كل يوم يأتينا كان يأكل شيئاً من ذلك الأمل. قيل لنا: إن تلك كانت حرباً؛ أي مقلب لئيم، وأية نكتة دامية، كانت هناك جيوش، أجل، كان هناك مخططون، كان هناك وسطاء لكن النازحين من بيوتهم والمُقتلعين من أراضيهم تضاعفوا)).(1)
((كنا سجناء البلدة الصغيرة. فما دام طريق الشمال مقطوعاً باليهود فقد كان علينا أن نسير خلال طريق ملتوٍ... عبر الجبال القاحلة، ولكن إلى أي منطقة من الشرق كان يمكننا أن نذهب؟ فعمان عاصمة شرق الأردن ملأتها جموع اللاجئين، ومثلها في ذلك مثل دمشق وبيروت، وإذا ذهبنا جنوباً فإن المصريين الذين كانوا مايزالون يحاربون، سيمنعوننا من دخول مصر))(2)
__________
(1) صيادون ، ص 20-21.
(2) نفسه، ص 23.(1/98)
تتطور مقولة العجز في السفينة لتصبح ذات بُعْدٍ تفجيري على مستوى الشعور والإحساس بالمفارقة ويضفي عليها الخطاب أفقاً كونياً يتحول فيه الإندهاش الذي كان مفترضاً في "صيادون" إلى حالة قلق وتساؤلات ويأس وإحساس مرير باللاجدوى والعبث، يصبح الواقع معزولاً عن الشخصية لأنها اغتربت عنه، ولم تعد المقولة تناقش من منطق الوجود أو الوجوب، بل انتقلت لتناقش في الواقع النفسي وتحلل من منظوره، وتُصدر عليها الأحكام، وهذا التوجه في فهم العالم والواقع يبين الخصوصية (السيكولوجية) للكاتب أولاً وللشخصية الروائية التي تمثل الشخصية العربية والتي تنزع إلى التأمل والتفجيرية واللجوء إلى أحد "الهروبات" وما فعلته شخصية السفينة، بل جميع شخصياتها هو الهروب إلى ملاجئ متعددة سندرسها في فصل قادم، ويشكل الإحساس بعجز الوطن الكبير العامل الأهم في انفصال الذات الفردية عن الواقع، لأن سقوط الجدار الأخير ذو أثر كبير (إلى حد الجنون) في الذات، وتنبع أهمية هذا العامل من زعزعة قدرات العوامل الأخرى للبحث عن الخلاص ومحاولة حجب الثقة عنها في مرحلة من مراحل التاريخ العربي المعاصر، فالعامل الديني في الرواية أصبح موضع تساؤل وكذلك العامل الإقليمي ساقط بمجرد "التسمية" ولم يبق إلى العامل القومي "المتكأ الأخير" الذي أثبت عدم جدواه في النهاية.
وتتحول المعاناة إلى أفق أوسع حيث تصل إلى يأس مطلق من كل قيمة ومن كل من يدعي أو يراوده حلم الحقيقة أو التغيير:((في الواقع كل من يدعي أنه يقول لك الحقيقة، واحد من اثنين: إما أنّه واهم ولا يعرف، أوأنه كاذب على كل حال. وماهي الحقيقة؟ على كندرتك! قلنا الصدق حتى بحت حناجرنا، توهمنا الصدق في أمم العالم، وإذا نحن ضحية سذاجتنا. وقد عرفنا ذلك كأمة وعرفناه كأفراد)).(1)
__________
(1) السفينة ص 17.(1/99)
- في "البحث عن وليد مسعود" يقوم الكاتب بتجاوز مرحلي مهم لهذه الحالة البائسة في تصوير العجز ويبقى التجاوز في إطار المنتمى الفلسطيني لا يتعداه ويبقى العجز مخيماً على النفس الحضارية العربية ويُناط بالمنتمي الفلسطيني دوره الخاص الذي عليه أن يقوم به وهذا يتمثل (بوليد مسعود) وبخليفته النضالي ابنه (مروان) وإن كان العجز غير مذكور بالإشارة اللغوية المباشرة فإنه يظهر من خلال سيرورة الفعل العاجز في الخطاب ومن خلال الغياب الكامل عن ساحة الفعل الروائي.
حاول جبرا تصوير الصعقة التي أذهلت الوعي العربي وأضافت بقعة سوداء أخرى إلى مساحة النور في التاريخ العربي لكن هذه المحاولة كانت مروراً سريعاً مروراً ذاكرياً، ووصفياً عادياً، في حين كان يتوقع من كاتب كجبرا (مفكر يعي خطورة مثل هذا الحدث ويعي مدى الهزيمة الحضارية والاجتماعية التي ساقها إلى جانب كونه منتمياً بعمق وأصالة إلى هذه المأساة أولاً على المستوى الوطني الإقليمي وثانياً على مستوى الوطن الكبير، المستوى القومي) أن يقوم بتوجيه أكثر من (خطاب) وأكثر من (حديث) روائي وغير روائي، وذلك أيضاً، لأن جبرا نفسه، عدّ هذا الحدث الباعث الرئيسي إلى التحديث والحداثة في مواجهة التحدي القائم من جميع أطراف العالم ومن جميع اتجاهات التاريخ.
الفلسطيني المولود القسري
من تزاوج الوطن والمنفى:(1/100)
نظراً إلى أنّ جبرا إبراهيم جبرا فلسطيني منتم (بالمعنى المزدوج للانتماء، أولاً الانتماء الوطني الطبيعي التاريخي إلى الشعب الفلسطيني وثانياً بالانتماء الشعوري الإنساني، لأنه عاصر المأساة الحضارية الفلسطينية في جميع مراحلها وكان ضحية إيجابية بين ضحاياها)، فإن قضية الفلسطيني ومأساته ذات طابع فجيعي خاص، غاب هذا الحس عن (صراخ) مع أنها قادرة على موازاة الواقع زمنياً فالفترة الزمنية التي كتبت فيها فترة مهمة من فترات مأساة الفلسطيني شعباً وأرضاً وأفراداً، وكانت القضية في طور تشكلها الأول، وكذلك نشهد غياباً تاماً للفلسطيني وقضيته في (الغرف الأخرى) وهنا تستفحل التبعة؛ لأن الفترة التي كتبت فيها الرواية هي اللحظة التاريخية التي نضجت فيها القضية وتعددت تمفصلاتها وتبلورت نتائج أقانيمها الكبرى منذ سنة 1948 عبوراً في حرب حزيران سنة 1967 وتشرين الأول عام 1973 حتى حرب حزيران عام 1982 ويمكن أن نُرجع هذا الغياب في روايتي جبرا (صراخ) و(الغرف الأخرى) إلى طبيعة التأليف والمؤلف وتقنية العمل (الابتدائية) في (صراخ) وإلى طبيعة العمل الترميزية في (الغرف).
1-الفلسطيني في "صيادون": العائذ بالمنفى:
شخصية الفلسطيني في صيادون نموذج فردي بمعنى الشخص المفرد وكذلك بالمعنى الدلالي الأعمق تتمثل في (جميل فران) الذي هاجر بعد حرب عام 1948 إلى بغداد وعاش هناك حياة متميزة في مجرياتها عالية المستوى الاجتماعي يعاشر الأسر الميسورة، أسر الطبقة السائدة ويدخل إليها عنصراً فاعلاً ويتحول إلى عنصر منتم بعد تفاعلات عاطفية وجنسية مع بعض نساء هذه الطبقة و (ينسلخ) عن ماضية الطبقي الذي جاء إلى المنفى من أجله.(1/101)
الاكتشاف الشعوري الأول الذي يصدم الفلسطيني في المنفى الإحساس بالغربة عن المدينة التي التجأ إليها (بغداد) لأنه متعلق بمدينته التي يحمل ذكراها وذكرى آلامها: ((هل أبهج من مشاهد المباني المجهولة والوجوه الغريبة أما أنا فقليلة هي البهجة التي شعرت بها وأقل منها الإثارة التي انتابتني في ذلك اليوم، الأول من تشرين الأول عام 1948، حين وصلت بغداد، لم يكن السبب أنني رأيت لندن، وباريس والقاهرة ودمشق لقد نسيت أسفاري كلها، ما عدت أستطيع أن أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة... أذكرها طيلة الوقت تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها وسقوفها المهدمة وقد أتيت إلى بغداد وعيناي مازالتا تتشبثان بها القدس)) ص15.
يأتي هذا الاكتشاف بعد توهم الانعتاق من عذابات القهر والإحباط في الوطن: ((هذا مكان للفرح تلك الأشهر من القهر والحبوط في الوطن)) ص31.
وذلك ترف محض، هناك في وطني مليون من الناس يملأون مخيمات اللاجئين ويساورهم القلق على رغيف الخبز يأكلونه وقطرة الماء يشربونها)) ص99.
هذا التعارض بين المستقر- نسبياً- وبين الوطن (الذي يعاني حالة القهر والعودة إلى مرحلة الإنسان والاستقرار، وهو مشروخ أصلاً بفعل الكارثة الكبرى المأساة الإنسانية العظمى مأساة الوطن الذي سطت عليه الكائنات الهمجية وحولت أبناءه إلى مجموعات بشرية مشتتة تائهة تعبث بها حاجاتها الأولية وتتحكم بها دوائر تدعي الإنسانية: ((تم عدّنا وتصنيفنا من قبل الأمم المتحدة، وقد بدؤوا بإعطائنا مؤناً يوزع علينا بمقتضاها بعض الدقيق ومسحوق الحليب... أما الدقيق فخبزه أسود ولا لأولئك التعساء الذين لم يعطوا بطاقات مؤن، لأنهم غير مؤهلين تكنيكياً لأن يكونوا لاجئين.. فالتعاسة تصنف... مخيمات اللاجئين تتسع كل يوم فوق التلال. واليهود يتخطون خطوط الحدود باستمرار...)) ص140.(1/102)
ويقارن الفلسطيني بين معاناته فلسطينياً منتمياً إلى مأساته وبين معاناة أبناء الأقطار العربية الأخرى فيجد مرارته وحرمانه يتخطيان كل الحدود: ((ولا حاجة لأن تقول لي ذلك.. فقد عرفت مايكفيني من الحرمان ولكنه كان حرماناً من نوع آخر، شراً مختلفاً كل الاختلاف فرض إرداته)) ص42.
ويستدعي الفلسطيني ذكريات وطنه في المنفى بطريق الحلم وتكون المشاهد المستحضرة مشاهد الحرمان والموت والقهر والذل: ((تلك الليلة حلمت أنني رأيت ليلى مرتدية عباءة سوداء كبنات بغداد كنت أتعارك معها يائساً طوال الليل)) ص42.
ويتجول الفلسطيني بين المنافي باحثاً عن خلاصه المؤقت أو باحثاً عن ما يساعده في حفاظه على البقاء: ((ذهبت إلى دمشق حيث كان يجري تسجيل المعلمين الفلسطينيين لتوظيفهم في الأقطار المجاورة كنت أحمل شهادة من كيمبردج استطعت، بعد البحث والانتظار وطرق العديد من الأبواب العابسة، أن أحصل على وظيفة تعليمية في إحدى كليات بغداد)) ص27.
يبلغ الفلسطيني حد الإشباع ويصبح ألمه قوة فوق جميع قواه التي يستنفرها من أجل الاحتمال والتصبر ويتفجر بأحاسيسه ومشاعره ويضيق المنفى بتناقضاته التي تضاف إلى معاناته التي لا تحتمل: ((لعنة الله على عدنان، لعنة الله على سلمى لعنة الله عليهم جميعاً دماغي يتحطم إلى مئة ألم، ليلى قتيلة وسلمى متزوجة، وسلافة بعيدة المنال، وأنا في منفى يحيرني ويعذبني)) ص137.
ولكنه لا يستسلم لليأس ويحاول تحفيز كوامن روحه الداخلي ويتقمص حلمه في محاولة التغيير والبعث: ((ليست تعاسة، ليست تعاسة هنا إمكانيات للحياة والفعل، بل حتى التجربة الحِسية، يجب أن تكون عندي الإرادة لأن أصبحَ جزءاً من الحياة مرة ثانية، لأشارك في إطلاق سلافة، بل مليون سلافة ومليون عدنان من قوى العدمية والشر)) ص137.
ويظل في قعر وجوده الروحي التساؤل؛ الذي يحلم به تحققه وجدواه: ((ولكن هل أنا نفسي طليق)) ص137.
السفينة "البحث عن منفى جديد":(1/103)
? الفلسطيني العَائِذُ بالمنفى:
يستقل الفلسطيني (وديع عساف) السفينة (هيركيولز) التي تنطلق من ميناء بيروت لتنقله من منفاه التقليدي (حيث يعمل مديراً لشركة في الكويت وقد جمع أموالاً طائلة من استثماراته الضخمة) إلى منفى يتوقع أن يجد فيه خلاصه (البحر جسر الخلاص) هذه المقولة التي تشكل الأساس الخطابي للسفينة.
1-العائذ بالحلم: ليس حلم الفلسطيني في منفاه حلماً اجترارياً أو حلماً يخلق بدائل تعويضية عن المفقود (الوطن) بوساطة أحلام اليقظة التي تقتاتها النفس، بل هو حلم تغييري ينزع إلى إحلال المفقود وإعادته لأنه الوحيد الذي يحقق الوجود، ومهما يكن جمال العالم الخارجي: ((تحتنا تركنا جزءاً من حياتنا هبة، وعربوناً للعودة تخرج إلى العالم وترى الأشجار البواسق، والبساتين المنسقة والغابات الملتفة، ولكنها لا تساوي غصناً معوجاً واحداً من تلك الأشجار الغبراء المتباعدة في تلك الأرض الصخرية الحمراء التي تلقت قدميك كقبلة عاشق، وبانت كأنها تنتشر تحت جنبك إذ تضطجع عليها كأرائك الجنة، لعنة واحدة هي أوجع اللعنات: لعنة الغربة عن أرضك،... سل الفلسطينيين، سل الفلاح الذي يذكر تجرّح قدميه على تلك الأرض كأنه يذكر لذة حياته الوحيدة، كأنه يقول: إن حياته بعد أن أُبعِدَ عن أرضه، ما عادت حياة، هذا البحر.. بحر فلسطين هذه الزرقة هي الشيء الوحيد الذي يلطف من غربتي كأنني أتصل بأرضي من جديد)) ص23.(1/104)
تعد مقولة (الأرض) المقولة الأساسية فيما يمكن أن نسميه أدب القضية الفلسطينية سواء منه أدب (الفلسطيني المنتمي) و (المنتمي الفلسطيني) لكن خصوصية الحس بالأرض كانت أكثر بروزاً ووضوحاً وأكثر قدرة تعبيرية وعمقاً شعورياً لدى أدباء القسم الأول الفلسطيني المنتمي؛ لأن هؤلاء الأدباء عاشوا الفقدان الحقيقي الذي أفقدهم كل اتصال بالعالم، فقد قام غسان كنفاني في رواياته وقصصه برصد المفارقة الفلسطينية في أكثر تجلياتها بين المنفى والوطن، رصد النضال الوطني واقعياً وزمرياً في قصص كثيرة من قصصه، في رواية (أم سعد) مثلاً وفي رواية (ما تبقى لكم) وصور القدر الفلسطيني (الموت) الذي يلاحق الإنسان الفلسطيني أينما حلّ في وطنه، ومنفاه، وهو يبحث عن منفى جديد، تجسد هذه الفكرة رواية (رجال في الشمس) التي صورت مجموعة (رموز) فلسطينية تبحث عن خلاصها في منفى جديد فإذا الموت (الذليل) هو الخلاص، لأن الخلاص الحقيقي ليس في المنافي، وتجسد (السفينة) هذه الرحلة برؤيتها الخاصة فتخلق خزاناً مفتوحاً (السفينة) ليتم البحث عن مخرج، كان (الكنفاني) قد أغلقه في خزان الموت، وقد قامت (السفينة) بتقديم (الأضحية) من أبناء المنفى (فالح حسيب) وحافظت على الفلسطيني، لأنه معد لمهمة مستقبلية.(1/105)
رأينا في الفصل الأول أهمية المكان وعناصره في الروح الإبداعي وفي واقع الكاتب (منتج الخطاب) وكذلك في مسيرة الخطاب وانبنائه على موضوعات مهمة، هي الهيكل الذي يقيم بنيان الخطاب، والأرض موضوعة، بل عنصر، أهم من جميع عناصر المكان التي رأيناها (كالصخور والبحر) بخاصة إذا نبهنا وعينا إلى العناصر (الصخور والبحر والمياه) عناصر ملحقة بالأرض وهي من مكوناتها (فيزيائياً) وتُحَمَّلُ الأرض في المفهوم الترميزي الأدبي الحديث محمولات نفسية وفكرية وروحية، إضافة إلى كونها رمزاً نضالياً في عُرف الأدب العربي الحديث وأخص منه الأدب الفلسطيني نظراً إلى خصوصية الظرف السياسي للقضية الفلسطينية كما أسلفت لذلك نجد الأنواع الأدبية الحديثة جميعها خاصّاً منها الشعر قد تناولت موضوعة الأرض وجعلتها رمزاً شعرياً ثابتاً اطمأنت دلالات كثيرة من دلالاته وأصبحت كالمصطلح الرمزي تمتد إليه مرامي الشعراء، وكذلك نجد هذه الموضوعة سائداً (أيديولوجياً) في كثير من الخطابات الروائية العربية، وقد أنشئت حولها دراسات متعددة متفاوتة في العمق والحجم.
وتظهر مقولة (الأرض) في السفينة ذات أفق نفسي يقوم بوظيفة العمود الفقري الذي يربط بين أجزاء الخطاب النفسي، وذات أفق ترميزي أيضاً يؤلف التبئير المركزي لمقولات السفينة الترميزية ذات الوظائف والمرامي الأيديولوجية: ((الأرض هي السر في حياتك مع لمى أو بغير لمى، ستجرك الأرض عودة إليها من جديد مهما فعلت أينما ذهبت، لمى هي التراب الزرع الماء، إنها الأرض مهما تصورت، مهما فشلت في الإمساك بها بيديك رغم كل فلسفاتها)) ص84.
((الأرض؟ قلت: تهمك لأنك نزحت عنها مكرهاً، ألا ترى يا وديع أن حرمانك ليس جنسياً بل أرضياً، المحرومون من المرأة لايكفون عن الحديث عنها، وأنت محروم من الأرض..)) ص84.
(((1/106)
ولكنني قضيت هذه السنين كلها مصراً على الخروج منها أعني الأرض أجمع الفلس إلى الفلس من أجل نور عينيها، أنا انتهت غربتي أو كادت، لقد نقلت أموالي إلى القدس واشتريت أرضاً واسعة في قرية قرب الخليل.. وسأتزوج حالماً أرجع، لكي أجمع بين المرأة والأرض)) ص84.
على الرغم من الحرارة اللغوية والعنف الشعوري الظاهرين الذين يتوجه بهما (وديع عساف) الفلسطيني نحو الأرض نلاحظ أن هناك هشاشة بل تميعاً عاطفياً في تعبيريته، إلى درجة الدنو من السذاجة الطفولية فكأن التعبير عن الرصد الشعوري الداخلي تأدى ضمن محفوظة لغوية جاهزة، وهذه المحفوظة جاءت نقلاً حرفياً لمقولات (شعرية) رددها كثير من الشعراء وانتبه إليها دارسوهم (علاقة الأرض بالمرأة) في روح الشاعر أو الفنان أو المبدع.
ويتوضح حلم العائذ الفلسطيني بالعودة إلى الوطن على أي حال من الأحوال: ((أقسمت أنني سأعود. بشكل ما. غازياً أو متلصصاً، أو قاتلاً ولو قتيلاً على صخرة)) ص71.
ويبدو أن (وديع عساف) لم يتوصل بعد إلى الحل النهائي حل العودة ومازال يُناقش القضية من منظور مقلقل وهذا ما توحي به الألفاظ (غازياً، متلصصاً، قاتلاً) فهل الذي يدافع عن وطنه ويناضل من أجل العودة يدعى غازياً أو متلصصاً أو قاتلاً؟(1/107)
ويستحضر الخطاب الرصيد الثقافي لمنتجه ويتكئ إلى رمزية تناصية خطابية، (يوليسيس) ومعاناته في سبيل عودته إلى وطنه: ((لابد لي من عودة إلى الأرض، يوليسيس كان أبرع منا في الإبحار والتجوال ولكنه مثلنا، إنما يهرب ليبلغ في النهاية ما يستطيع أن يغرز فيه قدميه ويقول: هذا ترابي، ألم تخبره الفاتنة، كالبسو، وهو في أمس حاجته إلى الراحة من وعثاء السفر وويلاته، بين البقاء في الجزيرة معها خالداً كالآلهة وبين عودته بشراً فانياً إلى أرضه؟ غير أنه رفض الخلود واختار العودة إلى أرضه، سترى مها ذلك ولا ريب؛ فلتكن جاكلين أو أية امرأة أخرى (كالبسو) ثانية، الفناء مع الأرض في النهاية أطيب وألذ وأعمق...
حالما ترى مها ذلك سينتهي الفصام بينها وبين ما أحب سيتحد الشقاق ثانية كما يجب أن يتحد. سأحملها إلى أرضي وأحرث كلتيهما)) ص225.
يحقق الخطاب في هذا النص نجاحاً في استخدامه للتناص (الملحمي) وفي أدائه الخطابي خاصة في المزج (السيكلوجي) والروحي والرمزي بين الأنثى (الأرض) والأنثى (المرأة) ونجح لغوياً في استخدام الفعل (أحرث).
الوطن ذاكرة في المنفى:
يحمل الفلسطيني وطنه، كما رأينا في مقولة الأرض، بين طيات روحه وفي كل خلية من خلاياه؛ لذلك تعاوده بين وقت وآخر ذكريات وطنه: ((إن الليالي قد تأتيني بذكريات من القدس فأحزن وأغضب وأبكي، كنت مرة في فندق في الشام عندما فوجئت بمثل هذه الذكريات فبكيت، ورآني رجل أعرفه، فجاء يسألني ما الخبر... فقلت أبكي على أبي وأمي وإخوتي، وما عدت أعرف الخجل)) ص18.
وتستحضر الذاكرة بعض مفردات الحياة وأشيائها في الوطن: ((مياه حسبتها بحراً، ولم تكن أكثر من مجرد بركة تتجمع فيها مياه أمطار الشتاء خارج سور القدس- بركة السلطان- أقف على صخرة فيها انحسر الماء عنها وانظر إلى المريجات التي تخلقها الريح حولها في المياه الخضراء فأرى الصخرة تمخر فيها كما تمخرُ سفينتنا هذه المياه المتوسطية الزرقاء)) ص20.
(((1/108)
ما أقل ماكان يكفينا للمتعة تلك المشاوير في شارع يافا أو في متاهات الصخر والزيتون المحيطة بالمدينة)) ص22.
الفلسطيني في التيه: يتحول الفلسطيني بين المنافي مغترباً عن إحساسه بمأساته وبأزمته الإنسانية الروحية وينتبه إلى ذلك فيحس بالمفارقة والخيانة والخديعة التي يمارسها، فيقوم ضميره بمحاولة ضبط تيهه الداخلي بالتبكيت وبسبب هذه الازدواجية: ((أكاد أشعر أحياناً أنني أخادع البشر، أو أخادع الله، إذ أستطيع السفر من قطر إلى قطر، ومن قارة إلى قارة، وأستطيع الاهتمام بما يجري حولي وأستطيع الضحك بملء حنجرتي كأنني مازلت واحداً من هذه الملايين التي لم تدخل الجحيم والتي لو رأت الأمر المدون على بوابته لارتعدت خوفاً.. أضعت أرضي في القدس، واكتسبت مكتباً للاستيراد في الكويت، نفيت عن جذوري وكوفئت على نفيي بالبيع والشراء)) ص39و40.
بعد أن يدرس الفلسطيني وضعه في ضوء قانون الربح والخسارة يجد أن خساراته كثيرة وأنه لن يرضخ لهذا القانون: ((أنا مقامر عريق لا يأخذني (البلف) بسهولة خساراتي كثيرة، ولكنني لا أقبلها لم أقبل إخراجي من القدس بالرصاص والديناميت، لم أقبل رؤية فايز يتضرج بدمه بين يدي، لم أقبل التنقل من بلد إلى بلد بحثاً عن لقمة عيش مزرية، عن سقف أقيم تحته أبي وأمي)) ص45.
بذلك يتحدد موقف الفلسطيني من الواقع من العالم، الموقف الرافض ويتحدد الإنسان بموقفه النفسي المقاوم على الرغم من أنه في الواقع التنفيذي غير قادر على الفعل.
الفلسطيني في “البحث عن وليد مسعود” الفلسطيني المُخَلِّص(1/109)
يتمحور الخطاب في هذه الرواية كلية حول الفلسطيني “وليد مسعود” الذي يُعْلن باختفائه (وجودَه الرمزي) ويجعل جميع من حوله يبحثون عن أنفسهم في البحث عنه ويحددون مصائرهم وفق هذا البحث وقد يكون جبرا إبراهيم جبرا بالَغَ في هذا قليلاً أو كثيراً، وما يهمّنا هو البحث في موازاة الفعل الرّوائي للفعل الواقعي، وإذا بحثنا تفصيلات هذه الموازاة، فإننا لن نجد المبالغة المُتوهّمة في الرّواية بل الواقع أكثر الأحيان متقدماً؟
في مجرياته على التصوير الروائي مهما يحاول الامتداد الروائي أن يتوسع أفقياً أو عمودياً.
? لذلك كله فإن ((كل شيء ممكن بخصوص هذا الرجل)) ص376 الفلسطيني، لأن واقعه الذي يعيشه مفتوح على كل إمكانيات العالم:
الإمكانية الأولى: الفلسطينيّ المقاوِم- تفريعة أولى؛ العائذ بالحُلُم: تعود هذه المقولة للظهور في (البحث) وقد رأيناها في السّفينة لكنّ ظهورها هنا يتخذ منحى مختلفاً حيث تتوضح معالم الحُلُم ويتوحّد متقدّماً عنه في السّفينة؛ فقد رأينا حُلُمَ العودة مرتبطاً بألفاظ غير نضالية وغير نبيلة في (السفينة) عند (وديع عساف) (كالتلصُّص والغزو) ونراها هنا عند وليد مسعود رؤية نضالية يؤمن بها الفلسطيني ويؤمن بأن الفعل خارج الوطن بعد أن خرجت الحلول في (المؤتمر التجريبي السفينة): ((أتمنى عندما يتحقق لي الفعل في وطني )) ص193.(1/110)
وهذا الفعل (الحُلُم) الذي بنى جبرا خطاب الرواية كاملاً عليه (بحث وليد مسعود عن الفعل في وطنه) هو الاستشهاد في سبيل حياة مدينته وشعبه وهنا نجد رؤية إيجابية للمدينة، لأن زاوية التناول مختلفة عما رأيناه في مبحث الذات والآخر: ((آهِ فَلأَمُتْ إن كان لك بموتي أن تحيَي يا مدينتي، يا أوغسطين قرطاجة، ماالذي كنتَ ستقولُهُ لو علمتَ؟ شعبي الأعزل يقتلونه ويقتلعونه، وينسفونه، ويبعثرون أشلاءَه عبر وديان الأرض وجبالها، فلأُقْتَل، ولأُنْفَ بعد ذلك، تهاوت الجدران وتعالى الصراخ، والمطر ينهمرُ وأفواه القِرَبِ تتقيأ أحشاءَ السماء بمجموعها على المدنية المُجرَّحة المسكينة، المدينة المشقوقة المُنتَهَكَة في المطر والليل... جزعت على أخي القتيل وجزعت على أهلي القتلى وجزعت على صحبي وأمتي وجزعت على من قُتِل في تلك اللحظات ومن سوف يُقْتَل)) ص242.
وتلعب فلسطينيّةُ الفلسطيني، مولداً وقضية، دوراً مهماً في توصيفه وتصنيفه وفي سلوكه وفعله وارتكاسه على مجريات العالم: ((غير أن جواداً أصرّ على أن خلفية وليد، مولوداً وقضية، جزءٌ هام من الموضوع، الرجل الفاعل... المستعدّ لإلقاء القنابل بل وكتابة المناشير السّريّة وحبْك المصائدِ للعدوّ دون أن يهتمّ بأن يعرف العالم عنه ذلك)) ص349.
ليسَ نضالُ الفلسطينيّ حالة استعراضية يقوم بها من أجل لفت أنظار العالم؛ فهو لا يأبه بأن يعرف العالم عنه ذلك و ((يصر على الاستمرار بالقتال بيده)) ص282.
ويقبض الفلسطيني، بحسّه المقاوم على الوعد (الحُلُم) العودة إلى الأرض: ((لك مني وعد؟ أن أطعمَكَ يوماً من الأيام سمكاً من بحيرة طبريا وأنا وأنت جالسون على ضفتها، ولو بعد خمس سنوات أو عشر سنوات)) ص285.(1/111)
? تفريعة ثانية: الفلسطيني المُخَلِّص: المفارقة التي يُظْهِرها هذا العنوان هي التباين بين واقع الفلسطيني الذي يجعله مُحتاجاً إلى مُخَلِّصٍ وبين طموحه ليكونَ هو ذاته مُخَلِّصَ نفسه ومُخَلِّصَ مجاوِراته الإنسانية العربية، فهو الذي يسعى إلى البناء والرّيادة ويسعى إلى توحيد الأمة وتغييرها بدفعها نحو إيجابيات الحضارة؛ وهو يُفَعِّلُ مأساته التي فجرت وعيه من أقصى الأعماق بالعمل على تحريك الضمير العربي من أجل الحريّة والحب والثورة التي يندرج فيها العربيّ ضمن حركة العالم في سبيل إثبات الوجود والبناء والعطاء: ((جاءت أواخر الستينات بالدليل الملموس، وكذلك أوائل السبعينات؛ فوليد إنما هو ذلك الفلسطيني الرافضّ الرائد الباني، الموحِّد- إذا كان لأمتي أن تتوحد- العالم المُهندس، التكنولوجي، المجدّد، المحرّك للضمير العربي بعنف وليد كما عرفته، كان يرفض القيام بدور لا يتقنه ودوره الأهم هو تغذية الروح الجديدة المبنية على العلم على الحرية على الحبّ، على التمرد على السلفية تحقيقاً للثورة العربية كلّها، والثورة لديه ليست مجرد تغيير طبقي في نظام الحكم أو مجرد وضع لليسار مكان اليمين أو بالعكس. الثورة هي وضع العربي في خضم العالم الكبير وإثبات قدرته على الصمود من جهة وعلى العطاء من جهة، إنه واحد من هؤلاء المنفيّين الذين من مواقع منفاهم يُزَعْزِعُون العالم العربي ليعيدَ النظر في كلّ ما صنع وفكّر، ويملؤون العالم ذِكراً لاسم العربي مهما تكن النعوت التي يطلقها عليه الأعداء الذين تركبهم العقد النفسية تجاهه)) ص322.
إن فحص هذه الفرضية الخطابية في ضوء الواقع العربي أولاً والفلسطيني ثانياً يُظهِر أنها مقولة واقعية بنسبة معينة.
الإمكانية الثانية (الفلسطيني المقاوَم):
1-تفريعة أولى: تصادم الإرادات:(1/112)
وتكون نتيجة هذا التميّز الفلسطيني الإحساس بخطره على عناصر المنفى، ولذلك تبدأ بمقاومته والكيد له، ولكنه في النهاية يستمر في الصراع: ((أينما كان هناك بروز في علم، أو مال، أو فكر، أو أدب، أو تجديد، وجدت ذلك الفلسطيني المنفي: تراه فاعلاً محرِّضاً، منظِّراً محقّقاً لكل ما هو مختلف، أينما كان هناك عمل جريء ينتهي إلى التضحية بالذات وجدت الفلسطيني.. فلا عجب أن يميل عليّ رجل.. ويهمس في أذني: الفلسطيني خَطِر، خطر.. إنهم من الخلف يأتونك يا وليد وأنت لا تجزع، ولا تستدير، ولا تنسى)) ص323.
ويبقى الفلسطينيُّ صامداً يتشبث بالبقاء ويخوض صراعه متنقلاً بين المنافي الخارجية والدّاخلية: ((يريد البقاء واستمرار الصراع، ثم يذهب ويعود يروح ويجيء بين عواصم الدنيا وأراه في داره في دارنا في دار عامر عبد الحميد، في دار جواد حسني)) ص332.
وهو الذي ((جعل من الكثيرين غيره أغنياء، تراكمت لهم حسابات وأسهم في مصارف وشركات في لندن وبيروت وزيورخ ونيويورك، فلسطينيين وغير فلسطينيين، وقنع هو بالقليل الذي حوّله إلى بغداد أو بيروت، كان وليد هو الوسيط بينه (يقصد عامر عبد الحميد) وبين عدد من شيوخ (أبي ظبي)(1) والسعودية وقطر)) ص41و42.
__________
(1) يفضل أن يستعملها اسم علم على الحكاية (أبو ظبي)(1/113)
هذا الواقع (المُتَخيَّل) الروائيّ رصدٌ ناجح يعرض مشهداً واقعياً يوازي فيه واقع الفلسطيني الذي أثرى في بلاد الخليج، ولكنه- لإحساس ما بلا جدوى العالم ولا جدوى الأشياء والملكيات بعد ضياع مُلكه الأعظم (الأرض) -لا يهتمّ بالمال وبجمعه، ومن طرف آخر يمكن أن نرى هذه المسألة إشارة من الخطاب إلى (رجالات الثورة الفلسطينية) الذين نافسوا أكبر أغنياء الخليج، ولكن هذه النظرة تبقى بعيدة شيئاً ما عن مقصد الخطاب إلى خصوصية الشخصية الفلسطينية المتناولة (أديب، كاتب، مفكر، تاجر) وما يستغرب أن جبرا استساغ هذا الجمع بين نقيضين رئيسيين (الفكر الأدب في طرف والتجارة في الطرف الأخر) خاصة، في شخصية مفكر معاصر له رؤيته التثويرية الخاصة ويطمح بأفق إنساني وحضاري عالٍ إلى التغيير والتقدم، ولكنه في النهاية مهما يجمعْ أو يُثْرِ فإنه: ((يبكي ابنه ويعود بنفسه وابنه معاً إلى أمه إلى الأرض التي لم يستطع يوماً أن يكف عن التفكير فيها(1))) ص35.
((وهو يحاول أن يجد الأرض يعيد فيها غرس جذوره، وإلا فإنه لن يستطيع أن يفكر، أن يكتب أن يحقق شيئاً)) ص68.
? ظهرت موضوعة الأرض هاجساً في حياة الفلسطيني في (السفينة) أولاً على هيئة حلم يمكن تحقيقه في ظل الظرف التاريخي إذ كان من الممكن قبل نكسة حزيران عام 1967 أن يعود الفلسطيني إلى الجزء غير المحتل من أرضه وتطورت لتعني (الوجود) وفحواه ومسوغه في (البحث عن وليد مسعود) بعد أن كانت وَلَهاً تخيلياً غامضاً في السفينة.
وقد يكون بين أسباب إحساس الفلسطيني بغربته عن عالمه المحيط وجود عدوين يحاولان نفي وجوده ((الأول العدو (الصهيوني) وعملاء العدو والثاني أعداء شخصيون مدفوعون بدوافع خاصة)) لقد بحثنا في فقرة (صورة العدو) تجليات الأول، والآن نقارب الثاني وفق ما يعرضه الخطاب:
__________
(1) الفعل فكر يتعدى بالباء(1/114)
? بدأت المعركة غير المسوّغة بين الفلسطيني وعناصر المنفى باصطدام الإرادات؛ فإرادة الفلسطيني انطلقت (من منظور التآخي القومي والتاريخي بين العرب) لتقوم ببناء ذاتها وإعداد قدرتها وقوتها في سبيل المواجهة والتحرير؛ لكن هذه الإرادة ربما تكون قد امتدت في احتدامها وانطلاقها إلى ما رأى فيه مضيفوه تعدياً على إراداتهم، فأخذوا يناقشون سلوكاته وينتقدونها: ((إنهم يَتَقوَّلون: ما هذه الأموال التي تحقِّقُها يا وليد أنت وزملاؤك؟ لماذا لا تبقون لتتعفّنوا في المخيّمات، بل تسمحون لأنفسكم أن تتمركزوا في العواصم العربية، وتمارسوا أعمالاً كبيرة تثير حسد الناس، وتنسيكم واجبكم الأوحد تجاه بلدكم السلّيب؟ لماذا لا تحاربون بأيديكم العزلاء الحروب التي تحجم عنها الدول العربية بجيوشها؟ وطبعاً حالما تتحركون سيضربونكم على رؤوسكم وينسفون الأرض تحت أقدامكم.
يعلمون أنكم الوحيدون الذين لا تنسون، وأن العالم العربي بدونكم لن يتحرك شبراً إلى الأمام. المشلولون المُتحجرِّون يريدون منكم الشلل، والتحجّر، يريدون للبركان أن يبلع نيرانه ويدفن في أحشائه حِمَمَهُ)) ص321
2-التفريعة الثانية: رسول التيه:
ظهر الفلسطيني في أحد تجلياته الخطابية رسولاً يذرع آفاق العالم تائهاً مشرّداً كأنما يُبشِّر بخرابه: ((رجالنا يذهبون ولا يعودون، وشبابنا مشتتون، كل واحد في بلد، يفتشون عن لقمة الخبز في مدن هذه الدنيا وصحاريها، وآباؤهم من العوز والحسرة يموتون هنا وحدهم)) ص91.
((أما اللاجئون فيحشدون في منازل البلدة القديمة وفي الأكواخ المُقامة على التلال المحيطة بنا في الدهيشة بين الصخور.. تحت الخيام الممزّقة)) ص91.(1/115)
وتظهر في (البحث عن وليد مسعود) الصورة التي رأيناها في صيادون؛ الفلسطيني يبحث عن أدنى مقوماته البشرية من أجل الحفاظ على البقاء؛ لذلك قام برحلته في أرجاء العالم ليحط على (مزبلة) الإعانات و (إعاشات) وكالة الغوث الدولية: ((ضوضاء وحركة من أجل حفنات طحين الوكالة وعدسها، المهانات تتكرر والشتائم، مسجلو بطاقات وشرطة وساسة تسمع أصواتهم من بعيد يتوعّدون والحياة تجري كيفما اتفق)) ص92.
لكن هذه الصورة تنزاح قليلاً عن وجه الخطاب ويخلق الخطاب لها مُعادلاً تعويضياً بتصوير القدرة الخارقة التي يتمتع بها الفلسطيني ويصور كذلك إنجازاته على مستوى الواقع المُنفّذ:
? الإنجاز الأول، الصمود: لقد استطاع الفلسطيني في زمن محنته الممتد على مدى خمسين عاماً أن يبقى موجوداً في العالم يقاوم ويصارع ويتلقى الضرب والكراهية، ويبقى يُنتج ويعمل ويبني: ((أعظم الحروب تستغرق بضع سنوات، الحرب العالمية الأخيرة، مثلاً والتي قبلها، ثم يعود أصحابها إلى وضع ما، طبيعي منطقي، إنسانيّ بشكل من الأشكال أما بالنسبة لوليد ورفاقه؟ خمسون سنة، خمسون سنة من الصراع، من إِسْعَارِ الحقد، من تلقي الضرب والكراهية من المقاومة العنيدة. أيّ أمّة من التاريخ عرفت هذا الردح الطويل الرهيب من العداء والقتال..، كيف كان لأي فلسطيني في مثل هذا الجو المرير القاحل الفاجع أن يفكر ويعمل ويبني ويكتب وهو يقاوم العتاة والأقزام والمتجبرين أينما توجّه...)) ص82و83.
? الإنجاز الثاني: الفعل في الواقع : ((ومع ذلك.. قاوم وأنتج، واستولد أفكاراً، وترك أثراً سيشغلنا تحديد أبعاده... ما هذا التناقض أين التفسير؟)) ص83.
? الإنجاز الثالث: السّعي للآخرين: ((تطوّح كالمجانين بين العام والخاصّ، بين التزام الذات والتزام الآخرين ورأى أن السعي للآخرين يكون بتحقيق السعي الداخلي نحو كل ما هو عميق وجياش ومُزلزل وهادر)) ص84.(1/116)
تُخْتَتَم صورة الفلسطيني في الخطاب بتلخيص بؤري لمأساة الفلسطينيّ المولود القسري من التزاوج القسري بين عناصر متباينة، بين الوطن وما يعنيه في ذهن الفلسطيني، والمنفى وما يعانيه الفلسطيني منه، بين رؤيته للعالم و واقع العالم، بين طموحه والإحباطات وانكسار الأحلام.
((لقد كانت مصيبة الفلسطينيّ لا النفي عن مسقط رأسه، فحسب بل الصعوبة المفروضة عليه في التنقل من بلد إلى بلد، ورصده رصد المجرمين من أجهزة أمن لا تحصى أنواعها. وما من حكومة عربية إلا وتصرخ بالوحدة وتضع في الوقت نفسه ألف حاجز بين قطرها والقطر العربي الآخر)) ص110.
? لم يكتب جبرا إبراهيم جبرا رواية الفلسطيني بل إن الرواية العربية كلية لم تستطع إلى الآن موازاة (الحدث الحضاري) الفلسطيني الذي يشكل الحدث الحضاري العربي والعبء الإنساني والسياسي والاقتصادي الذي يقف في وجه تكون العربي ووجوده وإحساسه الطبيعي بالعالم بالحضارة غير أن هذا لا ينفي عن جبرا اهتمامه العميق بمأساته (فلسطينياً) لكونه منتمياً مباشرةً، و(عربياً) طامحاً إلى وضع أمته في مسيرة التنافس الحضاري بين أمم العالم.
(((
الفصل الثالث
مبحثُ الذاتِ والآخر
الأزمة الحضارية: وعي الذات وعي الآخر في الخطاب:
? مقدمة: أي مفهوم مفهوماً مطلقاً يتحرك ضمن فضاء الأحادية الفلسفية مالم يُقرن أو يقارَن، ليتحول إلى مفهوم انتسابي بالاقتران، أو إلى مفهوم نسبي بالمقارنة، وبهما معاً تتحدد فحواه ووفقهما يمكن النظر إليه من جميع جهاته وجميع أبعاده.(1/117)
إن مفهوم “الذات” ذو مستويين تكوينيين، بمعنى أن أحدهما مكوِّن طبيعي للآخر، فالمفهوم الذي يُدرس في مستوى العلاقات الفردية داخل الكلية الاجتماعية، أي الذي يُدرس في مساحة دور الفرد وعلاقاته الداخلية المشكِّله لبنية التكوين الاجتماعي ويمكن إطلاق مصطلح “الذات الفردي” على هذا المفهوم. ويشكل المفهوم الثاني، وهو نقطة الاهتمام في بحثنا، مفهوم “الذات الجماعي” الذي يكوّن بتآلفه وحدة كلية، وحدة أمة، وحدة تكوين اجتماعي متجانس يقوم بدور حضاري في مسيرة التاريخ والعالم.
اتكاءً على ما سبق، لا يمكن فهم الذات كلاً اجتماعياً إلا في استيعائها ضمن النسبية أو الانتسابية وهما مستويان محددان، سيدرسان كل في انتمائه إلى سياقه الذي يضطره البحث.
النسبية: تقتضي النسبية أن يرى المصطلح “الذات” مفحوصاً بسؤالات “الآخر” لأنه مصطلح يستدعي حتماً، مصطلح “الآخر” وذلك وفق حتمية استدعاء الضد أو المتراسلات بعضها بعضاً. ويمكن الانتباه أيضاً إلى أن “الآخر” مفهوم مزود بمعنى يفضي إلى أنه يعني الكلية الاجتماعية الأيديولوجية والحضارية المجاورة للذات في المكان والزمان بمفهومهما الواسع.
وتظهر هذه النسبية على مستويات متعددة ومتنوعة من العلاقات، إذ ليس ضرورياً أن تكون النسبية هنا التضاد، ولكن قد تتمظهر على شكل توازٍ حضاريّ أو تداخل وتقاطع وتحاور أو اندغام أو مجرد تراسلٍ وتجانسٍ.
تسهيلاً للتناول والدراسة سنبيّن مكونات هذه الموضوعة الخطابية “الذات الآخر” وفق ما يلي:
1-الذات في وعي الذات ((الصراع الحضاري الداخلي)).
2-وعي الآخر والمواقف المتباينة منه.
3-الذات في منظور الآخر ((تبادل المواقع)).
1-الذات في وعي الذات: ((الصراع الحضاري الداخلي))
الانتسابية:(1/118)
إن مقاربتنا لوعي الذات عملية تحتاج إلى إدراج القضية ضمن سياقها التاريخي والأيديولوجيّ، إذ لابد من العودة بها أو إرجاعها إلى عمقها الذي يحدّده هذا السياق، لأنّ هناك استمراراً سببياً في حركة التاريخ المادية يُفسّر الظواهر اللاحقة اعتماداً على الظواهر السابقة.
بإجمال وباختصار يمكن القول: إن الحضارة العربية بتاريخها الطويل وأحداثها المتباينة بين طرفي القيمة (الأمجاد- الانهزامات) قامت بصوغ وعي الذات المعاصر وفق مجريات واقعها وعالمها الفائتين، سواء في ذلك ما هو حضاري وما هو ثقافي وما هو فكري واجتماعي. وما هو في النهاية سياسيّ، ولكنَّ هذا لا يعني أن التاريخ الفائت المنقضي هو المحدِّد الوحيد لآفاق المستقبل، إذ تضاف إلى كونه أحد المحددات الرئيسية محدِّدات أخرى آنية معاصرة ستظهر في بحثنا حول مستجدات العالم المعاصر وحول مفهوم النسبية (الآخر في وعي الذات، والذات في مفهوم الآخر).
رؤية الذات: ((الأفق الحضاري))
1-صراخ في ليل طويل: “البحث عن بدائل”
ينفتح الخطاب على هذه المقولة بمناقشة اختبارية للتحول الذي طرأ على البنية الحضارية للمجتمع العربي، ويعرض رؤيته للذات ضمن فرضيّة التقدّم والتّطوّر، ويناقش هذه الفرضية متكئاً على تحليل مجموعةٍ من القيم التي تنتمي في عُرْفِهِ إلى الفرضية الرئيسية التي يطرحها.(1/119)
-القيمة الأولى التي يحللها الخطاب: الانحياز نحو أحد مكوني الإنسان “الروح والجسد” تحت عنوان التقدم والتطور، ولأن الرؤية التقليدية (أي السائد في العالم) هو تغليب الرّوح بتأثير من طبيعة (النفس) الحضاري وبتأثير من التراث الغيبي (الديني سواء أكان المسيحي أو الإسلامي) والغيبي (الذي تراكمه الذاكرة الحضارية الشعبية)؛ فإن التحول عن هذا السائد لابد أن يكون إلى النقيض الأيديولوجي أي إلى تغليب الجسد على الروح والاستعداء على الرؤية السابقة، وهنا ننتبه إلى موازاة في الدلالة بين الخطاب، والواقع في فترة الانقلابات الجذرية في التوجه إلى القيم وطرحِ النقائض دائماً بدائلَ أيديولوجيةً، الفترة التي كان فيها مجتمع المثقف العربي يتفتح على ذاته أولاً، ثم على العالم ثانياً، ولكنّ هذا التحوّل، بل التساؤل التجريبي حول القيم مشروط بمجتمع المثقف، فالفترة التي كتبت فيها الرواية لم تكن تسمح بتحوّل إيديولوجي شامل على مستوى الكليّة الاجتماعية: ((لقد اكتفينا من القرون المظلمة التي كان يعد الجسد فيها عدواً للإنسان: لقد حان لنا أن نجعل الروح عدوّنا إذا كان التقدم الآلي هو الذي يؤكد على الجسد؛ فأنا من دعاة التقدّم الآلي، إني أضيق ذرعاً بكلّ ما هو متأخّر حيثما يفتقد المرء التقدم الآلي، يجد الفقر والقذارة، ومكافحة المَرْءِ فقره تشغله عن جسده، إلا ما كان غريزياً حيوانياً فيه، فيكسو كفاحه بثوب من الرّوحانية، ويعظّم فقره بعباراتٍ دينيةٍ، ويموت أخيراً ميتة الحيوان من الجهد والإرهاق، دون أن يعرف دقائق الحسِّ واللذة))(1).
__________
(1) صراخ 37(1/120)
يتخذ مفهوم التقدم والتأخر دلالة زمنية صِرْفاً تعتمد في التقسيم خطيّةَ الزمن الأفقية، وفي مستوى آخر يناقش الخطاب مفهوم التقدم برصد نتائجه السلبية، بل يَعُدُّه مصدر انهيار القيمة الرّوحية؛ لأنه خَلَقَ الفراغ في حياة العناصر الاجتماعية؛ لذلك فنظام العالم الجديد، بمفهومه المتقدم، ضدّ الإنسان وضدّ قيمه الرّوحية ومفهوم الإنسان ومكوناته في عالم الشرق هي القيم التجريدية التي تُعَدُّ ملحقاتٍ مكملةً لعالم الرّوح، فالموازاة الخطابية الثانية تُظهر الرّدّ النقيض على مقولة استعداء الجسد: ((والفراغ عدوُّ الله. إنه من ملحقات الثروة والتقدم، والنموُّ الروحيُّ لا يصاحب هذا أو تلك إلا نادراً))(1).
__________
(1) صراخ 37(1/121)
إذاً؛ فالتقدم ضرورة مادية، بل حدث ماديّ في حياة البشرية لذلك لابدّ من الانصياع الطوعيّ لقانون التطور وإعطاء الجسد قيمة القانوية المتسقة مع طبيعة التطور، لأنه التّجلّي المادي (للإنسان) وفي الطرف النقيض القانون التقليدي الموروث الذي يجعل الإنسان تجلياً روحياً تجريدياً وحسبه، وفي مثل هذا التعارض الفكري تنشأ مناظرة في القيم، مناظرة اختبارية يبدو أنها لم تنتهِ على مستوى الواقع المرجعي، إذ يُسْتَشف ذلك من الحوار الذي يقترب من الاستعراضية الذهنية للأفكار، ومن خلال تعدّد المصادر المتناقضة، فهي ليست حدّين يمكن الاستنتاج الواضح من تعارضهما وإنما هي مجموعة حدود أقلّها ثلاثة والثالث في مثل هذه القضية محاولة للمصالحة، بل للبحث عن معادل ثالث للمفاهيم وربما يكون هذا المعادل هو التمخّض الذي انجلت عنه عملية الصراع بين القيم، وإن كان مازال في بداية تبلوره، ولم يحقق بعد وعيه النهائي ولم يتوصل إلى اطمئنانه الواقعي؛ لأنه يفتقر إلى وعي نستطيع أن ندعوه (وعياً حديّاً مطلقاً) وفحوى المُعادِل الذي يتمخّض في واقع الخطاب، رؤية العالم رؤية موضوعية شمولية، والبحث فيه بعلمية بعيداً من الرؤية التقليدية الجانبية: ((إنك تخلط بين الثّقافة وبين التقدم، بين إرهاف الحسّ وبين المال، فإذا كان التقّدم بالآلة واختراعاته يتيح لنا متسعاً من الوقت للعناية بالجسد؛ فإن ما أخشاه هو ألا تكون إلا عناية سلبية، يطلب فيها المرء اللذة من الخارج وهو مستسلم لها، دون إعمال مواهبه إلى أن يصاب بذلك المرض الرهيب: الضَّجَر، والضَّجَر بدوره يعطل الجسد فيقع المرء في دائرة خبيثة.. ويقول: سئمت الشرب، وسئمت الكتب، سئمت النساء، سئمت السّينما.. غير أنّ اليد هي التي تخلق وسواء أكان خلقها خندقاً، أم شجرةَ تفاحٍ، أم تمثالاً فإنه خلق عضليّ.. وهو منقذ الإنسان الوحيد)) ص38و39.(1/122)
ويرتبط مفهوم التقدم بالمدينة وتبقى مقولة الجسد والروح هي المقولة التي تفحص هذا المفهوم وتُتخذ مثالاً تحليلياً له، وتتوصل عملية الفحص هذه إلى جزء من مقولات سابقة عرضها الخطاب في سلبية نظام التقدم المدني الذي يفقد الإنسان بعديه: المادي والروحي، ويثبت الخطاب بل يبرهن على مقولته بإعطاء أمثلة عن مقاربة الواقع: ((أيُّ هذرٍ هذا الذي يتفوه به أهلُ المدن يتحدثون عن ملذاتِ الجسد وهم لا يعرفون منها عُشْرَها؟ لقد فقدوا ما كان لديهم من عزيمة روحيّة ففقدوا بالتالي حيويتهم البدينة، وليس ما تبقى لديهم إلا حثالة من الطاقة إذا قيسوا بأبناء القرى وبعض الفقراء. فبالإضافة إلى ما عند هؤلاء من النشاط العضلي يكادون إذا ما فكروا في الله أن يبلغوا حدَّ التصوّف)) ص 39،40.
يُعيد الخطاب، ضمن حوار التضاد والتناقض، المقولة إلى أسباب ندعوها بتحفظٍ (طبقية) كما فعل في البداية عندما عرض التقدم مجاوراً للطبقة التي تمتلك الآلة و (التأخر) (في مصطلحه) جعله مجاوراً للبطقة التي تمتلك القدرة على اختلاق المعوّضات عن التقدم الآلي بالروحانية وتعظيم فقرها بعبارات دينية، ولكن العودة الآن هي محاولة للبحث عن إنصاف طبقي ودحض للمقولة السابقة من خلال منطقها ذاته، فإذا كان التقدم يصرُّ على الجسد، والمدينة بتكوينها قد تبنت التقدم الآلي؛ فما منجزاتها التي منحتها للجسد؟ لاشيء! لقد أفقدت الإنسان ما كان لديه من عزيمة روحية فأفقدته حيويته البدنية.(1/123)
إن الخطاب يعزل مقولة (التقدم والتأخر) عن سياقاتها ويتناولها دون مرجعية اجتماعية أو مرجعيّة تاريخيّة أو البحث عن خصوصية المقولة في المجتمع العربي؛ فهو يدرسها، بل يتناولها تناولاً آنياً في الفهم والتفسير؛ فالمرجعية الاجتماعية، وخاصة الفهم الطبقي لتكوين الكلية الاجتماعية، هي التي توضح مفهوم التفارق الذي يعرضه الخطاب في المجتمع، إنه يُحَمِّل التقدّم المسؤولية المطلقة عن التفارق (الطبقي) غير منتبه إلى أن الطبقية التي تمتلك وسائل التقدم الآلي هي المسؤولة عن هذا التفارق، وهي التي تكرّسه، ولكننا لا نستطيع أن نحمّل الخطاب عبء هذا الوعي، لأنه ينتمي إلى مرحلة تاريخية ربما لم يكن قد تبلور فيها المفهوم الدقيق للوعي الاجتماعي الطبقي: ((وهكذا هجرنا التلال والوديان والكروم، إلى الحيّ المظلم بما فيه من بيوت كالقبور ومراحيض فائضة وهواء ملوث، فشاهدت التقدّم من الأسفل شاهدته غريباً عنه، ثم ضحية له، أيّ تقدم وأيّ معرفةٍ لملذات الحسّ فبعد أن قضيت السنين أقرأ الكتب على ضوء مصباح النفط، أنام أوّل الليل ثم أفيق في الساعات الأولى بعد انتصافه، وقد هجع الحيّ، لأعود إلى مصباح النفط والمطالعة من جديد)) ص40.
يتوضح من هذا النص أن الطبقة التي تمتلك التقدم الآلي هي التي تمنع انتقاله إلى الطبقات الأخرى حتى ولو انتمت معها إلى المدينة ويبقى الانتماء مكانياً وتحتوي المدينة من جديد النقيضين (التقدم والتأخر) (بمفهوم الخطاب) وتفقد المدينة وحدانية التصنيف والتوصيف وتضاف إليها دلالة جديدة وعناصر تكوينية أخرى وتنتفي المساواة بينها وبين التقدم، لذلك يبحث الخطاب عن مخرج من هذا التناقض من أجل الوصول إلى الصورة النقية للمساواة.
المدينة=التقدم أو التقدم=المدينة(1/124)
ويكون ذلك بالإبداع والخَلْقِ والحركة التي تنتجها الأذهان الصحيحة؛ لأنها تمنح عندئذ نقاءها وصحتها للمدينة: ((إن المدينة في حاجة إلى أذهان صحيحة دينامية تخلق وتبتدع، فتفعل في حياتنا فعل الشمس والهواء)) ص64.
? ويتوجه الخطاب إلى قيمة أخرى ليعالجها ويبين- وفق وعيه التاريخي- آثارها ودلالاتها في المجتمع العربي ومدى ارتباطها بمفهوم التقدم والتأخر بشكل استنتاجي ويرصد الانحياز نحو أحد مكوني الزمان الحضاري ((الماضي والمستقبل)) والقيمة الأولى التي يحللها القيمة التقليدية، بل التي تحولت إلى تقليد في الحركة الاجتماعية والحضارة العربية، ورؤية الاستلاب والانكفاء إلى الماضي (المفترض الحضاري الإيجابي) بكل قوة، وعدم الاكتفاء بذلك وإنما الامتداد بهذه الرؤية إلى تسخير الراهن بكل حرصه وضبطه وفق إيقاعات هذا الماضي وتجاوز حركة الراهن في طموحه ونزوعه إلى المستقبل وهي بذلك حرب على المستقبل سواء أكانت حرباً واعية أم حرباً عمياء، فعنايت سليلة الأسرة الإقطاعية تغلق عالمها الرّاهن على الماضي وتقوم بمحاولةٍ فاشلةٍ من أجل ترهين الماضي، وذلك بكتابة تاريخ أسرتها بكل تفصيلاته وتمفصلاته وتَنْذُرُ حياتها وتُغَيِّب أنوثتها من أجل ذلك: ((لم أعرف في حياتي شخصاً مثلها يضحي بنفسه ويمحو شخصيته من أجل مجد أسلافه منذ أن وعيت وجودي.. لا أذكرها تفكر في شيء إلا آل ياسر، آل ياسر والفاطميون، آل ياسر والعثمانيون، آل ياسر ونابليون، آل ياسر ومحمد علي باشا)) ص78.
ثم يتدخل الخطاب في طرح سؤال مهمٌ على مسيرة ترهين الماضي، فحوى هذا التساؤل أنه ((هل من المستغرب أن يعنى الإنسان بتاريخ أسلافه؟)) ص78. هذا التساؤل تدخل تصحيحي أو محاولة للإجابة عن إشكالية التساؤل الأول حول الاستلاب، إنه محاولة لتجاوز كلية السلب التي طرحت في التساؤل الأول، وهو سؤال محمّل بقدرة وعي إيجابية تريد وعي الماضي وليس بالاستلاب وإنما (بالعناية).(1/125)
وتبقى السّمة التي تحدثت عنها في الانتقال إلى النقيض الأيديولوجي مستمرة في الخطاب ويأتي النقيض ليلغي نقيضه هنا أيضاً في معرض هذه القيمة.
وتأتي ركزان أخت عنايت لتنسف كل الاهتمام بالماضي وتغلق عالمها الراهن دونه بحثاً عن المستقبل النقي من أي شائبة من شوائب الماضي، ويكون الرَّاهن مرحلة الانتقال بين الماضي (الفائت السلبي) والمستقبل (الآتي المفترض الإيجابي).
((كان التفكير في هذا الأمر في الماضي يزعجني، أما الآن فإنني أَمُجُّهُ وأُبْغِضُه ولا تَظُنَّ أنني أجهل الحجج التي قد تحاول بها أن تدافع عنه: خطورة التاريخ، تفصيل الوقائع، الاستنارة الذهنية، العزة الوطنية، القيم الثقافية، ولكن لن يهمني شيء من ذلك بعد اليوم، فقد تسمم ذهني بعدوى من عنايت، فسمحت لنفسي مثلها بالسقوط في حفرةٍ من الماضي تلتهمني: غير أنني كافَحْتُ وصارَعْتُ، إلى أن شعرت ساعة موتها بأن الحفرة تلفظني فأعود إلى الحاضر إلى الحياة إلى الحياة.. أقترح أن أحطم الماضي)) ص79و80.
((يجب أن نقضي على بقايا الموتى قبل كل شيء)) ص86.
إن وعي الخطاب لمقولة تحطيم الماضي يتمتع بعمق استثنائي إذ يفترض أن هذا التحطيم للماضي في جزئه السلبي يأتي من داخله وربما يمتد هذا الوعي إلى الرمي إلى مقولة اجتماعية طبقية دلالتها أن الطبقة الإقطاعية التي تنزع إلى إحياء ماضيها الذي يشكل السلب في النزوع إلى الماضي، يأتيها التحطيم من داخلها ولكن هذه الثورة على (الماضي الإقطاعي) تأتي متأخرة ولا تكون إلاّ بعد انتهاء ممثلة الدعوة إلى الماضي (عنايت).(1/126)
وخاتمة هذا الصراع بين الماضي والمستقبل تكون لصالح المستقبل النسبي، فالخطاب لم يوضّح المنتصر الحقيقيّ بدقة، وعرض الماضي على مستويين الماضي الأول هو ماضي (آل ياسر) وقد تحطم وانهار على يدي ركزان والماضي الثاني هو راهن أمين (محور الخطاب)، وهو الذي يتمثل في حبّ أمين سلافة بنت سليمان شنوب البورجوازي، إذ يقوم أمين بالعمل في مخزن ((سليمان)) قبل أن يعرف ابنته ويترك العمل بعد ذلك ثم يلتقي سلافة مصادفة ويحبها ويتزوجها بعد صراع مع والديها يؤدي بهما إلى الزواج رغماً عن الوالدين، ولكن سلافة بعد فترة وجيزة تهرب من بيت أمين دون أن يدري عنها شيئاً، وتعود بعد سنتين من الغياب ليجدها، فجأة أيضاً، تشاركه فراشه، فيقوم بطردها والتخلص من هذا الماضي، ويحرص الخطاب على (التوازي الزمني) و (التوازي الموقفي) بين موقف ركزان من ماضيها وموقف أمين كذلك ففي اللحظة ذاتها التي تقوم فيها ركزان بتدمير قصر آل ياسر يقوم أمين بالتخلص من سمية التي تعني ممثلاً لطبقة اجتماعية معينة.(1/127)
نستشف من هذه المسألة أن رؤية الماضي التي ينفيها الخطاب أو يستنكرها هي الرؤية التي تعتمد الانهزام قانوناً وتعد الاستلاب للماضي نظامها الرئيسيّ، فالماضي الأول لابد من أن ينهار؛ لأنه لا يتوافق مع سيرورة العالم سيرورة التاريخ، والماضي الثاني (الذي يشكل راهناً بالنسبة إلى الماضي الأول) لابدّ كذلك من أن يتحطم؛ لأنه قائم على تعارض في القيم، وهو نتيجة قسريّة لمحاولة دمج هذه القيم المتعارضة، وينغلق الخطاب على طروحاته السابقة تاركاً خاتمته دلالة مهمة على مراميه وامتداداته وطموحاته التي كان يؤسس لها ويرمي إليها من وراء انفتاحه: ((كانت شوارع المدينة تمتد وتتشعب أمامي تملؤها جموع الناس، ولم يكن من العسير عليّ، حين حدقت في عيونهم أن أدرك أن الكثير منهم كانوا هائمين على وجوههم كما كنت هائماً لسنتين مديدتين يبحثون عن نهاية لليل طويل بل وبداية لحياة جديدة)) ص104
رؤية الآخر في صراخ في ليل طويل:
إن مقولة التقدم والتأخر التي طرحها خطاب (صراخ) مقولة نسبية بمعنى أنها لم تكن لتوجد لولا نسبتها إلى مفهومات خارجة عنها بل بدقة أكثر، لولا نسبة المجتمع الذي أنتجها إلى حضارة أخرى؛ لذلك كان مقولة حتمية الظهور في مرحلةٍ مثل مرحلة (صراخ)، إذ بدأ الانتباه إلى المفارقة الحضارية الهائلة بين ما سُمّي بالعالم المتقدم وما تعانيه (الذات) من تأخر، وحدثت صدمة عظيمة للوجدان العربي بعد اصطدامه بالقوة الجبارة للغرب، وهو لم ينس بعد، على الرغم من قرون الظلام التي عاشها قبل هذه الحقبة، أنه يشكل أفقاً حضارياً قائداً ودافعاً بمسيرة التاريخ إلى مطامحها.(1/128)
تناول خطاب جبرا هذه المقولة مقولة برهنة وتمثيل وهي مسوقة في سياق غير مقصود لذاته تطرح مفهوم التقدم والتأخر في مستوى التفارق الاجتماعي بين الطبقات فالأجزاء الفقيرة (متأخرة) والمتقدمة هي التي تمتلك الآلة تماماً كما حدث في رؤية الذات، والخطاب يعمد إلى الفصل الحاد بين عنصري المجتمع (طبقات سفلى متأخرة) ويتهرب من التسمية الأخرى(الطبقات العليا المتقدمة) ويمعن في وصف الطبقات الأخرى بالأوصاف الهجائية (سفلى، متأخرة) على الرغم من أنه يوحي بالتعاطف معها لأنها مصدر إنتاج للإبداع والمبدعين.
ويوحي إضافة إلى ذلك باجتناب التعاطف مع الطبقة التي تعتمد في تسيير حياتها على ضغط الأزرار: ((غير أن اليد هي التي تخلق وسواء أكان خلقها خندقاً، أم شجرة تفاح أم تمثالاً فإنه خلق عضلي... وهو منقذ الإنسان الوحيد))
أما في العالم المتقدم فالظاهر أن ذلك الضرب من العمل مقصور على الأجزاء المتأخرة من كل بلد: ((القرى، والفقراء والطبقات السفلى، لأنها إن لم تشتغل تمت، أما اليد التي تضغط على أزرار كهربائية في بيوت ملأى بالخدم فقد نسيت الحاجة إلى الخلق. وأحسن ما تقوى عليه، في جو من الاستنارة العلمية والفنية، هو التمييز بين الإحساسات اللذيذة وأسوأ ما تقوى عليه هو تحسس الأفخاذ أو عند الحاجة استعمال المسدس، ولذلك فإني أعتقد أن القرى والطبقات السفلى من الشعب تنتج السواد الأعظم من المبدعين في المدن وإن لم تعرف أسماؤهم، أما ذوو الفراغ، أما المتمتعون بثمرات التقدم، فهم مرتع السأم والضجر)) ص38،39.
صيادون في شارع ضيق: “الذات والآخر”:(1/129)
كتب جبرا إبراهيم جبرا روايته “صيادون في شارع ضيق” بالإنكليزية ((وظهرت في إنكلترا عام 1960)) ص8. يصرح جبرا بهدفه من وراء العمل فيقول: ((شعرت أنني أريد أن أكتب رواية عن فلسطين وبغداد أثناء فترة 1948-1950 والتي شاهدتها بعيني وأحسست أنني أستطيع أن أقول ما أريده بالإنكليزية، وأن لدي هماً يجب أن يصل إلى العالم، وأنني لو كتبت هذا الشيء بالعربية ربما لم أصل إلى عدد قليل من الناس، بدأت أكتب رواية “صيادون في شارع ضيق” بالإنكليزية وكنت أشعر بمتعة هائلة جداً لأنني أستطيع أن أكتب بلغة أخرى بلغة (الآخر) أكتب بحيث أنني سأحقق عملاً ينشر في الخارج وفي ذلك تحد لأصحاب تلك اللغة))(1).
إن هذه الرواية مخطط مسبق، وقد كان الكاتب يضع في حسبانه الإبداعي مقولة الذات والآخر بل يقوم بتخطيط عملية الإبداع من أجل هذه المقولة، فتشكل لديه الهمّ الأول، والأكبر، وهذا ما يفسر الاهتمام الكبير والمناقشات الهائلة حول رؤية العالم وحول الآفاق الحضارية الداخلية للذات وعلاقتها بالآخر ورؤية الآخر نفسه للذات.
1-رؤية الذات: التقدم والتطور، مواقف متباينة:
الموقف الأول من مقولة التطور والتقدم موقف سلبي يتناول المفهوم باجتزاء إحدى دلالاته، ويُكوّن هذه الدلالة بمفهوم غرضي ويتوجه نحوها بطريقة هجائية: ((لعن الله التطور، فكل ما يعنيه التطور هو أن النساء سيحصلن على سلطة أكبر مما في أيديهن الآن، سلطة أكبر على الرجال، سلطة أكبر من أجل فعل الشر)) ص182.
ووفق المفهوم التقليدي السائد حول الرجولة (المعنى الإيجابي للحضارة) والأنوثة (المعنى السلبي) يقوم ممثل هذا الموقف بالحكم على مقولة التطور من منطلق تجنيس الحضارة: ((نحن نتطور من الرجولة إلى الأنوثة، هذا كل ما في الأمر ونفقد خلال ذلك حريتنا الكامنة فينا للمؤسسات والزوجات والأفكار المجردة، كل الأشياء تضحي أنوثة مخنثة)) ص182.
__________
(1) جريدة الحياة سبق ذكره.(1/130)
لكن الخطاب يعرض المعادل لهذا الموقف، المعادل الذي يتناول المقولة من جانبها الإيجابي بل ويعرض مفهومها الصحيح والأمثل على النقيض من الموقف التحريفي الذي عرضه سابقاً.
((لكن التطور يعني أيضاً بيوتاً أفضل، أطفالاً أصح، شوارع أنظف وباختصار حياة أكثر امتلاءً)).
يتناول مفهوم التطور هنا في الخطاب معاني حضارية خارجية أي أنه يدقق الأشكال دون أن يتطرق إلى المستويات الأكثر عمقاً في التطور في نوع العلاقات الحضارية على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية ولكنه لا يقتصر على ذلك وإنما يتجاوز هذه المرحلة للبحث في عمق المأزق الحضاري العربي ويقارن بموضوعية واعية الماضي العربي المضيء والحاضر العربي المتهافت والمتراجع، يرصد بعض الأسباب التي أدت إلى هذه النقلة الحضارية هذا التحول بين الحضارة بمفهومها الإيجابي والتخلف وذلك بوعي عميق لحركة التاريخ وتعاقب الأدوار الحضارية، ورداً على هذه الرؤية، مع تحميل كلمة الرد معاني متناقضة بين السلب والإيجاب، جاءت رؤية مجاورة لها، ولكنها توصلت إلى قراراتها في شأن المدينة بمعاينة موضوعية للواقع: ((لا أعرف سبباً يحدوني للدفاع عن المدينة ضدّ تهجماتك يا توفيق فأنا أكرهها مثلك. ولكن كما ترى، حين تجتمع أعداد كبيرة من الناس فكيف يمكن تفادي التحول إلى كيان اجتماعي معقد تتوقف فيه القيم عن أن تكون سوداء أو بيضاء، بل تكتسب تدرجات لانهاية لها من الألوان)) ص181.(1/131)
تظهر في هذا النصّ أزمة المثقف في التعامل مع العالم (الواقع) مع وجود حتمٍ (قَدَر) هو، في منظور الخطاب، الشكل القسريّ للمجتمع نتيجة للاجتماع القسريّ لعناصره أيضاً، وهذا ما يؤدي إلى الاختلاط القسري في القيم، إن نظرة المثقف هذه إلى عالمه تشير إلى أنه يعلن عجزه أمام الواقع و لا يطرح بدائل تصحيحية أو ثورية، ولكن رؤية الخطاب هي التي توخت الشمول في عرض مكونات الصراع والبحث عن تلك البدائل. عن المستقبل " نحن بداية عصر جديد ما نحن بالرومانسيين لن نعود للطبيعة أو الصحراء أو القبيلة.. من هنا نبدأ: من قلب المدينة، بوثبة إلى الأمام. نحن نحب المدينة لكنها كائن مريض، وعلينا أن نشفيها بعد أن دام مرضها قروناً)) ص190.
هذا هو الجزء المتمم للرؤية الواقعية للمدينة في آفاقها المتعددة وهو الرد على مقولات الانهزام أمام واقعها.
ويبدو أن هذه الثنائية ((التقدم والتأخر)) كانت هاجساً حضارياً للروائي أولاً وثانياً للمثقف العربي بل (لطبقة) المثقفين على الرغم من المواقف المتباينة المتناقضة وكانت ملحقات هذه الثنائية وعناصرها (كالمدينة) وآثارها على القيم السائدة:
(كالصراع بين الروح والجسد) هي أول الهواجس وأهمّها، وهذا من الإشارات المهمّة إلى التحوّل أو خلخلة بنية القيمة على الأقل بطرح التساؤلات حولها، لذلك تتكرر هذه المقولة، ويتكرر النقاش حولها مرتبطاً بالمقولة الرئيسية (التقدم، التأخر، المدينة):
(أنت تدعي أن روحك غير معذبة لأنك لا تبحث عن رخاء ثمنه نكبة ممكنة أما حقيقية الأمر فهي أنك لا تملك روحاً لتتعذب، فالفلسفة التي تؤمن بها تقوم على غياب الروح...)) ص207.
((إذن فأنت تعتبر جميع شبابنا المتمردين في المدن والريف واعين لهذه الروح وإنهم لذا معذبون؟... فأجبته: نعم!)) ص207.(1/132)
من هذه المقاربة العميقة للواقع الروحي والثقافي والحضاري للإنسان العربي تنبع أهمية الخطاب الذي يقدمه جبرا وهو يسهم (إلى جانب كونه قدرة توثيقية للواقع الفائت) في استمرار البحث والنقاش حول هذه القضايا ويسهم أيضاً في بلورتها وفرزها والإيحاء باتخاذ موقف مجاور لإحداها ومجانب للأخرى، وربما يحاول الخطاب في النهاية الإيحاء بالاكتفاء بالموجودات الثقافية والروحية في مجتمعه ويصور نوعاً من غربة الوافد الثقافي الذي لا ينشأ أصيلاً ولا تحتمه طبيعة المجتمع مجتمع الذات: ((أعطتني حديثاً كارل ماركس لأقرأه. الحقيقة أنها أعطتني كارل ماركس والكتاب المقدس معاً. وقد وجدت رأس المال مستحيل الفهم، فأخذت أقرأ الكتاب المقدس لو خلا هذا الكتاب من أسفار إرميا وحزقيال وأمثالهما لكان كتاباً ممتعاً حقاً)) ص77.
لذلك نقول: إنه لم يكتف بالموروث الثقافي الروحي إنما دعا إلى تعديله ليخلو مما لا يناسب الواقع الراهن وفق منظوره.
الحل السلطوي؛ حلُّ القمع، (الواقع التنفيذي الوحيد): بين الحلول التي يقترحها الخطاب في المعرض الأيديولوجي الذي يقيمه (حل السلطة) أو (الحل السلطوي) وهو الحل الوحيد (ربما) الذي يقف منه موقفاً معادياً صريحاً، فعلى مساحة الرواية نجد تعاطفاً واضحاً مع الشبان الذين يبحثون عن التغيير والذين يؤمنون بعقيدة التغيير: ((هم هنا يرتابون بالشباب الذين يحسنون استغلال عقائدهم، وما إن يتشبث المرء بآرائه حتى تنصب عليه اللعنة)) ص122.(1/133)
ربما يكون الحل السلطوي حل القمع الحل التنفيذي الوحيد في واقع المجتمع العربي، وهو إذ يعرض عناصره التفصيلية يقوم بعرضها وفق إيمان واقعي مستند إلى قوة تنفيذية قادرة أن تحول القرار إلى واقع بسهولة، لذلك لا تجهد كثيراً في البرهنة على مقولاتها ورؤاها كما تفعل الفئات الثقافية المتباينة، لأنها لا تحتاج إلى تلك البراهين، والبرهان الوحيد هو القمع: ((قلت لوزير الداخلية قبل أيام أن عليه أن يبني مزيداً من الجوامع مزيداً من مراكز الشرطة، خشية الله وخشية السلطة هذا ما نحتاجه جوامع ومراكز شرطة. نحن شعب صعب المراس.. صعب المراس جداً والجوامع ومراكز الشرطة هي الدواء الوحيد لمرضنا)) ص929.
إن ما يميز الحل السلطوي إلى جانب القدرة على التنفيذ قدرة أخرى على حسن استغلال الواقع وبراعة استخدام الأفكار، فقد ربط السلطة الدنيوية بالسلطة الغيبية وهي معادلة ناجحة لأن سلطة الغيب ذات تأثير كبير في المجتمع الذي يوازيه الخطاب، وسلطة الغيب ستار يمكن من ورائه توجيه العصا وتسيير “قطعان الخوف” وفق مشيئة الحل السلطوي ويقف هذا الحل من الإنسان ككائن له خصائصه وعوالمه موقفاً معادياً، فيلغي كل قدراته الفطرية التي تحمل منازعه نحو الحرية وكل قدراته التي يكتسبها ويطمح الحل إلى خلق مساواة قطيعية بين قطعان الحيوان وقطعان البشر بالخوف: ((ماذا يهم شعور الحيوان ما دام ملجوماً؟ كل هذه المشاغبات والتمردات من قبل الطلاب وأشرار المدينة لا تؤدي إلا إلى الأذى، وما لا أفهمه هو أننا كلما زدنا تعليم شبابنا وشاباتنا ازدادوا جموحاً وعصياناً)) ص120.
من الطبيعي أن نسمع مثل هذا الخطاب من ممثل الحل السلطوي لأنه ملفوظ يندرج ضمن نسقه ويتسق وطبيعته، فالعداء نحو دوافع الإنسان للتقدم ليس خارج عن ماهية السلطة العربية والحل السلطوي المتناقض في توجهه نحو الإنسان والعالم وذلك في سبيل خدمة المصلحة السلطوية.
(((1/134)
أنت نفسك لا تذهب إلى جامع إلا فيما ندر... وماذا يهم ألم أبن جامعاً جميلاً جداً في السنة الماضية)) ص121.
يتضح، مدى التناقض، ويعرض التناقض ذاته صارخاً مبيناً أن الوسائل تستخدمها السلطة ليست إلا مسالك غرضية تسخرها لتنفيذ مطامحها وتصبح السلطة الدينية، سلطة الجوامع لقمع الإنسان ولجمه وفق مخططات سلطة مراكز الشرطة.
كانت البداية الأولى في سياق الهزائم العربية الغزوة البربرية للتتر التي كانت فاتحة كبرى لتوالي التداعيات في الحضارة العربية: ((لقد تداعت بغداد قبل أن تظهر فيها بوادر نمو جديد وتهافت القرميد الناعم الذي شيدت منه البنايات العظيمة أثناء العصر الذهبي، إلى تراب منذ قرون.
واستعادت الصحراء لنفسها تلك المساحات الشاسعة التي كانت يوماً ترويها السواقي ويحس رائيها أنها جنات عدن. أي بنيان عظيم كانت مجزرة هولاكو ستبقى عليه بعد أن نهبت جيوشه الغازية المدينة، وسودت مياه دجلة بحبر المكتبات التي ألقيت فيها، ثم حولتها حمراء بدماء الآلاف الذبيحة؟ كل ما استطاع الحكام الذين أعقبوه أن يفعلوا هو الاحتفاظ بأجزاء بغداد معاً ضد قسوة النسيان والعدم كأن بابل لم تعش ألف سنة قبل أن أضحت رابية من الأطلال، أما بعد سنتها الألف بزمن طويل، فقد تنفست فجأة أنفاس الحياة والعزيمة؛
وصلت جذورها إلى أعماق سحيقة ثم أصابت النفط وأخذت البراعم بالإيناع تحت الشمس))ص46.(1/135)
قد يتبادر إلى الذهن أن البحث في مثل هذه القضايا يفقد الخطاب الروائي أدبيته ويدنيه من الدراسة البحثية لكن جبرا يستطيع استيعاءها ويدغمها في البحث الروائي وهي قضايا خطيرة ((في سلم الارتقاء الحضاري العربي)) يكتسب بها الكاتب تميزه الروائي وتشكل لديه دلائل روائية متقدمة، ويضطلع الفن الروائي بوظيفية أدبية لا تتيسر إلا للأدب العظيم، إن وعي هذه النقطة بل هذا المفصل التاريخي بعناصره الحضارية وإدراجه في خطاب أدبي يستطيع تَحَمُّلَهُ دلالةٌ خطابية ومناقشته وفق تصور حضاري متطور يمنح الخطاب ويمنح الكاتب موقعاً متقدماً في معالجة الأزمة الحضارية العربية.
يدقق الخطاب في العناصر الحضارية التي ألغيت بسبب الغزو المغولي لعاصمة الدولة العربية، فقد انهارت المظاهر الحضارية وانحسر العمران وتقلصت المساحة الخضراء لتحل محلها الصحراء، ودمرت أهم مصانع الحضارة (المكتبات) وأحرقت وأبيد كثير من البشر.. إلى درجة ظهرت كأنها لم تكن يوماً حضارة عظيمة سادت العالم. ولكن هذا الأمر لم يستمر بمأساويته تلك وبدت بوادر الانتعاش مرة أخرى في الظهور خاصة مع مجيء الحقبة النفطية. ويحاول كذلك إظهار النتائج المستقبلية التي أحدثتها الهزائم والغزوات الخارجية: ((كافحنا خلال سبعمئة سنة أرضاً غير معطاء، نعم عندنا نهرانه عظيمان، ولكن شبكات الري حطمتها الموجات المتعاقبة من الغزاة حتى أنهكت أرضنا وتعلم شعبنا أن يقبل عبودية لا نهاية لها، جاءنا حكام من الخارج مع حشودهم واكتسحوا البلد وجلبوا معهم خيراً قليلاً وحيوية أقل. وفي النهاية أوشكت حتى آثار المفاخر التاريخية أن تمحى، وتقلصت مدينة العباسيين العظيمة حتى أضحت مكاناً قميئاً تخنقه من كل أنحائه الأجمات التي لا تؤوي سوى الأفاعي واللصوص))(1).
__________
(1) صيادون ص70-71(1/136)
يُرْجِع الخطاب أسباب الرَّيْث الحضاري العربي إلى أسباب اقتصادية كانت نتائج لأسباب سياسية تمثلت في الغزو الخارجي أو المغولي الذي تعرضت له عاصمة التحضر العربي في نهاية العصر العباسي، ويبقى في إطار البحث في الأسباب ويظلّ العامل الخارجي عاملاً مهماً في التأثير، ويتدرج إلى حقبة الغزو الثانية وهي الحكم العثماني ويظهر الصدمة الحضارية التي أصابت العرب بعد انفتاحهم على الغرب وصحوتهم المفاجئة التي كان للثقافة فيها الأثر الأكبر؛ لأنها هي التي كانت معبر الانفتاح على العالم والاطلاع على تقدمه وعلى أيديولوجياته: ((نحن استيقظنا على خبطة قوية، واكتشفنا تقدم الغرب المادي، أيديولوجياته ونظرياته السياسية، وأصابنا الرعب من ركودنا، لهذا أردنا الانطلاق، الجريان، الحركة... المهم أن صحوتنا كانت صحوة ذهنية جاءت مع بداية القرن حين فتحنا أعيننا فأصابتنا هزة عنيفة، كان الفقر والمرض قد دمرانا.. هذه المدينة التي كانت تفاخر بجامعتها العظيمة حين كانت أوربا تغط في الظلام لم تكن قبل خمسين سنة أكثر من بضع مدارس بدائية، غير أن السنوات الخمسين الماضية، كانت سنوات غليان فقد نفخ مثقفو لبنان وسوريا في العرب في كل مكان روح التجديد قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بقليل، ولم يتم ذلك بسهولة إذ أن العثمانيين شنقوا الوطني بعد الآخر لكن كل جثة تدلت من على المشانق في ساحات بيروت ودمشق أشعلت فينا المزيد
من الكبرياء والتصميم))(1).
__________
(1) صيادون ص71-72(1/137)
إن وعي الذات كان يتخذ منحيين في المقارنة والنسبة، فإذا نسب الحاضر العربي إلى الماضي العربي يظهر تباين حاد في السلوك الحضاري لصالح الماضي، وإذا كانت النسبة إلى حضارة الآخر كانت الصدمة الحضارية، وكانت محاولة تحريك هذا الرّيث تزداد صعوبة كلما ازداد وعي الضرورة للخروج منه، وتوقف الأمر عند هذا الوعي وبقى وعياً ذهنياً لوجود معيقات إضافية ضد تنفيذ إرادة التطور والتقدم أهمها نشوء نظام للعالم يعتمد في سلوكه على توازن القوى تحت سيطرة القوى العظمى ولذلك وقع العرب، الذين وَعَوا ضرورة الخروج من تخلفهم، فريسة للصراعات الدولية التي تحدد مصائرهم وفق منطق توازن المصالح الذي ساد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تم تقسيم العالم إلى منطقتي نفوذ تَمَزَّقَ الوطن العربي بينهما.
((الآن ترى بنفسك، وقعنا في شرك سياسة توازن القوى، سياسة النفط، سياسة الشرق والغرب)) ص71.
يلحظ الدارس عمق رؤية الخطاب التي أظهرت هذه المفارقة على الرغم من أن السائد السابق هو الادّعاء بأنّ هناك استقلالية للوضع العربي عن مركزي القوة السائدين، ويضطلع بقدرة انفتاح على المستقبل، ليعي أن سياسة النفط وسياسة الشرق والغرب بمفهوم الغرب لها هي التي ستحدد مستقبل العرب
ويرصد مجموعة أخرى من الأسباب ضمن شموليته وبحثه عن التشخيص الدقيق لفحوى الانهيار الحضاري العربي مضيفاً إلى الأسباب السابقة سببين أولهما القوى التي تعارض الانطلاق والحرية وتساعد على تثبيت التخلف ودعم العناصر الحضارية المريضة بل دعم العناصر اللاحضارية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً ويؤكد على العلاقة الوطيدة بين العدوين الخارجي المتمثل (بالآخر) والداخلي المتمثل بالقوى الترجيعية أو القوى التابعة للعدو الخارجي وذلك ضمن وعي موضوعي معافى للواقع ورؤية ينتفي فيها الحلم الزائف ليحل محله الحلم الذي يتكئ إلى معطيات موضوعية فاعلة في خلق هذا الحلم.
(((1/138)
ألم نحقق شيئاً بعد.. الحرية على أية حال، ليست بالأمر الهين، ... بعد كل تلك القرون من العبودية بالضبط عبودية مزدوجة للأسياد الأشرار القادمين من الخارج وللقوى المريضة في الداخل، وكل من هاتين العبوديتين ترتبط بالأخرى ارتباطاً وثيقاً)) ص72.
ويستمر الخطاب موجهاً عنفه ضد عوامل الرّيث الحضاري إلى أن يصل إلى العامل الأهم في تاريخ الحضارة العربية وهو إيجاد العائق الرئيس في وجه أي تقدم عربي وهو (إسرائيل) الصهيونية ويحمل الخطاب (الآخر) مسؤولية وضع هذا العائق الحضاري.
((بل إن الوضع سيزداد سوءاً بعد أن زرع الغرب إسرائيل على بابنا)) ص72.
يعود الخطاب بعد إجمال الأسباب إلى محاورات تفصيلية بين ممثلي المواقف ويعرض رؤاهم حول الخروج من المأزق الحضاري العربي وهو بذلك يصور المأزق الأيديولوجي للأيديولوجيات العربية التي طرحت أمام المأزق الحضاري حلولها التي لم تتعد النشاطات (الفوهية):
الذات رؤية المستقبل:
الحل الأول: “العودة إلى الصحراء” الخطاب السلفي.(1/139)
في مناظرة للقيم على عادة جبرا في حواراته التي يجعلها مؤتمراً تشريحياً للواقع العربي ويطرح فيها حلوله، يقوم ممثل الدعوة إلى العودة إلى الصحراء (توفيق الخلف) بعرض براهينه وقياسها على الواقع وفحص العالم في شتى مفاهيمه وفق منطق خاص أنشأه وجعله قانوناً أيديولوجياً ونصب نفسه مبشراً به، يدعو من خلاله إلى العودة إلى قيم الصحراء لأنه يرى فيها قيم الإنقاذ. فالشَّرَف والشجاعة هما الفكرتان اللتان تحققان الصحة وكذلك الصراع بين القبيلة والقبيلة يحقق الصحة واليقظة وهذا يستدعي عداءً قوياً للمدينة وقيمها: ((إن العرب ما ضاعت ريحهم إلا عندما استقروا في المدن التي فتحوها... ما الذي كان مصدر قوتهم أول الأمر؟ الصحراء معقلنا وحصننا، خبزنا وماؤنا وما الذي سيعيد للعرب إذن بأسهم وعزيمتهم؟ الجواب واضح: العودة إلى الصحراء. العودة إلى خشونة الصحراء وسنتها الأخلاقية العودة إلى فكرتين أوليتين الشرف والشجاعة، العودة إلى الصراع القديم بين القبيلة والقبيلة لكي نبقى على صحتنا ويقظتنا، وهناك لن نستخرج القصص من أحلام أفراد مخنثين خائبين يحسبون الحب أعظم مكتشفات الإنسان ومع ذلك لا يحصلون على ملذات الحب كلها))ص98.(1/140)
إن هذه الدعوة تطرح مفاهيم نسبية كالشرف والشجاعة وتقصرها على الصحراء وهذا يعني أن يفهمها وفق المفهوم الصحراوي وكذلك تطرح مفهوم اقتتال القبائل كحل صحي. إن فحص هذه الفرضيات وفق منطق الحلول يجعلنا نستنتج أن الدعوة تريد أن تتجاوز وتلغي التراكم الحضاري الهائل التي اكتسبته الحضارة العربية في تاريخها الذي يمتد قروناً حضارية طويلة وتريد إعادة قانون القبائل المتناحرة ليواجه عالماً في القرن العشرين، وهي تسير وفق قانون ما قبل الحضارة خاصة ما قبل الصعود الأيديولوجي العربي وبناء الدولة العربية، وهذه السلفية التي يعرضها الخطاب سلفية نادرة وخارجة عن النظام السلفي التقليدي الذي ينزع منازع عقيدية أخرى كالعقيدة الدينية ويصرح بذلك الخطاب نفسه:
((من شأن عقيدتك هذه أن تدمر كل ما قام به الإنسان من عمل خلاق لأنها مبنية على أحد تلك المبادئ الدينية التي لا تتفق حتى مع الإسلام)) ص190.
? هذه النظرية (الحلّ) تتخذ موقفاً عدائياً جذرياً من المدينة ومن عناصرها ومكوّناتها ومن كلّ ما تنتجه من فنّ وعلم وحضارة.
((إن القصص والرسم والموسيقى إلى آخر ما هنالك من خزعبلات حياتكم الخانعة ليست إلا من اختلاق المدينة... لا حاجة بكم إلى تشجيعها لأن المدينة ستفعل ذلك مهما حصل أنت تعلم أن المدينة تعني التردّي.. إنها تعني المرض، والفن نتيجة هذا الفساد؛ إنه الغاز السام الذي ينفثه هذا المستنقع الفسيح الذي يدعى المدينة... كل فنان بالطبع كل كاتب قصة كل روائي إنما يطعن بخنجره المسموم جسم الحياة السليم))ص96.
إن فحوى هذا الموقف من المدينة هو تجريد العالم من كلّ مقوماته وردّ الحياة إلى طفولة البشرية بل تجريدها من أي طموح لها في المستقبل؛ لأنها بعيداً عن المنجزات الإنسانية (الفن، الأدب) تبقى في مرحلتها الجنينية ولا تسعى نحو الأمام، وذلك حكم مؤكد بالفناء.(1/141)
ويعرض الخطاب، كما فعل في صراخ، من نتائج التمدن فقدان الطاقة الروحية والجسدية الحقيقية وهذا كلّه مصدر الفنّ في وعي هذه الدعوة.
((ليس فيكم ذرة من الإيمان، هذه هي بليتكم كلّكم تنضحون كلاماً ولكن لا ذرة من الإيمان في كلامكم))ص99.
((قاعدين على مؤخراتهم.. يتململون يضجرون يصيبهم الإمساك يصيبهم القلق ثم تصيبهم العنّة، والعنّة متفشية فيهم حتى غدت الغالبية من نساء المدن مساحقات أو متهتكات، لأن أزواجهن عاجزون عن تمتيعهن)) ص96.
((ثم يأتي أصحابنا أهل الفن ويستخرجون من أمراضهم وعنتهم أحلاماً من رقة، أحلام؟ لا بل قيء أتريد حضارتكم؟ إليكم القيء)) ص97.
هذه المقولة نجد لها شبيهاً في (صراخ) في أكثر من تفصيلاتها ولكنها تعرض هنا ضمن نظرية سلفية متكاملة، وهذه النظرية هي رؤية في تفسير الواقع العربي نجح الخطاب في أدائها وفي موازاة الواقع لتشكل واقعاً افتراضياً مهمّاً، متكئاً إلى واقع حقيقي.
الحل “الثوري” ((العنف المشروع)):
كان هذا الحل نتيجة تفاعلات عنيفة وعميقة في بنية المجتمع العربي وفي تفاعلاته الخارجية مع القوى التي تنافسه في الوجود، وقد تراكمت أساليب العنف المعادي ضدّ الأمة العربية وتعددت القوى المنافسة لها ساعية إلى السيطرة ومحو وجودها؛ لذلك لابد من البحث عن أدواتٍ للمحافظة على الوجود هي أدوات العنف الثوري المشروع: ((طيلة ثمانية قرون رهيبة كنا مستضعفين تتقاذفنا الأرجل، فلنتحمّل بعض الوقت علينا أن نُشَرِّع، علينا أن نتعلم مواجهة الرصاص، لقد تغنى شعراؤنا بالدّم والنيران وهي تمزق الأجساد. ولو تأخرت كارثة فلسطين عشر سنوات من هذا التاريخ لمّا حدثت إطلاقاً، إذ سنكون حينذاك قد تعلمنا كيف نحرك حيويتنا كيف نستثيرها، كيف نوجِّهها ضد أيّة قوة معادية في العالم)) ص147.(1/142)
إن الوعي العربي لكارثة فلسطين ربما يكون السبب الرئيسي في وعي العنف ووعي المأزق الحضاري الذي سيطر منذ ذلك الوقت على أي حركة فلم يعد هناك مجالٌ لاستثارة الحيوية الحضارية في الأمة بسبب المعيق الرئيسي “الكيان الصهيوني” والفرضية القدرية المطروحة في إمكان الوعي خلال عشر سنوات فرضية مناقضة لمقولة الوعي ذاتها بل مناقضة لمنطق الوعي في الخطاب وفي الواقع فالسنوات العشر (زمن الوعي العربي) الذي نما نمواً بسرعة الزمن الضوئي ليست إلا المساحة الزمنية التي تلت الكارثة، وجعلت الوعي يتطور وينمو بفعل الحدث الكارثة، وليس بفعل التطور الطبيعي للوعي، ولكن هذه الفرضية ليست عزاء، ولا تعني شيئاً في قاموس الحدث الواقعي، إذ لابد من البحث عن بدائل لخلق الحلّ: ((يا للعزاء ماذا سنفعل من أجل فلسطين الآن؟)) ص147.
الإجابة عن هذا السؤال تؤدي حتماً إلى الوصول إلى حل العنف.
((هذا سبب آخر يدعو الناس، والطلبة، وكل شخص إلى أن يتحركوا وفي حركتهم شيء كثير، أقول لك ولكن ليس هناك سبيل، لكم أكره الرعاع... إنهم وحش مخيف ولكن هذه الطريقة التي تؤكد طاقة الحياة إرادة الحياة نفسها بها. فليبارك الله الوحش المخيف)) ص147.
لا نستطيع استيعاء موقف الخطاب من الجماهير فهو على الرغم من أنه يَعُدّهم الأداة الرئيسية في الفعل الثوري إلا أنه في توجهه التوصيفي لهم يتوجه بطريقة هجائية ويوصفهم (بالرعاع) لذلك نستطيع أن نصف الخطاب بالقصور في فهم عملية الثورة لأنه يراها عملاً وحشياً مخيفاً ولا يسوغ مثل هذا العمل إلا من منطلق تفلسفي بعيد من مفهوم الثورة بمعناها الأكثر عمقاً والذي يعني الفعل الواعي في العالم الفعل الذي ينزع إلى إعادة حركة التاريخ إلى مطمحها الذي وجدت من أجله إلى الارتقاء بالإنسان من أجل الإنسان.(1/143)
ويعود الخطاب ليؤكد هجائيّته ضدّ الجماهير ويحمّلها مسؤولية كبيرة وخطيرة، فهو يرى أنها السّبب في ضياع فلسطين، ونحن نستغرب باندهاش هذا الموقف خاصة أنه لم يتوجه إليه بالنقيض أو بطرح تساؤلات حوله وإنما أوحى إلينا بأنه يتبناه؛ لأن الذي يعرض هذا التصور هو محور الخطاب وممثل جبرا في الرواية (جميل فران):
((اعتمدنا دائماً على الرّعاع بدون فائدة، وهذا هو سبب فقدنا للجزء الأفضل من فلسطين، إن البندقية الواحدة في اليد المدربة لأفضل من ألف رجل يصرخون بالشعارات في الشوارع)) ص147.
ولكن المشكلة متكاملة لايمكن تناول مكوّن من مكوناتها أو أيّ عنصر من عناصرها مستقلاً بذاته، وهذا هو منطق الإشكالية، فالبحث عن الحلول وخاصّة الحلّ الثوري لايكون بحثاً في الفراغ، والبندقية التي تَفْضُل ألف رجل يتظاهرون ليست في متناول اليد بمجرد اتخاذ قرار ذهني بأفضليتها؛ إنها تقنية من إنتاج المعسكر المباين والمعادي، فالحصول عليها يتطلب أثماناً مناسبة وهي منافية بل تعارض فحوى الثورة والعنف الثوري، إذاً فالمسألة مرتبطة بمقولة التقدم والتأخر العنصر الرئيسي من عناصر الإشكالية التي تشكل عمق المأزق الحضاري العربي: ((سنحصل على البنادق أيضاً... من أين؟ من أمريكا؟ روسيا؟ لن يعني ذلك أكثر من وضع أنفسنا تحت رحمة من يعطينا السلاح، انظر إلى جنودنا ومتطوعينا في فلسطين.. ماذا يمكننا أن نفعل غير ذلك لا أعرف فما لم نصنع نحن أسلحتنا)) ص147.(1/144)
ويستمرّ البحث في هذه الإشكالية بطرح التساؤلات التي تكون إجابتها إشكالية جديدة لا حلول لها، وهذا هو عمق التأزّم الذي تركه الخطاب الحالي مشروعاً مفتوحاً، ليعود إلى إشكالية في خطاب آخر. وكذلك فإن الواقع متكأَ الخطاب لم يتمخضْ عن آفاقٍ جديدةٍ تساعدُهُ على الخروج من محنة الإشكاليات تلك: ((من أين نحصل على الخبرة على الفولاذ، على المواد الضرورية؟ سيكون علينا أن ننتظر قرناً آخر... ونحن لا نستطيع الانتظار)) ص149.
الواقع والطموح هما طرفا التعارض الأول في أقصى انهزاماته وفي أقصى انسداد أفقه والثاني في أقصى نزوعه نحو التغيير ونحو مغادرة الرّيث الحضاري، والتخلص من جميع المعيقات على المستوى الحضاري العودة إلى القيادة الحضارية وعلى المستوى السياسي الخارجي مقاومة الاستعمار و (الكيان الصهيوني) والداخلي التخلص من الدكتاتورية العربية الحاكمة، وعلى المستوى الاجتماعي إعادة بناء المجتمع وفق التغيرات السابقة على كافة المستويات، كل هذه الطموحات وما ترمي إليه من دلالات حضارية تجعل الحس العربي يغترب عن العالم و (يتشرّخ) ويتمزق ويتوصل إلى لا جدوى الكون والعالم ويفقد تواصله مع القيم ويبحث في النهاية عن حلول تدميرية.
((لو تدري ما أتمناه لشوارعنا التي أعشقها، لو تدري فقط أتمنى لو أراها، وقد انقلبت رأساً على عقب، وبيوتنا قد تهدمت وخوت، ونساؤنا قد ملأن الأزقة عربدة والدّم يجري حتى الركب. لا صحراء ولا مدن، ولا فن للشعب ولا مباغي ولاحفلات عشاء. لا شيء سوى فوضى صارخة، وعبد القادر(1) يرفع غليونه بين أسنانه الصفراء ليغُبَّ من بول الشعب، وسلمى تصب نبيذها الفرنسي لعشر جيف حولها وأنا أنعب بقصيدتي الأخيرة فوق الخرائب)) ص106.
__________
(1) عبد القادر شخصية في الرواية تعتمد الرؤية الماركسية منهجاً لتحليل الواقع(1/145)
هذا المشهد الخرائبي لمدينة المستقبل العربي ليس إلا صورة عكساً للواقع النّفسي للروح الحضاري المضنى للإنسان العربي الذي يطمح إلى أن يخلق التوازن الإنساني والحضاري في مجتمعه وفي روحه، ولا يبتعد هذا التصور وهذا الانفعال بالعالم من خصوصية الرؤية الشاعرية التي ترتدّ مدّمرةً العالم عند حدوث أيّ خلل في عالم الواقع، والخلل في عالم الواقع العربي على كافة المستويات لا يمكن رصده، فلنتصور ردّة الشاعر على هذا العالم: ((لا يا توفيق لا أريد تحفك الجمالية، ولا أريد من عبد القادر، وهو يُقَوِّد للفقراء والأميين، إع.. أريد.. أريد السماء مطبقة على الأرض والناس ممسكين بأحشائهم يئنون، وصفوف الشرطة يصوبون بنادقهم على رؤوس النساء، وأنا وأنت والآخرون نقبع على ركام الشوارع كالغربان)) ص107.
نود هنا أن نشير مرة أخرى إلى الهجائية المقذعة التي يوجهها الخطاب إلى مجموع الشعب وإلى الفقراء والأميين هؤلاء الذين يفترض أن يكون لصالحهم لأنهم هدف التوجه الإيجابي وأكثر فرضياته ينشئها ليقدم حلاً أو أكثر من أجلهم، والذي يُوَجِّهُ الخطابَ، كما تصوره الرّواية، شابٌّ ترك أسرته بعد صراعٍ، والتجأ إلى أحد الأحياء الفقيرة ليعيش هناك ويساعد الفقراء، ويبذل كلّ ما يحصل عليه من أجلهم، ونعلن الاندهاش من هذا التناقض بين السلوك الفوهي للشخصية وبين السلوك الفعلي.
