مصادر المستشرق توماس ارنولد في دراسة النظرية السياسية الاسلامية
د. زاهدة محمد الشيخ طه
رئيس قسم الاجتماعيات
جمهورية العراق /دهوك /جامعة دهوك/ كلية التربية الاساسية /قسم الاجتماعيات
مصادر المستشرق توماس ارنولد في دراسة
النظرية السياسية الاسلامية
المقدمة:
تنطلق اهمية دراسة موضوع النظرية السياسية الاسلامية في دراسة المستشرق البريطاني المعروف السير توماس ارنولد من منطلق المعطيات السياسية للواقع البريطاني انذاك ,وهو الواقع الذي فرض نفسه على الساحة السياسية واولد اهتمام منقطع النظير في بريطانيا التي تجسدت فيها كل مقولات الاستشراق الغربي برتباطاته السياسية وبرمجياته العلمية.وكان من ابرز مظاهر ذلك الاهتمام أدراك بريطانيا لحاجتها إلى تنمية معرفتها بالشرق وفقا لاضطراد وتوسع مصالحها فيه، وسعيها لتلبية هذه الحاجة عن طريق دعم مؤسستها السياسية لمشروع إقامة مؤسسة أكاديمية رفيعة لتولي عملية تغذية العقل البريطاني بالمعرفة الراقية حول الشرق متمثلة بـ مدرسة الدراسات الشرقية the School of Oriental Studies التي تاسست عام 1917 في لندن على ايدي مؤسسات اكاديمية رفيعة الشان ,والتي ادت دورا رائدا في مجال التفاعل الثقافي بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق عكستها المناهج الاكاديمية التي تقرر تدريسها في في المدرسة ,وكان من ابرز مقرراتها الرئيسة تدريس المدرسة من حيث صلتها بطبيعة الادارة السياسية البريطانية للشعوب الاسلامية الخاضعة لسيطرتها في الشرق ,ومن حيث اهمية الفكر السياسي الاسلامي في القانون الاسلامي (الشريعة)والمؤسسات الاكاديمية ,لذلك عدت هذه المادة انطلاقة جديدة لدراسة موضوع النظرية السياسية الاسلامية عامة والنظرية السياسية الاسلامية خاصة التي شيد بنيانها المستشرق توماس ارنولد.
السيرة العلمية المستشرق توماس ارنولد:(1/1)
ياتي اهتمام المستشرق توماس ولكر ارنولد بالدراسات الشرقية عامة واالفكر السياسي الاسلامي خاصة من البيئة التي احتضنت هذا المستشرق. فقد ولد الاخير في مدينة ديفونبورت قرب لندن عام 1864، ودرس في جامعة كمبردج وفيها ولع بالدراسات الشرقية، وكرس معظم وقته في دراسة التاريخ الإسلامي. وفي عام 1888 سافر إلى الهند وشغل منصب مدرس الفلسفة في كلية عليكره(1) التي كان قد أنشأها المصلح الهندي السيد احمد خان (1817-1898) في عام 1875، الذي كان يحظى باهتمام البريطانيين لدعواته الموالية للاحتلال البريطاني(2). وقد منحت الحقبة التي أمضاها ارنولد في الهند التي استمرت حتى عام 1904 فرصة مناسبة للاطلاع عن كثب على جوهر العقيدة الإسلامية من خلال اتصاله بكبارعلماء الهند (3)، وقد بلغ تأثر ارنولد بهؤلاء العلماء حدا جعله يبدي تعاطفا مع زملائه المسلمين وتلامذته بظهوره بالزي الإسلامي(4). مما أكسبه إحترام مسلمي الهند وإعجابهم بمناظراته العلمية التي كانت تتجلى عبر المناقشات المحتدمة بينه وبين علماء الهند عن الإسلام.
مضى ارنولد في مواصلة نشاطه الأكاديمي في القارة الهندية، وشغل في عام 1898 منصب أستاذ الفلسفة في لاهور إلى عام 1904حيث عاد إلى بريطانيا ليشغل منصب أمين مكتبة وزارة الهند(5) حتى عام 1909 عندما اسند إليه منصب أستاذ العربية في كلية الجامعة في لندن ومع تأسيس مدرسة الدراسات الشرقية في لندن استدعي ارنولد عام 1917 لتدريس العربية، وفي عام 1921تم اختيار ارنولد لمنصب رئاسة قسم العربية والدراسات الإسلامية في المدرسة ويشيرتلميذه المستشرق السير هاملتون كب إلى أن ارنولد بتسلمه لهذا المنصب كرس معظم وقته لبناء القسم الجديد، ولتدريس المناهج الرئيسة التي حظيت باهتمام القسم آنذاك.(1/2)
وقد حظيت دراية مادة الفكر السياسي الاسلامي باهمية كبيرة من لدن ارنولد الذي كان يشدد على على أهمية وقوف بريطانيا وإلمامها بديانة الشعوب الإسلامية، وبين أن أهمية ذلك لا ترتبط في التفوق العددي للشعوب الإسلامية فحسب، وإنما في الاختلاف الجوهري بين الديانتين الإسلامية والمسيحية من حيث أن الدين الإسلامي يدخل في حيز القانون السياسي والمؤسسات الاجتماعية إلى جانب الأخلاق على خلاف المسيحية التي تمتاز بوجود النظام الكهنوتي فيها مؤكدا على أهمية هذه المعرفة بالنسبة للمواطن البريطاني الذي يعاني من تخلف معرفي في هذا المجال، كما أكد أهمية إزالة التأثير الكنسي الطاغي على أعمال المستشرقين التي كانت تمتاز بروح العداء الشديد للإسلام مقارنة بسائر الأديان، ولاسيما كتابات المستشرق البريطاني ديفيد صاموئيل ماركليوث(6).
