فارس العرب عمرو بن معد يكرب
إنه الصحابي الجليل أبو ثور عمرو بن معد يكرب الزُّبَيْدي -رضي الله عنه- الشاعر والفارس، اشتهر بالشجاعة والفروسية حتى لُقِبَّ بفارس العرب، وقد شارك في فتوح الشام والعراق، ولم يتخلف عن حرب مع المسلمين ضد أعدائهم قط.
ومما يروى عن إسلامه، أنه قال لصديقه قيس بن مكشوح حينما بلغهما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قد ذُكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد، قد خرج بالحجاز، يقول: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى ننظر أمره، فإن كان نبيًّا كما يقول؛ فإنه لن يخفي عليك، وإن كان غير ذلك؛ علمنا، فرفض قيس ذلك، فذهب هو إلى المدينة، ونزل على سعد بن عبادة، فأكرمه، وراح به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. وقيل: إنه قدم المدينة في وفد من قومه زُبَيْد، فأسلموا جميعًا.
وفي يوم اليرموك حارب في شجاعة واستبسال يبحث عن الشهادة، حتى انهزم الأعداء، وفروا أمام جند الله. وقبيل معركة القادسية طلب قائد الجيش
سعد بن أبي وقاص مددًا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليستعين به على حرب الفرس، فأرسل أمير المؤمنين إلى سعد رجلين فقط، هما: عمرو بن معد يكرب، وطليحة بن خويلد، وقال في رسالته لسعد: إني أمددتك بألفي رجل.[الطبراني].
وعندما بدأ القتال ألقى عمرو بنفسه بين صفوف الأعداء يضرب فيهم يمينًا ويسارًا، فلما رآه المسلمون؛ هجموا خلفه يحصدون رءوس الفرس حصدًا، وأثناء القتال وقف عمرو وسط الجند يشجعهم على القتال قائلاً: يا معشر المهاجرين كونوا أسودًا أشدَّاء، فإن الفارس إذا ألقى رمحه يئس.
فلما رآه أحد قواد الفرس يشجع أصحابه رماه بنبل، فأصابت قوسه ولم تصبه، فهجم عليه عمرو فطعنه، ثم أخذه بين صفوف المسلمين، واحتز رأسه، وقال للمسلمين: اصنعوا هكذا. وظل يقاتل حتى أتمَّ الله النصر للمسلمين.[الطبراني].
وفي موقعة نهاوند، استعصى فتح نهاوند على المسلمين، فأرسل عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن قائد الجيش قائلاً: اسْتَشِر واستعن في حربك بطلحة وعمرو بن معد يكرب، وشاورهما في الحرب، ولا تولِّهما من الأمر شيئًا، فإن كل صانع هو أعلم بصناعته. وقاتل عمرو في هذه المعركة أشدَّ قتال حتى كثرت جراحه، وفتح الله على المسلمين نهاوند، وظفر عمرو في تلك المعركة بالشهادة، ودفن بقرية رُوذَة من قرى نهاوند.
ــــــــــــــ(1/261)
شبيه عيسى عروة بن مسعود
إنَّه عروة بن مسعود الثقفي أحد أكابر قومه، وكان أحد الذين أرسلتهم قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية ليفاوضه، ويومها قال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم : أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك. [البخاري].
ثم رجع عروة إلى أهل مكة، وقال: إني رأيت من أصحاب محمد العجب، فوالله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلَّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فكان لعروة اليد البيضاء في تقرير الصلح يوم الحديبية.
وروى أن عروة بن مسعود ظل على شركه حتى عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على فتح الطائف، وجهز النبي صلى الله عليه وسلم سرية من أصحابه، وخرج معهم إلى ثقيف، التي تحصنت بحصون عظيمة، فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم بسريته حول الحصن عدة أيام، فلما وجد أن الحصار لا يفيد قرر العودة إلى المدينة، فلحق به عروة سيد ثقيف، فأسلم وحسن إسلامه، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن فعلت فإنهم قاتلوك)، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحبُّ إليهم من أبصارهم، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم .
ورجع عروة إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، ولكنهم غضبوا منه وسبوه، وأسمعوه ما يكره، وفي فجر اليوم التالي صعد عروة فوق سطح غرفة له وأذن للصلاة، فخرجت إليه ثقيف، ورموه بالنبل من كل اتجاه، فأصابه سهم فوقع على الأرض، فحمله أهله إلى داره، وهناك قيل لعروة: ما ترى في دَمِكَ؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فلما علم ( بما حدث لعروة قال: (مَثَلُ عروة في قومه مَثَلُ صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه) [الطبراني].
وقال صلى الله عليه وسلم : (عُرض عليَّ الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم -عليه السلام- فإذا أقرب مَنْ رأيت به شبهًا عروة بن مسعود. [مسلم].
ــــــــــــــ(1/262)
معمر البصرة عتبة بن غزوان
إنه عتبة بن غزوان أحد الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنًا، سابع سبعة سبقوا إلى الإسلام، وبسطوا أيديهم مبايعين رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ومُتحدِّين قريشًا بكل ما معها من قوة وبأس، وتحمل مع إخوانه عذاب قريش واضطهادها.
هاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فلم يطق فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وسرعان ما رجع ليبقى بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى حان موعد الهجرة إلى المدينة، فهاجر مع المسلمين، ولكن قريشًا لم تهدأ بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، بل بدأت في محاربة الإسلام، واصطدمت مع المسلمين في بدر، فحمل عتبة سلاحه ليضرب به رءوس الكفر، وظل رافعًا سلاحه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل لقاءاته مع المشركين لا يتخلف عن جهاد، أو يتكاسل عن معركة.
