كتابة كتاب قيد التأليف
ماهيّة الكتاب - ومراحل تطوّره
"من لا قرار له لا معرفة له" وكان القرار هو الكتاب، وكان الكتاب هو الإنسان، وكان الإنسان هو حصيلة ذلك كلّه.
ليكن الإنسان ما يكون، لكنه لن يجد سبيلاً سوى الكتاب، يثبّت فيه معارفه.
ولتعرف أننا حينما قلنا: ليكن الإنسان، فإننا قد أخرجنا أنفسنا منه، ولسنا نتعمّد ذلك، فطبيعة "الكتاب المطبوع" تجعلنا لا إنسانيين.
هل يعني هذا أن الكتاب الصوتي إنساني؟! وإن كان كذلك، فهل يعني أننا لا ننتمي لمجتمع الإنسان في ظل"الكتاب الطباعي ومابعد الطباعي: الشبكي"؟!
أسئلة كثيرة لن نجيب عليها، لكننا سنجوب جنباتها ونترك لك الأمر في النهاية لترى ما يناسبك.
كيف تقرأ "كتاب قيد التأليف"؟
........تستطيع قراءة "كتاب قيد التأليف" من أيّة جهة ومكان، فقد تبدأ من الفصل الأول، وتنتقل إلى الفصل الرابع، وهكذا.. لكن لابد أن تحرص على أن تبدأ مع بداية فكرة مدخلة في بداية كلّ فصل، فلربما تشكّل فكرة ما بؤرة الأفكار الأخرى، مع ملاحظة أن "كتاب قيد التأليف" ضد البؤرة الواحدة، فالبؤرة سرعان ما تتحول إلى طرف مهزوز حينما تقوم بؤرة أخرى بنسفه، علاوة على أن الكتاب المطبوع يملك جهته، أي أنه محدد بالمكان الذي طبع فيه، بيد أن "كتاب قيد التأليف" ضدّ هذا كله، فهو منتج من أمكنة متعددة، من الداخل والخارج، فهو متعدد المؤلفين متعدد الأمكنة، وبالتالي فهو ضد المركزية التي يحرص عليها "الكتاب المطبوع" حينما يحال لمؤلف واحد، بمعنى آخر ينزع "الكتاب قيد التأليف" إلى الأصوات المتفرقة، ينزع إلى الأطراف، محاولاً تسجيل أصواتها.
قبل البدء
........ يمثّل "عصر المعلومات" تحدياً لمستقبل الأمة العربية، كيف لا وهناك دول ستدرج في الحقبة القادمة ضمن مصاف دول العالم الثالث –إذا استمرّ العمل بهذا التصنيف: "عالم أول، وعالم ثالث"-، على الرغم من أنها تعتبر حالياً من الدول العريقة في مجال التقدم.(1/1)
........ يهدف "كتاب قيد التأليف" إلى استنهاض همم المثقفين العرب، على اختلاف مواقع الاهتمام، لكي يشاركوا بآرائهم، فتثمر المشاركة في الإسهام في تلمّس وضعنا الراهن، ونقبض على نقاط الضعف فيه، فموضوع مثل هذا يقتضي تضافر عدة تخصصات وهذا ما لا يتحقق أبداً إلاّ من خلال المشاركة الفعّالة التي تتجاوز حديث الوصايا والعموميات التي ملأت الخطابات العربية التنموية.
........ لا يمكن الحديث الآن عن فصول الكتاب، وكوننا أثبتنا الفصول لا يعني أبداً أنها فصل الخطاب، بل ما هي إلا مقترحات ستظل قيد التبديل والإضافة من خلال توجيهات المؤلفين الذين نطمح من خلالهم بالكثير، وسوف تضاف للفصول فصول أو مباحث أخرى وسوف تحذف فصول إن تطلب ذلك من خلال اقتراحات المؤلفين أو الزوار لذلك لم نثبت مصطلح "مقدمة" في "كتاب قيد التأليف" بل أثبتنا ما أسميناه "قبل البدء"، لأن المقدمة تعني ثبات الفصول وعدم تبديلها، والكتاب أصلا ضدّ كلّ هذا، ففصول الكتاب يراد لها أن تشكَّل على أيديكم، لكن ما اقترحناه هنا يمثل شرط الانطلاق، لأن الفراغ لا يولّد إلا فراغات.