لذلك توجت عملية تدريس ارنولد لمادة الفكر السياسي الإسلامي بإصداره عام 1924 كتاباً تحت عنوان (الخلافة) The Caliphate، جمع فيه المحاضرات التي سبق أن ألقاها على مسامع تلامذته عن مادة الفكر السياسي الإسلامي ضمن تاريخ الخلافة الإسلامية خلال عصورها التاريخية المختلفة(7). وقد جاء نشر هذه المحاضرات إسهاماً في النقاش المحتدم في العالم الإسلامي بشأن موضوع الخلافة إثر قيام كمال أتاتورك بإلغاء منصب الخليفة وانبعاث الدعوات لتجديد هذا المنصب سواء في مصر أو الهند التابعين لبريطانيا(8). والمعروف أن مثل هذه المطاليب كانت تشكل تهديدا لمصالح بريطانيا في الشرق ولاسيما إن الأخيرة كانت قد أدت دوراً كبيراً في عملية إلغاء مقام الخلافة في أنقرة(9). فجاء كتاب (الخلافة) دعما لتلك المصالح، وذلك من خلال سعي ارنولد لتفنيد قضية تنازل آخر خليفة عباسي (المتوكل على الله) عن الخلافة للسلطان سليم الأول عام 1517، فضلاً عن تقديم عرض شامل لتاريخ مؤسسة الخلافة منذ وفاة الرسول محمد r وحتى إلغائها عام 1924(10).(1/3)
دوافع ارنولد لدراسة مصادر النظرية السياسية الاسلامية
يرتبط معالجة ارنولد لمصادر النظرية السياسية الاسلامية بالدوافع الرئيسة لدراسة مادة الفكر السياسي الاسلامي في المدرسة .الا وهي تسليط الضوء على مسالة الاختلاف بين الفكرين الإسلامي والمسيحي حول طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في كلا النظامين(11) .ومما لاشك فيه أن تجربة ارنولد في الهند وعلاقته بكبار علمائها- كما رأينا- أثرها في تعميق نظرته الاستشراقية إلى طبيعة ذلك التمايز بين النظاميي على وفق ذلك يمكن القول ان ارنولد كان من بين المستشرقين القلة الذين فطنوا الى طبيعة ذلك التمايز، وانه حاول في بحثه عن (النظرية السياسية الإسلامية) تعديل النظرة الاستشراقية حول طبيعة اختلاف السلطتين الخلافة في العالم الإسلامي والبابوية في العالم المسيحي.
.
كما أن دراسة مادة الفكر السياسي الإسلامي في مدرسة الدراسات الشرقية كان ينصب نحو مفهوم الخلافة أو الإمامة عند أهل السنة. وذلك يعود في جانب كبير منه إلى طبيعة علاقة المصالح السياسية البريطانية مع الشعوب الإسلامية التي كان يدين اغلبها بالمذهب السني، ولاسيما شعوب الدولة العثمانية ذات المذهب الحنفي. والمعروف أن كتاب (الخلافة) يفصح في جانب كبير منه عن ذلك الاهتمام، ولاسيما فيما يتعلق بمسألة الخلافة العثمانية وتبني السلاطين العثمانيين لألقاب الخلافة، لذلك فان ارنولد كرس جهده لدراسة الفكر السياسي السني.
مصادر النظرية السياسية الاسلامية:(1/4)
خاض ارنولد في معالجته لمصادر النظرية السياسية الاسلامية في الفصلين الثاني والثالث من كتابه الخلافه الى دراسة المصدرين الاساسيين الا وهما (القران الكريم والحديث الشريف),ففي الفصل الثاني المعنون (اصل الخلافة والقاب الاخلافة ) Origin of the Caliphate. The Titles of The Caliph لجاء ارنولد الى القران الكريم في حديثه عن العلاقة بين ألقاب الخلافة ولاسيما \"خليفة – إمام\" والآيات القرآنية التي وردت فيها لفظتا خليفة وإمام لارتباطها الوثيق بموضوع ارنولد الأثير ألقاب الخلافة.في حين تناول في الفصل الثالث المعنون (المؤيد الديني للخلافة في القرآن والحديث) Theological Sanction For the Caliphate in the Qur\'an and Tradition المصدرين الأساسين (القرآن الكريم والحديث الشريف) في حديثه عن صياغة النظرية الإسلامية.
أ - القرآن الكريم
يعد القرآن الكريم احد المرتكزات الأساسية في عرض موضوع النظرية السياسية الإسلامية، إذ يؤكد ارنولد على أن الفقهاء المسلمين لجأوا إلى القرآن الكريم بوصفه المصدر الأساسي للتشريع في الإسلام، ليكون سنداً لنظرية الخلافة على نحو ما فعله رجال الدين في أوروبا في العصور الوسطى حين لجاؤا في الكتاب المقدس لتأييد مطالب الباباوات والأباطرة (12). علما ان هذا الاستنتاج يتناقض مع الواقع التاريخي للدولة الاسلامية. وينصب جهد ارنولد في هذا الشأن على تحليل العلاقة بين الآيات التي ورد فيها مصطلحا (خليفة وإمام) وألقاب الخلافة، وقبل الحديث عن النتائج التي توصل إليها نجد من الضروري عرض هذه الآيات للوقوف على طريقة استقصائه لها، ومن ثم أثرها على نتائج بحثه.(1/5)
فقد سعى ارنولد لعرض الآيات التي وردت لفظة خليفة في صيغها المتنوعة كما في قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ (13)، والآيات التي ورد فيها المصطلح في صيغة الجمع كما في قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (14)، وقوله تعالى أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (15)، وكذلك قوله تعالى وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( (16)، ووفقاً لذلك يستدل ارنولد على أن الآيات التي وردت فيها لفظة خليفة في صيغة الجمع جاءت بمعنى مجموعة من القبائل حلوا محل غيرهم في الأرض وليس الوظيفة الأساسية المحددة للخليفة لذلك فان كلمة خليفة برأيه \"لا يمكن شرحها متصلة مع الخليفة التاريخي رئيس الجماعة الإسلامية السامي\" (17)(1/6)
لكن على الرغم من ذلك فان ارنولد لم يستطع أن يتجاهل وجود آيتين وردتا فيهما لفظة خليفة في صيغة المفرد الأولى إشارة إلى ادم في قوله تعالى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (18)، والثانية إلى النبي داود في قوله تعالى يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (19)، ويرى ارنولد انه على الرغم من أن هاتين الآيتين حظيتا باهتمام كل من بحث في الخلافة من الفقهاء والمفكرين المسلمين، فان لفظة خليفة التي وردت في كلا الآيتين لم تكن تعني أكثر من مجرد خلف، كما يرى أيضاً أن المراجع الإسلامية تفسر كلمة خليفة بمعنى وكيل ونائب وبديل وخلف بمعنى الذي يفوز بمنصب سام، ووفقاً لذلك المدلول اللغوي الذي رسمه ارنولد يرى أن المفسرين شرحوا الآيتين في أن ادم وداود سميا باسم خليفة إذ كان كل منهما على الأرض نائباً عن الله في إنذارهم بما أمر الله (20).وان كان الخليفة في حقيقة الامر ليس بنائب عن الله وانما منفذا لشريعته.