الذات رؤية الماضي والحاضر:
مدخلاً إلى البحث في مقولة الماضي والحاضر يُطلق الخطاب حدّين متناقضين ظاهريّاً في توصيف الواقع، الحدّ الأوّلُ يعتمد نسبة الذات إلى (الآخر) الذي يعي تاريخ (الذات) أكثر من أبنائه:
((بلغ انغماسنا في الحاضر أننا نجهل كل شيء عن ماضينا)) والحدّ الثاني: يعتمد نسبة جزء من الذات إلى جزء مكوّن ثان فهو يرصد الواقع من منطلق مغاير للحد الأوّل، وربّما يكون في مقاربته للواقع أكثر تعمقاً ((بلغ من انغماسنا في الماضي أننا نجهل كل شيء عن حاضرنا)).(1/146)
قد يظهر تناقض في هاتين المقولتين ولكنه يبدو لنا تناقضاً ظاهرياً فالأولى تطرح الانسلاخ عن الماضي وفق وعي معين للماضي يشير إلى إدراك الماضي في نقاطه المضيئة والثانية تطرح الانسلاخ عن الحاضر وفق مفهوم انهزامي إلى الماضي بمفهومه الاستلابي؛ لذلك فالتناقض في العمق لكلتا النظريتين غير صحيح، وتكاد كلٌّ منهما أن تكون مكملة للأخرى. ثم تأتي بعض المواقف التفصيلية التي تنتمي إلى المقولتين.
أ-الاستلاب للماضي:
كما رأينا في (صراخ) تعود هذه القيمة للظهور ضمن سياق هائل من المقولات، وتتخذ لذاتها مكاناً في الحسبان الروائي وهي استنساخ شبه تام لقيمة “صراخ”.
((ما دمت حياً سأتمسك بتقاليد عائلتي، لعلك لا تعرف أنني سليل أسرة من الأدباء، وأن بعض أجدادي كانوا من حكام هذه المدينة)) ص117.
لكن المساحة التي تُفرد في الخطاب لهذه المقولة ضئيلة وربما يكون ذلك لأن الكاتب استنفد النقاش في هذه المقولة في “صراخ” أو ربما لأن هناك مدعمات أو بدائل حلت محلها، وهو ما درسناه في حلول التأخر والتقدم ومفاهيمها.
ب- الماضي النقاط المضيئة:
تأتي بعض الالتفاتات إلى الماضي التفاتات وظيفية تخدم مفهوم التقدم والتطور، وتكون هذه الالتفاتات متكأ حضارياً للحاضر في سبيل سعيه نحو المستقبل: ((في شارع الرشيد يكمن جوهر مدن التاريخ كلّها، ونهر دجلة الذي يشطر المدينة شطرين متناسقين يحمل في جريانه الوئيد المترامي ذكرى حضارات عمرها آلاف السنين والشارع والنهر يتوازيان كالمادة وصورتها)) ص69.
((تلك الثيران المجنحة و “الأرواح الحارسة” الصخرية المنحوتة على شكل عقبان تزين أبواب مدينة كانت مركز امبراطورية فسيحة في يوم من الأيام)) ص312.
جـ- حاضر الرَّيْث الحضاري:
ويأتي توصيف الحاضر مظهراً التباين بين النقاط المضيئة والرّيث الحضاري للحاضر: ((غالباً ما أفكر أننا لم نتقدم رغم كل ما حصل من التبدل في حياتنا)) ص118.
(((1/147)
نحن راكدون يا سيدي، وليس لنا أن نخدع أنفسنا بالسينمات والثلاجات فنحن لم نصنع شيئاً منها. نحن نستوردها فقط. إلا أننا نأمل أن تتمكن كلياتنا من إبداع بعض هذه الأشياء أشياء الرّوح على الأقل)) ص119.
إن استيراد التقنية في مفهوم الخطاب، لا يعني التقدم وإنما يصفه بالرّكود وهي توصيف دقيق لحالة الرّيث الحضاري العربيّ يشير إلى التبعية الحضارية لمنتج التقنية (الغرب)، والإشارة الأهم إلى أن الريث توصل إلى أمور الروح التي تعد في الأصل من نتاج الحضارة العربية ذاتها، وهو مُكَوِّنٌ من أسس تكوينها، ويعرض الخطاب مقولة خطيرة في توصيف (العرب) كأمة، فالمقولة إذ تحاول الإيحاء بإنصافهم؛ فإنها تتوجه إليهم بصفة هجائية هي أنهم غير (أكفاء)، وهي صفة تفقد المستقبل جدواه فعدم الكفاءة يلغي القدرة، والقدرة هي الفعل في الحاضر من أجل المستقبل ((لا تقل لي: إن العرب مثاليون، إنهم عمليون ومنطقيون. ولا تقل لي: إنهم عاجزون! إنهم غير أكفاء، وهناك فرق شاسع بين العجز وعدم الكفاءة)) ص 168.
الذات الصراعات الداخلية:
1-حول مفهوم الأدب والفن ووظيفتهما:
لا يخرج ما يعرضه الخطاب عن نطاق الصراع الفكري الذي دار ومازال، أكثر الأحيان حول مفهوم الأدب ومفهوم الفن ووظيفة كلٍّ منهما وهدفه الذي عليه أن يتوجه إليه، وذلك انضباطاً وتمشياً مع المذاهب الفكرية التي ظهرت وسادت في الفترة التي يوازيها الخطاب وانضباطاً مع المقولات التي نوقشت آنفاً كمقولةِ مغادرة التأخّر والتخلّف مثلاً. ويفرض ذلك نظرة إلى الفكر موازية بالرؤى والإحساس.
إن السعي إلى تحديد مفهوم دقيق لوظيفة الأدب ظاهرة ربما تكون جديدة على التاريخ الأدبي العربي، ولكنها في الأدب المعاصر اتخذت منحى غرضياً في تحديد الهدف الذي يرمي إليه الأدب حتى انتقل الصراع حول وظيفة الأدب إلى صراع أيديولوجي بين الأيديولوجيات وتجاوز أكثر الأحيان أدبية الأدب وعدها أمراً لا يستحق الالتفات إليه.(1/148)
وهذا ما جعل الخطاب يعرض بعضاً من النقاشات حول هذه القضية: الرؤية الأولى التي تفحص وظيفية الشعر تشير إلى وظيفة الشعر الذي يستخدم العنف وسيلة، وهذه الوظيفة يطرحها ممثلو الحلّ الثوري؛ لأنهم يرون فيها فحوى دلالة الشعر، وفحوى الفعل في العالم، ولأنهم ينظرون إلى كلِّ شيءٍ من عناصر الكون في ضوء أدائه الوظيفي الذي يساعد في تحقيق حلمهم.
((تذكر أن عصر الورود والفجر النديّ قد راح وولّى. إننا نريد شعراً خشناً آكلاً يستفز سامعه بل يغضبه)) ص90.
يعقد الخطاب كعادته، مؤتمراً للحوار حول وظيفة الأدب والفن وخاصة الشعر ويحدده من خلال ذلك.
رؤية الآخر:
يحدّد الخطاب مفهوم الآخر منذ البداية في خطين الأول منهما (الآخر) المباين الحضاري، وهو في (صيادون) الغرب، ويتمثل الغرب بإنكلترا التي كانت تحكم فلسطين والعراق (المرجعين الجغرافيين للخطاب) وليس هذا التمثيل تمثيل اقتصار وإنما هو تمثيل توضيح، والخط الثاني هو الآخر (العدو الصهيوني) الذي دُرس منفرداً نظراً إلى خصوصية هذا الآخر والخصوصية تناوله في الخطاب.
يتعدد ظهور الآخر في صيادون إما مُجَسّداً في وجدان الذات وخياله وإما فاعلاً موجوداً في الواقع:
1-الغدر البريطاني: من المعروف أن بريطانيا التي كانت تستعمر فلسطين قد وعدت العرب أثناء حرب 1948 بالانسحاب من مستعمراتها وتسليم المواقع للجيش العربي ولكن الذي حدث أن القوات البريطانية بدأت تنسحب وتترك مواقعها للإرهابيين الصهاينة ويصور الخطاب ذلك ووقعه على أبناء فلسطين، وتكون الصورة هي الصورة الافتتاحية لظهور الآخر الذي يشكل عدواً من نمط خاص.
((لقد لعب الإنكليز لعبة قذرة جداً.. ولكنهم لم يكونوا وحدهم وألقى نظرة على الأمريكي الجالس إزاءه)). ((وفجأة وجدتني شديد الوعي لصوت.. صوت غريب ملؤه العداء...)) ص154.(1/149)
2- الآخر (مفترض إيجابي، واقع سلبي) نقطة مفصلية تحمل دلالات كبيرة هي أن الغرب مسيحي والمكان الذي يتوجه إليه بالعنف له المنزع العقيدي نفسه بل هو مصدر المسيحية وهو منشؤها، فماذا تعني هذه المفارقة هل التوجه الغربي نحو العرب بالعنف له علاقة بالعقائد، يحلل الخطاب هذه المقولة ببراعة ويستنتج نتائج مهمة في فهم العلاقات الحضارية بين الذات والآخر:
يبدأ الخطاب بتساؤل ينم عن عقلية بسيطة في أدائها: ((أنا لا أفهم الغرب، فالمفروض أنه مسيحي ولكن انظر إلى ما يفعل بالمسيحيين وبأرض المسيح.. كيف يفعلون ذلك بالمدينة المقدسة كيف يسمحون للقدس بأن تتهدم تحت أقدام الإرهابيين الصهاينة)) ص25.
ثم بعد هذا التساؤل يقوم بتحليل مفهوم الغرب للمسيحية والمسيح ومفهوم المسيحي ابن الأرض التي أنجبت المسيح: ((أفكر بالمسيح كرجل يسير في شوارعنا بوجه ناحل ويدين جميلتين، أفكر به واقفاً حافي القدمين على حجارة شوارعنا وهو يدعو البشرية كلها لحبه وسلامه، وعندي أن المسيح جزء من هذا المكان، ولكن أتعرف كيف يفكرون به في الغرب؟ هل تظن أن مسيحيتنا تشبه مسيحيتهم؟ وحين ينشدون المزامير عن القدس هل تظنهم يقصدون شوارعنا بسقوفها المعقودة وأزقتنا المرصوفة بالحجارة وتلالنا المدرجة؟ أبداً لقد أمسى المسيح عند الغرب فكرة، فكرة مجردة ضمن مشهد، غير أن المشهد فقد كل معناه الجغرافي، الأرض المقدسة عندهم أرض في عالم الجن، لا يقصدون مدينتنا. قدسهم وقدسنا نار جهنم، مدينة بلا سلام كذلك لم تعد قدسهم مدينة المسيح، بل مدينة داود، فماذا يهمهم إذا تهدمت بيوتنا وحولت أبواب مدينتنا إلى مذابح؟ لقد سرقوا مسيحنا ورفسونا في أسناننا)) ص26.(1/150)
ينظر الخطاب بعمق مدهش في تفصيل علاقة مسيحيي فلسطين (مهد الرسالة) بمسيحيي أروبا (مستوردة الرسالة) والفرق واضح بين الأصل والفرع إضافة إلى التحول الذي أدخل على الفرع، فلم يعد له علاقة مهما يكن نوعها بالأصل لقد انفصل الواقع الذي تشكله المسيحية والمسيح في ذهن الأوربي عن كونه واقعاً أرضياً وتحول إلى متخيل في عالم لا وجود له، وصار المسيح كائناً مجرداً منفصلاً عن منشئه وحتى عن تكوينه البشري وتحولت أرض الرسالة من مكان واقعي حيّ إلى مكان أسطوري متخيل بينما ظل مسيحيو فلسطين يرون في المسيح حقيقته كإنسان باحثٍ عن الحبّ لينشره في عالم الشر، وبقيت القدس بيوتاً يحيا بها أتباع المسيح بشراً مزودين بحبهم الذي منحهم إياه؛ لذلك من هذا التناقض، يمكن أن ينشأ التقاء. لأن القاسم المشترك الذي يُفترض أن يجمع أصبح مصدر تمزيقٍ، لأنه لم يعد واحداً، فمن الطبيعي أن يَقْدم مسيحيو أروبا غزاةً إلى قدس المسيح، وأن يدعموا الصهاينة المجرمين لكي يظلوا مسيطرين على المسيح وعلى قدسه، في هذا السياق يظهر النص انتباهاً مهمّاً وهو أن القدس في أذهان الأوربيين تحولت عن كونها مدينة المسيح إلى كوها مدينة داود، ولذلك دلالة في أن مسيحية أوربا اندغمت باليهودية بل تخلت عن ارتباطها بالمصدر وبقيت تحمل الاسم دون أي دلالة، وهم بذلك كنتيجةٍ حتمٍ ينتقلون إلى المعسكر المعادي للمسيحية والمسيح، اعتماداً على جميع النتائج السابقة يتوصل الخطاب إلى مواقف وارتكسات رداً على هذا التحول لدى (الآخر):
(((1/151)
منذ ألف وخمسمئة سنة والمسيحية دين للأوربيين دون غيرهم، فما علاقتنا نحن العرب والآسيويين وسكان شرق البحر الأبيض المتوسط بها؟ لقد بدأت عندنا، ولكن اليونان والرومان أخذوها منا، وكل مابقي لنا منها مجموعة بالية من الطقوس لم نضف إليها شيئاً طوال ألف سنة. وما هو الدور الحضاري الخلاق الذي لعبته مسيحيتنا وسط عالم إسلامي؟ كان يجب علينا بعد القرن الثامن أن نُسلِّم أنفسنا لقوى الإسلام الجديدة تسليماً تامّاً لا جزئياً كما فعلنا؛ وعلى هذا فإننا لم نتمتع بالفائدة الكاملة لانتمائنا إلى أرض أجدادنا... كما لم نميز أنفسنا بخلق مدينة عظيمة أو حتى تنبع من معتقدنا، كانت أوربا دائماً تخشى الشرق المسلم. ولكن المسيحيين فيه، المتطلعين دائماً إلى أوربا حتى آلمتهم أعناقهم من كثرة التطلع، لم يحصلوا إلا على ازدرائها المتساهل، وهذا هو السبب الذي سيترك الغرب من أجله مدينة القدس وهي تتهدم تحت أقدام الإرهابيين الصهاينة، لا تتصور، ولو للحظة يا أبانا أنهم يكنون لك أي قدر من الحبّ، أنا أقول لك إنهم أخذوا مسيحنا منا ورفسونا في أسناننا)) ص26،27.(1/152)
هذا النص عمق تحليلي في علم الحضارة وفي تحديد فحوى السلوكات الحضارية وتحديد متعلقاتها ونتائجها، إنه إعلان قطيعة ضد الآخر المباين ومحاولة الانتماء إلى العالم الحضاري (الروحي) الذي ينتمي إليه الكاتب جغرافياً وتاريخياً، وهو كذلك توجيه للعنف المشروع نحو العنف العدواني يناقش الخطاب مدلول الانتماء، وفق مقاييس نستنتجها من النص السابق أولها: الانتماء التاريخي بمعنى الممارسة التاريخية (الفعل) لهذا المدلول، فالمسيحية التي استأثر بها الأوربيون انفصلت عن مصدرها في الفعل وانتقلت إلى محيط حضاري آخر، وكان هذا الانتقال عنوة ولم تعد في منشئها فاعلة، فقدت نشاطها الجوهري وتحولت إلى مجموعة من الطقوس الشكلية، لأنها في محيط استلم الفعل وأقصاها جانباً. وثانياً التطوير: والمسيحية في العالم الإسلامي أقلية فلذلك لايمكنها أن تخلق أي تميز أي تطوير في استقلاليتها المدنية، لذلك بعد هذه المناقشة لوضع المسيحية في الشرق المسلم وجد الخطاب أنه لابد من الاندماج بالعالم والذوبان فيه ليتحقق التوازن والاستقرار للانتماء؛ لأن المسيحيين يتطلعون إلى أوربا كمتكأ حضاري وروحي ويُقَابَلون منها بالإزدراء؛ لأنهم جغرافياً ينتمون إلى الشرق المسلم، وهم كذلك لا يحسون بعمق الانتماء الروحي إلى حضارة الشرق المسلم، وهذا مصدر الخلخلة والاضطراب في وضعهم الحضاري، وينتهي الخطاب إلى أن مفهوم الذات والآخر هو إلى جانب كونه أساساً حضارياً روحياً فإن له أساساً حضارياً جغرافياً.(1/153)
ليس عادياً أن نقرأ خطاباً ينتمي إلى كاتب عربيّ ونجده يتعامل مع الأيديولوجيات السائدة بهذه الجرأة، خاصة أن هذه الأيديولوجيا هي أيديولوجيات من المحرمات تعرض مقترفها إلى أحد مصيرين: الإنهاء أو النبذ؛ وهذه القدرة العميقة في فهم فحوى العلاقات الحضارية والتاريخية وفهم آلية حركة التاريخ والتخطيط لها، تنتمي إلى الدّراسات المختصة بعلم الإناسة والحضارات التي تناولت المجتمع العربي وهذا ما يجعل من جبرا مفكراً حضارياً، آثر أن يكون فكره محمولاً أدبياً، ربما لإيمانه بقدرةٍ أكبر للأدب على الإيصال أو لطبيعة نظرته إلى الإبداع الفكري والأدبي.
تجليات أخرى لرؤية الآخر:
يتمثل الآخر في جزءٍ من أجزاءِ وعيه في الوجدان العربيّ بأنه سلطة ممتدة تخطط للمصائر وتوزعها؛ فأي استحضار لصورة الغرب في الذاكرة العربيّة يستدعي استحضار صورة لجهازٍ منظمٍ محكم، مجهّز بالمعرفة وبأدواتها، وهو قادر قدرةً فائقة (أسطورية) حتى في ذهن المثقف الذي يفترض أن يكون مسلّحاً بوعي خاصّ.
((الله يدري راح يكتب تقرير بكل اللي صار للسفارة)) ص52.
((لا تَدَّعِ الجهلَ بينما أنت تعرف ككل إنكليزي آخر سياستَنا أكثر مما نعرف نحن،.. ضحك برايان وقال: ما أكثر ما ينسب لنا من الحكمة قدر أكبر مما يمكن أن نحلم به)) ص72.
لا يخرج هذا الموقف في جوهره عن موقف العداء للغرب (للآخر) ويتخذ العداء شكلاً آخر شكلاً صريحاً يعيد الأسباب إلى علاقات المستعمر والمستعمَر.
((النفط على حذائي أنتم لا تهتمون بنا إلا بسبب النفط)) ص71.(1/154)
وهذا وعي متطور في الخطاب لعلاقات الذات والآخر على النقيض من العداء الأعمى الذي كان يتبناه بعض المثقفين في المجتمع ويستخدمون خطاباً ارتجالياً يتحول إلى عداء فوهي أكثر الأحيان؛ لأنّنا نجد سلوكاً آخر لهم يسقط هذا العداء ويسقط مدعيه في تناقض فادح؛ لأن منشأ هذا العداء ليس تناقضاً جوهرياً مع الآخر؛ وإنما هو تناقض في الأشكال وتناقض يعتمد النزوع إلى الاختلاف والمباينة فحسب: ((أنت على الأرجح درست في الخارج، والذين تلوثوا بالفكر الأوربي لا يستمرئون عقيدتي)) ص98.
((جميل، جميل كان الله في عونك، لقد لوّث التعليم الأجنبي ذهنك)) ص185. ويأتي الموقف النقيض ليشير إلى هذه العدائية الهشة: ((ما يزال بي ثمة موضع صغير للشك، خاصة حين يكون ما نحصل عليه من أوربا امرأة جميلة، إنني أعرف ماذا يعني احتواء امرأة مثلها ولو لخمس دقائق)) ص188.
لابد أن تمييع المواقف واضح في هذا القرن، وذلك بطريق (تجنيس) العلاقات الحضارية ويقوم الخطاب باستشراف رؤية حضارة الآخر وفق مقاييس روحية تُعَمِّقُ فيها بعيداً لتغوص في أغوارها لتسير كنهها وتتوصل إلى ((إنها حضارة غير سعيدة، بل حزينة جداً لماذا؟ لأنها مهووسة بالألم ويملأ ظواهرها الموت.. ولا تنس أن المأساة فنّ غربيّ نحن قد نكتب قصيدة حزينة أو مرثاة. ولكن في الغرب يجب تمثيل الأمر كلّه على المسرح والموت يجب أن يُرى ويؤله، حتى أنيتا وهي من فيينا توحي لك، حين يستبد بها الشبق والشهوة بهوسها بالألم أو الموت..)) ص188.
لم يتوقف الخطاب عند دراسة الآخر في علاقته بالذات فقط، وإنما حاول استكناه الرّوح والنفس الحضاريين للحضارة الغربية وهي خطوة أخرى على طريق معرفة الذات؛ لأن مقولة الذات كما أسلفت نشأت مقولة نسبية في أحد جوانبها وهو الجانب الأهم، وبذلك يتوجه وعي الخطاب إلى وعي أزمة الآخر أيضاً، لأن في ذلك إضاءة ورفداً لوعي العلاقة بين الذات والآخر.
وعي الآخر للذات:(1/155)
إضافة إلى الخطوات الجريئة التي توجّه بها الخطاب إلى مطامحه الدلالية قام بخطوة أخرى يستدعي فيها ممثلاً من ممثلي الغرب(1) ليكون شاهداً حياً على مجريات واقع الذات.
يختار الخطاب افتتاحية إدهاشية لسلسلة وقائع الواقع ومجرياته التي يتوجه إليها الآخر إذ يعرض التباين الأقصى في المفاهيم الاجتماعية بين الذات والآخر، ويصدم بهذه الحادثة الإحساس بالقيمة؛ لأن القاضي الاجتماعي حَكَمَ بسهولة على مظهرٍ من المظاهر وأصدر الحكم بالقتل ونفذ في الوقت ذاته.
الافتتاحية الصدمة هي حادثة مقتل عزيمة ابنة مدير الفندق الذي يسكنه جميل (محور الخطاب) وعلى باب غرفته تماماً يقوم أخوها بطعنها بالسكين حتى الموت، لأنه رأى بطنها زائداً عن حجمه الذي يراه طبيعياً متوهماً أنها قد ارتكبت الفعل المرفوض وفق قانون السائد الاجتماعي، لكن المستغرب أن ممثل الآخر لم يعلّق على حادثة الشرف هذه وإنما جاء التعليق من داخل الذات نفسها.
يبدو أن الكاتب لم يهتم كثيراً لارتكاس الآخر نحو هذه القضية وإنما أراد أن يكون الآخر شاهداً وطرف نسبة، واستخدمه في هذا الوضع لتعميق المفارقة والتناقض؛ لأنه لو عرضها دون وجود الآخر ولو شكلياً لكان تسجيل الحدث طبيعياً وهو حالة تقليدية في مجتمع الذات قد لا تؤدي وظيفة خطابية مهمة.
يتميز وعي الآخر لعالم الذات في بعض الأحيان بتقدير موضوعي لقدرة الذات الحضارية في مستواه الفائت.
((لا أظن أن بلداً يمكنه تصميم حمام عمومي كهذا بلد بربري)) ص51.
__________
(1) برايان فلنت سائح انكليزي يؤم بغداد ليتعلم فيها اللغة العربية ((أنا أدرس اللغة العربية وقد رغبت دائماً برؤية الأقطار العربية وأنا أنتظر ذلك اليوم الذي أستطيع فيه أن أقرأ القرآن بطلاقة العربي))(1/156)
ولكن هذا التقدير يفقد أكثر الأحيان موضوعيته ليخلق من العالم الذي يتوجه إليه (عالم الذات) عالماً وهمياً ليجاور به حضارته التي أفقدته كثيراً من عناصره الإنسانية فيلجأ إلى التعويض في عوالم أخرى خارجة عن عالمه.
لقد سادت في الغرب نظرة إلى المدينة العربية خاصة مدينة بغداد تتوهمها مدينة ألف ليلة وليلة مدينة الأحلام والمكائد السياسية والنسوية ولا تعي حقيقتها التي وصلت إليها عبر تراكم التأزم الحضاري وعبر انتقال حركة التاريخ من طور إلى طور: ((كان عدنان يريد برايان فلنت أن يتعرف على بغداد من الداخل لا مدينتك الخيالية التي تغص بالشيوخ والحريم بل المدينة الحقيقة الفقيرة، المليئة بالناس الذين يجوعون ويحبون ويكرهون ويقتلون)) ص71.
هذه الرؤية الوهمية التي تستوعي المدينة العربية وفق وهمها الذي شكلته عبر مداخل كثيرة، أحدها- وربما يكون أهمها- المدخل الاستعماري الذي يخدم توجهات الدوائر الاستعمارية الغربية، ويظهر ذلك من خلال محاولة تغطية الظواهر الحضارية السلبية بغطاءات ذهنية تزيينية بل تزييفية لفحوى الواقع، وهذا ما يوصّف التباين في الرؤية، التباين الشديد في تَوَجُّهِ كلٍّ من الآخر والذات نحو الذات؛ فالآخر ينظر إلى وقائع الواقع من خارجها يتعامل معها مكتشفاً ومسيطراً على حسّه الحضاري نحوها؛ لأنها لا تعنيه مباشرة ولا تشكل جزءاً مهماً من نفسه الحضارية، فلذلك سيراها مغترباً عنها بالمعنى الانتمائي الحضاري ويحمل مكتشفاته ويغادر (الجزيرة التي وجد كنزه عليها).
(((1/157)
لن تعرف شعورنا بهذا الصدد يا برايان، قد تكون مؤرخاً بارعاً أو آثارياً رائعاً قد تستطيع أن تخبرنا عن ملوك سومر وآشور، عبر المعارك التي خاضوها، والقصور التي شيدوها، والمدن التي أزالوها من الوجود، ولكن الأمر عندك في نهاية المطاف ليس أكثر من مغامرة جمالية، إنه خارج حياتك يمكنك أن تستمتع به بهدوء وأن تنظمه ضمن أنماط تاريخية. وستذهب في النهاية إلى إنكلتره وتتذكر كل شيء. كتجربة كاكتشاف كإنجاز ذهني. ولكن بالنسبة لنا. يا الله كم هو مختلف)) ص135.
((ظهر أن برايان فلنت يحب كل شيء يراه حتى القمامة في شارع الرشيد وعلق عليها بقوله: إنها على الأقل أصيلة. ليس ثمة تشويه للحقائق هنا. الكمال والنقصان معروضان أمام أعين الجميع والقمامة جزء أساسي من الإنسانية. عندما لايكون الناس كلهم آلات صماء، فإنهم يميلون إلى التراخي بعض الشيء، وعدم الاهتمام بما يخلفونه وراءهم طالما أن مهمة الحياة قد أديت يخيل إلي أن أمثال هؤلاء الناس فقط هم القادرون على الشعور بالعواطف اللاهبة تلك العواطف التي قد تكون كلها عذاباً ولوعة قاتلة الحياة هي من خلقهم هم: هم يصنعونها ولا تصنعهم هي)) ص52.(1/158)
وفق منظور العلاقة غير المستقرة وغير المتكافئة بين الذات والآخر وكذلك وفق أزمة الثقة المتبادلة خاصة انعدام الثقة المسوغ من الطرف الأضعف (الذات)، يمكن فحص النص السابق والتوصل إلى أن الدلالة التي ربما تكون الفحوى الدقيقة للخطاب، محاولة فلسفة تخلف الآخر وتجيير هذا التفلسف (السفسطائي) لصالح تثبيت الواقع والإقناع بجمالية الحالة ووضعها ضمن سياق تجريدي يشكل المسيطر الثقافي، وهو ينزع هذا المنزع لأنه يتوجه بالخطاب إلى الطبقة المثقفة، ويظهر ذلك واضحاً في التوجه إلى المنتجات السلبية للذات في أسوأ مظاهرها ويتناولها وفق مفاهيم تجريدية عُلْيَا شكّلت، وماتزال، جوهر الصراع الفكري العربيّ فلا ينظر إلى أصالة الحياة العربية إلا من خلال (القمامة) وينشئ فرضيةً حضاريةً على هذا المفهوم ويبين للطبقة المثقفة (القائدة) أن هذا المظهر نتاج العافية الإنسانية ودلالة على أن الإنسان مازال يؤدي وظائفه الطبيعية بل مازال هو المسيطر الحقيقي على مجريات حياته، فمن الطبيعي اعتماداً على هذا المفهوم (الغَرَضي) أن تُعْرَضَ القمامةُ علناً في شارع الرشيد؛ لأن الكمال والنقصان معروضان أمام أعين الجميع وتتنوع مستويات الحكم الحضاري الذي يطلقه الآخر استناداً إلى المنطق السابق الذي عرضناه ومن المنظور الذي يحاور المصالح الاستعمارية والعنصر الأهم الذي يعد قوام المصلحة الاستعمارية في التاريخ المعاصر هو النفط فقال برايان: ((ولكنها (عن مدينة بغداد) آخذة في الانتعاش هذه الأيام. هل أقول: شكراً للنفط)).
ويصور الخطاب مدى (حساسية الموقف) من هذا العنصر من خلال ارتكاس الذات ويكون الردّ على مقولة الآخر بخطاب العنف: ((فرد عدنان وقد استثير: النفط على حذائي، أنتم لا تهتمون بنا إلا بسبب النفط، ولكننا لم نعرف أهمية النفط بالنسبة لنا إلا حديثاً)) ص71.(1/159)
ويظل الآخر معتمداً منطقه الوحيد في التوجه مُرْجِعَاً القضايا جميعها أو أكثرها إلى مرجعيّة اقتصادية مشيراً في بعض الأحيان إلى مكوناتٍ مرجعية أخرى.
((لكن لا يمكن أن تنكر يا عدنان أنكم قد بدأتم الآن تتمتعون بالحرية)) ص71.
ويشير الآخر ضمن وعيه إلى الحالة الفكرية للذات إشارة تنبئ بقصور هذا الوعي عن إدراك العمق الحضاري بشموليته والاكتفاء بالتعاطي، كما اقترن سابقاً، مع العناصر التي تحاور مصالحه. ((إذن فالعَرَب يذكرون أفردويت في شعرهم)) ص102.
((زارنا أمسِ قسٌ منهم يُدعى روفس فقال لي بلهجة تقرب من لهجة الاستهجان أرى أنك مثقف)) ص104.
يختتم الآخر مقولاته بمقولة الإدانة للذات غير المنظمة على الرّغم من تراكم القوى الفعالة التي يمتلكها وبتعبير آخر الإدانة بسبب (تراكم) القوى الفعالة بمفهوم التراكم السلبي.
((يبدو أن القوى الفعالة في حياتكم هي من الكثرة بحيث تتصادم ويؤدي بعضها ببعض إلى اللاجدوى)) ص72.
وعي الآخر: مظاهر وتجليات في الذات: الاستلاب
نتيجة للعلاقة التي لم تتخذ شكل القطعية النهائيّة بين الغرب والعرب، على الرغم من العداء التقليدي الذي يكاد يكون من طرف واحد وأقصى ارتكسات الطرف الثاني لا يتعدى ردودَ أفعالٍ أكثرُها مخفقٌ في الوقوف في وجه المعادي وإيقافه، فكانت مجموعة من أنماط العلاقة تبقى كوسائل ديمومة للعلاقة بين الذات والآخر، وذلك تبعاً لطبيعة العلاقة بين القوى والضعيف التي كانت تولد واقعاً جديداً، أو تولّد بعض التّحولات في بنية الحياة لدى الطرف الضّعيف: ((كانت العباءة العربية والبدلة الأوربية تتحركان جنباً إلى جنب، وكانت عربات الخيل تجري إلى جانب سيارات البويك والكاديلاك)) ص29.(1/160)
في هذا المجتمع تآخت مظاهر التقدّم الحضاريّ الشكلي. ومظاهر التأخّر مع الانتباه إلى نسبية هذه المفاهيم، ولا يقتصر هذا التآخي على المظاهر الخارجية الشكلية، وإنما يتعدّاه إلى مستوى القيم (فحُسين عبد الأمير) الشاعر يعشق بغياً على ما في هذا الأمر من إهانة اجتماعية وعار يمكن أن يلحقه، وفق قانون السائد الاجتماعي، ولكنه يعتبر هذه المسألة حالة طبيعية وهي قانون سائد ويطرح مثالاً داعماً من حضارة الآخر: ((إذن فأنت تعشق بغيّاً؟ فكرة أصيلة فقال... لا، أبداً هذا أمر شائع في تاريخ الأدب وأنا دائماً أذكر بودلير الذي كتب القصائد عن تلك الزنجية الفظيعة)) ص35.
إضافة إلى ذلك، فإن أكثر المثقفين الحائزين شهاداتٍ عليا قد درس في جامعات الغرب، “كيمبردج” و “أكسفورد”.. وبهذا تبقى الذات تابعة في أفقها الحضاري للآخر.
((كلُّ أستاذ يميل بسبب غيرته على مركزه الأكاديمي للإفراط في تقدير النظام الخاص المتّبع في الجامعة التي خرجته، فكنت تلقى أسماء بيروت وآيوا وأكسفورد وكنساس وشفيلد ولندن والقاهرة.. بحماس شديد)) ص42.
وتتوصل العلاقة مع الآخر في تطوّرها إلى الاستلاب الحضاري واعتبار النموذج الأوربي في الحياة وفي جميع السلوكات هو النموذج الأمثل لذلك تقوم الطبقة البورجوازية المقلَّد الأمثل: ((اللغة الإنكيزية هي لغة الحديث، كل أولئك الناس من كبار الموظفين ورجال النفط)) ص67.
((فالكلّ يتكلم الإنكليزية في الفنادق الراقية)) ص132.
مقولة الانسلاخ القومي:(1/161)
ساد في الفترة من بداية القرن وحتى الرّاهن المعاصر مصطلح الانسلاخ الطبقي الذي يعني مغادرة شخصٍ فرد أو فئة اجتماعية أو مجموعةٍ طبقتها واللجوء أو الانتماء سلوكاً وفكراً إلى طبقة أخرى مباينة أو طبقةٍ نقيضٍ، لكن على الرغم من وجود الانتقالات منذ القدم وتحوّلات بين القوميات لم يظهر في حدود ماأعلم مصطلح دال يستوعي هذه الظاهرة، ولذلك استعرت المصطلح من مفهومه الطبقي وأطلقته على المفهوم القومي الحضاري وأرجو أن يكون دقيقاً في الدلالة على الأقل في إحاطته بالمفاهيم التي يطرحها الخطاب.
يدخل الخطاب، كما حدث أن فعل أكثر من مرة، مناطق تداخلات إنسانية وحضارية حرجة ووعرة ويُداهم تمفصلات تعد اكتشافات جوهرية في عُمْقِ التّداخل والتقاطع، ولنقل التآخي بالمعنى (الشقيقي) بين المناطق الحضارية؛ فإذا أخذنا مثالاً على هذا التقاطع المنطقتين الحضاريتيين العربية والغربية نجد مايمكن أن ندعوه (هجونة) ولكن هذه الهجونة أحادية تعتمد نمط الاستلاب في جزء كبير منها سواء أكان الاستلاب بوعي أم بغير وعي: ((أنت رغم كونك مسلماً نتاج الحضارة المسيحية أنت مولود هجين حتى أنت، وأنت يا جميل أنت مسيحي في الواقع- إنما تبحثان عن أشياء لا تستطيعان تحديدها أنتما وأمثالكما يتلبسكم الهوس، كالحضارة الأم التي أرضعتكم، أنتم تحسبون أنكم منهكمون في بحث عظيم عن التحرر بينما أنتم مسوقون في الواقع أمام شهوة تحطيم الذات التي تتقنع بمصطلحاتكم الأجنبية لقد فقدتم راحة بالكم انظر إلى بغداد الآن إنها تتسم تدريجياً بنفس الداء. أما نحن البدو ورجال العشائر فقد وجدنا ما نحتاج إليه. وما نحتاج إليه هو عندنا منذ قرون..)) ص89.
تأكد ((أنت نتاج الحضارة المسيحية التي يتلبسها والموت)) ص210.(1/162)
لقد استطاع الخطاب تسجيل انتباه عميق محمّل بالدلالة؛ أولاً: على الأفق الحضاري الواسع لمنتجه، وثانياً: على قدرة جبارة على إدراك المواقع المشتركة، وإدراك حركة الانتقال بين الحضارات، وهي نقطة مهمة وخطيرة في الحسبان التاريخي، وقد نوقشت من منظور مختلف في بداية عصر النهضة العربي، إلا أن جبرا تناولها بمفهوم حضاري دقيق بعيداً من البحث في الأشكال والمظاهر.
إن المقياس الذي ينسب إليه الخطاب هو الانتماء الديني ولكن ليس الانتماء التاريخي المُكتسب الوراثيّ إنما الانتماء الفكري المكتسب الاختباري الذي يعي الإنسانُ من خلاله العالمَ ويدركُهُ وفقَ التصوّرات التي استقرت في ذاته، فالمثقفون العرب الذين يستقون إدراكهم من منجزات الحضارة المسيحية هم مسيحيون، ولو كان انتماؤهم الوراثي إسلامياً، وهم بذلك ينسلخون من قوميتهم الحضارية المرتبطة بالإسلام إلى قومية حضارية أخرى مُباينة هي حضارة الغرب المسيحية والانتماء يتحدد بالسلوك الذي يميز الغرب المسيحي (المصاب بالهوس والبحث عن تحطيم الذات وعن الموت عن اللاجدوى واللاهدف) عن الشرق المسلم الذي وَجَدَ ما يبحثُ عنه، وَجَدَ هدفَهُ منذ قرون وهو كما يُستنتج من النص السابق (الإسلام).
الذات والآخر في السفينة؛ الوعي الشاعري:
مقولة التقدم: المقولة الهاجس، والاهتمام الحتمي والافتتاحية التقليدية لكلية الخطاب عند جبرا تظهر مرة ثالثة في مبحث الذات والآخر ويمتد ظهورها هنا في مساحة الزمن نحو العمق التاريخي نحو البداءة الحضارية. زمن البدء بحلم الحضارة ليفحصها وفق النظرة الشاملة إلى العالم وإلى الكون ووفق منظور ثالث بل منظور جديد (الوعي الشاعري الوعي المطلق):
(((1/163)
أتدري كان الإنسان البدائيُّ الذي يعيشُ على القنص في البراري أكثر حظاً منا، كلّ يوم لديه اختيار أكيد، مجابهة للخطر، وهو دائماً على شفا الكارثة. وما بقاؤه إلا نصرٌ يتجدد كلَّ يوم: أما بقاؤنا؟ ها إننا نبقى رغم أنوفنا. إنه بقاء سالب منفعل تعودنا أن نرضى به. ولا هو نتيجة لفعل منا. بحيث أصبحنا قادرين على العيش عيشة آلية، ما علينا إلا أن نحرك أذرعنا وأقدامنا مسيرين بالطبع فنأكل- أي شيء- نشرب وننجب الأولاد ونسعى والرأس قبل القدم إلى الحفرة المحتومة هذا هو التقدم.. أشبه بتقدم الحالة المرضية... أما أنا فأوثر الحياة البدائية: لا أصدق أحداً، ولا أدعي الصدق لأحد)) ص19.
وهُنا يظهر بعدٌ توصيفيٌ أحادي التّوجّه نحو التّقدم هو التوصيف الهجائيّ الذي يتناول العالم الراهن والفائت من منظور أكثر شمولاً خارج نطاق الذات والآخرة، وإنما يتخذ تصوّر الذات معزولاً مرئياً في شمول العالم ضمن الحسّ الاغترابي، وينطوي مفهوم التقدم على مفهوم الفعل في العالم والانفعال به. وفقدان هاتين العمليتين المتلازمتين يعني فقدان التقدم في مفهوم الخطاب، ويحكم على التقدم الراهن حكماً يَسْلُبُه فيه صفته كفعل إيجابي بل يوصّفه توصيفاً لا يمكن أن يترك له مجالاً للتعبير في المستقبل؛ لأنه يتقدّم نحو السلب كتقدمِ الحالة المرضيّة.
((بين السّلطة والاستبداد؟ بين السلطة كرعاية. والسّلطة كاستغلال، السلطة كتنفيذ لإرادة الأمة والسّلطة كتنفيذ لإرادة العُشْر الواحد كان التاريخ دائماً كذلك. التاريخ، كما يقول البعض هو قصة صراع الحرية مع الطغيان، صراع الروح مع المادة، ولكنني أرى أن كميّة الطغيان في أية فترة في العالم، تساوي كميّة الطغيان في أية فترة أخرى وهكذا الحرية على الأرجح.. بلد تزيد فيه الحرية، وبلد آخر يزيد فيه الطغيان فئة تنطلق وفئة تتغلق، وهلم جرا...)) ص123.
((قليلون هم الطغاة الذين يعترفون بأنهم طغاة.(1/164)
? إلا العباقرة المجانين منهم كاليغولا، نيرون، الحجاج.
? ونحن أين مكاننا من ذلك كله يا سيدي.
? مرة هنا ومرة هناك. في الواقع، إننا، لا نحن فقط بل الإنسانية كلُّها تدور في حلقات مفرغة؛ تحلم الإنسانية بالمساواة المطلقة وتقوم ثوراتها في كل جيل وتبقى المساواة حلماً رغم هذه الثورات كلّها ولكن التاريخ يستمر صراعاً بين الحرية والطغيان)) ص124.
ربما يكون هذا الاقتحام الخطابي باتجاه السلطة ومفهومها أعنف توجه وأقوى على مدى مساحة الخطاب الذي يقدمه جبرا ولا نجد مثل هذا العنف حتى في الرّواية اللاحقة التي تعدّ التتويج الإبداعي لحركة الفعل الرّوائي منذ صراخ وهي “البحث عن وليد مسعود” يعود البحث في ماهية السّلطة وفي واقعها إلى العمق التاريخي، إلى جذور المجتمع الإنساني الذي أنتج السلطة وطوّرها لتفقد مفهومها الحقيقي، وتكتسب بفعل انحراف توجُّهها مفهوماً سلبياً طابَعُهُ التحوّل من السلطة إلى التّسلط ويعودُ ليستنتج النظام الذي يحكم العالم والقانون الحتميّ الذي لابدّ منه قانون الصراع مرّة أخرى بين المتناقضات، وهو القانون الاجتماعي الحضاريّ الكونيّ الذي استنتجه سابقاً، ويبقى في إطار نتيجة هذا الصراع وهي سيطرة التسلّط والطغيان والشر وانحسار الخير والحرية. وينزاح الخطاب قليلاً عن دلالاته السّابقة في وعي مقولة الروح والجسد التي عرضت فيما سبق من البحث، يتمثل هذا الانزياح بالانحياز التامّ لصالح الرّوح لكنّ المفاهيم والمصطلحات هنا تمتد إلى عمق دلاليّ.(1/165)
ويَظْهَرُ العداءُ نفسُه الذي أظهره الخطاب سابقاً للمدينة؛ ولكنه الآن هنا يتخذ طابعاً مطلقيّاً بعيداً من المناقشة التفصيلية في عناصر القضية ومكوناتها؛ المناقشة التي طغت على "صراخ" و "صيادون" و لايخرج هذا عن طبيعة التّوازن الخطابي “للسفينة” ولا عن القانون النفسيّ الذي ينتظم مجتمعها النفسيّ؛ قانون الولوج إلى عمق عالم الحسّ بخلق موازيات لغوية مطلقيّة متوازية مع الحسّ الفجائعيّ المطلق في واقعٍ مطلقِ السَّلب: ((الإنسان الذي تحاول المدينة أن تستعبده)) ص21.
لذلك فالإنسان ((الذي نظر إلى العالم فوجده كرةً مليئةً بغاز سام خبيث الرائحة تفشى رويداً تحت أنفه، فركلها بقدمه إلى حيث ألقت، وأكد بذلك على أنّه يرفض)) ص127.
إنسان لا يستطيع أن يستوعب أو يستوعي العالم من حوله فيجد الحل في الاغتراب عن العالم والهروب الذي يتمظهر في أشكال مختلفة ربما يكون أحدها الرّفض بمفهوم الخطاب: ((لأنني بدأت أرى أن للهرب أشكالاً لا تحصى. وأن مأساتنا الحقيقية هي أننا ذهنياً هروبيون. كلنا شعراء وإن لم نقل الشعر تُغرينا الأخيلة فنلحق بها، حيثما تأخذنا وتبقى الحقائق الفعالة وراءنا)) ص130.(1/166)
ربّما يكون الخطاب في السفينة ردّاً على الغائبات الخطابية الدلالية التي قصّر بها خطاب “صيادون” فيأتي بمتممات المواقف التي لم يتخذها سابقاً؛ فمثلاً الموقف المباشر من السّلطة، الغائبُ سابقاً، بل كي نكون أكثر دقّة نقول: إن الموقف الفوهي المباشر في توصيف السّلطة وتوجيه العنف اللغوي نحوها لم نجده واضحاً جداً في “صيادون” على الرغم من العداء الواضح في مجريات عالم الخطاب بين السّلطة كمؤسسة قمعية ينظمها القمع وبين المثقف كفرد غير منتظم في أيّ مؤسسة سوى المؤسسات الوهميّة التي تنشأ في ذهنه، وهي مؤسّسات اعتبارية لا وجود لها في الواقع وهي “متجذّرة” ذهيناً؛ كالمؤسسة الثقافية مثلاً، التي تتنافس فيما بين عناصرها التنافس الذي يُفضي آلياً إلى الإخفاق في المواجهة. لكن هذا الموقف يتضح في الاقتحام الخطابي التالي:
(( التحدي الأهم بالنسبة لي هو السّلطة، السلطة كشِرْعةٍ اتفق عليها البشر منذ أيام السّومريين والفراعنة. أين الحدّ الفاصل)).
وينتقل الخطابُ إلى بحثِ قضايا جوهريةٍ، بل قضايا تشكل المكوّنات الرئيسية لمفهوم التقدم، والأصح التغيّر، ويدعوه الخطاب “التحرك نحو المستقبل” ولكنه ينتبه إلى أن هذه القضايا مرتبطة بالأفراد وليس بالجماعات، وعندها لن تكون مثمرة كما يرتجى، فالصراع يعدُّ قضية مهمّة في نظر الخطاب ودليلاً أهم على ديمومة الحيوية واستمرار التحرك نحو المستقبل ومغادرة الرّيث الحضاري، إلا أنَّ هذا الصّراع قَيْدُ الفردية: ((الصّراع لابدّ منه. إنه الدليل على أن الأمة حيّة. عندما تتحجر الأمة، وتجف قوة الصّراع، تبقى إرادة الأفراد؛ فإذا ظهر أفراد يستمرون بالصراع في آرائهم، في تجاربهم؛ فإن الأمة لها أن تأمل في التحرّك نحو المستقبل من جديد في حياتنا مازال الأفراد هم المصارعون)) ص124.(1/167)
ويتدخّل الخطاب في طرح تساؤل حول مشروعية القانون الكونيّ الذي يطرح ثنائية الخير والشر كتلازمٍ حتميٍّ، وفي طرح تساؤل آخر حول اعتدال هذه الثنائيّة؛ فهو من خلال اقتحام الواقع وتفحّصه، استنتج أن المعادلة الثنائية تميل بشكل تامّ وواضح إلى طرف الشر، وهذا ما يدعو إلى قذف التساؤل الأكبر في وجه الكون: ما جدوى الكون عندئذ وما جدوى الوجود وعلى الأقل وجود الإنسان، وبالتالي ما هي إمكانية قيام حضارة على وجه الأرض في المجتمع البشري مادام الشر هو المسيطر على العالم، والامكانية الوحيدة المسيطرة عندئذ هي إمكانية العبودية والاستعباد: ((وأي صراع! صراع في عالم من الشر يقولون: إن الخير إذا لم يكن إزاءه شر يتحداه لا توجد حضارة، عال. ولكن الشر إذا بقي ممسكاً بالخير من خناقه أية حضارة ثمة ممكنة؟ إنه عالم التجسّس والقذف والشتيمة، عالم العبيد)) ص124.(1/168)
? المرحلة الثانية: بل الطور الثاني من خطاب جبرا طور متقدم من أطوار وعي الذات في مستوى الموضوع المعالج وكَمَّهِ، وفي مستوى العمق ونوعه، والانتقال الذي طرأ في “موضوعة الذات والآخر” بين (صراخ) و (صيادون) انتقال حادّ في ارتقاء المعالجة والتناول، إلى درجة أن صراخ لم تكن إلا تمهيداً تمثيلياً طرح بعض الأمثلة، وتحول هذا التمهيد في “صيادون” إلى بحث متعدّد في العلاقات الحضاريّة بين الشرق والغرب والعلاقات بين الماضي والحاضر والعلاقات في الحاضر التي شكّلت صراعَ النزوعِ؛ إما إلى الماضي وإما إلى المستقبل، فكان الخطاب بذلك رسالة في البحث الحضاري موجهة إلى الآخر بلغته، وقد شكّل ذلك في وجهه الآخر خطورة حضارية قومية في المعرض الفكري والاجتماعي (للذات) فقد يعدّ ذلك وثيقة جاهزة لمجريات واقع الذات تقدم للآخر الذي ينتمي إلى الطرف المعادي، إلى ذلك لم يكن الخطاب واضح العداء والتحدي للآخر المعادي على الرّغم من عرضه الجريء حول مسيحية الشرق ومسيحية الغرب، وإنما كان محكوماً بالواقع أكثر الأحيان حتى في “الحلّ الثوري” لم يتقدّم بغير عنوان عامٍ هو التغيير والبحث الغائم عن البدائل.(1/169)
مساحات دلالية مباينة لما رأيناه سابقاً، فالرّوح (المصطلح الذي كان ينتمي إلى الثنائية التقليدية [الرّوح والجسد] (وفق المفاهيم الغيبية للروح) أصبح في خطاب السفينة دلالة إنسانية حضارية سلوكية، وارتبط بمفهوم الحريّة، والجسد (المصطلح الدنيوي الذي كان طرفاً في حدّي الصراع الدائر حول هذه الثنائية فَقَدَ تكوينه اللفظي ودلالته اللغوية الخطابية وانتقل إلى مصطلح أعم وأكثر دلالة على كليّة محتويات العالم هو (المادة) وحُمِّل المصطلح الجديد دلالة سلبية، بل حمل الدّلالة السلبية العظمى في مرحلة التاريخ الإنساني المعاصر الذي وعى بدقة هذه السلبية (الطغيان) ويطرح الخطاب هذه المقولة في مرحلة كان مصطلح المادة المصطلح السائد، بل مصطلح السّلطة العظمى في مضمار الفكر الإنساني الحديث إذا بنى العالم المعاصر في أكثر تجلياته على هذه المقولة (المادّة).
((التاريخ هو قصة صراع الحريّة مع الطغيان صراع الروح مع المادة)) ص123.
ويتلمس الخطاب موقع الذات في هذا الصراع، فلا يهتدي إلا إلى اللاجدوى والهباء “الحلقة المفرغة” والتراوح بين الحلم في المساواة وإطلاق الثورات في محاولة لتحقيق هذا الحلم الذي يحافظ على كونه حلماً دون أن يتحقّق ويستمّر العالم على طبيعته (الصراع) بين السلب والإيجاب، وهذا لا يقتصر على الذات فقط، وإنما هو قانون الإنسانية جمعاء. والنتيجة الحتميّة لهذا الصراع الدائر دائماً انهزام الثائر المثقف الذي يطلق القوى الفعالة بل التي يفترض فيها أن تكون كذلك؛ فهي تتوجه في النهاية ضدّه، فتكون الحتميةُ الأخيرةُ انعزالَهم عن مجتمعهم وعالمهم انعزالاً يجعلهم في منظور أحد المفاهيم الفكرية ينتمون إلى فئة اجتماعية طبقة اجتماعية غير فاعلة، ينافي مصالحَها وكينونَتَها البحثُ عن الحلم الإنساني في المساواة؛ لذلك تسعى إلى الإبقاء على الواقع المتمايز وتبحث عن مثبتات له، وينتمي المثقف آلياً إلى هذه الطبقة بعد إخفاقه.
(((1/170)
الذي يحدث في واقع الأمر.. هو أنَّ القوى التي يطلقها المثقفون لن تنصاع فيما بعد حتى لوسائلهم المتطرّفة. وإذا ثورتهم تنقلب عليهم. وإذا هم يُعزلون، وإذا هم يدرجون مع البورجوازيين والمثاليين والرجعيين وإذا في نهاية الأمر هم الهاربون)) ص133.
هذا في مستوىً من مستويات وعي المثقف للعالم والذات ولكننا نجد ردّاً ربما يكون مسانداً في جزئه الأول في المقدمات غير أنه في النتيجة يجد حلولاً مختلفة عن نتائج المستوى الأول بل يمكن أن نقول إنها محاولة لوضع حلول وإحلالها محلّ النتائج المنطقية السّابقة ويمكن أن تشكل ردّاً بعدياً على كل المستوى الأول.
((المجابهة، الموت، الفداء، هذا كلّ ما لديّ أطرحه تجاه تخيلك وتعليلك)) ص133.
إن كلاً من هذين المستويين يطرح الحلول وفق منظوره الذي أَسَّسَ له سابقاً؛ فالأول يؤسس نظرته ونظريته على التساؤل حول المفاهيم، وما يزال يبحث عن معانٍ واضحةٍ لهذه المفاهيم معانٍ نفسية تلغي اغترابه عنهما وهو لم ينتم بعد إلى عالمها: ((ما الثورة؟ ما التمرّد؟ ما النضال؟ ما السّلطة؟ ما الفرد؟)) ص131. هذه كلّها بالنسبة إليّ أوّليات أسعى إلى تحديدها بوضوح)) ص131.
والمستوى الثاني يؤسس على متكآت روحية متناسبة مع ما طرح الخطاب سابقاً وهي الانتصار لمفهوم الروح الذي وازاه بالحرية، ومفهوم الرّوح لا يقام إلا “بالإيمان”: المقولة (المثالية) التي ستكرر كثيراً في خطاب السفينة
((-والإيمان؟
? الإيمان بماذا؟ الإيمان لا شأن لي به
? إذن ستبقى مع الطغيان)) ص131.(1/171)
لاشكَّ في أن الخطاب هنا يبدي تعاطفاً ترجيحياً للمستوى الثاني لأنّه يجهد في التعمية والضبابيّة على مفهومات المستوى الأول؛ لأن أيديولوجياه ربما تخالف أيديولوجيا منتج الخطاب الذي يُستشف أنه أقرب إلى مسألة الإيمان؛ لأنها مقولة متكررة في جميع خطابه وهي تشكل أفقاً للحلّ مُهِمّاً على المستوى الفردي خاصة، والجماعي عامة، والأيديولوجيا المخالفة هي: ((أيديولوجيا غنيّة عن الغيبيات، رياضيات، المُهِمُّ أن تحدد الكميات المعلومة والمجاهيل، فتنبسط المعادلة الصحيحة)) ص131.
وهذه الأيديولوجيا تبحث عن الحلول بالقيام بموازيات واقعية تستطيع خلق مثل هذه الحلول:
((أفكاره فقد تبين لي أنها منصبّة على إيجاد تنظيم سياسي يجمع عدداً كبيراً من المثقفين العرب، ربما كانوا منتشرين لا عبر الأقطار العربية من الخليج إلى المحيط فقط بل في عواصم أوربا وأمريكا كذلك)) ص132.
الذات رؤية الماضي:
يبحث الخطاب في القيم الحضارية الإيجابية للحضارة العربية ويتوغّل في عمق هذه القيم، وفي دراستها تحت فاحصات غير تقليدية؛ أي يفحصها تحت أضواء ومفاهيم حضارية مبتكرة، فالسائد القيمي أن عصر ما قبل الإسلام مثلاً، عصر فاقد الحضارة لكننا نرى هنا أن مفهوم الحضارة مفهوم خاص تقليدي ليس كما يعرضه الخطاب، وفق مفاهيم إنسانية الحسّ والروح وعناصر هذا المفهوم الخاص هي النضج والعنف: نضج الحس والروح وعمقهما معاً.
وكذلك يمثل لهذه الرّوح من الشواهد الحضارية العربية القديمة في الأندلس: ((في أي طرف أقصى كان عرب الأندلس في عصر زرياب وأين كان العرب في عهد الرشيد والمأمون؟ هل في الحضارة من “وسط”؟ حتى امرؤ القيس الجاهلي، إذا لم يكن من خلق راوية خصب الخيال، هل كان إلا في إحدى قمم الحضارة، حيث النضج والعنف يتبادلان ويتكاملان؟
شعره، غزله، ليله، حصانه، كلّها شواهد على قمة من نضج الحياة والحسّ والنزعة وعنفها جميعاً)) ص198.(1/172)
لا يستطيع الخطاب أن يستوضح معالم الذات وخطوطه وتكويناته وعناصره، كما رأينا في أكثر من موقف، إلا بطرح الموازي للذات وهو الآخر، وكأنه، أي الخطاب، لا يمكن أن يجابه الذات، وهو يحاول مقاربتها، حتى الإيجابية، إلا بموازاتها بالآخر، وهنا نلمح محاولة خطابية فحواها الإيحاء بالتكامل الحضاري في القضايا الإيجابية، ويبقى الإحساس نحو الآخر بالنقص حتى في لاوعي الذات: ((فلأعد إلى فرانشكو سليمينا في الغد سأذهب أبحث عن رسومه العملاقة سأحمل إليه أنفاساً من امرئ القيس، وخواطر بغداد، من إمكانياتها التي لا تتبلور نهائياً ولكنها في تفجر دائم رغم مآسيها سأحمل إليه شيئاً من حبي النازف، وجذوري العشائرية، ونزعتي الفدياتية الحديثة سأجابه عالمه المنظم الصاخب المتكامل بظلماتي الصاخبة اللا متكاملة سأجابهه بهربي، وأنا أحمل بين جنبيّ حصناً من أطراف البادية إلى القلب من مدن الإسمنت والفولاذ)) ص198.(1/173)
ويبقى الآخر حاضراً ليشهد انهزام الذات فاللاوعي الذي يخزن الآخر في راقاته يستخرجه إلى السّطح في أوقات الحاجة خاصة عندما يتعلق الأمر بالبحث في قضايا الحضارة التي يستدعيها دون رقابة! المقارنة بين المفترض الإيجابي المتقدم (الآخر) والمفترض السلبي المتأخر (الذات) ويمكن أن نسوق مثالاً آخر يتعلق بالسلوكات الحضارية، حيث يظهر الآخر مطلقاً في الإيجاب ويسقط عنه أي سلب وتتحول مقولة الذات والآخر إلى مقولة طرفاها السّلب المطلق والإيجاب المطلق على الرّغم من أن الآخر (الغرب) خاصة في مرحلة خطاب (السفينة) كان في هذه المعادلة يتوجه نحو (الذات) (العرب) بالعنف، وكان الصراع على أشده، لكننا لا نلمح مثل هذا، ويظهر الغرب جامعة ومدرسة للثوريين الذين يذهبون ليتأملوا في مفهومات الثورة والنضال والتمرد والسلطة ثم يعودون إلى أوطانهم ويقومون بالفعل: ((فالمثقفون الثوريون يبلورون تفكيرهم اليساري، على الأغلب في العواصم الرأسمالية إنهم أصلاً لا يستطيعون الحياة إلا في جوّ من الليبرالية التي تتيح لهم الكتب واللقاءات والدراسة والتنظيم بحرية وسخاء لما في تلك العواصم من بحبوبة فكرية وضمانات قانونية)) ص132.
تمثل هذه الرؤية نوعاً من الاستلاب نحو الآخر الذي يظهر في شتى تمظهراته منقذاً على مستوى جميع الحلول حتى الحل الثوري.
الذات الرؤية العشائرية:(1/174)
البؤرة الرئيسية في هذه المقولة ذات منحى اجتماعي أي ذات بعد واحد يتطرق إليه الخطاب وهو الفعل الاجتماعي السائد القتل والثأر وما يستدعيه هذان الحدثان من توابع اجتماعية أخرى كالتشرد الأسري وكالانفصال العائلي إذا كانت هناك قرابة بين المتقاتلين، ويحاول الخطاب تبئير هذه القضية الإشكالية الاجتماعية من خلال تفجيرها في اللقاء الذي يحدث خارج نطاق الرقابة العشائرية بين لمى عبد الغني وعصام السلمان (اللذين ينتميان إلى عائلة واحدة) في لندن ويعيشان بحرية دون أي عوائق لكنهما عندما يعودان إلى بغداد تحدث الكارثة يكتشفان أنه لايمكن أن يستمرا في علاقتهما ولا يمكنهما أن يتزوجا لأن والد عصام قتل أحد أعمام لمى وتظهر هنا المحاولة من الخطاب عرض القضية في موازنة بين الذات والآخر، ففي لندن موطن الآخر كانت الإمكانيات جميعها متاحة بل تخلّص عصام ولمى من كثير من القيود التي يحملانها من موطنهما وتظل المقارنة دائماً قائمة بين الذات والآخر وفق معادلة السلب والإيجاب وتظهر مفارقة مأساوية أعمق في حياة الذات.
((المأساة أنهما من عشيرة واحدة وابنا عمومة)).
إذاً فالقضية ذات ارتباطات وذات أبعاد أخرى ربما يكون عمقها إلى أبعد من مرحلتها التاريخية وربما تعود إلى أسباب أخرى سياسية وحضارية، على أننا لانجد إشارات إلى الواقع العشائري في المسائل السياسية على الرغم من أنّ الواقع السياسي العربي يعاني بشدة من هيمنة العلاقات العشائرية على السياسة ومجريات الحياة السياسية وكذلك غابت المحاورات الفكرية التي تعتمد الرؤية العشائرية والتي رأيناها في (صيادون) بممثلها (توفيق الخلف) وهي في واقع الحياة الفكرية العربية تقود مسيرة التفكير العربي، وهذا ما يمكن أن نطرحه تساؤلاً على خطاب (السفينة) الذي تحول من خطاب العشيرة الفكري إلى خطابات أخرى (فوق واقعية).
رؤية الآخر للذات:(1/175)
1- على المستوى الإنساني الاجتماعي: يصور الخطاب في مفارقة ساخرة بمرارة نقطة اللقاء بين العنصر الأنثوي الذي ينتمي إلى الآخر والعنصر الذكري الذي ينتمي إلى الذات، وهي دلالة سائدة في الرواية العربية دلالة “تجنيس” العلاقات الحضارية بين الذات والآخر يفسرها بعض الدارسين العرب نوعاً من الانتقام للخُصَاءِ الحضاري الذي تعانيه الذات وهذه العلاقة التي تعتبر في منظور الآخر خطيئة عابرة يمكن التكفير عنها بسهولة ويراها تجربة تعليمية.
((ما كان بيني وبين نفسي سرٌّ مكتوم لا أكاد أحدث به نفسي تعابثه أنت وكأنك تعابث طفلاً بريئاً تجعل الحبّ لعبة والمضاجعة أكلة تفاح.. تصور جاكلين. نطقت بذلك وهي تعلم أنها ستظهر يوم الأحد القادم لأن تعترف لكاهن في الكنيسة، فيقول لها الكاهن لمن قلت ذلك؟ تقول: لعربي على ظهر السفينة، فيقول عليك بتلاوة السّلام عليك مئة مرة، و”أبانا الذي” مئة مرة. واحذري العرب بعد اليوم؛ لأن بينهم من يقنع بامرأة واحدة)) ص32.
إذا دققنا الفحص في هذا النّصّ؛ فإننا لابدّ من أن نتوقف عند مفهوم الآخر للمسيحية ولكن الآن بطريقة غير مباشرة وإنما هي استنتاجية، فعلى الرغم من أن العربي الذي توجهت إليه المرأة الأوروبية بالحديث هو (مسيحي) إلا أنه يوصف بالعربي، لأن هناك فصلاً في مفهوم المسيحية فعندما يكون المسيحي لا ينتمي إلى الآخر، فإنه يسلب هذه الصفة (المسيحية) ويُصَنَّف تصنيفاً آخر قومياً وفق منظور المصلحة الذي يسخره الآخر.
2-على المستوى التاريخي: تراود الخطاب لحظات التفات إلى الماضي وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، ربما تكون هذه اللحظات تعويضية بالماضي المفترض المضيء عن الحاضر الواقع المظلم: ((وتواعدنا على لقاء في بيروت يعزف لي فيه لحناً خاصاً سيؤلفه جعل منذ تلك اللحظة يتردد في ذهنه وقال: سيجعله عربياً، لأن الإسبان و (لوركا) معهم كلهم عرب)) ص239.(1/176)
ويجعل الخطاب هذه اللحظات تعويضية آتية من الطّرف الآخر ليكون لها وقع أقوى تأثيراً ودلالة وينشأ تراسل واضح بين خطاب “صيادون” وخطاب “السفينة” في هذه القضية؛ فبغداد مرتبطة بالخرافة وبالعالم السحري الأسطوري (بالمفهوم العامّ لكلمة الأسطورة).
((وديع عساف راح في الحال يتغنى بعيون المها وعيون الظباء وعيون الأعراب الحدقات الواسعات، والحور، الشعراء والصعاليك والخلفاء.. وإميليا فرينزي سألتني عنها وفعلت بغداد ولمى في خيالها معاً: الجواري والحريم وبنت السلطان، وهل عشق السندباد يوماً؟)).
[الذات: الصحوة ووعي الآخر سلبياً (العداء)] تداخل المستويات:
يَنْفَضُّ مؤتمر السفينة الذي انعقد لفحص كثير من الحلول رأينا منها الحل الاستلابي الذي كان يرى في الهروب إلى الآخر إلى (أوربا) منقذاً له من واقعه: ((البَحْر خلاص جديد إلى الغرب إلى جزر العقيق إلى الشاطئ الذي انبعثت عليه ربّة الحبّ من زبد البحر)) ص5.
وكذلك يرى فيه مصنعاً للحلول يبلور فيه أفكاره، ومفاهيمه حول قضاياه ورأينا الانتحار الانهزام أمام الواقع... وحلولاً أخرى تندرج كلّها تحت مفهوم الهروب والالتجاء إلى الطرف غير الصحيح، وقد يكون هذا الالتجاء إلى الضفة المعادية.
وبعد انفضاض هذا المؤتمر، ولأسباب الفحص الكثيرة، يتوصل كثير من أعضاء مؤتمر السفينة إلى نقائض لمواقفهم السابقة تعبيراً عن صحوةٍ تُمَثّل وعي الذات الإيجابي وذلك بمؤثرات خارجية أكثر الأحيان بعد فحص إمكانيتها المخفقة والرجوع عن الهروب: ((أما كفاكم عشائريات متى سترضون بمواجهة العاصفة في سبيل ما تريدون؟)) ص238.(1/177)
قد يكون هذا التساؤل نوعاً من التفاؤل يتشبث به الخطاب في سبيل الإبقاء على بقّيةٍ من روح المقاومة على الرّغم من أنه تساؤل لا يُلغي واقعاً متجذراً في الرّوح الحضاريّ العربيّ، ولكنّ الخطاب يفترض استجابة للاستنكار الذي أطلقه: ((بالطبع سأعود إلى بغداد... ألا ترى أن الموانع الأصلية مازالت قائمة)) ص238.
واضحٌ أن هذه الاستجابة استجابة حيّة؛ لذلك يسعى (الخطاب) إلى تأكيدها وإظهار المفارقة الحقيقية بين البحث عن البديل في المجتمع المباين المخالف لمجتمع (الإشكالية) ذاته.
((نعم في بغداد حريتك؛ لا لن توجه إلا فيها، إنها لن توجد في الـ “هناك” الضبابي، الوهمي المغري، في أوربا أو غيرها هناك التلاشي في التفاهة هناك الهزيمة الحقيقية.. أتعلمين يا لمى أن عصام كان هارباً منك؟ أما أنا فأقول إنه كان هارباً من مدينته من أرضه وحريته لن تكون إلا في مدينته في أرضه)) ص237.
لهذا الإعلان الصريح للعداء نحو الآخر أهمية كبيرة فهو خلاصة تجريبية، وقد يحمل العداء بُعداً تنافرياً في فهم تكوين العناصر المؤلفة لمجتمع الذات ولمجتمع الآخر، ويبلغ وعي الخطاب للمكونات الحضارية المتنافرة ذروته في هذه النقطة والتنافر يجعل محاولة الانتماء إلى أحد الطرفين هزيمةً، هباء وتلاشياً؛ لأنه سيفقد مكوناته ولا يستطيع الاندغام في الآخر، لهذا فالحرية تعني المواجهة لا الهروب مهما تكن النتائج.
? ولم يأت هذا الموقف عارضاً أو طارئاً، وإنما أسس له سابقاً في الجزء المتقدم من الرّواية ووضعت له صُوَّةٌ لينبني عليها: ((اصطدمت بجاكلين وجهاً لوجه.. وصعدنا إلى السفينة معاً تبادلنا بضع كلمات تترنح بين العربية والإنكليزية والفرنسية.. لا أنا أجيد لغتها ولا هي تجيد لغتي فنتفاهم إلى حد ما، أو لعلنا نتفاهم، فتبقى العلاقة بيننا على شيء من الالتواء والتحفز.(1/178)
مهما يكن فإن التفاهم صعب، حتى في أحسن الحالات هناك تساهل هناك تغاض، هناك عدم اكتراث. أما التفاهم الحقيقي فشيء نادر)) ص43 و 44.
مع أن هذا التباعد حتى في أسهل القضايا الإنسانية وأكثرها قدرة على التجاوز تجاوز المسافات واختصار المساحات الفاصلة؛ فإنه لا يمكن أن يتجاوز إلا في حدود ضيقة وضمن شروط التغاضي والتساهل أو عدم الاكتراث بمعنى أن التواصل الحقيقي لا يمكن أن يتم، أما ما يمكن أن ندعوه ضرورات تخلق علاقات ما؛ فإن هذه العلاقات هامشية لا يحدث فيها أي تداخل إلا تداخلات السطوح التي لا تولد بدورها أي نوع من الفاعلية أو التفاعل.
? واللاجدوى قانون سائد أيضاً في حياة الذات؛ لأن جميع الظّروف المحيطة، سواء ماكان منها بفعل الإرث التاريخي وما كان بفعل الأحداث الاجتماعية والسياسية المعاصرة: ((كنت أقول لنفسي سأذهب إلى بغداد بعد كل هذا وأُعَيَّنُ مُحَاضِرةً في كلية طلابها يطلبون الوظيفة أكثر مما يطلبون العلم)) ص162.
ولا يخلو الظرّف من دلالات طبقيّة ذات تأثير سلبي:
((وسيكون لدي سيارة بطول القطار يدفع ثمنها أبي.. وسأبني بيتاً جديداً في المنصور فيه رخام من مقالع كرارة، ونوافذ بطول الجدران وارتفاعها وبركة صغيرة مبطنة بفسيفساء زرقاء سنسميها مسبحاً)) ص162.
وإذا حاولنا البحث في العوامل التي دعت إلى الاغتراب عن الآخر في خطاب السفينة؛ نجد أنها الاخلال في الثقة أي ظهور أزمة في الثقة بين الذات والآخر على إثر إخلال بمفهوم القيم العليا والقوانين الأخلاقية التي تربط بين أطراف العلاقات: ((توهمنا الصّدق في أمم العالم، وإذا نحن ضحية سذاجتنا. وقد عرفنا ذلك كأمة وعرفناه كأفراد. ولذلك فإنني كفرد ما عدت أكترث لما يقوله أحد، لا يهمني إلا إحساسي وحدسي)) ص17.(1/179)
ويأتي التّقاطع بين طرفي معادلة الذات والآخر ذا طابع (كريكاتوري)، لكنّه يحمل دلالة أكثر عمقاً، إذ يحدث تآخٍ محيّر في شخصية أحد ممثلي الذات، وهي شخصية للمذبحة، في مستوى يظهر التآخي شكلياً ولكن في المستوى الأعمق يبدو منطق الاستلاب أو ما يمكن أن ندعوه “الانسلاخ القومي”.
((لفت نظري هذا الشاب من بين العشرات من الركّاب؛ لأنه يشبه لورداً إنكليزياً متنكراً في زي أعرابي أو بالعكس. فرز إحدى الشخصيتين عن الأخرى صعب وغير ضروري)) ص42.
هذا التداخل (فرز إحدى الشخصيتين عن الأخرى صعب) يحمل دلالتين مهمتين: الأولى تشير إلى أن مقولة الانسلاخ القومي ليست مقولة تنفيذية بالمعنى الكلي فهي- في رأي الخطاب- نوع جزئي من التحول وبالتالي فلابد من ملء الفراغ الجزئي الذي يتركه هذا التحول بمكونات مكتسبة جديدة من خلال الاندغام (جزئياً بالآخر)، وهناك دلالة ثالثة يمكن الانتباه إليها وهي دلالة على إشكالية الشّخصية العربية المستلبة التي لا تنتمي إلى أي من المستويين الحضاريين العربي والغربي ولكن السؤال الذي يمكن أن يطرح: لماذا أطلق الخطاب الحكم بأن الفصل بين هاتين الشخصيتين “غير ضروري” والإجابة عن هذا السؤال قد تُحَمّله تناقضاً، فالمعنى الذي يمكن أن يُفهم من الحكم هو أن وضع الشخصية المتداخل وضع صحي بينما نرى سياق الخطاب يعرض العكس تماماً. على الرغم من تعدّد المواقف تجاه الآخر وتنوعها، لكنها في أكثرها تبقى على غير استقرار واضح ولا تستطيع تحديد موقف صريح متكامل مخطط له وربما يعود ذلك إلى السّعي إلى موازاة الواقع بصدق محتم؛ وهو ما يعني أن الذات غير متكاملة لتكون كلية متجانسة تستطيع اتّخاذ المواقف المتماسكة والمتجانسة؛ لذلك تأتي مواقف الذات متداخلة، فمن موقف العداء إلى الاستلاب إلى الاندهاش الحضاري: ((ما أروع الصخور التي هندسها ديدالس وهي مازالت بخرائبها تتصيّد أشعة الشمس قرابة أربعة آلاف سنة خلت)) ص30.
(((1/180)
إن معجزةَ الحجر الأبيض هذه أروع ما بنى الإنسان في ثلاثين قرناً من عمارةٍ)) ص30.
ولا يقتصر الاندهاش الحضاري على منجزات الحضارة الغربية المادّية، وإنما يحدث الاصطدام من خلال لقاء المجتمع المباين، وهذا يُحْدِث صدمة بمعنى الاندهاش القيمي: ((في أكسفورد كانت القوارب على نهر الآيزيس تغريني ولا أركب فيها في الأسابيع الأولى، ثم نزلت فيها وكأنني أرتكب إثماً، وبعد كنت دائماً أبحث عن فرصة للنزول في القوارب إلى النهر هل كنت أتمتع بالإثم؟.. ألأن القوارب ملأى بالشباب الشقر الطوال والفتيات العاريات السيقان وذلك عيب نخشاه)) ص161.
يتحدد الآخر أيضاً في مفهوم الاندهاش بأنه (( وَسَط يضطرب بالحركة والاكتشاف والجنس)) ص160.
وذلك لأن الذات مباينة، فمقابل الحركة هناك الرَّيْث، ومقابل الاكتشاف هناك الاجترار والتكرير، ومقابل الجنس هناك الكبت ومن هذا التباين تحدث شرارة الصّدمة.(1/181)
إن تبشير خطاب السفينة يتركز في رصده التباين الهائل في التوجه نحو العالم، وفي السلوك المتبع في التعامل مع مجرياته، فيما يلي سأعرض نصاً مطولاً ربما يعد البؤرة الخطابية في موضوعة الذات والآخر في خطاب السفينة: ((ما الذي نحن فيه؟ أي فردوس مجانين هذا؟ في هذه السّاعة بالذات ونحن في هذه القُمرة الصّغيرة نتأهب للخروج إلى البحر ثانية، وقد أرهقتنا الفلسفات والأوهام، ربما كان غيرنا... رحالة إنكليزي أو فرنسي، يقطع الرّبع الخالي مثلاً يغامر بحياته في رمال البوادي، محاولاً السيطرة على لغة تعصى على لسانه وحنجرته، ويجد متعة في شرب حليب الناقة بعد أن يغسل وعاء الحليب ببولها ما الذي نعرفه نحن عن صحارينا، والفيافي المفتوحة للمغامرين من خلق الله والمغلقة دوننا، عن البدو مثلاً من أمتنا، هؤلاء الذين يرسمون معالم الطريق وسط أوقيانوس الرّمال بكومة من الحجارة، كمن يرسم مسار هذه السفينة على الموج بفلينة عائمة.. هؤلاء المغامرون، هل يبحثون عن النفط ربما عن المعادن؟ ربما يمسحون ما أهمله حتى الله من أرض ليرسموا له خطوط طول وعرض شرقاً وغرباً على خريطةٍ ربما يخدمون أغراضاً خفية لدولهم! ربما! المهمّ هو أنهم يقذفون بأنفسهم في بوادي المجهول، ليعودوا بما يمكن أن يعلم ويحدد. وفي تلك الأثناء يكونون قد قارعوا الشّمس وعايشوا النجوم، وقهروا العطش، وعاشوا على حفنة من التمر، وهَرَّؤُوا بعض عجيزتهم على رحال إبل لم تُخلق لهم. ولا ريب أن بعضهم هارب من أمر ما. هارب من مجتمع لا ينسجم معه، أو امرأة يخشى زواجها أو راحة تنخز قلبه كالسّوس في الخشب. ولكن الهرب لديه الأصعب والأشق والأجدى.(1/182)
خمس سنوات يقضيها رحالة بين الأعراب يتعلم لهجة من لغة لن يقرأها ولن يكتبها، ويعود إلى لندن أو باريس عودة قائد مظفر من معارك نائية ليصف طلوع الفجر على خيمة مرعز سوداء، وكيف تتلقى الحصى أولى الأشعة البنفسجية فتتوهج كاللآلئ، ملقية وراءها ظلالاً زرقاء طويلة... إنه يكتشف الإنسان في جوهره، وقد اغتنى بالله ونفسه عن كل شيء إلا الأقل الأقل: كلمة جميلة واحدة تطربه، وكلمة خارقة واحدة تلهبه. حيث المروءة تتبدى كل يوم، حيث الحياة هي الشجاعة المتجددة ولا يبقى للجبان إلا موته المتكرر. وفي النهاية يكتب الرحالة كتابه وينشره ونقرؤه نحن بلغته الأجنبية لنعرف شيئاً جديداً عن أنفسنا لنعلم أين بعضنا منا)) ص80-81-82.
استناداً إلى التميز الذي تحدثت عنه سابقاً في خطاب جبرا (من تميز في الانتماء إلى الواقع “المرحلة التاريخية” الذي يوازيه الخطاب وتميز التطور(1) المرحلي بين رواية وأخرى) نجد في السفينة وعياً ذا طابع روحي مزود بطاقة مطلقية يركز فيها الخطاب على النَّفَس الروحي المطلق للإنسان العربي وخاصة الفلسطيني، لذلك جاءت الارتكسات مطلقية نتيجة للتناول المطلق (فالهروب، والانتحار، والانهيار والتمرد على قوانين الناموس الاجتماعي والسياسي) جاءت في أكثرها تمردات انتحارية، ولذا كان وعي الذات هنا وعياً للسلب ومحاولة للدخول في عالم الإيجاب من بوابة المطلق الروحي بعيداً عن فهم فحوى الصراع، صراع القيم في العالم وصراع المكونات الاجتماعية والمورثات السلبية من التاريخ سواء العربي والعالمي.
__________
(1) استخدم التطور هنا كمصطلح مفرغ من حكم القيمة السلبي وهو ذو دلالة لغوية صرف(1/183)
تمثل هذه المرحلة من الوعي في خطاب جبرا وعياً شاعرياً يَتَوَجَّهُ إلى مكوّنات العالم وإلى تناقضاته، وهي مرحلة في التاريخ العربي المعاصر سادتها المطلقات الاجتماعية والفكرية واحتدمت فيها صراعات الأيديولوجيات، وتُمثل كذلك توثيقاً اجتماعياً للرؤية البورجوازية لطبقة المثقفين التي كانت تشكل جزءاً من القيادة الاجتماعية. لقد طرح الخطاب وعي الذات وعياً زائفاً منساقاً وراء الواقع منسحقاً به، وهو وعي منهزم وحاصِرٌ ومنحصر في الأفق الأحادي للذات إذ تتحول فيه الذات الجماعية إلى ذات فردية حتى في وعي الفلسطيني الذي يفترض أن يكون ذا توجه شامل ومدرك لخصوصية المأساة، وفي سلم الارتقاء التطوري لخطاب جبرا تشكّل السفينة هبوطاً وتراجعاً عن “صيادون” في قدرتها على الرؤية الموضوعية، ولكن الخطاب حاول ألا يصادر الأفق الأخير لمستقبل هذا الوعي، وإنما أبقى إمكاناً توقعياً وحلمياً كما يستنتج من سياق الختام (الحدثي) لمجريات الخطاب الذي حاول بوساطة العودة عودة سكان السفينة إلى أوطانهم، ما عدا (وديع عساف) الفلسطيني المحكوم بظرفٍ تاريخي خارجي استثنائي أن يفتح بوابته على المستقبل ولو موارِبةً.
الذات والآخر في البحث عن وليد مسعود:
أ- التقدم والتأخّر:
المجتمع الغيبي، المجتمع العشائري، المجتمع الزراعي.
بأسلوب بحثي يُظهِر خطابُ (البحث عن وليد مسعود) أسباب التأخير الحضاريّ العربي التي تتمثّل في كون جوهر المجتمع عشائرياً في نظامه (وهو نظام سكوني محافظ ليس من قدراته الفعل نحو الأمام إضافة إلى كونه يقمع القوى الفعالة ليحافظ على تكوينه، وهي التي تشكل خطراً يقوّضه من جذوره).(1/184)
والتي تتمثل في كونه مجتمعاً زراعياً يؤدي الأغراض الطبيعية من أجل البقاء الطبيعي للكائن البشري، وهذا أيضاً ليس من الدّوافع نحو التطور والتقدم، ويحلل الخطاب الواقع الراهن لماهية الظاهرة الحضارية العربية، ويربطها بالظاهرة الغربية نافياً أن تكون لها ماهيّتها نفسها، وكذلك يعي نقطة مهمّة في فحوى ما ندعوه (باليقظة العربية) ودخول المدنيّة، فهو يحكم عليها بالنقض ولا يعترف بوجود مثل هذه الحالة لأنها أقحمت عنوة من الخارج، وليس من داخل المجتمع، وربما أيضاً، لأنّها لم تكن في حسبان الاستعمار، فجاءت حالة مشوّهة، لاتتقدم إلا (كتقدم الحالة المرضية) ولا تسمح بنشوء قوى فعالة مستقلة عنها تسهم في عملية التقدّم: ((إن مجتمعاً عشائرياً في جوهره زراعياً في أفضل الأحوال، غيبياً في معظمها لم يدخل المدينة إلا متأخراً وبعوامل تاريخية أقحمت عليه إقحاماً بدخول الإنكليز حكاماً في بلد أرهقهم وأرهقوه، لن يزعم أن مجتمعاً كهذا بعد الاندثار الذي حلّ به لأكثر من خمسة قرون طويلة، قد ثبت على قاعدة حضارية صلبة، بنيت عليها قواعد لاحقة صلبة مثلها. وبانعدام قواعد كهذه. وكان يقول: من السّخف أن نتصور المدينة ومجتمعها كأنهما قائمان في أقطار أوروبا ما بعد النهضة- وما بعد نشوء الطبقة البورجوازية وما بعد الثورة الصناعية- مجتمع خام موزع، مضطرب.مائع ينطلق في كل اتجاه ولا ينطلق في أي اتجاه)) ص43.
ويأتي طرح الحل مباشراً بعد التحليل معتمداً إياه نتيجة منطقية للمقدمات التي عرضها فهو ((يريد لهذا المجتمع أن يحقق ذاته عن طريق العقل والحرية والإبداع)) ص43.(1/185)
وعلى عادة جبرا في خطابه عندما يطرح قضية يتناولها في أفقها الأعم الكلي ثم يفصّل فيها ويتناول عناصرها، يناقش عناصر مقولة التقدم والتأخر وفق عناصرها المكونة التالية: [التصنيع، التقنية، التكنولوجيا، العقلانية، الإبداع] ويتناول كذلك معيقات التقدم: [اللاعقلانية، الغوغائية] ويتساءل حول أهداف العملية ويحدد القيم وفق النتائج التي تتمخض بها: ((فجميع أنواع التصنيع مثلاً، عندما سندرسها في المجتمعات المتقدمة نجد أنها كانت أشبه بثورات فرضت على هذه المجتمعات من فوق، وأنها كانت من عمل أقليات عاتية لاتحيد عما صممت عليه، وتعتبر المشكلات كلّها قابلة للحل بالوسائل التقنية والعقلانية طلباً للتقدم)) ص44.
لذلك فإمكانية فرض التقدم من فوق في المجتمع العربي من قبل الأقليات العاتية إمكانية متحققة قياساً بإمكانيته في الغرب، لكن الخطاب ينتبه إلى خصوصية المجتمع العربي وإلى البحث عن وصول نقي إلى التقدم الناشئ دون قهر أو قوة مفروضة: ((غير أن هذه العقلانية المفروضة من فوق تقلقله، لأن أصحابها من رأيهم أن يتصوروا أن المجتمع يمكن أن ينظم عقلانياً بمزيد من الدهاء والقوة، وأنه إذا وجدت عناصر لا عقلانية داخل المؤسسات الاجتماعية وجب عندها أن تتم السيطرة على هذه العناصر بحزم، وتغييرها حسب حاجتهم)) ص44.(1/186)
وهذا يسير بالعملية إلى التسلط والقمع، لأن هذه الفئات يمكن أن تتكئ على هذه المقولة وتسوغ كثيراً من مصالحها وأهدافها: ((ما هو الهدف النهائي لذلك كله؟ هل هو تهيئة الرفاه المادي للمجتمع حسناً، ولكن هل هذا كاف؟ وإذا سلمنا بأنه كاف هل سيحقق لنا الحضارة التي نطمح إليها؟ أو لن يكون ذريعة لتمرير أهداف خاصة لفئات تعطي الخبز للفم بيد، وتسلط المقرعة على العقل باليد الأخرى، كما حصل في فترات كثيرة من التاريخ... ثم هذه الوسائل القسرية المفروضة، ألن تنتهي إلى جعل القانون وسيلة لإرهاب المجتمع، لا لتنظيمه؟.. كيف إذن نوفق بين ما هو عقلاني وضروري وما هو لاعقلاني وضروري أيضاً)) ص44و45.
ويبلغ التعميق في التصورات والتحليلات نتائج في البحث عن ((حلول يجب أن تنبع من الداخل من الإرادات التي تمثل بمجموعها هوية الأمة)) ص45.
ولكن هذه الطروحات في مجملها ((سعي فكري مجرد... عن تجديد الأمة بذلك التحرق.. إلى إعادة النظر في الوجود العربي كله بمستوياته)) ص52.
العنصر الآخر من عناصر التقدم (التكنولوجيا التي تعني الفعل في الطبيعة والتعامل معها من منطلق عقلاني) ليس ممكناً، في مجتمع مثل المجتمع العربي، أن تكون قانوناً حتمياً يُعمل به في مسيرة الفعل الحضاري؛ لأن التكوين الموروث للمجتمع يفرز معيقات آلية تتولد تلقائياً من القوى الاجتماعية (الفعالة) بالمعنى السلبي.
((التكنولوجيا كيف لها أن تفلح في أداء مهمتها مادام يقاومها موقف أساسي غير عقلاني من الأفكار، من الأشياء؟ التكنولوجيا هي معالجة الطبيعة بأقصى العقلانية، مع إبداعية خاصة، كيف نخلق الموقف العقلاني في مجتمع تعصف به الغيبية صباحاً ومساء، وتوقعه الغيبية فريسة سهلة لضروب من الغوغائية)) ص44.(1/187)
لا يعني اتساق المواقف السابقة أن هناك استقراراً في الموقف من لغة تحديد ماهية التقدم وإن كان خطاب “البحث” قد حسم الموقف لصالح التقدم ولكن الصراع يدور من جديد حول السبيل الأمثل في الوصول إلى الهدف، إلى التغيير، فبعض المواقف تنطلق في بحثها عن التغيير من منطلق الاستيراد التقني، وهذا ما أشار إليه الخطاب في البداية ورآه وسيلة غير مجدية. والبعض الآخر ينتظر القوى الفعالة الكامنة في الذات. والنظرية الأولى التي تعتمد التقنية وبالذات (الكومبيوتر) رمزاً لها تطرح حلولاً جزئية، وهي حلول تبقي الذات في قبضة المنتِج الرئيسي (للتكنولوجيا) أما الثانية، وإن كانت تحتاج إلى زمن وقدرة وتحولات أيديولوجية وفكرية واجتماعية هائلة، فهي الحلّ الأمثل الذي يجعل من الذات قدرة متكاملة متجانسة، بل يمنحها شرعية الاسم أمام الآخر. في الحوار التالي تظهر معالم هذا الصراع بين المفاهيم جليّة وتظهر دلالاتها وقدرة كل منها: ((أنت تفكر بالتغيير بموجب قوة تفرض من فوق إنه تغيير من عبودية إلى عبودية، أما أنا فأفكر بالتغيير بقوة تنبثق من الداخل من عبودية إلى حرية، من داخل الإنسان يا عامر.
? لايهمني أن أغيّر العالم، عالم الناس، الكومبيوتر سيفعل ذلك عوضاً عني.
? ولكنك بتعلقك بالكومبيوتر واستعماله، إنما أنت تغير العالم بمشيئتك إما إلى أفضل وإما إلى أسوأ، لا يهمك أن تغير العالم؟ لابأس ولكنك تعلم أن الأشكال إذا تغيرت، تغيرت مضامينها. كما تغير المضامين الأشكال بالضبط، أنا أعجب بالارتجال البارع الذي يؤدي إلى ارتجال أبرع وهكذا. عملية الشيء منه.. كالرسم أو الشعر: تبدأ بشيء من الوحي بشيء من الجنون، وينتهي إلى حيث ينظر الآخرون فيأخذهم العجب)) ص201و 202و 203.(1/188)
لا نستطيع أن نطمئن إلى استنتاج سنعرضه؛ لأن الكلام في الحوار السابق غير واضح المعالم والخطوط، فالحوار أغفل مفهوم الثورة بل غيّبه بالإيحاء بالتغيير وفق قوة تنبثق من الداخل، ولم يوضح ماهية هذه القوة التي تنبثق أهي قوة باردة عفوية بيضاء تتسم بالتحول النفسي أم هي قوة ثورية، وإن كنا نظن وفق سياق الخطاب وسياق هذا الموقف نفسه أن القوة المقصودة قوة التحول العفوي غير الثوري.
والملاحظة الثانية على الحوار هي حول فرضية الكومبيوتر إذ تدعي أن الكومبيوتر هو الذي سيسيطر على العالم ويغير ويتحكم وهي نظرية فاشلة؛ لأنها تعتمد، كما عرض الخطاب، على وسيلة يمكن أن تكون في يد فئة اجتماعية ما، وهي التي تسيره وفق مشيئته، وهذه النظرية لاشك في أنها ذات منزع طبقي (بورجوازي)، ومايؤكد ذلك النص التالي الذي يبدو فيه العنصر الاجتماعي الذي طرح النظرية باحثاً عن الحل الفردي يختار المظاهر الحضارية المجتزأة من سياقات حضارية متباينة ويخلق منها (تشكيلاً) حضارياً يستحضره على مائدته العامرة وهو لا يرى التحضّر مساحة كلية يجب أن تغطي الكلية الاجتماعية وإنما يمكن أن يبني الحضارة وسط الخراب ولا ضير من تجاورهما.
((الحضارات كلها هنا على هذه المائدة، في نسائنا هؤلاء، في كلامك أنت وأنت في أصوات الفلوات والهاربسيكورد في المقام العراقي في لوحات جواد سليم وفائق حسن المعلقة على الجدران. أليس رائعاً أننا نستطيع أن نتذوق كل ذلك دفعة واحدة وقد جمعناه معاً من سومر، من (فلورنسة آل مديتشي) من بغداد (المأمون) من عصر الصواريخ المتساقطة على القمر والمريخ؟ كل ما عدا ذلك اتركوه وراءكم انسوه. القيم أن تكون حضارية أو لاتكون، التخلف لا يعالج؛ إنما أنت تتخطاه فلأكن مع الذين تخطوا التخلف قبل أن أقع ضحية مع الضحايا الأخرى)) ص204.(1/189)
واضح من هذا النص ومن الجملة الأخيرة ذاتها، الاجتزاء في فهم التحضر والتخلف وجعله قضية فردية، ويأتي الخطاب نفسه ليبين هذه النظرة الطبقية (البورجوازية) معلقاً: ((لم يكن عسيراً على عامر أن يتخطى أو يتصور أنه يتخطى التخلف والمال لديه لم يعد مشكلة. فقد بدا أنه كلما أنفق ازداد دخله... بوسعه أن يدعي أنه يعمر عالماً مستقبلياً في وسط عوالم التخلف نفسها)) ص204.
((إن التخلف غياب حضاري، وكيف يكون الصعود الشاق إلى مسرح الحضور. حيث تتأطر الأفعال بالقيم ويحكم عليها بمقاييس العقل)) ص204.
هذا رافد آخر من روافد التقدم في امتزاج القيم بالأفعال الموجهة بالعقل، وهو مفهوم للتقدم تفاؤلي لا يعتمد في النظرة المعطيات الموضوعية الواقع وإنما يتجاوزها بالحلم:
و((التقدم حين يكون تفاؤلياً يَعِدُ دائماً بضرب من الخروج من التاريخ كما نعرفه بضرب من الانطلاق إلى صعيد آخر من الحياة)) ص323.
تتكرر الموضوعة الخطابية التي وردت في السفينة حول المقاربة بين إنسان العصر الأول ونصيبه الحضاري من الحياة وإحساسه العميق وإنسان العصر الحديث المثقل بأعباء القسر المعيشي، ولكنّ (البحث عن وليد مسعود) تطرحه بتعديلات وإضافات على الموضوع الواحد الذي طرحته (السفينة):
((أريد مراجعة الماضي كلّه، ماضي الإنسانية، منذ أن كان الإنسان يقتل الوحوش بيده، ويرقصُ بعد ذلك لإلهه الغاشم رقصة يُدَوِّخ بها الليل والنجوم إلى أن يقع على الأرض مغشياً عليه من التعب أريد الماضي موجوداً في الحاضر، لا لست أعني مجرد تراث... بل ما هو أعمق وأبعد وأهم، الأزمان كلّها، وهي تدفع الذهن بين مجاهيل الوعي واللاوعي متاهات الماضي في اتساع مستمر ونحن أصحابها كلّها، نحملها معنا ونحن نهيم على أوجهنا في فضاءات الزّمن الداخلية)) ص331.(1/190)
إن فحوى هذا الشّغف بالماضي ربما تعود في جذورها إلى ذلك الحنين إلى المفقود الإنساني الذي غادره الإنسان عبر تراكم الزمن، الحنين إلى الإيمان أو إعادة الارتباط بالآلهة، إلى جانب ذلك التوق إلى احتواء الزمن المفقود الذي تفلت من قبضة الروح الإنسانية، وغادرها في الأزل وأورثها قلق المجهول الفائت لتضيفه إلى قلق المستقبل المترقب، وهذا التوق والطموح إلى احتواء الزمن يذكر برؤية جبرا للزمن المكور أو الدائري بل بطموحه في تكوير الزمن واستدارته؛ لأن هذا التصور الزمني وقدة للخيال الإنساني ولِحِسِّه ولروحه الحضاريّ وهي أشياء تشكل مطامح روحية له تنبغي استعادتها.
ويشكل الانفعال بالعالم بالمفهوم الإيجابي الفني مطمحاً كذلك من مطامح الإنسان المعاصر، وهو يحسد إنسان العصور السابقة على هذا التمتع الحسي الجمالي الذي كان يتلمسه حتى بطريق العمل بتحويله إلى تجربة روحية تتكثف فيها الانفعالات الحسية والجمالية لتحقق الإنسان وفي النهاية نجد منزع الخطاب في أي توجه له وهو منزع روحي يريد استرداد المفقود أو خلق تعويضات مقاربة: ((هناك أقوام بدائية إذا سألتها: لماذا تعمل؟ أجابت نعمل لكي نرقص أي لكي ننفعل حسياً وجمالياً، وجماعياً إنه تغيير من نوع ما ولو لساعة)) ص203.(1/191)
وتبقى هذه الرغبة مسيطرة، هاجساً يبحث عن حضوره وتحققه ويدأب الخطاب في البحث عن محققات وعن مقاربات للروح التي تعني التقدم والجسد الذي يعني المادة ويعني انحسار الحضور الحضاري بمعناه الحقيقي، ويجهد كذلك في إيجاد الدلائل والبراهين على هذه المعادلة انحسار الجسد أمام امتداد الروح، فلا يستطيع العالم الراهن وفق معادلة العكس على الرغم من أنها هي الحقيقة الماثلة في الواقع، وهذا اتساق في الرؤية في كلية خطاب جبرا الذي ما فتئ ينزع هذا المنزع ويصارع أي محاولة لتحويل مسار المعادلة الذي يفترض أنه المسار السوي: ((الإلهام هو أن تتلاشى فيما ترى... ولا أقصد فيما ترى بصرياً ورؤيوياً حلمياً، أي فيما ترى إضافة إلى رؤية العين كتجربة الفنان السومري قبل خمسة آلاف سنة. أتذكرين المنحوتات السومرية الغربية لرجال ونساء واقفين في كل منها تكون العينان متسعتين اتساعاً مذهلاً بحيث تملآن معظم الوحه، وتكحلان بالقمر الأسود تأكيداً على اتساعهما، لأن صاحبهما على اتصال برؤية ما، عميقة خارقة بينما تجدين يدي التمثال صغيرتين لحد التلاشي لماذا لأن اليدين الصانعتين هما التأكيد على وجود الجسد، والجسد في تجربة الفنان هنا يتلاشى، لأن العينين الرائيتين نافذتي الروح أصبحتا كل شيء وأصبح الجسد لاشيء هذا هو الإلهام.. يكاد يكون انتقالاً من حالة الأنسنة إلى حالة الألوهية)) ص221.
هذا هو المطمح الذي يسعى إليه التحول من الأنسنة إلى الألوهة وبمعنى آخر عرضناه سابقاً هو إعادة الارتباط بالألوهية المفقودة وربما يكون من مسببات هذا الفقد التطور التقني الحديث (التكنولوجيا) و (الكومبيوتر) والماضي خلو من هذه المنجزات فهو مازال بكراً. لم يهتك بالأرقام والمؤسسات وهو بالشكل الطبيعي سيكون مطمحاً لأبناء الحاضر.(1/192)
إلى جانب هذا النزوع الروحي العالي نحو الماضي بطريقة تصوفية تتوحد بالزمن الذي يمتلك الروح وتريد استحضاره في الحاضر نجد محاولة أخرى من نوع آخر لخلق التجاور بين الماضي والحاضر ويتم ذلك في إطار التنازع بين الذات والآخر على احتياز الفعل الحضاري: ((أين يقع رجل كعامر ناجي عبد الحميد من بنية المجتمع في مدينة كبغداد؟ في كل مدينة من مدن الغرب الكبيرة هناك دائماً ثلاثة رجال أو أربعة من طرازه.. لهم قصورٌ أرستقراطية لم تزعزعها نظريّات وأساليب المساواة الاجتماعية المزعومة.. فيها إبداعات وغراميات وفضائح، وأفكار تتبلور في اتجاهات ومدارس وتقليعات لايكون الفنّ بمنجى منها ولا الأدب ولا السياسة... عامر ناجي عبد الحميد وأحد من هؤلاء، بل إنه في بغداد يكاد يكون وحيداً في مجتمع خاصّ لا يشبه في كيانه شيئاً من الكيانات المجتمعة المحيطة به، فهو ليس بظاهرة، بقدر ما هو شيء من عالم آخر أو ربما من عصر آخر. فبغداد وفي تاريخها العريق عرفت كل شيء عرفته حضارات اليوم ولعل عامر، إن لم يكن مستعاراً من باريس أو لندن فهو مستعار من ماضي مدينته هو، مدينته التي كانت قبل أكثر من ألف سنة حاضرة الدنيا في كل ما يفعله الإنسان أو يفكر فيه في وسط دسائس الحكم، وتمرّد الجند وصراعات أهل الدّين، كان هناك مَنْ يسمعُ في حجراته أروع الشعر أروع الموسيقى، أروع الجدل: كان هناك من يلتئم على مأدبته الملائكية والشياطين المؤمنون والزنادقة، الموالون والثائرون، على أن يتصفوا جميعاً بما يعجز أن يتصف به الآخرون من فتنة أو ألمعية أو لسان)) ص198.