وبقى عتبة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدًا في سبيل الله، فقد أرسله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أرض البصرة لقتال الفرس في الأُبُلَّة، وليطهر أرضها من رجسهم. ومضى عتبة بجيشه إلى الأبلة، والتقى بأقوى جيوش الفرس، ووقف عتبة أمام جنوده حاملاً رمحه بيده، وصاح: الله أكبر. تلك الكلمة التي زلزلت الأرض من تحت أقدام الفرس، وما هي إلا جولات مباركة حتى استسلمت الأبلة، وطهرت أرضها من الكفر، وتحرر أهلها من طغيان الفرس.
وبعد فتح الأبلة، أسس عليها عتبة مدينة البصرة، وبني فيها مسجدًا كبيرًا، وبقى عتبة -رضي الله عنه- بالبصرة يصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ضاربًا لهم أروع مثال في الزهد والورع.
عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِىِّ قَالَ خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لاَ زَوَالَ لَهَا فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِى فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا لاَ يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا وَوَاللَّهِ لَتُمْلأَنَّ أَفَعَجِبْتُمْ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِى سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ وَإِنِّى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ فِى نَفْسِى عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلاَّ تَنَاسَخَتْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الأُمَرَاءَ بَعْدَنَا.رواه مسلم
__________
معانى بعض الكلمات :
آذن : أعلم
حذاء : مسرعة الانقطاع
الأشداق : جوانب الفم
الصبابة : البقية اليسيرة من الشراب تبقى أسفل الإناء
الصرم : الانقطاع والذهاب
قرحت : خرجت بها قروح
الكظيظ : الممتلئ المزحوم
وظل عتبة -رضي الله عنه- واليًا على البصرة حتى جاء موسم الحج، فخرج حاجَّا بعدما استخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، ولما فرغ من حجه، سافر إلى المدينة، وطلب من أمير المؤمنين عمر أن يعفيه من الإمارة، ولكن أمير المؤمنين رفض أن يعفيه منها، ولم يكن أمام عتبة إلا الطاعة، فأخذ راحلته ليركبها راجعًا إلى البصرة، واعتلى ظهرها، ثم دعا ربه قائلاً: اللهم لا تردّني إليها.
فاستجاب الله دعاءه، فسقط من على راحلته، فمات وهو في طريقه بين مكة والبصرة، وكان ذلك سنة ( 17هـ).
ــــــــــــــ(1/263)
أفضل من قدم البصرة عمران بن حصين
إنه الصحابي الجليل أبو نُجيد عمران بن حصين -رضي الله عنه-، صاحب راية خزاعة يوم الفتح. أسلم عام خيبر، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام والجهاد، وكان صادقًا مع الله ومع نفسه، ورعًا زاهدًا مجاب الدعوة، يتفانى في حب الله وطاعته، كثير البكاء والخوف من الله، لا يكف عن البكاء ويقول: يا ليتني كنت رمادًا تذروه الرياح. [ابن سعد].
بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى البصرة، ليعلم أهلها أمور دينهم، وفي البصرة أقبل عليه أهلها يتعلمون منه، وكانوا يحبونه حبًّا شديدًا، لورعه وتقواه، وزهده، حتى قال الحسن البصري وابن سيرين -رضي الله عنهما-: ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد يفضل عمران بن حصين. ولاه أمير البصرة أمر القضاء مدة من الزمن، ثم طلب من الأمير أن يعفيه من القضاء، فأعفاه، فقد أراد ألا يشغله عن العبادة شاغل حتى ولو كان ذلك الشاغل هو القضاء. ولما وقعت الفتنة بين المسلمين وقف عمران بن حصين محايدًا لا يقاتل مع أحد ضد الآخر، وراح يدعو الناس أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، ويقول: لأن أرعى غنمًا على رأس جبل حتى يدركني الموت، أحب إليَّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب. وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلاً: الزم مسجدك، فإن دُخل عليك فالزم بيتك، فإن دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله.ويضرب عمران بن حصين أروع مثل في الصبر وقوة الإيمان، وذلك حين أصابه مرض شديد ظل يعاني منه ثلاثين عامًا، لم يقنط ولم ييأس من رحمة الله، وما ضجر من مرضه ساعة، ولا قال: أف قط، بل ظل صابرًا محافظًا على عبادة الله، قائمًا وقاعدًا وراقدًا وهو يقول: إن أحب الأشياء إلى نفسي أحبها إلى الله. وأوصى حين أدركه الموت قائلاً: من صرخت عليَّ، فلا وصية لها. وظل عمران بن حصين بالبصرة حتى توفي بها عام (52هـ) وقيل: ( 53هـ).
ــــــــــــــ(1/264)
المجدع في الله عبد الله بن جحش
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن جحش -رضي الله عنه-، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وأخو السيدة زينب بنت جحش زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم :، كان من السابقين إلى الإسلام، حيث أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وقد عذب عبد الله في سبيل الله، إلى أن خرج مهاجرًا إلى الحبشة مع المسلمين المهاجرين إليها فرارًا بدينه، ثم دعاه الحنين إلى مكة فعاد إليها مع العائدين من الحبشة، وظل بها صابرًا على ما يلاقيه من أذى، حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فسارع بالهجرة تاركًا في مكة دارًا عظيمة البنيان، تطل على الكعبة، فهجم المشركون على داره وباعوها وقبضوا ثمنها، ولما علم قومه بذلك تأثرت نفوسهم، وغضبوا غضبًا شديدًا، فطمأنهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا الله أن يعوضهم دارًا خيرًا منها في الجنة ففرحوا بذلك.