وبذلك نفى ارنولد مسألة وجود علاقة بين لقب خليفة وبين هاتين الآيتين اللتين وردتا فيهما لفظة خليفة في صيغة المفرد وبين المدلول اللغوي للفظة خليفة التي لم تكن تعني من وجهة نظره أكثر من مجرد خلف.(1/7)
في حين أن المدلول اللغوي للفظة الخلافة يطلق على من استخلفه غيره وعلى من خلف غيره في أمر من الأمور، ويقال خلف فلان فلاناً، إذ قام بالأمر عنه، والخلائف جمع خليف، وخلفاء جمع خليفة يقول ابن منظور صاحب (لسان العرب) \"الخلافة: الإمارة وهي الخليفي، وانه لخليفةٌ بين الخلافة والخليفي... قال الزجاج جاز أن يقال للائمة خلفاء الله في أرضه لقوله عزوجل: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ... وخلفه يخلفه خلفا صار مكانه\" (21). والخلافة إصطلاحا: هي الزعامة العظمى \"وهي الولاية العامة في كافة الأمور والقيام بأمورها والنهوض بأعبائها\" (22).(1/8)
وتشير كتب التفسير التي تناولت مصطلح خليفة كما ورد في كلتا الآيتين وعلاقته بلقب خليفة، بأن مصطلح خليفة لم يكن يعني من يقوم بتنفيذ الشريعة فحسب، وإنما كان يعني أيضاً ممارسة السلطة السياسية للخليفة، إذ يشير الإمام القرطبي في تفسيره إلى أن لفظة خليفة التي وردت في الآية الأولى في قوله تعالى إِنَِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، ليس المراد بها خليفة آدم كما يفسره طائفة من المفسرين وإنما يشير إلى أن هذه الآية \"أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة وتنفذ به إحكام الخليفة\" (23). كما يشير المفسرون إلى ان مصطلح خليفة الذي ورد في الآية الثانية قد اقترن بممارسة السلطة السياسية للخليفة في قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (24)، إذ يشير الإمام الزمخشري إلى أن قوله تعالى خَلِيفَةً فِي الأرْضِ يعني \"استخلفناك على الملك في الأرض كما تستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها، ومنه قولهم \"خلفاء الله في أرضه\"(25). كما يربط الإمام القرطبي هذه الآية بالآية الأولى من حيث ضرورة وجود خليفة يتولى أمور السلطة والحكم، فيذكر أن قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ يعني \"مكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة والصالحين\"، ويرى وفقاً لذلك استلزم نصب خليفة ليفصل بين الناس(26)، كما يشير الإمام ابن كثير إلى أن قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يعني \"وصية من الله عزوجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك الله\" (27).(1/9)
كما يبين المستشرق مونتكمري وات إلى أن جذر كلمة خليفة قد تعرض لتطور غني ومتعدد من حيث المعنى في اللغة العربية. وفي انه لمعنى خليفة عدة تجليات يصعب إزاءها معرفة ما يسود منها في سياقات معينة، وفي أن المعنى الأساس برأيه هو الخلف، أما أمثلة الجمع الواردة في القرآن فهي تشير من وجهة نظره إلى أناس حلوا في ارض شغلها غيرهم من قبل ودمرهم الله عقابا لعصيانهم، وفي أن هذه الحالات تبرر برأيه ترجمة المعنى إلى \"الخلف\" وفي أن بعضها لا يتضمن ذكر السابقين أو التشديدعلى اللاحقين، وانه لذلك يختل المعنى برأيه إذا ترجمت بكلمتي \"القاطنين\" أو \"المستوطنين\"، أما في صيغة المفرد فهي توحي بالإضافة إلى معنى \"الخلف\" بمعنى من يمارس السلطة(28).(1/10)
أما لقب إمام فإن معالجة ارنولد لهذا اللقب لم يختلف عن معالجته للقب خليفة، إذ حاول أيضاً نفي وجود علاقة بين الآيات التي ورد فيها مصطلح إمام وبين لقب إمام الذي لم يكن يعني وفق منظور ارنولد الاستشراقي سوى لفظة انبثقت من الوظيفة الدينية بمعنى مرشد للمؤمنين في صلاة الجماعة. ويؤكد أن الفقهاء المسلمين لجأوا إلى مستند في القرآن الكريم لاستخدام لقب إمام الذي لم يكن يعني رغم المعاني المتباينة فيهم برأيه سوى قائداً أو دليلاً أو مثالاً أو أنموذجاً (29)، ويدعم ارنولد رأيه بمجموعة من الآيات التي وردت فيها لفظة إمام في قوله تعالى قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (30)، وقوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا(31)، وقوله تعالى وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (32)، وقوله تعالى يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ(33)، كما أورد ارنولد الآيات التي وردت فيها لفظة إمام في وصف معاني متباينة فيرى أن لفظة إمام جاءت في وصف كتاب في قوله تعالى كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً (34)، وفي وصف الكفرة في قوله تعالى فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ (35)، ولوصف مدينة أثيمة في قوله تعالى فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (36).(1/11)
في حين ان المدلول اللغوي للفظة إمام،كما يقول ابن منظور في مادة \"أمم\" \"الأم بالفتح، والإمّةُ: الشرعة والدين... وتأمّم به وأتم جعله إمّة، وأم القوم وامّم بهم، تقدمهم: وهي الامامةُ، والإمام كل من أئتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين... في قوله عزوجل يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ، قالت طائفة بكتابهم وقال آخرون: بنبيهم وشرعهم، وقيل بكتابه الذي احصى فيه عمله، وسيدنا رسول الله إمام أمتهم وعليهم جميعاً الاتمام بسنته التي مضى عليها، ورئيس القوم إمامهم... والإمام ما أتم به رئيس وغيره والجمع أئمة، وفي التنزيل العزيز فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي قاتلوا رؤساء الكفر، الذين ضعفائهم تبعا لهم... والخليفة امام الرعية، وإمام الجند قائدهم، ويكون الإمام رئيسا كقولك إمام المسلمين ويكون الكتاب: قال الله تعالى يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ويكون الإمام الطريق الواضح قال الله تعالى وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ويكون الإمام المثال...\" (37). وإستنادا على ما تقدم يظهر أن معجات اللغة العربية تبنت التفسير الديني للفظة إمام.