........ والكتابة مشرعة للجميع، ويسعدنا أن نحتوي الآراء جميعاً، مهما اختلفت، فالاختلاف سيظلّ قائماً وهذا لا يعني إطلاقا أنّنا لن نتّفق، نختلف فقط كي نثري فصول الكتاب ومداخلاته، وربما فصول المستقبل العربي في ظلّ عصر المعلومات، ولهذا تساءلنا: هل هو احتضار أم قيامة؟
…
………الكتاب المخطوط والمطبوع …………
الصوتي. ماذا يعني أن أكتب؟(1/2)
هو السؤال الذي يطرحه كاتب المخطوط وكأنه كان يدعو إلى اللاتتلمذ إلاّ على يد كِتَاب، لكنه لم يفلح فلم يجد أخيرا سوى سبيلا واحدا وهو أن يحرق كتبه، فعل ذلك أبوحيان التوحيدي، صحيح أنه لم يكن ذلك هو السبب المباشر، صحيح ذلك، صحيح أن هذه المحرقة لم تكن معنيّة بالكتابة وبالشفاهية بصورة مباشرة، نقول إن ذلك صحيح لكننا نقول إن هناك مفهوما أصح، ذلك المفهوم الغائب، مفهوم عقلية شفاهية تنزع إلى استحضار قيمٍ قد ولّت، قيم لا تستطيع الصمود إزاء عقل كتابي، العقلية الأولى الشفاهية تجلّ من شأن القدماء كثيراً والعقلية الثانية "أبوحيان التوحيدي" عقلية كتابية لا ترزح لذلك، ولأن أبا حيان التوحيدي مجدِّد ولأنه يفكر ضمن نسق بصري لم يُقدّر ولم يكن له ولكتبه أية قيمة، لذا لم يجد أبوحيان في النهاية سوى أن يحمل كبريتاً فيشعل النار في كتبه، مؤكّداً أن دوره جاء مبكراً فما زالت الشفاهية هي المسيطرة. شيئا وشيئا بدأت الشفاهية "الكتاب الصوتي" تتنحى مفسحة المجال للكتاب المخطوط.
إن الخطاب المكتوب منفصل عن مؤلفه كما يقول أولسن ولا يمكن تحدي المؤلف لأنه لا يمكن الوصول إليه، فالتحدي قائم في الكتاب الصوتي إذ يشترط وجود صاحب الكتاب الصوتي مع متلقيه، لايمكن إذن الوصول إلى المؤلف في أي كتاب، ويظل الكتاب المخطوط ينقل ما يريده، حتى ولو فندت أفكاره ودمرت يظل ناقلا نفس المعرفة. إننا بمجرد أن نقرأ كتابا نستحضر المعرفة التي أرادها مؤلفها، فالنصوص المكتوبة عصية بطبيعتها، لذلك فالكتابة في نظر أفلاطون غير إنسانية، تدعي أنها تؤسس خارج العقل ما لا يمكن في الواقع أن يكون إلا داخله ذلك أن الكتابة شيء، نتاج مصنوع ، أما سقراط فيرى أن الكتابة تدمر الذاكرة فالذي يستخدمها سيصبح كثير النسيان، سيعتمد على مصدر خارجي لما يفتقده في المصادر الداخلية، إن الكتابة بهذا المعنى تضعف العقل.
………(1/3)
إن ماخلفته الطباعة/الكتاب المطبوع من تأثيرات متنوعة دليل على أهميتها في تغيير المسار الفكري الإنساني، فالطباعة جعلت النهضة الإيطالية نهضة أوربية دائمة، والطباعة أثرت على تطور الرأسمالية الحديثة، ومكنت من تنفيذ الاكتشاف الأوربي للكرة الأرضية، وغيرت الحياة العائلية والسياسة، ونشرت المعرفة على نحو لم يحدث أبدا من قبل، وجعلت من معرفة القراءة والكتابة لدى الجميع هدفا جادا، ومكنت من نشوء العلوم الحديثة، وغيرت الحياة الاجتماعية والفكرية،هذا كله تم بسبب سرعة انتشار الكتاب المطبوع إذ إن الكتاب المخطوط يحتاج إلى جهد كبير لانتشاره خاصة وأن أدوات نشره يدوية. وهكذا فالكتاب المطبوع روج لمقولة أن الكلمات أشياء أكثر مما فعلت الكتابة على مدى تاريخها الطويل. ظل السمع حاضرا مع الكتابة علاوة على البصر لكن الطباعة في نهاية المطاف أزاحت الكلمات من عالم الصوت، بإحالتها بشكل قاطع إلى سطح مرئي، واستغلال هذا الفراغ المرئي من أجل السيطرة على المعرفة، شجعت البشر أيضا على التفكير في قدراتهم الداخلية الخاصة، الواعية وغير الواعية، باعتبارها أشبه بالأشياء، وغير شخصية ومحايدة من الناحية الدينية، وحفزت الطباعة العقل للإحساس بأن ممتلكاته موجودة في نوع من الفراغ العقلي الخامد.