وبعد أن استقر المقام ب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بعث سرية من المسلمين لترصُّد عير قريش القادمة من الشام وتعرف أخبارها، وقال للصحابة الذين تجهزوا لهذه السرية: (لأبعثن عليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش)، ثم اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش، وجعله أميرًا على أول سرية يبعثها، وأعطاه كتابًا، وطلب منه ألا يفتحه إلا بعد أن يسير بأصحابه يومين، وسار عبد الله بالسرية.
وبعد يومين فتح الرسالة فإذا مكتوب فيها: (إذا نظرت في كتابي هذا؛ فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشًا وتعلم لنا أخبارهم). وعندما قرأ عبد الله الرسالة تهلل وجهه بالفرح، وقال: سمعنا وأطعنا، والتفت إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وقال لهم: نهاني رسول الله أن استكره أحدًا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها؛ فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع. [ابن هشام].
ولما وصلوا إلى المكان الذي وصفه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ترصدوا لعير قريش حتى قدمت وفيها أربعة من الكفار، فاستشار عبد الله بن جحش أصحابه في قتالهم، فوافقوا على ذلك، فهجموا على المشركين، وقتلوا واحدًا، وأسروا اثنين، و فرَّ الرابع، وكان ذلك في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة، وأول ليلة من شهر رجب (أحد الأشهر الحرم).
وأشاعت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحرب في الأشهر الحرم، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، وعاتب عبد الله بن جحش وأصحابه، لكن الله سبحانه أنزل في ذلك قرآنًا، قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل}[البقرة: 217].
ففرح عبد الله وأصحابه ببراءة الله لهم، وكان عبد الله قد غنم في هذه السرية، فقسم الغنائم، وأعطى للرسول ( خمس الغنيمة، ولم تكن آية الأنفال قد نزلت، فكان عبد الله أول من أعطى الخمس لرسول الله في الإسلام، ثم أنزل الله بعدها قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41]، ثم جاءت غزوة بدر فأبلى فيها عبد الله بلاء حسنًا، وأظهر شجاعة وفروسية، حتى تحقق نصر الله للمسلمين. [ابن هشام].
وفي غزوة أحد، وقف عبد الله بن جحش مع سعد بن أبي وقاص يستعدان للمعركة، وكل منهما يدعو ربه، فدعا سعد ربه أن يرزقه رجلاً شديدًا يقتله في سبيل الله، ويأخذ غنيمته، فأمن عبد الله على دعاء سعد، وتوجَّه هو إلى ربه في دعاء خاشع قال فيه: اللهم ارزقْني رجلاً شديدًا حرده (بأسه)، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني (يقتلني) فيجدع (يقطع) أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا (يوم القيامة) قلت: من جَدَعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك (، فتقول: صدقت.
وأمن سعد على دعائه، ثم انطلقا إلى ساحة القتال، وعلم الله فيه صدق النية وإخلاص القلب والرغبة الحقيقية في الاستشهاد في سبيل الله، فاستجاب دعاءه، فقاتل في سبيل الله، وأظهر الشجاعة والبسالة، حتى إن سيفه كسر من كثرة قتله للمشركين، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عرجون نخلة (العرجون أصل الأقرع التي تجمع البلح)، فتحول هذا العرجون الضعيف في يده سيفًا صارمًا يقاتل به الأعداء، وبعد طول قتال رزقه الله الشهادة في سبيله؛ حيث هجم عليه أحد المشركين، وضربه بسيفه ضربة شديدة؛ فاضت بعدها روحه إلى بارئها، ثم قام هذا المشرك بقطع أنفه وأذنه، فسُميَّ المجدَّع في الله صلى الله عليه وسلم :أي المقطوع الأنف والأذن). ولما رآه سعد بن أبي وقاص على تلك الهيئة قال: كانت دعوته خيرًا من دعوتي.
وكان عمره آنذاك بضعًا وأربعين سنة، ودفن -رضي الله عنه- بجوار أسد الله حمزة في قبر واحد، بعد أن صلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
ــــــــــــــ(1/265)
داعية في الإسلام عمير بن وهب
إنه عمير بن وهب -رضي الله عنه-، كان واحدًا من قادة قريش، وبطلاً من أبطالها، كان حادَّ الذكاء، وداهية حرب، طلب منه أهل مكة يوم بدر أن يستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقائهم، ويعرف مدى استعدادهم.
فانطلق هذا الداهية يترقب حول معسكر المسلمين، ثم رجع يقول لقومه: إنهم ثلاثمائة رجل، أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وكان تقديره صحيحًا، ثم سأله قومه: هل وراءهم مدد أم لا؟ فقال: لم أجد وراءهم شيئًا، ولكنى رأيت قومًا وجوههم كوجوه الحيات، لا يموتون حتى يقتلوا منا أعدادهم، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم.
والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير العيش بعد ذلك؛ فانظروا رأيكم. فتأثر عدد من زعماء قريش بكلامه، وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون إلى مكة بغير قتال، لولا أن أبا جهل أيقظ في نفوس الكفار نار الحقد، وأشعل نار الحرب، ولما نشبت المعركة كان عمير بن وهب أول من رمى بنفسه عن فرسه بين المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين على قريش، وعادت قوات قريش إلى مكة تجر خيبتها وراءها.