إن الحركة هي المطمح، والتّغايرُ والاختلاف هما دافعا الحركة، والحركة هي الارتقاء الحضاري، (الصعود إلى مسرح الحضور) الحاضر يتصف بالتماثل والتشابه في عناصر الذات وهما مبعث السكونية ومُثبتاها.(1/193)
أمّا الموقف الثّالث من الماضي، فهو موقف انتقائيّ يَعْمد إلى الاختيار وتوصيف الماضي وفق رؤياه، والانتقائية هنا بمعنى الانتقائية الغرضية بالمعنى السّلبي، وهذا الموقف يوزع الماضي إلى خطيّن: الخط الأول مرفوض على الرغم من إيجابيته ويرفض الانتماء إليه ولكنه يختلق حداً جديد المفهوم. الماضي يتمثل في الانتماء الأسري وهي موضوعة خطابية بدأت في صراخ (عنايت هانم وآل ياسر) وانتقلت إلى (صيادون) (عماد النفوي) ثم اضمحلت قليلاً في السفينة وكان تجليها وفق أبعاد أخرى مختلفة عن سابقتيها والآن في "البحث" تعود إلى الظهور بالعنف ذاته الذي ظهر في (صراخ)؛ لأن هذه الموضوعة كان عنفها في ذروته في (صراخ) وتأتي هنا مشفوعة برفض الماضي العام، الذي يشكل الانتماء القومي لصالح (الأسري) في البداية من منظور الانتماء إلى عشائرية الطبقة الإقطاعية، ثم من منظور الانتماء البورجوازي: ((يرفض النظر إلى تاريخ أمته، قد يرى التاريخ كلّه يبدأ بجده، وهو يناقض العثمانيين عشوائياً في أواخر القرن الماضي ويتنامى التاريخ بالاحتلال البريطاني للعراق؛ إذ يبرز أبوه محارباً وطنياً يشعر أن كلَّ معركة يكسبها ضدّ الحكّام بدخوله السّجن أو بالإقامة الجبرية في بيته تدنو بالبلد من يوم تحرير يحلم به على غراره الخاص ولا يتحقق الحلم، عامر يعيش لحاضره، لحاضره فقط... بغداد تعني له داره التي ورثتها عن أبيه وجدّدها وحديقته الفسيحة.. بغداد تعني له مائدته العامرة ومطبخه العصري المزوّد بمؤن تكفي حيّاً بكامله في سنة مجاعة، ومجموعة خموره الفرنسية الألمانية وضروب الأجبان الفرنسية والإنكليزية والسويسرية والدانمركية)) ص198-199.(1/194)
ربّما يكون هذا هو مفهوم التقدم في رؤية (الموقف الاستهلاكي) خاصّة أننا رأينا قبل قليلٍ مِنَ الصَّفَحات في معرض الحديث عن التقدم والتأخّر أن هذا الممثل المنتمي إلى موقفٍ من مواقفِ الذّات يرى إمكانية قيام الحضارة في أحضان التخلف والاستمرار فيهما متجاورين. فإذا كان مفهوم التحضر يظهر في بعده الاستهلاكي، فليس هناك إدهاش في المسألة وإنما يكون الوضع طبيعياً من نتاج الحتميّات، وهذه الرؤية تعتمد في وجودها على وجود الآخر، وهو المتجلّي الدائم في أي بحث عن ماهية الذات والولوج في عوالمه. وقبل أن ننتقل إلى فحص رؤية الذات للآخر نشير إلى بعض الرُّؤى الأخرى للذات خاصّة فيما يتعلق بالماضي، فبعضُ عناصر الذات تطرح تقصيراً في معرفة الماضي أمام معرفة الحاضر، وهذه المقولة أيضاً عالجها خطاب (صيادون) وكذلك خطاب (السفينة) وجاءت في (صيادون) ذات بعدين متناقضين في علاقة الماضي بالحاضر والاستلاب من أحدهما. وفي (السفينة) ارتبطت بالعلاقة مع الآخر والآن تأتي: ((ما أقل ما أعرف عن تاريخنا وأنا طالبة التاريخ)) ص234.
ويتوصّل ممثلو الذّات إلى الإيمان باللاجدوى من الفعل الثّقافي ومن المواقف الفكريّة والسلوكية التي اتخذوها ضدّ مجريات المجتمع:
((ما الذي تلتزمه أنت؟ المجتمع؟! العقل؟ ومالذي التزمته أنا؟ الجماهير مالذي قضى كاظم عمره في التزامه على طريقته؟ إحلال البررلتاريا محل البورجوازية)).
رؤية الذات من خلال رؤية الآخر (تجليات الآخر في الذات):(1/195)
يناقش الخطاب موضوعة الثقافة والانتماء الثقافي إلى إحدى المنطقتين الثقافيتيين: ثقافة الذات أم ثقافة الآخر؟ ويهاجم الفرز الآلي السطحي وإطلاق الحكم النهائي بمجرد الاهتداء إلى مصادر الثقافة فإذا كان المصدر غربياً سواء أكان في الكتب أم في الجامعة؛ فالحكمُ على المثقف (بالتغريب). وإذا كانت الثقافة تقليدية عربية دينية؛ فالحكم المجهّز لها الرجعية والسلفية: المقولة تزداد رواجاً يوماً بعد يوم، لأنها تلذّ للجلهة، المقولة مبنيّة على ما يبدو في الظّاهر أنه سيرورة منطقية: المرءُ حصيلةٌ ثقافيّة وبما أنّ الثّقافة مصدرها اليوم الكتب الغربية، أوالجامعة بمناهجها العلمية التي مصدرها الحقيقي هو أيضاً الغرب، فالمثقف حصيلة غربيّة أي أنّه لاصلة لفكره في أعماقه بطبقته وأرضه...
وإذا كان مثقفاً ثقافة عربية دينية تقليدية؟.. سيقولون، ولا ريب أنه هو أيضاً حصيلة رجعيّة حصيلة فكرٍ سلفيٍّ مثاليٍّ يستنكف عن الطبقة والأرض.. نتيجةُ هذا المنطق أنّ الثقافة هي تقطيعٌ لصلاتِ الإنسان بطبقته وأرضه. أي أنها نوع من الجناية)) ص355.
يندرج هذا التصوير الذي يعرضه الخطاب في المأزق الفكريّ والثقافيّ الذي يعانيه المثقف في مجتمع الذات، ونتيجة لهذه التقسيمات ولهذا الفرز يجري الصّراع الفكريّ الحادّ الذي يشكّل جوهر الصّراع الحضاري، ولذلك تكون النتيجة خُلّبيّة؛ لأنّها نتاجُ صراعٍ وهميٍّ غير منبنٍ على أُسس جادّة وعلميّة وموضوعيّة وإنّما هو صراع ارتجاليّ قد تكون أطرافه ليست على نقائض، ولكن على اتّفاق.
رؤية الآخر:
لا يبدو الآخر شديد الحضور على مساحة الخطاب، كما رأينا في (السفينة) و (صيادون) على الرّغم من وجود مسوّغ لذلك، وهو أن الشخصية الرئيسية بل أكثر الشخصيّات لها علاقة وطيدة بالآخر؛ إما من خلال الاتّصال المباشر بالدّراسة بين ظهرانيه وإمّا بالاطّلاع غير المباشر على ثقافته، ويبدو أنّ الخطاب استنفدَ هذه الرّؤية في السّابق.(1/196)
-الموضوعة /التفريعة/ الأولى: الآخر المُنْقِذ المتوقَّع (خيبة الأمل) الفرز السائد في أيديولوجيا العالمين: الغرب والشّرق يمنح الشرّق صفة (الرّوحاني والغرب صفة (الماديّ)، لكنَّ الشرق الذي سيطر عليه وهم التفوق الغربي أخذ يرى خَلاصَهُ حتى خَلاصَهُ الروحيّ بالمعنى الغيبيّ الصِّرْفِ مهيأ في جعبة الغرب وما على الشرقي إلا أن يقطع المسافة الفاصلة ليصل إلى فردوسه الموعود، إلى أرض الأمل، غيرَ أنّه ما إن يطأ هذه الأرض يحسّ بأنه الجحيم، وعليه أن يتخلّى عن كلّ أمل: ((فلما أرسلت إلى إيطاليا لأدرس اللاهوت في دير سانتا ماريا دولوز في ميلانو حسبت أنني سأجِدُ هناك المنطق الذي سيبرّر حلمي الذي لم يتح لي أن أفهمه في الكهف بوادي الجمل. وإذا بي أكتشف أن ما أرسلوني لدرسه قد جعلوه وسيلة لتثبيت العالم لا لتغييره. أردت تغيير الأعماق، تلك الأعماق، تلك الأعماق التي بها سوف يخلق الإنسان بشراً جديداً. وإذا كلّ ما أراه هو العمل بجنون على مسح السطح وَرَدْمِ الأعماق. هكذا رأيت الجيوش العاويَةَ المحشوّة في الساحات تُراوح بأحذيتها الثقيلة، ثم تدفع دفعاً إلى مصير يُذهلني ويُغْضِبْني لم يفهم زملائي ما الذي يريده هذا الفتى العربيّ من فلسطين يؤمن بثوّار الجِبال التي جاء منها ولا يؤمن بجيوش روما الجديدة)) 186، 187.
هكذا يكتشف المتمايز بالاصطدام الذي يولّد الصدمة من التّباين الحادّ بين عالميْ الذات والآخر: عالم يحاربُ في الجبال من أجل حريته وعالمٍ يُجَيّش الجيوش ليسيطر ويحكم والتغييرُ خاضعٌ لمشيئة هذه الحشود القطيعية.
في ضوء هذا الفهم المتباين المقولة التغيير والتغير تُحدث صراعاً يكون فيها مُمَثِّل الذّات الأضعف، لأنه لا يحتمي بجيوش روما وإنما يحتمي بمقولات السّيّد المسيح، لا يحتمي يصلف الغرب ووقاحته وأحذية جنوده وبنادقهم وطائراتهم.. وإنّما يحتم بروحانيّة الشّرق، وهي غير مفيدة إذا حدث لقاء بينهما وبين جديد الغرب.
(((1/197)
انبرى لي أحدهم... وقال بحدّة: ماذا تعني بهذيانك هذا؟... إذا كنتَ تريد تغيير العالم، كما تدّعي، فانخرط في صفوف هؤلاء المحتشدين، الصّارخين في ساحة (الدوومو)؛ لأنهم في طريقهم إلى تغيير العالم أو ابقَ مكانك تقرأ الكتب... وانتظر يوم القيامة،.... فقلت له: ولكنّ المسيح لم يحارب بأدوات القتل، انظر ما الذي استطاع أن يفعل باثني عشر تلميذاً مُعْدماً، أبرعهم صياد سمك من طبريا في قرنين أو ثلاثة غَيَّرَ العالم ولكنّ الإمبراطوريّة الرومانيّة الهَرِمَة عادت فالتهمت النصرانية واستوعَبَتْها وجمدت التغيير- فهزّ رأسه مستهزئاً بمنطقي، فأضفت: نَصَّبَت الإمبراطورية المسيح مكان قيصر، وجعلت منه قيصراً أبديّاً يحكمون باسمه، وعاد النّاس عبيداً من جديد لألف سنة أخرى، فصاح لي... حَنِقَاً: أي تأويل هذا للتاريخ، وللدور الذي لعبته الكنيسة القديمة فيه؟.. أهذا كلام يقوله مُريد للرهبنة في ديرٍ كاثوليكيٍّ... ثم أمسك بتلابيب جبّتي السوداء، وقد جحظت عيناه: أتعلم أيها المفكر، أنت تكفر بنعمة من آواكَ في ديرٍ إيطاليٍّ بعد أن كنت تتسكع جائعاً في قرية فلسطينية)) ص187و188.(1/198)
رأينا في (صيادون) مناقشة حول رؤية الغرب للمسيحية ولمسيحيي الشرق، وكانت نتيجة هذه المناقشة الإدانة المطلقة للغرب، وهنا يحدث تنازع حول هذه القضية، وحول سلوك الغرب في تطبيق المسيحية يوجه ممثل الذات الإدانة الصريحة إلى مفهوم الغرب بإلحاقه بالسّلطة الدنيويّة بعد أن كان سلطة دينية، وتحوير ماهيّة المسيحية من سلطة روحيّة (تسعى إلى تغيير العالم بطريق السّلام) إلى سلطة قمعيّة استعبادية تَحْكم بالجيوش واحتكار عرقيّ للمسيحية، ويسفر التباين بين الذات والآخر، ليس صراعاً حول مفهوم المسيحيّة بالذات، ولكنّه صراع بين نقائض أيديولوجية، طرفُها الأول غربٌ متسلّطٌ يسعى إلى السيطرة والاستعباد وفق قانون الشمال المتقدم المتفوّق، والثاني شرقٌ يسعى بوعيه وبلا وعيه إلى توازن في العالم بطريقٍ لا يمكن أن يتوافق مع سعي الطرف الأول الذي يراه الجزء الثاني من القانون "الجنوب المتخلف".(1/199)
وتأتي ارتكاسات الذات موقفاً سوياً ومناسباً ردّاً على طروحات الآخر، وهي تشكّل استمرار للموقف السابق عرضناه في السفينة وهو عودةُ ممثلي الذات إلى وطنهم بعد فحص إمكانية الخلاص لدى الآخر، وهنا أيضاً يحدث الشّيء نفسه يتمّ الفحص بالاصطدام العنيف، وهذا العُنْف لم نجده في (السفينة) مثلاً أو في (صيادون) ويأتي القرار بمغادرة الفردوس المتوهّم: ((قَرَّرت هَجْرَ الدّير، ولم يكن قراري نتيجة خيبةٍ في ما كنت أدرس فحسب، لقد بات بعد أشهر من الحيرة والقلق أمراً لابد منه، إن أردت الإخلاص لنفسي لوطني للعالم، إن أنا أردت الإخلاص لحريتي وحرية الآخرين: إن أنا أردت أن أستمرّ في سعيي نحو ذلك التغيير العميق الذي بات يثيرني ويعذبني؛ لأنني مازلت قاصراً عن إدراك أبعاده الحقيقية، وأنا في بلد غريب لا أستجيب فيه إلى ناسه ومشكلاته، ولا أستجيب فيه إلا للصّور والتماثيل والموسيقى؛ لأنني أشعرُ أنها جميعاً إنما تشير إلى بلدي إلى بيت لحم والقدس وطبريا، إلى فلسطين لسهولها وجبالها وينابيعها)) ص188.
-الذات والآخر في (عالم بلا خرائط):
إن تناولنا لعالم بلا خرائط خطاباً روائياً، ندرس فيه موضوعة الذات والآخر يقدم بين يدي البحث معضلة، لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون اكتراثٍ؛ فالرواية تأليف ثنائيّ، وبعيداً عن الحكم النقدي على هذه التجربة، يمكن أن نضع في الحسبان الدراسي المزالق التي نخشى الوقوع فيها، ولكن لكي نكون في مأمن نسبي من هذه المزالق نسوق مجموعة من المطمئنات البحثية بل من المسوغات التي تسمح لنا أن نحاول مقاربة الدلالات الخطابية:
1- فيما يتعلق بالتأليف الثنائي من حيث تداخل مستويات التعبير لدى الكاتبين يمكن أن نتعلل بأن جبرا بمجرد قبوله بصدور الكتاب بالاشتراك مع منيف يقرّ بأن هذا المنتج الإبداعي يشكل جزءاً كبيراً من عالمَه فإن لم يكن بمطابقةٍ تامةٍ فبنسبيّة كبيرة، وبأنه ينتمي إليه كذلك بالنسبية نفسها.(1/200)
2-من خلال الفحص الانتسابيّ والنّسبيّ للمقولات التي طرحتها (عالم بلا خرائط) وجدنا أنّ هناك تقاطعاً كبيراً بينهما وبين مقولات الرّوايات الأخرى في الخطوط العامّة وفي تفصيلاتها الجزئية، ولا يحدث الخلاف إلا في قضايا من الطبيعي أن يكون فيها خلاف كالخلاف الذي ينشأ مثلاً بين (صيادون) و (البحث عن وليد مسعود).
-التفريعة الأولى: الماضي والحاضر: يأتي الخطاب على هذه المقولة إتياناً سريعاً ليظهر أن الحدّين الماضي والحاضر حدان مختلفان متباينان تبايناً فاصلاً، وربّما يكون ذلك لطبيعة المثال المطروح للموازنة بينهما ((الحاضر غير الماضي، غيره تماماً لا صلة من أي نوع بين الاثنين)) ص70.
ويتناول الخطاب مقولة الماضي والحاضر من خلال طرح هذه المقولة لتُفْحَص في ضوء التغيير الذي حدث للمدينة ومن خلال المقارنة بين حاضر المدينة وماضيها، وهذا تطور للخطاب من حيث نقطة التناول ففي الروايات السابقة كانت مقولة التغير والتطور والتقدم تناقش من منظورات مجردة أو فلنقل (لنكون أكثر دقّة ودلالة على ما نريد) من منظور (الواجب) أي ما يجب أن يكون أما في (عالم بلا خرائط) فالأمر مختلف إذ أخذنا الخطاب يتفحص التغيّر ويقارب الوقائع بعد أن كان يقارب الواقع، ويستنتج بل يرصد هذه الوقائع ويحكم عليها، وربما يكون هذا الظهور المختلف بل الطرح المختلف والنزول من مناقشة القضايا بمفهوماتها الكبرى المجردة بتأثير من الكاتب الشريك "عبد الرحمن منيف" الذي يتصف في خطابه بمعالجة القضايا وفق دراسة بحثية أقرب إلى الدّراسة العلمية التحليلية للجزئيات والإجراءات الوقائعية(1) في الواقع: ((لا تنظر إلى المدينة الآن، ما ترونه لا يمتّ إلى المدينة التي كانت في تلك الأيام حتى أخلاق الناس تغيرت، كانت الحياة عذاباً لايرحم)) ص72.
((
__________
(1) تظهر مثل هذه الظاهرة في كثير من رواياته "حين تركنا الجسر، الشجار واغتيال مرزوق، شرق المتوسط، شرق المتوسط مرة أخرى"(1/201)
رأيت عمورية تتسع في ربع القرن الأخير اتساعاً مذهلاً، فكأنني كلما تقدمت في السن ازدادت المدينة طولاً وعرضاً وفوضى من مئة ألف نسمة في أوائل العشرينات إلى نصف مليون بعد الحرب العالمية الثانية إلى قرابة ثلاثة ملايين نسمة اليوم)).
هذه الدراسة (الديموغرافية) السّكانية لتطوّر المدينة في تصوّري ليست من القضايا التي تعني جبرا كثيراً إلا في إطار تأثيرها على القيم والسلوكات البشريّة وتأثيرها على المقومات النظريّة التي كان يناقشها فهو يرى الأشياء في سياقها الكونيّ الشامل ويناقشها من منظورٍ حضاريٍّ أعمّ وأشمل وفق قانون القيمة الأعلى دائماً. على أن هذا الاهتمام هو من اهتمامات "منيف" ويؤكّد ذلك استمراره بدراسته السّكّانية والاجتماعية من منظورٍ ديموغرافيٍّ، فيرصد الحركة الاجتماعية داخل المجتمع ويوصّف النزوحات الاجتماعية التي تسمى في المصطلح السكاني "الهجرة" وبالذّات "الهجرة التقليدية" التي تحدث من الريف إلى المدينة والتي دُرِسَت كثيراً في الأدبيات الاجتماعية: ((والرّيف ينزف في اتجاهها (المدينة) دونما رأفة، المطلّة، غسرين، عين فجار، العريشة الطيبة، المحمودّية هذه إنما هي القرى القريبة فقط التي غذّى أهلوها الجبليون عمورية حتى لم يبق في القرى إلا العاجزون عن الهجرة هذا فضلاً عن الذين هاجروا إلى أمريكا وغيرها)) ص79.(1/202)
هذه الدراسة لقضية الخلل في التوزع السكاني ينزع إليها دارس (مُسْتَقِرّ) أي أنه ينتمي إلى مجتمعه نفسياً وروحياً وهو لا يعاني الاغترابات الكبرى (الاغتراب عن الوطن) و(الاغتراب عن العالم) (عن القيم) عن (الكون) وهذا في تصوري بعيد نوعاً ما من عبد الرحمن منيف. وإن كان ذلك لا يعني أنه غير مغترب عن عالمه وعن وطنه وهو المنفي كما هو معروف، غير أن اغترابه مختلف عن اغتراب جبرا المغترب روحياً وكونياً والمنفي المجتث من جذوره الذي ينظر إلى كل شيء حوله بقلق وخوف وترقب وهذا لا يطمئن للبحث في قضية هجرة الريف إلى المدينة مثلاً لأنه في داخله مهاجر من ذاته من عالمه مهجر من وطنه، وأنا عندما أرجح أن لا يهتم بمثل هذه القضايا التفصيلية في حياة المدينة؛ فإني أتكئ إلى صوى موضوعية تؤيد ما أقول: أول هذه الصّوى مفهوم جبرا للإبداع، وهو أكثر الأحيان مفهوم شاعري حتى في معالجته لأبسط القضايا، وثانيها أن جبرا لا يعالج القضايا إجرائياً وإنما يُرجعها أكثر الأحيان إلى معلّقاتها الشمولية، ويُسقط عليها حِسَّه ووعيَه القلقين ويتناولها ضمن الكليات؛ فهو مثلاً يعمل في مجال النفط، لكنّه لم يأتِ على هذه القضية في أي من رواياته كتفصيل بحثيّ، وإنما بقي يعالج المسألة من خلال ارتباطاتها بالقضايا الكبرى (علاقة الذات بالآخر) ومقولة التقدم والتأخر).
يعود التوصيف الهجائي للمدينة إلى الظهور، ليَظْهَرَ قدراً ما مجهولاً يتحكّم بالحركة الإنسانية داخل العالم: ((وكادت القرى تفرغ من فلاحيها، وإذا هي تعمر، شيئاً فشيئاً، بأناس أغراب، لا يُعرف بالضبط من أين يأتون، الطبيعة تكره الفراغ. ولكنها تملأ الفراغ حسب أهوائها هي، لا أهوائك أنت. حركة عشوائية تموج في البلد كلِّه كأنما نحن في أول مرحلة من مراحل تاريخ قادم بالعجائب، أو في نهاية مرحلة نراها تبتعد في أحشاء أفق بعيد تحت أبصارنا)) ص79.(1/203)
والقدر الخارجي هذا جعل المدينة في وعي الخطاب مدينةَ كلِّ التناقضات، بل جعلها مدينة التناقض الأكبر، فهي في جوهرها تحمل كلَّ القذارات، وتختزن جميع أنواع الفجور، وتحاول أن تظهر على السطح (مدينة الفضائل).
((هذه المدينة التي تربض على سفح الجبال وتمدّ نفسها برخاوة قاتلة في أنحاءٍ عديدةٍ حتّى البحر، وتحرص على أن تُغْلِقَ ذهنياً على نفسها الأبواب بعد غياب الشمس، هذه المدينة التي تتحدث بصوتٍ عالٍ عن الفضيلة، وتُعطي الفضيلة طابعاً علمياً يتحدّد بمقدار الرّبح والخسارة، وتفرحُ بخجلٍ كأنها تقترف إثماً وتحزن بفجور وتنظرُ بلا مبالاة، وبعض الأحيان بسُخرية، إلى الكثير ممّا يجري، كأنه لا يعنيها، هذه المدينة بفجاجتها ظاهرياً ولا مبالاتها باطنياً، والقذارة المعنوية التي تختزنها، وتلك القيم السائدة فيها جعلتني في مرحلةٍ من المراحل أعتبرها مسؤولة عن حالة الضيق، إذ لا يعقل أن يكون الناس على هذا القدر الهائل من الرخاوة والمداجاة وفساد النفس لولا الريح النتنة التي تهب على عمورية معظم أيام السنة)) ص80.(1/204)
الانتباه المهمّ السّابق الذي ينتبه إليه الخطاب انتباه علميّ، ربّما يكونُ على شيءٍ معينٍ من الدقة، وهذه الدراسة العلمية للظواهر جاءت جديدة على خطاب جبرا وهي دراسة أثر البيئة والمحيط الجغرافي في (النفس) الحضاري والسلوكي لأبناء المدينة ولا ندري مدى مشروعية طرح مثل هذه القضية من وجهة النظر القيمية ففي منظور القيمة (التقدم والتأخر) يبدو مثل هذا الطرح تسويغاً غيبياً للحالة السائدة على الرغم من أنه يحاول تناولها من منظورٍ علميٍّ ويصف التغيّر الحاصل في بنية المجتمع العربيّ (بالزلزال). والنتائج الحاصلة من هذا الزلزال هي ثمرات التغيّر، وهذا يعيُدنا إلى رؤية خطاب (البحث عن وليد مسعود) الذي رأى في التغيّر الحاصل نوعاً من القسر الذي أدى إلى ثمرات غير ناضجة وغير قابلة للنمو والتقدم: ((إننا كلّنا نحيا عقابيل الزلزال سهولنا أضحت جبالاً، كرومُنا أضحت مصانع، خيولنا تحوّلت إلى حافلات مكتظّة حارقة، وحكاياتنا القديمة ما عدنا نجدها إلا في أطروحات دارسين ينالون بها درجاتهم الجامعية)) ص80.
وهو أيضاً قريبٌ من بعض مما دار في (صيادون) حول التَقدّم والتأخرّ بل حول التغيّر الذي حصل في حياة المدينة العربية.(1/205)
وتستمرّ هذه الرؤية التي تصور المدينة كسلطةٍ غيبيةٍ مسيطرةٍ لا يمكن الانفلاتُ من قبضتها، وتُصوّر الإنسان حيواناً راضخاً يخضع لكلِّ معطيات الخارج، وليس في داخله أيُّ محاولة للفعل، فهو مُسْتَلِبَ أفرادهُ مشوه عاجز: (( كما لا يُعقل أن يكون الناس هكذا لولا أن المدينة لا تكف عن ترويضهم وإعادة تكوينهم باستمرار؛ لكي يصبح في النهاية هذه الابتسامات البلهاء التي تفترس الوجوه دونما معنى وتبقى بواطنهم أسراراً لا تخترق لو لم يكن الأمر كذلك، كيف أفسر هذه القوة الخارقة التي تَمْتَلكُها عمورية، والتي تُحيل الناسَ خلال فترة قصيرة إلى مخلوقات مشوّهة عاجزة. أقرب إلى الحيوانات المدّجنة؟ كيف أفسّر هذا التشابُهَ الذي يزداد ويترسخ بين أهل عمورية القدامى، وبين الذين جاؤوا من الأرياف)) ص80.
من الغرابة أن يتناول الخطابُ الحركة التاريخية البشرية بهذه الطريقة، بل أن يقوم بإلغاء الحركة التاريخية البشرية ويعزل المدينة عن مكوناتها البشرية والاجتماعية، فجميع القيم (المدينية) ليست إلا نتاج الاجتماع البشري، لكن الخطاب يجعل جميع منتجات القيم وجميع عناصر حركة المجتمع هي نتاج حركة خارجية.(1/206)
ويبدو الخطاب وكأنه مُوَكّل بدراسة جغرافيّة المدينة العربية وتوضّعها وأثر هذا التوضع هنا على الفعل الحضاري: ((فإنَّ تكوّن عمورية جبلية لا يعني تميزاً لها، لأن هناك مدناً أخرى كثيرة تنهض فوق الجبال فدمشق وعمان والقدس والجزائر ومدن أخرى كثيرة غيرها تكاد تشبه عمورية من حيث الموقع... إن أكثر مدن الشرق المطوقة بالصحارى والمياه ونتيجة الحرارة والبرودة تكون عرضة للتيّارات الهوائية، مع التيارات والرياح تحمل (خيراتها) إلى هذه المدن، فتجعلها تغتسل في ذرات الغبار ليل نهار، وتحيل لونها إلى صفرة ثم لا تلبث هذه الصفرة أن تكمد تدريجياً بفعل القذارة والأجساد المتفسخة... أما الحجارة فأن تكون من الكلس الهش أو الغرانيت الصّلد، فلا يعني شيئاً في قيام مدينة من المدن، هل كانت عمورية تختلف كثيراً لو قامت في سهل من آجر مفخور أو مجفف في الشّمس)) ص81. إننا نعترض على الاقتصار على الدّراسة الجغرافية إذا أخذنا (عالم بلا خرائط) رواية مستقلة عن كليّة خطاب جبرا، أما إذا نظرنا إليها كجزء منتمٍ إلى الخطاب؛ فإننا نعدّها إضافة مهمّة جدّاً في سياق سيرورة الخطاب وهي دراسة مكمّلة للدراسات السابقة في الرّوايات الأخرى وتكتسب أهميتها من زاوية النظر الخاصّة.
رؤية الذات من خلال الآخر:
ينحسر الآخر كثيراً في (عالم بلا خرائط) ولا يتلامح إلا من خلال بعض عروض قليلة وطفيفة وضعت لاستيضاح الذات من خلال الفروق بين الذات والآخر ويرصد الخطاب هذه الفروق بطرح مثال يُبَيّنُ التناقضات، هذا المثال هو مثال تقليديٌّ في حياة الذات: دارسٌ يذهب إلى الغرب ويعود بمفاهيمه التي استقاها يحدث في داخله تفارق حضاري خاصة بعد العودة، تخلق له مشكلة التواؤم والتلاؤم مع المجتمع، يحدث الاغتراب.
((لمّا عدت من إنكلترا، وبدأتُ أعرض بضاعتي الجديدة، أفكاري وأحلامي، واقتراحاتي، وجدت أنني أختلف مع الآخرين بمقدارٍ كبيرٍ...(1/207)
خالي يجدني شخصاً غريباً... وكأنّ السنوات التي قضيتها زادتني جهلاً وضياعاً، يجب أن تعيش من جديد في هذا المجتمع لكي تتعرف عليه)) ص186.
هذا إلى جانب قضية أخرى ترصد علاقة الذات بالآخر ورؤية الآخر الذات خاصّة أثناء نكسة حزيران عام 1967: ((إن الإهانات الصّامتة التي نتلقّاها في الغربة من العيون الباردة الشّامتة كانت أقسى من النابالم، وإن الأسئلة التي تبدو شديدة البراءة حول تطورات الحرب كانت مثل السكاكين التي تمزق الأحشاء)) ص187.
إضافة إلى ذلك يحاول الخطاب إيجاد مجاورات إيجابية للذات على الرغم من أنها تنتمي في مفهوم التقسيم المُصطلحي إلى الآخر.
((أتدري أن الإيرلنديين والعرب يتشابهون، بل متطابقون؟ كلا الشعبين يحبّ الحريّة لدرجة الفوضى، وكلاهما مبتلى بنفس المحنة: الإنجليز)) ص170.
-لم يكن الخطاب في (عالم بلا خرائط) إذاً كامل الانتماء إلى عالم جبرا ولم يكن فيما يتعلق بمبحث الذات والآخر شديد الاهتمام، ولكه فيما عرضه قدرة فائقة في الإضافة والفهم والتحليل.
((أما خالي فيعتبر الشّعر الحديث نزوة، وأن العاجزين وحدهم هم الذين يقولون مثل هذا الشّعر وأن إصرارهم على النّطق بأصواتهم هم أبعد عنهم حرارة ووهج النطق القديم)) ص183.
((والشعر الحديث، أو ما تسمونه كذلك، ليس فيه أي شيء من الشعر، إنه مجرد كلمات فارغة وأقرب إلى الجنادب التي تقفز من مكان إلى آخر)) ص183.(1/208)
لكن هذا الصّراع قد يكون سطحياً بل صراعاً ناشئاً من سوء فهم بالذات من أنصار القديم ومصدره تعصّب أعمى؛ لأنهم عندما يلتقون بمثل هذا الشعر لقاء مباشراً، فإنهم يتفاعلون معه ويستسيغونه وعندما ينفضّ اللقاء يعود إليهم أثر الفكر الجاهز الذي كانوا يحملونه في أرواحهم قبل عقولهم ((كان خالي يحب شعر أدهم، رغم أن أدهم لا يتخلى عن طريقته في قوى الشعر، لكن خالي كان يعتبر أن شعر أدهم يختلف عن الشعر الحديث الذي يقرؤه في المجلات والصحف.. وبعد أن يسمع قصيدة من قصائد أدهم يقول بانفعال: هذا شعر رائع وبعد أن يزول الانفعال ويؤكد أدهم أن ماقاله شعر حديث يهزّ خالي رأسه مستغرباً ويضيف باندهاش طفولي، قد تكون طريقتك في الإلقاء هي التي توجد علاقة موحية بين الكلمات وتولد موسيقى من نوع ما وهذه الموسيقى قد لا يستطيع الإنسان تحديد مصدرها ولكنه يحسّها)) ص183.
ولكنّ هذا الرّصد للصّراع لا يرقى إلى الصراع الذي رأيناه في (صيادون) حول مفاهيم الشّعر وحول وظائفه وقدراته، وهو هنا في "عالَم" صراع ودّي، إذ ينتفي فيه مفهوم الصراع الفكري الحقيقي. الموضوعة الثانية التي يطرحها الخطاب في مفهوم الصراع هي مفهوم التاريخ إذ نجد فئتين متناقضتين في التوجه إلى التّاريخ وإلى فهمه الفئة الأولى: ((تحمل لها ذكر الحوادث وتركز بحثها على مدح الرؤساء والقواد رافعة حتى الغيوم ما يخصها ممعنة في إرخاء الستار على أعدائها، جاهلة أن ما يحدّ التاريخ ويفصله عن خطاب تقريظيّ ليس برزخاً ضيقاً بل ثمة بينهما سور ضخم)) ص286.
وفئة تفهم التاريخ صدقاً ((لا تحمل البتّة السماح بالكذب، مهما كان طفيفاً أكثر ممّا يحتمل شريان الطفل عدم وصول الشراب إليه)) ص286.
لذلك ((فإنه لَعَيْبٌ كبيرٌ أن يجهل المرءُ الفصل بين ما يتصل التّاريخ وما يتّصل بالشعر، وأن يدخل زخرف الشّعر على تاريخٍ مُقَام على الخيال والمديح)) ص286.(1/209)
هذا انتباه آخر مهمٌّ ينفتح عليه الخطاب، وهو يشكّل أزمة في الضّمير الفكريّ للأمّة العربيّة في فهمها التاريخَ، سواءٌ التاريخُ الماضي الفائتُ والتاريخُ الحاضرُ.
-نتائج مبحث الذات والآخر:
-وعي جديد إضافي يختاره الخِطاب في "البحث عن وليد مسعود" مفاهيم متطوّرة وأسلوبٌ علاجيّ متقدّم ولغةٌ بحثيّة موضوعيّة تُظْهرُهُ أقرب إلى المعالجة الفكرية العلميّة العميقة بالنسبة إلى طروحات الخطاب فيما سبق من الروايات؛ ففي "صيادون" مثلاً كان الأمر يتعلّق بالوصول الدقيق والفهم العميق للظواهر ولأسبابها، وفي السفينة يتعمّق هذا الجانب على مستوى الشعوريّ وعلى مستوى الوعي النفسيّ بمأزق الحضارة العربية، وهو مكمّل ارتكاسيّ لطروحات (صيادون) بينما نجده المكمّل الأكبر قدرةً على التحليل، والولوج إلى أعماق الأزمة بموضوعية لا تخلو من الموقف؛ أي إنّها ليست حيادية، وإنما هي موضوعية انتقادية، ولا تتوقف عند هذا الحدّ وإنما تتجاوزه إلى البحث عن حلول من معطيات الواقع والحضارة الحديثة.
-القضايا الحضارية المعالجة في الروايات:
1-العلاقات بين الشرق العربي والغرب وإشكالياتها في جميع المستويات والمواقف المتباينة من عملية الصراع.
2-الصراع الحضاري الداخلي ومكوناته (الماضي، الحاضر، الثورة التكنولوجيا، صراع القيم والأفكار، القديم، الجديد، التقدم، التأخر، والمدينة و (التمدين) والتمدن.
(((
الفصل الرابع
مَبْحَثُ الاغتراب
الاغتراب؛ مقدمة:(1/210)
ليس هناك مجال للادعاء بأن عصور الحضارة الإنسانية لم تكن تعاني معاناة عميقة من حالات اغترابية قاسية بشتى مفاهيم الاغتراب، ولكن العصر البشري الحالي، ربما يعد ذروة الخط البياني بتنوع المفاهيم وتنوع الحالات وبعمق التوغل في العالم الاغترابي والارتهان شبه المطلق له، وهذا ليس ناشئاً أو مخلوقاً اجتماعياً يشكل طفرة، وإنما هو ارتكاس حتمي طبيعي نتيجةً للوجود الاجتماعيّ والحضاريّ المتغاير عن الوجودات السابقة؛ لأن نظرةً سريعة إلى مُجريات العالم في العصر الحديث والمعاصر منه تَعرِض أمامنا صورة فجائعية جحيمية للعلاقات البشرية صورة (فجائعية) لعلاقة الإنسان بالإنسان ثم علاقته بالعالم، وبالكون وعلاقته في النهاية بذاته التي تستوعي الوجود؛ وجودها وكل وجود حولها، وجود المؤسسة الاجتماعية ووجود مؤسسات السلطة، علاقته بالطبيعة ومنجزات التكنولوجيا، إضافة إلى أن العصر العربي الحديث و (الراهن) (لأنه جزء لا يمكن إزاحته عن العالم) لا يخرج ولو للحظة عن كونه عصر اغتراب بمفهوم الاغتراب الداخلي أي اغتراب بعض عناصره عن عالمها، عن عصرها وعن العناصر المكونة الأخرى والاغتراب الخارجي أي اغتراب العصر العربي عن مجاوراته في العالم وعن العصور العربية السابقة.(1/211)
-هذه المستويات المتعدّدة والمتفاوتة في مفهوم اغتراب العصر العربي الحديث و (الراهن)، تدعونا إلى البحث أولاً فيما يمكن أن نسميه (عناصر الاغتراب)(1)أو (أنواع الاغتراب) وكلتا التسميتين تخضعان لإمكانية التعديل أو الإضافة أو الحذف، وتدعونا ثانياً إلى البحث في الدوافع العامة التي تؤدي إلى هذه اللوثة (وهذا الاصطلاح ليس حكماً هجائياً) من أجل استيضاح المرامي الخطابية لخطاب (الاغتراب الروائي، وكذلك البحث في سلوكيات المغترب وحلوله التي يتوجه بها نحو عالمه.
__________
(1) الاصطلاح (عناصر الاغتراب) يحمل الاغتراب كلاً متكوناً من مجموعة من العناصر كل منها ينضوي تحته وهذا إذا بحثنا مثلاً في علم النفس يدل دلالة غير التي تقصدها إذ يعني عندها المستويات النفسية للاغتراب أو الراقات النفسية وتوضعاتها في النفس أما نحن فنميل إلى الاصطلاح الثاني وهو (أنواع الاغتراب) على الرغم من حاجته إلى الدقة في الدلالة فهو يفترض أن هناك مستويات متمايزة من الاغتراب لا تتقاطع فيما بينها، وما تقصده في مفهومنا للاصطلاح هو وجود تقاطع رئيسي جوهري بين مستويات الاغتراب هو (حس الفقد والغياب والانفصال بين المغترب ومتعلقاته) مع وجود تباينات في ماهية هذا الحس بين المستويات.(1/212)
إن الوصول إلى فرز دقيق في هذه القضية هو ضرب من الادعاء، وما سيقوم به الآن نتائج تأملات بعضها الأكثر في واقع ذات (الباحث) النفسي والاجتماعي وعلاقته بالعالم، وبعضها الآخر تأملات في واقع الذوات الأخرى المحيطة به إلى جانب الاستعانة الكبيرة بالخطاب المدروس، لأنه يمنح مفاتيح مهمة للولوج إلى عالم الاغتراب، لذلك ربما يجد الفكر الناقد فيما سنعرضه نوعاً من التداخل في المستويات، وهذا التداخل ينشأ عادة كما رأينا في أكثر من مجريات البحث من الوحدة الفكرية والوحدة النفسية للمستويات المعروضة، وكذلك ينشأ- في تصورنا- من خلال الإيمان بكلية المستويات وشموليتها وكلية الحقول الفكرية والعملية التي تتناول العالم وشموليتها، فمثلاً لابد من التداخل بين مستويي الدراسة في قضية الذات والآخر وفي قضية الاغتراب؛ لأن بينهما علاقة سببية وتراسلات سلوكية وتقاطعات سيكلوجية من حيث النتائج ومن حيث المجريات، وكذلك لابد من أن يحدث التداخل بين الأنواع ذاتها؛ لأن ما رأيناه من علاقات سببية وتراسلات سلوكية بين مبحث الذات والآخر ومبحث الاغتراب نراه تماماً بل بتواشج أقوى بين مستويات الاغتراب وأنواعه وسلوكاته.
1-في الأنواع:
1-1 الاغتراب الطبقي: بحذر شديد نقول: إن المفهوم المحمول في هذا الاصطلاح يمكن أن يحده بدقة أكثر، دلالة مصطلح الانسلاخ الطبقي وهو العدول عن الانتماء إلى طبقة ما إلى أحد اتجاهين: إما إلى طبقة أخرى تناسب مطامح المنسلخ وإما إلى (اللانتماء) وهو ما يمكن أن يكون أقرب إلى الاغتراب بمعناه الروحي.
بتعبير آخر نطلق على هذا المستوى من مستويات الاغتراب مصطلح (التحول الأيديولوجي) وهو دلالة دقيقة أيضاً.(1/213)
1-2 النوع الثاني من الاغتراب هو الاغتراب الاجتماعي: يقوم فيه المغترب بالخروج الكلي عن نواميس السائد الاجتماعي بل يقوم بمناهضة هذه القوانين دون الاكتفاء بمغادرتها، ويقوم بمحاولة إسقاطها ويخضع ذلك لرؤيتين إحداهما سلبية والأخرى ثورية إيجابية هدفها تغيير القانون الاجتماعي وفق مفهوم (الأكثر صلاحية وقدرة على التطوير).
1-3 الاغتراب المرضي (السيكلوجي): يكون نتاج خلل سيكلوجي معين وقد يكون مرتبطاً بالعضوية، وهو خاضع لشكل العضوية المرضية وتحركها.
1-4 الاغتراب الديني: شكل ثان من أشكال التحول الأيديولوجي وهو انتقال من حالة دينية أو عقيدية إلى حالة مجاورة أو مباينة وقد يعني الاغتراب الديني نوعاً من الاغتراب عن الحس الديني الطافي على سطح الشعور والتحول إلى العمق الصوفي.
1-5 الاغتراب الحضاري: نتيجة للتفارق الحضاري بين المساحات الحضارية المتجاورة والتباين الحاد بين أحقاب العصور الإنسانية لكلية الحضارة الإنسانية عامة أو لشعب من الشعوب خاصة تحدث فجوة حضارية تؤثر سلبياً على أبناء الحضارة المتريثة وتقوم هذه الفجوة بخلق الانفصال الروحي والحضاري عن مكونات العالم والحضارة ومنجزاتها والتعامل معها عند الضرورة بحياد استهلاكي أو بعداء يعتمد النفي سلوكاً له، وكل التوجهات نحوها تكون عندئذ توجهات سلبية.(1/214)
1-6 الاغتراب الكوني: يعد هذا النوع الاغترابي أهم الأنواع السابقة جمعيها، أولاً: لأنه قد يكون نتيجة سببية لها، وثانياً: لأنه ينتج من عمق فلسفي رؤيوي فاحص متفش في العالم؛ فعندما تعي الذات البشرية قدراتها وتعي مفردات عالمها الداخلي وعندما تبني موقفاً داخلياً يعتمد (رؤيا ورؤية) وتتوجه بكل هذا إلى العالم وإلى فحصه بأدواتها التي أتقنتها، تدركه وتدرك تناقضاته وتعي مكوناته، ولأن الذات التي تقتحم العالم ذات متميزة قادرة، فإنها تحاول الفعل فيه وتحاول ترتيبه وفق موقفها الذي كونته، ولكن المحاولة عندما تكون فردية (أمام سطوة العالم وأمام سطوة تناقضاته التي لا تقف عند حدّ، وإنما تدأب بصلف على أن تتراكم إلى درجة الإحساس بأن التناقض في العالم بل "الشرّ فيه" لازم تكويني في أصل الوجود، وكذلك الذات المبدعة لازم تكويني في الرد على هذه التناقضات لخلق التوازن الواجب ولكن هذه المعادلة تختل دائماً لصالح تناقضات العالم ولا تستطيع الذات الصمود واستمرار المواجهة) ينطرح العالم خارج الذات وتحدث المقاطعة النهائية بين الذات والعالم وهي نهائية، لأن العالم لا ينهي تناقضاته ويعود ليسير وفق مطمح الذات؛ لذلك تبقى القطيعة قائمة دائمة أبدية.
2- في مسببات الاغتراب:
2-1 المسببات السياسية: يستدعي الحديث في المسببات السياسية الإشارة إلى السلوكات السياسية الخارجية التي تمارس ضد الذات الإنسانية وتُكرهُهَا على مغادرة حسّها بالعالم، إن السلوك الرئيسي من هذه السلوكات هو القمع السياسي الذي تنتجه السلطة (الدكتاتورية) خاصة ضد المثقف الذي يشكل الخطر الرئيسي على وجودها، لأنه الوعي الحقيقي المناقض لعماء السلطة وعماء (دكتاتوريتها).(1/215)
2-2 المسببات الاجتماعية: يفرز التخلف الاجتماعي الذي تفرضه مجموعة من القيم الثابتة (بالمفهوم السلبي) مجموعة أخرى من القيم السلبية لتمارس ضغطها باتجاه التراجع أو باتجاه السكون والمحافظة وهذه القيم الثابتة تشكل ضغطاً ضد التقدم الذي تطمح الذات الإنسانية إلى تحقيقه في سعيها الحثيث إلى الأمام، وتسيطر على هذه القيم قيمتان رئيسيتان هما (السلطة الاجتماعية الطبقية) و (السلطة الاجتماعية العشيرية) ونظراً إلى تباين قيم الإنسان والإنسان المعاصر بخاصة وتمايزها عن هاتين القيمتين يحدث اغتراب للفئة التي تناهض السائد الطبقي والسائد العشيري، وطبيعي أن تكون الفئة المناهضة أكثر الأحيان هي الفئة المثقفة (بالمعنى الحقيقي للكلمة)، لأن هناك فئة (ثقافية) مزيفة تكون نتاجاً ومفرزاً من مفرزات التخلف الاجتماعي وتقوم جاهدة بتثبيت حالة التخلف؛ لأنها مساعد رئيسي على بقاء هذه الفئة وقد تكون الفئة نفسها سبباً من أسباب الاغتراب.
2-3 المسببات الحضارية:
ربما يكون من المفارقة أن ننحي باللائمة على المنجزات الحضارية في خلق حس الاغتراب، لأن التوارد النظري الذهني لمفهوم الحضارة يخلق تصوراً إيجابياً بل يخلق أفقاً للحلّ، وتكمن المفارقة في هذه النقطة ذاتها، إذ من المفترض أن تكون منجزات الحضارة حلاً وخلاصاً للإنسان، ولكن الواقع الذي ينكشف هو أن هذه المنجزات تتحول إلى قيود تقوم بتكبيل الإنسان ومحاصرته.
مفهومات الاغتراب، اتكاءات مرجعية:(1/216)
تغلب على الدراسات التي بحثت في الاغتراب(1) وفي فحواه؛ الأسباب والدوافع إليه، سيطرة الحس السيكلوجي على جميع مستويات التناول وآفاق التحليل والدراسة وتبدو هذه الظاهرة حتى في الأبحاث التي طغى عليها الطابع الفلسفي، وتميزت هذه الدراسات بكونها، في أغلبها عروضاً تحليلية وتفسيرية لرؤى الفلاسفة لقضية الاغتراب وندرت الدراسات الشاملة التصنيفية التي تحد المفهوم وتفصّل فيه دراسة منهجية، في الأنواع والحدود والأسباب.
1-في فحوى الاغتراب:
((ليس الاغتراب مَرَضاً كما أنه ليس نعمة، إنه ملمح رئيسي للوجود الإنساني))(2).
((لقد ولجنا في عالم ينتظرنا فيه الاغتراب))(3).
((إن الاغتراب انفصال بين الوجوب والوجود))(4).
((في البدء كانت الوحدة... هذه الحالة التي تسبق الاغتراب))(5).
((لقد فقد الإنسان اتجاهه أصبح في بُحْران، تشتت، وهو بفقدان الاتجاه فقد بوصلة النّجاة.. ونجد أن العالم -على حد تعبير عالم الاجتماع المعاصر سيمان- يتجه إلى الجحيم في سلة واحدة... ثم تستحيل السّلّة إلى مصيدة لا يعرف الإنسان منها فكاكاً))(6).
((ما الذي يفقده الإنسان في الاغتراب وكيف يفقده؟ إنه وهو ينتج أشياءه إنما يفقد ذاته في شيءٍ خارجي عنه،... إن جزءاً من النّفس يتجه إلى الخارج، وهذا الجزء إذا وقف معادياً للإنسان سقط في التشيّؤ وأصبح الشيء الذي أنتجه غريباً عنه، أما إذا اكتشف في الشّيء المنتج ذاته؛ فلأنّه يكون قد ضاعف ذاته ويتّحد مع إنتاجه من جديد ويستعيد الوحدة السابقة، ولكن بعد أن يكون علا على الوحدة البدئية))(7).
__________
(1) ينطبق هذا الحكم على الدراسات التي وقعنا عليها في المكتبة العربية المترجمة والعربية هي قليلة.
(2) كوفمان في مقدمته لكتاب شاخت.
(3) الإنسان والاغتراب ص36
(4) نفسه ص37 مجاهد عبد المنعم مجاهد سعد الدين للطباعة- دمشق 1985
(5) نفسه ص 27.
(6) نفسه ص28
(7) نفسه ص30(1/217)
ويحدُّ (شاخت)(1) الاغتراب بمعنيين رئيسيين تنضوي تحت أحدهما تفصيلات وتفريعات:
1-المعنى الأول للاغتراب هو: الانفصال ص97.
أ-فقدان الوحدة مع البنية الاجتماعية...
ب-الاغتراب عن الذات... ص101.
2-المعنى الثاني للاغتراب بالتسليم ص105.
2-في حلول الاغتراب:
((إن الخروج من مصيدة الاغتراب يقتضي حلاً من داخل الاغتراب نفسه لقد ذهب (شاخت) في كتابه (الاغتراب) وهو يفسر موقف هيجل من هذا الموضوع إلى وجود نوعين من الاغتراب سماهما اغتراب رقم (1) هو الانفصال واغتراب رقم (2) وهو الاستسلام و(قد أشرنا إلى ذلك آنفاً) والتقويض الأول يمكن قهره من خلال الاغتراب الثاني الذي يجنبنا العودة إلى الأول.. إذاً المغتربون هم الذين يحلون مشكلة المغتربين.. مع مراعاة أنه لا يوجد معنيان للاغتراب عند هيجل، بل هو اغتراب واحد جدلي... إنه حد أوسط بين طرفين/ لكنه حد أوسط جامع لكليهما بطريقة طردية لأن الوحدة بينهما مؤقتة وطرد أحد الطرفين دائم...
الخروج من مصيدة الاغتراب لا يتم إلا على أرض الشمولية من خلال تجارب (الحب) و (التصوف) و (الإبداع) و (تحويل العمل إلى لعب)(2).
ويعرض جبرا تصوره للاغتراب ودوافعه وأسبابه وحلوله في كثير من كتبه النقدية وفي مقابلاته وقد رأينا في الفصل الأول مجموعة من الحلول التي سلكها أبطاله للوصول إلى الخلاص كان منها مثلاً الخلاص الصوفي بالغيب وبمكوناته والبحث عن الارتباط بالألوهية بوسائط تحولت إلى حلول بذاتها، وكذلك كان (الفن والحلم والفعل) ثلاثية مندغمة متصاهرة لتشكل قدرة الخلاص والحل.
ونجد إشارة صريحة إلى مسألة الاغتراب في كتاب جبرا (تأملات في بنيان مرمري) عارضاً ماهيته وأسبابه:
__________
(1) الاغتراب رتشارد شاخت ترجمة كامل يوسف حسين- المؤسسة العربية للدراسات - ط1- 1980
(2) الإنسان والاغتراب، مجاهد عبد المنعم مجاهد، ص35(1/218)
1- في الأسباب: ((يشار بين حين وآخر إلى مسألة اغتراب المثقف بشكل أو بآخر فهو قد يكون مغترباً بغيابه عن الوطن، وقد يكون مغترباً وهو في قلب الوطن قد يغترب؛ لأنه ما عاد ينسجم مع تقاليد وأعراف بلده، مهما تكن أوضاعه السياسية هناك من يغترب بسبب من حسه القومي، بقدر ما هناك من يطلب الغناء في وطنه بسبب ذلك الحس بالذات))(1).
2-في ماهية الاغتراب: ((كان الاقتلاع و (لما يزل) هو ذلك العزل المتزايد للنفس والذهن يدفع ذوي الحساسية المفرطة الدافعة إلى ضروب من الإبداع أو التعبير عن الذات، إذ يدرك المرء أنه باكتسابه المعرفة، والقدرة على التعبير عن الذات وبتوصيله إلى رؤيا معينة يتحرك ذهنه مستمراً باتجاهها، إنما هو يكتسب تناقضاً مع مجتمعه يضطر عند نقطة ما من توتره أن يقتلع نفسه حتى الجذور من الأرض التي نما فيها وترعرع، ويمسي كالشجرة التي اجتثتها الرياح العاصفة، وأسقطتها على الصخور بكل فروعها وأوراقها. وليس لها أن تنتظر سوى الجفاف))(2).
3- في الحلول: إضافة إلى الحلول التي أشرنا إليها سابقاً فإن (جبرا) يتصور أن هناك حلين متعارضي الاتجاه يمكن أن يسلكهما المغترب وهذان الحلان هما خطان عامان في الحلول ((الاغتراب صمت أو إبداع))(3).
أولاً- في "صراع في ليل طويل":
أ-تجليات اغترابية: الذات المغتربة التي يتوجه إليه الخطاب هي أكثر الأحيان ذات مثقفة متميزة تحمل وعياً يُفترض أن يكون مبايناً للساند وتتباين أيضاً المواقف الاغترابية التي تظهر بين سلوك وآخر وذلك بتباين الأسباب التي أدت إلى:
__________
(1) تأملات في بنيان مرمري ص44
(2) نفسه، ص45
(3) نفسه ص44 عنوان المقال "الاغتراب: صمت أم إبداع"(1/219)
1-المرأة (من الحبّ الفاشل إلى القلق الكوني):تشكل هذه التفريعة واحداً من أهم الأسباب التي أدت إلى اغتراب (أمين سمّاع) محور الخطاب: ((أعلنتُ لنفسي: أنني والله معتوه، وإلا فكيف أسمح لنفسي بأنّ تنحَلّ وتتآكل لخيانة امرأة، وما الداعي لأن أرى بؤس الآلاف من سكان المدينة تتواشج خيوطه مع هزيمتي في الحب)) ص60.
كما أسلفت في مقدمة البحث في الاغتراب، فإن محاولة المواءمة بين الحسّ والفكر التي يتوهم الإنسان أنها قدرة على خلق الاستقرار في حياته تنهار بسهولة بمجرد فقدان الحبّ بالخيانة: ((كان يأسنا يزداد عمقاً يوماً بعد يوم دون أن نفهمه بالضبط. ولكنه مع ذلك يأس له أسبابه خذ يأسي مثلاً. حالما استطعت أن أجدل حياة الذهن مع حياة الحسّ لأنعم بما يهيئه الوجود لنا من تنويع وسخاء. تمزق الهدوء والطمأنينة في حياتي باختفاء سميّة) ص44.
ويخلقُ هذا الانفصال عن الواقع رؤى التشتت والهواجس وتسيطر رؤيا الموت في لوحة جحيمية حُلُمية يتبدى العالم من أثنائها جسداً شبقاً يبحث عن الموت: ((لقد مرضْتُ حتّى الموت: أجترّ جراثيم السماء، وأدوس عظام الموتى، وأرى الجماهير الجائعة تفترس ضحاياها بأنيابها وأحسُّ الموت يعتنق البر والبحر ويملأ الفضاء برائحة الأجساد المتفسخة، ويسقى الأشجار اليابسة من دم الشباب، الشباب والانحلال فالحب وانحلال الحب. الحب يغذي الموت، والمضاجعة رمز للموت والموت بلا عزاء يقهقه طوال الليل طوال النهار، طوال الأبدية)) ص61.
في هذه اللوحة تتحول جميع رموز الحياة إلى بذور تُنْتِشُ الموت ويتحوّل الإنسان إلى كائنٍ خارج أي نطاق ارتباطي بالعالم، لا ينتمي إليه إلا بالجسد إذ يشغل حيزاً مكانياً فقط؛ أما نفسياً فهو معزول عن الانتماء لأن النتيجة الحَتْمَ هي الموتُ ولا عزاءَ، حتى العزاء الغيبي المفترض (الله) يتحول في خيال المغترب إلى شامت يتربص بالإنسان وهذه الظاهرة ظاهرة شعرية تناولها خليل حاوي مثلاً فهو يقول:(1/220)
إله وأي إله كؤود
يرود يرود الوجود
يجر البريء إلى وكره
ويضحك في سره
وتتميز هذه الرؤية بعمق فلسفي فجائعي ساد في فترة زمنية خاصة من فترات التاريخ العربي، فإذا انتبهنا إلى فترة كتابة (صراخ) وفترة كتابات (حاوي) الشعرية نجدها متقاربة خاصة أن هذه الكتابات كانت من الكتابات الأولى لحاوي.
2-الاغتراب الطبقي (الانسلاخ الطبقي):
قد لايكون ما سنعرضه ذا دلالة دقيقة على الانسلاخ الطبقي لأنواع من التحول المؤقت، وقد أشرنا إلى قضية التحول الأيديولوجي فيما سبق في أمثلة اختيارية وعددنا مسألة الانسلاخ الطبقي من قضايا التحوّل، وليس ذلك في رأينا سوى حالة من حالات الاغتراب الذي يمكن أن ندعوه (اغتراباً إجرائياً) وهذا التحول المؤقت هو محطة انتقالية، لأن العودة إلى الحالة ما قبل التحول تحدث ويرفض (أمين سمّاع) كما رأينا ماضيه الذي يعد في مثالنا الآن راهناً: ((فإذا كان في المدينة، وريح التقدم الفني تدفعها إلى الأمام، إمكانيات للنمو والنشاط كما فيها إمكانيات للانحلال والموت، أليس من الحماقة ألا نرى سوى ما فيها من جَدْب وقُبْحٍ؟ لقد بدأت أرى جمالاً جديداً وأتذوق لذة ما كان لي عهدٌ بها في المدينة ما أسرع ما وحدتني جزءاً من طبقة اجتماعية جديدة وهل في الدنيا ما هو أسهل على المرء من نسيان أن الفقر موجود؟)) ص50.
ويبدو أن الخطاب يريد أن يوحي بأن الاغتراب تكامل في شتى المواقف من مجريات العالم؛ فالاغتراب الكوني لابد من أن يؤدي إلى مكملاته الاغترابية كالاغتراب الاجتماعي: ((ولما رحت أشق طريقي بين الجمهور الدافق، أحسست بعزلتي التامة عن الإنسانية ومع ذلك، أولئك هم الناس الذين تأملت في حياتهم وأشفقت على مصيرهم والخوف والقلق كامنان في عيونهم)).(1/221)
مايُولّد مثل هذا التباين في موقف المغترب من الجماهير بالذات ربما يكون منشؤه ازدواجية الإحساس لديه فالإحساس الأول ينبع من رؤية البحث عن التغيير والبدائل والموقف الثاني ينبع من الرؤية الإنسانية بالمفهوم العاطفي مع مأزق الجماهير ومأساتهم وإذا التقى هذان الموقفان في ذاكرة نفسية لابد عندئذ من أن يحدث بينهما صراع وتنازع والنصر غالباً في هذا الصراع الرفض أي الاغتراب، ومن اللقطات البارعة التي استطاع الخطاب التقاطها بعمق وحس فلسفي عالٍ. مسألة وعي الحياة في وعي الموت وربما يكون هذا أيضاً مرجعاً إلى الحس الشاعري.
((إن ما أكتبه الآن هو مراثٍ: مرثاة لصاحب دكان- والثانية عن موت سائق.. المراثي الخمس تعالج نواحي الموت الخمس التي يعرفها سكان أية مدينة في العالم.. هل لاحظت أن المدينة مبنية على خوف الإنسان من الموت؟ فكأني بالإنسان يتأمل الموت فيعي الحياة)) ص70.
أما البحث عن الحلول فلم يكن الخطاب مهتماً به؛ لأنه ربّما لا يؤمن بوجودها، ولكنّ هناك بعض الحلول والسلوكات التي قد تكون نوعاً من العزاء كالإبداع سواء الإبداع الدنيوي: ((أما الرواية فكنت أبغى منها ما أروّح به عن ضيق صدري كما أنني جعلت منها ذريعة للتعبير عما أريد قوله، إذ قَسَّمْتُ نفسي إلى أشخاص كثيرين، يمثّل كل منهم جزءاً من هذه النفس الملأى بالتناقضات)) 10.
والإبداع الغيبي:
((أصغ يا أمين إلى كلمةِ الله تجد الدّنيا عامرة بالأفراح))
ويبدو أنه لايؤمن بالعزاء إلا بطريقة الكلمة.
-صيادون في شارع ضيق:
أولاً- في فحوى الأسباب:
أ-الشرّ- توصيف العالم: يتصور الخطابُ العالمَ أحَاديَّ القيمة، وهذه القيمة قيمة سلبية (الشرّ) وإن أي محاولةٍ لكسر هذا الطوق لن يُكتب لها النجاح: ((البشرُ مركبون من أنواع مختلفة من الشر، ولن يمكن لشيء في العالم سوى أشد نظم الحياة صرامة أن يُدْخِل قطرةً واحدة، مجرد قطرة واحدة من الخير في هذا المركّب)) ص81.(1/222)
ب- وتأتي المدينة بعناصرها ومكوناتها الاجتماعية والعقائديّة سبباً مهماً في الكبت والسيطرة: ((لقد كان عليّ أن أذكر نفسي المرة تلو المرة بأن في هذه المدينة الغريبة التي بُعِثتْ من جديد دوّامات من العادات والمعتقدات لن يسمح بأية نزوة شخصيّة وتهدد بالمحق كلَّ من يعترض طريقَها أو يحاول بحماقة أن يوقف سيرها)) ص87.
جـ ويكون التأمل في سيرورة الكون، واجتهادِه في السعي نحو خرابِهِ ودمارِهِ سبباً رئيسيّاً قد يكونُ من أهم الأسباب التي تدعو إلى الاغتراب فإذا كانتِ المدينة سبباً حضاريّاً واجتماعياً معاً، وكذلك البحث في أصل تكوين الإنسان فإن الموت الذي تسعى إليه الحياة والعالم الذي يبحث عن خرابه ودماره والظلمة التي تعدّ أساساً في الكون تُشكل سبباً كونياً: ((بيد أنّ انتصار الموت على الحياة كان مفروغاً منه)) ص88.
((النهر يجري نحو المحيط، فأين تجري الحياة أظنّها تجري نحو ظُلْمةٍ أبديةٍ، المحيط إذن هو الظلمة هو الموت، أما النهر فالحياة)) ص112.
إن النتيجة التي توصّل إليها تأمل الخطاب للعالم هي أن كل شيء يسعى إلى الموت إلى الظلمة.
د-إضافة إلى المدينة كدلالة حضارية فإن العناصر الاجتماعية الأخرى ذات فعل قويّ في حياة المجتمع، فالنفاق الاجتماعي والسياسي والكذب الذي يسيطر على حياة المجتمع يقوم بخلخلة العلاقات وتغييب نظام الحقيقة، ونتيجة لضعف من يحمل الحقّ والخير والحقيقة أمام طغيان النفاق والكذِب يحدث اغتراب قسريّ نتيجة لاغتراب المجتمع عن قيمه.
((أُحِبّ الناس جميعاً عدا الإنسانية يمكنك أن تغفر لها ضعفها وبؤسها، ولكن ماذا تستطيع أن تفعل بنفاقها؟ ستجد حتى في أحقر الأحياء من النفاق ما يكفي عشرة من الدبلوماسيين. ماذا يستطيع أن يفعل الشعب ينمي نفاقه كمهنة نفاق خال من الفن، خال من الرشاقة، نفاق في السياسة نفاق في الصدّاقة، نفاق في الفضيلة في الدين..)) ص60.(1/223)
وتتكرر في الخطاب مقولات كثيرة حول أسباب الاغتراب كالمدينة ص204 وعناصرها الاجتماعية "الناس" ص208.
وأكثر هذه الأسباب يترجّح بين هذه الأقانيم: المدنية ومكوناتها الاجتماعية بكل ما فيها من ضياع للأسباب التي رأيناها في مبحث الذات والآخر، والكون والتأمل فيه، والبحث عن جدواه وفحواه بالإضافة إلى الظرف السياسي العربي المعاصر الذي كان نتيجة لسياق من الظروف التاريخية المتلاحقة وإضافةً كذلك إلى العلاقة بين الذات والآخر.
2-ثانياً- في التجليات الاغترابية:
أ-الاغتراب الجماعي (تميز للخطاب):
قد يكون المميز (لصيادون) رصدُها اغترابَ شعبٍ كاملٍ، أولاً: غربتَهَ المكانيةَ عن وطنه وثانياً: اغترابَه الرّوحي عن العالم ومكوناته، وعن القيم الإنسانية وعن واقعه حتّى عن ذاته فالشعب بأكمله يعود إلى حالة البداية الإنسانية في البحث عن اللقمة وتواجهه حالة من القيم اغترابية لا يستطيع استيعاءها في ضميره الحضاري والقيمي فتهتز الرّوح الحضاريّة وتختل مقولة القيم في العالم ويظهر الإنسان من جديد خائضاً صراعَ البقاءِ الذي بدأه بدء الوجود البشري على الأرض إذ ترتد (الإنسانية) إلى المرحلة البشرية الأولى وتغترب عن كل منجزاتها من القيمة والأخلاق، وكنتيجة منطقية وحتمية لمجريات التاريخ العربي الذي يحفل بالانتصارات الكبرى ويحمل وزر هزائم متعددة أثقلت الضّمير الجمعي للأمة العربية، وأورثته حِرماناً حضارياً واجتماعياً إلى أن وصل إلى الإحساس بالقنوط وأصبح الحزن سمة مميزة له.
((تناهت إلينا من بعيد.. نغمة طويلة حزينة.. كانت تنهدة طويلة "أوووف" طويلة منغمّة، متواصلة.. أتسمع؟ هذه آلام أمّة كاملة كئيبة الحرمان عندها ألَمَهُا الأبدي الوحيد)) ص49، 50.(1/224)
لذلك نستطيع أن نتساءل حول الرأي الذي طُرِح في الخطاب حول حضارة الغرب ودعاها حضارة حزينة(1) لأنها تبحث عن الموت، فماذا نقول حول هذه الحضارة العربية التي ورثت الحسّ تاريخياً ومازالت تتعاطاه إلى يومنا هذا بطريقتها الخاصة: ((في إحدى الليالي ملأ المدينة صوت جديد، كنت في سريري حينما أيقظني صوت ذهبي غريب يترنم بدعاء طويل كان ندباً على مقتل الحُسين الإمام الشهيد، وامتلأت الشوارع خلال الأيام العشرة التالية بمواكب الرّجال والنساء الذين يحيّون ذكرى آلام الحسين بن علي بأهازيج حزينة طويلة، وكما فعلوا طيلة الثلاثة عشر قرناً الماضية. ومن خلال نوافذ البيوت كان يُسمع نواح النساء وهُنّ يردّدن المراثي، وفي كثير من السّاحات والجوامع كانت جماهير من الرّجال والنّساء تمزّق الشَّعْر وتلطمُ الصّدور، وهي تصغي من خَلَلِ الدّمع إلى قصّة مصرع الشهيد الكبير تُروى شِعراً أو نثراً بالعامية والفصحى.. تذكرت كيف كان تموز قبل ثلاثة آلاف سنة يبكيه الشّعب هنا في وادي الرافدين، حين كان دجلة، "نهر النخيل" والفرات "نهر الخصب" يسمعان صرخات الصبايا في الشوارع بجدائلهن المرخية وصدورهن العارية بكاء على الإله القتيل الذي سينبعث مرة أخرى مع السنابل الخضراء والشقائق الحمراء)) ص63.
__________
(1) الحديث عن هذه المقولة سيأتي في رؤية الآخر.(1/225)
الصّورة الأولى مشهدٌ لآلام الأمة الوراثية ورثتها بالاكتساب من جيل إلى جيل، من أجل التواصل الحضاري بين الماضي والحاضر، إن ذكرى الماضي تعود لتصبِح ذاكرة للمستقبل إذ يستنسخ التاريخ (الماضي) روحَهُ ويعود ليقذِفَها في المستقبل، لقد واظبت الأمة ثلاثة عشر قرناً تحمل حزنَها على الحُسين الشهيد، ولكنها نسيت كل الأحزان ولم يبق لها إلا هذا الحزن، أو وربما تكون تلك الأحزان اختُزنت في اللاوعي الجمعي وأصبحت ذاكرةً للحزن تقتات الأمّة منها كُلّما احتاجت واحتياجاتها كثيرة ومتكررة، وهذا المشهد الأسطوري لإحياء آلام الحسين يعود بالذاكرة إلى التراث الحضاري لمنطقة وادي الرافدين ويؤكد مقولة التواصل الحضاري وعمق الارتباط بالماضي ودلالته الروحية لدى شعب هذه المنطقة إذ يستنسخ التاريخُ نفسَهُ هذه المرة في مشهد آلام الحسين ويعيد ذكرى تموز الإله الذي قُتِلَ وبُكِيَ ليعودَ ويُبْعَثَ مع السنابل الخضراء والشقائق الحمراء ولكن التساؤل الذي يمكن أن يُطرَح هو هل تُنتظر عودة الحسين، وبالحزن هل ننتظر عودة ما فُقِد، قد يشكل الحزن عزاءً لأبناء هذه الأمّة ويبدو أنهم يكتفون بهذا العزاء ويُراكمون عزاءاتهم بتراكم مآسيهم.
وقد تكون هذه الرؤية عند جبرا في خطابه تميزاً مهماً عن المفاهيم الاغترابية التقليدية السائدة، مع التركيز على تجليات اغترابية فردية على المستوى النفسي والقيمي والاجتماعي والطبقي.
ب-يتجلى الاغتراب في فقدان بعض القيم والقدرات الإنسانية التي تمنح الحياة نوعاً من الجدوى كالحب:((حياتنا لاحبّ فيها جافة كالرماد)) ص127.وهذا نابع من سيطرة الشرّ على العالم، الشرّ الذي رصدناه سبباً من أسباب الاغتراب حتى أن الاغتراب نفسه تحول إلى شيء غير حقيقي، وهذا يجعل الإنسان مغترباً عن اغترابه. ((كلنا غرباء غير حقيقيين، لايمكن التوفيق بيننا)) ص223.(1/226)
جـ-وتأتي تجليات الاغتراب عبر مشاهد جحيمية يتحول فيها المرء إلى موجود من موجودات العالم لا يستطيع أن يقوم بأي فعل من أجل نفسه أو من أجل الآخرين وإنما يكون منساقاً غريزياً وراء قواه الداخلية العمياء؛ لأنه ميت بين الأموات: ((كنتُ أسخف إنسان حي. أبلع الغبار وامسح عرقك، وأفرغ حبك في المجرى وأجامع امرأة في الأربعين كلما اشتهيت، وتأمل أليس ذلك أنفع لك وأجدى وأنت ميت بين الأموات)) ص232.
ويبقى هذا الهاجس مسيطراً، هاجس الموت والغثيان والإحساس باللاجدوى.
((أسرع، أسرع، عبر القاذورات، عبر الأسى، عبر الحدائق الخضراء المشذّبة قبل أن تغور ورأسك قبل القدم، في الحفرة التي لا مفر منها)) ص235.
ثالثاً- السلوكات الاغترابية:
ردّاً على التجلّي الأول (اغتراب الشعب) لا نجد ردوداً بالمعنى الإيجابي إلا فيما نَدَر كمحاولات الجيش العربيّ للإنقاذ الفاشلة للدفاع وكذلك فإن ردود الشعب نفسه كانت سلوكات: نفسية هي الخوف والرعب والاستهجان، وهي نفسها سلوكات تصبُّ في الاغتراب، أما على المستوى الفردي في سلوكات الاغتراب، فالسلوك الأول يعتمد الإبداع الفوهي ردّاً كالشعر مثلاً ولكن الردّ يبقى نفسه اغتراباً لا يخرج في ماهيته عن فحوى الاغتراب: ((الشرفة المتداعية، هذا عنوان إحدى قصائد عدنان ما هي العناوين الأخرى... الحلم والموت، العِطْرُ الهَرِم، الطاحونة)) ص54.
ولأن هذا السلوك الذي يُتوقع أن يكون حلاً، يفشل في العزاء والتعويض فيقوم المغتربون بالبحث عن حلول سلوكية أخرى سلبية، هي الانتحار ويلخص المقطع التالي الأسباب والتجليات والسلوكات الاغترابية: ((كفانا شعراً.... نحن أعمينا أنفسنا إزاء الشر والظلم اذهبي يا قصائدي يغذوك إلى الأبد دم حياتي القصيرة أسرع أسرع إلى قاع الجحيم عبر الماء والطين)) ص241.
(((1/227)
انتهى كل شيء يا حُسين، انتهى كل شيء كفانا جراثيم كفانا قملاً... نويت قتل نفسي نتيجة إحساسي بالخيبة واللاجدوى نتيجة عجزي عن طبع حياتي على كيان المدينة التي أحببت وموتي لن يكون احتجاجاً بل إعلاناً عن اللاجدوى.. سيعلمون أن (عدنان طالب وحسين عبد الأمير) قد رأيا من المناسب خلال بحثهما عن الحياة والحرية، أن يموتا يحدوهما الأمل في أن يتطلع غيرهما أيضاً إلى الموت حي تُغريهم حياتهم بالقيام ببحثٍ مماثل)) ص240.
-ويرسم خطاب (صيادون) مجموعةً أخرى من الاغترابات أولها الاغتراب الطبقي الذي رصدناه في التحول الأيديولوجي، إذ ينسلخ (عدنان طالب) عن طبقته البورجوازية ويلجأ إلى أحد الأحياء الشعبية الفقيرة ويقوم بأعمال لصالح الفقراء و المسحوقين، وهو كذلك مغترب مركّب، فإضافةً إلى اغترابه الطبقيّ يغترب عن السلطة ويصبح معارضاً قوياً، ويغترب كونيّاً ويحاول تقمّص دور الثائر (النبويّ) ولكن دون وحي ودون رسالة خارجية، وإنما يصطنع لنفسه رسالته الداخلية الخاصة وكذلك نجد الاغتراب الحضاري إذ أن مجمل (الذات) بمفهومها الذي طرحناه في مبحث الذات والآخر، يعاني من اغتراب قسريّ عن حركة الحضارة الإنسانية الحديثة وعن السياق الحضاري العربي عبر التاريخ ونجد إلى ذلك أيضاً اغتراباتٍ حضاريةً من نوع خاص، فحواها البحث عن بدائل حضاريّة مختلفة أهمُّها الاغتراب الاختياري الذي عرضناه سابقاً وهو البحث عن الحلِّ الصحراوي...
وهناك اغترابٌ عن بعض القيم العشائرية، فمثلاً نجد (توفيق الخلف) ممثلَ العشيرةِ والحلِّ (العشائري) يتخلى (لجميلٍ) عن سُلافة التي خطبها بطريقته العشائرية وتقوم سُلافة بالهَرَب من بيت والدها للحاق بجميل فران والزواج لتفتح بذلك أفقاً آخر للاغتراب الاجتماعي الذي يُتَوَّج باغتراب المبغى، المؤئل الحقيقي للنساء المغتربات عن مجتمعهن.
السفينة:
تطرح السفينة مستوياتٍ متعددةً لأسباب الاغتراب ولتجلياته ولسلوكات المغتربين:(1/228)
1-في الأسباب:
ليست الأسباب التي تطرحها السفينة بمنأى عن سياق الأسباب التي طرحها الخطاب في (صُراخ) و (صيادون) ويحدث ذلك أحياناً بإعادة صياغة العالم الاغترابي السابق وفق إمكانية لغوية جديدة تتكرر فيها الرموز اللغوية الاغترابية التي عرضها الخطاب سابقاً:
1-الفشل في الحب: وجدنا هذه المقولة في (صراخ) مؤدّى إلى القلق الاغترابي الكونيّ، وهنا نجدها عنصراً مكوناً أساسياً في أسباب الاغتراب وهي في رؤيته العنصر غير المحتمل فعلى الرغم من تأثير الأسباب الأخرى: ((ولكن الغصّة الكبرى هي هذا الذي يعجز عنه التحديد هي أن تقع في هوىً صاحبتُهُ بين يديك ولا تنالُها. تنالُ ألفَ امرأة وتبقى تلك الغصة في حلقك، وتلاحقك الحسرة)) ص8و9.
ونتيجة لهذا الحس الاغترابي تتحول المرأة والحب إلى كابوس: ((يقولون: إن الكابوس للرجل امرأة شبقة تهاجمه في الليل تريد امتصاص حياته، للذتها فيرى ما يرى)) ص78 ((المرأة فاتنة غادرة تُوقعنا هي وتنجو بجلدها)) ص54.
ولا يقتصر الفشل في الحُبّ على الرّجل، ولكن المرأة تعانيه أيضاً: ((زواجُها دام سنة وبعض السنة ولم يترك لها ذكرى واحدة تناغيها سوى ذكرى منظر الجبل الأخضر الأزرق المتلألئ فوق بيروت وشعور بضرورة الهرب: لا ذكرى عاطفة، ذكرى بلد، لا ذكرى إنسان)) ص6.
2-المدينة: القهر الحقيقي الذي نجده على مدى مساحة الخطاب في أكثر تجلياته تكون المدينة سبباً رئيسياً فيه، وهي مقولة متكرّرة في جميع الرّوايات ولكن الاختلاف لابد من أن يكون في كثير من التفصيلات، وفي كمّ التناول، إذ يظهر في السفينة ظهوراً عارضاً: ((كيف ينتهي رجل إلى الوقوع بين مخالب الشيطان بعد أن قضى حياته في صراعٍ ظافرٍ معه. هذا ما تفعله المدينة)) ص54.(1/229)
-أحد الأسباب المباشرة التي يعرضها الخطاب في اغتراب الفلسطيني عن العالم وعن قيمه: ((هل كان في حاجة إلى أن أقتلع من جذوري ويُقْذَفَ بي بين الحوافر والبراثن بين لواهب الصّحراء وزعيق المدن البترولية، لكنّي أعرف ذلك؟ القماشة عريضة والسواد فيها كثير والبقع قليلة متباعدة... وأعود إلى آلام كآلام الصليب في مأساة تتجدد، فيقولون عنّي: انحطاطيّ ماكر يُناقض نفسه يعبد القرش ما عادت أرضه تعني له شيئاً، كأنهم يريدونني أن أحمل حفنة من ترابها في كيس من ورق في جيبي دليلاً على ألمي وأنا أحمل صخورها البركانية كلّها في دمي مع وحدتي ووحشتي.. نضمّ بين الجوانح الحبّ والوحدة ولا نريد أن يعرف محبونا بالذي نضم)) ص24.
قد نستطيع أن نسمّي هذا النّوع من الاغتراب (الاغتراب الفلسطيني) يتعرّض فيه لأطراف القهر: الطرف الأول الذي خلق هذا القهر، وخلق الاغتراب هو العدوّ، والطّرف الثاني هو الطّرف الذي تلقى الفلسطيني ليتهمه بالانحطاط والتخلي.
-مقولة الخير والشر مقولة متكررة أيضاً؛ لأنها مقولة تشكل هاجساً كونيّاً حضاريّاً للخطاب، وقد ظهرت في حديثنا حول مفهوم الذات ووعي (الذات)، والمفهوم الذي يظهر هو نفسه ما وجدناه في مبحث (الذات والآخر) ويتمحور هذا المفهوم حول تكوين القيمة الثنائي (الحتمي الذي لا يقوم الكون دونَه (الخير والشر) كما يُعرضَانِ مُكَوَّنان متلازمان لحتمية الوجود: ((هل حقاً أن الخير لا يوجد إلا بوجود نقيضه، الشر... قالوا: إن صَلْبَ المسيحِ كانَ ضرورياً لخلاص البشريّة؟ ولكنّ صلبه ما كان ليتم لولا خيانة يهوذا الإسخريوطي. إذن ما كانَ خلاص البشرية ليتم لولا قبلة الخيانة! منطق مقلق)) ص53و54.(1/230)
يعدّ هذا سبباً قويّاً من أسباب الاغتراب، لأنّ النّفس البشرية عالية الرؤيا التي ترى العالم من منطق منظورها الذي لا يستطيع تصور الحتمية التي تجعل وجود الشر لازماً كوجود الخير، ونتيجة لهذه المعادلة، فالإنسان مخير بين حدين الصمت أو المقصلة: ((أنا أشعرُ أنّني في عالم فرض عليّ فيه الخيار بين الصّمت أو المقصلة، لماذا يتحتّم عليّ أن أردد ما كان يردده أهل القرون الوسطى: إذا كان الكلام من فضة فالسكوتُ من ذهب)) ص124.
-وكذلك التأمل في جدوى الحياة الذي رأيناه في (صيادون) وذلك من خلال طرح المفارقة بين الحياة والموت: ((هذه الأرض العريضة ما أضيقها. أصوات الموت تملأ الدّنيا)) ص74.
تنتظم هذه الرؤية الاغترابية ثنائية مقاربة لثنائية الخير والشر: ((الحياة والموت. لعلها مهنة الطبيب، الجرّاح على الأخص، التدخل بشؤون الطبيعة بشؤون الله. ولكن المفروض أن الله لا يحب أذى الإنسان إذن فهي الطبيعة)) ص212.
والتأمل في هذه الثنائية قد يؤدي إلى تآخٍ في روح الكائن بين الموت والحياة: ((شهوة الحياة وشهوة الموت قد تتحدان حينئذ في صدفة فذة، دون أن ينال أياً من الشهوتين شيء من الوَهَن)) ص117.
ويعرض الخطاب مُجْمِلاً الأسباب السابقة تقريباً مضيفاً سبباً جديداً هو السبب السّلطويّ: ((السلطة وتناقضاتها، المال، المقتنيات، الزّواج، الأبناء، كلّها تمزّقنا باستمرار وفي النهاية نلجأ إلى عالم "فوغ" لا ألم لا تمزق وحلم قد يدوم بعض الساعة،... الجنون المطبق الذي هو نهاية الكثير من النّاس يولدون باكين، كما قال أحد الشعراء، ويموتون في زوبعة من الرّعب. وما الذي هناك بين الولادة والموت، سوى زوابع من الرّعب متلاحقة منها الخفيّ ومنها الظاهر، منها النفسيّ ومنها الجسديّ مع فترات الصَّحو كصحو الظهيرة في الصّحراء سماء لا تنتهي، وأرض لا تنتهي وصمت مليء بأحلام المتصوفين)) ص78.(1/231)
وبتوصيف مباشر يقوم أيضاً بإتمام عناصر العملية الاغترابية لتكتمل، والمعروف كما أشرت إليه سابقاً أن الخطاب ينزع في أكثر تناولاته إلى الشّمول والإحاطة والعمق للسيطرة على العالم بتوصيفه ((في الحياة غصّات كثيرة فيها الموت. وفيها المرض، فيها الخيبة بالأبناء وفيها الخيبة بالآباء- فيها الموت والقتل وخيانة الصديق. ولكننا نتحملها.. ما دمنا لا نستطيع الانتحار، ولابد من الادعاء بالجَلَد والبطولة في تحملها)) ص8.
تجليات الاغتراب:
العالم: الجحيم: ((عن كلِّ أملٍ تخلّوا، أيُّها الدّاخلون هنا، هذا ما كُتب على بوابة الجحيم... فقد كنت من "الداخلين هنا" عرفت الجحيم طولاً وعرضاً، الأمل ما عدت أعرف عنه شيئاً.. واليأس ما الذي يعنيه؟ الجحيم؟ وإذا خرجَ المَرْء من الجحيم يعيش المرء كابوساً متواصلاً...)) ص38.
هذه الصّورة التي يرسمها الخطاب مستعيناً بالرّصد الثقافي أو ما يمكن أن ندعوه (بالتّناصّ) تعطي تصوّراً واضحاً عن رؤية الخطاب للعالم الذي يتلخّص بكلمة واحدة هي الجحيم وما تؤديه الكلمة من إيحاءات تصويرية، والأمل الذي يعد جدوى العالم في الاستمرار ويمنحه مسوّغ الوجود، وإذا فُقِدَ الأملُ فَقَدَ الوجودُ مسوّغَهُ وهذا يؤدي إلى البحث عن إنهاء الحياة والوجود وهذا ما سنراه واضحاً في الحلول التي يقترحها الخطاب في موازاته للواقع، هذه الرّؤية الكليّة للعالم يمكن أن تكون عنواناً رئيسياً لمبحث الاغتراب ويمكن أيضاً أن نعنون به رواية السفينة لأنّ (السفينة) شكّلت جحيماً حقيقيّاً لسكّانها الباحثين عن مخرج من جحيمهم الذي عاشوه قبل الاجتماع في السفينة وعقد مؤتمراتهم التجريبية لفحص إمكانيات الحلول ويبدو العالم وفق ما يلي: "الحياة مظلمة، النهار أسود كالموت، السفينة سجن، قفص، البحر وحش بغيض، الشمس سوداء...)) ص220.
المواقف التفصيلية للاغتراب:(1/232)
1-الوحدة: صفة اغترابية رئيسية يعرضها الخطاب بطريقة ترميزية فجائعية:(( في الصميم نحن وحيدون، حياتنا أشبه بالعلب الصينية: علبة داخل علبة، وتتضاءل العلب حجماً إلى أن تبلغ العلبة الصغرى في القلب منها جميعاً، وإذا في داخلها لا خاتم ثمين من خواتم ابنة السلطان، بل سرّ أثمن وأعجب: الوحدة)) ص23و24.
إن ترميز العلب هنا دلالة (سيكلوجية) في عمق الفعل الاغترابي مفرداتها الحصار، وعمق الفجيعة الإنسانية في اكتشافها النهائي (الوحدة).
2-الالتحام بالمسيح "الرّوح المصلوب":
يستعين الخطاب الرّوائيّ لإظهار الجانب من الجوانب الكثيرة للاغتراب بالخطاب الديني، ويجعله مُتّكَئاً تشبيهياً لإظهار عمق المأساة، وذلك لأنَّ (المسيحَ المصلوبَ) الموضوعة الدينية (الفجيعة) تشكل في عُرف الخطاب الحالة الفجائعية القصوى؛ (معلّم السّلام ومعلّم الخير يُلاحَق ليصلب) والإحساس المطلق بالفجيعة في (الخطاب لايمكن أن يُؤدي إلا بهذه التقنية التشبيهية: ((أجمل ما في الحياة حزين كبلادي والملائكة التي تحمل كؤوساً تملؤها من الدّم القاطر من يدي المسيح المصلوب جميلة)) ص19.
ويستلذّ الخطاب المزج الصّهيري بين التراث الديني الرّمز الذي يمنح الواقع المُرَمّز له طمأنينة الكفاح ويهدّئ المعاناة ويجعلها نبيلة تطهيرية ليتحول الاغتراب إلى حالة أداء صوفيّ يبحث عن الالتحام بالعالم وليس الانفصال عنه: ((كان يوحنّا كما تَعْلَم يعيشُ في البادية عند البحر الميت، يعيش على الجراد والعسل شبه عار، وجهه ضامر، عيناه في اتساع الصحراء يرى رؤى ويتحدث بالرموز برزت فيه العظام، ومعمودية الروح القدس- معمودية النار، ضلوع صدره الناتئة تجابه المشاهد كالعصيّ الصّلبة.. أحياناً أراني مثله أراني كيوحنا المعمدان وجسده ينصهر بالنار التي تستقر في قلبه- صوت صارخ في البرية... صوت تصغي له الإنسانية كلها)) ص53.
3-الاغتراب الفلسطيني:(1/233)
بعد سقوط القيم الإنسانية في العالم وسقوط القيمة العليا (الحقيقية) وسقوط الفلسطيني في دوامة الاغتراب أضحى الفلسطيني لاجئاً في خيمة.
((في هذه السفينة الصدق شحاذ، ناسك، كافر، طاغية ابن كلب لا نريده في الواقع كل من يدّعي أنه يقول لك الحقيقة واحد من اثنين: إما أنه واهم ولا يعرف، أو أنه كاذب على كل حال، وماهي الحقيقة؟ على كندرتك! قلنا الصدق حتى بُحَّت حناجرنا وأضحينا لاجئين في خيام)) ص17.
وهنا في التعامل مع الاغتراب يتحول هم المغتربون على الانتهاء من ماضيه، لأنه يعني له الأسباب الاغترابية التي أوصلته إلى انسلاخه عن العالم فيصب اهتمامه في المستقبل في سبيل البحث عن حلول: ((لقد أصبح المستقبل لكل مسافر أهم من الماضي وغدت اللحظة الحاضرة الجرعة الجحيمية التي تخلط الأحشاء)) ص133.
-الحلول وسلوكات المغترب:
1-الحل الأول الإبداع (الحل الإيجابي):
نعيد من جديد الإشارة إلى ميزة للخطاب عند جبرا، كنا أشرنا إليها سابقاً هي قدرته الفائقة على وعي مفردات القضية التي يتناولها إلى درجة يدخل في وهم المتلقي أن المؤلف يقوم بعمل مخطط منظم مرتب وفق مسرد يسير على منهج دقيق كما يفعل الباحث الذي يقوم بإنتاج بحث علمي إضافة إلى طفؤ وعيه دائماً إلى أعلى سطح العرض، وليس ذلك توصيفاً سلبياً وإنما هو إشارة إيجابية إلى قدرة جبرا على الامتداد إلى الأعماق وطرحها بوضوح وكأنها سطوح، في النص التالي يوصف الخطاب الحل الإبداعي بكونه عزاءً تسكينياً ولا يعني الحل الجذري الفاعل والموصل إلى الخلاص: ((محاولاتنا الإبداعية ليست إلا مُسكنات مؤقتة هي نوع من البكاء. ولكن لا شيء في الحياة يعوض عن الدموع السخينة الكبيرة)) ص18.
ويحدّد الخطاب نوع الإبداع بدقة: ((ما معنى النجاة على كل حال؟ إلى أين نحن فارّون؟ أنا قد أفر إلى هذه الرسوم، أو أنكفئ على صمت يلازمني أياماً بطولها)) ص79.(1/234)
ويعمق في فهم العلاقة الجوهرية بين الفن والعزاء: فـ ((إذا لم يكن الفن متصلاً بجحيم النفس، فإنه لن يتصل بفراديسها، الفنانون الذين يستجيبون دائماً لما يريد الناس طراشون،، صباغون، بغايا)) ص75.
إننا نرى أن هذه العزاءات ليست جسر الخلاص النهائي الذي يؤدي إلى خلق الطمأنينة والاستكانة لسيرورة العالم: ((ليس في الفن من حلول، المسألة هي المهمة أما الحلُّ، ففي العدد القادم الذي لن تشتريه" ص77.
2-الحلّ الثاني (الوهم):
إن مفهوم الوهم دلالة (سيكلوجية) تنتمي إلى الحقل المعرفي المُسمّى (علم النفس) لكن الخطاب يتناول هذا المفهوم من منظورات أخرى مضافة إلى (منظار) البعد النفسي ويحلله بمقاربات حضارية ويرجعه أحياناً إلى مؤثرات غيبية في أساس الطبيعة، وهذا يعني أن مفهوم الوهم ليس محمولاً سلبياً؛ لأنه يتكشف عن دلالات إيجابية، كمفهوم الوهم الفنيّ المبدع مثلاً ويطرق الخطاب هذه الموضوعة بداية من مصطلح (أحلام اليقظة) ليجعله مدخلاً لمناقشتها وتحليلها ويجعله ناتجاً طبيعياً من التراكم الكمّيّ لتجارب الإنسان في مسيرة الزمن.
((بعض التجارب يحملها المرء طي إهابه كالمرض، كقرحة لا تميت ولا تندمل، ويجابه المرء الأيّام والتجارب الجديدة... ويصبح الألم جزءاً من الكيان يعايش القلب والذّهن ويبدو أحياناً على نحوٍ يناقض المنطق والعقل، كأنه فَرَحٌ مقيمُ كلّنا عرضة لهذه الماسوكية العاطفية... فلم لا نتحايل عليها ونجعلها مصدراً للقصائد غير المنظومة التي تهدر في النفس على غير انتظار)) ص11.(1/235)
تتردّد هنا مجموعةُ من المصطلحات (السيكلوجية) مثل (الماسوكية) العاطفية و (أحلام اليقظة) وإذا نظرنا إلى النص المقتبس سنجد أن الرّوح (السيكلوجية) في التحليل هي السائدة واللغة المستعملة في مضمار علم النفس هي المسيطرة (تجارب محمولة في الإهاب كالمرض، كالقرحة، الألم جزء من كيان الإنسان يعايش القلب والذهن، يناقض منطق العقل، فرح مقيم....) وهذا السلوك في التحليل ليس غريباً على خطاب جبرا، لأننا نجد كثيراً من هذه التحليلات النّفسية والبحث في أعماق (راقات) النفس خاصة في (البحث عن وليد مسعود) ويبدو أنه سلوك يؤدّي أغراضاً خطابية لدى الكاتب، ولكنه ليس السّلوك الأوحد الكافي لرؤية العالم الشّمولية التي يطمح إليها، نظراً إلى خصوصية الفن الروائي ولخصوصية المبدع.
وربّما تكون هذه البداية في السفينة تأسيساً للتّحليل (السّيكلوجي) في الرّوايات القادمة ولعلّ غيابَ مثلِ هذه التحليلات أو انحسارها فيما سبق عائد أولاً في (صُراخ) إلى طبيعة إنتاج هذه (الرّواية)، وهذا لا يعني غياب التحليل النفسيّ عن (صراخ) تماماً، وثانياً في (صيادون) إلى الطبيعة الغرضية التي دعت إلى كتابة الرواية.
-تتطور صورة الوهم من أحلام اليقظة إلى خلق عالم بديل ومناهض لعالم الواقع قد يحمل الطمأنينة وقد يحمل نقيضها، ولكنه يبقى أكثر عمقاً من عالم الواقع؛ لأنه عالم اختياري مخلوق وفق رؤية المغترب وعمقه الإنسان والروحي: ((كلنا فينا شيء من الجنون بأقدار متفاوتة، ننسحب من الواقع المزري إلى عالم خبيء في الداخل مليء بكل ما نشتهي وأحياناً بكل ما نرهب، كالمجاذيب... العالم الذي ننسحب إليه في نظري ربما كان أعمق حقيقة من عالم الواقع)) ص74.(1/236)
ويحمّل الخطاب المسؤولية في خلق الوهم للطبيعة التي تحاول خلق التعادل في الأشياء: ((الوهم تفرضه علينا الطبيعة نفسها فرضاً. ما النوم؟ إنه انسحاب إلى الداخل إلى الظلمات الطرية اللذيذة. فالوهم أخو النسيان، والنسيان بلسم الجراح، إلى أن تفاجئنا الكوابيس وهنا بيت القصيد)) ص75.
ويترجّح النظر إلى الوهم بين عدة مستويات ليصل إلى الدلالة الإيجابية الصرف دلالة الخلق والإبداع ((جزء كبير من الحضارة ما هو إلا تنظيم الوهم والتمتع بالوهم والاغتسال بشلالات الوهم، ولكن تبقى الكوابيس هي الخلاقة الحقيقية في النهاية)) ص75.
ويتوصّل الخطاب إلى لقطة جوهريّة في فهم الحالة الاغترابية ويحكم على الحضارة الحديثة برمتها بأنها حضارة (الفنتزة) والوهم: ((مصيبتنا أننا نحاول رفض الحضارة إذا كانت حضارة وهم ولكننا جزء من حضارة الفنتزة رغماً عن أنوفنا إلى أن يفاجئنا الكابوس)) ص75.
-ويُغرق في البحث في الرّاقات العميقة للنفس باحثاً عن البعد الاغترابي مصوراً الوهم مرتبطاً بقضايا مكمّلة وطارحاً الحلّ (الوهم) قدرة مسيطرة. بل قدرة تعني أقصى حالات الجدوى، فدون وهم ليس هناك متعة، والمتعة هي التي تمنح العالم جدواه وتسويغ وجوده: ((وأنا كالأبله مأخوذ بما أرى، ربما أتوهم، أحاور الله والشيطان معاً. قد تقولان المسألة جنسية على طريقة فرويد، المحرومون جنسياً يتوهمون أنهم جبابرة الكون أو حشراته- لقد أصبحت المسألة حياتية ضرورة من ضرورات البقاء، يبقى الوهم أمراً لا محيد له عن... الفناء كله وهم، الطيبات كلها وهم: ارفع الوهم، تضمحل المتعة الأخيرة)) ص80.
وعندما يفر الإنسان إلى الوهم ولا يستطيع أن يجد عزاءه فيه يبحث عن الحل السلبي؛ الحل الذي يكسر الحاجز بين الحياة والموت (الانتحار).
((أين يهرب الإنسان...؟... إلى الموج، ولكنّ عيون الحسّاد يقظة، سينشلونه من الموج ويفرغون الماء من جوفه ويعيدون إليه عافيته لكيما يعاقبون)) ص92.(1/237)
ويعرض الفلسطينيُّ حلَّه في مواجهة عالم الاغتراب هذا، ويمعن في التأكيد عليه إلى درجة اندغامه في حلّه ليتحوّل في النهاية مغترباً حتى عن حلّه، وفي مناقشة (اختبارية) أخرى من المناقشات السائدة عند جبرا بين ممثل حلّ الانتحار وبين الفلسطيني، يجري تحديد الحل:
-الردّ على معطيات الاغتراب:
((إننا في حالةُ يُرثى لها- ولكنّ تغيير هذه الحالة رهنٌ بنا
-نتفاءل ونحن في طريقنا إلى المقصلة؟
-أتفاءل، لأن أمامنا مهمّة هائلة يجب أن ننجزها.
-والمقصلة؟ -نهدمها، لأن المهمّة الهائلة في انتظارنا؟
-نحن مسرعون إليه- أحلم؟- لابأس أن أحلم!.
-اربح عملية مجابهة للواقع- عملية إخضاع للواقع وهنا تعود.
-نخضعها -ما هي المهمة؟ -المهمة؟ -كل شيء: فلسطين والمستقبل الحرية... أنت تفكر بالخارج وأنا أفكر بالداخل)) ص117 و 118 و 119.
نستطيع أن نطلق على هذا الحوار (( عملية صراع)) بين الحلول، وواضح أن كلَّ حلٍ يستند إلى معطيات واقعية موضوعية تختلف عن الآخر، رؤيتان للحلّ مختلفتان باختلاف المنطلق: الأولى (الانتحارية) تنطلق من وعي السائد الداخلي في المجتمع العربيّ والثانية (المواجهة وإخضاع الواقع) تنطلق من وعي التهديد الخارجي، ولكنها أكثر شمولية لأنها تريد إلغاء الخارجيّ والداخليّ معاً. والحلول المطروحة سابقاً يمكن إرجاع بعضها إلى مرجعيات طبقية كحل الانتحار الذي يقوم به (فالح) مثلاً المنتمي إلى الطبقة البورجوازية، وبعضها الآخر إلى مرجعية سياسية تاريخية، أما عن نتيجة الحلّ الأخير، وهو حل المواجهة، فقد كان على المستوى التنفيذي في السفينة ناجحاً نسبياً، إذ نجح (وديع عساف) محور الخطاب في (السفينة) في إقناع أكثر ركاب السفينة بالعودة إلى وطنهم، إلى حلّه التجريبي (الأرض) وقد كانت التجربة الأولى ناجحة في السفينة: ((سأشق حنجرتي بالصّياح لكي يسمعني ربيّ لكي يسمع كلمات الشكر وكلمات الاحتجاج)) ص86.(1/238)
-ظل خطاب السفينة في إطاره الذي رسمه لنفسه، من حيث السعي بالأفكار والأحاسيس إلى مطلقاتها، وظل ضمن السياق العام لكلية الخطاب عند جبرا، في عرض ثلاثة مستويات لمبحث الاغتراب (الأسباب، التجليات، والسلوكات) أما في المسائل الجزئية التفصيلية فقد قام جزء الخطاب في السفينة بالتعديلات وبالتنويع وبالحذف والإضافة.
حدثت بعض التقاطعات التي لابد منها، نظراً إلى طبيعة البحث بين مبحث الذات والآخر ومبحث الاغتراب لأن الاغتراب في كثير من تجلياته وأسبابه وحلوله يصب في مبحث الذات والآخر.
الاغتراب في البحث عن وليد مسعود
1-في الأسباب:
أ-العالم (التناقض الحتمي): الاغتراب (التناغم الحلمي):
هذه المقولة تندرج في السياق الخطابي العام لجبرا، ضمن الخط البياني لتؤلف بين النقاط المتناثرة على مساحته، وهي تحوي، من التفصيلات المتعددة، ما يمنحها هذا التمثيل البياني للخطاب، لأن (البحث عن وليد مسعود) ذروة (بيانية) في مستويات الخطاب كافة خاصة في مفهوم الاغتراب.
ويُعَدّ هذا السبب الذي يعرضه الخطاب أهم الأسباب، وهو فقدان التوازن في العالم: (كان وليد يبحث دائماً عن التوازن الذي تحدث عنه طوال حياته ولم يجده قطّ. كان يقول إن التوازن كلمة تقريبية، ولكنها تفي بالغرض قبل أن يخوض المرء في التفاصيل"ص13.
ثم يدخل الخطاب في تبيين هذه التفصيلات التي تجرح حسّ التوازن بل تجتثه أحياناً من الجذور.
"عالمٌ من الرّعب والقتل والجوع والكراهية، كيف تجد توازنك الذهني أو النفسي أو الجسدي أو الاجتماعي، سمّه ما شئت، دون أن تشعر بأنك تقف من الإنسانية على طرف بعيد؟ كيف تكون إنسانياً وتتخطى المشاكل الإنسانية؟ التوازن بالطبع كان سراباً"ص13.
نجد في هذا الامتداد نحو البحث في أسباب الاغتراب عمقاً يتوصل إلى فهم الفحوى الحقيقة والجوهر الأساس للاغتراب، لأنّ العالم: "عالم زَلق مُقَلْقَل في صعود وهبوط مستمرّين يتخطيان العقل والمنطق"ص14.(1/239)
تتعدّد توصيفات العالم السّلبية الّتي تُشَكّل السّبب المهم في الاغتراب، فالعالم شرير لا يمكن للأخيار العيش فيه.
"من يريدّ أن يكون راهباً في هذا العالم الشرير؟"ص92.
وكذلك فهو قاس دون مسوغ وعناصره البشرية كائنات غيبية لا تفهم، وهذا ما يدعو إلى التساؤل حول هذه القسوة: إن كان لله مشيئة في إيجادها، وهذا السؤال الذي يُطرح في وجه الغيب يشير إلى حالة الاغتراب الحقيقية والانفصال التام عن العالم: "ما معنى تلك القسوة كلّها وهل لله مشيئة فيها كيف كان لنا أن نجعل الآخرين يفهمون نشوتنا الداخلية ومحاولتنا لتغييرهم"ص186.