…………(1/4)
إن التحكم في فراغ الكتاب المخطوط يميل إلى أن يكون زخرفيا، مغالى فيه، كما في فن الخط، أما التحكم الطباعي فإنه في العادة أكثر إبهارا بترتيبه وحتميته، فالسطور تامة الانتظام، ومنسقة جميعا حتى نهايتها على الجانب الأيسر " الأيمن في حالة الإنجليزية"وكل شيء يبدو متساويا من الناحية المرئية ، وعلى وجه العموم تكون النصوص المطبوعة أسهل كثيرا للقراءة من النصوص المخطوطة وتؤدي هذه السهولة إلى قراءة سريعة صامتة، وكذا تؤدي هذه القراءة إلى علاقة مختلفة بين القاريء وصوت المؤلف في النص وتدعو إلى أساليب مختلفة في الكتابة، وتتطلب الطباعة كثيرا من الأشخاص بالإضافة إلى المؤلف في عملية الإنتاج، والناشرين والوكلاء الأدبيين وقراء الناشرين ومحررين النصوص… إلخ، وكثيرا ما يستدعي هذا النوع من الكتابة مراجعات مجهدة من قبل المؤلف وعلى درجة من الضخامة لا تكاد تعرف في ثقافة المخطوطات. كذلك كانت الطباعة عاملاً …………
الكتاب الصوتي
"مررت به فوجدته يصوّت" أي يتكلم ويقول ويتحدث ويروي سيراً، مرة يخرج الصوت حنجريا، ومرة لهويّاً، ومرة. . . الخ، وما زال يصوت، ويملأ الفضاء بأصواته، تارة كان يتقعّر، وفي يده عصا، كان ناطقاً وكانوا صامتين، وهو أكبرهم سنا، قد بيّض رأسه الشيب، وكم مرة قال: "حدثني ابن هشام قال" وهي عبارة ترددت كثيرا في تصويته، وكأنها لازمة يكررها بين الفينة والأخرى، وليت الأمر كذلك فقط بل إنه كان كثيرا ما يقلب تصويته ويبدل أساليبه مع أنها تؤدي نفس المعنى. ومازال يسجع، والناس يتفاعلون معه، وأحيانا يحدثوه ويجادلوه.
عيّنة من الكتاب الصوتي(1/5)
تعمّدنا أن نسوق عينة لندلّل على تقنيات "الكتاب الصوتي" الأسلوبية منها والفكرية، التي تعارض بشكل كبير تقنيات الكتاب المعاصر. شغل الحديث عن الشخصية الشفاهية المنتجة للكتاب الصوتي الدارسين منذ أمد بعيد، كل حسب تخصصه، وكانوا مشغولين باللغة داخل الكتاب الصوتي، وبالعقل أيضاً، نجد ذلك مثلاً عند كلود ليفي ستروس البنيوي المتعدّد المعارف، الذي يؤكد بأن العقل الوحشي -ويريد به العقل البدائي والشفاهي المعتمد على الصوت- ليس عقلاً ساذجاً، فبنيته واحدة، لافرق بين العقل القديم والعقل الجديد لكن القرار الأخير يعود بالدرجة الأولى للحظة التي يسكنها العقل.
إن "الكتاب الصوتي" بالمعنى الدقيق ينعدم اليوم لأن كل المجتمعات الآن تعرف شيئاً عن الكتابة، ولديها شئ من الخبرة بتأثيرها، ومع ذلك فإن كثيراً من الثقافات الثانوية لا تزال تحتفظ به بدرجات متفاوتة حتى في بيئة ذات تكنولوجيا عالية.
يمكن أن يوجد "الكتاب الصوتي" دون أية كتابة على الإطلاق، بمعنى أن الذي يكتب لا يستطيع أن يستغني عن الصوت، فهو وسيلته في التواصل، لكن قد ينوجد من يتكلم وهو لا يعرف الكتابة.