وبعد بدر، أقبل عمير بن وهب على ابن عمه صفوان بن أمية وهو جالس في حجر الكعبة، وأخذا يتذكران ما حل بأهل مكة يوم بدر، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر، فقال عمير: صدقت، والله ما في العيش خير بعدهم، ولولا ديْن عليَّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي عنده علة (سببًا) أعتكُّ بها عليه: أقول: قدمت من أجل ابني هذا الأسير، وكان ابنه وهب قد أسر يوم بدر، ففرح صفوان وقال له: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم وأرعاهم.
فقال عمير لصفوان: اكتم خبري أيامًا حتى أصل إلى المدينة، ثم جهز عمير سيفه وسنَّه، وجعله حادًا، ووضع عليه السم، ثم انطلق حتى وصل إلى المدينة، وربط راحلته عند باب المسجد، وأخذ سيفه، وتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فرآه عمر بن الخطاب، فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب جاء رافعًا سيفه، لا تأمنه على شيء، فقال ( لعمر: (أدخله عليَّ).
فخرج عمر، وأمر بعض الصحابة أن يدخلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحترسوا من عمير، وأمسك عمر بثياب عمير، ودخل به، فقال ( لعمر: (تأخَّر عنه (أي اتركه وابتعد عنه))، وقال لعمير: (اقترب يا عمير)، فاقترب عمير من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال: انعموا صباحًا (وهى تحية الجاهلية)، فقال له صلى الله عليه وسلم : (قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة).
ثم سأله صلى الله عليه وسلم : (فما جاء بك يا عمير؟) فقال عمير: جئت لهذا الأسير عندكم (يقصد ابنه وهبًا)، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فما بال السيف في عنقك؟) قال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟! إنما نسيته في عنقي حين نزلت، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له؟) فقال عمير: ما جئت إلا في طلب أسيري.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة، ثم قلت: لولا دين عليَّ وعيال عندي؛ لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان ذلك، والله حائل (مانع) بينك وبين ذلك)، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر، لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، ففرح المسلمون بإسلام عمير فرحًا شديدًَا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا أسيره) [ابن هشام وابن جرير].
هكذا أسلم عمير بن وهب، وأصبح واحدًا من أولئك الذين أنعم الله عليهم بالهدى والنور، يقول عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما أسلم: والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحب إلي من عمير حين طلع علينا (حين رآه في المدينة وهو قادم على الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتله)، ولهو اليوم أحب إلي من بعض ولدي.
وبعد أيام قليلة، ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله، إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وإني أحب أن تأذن لي فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله أن يهديهم، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي الوقت الذي آمن فيه عمير بالمدينة، كان صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح يأتيكم بعد أيام ينسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يخرج كل صباح إلى مشارق مكة يسأل القوافل القادمة من المدينة: ألم يحدث بالمدينة أمر؟ هل قتل محمد؟ وظل على هذا النحو حتى قال له رجل قدم من المدينة: لقد أسلم عمير. فغضب صفوان أشد الغضب، وحلف أن لا يكلم عميرًا أبدًا، ولا يعطي له ولا لأولاده شيئًا.
وعاد عمير بن وهب إلى مكة مسلمًا، وراح يدعو كل من يقابله من أهل مكة إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد كبير، ورأى صفوان بن أمية، فأخذ ينادي عليه، فأعرض عنه صفوان، فسار إليه عمير وهو يقول بأعلى صوته: يا صفوان أنت سيد من سادتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له؟ أهذا دين؟ اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. فلم يردَّ عليه بكلمة.
وفي يوم فتح مكة، لم ينس عمير صاحبه وابن عمه صفوان بن أمية، فراح يدعوه إلى الإسلام، فشد صفوان رحاله نحو جدة، ليذهب منها إلى اليمن، وصمم عمير أن يسترد صفوان من يد الشيطان بأية وسيلة، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مسرعًا، وقال له: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هاربًا منك، ليقذف بنفسه في البحر فأمنه (أي أعطه الأمان)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد أمنته)، فقال عمير: يا رسول الله، أعطني آية (علامة) يعرف بها أمانك، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة.
فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان وهو يريد أن يركب البحر. فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به. فقال له صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فقال عمير: أي صفوان، فداك أبي وأمي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، عزه عزك، وشرفه شرفك. فقال صفوان: إني أخاف على نفسي، فقال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
فرجع معه وذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (صدق)، فقال صفوان: فاجعلني فيه (أي في الإيمان) بالخيار شهرين. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (بل لك تسير أربعة أشهر) [ابن هشام].
وتحققت أمنية عمير وأسلم صفوان، وسَعِد عمير بإسلامه، وواصل عمير بن وهب مسيرة في نصرة الإسلام، حتى أصبح من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ونال عمير احترام خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم وعاش عمير بن وهب حتى خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
ــــــــــــــ(1/266)
الشدائد تصهر معادن الرجال
الشدائد تصهر الرجال وتظهر حقائقهم، فبقدر الصبر وتحمل الشدائد تقاس الهمم، وتاريخ الإسلام حافل بالشخصيات البارزة التي ثبتت على دين الحق وعانت من أجل الحفاظ عليه الكثير، فهذا مصعب بن عمير عندما عاد من المدينة إلى مكة، كان أول شيء فعله نزوله على النبي ص، فلما علمت أمه غضبت غضباً شديداً، وقالت: ويلك يا عاق، لقد غبت عني ستة أشهر، ثم جعلت أول نزولك على ذلك الصابئ الذي فرَّق بين الآباء والأبناء، وبين الأبناء والآلهة، فقد عاب آباءنا، وسفَّه عقولنا، والله يا عاق لن أذوق الطعام والشراب ولن أجلس في الظل حتى أموت أو تعود عن دين محمد إلى دين آبائك وأجدادك، فتركها وذهب إلى رسول الله ص، ومر اليوم الأول فلم تذق ماءً ولا طعاماً، وألقت بنفسها في حر الشمس الحارقة.