(العالم لا يفهم ولن يفهم ليس لي إلا أن أرفض عالماً لا يفهمني)ص287 ولذلك فإن (العالم مليء بالنحيب)ص230.
الذي يصنعه الأشرار، إنّ هذا الفهم للعالم يستند إلى معطيات اغترابية ذات أبعاد متشعبة ربما يكون أولها وأكثرها وضوحاً هو البعد (السيكلوجي) الذي يتصور الأشياء وفق منظور جارح للحس ومتفجع بالعالم ولعل هذا يعود إلى طبيعة الشريحة المغتربة كونها شريحة مثقفة تتفاعل مع العالم بعمق أكبر وتؤمن، بقوة وبجذرية، بطروحاتها البديلة فإذا انكسرت أحلامها في خرق الواقع القائم وفي خلق واقعها البديل يكون هذا المعبر إلى آفاق القلق ومغادرة الفعل في العالم في المجتمع وفي الذات أيضاً، ويعد انكسار الأحلام من أهم العوامل التي تدفع إلى حالة الاغتراب القسريّ: "يا مسكين يا جاهل إلى متى تبقى تحلم بالعبور إلى عوالم أخرى وما لديك إلا هذا العالم القاسي العنيد"ص27.(1/240)
والإخفاق في تغيير العالم هو نوع من أنواع انكسار الحلم وانهياره: "منذ أن وعيت كانت المعركة أبداً هي نفسها: بيني وبين نفسي بيني وبين الآخرين بيني وبين العالم، معركة حب أردته لكل إنسان، فإذا أردت تغيير العالم بالحب يا للغرور وجب علي أن أغير الآخرين، وإذا أردت تغيير الآخرين وجبَ عليّ أن أغيّر نفسي، أردت أن أغير العالم على هواي، وأنا أنظر إلى الغادين والرائحين من على شجرة تطل على الطريق، وتطل من ورائه على الوادي أردت للعالم أن يتغير وأنا جاثم بين أغصان شجرة آكل منها لوزها الأخضر"ص177.
يعي الخطاب هنا بمعنى دقيق مفهوم التغيير أولاً ويعي ثانياً مفهوم الاغتراب وعوامل الإخفاق التي أدت إليه، فالتغيير لا يكون وفق حلم من أحلام اليقظة يُجتر، إنما يجب أن يكون الفعل سيداً في عملية البحث عن التغيير وخلق البدائل، أما التغيير الحلمي الذي يبقى أملاً تصورياً وهمياً، فإنه يقود إلى الإحساس (باللاجدوى) وربما يكون هذا الأمل الحلمي ذا منشئ غيبي في الاعتماد على الغيب، وفي البحث عن الحلول والتغيرات أي الاتكاء على القدر، وهذا أيضاً عنصر مكون للحلّ عند الباحثين عن البدائل في الخطاب، وعندما يخفق هذا الحلّ بعد الانتظار الطويل يكون البحث عن البديل، ولكن الأوان يفوت فيكون الاغتراب.
-يجري التأمل في العالم فيُرى مستنقعات للجثث الحية والميتة وخرائب يعج فيها الغثيان وتسكنها الغربان التي "تختصر العمر كلّه من أقاصيص كليلة ودمنة وحكايات لافونتين إلى وقائع الجثث التي ملأت الأرض حية كانت أم ميتة وأفعم النتن منها الخياشم وزكم أنوف أهل الفضيلة وأهل الرذيلة معاً.. أينما أنظر لا أرى إلا الغربان فظيع!" ص32و33.
وبعد اخفاق سيادة الحب على العالم: "ألا ترى ما أهزل الحياة وما أمحلها كنا نظن أن الحب سوف يخصب هذه البقعة الصفراء السبخة مثل هذا المطر"ص49.(1/241)
وتنعدم بسبب ذلك كل القيم الإنسانية الإيجابية: "تريد أن تقول: هناك ثقة، حب، صداقة، فضيلة ما.. أما أنا فلم أعد أعترف بأي شيء من ذلك.. لقد دخلت أنا على حياتي فوجدتها قبيحة يصرخ قبحها لله في سمائه"ص57.
-ومن الأسباب المهمة في خلق حالة الاغتراب الجماعي لدى الإنسان العربي هزيمة حزيران عام 1967 إذ تحولت الكآبة التي سيطرت على المجتمع العربي بعد تلك الهزيمة إلى حالة من (الهستريا) الجماعية التي تمثلت في محاولة الخروج من عنف تبكيت الضمير، ولكن هذا الخروج كان سلبياً إلى الاغتراب، والفاجع في الأمر أن الاغتراب دائماً يحدث في مثل هذا الأمر في النزوع إلى التماهي في (الآخر بمفهومه الحضاري) والتماهي السلبي فيه فقط: "بعد انسحاق الهزيمة وكآبتها بسنة أو سنتين عم الطيش وعمت شهوة النسيان وعم الميني سكيرت، وعلا صخب الروك في كل مكان"ص237.
وتكرر مجموعة المقولات التي تصور العالم والحياة من جانبها السلبي: "في الحياة قبح، وعوز ومظالم"ص258 "الكون لا يعرف المنطق".
ويتوجه التوصيف الهجائي هنا إلى الحكم الاغترابي الرئيسي الذي ينقذف في وجه الكون (اللامنطق).
-ماهية الاغتراب تجلياته (التساؤلات تفضى إلى للاجدوى):
-الغوص إلى الأعماق (بل الارتداد إلى العالم الداخلي للإنسان ومحاولة استنطاقه) أحد التجليات التنفيذية للاغتراب وإذا يحدث ذلك الارتداد والفحص والبحث والتساؤل ومحاولة التعرف على العالم مرة أخرى بعد الانشقاق وزوال (الحبل السري) يتوصل المغترب إلى الإيمان (بلا جدوى) الحياة والعالم والكون ويسيطر السواد والعدم والموت منعكسات روحية من نفس المغترب على العالم: "وفي الداخل سؤال يسمع كأنه صادر من أعماق بئر سحيقة: من أنا؟ من أنت؟ ما الذي أفعله هنا؟ من هم هؤلاء الذين حولك يضحكون في وجه الموت والمدينة يلتهمها الوحش عضواً فعضواً كل شيء أسود، عتيق هرم، والمطر يهطل مطر مطر مطر مطر مطر..(1/242)
ولكن هذه الصورة القاتمة لا تبقى هي الصورة الدائمة المسيطرة لأن هناك مجالاً للخروج من هذا السواد والموت (بالمطر).
"وتنبثق حياة رائعة واثبة في الأعماق ويتحول الأسود إلى أخضر والعتيق يرقص والهزم يلتهب نضارة"ض242.
وهذا نوع من الحل لكن إذا عدنا إلى سياق الخطاب للبحث في ترميز المطر وفي فحوى هذا الحل نجد أن له معطيات سياسية إذا كان وليد مسعود يقوم بعملية ضد العدو في لحظة الفصل بين سواد العالم ونهوضه.
ونجد هنا أيضاً حدين للموت الأول هو سعي الكون إلى نهايته إلى فنائه، والثاني هو الموت من أجل الإحياء من أجل إحياء الوطن: (آه فلأمت إن كان لك بموتي أن تحيي يا مدينتي)ص242
-ومن أهم تجليات الاغتراب الحصار الذي يفرضه الخارج الواقعي على الداخلي النفسي، للوصول إلى فسحة من الضوء ضئيلة جداً على الرغم من إتساع العالم وكثافته، وما هذان الاتساع والكثافة إلا طريق ممتدٌ في التيه وفي العَمَاء، وتحكم المسيرة في هذا الطريق ثنائية التناقض التقليدية (السلب والإيجاب).
"لا نكادُ نشقُّ طريقنا إلى الطرف الآخر من هذا العالم المكتظ حتى ندرك أننا من هذا الاتساع كلّه، لم نستضئ إلا بفسحة هنا وأخرى هناك وما طريقنا إلا طريق التيه، نتفحص الأفق نتلفت ذات اليمين وذات الشمال نعود القهقرى نستدير مرة أخرى، نتمعن في المعالم والرموز نستقرئ الآثار: إنها غابة من براءة وطيش، من إيمان وخديعة، من فعل ولا فعل من قاتل ومقتول -العدو من أمامكم والبحر من ورائكم" ص363.(1/243)
وتتعمق حالة الاغتراب حتى تصل مداها الأقصى ويُعْلَن عن اللاجدوى النهائية، لأن الخراب والزوال هما قانون الكون، وذلك كله ضمن فهم صوفي لمسألة الكون في البقاء والزوال والموت: "يقال: إن أحد مريدي الحلاج سمع صوت الناي قادماً من بعيد فسأل أستاذه ما ذلك الصوت يا مولاي؟ فأجاب الحلاج: إنه صوت الشيطان وهو ينوح على دمار العالم الذي يتمنى لو يستطيع إنقاذه والشيطان ينوح قال الحلاج، لأن كل شيء إلى زوال وهو يود لو يعيد الحياة إلى كل شيء مضي.. ولكن البقاء ليس إلا لله وحده"ص267.
يصبح البقاء في العالم حالة (سلب) قصوى والزوال هو الحالة الإيجابية (هذا فيما يتعلق بالمخلوقات)، لأن الشيطان يسعى إلى بقاء العالم وفي بقائه استمرار لدوره وزوال العالم يعني زوال أي زوال الشر ويؤكد هذا مقولة الخطاب: "ما رأيت شريراً إلا وجدته يريد أن يعيش إلى الأبد"ص339.
-ويعرض الخطاب تجلياً آخر من تجليات الاغتراب يبين فيه كيفية تساوي القيم المُتناقضة بفعلها وبالإحساس بها إلى درجة انحسار التناقض بينها وغيابه وتلاشيه تماماً: (التفاؤل، بالطبع يمكن أن يكون ضحلاً وتافهاً كالتشاؤم التفاؤل بماذا بالضبط؟"ص13.
(قال الله: فليكن الحب فكان النعيم والجحيم وإذا الواحد يشبه الآخر فأحب الله كليهما)ص28.
هذا السلوك الخطابي في رؤية القيم سلوك صوفي ربما يكون مرجعاً إلى الفكرة الصوفية التي تقول: (إن الله خلق الإنسان فأحبه وأغرم به).
-سلوكات الحلّ الاغترابي:
يبدأ البحث عن الخروج من مأزق الاغتراب بطرح تساؤل استشفائي متألّم من عمق الجرح:"أمَا مِنْ قرارٍ لهاويةِ الأحزان هذه؟!"ص110(1/244)
ويجهد البحث عن مغادرة هذا العالم الشرير، ولو كان ذلك في الوهم في (اللامحدود)، ومهما تبلغ التضحيات فلا بد من الوصول، ولكن ذلك يبقى أملاً ثاوياً في أعماق النفس لا يجد وسيلة للتنفيذ: "هل الجنة هناك وراء السماء حيث تلتقي السماء بالأفق ولو بلغت ذلك الأفق البنفسجي على الجبال الزرق لفتحت ثغره في السماء ودخلت منها الجنة، آه"ص27.
-يحيل الخطاب الأسباب الاغترابية إلى طبيعة العصر الذي يوازيه ويشير إلى إمكانية الحل لو أن المغترب عاش في عصر أسبق، لأن الحلول التي يطرحها مناسبة لذلك العصر، كالخلاص بالفن مثلاً أو بالدين أو على طريقة المتصوفة التوحد بالجمال: (لو أنه عاش في عصر مضى لربما استطاع أن يتحدث عن إمكانية إيجاد التوازن في الفن، في الدين، في التوحد بالجمال بعبادته مثلاً على طريقة بعض قدامى المتصوفين"ص14.
بيد أن هذا الطرح لا يعني أن الباحثين عن الحل لم يلجؤوا إلى مثل هذه الحلول في الخطاب بل تركزت حلولهم في منحيين مهمين:
الحل الأول: 1-الفن: المثال الذي يطرحه الخطاب، أداة (الحل الفن) هو الفن التشكيلي وربما يكون ذلك مثالاً جزئياً أراد به الإطلاق، يتصور ممثلوا هذا الحل أن الفن مصدر الحرية لأن الإبداع يبعث في المبدع أولاً وفي المتلقي ثانياً طعم التلذذ بالحرية: "الفن يشير إلى تحرر الإنسان في ساعات إبداعه ليعطي مذاق الحرية للآخرين للأبد، رسومك دليل واحد على محاولتك التحرر"ص328.
في هذا الحل يقوم الفن بوظيفة تسكينية وليست خلاصاً أبدياً "اللوحة جنتي الموعودة وتحقيق الصورة هو دخولي جنتي كل مرة من جديد أدخلها هاربة لاجئة ملتاعة، متمتعة بلذة كلذة الحب بخوف كخوف الموت"ص329.
إن الإحساس بالخلاص بطريق الفن يحمل في سلوكه قدرتين من الإحساس متناقضتين، اللذة والخوف: الجراح والبلسم: "وكان لنا في الفن تثخين للجراح، وبلسم لها معاً"ص330.(1/245)
و"الفن ضروري للإنسان يعيد به التأمل في كونه وكيانه، في وَجْده ووجوده"ص330. ويلحق الخطاب الكتابة (الإبداع) بالفن كحالة خلاص: "كنت أريد من رسومها ما أريده من كتاباتي أنا أو ما كنت أراه في كتابات وليد في السنين الماضية: مجابهة الإنسان للعالم، على نهجه الخاص، المجابهة الغلبة تأكيد لرؤيته الفذة التجلي الميتافيزيقي عبر المادة الحياتية"ص330.
إن الكتابة وسيلة للخلاص تتعدى هذه المهمة الوظيفية لتتجاوزها إلى مهمة أعلى في سلم الصراع إلى المجابهة من أجل الانتصار وتحقيق الغلبة فالكتابة إذاً عالم إضافي مبنيّ فوق عوالم أخرى أدنى، أولها عالم الواقع الذي يهزم ويدعو إلى الاغتراب ثم عالم الخلاص من الاغتراب ثم تأتي نهاية هذاالتطبق عالم الغلبة والانتصار على الاغتراب بوساطة الكتابة.
وإذا كان (البدء بالكلمة) التي أعطت العالم معناه، فإن الكلمة هي التي تنهي العالم بانتهائها، لأن كلّ عزاء وكل خلاص يغيب ويتلاشى بغيابها: "وفي النهاية من كل شيء لا تبقى إلا الكلمات إذا لم تبق الكلمات لم يبق شيء، الفتنة، الهوس، القتل كلّها في الكلمات، البغضاء، السأم الانتحار الليلة المقمرة، الليلة المقضقضة، الليلة التي ترفض أن تنتهي، الليلة التي تذوب على الشفاه مبكراً وقبلات: كلمات..، قد تكون الكلمات لا لا، ونعم نعم، -.. ولكن إذا أوتي المرء قدرة المتنبي ستقض الكلمات مضجعة لا ألماً ولوعة فحسب، بل طرباً يمزق الجسد بلذته الشريرة.. هناك الأبطال الصامتون والأبطال الناطقون.. هناك الخاسرون الصامتون وهناك الخاسرون الناطقون، الموتى بصمت والموتى بكلام.. ولكن الكلمات.. ذوو الكلمات يسوطون أنفسهم بالحروف التي يدمدمونها. يعشقون ذبذبات الحنجرة، والمحبون إذا أغاضت الكلمات على شفاههم، ألن يغيض الحبّ معها أيضاً؟ الكلمات هي كل شيء"2ص267و268.(1/246)
ينفتح الخطاب على مُنْتِجِهِ في هذه المسألة، إذ نجد توازياً دلالياً بين رؤية الكاتب (منتج الخطاب) وبين رؤية أشخاصه (ممثّلي الخطاب)، يقول جبرا: الكتابة عندي هي انتصافٌ لنفسها، ولو لم يكن هناك معنىً نريد اقتلاعه من قلب الكينونة عن طريق الكتابة التي هي في نهاية المطاف، تأمّل الذات في الكون وتحريك شيء ما فيه(1).
وانطلاقاً من هذا الوعي العميق لأهمية الكتابة والإبداع يقرر جبرا أنّ الكتابة الإبداعية هي مقاومة حس العبثية الذي يفرضه العالم على الإنسان في معظم أحيانه، ومن هنا مشروعيتها وضرورتها، ومن هنا قيمتها الثورية، إذا كان لثورة عقل الإنسان المستمرة أن تضفي بهاء مستمراً على الوجود في عالم يعج بالتمزيق والفوضى.(2).
إن الكتابة لدى جبرا تشكل حلاً خاصّاً من مأزق الإحساس بالوجود أي من مأزق اكتشاف الوجود أو الإحساس بالانتماء المادي الصرف إلى العالم: "ولا بدّ أن ثمة ارتباطاً بين هذا المفهوم للحياة، وبين الإحساس الرّوائي بالوجود الإنساني، فالرّوائيّ في الأغلب لديه إحساس بمعنى الحياة المأساوي الذي يفوق المعاني الأخرى، والذي يجد فيه.. استزادة من الحسّ بالحياة نفسها أي أن فيه تكثيفاً للوجود الذي لولاه لكانت الحياة تافهة"(3).
وربما يكون حلّ الكلمة الإبداع ذا مرجعية غيبية لذلك إذا ما قيس بالقدرة التنفيذية في الجماعة وفي المجتمع؛ فإنه مخفق وفق المنظور الواقعي الاجتماعي: "إن كل ما كتبه لم يحقق له حلماً واحداً من أحلامه لقد أضحى كلّما ارتدّت عيناه نحو ماضيه يرى طريقاً طويلاً مقفراً تحيط به بضع نخلات عجاف، ويرى نفسه يمشي الطريق جيئة وذهاباً وحده.. بين نقطتين من عدم نقطتين من فراغ"ص54.
__________
(1) مجلة الآداب بيروت العددان 3و4 آذار ونيسان 1988 السنة السادسة والثلاثون من مقال الروائي العربي والمجتمع لجبرا إبراهيم جبرا ص12
(2) نفسه ص15.
(3) نفسه ص13.(1/247)
واستكمالاً للبحث في الحلول [التي مهد لها الخطاب بمقولتين أكثر قرباً من حالة الغيب (الفن) و(الكلمة) وكلاهما تندرجان تحت عنوان واحد هو الفن [بمفهومه العام] يقوم الخطاب بطرح الحلول الغيبية مباشرة ونحن نستخدم مفهوم الغيب هنا دلالة تجريدية ذات فحوى غير مادية بمعنى أن الغيب هو قدرة مُتَصَوَّرَةٌ سواءٌ أكان ذلك في الإحساس أم في الذّهن، وهو مفهوم نسبيّ يخضعُ للنسبية في مدلولاته، فهناك غيب صرف مثلاً كفكرة (الخالق والخلق) وهناك غيبٌ مرتبط بدلالات مادية كالإيمان.
-الحلّ الأول: وهو البحث عن الإيمان، وهي مقولة ترددت أصداؤها كثيراً في (السّفينة) وتعود تظهر في (البحث عن وليد مسعود) والإيمان المطلوب ليكون عزاءً هو إيمان الأنبياء الذي يحقّق الفعل: "ليكن إيمانكم كإيمان النبي دانيال ألقي به في جبّ الأسود فألجَمَ أفواهُ الأسُود وأخضعها ليديه وجعلها تتمسح وديعة بقدميه"ص116.
واضح أنّ هذا الحلّ يعتمدُ قدراتٍ غير واقعيّة، وهو حلٌّ تسكيني مُؤقّت. ومثل ذلك نرى عرضاً آخر للخطاب ينتظر منه المعجزات السّماويّة لتقوم بإعادة الأمور إلى نصابِها غيرَ أَنّ هذا الانتظار يخفّق ويتوصّل الشّبان الثّلاثة الذين ذهبوا إلى الكهف ليتنسكوا ويعيشوا حياة القديسين إلى أن المعجزات لن تكون إلا بفعل من الإنسان وليست من فعل الغيب الخارج عنه.
"من أين نأكل ونشرب؟- ألا تسمع ماذا يقول أبونا (سبيريدون) كل يوم لا تطلبوا ما سوف تأكلون، وما سوف تشربون- هل سينزل الله علينا خبزاً كما كان ينزل على القديسين؟- كل يوم! وما علينا إلا أن نتعبد ونتضرع إليه تعالى. هل باستطاعتنا إذا رحنا وتنسكنا أن نغير البشر؟ نغيّر العالم؟ العالم مليء بالآثام ويجب أن يتطهر ويتغير" ص117و118.(1/248)
وبتدرج زمني يبدأ التحول عن هذه التساؤلات الأولية النظرية إلى تساؤلات اختبارية: "هل أرسل الله لنا خبزاً ونحن نائمون، لم أجد أي خبز أو أي ماء.. هل من المعقول أن يهجر الله عباده إن الله يهيء للإنسان ما يحتاج إليه ولكنه لا يسهل عليه الأمور لكي لا يكسل" ص123و124.
ثم يبدأ الواقع يخلق الشك في هذه الحلول: (غير أن شيئاً من الشك عاد وانتابني.. وبعد فراغنا من الصلوات والأدعية لم ينزل الطير المرتقب بالخبز والماء أو بالخبز على الأقل"ص126.
ويحدث التحول في النهاية والاغتراب عن الحل ذاته أي يحدث الاغتراب عن الغيب وعن المعجزة المنتظرة، وهذا ما رأيناه أولاً في فقرة التحوّل الأيديولوجي في الفصل الأول، وكذلك بحثناه في مبحث الذات والآخر ولا نجد مسوغاً لتكراره هنا.
وفي النهاية إذا كانت هناك معجزة، فهي معجزة نفسية، داخلية تنبع من الروح الداخلي للكائن وتكون على شكل كشف روحي يوجد العزاء ويكشف روعة الكون بمباهجه: (المعجزات، إنها تهبط عليك من السماء كصرة ملأى باللآلئ، يسقطها في حضنك طير كبير، جميل، مجهول، ضُحى يومٍ مجنون، المعجزات هي هبات السماء هذه فجأة ترى بين يديك روعة الوجود.. روعة الكون، الأشجار والأثمار والغابات والجبال، والبحار وشلالات الدنيا كلها"ص253.
هنا تدنو الحالة من حالات الكشف الصوفيّ لتشكّل حلاً روحيّاً داخليّاً ونجد مفردات الحلّ الصوفيّ ماثلةً بقوة في الخطاب الباحث عن العزاءات، فالعذاب المبحوث عنه بطريق الفَرَح والتهليل والصخب في طريق البحث عن العذاب مفردات صوفية خاصة إذا توجت بالهدف الصّوفي الأسمى (ربّ السماء والأرض): (عن طريق الفرح نبحث عن العذاب.. عن طريق العذاب نهلّلُ صاخبين لربّ السماءِ والأرض) ص144.(1/249)
ولا بدّ لنا من أن نذكر الرّقصة الدورانيّة التي قام بها (وليد مسعود) حول فراش (مريم الصفار) وهما عاريين كحالة صوفية رقص فيها على الترانيم الدينية التي تقدّس المسيح وأمّه العذراء وقد أشرنا إلى هذه المسألة في الفصل الأوّل عند الحديث عن المصدر المسيحي في الخطاب، وهنا في مَعْرِض الحديث عن الحلّ الصوفي لابد من الانتباه إلى الحلّ المرافق وهو الحل الجنسيّ الذي ظهر أوّل ما ظهر في (صيادون) من خلال علاقة (جميل فران) (بسلمى الربيضي) المتزوجة المغتربة عن زوجها، وكذلك ظهر بحدّة وعنفٍ في (السفينة) من خلال علاقات كثيرة ومتعددة بين الأشخاص على ظهر السفينة وكأن تبئير الحلّ الجنسيّ لدى (عصام السلمان) و(لمى عبد الغني) المغتربين عن حبهما القديم، فيقومان باستعادة الحب على فراش الزوجية للمى.
ثم يتركز الحلّ الجنسيّ في البحث عن وليد مسعود تبئيراً مركزياً لكلية الخطاب ويتمثل ذلك بالمرأة الباحثة عن عزاء اغترابها في الجنس
(مريم الصفار) التي تُسقط جسدها بين يدي أكثر شخصيات الرواية وتجعل منه محرقة لتتخلص من اغترابها المركّب عن زوجها ومرضها وعن العالم، وسندرس هذه المسألة في فصولٍ قادمةٍ لها علاقة أكبر بفحوى الجنس ومتعلقاته.
بعد هذه الإشارة السريعة إلى الحلّ المرتبط بالحلّ الصوفي، نعودُ لنجد مقولة سابقة ظهرت في خطاب السفينة (تتعلق بالحل الصوفي وهي الالتحام بالمسيح) قد ظهرت مرة أخرى: (ولم يطل بي الأمر لإدراك أن ذلك سوف يعني العذاب والسير عارياً في فلواتٍ ملأى بالذئاب والصّقور. هل كان هو السبب في أن الأنبياء كانوا يسعون إلى البراري إلى الغابات إلى الكهوف البعيدة، لكيما يحققوا تمردهم على هواهم..
غاب المسيحُ سنين طويلةً ثمّ عادَ ليتحدَّث عن الحبّ، ولما عادَ إلى الناس صلبوه، لا بدّ للمتمرد من أن يصلب إذن ويكون انتصاره في صلبوته"؟(1/250)
نستطيع أن ننتبه إلى ارتباط هذه المقولة بمقولة سابقة هي أن على الخير أن يزول، وهو لا يطمع بالخلود في العالم ولكن الشر هو وحده الذي يريد أن يبقى إلى الأبد.
ولا يكون الزوال إلى العدم أو إلى (اللاشيئية) والاندثار، وإنما من أجل التوحد بالمطلق (الله) ليمنحه الحريّة: "إن تلاشيه في إرادة الله منحه حريّة يقصّر عنها العقل"ص324.
وهذا التلاشي لا يحدث إلا بالتمرُد على جميع القوانين والشرائع والأعراف التي تحدّ من مطلقِهِ من بحثِهِ عن مطلقاته: "كانت خواطر المتمرّدين تجتاحني لأعيش طريقةً تحقّقُ ما أحْدُسُ به بغير ما وضوح، طريقة ترفض الشرائع والأعراف التي يجد أنها لا تنسجم مع حبه المطلق وحريته المطلقة"ص178.
ولكن في النهاية يبقى الحلّ الحقيقي معلقاً ويبقى الخلاص لُوْثَةً يطمحُ إلى تحقيقها، ولا تكون، ويبقى العالم أسير اللاجدوى ويتحمل فوق ذلك مسؤوليةُ هذا الضياع الإنسانُ وحدهُ: (قال الله للإنسان: وحدَك أنت لا يقيدك رابط، إلا إذا اتخذته أنت بالإرادة التي وهبناك إياها. في مركز الدنيا وضعتك ليسهل عليك أن تتلفت حولك وترى كلّ ما فيها لكي تكون مالك نفسك وتختار أي شكل تتخذه لنفسك"ص324.
ويسرد الخطاب قصّة الاسكندر الذي ذهب للبحث عن ماء الخلود وظفر به، ولكن الإخفاق كان هو سيد الموقف، لأن الاسكندر بغفوة منه فرّط بالماء، ماءِ الخلود، لينقر الجرّة التي تحويه غرابٌ، ويفوز بالخلود بعد كلّ البذل الذي بذله الاسكندر من أجل هذا الماء، وهذا هو العالم الذي يعيشه أبطال السفينة عالم اللاجدوى على الرغم من كلّ ما يُبذل من أجل الوصول إلى ما يوازي ماء الاسكندر.(1/251)
في هذه الموضوعة الخطابية (الاغتراب) في (البحث عن وليد مسعود) لم نجد جبرا يقصد إلى تصوير الحلول ضمن مخطط مسبق كما وجدنا في (صيادون) مثلاً نظراً إلى الطبيعة التأليف والتفصيل في أشكال الحل وعرضها بحثياً، وإنما جاءت الحلول في (البحث عن وليد مسعود) حلولاً عفويّة، أي لها علاقة إبداعية تعبيرية مباشرة بالمؤلف (مُنْتِجِ الخطابِ) ويتأتّى ذلك مُحمّلاً بشحنه روحيّة فائقة، وهذا مقارب أيضاً لروح التناول في (السفينة).
الاغتراب في عالم بلا خرائط:
أ-في الأسباب: تراسل الأسباب بين أجزاء الخطاب:
1-فقدان قانون القيمة (العدل): يصوّر الخطاب هذه المقولة وفق منظور سيكلوجي: "كنت منذ الصّغر شديد الحساسية ضدّ الظلم والقسوة أياً كانت أسبابهما ومن أيّ مصدر جاءا وهذه الحساسية كانت تظهر في الاحتجاج والمقاطعة.. وفي وقتٍ لاحقٍ محاولة منع ذلك، فلمّا عجزتُ أصبحتُ عصبي المزاج سريع الإثارة"ص40.
وتظهر توصيفات العالم هنا موازية لتوصيفات العالم في (البحث عن وليد مسعود) فالعالم شديد القسوة والظلم: (العالم الذي نعيش فيه شديد القسوة والدمامة والظلم، وهذه الأمور يجب أن تنتهي، تقوم على أنقاضها معالم حياة جديدة.. كنت أصرّ على تبسيطها لأنّي أراها نقيّةً وضرورية كالماء والشّمس والهواء.. إن الأشياء البسيطة والضرورية معاً هي تلك التي تعيش معنا في كلّ لحظة ولا نكاد نحسُّ بها، ومع ذلك، فهي أيضاً الأشياء التي تُهدّد دوماً بالحرمان مِنها، بل نُحْرَم منها على أيدي أناس لا يريدون الماء والشمس والهواء، إلا لأنفسهم وما زلتُ لا أصدق أن تلك الأفكار والأحلام يمكن أن تُدمّر وتُداس"ص142.
وتنتاب ممثلي الخطاب الأحلامُ ذاتها التي رأيناها سابقاً في أجزاء الخطاب الأخرى أحلام تغيير العالم وإعادة بنائه وصوغه من جديد.
((1/252)
في مرحلة معينة من العمر يريد الإنسان أن يهدم العالم، يريد ألا يُبقي حجراً على آخر ويريد أيضاً أن يعيد بناء هذا العالم وفقاً لتصوراته المثالية، ولكن الفرد ضعيف، ولا يعرف الصّبْر والمثابرة، ولا يلبث أن يكتشف يوماً بعد آخر عجزه، وهذا الاكتشاف يؤدي إلى إحدى نتيجتين إما التسليم أو الجنون"ص161.
-وبعد انكسار هذا الحلم يتوضّحُ العالمُ في ذات الإنسان ويتحوّل العالم إلى جفاءٍ وغربة: "ثم بتلك الخيبات التي أخذت تندفع كالطلقات الطائشة حولي.. ولدت في نفسي شعوراً عميقاً باللاجدوى"ص116.
"توصلت مبكراً إلى هذه القناعة أيام المراهقة بعد تجارب معذبة وفاشلة قاسيت خلالها ألواناً من المهانة النفسية وأضعت أوقاتاً لا حصر لها.. وانتهت كل أحلامي إلى لا شيء"ص140.
هذا الانكسار والخيبة هما نتيجة الإخفاق في حلم تغيير العالم، هدم العالم القديم وبناء عالم جديد: "الروائي فنان، رجل حالم، مليء بالرغبات، يريد أن يهدم العالم ويبني عالماً جديداً، عالماً خاصاً قد لا يعني الآخرين"ص136.
الأسباب السياسية:
تعد الأحداث السّياسيّة سبباً رئيسيّاً في الخطاب على الرغم من أنّه لا يعرضها بشكل مباشر، فقد رأيناه في (صيادون) سبباً لاغتراب الفلسطيني والعربي لأسباب الغزو الاستعماري والصهيوني والتتري. وكذلك وجدنا القمع سلوكاً ضد الإنسان يؤدي به إلى الانفصال عن العالم.(1/253)
وكذلك في (السفينة) وجدنا القمع السياسي الذي مُورس ضد (محمود الراشد) وأدى به إلى نوبات من الجنون تنتابه، ونأتي إلى (البحث عن وليد مسعود) لنجد الأجواء نفسها قمعٌ صهيونيٌ ضد الشعب الفلسطيني وضد ممثله (وليد مسعود) وقمع سياسي داخلي ضد المثقف، والآن يتأتى الحديث عن السّبب السّياسي في (عالم بلا خرائط) مُظهراً الآثار التي تتجلى عنها الحروب: "ما كادت بضع سنوات تمضي بعد تلك المعارك والتوقيفات والانتظارات حتى وجدت نفسي في عالم آخر، عالمي الماضي ينهار، علاقاتي تتمزق، أحلامي تنتهي وأستيقظ على دوي مدافع الدبابات وصرخات الذين عُلقوا على المشانق وبدل أن تنتهي القسوة والدمامة والظلم، يُشاد للقسوة صروح جديدة، تشمخ لها رموز جديدة"ص143.
ويُطرح التساؤل الأكبر الذي تردّدَ على مدى مساحة الخطاب: "أية عبثية كانت تلك: من الطبيعة، من الزمن، من الموت"ص32.
ويبدو هذا الثالوث (القدر) أنه سيد العالم (الطبيعة تسير عبر الزمن نحو الموت) وتأتي تتمة السؤال (تساؤل الغيب).
"يا إلهي لماذا تريدني أن أعاني، أن أحمل صليباً لا أقوى على حمله، أنا القاتل، أنا المقتول المسبيُّ.. الملعون -كنت أبحث عن اللذة وصلت ثملت، جننت في وقت لاحق أصبحت أبحث عن الألم"ص14.
تجليات الاغتراب:(1/254)
إن فحوى رؤيا المغترب تتجسد في بحثه عن ماهيته، لأنه يفقد وعيه ذاته، ويفقد الإحساس بكينونته الحقيقية وتسيطر عليه رؤيا التشتت: "ما هذا الرّعب هل أنا شبح بين أشباح.. هل أنا إنسان حقيقي.. ألست ربّما من خلق كاتب روائي قرأته يوماً ونسيته، ولكنه في أثناء ذلك صنعني كما يريد وتركني وهمياً يحاول جاهداً يائساً مصارعاً، أن يجسد نفسه، أن يحقق هويته أن يقف على قارعة طريق مزدحم بالبشر ليقذف عنه بكل ما عليه من ثياب ويرفع صوته فيهم قائلاً: انظروا ها أنا عار، لا كما خلقني روائي ماكر، وهذا جسدي تعالوا المسوة بأيديكم لتصدقوا أنني حقيقي، حقيقي كهذا الجذر الذي أتكئ عليه"ص34و35.
ويتحوّل العالم في رؤية المغترب إلى سراب وحلم وهباء: "يتراءى لي كل شيء حلماً أو كالسراب"ص14.
وتتشظى الرّوح البشريّة المغتربة وتنقسم علّها تستطيع رؤية الحقيقة وفهم الواقع: (أضع الآن مسافة بيني وبين نفسي لكي أتحدث عن ذلك الكائن الآخر والذي يخلق لي الكثير من المتاعب والهموم"ص40.
"في نفسي شرْخ آخر ودخيلتي لا أدري كيف تبقى هكذا متماسكة في القمم رغم هذا التفتت الذي يعود إلى سنين مضت"ص62.
ويبحث الخطاب في النفس وفي راقاتها وأعماقها ويرصد خلخلة العالم النفسي للإنسان ويفتش في طياتها ويتوصل إلى السراب والغموض واللاجدوى: "تتزلزل الأرض، فتتصدّع وتنهار جبال وتصعد أودية وتتشكل الطبيعة من جديد على نحو لا نستطيع التكهن به، مع كل علمنا وإحصائياتنا، والنفس البشرية؟ آه إنها هي أيضاً تتزلزل، وتتصدع، وتنهار فيها جبال وتصعد أودية، وتتشكل تضاريسها على نحو يتحدانا جميعاً من قال: إن النفس ثابتة وإن أعماقها مستقرة؟"ص75.
"أصبحت متأكداً أن العالم الذي نعيش فيه، الأرض التي نحن فوقها، تهتز ترتج وتوشك أن تنهار"ص74.(1/255)
هذه الرؤى الاغترابية التي تتلخص في فقدان التوازن وفي التشظي والانشراخ والخلخلة والتزلزل والانهيار والتصدع وعدم الاستقرار تشكل فحوى الاغتراب وتجلياته.
ويصور الخطاب بعض الأسباب إضافة إلى السبب السياسي وهو السبب الكوني: "أنت تضحك؟ بشرفك؟ هل ضحكت يوماً ضحكة حقيقية في السنين العشرين الأخيرة ألا تعلم أنك تعيش في أبشع عصر عرفه التاريخ؟ ولأن العصر بحد ذاته أكبر مهزلة عرفها التاريخ، فإن أبناءه يخشون الضحك لئلا ينفضح أمره أمام أعينهم لئلا تتراجع موجة الحقد والقتل، لئلا ينبجس في الصدور المظلمة بصيص من الحب"ص224.
يتوضح من هذا أن العالم يتراكم في خلق أسباب القطيعة ويتوصل في النهاية إلى الطريق المسدود ويتوقف العالم في مستنقع السخام الذي يمتلئ بالحقد والقتل والذي يمنع أي بصيص من الحب يلتمع في الصدور.
ويمتد الجحيم على الكون ويسيطر على كل شيء ويبدأ البحث عن الحلول للخروج من هذا السخام: "الجحيم موجود، موجود في كل مكان في داخلنا وحولنا، والمطلوب الآن الانتقال من الجحيم إلى الجنة" ص313.
حلول الاغتراب:
تتعدد الحلول ردّاً على حالات الاغتراب نجد أن أهمّها في (عالم بلا خرائط) عملية الكتابة التي يقوم بها (علاء نجيب) محورُ الخطاب، وقد رأينا ذلك في (البحث عن وليد مسعود) مُصَرّحَاً به، وهنا تأخذ عملية الكتابة بعداً سيكلوجياً ذا مساحة أبعد في البحث في (سيكلوجيا) الإبداع ومراميه ودلالاته وآفاقه وكونه حلا عزاء، وكذلك نجد القتل حلاً في النهاية في مقتل نجوى العامري.
ويتخذ البُعْد السّياسيّ شكلاً مهمّاً من أشكال الحلّ وتكون المعارضة السياسية والنضال في سبيل التغيير سبيلاً من سبل السلوكات الاغترابية للبحث عن الحلول أو يقوم والد (نجوى العامري) الحقيقي (شهاب) بالخروج عن السائد السياسي، ولذلك يحكم عليه بالإعدام وبالقتل وهذا جزاء الشرفاء والمنطقيين دائماً.(1/256)
"أعرف أن هذه المشكلة لا حل لها أو على الأقل أنا لا أعرف حلّها، الحياة قحبة، والبشر جبناء والقسوة، الفوضى..، لا أنكر أن غربة طاغية كانت تطويني، وهذه الغربة مع اختلاف في النسب والأشكال وجدتُها لدى الآخرين، هذا الصدأ الذي يغلّف كلّ شيء حتى الروح"ص165-166-168.
"...في عالم يعُوِزُه المنطق يتساقطُ المنطقيون على الطريق وكلُّهم رائعون أذكياء جميلون مثاليون، ولكنّ الموت والقتل أو النفي والصّمْت يُدْرِكُهُمْ قبل غيرهم ويبقى هؤلاء الذين لا يُقرّهُمْ منطق أو معادلة أو رياضيات يبقون أحياء"ص214.
إن إمكانيات الحلّ في مثل هذا الجوّ تبقى إمكانياتٍ شكلية خارجية وقد رأينا مثل هذا الطّرح فيما سبق من أجزاء الخطاب الأخرى خاصة في (البحث عن وليد مسعود) ويكونُ الحل أحياناً الاجتياز إلى عالم التخلّي عن الوعي والمنطق عندما يكون الواقع فوقَ قدرة الإنسان على التحمل، فيصاب بالجنون، وهذا حلّ قسريّ يصنف بين الحلول المهمة والواقعية التي تظهر في مستوى الخطاب والواقع.
ويحاول الخطاب التوازي مع الحلول السابقة في أجزائه والتوازي مع حلول الواقع فكما رأينا في البحث عن وليد مسعود (مروان وليد) صاحب الحل الثوري و(الكفاح المسلح) نجد (أدهم) أخا (علاء) فدائياً يعمل مع صفوف المقاتلين الفلسطينيين في لبنان ويتعاطف جزءُ الخطاب معهُ لكي يبدي (الكاتبان منتجا الخطاب) تعاطفا مع هذا الحل الذي يحبذانه واقعياً.
وتكون العلاقة بالمرأة (الجنس) و(الحب) نوعاً آخر من أنواع الحل ولكن هذا الحل مضافاً إلى الحلول السابقة يبدي (لا جدوى) في البحث عن الحلول الجذرية وهي النتيجة التي يتوصل إليها الخطاب في نهاية كل بحث دائماً.(1/257)
"لقد وقعت في الشبكة، وقعت تحت الغيمة المنهمرة، تلقيت الضربات، سمعت الصرخات المرعبة، رأيت حالات الجنون، رأيت القتل، رأيت الأنذال وهم يتجبرون ويثرون، حصل كل ذلك أمامي رأيت كل صرخة، أشرت بإصبعي قلت: إن النذالة والضمائر الميتة لا تنتظر لكن كل شيء مر بصلابة البغايا وجبروت القتلة وانتصبت قانوناً أسود يقتص ويقتل ويمنح الأوسمة كنت ولا أزال أرى العالم مقلوباً وواقفاً على رأسه.. حتى أني ما رأيت فرحاً إلا ورأيت إلى جانبه جثة لم تجد من يدفنها"ص14.
الاغتراب في الغرف الأخرى "رواية الاغتراب المكاني":
الاغتراب الذي تعرضه رواية (الغرف الأخرى) ذو طبيعة خاصة مختلفة تمام الاختلاف عن اغترابات الروايات الأخرى، فأول توصيف يمكن أن يُطلق على اغتراب (الغُرَف) الاغتراب الكليّ عن المنطق المكاني والزمني والزماني معاً، إذ ينقسم التجمع البشري قسمين أولهما الفَرْد (نمر علوان) الذي يعترف بهذا الاسم الذي أطلق عليه، لأنه يؤمن بأن اسمه غير ذلك ولكنه يرضخ أكثر الأحيان لهذه الفرضية المفروضة عليه من القسم الثاني الذي يمثل (المجتمع الإنساني) والذي يعيش فيه المثقف. والاغتراب هنا مزدوج المفاصل، فالمفصل الأول، اغتراب المثقف (محور الخطاب) عن عالمِهِ، الاغتراب الذي نستوحيه من بداية الرواية، لأنه فاقد الاتجاه، فاقد الهدف، فاقد الإرادة، والمفصل الثاني تثبيتٌ ثم تكريسٌ للأول بخلق منطق طارئٍ جديد للعالم، وخلق سيرورة اجتماعية وفكرية وقيمية في حياة (محور الخطاب) غير متناغمة ومسايرة للمنطق الطبيعي منطق الحقيقة، وهذا دافع حتمي إلى الانفصال عن العالم المحيط.
دلالات اغترابية لغوية:(1/258)
-العناوين: سبق أن أشرت في الفصل الأول إلى أن جبرا يخطط لعمله الإبداعي ويختار مدلولاته وفق دلالات دقيقة حتى في العناوين ويحرص على أن تكون عناوين مؤلفاته (تبئيرا دلالياً) شاملاً أكثر الأحيان، وينجح في ذلك نجاحاً كبيراً، وربما يكون مردّ ذلك إلى العمق الفلسفي الذي يتمتع به أولاً، وإلى القدرة الرمزية الشعرية التي يتميز بها هو وخطابه، خاصة إذا انتبهنا إلى كونه ناقداً فذاً وشاعراً، وإن كانت لنا رؤية خاصة في إبداعه الشعري إذا تناولنا العنوان الأول من عناوين رواياته "صراخ في ليل طويل" نجد ما يحمله هذا العنوان من محمولات اغترابية، فالعالم الروائي يتلخص (بالصراخ) وهو دلالة تعبيرية واضحة على الارتكاس الذي يقوم به الإنسان ضد الأفعال السلبية الخارجية التي تحاصره وتحاول إلغاء مكوناته الإنسانية، فتكون النتيجة الطبيعية أن يحدث (الصراخ) رداً اغترابياً على حصار العالم ومكوناته ويربط الخطاب الصراخ (بالليل) الرمز الاغترابي الواضح ويتوضح كذلك فيه الصراخ، وفحوى رمزية الليل الاغترابية في لونه واستغراقه غير المحدود للعالم، إضافة إلى المجهول الذي في السواد وكذلك إلى الأفق العميق اللامتناهي عبر كثافته، وإلى التوقع المضطرب الخائف، وتتم المعادلة الرمزية بالوصف (طويل) وهي صفة تضيف إلى الصفات السابقة أبعاداً إيحائية إضافية من الديمومة والمحاصرة وانقطاع الأمل في الزوال، إضافة إلى تثبيت آفاق الليل الاغترابية المذكورة بالطول، وكلمة طويل أيضاً دلالة ترميزية إلى المجهول والمجهول المرتبط (بصراخ في ليل طويل) يشكل البعد الأقصى للحالة الاغترابية المرمز لها.
إذا بحثنا في دلالات أخرى للألفاظ من جهة تناول آخر فإننا نجد أن (الصراخ) مثلاً على الرغم من دلالاته الظاهرية التي تؤدي معنى في القوة، يؤدي معنى أكثر عمقاً في مضمره هو الضعف أي أن الصارخ في حقيقته ضعيف بالمعنى التنفيذي يرزح تحت وطأة العالم.(1/259)
-صيادون في شارع ضيق "تراسل الدلالة مع صراخ في ليل طويل":
الإشارة الأولى هي إلى التضاد الصدمي الذي يحدث بين كلمة (صيادون) وكلمة ضيق، إن إيحاء الأولى "صيادون" (في مستواه الواقعي على الأقل) ذو أفقٍ مساحتُهُ غيرُ محدودةٍ أو غير ضيقة في أدنى تصور لها سواء أكان الصيد بريّاً أم بحرياً، وفي كليهما يمتد الأفق إلى النهاية الوهمية التقليدية (خط الأفق) والثانية "ضيّق" دلالة تكبت الدلالة الأولى وتفقدها جميع امتداداتها الإيحائية وهنا يحدث التضادّ الاغترابي وتقوم هذه التجربة في مكان ترميزي أيضاً هو الشارع الموصّف بالضيق ودلالة الشارع الرّمزية ذات مؤدى اغترابي فيه معنى ما من معاني الضياع وظاهرة الحصار أيضاً تستشف من تركيب (شارع ضيق) هذه الظاهرة التي وجدناها سابقاً في (صراخ)، وتظهر كذلك دلالة الضعف ذاتها من خلال شارع وضيق ولكن كلمة صيادون تمنح دلالة أخرى هي تعديل للضعف الحاصل أولاً لأنها جمع لصيغة مبالغة من اسم الفاعل، ولأنها ثانياً دلالة على فعل، وإن يكن فعلاً مجهول النتائج وهذه أيضاً إشارة إغترابية.
-السفينة (تبديل المكان) (صيادون في سفينة ضيقة في بحر المجهول في عالم واسع):
ربما يَحِقّ لنا أن نقول (انطلاقاً من حالة البناء التراكمي المنظم في الخطاب): إن السفينة كعنوان نقلت المغتربين من المكان السكوني الثابت (الشارع الضيق) إلى المكان المتقلقل المتحرك (السفينة) وهذا إذا بحثنا في عمق الاغتراب في رواية السفينة نجد أنه متسق مع تكوينه المطلقي الذي عرضناه سابقاً وعدم الثبات والحركة والمجهول والسعي إلى مكان هذه صفاته، لا بد أنه في عمق حالة الاغتراب، وبالذات الاغتراب المطلقي.
-البحث عن وليد مسعود:(1/260)
يحتاج الوصول إلى دلالة العنوان الرمزية هنا إلى الاستعانة بمعطيات فوق لغوية وغير مضمرة في لغة العنوان إلا أننا نتكئ أولاً على كلمة (البحث) ذات الدلالة الواضحة على معنى ما من المعاني الاغترابية، لأن (بحث) الرواية هنا بحث في مجهول نفسي، وبحث عن مخارج من الاغتراب دون جدوى من وراء ذلك، وقد رأينا ارتباطات (محور الخطاب وليد مسعود) بأكثر القضايا الاغترابية إن لم يكن بها جميعاً.
-عالم بلا خرائط "انفتاح الاغتراب على العالم":
تتفوق (استراتيجية) العنونة عند (الكاتبين) -ولسنا ندري أيهما وضع العنوان- على (استراتيجية) البحث في الاغتراب في أثناء الخطاب فالعنوان تكثيف دلالي يختزن جميع الدلالات السابقة للعناوين (صراخ في ليل طويل، صيادون في شارع ضيق، السفينة، البحث عن وليد مسعود) ويختزل كذلك المضمرات الاغترابية في جزء الخطاب الذي يندرج تحت عنوانه، ويصوّر العالمَ المنفلت، عالم الفوضى، فاقداً الضوابط والقوانين وحتى التحديد وهو الأهم في دلالة الخرائط.
في النهاية يمكن أن نلخص مسيرة العنونة زمنياً بحسب إنتاج الروايات ونتيجة لذلك نرى اتساقاً في الدلالة التطورية.
(صراخ في ليل طويل صيادون في شارع ضيق السفينة البحث عن وليد مسعود) عالم بلا خرائط.
ويتناول الخطاب من (صراخ) حتى (عالم بلا خرائط) فئة اجتماعية خاصة هي فئة (المفترض) القيادي الذي يسير حركة التاريخ.
-التناقض في العالم:(1/261)
ربما يكون هذا السبب الرئيسي في اغتراب المثقف عن عالمه خاصة اغترابه الروحي عن القيمة وعن قانونها، واغترابه الكوني، وتتأتى جميع أنواع الاغتراب بعد ذلك، لأن المثقف (الحقيقي) [بمعنى الثقافة ذات المفهوم الموقفي والمعرفي الذي يؤدي إلى رؤية متسقة متوازية شاملة للعالم] يناهض القائم الكوني، لأنه ربما جاء خارجاً عن إرادته، ولأنه يريد الفعل (الخلق) ويريد أن ينسق العالم وفق رؤيته وسلوكه، ويناهض السائد الاجتماعي، لأنه ناشئ من فوضى العلاقات غير المنتظمة التي تقودها القوى العمياء من جهة والتي تخطط لها قوى اجتماعية أخرى بفعل أيديولوجياها الخاصة الموروثة أو الوافدة أو المتولدة ويصل الأمر بهذا المثقف إلى مناهضة تكوين ذاته أحياناً، لأنه تكوين، يظنه أحياناً، خارجاً عن إرادته وتخطيطه، وبعد المناهضات كلها يحلل ويركب ويعيد صياغة العالم وفق ما يريد ويخفق هذا المشروع الهائل، لأنه لا يبقى إلا مشروعاً ذهنياً في النهاية ولا يتحقق التوازن ويسقط الطموح وتخفق المخططات ويكون الانفصال عن العالم إذ يرتمي خارج الذات الإنسانية ملفوظاً.
(((
الباب الثاني
النّص وبنية النّص
هيكليّة النّص
الفصلُ الأوّل
النّص وبناء النّص الزمني
أولاً- الزمن "عودة إلى الخطاب":
الزّمن الدلالة الكونية، العنصر المكوّن الرّئيسي للكون في حدّيه (الزّمان والمكان).
رأينا في الفصل الأول أهمية المكان قدرةً فاعلةً في النّفس الإبداعية لمنتج الخطاب، وقدرةً ملهمةً أيضاً إلى درجة التآخي الامتزاجي بالمكان، إن هذا الاهتمام العفويّ، أي الاندفاع الغريزي نحو المكان والامتزاج به لا يكون ضمن الأحادية، لأنه يستدعي منطقياً الحدّ الآخر المُتمّم (الزمن).(1/262)
صراخ في ليل طويل: يبدو الزّمن في (صراخ) قدرة حضارية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقيم الإنسانية الحضارية، فالتغيّر في الزّمن (في عرف الخطاب) لا بد من أن يدعو إلى تغيّرٍ في (القيمة الإنسانية)، وقد رأينا ذلك في مسألة النظرة إلى الرّوح والجسد مثالاً على فعل الزّمن الحضاريّ، ويقوم الزّمن كذلك عاملاً حاسماً في رؤية (عنايت هانم) للماضي ومحاولتها الفاشلة في استحضاره واستنساخه في المكان بوساطة كتابة تاريخ أسلافها، كما يلعبُ دوراً في اتخاذ (أمين) قراره النهائيّ بنفي الماضي الذي تمثّل بعلاقته (بسميّة شنّوب) المنتمية إلى زمن قيمي وحضاري سالفٍ، وللزّمن دورٌ أساسيّ في مفهوم التّطور والتقدّم الذي عالجته (صراخ) وفق مفهوم للزمنِ لا يخضعُ للسيرورة الزمنيّة الخطيّة وإنّما أخضعته لمفهومٍ أقربَ إلى النفعية الإيجابية، وإلى ذلك يبدو الزمن كما أشار إليه جبرا في إحدى مقالاته(1) كليّاً دائريّاً بمعنى أنه بلا مبتدأ ولا منتهى، وهذا ما سعى إليه مُنتج الخطاب أو ما كان نتيجة طبيعية لنظرته إلى الزمن، كلُّ ذلك على الرغم من ضيق مساحة الامتداد الرّوائي في (صراخ).
صيّادون في شارع ضيق:
__________
(1) ذكر سابقاً في الفصل الأول.(1/263)
يتعمّق البُعْدُ الحضاريّ في تناوله الزّمن في (صيادون) لينتقل من أفقِ المعالجة العلائقيةِ بين الزمن والمفهومات المرتبطة به: كالتقدم والتأخر ومفهوم (الماضي والحاضر والمستقبل) القيمي إلى أفق الدلالة الرّمزية الّتي تبحث في الرّوح الحضاريّ وتمتد إلى امتدادات في عمق الماضي الحضاري لتْفَسّرَ ضمن تصوّرٍ مطلقيّ حركة الحضارة والفعل الحضاريّ والعمقِ الشعوريّ بهذه القدرة التي تغذي الرّوح وتساعد على استمرار الكون، تحت عنوان التجدّد والانزلاق، انزلاق الحضارات وسقوط الإمبراطوريات عبر الزمن، والبحث عن بدائل جديدة. وهذا هو القلق الرئيسيّ لمنتج الخطاب: "هناك نيرانٌ في كركوك، ما زالت مشتعلة منذ ستّين ألف سنة، ما هو الزمن؟"ص102.
"لا أدري، التماثيل هذه تثير التأمل باعتبارها رمزاً لعوادي الزمن وسقوط الإمبراطوريات"ص134.
ويبقى الخطابُ في نظرته إلى الزّمن متّسقاً مع رؤية منتجه الرئيسية حتى عندما يعرض المساحات الأيديولوجية المتباينة في فهمها للعالم، يبقى الزمن كلاً لا يتجزأ وقدرة متماسكة مترابطة فيما بينها: "نحن جزءٌ ممّا لا ينتهي من الأبديّة نحنُ نتجاهل أقيسةَ الزّمن الدقيقة لأنها محاولة حمقاء لتقسيم ما لا ينقسم.. كل إنسان كالجدول الذي تكمن بداياته في الينابيع البعيدة التي لا توصل إنه الموقف نفسه من الزمن يكفي أن تنقسم حياة الإنسان إلى طفولة وشباب وشيخوخة، وحدودها الفارقة ليست أعداد السنين التي عاشها، بل التجربة والنضج اللذين حققهما"ص206.
ويناقشُ الخطاب علاقة الزّمن بالتطوّر والتقدّم (الموضوعة التي رأيناها في صراخ) فيرى أنّه "عندما عمّق الغربُ إحساس الإنسان بالزمن، عجّل رخاءَه ونكبته في آنٍ معاً ونحنُ لن نشتري الرخاء بذلك الثمن نحن لا نريده.."ص206.(1/264)
ونتيجة ذلك يحدثُ الصّراع في التوجُّه نحو رؤية الزّمن على الرغم من النظرة العامّة الواحدة، إن الخطاب يريد أن يتوصل في النهاية من طرحِهِ لهذا الصّراع إلى أن المسألة ليست مسألة الزمن المجرّد المعزول عن الإنسان بل الزّمن المرتبط المكوّن له، وهذا يدعو إلى أن يكون الزمن مرتبطاً بالفعل وليس بالفراغ الذي يعني عزل الزمن عن الإنسان أو العكس: "لست قلقاً على الرّخاء والنكبة أنا قلقٌ على الفراغ الذي يشعرُ فيه أمثالك بالرّضا بينما أمثالي يتعذبون"ص206.
وينتبه الخطاب إلى مقولة شاعرية(1) في رؤية الزمن تربطه بالإحساس البشري بل الإنساني (الحبّ): (الحبّ هو مبلور الزّمن، ذلك الوَهْمُ الأكبر، تقصد محطم الزّمن.. الأغلب أنّ وهمك الزمنيّ يتحول إلى رعب" ص207-208.
الزمن في السفينة (القدرة السوداء):
-الزمن العدو: يُغرِق الخطابُ في الإيغال ضمن أغوار الكهف الزمنيّ الذي يتكشَّفُ دائماً عن ظلامٍ محيطٍ متسلطٍ، فيأتي الزّمن قدرةً سائرةً متحركة ساحقةً محيطةً هدفها التحطيم والتدمير وإلغاءُ النور الذي يمنح الحياة فِتْنَتَها وبريقَها و(بالتالي) جدواها: "الزمن على كل حال، شيء فظيعٌ، في سيله الظالم لا يتركُ لشيءٍ جدّةً أو نضارةً ولا يترك في النهاية ما يستحقُّ القول، لقد داسَ الزّمنُ على كلّ ما أراه بخفٍّ كبير ثقيل، وطمس البريق والفتنة"ص18.
__________
(1) ارتبطت هذه الرؤية بالشعر وبالشعراء، لأنهم كثيراً ما أصروا على أن الحب يعمق إحساس المرء بالزمن ويخلق وهماً في الإنسان يبلور له العالم (وفق وهمه).(1/265)
وتظهرُ قدرةُ الخطاب الفائقة في نقل هذه الصّورة القاتمة للزّمن من خلال تظهيرها على شكل مكانٍ وهو ما يمكنُ أن ندعوهُ تجاوزاً (أمكنة) الزمن، إنّ هذه المحاولة في جعل الزمن أفقاً مكانياً مُدركاً في وعي الإنسان تعود بنا إلى فكرة تعلق الخطاب ومنتجه بظاهرة المكان وعلاقة التمازج الإنساني بالمكان التي درسناها سابقاً في الفصل الأول وتساعد في هذا الوعي وجعل الزمن مدركاً حسّيّاً، لأنه لم (يُأمكن) فإنه لا يمكن أن يُستوعى بدقة نفسياً وذهنياً: "لو كنتُ رسّاماً لرَسَمْت ذلك- أتدري كيف؟ بلطخةٍ سوداءَ عريضةٍ، قد أبقعِّهُا في مكانين أو ثلاثة بشيء من الأحمر، الزّمن هو العدوّ، عشْ ابقَ في قيدِ الوجود ما استطعت، ولن يكون لك غيرُ ذلك لطخة سوداء تملأ قماشة العمر"ص18.
وفي محاولة للرّبط بين الزّمن والمكان في وعي الإنسان ذاته يُظهر الخطاب دور هذين العنصرين في تكوين الإنسان، فكلاهما ضروريّ وأيّ خللٍ في أحدهما أو في وجوده، فإن الخلل ينتقل إلى إحساس الإنسان بوجوده: "سافرت بحراً، لا لأن البحر هو دنيا وحسب، بل لأن السفينة تشعرك جسدياً بانسيابك خلال الزمان والمكان معاً الطائرة تكاد تُلغي الزّمان، فهي تُلغي فيكَ ذلك الحسَّ الإنساني بالنمو والإيناع والتغيّر، وتؤكد على أنك إنما تسافر في مهمّة تجارية لا نفسيّة"ص39.
ويرتبط الزمن بالخبرة المحمولة في الذاكرة البشرية ويختزن شحنات إنسانية عارمة: "إنها دورة من دورات القيامة.. هذه الأصوات المجلجلة، هذه الرّوائح المشحونة بالزّمن بالعصور الغوابر بِلَوْعَاتٍ إنسانية وقدُها وقدُ شموعٍ لم تطفئها ألفان من السنين ومن القيامة إلى ظلْمَةِ الصُّخُورِ الجوفية الحانية حنوّ الرّحم على الجنين"ص48.(1/266)
ليس يخفى فيما تقدّم الروحُ الديني الذي رأيناه سابقاً مرتبطاً بالمكان وبرموز المكان في الفصل الأول ونراه الآن مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالزّمن، ويأتي فيما بعد الارتباط الأكثر وضوحاً في الخطاب ويبدو الزمن (سَرْمَدِياً) خالداً كما (الله) سبحانه والمكان يستمدّ خلوده عبر الزمان من ارتباطه بالمرموز الديني: "الكلّ زائلُ سوى هذه الأمواج. لا مجازاً بل فيزيائياً أيضاً، وهذه الأمواج هي أنغام الفرح والأسى المرتبطة بالله والملائكة والقديسين، وتندمج فيها أنغام الحب والمتعات العنيفة الخفية فيها ذكرى مياه أشد وقعاً وإيقاعاً في حجرات النفس الفسيحة"ص11.
ويصور الخطاب تفارقَ الزّمن بين الماضي الذي يفترض أنه أقل ظلاماً ورعباً وخوفاً من العصر الحاليّ: "هل هناك فترة في التاريخ تكرّرَ فيها مثلُ هذا الألم والرّعْب كما يتكرّر في فترتنا هذه؟ عصرنا عصرُ الوشايةِ والاتّهام والتشهير أفٍّ.. عصر الدودة، إنّي ألعنُ هذا العصر في وسط هذا الجو مليء بأنغام المسجلات وحشرات الخنافس الجنسية كل إنسان منا، كلّ واحد منكم مسيحٌ ويهوذا معاً كل واحد منكم يُخان ويُصلب ويُسقى العلقم ويفعلها لغيره"ص112.
إنّ نظرة مقاربةً ومقارنةً بين مَبَاحِثِ الدراسة التي قمنا بها قبل الآن في الفصول السّابقة توحي إلينا بالتناسق الشعوري والفكري بين عروض الخطاب، مثلاً في مبحث الزّمن ومبحث الاغتراب، فالزمن الخطابي هو زمن اغترابي بل زمنٌ يحمل كلّ المحمولات الاغترابية التي حَمَلها بفعل الحسّ الاغترابي للخطاب ولمنتجه.
وفي مقاربته للمستقبل يرى الخطاب أنّ "التّاريخ يستمرُّ صراعاً بين الحريّة والطغيان" ويُظْهِر السّلطة التنفيذية القادرة للزمن (فرقنا الليل كلا في سبيل")ص124.
يتميز خطاب جبرا بوعي عميق وقابض على قدرة الحس الإنساني في الغوص في عمق التصور والبحث عن البؤرة التعبيرية التي تخلق المعادلين الشعوري والفكري المتصورين في روح الإنساني وفي عقله.(1/267)
البحث عن وليد مسعود:
قدرة أخرى للزمن فاعلة يطرحها خطاب (البحث عن وليد مسعود) يبدو الزمن فيها ذا قدرة كبيرة على التغيير والفعل: (قبل عشرين عاماً كنت أقولها بكبرياء وقبلها بعشرة أخرى كنت أقولها بعز وعناد والآن أقولها بغير ما اكتراث"ص33.
ويتخذ الزمن بعداً (سيكلوجياً) في الذات البشرية إذ تتحول حياة الكائن البشري إلى ذكريات خبرية محمولة في الذاكرة لتحدد له مستقبله وتطوره وسيرورة حياته وتقوم بوظيفة عزاء نفسي يساعد على الاستمرار "نحن ألعوبة ذكرياتنا مهما قاومنا، خلاصاتها، وضحاياها معاً، تسيطر علينا تحلّي المرارة تُراوغُنا تذهب أنفسنا حسرات عن حق أو غير حق، كيف تمسك بهذه الأحلام المعكوسة، هذه الأحلام التي تجمد الماضي وتطلقه معاً، في الشباب نخجل من الاستغراق في الذكريات، لأن الحاضر والمستقبل أهم وأضخم ولكننا مع تقدم السنين، يقل فينا الخجل والانزلاق نحو الذكريات"ص11.
ويرصُد الخطاب في لقطة طريفة ومستغربة معاً من وجهة نظر المثقف الذي يسلك هذا السلوك في تفسير ظواهر العالم، هذه اللقطة هي الزمن الفلكي والغيبي الذي يحدد مصير الإنسان: "كان وليد مسعود من مواليد برج الجدي.. أي أنه ولد وبرج الجدي في صعود.. ولو لم يكن له اهتمام، يصل إلى حد الغيبيات بالنجوم وأثرها في حياة الناس لما عبئت بأنه من مواليد برج الجدي.. والمسألة كلّها مسألة شهيّة للمعرفة حتى ما كان منها قديماً وغير مُجْدٍ"ص137.
وهذا الاستدعاء للزّمن الفلكي إشارة وظيفيّة لطرح مجموعة من الدّلالات الاجتماعيّة والروحيّة المتعلقة بهذا الزمن: "كان البابليّون والمصريّون والإغريق يعرفون أن من يولد تحت برج الجدي مثلاً ستتحكم به نوازع داخلية تعطيه بعض صفات الجدي: الخفة الشهوة كلتيهما وما يتعلق بهما لا سيما الإقبال العنيف على كل ما هو حسيّ، الرغبة الجائرة الشبقة"ص138.(1/268)
ويرتبط هذا الإحساس بالزمن (بل الامتزاج بالزمن الفلكي) بالفهم السيكلوجي للزمن، الذي يعطي إيحاءات إيهامية بمستلزمات غيبية غير واقعية.
ويتخذ الزمن مفهوماً جديداً ليس مستمداً من الرؤية التقليدية إلى الزمن والتي نستوعي من خلالها الزمن قوة مجردة لا صلة لها بواقع الحس ولا صلة لها بالمادة وإنما هو متشكل في المثال، تربط هذه النظرة الجديدة الزمن بالحس وبالمادة بالفعل، وما يدهش أكثر هو ربط الجسد بالزمن بل المساواة بينهما: "بابتعادي عن حياة التأمل التي علموني أن أعتبرها وحدها حياة الروح أدركت أنني قد (سقطت) أخيراً في عالم الجسد، عالم الحسّ عالم الزمن.. إذ سقطت روحي عن الأبدية في مهاوي الزمن، حين سمحت لذلك القلق العميق فيها بالتحكم بي، فأردت الإقلاع عن التأمل المستمرّ الذي يجعلني جزءاً من أزلية الله، لشهوتي في تجربة روحي في عالم الزّمن والحقائق الحسيّة"
ص192-193.
ويُفقدُ الخطاب الزمن صفته المرتبطة بأزليّة الله كما رأينا في السّفينة ويجعله في الطرّف المقابل النقيض، وهذا استخدامٌ لمفهوم الزمن خاصّ يتناول الزمن بعيداً عن ماهيته (المثاليّة) والبحث فيه ضمن دلالته (الماديّة) والزمن مَصْنع بل صَانِع للأحاسيس البشريّة ومحدّد لسيرورة تاريخية: "كلّ ساعة محنة وخلاص، كل يوم جموع جديد ينداح بي نحو شطآن أبعد فأبعد فأتسع اتساع الكون"ص235.
وهذا التحديد الزّماني يجرّ تحديداً مكانياً لا محدداً بالمعنى النفسيّ الذي يجعل لحظة تكثّفُ دهوراً: "وفي لحظة عمقها دهور سحيقة تعرف كل شيءٍ وتنسى كل شيءٍ"ص235.(1/269)
إن اللحظة التي تختصر دهوراً يجبُ أن ترجع إلى عمق شعوريّ بالزّمن الماضي المختصر بها، إذ يتمّ توسيعُ مساحةِ الزّمن بطريقِ الإحساس ضمن طموحٍ باستحضارِ أقانيم الزّمن ومزجها واحتضانها في عُبابِ الرّوح "أريد الماضي موجوداً في الحاضر لا، لست أعني مجرد تراث يا سوسن، بل ما هو أعمق وأبعد وأهم الأزمان كلّها وهي تدفع الذّهن بين مجاهيل الوعي واللاوعي متاهاتُ الماضي في اتّساعٍ مستمرّ ونحن أصحابها كلّها، نجعلها معنا ونحن نهيم على أوجهنا في فضاءات الزمن الداخلية.. فضاءات الزّمن التي نحملها كل ثانية تمر على خلايانا الجسدية"ص331.
يلاحظ في الخطاب نزوع تائق في الرّوح البشريّ نحو الماضي بمعناه الكونيّ التراكمي، لأنّه بُعْدٌ إيحائي يخلق أفقاً إنسانياً ومرتكزاً اتكائياً يستند إليه الإنسان في رؤيته وفي مواجهته للعالم، وهذا ما يفسر بعض النزوعات لدى ممثّلي الخطاب -كما رأينا في مبحث الذات والآخر- وإلى الامتزاج بالماضي الإيجابي بمفهومه الرّحب.
وتظهرُ المقولة التي رأيناها في "صيادون" التي ترفض تحديد الزمن بابتداء وانتهاء، لأن التحديد يلغي كل الأفق الذي يمنح الإنسان حسّه بالاتساع والديمومة: "كلّهم خونة محدّدو الساعات، وواضعوا التقاويم ومستقرئو الفلك والعرّافون"ص342.
وفي النهاية لا بد من العودة إلى المكان الذي يمنح الزمان استقراره ومعناه وجدواه: "فلأعُد إلى الغابة ولأعُد إلى البحر"ص379.
عالم بلا خرائط (الانفلات في الزمان والمكان):(1/270)
للعنوان الذي بين أيدينا دلالة مكانية (عالم) غير منضبطة (بلا خرائط) وهذا العالم (اللامنضبط مكانياً) يشير في دلالته الوظيفية الخطابية إلى (اللاانضباط الزماني) فالعالم غير المحكوم بخرائط يعني أنه غير محكوم بخرائط القيمة والقيمة والخرائط حادثنان في الزمن وهذا يعني انتقاء الخرائط الزمنية التي تحد العالم وهذا الحكم على العالم حكم يحمل النقيض، فهو توجّهٌ أولّ عُالمُ طموح، لأنه يؤدي غرض التحقق الحسي في اتساع مساحة الزمن، وفي توجه ثان عالم مرفوض لأنه منفلت من التقيد القيمي.
يصور الخطاب الزمن في أول توجه بطريقة (الأمكنة) والتجسيد والتجسيم "هل للزمن أن ينفلت رأساً على عقب، فتتساقط منه هذه الأعاجيب"ص11.
واضح من هذا التّصوير الغرضُ الهجائيّ في التوجّه نحو الزمن. ويرتبط الزمن بالطبيعة؛ لأنه نتاج لها أو صنف مواز أو فاعل بفعلها، وكذلك يرتبط بالموت، لأن فيها توازياً في العبث الذي يطالع الكون به الإنسان "أية عبثية كانت تلك من الطبيعة؟ من الزمن؟ من الموت؟"ص33.
ويظهر الزّمن قادراً كما رأيناه في ما سبق إذ لا يمكن رؤية أي شيء في العالم دون العودة إلى ذاكرة الزّمن في اللحظة التي يكتشف فيها خطاب (البحث عن وليد مسعود) كلّ شيء، لا بد من أن يعود خطاب (عالم بلا خرائط) من أجل الوصول إليها إلى ذاكرة الزّمن التي عبر عنها خطاب (البحث) (لحظة عمقها دهور سحيقة).
(لا يمكن تفسير ما يجري الآن دون البحث في ذاكرة الزمان)ص76.
ويبحثُ الخطاب عن الاتساع الرّوحي في (اللازمان واللامكان) على الرّغم من أن هذا الاتّساع محكومٌ بالمكان والزّمان، وقد رأينا مثل هذا الطموح في (السفينة) وفي البحث عن وليد مسعود.(1/271)
"هناك ما يتحدد بالزّمان ولا يتحدد بالمكان أشبه بالوجود المطلق يتعدى كلّ حسّ بالزّمان والمكان، ينتابُ المرء بغتةً على غير ما انتظار ينتابُهُ في لحظات لا بد أنها تكونت نتيجة فعل غريب، لا يفسر في خلايا الدماغ، وهي لحظات بالمصطلح الزمني، غير أنها خارجة عن الزّمن بقدر ما هي مساحة بالمصطلح الجغرافي، ولكنها خارج الجغرافية، كأنها فجوة في الكينونة وتتخطاها معاً"ص92.
يقترب البحث في الزمن هنا من فحوى الفهم الصوفي للزمان والمكان وعلاقة الإحساس بهما وما يمكن أن نطلق عليه لحظة انعدام الوزن التي يبلغها المنتشي بالعالم سلباً أو إيجاباً.
ويقرّر الخطاب أن هناك انفصالاً بين الزّمن كماهيّة، وبين نتائجه التي تنتج عن سيره: "رأيتم مفعول الزّمن ولم تروا وجهَ الزمن"ص212.
ويقرّر كذلك أنّ الزّمن منضبطٌ في خبرة الإنسان وتراكم وعيه وحسّه: (الزّمن يمرّ عليك دونما قياس إلا من نبضك الواجف).
في الغرف الأخرى:
لا يتجاوز الزمن في الغرف كونه زمناً اغترابياً منفصلاً عن الزمن التقليدي وإذا كان لا بد من البحث في فحوى الزمن فيجب أن تتوجه المعالجة إلى (الزمان) كتقنية نصيّة وهذا ما سندرسه في الباب الثاني.
ثانياً- الزّمن: المفهوم النّصّيّ: تقنيات النص الزّمنيّة:
1-مستويات النّصّ الزّمنيّ:
أ-المستوى الأول: مستوى القصّ، الّذي تجري فيه عمليّة القصّ، وهو زمنٌ لاحق، متأخّر عن زمن الأحداث، يُنتِج فيه الكاتب نصّه الرّوائي، ويسير في خطّ متناسق خطيّ متعاقبٍ نفسيّ سيرورته وهو في مجمله الذي يمنح النص إمكانية وجوده ويعطيه (قوام) أدبيته بمعنى ما.(1/272)
ب-المستوى الثاني: زمن النّصّ، مستوى زمن الواقع الوقائعي أي زمن الأحداث، في النصّ يتسم بكونه، في الرّواية الحديثة زمناً متداخلاً تكثر فيه الاسترجاعات (الزمن الذاكري النسبي، أي عندما ينسب إلى زمن نصي قبلي أو بعدي) والاستباقات: (الرّمي إلى المستقبل ثم العودة إلى الزّمن الخطيّ) ولا تخضعُ الاسترجاعات أو الاستباقات لنظام خاصّ ينتظمها وإنما يستدعيها النصّ وفق ما تقتضيه عملية القصّ، وهذا الزمن كليةً زمنٌ ذاكريّ إذا ما قيس بالزّمن الأوّل (زمن القص) وقد يقوم القاصُ بالولوج للإيهام بالرّاهنية والواقعية، بوساطة لعبة فنية أو تقنية خاصّة كما فعل جبرا مثلاً عندما جعل (مروان وليد) في (البحث عن وليد مسعود) يروي مشهد اقتحامه ورفاقه قرية (أم العين) ثم يُسْتشْهَد والزّمن المروي يتوقف عند لحظة الاستشهاد، والراوي هو الشهيد ذاته فعلى المستوى الزمني الواقعي لا يمكن قبول هذه التقنية، ولكن إذا بحثنا لها عن مسوّغ فنيّ نجد أن جبرا قام بهذه الحركة الفنية ليوهم بالواقعية بالموازاة الزمنية بين زمن الحدث وزمن القصّ. إن زمن (القصة)(1) هو زمن التجربة الواقعية المدركة ذهنياً.
إن المحاولة المهمّة التي ينبغي أن نقوم بها هي تتبع هذه التحريكات الزمنية واكتشاف مراميها وفحواها ووظائفها، لذلك سنقوم في أثناء هذا الفصل بترتيب تقريبي للخط التتابعي الزمني المصاحب لسيرورة الحدث ونرى الكيفية التي تترتب فيها عندئذ صفحات الرواية.
حـ-المستوى الثالث: مستوى انفتاح النصّ على القارئ، وهو زمن مُوَازٍ لزمن القصّ ولا يتحقق إلا به، وهو زمن خارجي غير مؤثر في إنجاز العمل الرّوائي، (لأنّه أنجز وانتهى) إلا من حيث الاكتشاف والوعي والفهم والمقاربة النفسية، ولهذا الزمان سمات زمن القص ذاتها ما عدا ماهيته (وموقعه من الزمان العام) ومديره: (الراوي).
__________
(1) زمن القصة ذاته زمن النص في استعمالنا، وهو مختلف عن زمن القص.(1/273)
إن الفرضية السابقة التي حدّت مستوياتِ الزمن الثلاثة يمكن أن تصحّ على النصّ الذي يعتمد تقنيّة الرّاوي الواحد، ولكنها تحتاج إلى إضافات وتعديلات في النّصوص الّتي تعتمد تقنية الرّواة والفصول المتعدّدة والفرضيّة الزمنية هذه مناسبة للفصل الواحد منفرداً، ويمكن أن تنتظم الرّواية كلّها بتداخلات بين الفصول وأزمانها على شكل طبقات أو شبكات.
-إيقاع النص الزمني: "السّياق: التكوين والتنظيم":
لعلّ أقرب فهم لدلالة (السياق)، مفهوماً نصياً زمنياً، الفهم الذي حددنا للمستوى الثاني من مستويات الزّمن، أي السيرورة الزمنية المتداخلة المختلطة المتشابكة التي تكون في النهاية الهيكل الزمني للرواية.
1-سياق النص الزمني في (صراخ في ليل طويل):
الافتتاحية الزمنية للسّياق لحظة فاصلة بين زمن سابق غير محدد فارغ من الشّغل وزمن لاحق جديد يبدأ بعدم تعيين آخر لكنه مشغول بحدث ثانوي: "رفعت الفتاة قدمها وقالت (انظر) فنظرت، ولكن لم أر فيها ما يثير سوى إصبعها الكبير مصبوغاً، اظفره بالأحمر فقلت لنفسي.. فلأنصرفن.. واتجهت نحو المدينة"ص5.
وينتقل الزمن إلى حالة استباق شعورية للحظة متوقّعة قادمة مرتبطة بدلالة خطابية نفسية: (لم أشعر إلا بالكراهية تجاه المدينة التي عليّ أن أقطعها طولاً قبل الوصول"ص6.
ويعود النص إلى الوراء في حركة (مكوكية): (قبل ذلك ببضعة أشهر قضينا ليلة في القرية)ص7.
ثم يعود الجزء الثاني من الحركة إلى الزمن الخطي: (زمن القصّ) وزمن القص يبدأ بلحظة الذهاب إلى دار "عنايت" التي استدعته من أجل الاستمرار بعمله في كتابة تاريخ أسرتها وينتهي هذا الزمن بإحراق قصر "آل ياسر" وطرد سمية بعد عودتها وبين هذين الحدين هناك مجموعة كبيرة من الاسترجاعات والتلخيصات والمشاهد والفقرات..
ومرة أخرى يرتد الزمن إلى الوراء: "منذ أن قضيت الأيام الأخيرة وحدي في عطلة على الجبل"ص8.(1/274)
وضمن هذا الارتداد وفي ثناياه يحدث ارتداد آخر: (تذكرت مقابلتي هناك لأول رجل أراد مني العمل عنده سليمان شنوب)ص9.
ويستمرّ الارتداد في زمن ذاكري ضمن آخر ذاكري، الأول منذ سنتين، يُتذّكر خلال الثاني الذي انقضى منذ بضعة أشهر ويسير في خط خاصّ به ويحدث استباق نسبيّ إذا ما قيس بالزمن المرتدّ: "ولكنّ أغرب ما في الأمر هو أنني فيما بعد تزوجت ابنة سليمان شنوب"ص9.
هذا الاستباق على الزّمن السّابق سنرى أنه حالة ذاكرية بالنسبة للأحداث التالية له "غير أن زواجنا لم يدم سنتين كاملتين"ص9.
ويقوم النصّ بعرض بعض الاختصارات الزمنية التي تنتمي إلى الزّمن الخطيّ وتعرض مُجرياتٌ زمنية "بعد ذلك أعود إلى بيتي ماشياً على قدميّ فلا أبلغه قبل الواحدة.. فإذا استيقظت في الصباح مبكراً مكثت أطالع في فراشي.. ثم أذهب إلى مكتب تحرير الجريدة.. أقضي معظم النّهار في كتابة المقالات"ص10.
وبعد هذه العروض السّريعة يقومُ النصّ بالارتكاز في نقطة بؤرية زمنية ينطلق منها لعرض الزّمن الذي اختصره آنفاً ليفصّل فيه وتبدأ نقطة الارتكاز من العودة إلى مماثلاتٍ زمنية "قبلَ أن أخلص من شبكة الفقر الذي عانته عائلتي منذ قرون، كنت قد اشتركت في عددٍ كبيرٍ من معارك المدينة، أمّا في بيت صاحب المتجر فقد كان علي أن أخوض مشهداً من القبح"ص13.
نلاحظ في العودة إلى الزمان الذاكري (منذ قرون) اتكاءً وظيفياً للولوج في الزمن الجديد (في بيت صاحب المتجر) وينطلق النصّ في سيرورة الزمن ليَسْرُدَ مشهد زمان (خطبة سمية ويبدأ بـ "جاءتني سمية ذات يوم وألحت عليّ بأن أذهب إلى أبيها وأطلب يدها"ص13.
ويمتدّ الزّمن إلى مساحة روائيّة واسعة يؤدي فيه وظائف خطابية تتعلق بقضايا قيمية ويستدعي مشهد خطبة سمية العودة إلى ما قبل ذلك حتمياً للوصول إلى زمن التعرف إليها "في يوم من أيام آذار القلب..."ص20.(1/275)
ويلاحظ أنّ زمن الرّواية منذ بدايته زمنٌ تراجعيّ ارتداديٌ إلى الوراء، وهذا الارتداد التراجعيّ يستدعي ارتداداً أكثر تعميقاً ذاكرياً: "صوت سمية الذي تخيلته يناديني استحضرَ شبحَ والدي من بين تراب النسيان"ص25.
ويستدعي كذلك العودة إلى زمن (عنايت) هانم الذي يتدخل في سياق زمن علاقة (سمية بأمين): (والغريب أنّ من دأب عنايت هانم في ساعةٍ من الراحة بعد ساعات العمل أن تطلب لي أن أقصّ عليها طرفاً من حياته)ص26.
إن التقاطع بين زمان عنايت وزمان سميّة هو العودة إلى زمان والد أمين وضمن سلسلة التداعيات الزّمنيّة يُغرق النّصّ في العودة إلى الوراء الزماني: (كان جدّها عز الدين آل ياسر شاعراً..)ص26.
ويعود النص إلى استرجاع قريب إلى طفولة الراوي: "كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري عندما صاح أبي يوماً وقال: أمين سأغني الآن فترقص أنت"ص27.
وكلُّ هذه الاستدعاءات الذاكرية تأتي بفعل الزّمن الّذي يسير وفق تذكّر علاقةِ أمين بسميّة فعندما تنادي سميّة (أمين.. أمين) يتذكر بفعل الإيقاعات الصوتية نداء والده (أمين.. أمين) وينتظم النصّ من جديد في سياق الزمن الخطيّ (زمن القصّ) وتأتي العودة إلى الخطية لأسباب تذكرية أيضاً: (فلمّا جلستُ إلى إحدى الموائد خطرتْ ببالي الآصال والعشيّات الطّوال الّتي قضيناها أنا وسميّة في استسلام..)ص30.
وكما رأينا سابقاً تغلبُ الحركة (المكوكيّة) جيئة وذهاباً بين التذكر والخطيّة تعبيراً عن الأفق النفسيّ الداخليّ للراوي، لذلك نراه مرّة أخرى يستعيد الخطية "بينما كنت جالساً أنتظر مجيء الغلام دخلَ ثلاثةُ رجالٍ وامرأةٌ"ص31.
"كان رأسي يصخبُ بكلماتِ سميّة"ص36.
وتتالى هذه الحركة بين الماضي التذكريّ والحاضر الخطيّ أكثر الأحيان مثلاً ص37 عودةً ذاكريةً إلى الماضي السّحيق وص39 كذلك لكنْ إلى ماضٍ أقرب، ثم بالطريقة نفسها يصل إلى الخطيّة. وقد تكررت اللقطة الزّمانية التالية أكثر من مرة:(1/276)
العودة إلى زمن ذاكريّ سحيقٍ -الارتدادُ إلى زمنٍ أقرب- العودة إلى الخطية.
والزّمن الرئيسي البؤريّ في هذه السلسلة هو زمن سمية لذلك يرتد إلى زمنها بشكل دائم: "وبعد ذلك اليوم الماطر الذي أعلنَ بداية التغيير في حياتي كانت سمية تجيء إلى بيتي الصّغير في شيءٍ من الخِلْسة"ص45.
وداخل الزّمن الذاكريّ، وهو تذكر لقاء أمين وسميّة يسترجع أمين زمناً ذاكرياً آخر. الليلة الماطرة التي خافَ فيها على الخراف (الليلة من الليالي الحاسمة) بالنسبة له ثم يعود إلى الزمن الذاكري الأول: "كانت سمية تصغي مبتهجة إلى مثل هذه القصة.."ص47.
ويقفز الزمن فوق مجموعة من الأحداث منها الخطبة والزواج ليصل إلى ما بعد ذلك: "ولشدّ ما دُهِشْنَا حينَ قَدِمَ والداها لزيارتنا ذات مساء وفي الصباح تسلمنا منهما بيانو احتلّ مكاناً كبيراً في غرفة جلوسنا الصغيرة"ص49.
ومن التحولات الزمنية المهمة عودة إلى زمن ذاكري خاص يعرض فيه النص لقاء أمين بصديق قديم "ففي مساء يوم من أيام تشرين الثاني التقيت بصديق قديم لي، كان جاراً لنا في المدينة القديمة ما كنت رأيته لست أو لسبع سنوات، وإذا هو لم يتغير.."ص53.
ويستمر هذا الزمن إلى أن يحدث الفيضان في المساء نفسه الذي حدث فيه اللقاء: "وعدت إلى الشارع المتعرج الطويل ولكن ذكرى الفيضان أثارت في ذهني الحادثة الأخرى..."ص56.
ثم يقوم النص بتلخيصات زمنية لمجموعة من المشاهد السابقة "خيل إليّ أنني أرى ارتباطاً خبيثاً بين حوادث ذلك اليوم -صديقي وهو يستعرض ماضي المطر المنهمر في المدينة القديمة، الفيضان، الأطفال الغرقى في بيتنا القديم ثم اختفاء سمية وهذه الاختصارات التي ينتظمها زمن واحد ذات دلالات نفسية تفجيرية تتوج باكتشاف أمين اختفاء سمية في نهاية مطافه بعد أن يصل إلى البيت.(1/277)
ولشدة اهتمام الرّاوي بزمن (سميّة) فهو لا يبرح يعيده إلى التدخل في مسيرة القص "رحت أستعرض ماضينا معاً، ولكن لم أستطع أن أتذكر سوى الساعات الملتهبة التي قضيتها معها..) ص60.
ويبحث النص في الزمن الغائب غير المشغول (اسأل ما الذي كانت تفعله في الصباح أو المساء كلّما تغيبت عن البيت لأقوم بعملي في تحرير الجريدة)ص60.
وبعد استنفاد قدرات الزّمن الذاكري المتعلق بسمية يعود النص إلى الزمن الخطيّ (مررت بالسينما وهي تفرغ حشداً كثير الألوان)ص62.
ويبدو أن الرّاوي أحسّ بفراغ زمنيّ فيما يتعلّق بلحظة البدء مع (عنايت) بكتابةِ تاريخ أسرتها فعادَ ليبيّن هذا الزّمن: "كان حينئذ أنني شرعت في كتابة ثالث كتبي الناجحة بعد فترة من الجدب دامت ثلاث سنوات.. فبعد أن استدعتني عنايت هانم لزيارتها أخبرتني أنها هي وأختها أعجبتا بمقدرتي على استعراض الماضي واستحضار من ماتوا ولذلك عزمتا على أن تطلبا إلي أن أتعاون معها في كتابة تاريخ آل ياسر، على أن ننجز الكتاب في بحر سنتين"ص64-65.
ويعودُ النص إلى الذاكرة الزمنية "وصباح ذات يوم بعد التقائنا بمدة قصيرة خرجنا قبل طلوع الشمس رحنا على دراجتنا إلى الحرش.."ص73.
وفجأة يظهر زمن ركزان أخت عنايت: "سمحت لنفسي بالسقوط في حفرة الماضي تلتهمني غير أنني كافحت وصارعت إلى أن شعرت ساعة موتها بأن الحفرة تلفظني فأعود إلى الحاضر"ص79.
وفي النهاية يقوم الراوي باختصار الزمن السابق كله وتلخيصه: "سنتان مرتا علي وأنا أعانق خيال سمية ولم أفكر لحظة واحدة في الطلاق" وفي النهاية تعود سمية وينتهي زمنُها بطردها، وفي المستوى الثاني الموازي تقوم ركزان بإحراق الأوراق المتعلقة بتاريخ آل ياسر وتحطم القصر بتفجيره.(1/278)
نستطيع أن نستنتج من هذا السياق الزمني الذي عرضناه سابقاً أن الماضي هو الزمن النصّي المسيطر وذلك لغرض خطابي أولاً لأن الماضي كما رأينا في الباب الأول هو صاحب السلطة العليا على شخصيات الرواية والخروج من هذه السيطرة يحدث في النهاية عندما يتحول الزمن في اتجاهه من الماضي إلى الحاضر نصّيّاً، فيخدم بذلك الغرض الخطابيّ الذي حطّم الماضي بالتوجّه نحو المستقبل "أقترح أن أحطّم الماضي، ما أريده الآن هو الحاضر"ص80-81.
تقنيات النص الزمنية:
1-الاسترجاع: كما رأينا سابقاً فقد كانت الاسترجاعات الزمنية في النص مسيطرة إلى حد يمكننا معه أن نطلق على الزمن صفةً رئيسيّة هي أنّه استرجاعيّ ارتداديّ نحو الماضي، وقد ترجّحت هذه الاسترجاعات بين مستويات الماضي المتعددة أولاً من حيث العُمق الزّمنيّ وثانياً من حيث نسبية هذا الماضي إلى اللاحق والسابق:
وقد وردت الاسترجاعات بشكل مباشر بوساطة الفعل الدّالّ على الزّمن الذاكريّ (تذكرت) أو من خلال الانتقال الفقري من فقرة راهنة (نسبياً) إلى فقرة ذاكرية (نسبياً أيضاً).
ونشير فقط إلى الصفحات التي وردت فيها هذه الاسترجاعات: ص7-8-10-12-13-19-20-25-26-27-36-37-39-40-44-45-47-53-54-58-64-66-73-77.
2-القفزة: هذه التقنية منحسرة في نص "صراخ" نظراً إلى المساحة الزمنية القصيرة (سنتان) التي يشغلها النص ولا تظهر القفزات الزمنية إلا في الارتداد المفاجئ والعميق نحو الماضي "قبل أن أخلص من شبكة الفقر الذي عانته عائلتي منذ قرون"ص3.
"صوت سمية الذي تخيلته يناديني استحضر إلي من تراب النسيان"ص25.
"كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري"ص27.
على الرغم من أن مفهوم القفز يكون بتجاوز الزمن وفق اتجاهه المحدد من الماضي إلى الحاضر لكن قفز "صراخ" كان في الاتجاه المعاكس.(1/279)
3-الاستباق: في نصٍّ ينزع أكثر ما ينزع إلى الماضي الذاكريّ تكون هذه التقنيّة (زائدةً عليه) بمعنى أن ورودها نادر، وليس بالمعنى الدقيق لمفهومها.
"عند وصولي ستَدُسّ يدَها النحيلة الباردة في يدي مصافحة، ثم تقدم لي ما تسميه هيكلاً من الاقتراحات الجديدة وتطلب إلي أن أدرسها ليوم أو ليومين"ص9-10.
4-التلخيص:
تخضع جميعُ التقنيات الزّمنية في النّصّ لمجموعةٍ من السّمات التي حددته كحجم النّصّ أي مساحته الرّوائية والزّمنية، وقدراته الخطابية ومضمراته النصيّة، وقد قامت بالتأثير على تقنياته الزّمنية بخاصّة التلخيص والاختصار، فالسّمة الغالبة على النصّ الزّمني هي سمة الاختصار والتلخيص وهذه نتيجة طبيعية للسمات التي تحدثنا عنها.
ترد التلخيصات وفق الأنحاء التالية:
1-ناحية الاختصار بالزمن النفسي.
2-ناحية الاختصار بالوصف اللغوي: "عانيت ما عانيت زمناً" ص10 "زواجنا لم يدم سنتين كاملتين.."
3-ناحية الاختصار أو التلخيص بالمشهد الزمني: "لربما اندلعت أمّ في نوبة من الغضب وهاجمت ابنها بحذائها في شراسة الذئب"ص12.
المشهد: المشاهد الزمنية في النصّ عمادٌ هيكليٌّ لسيرورة الخط الزمني وهي التي تساعد في الحركة الزمنية الحرّة بين الماضي والحاضر أو بالاتجاه المعاكس، لأنها (مساحات) زمنية محدّدة يرصفها الرّوائي (الراوي) وفق تداخلات الزمن المبتغاة:
اتجاه زمن القص مشهد افتتاحي مشهد ترهيني مشهد آخر.. اتجاه زمن القص استرجاع استرجاع
زمن النص
والمشاهد المتتالية يمكن رصدها كما يلي، مرتبة حسب زمن النص:
1-المشهد الأول مشهد (في الطريق إلى دار عنايت) وهو المشهد الأكبر الذي يمتد على مساحة (الرواية) كاملة ويتخلله مشهدان هما:
آ-مشهد الذهاب لخطبة سمية.
ب-مشهد لقاء سمية بأمين لأول مرة في الحرش ذاكريان
-استمرار مشهد في الطريق.. ثم يتخلله مشهد لقاء الأصدقاء في المقهى، والمناقشة حول قضايا فكرية وإنسانية (خطي).(1/280)
-مشهد الفيضان وهروب سمية، (ذاكري).
-الوصول إلى بيت أمين واختلاط الزّمن وعدم وضوح الفواصل.
-مشهد النهاية حرق قصر آل ياسر وطرد سمية بعد عودتها.
الافتتاحية المشهد(1).
الزمن الخطي (زمن النص)
مشغول فراغ فراغ مشغول فراغ مشغول مشغول النهاية
(1) (2) (3) (4) (5) (6) (7)
الزمن الاسترجاعي:
الزمن الخطي الواقعي:
مشهد اللقاء(3) مشهد الخطبة(2) مشهد الفيضان وهروب سمية في الطريق إلى دار عنايت لقاء الأصدقاء الوصول واكتشاف عودة سمية النهاية حرق القصر وطرد سمية
يقول (علي محمد عودة): "في "صراخ" جاء الزمان والمكان غائمين ولم يأخذا انتشارهما المريح"(1) فيما يتعلق بالزمن، وهو ما يهمنا في هذا الفصل، يمكن أن نعد كلام (عودة) صحيحاً في إطار ما، فالزمن غير منتشر فعلاً وقد رأينا التلخيصات المتعددة، الكثيرة في النص هذه الاختصارات والتلخيصات متناسبة والامتداد الزمني الأعظمي (للرواية) بخاصة بسبب غياب الحدث المهم الذي يخلق التمفصلات الزمنية.
ويقول عودة: "يقيم جبرا توازناً بين ماضيين يتقاطعان في شخصية (أمين) الماضي الأول: ماضٍ ذاتي متمثل في علاقة (أمين بسمية) وماض موضوعي هو ماضي الأسرة الاقطاعية"(2).
إن أحد الماضيين الذين يتحدث عنهما هنا ماض نفسي أي ينتمي إلى الزمن النفسي، وهما ماضيان ذاكريان كما رأينا، وإذا دققنا النظر فإن الماضي الموضوعي لا علاقة له بأمين إلا من حيث كونه يستعيده دون أن يحسه أما الذاتي، فهو زمن مستعاد محسوس والتقاطع لا يحدث إلا في النهاية، وليس الزمنان متوازنين وإنما متوازيان، لأن التوازن يعني التوازن بالإحساس بالزمنين ولكن هذا غير حادث في ما يتعلق بالزمن الموضوعي. والتوازي يعني الموقف المتخذ من هذين الماضيين.
__________
(1) الفن الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا، علي محمد عودة، رسالة ماجستير بإشراف د. عماد الدين حاتم جامعة الفاتح، كلية التربية، قسم اللغة العربية، 1984.
(2) نفسه.(1/281)
-الزمن النفسي: يتمحور الزمن النفسي في "صراخ" حول موضوعة الماضي والحاضر التي تحدثنا عنها سابقاً في مبحث الذات والآخر وتتعلق بالموقف النفسي والأيديولوجي من الماضي والحاضر، ويظهر الزمن في (المونولوجات) (الحوارات الداخلية) التي يعرض من خلالها (أمين) هواجسه وراؤه وأحاسيسه نحو الناس والفن والكتابة.
زمن (صيادون)، مستويات الزمن:
يعتمد نص (صيادون) المستوى التقليدي من مستويات الزمن وإذا دققنا في سير خطه الزمني نجد أن هناك مستويين تقليديين المستوى الأول مستوى الزمن الخطي الذي يصف سير العملية الروائية منذ بدء القص إلى نهايته وهو زمن طويل نسبياً يستغرق سنة كاملة منذ وصول (جميل) بغداد في الأول من تشرين من عام 1948 وينتهي بنهاية العام الدراسي أو بعده بقليل، إذا استثنينا الزمن الافتراضي، السنة الأخرى التي سينتظر جميل انقضاءها حتى تبلغ (سُلافة) إحدى وعشرين سنة ليستطيع الزواج منها دون موافقة وليّها. والمستوى الثاني هو المستوى الذاكريّ، وهو الذي يسبق مجيء جميل إلى بغداد، والثالث هو مستوى القصّ المجهول.
إن الزمن النصيّ في "صيادون" ممتدّ على مساحةٍ زمنية وافية نسبياً اختار فيها النصّ المفاصل الرئيسية وملأ المناطق الخلالية (الفراغات فيما بينها) بنجاح وفق حتميات الأغراض الخطابية.
سياق النص الزمني في (صيادون):
الافتتاحية الزمنية لـ (صيادون) تبدأ بوصول جميل فران إلى بغداد "عندما وصلت إلى بغداد كان لديّ ستة عشر ديناراً"ص9.
ويعترض هذه الخطبة استباق وقفز إلى الأمام: "السُّلفة الأولى على راتبي لم تدفع إلا بعد مرور ستة أسابيع"ص9.
ثم يعود النصّ إلى خطية الزمن: "طلبت من السائق أن يأخذني إلى فندق جيد"ص9.
ويعود باسترجاعٍ قصيرٍ إلى الوراء: "كانت ليلة السّفر ليلة غبراء"ص10.
ثم استباق آخر: "سمعت بعد أيام شاباً يُعبر عن شوقه.."ص12.(1/282)
وتأتي العودة الذاكرية لتقوم بالعرض الملخّص المختصَر وبطريقة القفز إلى الوراء التي رأيناها في (صراخ): "كلدانيّ بعد ثلاثة آلاف سنة من بابل"ص14.
ويحدّد النصّ بعد ذلك التّوقيت الدّقيق لزمن الافتتاحية: "أما أنا فقليلة هي البهجة التي شعرتُ بها وأقلّ منها الإثارة التي انتابتني في ذلك اليوم الأوّل من تشرين الأول عام 1948 حين وصلت بغداد"ص15.
وهذا التاريخ يستدعي من النصّ أن يفتحَ باباً للزّمن على الفائت أي على ما قبل التاريخ الأول من تشرين الأول عام 1948 ويعود بالضبط إلى ماقبل ذلك بثمانية عشر شهراً لعرض تبئير زمني يُضاف إلى التبئير السابق هو الانتقال إلى بيت جديد ومجاورة (آل شاهين) وحبّه (ليلى) ابنتهم ثم هجوم الصّهاينة وتدمير منزل (آل شاهين) واستشهاد (ليلى) كل ذلك ضمن مشهد زمني مسترجع يبدأ واقعياً منذ نيسان 1947 ويستمر كالتالي:
1-بداية المشهد المُسترجع: "قبل ذلك بحوالي ثمانية عشر شهراً كُنّا قد انتقلنا إلى بيتنا الذي بنيناه على جبل القطمون في القدس الجديدة" ص15.
2-استرجاع ذاكري قريب ضمن المشهد المسترجع: "عندما عدتُ من انكلترا بعد الحرب العالمية اخترت المكان بنفسي"ص15.
3-قفزة زمنية: "لم تكد تمضي فترة شهرين حتى أخذت ليلى شاهين بكر أبنائهم تهتمّ بي وأهتمّ بها اهتماماً خاصاً.."ص15.
4-استرجاع ضمن المشهد المُسْتَرجع: "لم تمضِ على وفاة أبيك ثمانية أشهر بعد"ص17.
5-استمرار في زمن المشهد الخطي: "بعد ليال قليلة استيقظنا على سلسلة من الانفجارات العنيفة التي هزّت بيتنا"ص17.. "بعد ثلاث ليالٍ هبّت عاصفة هوجاء، قاصفة وأرعدت السماء.."ص18.
6-تبئير زمنيّ بسبب حدثٍ مفصليّ "في تلك الليلة العاصفة من أواخر كانون الأول.. في اليوم التالي استخرجت كتيبة مهندسي الجيش البريطاني إحدى عشرة جثة قطعة قطعة"ص18-19. وكان من بين الجثث ليلى حبيبة (جميل).(1/283)
7-وبعد ذلك تستمر العملية الزمنية في خطيّة المشهد ببعض الاختصارات والقفزات: "طالَ الوقت وتتابعت المآسي دونما فرَج" ص20 "حلّ الصيفُ. وكانت الألوف التي ما عادت تتميز فيها الوجوه والأصوات"ص21.
8-العودة إلى زمنٍ سحيق باسترجاعٍ وقفز إلى الوراء "منذ ألف وخمسمئة سنة والمسيحية دين للأوربيين دون غيرهم"ص26.
9-نهاية المشهد وعودة إلى الزمن الخطيّ: "بعد ذلك بأيام قليلةٍ بعت سيارتي وذهبتُ إلى دمشق حيث كان يجري تسجيل المعلمين الفلسطينيين لتوظيفهم"ص27.