إن المثال السابق الذي سقناه تحت "عيّنة من الكتاب الصوتي" يخبرنا بالتالي:
....إن الكتاب الصوتي أو المتحدث في الثقافة الشفاهية لا يجد فكاكا حينما يسرد معارفه من التلاعب بالأصوات، كي يخلع على المتلقي تجربته ويجعله معايشاً لها، نجد ذلك مثلا في "مرة يخرج الصوت حنجرياً، ومرة لهويّاً، ومرة. . . إلخ، ومازال يصوّت، ويملأ الفضاء بأصواته، تارة كان يتقعر ..."(1/6)
....إن المعرفة حينما تنقل في الثقافة الشفاهية تحتاج إلى مقوم آخر، كي تخلع على المتحدث سمة الوقار، أو قل كي تقتل القلق الذي يستكنفه، ربما يستخدمها كي يشعر بأنه يعيش الحقيقة ويستطيع استرجاع وقائعه، جاء في العينة السابقة التالي: "ويملأ الفضاء بأصواته، تارة كان يتقعر، وفي يده عصا"، علاوة على أن ناقل المعرفة في الثقافة الشفاهية يستخدم لغة جسده كثيراً، فيستعين بسيمائه من أجل نقل المعرفة، فإن تحدث عن موقف حزين ارتسمت على وجهه ملامح الحزن كي يقنع المستقبل بالذي يسرده، يقول النفّري:" سيماء كلّ وجه فيما أقبل عليه".
....ثم يحتاج الكتاب الصوتي لصمت مطبق من قبل السامع كي يتحقق، فالضجيج ضد تحقق كتاب الصوت، جاء في العينة السابقة، التالي: "كان ناطقاً وكانوا صامتين"، وأيضا يقول النفّري في ذلك: "لا تصح المحادثة إلا بين ناطق وصامت" وبقليل من التحوير نقول : لا يقوم كتاب الصمت إلا بين ناطق وصامت. ولأجل ذلك قلنا إن الكتاب الصوتي إنساني لأنه مع التواصل والأخذ والعطاء، فالصوت إنساني لأنه موحد لذلك قيل: "البصرُ يفرق والصوتُ يجمع"، فالصوت حاسة موحدة والبصر حاسة محللة، لذلك في الكتاب الصوتي نشهد هيمنة السمع على البصر.
....ثم أن الكتاب الصوتي يقدّس الأجداد، ويجعل لهم شأنا كبيرا، لأنهم قد اختزنوا الخبرة، فصدى الصوت قابع في داخلهم، صحيح أن المتحلّقين حول المسنّ الذي إبيضّ شعر رأسه، لديهم خبرة ما، لكنها مهما تكن لن تعادل خبرة الرجل الكبير الذي جرّب من الأمور أكثرها، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا المجتمعات الصوتية تجعل للقديم شأنا كبيرا، جاء في العينة: "وهو أكبرهم سنا، قد بيّض رأسه الشيب"، أي أنهم لا يقدمون لنقل المعرفة سوى الكبير.(1/7)
....ثم أن الكتاب الصوتي يركن على مراجع مرويّة، فليس كل كبير مسن في الكتاب الصوتي يُوثَق بمعرفته، فيشترط فيه أيضا أن يروي المعرفة عن أحد قديم أيضا، جاء في العينة: "وكم مرة قال: حدثني ابن هشام قال:". ولا يكتفي الكتاب الصوتي براوٍ واحد بل كثيرا ما يستحضره كلازمة تتكرر بين الفينة والأخرى، فأي خبر جديد يرويه لابد أن يكون مستنداً على راوية والراوية الذي ينقل عنه المسنّ لا بدّ أن يكون هو أيضاً له مراجعه، ومن هنا تنشأ العنعنة، عن فلان أنه قال: حدثني فلان أنه رأى فلانا فأخبره أنه سمع. . .الخ. وقد يصل أحيانا صاحب كتاب الصوت لدرجة لا ترد روايته ولو كانت مجهولة القائل، فإن قال مثلاً: "سمعت أحدهم يقول.." دون ذكر اسم " أحدهم" تأخذ روايته وتعمل بها، راجع مثلا الكتاب لسيبويه لتجد أمثلة لا بأس بها، وقد يعترض هنا أحد ويقول: عن سيبويه لم يأت في مرحلة تدرج ضمن الكتاب الصوتي، نقول صحيح لقد عرفت الكتابة في زمانه لكنها لم تكن منتشرة كثيرا، هذا لا يحدث مع أي كبير حكيم، يحدث فقط مع من يقدس ويجل شأنه.(1/8)