وجاء إخوته وزعماء العشيرة يطلبون منه أن يعود إلى أمه ودينه، ولكنه أبى، فلما أوشكت على الهلاك قال: "يا أماه والله لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت دين محمد إلى دينكم، كلي أو لا تأكلي"، فلما رأت ثباته وصبره، عادت وأكلت وشربت وجلست في الظل وضربت كفاً بكف.
إنه الثبات على الحق.. والصدق في الإيمان.. والقوة في العقيدة، فياليتنا نتأسى بهذه النماذج الرائعة في الثبات على الحق وعدم الرجوع عنه مهما كانت المحن والشدائد، فتتحقق أمانينا وتصان كرامتنا وحريتنا وننال أعظم الأجر يوم اللقاء.=>
ــــــــــــــ(1/267)
بين العمل الجماعي والدور الفردي
د. فتحي يكن
الدعوة إلى الإسلام رسالة كل مسلم في الحياة.. وعلى كاهل كل مسلم صغيراً كان أو كبيراً دور إسلامي رسالي، ينبغي أن ينهض به، التزاماً بمبادئه، وحملاً لرسالته، ونشراً لدعوته، وجهاداً في سبيله تعالى.
والمسلم يجب أن يعد نفسه لهذه المهمة الكريمة وهذا الدور العظيم، فتى يافعاً وشاباً نافعاً ورجلاً مقدّراً وكهلاً موقراً.
على مثل ذلك درج آباؤنا الأولون وأسلافنا الصالحون رضي الله عنهم وإرضاهم أجمعين.
فكان منهم الصغار الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب.. والشبان الذين نبغوا في علوم القرآن والسنة والفقه والكثير من العلوم الإنسانية الأخرى.
وكان منهم الدعاة الذين فتحوا القلوب وأسروا العقول كسيدنا مصعب بن عمير الذي انتدبه رسول الله ص داعية إلى المدينة ولما يبلغ الثامنة عشرة من عمره.
وكان منهم الفتيان الذين قادوا الجيوش وخاضوا المعارك وهم بين يدي سن الحلم أو ما يعرف اليوم بسن المراهقة، كسيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعاً.
مجالات الدعوة المناسبة
أما مجالات الدعوة المناسبة لمن هم في سن الشباب، فهي كل ما يقتضيه وجوب معرفتهم به من الدين بالضرورة، وهو بالتالي ما يحتاجه أقرانهم ورفاقهم كذلك، ووفق أولويات التكليف الشرعي.
فلابد ابتداء من التعريف بأركان الإيمان وأركان الإسلام، معرفة وتدبراً وتطبيقاً، فهي كالأساس الذي لابد منه لاستكمال جوانب الإسلام المختلفة التي لا تصح ما لم تكن العقيدة سليمة.
ثم لابد بعد ذلك من تناول أركان الإسلام، من خلال التوقف عند كل ركن منها فقهاً والتزاماً، مع التركيز والتأسيس ابتداءً على الصلاة، فالصلاة كما يقرر المصطفى ص "عمود الدين وعماده، فمن هدمها هدم الدين" والصلاة كما يؤكد عليه الصلاة والسلام "العهد بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
يلي ذلك من حيث الأهمية في هذه المرحلة من العمر التركيز على الأثر السلوكي والأخلاقي الذي يجب أن تتركه هذه العبادات في حياتنا، ففي الصلاة إن الصلاة تنهى" عن الفحشاء والمنكر (العنكبوت:45) وفي الصيام "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وهكذا في كل الأركان الأخرى.
ثم إن من أولويات ما يجب التركيز عليه في هذه السن، حسن العلاقة بالأهل والأقرباء وعموم الناس وبخاصة الأبوان، وذلك للأولوية التي اختصهما الشرع بها حيث قال تعالى وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى" واليتامى" والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون 83 (البقرة).
وفي هذه المرحلة يمكن للشاب أن يمارس الدعوة في مدرسته وبين زملائه، وبين أشباهه من أشقائه وشقيقاته وأقربائه وجيرانه، وهكذا تتوسع الدائرة يوماً بعد يوم، بقدر ما تنمو إمكاناته وتجربته، ويتكاثر معارفه، من غير استعجال لخطوة قبل أوانها، كي لا يعاقب بحرمانها، وصدق رسول الله ص حيث يقول: "رحم الله امرأ عرف حده ووقف عنده".
في هذا الزمن الذي كثرت فيه المغريات وتنوعت وتشعبت، وتكاثر فيه الداعون على أبواب جهنم، والذي بات فيه أهل الإيمان غرباء عن واقعهم، والذي أصبح القابضون فيه على دينهم كالقابضين على الجمر، والذي غدت فيه الفتن كقطع الليل المظلم تجعل الحليم حيران، يطالعنا قول الله تعالى بالخطاب القرآني المضيء، محدداً الطريق، قائلاً: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا 28 (الكهف).