ويعود الزّمن بعد نهاية المشهد إلى الخطيّة النّصيّة "بعد الظهر أدرت المروحة ونمت.."ص28.
ويستمر الزّمن الخطيّ لينكسرَ ببعض الاسترجاعات الّتي تنتمي في أكثرها إلى الزّمن النفسيّ "أيّ بنيانٍ عظيم كانت مجزرة هولاكو ستبقي عليه بعد أن نهبت جيوشه الغازية المدينة.."ص46-47.
ويستكمل النصّ هذا الاسترجاع بمشهدٍ زمنيٍّ يبدأ بالحديث عن جريمة هولاكو (وهي بؤرة زمنية نفسيّة) ويأتي إلى الحديث عن محاولات الاحتفاظ بوحدة بغداد بعد غزو هولاكو ص47 وضمن هذا المشهد يقوم الزمنُ بقفزةٍ منذ الألف الأولى في عُمْر بغداد حتى مجيء النفط (كلّ ما استطاع الحكّام الذين أعقبوه هو الاحتفاظ بأجزاء بغداد معاً ضد قسوة النسيان والعدم،... أما بغداد بعد سنتها الألف بزمن طويل فقد تنفست فجأة ثم أصابت النفط"ص47.
-يسترد الزمن خطيته بالعودة إلى الفندق ورصد مقتل (عزيمة) ابنة مدير الفندق الذي ينزل فيه جميل (لم يكن النوم سهلاً تلك الليلة) ص58.
ويدخل في سياق خطية الزمن مشهد إحياء آلام الحسين لمدّة عشر ليال: "في إحدى الليالي مَلأ المدينة صوتٌ جديدٌ.. كان ندبَاً على مقتل الحسين وامتلأت الشوارع خلال الأيّام العشرةِ التالية بمواكب الرّجال والنساء الذين يُحْيُون آلام الحسين بن عليّ بأهازيج طويلة حزينة كما فعلوا طيلة الثلاثة عشر قرناً الماضية"ص63.(1/284)
وهذا الاستدعاء الزّمني يستدعي مماثلاً آخرَ سابقاً زمنياً "تذكرت كيفَ كانَ تموّز قبل ثلاثة آلاف سنةٍ يبكيه الشّعبُ هنا في وادي الرافدين"ص63.
وتتخلل الزّمن النّصيّ بعضُ التفصيلات الزمنية، بعضها ذاكري يتعلّق بمجرياتٍ لها دلالاتٌ خطابيّة ويتمفصل الزّمن في الفصل التاسع بطرحِ زمنٍ كونيّ عامّ: "في شارع رشيد يكمن جوهر مدن التاريخ ونهر دجلة الذي يشطر المدينة شطرين متناسقين يحمل في جريانه الوئيد المترامي ذكرى حضاراتٍ عمرُها آلاف السنين"ص69.
ويناقش النّص الزّمن الحضاري بالعودة بالذاكرة إلى الوراء: "أنت تعرف ما عانيناه خلال قرون.. كافحْنا خلال سبعمئة سنةٍ أرضاً غير معطاء.."ص70 "صحوتنا كانت صحوة ذهنية جاءت مع بداية القرن...، هذه المدينة التي كانت تُفاخر بجامعاتها العظيمة حين كانت أوربّا تغطّ في الظلام"ص71.
ويعودُ النصّ إلى زمنه الخطيّ بزيارة جميل إلى بيت سُلافة (صباح الجمعة السّاعة العاشرة)ص77.
وبعد ذلك يعود إلى حركته التي رأينا مثيلتها في (صراخ) الحركة (المكوكية)،إلى الوراء قليلاً: "ذهبت سلمى إلى ولسلي في الولايات -المتحدة كان ذلك قبل سنوات عديدة"ص81.
ويبدأ تبئير زمنيّ آخر جديد هو لقاء سلافة بجميل: "في الساعة الخامسة من مساء اليوم التالي أخذتني سيّارة همبر سوداء إلى شارع جعفر..." ص83 "سلافة خلال بضعة الأسابيع الأولى لم تظهر أي ظل لشكوى.. كنت أذهب مرتين في الأسابيع..."ص87.
ويقوم النص باختصارات زمنية متسارعة: "ثم أخذت الأيام تمر بين الدرس والدرس ترهقني بالشعور بالفراغ" وليست هذه الاختصارات (القفزات) في الوقت ذاته مسوقة للتجاوز الزمني أو لتعبئة المناطق الخلالية بين المفاصل الزمنية وإنما ترافقه دلالات نفسية بل سيقت لأداء أغراض نفسية.(1/285)
يلي هذه الاختصارات تمهيد يتخلّق منها نفسها، ليؤدي غرضاً آخر وهو الانتقال من بُعد خطابي إلى بعد آخر قد يكون متمّماً: "في الأسابيع القليلة الماضية كنت قد رأيت سلمى ثلاث أو أربع مرات في دار عماد النفوي"ص93.
والبعد الذي يقصد إليه هو الانتقال إلى زمن (سلمى الربيضي) وعلاقتها (بجميل) وهي العلاقة الموازية لعلاقة (جميل سلافة).
ويرجئ النص هذا الزمن بإدخال زمن آخر موز ومتمم، بوساطة مشهد زمني في المقهى حيث يدور النقاش بين الأصدقاء ثم يعود إلى زمن (سلمى): "كانت الساعة الثامنة والنصف وكان علي أن أتركهم لأبلغ بيت سلمى في الموعد المضروب للعشاء"ص100.
ويستمر مشهد العشاء حتى منتصف الليل في مشهد تقليدي، يتكرر عند جبرا مشهد يستهلك الزمن بالطريقة ذاتها التي تميز جميع المشاهد الثابتة، (مشهد المناقشة): "كان الليل قد انتصف تقريباً عندما انفض المدعوون.."ص105.
وبعد انتهاء هذا الزمن يعود النص إلى الزمن الموازي الذي أوقفه عند بداية مشهد الدعوة يعود جميل إلى أصدقائه: "أردت أن أرى عدنان وأتحدث إليه مرة أخرى عدت وحدي ماشياً"ص105.
ولكن هذه العودة هي عودة ختامية لمشهد من الزمن الإجرائي لبداية زمن نفسي: "بعد ذلك المساء، كنت كلما ذهبت لتدريس سلافة أتوقع أن أجد معها سلمى التي تظل معنا لبضع دقائق..."ص107.
يقصد النص إلى أن يحدد موقع هذه الفقرات الزمنية المختصرة في موضعها من الخط الزمني (زمن النص) أو (زمن القص) وإنما هي زمن منفيّ خارج الخط وأغراضه نفسية صرف.(1/286)
وتتوالى الاختصارات الزمنية بين مشهد قصير وسريع (لقاء ثنائي في غرفة بين شخصين، اتصال هاتفي) كل ذلك ضمن الزمن الخطي دون اعتراضات ذاكرية، إلى أن يصل إلى مشهد زمني مهم في سيرورة الزمن الخطي مشهد الإضراب والاحتجاجات الشعبية، والمشهد يبدأ بمزاوجة بين الزمن النفسي والزمن الحقيقي: "كانت أروقة الكلية صباح اليوم التالي مزدحمة بمجموعات من الطلبة المتجهمين يبدو عليهم الاستياء والتصميم" تنحسر هذه البداية المحفزة وتنزاح جانباً ليتدخل زمن سردي آخر غير محدد بدقة وهو زمن رسالة وردت إلى (جميل) من أخيه يعقوب وزمن وصولها بداية المشهد السابق. "كان بين رسائلي هذا الصباح رسالة من أخي يعقوب"ص139.
ويُحَدّد الزمنَ الخطيّ للرسالةِ عاماً: "لم نشهد في الماضي ربيعاً أجمل من هذا الربيع.."ص139.
هذه افتتاحية زمن الرسالة أما استمرار الخط فقصير يعرض ثلاثة مفاصل زمنية.. "مات سمعان الشهيد وإميل حبيس"ص139.
وليس هذا المفصل إلا وسيلة لعرض غرضٍ خطابي هوإظهار الفرق بين الجنازتين، ومن وراء ذلك إظهار الفروق الطبقية بين سمعان الشهيد الذي لم يخرج في جنازته سوى عددٍ قليل جداً من المشيعين وبين الجنازة التي أدهشت يعقوب بما لها من جلالٍ ورهبةٍ بكثرة المشيّعين، والمفصل الثاني "تم تصنيفنا مؤخراً من قبل الأمم المتحدة"ص140.
وله الأهمية الخطابية ذاتها. أما المفصل الثالث فلا يقل أهمية في إضافة دلالة جديدة إلى دلالات النّصّ: "ظهرَ في المدينة عددٌ كبير من البعثات التبشيرية"ص140.
وفي سير الزّمن الخطيّ تحدثُ (استرجاعةٌ) يستدعيها الزّمن الخطّيّ نفسه "طيلة ثمانية قرون رهيبة كنّا مستضعفين تتقاذفنا الأرجل، فلنتحمل بعض الوقت لو تأخرت كارثة فلسطين عشر سنوات من هذا التاريخ لما حدثت إطلاقاً.."ص146.(1/287)
والاسترجاع هنا ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مكمّل للمشهد السابق ووسيلة (نصيّة) للانتقال بل للعودة مرّة أخرى إلى الزمن الخطي وبها يعود الزّمن إلى خطيّته التي كسرتها الرسالة إلى المشهد الذي افتتحه ثم أغلقه، بتدخل الرسالة، مشهدُ الاحتجاج والإضراب: "كان التوتر في اليوم التالي بادياً على كلّ وجه، وكان الركاب في الباص الذي ركبته.. صامتين متربصين"ص151.
ومرة أخرى ينكسر الخطي بالذاكري: "تذكرتُ أياماً مشابهة لهذه في القدس كما تذكرت الأيّام المئةَ والثمانين من سنة 1936 حين عمّ الاحتجاج السّاخط.. وتذكرت أياماً من عام 1946 حين أزيحت الأجسام المُهَشّمة لمئة رَجُلٍ وامرأة من تحت أنقاض جناحٍ من أجنحة فندق الملك داوود.."ص151.
ويستمر المشهد "استدعي الجيش عند منتصف النهار"ص156.
وقبل هذا الاستدعاء يقوم النص بعرضِ مزيدٍ للزمن النفسي لعناصر الأمن الذين يرابطون في الساحات للَجْمِ المتظاهرين.. وينتهي المشهد الزّمني "توقفت الاضطرابات إلا أن التوتر لم يتبدد لعدة أيام"ص156.
ويستعيد النصّ زمناً كان سردَ جزءاً منه سابقاً على لسان الراوي ولكنه الآن يُعيد سرده على شَكْل رسالة توجهها سُلافة إلى جميل يتخلله بعض الاسترجاع الذي يخدم سيرورة الخطّ الزمنيّ: "تلفنت لك الليلة الماضية.. أميّ تستقبلُ أفواجاً من الزائرات كلّ ليلة.. هذا الصباح جاءت سلمى لترى أبي.. مات عمي قبل سنوات، أجبرني أبي على لبس السواد مدة اثني عشر شهراً كاملة.."ص160و163.
ويعود زمن سلمى إلى الظهور: "كانت سلمى التي نسيتها كلما غابت عني تتكلم على التلفون"ص170 "تطلب منه نزهة في السيارة" ص171 "يذهبان إلى البيت الخالي.. مشهد جنسي داخله ثم خروج من البيت ثم عودة مباشرة إليه.."ص171-174.(1/288)
ويقوم النّصّ بخلق التقنيات السابقة نفسها ويكرر بانتظام بعض هذه التقنيات كالاختصار والاستباق: "جيء بالمسدس في موعد الدرس القادم يوم الاثنين"ص77 "كان اليومان التاليان طويلين جداً"ص77.
ويلجأ النص بعدها إلى الزمن النفسي وعلاقة الإحساس بالزمن "كل دقيقة كل ثانية كان يجب أن تحس، كل دقيقة كل ثانية شقت دربها عبر ذاتي وأدركت كيف يتهاوى الرمل خلال الساعة الرملية.."ص178.
ويستمرّ بعد ذلك الزمن الخطي والتقنيات نفسها متكررة ويظهر زمن مختلف واحد مكثف في ذات البطل (جميل): (حانت الساعة الخامسة من عصر الاثنين موعد مجيء سائق آل النفوي لأصطحابي إلى البيت تجاوزت السّاعة الخامسة بدقيقتين، ثمّ بخمسٍ، وثماني، وعشر وخمس عشرة وتصببت عرقاً"ص179.
يستمرّ الزّمن مكثّفاً مشحوناً يسير في الراقات الداخلية لنفس البطل: "كان عليّ الانتظار، سجين صمتي، بينما تمرّ دقائق الحرّ والخوف ببطءٍ وإلحاح الدّود الزّاحف على جثّة،.. وزحفت الدقائق على يدي كالديدان"ص192.
ربّما تكونُ هذه الصورة للزّمن من صورة سائدة في مرحلة كتابة الرّواية كما رأينا في (صراخ)، لأنّنا عندما نسمعُ الصّورة الرّوائية النثرية نتذكر الصّورة الشعرية لخليل حاوي: "تمط أرجلها الدقائق تستحيل إلى عصور".
ثم يبدو زمنٌ جديد هو زمنُ اعتقال عبد القادر ياسين بعد اعتقال أصدقائه قبله بفترة ليست طويلة (أيام): "في الكليّة صباح اليوم التالي طالعني هذا الخبر في الجريدة: في التاسعة من مساء البارحة قام رجال الشرطة واعتقلوا شخصاً يُدعى عبد القادر ياسين.."ص193.
إنْ الزّمن السّائد في الخطّ الزّمني أكثرَ الأحيان (صباح اليوم التالي -منتصف الليل- آخر الليل) أما الأوقات الأخرى فيقفز النص فوقها لأنّها لا تشكل صوى زمنية نفسية والزّمن الفاعل إما في الصباح في الكلية (مكان الفعل) أو في المقهى أو في بيت سلمى الربيضي وهو ما يكون في المساء ويمتد إلى آخر الليل.(1/289)
إلا أنّ هناك بعض الخروج عن هذا القانون الزّمني، فيحدث أن يكون هناك لقاء وقت الظهيرة: "هل يمكنك المجيء إلى الشقة الأمريكية بعد حوالي ثلاثة ساعات قرابة الثانية عشرة والنصف.. بعد ثلاث ساعات أوقفت السيارة أمام بيت أزرق الواجهة"ص196. ويرمي النّصّ إلى الأمام باستباق قصير توقعّيّ: "خلال أسبوعين ستنتهي الدّراسة وبنيّتي أن أتركَ كلّ هذا الجحيم"ص199.
ويرصُد النصّ زمناً حيادياً ينتمي إلى الزّمن الخطيّ ولا ينتمي إليه في الوقت نفسه: ينتمي إلى الزمن الخطيّ والنصيّ من حيث كونه زمناً واقعيّاً ولا ينتمي، لأنه زمنٌ مركزيّ بؤريّ ثابتٌ، وما يحدّد عدم انتمائه هو تكراره المستمرّ: "تعود الحياة للمدينة كما لو أنه قَدَرٌ لمعجزةِ البعث أن تحدث كلّ مساءٍٍ، والأصيل فترة من القلق، لذا فعندما تعود الحياة للرجال والنّساء بعد ساعات القيلولة القائظة، فإنهم لا يعرفون ما يفعلون بها"ص204.
ويتطرّق النصّ إلى الحديث عن الزّمن ذاته والإحساس به ويناقش فحواه ومكوناته ووظائفه والموقف منه وهذا الزمن منفي خارج الخط الزمني للرواية (أي الخط الزمني للنص وكذلك خارج الخط الزمني للواقع، لأنه زمن الأفق الحضاري والنفسيّ والفكري والرؤية والرؤيا كلّها جميعاً: "الزمن كما تصفه غير موجود بالنسبة لنا ولا يقلقنا مرورُ ساعاتِ النهار، ما يجب فعله سيتمّ فعله ما دامت الشمس تشرق ويطل القمر من فوق الأفق. أما العجلة فمن الشيطان.. بلا شك خاصّة إن لم يكن ثمة ما يفعل بين شروقٍ وشروق. لكنّ هذه هي المشكلة بعينها ليس ثمة ما يفعل خلال الأبدية الكائنة بين ساعة وساعة"ص205.
"نحن جزء مما لا ينتهي، مما لا يقاس من الأبدية. نحن نتجاهل اقيسة الزمن الدقيقة؛ لأنها محاولة حمقاء لتقسيم ما لا ينقسم.. مما جعل حياة كل إنسان كالجدول الذي تكمن بداياته في الينابيع البعيدة التي لا توصل..."ص206.(1/290)
وفي خطية الزمن النصي يسير النص نحو الأمام في مشهد لقاء (سلافة وجميل) فجأة بعد انقطاع زمنها وغيابها المفاجئ: "واجهتني صاحبة المنزل وقد بدت عليها إمارات القلق وقالت: هناك فتاة في غرفتك.. كانت سلافة جالسة على كرسي.."ص210.
ويأتي المشهد الختامي للزمن النصي زمناً خطياً تالياً لانقضاء الأزمنة السابقة "خلال الأيام القليلة التالية، وبينما كنت أنتظر إنهاء فترة العزاء الأولى عند آل النفوي رأيت عدنان عدة مرات"ص256.
ويربط النص بين سيرورة الزمن الخطي والزمن الأيديولوجي بل يجعل الزمن مرتبطاً بالأيديولوجيا ومعنياً بها: "موت عمي حادث هام. إنه نهاية عهد بأكمله.."ص256.
والمشهد الختامي للرواية كلية هو مشهد لقاء جميل بأحمد الربيضي زوج خالة سُلافة ليتقدم إليه بطلب سلافة للزواج ويسير المشهد: "ذهبت مساء اليوم التالي استقبلني على الباب بنفسه.. أنا أنوي الزواج منها.. لم تبلغ بعد الحادية والعشرين"ص258-259.
ويرفض الربيضي ويهدد بطرده من العمل ص259 ويقرر جميل الانتظار سنة كاملة حتى تبلغ سلافة الحادية والعشرين من أجل الزواج دون وصاية أحد ويأتي القفل النهائي بزمن نفسي تصويري.
لقد بدا من خلال سيرورة الزمن أن الفعل الرئيسي يأتي دائماً في (اليوم التالي) إذ يكون هناك تمهيد من نوع ما، ثم تأتي عبارة (في اليوم التالي) لتحقيق هذا الفعل.
تقنيات النص:(1/291)
1-الاسترجاع: يبدو أن الاسترجاع في (صيادون) تقنية ليست بذات أهمية كما رأينا في (صراخ) ولا تأتي الاسترجاعات إلا حيث تكون مقدمة خادمة للزمن النصي الخطي أو نتيجة ذاكرية اضطرارية له ومردُّ كل ذلك إلى الغرض الخطابي الذي ينزع إليه النص الواقعي الذي حدد هدفه منتجه منذ البداية بأنه نص تصوير واقعي يقرب من الوقائعية التسجيلية وهذا يفرض عليه عدم الاسترسال والامتداد إلى التراجعات إلا بقدر طفيف، فمثلاً نجد أن الاسترجاع "قبل ذلك (أي قبل تشرين الأول 1948) بحوالي ثمانية عشر شهراً. استرجاع ليس بعيداً في الزمن وهو استرجاعٌ مقرونٌ بالاختصار، لأنه ليس مهماً إلا بقدر ما يخدم الزمن الخطي في سيره، وكذلك الاسترجاع: "منذ ألف وخمسمئة سنة والمسيحية دين للأوربيين دون غيرهم" وإن كان يلخص زمناً سحيقاً، فإنه كذلك استرجاع وظيفيّ ليس مقصوداً لذاته.
وتترجّح الاسترجاعات بين زمنِ البداية (افتتاحية الزمن الخطي) وبين زمن النهاية، نهاية العام الدراسي (خاتمة الزمن الخطي): (من بين أعماق أجزائها ومع أنسام النهر جاءني وجه ليلى"ص42.
2-التلخيص: على الرغم من الامتدادات الزمنية الواسعة داخل الزمن الخطي التي تطورت في (صيادون) وقد رأيناها مساحة ضيقة جداً في (صراخ) فإن التلخيصات الزمنية تناثرت بكثرة على امتداد الخط الزمني وقد تنوعت بين التلخيص الذي يعد مشهداً وبين التلخيص الشديد والكثيف.
أ-التلخيصات الكثيفة: (ليلة السفر ليلة غبراء) التلخيص بتعبير مباشر عن الزمن (لفظ ليلة اختصار) (طال الوقت وتتابعت المآسي) تعبير غير مباشر: طال الوقت "منذ ألف وخمسمئة سنة والمسيحية دين للأوربيين دون غيرهم" اختصار شديد الكثافة.(1/292)
ب-التلخيص (المشهد): تعدّ جميع المشاهد التي عرضها الخطاب مشاهد تلخيص زمني، ولكنّ هذه المشاهد قد تمتد على مساحة زمنية كبيرة وقد تنحسر إلى زمنٍ محدّدٍ ونجد المثال على النوع الأول المشهد التلخيصي الطويل في مشهد الرسائل، والمشهد الذي سردته سلافة في محاولة اغتصابها، أما المشهد القصير مثلاً وصول جميل إلى بغداد والبحث عن فندق، مشهد اللقاء في المكتبة بين سُلافة وجميل، مشهد الدرس..
3-الاستباق: لا يعيرُ النصُّ أي أهمية كبيرة لهذه التقنية إلا نادراً وهي كسابقتها (الاسترجاع) تأتي وظيفية وهامشية: "السلفة الأولى على راتبي لم تدفع إلا بعد مرور ستة أسابيع"ص9.. "ولقد سمعت بعد أيام شاباً يعبر عن شوقه. إلى أن.."ص12.
4-المشهد: التقنية الرئيسية في النص الزمني (صيادون) كما في (صراخ) وهي تتالي وفق ما يلي (اعتماداً على زمن النص).
1-المشهد الخطي: مشهد الوصول إلى بغداد والبحث عن فندق (المشهد الافتتاحي) زمنه التاريخي الأول من تشرين الأول عام 1948.
2-المشهد الذاكري: العودة إلى الذاكرة (فلسطين قبل 8أشهر من التاريخ السابق) مشهد الاغتيالات والقتل ومقتل ليلى شاهين (مشهد بؤري، تبئير زمني).
3-مشهد المبغى والتعرف على حسين عبد الأمير ثم صديقه عدنان (مشهد خطي).
4-مشهد ذاكري نفسي حول الدمار الذي ألحقته مجزرة هولاكو ببغداد وبالحضارة العربية (مشهد تبئير حضاري).
5-مشهد مقتل عزيمة في الفندق (زمن خطي، زمنن تبئير اجتماعي).
6-مشهد اللقاء والتعرف على برايان فلنت في الحمام العمومي، (مشهد خطي).
7-مشهد (الاحتفال) بمقتل الحسين والندب- خطي (مشهد تبئير حضاري ديني).
8-مشهد التعرف إلى سلمى وتدريس سلافة (خطي).
9-مشهد لقاء سلمى وضيوفها وجميل في بيتها- (خطي)
10-مشهد لقاء سلمى وجميل في السيارة ثم في البيت الخالي.
11-مشهد متكرر لقاء الأصدقاء في المقهى (تبئير ثقافي)
12-مشهد رسالة يعقوب (خطي نسبي).(1/293)
13-مشهد لقاءين آخرين، سلمى وجميل في البيت الخالي ثم خروج منه وعودة إليه.
ثم يمتد هذا الزمن بهما حتى الذهاب إلى البيت الخالي الذي كان جميل يلتقي فيه بسلمى (هنا سنكون وحدنا لساعة أو لساعتين).
يتراجع الزمن السّرديّ إلى الوراء ثم ينطلق من جديد وتراجعه هذا ليلتقط زمناً كان تجاوزه سابقاً وهو زمن غياب سلافة، بينما كان الزمن الموازي يسير طبيعياً.
-الزمن الخطي للنص:
لحظة غياب سلافة المفاجئ مشغول بأحداث علاقات جميل بالشخصيات الأخرى خاصة سلافة، ظهور سُلافة.
الزمن الموازي:
لحظة غياب سلافة المفاجئ ظهور سُلافة.
وتتحول السيرورة الزمنية لخط الزمن النصي والزمن الموازي من الموازاة إلى التتابع، فيصبح الزمن الموازي بعد أن تسرد سلافة ما حصل لها في فترة غيابها زمناً متبعاً للزمن الخطي للنص وفق الترسيمة التالية:
الزمن الخطي للنص -لحظة غياب سلافة- لحظة ظهورها- لحظة غيابها- لحظة ظهورها- زمن مقصوص من قبل جميل زمن مقصوص من قبل سلافة
وهذه التقنية تقنية جديدة لم نرها من قبل في النص السابق أو فيما سبق من النص الذي نعالجه الآن، وربّما تكون مقدمة لنظام الفصول الذي اعتمده جبرا في روايته التالية (السفينة) وبعدها (البحث عن وليد مسعود).
خط الزّمن في قصّ سُلافة: (زمنٌ ذاكريّ بكليته): عودة الزمن المفقود "قال أبي لا تعاندي لا بد أن تتزوجي توفيق الخلف" الافتتاحية بؤرة زمنية بالنسبة لنصّ سُلافة "كان آل الخلف قد ترددوا علينا ثلاث أو أربع مرات"ص214. اختصار زمني ثم بعد ذلك تقوم بشرحه: "ذهب أبو توفيق إلى زوج خالتي أولاً، لأن كليهما عضو في مجلس الأعيان" ص215. ويقوم نصّ سلافة باستخدام التقنيات ذاتها التي كان نصّ جميل المسرود يستخدمها (العودة الذاكرية، الاختصار، المشهد...)(1/294)
"ذلك المساء الذي أعطيتك إياها (الرسالة) فيه عاد أبي إلى موضوع الزواج، كنت قبل ساعتين بين ذراعيك"ص217 زمن ذاكري، "وقد حدّد موعد الزّواج.. سيكون ذلك بعد أسبوع من هذا اليوم"ص218. استباق، "في الصباح جاء أحمد وسلمى وبحثوا الموضوع نفسه مرة ثانية" ص218. خَطِيّ، "يوم تلفنْتُ لكَ طالبةً أن تراني في مكتبة" ص219. ذاكري، وتروي بعد ذك مشهداً زمنياً يبدأ بمحاولة (الخادم) عبد اغتصابها بعد أن أهانته وصفعته سابقاً "كان عبد هو الوحيد من بين (الخادمين) الباقين في البيت، دخل شخص ما الغرفة ص219.. في صباح اليوم التالي وجدوا جثة عبد في النهر عند الجسر العتيق.. ص221.
وينتهي زمنُ السّرد عند سلافة في الوقت الذي أُخِذَتْ فيه إلى قضاء وقت للراحة بعد الحادثة: "وهكذا تقرر أن أؤخذ على الفور لقضاء عطلة طويلة بعيداً عن هذا المكان"ص221.
-بعد انتهاء مشهد سلافة (الزمن المفقود) يعود الخطّ الزمني للنص إلى خطيته، وتبدأ العودة بمحاولة جميل الجمع بين سلافة وسلمى خالتها في البيت الخالي من أجل التوصل إلى حل لمشكلة زواج سلافة "رؤيتي للمرأتين وجهاً لوجه وإعلاني اختياري بلا مواربة سيضع حداً للوضع المزري عدت إلى الشقة كوسيط للسلم الذي حالفه النجاح.. عندما سمعت سيارة تقف خارج البوابة أيقنت أنها سلمى، فأسرعت بالدخول بوجهها الممتع.."ص224-232.
يتوقف الزمن الخطي ويتدخل زمن آخر مقتطع من مذكرات (لعدنان طالب) الذي يحاول الانتحار في دجلة هو وصديقه (حسين عبد الأمير) يستخدم النص التقنيات ذاتها التي استخدمها في المشاهد السابقة وفق ما يلي: زمن اليومية الأولى: اليومية الأولى عودة ذاكرية إلى الماضي يصور فيها عدنان بعض سلوكاته ليجعلها تمهيداً زمنياً للفعل الذي سيقوم به: "وقد اشتركت بمعارك في الشوارع وطعنت مرة في الذراع.. كنت حينذاك في السابعة عشرة"ص235.(1/295)
-اليومية الثانية: زمن اليومية الثانية القصّيّ هو (20 تموز 1949) أما الزمن النّصّيُّ فيسيرُ على النحو التالي: الافتتاحية: "قبل بضع ليال التقيت بعبد القادر ياسين في شارع الرشيد" وبعد ذلك يبدأ مشهد الانتحار: "ذلك اليوم كنا أنا وحسين قد خرجنا من السجن، جلسنا في الكازينو الذي اعتدنا ارتياده على دجلة وكتبنا قصيدتنا الوداعية.."ص238.
يتوقف المشهد باسترجاع ذاكري: "فتيات الكلية ذكرنني بأمية تذكرت يوم كانت تأتينا وهي في الثانوية إلى البيت.. وعندما أصبحت طالبة كلية بعد سنتين.. غالباً ما كانت تتشجع وتأتي سراً إلى غرفتي الحالية متخفية بعباءتها السوداء.. أيام شبابي كلها عشتها وسط الجنازات"ص245-246.
ثم يتابع الزمن (المشهد) سيرورته الخطية لتنفيذ الانتحار: (لم يكن الجسر بعيداً، وعندما وصلنا سمعنا أغاني المغنيات وآهاتهن المعذبة.. لن يستغرق القفز أكثر من لحظة.. وجاءت لحظة لم يكن فيها أحد حولنا.. امتطينا سياج الجسر وسقطنا معاً وأقدامنا إلى الأسفل نحو دجلة..."ص246. وينتهي مشهد الانتحار بأن يقوم عدنان وهو يجيد السباحة بإنقاذ نفسه وحسين الذي لا يجيدها يحتج على إنقاذه، ثم يبدأ مشهد جديد في دار عماد النفوي حيث يذهب عدنان للانتقام من عمه ويبدأ هذا المشهد بحوار ثنائي (ليلاً) بين عماد وعدنان وينتهي المشهد بعد الحوار بموت عماد بين يدي ابن أخيه عدنان وتنجح محاولة الانتقام وينتهي زمن اليوميات.
14-مشهد لقاء جميل وتوفيق في النزل
15-مشهد غياب سلافة وقصتها مع عبد وعودتها إلى بيت جميل (تبئير حدث).
16-مشهد لقاء سُلافة وجميل في البيت الخالي
17-مشهد لقاء سلمى وجميل في البيت الخالي
18-مشهد انتحار (عدنان طالب) وحسين عبد الأمير (تبئير إنساني).
19-مشهد لقاء (عماد النفوي) وابن أخيه (عدنان طالب) وموت عماد على يدي عدنان (تبئير طبقي) (صراع قيم وطبقات).(1/296)
20-مشهد لقاء أحمد الربيضي وجميل والنقاش حول زواج الثاني من سلافة (تبئير اجتماعي).
21-المشهد الختامي مشهد زمن نفسي (تبئير نفسي).
زمن السفينة: مستويات النص الزمني:
يعد النص الزمني في السفينة تطوراً جديداً في مراحل سير الزمن. والتطور المميز هو ظهور تقنية الفصل الزمني ويتكون النص من تسعة فصول زمنية متداخلة فيما بينها ومتوازية في عناصر كثيرة من عناصرها إذ تشكل شبكة زمنية تخضع لنظام محدد من حيث تنظيم ثلاثية الزمن (الماضي، الحاضر، المستقبل).
وتتحدد مستويات الزمن في "السفينة" بثلاثة، المستوى الأول وهو المستوى الرئيسي: مستوى زمن رحلة المسافرين وهو زمن خطي متسلسل راكد في سيرورته تتخلله مجموعة من التقنيات التي تشكل المستويين الآخرين وهو زمن قصير نسبياً (عدة أيام) إذا ما قيس بزمن النص في (صيادون) مثلاً الذي امتد سنة كاملة، والمستوى الثاني المستوى الذاكري الذي ينتهي بالبدء بالرحلة، ويمتد إلى الوراء الزمني امتدادات متفاوتة بحسب الأغراض الخطابية، والزمن الثالث أي المستوى الثالث وهو مستوى عملية القص، وكما رأينا سابقاً، يظل هذا الزمن خارج نطاق دراستنا لأنه زمن مجهول المعالم إلا إذا حُدّد بالزمن الذي يوازيه زمن القراءة.(1/297)
إن ما تؤديه تقنية زمن الفصول من دلالة أنها تقوم بخلق التوازيات الزمنية للمشاهد المتوازية في الزمن الخطي، التي لا يمكن لزمن القص التقليدي (الراوي الواحد) أن يقوم بأدائها، فإذْ يبدأ راوٍ بسرد زمنه وفق غرضه الخطابي، يكون زمنٌ آخر مواز سائراً وفق أغراض خطابية أخرى لذلك فإن تقنية الفصول (الأصوات المتعددة) تتيح للروائي إيقاف الزمن السائد ولجمه عند حدّ ما ثم الانتقال إلى زمن آخر يسير موازياً الزمن السائد حتى يصل إلى تخومه، وهكذا قد يعود الروائي إلى الزمن السابق أو يخلق زمناً ثالثاً موازياً، لقد سار جبرا في زمنه وفق تناوب زمني بين (زمن سرد عصام السلمان وهو الزمن الافتتاحي) وبين (زمن سرد وديع عساف) لكن هذا التناوب ينكسر مرة واحدة قبل نهاية الزمن النصي بقليل في (فصل إميليا فرنيزي) الذي يبدو أن جبرا اضطر إليه بوحي من النص كما سنرى عندما نرصد سياق النص الزمني.
وتكون التناوبات الزمنية وفق ما يلي:
1-زمن عصام السلمان -يداخله زمن وديع في نهاية الفصل ويستمر الزمن منذ الافتتاحية (وهي عودة ذاكرية) حتى اللقاء بين (عصام ولمى وزوجها) على ظهر السفينة.
2-زمن وديع عساف: يبدأ بزمن نفسي: "عن كل أمل تخلوا أيها الداخلون هنا.. هذا ما كتب على بوابة الجحيم"ص38.
وينتهي بزمن ذاكري: "ذكرت فايز، ذكرت الصخور، ذكرت الموت والميلاد.."ص71.
3-زمن عصام الثاني يبدأ بلقائه (وديع عساف): (عندما أخذني وديع عساف إلى قمرته والليل كاد ينتصف...)ص72.
وينتهي بنهاية حوار فكريّ على ظهر السفينة والذهاب إلى الغداء: "ومرّ بنا مَلاح يقرع الصنج: لقد أزفت ساعة الغداء.."ص115.
4-زمن (وديع) الثاني يبدأ أيضاً بزمن نفسي وبتحليل علاقته بفالح زوج لمى "من الواضح أن الطبيب لا ينسجم معي.."ص16.(1/298)
وينتهي بانفضاض اجتماع ودي بين إميليا وفالح ووديع: "كان فالح يغازل إميليا بصراحة وساعة افترقنا ذهبا معاً.. ما الذي يهمني من يذهب إلى غرفة من في هذه الزوبعة اللعينة"ص147.
5-زمن (عصام السلمان) الثالث يبدأ بالحديث عن العاصفة وهو زمن تتابُعيٌ يبدأ إذ انتهى زمن وديع السابق: "لم أتحمل العاصفة.."ص148.
وينتهي بعودة عصام ولمى من نابولي إلى السفينة بعد قضاء نهارهما هناك "تكوّمنا في سيارة الأجرة الصغيرة التي أخذتنا إلى الميناء.."ص182.
6-(كسر التناوب) زمن إميليا فرينزي يبدأ بزمن نفسي: "لم أكن أتصور أن الأمر سيكون بمثل هذه الصعوبة فالح على مقربة مني، وكأنه على بعد ألف ميل"ص183.
وينتهي بزمن نفسي أقرب إلى الذاكري: "مدينة تغني، ووحشة لا ينفع فيها الحب؟ فلأخجل، شيءٌ من الموت. شيء من الحياة، شيء من الشهوة. وعودة إلى الأمواج العربية في الروشة. ولكن هناك بقية الرحلة. رحلة الحياة واللاحياة البقية الباقية إلى ما لا نهاية.."ص194.
7-بهذا الزمن يسيطر (عصام السلمان) على كمية الزمن النصي ويتفوق على (وديع عساف) يبدأ الزمن بعودة عصام من نابولي إلى السفينة العودة الثانية في ليلةِ النهارِ ذاته الذي قضاه مع لمى في الفصل السابق:
"عندما عدت إلى السفينة في أول الليل، كانوا يلعبون الورق..." ص195.
وينتهي النّصّ بزمن فالح الذي انتحر ويعرض (عصام السلمان) الرسائل التي كتبها (فالح) إلى (لمى) وإلى (إميليا فرينزي) من ص211-222.
8-الفصل الختامي فصل (وديع عساف) يبدأ الزمن بانتظار مجيء خطيبته (مها) "لم تكن مها لتأتي إلى نابولي في يوم أتعس من ذاك" ص223.
وينهي عصام السلمان النص: "فجأة نظر عصام إلى ساعته وهتف: منتصف الليل لقد انتهوا الآن من الرقص على السفينة"ص240.
زمن السفينة: (سياق النص الزمني):(1/299)
الافتتاحية الزمنية لنص السفينة بؤرة زمنية وهذا الزمن يأتي بعد مضي وقت على إقلاع السفينة وهو زمن ذاكري: ((لمى لم تكن لي إلا ساعات قلائل، ساعات أعرفها كلها دقيقة دقيقة... )) ص5.
وينطلق الزمن الخطي بعد مضي وقت ما على ظهر السفينة ثم يعود إلى البداية الواقعية الحقيقية لزمن السفينة: ((كنا متكئين على سياج الباخرة ساعة العصر عما قليل سيخرجون من قُمْراتِهم ولكنني أستبق الحوادث... لمى عبد الغني حين رأيتها مع زوجها بين الركاب والسفينة بعد راسية... ذلك اليوم عندما رأيتها وأنا أقلّ ما أكون تهيؤاً لرؤيتها)) ص7و8و9.
ثم يعود النّصُّ إلى زمنٍ ذاكريٍّ فيعرضُ مشهداً كاملاً للقاء (لمى عبد الغني) و (عصام السلمان) في السيارة وابتعادهما عن المدينة ووقوع السيارة في مأزق طيني ثم الخروج من المأزق من ص11 حتى ص13 ويعود النص إلى الخطية إذ يلتقي (عصام السلمان) (وديع عساف) في اليوم الثاني على السفينة ((التقيت (وديع عساف) صباح اليوم الثاني... بعد ليلتي المتعبة..)) ص15.
ثم يأتي زمنٌ ذاكريٌّ نفسيٌّ: ((طفولتك ترافقك إنها هناك بعيدة عنك مع ذلك الموج في أقصى الأفق في الجزيرة التي تراها في بحر أحلامك...)) ص16.
ولكنّ هذا الزمن النفسيّ الذاكريّ مرتبطٌ بالزّمن الخطيّ وهو وظيفيٌّ يقوم بدورِ (أُثْقيّة) زمنيّة: ((هذا الصباح قلتها لجاكلين...)) ص16 ويستدعي الزمن السابق العودة إلى الطفولة البحث في الحاضر الزمني للشخصية: ((أنا فوق الأربعين)) ص17.
ويتوقف زمن (عصام) في فصله ليبدأ زمن (وديع) مستمراً ضمن البعد الزمني نفسه الذي يستدعيه الزمن السابق: ((أنا في إجازة أرجو أن تطول سنة أو سنتين)) ص17 ويعود الزمن من أجل غرض خطابي وظيفيّ بعودةٍ ذاكريةٍ إلى الزّمن الحضاريّ ((أتدري كان الإنسان البدائي الذي يعيش على القنص في البراري أكثر حظاً منا..)) ص19.(1/300)
ويعرض النص زمناً نفسياً: ((الذكرى تتحول إلى ما يشبه الموسيقا... تبتعد عنك الوقائع في دهاليز الزمن...)) ص20 ولا ينسى النص أن يزاوج بين الزمن والمكان (دهاليز الزمن).
ويعود الزمن إلى خطيته باستلام عصام السّردَ "كنا أنا وإميليا متكئين على الحاجز نرقب النوارس" ص28 وتستمر الخطية "ما أسرع ما تصادق الناس على البحر، وتتوهم أن صداقتك هذه ستطول مدى العمر" ص28 وتنكسر هذه الخطية ببعض الاسترجاعات ويبدأ الفصل الثاني (فصل وديع) بزمن نفسي خارج نطاق الزمن المرهن أو الراهن، وهو زمن منفي من السياق الزمني الروائي يبدو فيه الزمن الفلسطيني زمناً مستقلاً، لكنه يمتد في كثير من الأحيان متداخلاً مع الأزمنة الأخرى.
ويعود النص إلى الذاكرة غير البعيدة وهذه العودة تنتمي إلى زمن (النص) زمن السفينة وهو بداية الصعود إلى السفينة "اصطدمت بجاكلين وجهاً لوجه عند مأمور الجوازات وصعدنا"ص43.
ويتطرق النصّ مازجاً بين الزمن النفسي والزمن الحضاري والديني: "هذه الروائح المشحونة بالزمن بالعصور الغوابر، بِلَوعات إنسانية وَقْدُها وَقْدُ شموع لم تطفئها ألفان من السنين ومن القيامة إلى المغارة إلى المهد..."ص48.
ويعتمد النص تقنية المشهد ويعرض وديع بداية علاقته بفايز، ثم يعرض العملية الفدائية التي يقومان بها ويستشهد فايز:
1-"أنا وفايز ننحشر بين الجموع، لأن الميلاد الجديد كالقيامة" ص49.
2-مشهد ذاكري: اللقاء بين فايز ووديع ص49 وص50و51و52.
3-في يوم من أيام الربيع التي تنفجر فيها الصخور زهراً اجتمع طلاب المدارس في مقام قبة الصخرة لينطلقوا منها من مظاهرة أخرى.." ص57.
4-في ذلك الصيف الطويل، قضينا أنا وفايز أياماً كثيرة في التجوال."ص57.
5-انتقال زمني: "ذهبت إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وبقي فايز في القدس موظفاً في دار حكومية"ص57.(1/301)
6-تحول زمني يقوم فيه النص بالخطف خلفاً يتناول استشهاد فايز وهو محمول بين يدي وديع: "كنت أراني أحمله جريحاً، تارة بين ذراعي وتارة على ظهري ثم يعود النص إلى سرد تفاصيل العملية الفدائية ضمن زمن منفي خارج الزمن الخطيّ.
ويتحدد تكوين مشهد وديع وفايز كما يلي:
زمن فايز يستمر زمن وديع
زمن وديع مشهد الاستشهاد والزمن
يتوقف زمن فايز
يفتتح الفصل الثالث باللقاء بين (عصام) و(وديع): "عندما أخذني (وديع عساف) إلى قمرته والليل يكاد ينتصف"ص72 وهو زمن تتابعي مستمر تتمة للفصل السابق فصل عصام وسنرى أننا إذا انتزعنا زمن فصول عصام الأربعة وفحصنا زمنها تحت مقياس الخطية الزمنية المتتابعة وجدناها جميعاً تخضع لتتابع زمني مستمر، ولو وضعت متتالية في النصّ لكانت فصلاً واحداً خطيّ الزمن.
-ينكسر الخط الزمني في هذا الفصل بعودة ذاكرية إلى مقتل (جواد الحمادي) عمّ (لمى) على يد والدِ عصامٍ ص76، ويبدو زمن الحوار زمناً خارج الزمن الواقعيّ يستقلُّ بنفسه عن سيرورة الزمن الطبيعي لينتمي إلى الزمن النفسي والفكري وينحرف عن خطية الزمن التقليدية ليمنح نفسه خصوصية شعورية ص77 وما بعدها.
ويعرض النص مشهداً افتراضياً، زمنُهُ أيضاً زمنٌ خارج الزمن الواقعي والنصي هو زمن الرجل الذي يحب المرأتين الشقراء والسمراء ويكتشف بعد ذلك أنهما مساحقتان.
ويسترجع النصّ الماضي مرتبطاً بزمن نفسي: "قبل سنين كثيرة كتبت شيئاً عن أجراس الذاكرة وهي تجلجل في كهوف جوفية صامتة صمت الزمن السحيق الذي يلفّ تاريخ الإنسان هذا التاريخ الصارخ الهادر صمت مليء بالذكرى والرؤى بأربعين ألف سنة من جلجلة الحناجر، أربعين ألف سنة من الصياح والعشق والغضب"ص79.
ثم يعود النص إلى الزمن الخطي بعد استغراق طويل في الزمن النفسي: "كانت السفينة صاخبة بالموسيقى كانوا يروحون ويجيئون حولي"ص79.(1/302)
وينقذف الزمن إلى الخلف قليلاً عبر زمن ذاكري نفسي يشكل بؤرة زمنية نفسية: "في نفسي دائماً ركض على التلال، وسير طويل بين صخور الجبل بل حتى على أمواج بحيرة طبريا، .. المسيح يلازمني حافياً، كبير القدمين"ص80.
ثم ينتقل الزمن، بعد أن يوقف الخطية، إلى زمن مواز افتراضي في مشهد تعبير حضاري يصور فيه رحالة انكليزياً أو فرنسياً يأتي إلى الشرق فيعبر الصحارى ويخوض تجربة حضارية لاكتشاف عالم جديد: "خمس سنوات يقضيها رحالة بين الأعراب بتعلم لهجة من لغة لن يقرأها، ولن يكتبها، ويعود إلى لندن أو باريس عودة قائد مظفر من معركة نائية.." ص81، ينبني هذا الزمن كلية على الفرضية الزمنية وهو لا ينتمي إلى الخطية النصية وإنما ينتمي إلى ما يمكن أن ندعوه زمناً حضارياً موازياً، ويأتي ترهينٌ للمستقبل داخل الذات، إذ يستحضر المستقبل في ذات وديع ويجيء على شكل حُلُمٍ: "أنا انتهت غربتي أو كادت، لقد نقلتُ أموالي إلى القدس واشتريت أرضاً واسعة في قرية قرب الخليل وسأشتري أرضاً أخرى في بيت حنينا، وسأبني بيتاً كبيراً من حجر وأزرع.."ص84، ثم يعود الزمن إلى خطيته ويتأرجح بين استرجاع لذكرى، وسير خطي إلى الأمام، ويقوم النصّ بتلخيص ذاكريٍّ للماضي: "تذكرت حياتي كلّها كطالبٍ في بيروت، وتلك الرّوحات والرّجعات بينها وبين القدس، تلك السّفرات بالسّيارة على محاذاة البحر من بيروت جنوباً إلى رأس الناقورة فحيفا فالقدس.."ص89 ويَسُودُ الزمن الخطي طويلاً "محاولة انتحار الرّاكب ص91، وليلة أخرى جديدة (وقد طلع قمرٌ متأخر) ص94 ويستمر حتى ص97.
ويستخدم النصّ تقنية الحوار كثيراً لترهين الماضي واستحضاره ص98 مثلاً.(1/303)
يفتتح عصام فصله بزمن ذاكري وذلك بالعودة إلى زمن الدراسة وعلاقته القديمة بفالح، وبحركة تأرجح يرصد كثيراً من العلاقات في الزمن (علاقة لمى وعصام في انكلترا) (دراسة فالح في إدْنِبرَه) وتحدث خلخلة في الزمن (عدم تعيين) وهذه الخلخلة تأتي في إطلاق لغة غير محددة على الزمن مثل "في ليلة، في أحد الأيام، جاء إليّ صباحاً.." وهي متكررة كثيراً في النص.
ثم يأتي مشهد زمني مسترجع يُرَهّن قصة (محمود) مع صديقه في الطفولة عندما ضحك محمود وعُوقب زميلُهُ الذي لم يشأ أن يشي به تعبيراً منه عن شهامته، ويبقى هذا الزمن محمولاً في ذات محمود بؤرة نفسية ص109 وما بعدها. ويبدو أن هذا الفصل مخصّص للاسترجاع الذاكري، إذ يعرض فالح قصته مع الكلاب التي نهشته عندما خرج في الليل لإسعاف أحد المرضى، ص119 وما بعدها والملاحظ أيضاً أن جميع الاسترجاعات تشكل بؤراً زمنية ذات دلالات نفسية محمولة في ذوات أصحابها. ثم تتم بعض الاختصارات الزمنية لوصف الزمن الإجرائي: (أفقت من النوم متأخراً)ص136.
(تبقى السفينة في مرساها يومي الخميس والجمعة ثم تستأنف إقلاعها صباح السبت)ص143 ويجري الزمن سريعاً في تداخلات زمنية وتغلب عليها الاسترجاعات الذاكرية ص7: (مرة كتبت لها كلاماً كهذا تعقيباً على رسالة منها: انتظريني أحياناً ولا تنامي الليل هذا ما أريده أريد أن أورقك عشقاً وشبقاً)ص143 "في أي زنزانة كان محمود يتخيل نفسه في تلك اللحظة.." ص43، وتنكسر الاسترجاعات باستباقٍ وظيفي: "مها قادمة يوم الجمعة وحتى ذلك اليوم ربما انتفضت جاكلين أيضاً تحت يدي كالسمكة..."ص143 وهذا الاستباق موضوع في الحسبان الزمني للنص ولمنتجه (الروائي) ولمنجره الراوي: "أضحى المستقبل لكل مسافر أهم من الماضي وغدت اللحظة الحاضرة الجرعة الجحيمية التي تخلط الأحشاء وتخربط الدواخل.."ص144.(1/304)
-يتداخل زمن الافتتاحية في الفصل التالي، فصل (عصام) مع جزء من فصل (وديع) السابق له، وهذا التداخل مُسوّغ على المستوى الواقعي، لأن هناك تداخلاً واقعياً حقيقياً في زمنيهما، والبداية تعود إلى الزمن النفسي البؤري بالنسبة لعصام، وهو مقتل (جواد الحمادي) على يدي والده، الزمن الذي لم ينقضِ، وإنما استمر مُسْتَنسْخَاً في ذات الزمن الاجتماعي ليَحْكُمَ على عصام حكمَهُ الظالم: "لقد ضَحِكَتِ الآلهة من قبلُ عندما جَعَلَت أبي يطعن (جواد الحمادي) بخنجرٍ في قلبه، وبعد ذلك بعشرين عاماً أرسلَتْ ابنةَ أخيهِ تتصيّدنُي في مرقصٍ للطلاب في لندن في شوارع إكسفورد.."ص150. ويتكرّر الزّمن النّفسي كثيراً في نصّ السّفينة وذلك طبيعيّ، نظراً لأنّ جوّها مشحونٌ بالمُطلق (كما تحدثنا في فصول الخطاب سابقاً) المطلق النفسي والمطلق الحضاري والمطلق الجنسي.. "كنت أعلم أنني بمرور كلّ ساعة أقتربُ خطوة واحدة من الحافة الزلقة بل إنني بعد تلك الأيّام الصّعبة الأولى، أردتُ أن أركض إلى الحافة ركضاً..."ص53.(1/305)
-يعودُ النص إلى خطّيّته على السفينة بإعلان رحلة جماعية للركاب إلى جزيرة كابري: "عندما كنّا على وشك الرّسو في خليج نابولي كان المسؤولون في السفينة قد أعلنوا أنّهم رتّبوا للرّكّاب سفرة جماعية يقومون بها صبيحة اليوم التالي إلى جزيرة كابري.."ص153 وهذه العودة الخطية تعد افتتاحية بؤرية لزمن سيؤدي إلى بؤرة حدثية هي انتحار (فالح)، ويستمر الزمن خطياً.. "بعد العشاء كانت السفينة حديث الجميع.."ص153، "أفَقْتُ من نومي صبيحة اليوم التالي متأخراً.." ص156 لأغراض نفسية يقوم النص ببعض الاسترجاعات ص159-161-162-164-165 من هذه الاسترجاعات: أيّام الدّراسة في لندن، الخلاف بين أسرة لمى وأسرة عصام في العشرينات، ثم يتحدث عصام عن لقائه المفاجئ بوالده عندما يحضرُ والدُه فجأةً خلسةً إلى البيت، لأنه ملاحق من السلطات: بداية الخلاف (العشرينات) لقاءُ عصام ووالده، وما يلاحظ أن الفصل الحاليّ غنيّ بالاسترجاعات، لأن الرّوائي أحسّ بأنّه لا بدّ من العودة إلى الماضي لإعطاء الفعل الروائي مرتكزه الواقعي، ولأن الماضي المعروض يشكّل أهميّة للنّص: "كنت لسنتي الأخيرة في لندن، وبغداد تفور وتمور وتغتلم والناس فيها يرتفعون إلى الذرى وينخفضون إلى الحضيض.. هذه كانت أشهر عام 1959، أشهر الصراع في الشارع والصراخ في المذياع والصراخ في الزنازن.."ص170.
ويعرض الخطاب مجموعةً من هذه الذكريات بحثاً عن دلالات خطابية خاصّة. متقاطعة فيما بينها ومتداخلة زمنيّاً إلى درجة الضبابية والاستغلاق بعض الأحيان، ويقضي عصام ولمى نهاراً كاملاً في نابولي بعد خروج الرّكاب إلى جزيرة كابري وفي الوقت نفسه يقوم فالح وإميليا باللقاء في نابولي.(1/306)
-يبدأ زمن جديد في فصل إميليا بافتتاحية زمنية نفسية والزمن الذي يريد النص استدراكه هو زمن علاقة إميليا بفالح، لذلك اضطرّ إلى إعطاء إميليا دفّة السّرد بالتمهيد لانتحار فالح ولعرض الموازاة الزمنية للنهار الذي قضاه عصام ولمى في نابولي. تستعيد إميليا بعضاً من مجريات علاقتها بفالح على ظهر السفينة: "مرة جرّرْتُه جرّاً من بين وديع ومحمود متحجّجة بأنني أريده أن يفحصني.. ومرّ ذلك اليوم العاصف بعد الغداء وزوجته طريحة الفراش.."ص183وتعود إلى ما قبل زمن السفينة ذاكرياً "عندما أبرق فالح إليّ من بغداد لأحجز لنفسي مكاناً في هذه السفينة"ص184.
وتبدأ اميليا بعرض التسلسل الزمني لخروجها مع فالح في اليوم الذي يفترض أن يكونا مع الجميع في رحلة جزيرة كابري:
1-"لنترك المركب.. لمى متوعكة وستبقى في السفينة فلنذهب إلى نابولي وحدنا"ص185.
2-يكتشف فالح أن عصام ولمى يسيران معاً في الطريق "رأيت فالح ينظر إلى الرصيف الآخر من الطريق.. ويصعق. نظرات إلى حيث اتجهت عيناه، ورأيت لمى وعصام يسيران، ذراعاً بذراع.." ص187.
3-ذهبنا في سيارة إلى فندق مكيف الهواء.. وصعدنا إلى غرفة في الطابق الخامس تشرف على الخليج الكبير"ص187.
4-عودة ذاكرية إلى زمنِ تعرُف إميليا إلى فاتح في حفلة للأطباء ونشوء العلاقة بينهما.. "قضينا إجازة طويلة في المدن التي أعرف بعضها جيداً"ص191.
5-عودة إلى زمن نابولي في الفندق وسرد مجريات اللقاء بين إميليا وفالح.. ص191.
6-الخروج من الفندق والتجوّل والدخول إلى مطعم.. ص193-194 وانتهاء الفصل بزمنٍ نفسيّ عرضنا له في الحديث حول الفصل وتقنيتها الزّمنية.(1/307)
-يبدأ الفصل الأخير لعصام السّلمان بالعودة إلى السّفينة: "عندما عدت إلى السفينة في أوّل الليل كانوا يلعبون الورق" وتتم الاختزالات الزمنية المتلاحقة "كان على السفينة أن تقضي في نابولي يوماً آخر"ص196 ثم العودة إلى الزمن الحضاري: "فرانشكو سليمينا ذلك الذي عاش نصف عمره المديد- 90 سنة- في القرن السابع عشر والنصف الثاني في القرن الثامن عشر، وطغى نفوذه الأسلوبي والفكري على فن نابولي لعشرات السنين"ص197 "في أيّ طرفٍ أقصى كان عربُ الأندلس في عصر زرياب؟ وأين كان العرب في عهد الرشيد والمأمون حتى امرؤ القيس الجاهليّ هل كان إلا في إحدى قمم الحضارة.."ص198.
-ثم تجري بعضُ اللقاءات على ظهر السّفينة. وتكتشف لمى انتحار فالح: "في أيّة ساعةٍ من تلك الليلةِ انتحر فالح. قبل الثانية أم بعدها على الأرجح قبلها"ص208.
ويعرض النّصّ زمناً خاصّاً لا ينتمي إلى الزّمن الخطيّ وهو زمن ذاكري (زمن مذكرات فالح) وفق ما يلي:
1-أجريتُ اليوم عمليّة فاشلة على فتاة في السّابعة عشرة ماتت، أمس أجريت عملية على رجل تخطى السبعين عاش سيعيش"ص212.
2-ويستمر الزمن نفسياً يعرض السيرورة النفسية الداخلية لفالح.
3-ينقطع زمن فالح ويعود النص إلى الزمن الخطي ويقرر الجميع العودة إلى بغداد بجثمان فالح.
4-يختتم الزمن النفسي باسترجاع ذاكريّ لفايز الشهيد ص240 أما الزمن الخطي فيختمه عصام "فجأة نظر عصام إلى الساعة وهتف: منتصف الليل لقد انتهوا الآن من الرقص على السفينة"ص240.
الزّمن في البحث عن وليد مسعود:
إذا كان لنا أن ننشئ خطّاً بيانياً يُوضّح مدى تطور القدرة الزمنية في النصّ الروائي لجبرا، فإن ذروته القصوى تتحدد في البحث عن وليد مسعود. إذ ينضجُ الزّمن النّصيّ وينتظم وفق نظام خاصّ، ويستقر نظام الفصول فيه بعد أن كان تجريبياً في السفينة.(1/308)
-الفصول الزمنية، التنظيم: يمتاز النصُّ الزمنيّ هنا بعنونة الفصول وهذا مُفتقد في السّفينة التي كانت تُعنون الفصل باسم الراوي وهذه العنونة ذات دلالات زمنية:
1-عنوان الرواية: "البحث عن وليد مسعود" نجعل كلمة البحث مركزاً وسطاً في معادلة زمنية طرفُها الأول الماضي قبل اختفاء وليد مسعود، والطرفُ الثاني ما بعد اختفائه وهو عمليّة البحث، وعملية البحث هنا ليست عملية حدثيّة بالمعنى اللغوي الصِّرْف، وإنما دلالة نفسية يمكن أن نستبدل فيها الوعي بالبحث ونطلق (وعي وليد مسعود) بمعنى (وعي الآخرين إيّاه) على الرّواية، وهذه المعادلة التي ينتجها العنوان تحدّدُ بدقّة ثلاثية الزّمن في الرّواية وفق ما يلي: أولاً زمن ما قبل اختفاء وليد مسعود، وهو الزمن الأهم في النصّ يقوم بترهينه بعملية نفسية في سبيل وعي أغراض الخطاب. وثانياً زمن ما بعد اختفائه؛ وهو زمن قصير نسبياً ينتمي إلى زمن القصّ وإلى زمن النصّ معاً بمعنى أن هذا الزمن جزء من زمن النصّ وهو تتمة للجزء الأول الرئيسي وجزء من القصّ؛ لأنه يأتي بعد عملية الاختفاء التي كانت سبباً مهماً في اللجوء إلى القص. وثالثاً: الزمن النفسي الذي يطغى على النصّ ويكاد يلغي فاعلية الزمن الطبيعي بكل أنواعه.
2-الفصل الأول: (د. جواد حسني يتسلّم تركة صعبة) الدلالة الزمنية في هذا العنوان يشي بها الفعل (يتسلم) وفحوى الزمن فيه إشارة إلى (بداية شيءٍ ما) وصيغة (الحاضر) مشفوعةٌ بإيحاء بالمستقبل ووفق ذلك يتحدد زمنُ هذا الفصل. يبدأ الفصل بزمنٍ نفسيّ يعي (الزمن) وعياً كلياً وينتهي في نقطة "عدم تعيين زمني" بحوار يتكئ على خاتمة زمنية.
3-الفصل الثاني: "د. جواد حسني يبدأ البحث مستدلاً بشيء من منظور كاظم اسماعيل وإبراهيم الحاج نوفل).(1/309)
وكما وجدنا دلالة الزمن في الفصل الأول نجدها هنا في الفعل (يبدأ) البحثَ ولكن العنوان غيرُ دقيقٍ الدلالة فالبداية حدثت منذ الفصل الأوّل ومجرياته جميعاً ابتداءً من سماع الشريط الذي سجله وليد قبل اختفائه وانتهاءً بالتساؤلات والأسئلة التي طرحها جميع الأشخاص والدكتور جواد بخاصة. يبدأ الفصل باسترجاع الذكريات عن حياة وليد، وهذه البداية استمرارٌ لمجريات الفصل الأول وينتهي بحوار إبراهيم الحاج نوفل ودعوته الدكتور جواد على العشاء.
4-الفصل الثالث: (عيسى النّاصر يشهد موت مسعود الفرحان، بعد أن عاصر بعضاً من حياته): يظل المضارع الضابط الزمني للفصول وهو دلالة ترهينية للماضي الذي يعرضه النصّ، ينتمي الفصل إلى الزمن الذاكري، وهو مسلوخ عن الجَسَدِ الزمني للنصّ، وليس زمناً استمرارياً تتابعياً، يبدأ كما الرواية بالخطف خلفاً من لحظة دفن (مسعود الفرحان) ثم يتراجع متدرّجاً في سلسلةٍ زمنيةٍ متأتيةٍ نحو الوراء (الأمام الافتراضي) "كان المطر يَهْمي علينا، ونحن نُهيل التراب اللزج على مسعود فرحان بسرعة" ص89 وينتهي الفصل بزمن "ريمة أنطون سالم" زوجة وليد: "رأف الله بأنطون سالم فاختاره إليه قبل أن يرى ما حل بابنته.."ص110.
5-الفصل الرابع "وليد مسعود يتذكر النَسّاك في كهف بعيد": (يتذكر) الصيغة المركزية للتبئير الزمني في الرواية وفي الفصل يبدأ الفصل بالهروب من الدير: "بعد غياب الشمس بقليل، تسللنا من بوابة القسم واحداً واحداً، كما يتسلل الهاربون من سجن.."ص113 وينتهي بالعودة إليه وتلقّي العقوبة ص133.
على الرغم من سيطرة الزّمن الطّبيعي على هذا الفصل: فإن الزمن النفسي المبثوث في جميع أرجائه يُلغي سيطرته ويمتدُّ على مساحة التأثير وهو فصل منفصلٌ عن خطيّة الزّمن التقليديّ الذي بدأه د. جواد حسني.(1/310)
6-الفصل الخامس: الدكتور طارق رؤوف يتأمل في برج الجدي. نشير أيضاً إلى الدلالة الزمنية (يتأمل) وهو دلالة زمنية نفسية، ولذلك لم يأتِ الزمن طبيعياً. وإنّما استعان النصّ بالزمن الفلكي لأداءِ الدلالات الخطابية المتعلقة بهذا الزمن، يبدأ الفصل بزمن فلكيّ: "كان وليد مسعود من مواليد برج الجدي. فقد ولد في الخامس عشر من شهر كانون الثاني أي أنه ولد وبرج الجدي، كما يقولون في صعود" ص137 وينتهي بزمن نفسيّ مُصَعّدٍ ص174.
7-الفصل السادس وليد مسعود يكتب الصفحات الأولى من سيرته الذاتية، الفصل عودةٌ ذاكريةٌ إلى طفولة وليد وشبابه وهو تتمة أو استمرار للفصل الرابع "وليد يتذكر النساك" يبدأ بزمن نفسي "منذ أن وعيت كانت المعركة أبداً هي نفسها بيني وبين نفسي، بيني وبين الآخرين، بيني وبين العالم"ص177.
وينتهي كذلك بزمن نفسي "فليكن الألمُ نصيبي بعدَ اليوم، وهو نصيب الإنسان إذا ما سقط: فالسُّقوط إلى الزّمن إنما هو الدخول إلى دنيا الفعل.."ص193.
8-الفصل السابع: "مريم الصّفّار تتعلقُ بصخرةٍ تسكنُ أعماقها.. تتضاعفُ في هذا الفصل صيغةُ المضارع (تتعلق، تسكن) وهو تأكيد ترهين الزمن وبخاصة الزمن النفسي، لأن المتخيل يستدعي مثل هذا التأكيد، فالعنفُ النفسيّ الذي نجده في الفصل يحتاج إلى ترهين عنيفٍ وهو لا يتم إلا بالمضارع وبتكراره يبدأ الفصل بزمن عامر عبد الحميد تمهيداً للولوج في الزّمن النفسيّ "أين يقع رجلٌ كعامر عبد الحميد" وينتهي الفصل بزمن ترميزي نفسي زمن الصخرة: "ما الصخرة إلا باقية مكانها.."ص238.
9-الفصل الثامن: وليد مسعود يخترق أمطاراً تتجدد:(1/311)
لا حاجة بنا إلى إعادة الكلام في تكرير صيغة المضارع، وهذا الفصل هو الثالث الذي يسرده وليد ويُتِمُّ به سيرته الذاتية، ويبدأ بزمن نفسيّ "مطر، ما أعذبه، ما أمرّه، أحبّه، أخشاه، أترقبُه، وأتمنى استمراره وأتمنى انقطاعه.." ولنلاحظ تكرار صيغ المضارع، تتكرر الصيغة خمساً وعشرين مرة في صفحة واحدة 241 وهي ليست صفحة كاملة (18سطراً) وينتهي الفصل بزمن نفسي أيضاً: "كلّما سقطت الأمطار ذكرْتُ هموم أمتي.. ذكرت تخبطاتها وأوجاعها، وامتلأت حزناً وفجيعة"ص249.
10-الفصل التاسع: وصال رؤوف تكشف أوراقها:
يبدأ الفصل بزمن نفسي "المُعجزات، إنها تهبط عليك من السماء كصرة ملأى باللآلئ، يسقطها في حضنك طيرٌ كبير.."ص253 وينتهي بزمن الحوار بين وصال وأخيها طارق ص294.
11-الفصل العاشر: مروان وليد يقتحم أم العين مع رفاقه، يبدأ الفصل بالمكان الممتزج بالزمان: "رامات يوسيف تكاد تكون على الحدود وهي في الأصل قرية عربية تدعى أم العين احتلها (الإسرائيليون) عام 1948" وينتهي بالزمن النفسي.
12-الفصل الحادي عشر: "إبراهيم الحاج نوفل ينبش الكوامن حتى الفجر": هذا الفصل هو الفصل الوحيد الذي صرح فيه الكاتب بمستلزم لغوي للزمن (الفجر) وهو مرتبط بصيغة المضارع لزيادة قدرة الترهين النفسي.
يبدأ الفصل بزمن نفسيّ تفجعي ص307 وينتهي بالفجر بتعيين زمني ذي دلالة خطابية، دلالة الكشف والعُري ويصرّح بذلك راوي الفصل: "الفجر؟ إنها عوراء البارحة.."ص359.
13-الفصل الثاني عشر، الفصل الختامي: د. جواد حسني يعد بالمزيد" الفصل الثالث لجواد حسني، وهو استمرار للفصلين السابقين الذين سَرَدهُما، يبدأ بالحديث عن وليد ص363 وينتهي بعملية حسابية للزمن يلخصُ فيها (وليد مسعود) بتساؤل: هل كان وليد إلا حاصلَ حياتهِ وحياةِ المحيطين به، حاصلَ زمانِهِ الخاصٌ وزماننا العامّ في وقت واحد؟ رأى زمان كان كلاهما، زمانه وزماننا"ص379.
نتائج:(1/312)
أ-التداخلات الزمنية بين الفصول السابقة على مستوى زمن النصّ موجودة لكنّ التصريح بها في النصّ قليل ووجودها يُستنتج من عمليات القصّ التي يقوم بها الرواة أنفسهُم، وعدم التصريح مسوّغ بل مطلوبٌ من منتج النص لتجنّب التكرار والإطالة غير المسوغين.
ب-جاءت أكثر افتتاحيات الفصول وخواتيمها زمناً نفسياً مُرَهنَّاً بصيغة المُضَارع، وهي فحوى البحث عن خَلْقِ المعادل النفسيّ في لمِتلقّي.
جـ -التَّرْهِيْنُ الزّمني نَزَّاعٌ إلى ترهين الماضي فقط (ما عدا فصلي د. جود حسني الأول والثاني، فقد كان فيهما نزوع إلى ترهين المستقبل والترسيمة التالية تصنيف العملية السابقة:
الماضي الترهين الراهن المستقبل
مشغول الراوي فراغ ...
-سياق النصّ الزّمنّي، التنظيم:
-الفصل الأول: في مفهوم الذاكرة والذاكري: "تمنيت لو أن للذاكرة إكسيراً يعيد إليها كل ما حدث في تسلسله الزّمني، واقعةً واقعةً، ويجسدها ألفاظاً على الورق.."ص11 (أمكنة) الزمن.
"نحنُ ألعوبة ذكرياتنا، خلاصاتها وضحاياها معاً.. كيف نمسك بهذه الأحلام المعكوسة، هذه الأحلام التي تجمد الماضي وتطلقه معاً.."ص11 ويحدّد النّصّ ماهية الذكريات (حُلُم معكوسٌ) لأن الحلم نزوعٌ نحو المستقبل لكنّ الذكريات نزوع نحو الماضي.
الحلم مستقبل، الماضي حلم معكوس
وهذه الفرضية تمهيدٌ زمنيّ وتبئير نصيّ أيضاً، لأنها تتكرر على مدى صفحات الرّواية، لم يبدأ زمن السرّد الخطيّ في افتتاحية الرواية وإنما بدأ زمنٌ نفسيٌ تصويريٌ تمهيداً للولوج في عالم القص وزمن النص:
الماضي الحلم ملغى من الزمن النفسي المستقبل
ذكريات
أحلام عكسية حاضرة
في الزمن النفسيّ
-"في الشباب نخجل من الاستغراق في الذكريات لأن الحاضر والمستقبل أهم وأضخم ولكننا مع تقدم السنين يقل فينا الخجل من الانزلاق نحو الذكريات"ص11.
الماضي الراهن (الشباب زمن تخييلي نفسي التقدم بالسن (راهن تخييلي نفسي(1/313)
ذكريات ملغى في المستقبل (الحلم) الانزلاق نحو الذكريات
الزمن النفسي
-افتتاح الزمن الخطي: "كانت معرفتي بوليد لا تنأى عمقاً في الزمن فحسب أو في المكان فحسب"ص12.
-تلخيص واسترجاع ذاكري: "في السنوات الأخيرة كنت أرقبه وأخشى عليه.."ص13.
-زمن ذاكري نفسي: (للطلاب الجامعيين أن يتشاءموا أو يتفاءلوا.. أما وليد فقد مرّ بذلك منذ سنين بعيدة.."ص14.
-زمن منفي من النص، افتراضي: "كان يقول لو أنه عاش في عصر مضى لربما استطاع أن يتحدث عن إمكانية إيجاد التوازن في الفن في الدين في التوحد بالجمال"ص14.
-البؤرة الزمنية الرئيسية النقطة التي يجب أن يبدأ الزمن منها، لكن النص يؤجلها ليعطي الزمن النفسي مجاله في الانتشار والتعمق، لأنه أهم وأعمق دلالة من الزمن الإخباري: "جاءني وليد صباح يوم اختفائه" ص15.
-اختصار زمني اضطراري ذو دلالة خطابية، "بقيت أياماً لا أستطيع إلا التفكير فيه.. عشرون سنة من صداقة بيننا انتثر عقدها"ص17.
-استمرار الزمن الخطي، جاءني إبراهيم الحاج نوفل مساءً.. وفي ذلك المساء تلفن إليّ الدكتور طارق"ص17.
-عودة إلى البؤرة الزمنية (لحظة البدء الواقعي للنصّ) اختفاء وليد: "كنّا أنا وكاظم مسافرين في سيارتي إلى اليونان، وعندما انتهينا من معاملات السفر.. عند منتصفِ الليل.. رأينا وليداً يدخل وبيده جواز سفره حييناه وودعناه"ص18.
-الاستمرار في الخطيّة باستباق زمنيّ، "غداً سأذهب إلى كاظم إسماعيل.."ص18.
-قفز زمني في مسيرة الخطّ: "بعد أكثر من شهرين مرّ بنا عامر في إحدى الأماسي وطلب إليَّ أن أُسْمِعَهُ الشريط"ص20.
-عودة إلى الزّمن الخطيّ، اللحظة الثالثة في سلسلة اختفاء وليد: أدهشني الشّريط عندما سمعته لأول مرّة" ص19.
-استمرار الزّمن الخطيّ باستماع الجميع إلى الشريط الذي سجله وليد قبل اختفائه "كانَ الخميس يوماً قائظاً، وجاء الليل واعداً بشيء من نسيم"ص21.(1/314)
-يعترضُ سيرورة الزّمن السّردي الخطيّ مشهد زمني خاصّ على شكل تلخيص زمنيّ متداخل يلخّص مجريات حياة وليد مسعود ويقوم وليد نفسه بسرده، وهو زمن قبل بدء عملية القصّ منفيّ خارج زمن القصّ الرئيسي ولكن د. جواد ومجموعة أصدقائه يعيدون قراءته أي يعيدون سرد النص الزمني للشريط، ولكن النصّ يستعيده لينتمي إلى العملية الزمنية، ويجري زمن الشريط كما يلي:
1-زمن ذاكريّ عودة إلى الطفولة: "كيس للكتب أخضر بلون الزيتون.."ص26.
2-زمن في بغداد مع (شهد): "لو تجعل لك شارباً كخط أسود فوق شفتك العليا كأنه مرسوم بالفحم.. وهي غارقة في الكرسي الكبير.. أيام كنا نذهب إلى البحر ونتلقى الريح العاصفة.."ص26.
3-زمن ذاكري العودة إلى الطفولة: أبي الذي قبل أن يموت كان ملقى على أرض الغرفة كسنديانةٍ ضخمةٍ أسقطتها الرّيح.."ص27، "تعلمت ذلك في المدرسة وأصابعي تعجز عن المسك بالقلم لشدة البرد"
4-عودة إلى زمن (شهد): (آه يا شَهْدُ اسمك غريبٌ مثلك) ص28.
5-زمنٌ ذاكريّ ص2
6-زمنُ بغداد ص30
7-زمنُ مَرْوان ص31
8-زَمن ذاكريٌ ص33.
إنّ الزمن الذي يحكم الشريط، زمن نظاميّ أي أنّه يخضع لنظام متقنٍ تتناوبُ فيه تقنيتان زمنيتان رئيسيتان: الزّمن الرّاهن النسبي بالنسبة لزمن حياة وليد في بغداد وعلاقاته، والزمن الذاكريّ المتعلّق بطفولته وحياته ما قبل بغداد.
-ثم بعد ذلك يعودُ الزّمن إلى خطيته بعد انقضاء زمن الشريط الذي خلق فراغاً في الزّمن الخطيّ: "ما كاد الشريط ينتهي حتى شعرت بأنني أرتكب حماقة"ص34.
الفصل الثاني: افتتاحيته استمرار زمنيّ للفصل الأول، وهي بحث في حياة وليد مسعود، وهو زمنٌ ذاكري كليةً يُرَهّنُ الماضي وفق ما يلي:
-زمنٌ ذاكريٌ "بعد حصولي على الدكتوراة، توثقت العلاقة فيما بيننا أكثر مما مضى.
-استباق زمنيّ: "بعد عشرين سنة لعلّ الناس سيعرفون من المخطئ حقاً" ص46.(1/315)
-زمن خطّي (تلخيص) "اليوم عدْتُ إلى الأوراق فوجدت فيها خلاصة رمزيّة تنبؤية للشخصية التي بقيْتُ على صلة بها قرابة عشرين عاماً" ص74.
-زمن ذاكريّ: "قبل سبع سنوات تزوج كاظم من ماجدة الصباغ.." ص57.
مشهد زمني: (قصة كاظم ووليد في خلافهما حول كتاب وليد الإنسان والحضارة) وهو زمَنٌ مسترجَعٌ لكنه زمن خطيّ تقليدي في داخله في تكوينه يسير وفق تسلسل زمني تتابعي منذ ص60 حتى 66.
-استمرار الزمن الخطي ص67 حتى 78.
-زمن ذاكري (في الخمسينات كان إبراهيم يتوقف عند الذروة الساخطة ولا يهبط هكذا كان عصر ذلك اليوم من عام 1957 الذي رأيته فيه".
(أحوال العراق، جمال عبد الناصر، حلف بغداد، وليد وريمة، السفر الجديد، التردي الاقتصادي) ص80 وهذا الزمن الذاكري تلخيص كثيف لمجريات العالم الواقعي في ذلك الزمن في جميع تنوعاته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
-عودة ذاكرية تبحث في الزمن النفسي: "أعظم الحروب تستغرق بضع سنوات الحرب العالمية مثلاً والتي قبلها أما بالنسبة لوليد ورفاقه؟ خمسون سنة من الصراع من إسعار الحقد كان منذ خمس وعشرين سنة يدعو إلى تأليف جماعات سرية"ص83.
-بعض الاسترجاعات داخل زمن النص ص86.85 حتى نهاية الفصل.
-الفصل الثالث: يستغرق هذا الفصل كليّة مساحة ذاكرية وعيسى الناصر راو متقدم على الزمن الخطي للرواية ولكنه مستقل بزمنه الخطي الخاص.
-يفتتح النُصّ الزّمني بالخاتمة الواقعية، دفن مسعود الفرحان ص89.
-عودة إلى الوراء زمن ذاكري: "كان ذلك فيما أذكر سنة 1950 أو بعدها بسنة"ص91.
-القفز إلى بداية تَعرُّفِ عيسى الناصر إلى مسعود الفرحان
(قفز إلى الوراء) (عرفته منذ سنين بعيدة لعلني كنت في السادسة عندما كان هو في شبابه"ص93.
-زمن ذاكري أعمق مستوى ثالث: "كان أبو مسعود قد شاخَ ووهن وانقطع عن الخروج بعربته"ص93 ويستمرّ الزّمن الذاكري حتى ص99.(1/316)
-العودة إلى المستوى الذاكري الذي يشكّل الزّمن الخطيّ لفصل عيسى الناصر.
-اختصار زمنيّ "في سبع أو ثماني سنواتٍ رُزِقَ مسعودٌ خمسةَ أولاد وكلهم ذكور”ص101.
-ذاكريّ نسبيّ: "آه كان ثمّة عصرٌ انقضى كلّما عاد ذهني إلى العشرينات وتذكرت كيف تحوّل عاشقُ الحصان إلى سائق سيارة" ص101.
-تقاطُعٌ زمنيٌّ بين الفصول بين فصل (وليد يتذكر النسّاك) وفصل (عيسى الناصر) "يوم هرب مع اثنين من رفاقه من الدير واكتشفوهم بعد يومين أو ثلاثة في كهف في أعماق وادي الحمل"ص103.
هذا الزّمن يعدّ تمهيداً ملخّصاً من أجل الوصول إلى الفصل القادم (وليد مسعود يتذكر النساك).
-تقاطع زمني آخر بين هذا الفصل وفصل (وليد مسعود يكتب صفحات من سيرته الذاتية) وهو كذلك تمهيد تلخيصي له: (أُرسل وليد إلى إيطاليا وعمرُه ثلاث عشرةَ أو أربعَ عشرة سنة قُبيل إضراب فلسطين بسنة أو بسنتين، وقد تزوجتُ أنا في السنة التالية للاضراب، وهي السنة التي عاد فيها أبو وليد من بوغوتا عاصمة كولومبيا عام 1937" ص103.
-الدّخول في الزّمن الفلسطيني: "قبل نهاية الحرب بقليل عام 1944 نسف الإرهابيون اليهود تلك الدائرة وقتل فيها إلياس مع بضعة أناس آخرين"ص14.
-ويرصد النصُّ ظهور جيلٍ زمنيّ جديد: "في أواخر الأربعينات ثم في الخمسينات، أعوام التشتت الفلسطيني الأولى كانت هناك عوالم تبهرني، ولكني لا أفهمُها، أمّا وليد فقد كانت هي الجو الذي لا يستطيع التنفس إلا فيه.." ص108.
-استمرار في الزّمن الفلسطيني: "في عام 1948 عادت العائلة إلى بيت لحم.. غير أن وليداً التحق بالمجاهدين في الأشهر الأولى من السنة ثم ذهب إلى دمشق والتحق بجيش الانقاذ"ص106 وينتهي الفصل بوفاة أنطوان سالم (والد زوجة وليد): (رأف الله بأنطون سالم فاختاره إليه قبل أن يرى ما حل بابنته"ص110.(1/317)
الفصل الرابع: يبدأ الفصل بتحديدٍ زمنيٍّ واقعيٍّ وذلك حتميٌّ، لأن الحدث (الهروب) يجري في هذا الزمن: "بعد غياب الشمس بقليل تسللنا من بوابة القسم الخارجي واحداً واحداً"ص113.
دائماً يبدأ النص من نقطة التبئير الزمني للحدث من تنفيذ الحدث كما رأينا في الفصل السابق.
-عودة ذاكرية: "النبي دانيال ألقي به في جُبّ الأسود فألَجَمَ أفواه الأسودِ وأخضعَها ليديه"ص116.
-عودة إلى ما قبل تنفيذ الهرب: "قررنا ثلاثتنا الهرب"ص118، "اخترنا يوم عيد العذراء للبدء برحلتنا المقدسة"ص119.
-يستمرّ الزمن الخطيّ (كم ساعةً مرّت علينا منذ بداية الرّحلة نحن الآن في حوالي منتصف الليل يعني أننا قضينا تقريباً أربع ساعات في السّير، بعد ساعة أو ساعتين سنصل"ص120.
-الوصول إلى الكهف وفي اليوم التالي الخروج للبحث عن الطعام.. منذ ص120 حتى 130 يسير الزمن خطياً.
-العودة إلى الدير: "هكذا بالقوة أعادونا إلى الدير، هناك وجدت أمي في الانتظار مع بعض أقارب سليمان وداوود.." وهذه نهاية الفصل.
الفصل الخامس: افتتاحية الفصل زمن نفسي فلكي يستخدم لغرض خطابي "كان وليد مسعود من مواليد برج الجدي" ص137 ويتقاطع هذا الزمن المُسترجع مع فصل عيسى الناصر الذي سرد زمنَ ولادة وليد: "سُمّي الولدُ (خميس) وتحوّل اسمه إلى وليد"ص100.
-يبدأ الزمن برسالة وقعت في يد (طارق رؤوف) مدير هذا الفصل والرسالة زمنٌ منزاحٌ استرجاع زمنيّ ذاكريّ، ولها زمنها الخاصّ وهو زمن ترهينيّ يعتمد ترهين الزّمن الماضي والمستقبل معاً في الحاضر.
-زمن جنان الثامر زمنٌ بسيطٌ ذاكري لقاء بينها وبين وليد في بيت ريفي خارج لندن" ص145.
-زمن مريم "كانت مطلقة أو على وشك الطلاق، التحقت بجامعة ساسيكس بانكلترا للدراسة للماجستير بعد طلاقها كان ذلك في أواسط الستينات"ص146.
-سرد زمن علاقة مريم بوليد ص147-148.(1/318)
-زمن لقاء مريم بطارق، زمنٌ مفاجئ بداية لمشهد زمني لعلاقتها "أتت ذات يوم وأخرجت من حقيبتها دفتراً مدرسياً ولوحت به أمام عيني، مذكراتها.."ص148.
-تداخل زمني بين زمني (مريم الصفار الذي يسردُهُ طارق نفسه) وبين (زمنه الخطيّ في فصله)ص105.
-زمن المذكرات (طارئ زمني جديد) الزمن في المذكرات غير محدد (عدم تعيين) أي أنّه غير محدد الانتماء الدقيق إلى النص الزمني، وإنما هذا الزّمن مقتطع من السيرورة (صباحاً تلفون من الذات للذات.. 3 ساعات لاخلاص.. كل يوم صباحاً وبعد الظهر.. وحتى في الليل مواتياً"ص105.
وهناك زمن تخييلي وهو زمن ذاكريّ منفيّ خارج سياق الزمن الروائي، حتى خارج الزمن الواقعي، لأنّه ربما يكون حُلُماً لا يشكل تجربة واقعية مدركة: "كنا نائمين على الأرض في مكتبك وكانت هناك أيضاً ج و س وامرأة ثالثة لا أعرفها كلنا تحت البطانيات. انقلب عليك فتستيقظ ج فتأخذها بين ذراعيك، وأسقط على الطرف الآخر ماء، كأنني سقطت من قارب، وأجرك من يدك فتقع معي في الماء وتغازلني والماء يغمرنا ونبتعد وج وس والمرأة الأخرى يراقبننا ويضحكن.." ص151.
-إصرار على الزمن الفلكي لغرضٍ خطابي: مريم من مواليد 28 آب برج العذراء.. الجدي والعذراء أسطورة اغريقية" ص156.
-العودة إلى الخط الزمني تتكرر زيارات مريم إلى عيادة طارق رؤوف، ويقوم طارق بزيارة وليد للاستيضاح منه حول مرضها لأنه يعالجها (ص157-158-159-160).(1/319)
-تبئير زمني ذو دلالة نفسية "في حوالي الثانية نهضت من فراشي.. في الثالثة في الثالثة بالضبط.." ص161 يتصل بمريم الصفار ويتفقان على اللقاء في بيتها "في أقلّ من عشر دقائق كنت عند باب مدرسة الشموع.."ص164 ثم يكتشف طارق أنّ في بيتها رجلاً آخر يحسبه وليداً ويعود طارق إلى بيته مذهولاً: "حال دخولي منزلي استقبلتني زوجتي مضطربة منزعجة.."ص165.. "في حوالي الثامنة من مساء ذلك اليوم خابرتني مريم في العيادة"ص165 وتنقطع الصلة بعد هذه المؤامرة التي تحوكها مريم ضد طارق.
-زمن خطيّ: "عندما دعاني وليد بعد ذلك بعدة أشهر إلى حفلة عشاء جعلنا نتعاتب”ص168.
-زمن الكشف عن مصدر الرّسالة "جنان حدثتني اليوم بأشياء ما كنت أتصورها- هذه كانت في الواقع البداية التي أدت بي إلى الاطلاع على الرسالة التي زعمت جنان أنها موجهة إليها"ص169.
-شرح للتلخيص السابق حول مصدر الرسالة: "تلفنت لجنان عصر اليوم التالي من العيادة، لم تذكر الشيء الكثير عند مجيئها الأول.. غير أنها بعد يومين أو ثلاثة جاءتني بالرسالة التي تحدثت عنها"ص170.
-زمن ذاكرتي نفسي: تلك الليلة الجنونية يا الله أشهر كثيرة مرت عليها وهي ما زالت طريّة في نفسي، كأنها ليلة البارحة".
-العودة إلى البؤرة الزمنية الرئيسية للنص كاملاً: "يوم سمعت باختفاء وليد أحسست كأن عبئاً كبيراً قد أزيح عن صدري حتى في الرطبة أردت أن أسأله عن مريم"ص173.
الفصل السادس: وليد مسعود يكتب صفحات سيرته الذاتية.
إن عنونةَ الفصل تدلّ على أن الزمن ذاكري، ويتأتى النص ليثبت ذلك في جميع المسيرة الزمنية، يبدأ الفصل بزمن نفسي: "أردت أن أغير العالم على هواي، وأنا أنظر إلى الغادين والرائحين من على شجرة تطل على الطريق.."ص177.
-زمن ذاكري مفصلي: "شهدت الزلزال (زلزال 1927) وأنا طفل في السادسة"ص178.(1/320)
-زمن حضاري: "رأيت بلدتي إذ أخذت تتململ تتثاءب وتتمطى وتستيقظ ضمن حقائقها البسيطة رغم كونها محصلة قوى تاريخية ودينية واجتماعية قديمة"ص180.
-عودة إلى زمن طفولة وليد.. والإشارة إلى الزمن الفلسطيني: "كنا ذات عصر جالسين تحت شجرة بيتنا المطل على الطريق حينما مرت لوريات محملة بالرجال وهم يطلقون الرصاص في الفضاء، ويصيحون نحن الثوار جيناكم.."ص184.
-يتذكر وليد هروبه مع سليمان ومراد إلى الكهف ص186.
-زمن الذهاب إلى إيطاليا: "فلما أرسلت لأدرس اللاهوت في دير سانتا ماريا.."ص186.
"هكذا رأيت الجيوش العادية المحتشدة في الساحات"ص187.
-اختصار زمني: "المسيح لم يحارب بأدوات القتل.. في قرنين أو ثلاثة غيّر العالم”ص187.
-استباق: "لكن الامبراطورية الرومانية الهرمة عادت والتهمت النصرانية، استوعبتها وجمدت التغيير وعاد الناس عبيداً من جديد لألف سنة أخرى"ص187.
-زمن هروب وليد من الدير في سانتا ماريا متقاطع مع هروبه السابق من الدير في بَلَدِهِ مع أصدقائه من أجل التنسك في الكهف: "قررت هجر الدير"ص188 "هربت هذه المرة إلى الأبد بعد أسابيع قليلة كنت أعمل في بنكو دي روما في روما"ص189.
-زمن بؤري نفسي: "بابتعادي عن حياة التأمل التي علموني أن أعتبرها وحدَها حياة الروح أدركت أنني قد سقطت أخيراً من عالم الجسد عالم الحسّ عالم الزمن"ص192.
-الفصل السابع: يغلب الزّمن النّفسي على هذا الفصل، وذلك لأن الأغراض الخطابية تستدعي هذه التقنية في خلق المعادلات النفسية والأدبية في النصّ.
-الافتتاحية تأتي بزمنٍ نفسيّ يرتبط بزمن ذاكري يستدعي الزمن الحضاري الفائت ليقارنه بالزمن الحضاري الراهن: "بغداد في تاريخها العريق عرفت كلّ شيء عرفته الحضارات اليوم.." ص198. ويتمد هذا الزمن حتى ص204.(1/321)
-زمن السرد في فصل مريم الصفار زمن بعديّ في قَصِّه أي يأتي بعد اختفاء وليد مسعود "إذا كان قد اختفى عائداً إلى فلسطين ليكافح كما كان دائماً يتمنى فليبق مختفياً"ص205.
-مشهد زواج مريم من هشام
1-زمن ذاكري تُرهنه مريم: "ما كدت أتخرج من كليّة بيروت للبنات حتى وجدت هشام في بغداد يتردد علينا مع أهله"ص206.
2-زمن زواج مريم من هشام وإنجاب ابنتها سيرين: "قضينا شهر العسل في روما ولندن وبحمدون، ورزقنا بعد ذلك بسنة"ص206.
3-استمرار المشهد خطياً: "ومع أن ثورة 1958 أقلقت هشام بعض الشيء أولاً، إلا أنه بعد سنة أو أقل، جعل مركزه يتحسن وعُيّنَ مديراً عاماً.. في تلك السنوات التي سبقت التأميمات الاشتراكية وفي سنتين أو ثلاثة بنينا داراً كبيرةً في المنصور" ص207.
4-اختصار كثيف: "جاء يوم وراح يوم، وجاء يوم آخر.. كنت في العشرين ثم صرت في الثلاثين وأخذت أرتعب لمقدم الأربعين" ص208.
5-مشهد لقاء مريم بعامر في بيت سوسن: "في تلك الليلة وأنا في زيارة لسوسن عبد الهادي في تلك الليلة جاء عامر أيضاً لزيارة سوسن وعلاء" ص210.
"كان فرحي هائلاً ذلك المساء. كدت أكون وحدي مع عامر لأول مرة بعد معرفتي به طيلة السنوات"ص213.
6-حضور هشام المفاجئ وخروج مريم معه ص214 ثم عودتها إلى عامر في بيت سوسن ص215 وبعد ذلك تعود إلى هشام بعد هجرانها إيّاه ص215.
7-تذهب مريم إلى لبنان: "لقضاء أسبوعين أو ثلاثة"ص216.
8-يستمر الزمن الخطي وتتصل مريم ببيت عامر: "ساعة حطت الطائرة في مطار بيروت ونزلت اتصلت تلفونياً بشملان.
-زمن البديل عامر ليس موجوداً -وليد في البيت تذهب إليه: "في الليلة التالية وصلت دار العراقي متأخرة"ص219.
-اختصارات زمنية نفسية: "بعد أيام الخيبة، والألم، والمراوغة، بعد أيام الصبر والتحمل والثورة الداخلية، بعد أيام القحط والجفاف والظمأ تتحقق النشوة في لحظات"ص222.(1/322)
-مشهد اللقاء في حديقة بيت عامر في شملان ينتهي: "حوالي الثانية صباحاً كانت رباح وحنان من أواخر من نزل إلى الطريق.."ص223.
-تلخيص: "ذهبنا رأساً إلى غرفة النوم وارتمينا معاً على الفراش ولم نخرج حتى مساء اليوم التالي"ص224.
-تقوم مريم بعد ذلك بشرح هذا التلخيص الزمني الطقسي في غرفة النوم إذ يرقص وليد على أنغام التراتيل الدينية.. ص225.
-مشهد خروج مريم إلى الحديقة وهي عارية لتحمل صخرتها الرمزية وتدخل بها إلى غرفة النوم.
-عودة مريم إلى الفندق واستلام رسالة من زوجها هشام في بغداد: "في الفندق ناولني كاتب الاستقبال رسالة تلفونية من هشام في بغداد" ص229.
-ذهاب مريم بصحبة وليد إلى القدس: "كان ذلك صيف العام الذي سبق صيف هزيمة حزيران"ص231.
-قَفْزٌ زمنيٌّ "وفي أشهر قليلة كنت قد فقدت كل شيء.. "ص232.
-قفزٌ آخر: "آه تلك الصخرة ستّ سنوات أو أكثر قد مرّت وهي ما تزال أمام عيني.."ص235.
-عودة إلى الخطيّة بالتلخيص "سقطت في إشكالات متعاقبة مع هشام وبعد بضعة أسابيع انفصلت عنه للمرة الأخيرة"ص235.
-زمن نفسي: "جاءتني مع وليد تلك الأشهر التي، إذا قستها بتعاقب الأيام والأسابيع بدت قليلة جداً، ولكن إذا قستها بعمق الساعات من كل يوم.. بدت وكأنها التهمت نصف سنيّ حياتي، أو على الأصح أضافت سنين بقدر عمري إلى حياتي، كلّ ساعة محنة وخلاص، كلّ يوم جموح جديد ينداحُ بي نحو شطآن أبعد"ص235.
-استرجاعات متلاحقة "أتذكرين ذلك المساء عندما أخذتني بسيارتك هذه إلى بيتك.."ص236.
"كتب إليّ وليد وكتبت له، ومرضت لفترة، وكان حزيران الفاجع وانقطعت الرسائل بيننا"ص236.
"بعد انسحاق الهزيمة وكآبتها بسنة أو بسنتين عمّ الطيش وعمت شهوة النسيان"ص237.(1/323)
إن الاختصار (سنة أو سنتين) بل القفز فوق (السنتين) دون الإشارة إلى مجرياتها يعدّ تقصيراً من الخطاب، لأن حقّه أن تمد المساحة الزمنية لأنهما سنتان مهمتان في زمن القضية الحضارية العربية أولاً والزمن الروحي للإنسان العربي، وهما سنتا الضمير المقهور اللتان عمّ بعدهما الطيش والنسيان.
-الفصل الثامن: زمن الفصل السائد، زمنٌ نفسيٌّ وهو في أكثره ذاكري يشكّل مشهداً لعمليّة نسف شارع صهيوني في القدس ثم قَفْزٌ زمنيّ إلى ما بعد عشرين سنةً يسيرُ المشهد كما يلي:
1-استرجاع ليلة الهجوم: "تلك الليلة أنا وبشير وطهبوب أخذنا الجندي الانكليزي إلى غرفة قرب نقطة البوليس المجاورة.. بعد ساعات قليلة انتهينا.."ص242.
2-زمنٌ نفسيّ يصعّدُ العمليّة النفسيّة لخلق معادلٍ نفسيّ مُوازٍ: "أَيٌّها الصباح المحشرج بسيولة الدّم التي ستتدفق اليوم وغداً وبعد غد والسنة القادمة تدفق عبر خمسين سنة من صراع وجراح في كل ساعة من ساعاتك الثقيلات الباكيات"ص243.
3-قفزٌ زمنيٌّ إلى زمنِ اعتقال وليد "بعد أقل من عشرين سنة جاؤوا إلى داري ببيت لحم، قرعوا الباب خبطوه بعنف"ص243.
4-تلخيص زمنيّ لجميع البُؤَرِ النفسية التي تتمفصل حولها حياة وليد "وليد تذكر طفولتك، تذكر أيام الدَّيرِ، أيام الحرب في ميلانو وأيام القدس، تذكر إلياس جثة مهشمة تحت الأنقاض، وتلك الليلة الرائعة وسيارة الجيب المصادرة التي سقتها وهي مشحونة بالديناميت.. شتاء 1948 وكأنها البارحة عشرون سنة يا رجل"ص245.
إن الفصل السابق يمتاز عن جميع الفصول بأنه مشهد متكامل متعاضد عضوياً يخضع لنظام زمني خاص:
استرجاع زمن نفسي قفز
تلخيص جميع هذه التقنيات
الفصل التاسع: "زمن وصال ورؤوف" يفتتح بزمن نفسي ص253.
-وينتقل إلى زمن ذاكري ضمن زمن النص: "عرفت وليداً منذ سنوات منذ أن كُنْتُ طالبة في الكلية"ص253.
-قَفْزٌ باختصار: ومرت السنوات.(1/324)
-استيقاف زمني: "في يوم من أيام تشرين الأول في صباح انحسرت عنه حدّة شمس الصيف أخيراً"ص253.
-زمن لقاء وصال بوليد ص254-259 وهو زمن الحوار
-زمن نفسي ص259
-تكرير زمن اللقاء: "كان الصباح هائلاً" ص262 يستمر هذا الزمن حتى ص279
-القفزة الثانية من فصل وصال رؤوف بزمن البحث عن مروان وليد في بيروت: "لم يكن سهلاً العثور على مروان في بيروت" ص279 وهذا الزمن يسبق اختفاء وليد مسعود بقليل من الزمن.
-استباق على شكل وعد "لك مني أن أطعمك يوماً من الأيام سمكاً من بحيرة طبريا ولو بعد خمس سنوات أو عشر سنوات" ص285.
-القفزة الثالثة من الفصل تأتي استمراراً للقفزة السابقة على شكل تلخيص زمني سريع.. "كتبت إلى وليد بطاقات ورسائل كثيرة، وعندما عدت إلى بغداد وجدت أنّه قد غادرها. لم يكن اختفاؤه دون سابق إنذار لأحد من أصدقائه أمراً غريباً.."ص286.
-عودة ذاكرية إلى لقاء بين وليد ووصال مشهد زمني قصير: قضيت صباحاً تشرينياً آخر في بيته"ص286.
-الفقرة الرابعة استرجاع ذاكري: "من عادة أخي طارق في بعض أيام الجمعة أن يزورنا.. الحديقة التي يمضي منذ ثورة 1958 معظم وقته في العناية بها.."ص287
-اختصار: "نشاطه السياسي منذ ثورة العشرين، وهو ابن ثمانية عشر عاماً حتى آخر مرة استُوزِرَ فيها عام 1957" ص287.
-زمن الحوار مَرَهّنٌ وهو خطيّ ص288-289-290-291
-الفقرة الخامسة استمرار خطيّ للفقرات السابقة:
-اختصار: "بعد أسبوعين أو ثلاثة زارنا طارق.." ص292
-زمن الحوار ص293-294
-الفصل العاشر: مشهد زمنيٌّ خطيٌّ يسير وفق الخط التالي:
1-الانطلاق: "تحرّكت مجموعتنا إلى منطقةِ العمليّة في الساعة العاشرة من ليلة مقمرة"ص297
2-الاقتحام: "جاءتنا إشارة الاقتحام"ص299
3-سير العملية: "قضينا على الموقع القريب بشيء من السرعة" ص299
4-الانسحاب: "كانت الساعة الآن تقارب الرابعة صباحاً" ص302(1/325)
5-استشهاد مروان: "وفجأة انبهرت عيناي، وأطبق صوت يزن أطناناً على رأسي لا أدري ما هو (مروان) سمعت (أبو عوف) يصيح مروان أصيب مروان وامتلأ الفضاء العريضي بوجه واحد هائل وصمت:
أبي.. أبي.. ولم يسمعني أحد.." ص303
الفصل الحادي عشر: الافتتاحية زمن نفسي تفجّعي ص307.
-استرجاع ذاكري لزمن وليد ص307 "تعرفت على وليد في مطلع الخمسينات لم يكن قد جاء إلى بغداد في أوائل 1948 بل بعد ذلك بسنة" ص312.
-استمرار الخط الزمني بقفزة: "بعد مظاهرات عام 1956 أُوْقفنا جميعاً وأبعدنا إلى الحدود الأردنية"ص312.
-ارتداد زمنيّ أوّل بالقفز: "قبل ذلك بسنوات في أوائل صيف 1951 لفت نظري شيء ما في منظره"ص312.
-عودة إلى اللقاء الأول "يوم التقيتُهُ كان يقدّم امتحاناً في الاقتصاد لجامعة لندن"ص314.
-ارتداد ثانٍ "بدأ الدراسة قبل ذلك ببضع سنوات في القدس.."ص314.
-عودة إلى الارتداد الأوّل "جاء بها (عن زوجته) من القدس في خريف عام 1951.
-مشهد زمني قصّه هشام والموظف الذي ضبط بعلاقة مع موظفة لديه ص317-319.
-اختصار: "في أشهر ثلاثة أو أربعة تم الطلاق بين هشام ومريم"ص319.
-زمن نفسي ص320 ثم زمن آخر نفسي مكثف في اختصارات مونولوجية.
-استرجاع ذاكري: "وليد بقي في الأرض المحتلة بعد هزيمة حزيران.."ص329.
-استرجاع آخر يسير في خطيّة الزمن: "في أيار 1968 إذ كنت في باريس"ص341.