....إن كتاب الصوت أيضا يحتاج لنقل معارفه إلى التكرار الكثير والعودة إلى الفكرة، وإعادة تقليبها ضمن المترادفات، والنظم المتشابه والسجع أيضا، يفعل ذلك كتاب الصوت لأنه مضطر لذلك، فهو يسجع كي يستطيع استعادة المعرفة، وبالتالي فالمجتمعات التي لا تعرف الكتابة يصعب عليها التفكير في مواضيع فلسفية كبيرة، وليس من العجب إذن إن قلنا إن كتاب الصوت لا يتحدث إلاّ في أفكار يستطيع استرجاعها، "أنا أفكر في الذي أستطيع أن أتذكره لأنني فاقد القلم" لذلك مثلاً لم نجد عند القدماء الجاهليين مشاريع فلسفية عظيمة، ففي كتاب الصوت إذن "أنت تعرف ما يمكنك تذكره فلا تستطيع أن تفكر في مشكلة معقدة وأن توجد لها حلاً معقداً نسبياً مكوَّناً من مئات الكلمات، فكيف تحتفظ بهذا الكل الذي بذلت فيه ما بذل في عناء الصياغة والتنقيح لكي تستعيده فيما بعد. ثم أن كتاب الصوت كثير التكرار، فهو يكرر من جهتين:
الأولى: تتجلى في إعادة أفكاره التي طرحها،
والثانية: في تكرار مترادفات تؤدي نفس المعنى،
لأن الكتاب الصوتي لا يوجد إلا عندما يكون في طريقه إلى انعدام الوجود، إنه ببساطة سريع الزوال، ولأن كتاب الصوت غير مدون يصعب الرجوع إلى الفكرة فيضطر الراوي مثلا أن يعيد أفكاره على الأقل كي يتواصل معه من جاء متأخرا، أما بالنسبة لتكرار المترادفات فإنه يعود بالدرجة الأولى إلى أن التكرار يسهل معنى العبارة، فقد تغيب معنى كلمة عن مستمع ما، لكن المترادفات العديدة تساعده في فهم العبارة في كتاب الصوت،جاء في العينة: "إنه كان كثيرا ما يقلب تصويته ويبدل أساليبه مع أنها تؤدي نفس المعنى ومازال يسجع".(1/9)
....ثم أن في كتاب الصوت، يستطيع السامع فيه أن يتفاعل مع القائل، وأن يسائله ويجادله لأن القائل حاضرا أمامه ولا يمكن هذا في المجتمعات المتحضرة، فأنا حينما أقرأ كتابا لا أسائل مؤلفه إطلاقا، بل أسائل أفكاره وسوف نتطرق لهذا في حينه،جاء في العينة: "والناس يتفاعلون معه، وأحيانا يحدثوه ويجادلوه".
علاوة على ذلك ففي كتاب الصوت لا يكون للكلمات حضورها البصري، حتى تكون الأشياء التي تمثلها بصرية، إنها أصوات تستطيع أن تستوعبها مرة أخرى كذلك أو تتذكرها، لكن ليس ثمة مكان تستطيع فيه أن تبحث عنها بعينك، كذلك ليس للكلمات في كتاب الصوت بؤرة تركيز ترى من خلاله ولا أثر يتبع بل ليس لها منحى سير يرصد، إنها مجرد وقائع وأحداث.
ثم أنه ليس ثمة طريقة لإيقاف كتاب الصوت وتثبيته، لأنه ببساطة صوت، لكنك تستطيع أن تثبت الكلمات بكتابتها على الورقة، وبتلاعب بسيط مع فكرة مالينوفسكين نقول: إن كتاب الصوت يشكل أسلوباً للفعل وليس مجرد علامة مقابلة للفكر كما هو في المجتمعات المتطورة، فالكلمات في كتاب الصوت حاملة لقوة عظيمة فلا يمكن أن يصدر دونما استخدام القوة، إليك مثالا على ذلك: إن الإنسان القديم الذي يعتمد على كتاب الصوت فإنه بمجرد أن يسمع صوتا ما، لنقل مثلاً صوت الأسد، فإنه يحذر ويحترس، فالصوت عنده هو الفعل وهو السحر أيضا، إذ إن كثيرا من الثقافات الشفاهية كانت تقدس الكلمة، وللكمة دور في خرق العادة عندهم.
نريد أن نذكر قبل أن ننتقل للكتاب المخطوط إلى:
....الكتاب الصوتي يجعل موقفه من القائل وليس من المقول.
....الكتاب الصوتي يجلّ من قدر الأجداد، الحق معهم دوما لأنه مضطر لذلك، فالخبرة دوما يحتضنها الكبار إن كان المجتمع أمّيا فاقدا للتدوين.
....الكتاب الصوتي إنساني لأنه مع التواصل، فهو لا ينشأ في خلوة أبدا.
....الكتاب الصوتي يحفل بالسماع، فأي فريق يعتمد على الصحف غير مرغوب فيه، إنه صُحفي، وحذار من الاعتماد على من يحبّر.(1/10)