إنها صحبة الأخيار ومعايشة الأبرار.. إنه تأسيس تلقائي لمجتمع صغير محصن، وبيئة نظيفة طاهرة غير ملوثة، يتذاكر أهلها الخير ويعيشونه، معتصمين بحبل الله تعالى، مسترشدين بمن سبقهم إلى هذه الواحة ممن هدى الله، فبهداهم اقتده أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون 67 ومن أظلم ممن \فترى" على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين 68 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69 (العنكبوت)
وجوب العمل للإسلام والدعوة إلى الله
1 وجوبه مبدأ: بدليل قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (المائدة:67) وقوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون 104 (آل عمران) وقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران:110) وقوله: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين 33 (فصلت).
وبدليل ما روي عنه ص: "أنتم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله، ثم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل، وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك، فلا تأمرون بمعروف، ولا تنهون عن منكر، ولا تجاهدون في سبيل الله، القائمون يومئذ بالكتاب والسنة لهم أجر خمسين صديقاً" (كنز العمال) وقوله: "بلغوا عني ولو آية " وقوله: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا ومن فيها".
2 وجوبه حكماً: بدليل القاعدة الشرعية: "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فالتغيير واجب.. والحكم بما أنزل الله واجب.. وتحكيم شرع الله في شأن من شؤون الحياة واجب.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب..
2 وجوبه ضرورة: من أجل إصلاح البشرية مصداقاً لقوله تعالى: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله (هود:88) ولمواجهة أعداء الله وهي سنة إلهية ماضية إلى يوم القيامة ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض (البقرة:141) ثم لإقامة الحجة والشهود على الناس بالإسلام، مصداقاً لقوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة:143).
بين العمل الجماعي والدور الفردي (2من 2)
وجوب الدعوة فردياً
التكاليف الشرعية تطال كل فرد بدليل قوله تعالى: إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95) (مريم) وقوله: كل نفس بما كسبت رهينة 38 (المدثر) وقوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى" (الأنعام:164).
وبدليل قوله ص: "يافاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً".
وجوب العمل والدعوة جماعياً:
حجية عمل الرسول والأنبياء في جماعية العمل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (الأحزاب:21)
حجية عمل الأنبياء في جماعية العمل، وقول موسى لربه: واجعل لي وزيرا من أهلي 29 (طه).
الخطاب القرآني إذا لقيتم فئة (الأنفال:45) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون 104 (آل عمران:) وتعاونوا على البر والتقوى" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (التوبة:2).
صعوبة البناء ومشاق عملية التغيير تفرض الجماعية مصداقاً لقوله تعالى: سنشد عضدك (القصص:35)
صعوبة التحدي وجماعيته تفرض الجماعية: انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله (التوبة:41).
الجماعية ضمان للاستمرار: أبرك الأعمال أدومها.
الجماعية ضمان للجودة: "لاتجتمع أمتي على ضلالة".
الجماعية تضمن الاستقامة واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه (الكهف:28)
الدور الفردي في العمل الجماعي: من شروط العمل الجماعي:
كتبت وكتب الكثيرون عن العمل الإسلامي الجماعي.. عن وجوبه وضرورته، وأنه السبيل الوحيد لاستنهاض الأمة، وعودتها إلى ممارسة دورها الرسالي في هداية البشرية، وقيادتها إلى الطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور..
وكان يُشار دائماً ويؤكّد على أن القاعدين عن العمل الجماعي متخلفون عن الركب، راضون بالحياة الدنيا من الآخرة، فارّون من الزحف، معطّلون لفريضة الجهاد.. وأنهم بذلك آثمون يتحمّلون وزر قعودهم وتخلّيهم..
أذكر يومها وكان ذلك في الخمسينيات والستينيات أن الوافدين إلى ساحة العمل كانوا يعملون.. وكان لكل منهم دور بحسب طاقاته وإمكاناته. وكنا ندرك آنذاك أن العمل الجماعي هو مجموع الأدوار والمهمات الفردية لأعضاء التنظيم.
كان التركيز يومها على أن العمل للإسلام تكليف رباني، يطال الأفراد فرداً فرداً.. وأن التنظيم إنما هو مفعّل لهذه الأدوار الفردية، مصنف ومخطط لها، وموجّه إياها في جوانب العمل المختلفة... كان الجميع يعمل، وكان كل فرد على ثغرة من ثغرات العمل، وفي هذا فليتنافس المتنافسون..
مناهج التربية عبر "المحاضن الدعوية الحركية" كانت تركّز على ذلك.. على "دور الفرد" في تربية نفسه، وأهل بيته.. وعلى مسؤوليته في نشر دعوته في محيطه ومجتمعه، وعلى قيامه بالواجبات المناطة به بحسب الخطط الموضوعة والسياسات المرسومة..
كان هذا قائماً يوم لم يكن هنالك ما يسمى "صحوة إسلامية".. يوم كان الإسلام في قفص الإتهام.. وكان الإسلاميون قلة، والدعاة نذرا ًيسيراً، لو عدّهم العاد يومذاك على امتداد العالم الإسلامي لأحصاهم.
هكذا انطلقت ورشة العمل الجماعي، من خلال مشاركات الجميع، وبجهود الكل على تواضعها، ولكنها صادقة مع الله، مخلصة لله، مضحية بكل شيء، مستعذبة الموت في سبيله، معتلية أعواد المشانق، فرحة بلقاء الله.. شعارها: "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.." وشعارها:
إن حيينا فعلى مجد أصيل
أو فنينا فإلى ظل ظليل
حسبنا أنا سنمضي شهداء
ولما تغيّر الحال.. وانجلت المحنة.. وسقطت رايات الجاهلية.. واختفت معظم الحركات الظلامية عن ميادين العمل.. لم يثبت في الميدان إلا (حركة الإخوان) كما جاء في كتاب " يا ولدي هذا عمك جمال" لأنور السادات كان ذلك إيذاناً ببداية صحوة إسلامية عمت أرجاء العالم، في أعقاب انهيار الفكر القومي، والاشتراكي، والشيوعي وغيره..