-زمن كاظم استرجاع "حتى اعتداد وليد عليّ قبل سنوات وسنوات لم أغفره له"
-لقاء وصال والدكتور جواد (سيرورة الزّمن الخطي) وصال تقرر اللحاق بوليد والانضمام إلى المقاتلين: كانت تلك آخر مرة رأيناها فيها بعد أيام ركبت الطائرة إلى بيروت، ولم تعد، ولم أدهش لقد التحقت بجبهة فدائية وجاءتني منها رسالة تذكر الجبهة التي التحقت بها.."ص378.
-فرضيات إبراهيم الحاج نوفل الزّمنية لاختفاء وليد مسعود.(1/326)
"هذا ما أتصوره قد حدث: بعد أن غادر وليد الرطبة واتجه في طريقه نحو الحدود الأردنية السّورية، أدركته سيارة ربما كانت هذه السيارة تستقضي أثره منذ أن غادر بغداد، المهمّ أن أصحاب هذه السيارة بشكل ما جعلوه ينتحي جانباً، ويتوقف بسيارته، وبحجة ما طلبوا إليه النزول يدفعونه إلى داخل سيارتهم، ويخدرونه، وينطلقون، تاركين سيارته على قارعة الطريق بكل ما فيها في (أبو الشامات) يأخذون جواز سفره من جيبه ويجرون معاملة مع معاملتهم وكلّما أفاق خدّروه مرة أخرى بصنف تخدير"ص350.
تقنيات النص الزمنية:
1-الاسترجاع: تقنية سائدة في جميع مساحات النصّ لأن منزع النص الزمني استرجاعي يستعيد مجريات الماضي، ويمتاز هذا النص عن نصوص جبرا السابقة بأن هناك فصولاً استرجاعية كاملة يرتكز إليها النص، لاسترضاء الأغراض الخطابية. وذلك ظاهر من عنونة الفصول ذاتها مثلاً (وليد مسعود يتذكر) (عيسى الناصر يشهد موت مسعود الفرحان) (وليد مسعود يخترق أمطاراً تتجدد).
وقد رأينا الاسترجاعات كيف تتوزع في جسم النص عندما عرضنا السياق وقد جاءت جميع الاسترجاعات وظيفية لتؤدي وظائف أناطها بها النص.
2-الاستباق: تقنية مُنْحَسِرَة لم يعتمدها النصّ مرّتين وهذا طبيعي لأنّ المنزع الرئيسي هو الماضي (ماضي وليد مسعود وظلاله الشخصيات الأخرى).
3-القفزة: تكررت القفزات في النصّ عندما يتعلق الأمر بالارتداد القاسي إلى الماضي، ثم العودة والارتطام السريع بالحاضر.
(1) الماضي فراغ الراهن
ارتداد
(2) الماضي سريع راهن
عودة إلى الراهن
4-الاختصار والتلخيص: تقنيّة منحسرة أيضاً، لأن الزّمن استطاع أن يمتدّ داخل الإطار الزمنيّ المحدّد له، وكان الزّمن النفسيّ فاعلاً بقوة إذ لم يَحْتَجْ النّصُّ كثيراً للاختصار والتلخيص.
5-المشهد: جاء قليلاً في النصّ عكس النصوص السابقة، وقد وجدنا بعض المشاهد على شكل فصول زمنية يرويها راوٍ مستقلّ.
سياق النص الزمني في عالم بلا خرائط:(1/327)
حاول منتج النصّ تقسيم النصّ الزّمني إلى مجموعة فصول تسهيلية يرويها راوٍ واحد يتداخل زمُنها في أكثر الأحيان، وفي كثير من الأحيان يكون زمن الفصل منسوخاً مكروراً وهذا يردُّ إلى طبيعة التأليف الثنائي الذي أساء للنظام الزمني وأوقعه في تناقض لا نستطيع أن نجد له مسوغاً تقنياً، إلا إذا أرجعناه إلى الزمن النفسي الذي يحتمل مثل هذه المحمولات المتناقضة، ويسير الزمن النّصيّ في الخط التالي:
-الافتتاحية زمنٌ نفسيٌ، وتبئير سيكلوجي، "اللذة الألم الرعب أنها تعود كرؤيا شهوانية... فتكثف اللذات واللوعات التي حفلت بها أعوام مضت.."ص11.
ومن بوابة الزّمن النفسيّ يدخل النصّ إلى الزّمن الخطيّ بمحاولة أمنكة للزمن وجعله محسوساً مُدْركاً ( هل للزمن أن ينقلب رأساً على عقب فتساقط منهُ هذه الأعاجيب"ص11.
هذا التلخيصُ البلاغيُّ للزمن يصوّر الخطّ الزّمني الذي سيسلكه النص، وهو الزمن الاسترجاعي وفق مستويات متفاوتة ومتداخلة للاسترجاع.
-افتتاحية الزمن الخطي: الخطف خلفاً بعد القتل: مقتل نجوى العامري: "كان كلّ شيء يجري وكأنه قد خطط له منذ زمن بعيد وهو الآن ينفذ ص12.
-ويستمرُّ الزمن نفسيّاً في الفصل الثاني وينتهي بخروج علاء: "وخرجت وظلّ صادقٌ يُراقب ينظرُ ولا يصدق"ص19 وهذا الفصل الزمن المشهد معترض لسيرورة زمن السرد الذي بدأ به الفصل الأول.
-عودة إلى الخطية: "ذهبنا إلى المجنونة"ص19.
-استرجاعات حُلميّة طيفية متداخلة الزمان والمكان ص22.
-زمنٌ غير محدّد (عدمُ تعيينٍ): "كنتُ خارجاً من المرض لتوّي، في إحدى مراحل المرض خاصّة الشهر الأخير"ص24.. تلخيص زمني كثيف: "تلك الأيام الواقعةَ بين التوقف عن الدواء ومغادرة السرير بلغت من الكثافة والتعقيد درجة يستحيل أن تعرف مثلها أيامٌ أخرى.. كانت طويلة حافلة بالألم اللذيذ وحافلة بساعات من الصفاء ترجعني إلى أيام الطفولة.."ص27.
وهذا الزّمن الخطيّ المكثّف ذو دلالة نفسيّة.(1/328)
-عودة ذاكرية في الفصل الخامس "عشية مات أبي دعاني إليه على غير عادته"ص32.
"في الصباح التالي وجدته ميتاً"ص33.
-عودة ذاكرية -استرجاع -الطفولة: "ظللت فترة طويلة أرفض الذهاب إلى المدرسة وحين اضطررت إلى ذلك أخذت صحتي تعتل" ص36.
-قَفْزٌ زمنيّ إلى الحاضر بعد الاسترجاع: "الآن وقد انقضت سنوات طويلة منذ ذلك الوقت أشعر أني لم أصبح مثل الآخرين"ص39.
-عودة ذاكريّة إلى الوراء استرجاع أيام الدراسة: "أتذكر صادق مرة وكنا لا نزال ندرس في مانشستر.."ص41.
-عودة إلى الزّمن الخطيّ في الفصل الثامن. وهذه العودة ذاكرية بالنسبة لعملية القصّ: "كنا في سيارة. هذا أذكره جيداً في سيارة نجوى.." ص50.
-استمرار الزمن الخطي: "مرت ثلاثة أيام أو أربعة لم أرَ فيها نجوى"ص53.
-تَدَخُّلُ زمنٍ نفسيّ: "ما الذي عذّبني ولسوف يلاحقني إلى الأبد" ص53.
-زمن رسالتَيْ نجوى زمن موازٍ يُذكِّرُ برسائل (سلافة في صيادون) وله السماتُ التقنية التي تحدثنا عنها نفسها ص54 وما بعدها، وتسير الرسالة الأولى في زمن محدّد يبدأ بالمساء وينتهي في آخر الليل، والرّسالة الثانية في الصّباح مطلع الرسالة: "هذا الصباح استعجلت وأرسلت إليك الرسالة التي كتبتها في الليلة الماضية".
-استباق زمني قصير "بعد أسبوعين سأتزوج وأذهب مع زوجتي إلى القاهرة"ص58.
-استمرار سيرورة الزمن الخطي: "بعد أيام قليلة جاءتني رسالة أخرى مطلعها "هذه رسالتي الثالثة مضى أسبوع على الأولى"ص58 "بعد يومين أو ثلاثة جاءتني الرسالة الرابعة.."ص63.
-عودة إلى الذاكرة ورصد وجود آل السلوم في المدينة: "ليس نجيب سلوم وحده الذي غادر القرية ليعيش في المدينة، ففي أعقاب الجوع والموت وخوفاً من الأيام الآتية، لم يبق إنسان في مكانه كانت الدنيا في تلك الفترة التي رافقت وأعقبت الحرب العالمية الأولى.."ص72.
-يرصد الخطاب التحول الجغرافي والحيوي والإنساني الذي طرأ على عمورية عبر الزمن ص72-85.(1/329)
-تدخّل زمن نفسي: "هناك ما لا يتحدد بالزمان، ولا يتحدد بالمكان شيء ما أشبه بالوجود المطلق يتعدى كل حسّ بالزمان والمكان ينتاب المرء بغتة على غير ما انتظار"ص92.
-عودة ذاكرية داخل جسم النصّ الزمني: "في إحدى الليالي كنت وحدي في البيت اتصلت بي تلفونياً"ص99.
-مشهد زمنيٌّ يصور فيه النص خروج علاء لقضاء عطلته في الكروم وتتنبأ له عمته بالشر، فيذهب ويكتشف حيّة تتمدد على فراشه بجانبه: "ذات مرة، وكنت قد قررت أن أغادر البيت إلى الكروم في عين فجار لكي أقضي في الجبل بضعة أيام بعيداً عن عمورية.. وكدت أن أغادر، وإذا بالعمة نصرت تدخل تتمتم بأدعية وكلمات غامضة.. قالت وهي تمسك كتفي وتهزني: اذبح يا علاء الدم يطهرّ كلّ شيء اذبح خروفاً.. ديكاً.."ص105.
"فأنا ما كدت أرتب أموري في الدار القديمة وما كدت أضع ثيابي في الدولاب ثم أرتمي على السرير لكي أستريح حتى أحسست شيئاً لزجاً دافئاً يتمدد إلى جانبي على السرير كانت حيّة سوداء لم أرَ في حياتي واحدة بحجمها وقبحها.."ص107.
ويستمرّ هذا المشهد: "في نفس اليوم قبل الغروب قررت العودة إلى عمورية.. كنت لا أزال بعد ذلك بثلاثة أيام وأربعة تحت وطأة حالة نفسية ثقيلة"ص108.ت.
-غَوْصٌ ذاكريٌ في عمق الزّمنية عودة إلى عمق تاريخ السوالمه: "قبل أكثر من مئة عامٍ حين كان الجدّ الأول للسوالمة يجوب الجبال والأودية لا يخاف الجندرمة ولا الظلام.."ص109.
-قَفْزٌ إلى زمن الطفولة والمراهقة ص117 الفصل 19.
-عودة ذاكرية إلى علاقة علاء بنائلة: "نائلة بالنسبة لي ذكرى بعيدة" ص120.
-عودة إلى الزمن الخطي (زمن نجوى) (لم أعرف بالضبط متى عادت مع خلدون)ص128.
"ومرّت أسابيع أخرى لم أرها فيها ولم تأتني منها كلمة.." ص131.(1/330)
-عودة ذاكرية إلى زمن ما قبل المرض وقبل زمن نجوى "قبل نجوى وقبل مرضي بسنين، في تلك الأيام البعيدة كنت أنزل القمر والنجوم كل ليلة لكي أعبد صياغتها وترتيبها وقبل أن يأتي الفجر كنت أقذفها ضياء مرة أخرى إلى السماء وأغفو"ص141.
وهذه العودة ترتبط بزمن نفسي استدعاها اضطرارياً.
-الفصل الثالث والعشرون عودة ذاكرية إلى الطفولة: "لعلني كنت في العاشرة أو أكثر بقليل وأنتظر كل يوم جمعة، إنه اليوم الذي فيه يتردد علينا خالي حسام"ص144.
-قفز إلى زمن الدراسة "ست سنوات غبت فيها عن عمورية"ص147.
-وتتوالى الاسترجاعات والقفزات والمشاهد الزمنية القصيرة على مساحة النص الروائي متداخلة متباينة لا يمكن رصد تنظيم خاص بها.
-ويرصد النص زمناً مهماً في سيرورة الخط الزمني وهو زمن شهاب السلوم والد نجوى الحقيقي: "في أواخر الثلاثينات وطوال الأربعينات برز من أسرتنا شاب يدعى شهاب.. في أواسط 1948 تزوج عائشة العامريّ سرّاً، ومنذ أوائل الحرب العالمية الثانية كان أبي قد اشترى كرماً في عين فجار لم يكن كثيراً عليه حين استنجد به شهاب أن يأذن له بالسكن فيها"ص204.
في ربيع 1949 اعتُقل (شهاب خالد) وبعد أقلّ من شهرين حُوكِمَ وأُعْدِم" ص205.
-زمن منفيٌّ من الرواية خصّصه النص زمناً خاصاً لفصل من رواية شجرة النار وكذلك عندما يرد زمن النص المسرحي التخيلي وهو في أكثره زمني نفسي.
-زمن نفسي، زمن موت (حسام الرعد خال علاء محور النص): "الأيام التي تلت موت حسام الرعد تبدو الآن وكأنها فجوة في الزمن أو لعلها جزء من زمن يرفض أن يمضي جزء من زمن يعايش ذهناً ما عاد يفرق بين الوهم والواقع"ص249.
-مشهد زمن عودة أدهم من لبنان بعد الحرب الأهلية: "آه ما أقساه من يوم يوم عاد أدهم من لبنان في أواخر تلك السنة"ص254.
-استمرار الزمن: "كان شهراً كثير الأمطار ذاك الذي قضاه أدهم في عمورية"ص266.(1/331)
-استمرار الزمن (المشهد) عودة أدهم إلى بيروت: "بعد بضعة أيام أوصلت أدهم إلى المطار وأنا مثقل بالهمّ"ص272.
-زمن وفاة محسنٍ العامريّ والدِ نجوى العُرْفيّ: "كنت في الصباح عند الباب على وشك الخروج إلى عملي رنّ التلفون: علاء خبرٌ مؤسف عمّي محسن العامري توفاه الله فجر هذا اليوم.."ص273.
-عودة إلى الزمن الرّاهن زمن القصّ الرئيسي: "الآن وأنا أستعيد هذه الأمور"ص275.
وهذه العودة تتكرر كثيراً في حال استنزاف قُدَرات الزمن السائر وفي حال التقاط أنفاس النصّ الزمن من أجل الانطلاق من جديد.
-مشهد حواريّ حُلُميّ يختلط فيه الواقع بالحلم ص306-309.
-المشهد الختاميّ للنصّ يعودُ إلى ربط الافتتاحية بالخاتمة، مشهد لقاء علاء بطالبته ميادة في (المجنونة) ثم تدخل نجوى وذهابها إلى هناك مع علاء قبل مجيء ميادة ثم يكتشف زوج نجوى خلدون هذا اللقاء وتقتل نجوى في ظروفٍ غامضة، ويُتوقّع أن زوجها قتلها، وبعد ذلك يصل علاء مرة أخرى إلى المجنونة مع ميادة بعد أن غادرها تاركاً نجوى وحدها، ويكتشف مقتل نجوى.
-ويختتم النصّ (كما في نصّ صيادون) بعرض مذكرة التحقيق.
تقنيات النصّ: استخدام النصّ طريقة المشهد الزمني في كل فصل وسادت الاسترجاعات الزّمنية متفاوتة في عُمق غموضها، ويعدُّ النص كلية استرجاعاً ذاكرياً لكنّ ما يميزُهُ عن النصوص الأخرى هو سيادة القفزات الزّمنية المتكرّرة والمتلاحقة والسريعة وهذه القفزات أخلّت كثيراً بالخطّ الزمنيّ كذلك كان الزّمن الخطيّ يكاد يفقد مكوناته الرئيسية.
سياق النص الزمني في الغرف الأخرى
زمن (الغرف): يسيطر على (الغرف) الزّمن الخطيّ يبدأ بوجود البطل في الساحة العامّة: "كانت الساحة ميداناً كبيراً في ميادين المدينة.. والوقت كان عصراً بل بعد غروب الشمس وقبيل هبوط الظلام.."ص7.(1/332)
-ويستمرّ الزّمن خطياً إلى نهاية الرواية وبذلك يكون الزمن الروائي ممتداً منذ غروب الشمس حتى الساعة الواحدة والنصف ويتجاوز ذلك الزمن الحلمي ولا نستطيع أن نرصد الزمن بدقة، لأن هناك تعمية زمنية في نهاية الرواية وما يستنتج أن زمن الرواية هو زمن رحلة في طائرة مسافة بين عالمين: عالمٍ حقيقي وعالم حُلُمي، وهذا الزمن المديد لا يُرصَد بدقة لأنه زمن نفسيّ استغرَقَ الرواية كلّها.
-وتأتي بعض الاسترجاعات الذاكريّة البسيطة عودة إلى أيام قليلة: "قبل أربعة أيام أو خمسة انتحر صديق لي.."ص78.
وقد يطول زمن الاسترجاع فيصل إلى بضع سنوات: يتحدث البطل عن علاقته بسُعاد "التي دامت طيلة السنوات السبع الماضية" ص87 وتجري بعض الاسترجاعات التي تعود إلى جسم الزمن الخطي.
-تقنيات النص الزمني: زمن الغرف بمجمله مشهد زمني متلاحق ليس فيه أي انقطاع سوى بعض الاسترجاعات التي يسمح بها تريُّث النص عند بعض النقاط الاضطرارية وهناك بعض القفز الضئيل.
(((
الفصل الثاني
المكان الروائي
طبيعة المكان الروائي:
المكان المكوّنُ الثاني لأيّ وجودٍ في بعده الكونيّ، والحَدُّ المهم في تكوين الإنسان وسلوكه، في بعده الاجتماعي، يأتي في النصّ الروائي ليكون قدرة فاعلة تتجاوز كونها الجامد المنفعل، وتنتقل إلى مسرح الفعل لتؤثر وتتأثر، وتشكّل وتضيف وتعدّل وتلغي وتخلق، ويكون ذلك على المستوى الشعوري النفسيّ أو على المستوى الوقائعي الحدثي: "إن المكان الروائي يُصبح نوعاً من القَدَر، إنّه يمسك بشخصياته وأحداثه ولا يدع لها إلا هامشاً محدوداً من الحركة"(1).
__________
(1) المكان في الرواية العربية، غالب هلسا دار ابن هانئ دمشق ط1 1989 ص12.(1/333)
وهذا لا يعني أنّ المكان قَدَرٌ مُسَيْطِر إلى حدّ كونِهِ الفاعل الوحيد في النص "فبقَدْرِ ما يصوغ المكان الشخصيات والأحداث الروائية يكون هو أيضاً من صياغتها. إنّ البشر الفاعلين صانعي الأحداث هم الذين أقاموه وحدّدوا سماته، وهم قادرون على تغييرها ولكنّهم بعد أن يقوموا بذلك، فهم يتأثرون بالمكان الذي أوجدوه"(1).
في الرّواية الواقعية (بشتى معاني الواقعية) يُنْتَخَب المكان وفق القواعد الواقعية ويجتهد منشئ النّص في ألا يجانب هذه القواعد، ويتوخى أن يلائم بين منزِعِهِ الخطابي وغرضه الأيديولوجي، وبين المكان الذي يختاره. إن الواقعية لا تَنْزَع عن المكان قدراته الأخرى (الرمزية أو المجازية) ودلالاتها النفسية وإنما (توفر) للمكان جزءاً كبيراً من واقعيته، لأن واقعية مكان متخيل لا تعني مشابهةً أو مطابقة أو استنساخاً للمكان، بل تعني إلى جانب ذلك خلق موازيات نفسية وروحية واعية لدلالات المكان، اجتماعياً، ونفسياً، ونقول اعتماداً على ذلك ولكن دون إطلاق: "إن المكان العربي هو مكان أمومي، فاستعادة المكان بعمق في الأدب العربي تستدعي معها الأم كنمط أصلي، كما تستدعي أيضاً صورة مجتمع الأمومة الذي كان سائداً في فترة من فترات التاريخ العربي"(2).
__________
(1) نفسه ص13.
(2) نفسه ص15.(1/334)
ننقل هذا الكلام بكثير من التحفظ؛ لأن هناك مستلزمات نفسية للمكان أكثر عمقاً من قضية ردّها إلى المجتمع الأمومي(1)، وإذا لم تكن أكثر عمقاً، فهي موازية لها، وقد درسنا هذه المستلزمات في الفصل الأول الباب الأول عندما تناولنا المكان دلالةً خطابية ومكوناً رمزياً.
في المكان الروائي، المكان الطبيعي والمكان الروائي "المكان الهندسي": الدلالة المباشرة للمكان الطبيعيّ إشارةً إلى الوجود المتحقّق بالإدراك الحسيّ إضافةً إلى البعد (الاعتباريّ) الذي يخضع للقوانين الاجتماعية والأعراف فالشّارع مكان والبيت مكان وكذلك الحديقة والبناء (بكل استخداماته) وسائل النقل جميعها، وغيرها مما يكون ذا ثلاثة أبعاد.
هذا المكان الطبيعي يستعين به النصّ لخلق إيهام بالواقعية والإعانة على تصوّر العالم الرّوائي أو على إخراج المنظور الروائي في ذهن المتلقي وتَدْخُلُ في الحُسبان الرّوائي أيضاً مكوّنات المكان الأخرى كالأثاث، والأشياء، والمأكل، والمشرب ومقتنيات البيئة والطبيعة وكلّ ذك خاضع للنمط الاجتماعيّ والحضاريّ والطبقيّ الذي ينتمي إليه المكان هذا ما يتعلق بالمكان ذي الأبعاد الهندسية.
"إن المكان الهندسي الذي هو مُجَرّد تجميع صفات خارجية للمكان هو مكان محايد، وبالتالي مكان ذهنيّ وليس مكاناً ينبثق من التجربة المعاشة"(2).
__________
(1) يستغرب أن يطلق غالب هلسا على المجتمع العربي "مجتمع الأمومة" في حين أن السائد عن المجتمع العربي في أكثر مراحله إن لم نقل جميعها أنه مجتمع ذكوري أبوي بخاصة في المرحلة التي يختار هلسا مثاله منها، مرحلة العصر الجاهلي فهو يقول: "ويكفي أن نذكر كمثال القصيدة الطللية وخاصة امرئ القيس".
(2) السابق ص20، وضع الكاتب (المعاشة) اسم مفعول من عاش والقياس المعيشة.(1/335)
-المكان الدّلالة النّفسية: يَفْترقُ هذا المكان عن المكان الهندسي بالعلاقة التأثيرية التي تقوم بين الإنسان والمكان، فيغدو المكان محمولاً نفسياً خبرياً في ذات الكائن، ويتحول إلى دلالات رمزية شاعرية وشعريّة، شاعريّة يؤلّف منها الشاعر دلالات خاصة به، وشعرية لأنها تؤلف رموزاً متداولة بين مجموعة من الشّعراء، وتتحدّد وفق هذا المفهوم للمكان:
1-مستوى المكان الحميم رمز الالتجاء والاحتواء الإنساني، مكان الطمأنينة الذي يُعَدُّ في أحد تجلياته أمومياً، وهو تَجلّ مشتركٌ وقد يكون له بعض تجليات أخرى خاصة نحو المكان.
-المكان المعادي: مستوىً معاكس للمستوى السّابق شعوريّاً يحمل أفقاً سلبياً، منبوذاً من ذات الكائن "وهو خبرة ويتخذ صفة المجتمع الأبويّ بِهَرَمِيَّتهِ السلطة في داخله وعنفه.. كالسّجن والغربة والمنفى.."(1).
-المكان المجازيّ: يحدّ هذا المستوى بتجلّيَيْنِ: الأوّل "المكان الذي نجده في رواية الأحداث المتتالية والتشويق، رواية الفعل المحض، وقد سميته مجازياً لأن وجوده غير مؤكد، بل هو أقرب إلى الافتراض، إن المكان هنا لا يزيد عن كونه ساحةً للأحداث الجارية أو دلالة على الشخوص الرّوائية فيما يتعلق بمركزها الطبقيّ أو نمط حياتها"(2).
ليس هذا النّص واضح الدلالة على مفهوم المكان المجازي الذي أقصد لأنه (اعتبر) أنّ المكان الاجتماعي ذا الدلالة الطبقية مكانٌ مجازيّ والصحيحُ أنّه مكانٌ حقيقيٌّ وهو أقربُ ما يكون إلى الدلالة النفسية والطبقية، أما التعبير، أنّ وجوده غيرّ مؤكد، فكلّ المكان الروائي غير مؤكد الوجود وهو بهذا المفهوم الذي طرحه غالب هلسا مكان مجازيّ.
إن ما أقصدُه بالمكان المجازي هو أن يكون المكانُ رمزاً مقصوداً يؤدي دلالة سياسة أو اجتماعية أو حضارية.
__________
(1) نفسه ص38.
(2) المكان في الرواية العربية ص39.(1/336)
والتّجلي الثاني أن يتحوّل المكانُ إلى رمزٍ مقصودٍ بذاته أي يتحوّل إلى مدلولٍ، وهذا ما يميزه عن التجلي الأول الذي يبقى دالاً.
عناصر المكان: (أنواع المكان، دلالاته):
1-صراخ في ليل طويل:
-الدرب عنصر رئيسي، لأن عملية القص بمجملها في الدرب.
-سرداب له نافذة تطلُ على الرّصيف دلالةٌ اجتماعية طبقية "لم تكن للنافذة ستائر، كانت على الأرض صحون مهشمة.."ص12.
-منزل ضخم دلالة طبقية اجتماعية: "صعدت الدرج في منزلها الضخم"ص13 منظر المدينة من النوافذ يريح العين.. وقد بدت المدينة على أحسن ما تكون، بيوتاً بيضاء ترصع رقعة مترامية من الشجر والزهر.." ص14 استدعى هذا الوصف الإيحاء بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها سمية.
-مقهى الحديقة مكان وسيلة لاجتماع تقليدي في نصوص جبرا يتطور في النصوص التالية ليتحول إلى حديقة فقط دون مقهى.
-"زقاق ضيق معتم تفوح منه رائحة القمامة المتراكمة"ص29 دلالة اجتماعية.
-"أزقة قليلة الإضاءة أشد تلوياً مما كنت أذكر بيوتها تكاد تتعانق فوق رأسي" ص54 دلالة اجتماعية.
-"الجسر العتيق المتداعي، وهو أثرٌ قديم عليه قطعة من الحجر فيها اسم أحد السلاطين" مكان ذو دلالة حضارية.
-ما يمكن أن يشار إليه أن المكان في صراخ مكانٌ وظيفي لم يتحول إلى وعيٍ أعمق من كونه مكاناً يتخذ متكأ دلالياً يؤدي وظائف اجتماعية ذات أبعاد طبقية أكثر الأحيان.
2-صيادون في شارع ضيق:
دلالة العنوان: يحمل العنوان دلالة مكانية رمزية أشرنا إليها في مبحث الاغتراب(1/337)
-دلالات اجتماعيّة: "أخذني إلى فندق شهرزاد الذي كانت له واجهة لطيفة تتقدمها حديقة، نزلت من السيارة ورأيت باباً لم يُكنَس خلال عام على الأقل"ص9 هذه الدلالة الاجتماعية من المكان يعرضها النص لتصوير الأفق الاجتماعي، ولم يجد النص تقنية أشد دلالة على فحوى الأفق الاجتماعي من المكان لأنه لم يدخل في البداية إلى بحث العلاقات الاجتماعية، لذلك استعان بالمكان ليقدم تصوّره الأوليّ عن هذا المجتمع ويأتي بعدها الانتقال إلى المكان البؤري (المبغى) ليبئّر القيم الاجتماعية السائدة في مجتمع التناقض "على مبعدة مئتين أو ثلاثمئة ياردة وجدت فسحة على اليمين تنتهي فجأة بحائطٍ فيه بابٌ ضيّق كان عدد كبير من الرجال يغدون ويروحون من خلاله، وفي الداخل لمحت ومضات من الأشعة الحمراء والصفراء، وسرعان ما وجدت نفسي مسوقاً بالفضول أندمج بالكتلة البشريّة التائقة للدّخول.. وقبل أن أجد مُتسَّعاً من الوقت للتفكير وجدت امرأة مطليّة بطبقة سميكة من الأحمر والأبيض تجذبني من ذراعي، ثم أمسكَتْ أخرى تكشف بلوزتها عن ثدي سائب، بالطرف الأسفل من سترتي.. كان زقاقاً طويلاً تتتابع الأبواب فيه بسرعة على الجانبين وفيه مقهىً صغير"ص33 إلى جانب تناقض القيم الاجتماعية يصور النص المكان القهر الاجتماعي والتفارق الطبقي الذي تعيشه المدينة العربية: "لقد قضيْتُ الساعات الطوال في المسير بمحاذاة الشطآن الطينية لدجلة، متتبعاً مجراه من الشمال إلى الجنوب، من الكاظمية حيث تلتمعُ تحت الشمس، خلف جسر طويل متهزهز قائم على القوارب القديمة، عبر الحدائق والأكواخ الطينية أشبه بخلايا نحلٍ رمادية مغبرّة، أو أورام على جسم ممروض، كان بقاؤها كبقاء سكانها خلال قيظ الأصياف الطويلة القاسية من قبيل المُعجزات بعد ذلك يأتي البلاط الملكيّ، والمناطق السكنية الحديثة ثم الأسواق: السجاجيد والحرائر الخام والحُصر"ص74.(1/338)
-دلالات حضارية: نظراً إلى طبيعة الغرض الذي أنتج نصّ (صيادون) من أجله يَعْرض دلالاتٍ حضارية للمكان، وليست هذه الدلالات دائماً إيجابية، وإنّما قد تحمل محمولاتٍ سلبية: "كنت أفكر بتلك السخرية الشيطانية التي أحالت ذلك المكان الجميل الذي تكسوه أشجارُ الزّيتون إلى مشهد تحدينا الأعزل للحقد والكراهية، فعلى الرّوابي التي ظهرت منها الملائكة للرّعاة قبل ألفِ سنةٍ تُنشد أغاني السّلام والمَسَرّة كنّا نجابه كلّ يوم رُسُل الموت التي لا تكف عن نفثها البغيض"ص20.
ويشير النصّ إلى المكان التراثي دلالةً حضارية تصفُ فحوى الرّوح الحضاري للماضي ومقارنتها بحضارة الراهن "لكنّ الحمامات التي زرناها لم تَكُن تلك الغرف الأسطورية التي وجدت في العهود الغابرة بفُسيفسائها الزرقاء والذهبية المُشعة تحت المياه وهي تنطلق في نوافير وتسقط إلى صدفات من الرّخام، ثم تتساقط كالشلالات من صدفةٍ إلى صَدَفةِ نحو الأرض، لقد تداعت بغدادُ قبل أن تظهر فيها بوادر نموّ جديد وتهافت القرميد الناعمُ الذي شُيدت منه البنايات العظيمة أثناء العصر الذهبي إلى تراب منذ قرون واستعادت الصّحراءُ لنفسها تلك المساحات الشاسعة التي كانت يوماً ترويها السواقي"ص46.(1/339)
ويناقشُ النّصّ العُمق الحضاريّ للمكان وعلاقته بالرّوح الحضاري وبالمكوّنات المُميّزة لكلّ فضاءٍ بشريّ ينتمي إلى حضارة مختلفة عن الأخرى: "كان المكان شيئاً أقرب إلى خلق ذهن قوطيّ مظلم منه إلى خلق ذهن عربي.." ص47، ربّما لا نجد في كثير من الدراسات الإنسانية بخاصة الأدبية منها هذه الإشارات التي تُعنى بالعمق الحضاري المكوّن للنفس الحضارية لأمة من الأمم، ويظلّ النصّ في إطار البحث في البعد الحضاري للمكان ويعدُّ المكانُ اختصاراً بل اختزالاً حضارياً ويَحْمِلُ في طيّاته آفاقَ الماضي الحضاريّ: "في شارع الرّشيد يَكْمُنُ جوهرُ مدن التّاريخ كلّها، ونهرُ دجلة الذي يشطرُ المدينة شطرين متناسقين يحمل في جريانه الوئيد المترامي ذكرى حضارات عمرُها آلاف السنين والشّارع والنّهر يتوازيان كالمادة وصورتها"ص69.
-المكان دلالة نفسيّة: تتجلى الدلالة النفسيّة في خطيّن متوازيين: الأول الدلالة النفسية (السيكلوجية) الصّرْف الّتي تومي إلى وصف المعادلات النفسيّة التي يخلقها المكان سلباً أو إيجاباً "كان لبغداد في نظر الغريب على الأقل جوٌّ مشحون بالجنس" "دجلة: يجري ويجري ويجري كالدقائق والسّاعات كالحياة ذاتها"ص111.
والخط الثاني الدلالة النفسيّة الرّمزية الروحية التي يتحول فيها المكان إلى رمز بذاته "قدساً سماؤها ياقوتة لا تنتهي، صدفة غسلتها مياه البحر، ورفعتها لتولد فيها كلّ صباح أفروديت جديد، .. آه يا أرض التربة الحمراء والحجارة بلون الورود، أرض الزيتون بخضرته التي منذ الطوفان ما حالت والشقائق بحمرة الدّم ألم يسقِ ترابَك دمُ تموز والمسيح"ص103.
-المكان دلالة سياسية:(1/340)
يرتبط نوع من المكان ببعض الدلالاتِ السياسيّة وبعض الأحداث التي لا يمكن ورودها أو الحديث عنها إلا بالمكان: "كنا سجناء البلدة الصغيرة، فما دام طريقُ الشمال مقطوعاً باليهود، فقد كان علينا إن رغبنا الذهاب شرقاً، أن نسير خلال طريق مُلتوٍ شديد الانحدار عبر الجبال القاحلة كان قد بُني على عَجَلٍ لتسهيل حركات الجيش العربي التابع لشرق الأردن"ص23، ويرتبط المكان بالحدث الفاجع، القتل والدمار وهو ذو دلالة سلبية: "رأينا ثلاثة أكوام كبيرة على مبعدة ثلاثمئة ياردة والدخان يتصاعد منها في هواء الفجر البارد سرعان ما جاءت فرقة من الجنود البريطانيين إلى المكان للبحث بين الأنقاض"ص18.
3-السفينة (المكان الرمز)، يبئر النص الدلالة المكانية في العنوان وهو المكان المقلق الذي يبحث عن الاستقرار وهو في ذلك يؤدي دلالة خطابية يرمي إليها مجتمع السفينة، الدلالة العامّة التي تنتظم حياة جميع الشخصيات التي يحتويها المكان هذه الدلالة هي (الاغتراب) وعندما تستقرُ السفينة يبحث أعضاؤها عن الاستقرار، ولكنّ نتيجة هذا البحث تنتهي إلى السّلب، ففي نابولي عند الرّسوّ في الميناء يبحث كلٌّ من فالح وإميليا في طرف، وعصام ولمى في طرفٍ آخر عن استقرارهم الرّوحي والنفسيّ، وتكونُ النتيجة انتحار فالحٍ الذي يكتشف علاقة زوجته لمى بعصام السلمان.(1/341)
إضافة إلى ذلك فإن السفينة تعدّ مكاناً لعقد المؤتمرات الفكرية والتحديثية، وخلق عوالم حلميّة للأبطال، وهي المكانُ التجريبيّ الذي حوى المجتمعَ التجريبيّ الذي تحدثنا عنه في فصل (الاجتماعي والسياسي) لذلك تغيبُ عن هذا المكان التفصيلات الدلالية السابقة التي رأيناها في (صيادون) ولا تظهر إلا بشكل نادر وفي حالات الخروج عن سيطرة مكان السفينة وذلك عند اللجوء إلى الاسترجاعات الذاكرية تشكل السفينة قدراً يحكم الشخصيات ويكبلها، ويجعلها رهينة المكان المحدود إلا عندما تنعتق خيالات الشخصيات خارج السفينة لترصد الماضي وفق ما يلي من دلالات المكان:
1-الدلالة الحضارية: الإشارات الحضارية في السفينة قليلة إذا ما قيست بإشارات (صيادون) وتختلف هذه الإشارات أيضاً عن إشارات (صيادون) بأنها تتناول المكان الحضاريّ "كنيسة سانسنفيرو التي تحوي تمثالاً للمسيح المُسجى وراء نقاب يترقرق شفافاً على وجهه كموجة من المياه، نحته في الرخام أعظم نحاتي المدينة في القرن الثامن عشر إنها إحدى خلاصات الباروك"ص197.
2-المكان دلالة اجتماعية: دلالة منحسرة في النّصّ وهي إشارة طبقية "نسكن في غرفة واحدة.. في الأسفل، من الناحية الأخرى كان في جدار، على مستوى القدم منّا، فتحةٌ مربعة لا يزيد ارتفاعها عن خمسين سنتمتراً"ص52 "كان الحوش الكبير يتوسط أربعة غرفٍ أو خمس، في كل غرفة منها تعيش عائلة جلس أفرادها عند الباب، رجال ونساء وأطفال من كل عمر"ص54.
3-الدلالة النفسية: رأينا الصفة الإطلاقية شعورياً وفكرياً في آفاقٍ تناول الخطاب؛ لذلك فإن التناول المكاني متناسب مع التناول الخطابي وفق إطلاق شعوريّ نفسيّ لدلالات المكان، وهي الدلالات الأكثر انتشاراً في أثناء الخطاب وتتوزع على الدلالات التالية:
أ-النفسية الإيحائية: "السفينة تشعرك بانسيابك خلال الزّمان والمكان الطائرة تكاد تلغي الزمان، فهي تلغي فيك ذلك الحسّ الإنساني
بالإيناع والتغيّر"ص39.(1/342)
ب-النفسيّة الرمزيّة: أشرنا في الفصل الأول من باب الخطاب إلى رمزية المكان وعناصره بخاصة البحر والصخر ونشير إلى بعض هذه العناصر: "هل ثمّة في العالم كهف أقدمُ من كهفنا هذا.. قلنا ذلك وكأننا اكتشفنا قارّة جديدة. من تلك العين في ذلك الكهف شرب أول بناة القدس في فجر التاريخ" ص58 "لهذه الأرض التي نُحِتَ صخرُها مغاور وصوامعَ وجوامعَ، معلنة ديمومة المدينة عبر الحقب الطوال لعلّ في باطن الصّخر ناراً ترفض أن تَخْمُدَ كما في البعض منا"ص49.
جـ-النفسية (السيكلوجية) السلبية والايجابية: 1-السلبية: "لكن لماذا لا أرى إلا مجازر بشرية أكافح كي أنجو منها، فلا أنجو إلا إلى أماكن كلها خرائب وقاذورات"ص78 "الأرضُ البخيلةُ، في أحدِ أقضية الكُوت يكافحون الملح ويستدرجون الماء في الأقبية يقيمون له النواعير الصّدِئة"ص164 "البحر ليس نهر النسيان.. لقد كشف عن وجهٍ أغبرٌ كالحٍ وراح يقذف نفسه علوّاً وسفلاً كثعبانٍ تجاه ذبابة يحاول تهشيمها بانقضاضات جسده البذيء"ص144.
وتتعمّق الدّلالة (السّيكلوجية) للمكان إذ يتحوّل إلى رؤية كابوسية: "لما نزلت إلى قمرتي بانت كأن جدرانها تنهال علي من كل صوب وتسحقني"ص196.
2-الايجابية: "في نفسي دائماً ركضٌ على التلال، سيرٌ طويلٌ بين صخورِ الجبلِ، بل حتى على أمواج البحر طرياً"ص81.
وتتبأر (السّيكلوجية) في محاولة فنية تصويريّة تجعل من الزمن مكاناً، إذ يكون أكثرَ قدرة على الأداء (السيكلوجي) لذلك جعل المجرد مُدْرَكاً محسوساً يرى فيه الزمن (لطخةً سوداء عريضة قد أبقِّعَها في مكانين أو ثلاثة بشيءٍ من الأحمر، لطخة سوداء تملأ قماشة العمر" ص18.
-نشير إلى أن الدلالة الاجتماعية والسياسية بالمعنى الإجرائي منحسرة إن لم تكن غائبة عن النص، وهذا يُرَدّ إلى أن المكان الاجتماعي غائب لضرورة المكان المقترح بل المصنوع خارج المجتمع (السفينة) وهو المكان الاجتماعي الرئيسي والوحيد الذي يعتمد عليه النصّ.(1/343)
-البحث عن وليد مسعود: دلالة العنوان: ربما تحمل كلمة البحث أفقاً مكانياً، فالبحث يكون في المكان ويكون عن ضائع وهذه دلالة خطابية درسناها أيضاً في بحث الاغتراب.
1-دلالات اجتماعية: لا تخرج الدلالات الاجتماعية في (البحث عن وليد مسعود) عن سابقتها في صيادون، ترصد التفاوت الطبقي وترصد فحوى الانتماءات الاجتماعية والقيم السائدة: "وكانت البيوت التي يسكنونها، كلّ عائلة قد تبلغ العشرة بأفرادها تُقيم في غرفةٍ واحدةٍ، هي البيوت التي هاجرَ منها أصحابها أو تردّت مع الزمن والإهمال، أو أنها شبه أكواخ أقيمت في الحواكير للدّواب أو للنواطير فيما مضى، جعلت الجرذان فيها أوكاراً لها.."ص182.
والمكان النقيض: "سِرْنا رأساً نحوَ الحديقة الكبيرة من خلال الجهنميات وسعف النخيل المتهدلة إلى بقعة بليلةٍ، وعلى مقربة منها تنفث بضع نوافير مياهها في الجو فتتساقط كالمسابح الفضية في حوض أزرق مستطيل ترتعش أضواؤه من خلال الماء"ص21.
"بيت مليء بالتّحف والكُتب وحديقة تتسع لألف شخص ملأى بالنخيل والجهنميات وأحواض الورد"ص255.
2-دلالات نفسية: تتنوّع هذه الدلالات بتنوّع الأغراض الخطابيّة التي يمتدّ إليها الخطابُ فيُعطيها دلالة نفسية سلبية تُصَوّرُ المكان المعادي "كانت الزنزانة الرّطبة لا تتسعُ لقامتي وقوفاً، أغلقوا بابها ظلام تامّ حتى ولا ثقب في جدار، أو ثقب لمفتاح، ولم يكن فيها إلا تنكة الغائط" ص242.
والبعض الآخر دلالة نفسية إيجابية: كانَ الموج حولنا يتراكض فيضرب الصخور القريبة، ويجعل من زرقته المندفعة بياضاً ضاحكاً يتلاشى زبداً.."ص285.
-دلالة نفسية إيحائية: "أربعون غرفة لنا أن ندخلها كلّها ولكننا نصر على دخول الغرفة الوحيدة التي أغلقت دوننا لا بأس سندخلها"ص20.
ويحسن بنا أن نشير إلى أن النّصّ في هذه الإشارة الإيحائية يمهّد أو يضع صوّة للولوج إلى عالم المكان في (رواية الغرف الأخرى).(1/344)
-دلالة نفسية رمزية: نشير مرّة أخرى إلى الصّخر والماء دلالتين مكانيتين رمزيتين كما رأينا سابقاً، ولكن يعودُ الكهف الذي رأيناه سابقاً في السّفينة إلى الظهور كرمزٍ دينيّ أموميّ له أبعادُهُ النفسيّة الخاصّة "الكرومُ رائعةٌ ولكنّنا نريدُ البرية حيث لا يوجد إلا الكهف الذي نستطيع أن نخاطب الرّبّ منه"ص114.
-تتوازى الدلالات الاجتماعية والنفسية من حيث انتشارها في خلال النّصّ وذلك لأنّ المنزع الخطابي يوازي بين البحث الاجتماعي والبحث النفسي في (البحث عن وليد مسعود) وإن كنا نلمح ميلاً نحو الجانب النفسيّ لأنّ السّمة الغالبة على الأفق الإنساني والروحي لجبرا ولنصه عامة سِمَة نفسيّة بالمعنى الأرحب والأشمل للنفس وبالمستلزمات الوصفية للأفق النفسي كالحضاري والإنساني والإيحائي والرمزي..
عالم بلا خرائط، دلالة العنوان: (المكان المفتوح):
تنتمي دلالة العنوان في الرّواية إلى الأفق الدّلاليّ النفسيّ للمكان الذي يسقط الخرائط الروحية الداخلية التي تضبط العالم الخارجي وهو دلالة اغترابية فحواها الانفصالُ عن المكان (العالم) وملحقاته الأخرى، وممّا يدلّنا على أنّ هذا العالم نفسيّ ليس إلا هو أن مكان الرواية الداخلي مكانٌ طبيعيّ هندسيّ أكثر الأحيان ينتمي إلى (الجغرافي الإنسانية) أي علاقة الجغرافية بالإنسان وإضافة إلى ذلك فإن الجغرافية تتحول في عُرْفِ النّصّ إلى إنسان بطريقة التشخيص أي إسقاط الإنسانية ومعطياتها ومكوناتها على الجغرافية وعلى الطبيعة: "الطبيعة تكره الفراغ، ولكنها تملأ الفراغ حسب أهوائها هي، لا أهوائك أنت في حركة عشوائية تموج في البلد كلّه، كأنّما نحن في أول مرحلة من مراحل تاريخ قادم بالعجائب.. تَتَزَلْزُلُ الأرض فتتصدّع وتنهارُ جبالٌ وتصعد أودية وتتشكلُ الطبيعةُ من جديدٍ على نحوٍ لا نستطيع التكهن به"ص79.(1/345)
ولا يخلو هذا التناول من رؤيةٍ كونيةٍ تتفحّص العالم بالاعتماد على تساؤل الغَيْبِ، ويتمحورُ النصّ المكانيّ على مقولة النفس الحضارية فَيَرْصُد نشوءَ المدينة (المكان الرّمزِ) عمورية؛ المكانِ المفتوح الذي يُمكن أن يقبل أيّ تفسيرٍ دلاليّ مكانيّ أي أن يقبل تسميةً أخرى، لأن التسمية اختزالٌ افتراضيّ لجميع المدن (العربية) (رأيت عمورية تتسع في ربع القرن الأخير اتساعاً مذهلاً..)ص79.
ويَرْصد نموّها وتضخّمها وتكوينها وأسس عمرانها الإنساني والسّياسي والاقتصادي والرّوحي والجغرافي: "عمورية الآن أكبر مدينة مشوّهة في العالم إنها تُشْبِهُ كلّ المُدْنِ ولا تُشْبِهُ أيْة مدينة"ص83 وهذا التّصوير يَدْخل في إطار الدلالة النفية السلبية: "هل تضخمت عمورية من غير حساب، هل أفلست روحياً إلى الحدّ الذي لا يمكن عنده إنقاذها؟ أكادُ أقولُ إنّها في حالةٍ من الغيبوبة.."ص84 وهناك.
دلالةٌ نفسيةٌ سلبية أيضاً "أن تكون عموريّة جبلية لا يعني تميزاً لها، لأن هناك مُدناً أخرى كثيرة تنهضُ فوق الجبال، فدمشق، وعمان والقدس، والجزائر، ومدن أخرى كثيرة غيرها تشبه عمورية من حيث الموقع.. وأن تهب عليها الرياح في معظم أيام السنة، فإن أكثر مدن الشرق، المطوقة بالصحارى والمياه ونتيجة الحرارة والبرودة تكون عرضة للتيارات الهوائية، ومع التيارات والرّياح تحمل الصحاري خيراتها إلى هذه المدن فتجعلها تغتسل في ذات الغبار ليل نهار.." ص81.(1/346)
نتناول هذا المقطع في دلالتين الأولى محاولة النص الإصرار على مجازية المكان (مدينة عمورية) وجعلها مكاناً حقيقياً مدينة تنتمي إلى عالم الخرائط دمشق وعمان والقدس والجزائر، على الرغم من أنّ الواضح أن عمورية دلالة اختزالية لجميع المدن العربية، والثانية تناول المكان جغرافياً (بمعنى الجغرافيا العلمي) أي البحث في المؤثرات البيئية والمناخية عليه، وينفتح النصّ على ذاته فيستبق الإجابة عن تساؤل يتوقعّه من القارئ، بل الدفاع عن نقد يُوَجّهُ إلى هذا المكان غير المقنع، المكان المفتوح المُمَزّق، وكأن منتِجَ النّصّ انتبه إلى ضَعْف مكانه المخلوق من العدم، أي المكان اللامتحقق، ذي القوام الهشّ، وأراد أن يدافع عنه قبل أن يُوَجّه إليه أي اتهام: "عندما صدرت روايتي الثانية لم يرض عنها النقاد كثيراً، وقالوا أنها ملأى بالغموض، والتناقض، وادّعوا أنها لا تمثل عمورية كما يعرفونها بقدر ما تمثل محاولات مؤلفها خلق مدينة، لا يمكن أن توجد في رقعة معلومة من الأرض، إذا لم تستطيعوا أن تحددوا مكانها من عالمكم فذلك ذنبكم"ص29.
إن نصّ عالم بلا خرائط لم يخلق مدينة بالمعنى الحقيقي (كما خلقه نص صيادون مثلاً) وإنما خلق مجموعة من الأمكنة تنتمي إلى عالم اللاخرائط، وهي مشتتة ليس لها نظامٌ أو ناظم، وعند الحديث عن عمورية كان يلجأ إلى التحليلات الوصفية الدرسية التي تتعلق بدراسات مكانية إنسانية (كما أسلفنا) وكأن يقوم ببحث (سيكوجغرافي) أي نفسي جغرافي أما أن نجد مدينة ذات قوام تستند إليه (سلباً أو إيجابياً) في عمورية، فهذا ما لا يستطيع النصّ نفسه إقناعنا به، لذلك يَسْقط الإدعاء الذي قدمه النصّ وتبقى عموريّة على الرغم من كلّ محاولاته التصويرية والإيهامية مكاناً (مدينة) غير مقنع، وهي لا تنتمي حتى إلى الواقع الذي تنتمي إليه بغداد أو دمشق أو الجزائر التي دأب النص على تشبيهها بمدينة اللامدنية.(1/347)
-ويأخذ المكان كما في السفينة صفة القدرية، وإن كان في السفينة يستحقها لأنه يتحوّل بعفوية إلى تلك القدرية المسيطرة فهو في (عالم بلا خرائط) مُكرَهٌ على قَبولِ هذه الصفة من خارجه، لأن منتج النصّ افترض ذلك، بل أسقط ذلك من شخصية بطله على (مدينته) "كيف أفسر هذه القوة الخارقة التي تمتلكها عمورية، والتي تحيل الناس خلال فترة قصيرة إلى مخلوقات مشوّهة عاجزة أقرب إلى الحيوانات المدجنة" ص80.
-دلالة نفسية سلبية (المكان المعادي السجن): تقوم الدلالة على تصور حلمي نفسيّ يتداخل فيه المكان والزمان، مركزُ المكان غرفة الحجز المظلمة ونقطة الانعتاق الذّهني والنفسي خارج هذا المكان هي ثقب قد يكون مُتَوهّماً أو حقيقياً في باب الغرفة، وهو يذكّرُ بغرفة (الجحيم الاختياري لهنري باربوس) لكن هذا الجحيم في غرفة (علاء نجيب) جحيم قسريٌّ والعالم خارج الثقب في "جحيم باربوس" كان عالماً واقعياً بعكس عالم (علاء) الوهمي الواقعي معاً: "لم أكن أرى شيئاً، ظلامٌ مطبقٌ أنائماً كنت أم مستيقظاً؟ كنتُ جالساً على صندوق، أو أحسست أنه صندوق تحت مؤخرّتي، والجدران أربعة عددتها بحذر لاصقة بي ربما كان أحدُها باباً كان ملمسه كالخشب، أو كالحديد الصَّدئ. والجدران التي جَعَلْتُ أتلمَّسُها كانت خشنة ومجرّحة.. شيء آخر كان يتحرك على جسمي في صدري.. يرعاني يحكني.. هل أنا أحلم؟ هل أنا نائم؟.. حدّقت بالباب، رأيت فجأة ثقباً صغيراً يكاد يكون على مستوى النظر.. شيء، كالنور يتخايل إليّ من خلال الثقب.."ص35.(1/348)
"عادت رقعةُ النّور.. الله إنها تتسع إنها تكشف عن أشياء تتحرك وراءها.. وجوه.. أناس.. خيول.. سيارات.. أراها ولكنني لا أعرفها.. اتّسع الثقب حتى صار أشبه بقرص الشمس الملفعة بالضباب.. انسد دوني في مرة أخرى.. الله هذا البحر، البحر الأزرق الرائع، هل أنا في مكان على البحر؟.. هذه المرأة النازلة أعرفها.. صاحبة الشعر الطويل تدقّ الباب بقبضة يدها وينفتح.. إنني أفتحه بنفسي، تدخل وتصفق اباب وراءها وأقفله بالمفتاح.."ص30.
وهكذا يعرض النص هذا المكان المتداخل بين الحلم والواقع وهو فحوى دلالة نفسية يدمج فيها البطل بين مكانه الواقعي المكروه العدو برؤاه الداخلية ومحمولاته المكانية السّابقة للأماكن التي كان لها الأثر النفسي العميق الذي رسا في أعماق راقات نفسه.
-دلالة نفسية إيجابية: يخرج النص عن الدلالة النفسية السلبية ليصور أفقاً آخر معاكساً هو الدلالة الإيجابية لبعض الرّموز المكانية التي أشرنا إليها فيما سبق من بحثنا مثالاً على ذلك البحر: "كان البحر صقيلاً يشبه صفحة الموس لامعاً كمرايا الجن ممتداً عميقاً إلى ما لا نهاية وكان موجوداً في كل شيء في رائحة الهواء. وفي المسام في نكهة الأشياء.."ص362 وضمن هذه الدلالة الإيجابية تعود الذاكرة النفسية لخلق معادل إيجابي للرؤية السلبية السابقة التي توجه فيها البطل نحو (مدينته) عمورية: "حين كنت بعيداً كانت عمورية تتمدد في ذاكرتي كما لو أنها حورية البحر، مشعة، زاخرة، مليئة بالعنفوان، كنت أتذكر شوارعها شارعاً شارعاً، وأتذكر المنعطفات والزوايا وحين تشمخ المدينة في ذاكرتي تعاودني الرّغبة في الدفء والاقتراب من الآخرين"ص85.
لا تخفى هنا الدلالة الجنسية في حورية البحر المشعة الزاخرة المليئة بالعنفوان والدفء والاقتراب مع إيحاء بسيط بأمومة احتوائية فيها.
الغرف الأخرى (النص: المكان، الخطاب: المكان، المكان: اللامكان):(1/349)
-دلالة العنوان: الإشارة اللغوية المباشرة إلى المكان هي الدال الغرف لكنه يبقى دالاً (خاماً) على مدلول أولي إذا لم يُضف إلى صفته (الأخرى) التي تَمْنَحه دلالته الرمزية، والرمز الذي يمتد إليه أفق الخطاب يتحدد بالمباين المكاني (للغرف الأخرى) فهي افتراض رمزي غير واقعي، لذلك نجد المكان الرّوائي في النصّ مكاناً غير واقعي، وإن كان البعد الشكلي الخارجي واقعياً كلّ الواقعية. إن رواية (الغرف الأخرى) هي رواية المكان (اللامكان) بمعنى أنها لم تَخْلق مكاناً حقيقياً مدركاً موعياً ضمن القوانين القابلة للإدراك والوعي، فإذا كان نص (عالم بلا خرائط) نص الزمن المتداخل؛ فإن (الغرف) نص المكان المتداخل المتخيل لغرض رئيسي هو تصوير المحتوى النفسي الداخلي الذي يعكس وجه العالم الخارجي المحيط بتناقضاته وتداخلاته ولا معقوليته وعدميته التي تسعى نحو الهاوية، وإذا أردنا أن نفرغ المكان من رمزيته وأن ندرسه بعيداً عنها مكاناً تقليدياً نجده يؤدي مجموعة الدلالات التالية:
-دلالة المكان الهندسي:"كانت الساحة ميداناً كبيراً من ميادين المدينة" 7.
"فجأة اشتعلت المصابيح على أطراف الميدان وعلى جانبي الطريق غير أن الذي لفت نظري هو أن المباني وهي جميعاً طوابق عديدة لم يشتعل في نافذة منها أي ضوء.."ص10.
"كان في صدر الغرفة مكتب فخم"ص21 وتتكرر هذه الدلالات في وصف المكان في جميع الغرف التي يدخلها البطل المجهول (نمر علوان) المفترض.(1/350)
-دلالة نفسية: وهي في أكثر الأحيان استنتاجية ليس مُصرحاً بها في الحديث عن المكان، إلا أنها قد تأتي لغوية مباشرة: "الساحة العريضة خالية، خاوية، مهجورة، منسية من الله ومن البشر، كأن المدينة لم يبق فيها من يتحرك من يسعى، من يحب كأن وباء قد اجتاحها ولم يرحم أحداً" ص7 والدلالة النفسية الأخرى هي الظهور المفاجئ للمكان، ففجأة يمكن أن يظهر مسرح أو باب ثم يختفيان ويعود كل شيء إلى سابق عهده: "قمت بسرعة ونظرت من النافذة وإذا الساحة مرتبة كخشبة مسرح عريضة، وأنا أراها كأنني في مقصورة كبرى" ويدخل هذا المكان بل تدخل الغرف الأخرى كلّها في نطاق المكان المعادي، لأنها تشكل للبطل السجن الفضفاض، وهو مكان كابوس يشبه الأمكنة التي يتعرض لها الإنسان في حلمه وهو يعاني وطأة كابوس عنيف يرسف على صدره.(1/351)
-دلالة المكان التكنولوجي: في الحكايات الشعبية السالفة وفي حكايات ألف ليلة وليلة وبعض القصص الخرافيّ والقصص الخيالي يبدو المكان قدرة غير ثابتة يحركها قَدَرٌ خارج عنها قد يكون (عفريتاً) كما في ألف ليلة وليلة أو قد يكون كلمة سر كما في حكاية (علي بابا) مثلاً وقد يكون البطل مزوّداً بقدرة خارقة تجعله يسيطر على المكان يزيح صخرة من على باب كهف سجنت داخله حبيبته أو عزيز عليه، أو يكون مزوداً بأداة سحرية تسهل له فعل أي شيء مثل الخاتم، لكن إنسان العصر الحديث لا يمكن أن يلجأ إلى مثل هذه الخيالات التي لم تعد قادرة على الإيهام، فأصبح يلجأ إلى تقنية تحمل إمكانية كبرى في الإيهام بالواقعية وهي (التكنولوجيا) التي تحرك المكان وتسيطر عليه وتحوله إلى أي شكل تشاؤه، ويدخل ذلك في إطار الخيال العلمي، وتَستخدِم الغرف الأخرى هذه التقنية بتحفظ لتكون أكثر إقناعاً وإيهاماً بالواقعية، فتخلق غرفة مركزية هي غرفة التحكم بالمكان: أي ببقية الغرف الأخرى، ولتأدية غرض الإدهاش يقوم النصّ بخلق تشابهات سرعان ما تختفي بين الغرف وبين الأشخاص ليصل إلى وحدة المكان في النهاية كما أوهمنا في الزمان سابقاً بوِحْدة الزمن وبدائريته، وجرياً على عادة المكان السّري فقد كثرت فيه الدهاليز والمسارب الضيقة والمفاجآت المكانية التي تستخدم تقنية سائدة في سينما الرّعب، ولكن باتزان روائي لا يخل بالعملية الإيهامية. "من غرفة السيطرة بإمكاني أن أقفل أو أفتح أبواب المبنى كلّها بمجرد الضغط على زر هنا وزر هناك"ص39.
"أخذني إلى مصعد ضيق له معه مفتاح خاص، إلى قبو مديد مضاء فيه الخزائن الحديدية الرصاصية اللون.."ص70.
تصوير المكان وطرق تصويره:(1/352)
ساد في الرواية التقليدية نوع واحد من أنواع التصوير المكاني وهو التصوير السردي الذي يصف المكان بسرد وأوصافه ومحتوياته ومكوناته الواقعية بشكل حيادي، وإن طمح إلى أكثر من ذلك، فإنما يطمح إلى تصوير بعض الدلالات الاجتماعية للمكان ويصرّح بها مباشرة فيقول على سبيل المثال "فلان غنيّ يملك داراً تحوي كذا وكذا وله بستان وسيارة.. وفلان فقير.." وهذا النمط كان سائداً في بداية نشوء الفن الروائي وأمثلته كثيرة في المستوى الروائي العربي وقد يكون ماثلاً إلى الآن في كثير من النصوص العربية وعند كبار الروائيين العرب كنجيب محفوظ مثلاً، لكن الرواية الحديثة استطاعت أن تولد طرقاً أخرى يظهر فيها المكان دون رمي دفة السرد جانباً والتوجه نحو وصف المكان من هذه الطرق:
1-الوصف بالحوار: يقوم النصّ من خلال حوار ما بين شخصيتين أو أكثر بإيراد المكان وصفاً ورمزاً ودلالة واقعية ونفسية وحضارية وإنسانية.
2-الوصف بالحدث: يعرض النصّ الحدث ويتخلل هذا العرض إشارات غير مباشرة إلى تكوين المكان وعناصره وميزاته وكذلك مرافقاته الدلالية التي يعرضها الحوار نفسه.
3-التصوير باللغة: يتم التصوير باللغة في مستويين رئيسيين، المستوى الأول بطريقة السرد التقليدي الذي لم يستغن عنه تقنية سائدة ولا يمكن الاستغناء عنه؛ لأنه تقنية لا بد منها في الأداء الروائي، والمستوى الثاني استخدام البلاغيات في تصوير المكان من أجل تحديد دلالته النفسية بطريقة لغوية أقرب ما تكون إلى الحس اللغوي الشعري وتستخدم اللغة عندئذ المجازيات والرّموز والتشبيهات والاستعارات وتستدعي الرصيد الثقافي لمنتج النص في خلق المشابهات المكانية الواقعية ومعادلاتها التي تؤدي فحوى الدلالة النفسية.(1/353)
-الوصف بالحوار: تغيب هذه التقنية كلية عن (صراخ في ليل طويل) لأنها تعتمد التصوير التقليدي السردي وتظهر في (صيادون) في مراحل متعددة من سيرورة النص: فأثناء الحوار بين حسين عبد الأمير وجميل فران بعد خروجهما من المبغى: يرد بعض التصوير المكاني ذي المنزع الخطابي "نحن شعب من المتناقضات؛ فأكبر بناياتنا تقع وسط البيوت الضيقة.. لقد بدأت إذن البداية الصحيحة أعني المبغى. فهو وسط المدينة وفي هذه المنطقة أيضاً يقع أجدر مدارسنا بالاحترام.."ص39.
وفي حوار في الحمام العمومي الذي يذهب إليه مجموعة الأصدقاء جميل وعدنان وحسين ويتعرفون على الإنكليزي برايان فلنت: "قلت أنا أفتح الحنفيات: لا بد أن هذا المكان صممه رجل ذو روح معذبة.. سألت: أهذا هو المكان الذي كان الناس قديماً يأكلون فيه البرتقال والتفاح ويغنون أثناء الاستحمام"ص48 "أخذوا يفضلون حماماتهم الخاصة هذه الأيام" ص49 "لا أظن أن بلداً يمكنه تصميم حمام عمومي كهذا بلد بربري.." ص51.(1/354)
وهكذا تتكرر هذه التقنية في تصوير المكان والإشارة إلى دلالاته التي تحدثنا عنها سابقاً، وفي السفينة تظهر التقنية في تفجّر شعوري يتناسب مع الخط الرئيسي للنص: ففي حوار بين إميليا وعصام: "حتى إلى بغداد.. فأجابت بحرارة: أوه إنها المدينة التي أحلم بها" ص46. وفي حوار وديع وفايز نتحسس المكان بالتلمس الاستنتاجي: "لم لا تجلس على هذا الحجر بقربي.. تسكن قريباً من هنا؟.. نعم في جورة العناب، وأنت؟... في الشماعة.. الله في العلالي.. أتأتي كثيراً إلى هنا؟ أحياناً. أحب البركة لأنها توحي إليّ بالبحر. هل رأيت البحر.. زرقته عجيبة قبل سنوات كثيرة وأنا طفل، أخذ أحد الرهبان جماعة منا في سفرة إلى يافا. وفي الميناء صعدنا إلى إحدى السفن التي كانوا يحمّلونها بالبرتقال، بالونش. كانت رائحته لذيذة أعني البحر وكذلك البرتقال. سقط أحد الصناديق من الونش، وتحطم على حافة الزورق وانتشرت حبات البرتقال على الزبد الأزرق يمنة ويسرة"ص50-51.
تقترب هذه التقنية من السرد التقليدي أحياناً خاصة إذا استرسل أحد المتحاورين في وصف المكان، فتفقد التقنية خصوصيتها الحوارية وتنتقل إلى تقنية أخرى.
والتقنية ذاتها تتكرر في (البحث عن وليد مسعود) و(عالم بلا خرائط) مع انحسار في (عالم) ولكن السيادة الكبرى لهذه التقنية تأتي في الغرف الأخرى، لأن هناك دائماً حواراً مستمراً، خاصة عندما يلتقي البطل بشخصية أخرى، وغالباً ما تكون فحوى الحوار تساؤل من البطل عن المكان الذي يوجد فيه إجابة قد تكون صادقة أو كاذبة، لكنها تدور حول المكان المسؤول عنه: "لم أفهم قصده بالضبط، وأنا أصاحبه إلى درج أخذنا ننزله. فسألته: كيف فتحتها جميعاً؟.. من غرفة السيطرة بإمكاني أن أقف أو أفتح أبواب المبنى كلها.. ما هو المهم.. المهم أنت مطلوب في الغرفة الزرقاء.. وأضفت وأنا أقهقه لا شك أن عندكم أيضاً غرفة حمراء وأخرى خضراء- بعد أن فرغنا من الغرفة السوداء" ص39.(1/355)
-التصوير بالحدث: تقنية أكثر تطوراً من سابقتها، لأن المكان يأتي مندغماً بالحدث لا مُباشِراً في عرضه، والمباشرة مهما كانت عالية اللغة والأداء تخفف من ارتقاء التصوير: في المشهد التالي يصور النص غرق حيّ من الأحياء الشعبية المسحوقة نرى فيه كيف يأتي المكان طبيعياً عفوي الوصف:
"لم ينقطع المطر، وجعل الماء يجري سيولاً بمحاذاة الجدران أو في وسط الطريق إلى أن بلغنا مكاناً كالخندق العميق، تبطنه منازل من كل حجم ولون، ولم تكن الطريق مرصوفة فإذا لم نخطُ في السيل المثرثر تخبطنا في الوحل اللزج. ولكن ما كدنا نرى بيوت الحيّ في أعماق الخندق حتى شدّ صاحبي بذراعي. وأتت حنجرته بشهقة قصيرة حادة. فقد تجمع الماء في الأسفل وكوّن بحيرة كبيرة لها ألق مخيف، وبرزت الطوابق العليا من البيوت فوق الفيض. فانحدرنا نحوها راكضين وقد أطبق الرعب على حنجرتي. لقد تراكمت القاذورات في المجاري الرديئة، فسدتها وعطلتها فالتقت السيول الدافقة من الشوارع المجاورة في تيار جارف وصبت في الحي المنخفض واستقرت هناك. وكانت الغرفة التي قضيت فيها قرابة عشر سنوات من صباي غارقة إلى نصفها ولم يبق بيت لم تغمره المياه، وجعل الرجال والنساء يحملون المياه في السطول والصفائح ليقذفوا بها في أرض صغيرة محاطة بجدارٍ عالٍ، كان يأمل سكان الحي أن يحولوها يوماً ما إلى حديقة" صراخ ص55-56.(1/356)
تتكرر هذه التقنية في الروايات الأخرى بخاصة في (صيادون) لكن التقنية بمعناها الدقيق الذي يجعل الحدث يصور المكان دون اللجوء إلى الوصف السردي، غير متحققة، ولا بد من تدخل الوصف السردي فيها: "كنا سجناء البلدة الصغيرة، فما دام الشمال مقطوعاً باليهود، فقد كان علينا، إن رغبنا الذهاب شرقاً، أن نسير خلال طريق ملتو شديد الانحدار عبر الجبال القاحلة.. كان قد بُني على عجل لتسهيل حركة الجيش العربي التابع لشرق الأردن.." ص23 وتبدو التقنية أكثر وضوحاً في مشهد الدخول إلى المبغى: "على مبعدة مئتين أو ثلاثمئة ياردة وجدت فسحة على اليمين تنتهي فجأة بحائط فيه باب ضيق، كان عدد كبير من الرجال يغدون ويروحون من خلاله، وفي الداخل لمحت ومضات من الأشعة الحمراء والصفراء، وسرعان ما وجدت نفسي مَسُوقاً بالفضول أندمج بالكتلة البشرية التائقة للدخول كان التزاحم في المدخل الصغير من الشدة بحيث توجّب عليّ أن أدفع الناس ويدفعوني قبل الدخول"ص33.
التصوير باللغة: 1- المستوى الأول: التصوير بالبلاغيات: على الرغم من أننا جعلنا فصلاً خاصاً للتصوير، وركزنا الجهد على البحث في التصوير، أي التصوير البلاغي، وجدنا أنه من الضروري البحث في تصوير المكان منفرداً، لأن المكان موضوعة مهمّة في سياق النصّ وهو كذلك موضوعة خطابية أهم في سياق الخطاب وفي السياق الروحي والثقافي لمنتج الخطاب.
يقوم النصّ باللجوء إلى تصوير المكان بالبلاغيات عندما يكون المكان دلالة نفسية أو رمزية، وذلك في سبيل أداء قدرة تصويرية تعطي المكان أهميته، أي تخلق اللغة معادلات نفسية تضيء بها العالم الداخلي للروائي، العالم الذي يمثله المكان، وتبرز العلاقة المصيرية بين المكان ومنتج النص، والقدرات الإبداعية الإيحائية التي ساعد المكان على خلقها وبثها في ذهن المبدع وروحه.(1/357)
يستخدم النص لدى جبرا تقنيات بلاغية متنوعة لتصوير المكان وتتميز صورة المكان عنده عن غيرها من الصور بخلق أجواء روحية إضافية تضاف إلى الجو التصويري العام، إلى جانب تكثيف متعمد في اللغة، ومن التقنيات البلاغية التي يستخدمها النصّ، التشبيهات والمجازات والاستعارات، بشتى إمكانات اللغة فيبدع التصوير ويرتقي الحس اللغوي وتتنوع المكوّنات التي تكوّن التقنية كما تتنوع الصور وتتعدد في أرجاء النص لتؤلف وشائج تصويرية إلى جانب الوظيفية الأخرى.
ويكفي دلالة على أهمية المكان وتصويره أن افتتاحيات أكثر الروايات كانت بتصوير المكان -(البحر جسر الخلاص) (السفينة)- "الوصول إلى الفندق" (صيادون) (الغرف) "المكان المطلق"...
-ويقوم النص مرة ثانية باعتماد الابلاغيات وسيلة لتصوير المكان وتقريبه إلى القارئ وإخراجه ليكون متصوّراً سهل الاستيعاء في مخيلته. وتكون هذه الإبلاغيات (تناصّات) تصويرية أو مسرودات إخبارية بسيطة تصف المكان وتعرض مكوّناته. وإذا دققنا النظر في لغة هذا التصوير نجدّها لغة بسيطة دون أن تبتعد من الإيحاء والتحريك والتلوين، وهذا لا يعني أن التصوير بالبلاغيات قد جانب البساطة التعبيرية، فقد جاءت البلاغيات سهلة المقاربة والتناول ولم يعمد النص إلى الإيغال في التعمية والغموض وإسقاط عوالم غير مكانية على صورة المكان، وإنما خلق مكاناً لغوياً كالمكان الواقعي، بقدرات اللغة وقدرات الفن.
(((
الفصل الثالث
السرد والحوار
السرد والحواردراسة في بنيتهما الهيكلية(1/358)
في أكثر الدراسات التي تناولت السرد والحوار نجد المعالجة تتوجه نحو لغة السَّرد والحوار بطريقة وصفية انطباعية، ولا تقوم بتقصّي المفاصل السردية ووظائفها الخطابية، وكذلك لا تتوجه إلى البحث عن مواقع السَّرد من الحوار، والبحث في ضرورات هذه المواقع؛ بل كانت تفترض أن هذه التقنية مشتركة بين جميع النصوص، وتغفل أهمية استقصاء دون وعي بوظيفتها المهمة جداً؛ لأن النّصّ الروائي أو القصصي يكتسب صفته الروائية والقصصية من عملية السرد المُتَخلّلة بالحوار، بتبادل المواقع وإذا فقد النص(سرديته) فقد كونه الروائي.
إن التباين السردي في النص يحدد قدرة منتج النص على الوصول بطريقته الخاصة إلى عالم المتلقي، فإذا كان قادراً على التحريك السردي البارع الواضح، دون اللجوء إلى التعمية والغموض، فإنه يصل إلى متلقيه بسهولة؛ ويلجأ بعض الروائيين إلى تعقيد عملية السرد بتداخلات يكون العمل بغنى عنها، ولا تؤدي أي غرض؛ وظنهم أنهم يقومون بخلق تقنية جديدة مبدعة. إن العملية السردية عملية وظيفية في البناء الروائي، وكلما سهّل إليها المداخل كان أكثر تأثيراً؛ ولا نطالب هنا بالعملية السردية التقليدية الوصفية؛ وإنما نطالب بعمليات سردية جديدة، جادّة مبدعة، مشيئتها خدمة الخطاب بأقصى قدراتها، وليست مشيئتها البحث عن هياكل سردية(دهليزية) فارغة، إذ يتحول فيها السرد إلى غاية بذاته، وتضيع قدرات الرواية الأخرى بين ثناياه.
لقد فهم جبرا إبراهيم جبرا بحس عالٍ وظيفة السرد، وحاول بكل قدراته أن يجعله وحدة متماسكة في الأداء، لذلك جاءت تقنية الفصول مثلاً لتوضيح العملية السردية في ذهن المتلقي، وكانت الحوارات صوى سردية تتعاضد مع السرد في سعيه نحو البناء الأمثل.
أولاً- السرد والحوار ومواقعهما في النص
(سياق، نظام تتابعي):
-المرحلة الأولى- الراوي الواحد وإرهاصات نظام الفصول
أ- نظام(صراخ):(1/359)
1- الافتتاحية معزولة عن جسم النص السردي((رفعت للفتاة قدمها وقات: انظر فنظرت... ولكن لم أر فيها ما يثير..)).
2- حوار مسرود(قال وقلت) ص5 .
3- سرد خطي((في المقهى وجدت صاحبي أبا حامد..)) ص6.
4- حوار إخباري(قال.. والرد يأتي مونولوجاً تصريحياً معلناً).
5- سرد خطي ص8 .
6- حوار أحادي معروض على شكل مونولوج ص9 .
7- سرد تقليدي وصف مشاهدات عابر سبيل وخواطر ذاكرية ص 10، 11، 12.
8- سرد مشهدي(اعتراض السرد الخطي) بمشهد مسرود ضمن مشاهدات عابر السبيل (مشهد رجل يحزم ثيابه عازماً على السفر رغماً عن
إرادة والدته) ص12 .
9- حوا مركزي تمثيلي طويل في بيت(سليمان شنوب) ص15- 19 .
10- سرد خطي يسترجع فيه(أمين) لقاءه بسمية وترتيب الأحداث القادمة ويعرض السرد المشهد بالخطف من الخلف وعاد ليفرش الأحداث بالتفصيل كما في كل(الرواية).
11- حوار مكتمل يحتوي لأول مرة عناصر الحوار الطبيعي ويتخلله بعض التعليقات الطفيفة وبعض الشروح ص 21- 25 .
12- ارتكاز سردي عند نقطة ابتداء استئنافي وانطلاق جديد بطريقة العرض(المونولوجي) ص25- 29 .
13- حوار موصوف مسرود: (أقول وتقول) وهذه الطريقة مستخدمة للإيحاء بالتمثيل الواقعي للحوار.(1/360)
14- حوار(مسرحي) يسود مساحة كبيرة من السرد وينقطع السرد خلاله بل يتوقف، وهذا الحوار تقنية نصية تقليدية ويتخلل هذا الحوار بعض التعليقات السردية والمشاهد الاسترجاعية المسرودة تقليدياً والسائد في النص أن يفتتح الحوار بقال وقلت وسألت وأجاب.. ثم يستمر ليتحول إلى الطريقة التمثيلية التي تعرض الحوار نصاً مسرحياً كما في الواقع يمتد هذا الحوار من ص30 حتى ص50 إذ يبدأ سردٌ قصيٌ جديدٌ متداخل يملأ الفراغات الخلالية بين الحوارات سرد جزء من قصة(أمين مع سمية) ويعود الحوار مع بداية الصفحة 50 ويستمر حتى 52 وفي منتصف ص 53 ينحرف ويرتد أيضاً بالزمن إلى مشهد ذاكري ولكنه يبقى ضمن السرد الخطي وإن كانت القصة منعزلة مفصولة عن سياق السرد الخطي وذلك ضمن نمط سردي خاص تخضع له وخطية خاصة أيضاً.
15- عودة إلى خطية السرد الذي كان سائداً قبل الحوار الطويل ويستمر بسرد وقائع غياب سمية ص58 ويتخلل السرد بعض التحليل والتوقع والاستشراف.
16- سرد خطي تقليدي لسيرورة سردية أخرى موازية يبدأ ص69 .
17- بحوار تقليدي سائد في النص ص70 وما بعدها.
18- متابعة السرد.
19- حوار معترض ص 80.
20- تدخل سردي خارجي((مقاطع من الوثائق التي كان أمين يستعين بها لإنشاء تاريخ آل ياسر)) ص84 .
تدخل آخر(قصة الرجل الذي استدعى ابنه لينصحه وهو على
فراش الموت) ص91.
21- حوار بين سمية وأمين يقرر مصير الحدث(الطرد) أو الأحداث الرئيسية ص96- 101 .
22- الخاتمة السردية وصف سردي تقليدي ص104 .
ب- سياق السرد(النظام السردي التتابعي) في(صيادون):
قسم جبرا نصه(صيادون) إلى فصول مرقّمة يرويها راو واحد وربما تكون هذه التقنية إرهاصاً تقنياً نصياً للتمهيد لظهور هذه التقنية واضحة متبلورة في(السفينة) وفي(البحث عن وليد مسعود)
1- الفصل الأول: افتتاحية النص المسرود في(صيادون) محاوره الزمان والمكان ص9 .(1/361)
- حوار إجرائي تمثيليّ في ص11- 14 ينتمي إلى خطيّة السّرد الرئيسية التي تعطي السرد قوامه.
2- الفصل الثاني: يستمر السرد الخطي حتى ص24 ويعترضه حوار له الخصائص السابقة ذاتها.
3- الفصل الثالث: بداية السرد بالزمن حوار من ص30- 40 .
4- الفصل الرابع: سرد تقليدي خطي دون تدخل حواري مباشر.
5-الفصل الخامس سرد خطي إخباري ص42- 47 حوار حول قضايا حضارية(حوار له طابع فكري).
6- الفصل السادس: إخباري خطي حوار من ص54- 55 .
7- الفصل السابع: يفتتح سردياً بالتعليق على الحدث ثم يسرد النص حلماً وفق منطق الحلم الذي يتميز بالتداخل المكاني والزماني وانعدام منطقية الحدث.
8- الفصل الثامن: سرد تقليدي خطي حوار يقطع السرد ص64، 65، 66 .
9- الفصل التاسع: يبدأ بسرد مونولوجي داخلي يبحث ارتباط المكان بالنفس الحضارية ثم ينتقل بعد ذلك إلى سرد تقليدي حوار ص71- 72 .
10- الفصل العاشر: سرد إخباري تقليدي ص73 حوار ص74- 75 .
11- الفصل الحادي عشر: سرد قصصي تقليدي دون تدخل الحوار.
12- الفصل الثاني عشر: يبدأ بسرد قصي خطي ثم ينتقل إلى سرد مونولوجي وصفي يعالج العالم الداخلي للشخصية.
13- الفصل الثالث عشر: فصل حواري كامل يبدأ بنص(شعري) ص89 ويستعمر الحوار حول وظيفة الأدب حتى ص107 .
14- الفصل الرابع عشر: سرد وصفي خطي، حوار مُعْتَرِض سير الخط السردي ص19- 126 وهذا الحوار منتقل بمعنى أنه ليس حواراً ثابتاً بالمكان والشخصيات وإنما ينتقل بين مجموعة من الشخصيات والأمكنة ويبقى هناك مركز حواري وحيد هو(جميل فران).
15- الفصل الخامس عشر: سرد خطي إخباري تقليدي حوار حول السياسة من ص128- 132 استمرار السرد الخطي الوصفي للشخصية الحوار ص124 حتى138 نهاية الفصل.
16- الفصل السادس عشر: يفتتح بسرد خطي إخباري ثم يعترضه تدخل خارجي نص رسالة من يعقوب أخي جميل ص139- 141 .(1/362)
17- الفصل السابع عشر: افتتاحية سردية خطية إخبارية ثم انتقال سريع إلى حوار إجرائي ثم عودة إلى السرد الخطي الإخباري.
ويستمر التناوب بين الحوار والسرد الإخباري حتى نهاية الفصل مع طغيان الحوار إلى درجة لو حذفت السرود البسيطة ظهر الفصل نصاً مسرحياً، حتى دون حذفها يمكن أن تكون نوعاً من الشرح الذي يستخدمه المؤلف المسرحي في مقدمات مشاهده وفصوله ليوجه المخرج في اختيار المكان والمنظور والضوء والظل...
18- الفصل الثامن عشر: سرد خطي وصفي متلاحق الوحدات السردية دون تدخل حواري ويعود ذلك إلى الشحن النفسي الذي يتميز به الفصل لأن الحوار بعض الأحيان يخفف من هذا الشحن إلا إذا كان حواراً حاراً ومشحوناً أيضاً.
19- الفصل التاسع عشر: افتتاحية سردية خطية إخبارية ثم انتقال إلى حوار يبدأ ص157 وينتهي بانتهاء الفصل ص159 .
20- الفصل العشرون: تدخل سردي من خارج السرد الخطي((سرد رسائل من(سلافة) من ص160 حتى ص165 حوار إجرائي تصويري منه ص166 حتى ص170 نهاية الفصل.
21- الفصل الحادي والعشرون: افتتاحية إخبارية قصيرة ثم انتقال سريع إلى الحوار الذي يسيطر على الفصل كله مع بعض القطع السردي القصير جداً، لذلك نستطيع أن نطلق على هذا الفصل الحواري المسرحي ص170- 174 .
22- الفصل الثاني والعشرون: يحمل خصائص الفصل السابق ذاتها: بداية سردية إخبارية قصيرة ثم انتقال إلى الحوار وقطوع سردية مساعدة.
23- الفصل الثالث والعشرون: فصل قصير مقدمة سردية وحوار قصير إجرائي.
24- الفصل الرابع والعشرون: مقدمة سردية قصيرة ثم انتقال إلى الحوار ص180 ويستمر الحوار حتى نهاية الفصل.
25- الفصل الخامس والعشرون: مقدمة سردية تمهيداً لحوار بأسلوب(قال قلت) من ص185 حتى ص192 .
26- الفصل السادس والعشرون: فصل(مونولوجي) قصير يسرد الحالة الداخلية وصفياً.(1/363)
27- الفصل السابع والعشرون: مقدمة سردية ثم انتقال إلى الحوار الذي يبدأ ص194 وينتهي بنهاية الفصل وهو حوار متنقل مركزه جميل مشهد مسرحي.
28- الفصل الثامن والعشرون: مقدمة سردية طويلة نسبياً ثم الانتقال إلى الحوار المسرحي وينتهي ص210(مشهد مسرحي).
29- الفصل التاسع والعشرون: يبدأ بمقدمة سردية قصيرة جداً ثم انتقال إلى الحوار ص211 ويستمر حتى ص213 .
30- الفصل الثلاثون: تدخل سردي من خارج النص المسرود خطياً وهو محاولة سرد الأحداث الغائبة عن جسم النص السردي، التي غيبها الراوي الرئيسي ويبدأ النص بالتحول إرهاصاً لتقنية الفصول التي سنراها في السفينة وفي البحث عن وليد مسعود، والراوي في هذا الفصل هو(سلافة النفوي) لذلك نستطيع أن نعنون النص بـ(سلافة النفوي) كما فعل جبرا في السفينة وعنوان فصوله بـ(وديع عساف) و(عصام السلمان) و(إميليا فرنيزي) ويفرغ الراوي النص بطريقته الخاصة إذ يلغي من هذا الفصل التعليقات والمُقاطعات الحوارية: ((وأنا أعيد رواية قصتها هنا كما هي، وبدون المقاطعات والتعليقات العديدة التي أبديتها أنا)) ص214 .
ويخلل هذا الفصل بعض الحورات الاجرائية السريعة
31- الفصل الحادي والثلاثون: مقدمة سردية قصيرة ثم انتقال إلى الحوار الذي يسيطر على جميع الفصل حتى نهايته.
32- الفصل الثاني والثلاثون: سردي وصفي إخباري تقليدي.
33- الفصل الثالث والثلاثون: مقدمة سردية إخبارية ثم حوار إجرائي حتى نهاية الفصل.
34- الفصل الرابع والثلاثون: ظهور تقنية جديدة (تقنية اليوميات) يستعير فيها النص مسرودات خارجية يستفيد منها في سرد الأحداث التي لا يسوغ للراوي التقليدي القيام بسردها، وهنا أيضاً محاولة أخرى للاستعانة براوٍ آخر هو(عدنان طالب) ((قطعتان مقتطفتان من يوميات عدنان طالب)) ص234 .
35- الفصل الخامس والثلاثون: مقدمة سردية وانتقال إلى الحوار ثم عودة إلى السرد الخطي ثم حوار حتى نهاية الفصل ص257 .(1/364)
36- الفصل السادس والثلاثون: مقدمة سردية وحوار يليها.
37- الفصل السابع والثلاثون: مقدمة سردية مونولوجية ثم حوار.
والخاتمة السردية لجميع الفصول. سرد وصفي مشحون نفسياً وفنياً ص263 .
المرحلة الثانية سردياً:
- ظهور تقنية جديدة نظام الفصول، (تعدد الرواة):
يعتمد النص السردي تقنية رئيسية في النصين التاليين(السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) لأننا إذا اتبعنا تصنيفاً مرحلياً لسيرورة النص في انبنائه السردي نجد أن هناك ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة النص المسرود براوٍ واحد، وتتمثل هذه المرحلة بـ(صراخ) و(صيادون) وتنقطع هذه المرحلة بانبناء سردي في المرحلة الثانية التي نحن بصددها الآن وهو مرحلة تعدد المسرودات بتعدد الساردين، وتعود المرحلة الأولى إلى الظهور في(عالم بلا خرائط) لأن النص منتج مشترك تراجع فيه جبرا عن تقنيته السابقة لمجاراة التأليف الثنائي مع أن التصور المنطقي بل منطق التأليف المشترك يفرض على المؤلفين أن يستخدما نظام الفصول، إذ يستطيع كل مؤلف أن يتحكم منفرداً بمجريات فصله ضمن النظام الكلي للنص، وكذلك في الغرف وهي لا تخرج كثيراً عن نمط المرحلة الأولى وتنتمي هاتان الروايتان إلى المرحلة الثالثة التي تعد ارتداداً سردياً إلى المرحلة الأولى على الرغم من النجاح الكبير الذي حققته المرحلة الثانية.
جـ- النص السردي ونظام الفصول في السفينة:
1- فصل عصام السليمان الأول البداية بالسرد المباشر المنولوجي بطريقة الإخبار والوصف.
- يتخلله حوار موصوف مروي مسرود سرداً بالنقل وليس بالتمثيل ص6 .
- مسرودات نفسية مونولجية ص8 .
- حوار تمثيلي ص9.
- استمرار السرد الخطي.
- حوار(قال وقلت) والانتقال بعد ذلك إلى العرض التمثيلي للحوار.
- انتقال إدارة السرد من عصام إلى وديع عساف من ص15- 26 .
- مسرودات(مونولجية) (نجائية) داخلية تأملات في العالم في الإنسان في الذات في المأساة ويرصد العالم الخارجي بمنظور العالم الداخلي.(1/365)
- تلخيص المسرود السابق ص24 .
- ترابط السرد بالزمن- تداخل سردي ص24 و 25 ثم عودة إلى المشهد الجديد بالاستئناف اللغوي...
- يستعيد الراوي موقعه السردي بعد أن ينتهي التدخل السردي لوديع ص26.
- حوار مونولوجي ذاتي الذات للذات.
- مفصل سردي ص29 يستخدم الحدث لتحويل السرد عن مجراه الطبيعي.
- حوار متضمن موصوف مندغم في العملية السردية ليس مستقلاً ص29 .
- تنويع صيغة السرد بين الترهيني والراهن ص30 .
حوار قصير ( قال وقلت) ص 30،31،32.
- تدخل سردي القص لمحمود الراشد على شكل اعترافات(نموذج الاعترافات) ص33- 34 .
- خاتمة الفصل مفصل سيكولوجي تفجعي بالعالم وهو سرد ويستخدم لغة إنشائية تعبيرية. ويتخلى عن اللغة الإخبارية.
2- فصل وديع عساف الأول(الفصل الثاني):
1- افتتاحية الفصل الثاني بطريقة للغة السرد الإنشائي التعبيري الحلمي بوساطة اللغة الإخبارية وبواسطة الاتكاء وعلى الرصيد الثقافي للمؤلف.
- اعترافات مسرودة بشكل نجائي إخباري ص38 .
- حوار مُتَضَمّن مسرود من طَرَف واحد هو الراوي ص38- 40 .
- حوار يبدأ مندغماً في النص المسرود ثم بعد ذلك يتحول ليكون حواراً تمثيلياً ويستمر الحوار حتى ص53 متنقلاً لكنّ المركز الرئيسي له هو وديع عساف ص46 .
- قصٌّ داخل القصّ(سرد قصة العملية الفدائية).
- تشعّب السّرد إلى مجموعة من القصص الصغيرة جداً التي تملأ الفراغات الخلالية بين مفاصل القصّ الرئيسي ص60 .
- سرد تخييليّ يستخدم فيه الكاتب(الفانتازيا) لرصد القدرات الحسية الداخلية,
- عودة إلى السرد الخطي من جديد ص60 .
- خاتمة الفصل سرد خطي ص71 .
الفصل الثاني لعصام(الفصل الثالث في
النص السردي الكلي):
1- الافتتاحية مقدمة سردية ثم انتقال إلى الحوار ص72 .(1/366)
- الحوار يستمر حتى ص79 حوار مونولوجي يستلم فيه وديع السرد فيختل نظام الراوي الذي يستقل بالفصل المسرود وحده، ويبدو أن هذا انفتاح نفسيٌّ بين الكاتب والنصّ، لأنّ الحالات اللغوية المحمّلة بالشحنات الشعورية المتدفقة تكون أكثر تدفقاً واطمئناناً للانطلاق، ولأن الخيال يُستثار أكثر ما يستثار عندما يستلم وديع عساف(نائبُ منتجِ النص) دفة السرد.
- العودة إلى الراوي الطبيعي بعد الجنوح عنه ص82 .
- ويتقلّص الحوار ليصبح جُملاً قصيرة لتأدية أغراض بسيطة على المستوى الوظيفي ويستمر حتى ص84 بشكلٍ تمثيليٍّ ثم يتحوّل إلى حوار قال وقلت.
- خاتمة الفصل تنتهي بمقطع من حوار هو الجزء الأول على شكل سؤال دون الإجابة ص86 ويكون هذا السؤال الذي يُطلقه وديع عساف تمهيداً للدُّخول في فصلٍ آخر هو فصلُ وديع نفسه فربّما كان ذلك رابطاً وهمياً بين الفصلين.
الفصل الثاني لوديع (الفصل الرابع في النص
السردي الكلي):
- يبدأ بعرض حوارٍ حول قضيّة روحيّة(الإيمان) على شكل مقدّمة سردية يندغم فيها الحوار بالسّرد فيصعبُ الفصل بينهما ثم يخرج من هذا الاندغام بالطريقة المعهودة لديه حوار(قال وقلت) ويتحول تدريجياً إلى حوار تمثيلي ويستمر ذلك من ص87- 99.
- خاتمة الفصل بالحوار .
الفصل الثالث لعصام السلمان ( الخامس في النص):
- الافتتاحية سردية خطية اخبارية ص100.
- ينقطع السرد بالحوار التعليقي الذي يبدأ ص104 يستمر حتى ص105 متوسط الطول يستخدم لغة التحقيق(البوليسي) الاستفساري.
ويستمر الحوار سريعاً وقصير الجُمل مستخدماً اللغة الإخبارية حتى ص107 ثم ينتقل بطريقة(قال وقلت) ص108 .
- انحراف السّرد عن خطه الذي يسرده الراوي ويتناول السرد راوٍ آخر هو(محمود الراشد) ويسرد قصة داخل عملية السَّرد العامّ.
- يستمر الحوار التمثيلي ص112 وينتهي الفصل بالحوار ص115 .
الفصل الثالث لوديع عساف(الفصل الخامس):(1/367)
- يتحلّى في الافتتاحية عن العنونةِ المطلقيةِ ويبدأ بمقدّمة سردية وصفية تقليدية وينتقل بعد ذلك إلى الحوار.
- حوار قصير يدورُ حول الفعل والحلم وهو حوار تمثيلي ص117- 118.
- حوار تعليق على حادث مرور سابقاً ويستمر الحوار بعد ذلك حتى ص124 حواراً تمثيلياً يتخلله حوار موصوف(بقال وقلت) ثم يأتي حوار نجائي متلاحق بجمل قصيرة ثم ينتقل إلى حوار طويل الجمل يتناول موضوعاً فكرياً وينتقل النص إلى حوار طويل متناوب بين الجمل القصيرة والطويلة حتى ص131 .
- سرد يستخدم العرض التقليدي والتحليل الوصفي ص132- 135 .
- ينفتح السرد من جديد ويتمركز في نقطة سردية أخرى لينطلق منها ص136 .
- قص داخل القص 136- 137 حدث انهيار محمود الراشد.
- سرد تقليدي خطي ثم انتقال إلى الحوار التعليقي حول الحدث.
- مونولوج سردي داخلي ثم حوار سريع وقصير موحى به بمساعدة السرد.
- يستمر السرد التقليدي الوصفي ثم الانتقال إلى سرد إنشائي نفسي وينتهي الفصل نهاية مفتوحة دون ختام سردي معين.
الفصل الرابع لعصام السلمان:
- يفتتح النص بالزمن المسرود ثم انتقال إلى مونولوج سردي داخلي.
- حوار يفتتح(بقال وقلت) ثم يتحول إلى حوار تمثيلي وهذه التقنية تظهر عندما يكون هناك قضيةٍ نفسية مهمة وحميمة وتتعلق بالمحاور وبعض الأحيان يستخدم مُتَّكَأً نصياً يساعد السرد على الاندغام في الحوار لعدم حدوث فواصل تفصل الحوار عن جسم السرد، وتظهر هذه التقنية عندما يكون الأشخاص المتحاورون متعددين فإن الحوار(قال وقلت) يقرن باسم المتحدث للإشارة إلى المتحدث وتجنب الاختلاط.
- حوار مستمر قصير الجمل وسريع ص157 حتى 159 .
- تعليق مونولوجي على الحوار ثم استمرار الحوار حتى ص163 .
- عودة إلى خطية السرد ص165 .
- حوار بعد سرد خطي إخباري ص170 .
- يستمر الحوار حتى ص182 وينتهي الفصل بسرد وصفي تقليدي.
الفصل الوحيد لإميليا فرنيزي(الفصل التاسع):(1/368)
راوية طارئة اضطرارية ليعرض الروائي المسرود الموازي الذي تجري فيه الأحداث التي غابت في مسرودات الرّوائيين وديع وعصام؛ لأن الإمكانية الواقعية لا تسمح لأي منهما بالسرد نيابة عنها.
- الافتتاحية مسرود نفسي تقليدي متحرك.
- انطلاق السرد بشكل متماوج-متأرجح، متقطع متداخل زمنياً- يحتوي مناطق خلالية متفاوتة الحجم معبأة بمسرودات ذاكرية لتنويع الفعل الروائي الذي ينوع المعادلات النفسية والتخييلية في المتلقي.
- وتتكرر الصوى السردية والحوارية بالطريقة ذاتها التي مرت في الفصول السابقة منذ ص183 حتى 194. نرى في هذا الفصل الأخير لعصام وما قبل الأخير في النص التقنيات السابقة ذاتها التي رأيناها في الفصول السابقة بين حوار وسرد ومقدمات سردية وصفية.
الفصل الأخير في النص يسرده وديع عساف.
ينصب الكاتب راويته وديع الحكيم الذي يقطف ثمار الأحداث ونتائجها ويطلق كلمته التي تعد الختام السردي العام لكلية النص.
وتتكرر التقنيات في النص ويختتم النص بنهاية مفتوحة.
سياق النص السردي في(البحث عن وليد مسعود):
سنقوم بعرض ملخص سردي لمسرودات النص في(البحث عن وليد مسعود) لأن التقنيات السردية التي استخدمت في النصوص السابقة تستخدم في هذا النص مع تعديل في التنظيم الذي يحتمه الغرض الخطابي. وتظهر في هذا النص تقنية الفصول التي رأيناها في السفينة ولكن بتطور أكثر وتعدد إضافي فقد نجد الفصول النصية يرويها راويان يتناوبان السرد فيما بينهما في السفينة مع وجود رواية ثالث يُفَردُ لها فصلٌ واحدٌ نجد في(البحث عن وليد مسعود) رواة متعددين دون تقنية التناوب.
1- الفصل الأول: يفتتح بسرد تقليدي وصفي نفسي وهو تعليق على شخصية وليد مسعود وتحليل للعالم وللعلاقات البشرية وبعد ذلك حوار تمثيلي.
- تدخل سردي خارجي سرد محتويات الشريط الذي سجله وليد مسعود يليه حوار السرد السابق(قال وقلت).
- خاتمة الفصل بشكل مفتوح.(1/369)
2- الفصل الثاني: العنوان يشكل افتتاحية سردية: ((د. جواد حسني يبدأ البحث مستدلاً من منظور كاظم إسماعيل وإبراهيم الحاج نوفل)).
ويستمر السرد في هذا الفصل خطياً تقليدياً دون خروج عن الخطية أو تدخل خارجي ينقطع السرد أحياناً بالحوار.
ونجد التقنية التي رأيناها سابقاً وهي سرد قصة داخل عملية القص إذ يسرد د. جواد قصة وليد مع كاظم والعقاب الذي يوقعه وليد بكاظم برميه في الليلة الماطرة عند منقطع العمران.
- يعيد الراوي افتتاح القصة بالتتمة التي حذفها من القصة السابقة.
- السرد يستمر تحليلياً يحلل الظواهر الاجتماعية والطبقية والسيكلوجية والتاريخية وتتخلله بعض الحوادث ص68- 73 .
- سرد خطي ص73- 75 .
- حوار تمثيلي ص77 ثم يستمر الحوار حتى ص85 وتكون الخاتمة السردية بالحوار ذاته ص86.
3- الفصل الثالث كما في الفصل السابق تأتي افتتاحية الفصل الثالث في العنوان: ((عيسى الناصر يشهد موت مسعود الفرحان)).
ويستمر السرد وصفياً تقليدياً منذ ص89 حتى 95 ثم بالتناوب حوار-سرد- حوار- سرد- حوار- ... منذ ص96- 110 .
4- الفصل الرابع: يسيطر عليه السرد الخطي وتتخلله بعض الحوارات الوظيفية وفق ما يلي:
مقدمة سردية- ثم حوار- تناصٌّ سردي، حوار وصف سردي، حوار، مسرود ذاكري، مسرود تصويري حواري، نهاية الفصل بالحوار.
5- الفصل الخامس: الافتتاحية بسرد مندغم بالحوار، ثم حوار مستقل سرد تحليلي وصفي يستخدم تقنيات البحث الجنائي، والبحث السيكلوجي تدخل سردي أسلوب الرسائل، سرد تعليقي على الرسالة، الاتكاء على الحوار المسرود(بقال وقلت) لاستمرار التواصل السردي، وكذلك تحديد الشخصية المتحدثة ويقترب هذا الحوار من التحقيق الجنائي: جمل قصيرة بعضها مُتمّمُ للآخر، ثم يأتي تعليق الرّاوي على الحوار سردياً.(1/370)
- نصوص مذكرات تقنية وردت سابقاً كما رأينا في(صيادون) مذكرات عدنان طالب، ويقوم الراوي بشرح التركيب السردي للمذكرات، حوار استنطاقي وبعض الحوارات الإخبارية الأخرى.
6- الفصل السادس: افتتاحية سردية تقليدية عرض خطي مونولوجي.
7- الفصل السابع: الافتتاحية سردية تقليدية تبدأ بمقدمة تنتقل إلى الحوارات التي تشكل هدفاً في ذاتها.
- في معرض السرد الخطي يحدث خلل منطقي ينحرف بالوقائع عن واقعها الخاصّ فتسرد مريم الصفار في البداية وقائع معينة ثم تتبعها بوقائع مناقضة كل المناقضة.
الوقائع الحقيقية للسرد:
أولاً: كانت الزيارة مدبّرة، ذهبت لزيارة سوسن فوجدتها كالعادة ترسم وإذا اللوحة التي على المسند(بورتريت) غير كاملة لوجه مألوف لدي... عامر عبد الحميد زوجته(آن) هي التي أرادت الصورة- هل أتى وحده؟
- بدون آن.
- في المرة القادمة أخبريني، اجعليها مرّة حين يكون علاء غائباً، تلفني له اطلبي منه أن يأتي غداً مساء.. أرجوك وتعالي إلي، وأحضريني بسيارتك لئلا تُرى سيارتي خارج المنزل مع سيارته)) ص210و 211.
- فرضية مريم الصفار السردية النفسية:
((لم يكن علاء في البيت، الأمر الذي جعلني أعتقد أن الزيارة كانت مدبّرة. لأنّ سوسن تعرف أنني سأقضي السهرة عندها بل إنها جاءتني إلى البيت بنفسها وأخذتني بسيارتها، وعامر يعرف أن علاء غائب في سفر جاء بحجة رسم صورته دون مرافقة(آن) زوجتِهِ)) ص210 .