ويخلص ارنولد في ختام استقصائه الواسع والمفصل لموضوع ألقاب الخلافة إلى غياب الصلة بين القرآن والخلافة بوصفها منصباً، وان الصلة المفترضة هي من ابتكار المتأخرين(38). كما استبعد في فصل (أصل الخلافه وألقاب الخلافة) أن يكون ورود هذا اللقب في القرآن دافعا لاتخاذه لقبا للخليفة، وفي أن هذا اللقب اكتسب برأيه احتراما وإجلالا بفضل الفتوحات الإسلامية(39)، أما لقب إمام فان ارنولد بعد أن نفى ورود هذا اللقب في القرآن بمعنى مرشد للمؤمنين في الصلاة، بين انه على الرغم من أن لقب إمام كان يعد صفة رسمية لخليفة النبي لكنه لم يكن برأيه مفضلا لدى السنة كما هو الحال لدى الشيعة(40).(1/12)
والمعروف أن المصادر الفقهية لدى أهل السنة استخدمت أيضاً لقب إمام إلى جانب الخليفة، لان المسلمين من أهل السنة لم يميزوا بين لقبي خليفة وإمام فكلاهما يشير إلى شخص واحد (41). ويفسر الأستاذ أبو زهرة أصل الترادف بين اللفظتين بقوله \"إن المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة وهي الإمامة الكبرى وسميت إمامه لان الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعلى للمسلمين يخلف النبي محمد في إدارة شؤون المسلمين وتسمى الإمامة، لان الخليفة كان يسمى إماماً، ولان طاعته واجبة، ولان الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم في الصلاة\" (42).
لكن على الرغم من ذلك فان الجدل الفقهي كان يفضل استخدام الإمامة على الخلافة. ويذهب المؤرخين في تفسير ذلك إلى أن الشيعة هم أول من بحث في هذا الموضوع ووضعوا مصطلحاته، ولما كان اللقب الذي اختاروه وخصوا به زعماءهم هو \"الإمام\" فان المشكلة الأولى التي بدأوا يبحثونها ويجادلون فيها خصومهم كانت هي \"الإمامة\"، وصار هذا الاسم الذي تعرف به المشكلة، وانطلق خصومهم يجادلونهم باللغة نفسها، فثبت التقليد ولم يكن هناك داع لتغييره. لان الإمام عند الشيعة لا يعني إلا صاحب الحق الشرعي \"de jure\" أما لفظة خليفة فتشير إلى صاحب السلطة الفعلية \"de facto\" (43) . أما لقب \"أمير المؤمنين\"، فان ارنولد يرى أن هذا اللقب خلافا للقبي \"خليفة، وإمام\" لم يرد ذكره في القرآن الكريم، ولكن على الرغم من ذلك فانه يرى أن لقب أمير المؤمنين يبجل الصفة الدنيوية على خلاف لقب إمام، وبأنه كان برأيه أعم ألقاب الخلافة لأن به عرفت أوربا الخليفة في العصور الوسطى، لما حمله هذا اللقب من سلطة هائلة اجتاحت بها الإمبراطورية الرومانية والفارسية(44).
ب _الحديث الشريف :(1/13)
أما الحديث الشريف فيعد المصدر الثاني الذي استند إليه ارنولد في عرض النظرية الإسلامية، إذ كان يرى أن اللجوء إلى الأحاديث ذو أهمية في عرض \"النظرية السياسية للخلافة عرضاً واضحا وثابتاً\" (45). وعلى الرغم من أن ارنولد وفي مستهل معالجته لهذا الموضوع حاول جاهدا الطعن في صحة الأحاديث التي رأى أن نظرية الخلافة استندت عليها، كما وجه اتهاما اخر بين فيه ان الفقهاء المسلمين لم ينتبهوا إلى عملية الوضع في الأحاديث إلى أن جاء علماء البحث الحديث من الأوربيين فكشفوا زيفها. وهو الامر الذي لاينسجم مع المعطيات التي افرزها علماء البحث وفق اصول وقواعد معالجة الاحاديث وان كان يبدو وفق السياق الذي وضعه ارنولد ان الاخير كان يقصد بذلك الأحاديث التي تتعلق بموضوع الخلافة، ولاسيما انه قد اكد \"أن العلماء المسلمين أنفسهم اعترفوا اعترافا صريحاً بأن بعض الأحاديث التي تزعم أنها من نفس مأثور كلام النبي كانت تزويرا واضحاًً\" (46). وان كانت هي الاخرى تناولها الفقهاء المسلمين بمزيد من البحث والتمحيص.(1/14)
ولكن على الرغم من ذلك يؤكد ارنولد على أن الحديث استخدم \"كأساس للبحث المنسق لعقيدة الخلافة التي عرضت في مخطوطات علماء الدين الإسلامي وفقهائه\" (47). وكان ارنولد قد استند في عرضه للأحاديث على مخطوطة لأحد الأئمة الهنود المدعو علاء الدين المتقي بن حسام الدين الهندي (ت 975هـ / 1567م (48). ومما لا شك فيه أن ارنولد بحكم عمله لبضع سنين أمين مكتبة وزارة الهند قد أتيحت له دون شك فرصة الاطلاع على المخطوطات والمصادر بضمنها هذه المخطوطة المعنونة (كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال)، والتي كانت تعد إحدى كتب السنن الشاملة للأحاديث. والكتاب مقسم إلى مجموعة كبيرة من الفصول ولكن لم يلتزم صاحبه فيها منهجا ثابتا، فتارة يلجأ إلى ذكر سلسلة الإسناد لكنه غالباً ما يحذفها، ولاسيما الأحاديث التي أستشهد بها ارنولد فيما يتعلق بموضوع الخلافة، فضلاً عن أن صاحبه في عرضه للأحاديث لم يبين مدى صحة الأحاديث وموثوقيتها التي أوردها من بين الأحاديث الموضوعة.