لم يأت هذا من فراغ وبدون دفع ثمن! فلقد بذل رجال الحركة الإسلامية دماءهم رخيصة في سبيل الله، وهم واثقون بأن إخوانهم من بعدهم ماضون، ومنصورون، وأنهم هم الغالبون بإذن الله..
أولم ينظم أحدهم هذه الأبيات وهو في طريقه إلى المشنقة:
أخي ستبيد جيوش الظلام
ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك أشواقها
ترى الفجر يرمقنا من بعيد
فهل كنا على مستوى هذه النعمة وهذا العطاء؟
الكلام يطول.. إنما أريد أن أبقى ضمن دائرة العنوان المحدد (الدور الفردي في العمل الجماعي)..
ماذا أصاب هذا الدور؟
لماذا.. تراجُع وانحسار وتعطّل الدور الفردي في نطاق العمل الجماعي؟
لماذا قلة من الأفراد مستهلكة وكثرة منهم متفرّجة، إن لم تكن معرقلة ومثبطة؟
هل يعود السبب إلى أن الفئة الممسكة بمقاليد الأمور، لا تتابع الأفراد، ولا تشجع المبادرات الفردية؟ أم يعود إلى أن الكثرة مات لديها الحس بالمسؤولية لانشغالها بالدنيا وعرضها الزائل؟
أسئلة كثيرة مطروحة في وجوهنا جميعاً قيادات وأفراداً تنتظر إجابات محددة وواضحة، وحلولاً ناجعة..
من الملامح والآثار المرضية لهذه الظاهرة:
تكدّس الأعمال والأعباء فوق كاهل عدد من الأشخاص، واستحالة قيامهم بها على الوجه الصحيح..
تكاثر الأخطاء في مسيرة العمل واهتزاز الثقة بالتنظيم..
نشوء حالة من اللامبالاة في صفوف القاعدة، يخشى أن تتحوّل تدريجياً إلى عصيان وتمرّد، أو انكفاء وهروب، ويمكن أن تنتهي بترك العمل نهائياً، إن لم يكن بتحريك الفتن وشق الصفوف.
من العوامل التي تساعد على الخروج من هذا الحال:
مواكبة سنة التطور التي تفرض إعادة النظر في المناهج والسياسات والوسائل والآليات تبعاً لتغير الظروف، على قاعدة أن لكل مرحلة مقتضياتها وفقهها، وهي ليست سواء..
صياغة المناهج التربوية بما يجعلها ملامسة لجوهر التربية وأهدافها الدعوية والحركية والسياسية، وملاحظة أثرها في واقع حياة الأمة، وليس فقط في واقع حياة الحركة..
وضع مناهج وآليات لتطوير الخطاب الإسلامي، وتنظيم دورات ميدانية لتحقيق ذلك.
ملاحظة دور الأفراد الإنتاجي في العمل الجماعي، مما يؤدي إلى استيعابهم وإشراكهم في عملية الإنتاج.
ــــــــــــــ(1/268)
التضحية في سبيل الله.. صور مضيئة
د. حمدي شلبي
نصر الدين أمر تكفل الله به وحده، وذلك بنص القرآن الكريم: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) (الحجر)، وحفظ سنة رسوله ص لأنها ذكرٌ أيضاً: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون 44 (النحل).
ونصر جنوده المخلصين: وإن جندنا لهم الغالبون 173 (الصافات)، وبذا تبقى كلمة الله هي العليا، وحولها: "لا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، كما في الصحيح وغيره. والنصر والهزيمة والتوفيق والخذلان والإكرام والإهانة، ليست إلا من الله، فمن نصره الله لن يغلبه أحد، ومن خذله لا ينصره مخلوق، ومن كتب الله عليه الهوان لن يجد من يكرمه، قال تعالى: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون 160 (آل عمران)، وقال: ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء 18 (الحج).
والله متم نوره وناصر دينه بنا أو بغيرنا: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم 38 (محمد)، أو بجنود لا يعلمها إلا هو وأيده بجنود لم تروها (التوبة:40)، وما يعلم جنود ربك إلا هو (المدثر:31).
ورد الكفار على أعقابهم لن يعجز الله شيئاً: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون 59 (الأنفال)، ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم (محمد)، ولكن اقتضت حكمته أن يبلو الناس بعضهم ببعض، وينتصر هذا الدين بسبب من البشر فيكونوا ستاراً لقدرته سبحانه ومشيئته.والله عنده وحده خزائن كل شيء ومنها النصر: وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم 126 (آل عمران)، غير أنه لا ينزل إلا بقدر معلوم وقانون محكم إنا كل شيء خلقناه بقدر 49 (القمر)، ومن قوانين النصر أنه سبحانه لا ينزل إلا على المؤمنين وكان حقا علينا نصر المؤمنين 47 (الروم)، والذين قدموا الثمن وهو البذل والتضحية: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على" تجارة تنجيكم من عذاب أليم 10 تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون 11 يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم 12 وأخرى" تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين 13 (الصف).
وثمن النصر البذل والتضحية، قال الشاعر:
دفعوا ضريبة نصر الدين من دمهم
والناس تزعم نصر الدين مجانا
والتضحية، اسم لكل ما يقدمه العبد عن رضا وطيب نفس ابتغاء مرضات الله وحده.