ويُنَفذُ هذا المخطّط بحذافيره ويتمّ اللقاء كما يجب لكنّ التساؤل المهمّ(لماذا ادّعت مريم في البداية أنها تجهل كلّ هذا الأمر، وأنها امرأة بريئة تقوم بزيارة بريئة، وتصوّر نفسها مخدوعة من سوسن وعامر)
6- الفصل السادس: افتتاحية سردية تقليدية عرض خطي مونولوجي للروح الداخلي.
7- الفصل السابع: الافتتاحية سردية تقليدية مقدمة سردية ثم الانتقال إلى الحوارات التي تشكل هدفاً في ذاتها.
- خلل منطقي في السرد قد يكون مقصوداً فعرضه كمايلي:(1/371)
دبّرت مريم الصفار مؤامرة لقائها بعامر عبد الحميد وتدعي في أثناء السرد أن زيارتها لصديقتها سوسن بريئة وهي مجرد مصادفة، فهي التي اقترحت فكرة اللقاء في بيت سوسن أثناء غياب علاء زوج سوسن، وهي التي طلبت تقديم موعد لقاء عامر بسوسن من أجل الرسم وطلبت من سوسن إيصالها بسيارة سوسن إلى مكان اللقاء ثم تسرد كلاماً مناقضاً لكل ذلك تقول: ((زيارة بريئة لصديقة، في تلك الليلة جاء عامر أيضاً لزيارة سوسن وعلاء، ولكن علاء كان مسافراً الأمر الذي جعلني أعتقد أن الزيارة كانت مدبرة، لأن سوسن تعرف أنني سأقضي السهرة عندها)).
وفيما يلي أعرض المسرودين المتناقضين:
الفرضية الأولى خطأ السرد:
أنا في زيارة لسوسن زيارة بريئة جاء عامر لزيارة سوسن وعلاء ولكن علاء لم يكن في البيت، كان مسافراً إلى البصرة أو الموصل في عمل ما الأمر الذي جعلني أعتقد أن الزيارة كانت مدبرة.
الفرضية الثانية الوقائع الحقيقية للسرد:
1- أولاً طبعاً كانت الزيارة مدبرة.
2- اجعليها مرة حين يكون علاء غائباً.
3- تلفني له اطلبي منه أن يأتي غداً مساء أرجوك.
كيف يمكن تفسير هذا التناقض في السرد؟ ليس هناك أي تفسير إلا في ضوء طبيعة الراوي السارد؛ فمريم الصفار تعاني خللاً نفسياً داخلياً يجعلها راوياً غير متزن لا يمكن أن يُطمئن إليه.
وهنا يقع اللومُ النقديُّ على الكاتب منتج النص الذي ربما كان في مخططه السّردي مستقبل للوقائع غير الذي سرده، ولكنه وجد بعد ذلك أن الخط السردي، يجب أن ينحرف عن مخططه السّابق، ولم يلغ الجزء الأول لسبب ما.
- يستمر النصّ السردي حوارياً متنقلاً مركزه الرّاوي مريم الصفار.
- نهاية الفصل خاتمة سردية تعرض مسروداً نفسياً.
الفصل الثامن: الافتتاحية سردية، مونولوج نفسي، ثم سرد مستمر.
- خطية يتخللها بعض المسرودات المونولوجية النفسية.
- حوار مع المحققين وهو حوار استنطاقي قصير الجمل.
- الخاتمة كالافتتاحية سردية مونولوجية.(1/372)
الفصل التاسع: الاستهلال مونولوجي نفسي سرد حوارات متنقلة مركزها الحوار الرئيسي وينعكس التقليد السردي السائد فيصبح السرد متخللاً للحوار.
- مسرود خارجي(رسالة وليد إلى وصال).
- سرد مونولوجي.
يقسم منتج النص الفصل إلى خمس فقرات تعرض فيها الراوية آفاق علاقتها بالشخصيات في الرواية والمركز الرئيسي الذي تدور حوله هذه الفقرات هو علاقتها بوليد، وتسيطر الحوارات على جميع هذه الفقرات وتكون خاتمة الفصل بالحوار.
الفصل العاشر: سرد خطيّ وصفيّ يسيطر على جميع الفصل وهو شيء طبيعي؛ لأن الغرض الخطابي من الفصل إخباري يهدف إلى توصيل صورة اقتحام المجموعة الفدائية قرية أم العين.
يسرد هذا الفصل مروان وليد الفدائي المُشترِك باقتحام القرية والذي يستشهد في النهاية. وتظهر هنا إشكالية واقعية إذ يظل مروان يسرد النص إلى اللحظة التي يفارق فيها الحياة وهذا متعذر على المستوى الواقعي، بل إن كون مروان سارداً للفصل متعذر واقعياً إذ لا يمكن أن يتحقق هذا إلا في مستوى(اللا معقول) بمفهومه الأدبي والواقعي، حين يقوم الكاتب باستحضار مروان الشهيد وتكليفه بإدارة السرد بعد استشهاده، لكن هذه العملية الفنية تؤدي غرضاً نفسياً وهي ممكنة التحقق على المستوى التخييلي، وربما تكون عملية رمزية ذات مرمى خطابي يمتد إليه النص إذ يثبت الكاتب من خلاله المقولة السائدة عن الشهيد(الخلود) وهو تفسير ممكن ومرجح إذا انتبهنا إلى طبيعة الكاتب منتج النص.
الفصل الحادي عشر: يكرر فيه النص التقنيات السردية السائدة إذ يفتتحه بسرد مونولوجي يعتمد تداعي الوعي ثم ينتقل إلى حوار موصوف مندغم في السرد.
- تدخّل سردي خارجي(قصة الاسكندر وبحثه عن ماء الخلود).
- سرد تقليدي خطي يسرد فيه قصة هشام زوج مريم الصفار مع الموظف الذي ضبط بعلاقة جنسية مع إحدى الموظفات...
- تسليم السرد لشخصية أخرى وذلك بالحوار.(1/373)
- ويستمر السرد مونولوجياً يعتمد التداعي المتفاوت بين التداعي السببي والتداعي الحر غير المترابط.
- حوار مونولوجي داخلي.
- خاتمة الفصل سرد مونولوجي وصفي..
الفصل الثاني عشر: يأتي الفصل على شكل تلخيص وتعليق نهائي على أحداث ومجريات عالم(البحث عن وليد مسعود).
وهذا الفصل بحث عن ذات الراوي(د. جواد حسني) الذي بحث في فصليه الأول والثاني في أمور تتعلق بوليد مسعود، حيث يتفرغ للنظر في ذاته والتأمل فيها.
وتتخلل المسرودات التأملية والبحثية مجموعة حوارات متنقلة مركزها راوي الفصل د. جواد حسني.
سياق النص السردي في عالم بلا خرائط:
النص المسرود مقسم إلى مجموعة فصول رقمية والترقيم ليس يهدف إلى تقسيم زمنيٍّ صِرْف كما رأينا في صيادون، لكنه مختِلطُ الزمن لا يخضع لأي ترتيب من نوع ما، وما يُستنتج أن هذا الترقيم صُوىً سردية تُساعد في تسهيل عملية السرد الثنائي، وما يلاحظ أن الفصول قصيرة جداً لا يتعدى الفصل الواحد عشر صفحات من القطع المتوسط، وقد يتدنى العدد إلى ثلاث، وهذا مفيد في استمرار الكاتبين على خط سردي واحد لئلا تضيع منها تفاصيل المسرودات ولكن على الرغم من ذلك فقد وقعا في تداخلات سردية مكرورة إلى درجة أن بعض الفصول يكون استنساخاً سردياً للبعض الآخر بأسلوب لغوي مباين نسبياً، وكثيراً ما كان السّارد يتوصل في نهاية فصله إلى أفق سردي مسدود، فيلجأ إلى التعمية وإظهار الحيرة ويجعل خاتمة الفصل مفتوحة دون فائدة سردية أي أنها لا تقوم بوظيفة سردية تخدم النص وسيرورة السرد فيه وإنما تخدم المؤلف الآخر الذي سيأتي ليتكئ عليها في الفصل التالي؛ أي أن الخواتيم في الفصول تكون متكآت سردية للافتتاحيات التي تعاني الإشكال ذاته، لذلك تقوم بتلخيص مكثف للفصل السابق أو لفصل أسبق من أجل الانطلاق السردي، ونادراً ما كانت تستطيع الانطلاق دون عملية التفات إلى الوراء أو مراوحة في المكان.(1/374)
- يبدأ النص السردي بسرد مقدمة سردية تقليدية لخلق عوالم حلمية غائمة غير واقعية يتداخل فيها الواقع بالمتخيل والماضي بالحاضر والنفسي بالفكري والذاتي بالموضوعي، ثم ينفتح النص على السرد الخطي التقليدي السائد.
- حوار(قلت وقالت) ثم حوار تمثيلي.
- سرد حلمي ثم حوار إجرائي.
- سرد تقليدي ثم حوار إجرائي.
- الفصل السابع سردي لفصول سابقة يأتي فيه السرد على شكل اعترافات.
- حوار إجرائي.
- الفصل التاسع سرد بالرسائل المتبادلة تدخل سرد خارجي.
- الفصل العاشر حوار مونولوجي يستخدم فيه أسلوب المخاطبة من طرف واحد.
- حوار إجرائي ثم ينتقل إلى حوارية فكرية نفسية.
- الفصل السادس والعشرون فصل حواري.
- تدخل سردي خارجي يسرد فيه النص بعضاً من رواية علاء على لسان(رياض البرهان) محور الرواية.
- يتخلل السرد مشهد مسرحي حواري تخييلي بين علاء ومحور روايته(رياض البرهان) وهو على شكل حلم متخيل يؤدي أغراضاً سيكلوجية وفكرية وينزع النص فيه إلى خلخلة الشكل الروائي السائد وهو ناجح بنسبة ما، والمشهد محاكمة فكرية ونفسية لعلاء يقوم بها بطله رياض البرهان.
- تناصّ أسطوري وتراثي.
- تدخّل سردي خارجي منفصل عن جسم السرد: فصل مسرحي تخييلي يعرض فيه الكاتب رأيه في العلاقة بين الشخصية الروائية والكاتب والصّلة المتبادلة بينهما إلى درجة الاندغام وتبادل المواقع، وهذا ما يفسر الحوار السابق الذي جرى بين(محور رواية علاء شجرة النار) وبين (علاء نفسه منتج النص).
- الاستعانة بالرصد الثقافي.
- تناص شعري.
- السرد بأسلوب المذكرات بعض أوراق حسام الرعد خال علاء.
- تدخل سردي حوار مسرحي بين شخصيات خارجية ليست من شخصيات الرواية((إنها جزء من فصل طويل عنوانه حوارات الموتى والمشهد فيه حول العالم السفلي الذي تذهب إليه أرواح الموتى في زورق عبر مياه عريضة وصاحب الزورق هو الربان العتيق خارون وله مساعد شاب يدعى هرمز.))
- حوار ينتمي إلى جسم النصّ السردي.(1/375)
- سرد خطي ينتمي إلى النص السردي.
- حوار(التحقيق مع علاء بشأن مقتل نجوى).
- إعادة سرد بعض الحوادث المسرودة سابقاً.
- سرد حُلمي مختلط مشهد السجن.
- حوار مونولوجي الذات للذات.
- سرد خطي تقليدي.
- تدخل سردي مختلف(رسالة من نجوى).
- سرد خطي- ثم حوار إخباري.
- الخاتمة: سرد خطي وصفي تقليدي.
- ملحق خارجي(تقرير إلى وزير الداخلية حول مقتل نجوى العامري).
- مرفق بالتقرير(بعض من أوراق علاء الدين نجيب).
سياق النص السردي في(الغرف الأخرى):
- ربما يكون السرد في(الغرف) السرد الوحيد الذي تمتع بخطية شبه مطلقة متلاحقة لم تنقطع بأي مسرود خارجي نظراً لطبيعة الرواية ومنزعها الخطابي.
- الافتتاحية سرد تقليدي وصفي.
- حوار(قلت وقالت) ثم الانتقال إلى الحوار التمثيلي.
- حوار موصوف.
- سرد مونولوجي.
- حوار موصوف.
- وهكذا يتناوب الحوار والسرد الوصفي بين سرج مونولوجي وسرد تقليدي وصفي، وينتهي النص بسرد وصفي يتخلله حوار بسيط.
أنواع الحوار:
من المعروف أن الحوار في الرواية سواء منها التقليدية وغير التقليدية يُعَدّ تقنية مساعدة، وجزءاً مكون من أجزاء السرد، وأهميته كبيرة في انبناء النص وقدرته الدلالية، إذ يحمل دلالات خطابية متنوعة تكون من المرامي الرئيسية أحياناً، لكن جبرا إبراهيم جبرا في جميع نصوصه أعطى الحوار أهمية كبرى ربّما لا نجدها عند روائي عربي آخر بالكثافة ذاتها وبالتلاحق نفسه ومردّ ذلك إلى الطبيعة الروائية التي يؤلف وفقها وإلى المنازع والمرامي الخطابية التي يطمح أن يمتد إليها نصّه، وهذا هو الأهم والاعتناء بكم الحوار يصل في كثير من الأحوال إلى درجة تجعلنا نبدل بين المواقع في العنوان الذي استخدمناه؛ فنقول مواقع السرد في أثناء الحوار وسنرصد فيما يلي كيف جعل النص الحوار تقنية سائدة فاقت في مواقع كثيرة أهمية السرد.(1/376)
1- الحوار الموصوف: يكون هذا النوع في المناطق السردية التي لا تحتمل الانفتاح على حوار، وغالباً ما تكون هذه المناطق في السرد الإخباري الوصفي الذي يُرَهِّن الماضي ويسرد وقائعه ويكون وصف الحوار(بقال وقلت وقالت، وسأل وأجاب..).
2- الحوار المندغم بالسرد: تقنية عالية في الإيصال تكون دائماً في سبيل المنطقة السردية(المونولوجية) التي تستخدم المناجاة الداخلية سبيلاً للإيصال ويكون السرد حالة حوارية داخلية ويتحول فيها كلية إلى حوار موجه بشكل غير مباشر إلى القارئ أو حوارية تعزية روحية مطلق دون مخاطب وهذا النوع يقودنا إلى الحديث عن حوار مباشر يوجه من الشخصية بعض الأحيان إلى القارئ هو:
3- حوار المخاطبة أحادي الجانب: لا نجد مثل هذا الحوار بالمعنى الدقيق في نصوص جبرا إلا إذا تجاوزنا المعنى قليلاً.
تظهر تلك التقنية في نهايات الفصول في عالم بلا خرائط وذلك عندما يُبْدي الراوي انعدام قدرته على الاستمرار في السرد وضياع التركيز وفقدان الاتجاه، فكأنه يتوجّه إلى القارئ مبدياً تذمره وطالباً التعاطف. إن الحديث عن هذا النوع من الحوار يفتح أمامنا أفق الحديث عن انفتاح النص الروائي(بمعنى من معاني الانفتاح) على المتلقي وعندئذ يكون النص كلية(سرداً وحواراً) حواراً من طرف واحد بين المرسل والمتلقي وتكون السيادة الحوارية المطلقة للنصّ في حالة القارئ العاديّ، أما في حالة القارئ الناقد، فالأمور مختلفة إذ يكون الحوار محاورة نقدية موضوعية في جميع فضاءات النص.
4- الحوار التمثيلي المستقل: النوع الأكثر تميزاً ووروداً في النص السردي لدى جبرا وله أهدافه وأغراضه ووظائفه يعرضه النص على شكل حوار مسرحي ويأتي السرد في أثنائه شروحات وتعليقات وتوضيحات.
2- الحوار، وظائف الحوار وخصائصه:(1/377)
أشرنا سابقاً إلى أن الحوار بنية نصية شديدة الحضور في النص وعندما درسنا مواقع السرد من الحوار وجدنا أنه يمكننا أن نعكس التعبير ليكون مواقع السرد من الحوار بخاصة في(صيادون) ويتصف الحوار بالخصائص التالية:
1- الحوار في النص(أكثر الأحيان) ما عدا الحوارات الإجرائية الإخبارية القصيرة ينبني بالعناصر التالية: (الموضوع: فكري حضاري إنساني سياسي اجتماعي ثقافي ديني وهو يدور أكثر الأحيان حول قضايا شمولية، أو جزئية تنتمي إلى عالم شمولي.
أ - المكان: حديقة بيت ميسور وهي حديقة خاصة لها شكلها ومكوناتها أو مقهى، أو قاعة، ونادراً ما يكون اللقاء الحواري خارج المكان المشار إليه إلا إذا كان في السيارة ولابد أن يكون في مكان مغلق ليشكل المنتدى الثقافي الذي يقوم المثقف منه بإدارة العالم نظرياً.
ب- الحوار مولد للشخصيات فقد تنبثق شخصية معينة فجأة من الحوار وترتسم أوصافها ومعالمها دون الوصف السردي؛ لأن الحوار يقوم بخلقها وإكسابها هيكليتها العامة.
جـ- يمّهد الحوار دائماً لحدث ما، سيقع وغالباً ما يأتي بعد ذلك تعليقاً على وقوع الحدث وتحليلاً له وإصدار حكم أخلاقي عليه، وهنا يتفوق الحوار على السرد؛ لأنه أكثر عفوية وأقرب إلى الوقائع التمثيلية في تأدية الحكم والوصف ولأنه يؤدي إلى فهم طبيعي وعفوي بمجريات النص ويكون التفاعل معه أشد من التفاعل مع سرد إخباري قد لا يفعل في نفس المتلقي وبالتالي يؤدي إلى قطيعة بين المسرود والمتلقي.
د- اعتماداً على ما تقدم نقول إن الحوار حالة معالجة لمجريات النص وهي معالجة ترهينية بينما يأتي السرد ليرصد هذه الحالة ويكتفي بوصفها وتحليلها في ضوء قدرات السارد، التي تقتصر عن القدرات المتعددة للمتحاورين.(1/378)
هـ- بعض الحوار يكون هدفاً لذاته وهو حوار ليس وظيفياً على مستوى النص وإنما هو وظيفي على مستوى الخطاب، والبعض الآخر حوار وظيفي نصياً بتشكيل صوىً نصية يستند إليها النص لتكون منطلقات سردية ويلجأ السرد إلى هذا الحوار عندما يعجز عن الانتقال الحرّ من نمط سردي إلى نمط آخر.
و- بنية الحوار في الرواية(كما هو معروف) جزءان بين مرسل ومتلقي لكن الحوار في النص قد يكون حواراً من طرف واحد، وهو في المونولوج الداخلي والتداعي الحرّ أكثر وروداً منه في أنواع الحوارات.
ز- يأتي الحوار موصوفاً مروياً تطبعه الشخصية الساردة بطابعها الخاص لذلك يفقد موضوعيته واستقلاله الطبيعي ويخرج بل يبتعد عن ماهيته الحوارية ويقترب من الماهية السردية.
أ- التقنية السردية السائدة في النص هي تقنية المشهد المسرود الذي يتخلله الحوار.
ب- التناوب السردي بين الحوار والنص المسرود.
جـ- في الروايات التي تستخدم تقنية الفصول المعنونة يتداخل السرد فكثيراً ما يسردُ راوٍ جزءاً ثم يعيد سرده راوٍ آخر، بطريقةٍ تُناسب غرضه الخطابيّ فقد يمدّ المساحة السّردية إلى بُعدٍ عميقٍ جدّاً في قضية ما، بعد أن كانت في فصل الراوي السابق ضيقة المساحة، أو يقوم بالإشارة الإخبارية البسيطة وتتفاوت المساحات بين الإشارة البسيطة إلى الفصل السردي ففي(البحث عن وليد مسعود) مثلاً ترد الإشارة في أكثر الفصول على لسان رواتها إلى استشهاد(مروان وليد مسعود) بينما يعرض النصّ فصلاً كاملاً عن العملية التي يقوم بها مع رفاقه، وهذه التقنية سائدة في جميع الروايات.(1/379)
د- تعدّ الظاهرة السردية السابقة ظاهرة متناسبة مع الغرض البنائي للنص؛ لأنها تقوم بشروح للإشارات المختصرة، لكن النص، في بعض الأحيان، يقع في مأزق التكرار غير المفيد إذ لا يؤدي أي غرض خطابي إضافي ويظهر ذلك واضحاً جداً في(عالم بلا خرائط)؛ إذ يأتي الرّواي الثاني الذي يريد سرد الفصل الجديد ويعيد تلخيص الفصل السابق؛ لينطلق في قص فصله الخاص وفي أحيان أخرى يقوم الراوي بسرد فصل سابق لا يأتي فيه بجديد إلا الصياغة اللغوية.
هـ- سيطرة المونولوج الداخلي والتداعي وتيار الوعي على المقاطع السردية، ولا ينجو الحوار من هذه السيطرة بخاصة في الحوارات التي تكون مراميها فكرية.
و- وجود مرتكزات سردية ينطلق منها السرد، وتبدو هذه التقنية عندما يستنفد النصّ قدراته السّردية في كلّ مقطع سردي وتكون هذه المرتكزات، أكثر الأحيان، استحضارات ثقافية خارجية على شكل مناصات سردية منها ما هو أسطوري، وما هو أدبي؛ وقد تكون مرتكزات مونولوجية أو لغوية تتعلق بالنص.
ز- ظهور القص داخل القص، أي اعتماد النص على سرد قصة من خارج النص متكئاً خطابياً، وتكون هذه القصة مستقلة كلية عن النص السردي.
حـ- اعتماد النص الإخباري في كثير من الأحيان؛ النص الذي يعرض المعلومات سواء أكانت وصفية خارجية أم داخلية نفسية.
ط- سيادة المقدمات السردية الموطِئَة للحوار.(1/380)
ي- السرد في معظمه تحليلي يقترب أحياناً من التحليل الدراسي العلمي؛ إذ يقوم الراوي بدراسة سيكلوجية أو اجتماعية أو سياسية لظاهرة من الظواهر أو لشخصية من الشخصيات وعلى الدراسة السيكلوجية نجد أدق تمثيل فصل(طارق رؤوف يتأمل في برج الجدي) الذي يقوم بدراسة تحليلية للوضع السيكلوجي وتمظهراته على النموذجين السيكلوجيين الحقيقيين من وجهة نظر علم النفس(مريم الصفار، ووليد مسعود) ويُرجِعُ كثيراً من سلوكاتهما إلى نوع من الفعل السيكلوجي المتعلق بالتأثر بالآخر باللاوعي والرّسّو في الراقات السحيقة للنفس وإلى نوع من التأثر الخارجي الغيبيّ كالتأثر بمفهومات الأبراج وما يطرح عن خصائص من ينتمون إليها ويحلل الصفات التي يتمتع بها الأشخاص الذين ينتمون إلى برج الجدي.
والمثال على الدراسة البيئية والديمغرافية دراسة(علاء نجيب) لتطور عمورية وموقعها الجغرافي وهجرة السكان منها والبحث في الأصول والأعراق لهؤلاء السكان، وتأتي الدراسة الاجتماعية واضحة لوضع المثقف والمجتمع المتخلف جلية في(صيادون) وفي(البحث عن وليد مسعود) وكذلك في(عالم بلا خرائط) ولا نستطيع أن نستثني(السفينة) أو(صراخ).
المقدمات، الافتتاحيات:(1/381)
يختلف نص جبرا إبراهيم جبرا عن كثير من النصوص الروائية العربية الأخرى في استخدام تقنية خاصة يبدأ بها رواياته هي المقدمة المأخوذة من حقول ثقافية أو أدبية خارج النص الروائي المقدم له، وتشكل هذه المقدمات ما يشبه تمهيداً فكرياً أو نفسياً أو أدبياً للولوج في عالم الخطاب والنص، على مستويي المؤلف(المرسل) متكأ(رمزياً) وعلى مستوى المتلقي(القارئ) مدخلاً تطمينياً وملخصاً جاذباً وموحياً بعوالم النص، لكن هذه المقدمات ربما تؤدي غرضاً سلبياً في إعطاء المغزى والتمحور حوله أو السعي مباشرة إلى البحث عن هذا المغزى والطريف في الأمر أن جبرا صرح على لسان(محور الخطاب) أمين سماع المؤلف الروائي في صراخ، أنه يكره رواية المغزى الأخير التوجهي الذي يخرج به القارئ بعد قراءة الرواية، ويمكن أيضاً استنتاج رأي جبرا النقدي ذلك من خلال كتبه النقدية إضافة إلى أن الحداثة الروائية ترفض التركيز على المغزى التوجيهي التعليمي، واعتماداً على هذا يمكن أن نقول بشيءٍ كبيرٍ من التحفّظ: إن جبرا وضع مقدمات تمهيدية للمغزى ويمكن أن ندعوه المغزى الأولي، ولكن الرؤية الأكثر دقة توحي إلينا بأن المقدمات ليست سوى صوى رمزية ومقدمات تمهيدية بعض الأحيان.
- في (صراخ) تغيب المقدمة، لأنّ النص لا يحتمل الترميز وهو أكثر قرباً إلى الواقع وكذلك الأمر في(صيادون)، أما في المرحلة السردية الثانية، فقد ظهرت المقدمات الترميزية في(السفينة) في بداية كل فصل وليس في بداية النص لأن هناك تنازعاً في القص، والراوي الذي يتعاطف معه جبرا(وديع عساف) ليس هو المحور السردي، لذلك كانت المقدمة في فصله الأول: ((عن كل أمل تخلو أيها الداخلون هنا... هذا ما كتب على بوابة الجحيم كما يروي دانتي)) السفينة ص28.(1/382)
أما في(البحث عن وليد مسعود) فقد جاءت المقدمة في مطلق بداية النص على الرغم من أن(وليد مسعود) ليس القاص الرئيسي، لكنه المحور الرئيسي الذي تدور حوله جميع الفصول السردية، فهو محور المسرود وإن كان ليس المحور السارد؛ فالمقدمة الترميزية موضوعة في خدمة النص(كاملاً) الذي يدور حول(المحور).
والمقدمة مقطع شعري مترجم من المرثية التاسعة(لريلكه) يلخص هذا المقطع الهموم الكبرى للإنسان الحقيقي الذي ينتمي إلى هذا العالم وأهمها الهم الكوني.
((آه لماذا علينا أن نكون بشراً، وإذا نراوغ القدر نتوق إلى القدر
لا لأن السعادة حقاً قائمة، ذلك النبي المتعجل بوشيك الخسارة
بل لأن الكينونة هنا كبيرة، ولأن كل هذا الذي هو هنا، وهو السريع زوالاً، يبدو أن به حاجة إلينا وما أغرب ما يهمنا- نحن، أسرع الكل زوالاً، مرة فقط كل شيء، مرة واحدة فقط.
مرة لا غير، ونحن أيضاً، مرة واحدة.
مرة لا عود لها أبداً، ولكن
هذه الكينونة مرة، ولو واحدة فقط.
هذه الكينونة مرة على الأرض- هل يمكن أبداً أن تمحى؟)).(1/383)
وتواؤماً مع مسرودات النص في(عالم بلا خرائط) يلخص الكاتب رمزياً قدرات النص الأدبية في مقدمة أسطورية يستخدم فيها التناظر المستقل، ويبدو أن الكاتب قد وقع في مأزق المغزى، إذ يروي أسطورة ذات مغزى، وربما يختلف العمق الأدبي والنفسي لمغزى الاسطورة عن المغزى السائد في الروايات الأخرى التي تبحث عنه قصداً، وقد يكون الرمز في المقدمة جزئي الدلالة وليس شاملاً ليدل على مغزى ما: ((كانت السيبيلا، عرافة كوماي، قد أتت من الشرق، من بلاد بابل، مهد المعارف والحكمة، والتنبوء بالمستقبل. أعجب بها الإله أبولو أيام شبابها؛ فوعدها بأن يحقق لها أي مطلب تطلبه. فأخذت حفنة من الرمل في كف يدها، وقالت: أعطني(سنيناً)(1) للحياة بقدر ما في راحتي من ذرات هذا الرمل ولكنها نسيت أن تطلب مع طول العمر، بقاء الشباب والعافية، فعاشت مئات السنين، وشاخت، وتقلصت عظامها. وبقيت عرافة قرناً بعد قرن. وعاشت لزمن طويل في كهف، كانت تكدس في مدخله أوراق الشجر- فإذا جاءها سائل يطلب معرفتها وحكمتها، قذفت إليه حفنة من هذه الأوراق وقد كتبت حرفاً على كل ورقة. وعلى السائل عندئذ أن يجمع الأوراق، ويرتبها في شكل ما، يستطيع أن يقرأ في حروفه جوابها..)) عالم بلا خرائط ص9.
واضح من خلال هذا النص أن الكاتب اختاره ليتناسب مع العبث واللاجدوى اللذين يسيطران على(محور الخطاب) علاء نجيب، فكما عاشت عرافة كوماي بقية حياتها في اللاجدوى وفي انتظار الموت وهي تعيش الموت في الحياة يعيش علاء حياته بلا جدوى وهو ميت ينتظر الموت، والسر في جدوى الخلود عند العرافة هو الشباب وكذلك يكون السر في جدوى الوجود عند علاء.
__________
(1) الأصوب سنين .(1/384)
- أما في(الغرف) فالمقدمة تساق لخدمة النص تقنياً أكثر مما تخدمه خطابياً، وهذه المسألة أشار إليها جبرا في نصوصه السابقة بخاصة في(البحث عن وليد مسعود) التي يتحدث فيها عن الإنسان الذي يعيش محاصراً بمجموعة الغرف، وهو ممنوع من دخول غرفة معينة من هذه الغرف، ولكنه بسبب فضوله وشغفه المعرفيّ يدخل هذه الغرفة ويحدث له ما يحدث ويستخدم جبرا في(الغرف الأخرى) المقدمة ذاتها وهي تؤدي دلالات خطابية، إلى جانب الوظيفة النصية التي تقوم بها((تروي إحدى الحكايات القديمة أن أميراً أحب امرأة من عامة الناس وتزوجها ولشدة هيامه بها، خصص لها قصراً قديماً كان قد ورثه عن أبيه.. وقال لها يوم أسكنها القصر إن فيه أربعين غرفة لها أن تشغل منها تسعاً وثلاثين، أما الغرفة الأربعون فهي محظورة عليها.. وبقيت تشتعل فضولاً ورغبة في دخول الغرفة الأخرى، الغرفة الأربعين.
وذات يوم خرج الأمير إلى الصيد.. فاغتنمت زوجته فرصة غيابه.. ودخلت الغرفة وإذا هي تتفرّع إلى غرفٍ تتصل الواحدة بالأخرى، ويتفرع كلُّ منها بدوره إلى المزيد من الغرف وسمعت صوتاً يقول لها: ((إذا كنت أنت أنت يا أميرة، فارجعي الآن قبل أن تندمي وإلا فلن تخرجي مثلما دخلت فقالت: يا إلهي، كيف عرف أني أميرة؟ لابد أن هذا صوت الشيطان، ورفضت أن تعمل بما سمعت من نصيحة)) الغرف ص5 و 6.
الافتتاحيات والخواتيم:
جاءت جميع الافتتاحيات النصية مقدمات سردية بعضها لا علاقة له بالنص كما في(صراخ) وبعضها تمهيد عضوي للولوج في عالم السرد الخطي وأكثر ورودها تمهيد لمجيء الحوار وقد رأينا ذلك كثيراً بخاصة في(صيادون) وفي(البحث عن وليد مسعود) وفي(السفينة) وقد ارتبطت أكثر الافتتاحيات بالزمان مستقلاً أو بالمكان مستقلاً أو بهما مندغمين معاً، ونادراً ما كانت تبدأ مرتبطة بالشخصية إلا في(عالم بلا خرائط) فقد افتُتِح النصُّ بقضايا تتعلق بالشخصية(اللذة، الألم، الرّعب) ص11.(1/385)
أما الخواتيم فقد جاءت أكثر الأحيان مرسلة سردياً وحدثياً وجاءت مرة واحدة خاتمة حوارية، في[السفينة] وإذا كانت قدْ جاءت سردية فإنها تأتي مقطعاً قصيراً يختم حواراً سابقاً في جميع الروايات دون استثناء أي أنها بمعنى ما لا تبتعد من الخاتمة الحوارية.
(((
الفصل الرابع
الحدث الروائي والشخصيات الروائية
الحدث: المكون المنحسر:
تعتمد عملية القص التقليدي(سواء في ذلك ما كان منها شعبياً وما كان أدبياً) الحدث مكوناً رئيسياً؛ لأن مراميها الخطابية لم تكن لتتعدى قدراً ضئيلاً من محاورة المتلقي والتعامل معه على أسس إنسانية وثقافية وفكرية عليا؛ وقد كان هدفها إتحاف المتلقي بمجموعة من الأحداث غير الواقعية التي تدهش إحساسه، وتثير مشاعره، وخيالاته، ولم يكن الحدث الواقعي يرد في القصة إلا لتعبئة الفراغات والمناطق الخلالية في النص وربما يكون وعي الأديب المعاصر(إذا لم نقل الإنسان المعاصر) لواقع حياته ولضرورة بحث مجرياتها وفحصها من أجل التغيير، هو السبب الذي دعا إلى الإقلاع عن الإسراف في الأحداث الجوفاء الخلبية بل الإقلاع عنها كلية.
أخذ القص المعاصر يهتم بالأحداث البسيطة حتى اليومي الإجرائي مهما يكن تافهاً؛ لأنه جزء من حياة الإنسان؛ يؤثر في جريانها، ويؤثر في تكوين الشخصية البشرية(نفسياً وثقافياً)، على شكل خبرات تراكمية سلباً أو إيجاباً، وإذا كان الإنسان هو الذي يقوم بصنع الحدث وخلقه فإن الحدث كما أسلفنا يقوم بارتكاس لا يقل عن فعل الإنسان لتتشكل بذلك عملية خلق متبادلة بَيْنيَة بين الحدث والإنسان.
الحدث، صناعة الحدث:
إن الشخصية الروائية هي الصانع الرئيسي للحدث، في البداية تكون متأثرة بموقفها الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ لتنطلق إلى صنع الحدث الذي يولّد مجموعة مواقف جديدة تتناسب والطارئ الحدثي الجديد وتتميز بعض الشخصيات بقدرتها الخاصة على صنع الحدث أو التمهيد لصنعه:(1/386)
- في صراخ: الأحداث الرئيسية في(صراخ) التي تشكل الهيكلية الرئيسية لقوام النص أو التي تعد بؤرة النص حدثياً وتؤدي أغراضه الخطابية التالية:
1- زواج أمين من سمية رغماً عن أهلها.
2- هروب سمية بعد زواجها من أمين بسنتين.
3- موت(عنايت) رمز الماضي المتخلف.
4- إحراق ركزان تاريخ آل ياسر المحفوظ في الأوراق وتدمير القصر.
5- عودة سمية إلى أمين وطرده إياها.(1/387)
الحدث الأول حدث يعتمد موقفاً اجتماعياً مستنداً إلى موقف فكري عاطفي لدى أمين وإلى موقف عاطفي لدى سمية، والحدث مُسَوّغٌ اعتماداً على هذين الموقفين وهو يحقق موازاة أدبية للواقع- أما الحدث الثاني فيأتي ارتجالاً روائياً دون أي تمهيد أو أي إشارة إلى خلاف أو اكتشاف يفضي إلى هذا الهروب غير المسوغ وغير المحددّ، وقد يكون هذا الحدث لبنة فارغة مجوّفة لبناء حدثٍ آخر عليه وهو عودة سمية إلى أمين ليطردها ويطرد بذلك رمز الماضي، إذا كان الأمر كذلك، فإن الحدث هنا اسْتُخدِم وسيلة للوصول إلى غرض خطابي لمنتج النص، ولكن هذا البناء النصي مُخَلْخَلٌ، وقد أدى بالضرورة إلى خلخلة المرمى الخطابي، وعدم استقراره ووضوحه والحدث الثالث(موت رمز الماضي) أيضاً حدث مصنوع بإتقان؛ لأن الواقع العالم يقتضي مثل هذا الحدث ونتيجة يقتضي موت مستلزماته، ومرافقاته التي اختارها لتُلغي هذا الماضي غير مقنعة لتكون صانعة هذا الحدث، فالانتماء إلى الأسرة الإقطاعية يحكم الأختين(عنايت) و(ركزان) والنشأة واحدة ولكن النص يركز على الفروق الفردية ويدقق في الخاصة الجنسية التي تتمتع بها ركزان دون الإشارة إلى مقدمات أخرى يمكن أن تسوغ قيام ركزان في النهاية بنبذ الماضي وجميع رموزه(القصر والتاريخ) فإذا كانت الخاصة الجنسية لدى ركزان هي الدافع الحقيقي وراء فعلها، فالموقف ساقط؛ لأنه غير نابع من أصالة فكرية أو روحية أو ثقافية وإنما معتمد على غرائز موجَّهة(بفتح الجيم) و(موجِهة بكسر الجيم) أيضاً ولا علاقة لها بالقدرات الواعية للإنسان وهذا يقود إلى التفسير الفرويدي في الدوافع والمواقف.(1/388)
وكذلك يأتي الحدث الأخير عودة سمية إلى أمين كما هربت تماماً دون إنذار تهرب وتغيب زمناً دون سبب وتعود دون سبب، وهذا الحدث كذلك مصنوع من الفراغ الحدثي، لا يمكن أن يكون حدثاً روائياً منبنياً وفق امتلاء يقنع بفحواه الروائية أو الواقعية أما الرد على هذا الحدث وهو طرد سمية- فهو حدث ارتكاسي طبيعي لابد منه وليس موقفاً مصيرياً اتخذه أمين في حياته وإن كان في نهاية(الرواية) يحاول أن يصور عظمة الفعل الذي قام به مقارناً إياه بفعل ركزان التي حرقت الأوراق وفجرت القصر.
- يأتي بعض الأحداث ليؤدي أغراضاً خطابية أخرى اجتماعية وفكرية وليعبئ المناطق الخلالية الفارغة في النص مثل حدث(غرق الحي الفقير في الشتاء بسبب المطر) وهو ذو دلالة اجتماعية.
- في(صيادون): أحداث صيادون الرئيسية هي:
1- استشهاد ليلى شاهين خطيبة جميل فران.
2- مقتل عزيمة(ابنة مدير الفندق الذي ينزل فيه جميل) لأسباب اجتماعية.
3- حدث ذاكري(مقتل الحسين) والندب النسوي السنوي.
4- اغتصاب عدنان الخادمة الريفية التي تعمل في بيت والده وطرده من البيت بعد تزويجها رجلاً لم تره من قبل.
5- اغتصاب فلسطين وتخلي الجيش البريطاني للصهاينة عن مواقعه.
6- نشوء علاقة جنسية بين سلمى الربيضي زوجة أحمد الربيضي وجميل وكذلك نشوء علاقة حب بينه وبين سلافة ابنة أخت سلمى.
7- المظاهرات والاحتجاجات في بغداد.
8- اعتقال حسين عبد الأمير، وعدنان طالب وعبد القادر ياسين بعد المظاهرات.
9- محاولة الخادم عبد اغتصاب سلافة بعد أن أهانته بصفعة على وجهه وموته غرقاً بعد هروبه عبر النهر.
10- محاولة انتحار عدنان طالب وحسين عبد الأمير الفاشلة بعد خروجهما من السجن.
11- (مقتل) أو موت عماد النفوي والد سلافة وعم عدنان(على يد ابن أخيه عدنان).
12- تهديد جميل بالفصل من الهيئة التدريسية في الجامعة إذا لم يبتعد عن سلافة.(1/389)
إن جميع الأحداث تُعْتَمدُ متكآت واقعية أكثرها واقع حقيقي تسجيلي كاغتصاب فلسطين والمظاهرات في بغداد، وبعضها الآخر واقع ممكن أي أن أحداثاً مشابهة مطابقة قد وقعت وقد تختلف أسماء شخصيات الحدث الروائي عن الحدث الواقعي فقط(كمقتل عزيمة واستشهاد ليلى شاهين والاعتقالات السياسية والتهديد بالفصل من الجامعة.. الخ) لذلك جاءت الأحداث متوائمة مع النص الروائي ومتوائمة فيما بينها، ومتوائمة مع المنطق الواقعي؛ محكمة الأداء لا يمكن أن يثار حولها أي تساؤل إلا في بعض القضايا التقنية الصرف، لكن هناك حدثاً يعاني خللاً منطقياً هذا الحدث محاولة الخادم عبد اغتصاب سلافة بعد خلو البيت من جميع أهلها ومن الخدم، وذلك رداً على إهانتها إياه بصفعة على خده لأنه ضحك وهي ترفض أن تتزوج توفيق الخلف، هذا الحدث يعد نبواً حدثياً عن منطق الشخصية ومنطق سيرورة الأحداث، فعبد الخادم العبد الموكل بحراسة سلافة ويصوره النص عبداً خسيساً ليس إلا حجراً يقبع على الباب أو قرب النافذة لتلبية طلبات سلافة ووالدتها وفجأة يثور هذا العبد لكرامته ويحاول اغتصابها ويبقى النص مصرّاً على إظهار الذئبية الشريرة التي خلقت فجأة دون أي إشارة سابقة أو انبناء وتطور للشخصية يوحي بأنه يمكنها أن تقوم بحدث مثل هذا.
إن ما يلاحظ على هذه الأحداث جميعاً أنها أحداث موت وهذا الموت لابد أن يكون نتيجة القتل: 1- استشهاد ليلى(تفجير بيت آل شاهين من قبل الصهاينة، 2- مقتل عزيمة، 3- مقتل الحسين- مقتل الخادم عبد، 4- محاولة انتحار عدنان وحسين، مقتل عماد النفوي.(1/390)
ربما يكون مرد ذلك إلى فحوى الظرف التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه المدينة العربية في وقت إنتاج النص وتمكن الإشارة إلى العنوان الذي يحدد سبب هذه الحوادث إن(الصيادين في شارع ضيق) لابد أن يكون صيدهم الموت والقتل لأن القتل من مستلزمات الصيد ولابد أن يكون الصيد وفيراً كما رأينا لأن الشارع ضيق والصيد(القتل) سهل فيه.
- السفينة مستويات الأحداث:
المستوى الأول الأحداث التي وقعت على ظهر السفينة في الزمن الخطي:
1- اللقاء على السفينة حدث مخطط له مسبقاً.
2- محاولة انتحار الأجنبي وانتشاله.
3- توهم محمود الراشد وجودَ جلادِهِ(نمر العجمي) على ظهر السفينة وسقوطه في نوبة هستيريا.
4- اكتشاف فالح وجود علاقة بين زوجته لمى وعصام السلمان في نابولي.
5- انتحار فالح وموته.
6- العودة إلى بغداد بجثمان فالح.
المستوى الثاني أحداث ذاكرية ما قبل السفينة:
1- اغتصاب فلسطين عام 1948.
2- مقتل جواد الحمادي عم لمى على يد والد عصام السلمان بعد خلاف حول الأرض.
3- استشهاد فايز صديق وديع في عملية مفاجئة ضد العدو.
إن أحداث المستويين مزودة بإمكانية واقعية قابلة للتحقق بخاصة الأحداث التي ترصد الواقع السياسي بل إن واقعية بعض الأحداث واقعية تسجيلية، بمعنى أنها واقع تحقق فعلياً وأصبح فائتاً حديثاً، وهو في النص يتحقق روائياً؛ مثلاً اغتصاب فلسطين، واستشهاد(فايز) الرمز، وكذلك الأحداث الاجتماعية؛ مقتل جواد الحمادي من أجل الأرض واقعية تسجيلية(بمعنى ما) والحدث السياسي(اعتقال محمود الراشد، ثم بعد ذلك توهمه وجود جلاده على ظهر السفينة) إمكانية واقعية عالية، ومثله انتحار فالح.
وما يلفت هنا أيضاً ظهور مقولة القتل الاجتماعي والسياسي، كما في(صيادون) ويرد ذلك إلى العوامل ذاتها التي رأيناها هناك.
البحث عن وليد مسعود: (الحدث متكأ نفسي، قوام النص ظاهرياً):(1/391)
يبدو للوهلة الأولى أن(البحث عن وليد مسعود) رواية حدث، لأن التناول الأولي للرواية يوحي بذلك ويؤكده؛ فالحدث الرئيسي الذي يشكل محور النص(اختفاء وليد مسعود) تنطلق منه جميع الأحداث وتنتشر عبر جسم النص؛ لكن المتابعة التي تتوخى العمق تلغي هذا التصور وتُحِل محله تصوراً آخر، فحواه أن نص(وليد مسعود) نص أفكار وشخصيات وليس نص أحداث، وما ورود الحدث وإعطاؤه كل هذه الأهمية إلا في سبيل خدمة الشخصية والأفكار، ويكون الحدث عندئذ وظيفياً وليس مقصداً خطابياً. أما على المستوى الفني فالحدث البؤرة هو اختفاء وليد مسعود وهو ذو أهمية كبيرة في سياق النص الحدثي وإذا رسمنا خطاً بيانياً يضبط مسيرة الحدث الروائي فإن حدث الاختفاء يكون القمة العليا بين قمم هذا الخط.
- أحداث(البحث):
1- اختفاء وليد مسعود(الحدث البؤرة).
2- اختطاف وليد كاظماً ورميه خارج المدينة ثم العودة إليه والمصالحة بينهما.
3- موت سعيد الفرحان والد وليد.
4- هروب وليد وسليمان ومراد من الدير للتنسك في كهف بعيد.
5- لجوء مريم الصفار إلى طارق رؤوف للمعالجة(حدث هامشي لكنه مؤثر في خط سير الأحداث وتوجهها).
6- شراك مريم الصفار لطارق رؤوف بقبول زيارته آخر الليل واستدعاء وليد ليجتمعا وتكون مفاجأة لطارق.
7- رحلة وليد إلى إيطاليا لدراسة اللاهوت.
8- النقاش بين وليد وبترو بارتشي الإيطالي حول الحرب والتغيير.
9- عودة وليد واستشهاد أخيه إلياس.
10- رحلة مريم إلى لبنان وانفتاح عالمها على وليد في دار عامر عبد الحميد العراقي.
11- علاقة مريم المخطط لها بعامر عبد الحميد وزيارة مريم لسوسن عبد الهادي واختلاؤها بعامر بعدها.
12- طلاق مريم(حدث هامشي مؤثر).
13- نسف شارع بن سوميخ في القدس يقوم به وليد مسعود وطهبوب وآخرون.
14- اعتقال وليد مسعود في بيت لحم بعد عشرين سنة من نسف الشارع.
15- وصال رؤوف تزور مروان وليد في معسكر التدريب.
16- مروان وليد يقتحم أم العين مع رفاقه.(1/392)
17- مروان وليد يستشهد في الاقتحام.
18- وصال رؤوف تلتحق بمنظمة فدائية.
19- اكتشاف العالم السري وليد التحق بمنظمة فدائية.
قد يكون هذا التلخيص المكثف لأحداث الرواية(كما فعلنا في الروايات السابقة) مجحفاً؛ لأنه يغيب كثيراً من الأحداث الجزئية والتفصيلية التي تؤثر في(صناعة) الحدث وصنع الشخصية، إلا أن التتبع التفصيلي للأحداث يحتاج دراسة خاصة أكثر بحثاً في الجزئيات ورصداً لتطور الأحداث وتراكمها وسببيتها التتابعية، وفعل كل حدث في انبناء الشخصية السلبي والإيجابي، وهذا ليس متيسراً لدراستنا هنا.
إن أحداث(البحث عن وليد مسعود) تعاني بعض المشكلات البنائية بخاصة في علاقتها بالشخصيات، فهي ليست كأحداث(صيادون) محكمة الواقعية أو أحداث السفينة(الإمكانيات الواقعية) وإنما تتبع طبيعة الشخصية التي تقوم بصنع الحدث، فاختفاء وليد مسعود مثلاً بهذا الأسلوب الاستعراضي الذي يُشكّك في البناء الصادق للروح الداخلي لوليد أولاً، بسبب التوقيت المختار للقيام بعمله الوطني الالتحاق بالمناضلين(على الرغم من أننا نعرف أنه كان مناضلاً سابقاً) فبعد أن حقق ما حقق وبعد أن سفح كل رجولته في علاقات نسوية متعددة وبعد الخمسين قرر أن يختفي ويثير زوبعة من التساؤلات عن اختفائه مع أن جميع ما سرد من الأحداث، في الرواية لا يتأثر كثيراً بهذا الحدث الذي قلنا: إنه ليس إلا منطلقاً للأحداث وكان يمكن النص أن يخلق أي متكأ آخر دون تأثير على مجرى الأحداث ويبدو أن منتج النص اختار هذا المتكأ ليستطيع اختتام أحداث الرواية باختفاء وليد مسعود، لأنه لو تركه في مجتمعه لما كان هناك إمكانية إغلاق النص إلا بالنهاية المفتوحة أو اختيار آخر لابد منه هو العودة إلى الاختفاء ولكن بطريقة أخرى قد تكون بالموت. إن هذا الاختفاء(البوليسي) لا يخدم غرضاً خطابياً في رواية ضخمة(بمراميها الخطابية ومعمارها الفني) كالبحث عن وليد مسعود.(1/393)
وكذلك فإن هروب وليد وسليمان ومروان من الدير والتجاؤهم إلى كهف بعيد للتنسك فيه خاضع لطبيعة الشخصيات التي صنعت الحدث وهي شخصيات ذات خصوصية روحية وفكرية متميزة ويدخل هذا الهروب في نطاق عملية الاختفاء التي تميز شخصية وليد الذي يترك دير(سانتا ماريا) أيضاً في إيطاليا ويذهب للعمل في(بنك روما) ثم يعود إلى وطنه لأنه يؤمن بأن الفعل(الحدث) لا يتحقق إلا في الوطن.
أما الحدث الذي لا يمكن استثناؤه من الربط بطبيعة الشخصية هو الحدث المدهش الذي يختتم به النص انفتاحه، إذ تقوم وصال رؤوف إحدى عاشقات وليد مسعود بالالتحاق بإحدى المنظمات الفدائية التي تعمل من أجل تحرير فلسطين، والإدهاش في الأمر يأتي من طبيعة الشخصية التي تصنع الحدث فليس هناك ما يوحي(في تكوين الشخصية أو في انبنائها)، إن كانت منبنية، بأن وصال رؤوف يمكن لها أن تقوم بهذا العمل الثوري وهي ابنة وزير سابق استوزر أكثر من مرة وأطيح بوزارته في النهاية بثورة 1958 وسليلة طبقية تسير نحو الدمار لأنها تأكل نفسها من الداخل.
إن هذا الحدث الذي أقحم على الشخصية ربما يعتمد على أسباب غير منتمية إلى قدرة المجتمع وقوانينه التي تساعد في بناء الشخصية ولم يعتمد على(دينامية) الداخل للشخصية واكتفى(بالحب والشباب) دافعين للقيام بهذا العمل.
في مثل قضايا النضال الوطني والانخراط في صفوف الثورة تكون الأمور بحاجة إلى وعي ثوري عميق كوعي وليد مثلاً، ولم نجد وعياً لدى وصال رؤوف إلا وعيها أنوثتها بارتباطها بوليد ووعيها للحب والجسد الذي علمها إياه وليد وكذلك وعيها وليداً نفسه فهل يكفي الحب والجنس والشباب والجسد أن تكون دافعاً إلى الفعل الوطني والالتحاق بصفوف الثورة؟.
الحدث في عالم بلا خرائط:(1/394)
الحدث البؤري في(عالم بلا خرائط) هو مقتل نجوى العامري وهو الحدث الافتتاحي في النص كما في(البحث عن وليد مسعود) ويكشف في النهاية عن تفصيلات الحدث إذ يتناولها في البدء بنوع من التعمية الإيحائية ويتناول نتائجها النفسية على محور النص(البطل) ويلاحظ أن الحدث في هاتين الروايتين يشكل غلافاً روائياً يحيط بالرواية منذ البداية وحتى آخرها. والحدث البؤري في عالم بلا خرائط ذو أهمية نصية أكبر من الحدث البؤري(للبحث عن وليد مسعود) لأنه متناسب والسير الخطي للأحداث وكذلك متناسب والبناء التطوري للشخصية وهو مندغم في العملية الروائية. بشكلٍ أكثر إقناعاً.
- أحداث عالم بلا خرائط:
1- مقتل نجوى العامري على يد مجهول(يرجح أن يكون زوجها) ويوحي الراوي في البداية بأنه هو الذي قتلها لكننا في النهاية نستبعد ذلك بعد أن يصور الأحداث المتتالية التي تسبق مقتل نجوى، ونستنتج أن الافتتاحية التي أوحي فيها بأن الراوي هو القاتل، مشهد حلمي يتداخل مع الواقع لكن هذا اللاتعيين يزول بعد الفصل الثاني:
أ- الإيحاء الحلمي- فرضية أولى: ((مدت يدها إلى المِجَر وأخرجت المسدس وقالت: ((هنا هنا)) وأشارت إلى عنقها الرائع، وقد رفعت عنه شعرها الطويل، ومن على إصبعين أطلقت النار، واندهشت لحظة لشدة الصوت الذي سمعته يتردد عبر أصوات البحر..)) ص21 .
- فرضية ثانية((وقلت فليكن وأطلقت النار وسقط رأسها البديع الشعر على كتفي وصحت: لعبتك المرعبة هذه متى تنتهي حسبت أن الرصاصة خلب تلهو بها.. ولكن الدم كان يدفق علي وأنا لا أفهم.(1/395)
ب- انقشاع الحلم: الاقتراب من الواقع(فرضية أخرى) ((مازلت أتذكر هيئة الرجل الذي تراءى لي على شرفة المجنونة، كانت المسافة بعيدة نسبياً ولكني ميزت خلدون.. لم يبق إلا ثوان قليلة وهو ينظر في أكثر من اتجاه ثم لم أعد أراه.. ص368، .. نجوى.. غير أن وجه نجوى لم يتحرك ولم تتحرك عيناها.. كانت نجوى ملقاة في الركن، وقد اتكأ رأسها عل الحائط ممزقة القميص مشعثة الشعر وعيناها تحدقان في الفراغ وحولها بركة من الدم)) ص375.
2- انتحار بطلة رواية الراوي(الروائي): ((علاء لماذا جعلت سلوى تنتحر في روايتك الأولى)) ص137 .
3- وفاة والد علاء.
4- وفاة خال علاء حسام الرعد.
5- إعدام والد نجوى الحقيقي شهاب أدهم بتهمة التآمر على الدولة.
6- وفاة والد نجوى الافتراضي محسن العامري.
7- وفاة والدة نجوى بعد إعدام والدها.
8- اعتزال العمة نصرت الحياة لتقبع في غرفتها صامتة.
9- زواج والد علاء من امرأة أخرى.
إذا تفحصنا هذه الأحداث في ضوء الواقعية وجدنا أن احتمالاتها الواقعية إمكانيات كبرى في التحقق والوجود، لأن المجتمع السياسي والمجتمع الاجتماعي يقبل مثل هذه الأحداث وليس الحدث الروائي إلا استنساخاً بنسبة معينة لوقائع المجتمع السياسي والاجتماعي معاً، وهذا ما رأيناه في جميع نصوص جبرا التي درسناها. وتسيطر الظاهرة ذاتها التي سيطرت على(صيادون) وعلى السفينة وهي ظاهرة الموت والوفاة والقتل، الوفاة الطبيعية والقتل(السيكلوجي) والقتل السياسي. أما الأحداث الأخرى الدنيوية فأكثرها اجتماعي إجرائي.
- الحدث في الغرف الأخرى(الحدث، اللاحدث؛ اللامعقول):(1/396)
لا نستطيع الحديث بدقة وبتعبير تقليدي عن حدث معقول أو حدث(مكوِّن منطقيِّ) وإنما يمكننا أن نتحدث عن حدث تخييلي بالمعنى المصطلحي للتخييل، وذلك على الرغم من جميع المحاولات التي قام بها المؤلف ليجعل من حدثه واقعياً وما يستوحيه القارئ من الأحداث هو واقعيتها الشكلية كالركوب في صندوق السيارة الشاحنة مع مجموعة قطيعية من البشر ثم الانتقال إلى مبنى دهليزي متداخل الغرف والحوادث الواقعية بعد ذلك؛ لكن كل تلك الأحداث تعد(أرضية) أو خلفية للوحة الأحداث التخييلية التي يكون قوامها بل تكوينها الرئيسي التلاعب بالأشخاص والزمن والمكان، فيقوم الكاتب بخلق تداخلات في زمن شخصيتين وفي مكانهما بطريقة حُلُميّة تنتهي بيقظة الشخصية بمؤثّر خارجي هو التحوّل(السّحري) المفاجئ الذي تقوم به شخصية ما وتتحول إلى شخصية أخرى(كلمياء) مثلاً التي تتراءى للبطل في أكثر من زمان ومن مكان متداخلين إذا تتقمص سحرياً مجموعة من الشخصيات النسوية وكذلك الأمر فيما يتعلق بشخصية عليوي الذي يتقمص صُوَر مجموعة من الرجال في أكثر من زمان ومكان وليست هذه الأحداث الحلمية السحرية سوى متكئات تعبيرية رمزية أراد بها الروائي إدانة العالم الواقع وتصويره بهذا التداخل السحري السلبي، ورصد العوالم النفسية والروحية للكاتب نفسه والإنسان المعاصر بل المثقف المعاصر الذي يحتويه حوت هذا العالم بين فكيه وليست حريته المزعومة سوى القدرة على التحرك بين الأسنان ليزلق في النهاية على حد أحدها ويستقبل نهايته التي كان ينتظرها.
الشخصيات الروائية
أولاً- أنماط الشخصيات:(1/397)
ربما يكون من الصعب بل من المستحيل الوصول إلى فرز دقيق في قضية تصنيف الشخصيات في صفوف ترتيبية، تخضع فيها لمجموعة من القوانين الضابطة التي تشكل نظرية قياسية يقاس عليها؛ لأن العملية التصنيفية تكون تابعة للموضوع الذي يُتخذ مقياساً للتصنيف، والشخصية تخضع لأكثر من مقياس ومن هنا تنتج الصعوبة والاستحالة في التصنيف الدقيق، فمثلاً يمكن أن نصنف الشخصيات بحسب فعلها الروائي ويكون بعضها اعتماداً على هذا المقياس رئيسياً، أما إذا صنفناها اعتماداً على مقياس آخر فقد تتراجع إلى مستوى ثان أو أدنى، وسنحاول، قدرتنا، أن نضع المقاييس الدقيقة ونصنف وفقها:
1- التصنيف بمقياس الأداء الروائي: (على مستوى الحضور)
فئة الرواة:
1- راوي(صراخ) أمين سماع راو مسيطر على مساحة الأداء الروائي كاملة.
2- راوي(صيادون) جميل فران راو مسيطر مع تداخلات من(رواة) آخرين مساعدين مثل(سُلافة النفوي) في رسائلها وفي قصها لمحاولة اغتصابها، وعدنان طالب في مذكراته، لكن هذين الراويين ليسا المؤديين المباشرين لعملية القص وإنما ينوب عنهما جميل في نقل وقائع قصهما لذلك لا نستطيع أن نعدّهما راويين بالمعنى المصطلحي للكلمة.
3- رواة(السفينة):
أ- عصام السلمان الراوي الرئيسي(ظاهرياً) فهو الذي يسرد الكمية النصية الكبرى(أربعة فصول) لكنه يتخلى عن عملية القص داخل فصوله للراوي الثاني(وديع عساف)؛ لذلك قلنا: إن سيطرة(عصام) سيطرة ظاهرية.
ب- وديع عساف الراوي الثاني يسرد ثلاثة فصول وهو راو متدخل في فصول أخرى.
جـ- إميليا فرنيزي: تروي فصلاً قصيراً اضطر الروائي إلى إسناد القص إليها فيه.
4- رواة البحث عن وليد مسعود:
أ- الراوي الرئيسي الذي يروي الكمية الكبرى من النص، وهو الموُكَل بالقص الذي يُختص بعملية البحث في حياة وليد مسعود: ((الدكتور جواد حسني)) يروي الفصول: الأول والثاني، والثاني عشر.
ب- راوي الفصل الثالث عيسى الناصر.(1/398)
جـ- راوي الفصلين الرابع والسادس والثامن، وليد مسعود.
هـ- راوية الفصل السابع مريم الصفار.
و- راوية الفصل التاسع وصال رؤوف.
ز- راوي الفصل العاشر مروان وليد.
حـ- راوي الفصل الحادي عشر إبراهيم الحاج نوفل.
5- راوي عالم بلا خرائط: (علاء نجيب) وَضْعُه الروائي يشبه وضع جميل فران في(صيادون) وهو الذي ينوب عن صانعيها مثلاً التقرير الذي يقدم إلى وزير الداخلية وكذلك رسائل نجوى العامري
6- راوي الغرف الأخرى غير محدد الهوية فمرة اسمه(نمر علوان) ومرة(عادل الطيبي) ومرة(فارس) وهو مسيطر مطلقاً على مساحة السرد الروائي.
- فئة الشخصيات الأخرى المندغمة بالسرد، سندرسها في مقياس آخر بالتفصيل.
2- التصنيف بمقياس الفعل الروائي:
1- شخصيات المستوى الأول(الشخصية الرئيسية) الممتلئة.
الفئة الأولى(الشخصية الرئيسية: محور النص، محور الخطاب).
غياب البطولة المطلقة: يبدو للوهلة الأولى أن نص جبرا إبراهيم جبرا الروائي نص البطولة المطلقة بمعنى أن الشخصية الرئيسية(محور النص) هي المسيطر المطلق على مصائر الشخصيات الأخرى لكن هذا الوهم سرعان ما يتبدد عند بحث فحوى العلاقات وعمقها التاريخي والاجتماعي بين الشخصية محور النص وبين الشخصيات الأخرى؛ لأن الشخصية المحورية تكون شخصية طارئة على مجتمع الشخصيات الأخرى وهي أكثر الأحيان تنتمي إلى مجتمعها بعد نضوج انبنائها، لذلك تبقى بمنأى عن التأثير الذي يحدد المصائر الكبرى يستثنى من ذلك رواية البحث عن وليد مسعود لأن شخصيتها الرئيسية هي التي تحدد بنسبية ما مصائر الشخصيات الأخرى سلباً وإيجاباً. فمثلاً نجد أن مصير(كاظم) الاجتماعي والثقافي متعلق بوليد وكذلك(إبراهيم الحاج نوفل) و(مريم الصفار) و(طارق رؤوف) وفي النهاية(وصال رؤوف) التي تثبت بفعلها النهائي(الالتحاق بالمنظمة الفدائية) أن مصيرها مرتبط بمصير وليد مسعود.(1/399)
لذلك نستطيع أن نقول: إن البطولة المطلقة التي تسود الرواية التقليدية غائبة نسبياً عن نص جبرا، بل نستطيع أن نقول أيضاً إن محور النص هو بطل مطلق وغير مطلق في آن معاً، مطلق لأن النص يتبأّر فيه ويتمحور حوله، وغير مطلق لأن النص يؤاخي بينه وبين شخصيات رئيسية تُنازِعُهُ مطلقيته وتنفيها عنه، وذلك على مستوى الفعل الروائي فمثلاً في صراخ تقوم(ركزان) بفعل روائي موازٍ لفعل أمين ومساوٍ له من ناحية رَفْضِ الماضي وإلغاءِ التعلّق به وكذلك تقوم سميّة زوجته بفعل يرتكز إليه أمين في فعله الروائي الأكبر(التخلص من الماضي ورموزه).
وفي صيادون) يُخفف، عدنان طالب وتوفيق الخلف، وسلافة النفوي من مطلقية سلطة جميل فرّان في الفعل الروائي بل لا يتعدى دور جميل كونه راصداً ومصوراً لأحداث الحياة الاجتماعية والسياسية في بغداد بينما يقوم عدنان بتحريك سياسي اجتماعي ويؤثر في الفعل الروائي بخاصة عندما يحاول قتل عمّه عماد النفوي.
أما وديع عساف في السفينة فينازعه مطلقيته عصام السلمان على الرغم من التأثير الكبير الذي يوحي به النص ويصرح به عصام نفسه، والسطوة القوية لوديع على عصام.
وفي البحث عن وليد مسعود تبرز بقوةٍ المطلقية التي يمنحها النص لوليد مسعود لكن ذلك يَخْفُتُ بظهور(شخصيات) ممتلئة تؤثر في الفعل الروائي مثل: كاظم جواد النّدّ القوي لوليد مسعود، وإن كان مصيره الفكري مرتبط نسبياً بوليد، وطارق رؤوف الحاسد المتضرر من وجود وليد مسعود والذي يحسّ بالارتياح بعد اختفائه ومريم الصفار الفاعلة القوية في حركة الفعل الروائي والمؤثرة والمهمة في جميع مستويات الشخصيات، وكذلك إبراهيم الحاج نوفل وعامر، عبد الحميد وإن كانت قدرة الفعل الروائي لديهما متقلصة عن فعل الآخرين.(1/400)
وفي عالم بلا خرائط تسلب نجوى العامري علاء نجيب مطلقهُ الروائي وتمنعه من السيطرة التامة على الفعل الروائي وتكون المشارك الرئيسي في الفعل وعلاء هو أقرب الشخصيات المحورية من البطولة المطلقة لأن المنازعين قليلون.
وفي الغرف الأخرى ينازع البطلَ على البطولةِ المكانُ الذي يتحول إلى شخصية روائية لها قدرتها الفاعلة بقوة وكذلك المرافقة التي ترافقه في كل غرفة.
إن الشخصية محور النص شخصية مهمة لدى الكاتب، وهي في كثير من الأمثلة تشكل النائب الفكري أو الاجتماعي أو السياسي عن منتج النص نفسه كما في حالة أمين سماع وعلاقته بالكتابة ورأيه بالمرأة وبالماضي، وبشكل أوضح كما في حالة جميل فران الذي يمثل جبرا في كل تفصيل من تفاصيل مجريات حياته وكذلك وليد مسعود وعلاء نجيب في عالم بلا خرائط والمجهول في الغرف الأخرى، وهذا لا يعني أن الشخصيات الأخرى ليس لها نصيب من واقع الكاتب منتج النص، ففي صراخ نجد تصريحاً واضحاً لأمين يَعُدّ فيهِ الرواية متنفّساً يروّح به عن نفسه ويوزع نفسه على مجموعة شخصياتها((أما الرواية فكنت أبغي منها ما أروِّح به عن ضيق صدري... إذا قسّمت نفسي إلى أشخاص كثيرين يمثل كل جزء من هذه النفس الملأى بالمتناقضات)) ص10 .(1/401)
- الشخصية المحورية شخصية مثقفة لذلك لا يهتم كثيراً بدراسة انبنائها التطوري المتدرج الذي يؤدي في النهاية إلى نضوجها والوصول بها إلى قمة بيانية تتجلى إما في الحدث وإما في الخاتمة... وإنما تبدأ الشخصية من مرحلة نضجها وامتلائها وتسير وفق خط أفقي، فهي تحمل موقفاً محدداً ورؤية صارمة ثابتة لا تتغير في التوجه نحو العالم والإنسان والفكر والحق والأخلاق والكون وتكون هذه الرؤية منطلقة أكثر الأحيان من الصياغة النهائية لرؤية جبرا للعالم وللفكر وللفن... وأي تغير يحدث في مسيرة الشخصية فإنما يكون خطياً أفقياً ينتمي إلى موقفها الثابت المحدد إلى درجة يمكن أن نقول: إن رواية جبرا هي رواية أفكار وثقافات ومواقف وليست رواية انبناء شخصيات وإن كانت تولي الشخصيات أهمية كبيرة، فمن أجل خدمة الأفكار والرؤى والأحلام والمواقف التي تحملها الشخصية.
- تتميز شخصيات المحور بأنها شخصيات مزودة بميزات إضافية فائقة الإنسان العادي، وهذه الميزات يجب أن تتوفر لدى الشخصية لتعينها على تسنم موقعها الروائي من هذه الميزات القدرة الهائلة على اجتذاب النساء وإيقاعهن في غرامها، بطريق الوسامة والجاذبية الثقافية، والجاذبية المالية وبخاصة الجاذبية الجنسية كما في حالة وليد مسعود مثالاً واضحاً ودالاً دقيقاً على ذلك.
- الشخصيات المحورية أكثرها شخصيات فلسطينية تحمل القلق الوطني وقلق الأرض والوجود والاستقرار في داخلها وهي مهاجرة خارج أرضها، فلذلك هي مغتربة ومتغربة.
الفئة الثانية الشخصية الرئيسية المساندة:(1/402)
لا نستطيع أن نصنف هذه الفئة في المرتبة الثانية كما نفعل في الرواية التقليدية التي يكون فيها البطل ثم الشخصية الثانية والثالثة وهكذا، وإنما تتمتع هذه الشخصيات بقدرات روائية توازي قدرات الفئة السابقة ولكن الحسبان الروائي يزيحها على الخط الأفقي ويعطيها مجالاً للفعل آخر قد يكون داعماً أو موازياً أو مستقلاً له تكوينه الخاص مثل عصام السلمان ولمى في السفينة وعدنان طالب في صيادون ومريم الصفار في البحث عن وليد مسعود ونجوى العامري في عالم بلا خرائط.
- تتميز شخصيات هذه الفئة بالميزات ذاتها التي رأيناها في الفئة الأولى ثقافة عالية متميزة قدرات ذكائية وجاذبية جنسية كما في حالة مريم الصفار وجاذبية مالية وروحية.
- تنتمي هذه الشخصيات أكثر الأحيان إلى البلد المضيف(بغداد) غالباً ويكون فعلها الروائي أكثر تأثيراً في عملية الصناعة الروائية والحديثة كما في حالة عدنان طالب(في صيادون) فهو يقوم بتحريك الحديث الروائي أكثر من جميل فران نفسه ومريم الصفار تحرك الحدث أكثر من وليد نفسه وكذلك نجوى العامري التي تفوق علاء نجيب في بث الروح والحركة في سيرورة الحدث الروائي وصنعه.
2- شخصيات المستوى الثاني: (المنفعلة):
يمكن أن نضرب مثالاً عليها، شخصية عنايت ياسر في(صراخ) وشخصية فالح حسيب وكذلك شخصية محمود الراشد وإميليا فرينزي في السفينة، وسلمى الربيضي، وحسين عبد الأمير، وسلافة النفوي وبتحفّظ(توفيق الخلف) في صيادون.
وتكثر هذه الشخصيات في البحث عن وليد مسعود(فكاظم جواد وطارق رؤوف، وأخته وصال رؤوف، وهشام الصفار، وإبراهيم الحاج نوفل) جميعهم من الشخصيات المنفعلة بمعنى من المعاني وهم جميعهم شخصيات ارتكاسية في أكثر الأحداث التي يديرونها، وكذلك هم صدى في كثير من المواقف أو ارتدادات تتأثر بالشخصيات الرئيسية.
3- شخصيات المستوى الثالث(شخصيات المتكأ الفكري):(1/403)
وهي شخصيات وظيفية يستعين بها الكاتب لعرض مجموعة من الأفكار أو لعرض الفكر النقيض، فيجعلها تنتمي إلى فكر مناقض لأفكار الشخصيات الرئيسية، أو إلى توجه أيديولوجي مباشر، ففي(صراخ) نجد(عمر السامري، ورشيد)، يستخدمها النص لعرض مجموعة من الأفكار حول الروح والجسد، والجمال في جسد المرأة وتأثير التقدم(التكنولوجي) الحديث على القيم، والاثنان في أكثر ما يعرضان من آراء متناقضان أحدهما يشكل النقيض الفكري الجذري للآخر بخاصة في رأي كل منهما بالمرأة والجسد.
وفي صيادون تأتي الشخصيات(عبد القادر ياسين، توفيق الخلف وأحمد الربيضي، وبرايان فلنت) منتمية كل على حدة إلى فضائها الأيديولوجي الخاص وقد وضعت هذه الشخصيات مستندات(بتفاوت) لخدمة الغرض الأيديولوجي الذي يقدمه النص ففي حوار مشابه(في تكوينه للحوار الذي يجري بين شخصيات صراخ حول قضايا الروح والجسد والذوق والمرأة) نجد حواراً يجري بين شخصيات(صيادون) وذلك باشتراك الشخصيات الرئيسية المحورية والمساندة؛ لأنها هي أيضاً تحمل محمولات أيديولوجية مباينة، ولكنها تختلف بأنها ليست محض متكأ أيديولوجي وإنما لها وظائفها وآفاقها الأخرى، يدور الحوار في مستوى أعمق من حوارات(صراخ) حول قضايا الفن، والشعر بخاصة ومعنى العمق هنا أن التناول الحواري للقضايا لا يبحث فقط في ماهيتها والتوجه إليها والتغير فيها وإنما يبحث في دورها ووظائفها الاجتماعية والذوقية والجمالية.
المستوى الثالث: الشخصيات الطيفية:(1/404)
يستعين النص بمجموعة من الشخصيات التي تصنف(ثانوية) في التصنيفات النصية السائدة، لكننا نطلق عليها وفق ضرورات النص التي يقدم بها الشخصيات، (شخصيات طيفية) وتنقسم هذه الفئة إلى قسمين من حيث الحضور في النص: طيفية حاضرة في النص، بمعنى أنها تقوم بدور يجتمع المعنيان في شخصية واحدة، وفي اعتماد مقياس آخر للتصنيف نرى أن من الشخصيات الطيفية ما هو فاعل في سير الأحداث(واقعياً، ونفسياً) ومنها ما هو عابر وظيفته نصية يتكئ عليها بنيان الشخصيات الأخرى لذلك يمكن أن يكون لدينا مجموعة احتمالات للشخصية الطيفية:
1- طيفية فاعلة حاضرة- طيفية فاعلة مستحضرة.
2- طيفية وظيفية حاضرة- طيفية وظيفي مستحضرة.
3- طيفية فاعلة ثنائية(حاضرة، مستحضرة).
والسائد أن هذه الشخصيات جميعها باحتمالاتها المختلفة تقوم بفعل واحد يكون مفصلياً في مسيرة الأحداث، وهي شخصيات تظهر في مساحات متباعدة في النص ظهوراً طيفياً أو فجأة لتقوم بفعلها ثم تغيب عن ساحة الفعل.
1- الفاعلة الحاضرة: نطلق هذا الاصطلاح على الشخصية التي يكون لها تأثير مهم في مسيرة الحدث الروائي إضافة إلى حضورها على ساحة الرواية، أي أنها تتمتع بقدرة مزدوجة فهي جزء رئيسي من مكونات النص في جهة وجزء مكون رئيسي من مكونات الخطاب، مثالاً على ذلك نطرح جميع شخصيات السفينة التي كانت على متنها فهي جميعاً مؤثرة في صنع الحدث- بتفاوت فيما بينها وخير مثال على هذا النوع من الشخصيات هو شخصية الرّواة في الروايات جميعها فالرّاوي شخصيّة فاعلة حاضرة بل هي في أكثر الأحيان المؤثر الأول وتقوم في أحيان أخرى بعملية مراوغة أو مخادعة، بمعنى أنها تزيف في القص كما حدث مع الراوي (مريم الصفار).
وتأتي الشخصية الفاعلة الحاضرة سلطة مطلقة في صنع الحدث لأن بعض هذه الشخصيات يقوم بالنيابة عن الكاتب، فيخوّله، إدارة صنع الشخصيات الأخرى إلى جانب إدارته السرد(1/405)
أ- الشخصيات الفاعلة الحاضرة في صراخ: مستوى الفعل الرئيسي: الشخصيات التي تدير الفعل في صراخ أربع شخصيات: الأولى شخصية الراوي أمين سماع الذي يتحكم بمصائر جميع الشخصيات الأخرى روائياً، ويصوغ جميع الأحداث وفق تصوراته هو إلى درجة أنه يحاول في النهاية أن(يلوي عنق) الأحداث لتوافق مرموزاته وتتوازى مع تفسيراته للإنسان والعالم والظواهر الاجتماعية، وتتأثر مواقف هذه الشخصية تأثراً كبيراً بالمواقف الإطارية المحيطة به فهي شخصية غير مستقلة لا تنطلق، أكثر الأحيان، من موقفها الخاص المتبلور الموجه إلى العالم، فأمين يخضع مطلقاً لإرادة(عنايت هانم) التي تكلفه بكتابة تاريخ أسرتها، على الرغم من أنه، أيديولوجياً، لا يوافق على هذا العمل ولا يوافق على وجود هذه الأسرة الإقطاعية، والشخصية الثانية شخصية(عنايت) وهي شخصية فاعلة قادرة إذ تبقى مسيطرة على الفعل حتى الجزء الأخير من الرواية ويمكن أن نقول إنها هي التي حددت مصائر الشخصيات الأخرى حتى مصير أمين نفسه، وكانت محوراً رمزياً بمعنى أنها مثلت رمزاً مستقلاً، كان هذا الرمز المفتاح لجميع الرموز الأخرى(فعنايت) تمثل النزوع إلى الماضي وهي الرمز التقليدي للماضي، وعلى هذا الرمز اعتمدت الشخصية الفاعلة الثالثة على اتخاذ موقفها، وعلى الموقف هذا انبنى موقف أمين الذي رفض الماضي.
والشخصية الثالثة الفاعلة الحاضرة، وحضورها على مستوى الحدث أكثر وضوحاً، هي ركزان التي قامت بتمثيل الرمز المقابل لرمز الماضي، ونسفت كل تاريخ أسرتها وقد ناقشنا هذا الفعل سابقاً. أما الشخصية الرابعة فهي شخصية سمية شنوب زوجة أمين وتقوم هذه الشخصية بأفعال وظيفية هي متكآت للمواقف التي تتخذها الشخصية المحور شخصية أمين سماع، وقد شكلت هذه الشخصية رمزاً للماضي الموازي الثاني وكانت وسيلة لنفي الماضي والتخلص منه.
ب- الفاعِلة الحاضرة في(صيادون):(1/406)
ليس تعميماً إذا قلنا: إن جميع شخصيات(صيادون) الحاضرة شخصيات فاعلة، وإن أكثر الشخصيات كانت شخصيات حاضرة لذلك كانت الرواية رواية الفعل.
1- جميل فران، قيادة الفعل المركزي(الشاهد):
إضافة إلى كون(جميل فران) الشخصية المحورية في نص(صيادون) فإنه شخصية فاعلة على جميع المستويات وهي بؤرة الربط بين جميع الشخصيات وهي بؤرة الفعل أيضاً إذ تشكل شاهداً وراصداً ومحركاً لجميع الأحداث والتحركات الروائية، وهي بذلك شخصية الرصد للفعل الروائي ترصد المصائر جميعها لشخصيات الفعل الأخرى وهي أكثر الأحيان مؤثرة لا متأثرة، وتتسم بسمات أسطورية(سوبرمانية) يمكن أن نطلق عليها وصفاً فحواه(الفعل الذي يوازي الحلم) وهو طموح تكويني في أساس التجربة(الجَبْرَويّة).
2- عدنان طالب،(الفعل المتعدد، الأقوى):
يعدّ عدنان طالب، إذا ما قيس بقدرات شخصية(جميل فران) التي منحها إياها جبرا شخصية ثانية على مستوى الفعل لكن هذه الشخصية تعد الأولى بما أنجزته خلال مسيرة الرواية، انبنائها وهي شخصية منبنية وفق أسس متوازنة أيديولوجياً ومعمارياً، لذلك نستطيع أن نقول: إنها الشخصية الأولى التي تؤثر في الذهن وتحتل المساحة الكبرى من الحسبان الروائي على الرغم من استمرار(جميل) حتى نهاية النص وغياب(عدنان) كثيراً عن مسرح الفعل.
3- توفيق الخلف؛ (تعبئة المناطق الخلالية)؛ (الشخصية الوظيفية):
- ربما يكون النص قد أخفق في صنع هذه الشخصية الحاضرة الفاعلة وعرضها شخصية مبنية جاهزة، متنافرة في مكوناتها الداخلية، متناقضة التكوين، لا تمثل ذاتها تمثيلاً دقيقاً بمعنى أنها تحمل محمولات ليست جزءاً من قوامها وتحمل لبنات نفسية وفكرية ليست جزءاً من تكوينها ويلاحظ أن هناك بعضاً من الإسقاط على هذه الشخصية فإذا نجح النص في بناء جميل فران وبرع في بناء(عدنان طالب) فقد اشتد إخفاقه في محاولة بنيان(توفيق).
- (حسين عبد الأمير)؛ (الفعل غير الأصيل) (التبعية):(1/407)
تعد هذه الشخصية نموذجاً ثانياً أي مستوى ثانياً من مستويات الفعل فهي تقوم بأفعال مقلدة لأفعال(عدنان طالب) وهي بهذه الصفة تكتسب التبعية، ويكون الفعل لديها فعلاً خارجياً، بعبارةٍ أدق لا تكون الإرادة الخاصة الدافع إليه وإنما تكون إرادة خارجية، إرادة دافعة إلى تحريك الإرادة غير المبادرة.
4- سلافة النفوي(التطور السرطاني) (الانتقالي بين اللافعل والفعل):
يُستغرب من النص أن ينقل هذه الشخصية الكامنة من كمونها غير الواضح وغير الموحي بأي نتيجة إلى الفعل المؤثر في مسيرة الحدث الروائي، فسلافة النفوي شخصية غير ذات قوام في البداية جميع قراراتها مستمدة من القدرة الأعلى منها والدها، تحب جميلاً فجأة ثم فجأة أخرى تقرر الهروب معه لتتزوج منه على الرغم من جميع العوائق المهمة في منظور المجتمع الذي يعايشانه، إن انبناء هذه الشخصية مخلخل يعتمد انبناء الطفرة والنمو السرطاني غير المنتظم.
5- سلمى الربيضي؛ الشخصية الوظيفية المساعدة:
إن الفعل الذي أسند إلى هذه الشخصية لا يعدو كونه وظيفياً ليؤدي أغراضاً تساعد الشخصيات الأخرى على انبنائها وعلى بناء أفعالها، فمن أجل الوصول إلى توحيد(جميل) حبه كان فعل سلمى (إقامة العلاقة الجنسية به) ولكي يقوم عدنان ببعض المواقف الأيديولوجية كانت قريبة من قريباته وتقوم بأفعاله منافية لأيديولوجياه.
6- عماد النفوي، (الفعل التقليدي السائد) (الشخصية الجاهزة):
إن شخصية عماد النفوي شخصية قياسية بمعنى أنها شخصية غير منبنية وهي مصنوعة مسبقاً لتؤدي أفعالها التي ستقوم الشخصيات الأخرى بالرد عليها. وهي تمثل الدكتاتور التقليدي، الذي يؤمن بسلطة القمع، ويؤمن إلى جانب احتياز السلطة باحتياز الملكية.(1/408)
7- برايان فلنت: ممثل للآخر على المستوى الأيديولوجي، وهو شخصية نادرة في كثير من الروايات العربية ويحرص جبرا على وجود شخصية تمثل المباين الحضاري(الغرب)، هذه الشخصية تقوم بعدة مستويات للفعل ولكن الصفة السائدة على فعلها أنها غير فاعلة في المستوى المباشر للفعل وانما يكون فعلها رصداً لسلوكات وأفعال الشخصيات الأخرى ويكون وجودها وظيفة استدعائية بمعنى أنها صورة لاستدعاء مواقف وسلوكات ورؤى نحو الآخر الذي تمثله هذه الشخصية.
8- الخادم عبد:
ربما يكون من المستغرب جعل هذه الشخصية بين الشخصيات الفاعلة، لكن قدرة هذه الشخصية على الفعل الرمزي أولاً والواقعي ثانياً أكرهتنا على ذلك فعلى المستوى الأول بقيت الشخصية فاعلة فترة طويلة من الزمن الروائي وكان فعلها رمزياً إذ كانت تشكل رمزاً ثنائياً؛ أول جزء منه أنها رمز للخضوع والخنوع والاسترقاق والاستعباد والجزء الثاني أنها رمز للحاجز الاجتماعي الذي وضع بين جميل وسلافة.
وعلى المستوى الثاني الواقعي قامت هذه الشخصية بفعلٍ اجتماعيٍّ نابٍ عن نمطها المفترض(محاولة اغتصاب سلافة).
جـ- الشخصيات الفاعلة في(السفينة):
1- وديع عساف، مُوَجِّهُ دفّة الفعل:
إن الفعل الرئيسي في السفينة هو البحث عن الخلاص، الخلاص الفردي، وقد جاءت جميع الأفعال ارتكاسات متعلقة بحدي هذه المقولة أولاً: الخلاص وثانياً الفردي، وقد أثرت الفردية تأثيراً كبيراً في صنع كثير من الشخصيات.(1/409)
يفترض في شخصية(وديع عساف) التي تنتمي إلى ظرف خاص(ظرف القضية الفلسطينية) أن يكون بحثها الرئيسي عن الخلاص الجماعي وأن يكون اتجاه الفعل معاكساً تماماً للاتجاه الذي توجهت إليه على الرغم من أن النص أسند إليها مهمة التوجيه والقيادة الصورية التي قامت من خلالها بتحويل اتجاه الخلاص للشخصيات الأخرى نحو الوطن وليس نحو(الآخر) كما كانت متوهمة، وهذا الفعل الذي تديره الشخصية نوع من تحويل النظر، فالواجب أن تقوم هي ذاتها بتغيير اتجاه البحث عن الخلاص لديها، لقد قامت هذه الشخصية بمعوضات سلوكية، وجهتها إلى حيث كان يجب أن تتوجه هي.
إن انبناء هذه الشخصية يحكمه القانون العام الذي يحكم شخصيات جبرا جميعها، وهو(صنع الشخصية في الذهن خارج العمل) ثم إدراجها في المسيرة الروائية، بمعنى أن الشخصية لا تُصنع داخل النص، إذ لا يقوم النص بصنعها وإنضاج تكونها وإنما هي قدرات ناضجة، لأن النص ليس معنياً وليس همّهُ صنع الشخصيات أو التفرغ لتطويرها وإنما هاجسه الأول الأفكار والأيديولوجيات والمصائر العامة والخاصة للشخصيات دون التركيز على الخط التطوري لانبناء الشخصية، وهذا ليس عيباً فنياً إذا انتبهنا إلى منازع الخطاب.
يصور الخطاب مدى قدرة هذه الشخصية على التأثير إلى حد التأثير المطلق فعصام السلمان أحد محاور النص في السفينة يقول: ((لو خطر لوديع أن يقول لي: اقفز في البحر؛ لفعلت)) ص 100، نتساءل عن سبب هذه القدرة على التأثير المطلق، هل اكتسب الفلسطيني تأثيره من مأساته أم أن هناك تحويلاً للأنظار عن المأساة الأصل وخلقَ مُعَوّضاتِ تَرْضيةٍ أو طَمْأنةٍ، أم أن هناك قدرة فعلية كانت في فترة إنتاج النص يتمتع بها الفلسطيني المصدوم مرة أخرى بهزيمة ثانية فحاول اختراق هزيمته، ولكن هذا الاختراق توجه إلى حيث لا يجب الانصراف التام.(1/410)
ونرى أكثر الشخصيات من منظور وديع سواء أكان هو الراوي قائد المصائر أم غيره، وتؤلف الشخصية قاسماً مشتركاً بين جميع الشخصيات التي تستمد قدرتها في الوجود الروائي من قدرات وديع.
2- عصام السلمان:
يُسند النص إلى هذه الشخصية قيادة مصائر الشخصيات، ونتبين بعد ذلك أن هذه القيادة تنفلت من بين يديه بل يقوم بتسليمها إلى(وديع عساف) وهو كوديع باحث عن خلاصة الفردي، والسمة المهمة التي تميزه الاستلاب فهو مستلب للغرب وخاضع له ومستلب بمعنى الخضوع أيضاً للقيم العشيرية، مغترب عن ذاته، عن وطنه، عن حبه، باحث عن الانسلاخ القومي، لأنه لم يجد ذاته في انتمائه، وإذا دققنا في الفعل الذي قام به نجده ثانوياً ونجد أنه وظيفي قامت شخصيته بل أوجدت شخصيته لنقل أفكار وقيم والاحتجاج عليها. فهو ليس قدرة فاعلة في أيٍّ من الشخصيات سوى شخصية لمى(حبيبته) التي لم يستطع الزواج منها لأسباب اجتماعية تتعلّق بالثأر والقتل، وكان أقصى مدى للفعل لدى هذه الشخصية أنها كانت- دون إرادة منها- سبباً في انتحار(فالح حسيب).
3- لمى عبد الغني:(1/411)
امرأة(فارهة) تقوم بوظيفة الأنثى التقليدية، بل تقوم بوظيفة إضافية تعود إلى محاولة إعادة سلطة الأنوثة المفقودة أو إعادة الألوهة المفقودة، بأساليب، ربما تكون متأثرة بالتغيير والتطور المعاصرين، وهذا النزوع داخل الشخصية يندرج أيضاً في إطار البحث عن الخلاص(الفردي) وتعد هذه الشخصية المرأة المحور بين نساء السفينة، على الرغم من أن الكاتب لم يسند إليها قيادة المصائر مباشرة-كما فعل لإميليا فرينزي- غير أن لمى كانت تقود كثيراً من المصائر دون البروز مباشرة أمام عدسة التصوير؛ فقد حددت مصير(عصام) ومصير زوجها فالح، وحاولت أن تؤثر في مصير(وديع) و(فرنندو غوميز) وقد حاول النص تصويرها، شخصية أسطورية، ذات أبعاد فلسفية، وأضفى عليها إيحاءً روحياً خاصاً، وهي متطورة عن مزيج من(سلافة النفوي) وخالتها(سلمى) في(صيادون) فيها الحب والجنس معاً، وهي أنثى موحدة، تشكل طموح النص في تصوير الأنثى.
4- فالح حسيب:
شخصية مغتربة إلى حد المرض مصيرياً محدد منذ ظهورها في الرواية تتطور الشخصية تطوراً(سرطانياً) بمعنى أنها تسعى نحو صيرورتها بسرعة فائقة، ولا نستطيع الفصل بين تطور هذه الشخصية وبين انتمائها الاجتماعي الطبقي الذي يحدد في روحها رؤى تحكم مسيرتها وفعلها الروائيين. إن الفعل الروائي لهذه الشخصية فعل من الذات إلى الذات، لأنها كانت فاعلة في نفسها فقط؛ لذلك كان فعلها البحث عن الخلاص(خلاصها النسبي الفردي) إنهاء الوجود(الانتحار).
5- إميليا فرينزي:
اقتصر فعل هذه الشخصية على خدمة النص من حيث إسناد فصل من فصول الرواية إليها، ومثلت أكثر الأحيان متكئاً استند إليه النص لتعمير بنيان بعض الشخصيات الأخرى(كفالح حسيب) و(لمى عبد الغني).
6- محمود الراشد:(1/412)
قد تكون هذه الشخصية من أكثر الشخصيات التي خطط جبرا لإظهارها بشكلها الذي عرضت به، شخصية المثقف الذي يكتسب العصاب من واقع مجتمعه السياسي، لكن ما يبدو غير ذلك أن تلك الشخصية غير مُحبّذة لدى منتج النص، فما يُفترض أن يقوم الكاتب بإغناء هذه الشخصية بأكثر من كونها نموذجاً مثقفاً عصابياً اكتسب عصابه بسبب ظروف من ظروف القهر السياسي الذي مُورس ضده في سجنٍ في وطنه.
الشخصيات الفاعلة في(البحث عن وليد مسعود):
- وليد مسعود القدرة الفاعلة الخارقة: إن رواية(البحث عن وليد مسعود) هي رواية الشخصية، الشخصية الرئيسية، لأن محورها وعمادها الفكري والأيديولوجي، (وليد مسعود) لذلك اعتمدناه هنا شخصية فاعلة حاضرة، على الرغم من أنها فاعلة مستحضرة وقد رأينا أن ذلك يسوغ إدراجها هنا.(1/413)
ربّما يكون مطمح جبرا بَعْدَ كلِّ ما كتبه من الروايات أن يتواصل إلى خلق شخصيةٍ ذات معمار خاص متكامل نفسياً وفكرياً وجسدياً، فكان وليد مسعود تلك الشخصية ولا يعني أن الكاتب بدأ بوليد مسعود(طفرة) من طفرات صناعة الشخصية لديه وإنما كان وليد تتويجاً لعملية بناء الشخصية الرئيسية التي بدأت عجفاء في(صراخ) مع(أمين سماع) وانتعشت بقوة في(صيادون) مع(جميل فران) وأخذت أبعاداً نفسية وروحية أرحب في(السفينة) لتنضج وتتسم بالشمولية والقدرة واختراق كثير من النواميس الاجتماعية والدينية، لكن المحاولة الفاشلة بشكل دائم تكون أمام النواميس السياسية بقطبيها(الوطني) و(المعادي الاستعماري) إذ تبقى هذه النواميس سلطة مطلقة لا يمكن اختراقها، وما يبدو في(وليد مسعود) أن الفلسطيني الذي أراد جبرا خلقه قد انتهى، ولو حاول بعد ذلك في رواية أخرى قادمة الحديث عن شخصية فلسطينية يحاول بها إتمام مشروعه لما استطاع على الرغم من كل قدراته الروائية لأن الشخصية(الفرضية) الجديدة ستكون شخصية خاوية إلا من بعض الخطوط الهيكلية الخارجية المتممة أو من بعض التفصيلات تضيف أو تلغي أو تملأ بعضاً من المناطق الخلالية الفارغة.
يقوم(وليد مسعود) بمجموعة من الأفعال تتسم بالشمول المحيط فهو فاعل فكرياً في مسيرة الفعل الفكري العربي، وفاعل حضارياً من خلال الفعل الفكري وفاعل نضالياً على مستوى قضيته، وفاعل اجتماعياً على المستويات جميعها، مستوى التواصل والتبادل الاجتماعي ومستوى القيادة إضافة إلى مستوى الفعل الاجتماعي ذي الأفق النفسي الأرحب(العلاقة بالمرأة).
2- (مريم الصفار) الوجه الأنثوي للرجل(وليد مسعود):(1/414)
دأب الخطاب في تصوير تعددية(وليد مسعود) الأنثوية والاجتماعية والثقافية والفكرية، لكن هذا لا يعني أنه المطلق المتعدد في النص، لأن النص يخلق له منافساً لا يقل قدرة عنه وهو(مريم الصفار) القدرة الفاعلة المتعددة التي تقوم بربط مستويات الفعل كلّها معاً وتنجح أكثر من وليد مسعود على الرغم من أن النص حاول إظهارها لنا نموذجاً سيكلوجياً مرضياً وما ذلك إلا لأن النص أراد أن يمنح الشخصية واقعية مسوغة لبعض السلوكات التي تقوم بها، وتعد هذه الشخصية(كوليد مسعود تماماً) تتويجاً تطورياً للأنثى التي بدأت في(صراخ) مع(سمية) وانفصلت في(صيادون) إلى توأمين وتجلت في(السفينة) إرهاصات التتويج وجاءت المكملة(مريم الصفار) لكن مريم الصفار إمكانية متطورة، بمعنى أنها تحتمل الاستمرار مع الكاتب في أعمال قادمة؛ لأنها غير مقيدة بملحقات جغرافية أو سياسية على خلاف وضع(وليد).
3- كاظم جواد؛ المنافس الحاضر لوليد مسعود:
تشكل هذه الشخصية أكثر الأحيان نقيضاً أيديولوجياً لوليد مسعود ومصيرها الأيديولوجي بل مصيرها الروائي متعلق بهذا التضاد أي أنها صورة وجود مساعدة لانبناء شخصية وليد على الرغم من محاولات منتج النص إعطاءها قواماً بمنحها استقلالها.
من السمات التفصيلية التي أعطاها النص إياها التناقض بين المحتوى الفكري الذي يناضل في سبيل الإنسان وبين المستوى التنفيذي الذي يناهضه وهو بذلك يسجّل مقاربة ناجحة لمجتمع المثقف العربي الذي يعاني انفصاماً حاداً في شخصيته بين ما هو ثقافي وما هو سلوكي.
4- إبراهيم الحاج نوفل؛ الشخصية الظّهير:(1/415)
إذا كان كاظم شخصية مساندة بالتضّاد؛ فإن إبراهيم الحاج نوفل فاعل بالتضامن مع شخصية وليد ومساعد على انبنائها إيجابياً، وليست العلاقة التي يصوّرها الخطاب بين هاتين الشخصيتين سوى وصفٍ خارجي أي أنه يدلي بمجموعة تصريحات حول الروابط الداخلية، ويبقى إحساسنا بها مغترباً عنها لا ندرك مدى عمقها، وتبدو شخصية(إبراهيم) متمرّدة لكونها تنتمي إلى عصر متمرّد(صورياً) وليس تمردها ناشئاً من فكرٍ أصيل فيها، ولا نغفل علاقة هذه القضية بالانتماء الطبقي(لإبراهيم الحاج نوفل).
5- الدكتور جواد حسني: ((قائد المصائر فنياً)):
لم تكن شخصية جواد حسني قُدْرَةً فاعلة على مستوى الحدث وإنما هي قدرة تنظيمية مُشْرِفَة على مسيرة الأحداث وعلى تنظيمها ولا نستطيع أن نتوهم لهذه الشخصية قواماً متماسكاً خاصاً لأنها لم تستطع أن تُظهر ذاتَها بمظهر الشخصية الفاعلة على الرغم من حضورها الأكثر كثافة على مستوى المساحة الروائية.
6- وصال رؤوف: تَحدَّثنا عن كون هذه الشخصية تطوراً يعتمد الطفرة في انتقاله بين مستويات الفعل، وذلك عندما تحدثنا عن الأحداث فهذه المرأة المكمّل الجنسي(لمريم الصفار) تتحوّل إلى مناضلة بفعل الحب وتتصف هذه الشخصية بالصفات الجنسية(الكَبْشِية) التي رأيناها عند(مريم) وعند(وليد).
7- طارق رؤوف:
راصد ثان إلى جانب الدكتور جواد لكن شخصيته ربما تكون أكثر الشخصيات إقناعاً بتحولاتها وقدراتها وانبنائها؛ لأنها مبنية وفق أسس مقنعة لنموها ومقنعة لمتلقيها، طبيب نفسي أبسط ما يقال في توصيفه(طبيب يحتاج إلى طبيب).
طرائق وصف الشخصيات:(1/416)
تتعدد أنواع التصوير وذلك تابع لمستويات التصوير: فالمستوى الأول الذي قام النص بتعميقه وتبئيره مستوى الوصف الداخلي وجاء هذا التصوير معتمداً المناجاة الداخلية(المونولوج) وسيطر تيار الوعي سيطرة مطلقة على التداعي الحر الذي تتأتى به الشخصية أمام المتلقي بأسلوب الاعترافات وسفح محتويات النفس ورؤاها، كل ذلك من منظور الشخصية ذاتها ومن خلال وعيها للعالم الداخلي والعالم الخارجي الخاص بها وبالشخصيات الأخرى، ولا نستطيع بحال من الأحوال رصد التفصيلات البنائية لوصف الشخصيات البنياني الداخلي نظراً إلى طبيعة بحثنا هذا.
والمستوى الثاني: مستوى الرّسم الخارجي فقد قام النص بعرضه في تجليات مختلفة اعتمد بعضها على السرد التقليدي وبعضها الآخر على الحوار، وكان أكثرها سردياً، وإذا قسنا هذه التقنية بالتقنية السابقة وجدنا أنها منحسرة عنها انحساراً كبيراً لا نستطيع أن نقبل من خلاله حتى عملية القياس هذه، وقد جاءت التخطيطات الخارجية للشخصية ذات دلالات سيكلوجية أكثر الأحيان، وقد سادت عند التوجه إلى وصف الأنثى؛ لأن هناك ضرورة وارتباطاً قوياً بين العالم الداخلي للشخصية الواصفة بالشكل الخارجي للأنثى، وربما لأن هناك ارتباطاً بين العالم الداخلي والخارجي للأنوثة(الأنثى) ذاتها.
(((
الفصل الخامس
اللغة الروائية و التصوير الروائي(1/417)
- مهما تكن أهمية العناصر الروائية السابقة التي مثل التصوير فيها الذروة الفنية، فإنّ اللغة تشكّل أهميةً خاصّة على المستوى البنياني للنص؛ فلا نصّ بلا لغة، وتتفاوت اللغة بين الأنواع التعبيرية، أولاً بقدرتها الإيحائية والإخبارية، والتصويرية، وثانياً بانتمائها إما إلى الشعرية وإما إلى النثرية، وتتفاوت كذلك بتفاوت الفضاء التعبيري الذي تتوجه إليه وبتفاوت مستعمليها. أما الفضاء التعبيري الذي تتناوله اللغة فمتعدد الدلالات والتوجهات والمرامي، ندرس فيه لغة الخطاب عامة وعلاقاتها بالدلالات الخطابية تحت عنوان الدراسة الأسلوبية للغة، وندرس وظيفة اللغة التعبيرية والإيحائية والإخبارية والتصويرية تحت عنوانات متعددة منها لغة التصوير الفني، والتصوير التقني ولغة السرد واللغة الشعرية في الرواية، أما ما يتعلق بلغة الاستعمال الروائي فيدرس في ضوء لغة الروائي العامة ولغات الرواة التي يفترض أن تتباين وتختلف عن لغة الروائي.