وقد وجه ارنولد إهتمامه في عرضه للأحاديث إلى معالجة أمرين:-
الأول: مسألة النسب القرشي.
الثاني: طاعة السلطة الحاكمة.(1/15)
ففي معالجته للأمر الأول الذي يعد المرتكز الاساس في سياق دراسة أرنولد لموضوع النظرية السياسية الاسلامية، يرى الاخير أن الأحاديث اشترطت فيمن يتولى منصب الخلافة أن يكون من قبيلة قريش التي إليها ينتسب الرسول محمد ، وفي أن هذه الأحاديث هي التي حددت برأيه شرط النسب القرشي لكل الخلفاء الذين تولوا إدارة مؤسسة الخلافة خلال عصورها التاريخية (49). ثم يستشهد ارنولد بمجموعة من الأحاديث التي وردت في كتاب (كنز العمال) في باب \"الأمراء من قريش\"، وهي الاحاديث المرفوعة إلى الرسول: \"الأمراء من قريش\" (50). وهنا ننوه إلى أن هذا الحديث قد اقترن كما ورد في المصدر المعتمد بقول الرسول : \"ما عملوا فيكم بثلاث: ما رحموا إذا استرحموا وقسطوا وعدلوا إذا حكموا\" (51). وكان هذا الحديث قد ورد في مسند الطبراني (ت 360هـ / 970م) رواه عن إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم عن معاذ بن عوذ الله القرشي عن عوف عن أبي سعيد الخدري قال الرسول محمد \"إن هذا الأمر لايزال في قريش ما إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا وإذا اقسموا أقسطوا ومن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين\" (52)، ويرى السيوطي (ت 911هـ / 1505م)، أن هذا الحديث يدل على أن أحق الناس بالخلافة قريش لكنه لا يدل على بطلان خلافة غيرهم وفي أن معيار حكمهم هو \"اتصافهم بالعدل والوفاء والرحمة\" (53).(1/16)
كما أورد ارنولد حديثاً آخر مرفوعاً إلى الرسول وهو قوله \"لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش\" (54). وقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم الذي رواه عن احمد بن عبد الله بن يونس عن عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قول الرسول \"لايزال هذا الأمر في قريش ما بقى من الناس اثنان \" (55)، ويرى محمد أبو زهرة \"أن هذا الحديث يشير إلى فضل قريش\" (56)، كما أورد ارنولد حديثاً آخر لم يرد في باب \"الأمراء من قريش\" وإنما ورد في باب \"فضائل القبائل- قريش\" لكونه تضمن إشارة إلى خلافة قريش لدعم رأيه، كما في الحديث المرفوع إلى الرسول \"الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة\" (57). وقد ورد هذا الحديث في مسند الإمام الترمذي (ت 279هـ / 892م)، رواه عن احمد بن منيع عن زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن أبي مريم الأنصاري عن أبي هريرة قال: قال الرسول \"الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والآذان في الحبشة\" (58).(1/17)
وقد أورد ارنولد جزءاً من حديث آخر ورد في المصدر المعتمد في باب \"الأمراء من قريش\"، الحديث المرفوع إلى الرسول \"الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها\" (59)، ولم يشر إلى بقية الحديث الذي يقيد فيه الطاعة وفق حكم الشريعة في قوله \"وان أمرت عليكم قريش حبشيا مجدعا فاسمعوا له وأطيعوا ما لم يخير أحدكم بين إسلامه وضرب عنقه فان خير بين إسلامه وضرب عنقه فليقدم عنقه\" (60)، وكان هذا الحديث قد ورد في مسند الطبراني رواه عن حفص بن عمر بن الصباح الرقي عن فيض البجلي عن مسعر بن كدام عن سلمة بن هيكل عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي عن الرسول قوله: \"الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها ولكل حق فآتوا كل ذي حق حقه، وان أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا، ما لم يخير أحدكم بين إسلامه وبين ضرب عنقه، فان خير بين إسلامه وبين ضرب عنقه، فليمدد عنقه ثكلته أمه فلا دنيا ولا آخرة بعد ذهاب إسلامه ودينه\" (61).(1/18)
ويبدو أن ذلك يعود إلى أن موضوع طاعة الإمام أو الخليفة كان يعد الأمر الثاني في عرض ارنولد لنظرية الخلافة، وفيها سعى لانتقاء بعض الأحاديث التي وردت في كتاب كنز العمال في باب الإمارة \"إطاعة الأمير والترهيب عن البغي ومخالفته\". ويشير ارنولد إلى الأحاديث التي لا تقيد الطاعة، ويذكر من الأحاديث في هذا الصدد الحديث المرفوع إلى الرسول \"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني\" (62)، وقد ورد هذا الحديث في كتاب السنن الكبرى للإمام النسائي (ت 303هـ / 915م) في باب \"الترغيب في طاعة الإمام\"، الذي أورده عن يوسف بن سعيد عن حجاج عن أبي جريح عن زياد بن سعد بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الرسول \"من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني\" (63).(1/19)
كما أورد ارنولد حديثين مرفوعين إلى الرسول يدعوان فيهما إلى الطاعة، الأول: \"أطع كل أمير وصل خلف كل إمام ولا تسبّن أحدا من أصحابي\" (64). وكان هذا الحديث قد ورد في السنن الكبرى للامام البيهقي (458هـ/1065م) الذي ذكر ان هذا الحديث منقطع السند(65). والثاني \"سيكون بعدي أمراءٌ فأدوا طاعتهم فان الأمير مثل المجن يتقي به فان أصلحوا أموركم بخير فلكم ولهم، وان اساؤا فيما أمروكم فهو عليهم وانتم منه براء إن الأمير إذ ابتغى الريبة في الناس أفسدهم\" (66). ولم يورد ارنولد ما جاء في بداية الحديث الثاني \"أذكركم الله لا تبغوا على أمتي بعدي\" (67). كما أستشهد أرنولد بحديث آخر مرفوع إلى الرسول ليعزز فيه ما جاء بالحديث الثاني، فيما روى عن الرسول \"أطيعوا أمراءكم مهما كان فان أمروكم بشيء مما جئتكم به فإنهم يؤجرون عليه وتؤجرون بطاعتهم وان أمروكم بشيء مما لم آتكم به فانه عليهم وأنتم منه براء ذلكم بإنكم إذا لقيتم الله قلتم ربنا لا ظُلمَ، فيقول: لا ظلم: فيقولون: ربنا أرسلت إلينا رُسلاً فاطعناهم بإذنك وإستخلفت علينا خلفاء فأطعناهم بإذنك: وأمّرت علينا أمراء: فأطعناهم لك، فيقول صدقتم هو عليهم وأنتم منه براء\" (68). وكان هذا الحديث قد ورد بصيغة اخرى في سنن البيهقي في ما روي عن الرسول \"أطيعوا امراءكم ما كان فإن امروكم بما حدثتكم به فإنهم يؤجرون عليه وتؤجرون بطاعتكم، وإن امراءكم بشيء مما لم آمركم به فهو عليهم وانتم منه برءاء ذلك بانكم اذا لقيتم الله قلتم ربنا لاظلم فيقول لاظلم فتقولون ربنا ارسلت الينا رسلا فاطعناهم باذنك واستخلفت علينا خلفاء فاطعناهم باذنك وامّرت علينا امراء فاطعناهم قال فيقولوا صدقتم هو عليهم وانتم منه برءاء\" (69) ولم يعلق عليه او يذكر تخريجا له في كتب الاحاديث الاخرى.(1/20)
ثم يؤكد ارنولد أن الطاعة لم تكن مقتصرة على الخليفة فحسب وإنما أي سلطة تقام مهما تكن كانت تجب لها الطاعة (70)، ويدعم قوله بإيراد جزء من نص الحديث المرفوع إلى الرسول \"يا أيها الناس اتقوا الله وان أُمِر عليكم عبدٌ حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا\" (71). ولم يورد تتمة الحديث الذي ورد في المصدر نفسه الذي قيد الطاعة بالعمل وفق الشريعة في قوله \"ما أقام لكم كتاب الله\" (72). وكان هذا الحديث قد ورد في صحيح مسلم في الدعوة إلى طاعة ألحاكم الذي يعمل وفقاً لأحكام الشريعة، وقد أورده عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن يحيى بن حصين، قال سمعت النبي يخطب في حجة الوداع وهو يقول \"ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا\" (73).
ووفقاً للأحاديث التي أوردها ارنولد يخلص إلى القول أن \"النظرية السياسية تدل على أن الله يعين السلطة الزمنية Earthly Authority بكاملها وواجب الرعية الطاعة أكان الحاكم عادلا أو ظالماً، لان المسؤولية أمام الله والرضى الوحيد الذي يستطيع أن تشعر به الرعية هو أن الله سيجازى الأمير الظالم على أعماله السيئة مثلما يكافئ الأمير الصالح\" (74). وهنا يناقض ارنولد نفسه في مسألة بحثه للتمايز بين السلطتين.(1/21)
كما أستشهد ارنولد بأحاديث أخرى، لكنه بين أنها موضوعة ومن صنع المؤلفين السياسيين، إذ يظهر فيها الطابع التحيزي لفئة دون غيرها . ويلاحظ أن ارنولد اعتمد فيما أورده من تلك الأحاديث على كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي وبين أن العباسيين أبدعوا أحاديث لتبجيلهم وإهانة الأمويين(75) من بينها الحديث المرفوع إلى الرسول \"رأيت بني مروان يتعاورون منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك\" (76)، وكان السيوطي قد أورد هذا الحديث في باب \"الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس\"، وذكر انه أورده عن الطبراني في مسنده. وكان الأخير قد رواه عن احمد بن محمد بن يحيى بن حمزة عن إسحاق بن إبراهيم أبو النصر عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان عن الرسول محمد \"رأيت بني مروان يتعاورون منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك\" (77). ويعمد ارنولد إلى إيراد حديث آخر جامعاً إياه مع هذا الحديث ليظهر وكأنه حديث واحد ذكره السيوطي في موضع آخر من الفصل وذكر انه من الأحاديث الموضوعة المرفوع إلى الرسول \"يلي ولد العباس من كل يوم تليه بنو أمية يومين ومن كل شهر شهرين\" (78).