- اللغة الشعرية؛ اللغة الروائية: (التقاطع والاشتمال):
تسيطر النثرية التامة، بمعنى من المعاني، على لغة الرواية، ونثريتها تنبع من نثرية العالم الذي توازيه؛ فالواقع والتاريخ ليسا منضبطين شعرياً وإنما يمكن ضبطها بلغة النثر على أن هذا لا يعني أبداً أن ليس هناك أي تقاطع بين الواقع والتاريخ وبين الأفق التعبيري الشعري، بل إنهما يخضعان بقوة وتكثيف، للتعبير الشعري، وإنما ما نقصده بالانضباط النثري للواقع والتاريخ يعني الوصول إلى مفردات العالم التفصيلية والواقعية، أما الشعر فيكثف العالم وينقله أكثر الأحيان من كينونته الواقعية إلى صيرورة شعرية غير واقعية فاقدة مكوناتها الفطرية الأصلية.(1/418)
ويقوم النثر بتقصي العالم وتأكيد كينونته، والبحث له عن صيرورة مناسبة تكون مواتية لمنتجة ومناسبة للعالم نفسه، ويحتاج الواقع والتاريخ إلى اللغة النثرية؛ من أجل قدرة الاختزال والانتقال بين الواقع الحادث وبين الواقع المتخيل اللغوي النثري، لكن هذا العالم المنثور في الرواية لا يستغني عن محاورة اللغة الشعرية؛ لأنه عالم كلي يتناول مجموعة آفاق لابد أن يكون منها الأفق الشعري، لذلك نستطيع أن نقول: إن اللغة الشعرية مُشْتَمَلٌ فنيٌ في المساحة الكبرى للغة النثرية الروائية، ويتعلق ذلك بمنتج النصّ أكثر الأحيان، فكونه طامحاً إلى صناعة رواية عظيمة وكونه ذا طبيعة شاعرية في تناول العالم والنظرة إليه، يجعلانه يدقق في(التناص) الشعري داخل العمل الروائي، ومفهوم اللغة الشعرية نسبي في الرواية؛ ولا يعني ذلك الاقتباس الشعري وحشوه في ثنايا السرد، وإنما يعني نشوء النص الشعري في عضوية النص النثري، بل ولادة النص الشعري ونشوؤه مندغماً في النص النثري، لتحدث بينهما عملية(تخلّق).(1/419)
تزدهر اللغة الشعرية عند جبرا إبراهيم جبرا في روايتيه(السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) إذ رأينا أن الصفة العامة التي تسيطر على السفينة في جميع عناصرها هي(المطلقيّة) وَصِفَةُ الإطلاق أقربُ إلى الشعرية منها إلى الموضوعية النثرية، إضافة إلى أنَّ الموضوعات الخطابية المنتجة تتناسبُ إبداعياً واللغة الشعرية، كذلك يشكّل طموح الكاتب وإحساسُه بمجموعة من القضايا الأيديولوجية المؤثرة لديه قدرةً تحفز النص اللغوي وترفَعُهُ من النثرية السردية إلى الشعرية العليا؛ ففي السفينة مثلاً تأتي(موضوعة) الأرض المحفز البؤري الرّمزي وكذلك يكونُ المكانُ بكلِ مكوناتِهِ الرّمزيّة: ((الصخر، البحر، الدار، المساجد، الكنائس...)). وما ننتبه إليه أنّه عند كل صوَّةٍ بؤرية من هذه الصُّوى تتبأر اللغة، وتتكثّف وتتجاور عوالمها في لولبية نحو العمق لتصل إلى محور مركزي تتجمّع حوله المحاور التعبيرية الرافدة.(1/420)
إضافة إلى ذلك فإن بعضَ الموضوعات الخطابية كالحبّ والجنس والأنثى، وبعض القضايا الأيديولوجية والفكرية تبعث على توتر اللغة وارتقائها، وفي((البحث عن وليد مسعود)) نجد مثل هذا التوتر والتبئير المركزي لها عند ظهور مجموعة صوَىَ، كاختفاء(وليد مسعود) البؤرة الحديثة واستشهاد مروان وليد، وعند بعض المفاصل الخطابية التي رأينا مثيلتها في(السفينة) كالحبّ والجنس والقضايا الأيديولوجية كالحضارة والفن والمواقف المتباينة منها، ويبدو أن اللغة الشعرية لا تقتصر على المواضع السردية الخطية وإنما تنتشر في جسم الحوار لتشكل(مونولوجات) داخلية مرةً، وحوارات فلسفية وروحية وشعرية مرةً أخرى، ويَهَبُها ظهورُها في الحوار قدرة إيحائية أعلى من قدرتها التصويرية التقليدية، وتستخدم اللغة الشعرية تقنياتٍ لغوية متنوعة بلاغياً وإبلاغياً، فعلى المستوى البلاغي نجد البلاغيات التقليدية السائدة(التشبيه، المماثلة)، و(الاستعارات والمجازات والمحسنات اللفظية الأخرى) إضافة إلى الترميز الروائي الخاص وعلى المستوى الإبلاغي تتنوع الوسائل المستخدمة في سبيل(التوصيل) وأهم ما يمكن أن نشير إليه في هذا المجال استخدام الرصيد الثقافي وتوظيفه بطريقة التناص، وذلك باستخدام اللغة استخداماً ناجحاً في الربط بين الرصيد المستدعى والنص الروائي.
لقد أخذت الرواية الحديثة تلجأ إلى هذه اللغة لأنها وحدها التي تستطيع خلق المعادلات الروحية والنفسية والفكرية، ولأنها المسلك التعبيري الأمثل الذي يؤدي وظائفه، بسبب من تعقيد الروح الإبداعي للمبدع المعاصر وتراكم الخبرة الأدبية والإنسانية والأيديولوجية، وتعدد وسائل التعبير، وتعدد المنازع والمآزق على جميع المستويات؛ بل تعدد الأحاسيس بالمآزق وارتقاء التعبير عنها.(1/421)
في رواية جبرا(السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) تتكثف اللغة الشعرية في الروايات وتتراكم إلى درجة أننا إذا قمنا بإحصاء كمها في(البحث عن وليد مسعود) مثلاً لوجدنا أنها نصف كمية المسرود القصصي، إذ تسيطر أحياناً على فصل كامل من فصول الرواية، كما في فصل((وليد مسعود يخترق أمطاراُ تتجدد)) وفصل((مريم الصفار تتعلق بصخرة تسكن أعماقها)).
إن اقتصار حديثنا على روايتين من روايات الكاتب لا يعني انعدام اللغة الشعرية في الروايات الأخرى، إنما يعني كون هاتين الروايتين تتميزان عن الروايات الأخرى بالكم والنوع الهائلين من اللغة الشعرية ففي صيادون، وصراخ، وعالم بلا خرائط نجد كماً لا يستهان به من هذه اللغة لكنه لا يرقى إلى الكم والنوع اللذين في الروايتين.
لغة الرواية؛ لغات الرّواة:(1/422)
في الرّواية التي يسردها راوٍ واحد يتبرأ الروائي من إشكالية اللغة ومن مطالبته بالمواءمة بين تعدد اللغات و تعدد الرواة، فيجهد في سبيل الموازاة بين لغته الخاصة ولغة الراوي وفق قدراته بحسب مشيئته بل مشيئاته اللغوية؛ فإذا كان الراوي منتمياً إلى(النخبة) اختار له لغة موازية لقد رأت هذا الانتماء، وإذا كان من القاعدة الاجتماعية قلص الكاتب من قدرة اللغة، ويحكم عندها على نجاحه بوصوله إلى الموازاة الدقيقة بين طرفي العملية، أما حين يتعدد الرواة فيفترض أن يحاول الكاتب الوصول إلى لغات روائية متعددة بتعدد الرواة، وعندها تبدأ محاوراته بشأن لغاته التي تواضع عليها بينه وبين رواته، لأنه مطالب بخلق لغات مساوية أولاً لعدد الرواة وموازية ثانياً لانتماءاتهم الثقافية؛ وهذا مطلب أسلوبي مشروع؛ لأن الفن الروائي محاولة توازٍ مع الواقع في تعدده الأسلوبي، ولأن تقنية((تعدد الرواة))-وهذا الأهم- تنتفي أهميتها ووظيفتها وينتفي مُسَوِّغُها إذا كانت أسلوبيّة اللغةِ خطيةٌ تسير وفق خطّ الروائي اللغوي نفسه، ويكون من المناسب لروايته أن تعود إلى الراوي الواحد لنسق واقعيتها اللغوية.(1/423)
إذا قمنا بفحص اللغة الروائية في نصوص جبرا نجد أن هناك فئتين من الروايات تصنف بحسب عدد الرواة، فالفئة الأولى فئة الراوي الواحد وهي: ((صُرَاخ في ليل طويل، صيادون في شارع ضيق، عالم بلا خرائط، الغرف الأخرى)) والفئة الثانية فئة الرواة المتعددين ((السفينة، البحث عن وليد مسعود)). تكونُ اللغة في الفئة الأولى لغة خطية متسقة مع قدرات الراوي الثقافية والسردية ومعرفته التي يحتويها وتتناول الإنسان والعالم، وإن كان يُداخلها بعض القَطْعِ اللغوي فهو لا يؤثر كثيراً في مسيرة اللغة الروائية، ويبقى التّجانس هو السائد وعندها لا نشير إلى أن اللغة الروائية مباينة لواقع الراوي أو للواقع العام أما ما نجده في الفئة الثانية من خطية لغوية، عل الرغم من تعدد الرواة الذي يفرض تعدّد الأساليب(1) فيجْعَلُنا نطرح التساؤل المهم على لغة الرواية ولغة الرواة: ما الهدف من تعدّد الرواة إذا لم يتعددوا في واقع الرواية اللغوي.
__________
(1) إن فحص الأساليب في الرواية يحتاج إلى كمية هائلة من الإحصاءات ليبين إذا كان هناك تباين دقيق في أساليب الرواة لكن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق لحبث شامل تتعدد فيه العناصر البحثية، وما تقوله هنا بعض من التأمل في اللغة وانطباعات غير أولية في أنواع التراكيب والجمل والروح اللغوي وأساليب النظم والتأليف.(1/424)
لنستنتج بعد ذلك أن التعدد جاء لأداء أغراض غير لغوية، أغراض سردية وحديثة ولأداء وظيفة أيديولوجية وليس لأداء التباين اللغوي ونستنتج أن التباين اللغوي تابع أيديولوجي وليس تابعاً شخصياً للراوي وهو تابع خطابي يتنوع ويتباين بتنوع المواقف وتباينها وبتنوع الدلالات ومدلولاتها، وليس بتنوع الشخصيات(الرواة). وما يدهش أننا نجد في السفينة مثلاً فصلاً تسرده الأجنبية((إميليا فرينزي)) بلغة عربية شاعرية أحياناً كثيرة، توازي لغة(وديع عساف) الذي يمكن أن نعدّه ممثل(جبرا) في السفينة، ولا نجد تبايناً، يُنبّهنا، في الأساليب بين فصول(وديع عساف) وفصول(عصام السلمان) وفحوى التباين ليست إلا تبايناً حدثيّاً أو سردياً صِرْفاً، والأمر نفسه نجده في(البحث عن وليد مسعود) لا تتباين اللغات فيما بين الفصول خاصاً اللغة الشاعرة منها ونشير إلى أمرٍ مهمّ فيما يتعلق بفصل(مريم الصفار) الذي تسرده بلغة موازية ومسايرة للغات والرواة الآخرين؛ إن المفترض الأسلوبي أن يكون في مسرود المرأة مباينات أسلوبية لما تحمل مسرودات الرجل، كذلك الأمر في الفصل الذي تسرده(وصال رؤوف). وربما يكون التسويغ، الوحيد والنسبي، لتوازي الأساليب، في روايتي جبرا اللتين تستخدمان تقنية الفصول، أن جميع الرواة شخصيات متقاربة ثقافياً تنتمي إلى الفئة الثقافية الخاصة التي ندعوها النخبة.
الظواهر"السوسيولغويّة"؛ (اللغة الاجتماعية):(1/425)
رأينا فيما سبق أن الأدب، بعامة، كائن اجتماعي يتخلق في المجتمع وتكون وظائفه الرئيسية ودلالاته الأهم وظائف ودلالات اجتماعية، وأخص الرّواية؛ لأنها الكائن الأدبي الأكثر التصاقاً بالعناصر الاجتماعية، وهي المنتج الاجتماعيّ اللغويّ الأمثل للتعبير عن المجتمع وتمثيله؛ لذلك لابد من طفوِّ كثيرٍ من الظواهر اللغوية الاجتماعية على سطوح المعالجة الروائية؛ إن أمامنا هنا إشكالية ربما تخص المجتمع العربي وحده، نظراً إلى الظرف اللغوي العربي الذي يعاني ازدوداجية في التعبير بين لغة قومية في قمة نضجها وقدرتها التعبيرية ونظامها الضابط المنضبط وفق أعلى القوانين التي تحكم لغة من اللغات، إلى جانب مجموعة من(اللغات) الاجتماعية السائدة، لا يخضع أيٌّ منها إلا إلى حسن فطريّ جماعي مشوّهٍ، مقيَّد ومقيِّد للمجموعة التي تستعملها وهي إنتاج بيئتها الضيقة وإنتاج الظرف الاجتماعي والسياسي والحضاري الخاص بهذه الفئة، وتبقى هذه اللغات منتجاً استهلاكياً يُسوَّق في البيئة التي أنتجته فقط.(1/426)
وتنشأ المفارقة من كون الأدب يستعمل اللغة الأولى، لأنها وحدها التي تستطيع أداء المعادلات النفسية والفكرية والفنية، ويستثني(اللغات) القاصرة جدّاً عن قدرات النص الأدبي الإبداعي، ويقوم النصّ أحياناً بالاستعانة بهذه اللغات على شكل"تناصات" سردية، في الحوار بخاصة، لأن لغة الحوار تحتمل أحياناً بعض التدخلات اللغوية الاجتماعية(العامية)؛ وفي نصوص جبرا التي تنزع منازع التعبير الشعري المحمّل بالدلالات الفكرية والإنسانية العليا تنحسر هذه اللغة لنجد بعضاً من التعبيرات الاجتماعية الخاصة بالمجتمع العراقي؛ وأخص رواية(صيادون) التي تعد خطاباً تغلب عليه السِّمة الاجتماعية، وتسيطر على حوارها حيوية لغوية تدحض الادعاءات التي ترى في الحوار الفصيح جفاء للواقع، وهذه الحيوية مكتسبة من قدرات الروائي اللغوية التي سخرها بنجاح للدلالة المناسبة على القضايا الاجتماعية وقد ظهر مثل ذلك في(السفينة) وفي(البحث عن وليد مسعود) وفي(عالم بلا خرائط) مع الانتباه إلى أن العنصر الأساسي في مجتمعات جبرا مجتمع المثقفين لذلك جاءت اللغة(اجتماعية ثقافية) بمعنى أن المجتمع الذي أراده جبرا واجتزأه من العناصر المكملة الأخرى هو(المجتمع الثقافي) فقط؛ الذي تَغْلُبُ عليه المعالجةُ الثقافية المتطوّرة نسبياً للقضايا الاجتماعية، دون أن تكون لغةً غامضةً متحذلقةً.
الظواهر"السيكولغوية"(اللغة النفسية؛ السيكلوجية):(1/427)
تتعدّد المصادر الثقافية لخطاب جبرا، كما رأينا سابقاً، من هذه المصادر(علم النفس، والتحليل النفسي، وعلم النفس العيادي"الكلينيكي") لذلك نَجِدُ حشداً هائلاً من المصطلحات(السكيلوجية) ومن الرصيد اللغوي الخاص بالتحليل النفسي، إذ تتجلى هذه الظاهرة واضحة في(البحث عن وليد مسعود) عندما يُسند جبرا إلى شخصية مهمّة من شخصيات الرواية دور الطبيب النفسي ( الدكتور طارق رؤوف) وعندما يعتمد نص ( عالم بلا خرائط) على نموذج سيكلوجي (الدكتور علاء الدين نجيب) تقوم جميع العناصر النصية على بنيانه، وهذا النموذج السيكلوجي مرضيّ في كثير من المواقف التي يتخذها مرتكساتٍ على وقائع العالم وليس لدينا مجال لعرض المعجم السكيلوجي النصي لأن كمّه وطبيعة البحث لا يسمحان بذلك.
لغةُ المقدِّمات والافتتاحيات والخواتيم:
1- المقدّمات: يميّز خطاب جبرا ونصّه أنّه يقوم في كل رواية بوضع نصّ مختار مقتبس من إنتاج مؤلفين آخرين يستخدمها مقدمة تمهيدية مناسبة لموضوع الرواية العام ولمغازيها، لذلك لا نستطيع أن ندرس لغة لا تنتمي إلى النص بنيوياً، أي أنها ليست من إنتاج الروائي.
2- الافتتاحيات: جاءت الافتتاحيات مطلقة اللغة غير سردية، وهي في أكثرها شعرية الإيحاء والدلالة؛ ففي(السفينة) مثلاً نجد(عصام السلمان) يبدأ فصله بقوله: ((البحر جسر الخلاص...))..(1/428)
وكذلك نجدُ(وديعاً) يفتتح فصله بقوله: ((عن كل أملٍ تخلوا أيها الداخلون إلى هنا...)). وفي((البحث عن وليد مسعود)): ((لو أن للذاكرة إكسيراً...)). وإذا دققنا قليلاً في المكونات الأساسية لهذه اللغة نجد أن البنية السائدة فيها بنية متفاوتة بين الإخبار والإنشاء، لكن المحتوى الشعوري المحمّل في هاتين البنيتين لا يتفاوت بتفاوت النوع البنياني للغة وإنما تتصعّد منه الدلالة الشعوريّة القصوى، وربّما يكون هذا الاندفاق الشعوري في مقدمات الروايات بسبب الشحنة الأولى التي يحملها الكاتب لُغته، ويكون هدفها ثنائياً، أولاً هدفٌ تعبيريٌ وثانياً هدفٌ إيصالي؛ فالتعبير يتوخى بل يقتضي من المنتج اندفاقاً لغوياً يتجلى في لغة حارّة متلاحقة مطلقية الدلالة متفجرة الشعور والإحساس ولا ضير في البنية المستخدمة عندئذٍ، ويتوخى الإيصال البحث في اللغة عن معادلات شعورية فيحمل اللغة قدراته التعبيرية، ويختار دائماً الافتتاحيات كي تكون هكذا لأنها نقطةُ انفتاحِ النص على القارئ، فإذا نجح في هذا الانفتاح نجح في الولوج إلى عالم المتلقي، وإذا لم ينجح، فربما بقيت العلاقة بين العمل والمتلقي اغترابية على الرغم من إنجاز القراءة؛ لهذا يعوّل كثيرٌ من الكتاب على الافتتاحيات وهذا ما اهتم به جبرا اهتماماً عظيماً، إضافة إلى ذلك يحاول جبرا أن يقترب من اللغة الشعرية، والافتتاحية في الرواية هي كبَيْت(القصيد) بل هي اللحظة الشعورية العليا في الشعر، وهي تلخيص شعري أو اختزال شعوري لكل اللغة اللاحقة التي تكمن في ذات الكاتب ثم يفرّغها في تتمة النصّ نجد الافتتاحية وربما تكونُ أحياناً تلخيصاً يُحَوِّم حول المغزى العام.(1/429)
في السفينة يستعملُ النصّ التعبير((البَحْرُ جِسْرُ الخَلاصِ)) وهو تركيب إخباري عامٌّ يؤدّي دلالة الأفق التعبيري الخطابي الذي ينزع إليه خطاب السفينة؛ (البحث عن الخلاص)، ويأتي البناء التعبيري بناء بسيطاً مكوناً من عنصرين نحويين رئيسيين(المسند والمسند إليه) المبتدأ أو الخبر، لكن المسند دال غير كاف؛ فأضيف إلى الهدف التعبيري(الخلاص) وتؤدي جميع الافتتاحيات الأخرى الغرض التعبيري ذاته.
3- الخواتيم: كما يجهد الخطاب في ترك الخواتيم الروائية مفتوحة سردياً دون إنهاءٍ لانفتاح النص، فإنه يَجْهد أيضاً في ملاءمة اللغة لهذا الانفتاح الدائم، فتأتي اللغة أحياناً سردية مرسلة تناسب إرسال الانفتاح وتأتي أحياناً أخرى لغة منضبطة بقانونٍ ما، يناسب الانفتاح أيضاً كقانون الاستفهام الذي يبقى مفتوحاً على إجابة لن تكون أو قانون التعجب الذي يرسل إيحاءات اللغة إلى لا تعيين.
إن التواؤم بين لغة المقدمات ولغة الخواتيم الذي يخلقه جبرا، يشير إلى القدرة التي يمتلكها في سبيل ضبط المَدْخل الرّوائي، وهذا ما يؤدي إلى ضبط المَخْرج وربّما يكونُ النجاحُ في ضبط المَداخل مُوصِلاً حتمياً إلى النجاح في الخروج من العمل(النص) دون إشكالٍ يتركه في وعي المتلقي.
دراسات ألسنية؛ (اقتراحات وتصورات):(1/430)
إن البحث اللساني الذي يتناولُ النصَّ الأدبي بحث مستقل يقوم على البحث في البنية اللغوية السائدة في النص، البنية التي تتكون من بنى لغوية متعدّدة، ويدرس البحث وظائف تلك البنى وهيكليتها التي تحدد ماهيّة الأساليب وتكويناتها، ولأن ظواهر النصّ متعددة تعدداً هائلاً، ولأنها تحتاج إلى إحصاءات هائلة للوصول إلى نتائج دقيقة منضبطة ضمن قواعد وقوانين لغوية مُسْتنتجة، تُظهر النظام اللغوي للنصّ، وهذا العمل يحتاج إلى بحثٍ مستقل؛ فإذا أردنا دراسة ظاهرة المتكلم في النص ووظائفها وبنية الكلام الذي يستعمل هذه التقنية احتجنا إلى دراسات إحصائية تفوق حجم النص بحثنا هذا؛ فكيف يكون الأمر إذا درسنا مجموعة الظواهر الأخرى التي نعرض منها على سبيل المثال:
1- ظاهرة التنوين ووظيفتها اللغوية والنفسية.
2- ظاهرة المخاطب: لغة الحوار.
3- ظاهرة الاستئناف؛ دلالات سيكلوجية لغوية.
4-ظاهرات الفعل، الماضي، المضارع، المستقبل.
5- ظاهرة الاستدراك.
6- ظاهرة الحذف، والاختصار، والابتداع.
7- البنى البلاغية للغة(الانحياز، المجاز...).
8- قدرات اللغة الموسيقية"المقاطع التلاويّة" إيقاعات اللغة.
التصوير الروائي
مقدمة:(1/431)
دأبت جميع الدراسات التي تناولت البناء الفني للرواية العربية في دراسة العناصر التقليدية المكونة لبنية الرواية من سرد وحوار وشخصيات ولغة، وزمان ومكان، إذ بحثت في كل ذلك بطريقة سريعة انطباعية لا تستقري البنيان النصي بكل مكوناته وتفصيلاته التي ينبني عليها وبها وتشكل صوى ومفاصل وهياكل تمنحه قوامه، ولم يتوجه أي منها، إلا فيما ندر، إلى دراسة التقنية الرئيسية التي استخدمت في صناعة النص، فحين تقوم بعض الدراسات ببحث السرد مثلاً تركّز على لغته وخصائصها ونوع السرد وافتتاحيته وخاتمته. لكنها تغفل العملية الرئيسية في صنع السرد وهي التصوير الذي يعد في حقل الدراسة الفنية أعلى قدرة ومرتبة، لأنّ السّرد تقنية مشتركة بين العملية الإبداعية بمفهومها الفني وبين العمليات السردية الأخرى غير الفنيّة أمّا التصوير فمقتصر على إنشاء العمل الفني ومن هنا تأتي أهميته التي تساعد في خلق أدبية النص، ويتفاوت هذا الخلق في قيمته الفنية. فالمستوى الأول الأقل عمقاً في التصوير التقني الذي يحدّ الامتدادت الفنيّة ويقرر الشكل الكلي التقني للنص وهو الطريقة والأسلوب اللذان يقدّم بهما النص ذاته التي يريد الوصول بها إلى المتلقي.
والمستوى الثاني الأعمق التصوير الفني الذي يرمي إلى أبعد من الصنع والتكوين ويهدف إلى الخلق الفني المبدع وتستخدم فيه البلاغيات والعناصر الفنية العالية كالمجاز والرَّمز، والإبلاغيات التصويرية كاستدعاءٍ الرصيد الثقافي أو ما يمكن أن ندعوه(بالتناصّ) كالتناصّ الأسطوري والتناص التاريخي والتناص الشعري.
التصوير التقني:
1- أنواع التصوير:
التصوير الثابت: الفوتوغرافيّ:(1/432)
يستخدم النصّ هذا التصوير مقدمة تصويريّة للانتقال إلى تصوير متحرك إيحائي، وذلك عندما يريد خلق تأثير نفسي بالجزء الإيحائي: ((حيث استلقت سمية فتانة في شبه عُريها، ونهداها سافران في تلك اللمعة الذهبيّة والموسيقى تنطلقُ كسيلٍ من خيالاتِ العشّاقِ، فأقول إن فيها الأوزّات البيضاء تحلّق والزوارق الوسنانه تعومُ، فتقولُ: أنْ لا، تلك أشباحٌ تقلِعُ عبرَ البحار لترسو عند شطآن من الرّقص أو لعلها شياطين تنفثها دوامات الجحيم، وكانَ في الموسيقى هَجْعَة الرّيف أيام الصيف عندما تسكن الطبيعة كلّها ما خلا الجنادب والذباب)) صراخ ص 30.
ويبدو من خلال الاستقراءِ أنّ هذا النوع من التصوير يتكرر عندما يكون الموصوف المصور الأنثى في وضع خاصّ: ((وهي غارقة في الكرسي الكبير ونهداها ككرتين من عاجٍ وتنورتها حاسرة ملمومة حول خصرها وفخذاها يستقبلان حرارة النار اللاهبة على مَهَل في الموقد)) البحث عن وليد مسعود ص26.
ويأتي أيضاً في وصف المكان الثابت وفي وصف الطبيعة والأشياء وهو موجود بنسبةٍ ضئيلةٍ في الرّواية وبخاصّة في السرد التقليدي، والنّوع المسيطر على التصوير الثابت هو الصورة اللوحة التي يرسمها الكاتب بلغةٍ سرديّة وصفيّة كأنه ينشئ لوحة، تحقق أغراضه الفنية والفكريّة والنفسيّة ويأتي هذا التصوير في الدرجة الثانية بعد التصوير المتحرّك، والبون شاسِعٌ بين عدد الصور الحركية التي لا تخلو منها صَفْحة في النصّ سواء في السرد وفي الحوار، بينما لا تمر الصورة الثانية إلا نادراً. وربما يكونُ الغرضُ من وراءِ تثبيت الصورة في بعض الأحيان وبخاصّةٍ صورة المرأة من أجل التمعّن بمكوناتها والتلذذ بتفحصها وتثبيتها من أجل السيطرة البصرية عليها والتدقيق في أجزائها لأنّ الحركة تغيب جزءاً كبيراً من التفصيلات وتلغي كثيراً من أجزاء الصورة.(1/433)
التصوير المتحرك: يبدو أنّ النّصّ الرّوائي لجبرا إبراهيم جبرا يحاول بوعيٍ من منتجه أوبلا وعي أن يوائم بين البنية النصية والمرامي الخطابية، وهذا يستدعي اهتماماً نصيّاً بالحركة، لأن مفهوم العالم عند الكاتب متحرك، ومعنى الثبات لديه يوازي معنى الاندثار كما رأينا سابقاً في كثير من المواضع الخطابية.
لا يمكنُ بحالٍ من الأحوال إدراج الصُّوَر المتحرّكة جميعها في البحث، لأنّ ذلك يعني أن يُدرج ثلثي صفحات الرّوايات مع أن استقصاء هذه الصور لأهميتها الفنية ضروري، وهو وحدَه يؤلّف بحثاً مهمّاً في بنية الصّورة في نصّ جبرا إبراهيم جبرا الروائي، لأن الدّراسة البنائية للصّورة وحدَها التي تؤدي إلى استيضاحها واستيضاح مرامها ورموزها المحمولة فيها من نفسية وروحية وإيحائية تخيلية.(1/434)
ويبدو أيضاً أن الفعل الروائي متلاحقٌ في خلق الحركة وتتفاوت الصور المتحركة بين روايةٍ وأخرى، والتفاوت ليس في التحرك أو الثبات، وإنما في عنفِ الحركة وسرعتها وبطئها وهدوئها ففي صراخ تكون الحكّة بطيئة وإيقاعها ثابت منضبط بسرعة تكاد تكون نظامية بالمفهوم الرياضي للكلمة، تتسارع في بعض الأحيان التي تستدعي شحنة بحركة إضافية، وكذلك الوضع في صيادون على الرغم من أن كثيراً من الأحداث ومن أن الإيقاع الروائي يحتاج إلى تسريع في كثير من المواضع لكن هذا لا يعني انعدام الإيقاع التصويري السريع أو المتسارع إذ نجده في مواضع متعددة وتتسارع الحركة الداخلية للتصوير ويبلغ ذروته القصوى في السفينة التي تتفاوت أيضاً سرعة الحركة بين فصولها وتكون في أقواها في الفصول التي يرويها(وديع عساف) الفلسطيني لأن ذلك يؤدي أغراضاً نفسية خاصة، يوكلها الكاتب إلى الشخصية، ويستمر الخط البياني في ذروته التصويرية وتتعدد ذراه في البحث عن وليد مسعود وأشد ما تكون سرعتها في الفصول الثلاثة التالية: 1- وليد مسعود يخترق أمطاراً تتجدد، وتفسير ذلك واضح إذ يمكن أن نعد(وليداً) كما أسلفنا ممثلاً جيداً لجبرا في الخطاب إضافة إلى المميزات الثقافية والشخصية الذاتية التي جعلت للشخصية، لذلك لابد من تميز تصويري في الفصل الذي ترويه يوازي التميز الذاتي.(1/435)
2- في فصل (مريم الصفار تتعلق بصخرة تسكن أعماقها) ترتفع هنا أيضاً القدرة التصويرية وتؤلف ذروة رمزية ربما تكون قدراتها الإيحائية أعلى بنسبة جيدة من القدرات الإيحائية للرموز التصويرية في فصل وليد مسعود الذي أشرنا إليه سابقاً، ويُفَسَّرُ ذلك في ضوء القدرات الذاتية التي منحت للشخصية أيضاً، ويضاف إلى ذلك أن الشخصية(مريم الصفار) تستمد قدراتٍ إضافية تضافُ إلى قدراتها الخاصة. من علاقتها بوليد ويلاحظُ ذلك عندما تتوتر اللغة التصويرية وتتسارع وترتفع قدراتها الإيحائية في اللحظات التي يكون موضوع التصوير فيها متعلقاً بوليد بشكل مباشر أو غير مباشر وما يؤكد ذلك الارتقاء التصويري في:
3- فصل (إبراهيم الحاج نوفل ينبش الأعماق حتى الفجر) ويبين سياق الرؤية-من خلال التصريح- العلاقة الأقوى بين(إبراهيم ووليد) إضافة إلى العلاقة القوية بين ارتقاء التصوير والحديث عن وليد مسعود.
أنواع الصورة:
1- الصورة اللقطة: صورة سريعة وظيفية مشتركة بين التصوير الثابت والتصوير المتحرك تأتي في التصوير الثابت على شكل لوحة مرسومة باللغة وصفياً، وهي صورة منقولة عبر تقنية السرد التقليدي غالباً. وتأتي في التصوير المتحرك لقطة سينمائية متحركة مبثوثة عبر التقنية ذاتها التي يبث بها النص اللوحة الثابتة، وتكون وظيفة هذه الصورة أداء دلالات نفسية وجمالية، وقد تأتي الصورة اللوحة بعض الأحيان موحية بالحركة بالإيهام الداخلي نفسياً: ((لكن الفتيات كنّ أشدَّ غموضاً من كلّ ما عداهن، خاصة منهن أولئك اللواتي يرتدين السواد من الرأس إلى القدم، ويمشين كنساء الأحلام، ويخبئن في ثناياهن عالماً من الأسرار التي لا تباح)) صيادون ص32 .(1/436)
2- الصورة الومضة: صورة سريعة جداً أشد تكثيفاً للتصوير وهي أكثر الأحيان صوة إخبارية تختزل الحدث بجملة أو تركيب لغوي سريع بسيط: ((كنا نجابه كل يوم رسل الموت.... كان القرويون العرب يُذبحون في الظلام الغادر على أيدي رجال لم يروهم من قبل)) صيادون ص18 .
تسود هذه الصورة في مساحة النص وتأتي تمهيداً تصويرياً إمّا للصّورة اللقطة وإمّا للصورة المشهد، أو عنصراً تكوينياً في إحدى الصورتين.
3- الصورة المشهد: المدى الأقصى الذي يمتدُّ إليه التصوير في النص ينقطع عنده ليعود إلى ابتداءٍ تصويريّ جديدٍ ندعوه الصورة المشهد، وقد يأتي المشهد تجميعياً صوريّاً لمجموعةٍ من المشاهد القصيرة نسبياً أو يأتي مشهداً مستقلاً مقصوداً إليه بذاته ويرتبط المشهد التصويري حتماً بالمشهد الزمنيّ والمشهد الحدثي، ولا ينفصل عنهما أبداً إلا في المشاهد التصويرية النفسية يكون منفصلاً عن الزمن الخطيّ الواقعي وعن الحدث الإجرائي المباشر، ولكنه مرتبط بالزمن النفسي والحدث المتعلق به.
ويأتي المشهد مسروداً بشكل تقليدي مباشر، أو بشكل(مونولوجي) بالتداعي النفسي وبتيار الوعي، وبالاندفاق اللغوي التراكمي أو التصاعدي وفق طبقات تصويرية منظمة بنظام خاص، وفي ما يتعلق بحدة الارتقاء الوصفي في الامتداد أو العمق أو الإيحاء نجد أن السارد ذو أثر كبير. فالشخصية تحدد امتداد المشهد التصويري بحسب أهميتها وتأتي أهمية المشهد من أهمية الشخصية.
التصوير الفني:(1/437)
- قد يبدو(النثر) للوهلة الأولى وللذين يميزون بنمطية ما بين النثر والشعر، غير قادرٍ على اسيتعاء تقنياتٍ فنية هي من مستلزمات الفن الشعري، لأن التصور السائد أن الشعر هو فن التقنية البلاغية والأسلوبية الإبلاغية العالية في استخدام المجاز والرمز والأسطورة والعناصر التي تمنح الأدب الفني أدبيته وفنيته، لذلك فقد ظهر في الأدب العربي ما سمي(بالنثر الفني) دالاً على النثر الذي يجنح نحو الاقتراب من فنية الشعر وتقنياته النصية والنفسية وهذا دليل على تصنيف نثري بعامة بعيداً عن الفن، لكن الرّدّ الطبيعي على هذا المصطلح(النثر الفني) جاء لدى الحداثيين بمصطلح أو بعبارة أدق باصطلاح(القصيدة النثرية أو قصيدة النثر..(1/438)
) وهو محاولة لتقريب طرفي الشرخ الفني بين النثر والشعر ونحن هنا في هذه المقدمة لا نريد أن نناقش القيم أو المواقف الأيديولوجية من قضية النثر وقصيدته والمواقف المباينة، وإنما نعرض ذلك للولوج في استيعاء مسألة التصوير في الفن المصنف نثرياً(الفن الروائي) في المرحلة الحداثية الثانية، إن جاز لنا أن نقسم الحداثة إلى أولى وثانية، وصلت الرواية في انبنائها النصي إلى مستوى متطور، فلم تعد ذلك التصوير الحكائي المجرد من التصوير الفني مهما يكن منزعها واقعياً لأنها تبحث إضافة إلى السرد الحكائي الصرف عن وسائل إيصالية إبلاغية أكثر عمقاً وأشد تأثيراً هي الوسائل(البلاغية) التي غدت في كثير من الأحيان هدفاً لذاتها ويمتد إليها النص في سبيل خلق جمالية نصية متميزة، وبعدد ما تحشد من قدرات فنية تصويرية تصنف على سلم الارتقاء الأدبي، لذلك نجد كثيراً من النصوص الروائية تجعل هدفها الأسمى البحث عن مقاربات نصية شعرية، وهذا دأب الرواية الحديثة العظيمة((فالرواية، حتى في عصر النثر، هي على أفضلها وعاء جديد لطاقة شعرية قديمة))(1)
__________
(1) الفكر العربي المعاصر العددان 44و 45 ربيع 1987 من مقال لجبرا بعنوان الشعر والفن الروائي ص19 في هذه المقالة يحاول جبرا إثبات العلاقة الصهيرية بين الفن الشعري والفن النثري وقد نشرها بعد ذلك في كتابه(تأملات في بنيان مرمري)..(1/439)
ولأن الفن الروائي فن من فنون الكلمة((والشعر سمة الأصالة في كل فن يعتمد الكلمة وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية(كما قال ولتريائر) فهي إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها، والتي تحمل في تضاعيفها الكثير من سر الموسيقى، أعزل الشعر عنها، تسقطها جميعاً، وتصبح شيئاً غير الإبداع ولعل واجب الروائي المبدع، في النهاية، هو أن يكون قد حول الحياة، بزخمها وبؤسسها وروعتها، إلى ما يشبه القصيدة))(1).
إن شرط الإبداع اعتماداً على هذا الكلام هو شعرية الرواية وبذلك تبدو العلاقة جلية بين ما هو شعري وما هو روائي بل في التأكيد على ما هو شعري في ما هو روائي.
الصورة الشعرية، الصورة الروائية:
إن الكلام السابق لا يلغي التباين الواضح بين التصوير الشعري والتصوير الروائي واستخدامنا للمصطلح(الشعر) يأتي في عموم الدلالة وما يهمنا هنا هو أن نقارن بين الصورة الشعرية والصورة الروائية بعد أن قرنّا بين الشعر والرواية:
__________
(1) الفكر العربي المعاصر العددان 44 و 45 ربيع 1987 من مقال لجبرا بعنوان الشعر والفن الروائي ص20 .(1/440)
1- تتصف الصورة الشعرية بالكثافة التصويرية والاختزال الواقعي الذي يخل بالمستوى الحقيقي للواقع ويشوهه ويحور مكوناته وينقلها من واقعيتها إلى واقع مصنوع(خيالي) يوائم بين المكونات غير المتجانسة ظاهرياً ويكتشف التجانسات الكامنة الباطنة بين أجزاء العالم ويوفق بين التناقضات في خلق صورة شعرية لها وظائفها النفسية والجمالية والدلالية الفكرية والاجتماعية، أما الصورة الروائية فتتوجه نحو الواقع وتجهد في سبيل المحافظة على مكوناته، لأن منزعها الأيديولوجي في النهاية هو الذي يحكمها بينما في الصورة الشعرية يظل الشعر بمنأى عن القيود الواقعية المفروضة على الروائي وينجح الروائي في كثير من الأحيان في الخروج من القيود الواقعية ويقارب النص الشعري إما بالتناص الخارجي إذ يقوم باستدعاء الرصيد الثقافي من أسطوري وتاريخي وشعبي وإما بالارتقاء إلى المستوى البلاغي(الرمزي، المجازي).
2- الصورة الشعرية ذاتيةٌ محضٌ، سواء أكانت تتوجه إلى التعبير عن الآخر أم عن الذات وتصعد فيها القدرة الشعرية إلى أقصى مدى ممكن دون انضباط خارج الشاعر، باستثناء الانضباطات التي يفرضها نظام اللغة(الشعرية) والمنطق الشعري العام، وتكون الصورة الروائية بل لابد لها من أن تكون معبرة موضوعياً وذاتياً، أولاً لابد لها من ألا تخرج عن طبيعتها الموضوعية لكونها منتمية إلى عالم فني أدبي(الرواية) ينزع إلى(الموضوعية النسبية) ونقول نسبية لأن للفن الروائي موضوعيته الخاصة التي تصبح دلالة مستقلة على عالمه، وثانياً لابد لها من التعبير الذاتي، لأنها منتج أدبي في مستوى أول ومنتج سمته الرئيسية أنه مسرود من راوٍ يلوّن النصّ التصويري بألوان الطيف النفسي الداخلي، فهو يصوغ العالم وفق قدراته النفسية والفكرية ويصوغه في داخله بناء على وعيه الخاص ثم يبثه في مسرودات وصفية أو تصويرية فنية.(1/441)
3- تكون الصورة الشعرية مستقلة بتكوينها الخاص وليس انتماؤها إلى النص سوى ارتباطٍ(عضوي) بمعنى أنها تتكون بشروطها اللغوية والنفسية والفكرية والرمزية مستقلة ثم تنتمي على عضوية النص العامة ويكون الارتباط بتمفصلات شعرية مشتركة بين اجتماع الصور المكونة للنص وهي في عالم صوري متجانس بشعريته وتكون الصورة الروائية شعرية بمكوناتها المستقلة ولكنها تبحث عن انتمائها العضوي إلى عالم نصي متجانس، أو يجانسها على الأقل، فلا تجد، فتحافظ على استقلالها الشعري وتنتمي إلى النص من مدخل آخر هو المدخل الوظيفي وتكون عند ذلك(مساحات زينة) في رقعة السرد الحكائي الأفقي التقليدي.
أنواع الصورة الفنية في الرواية:
تتباين أنواع الصورة الفنية بحسب عناصرها المكونة أولاً وبحسب المقاييس الفنية المتبعة في التصنيف ولابد من حدوث بعض التداخلات بين المستويات(الصورية)؛ إذ لا يمكن الوصول في هذا الحقل إلى تصنيف دقيق بالمعنى الفني لأنواع الصورة؛ لأن المنزع التصويري للرواية لا يخضع عند الإنتاج لنظام ضابط خاص وإنما تعمل القدرات(النفسية واللغوية والثقافية المتداخلة والمتراكمة) لمنتج النص بخلق معادلات نفسية موازية للمعادلات النفسية(غير المنظمة) لمنتج النص نفسه.
وفق مقياس أول(المركب، البسيط)
أولاً- الصورة البسيطة:(1/442)
تقوم هذه الصورة على مقياس يحدّ مفهومها ويتناول تكوينها الداخلي؛ إذ تتكون من عناصر أولية، ويكوِّن قوامها طرفان أحدهما العنصر المراد تصويره، والثاني العنصر المتخذ صُوَّة للوصول إلى الصورة وتكون المشابك الوسائل الموطئة لتداخل مستويي التصوير وتستخدم هذه الصورة بعض التقنيات الفنية البلاغية كالتشبيه مثلاً وهو السائد في رواية جبرا، وكالاستعارة والمجازات والرموز، وتكون الأغراض الخطابية من وراء هذه الاستعمالات النصية أكثر الأحيان دلالات تعبيرية نفسية منزعها ليس الإيصال المعرفي أو الإخباري وإنما تنزع إلى حالات تعبيرية شعرية هدفها الإيصال النفسي إلى جانب الإفراغ الداخلي الأولي.
ثانياً- الصورة المركبة:
عندما تنمو النوازع النفسية والتعبيرية لدى الكاتب وتتصاعد الحالة الشعرية والشعورية يحتاج إلى إنتاج معادلات فنية موازية قادرة على الأداء، ويميز هذه الصورة عن الصورة السابقة(البسيطة) شرط الاحتواء؛ بمعنى أن الأولى محتواة في الثانية في مستويات نظامية مختلفة أهمها:
أ- الصورة المتراكبة: التي يحدث فيما بينها تَوَكُؤٌ تمفصلي فيكون اشتراك بين أجزاء صورتين بسيطتين أو أكثر وتترابط أجزاء الصورة الكبرى فيما بينها بمشابك هي جزء من أجزاء الصورة البسيطة وفق الترسيمة التالية:
صورة بسيطة: (عنصر أول+ عنصر ثاني+ مشبك ظاهر أو متوهَّم مقدّر)+ صورة جديدة مكونة من(العنصر الثاني في الصورة السابقة+ عنصر جديد رتبته الثاني نسبة إلى الصورة الجديدة والثالث نسبة إلى كلية الصورة) أو يكون العنصر الأول في الصورة الأولى هو الجزء المكوّن للصّورة الثانية وهكذا تتكون مجموعة من التراكبات(الصُّوريّة) لا تنتهي إلا بانتهاء الشحنتين الذهنية والنفسية للكاتب، ويمكن أن نشرح الترسيمة السابقة بمعادلات ترميزية رياضياً لتوضيحها أكثر والتخلص بالرموز الرياضية من كثافة اللغة الوصفية:
((1/443)
ص1= الصورة الأولى/ ص2= الصورة الثانية/ ص ن= الصورة النهائية/ ع1= العنصر الأول/ ع2= العنصر الثاني/ ع3= العنصر الثالث/ ع ن= العنصر النهائي المتعدد).
وتكون المعادلة كما يلي:
ص1[ع1+ ع2] + ص2[ع2+ ع3] + .... ص ن [ع3+ ع ن].
وهكذا تتكوّن الصورة المتراكبة من عناصر متسلسلة ذات نظام واضح ومنضبط وهي صورة متطورة فنياً تكشف عن قدرات إبداعية فائقة لأنها استطاعت أن تخلق نظاماً تصاعدياً له قانونه الفني الذي يحكمه.
ب- الصورة المتراكمة:
بعبارة مختصرة نقول إن الصورة المتراكبة إذا فقدت نظامها المميز وانفصلت مكوِّناتها المترابطة على التسلسل بعضها عن بعض فإنها تتحول إلى صورة متراكمة ونستنتج أن معنى التراكم هو التعدد(الصوري) دون نظام ويكون أقصى انتظام لأجزاء الصورة استخدام تقنيات لغوية وصلية كالعطف والموصولات الاسمية، والنعوت، والأخبار.
نموذج مقترح لدراسة الصورة
- الصورة البسيطة:
تقوم هذه الصّورة على مقياسٍ يحدّد مفهومها ويتناول تكوينها الداخلي، إذ تتكونُ من عناصر أولية، ويكوِّن قوامها طرفان؛ أحدهما العنصر المراد تصويره، والثاني العنصر المتخذ صُوَّةً للوصول إلى الصورة، وقد تكون هناك وسيلة موطئة لتداخل مستويي الصورة: ((البحر جسر الخلاص)) السفينة ص5.
تستخدم الصورة البسيطة بعض التقنيات الفنية البلاغية كالتشبيه الذي يتنوع ليؤدي أكثر الأحيان غرضاً نفسياً، وكالاستعارة والترميز والمجاز.
- التصوير بالتشبيه، (أنواع المشابك التشبيهية):
1- التصوير بالمشبك(الكاف): يستخدم النص هذه الوسيلة لأداء إيحاءات غرضية غرضها نفسي، أو لخلق خيالات تصويرية تمنح التصور فضاء أكثر اتساعاً وقد يكون التشبيه مقلوباً أحياناً: ((لأن زهوراً كعيون الأطفال قد نبتت بين الحجارة نفسها كأنها منثورة على ثوب الله)) السفينة ص18 .
إذا ما فحصنا مكونات هذه الصورة وجدنا أنها تتركب من مستويين:
الشيء المراد تصويره الشيء المتخذ صوّة
وصف صوري مساعد(1/444)
الزهور = عيون الأطفال (نبتت بين الحجارة)
(الزهور نبتت بين الحجارة)
وصف مستنتج
الدلالة نفسية(سيكلوجية)
- المستلزمات غير الموجودة في لغة الصورة: (المفقودات الفنية اللغوية):
- عيون الأطفال= النجوم
- ثوب الله= السماء
- المفقودات الدلالية الواقعية: عيون الأطفال نبتت بين الصخور= الارتباط الروحي بين الأطفال(دلالة المستقبل) والحجارة(دلالة الأرض).
2- التصوير بالمشبك(أشبه)
((التقدم أشبه بتقدم الحالة المرضية)) السفينة 19 .
إن القدرة الفنية للمشبك(أشبه) أقل من المحمول الدلالي في المشبك(الكاف) لأن الكاف تحمل معنى المساواة أكثر من(أشبه) بينما نجد قدراً بسيطاً من التماثل والتشابه في المشبك(أشبه)...
وهكذا تمكن دراسة الصورة وفق نظرة إلى عمق البنيان الداخلي لها، وإذا لم تدرس الصورة في هذا العمق تظل مقاربات سطحية لا تتوصل إلى الدلالة الحقيقية للصورة.
الخاتمة:(1/445)
يعد ظهور الفن الروائي في الأدب العربي تحولاً أدبياً استدعته مجموعة من التحولات الأيديولوجية، بل يمكن أن نشير إلى أن ظهور الرواية في الأدب العربي ذاته تحول أيديولوجي في التوجه الأدبي والثقافي، وذلك اعتماداً على العلاقة التكوينية بين الرواية(فناً أدبياً وظيفياً) والأيديولوجيا(محمولاً خطابياً موجَّهاً وموجِّهاً) وإذا كانت الرواية في الغرب قد رافقت ظهو الأيديولوجيا الجديدة(البورجوازية) أو كانت إنتاجاً طبيعياً وتعبيرياً عن هذه الأيديولوجيا الجديدة(البورجوازية)؛ فقد جاءت في الأدب العربي(إشكالية) متعددة الجوانب؛ أولاً من حيث علاقاتها بالجنس الأدبي العربي السائد وذلك في جميع مستوياته اللغوية والفنية: البلاغية والإبلاغية، وثانياً من حيث الموقف الأيديولوجي من هذا الأفق الجديد الذي لم ينتم بسهولة إلى الحقول الأدبية، إذا مازالت هناك تساؤلات كثيرة حول مشروعية انتمائه الأدبي، والبحث في العناصر التي تمنحه أدبيته. إضافةً إلى ذلك، فإن الموقف يزداد إشكالاً إذا نظرنا إلى طبيعة العلاقة بين الأفق الأيديولوجي(الغرب البورجوازي) الذي أنتج الأفق الأدبي(الرواية) وبين الأفق الأيديولوجي المستورِد(الأدب العربي) المُفْتَرض المُعادي أو المُباين، فمن المعروف أن المواقف الموجّهة نحو الغرب متباينة ومتفاوتة الوعي، وهي موزعة بين العَداء والمُصادمة والبحث عن إلغاء السيطرة، وبين الاستلاب والاستسلام، وربّما يكون منشأ هذا التباين أن الغرب لا يقدّم نفسه في تمظهر واحد؛ وإنما في مستويات متعددة متناقضة، وتكون الارتكاسات عندئذٍ بحسب الوعي الذي يقوم بقيادة الفعل الرّادّ.(1/446)
إن تناولنا إشكالية الرواية العربية في مستوى العلاقة بين الذات والآخر يساعد في الولوج إلى عالمها العام أولاً؛ لأنها نتاج هذه العلاقة في أكثر تجلياتها، ويساعد أيضاً في الولوج إلى العالم الروائي الخاص بروائي مثل العلاقة بأقصى قدراتها واحتمالاتها؛ فجبرا من أكثر(المفكرين) العرب اهتماماً بالثقافة الغربية وتأثراً بها، دون أن يكون ذلك نوعاً من الاستلاب أو الخضوع؛ فقد استطاع بقدرة فائقة أن يصل إلى صيغة خاصة مميزة لرؤيته الموجهة نحو حضارتي العرب والغرب فحوى هذه الصيغة تناول مزدوج، أحد طرفيه العداء والمصادمة فيما يتعلق بالتوجه الاستعماري لحضارة الغرب، والطرف الثاني الحوار الحضاري فيما يتعلق بالقدرة المضيئة التي تقدّمها حضارة الآخر، ولم يقتصر التأثر بالغرب ومحاورته على الأيديولوجيا ومتعلقاتها من حلول وتحليلات. وإنما تجاوزه إلى نقل الأشكال والاعتماد عليها في أداء وظائفها الخطابية، إضافة إلى ذلك فالمأزق الكوني(بجميع أبعاده الروحية والفلسفية والنفسية) اهتمام رئيسي في البحث الإبداعي لجبرا وفي البحوث الأخرى كالترجمة والنقد، وليس المأزق الكوني سوى نتيجة حتم للإحساس بالمآزق الأخرى كالمأزق الاجتماعي الذي يأتي نتيجة لتراكم القيم المتخلفة في المجتمع، والمأزق الحضاري الذي يبدو من خلال المقارنة العفوية أو البحثية بين الذات والآخر مرة وبين الذات في راهنها والذات في ماضيها مرة أخرى، والمأزق السياسي الذي يتسلم الكينونة الاجتماعية والحضارية بما فيها من رَيْثٍ وتخلف ويصوغ الصيرورة وفق مشيئته التي تدأب في الحفاظ على مجتمع التخلف وحضارة الريث.(1/447)
-يمكننا بشيء من الحذر- تقسيم التاريخ الروائي العربي(أي تاريخ الرواية العربية) إلى مجموعة من السياقات الإبداعية على المستويات الفنية والفكرية ففي بداية هذا التاريخ نجد السياق الأول: طور التكون. أو(النشوء) دون أن ننسى أن هذا النشوء لم يكن تخلقاً ذاتياً نتيجة للتطور المحض في المجتمع العربي، وإنما كان في أكثر تجلياته أفقاً مستورداً ثم نجد السياق الثاني، سياق التحول الذي بلغت فيه الرواية العربية مرحلة النضج والرّسّو فناً أدبياً منتمياً إلى عالم الأدب؛ لتتابع سيرورة التطور والارتقاء وفق المعادلة التالية: طور التكون(النشوء)- طور التحول(النضج)- طور التنوع(الارتقاء)- وقد شكل بعض الروائيين العرب، بقدراتهم الفردية وبإنتاجهم المتطور سياقاً روائياً خاصاً إلى جانب إسهامها في سياقات عامة أخرى؛ فنجيب محفوظ مثلاً يشكل سياقاً روائياً عربياً فردياً له نظامه التطوري من[واقعية تاريخية(كفاح طيبة، رادوبيس)... إلى واقعية اجتماعية: (الثلاثية وكثير من الروايات الأخرى)... وواقعية نفسية(سيكلوجية): (السراب...) وواقعية رمزية: (أولاد حارتنا...) وقد كان لنجيب محفوظ الدور الأكبر في خلق السياق الروائي العربي الثاني: (طور التحول والنضج)، وامتد لينتمي إلى الطور الثالث وكذلك شكل جبرا إبراهيم جبرا(الروائي) سياقاً روائياً خاصاً ميّزه التتابع الارتقائي بين نص وآخر وخطاب وتاليهِ، ويعدّ مع ذلك من أهم الروائيين العرب الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في تطوير السياق الثالث(طور التنوع والارتقاء) أنه خلق(نوعاً) روائياً مستقلاً له خصائصه الخطابية والنصية، وذلك ضمن خَطَّيْ تأثّرٍ أوَّلهُما- وهو الأكثر قدرة في صوغ عالم(جبرا) -السياق الروائي الغربي، وثانيهما القدرات المكتسبة من خلال الثقافة العربية(التراثية والحداثية).(1/448)
وقد انبنت على سياق جبرا سياقات روائية عربية لاحقة إذ يبدو أن عبد الرحمن منيف مثلاً في سياقه الخاص قد استفاد من تجربة(جبرا) الروائية من خلال الحوار الخطابي والنصي بين السياقين.
عالجت الرواية العربية عبر تاريخها كثيراً من الموضوعات والمآزق الإنسانية في جميع مستوياتها، ومنها موضوع أزمة المثقف العربي وعلاقاته الطبقية والسلطوية والاجتماعية وعلاقاته بمحيطه الثقافي، وبالثقافات الأخرى، وبثقافة مجتمعه السالفة، لكن ما يبدو أن جبرا كان أكثر الروائيين عناية بموضوع المثقف ومآزقه، ويردّ ذلك إلى الإحساس الشّخصيّ الخاصّ بجبرا، إحساسه بهذه المآزق وضرورة معالجتها. وإضافة إلى ذلك إحساسه بمأزق العلاقة الحضارية(الذات والآخر) فعلى الرغم من أن بعض الروائيين العرب كالطيب صالح وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس اهتموا بهذه العلاقة، بقي اهتمامهم جزئياً يطرح مستوى واحداً من مستوياتها يحدّده البطل الروائي ويحدّه بعلاقته الشخصية دون أن يخرجه أكثر الأحيان إلى المعالجة الجماعية العامة في الحين الذي نجد جبرا يعالج الموضوع من وجهة نظر الفكر السياسي دون أن يسيء إلى أدبية الرواية في معظم الأحيان، وهذا ما جعلنا نصفه بالمفكر في بعض صفحات بحثنا، ويُعدّ المحمول الأيديولوجي(علاقة الذات بالآخر) في النصّ الأدبيّ محمولاً نادراً في الرّواية العربية بالشكل الذي طرحه جبرا، المزوّد برؤية وموقف حضاريين من التاريخ والثقافة والمجتمع سواء في ذلك مجتمعه ومجتمع الآخر، ثقافته وثقافة الآخر تاريخه وتاريخ الآخر. لكن جبرا في خطابه يظل(محيراً) إذ نجد بعض التغييب للموقف الطبقي مثلاً، فمع أنه يعلن أكثر الأحيان الموقف(التعاطفي) مع الطبقات المسحوقة يبقى في خطابه ضباب يُشكِلُ على الرؤية الواضحة، وذلك بسبب الاختيار المطلق للطبقة البرجوازية لتكون مجتمعه الروائي، وبسبب تغييب المكمّل الاجتماعي الآخر بل تغييب المكمّلات الأخرى.(1/449)
اهتمت الدراسات الحديثة أشد اهتمام بالدراسة النصية إلى درجة بحثت فيها إلغاء الدراسات الخطابية وعدّتها دراسات(كلاسيّة) أفصحت عن عمقها ودعت هذه الدراسات إلى نبذ الخطاب والانصراف كلية إلى النص وبنيان النص وقد جاءت هذه الدراسات بقدرات بحثية(جديدة) كالبنيوية والألسنية والأسلوبية... وادّعت أن جميع الدراسات السابقة عليها ليست من العناصر التي تبحث في أدبية الأدب وكان قانون الإلغاء سائداً في جميع مراحل ظهور المذاهب المتنوعة؛ فكل(رؤية) دراسية جديدة تعلن أن الرؤية الدراسية السابقة تلغى بكليتها وتأتي الرؤية المطروحة لتحلّ محلها ويجب أن يكون القانون الدراسي السائد قانون الفرضية الجديدة، لكن ما نقوله مبدئياً: إن جميع هذه الدراسات النصية(أو التي دعيت دراسات خطابية أحياناً بسبب عدم الاتفاق الكلي على المصطلح) هي مدخلٌ وظيفي وظيفته المساعدة العظيمة والشاملة على فهم النص ومحاورته ومقاربته نقدياً، للبحث عن آفاق تطويرية أخرى للأدب وهذه الرؤى جميعها تتعاضد فيما بينها لتؤلف عالماً دراسياً فحواه البحث عن فرضية بل فرضيات تطويرية للأدب.
(((
نحو فرضيّة لدراسة النصّ والخطاب الروّائيّين العربيّين
يقدّر الكمّ الدّراسي الذي توجه إلى النصّ الروائي العربي بما يقارب ثلاثمئة وخمسين كتاباً دراسياً يتوجّه مباشرة إلى دراسة النص(بمفهوم المصطلح العام) إضافة إلى مئات المقالات المعمقة والسطحية التي تحاول مقاربته بطريقة أو بأخرى وتتفاوت هذه الدراسات في منطلق الدّراسة وفي منهجها وتتوزع اعتماداً على تصنيف المنطلق والمنهج كما يلي:(1/450)
أولاً- الدّراسات الخطابية: التي تتناول امتدادات الخطاب الأيديولوجية والسيكلوجية والمضمونية والموضوعية(نسبة إلى الموضوع) وتكون الدراسات في أحد هذه الامتدادات مستقلة أو تحوي تنويعاً ما على العنوان الرئيسي؛ فقد نجد دراسات في الموضوع تحاول أن تحاور النص فنياً أو دراسات اجتماعية مثلاً فيها تناول سيكلوجي وهكذا تتداخل مستويات الدراسة فيما بينها دون ضابط أو نظام أو ضرورة بحثية علمية ولا ضابط لها إلا المشيئة العشوائية للدارس، وقد غلبَ على دراسات الخطاب البحث في الموضوع وعرض المضامين عرضاً وصفياً، وساد في جزء آخر من هذه الدراسات البحث الأيديولوجي نظراً إلى فترة إنتاج أكثر الكمّ الدراسي الروائي العربي هي فترة ازدهار(النقد الأيديولوجي) وتناحر الأيديولوجيات على مستوى الثقافة العربية.
ثانياً- الدراسات النصية: التي تحاول الاقتراب من البحث في بعض أبنية النص كالبناء السردي مثلاً أو البناء اللغوي الذي يجنح مباشرة إلى دراسة الخطاب والتخلي عن النص، وقد تتطرق بعض هذه الدراسات إلى بعض الأبنية ذات الدلالات الرمزية أو محاولة الاقتراب من البحث الأسلوبي بشكل طفيف، ونادر.
ثالثاً- الدّراسات التصنيفية: وهي دراسات تقوم على تصنيف الخطابات والنصوص الروائية وفق موضوعاتها أو وفق مرحلتها التاريخية أو وفق مذهب منتجها الأيديولوجي أو الأدبي أو مذهب النص الأدبي الإبداعي كالواقعية أو الرمزية أو التسجيلية التاريخية أو التاريخية الفنية أو الاجتماعية... وقد تأتي بعض الدراسات لتصنف النصوص وفق مفهوم التطور الفني للشكل الروائي؛ وهذا لا يعني أن هناك استقلالاً واضحاً في هذه المستويات، وإنما قد تتداخل أيضاً في كثير من مقارباتها فحيث نجد دراسة تصنيفية وفق مقياس التاريخ نجدها تستخدم مقياساً آخر كالتطور الفني مثلاً إلى جانب التدرج التاريخي.(1/451)
رابعاً- الدراسات الجامعية: تقع الدراسات الجامعية في المأزق ذاته الذي تقع فيه الدراسات خارج جدران الجامعة، وهو الانتقاء والاجتزاء وذلك نظراً إلى طبيعة البحث الجامعي المحاصر بمجموعة من الانضباطات والقيود غير المسوغة أكثر الأحيان، ونجد في الدراسات ما بين الجدران الجامعية الأنواع السابقة جميعها، فقد تكون هناك دراسة تتناول الموضوع أو المضمون أو تبحث في بعض القضايا الرمزية أو تجتزئ عنصراً نصياً أو المضمون أو تبحث في بعض القضايا الرمزية أو تجتزئ عنصراً نصياً كالزمان أو المكان وتقوم بتقصيه وتصنيف ظواهر(ليس إلا).
فيما يلي عرضٌ تصنيفي لبعض الدراسات الروائية وفق التصنيف السابق الذي عرضنا له وربما يجري بعض التعديل على هذا التصنيف تبعاً لضرورات التداخل في المستويات:
أولاً- الدراسات الخطابية:
أ- الدراسات السيكلوجية:
- أزمة الجنس في القصة العربية؛ غالي شكري، دار الآداب، بيروت الطبعة الأولى 1962.
- تطور الوعي في نماذج قصصية فلسطينية؛ أمل زين الدين، جوزيف باسيل، دار الحداثة، بيروت، الطبعة الأولى 1980 .
- الجنس والواقعية في القصة؛ فتحي الأبياري، المؤسسة المصرية العامة، الاسكندرية د. ت.
- الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية؛ جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى.
- الرواية العربية السورية دراسة نفسية في الشخصية وتجربة الواقع عدنان بن ذريل، مطبعة الآداب والعلوم، دمشق 1973.
- شرق وغرب رجولة وأنوثة، جورج طرابيشي.
- عقدة أوديب في الرواية العربية؛ جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 1982 .
- المكان في الرواية العربية؛ غالب هلسا، ابن هانئ، دمشق 1989
ب- الدراسات الأيديولوجية:
- الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية؛ عمر طالب، دار العودة، بيروت الطبعة الأولى 1971 .
- أزمة المثقف التونسي المعاصر من خلال القصة؛ الحفناوي الماجري الشركة التونسية، الطبعة الثانية 1985 .(1/452)
- شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة(1882- 1952) عبد السلام محمد الشاذلي، دار الحداثة بيروت الطبعة الأولى 1985.
- صورة الأرض في الأدب القصصي العربي في الجزائر، حسين فحام جامعة حلب، حلب 1983م ، رسالة ماجستير .
- صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية المعاصرة؛ واصف كمال أبو الشباب، دار الطليعة.
- عبد الرحمن مجيد الربيعي والبطل السلبي في القصة العربية المعاصرة؛ أفنان القاسم، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1984.
- فلسطين في الرواية العربية؛ صالح أبو إصبع، منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت 1975 .
- قضية المرأة وصورتها في الأدب الروائي السوري(1918- 1967) أميمة ترمانيني، جامعة حلب، حلب 1989، رسالة ماجستير.
- المرأة في روايات نجيب محفوظ حتى 1967 عبد الله الترزوني جامعة حلب/ حلب 1987 رسالة ماجستير.
- المغامرة المعقدة(العرب والغرب في الفن الروائي)؛ محمد كامل الخطيب، وزارة الثقافة دمشق 1976 .
- المنتمي في أدب نجيب محفوظ؛ غالي شكري، دار المعارف، القاهرة الطبعة الثانية 1969 .
- من صور المرأة في القصص والروايات العربية؛ لطيفة الزيات، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1989 .
- الواقعية في الرواية السورية؛ فيصل سماق، دار البعث الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى 1979.
- وعي الذات والعالم دراسات في الرواية العربية؛ نبيل سليمان، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الأولى 1985 .
- أصوات وخطوات؛ عبد الرحمن مجيد الربيعي، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 1984 .
- انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية؛ شكري عزيز ماضي المؤسسة العربية للدراسات، بيروت الطبعة الأولى 1978 .
- البطل الثوري في الرواية العربية الحديثة؛ أحمد محمد عطية، وزارة الثقافة، دمشق 1977 .
- تجربة البحث عن أفق(مقدمة لدراسة الرواية بعد الهزيمة)؛ إلياس خوري منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1974 .(1/453)
- تكوين الرواية العربية((اللغة ورؤية العالم))؛ محمد كمال الخطيب وزارة الثقافة دمشق 1990.
- ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية؛ فاروق وادي، المؤسسة العربية للدراسات، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ط1، 1981 .
- ثلاثية الرفض والهزيمة؛ محمود أمين العالم، دار المستقبل العربي القاهرة، الطبعة الأولى 1985 .
- رمزية المرأة في الرواية العربية؛ جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1985 .
- الرواية السياسية دراسة نقدية؛ أحمد محمد عطية، مكتبة مدبولي، القاهرة د. ت.
- الرواية العربيّة بين الواقع والأيديولوجيا، محمود أمين العالم، يمنى العيد، نبيل سليمان، دار الحوار، اللاذقية، ط 1986 .
- الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام؛ محمد مصايف، الدار العربية للكتاب، تونس 1983.
- الرواية في الأدب الفلسطيني؛ أحمد أبو مطر، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 1980 .
- الرواية والأيديولوجيا في المغرب العربي؛ سعيد علوش، دار الكلمة بيروت، الطبعة الأولى 1981.
- الروائي والأرض؛ عبد المحسن طه بدر، دار المعارف القاهرة، الطبعة الثانية 1979.
- سُبُل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصية السورية حسام الخطيب دمشق د. ت.
الدراسات التطورية- التاريخية
- الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية؛ عمر طالب، دار العودة، بيروت الطبعة الأولى 1971 .
- تجربة الرواية السورية؛ سمر روحي الفيصل، اتحاد الكتاب العرب الطبعة الأول 1985 .
- تطور الرواية العربية في بلاد الشام 1870- 1967؛ إبراهيم السعافين، دار المناهل، بيروت، الطبعة الثانية 1987 .
- تطور فن القصة اللبنانية العربية بعد الحرب العالمية الثانية، علي نجيب عطوي، دار الآفاق الجديدة بيروت 1982 .
- التطور الفني لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث؛ سورية لبنان، الأردن، فلسطين 1870- 1965، نعيم اليافي، اتحاد الكتاب العرب 1982.(1/454)
- دراسات في الرواية العربية الحديثة: أصولها- اتجاهاتها، أعلامها، محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الاسكندرية 1983.
- الرواية السورية 1967- 1977 نبيل سليمان، وزارة الثقافة، دمشق 1982 .
- الرواية السورية في مرحلة النهوض؛ حسام الخطيب معهد البحوث والدراسات العربية القاهرة.
- الرواية السورية نشأتها- تطورها- مذاهبها؛ فيصل سمّاق، مطابع الإدارة السياسية دمشق، الطبعة الأولى 1984 (دكتوراة 1983).
- الرواية العربية، النشأة والتحول محسن جاسم الموسوي، دار الآداب بيروت، الطبعة الثانية 1988.
- الرواية ما فوق الواقع، بحث في ظواهر تأصيل الحديث الروائي العربي أحمد جاسم الحميدي، محمد جاسم الحميدي، دا ابن هانئ دمشق- بيروت الطبعة الأولى 1985.
- الرواية المصرية المعاصرة؛ يوسف الشاروني، دار الهلال القاهرة 1973.
- السهم والدائرة((مقدمة في القصة السورية القصيرة))؛ محمد كامل الخطيب، دار الفارابي بيروت الطبعة الأولى 1970 .
- الصوت والصدى في القصة السورية؛ رياص عصمت، دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1979 .
- في الرواية العربية عصر التجميع؛ فاروق خورشيد، دار العودة، بيروت، الطبعة الثالثة 1979 .
- في الرواية المصرية؛ فؤاد دوّارة، دار الكاتب العربي، القاهرة 1968.
- قصة السبعينات؛ رياض عصمت، دار السبينة دمشق 1978.
- القصة العراقية؛ جمعية المؤلفين العراقيين، مطبعة الشعب بغداد 1971.
- القصة العراقية قديماً وحديثاً؛ جعفر الخليلي، مطبعة الإنصاف بيروت الطبعة الأولى 1962.
- القصة في العراق جذورها وتطورها؛ يوسف عز الدين، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1974.
- القصة القصيرة في السبعينات مختارات، دراسة إدوار الخرائط مطبوعات القاهرة، القاهرة، الطبعة الأولى 1982 .
- القصة القصيرة في سورية، تضاريس وانعطافات؛ حسام الخطيب وزارة الثقافة دمشق 1982.(1/455)
- القصة القصيرة في فلسطين والأردن، هاشم ياغي، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت الطبعة الثانية 1981.
- القصة المغربية الحديثة؛ محمد الصادق، مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء 1961.
- نظرية الرواية؛ محمد كامل الخطيب، وزارة الثقافة دمشق 1990.
- وجوه قصصية قديمة وحديثة علاء الدين وحيد، دار المعارف، القاهرة 1978 .
- دراسات الموضوع:
1- ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية؛ فاروق وادي، المؤسسة العربية للدراسات، منظمة التحرير الفلسطينية، الطبعة الأولى 1981.
- دراسات في الرواية العربية؛ إنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987.
- دراسات في القصة القصيرة؛ يوسف الشاروني، دار طلاس، دمشق الطبعة الأولى 1989.
- دراسات في القصة الليبية القصيرة، سليمان كشلاف، منشورات الكاتب طرابلس، ليبيا، الطبعة الثانية 1979.
- رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ؛ نجيب سرور، دار الفكر الجديد، بيروت الطبعة الأولى 1989.
- روايات تحت المجهر؛ حسام الخطيب، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1983.
- الرواية السورية والحرب؛ سمر روحي الفيصل، المنشأة العامة طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى 1984 .
- الرواية الطليعية والشاهدة؛ عصام محفوظ، دار ابن خلدون بيروت الطبعة الأولى 1982.
- الريف في الرواية العربية؛ محمد حسن عبد الله، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1989(عالم المعرفة 143).
- السجن السياسي في الرواية العربية؛ سمر روحي الفيصل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1983 .
- الشاطئ الجديد قراءة في كتاب القصة العربية؛ عبد الرحمن مجيد الربيعي الدار العربية للكتاب، تونس، طبعة جديدة 1983 .
- صورة الأرض في الأدب القصصي في الجزائر؛ حسين فحام حلب جامعة حلب 1987 .
- الضوء والظل"مقالات في القصة والرواية"، خليفة حسين مصطفى المنشأة العامة، طرابلس، ليبيا 1986 .
- فصول في النقد غالب هلسا، دار الحداثة بيروت الطبعة الأولى 1984 .(1/456)
- فن الرجل الصغير في القصة العربية القصيرة، أحمد محمد عطية، اتحاد الكتاب العرب دمشق 1977 .
- قراءات في أعمال يوسف صايغ.... وآخرين؛ غالب هلسا، دار ابن رشد بيروت د. ت.
- كلام في القصة؛ أمين مازن، المنشأة العامة، طرابلس، ليبيا الطبعة الأولى 1985 .
- المغامرة الروائية جورج سالم، اتحاد الكتاب العرب دمشق 1973 .
- ملامح البطل في القصة العربية الليبية القصيرة، سامي علي العبار، الدار الجماهيرية، طرابلس، ليبيا 1988.
- من صور المرأة في القصص والروايات العربية لطيفة الزيات دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1989 .
- المنفى السياسي في الرواية العربية(حيدر حيدر، حنا مينة)؛ مراد كاسوحة دار دمشق 1990.
الدراسات الموجهة إلى روائي واحد
أولاً- الدراسات الخطابية:
- الإبداع القصصي عند يوسف إدريس ب. م كربر شوبك، ترجمة رفعت سلام، دار شهدي، القاهرة 1979 .
- إميل حبيبي والقصة القصيرة؛ حسني محمود الزرقاء، الوكالة العربية مكتبة الآداب والثقافة الفلسطينية 1984 .
- البطل غامض المصير في رؤيا الدكتور عز الدين عيسى الروائية سامي منير عامر، منشأة المعارف، الاسكندرية 1989.
- جبرا إبراهيم جبرا دراسة في فنه القصصي؛ علي الفزاع
- رعشة المأساة؛ يوسف اليوسف
- الطريق إلى الخيمة الأخرى؛ رضوى عاشور، دار الآداب، بيروت الطبعة الثانية 1981.
- الطيب صالح عبقري الرواية العربية؛ أحمد سعيد محمد، دار العودة بيروت الطبعة الثالثة 1984.
- عالم حنا مينة الروائي؛ محمد كامل الخطيب؛ عبد الرزاق عبد دار الآداب بيروت الطبعة الأولى 1979.
- العالم القصصي لزكريا تامر؛ عبد الرزاق عيد، دار الفارابي بيروت 1989.
- عبد الرحمن مجيد الربيعي والبطل السلبي في القصة العربية المعاصرة أفنان القاسم، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1984.
- غادة السمان بلا أجنحة، غالي شكري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية 1980.(1/457)
- محاولة في فهم رواية السد للمسعدي؛ الحبيب محمد علوان، دار بوسلامة، تونس، الطبعة الأولى 1979.
- المرأة في روايات نجيب محفوظ حتى 1967؛ عبد الله الترزوني، جامعة حلب، حلب 1987(ماجستير).
- مع نجيب محفوظ؛ أحمد محمد عطية، وزارة الثقافة دمشق 1971 .
- ملامح مع حنا مينة؛ صلاح الجهيم، إيبلا، دمشق، الطبعة الأولى 1981.
- المنتمي في أدب نجيب محفوظ؛ غالي شكري، دار المعارف، القاهرة الطبعة الثانية 1969.
- نجيب محفوظ الصورة والمثال؛ لطيفة الزيات، جريدة الأهالي القاهرة 1988.
ثانياً- الدراسات النصية:
- انفتاح الخطاب الروائي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي(الدار البيضاء، بيروت) الطبعة الأولى 1989 .
- تحليل الخطاب الروائي؛ سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، (الدار البيضاء) الطبعة الأولى 1989.
- دراسات هيكلية في قصة الصراع؛ أحمد ممو، الدار العربية للكتاب- طرابلس ليبيا، تونس 1984.
- عبد السلام العجيلي؛ (دراسة نفسية في فن الوصف القصصي والروائي) عدنان بن ذريل، مطبعة الآداب والعلوم، دمشق 1971 .
- عنف المتخيل الروائي في أعمال إميل حبيبي، سعيد علوش، مركز الإنماء القومي بيروت 1988.
قضايا السرد عند نجيب محفوظ، وليد نجار، دار الكتاب اللبناني مكتبة المدرسة بيروت 1985.
- قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ؛ نبيل راغب، الهيئة المصرية العامة الطبعة الثانية/ 1975.
ثالثاً- الدراسات الثنائية: (النصية، الخطابية):
- أبحاث في النص الروائي العربي؛ سامي سويدان، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت الطبعة الأولى 1986 .
- الاتجاه التعبيري في روايات نجيب محفوظ؛ العربي حسن درويش، مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1989 .
- البنية والدلالة في مجموعة حيدر حيدر القصصية(الوعول)؛ عبد الفتاح إبراهيم، الدار التونسية، تونس، الطبعة الأولى 1986 .
- تكوين الرواية العربية اللغة ورؤية العالم، محمد كامل الخطيب وزارة الثقافة، دمشق 1990 .(1/458)
- جبرا إبراهيم جبرا(دراسة في فنه القصصي)؛ علي الفزاع،
- الفن الروائي عند غادة السمان، عبد العزيز شبيل، دار المعارف، تونس 1987.
- نجيب محفوظ(الرؤية والأداة)؛ عبد المحسن طه بدر.
2- الدراسات النصية:
رأينا سابقاً في رصدنا للدراسات التي تناولت الروائي الواحد أن هناك دراسات نصية كثيرة وأن هناك دراسات مشتركة بين النص والخطاب والآن فيما يلي نرصد الدراسات التي تناولت النص من جوانب بؤرية غير شاملة وهذا الرصد إتمام للمرصودات النصية السابقة.
- الدراسات الرمزية:
- الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية؛ جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 1973.
- الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ؛ سليمان الشطي المطبعة العصرية، الكويت 1976.
- (رمزية المرأة في الرواية العربية)؛ جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1985.
إن هذا الاستعراض السريع وغير الدقيق(نظراً إلى طبيعة الدراسات العربية الروائية التي لا يمكن تصنيفها بحدود واضحة دقيقة) يدعو الدارسين العرب إلى الانتباه إلى أمرين مهمين أولهما: مسألة المنهج والاختيار؛ فالملاحظ أن الدراسات العربية بمجملها عشوائية غير منظمة وغير مخطط لها وهي في أكثرها ارتجالية ولا تخدم غرضاً نقدياً أو دراسياً واضحاً، ويبدو أن الغرض الرئيسي هو التصنيف، وهو الغالب على أكثر المستويات حتى مستويات الدراسات النصية الفنية الصرف لم تنج من هذا المأزق، والأمر الثاني ضرورة اتباع منهج دراسي يستطيع احتواء الحديث الروائي بِمَكَوِّنيه(النص والخطاب)، لذلك يمكننا اقتراح فرضية تفصيلية لدراسة(الحديث) الروائي العربية، دراسة يُطمئن إلى قدراتها النقدية والتحليلية والتفسيرية والاكتشافية، وفيما يلي نص الفرضية المقدمة:(1/459)
لأن التناول الجزئي للعمل الروائي يخل بالرؤية الصحيحة وبالدقة والموضوعية، ولأن العمل الروائي كلٌّ عضوي لا يمكن تجزيئه وفصل مكوناته، بل فصل مكون أو اثنين ودراستهما بمعزل عن المكونات الأخرى، فلابد من البحث عن أسلوب(منهج) كلي لدراسة الحديث الروائي تنقسم فيه الدراسة إلى قسمين رئيسيين: دراسة الخطاب ودراسة النص؛ في الأول يقوم الدارس باستقصاء مضمرات النص الخطابية جميعها وإخضاعها للفحص والشرح والتفسير والنقد والاكتشاف وفي القسم الثاني تبحث الدراسة في الهيكلية البنائية للنص الروائي والتفصيل في جميع مكونات النص البنيانية والانتباه إلى قدراتها الوظيفية وأدائها وفحص مدى نجاح هذه القدرات وهذا الأداء في ربط البنيان بالخطاب؛ لأن البناء وظيفي يقوم بإعطاء النص قوامه للوصول إلى الامتدادات والمرامي الخطابية.
المخطط التفصيلي لمفردات
الدراسة المقترحة
أولاً- القسم الأول: القسم الخطابي(دراسة في الموضوعات المضمونات) (الرواية والأيديولوجيا)
- البحث في المصادر الأيديولوجية لمنتج الخطاب أو لمنتج الخطابات وذلك بحسب المدروس الروائي؛ إذا كان روائياً واحداً أو ظاهرة في خطابات مجموعة من الروائيين.
- دراسة المضمونات الروائية بالتفصيل وبحثها في ضوء ثنائية الواقع والمتخيل؛ وذلك بحسب اتجاه الروائي الأيديولوجي وبحسب الموضوعات التي يتناولها كالأيديولوجيا الاجتماعية والسياسية والتاريخية الوثائقية أو الانتقادية، وما تطرحه من قضايا تتعلق بهذه الأيديولوجيا كالقضية الحضارية ومآزق المثقف والمجتمع والعلاقات السلطوية والسياسية والاجتماعية بين العناصر المكونة للمجتمع المرجع الرئيسي للحديث الروائي.
- دراسة انفتاحات النص على الزمن(الفائت، الراهن، المستقبل) ودراسة انفتاحاته على القراءات التي تتناوله وتنوعاتها بين سيكلوجية وأيديولوجية ونصية وحضارية...، ودراسة تباين هذه القراءات.(1/460)
- دراسة علاقة الخطاب بالمبدع(انفتاح النص على المبدع) وفحص الانفتاحات المتبادلة بين النص والخطاب(علاقة النص الهيكلية الوظيفية بالخطاب).
ثانياً- القسم الثاني: دراسة النص وانبناء النص:
أ- الزمن:
1- دراسة الزمن مفهوماً خطابياً ثم مفهوماً نصياً بنيانياً.
2- دراسة هيكلية ثلاثية الزمن(السياق، التكوين، التنظيم) وثلاثية الزمن الخطي(الماضي، الحاضر، المستقبل).
3- دراسة تقنيات النص الزمنية: ((الاسترجاع، القفز، الاستباق، التلخيص، المشهد...)).
4- دراسة الزمن النفسي وزمن إنتاج النص وعلاقته بزمن المؤلف والزمن الاجتماعي والتاريخي وعلاقتها جميعاً بزمن القراءة.
ب- المكان:
1- البحث في طبيعة المكان الروائي وواقعيته وعلاقته بالمكان الطبيعي.
2- البحث في عناصر المكان التفصيلية وضرورات إيرادها ووجودها.
3- رصد طرق تصوير المكان(تقنياتٍ فنية وظيفية)(الوصف بالحوار، بالسرد، بالحدث...).
4- دلالات المكان((نفسية، اجتماعية، سياسية، حضارية...)).
جـ- الشخصية والحدث:
1- بنية الشخصية:
1ً- أنماط الشخصية وانبناؤها((مستويات الأصوات)) ((الشخصية الممتلئة الرئيسية، التالية، الراكدة، القياسية، الناتئة، (النافرة)...)) وذلك وفق أكثر من مقياس كمقياس الفعل أو الحضور، أو الإحضار من قبل الروائي ومن ثم الراوي.
2ً- طرق رسم الشخصيات ومستويات تصويرها: ((الرسم باللغة، بالسرد، بالحوار، بالمونولوج...)).
3ً- مستويات التصوير: ((المستوى الداخلي: المشاعر، العواطف، الرؤى، الأحلام...)).
المستوى الخارجي: الانعكاسات الحركية، الارتكاسات، الجسم ، اللباس، الطابع.
2- الحدث:
1ً-الشخصية والحدث: ((الشخصية صانعة الحدث، الحدث مطور الشخصية)).
2ً- خصائص الحدث.
3ً- وصف الحدث: ((وصف الحركة، وصف التحرك)).
د- التصوير:
1- التصوير التقني:
1َ- تقنيات التصوير((التصوير السينمائي، التصوير الفوتوغرافي..)) ((المتحرك، الثابت)).(1/461)
2َ- ((التصوير من الحركة، من الثبات)) المنظور التصويري.
2- التصوير الفني: ((التصوير باللغة الفنية(الشعرية) ))
1َ- الصورة الروائية، الصورة الشعرية، (تقاطعات وتباينات).
2َ- تقنيات تكوين الصورة.
3- البلاغيات: (التشبيه، المجاز، الرمز، الاستعارة): (الانحياز الدلالي).
4- الإبلاغيات: (التناصات والمناصات وأنواعها أسطورية، تاريخية شعرية...) و(استدعاء الرصيد الثقافي).
هـ- السرد والحوار ((بنيتين نصيتين)):
1- المقدمات، الافتتاحيات، الخواتيم، دراسة وظيفية في بنية السرد.
2- أنماط السرد وأنماط النص السردي.
3- بناء السرد(دراسة الهيكل البياني لبنيان السرد).
4- خصائص السرد.
5- مواقع الحوار في السرد(دراسة دلالاتها) النصية.
6- خصائص الحوار ووظائفه في السرد.
و- اللغة الروائية:
- لغة النص، لغة الخطاب مفهوماً وعلاقة:
1- دراسات ألسنية:
1َ- البنى اللغوية السائدة في النص.
2َ- الظواهر الوظيفية، التقنيات اللغوية((ظاهرة المتكلم، ظاهرة المخاطب، ظاهرة التنوين، التنكير...)).
2- دراسات أسلوبية:
1َ- لغة الرواية(لغة النثر، لغة الشعر).
2َ- لغة الرواية(لغة الروائي، لغات الرواة، لغات الرواية).
3َ- الظواهر السوسيولغوية(اللغة الاجتماعية، الظواهر السيكولغوية
(اللغة النفسية).
ز- السياق الروائي خطاباً ونصاً:
- السياق الروائي وموقعه من السياقات الروائية المجاورة والمحيطة والسابقة واللاحقة وموقعه الأيديولوجي أو الخطابي من سياق الخطابات الأخرى والنصي في سياق النصوص الفنية.
والبحث في إمكانات الخطاب والنص في عملية التطوير الأدبي.
***
( المصادر والمراجع
أولاً- المصادر:
مرتبة بحسب صدورها
أ- الروايات:
1- صراخ في ليل طويل، دار الآداب بيروت، الطبعة الثانية 1979- تاريخ صدور الطبعة الأولى القدس 1964.
2- صيادون في شارع ضيق، ترجمة محمد عصفور دار الآداب، بيروت الطبعة الأولى صدرت في لندن بالإنكليزية عام 1960.(1/462)
3- السفينة، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية آب 1979.
4- البحث عن وليد مسعود، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية آب 1979.
5- عالم بلا خرائط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1982.
6- الغرف الأخرى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1986.
7- يوميات سراب عفان. لم تدخل في الدّراسة لأنها صدرت بعد إنجاز البحث عام 1993.
ب- مجموعة قصصية واحدة:
- عرق وقصص أخرى وقد صدرت موسعة بعنوان عرق وبدايات من حرف الياء، الطبعة الرابعة 1983.
جـ- فصول من السيرة الذاتية بعنوان:
البئر الأولى، فصول من سيرة ذاتية، رياض الريس، للكتب لندن 1986 .
الكتب النقدية
1- الحرية والطوفان: دراسات نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 1979.
2- الرحلة الثامنة: دراسات نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الثانية 1979.
3- النار والجوهر دراسات في الشعر، دار القدس، د. م، الطبعة الأولى 1975.
4- ينابيع الرؤيا: دراسات نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى 1979.
5- الفن والحلم والفعل دراسات وحوارات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية 1988.
6- تأملات في بنيان مرمري دراسات وحوارات، رياض الريس للكتب لندن، 1989.
ثانياً- المراجع
1- أبحاث في النص الروائي العربي؛ سامي سويدان، مؤسسة الأبحاث الغربية، بيروت الطبعة الأولى 1986.
2- أزمة الجنس في القصة العربية؛ غالي شكري دار الآداب، بيروت الطبعة الأولى 1962.
3- أصوات وخطوات؛ عبد الرحمن مجيد الربيعي، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 1984.
4- الاغتراب؛ ريتشارده شاخت، ترجمة كامل يوسف حسين، الطبعة الأولى، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات 1980.
5- الإنسان والاغتراب، مجاهد عبد المنعم، دمشق القاهرة، بيروت سعد الدين ط1، 1985.(1/463)
6- انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية شكري عزيز ماضي المؤسسة العربية للدراسات بيروت الطبعة الأولى 1978.
7- انفتاح النص الروائي؛ سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت،الطبعة الأولى 1989.
8- الايديولوجية العربية المعاصرة، عبد الله العروي، ترجمة محمد عيتاني، الطبعة الأولى، بيروت، دار الحقيقة 1970..
9- البطل الثوريّ في الرواية العربية الحديثة؛ أحمد محمد عطية، وزارة الثقافة، دمشق 1977.
10- البعد الإنساني في رواية النكبة؛ صبحي النبهاني، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة(باريس) الطبعة الأولى 1990.
11- بناء الرواية؛ سيزا قاسم، بيروت، دار التنويرة ط1 1985.
12- تجربة البحث عن أفق((مقدمة لدراسة الرواية بعد الهزيمة))؛ الياس خوري، منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت 1974.
13- تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام 870- 1967؛ إبراهيم السعافين، دار المناهل، بيروت الطبعة(2) 1987.
14- التطور الفني لشكل القصة في الأدب الشامي الحديث: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين، 1970- 1965؛ نعيم اليافي اتحاد الكتاب العرب دمشق 1982.
15- ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية؛ فاروق وادي، المؤسسة العربية للدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1981.
16- جبرا إبراهيم جبرا((دراسة في فنه القصصي))؛ علي الفزاع.
17- رمزية المرأة في الرواية العربية؛ جورج طرابيشي، دار الطليعة ببيروت، الطبعة الثانية 1985.
18- الرواية السياسية(دراسة نقدية)؛ أحمد محمد عطية مكتبة مدبولي القاهرة د.ت
19- الرواية العربية الطليعية والشاهدة؛ عصام محفوظ دار ابن خلدون بيروت الطبعة الأولى 1982.
20- الرواية العربية(النشأة والتحول)؛ محسن جاسم الموسوي دار الآداب، بيروت الطبعة الثانية 1988.
21- الرواية في الأدب الفلسطيني، أحمد أبو مطر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الطبعة الأولى 1980.(1/464)
22- الرواية ما فوق الواقع(بحث في تأصيل الحديث الروائي) أحمد جاسم الحميدي، محمد جاسم الحميدي، دار ابن هانئ دمشق بيروت، الطبعة الأولى 1985.
23- زمن الرحلة والاكتشاف، رمضان سليم، المنشأة العامة طرابلس، ليبية، الطبعة الأولى 1984.
24- الشاطئ الجديد(قراءة في كتاب القصة العربية)؛ عبد الرحمن مجيد الربيعي، الدار العربية للكتاب، تونس، طبعة جديدة 1983.
25- صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية المعاصرة، واصف كمال أبو الشباب، دار الطليعة 1977.
26- فصول في النقد؛ غالب هلسا، دار الحداثة، بيروت، الطبعة الأولى 1984.
27- فلسطين في الرواية العربية، صالح أبو إصبع، منظمة التحرير الفلسطينية 1975.
28- الفن الروائي عند جبرا إبراهيم؛ علي محمد عودة رسالة لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي بإشراف الدكتور عماد الدين حاتم، جامعة الفاتح، كلية التربية قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، ليبيا 1984.
29- قراءات في أعمال يوسف صايغ... غالب هلسا دار ابن رشد بيروت د. ت.
30- القصة القصيرة في فلسطين والأردن؛ هاشم ياغي، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت الطبعة الثانية 1981.
31- لغز عشتار فراس السواح؛ سومر للدراسات، قبرص الطبعة الأولى 1985.
32- المرأة والألوهية؛ محمد وحيد خياطة، دار الحوار اللاذقية ط(1) 1984.
33- مفهوم الأيديولوجية عبد الله العروي، دار التنوير، بيروت، المركز الثقافي الغربي، الدار البيضاء الطبعة الأولى 1983.
34- المغامرة الروائية، جورج سالم، اتحاد الكتاب العرب دمشق 1973.
35- المكان في الرواية العربية؛ غالب هلسا، دار ابن هانئ، دمشق 1989.
36- نظرية الأدب؛ رينيه ويليك، أوستن وارن، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم د. ط، ت.
37- نظرية الرواية؛ جون هالبرن، ترجمة محي الدين صبحي، وزارة الثقافة دمشق 1981.
مسرد الكتب الموضوعة والمترجمة لجبرا(1/465)
1- الكتب الموضوعة(مع تواريخ طبعاتها الأولى):
- عرق وقصص أخرى، 1956.
(صدر موسعاً بعنوان"عرق وبدايات من حرف الياء" في طبعة رابعة عام 1983).
- تموز في المدينة، شعر، 1959.
- الفن في العراق اليوم، بالإنكليزية، لندن 1961.
- المدار المغلق، شعر 1964.
- الرحلة الثامنة، دراسات نقدية 1967.
- الفن العراقي المعاصر، بالإنكليزية والعربية 1972.
- جواد سليم ونصب الحرية، دراسة نقدية 1974.
- النار والجوهر، دراسات في الشعر 1975.
- ينابيع الرؤيا، دراسات نقدية 1979.
- لوعة الشمس، شعر 1979.
- السونيتات لوليم شكسبير، دراسة مع ترجمة أربعين سونيته، 1983.
- جذور الفن العراقي(بالإنكليزية)، 1984.
- الفن والحلم والفعل، دراسات وحوارات، 1985.
- الغرف الأخرى، رواية، 1986.
- الملك الشمس، سيناريو روائي، 1986.
- جذور الفن العراقي(بالعربية)، 1986.
- البئر الأولى، فصول من سيرة ذاتية، 1987.
- بغداد بين الأمس واليوم(مع د. إحسان فتحي)، 1987.
- أيام العقاب(خالد ومعركة اليرموك)، سيناريو روائي، 1988.
- تمجيد للحياة، مقالات في الأدب والفن، 1988.
- تأملات في بنيان مرمري، دراسات وحوارات، 1988.
2- الكتب المترجمة:
نقل إلى العربية قرابة ثلاثين كتاباً، أهمها:
- أدونيس أو تموز(من كتاب الغصن الذهبي)؛ جيمز فريزر.
- ما قبل الفلسفة؛ هنري فرانكفورت وآخرون.
- آفاق الفن- الكسندر اليوت.
- الصخب والعنف- وليم فوكنز.
- ألبير كامو- جرمين بري.
- الأديب وصناعته- عشرة نقاد أمريكين.
- الحياة في الدراما- أريك بنتلي.
- الأسطورة والرمز- عدد من النقاد.
- قلعة أكسل- أدموند ولسون.
- في انتظار غودو- صموئيل بيكيت.
- ديلان توماس- أربعة عشر ناقداً.
- شكسبير معاصرنا- يان كوت.
- ما الذي يحدث في(هاملت)- جون دوفر ولسون.
- شكسبير والإنسان المستوحد- جانيت ديلون.
- برج بابل، أندريه بارو.
- حكايات من لافونتين.(1/466)
- أيلول بلا مطر- اثنا عشر قاصاً إنكليزياً وأمريكياً.
المسرحيات التالية لوليم شكسبير مع مقدمات ودراسات:
- مأساة هاملت.
- مأساة الملك لير.
- مأساة عطيل.
- مأساة مكبث.
- مأساة كريولانس.
- العاصفة.
- الليلة الثانية عشرة.
الدوريات
1- إلى الأمام؛ دمشق العدد 2114 الجمعة 15-21/11/1992.
2- الآداب؛ بيروت، العددان(3 و 4) آذار، نيسان 1988.
3- الأسبوع الأدبي؛ دمشق، العدد(35) الخميس 9 تشرين الأول 1986 والعدد(143) الخميس 1 كانون الأول 1988.
4- الأقلام؛ بغداد، الأعداد شباط 1975- شباط 1979- آذار 1979.
5- البيان؛ أبو ظبي، الثلاثاء(3) نيسان 1990.
6- دراسات عربية؛ بيروت العدد(4) شباط 1981.
7- الدوحة؛ قطر، نيسان 1985.
8- شؤون فلسطينية؛ بيروت العدد(43) آذار 1975.
9- الشرق؛ بيروت العدد(12969) الجمعة 31 تموز 1992.
10- العربي؛ الكويت العدد(315) شباط 1985.
11- الفكر العربي المعاصر؛ بيروت العدد(13) حزيران/ تموز 1981.
12- القبس؛ الكويت، العدد(1396)/ 27 شباط 1990.
13- الكرمل؛ نيقوسيا، العدد(18)/ 1985.
14- المعرفة؛ دمشق، العددان(193- 194) آذار- نيسان 1978.
(((
الفهرس التّحليليّ
المقدّمة: فحوى التّناول النّقديّ
( الباب الأوّل: الرواية و الأيديولوجية
الفصل الأوّل: المصادر الأيديولوجية لجبرا وتجليها في خطابه الرّوائيّ
التمهيد: الرّواية والأيديولوجيا، مفهومات وعلائق:
المصادر الأيديولوجيّة لجبرا وتجلّيها في خطابه الرّوائيّ
فرضيّة التحوّل الأيديولوجيّ:
الفصلُ الثاني: الاجْتِمَاعيُّ والسياسيّ
الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية في فلسطين والعراق في مرحلة إنجاز الخطاب
أولاً: الخطاب بين الواقع والمتخيل
- المقدمة: المتخيل في خدمة الواقع
مجتمع صراخ طور التكون:
- مجتمع صيّادون: ((وثائقية الرواية)
- مجتمع السفينة : المجتمع الثالث، المجتمع التجريبي:
مجتمع (البحث عن وليد مسعود):(1/467)
- مجتمع (عالم بلا خرائط)؛ (اللامجتمع):
- (المجتمع الرمزي) في "الغرف":
مُجْتَمع المثقفين
صورة العدو العنف و مشروعية العنف المضاد
الوطن الكبير : العجز الكبير
الفلسطيني المولود القسري من تزاوج الوطن والمنفى:
الفصل الثالث: مبحثُ الذاتِ والآخر
الأزمة الحضارية: وعي الذات وعي الآخر في الخطاب:
مقولة الانسلاخ القومي
الذات رؤية الماضي
رؤية الآخر للذات
التقدم والتأخر
الفصل الرابع: مَبْحَثُ الاغتراب
الاغتراب؛ مقدمة:
1-في الأنواع:
2- في مسببات الاغتراب:
-ماهية الاغتراب تجلياته (التساؤلات تفضى إلى للاجدوى):
دلالات اغترابية لغوية:
الباب الثاني: النّص وبنية النّص هيكليّة النّص
الفصلُ الأوّل: النّص وبناء النّص الزمني
أولاً- الزمن "عودة إلى الخطاب":
ثانياً- الزّمن: المفهوم النّصّيّ: تقنيات النص الزّمنيّة:
الفصل الثاني: المكان الروائي
طبيعة المكان الروائي:
عناصر المكان: (أنواع المكان، دلالاته):
تصوير المكان وطرق تصويره:
الفصل الثالث: السرد والحوار
السرد والحواردراسة في بنيتهما الهيكلية
السرد والحوار ومواقعهما في النص (سياق، نظام تتابعي):
أنواع الحوار:
2- الحوار، وظائف الحوار وخصائصه:
المقدمات، الافتتاحيات:
الافتتاحيات والخواتيم:
الفصل الرابع: الحدث الروائي والشخصيات الروائية
الحدث: المكون المنحسر
صناعة الحدث
أنماط الشخصيات:
طرق وصف الشخصيات:
الفصل الخامس: اللغة الروائية و التصوير الروائي
- اللغة الشعرية؛ اللغة الروائية: (التقاطع والاشتمال):
لغة الرواية؛ لغات الرّواة:
الظواهر"السيكولغوية"(اللغة النفسية؛ السيكلوجية):
لغةُ المقدِّمات والافتتاحيات والخواتيم:
التصوير الروائي
التصوير التقني:
1- أنواع التصوير:
التصوير الفني:
الصورة الشعرية، الصورة الروائية:
أنواع الصورة الفنية في الرواية:
نموذج مقترح لدراسة الصورة
الخاتمة:
نحو فرضيّة لدراسة النصّ والخطاب الروّائيّين العربيّين(1/468)
المخطط التفصيلي لمفردات الدراسة المقترحة
المصادر والمراجع
أولاً- المصادر
ثانياً- المراجع
مسرد الكتب الموضوعة والمترجمة لجبرا
الدوريات
(((((
(((
((
رقم الايداع في مكتبة الأسد الوطنية :
مضمرات النص والخطاب : دراسة/ سليمان حسين- دمشق؛
اتحاد الكتاب العرب ، 1999- 417ص؛ 24سم.
1- 813.009564 ح س ي م
2- العنوان 3- حسين
ع-836/5/1999 مكتبة الأسد
(
هذ الكتاب
ينزع الكاتب في مضمرات النّصّ والخطاب منزعاً تكامليّاً في دراسة النّصّ الرّوائيّ، فهو يقارب جميع المكوّنات الرّوائية التي تحقّق أدبيّة الرّواية، ويجهد في تقصي المضمرات الخطابية أو النّصّيّة في حَدَّيْ الحديث الرّوائي (النص والخطاب) مستخدماً أكثر من منهج نقديّ حسب مااقتضه طبيعة البحث التكامليّة، ومستعيناً بقدرات نقديّة خاصّة إلى جانب المناهج النّقديّة السّائدة.
وقد تناول البحث أديباً وناقداً عربياً مهماً يتحرك على مساحة إبداعية واسعة بين الشّعر والرّواية والقصة والنقد الأدبي والتشكيلي والترجمة والفن التشكيلي أيضاً، وهو مامنحه خصوصيّة إبداعية ميزته عن الأدباء والنقاد الآخرين.
ويخلص هذا البحث إلى فرضية مهمة له تتمحور حول تصور الكاتب لشغل الدراسة الروائية المثلى.
(
هذا الكتاب
تحليل فكري لإحساس الشاعر المعاصر بالموت وموقفه منه من خلال انعكاسات شعوره على نصه الشعري.(1/469)
وقد حاولت هذه الدراسة التحليلية- النقدية جاهدة إنارة مواقف بعض الشعراء الذين وقعوا في دائرة التأثر بمعطيات تراثية صوفية أو خرافية أو فلسفية على الغالب، فشعرنا المعاصر بات يعتمد على الرمز الثقافي ويكثّفه، ثم يعيد تشكيله بعد أن يخضعه لمعطيات المكان ليوائم الزمان المعيش، وبذا تحولت القصيدة عن شكلها الفني إلى جوهر عقلي معقد، وهذا ما يرهق الباحث، أو الدارس، أو متلقي الشعر المعاصر الذي ظل مفتوحاً على الاحتمالات المعنوية والافتراضات الدلالية متلمساً اختراق الممكن إلى الماوراء؛ فبدا في بعض مقاطعه "النَّصيَّة" وكأنه أحجيات أو هلوسات مقتبسة من أحلامٍ قلقة، مما أنتج أو أضاف نظريات نقدية لم تكن من قبل، لذا حاولت هذه الدراسة أن توجد المفتاح الذي يفتح بوابة القصيدة المعاصرة أمام الجميع لمعرفة أسرارها، واكتناه أبعادها الفكرية والتراثية والذاتية، والاقتراب أكثر من ذات الشاعر ظاهراً وباطناً.
24/7/1999
((1/470)