كما أستشهد بحديثين مرفوعين إلى الرسول يتنبآن أن الخلافة ستبقى في حوزة العباسيين حتى يتنازلوا عنها للمسيح. الأول \"الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح\". وكان السيوطي قد بين أن هذا الحديث من الأحاديث الضعيفة والموضوعة(79)، والثاني أورده السيوطي في الأفراد عن الدارقطني \"إذا سكن بنوك السواد ولبسوا السواد، وكان شيعتهم أهل خراسان لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى ابن مريم\" (80).(1/22)
كما أستشهد أرنولد بحديث آخر مرفوع إلى الرسول ورد في كنز العمال أيضاً وهو \"الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك\" (81)، وكان هذا الحديث قد ورد كما يذكر الإمام ابن كثير في كتب التفاسير والصحاح عن الإمام احمد وأبي داؤد والترمذي والنسائي الذي رواه عن سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول أن الرسول قال: \"الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً\" (82)، وعلى الرغم من أن ارنولد بين صحة هذا الحديث لكنه يرى أن هذا الحديث يعود في تدوينه إلى القرن الثالث الهجري، حيث لجأ إليه بعض الفقهاء المسلمين للطعن في شرعية الخلفاء العباسيين في القاهرة (83)، وهنا يرى أن إلغاء السلاطين العثمانيين لألقاب الخلافة كان \"ناتجاً إن الفقهاء الحنفيين الذين يخصون مدرسة القانون التي أخذها السلاطين العثمانيون في كنفهم اخذوا وجهة نظر -هذا الحديث- في أن الخلافة لم تدم أكثر من ثلاثين سنة\" (84). ويبدو أن ارنولد أستشهد بذلك الحديث لتعزيز رأيه في أن السلاطين العثمانيين لم يهتموا بتبني ألقاب الخلافة الإسلامية –كما أسلفنا- مشيرا إلى أن فقهاء الحنفية في الدولة العثمانية تبنوا ظاهر ذلك الحديث.
ويظهر من خلال استقراء الأحاديث التي لجأ إليها ارنولد أن الأخير كان يسعى في عرضه النظرية السياسية لأبراز أمرين:(1/23)
الأول: إن نظرية الخلافة تشترط النسب القرشي في الخليفة والمعروف أن هذه المسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بموضوع ارنولد الأثير المتمثل بالدولة العثمانية، ليؤكد على مسألة افتقاد السلاطين العثمانيين لهذا الشرط الذي نصت عليه الأحاديث التي أوردها، كما بين ارنولد أن جميع الخلفاء الذين تولوا إدارة مؤسسة الخلافة عبر عصورها التاريخية المختلفة كان يتمثل فيهم هذا الشرط. ولعل افتقار العثمانيين لهذا الشرط سيمنع سلطان مثل سليم الاول للتفكير في امكانية تولي منصب الخليفة مما يدعم حجج ارنولد في نفي مسالة ايصاء الخليفة العباسي الاخير المتوكل على الله بالخلافة لسليم الاول .
الثاني والذي بذل ارنولد جهده لإبرازه هو \"أن نظرية الخلافة صيغت سنداً لخلافة مستبدة\"، ليؤكد استنادا إلى الأحاديث التي أوردها في الدعوة إلى طاعة السلطة الحاكمة سواء كانت عادلة أو جائرة \"كيف انبثقت النظرية عن الوقائع التاريخية الراهنة لدعم ما أضحى حكما
مطلقا Absolntism بينما تحتفظ بظاهر من نظام الانتخاب السياسي القديم بقطع النظر عن طابعها الاستبدادي Autocratic Character\"). (85)
الخاتمة(1/24)
ومن هنا فاننا نخرج في نهاية استقاء ارنولد للمصدرين الاساسيين من مصادر التشريع الاسلامي(القران الكريم والحديث الشريف ) ان الاخير في تناوله العلاقة بين مصطلحي خليفة وامام والقاب الخلافة في القران الكريم لم يبذل جهدا كافيا في التعامل مع النص القرآني لتقديم تصور محكم لدولة الخلافة ومفاهيمها، واكتفى بمتابعة كلمتي خليفة وامام فلم يكد يصل الى تصور واضح عن نظرية الخلافة وان كان من الاجدر التعامل مع شبكة المعطيات التشريعية في النص القرآني، وهو ما نجده في معظم الدراسات الحديثة التي كتبها المسلمون انفسهم,في حين ان ارنولد في معالجته للحديث حام حول مسالة رئيسية في دراسته لموضوع النظرية السياسية الاسلامية وهي ضرورة انتساب الخليفة الى قبيلة قريش وهي مسالة ترتبط اشد الارتباط بالغاية الاساسية من دراسته للموضوع نفسه , من حيث الطعن بصحة نسب الخلفاء العثمانيين الذين تولوا ادارة الدولة الاسلامية لقرون عدة من جهة . ومن جهة اخرى سعى ارنولد جهده لوضع موضوع الطاعة للسلطة الحاكمة في سياق قائم على ان الانقياد للنظام السياسي في الاسلام يدعو الى الطاعة بغض النظر عن ان كانت السلطة عادلة ام جائرة وفق مجموعة من الاحاديث التي اوردها في كتاب (كنز العمال) ضاربا بعرض الحائط الاحاديث التي كانت تقيد الطاعة .اما المصدر الثالث من مصادر التشريع الاسلامي (الاجماع),فنلاحظ ان ارنولد لم يول هذا المصدر أي اهتمام ,بالرغم ان هذا المصدر كان يعد اساس دراسة موضوع النظرية السياسية الاسلامية لكونه كان مرتكزا اساسيا للفقهاء السنة لعرض موضوع الخلافة .
المصادر والمراجع
(1) H.A.R. Gibb, \"Sir Thomas Arnold\" , DNB, 1921-1930,p.25
(2) للمزيد انظر:
Colonial India\", IC, 1987, Vol. Dasheer A.Dabble \"Muslim Political Thought in LXI, pp.25-29.
(3) URL//WWW.Islam-online.net/Arabic/History1422/03/article20.shtml(1/25)
(4) Theodore Morison and H.A.R.Gibb, \"Sir Thomas Arnold\", JRAS, 1930, Vol. XVII, p.398.\"
(5) Gibb, \"Sir …\", p.26; Morison, \"Sir …\",p.398
(6). \"The Study…\", pp. 113-114.
(7) T. Arnold, The Caliphate, (London, Rutledge and Kegan Paul Ltd.: 1965) The Preface.
(8). حول العلاقة بين الدعاوى المطالبة بتجديد منصب الخلافة واثرها على المصالح البريطانية في الشرق. انظر: على عبد الرزاق، الاسلام واصول الحكم، دراسة موثقة بقلم محمد عماره، (مصر، 200)، 8-17.
(9). حول الدور الذي ادته بريطانيا لالغاء الخلافة في انقره. انظر: ابراهيم الداقوقي. صورة الاتراك لدى العرب، ط1، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001) ، 69-70.
(10). D. B. Macdonald, \"Review of Thomas Arnold, The Caliphate\", AHR, 1925, Vol.30, p.582
(11) Hogarth, \"Review…\", p.49; Macdonald, \"Review…\", p.582
(12) الخلافة، 29 The Caliphate, p.42
(13) سورة النور، ايه55.
(14) سورة الانعام، ايه165.
(15) سورة الاعراف، ايه 69.
(16) سورة الاعراف، ايه74.
(17) الخلافة، 30 The Caliphate, p.44
(18) سورة البقرة، اية 30.
(19) سورة ص، اية 26.
(20) الخلافة، 31 The Caliphate, p.25
(21) لسان العرب، تحقيق: يوسف الخياط، (بيروت، دار لسان العرب، د/ت)، 1/883.
(22) القلقشندي، مآثر الانافة في معالم الخلافة، تحقيق: عبد الستار احمد فراج، ط2، (بيروت، عالم الكتب، 1980)، 8-9.
(23) الجامع، 2/182-183.
(24) سورة ص، ايه26.
(25) تفسير الكشاف، 924.
(26) الجامع، 15/124.
(27) تفسير ابن كثير، 4/33.
(28) انظر: الفكر السياسي الاسلامي، ترجمة: صبحي الحديدي، ط1، (بيروت، دار الحداثة، 1981)، 51.
(29) الخلافة، 24 The Caliphate, p.34
(30) سورة البقرة، ايه124.
(31) سورة الانبياء، ايه73.
(32) سورة الفرقان، ايه74.
(33) سورة الاسراء، ايه 71.
(34) سورة هود، ايه17.(1/26)
(35) سورة التوبة، ايه 12.
(36) سورة الحجر، ايه 79 .
(37) لسان العرب، 1/101-103
(38) الخلافة، 30 ؛ The Caliphate, p.44
(39) الخلافة، 22 ؛ The Caliphate, p.31
(40) الخلافة، 28 ؛ The Caliphate, p.40
(41) انظر: للمزيد انظر:احمد محمود صبحي, نظريه الامامه لدى الشيعه الاثنى عشريه، (مصر، دار المعارف، 1986)، 26.
(42) تاريخ المذاهب، 1/20.
(43) النظريات السياسية، 118-119
(44) الخلافة، 23 ؛ The Caliphate, p. 32
(45) الخلافة، 31 . The Caliphate, p.45-46
(46) انظر: الخلافة، 10 The Caliphate, p.13.
(47) الخلافة، 31. The Caliphate, p.45.
(48) علي بن حسام الدين بن عبد الملك بن قاضي خان المتقي الشاذلي ولد في مدينة برهاينور في الهند عام(885هـ/ 1480م)، رحل الى مكة واخذ الحديث عن ابن الحسن الشافعي البكري، فذاع صيته ووفد عليه الناس، مكث في مكه حيث توفى فيها، وترك العديد من المؤلفات. للمزيد انظر: كنز العمال في سنن الاقوال والافعال، تحقيق: محمود عمر الدمياطي، ط1، (بيروت، دار الكتب العلميه، 1998)، مقدمه المحقق 3-9.
(49) الخلافة، 32 ؛ The Caliphate, p.47.
(50) الخلافة، 32 ؛ The Caliphate, p.47
(51) كنز العمال، 6/20.
(52) معجم الطبراني الصغير، (الهند، مطبعة الانصاري، د/ت)، 43.
(53) انظر: تاريخ الخلفاء، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، (بغداد، 1983)، 9.
(54) كنز العمال، 6/20.
(55) صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (د/م، دار احياء الكتب العربية، د/ت)، 3/1452.
(56) تاريخ المذاهب الاسلاميه، 1/89.
(57) كنز العمال، 12/13.
(58) أنظر: الجامع الصحيح، ط1، (بيروت، دار احياء التراث العربي، 2000)، 8/10.
(59) كنز العمال، 6/20.
(60) كنز العمال، 6/20.
(61) معجم الطبراني الصغير، 85.
(62) كنز العمال، 6/21.(1/27)
(63) أنظر: كتاب السنن الكبرى، تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، ط1، (بيروت، دار الكتب العلميه، 1991)، 4/431.
(64) كنز العمال، 6/22.
(4) أبي بكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى، ط1، (بيروت، دار صابر، د.ت)، 8/158.
(65) كنز العمال، 6/22.
(66) كنز العمال، 6/22.
(67) كنز العمال، 3/22.
(68) السنن الكبرى، 8/159.
(69) الخلافة ، 33 ؛ The Caliphate, p.48
(70) الخلافة، 33 ؛ The Caliphate, p.48
(71) كنز العمال، 6/21.
(72) صحيح مسلم، 3/1468
(73) الخلافة، 33 ؛ The Caliphate, p.49.
(74) الخلافة، 35؛ The Caliphate, p.52
(75) تاريخ الخلفاء، 14.
(76) معجم الطبراني الكبير، 236.
(77) تاريخ الخلفاء، 17. وقد أورد الامام الذهبي هذا الحديث وذكر انه من الاحاديث الضعيفة. انظر: ابي عبد الله محمد بن احمد بن عثمان الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط1، (بيروت، دار المعرفة 1963)، 2/624.
(78) تاريخ الخلفاء، 16.
(79) تاريخ الخلفاء، 16
(80) كنز العمال، 6/35.
(81) تفسير ابن كثير، 3/302.
قال سفينة مولى رسول الله r \"امسك عليك خلافه ابي بكر سنتين وخلافه عمر عشرا. وخلافه عثمان اثنى عشر وخلافه علي ست سنوات. للمزيد انظر: القرطبي، الجامع، 12/19. القلقشندي، ماثر الانافة، 12-13\".
(82) الخلافة، 76. The Caliphate, p.107.
(83) الخلافة، 120؛.The Caliphate, p.163.
(84) الخلافة، 36. ؛ The Caliphate, p.53(1/28)