وقد ضرب الصحابة والسلف الصالح أعظم المثل في البذل والتضحية، فاستحقوا أن ينزل الله عليهم نصره ويعز بهم دينه ونذكر من صور تضحيتهم:
أولاً: التضحية بالمال
أخذ سيدنا أبوبكر الصديق ماله كله في الهجرة وجاء والده أبو قحافة، قائلاً لبنيه: "ما أرى أبابكر إلا فجعكم في ماله" فاحتالت السيدة أسماء على جدها وكان أعمى فجعلت بعض الأحجار في كوة بالبيت، وألقت عليها ثوباً وأخذت بيد أبي قحافة ليمسها توهمه أنه مال.
وفي غزوة تبوك حين انتدب الرسول ص المسلمين لتجهيز جيش العسرة وجد عمر بن الخطاب الفرصة سانحة للتنافس مع أبي بكر في الخير فأتى بنصف ماله وإذا به يجد أبا بكر رضي الله عنه قدم ماله كله فقال: "والله لا أسبقه إلى خير أبداً".
وأعتق أبوبكر رضي الله عنه عدداً من العبيد المسلمين الضعفاء أمثال بلال بن رباح وغيره في بداية الدعوة.
وساوم الكفار صهيب الرومي على ماله أو يمنعوه من الهجره، فترك لهم ماله كله ولحق برسول الله ص في المدينة فتلقاه قائلاً: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى".
وترك المهاجرون أموالهم وديارهم في سبيل نصر الإسلام بنفوس راضية طيبة، وجهز عثمان بن عفان تسعمائة فرس بأقتابها وأحلاسها في جيش العسرة غزوة تبوك حتى يقول ص: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم"، وعبدالرحمن بن عوف كذلك.
ووقفت السيدة خديجة رضي الله عنها بجوار رسول الله ص تنصره بمالها وتصدقه بقلبها وقولها وعملها حتى قال فيها ص: "صدقتني إذ كذبني الناس، وآمنت بي إذ كفر بي الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد".
ثانياً: تقديم الخبرة والمشورة
سواء كانت هذه الخبرة رأياً صائباً، كما صنع الحباب بن المنذر مع رسول الله ص في بدر إذ أشار على الرسول ص بالنزول أدنى ماء من القوم وردم كل الآبار عدا البئر التي يعسكر عندها المسلمون، فيشرب منها المسلمون، ولا يشرب الكفار. وأشار أحد الصحابة ببناء عريش "مركز قيادة" للرسول ص يتابع من خلاله سير المعركة، فإن انتصر المسلمون في الغزوة كان بها، وإلا خفَّ الرسول إلى المدينة ليلحق بالمسلمين فيها، ويستأنف رسالته وجهاده معهم.
وأشار سلمان الفارسي على الرسول بالخندق ورفض السعدان "سعد بن الربيع وسعد بن معاذ" إعطاء غطفان تمرة واحدة من تمر المدينة.
وأنقذ خالد بن الوليد بفضل الله، ثم بخبرته العسكرية المسلمين في مؤتة من الإبادة، حين أعد خطة ناجحة للانسحاب أبقى معها على أرواح المسلمين، وكل أولئك صور من الجهاد عظيمة لا تنفك أبداً عن الجهاد بالنفس وبذلها رخيصة في سبيل الله، وربما كانت الخبرة صورة من الخدمات الصحية التي كان يؤديها جمع من الصحابيات رضوان الله عليهن مثل عائشة وأسماء ونسيبة بنت كعب ورفيدة الأسلمية التي تخصصت في الجراحة ونصب لها رسول الله ص في المسجد خيمة تعالج فيها سعد بن معاذ من جراحته.
ثالثاً: بذل الروح والنفس
والجود بالنفس أسمى غاية الجود... وهذه التضحية سمة الصحابة الأبرار من أول يوم في الدعوة، حيث لقي في بداية الدعوة أناس ربهم شهداء وفاضت أرواحهم فداءً لهذا الدين تحت العذاب الشديد أمثال سمية بنت خياط رضي الله عنها التي طعنها أبو جهل لعنه الله بحربة في موطن عفتها، فلقيت ربها شهيدة، وياسر زوجها الذي مات تحت العذاب أيضاً، وغيرهما من المستضعفين، وفي العهد المدني لقي كثير من الصحابة ربهم شهداء في معارك الإسلام في بدر وأحد والخندق ومؤتة وحنين وفي الفتوحات الإسلامية في عهود الخلافة الراشدة.
وفي بدر يسمع عمير بن الحمام رضي الله عنه رسول الله ص يبشر من قُتل في هذه المعركة بالجنة فيرمي تمرات كن في يده وينشد:
ركضاً إلى الله بغير زاد
غير التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد
إلا التقى والبر والرشاد
ويقاتل حتى يقتل.
وفي بدر أيضاً يسأل عوف بن الحارث الرسول ص: يا رسول الله: ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمس يده في العدو حاسراً "أي بلا درع" فيرمي بنفسه بين الأعداء، ويعمل فيهم سيفه حتى يقتل، وفي أحد يذيق حمزة بن عبدالمطلب المشركين ألوان النكال فيرميه وحشي بحربة فيصرعه، وتأتي هند فتأكل كبده وتمثل به "رضي الله عنه" ومر أنس بن النضر بين المسلمين في أحد صارخاً: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء "يعني المشركين"، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء "يعني المسلمين" ويقول: "واهاً لريح الجنة، إني أشم رائحة الجنة من وراء هذا الجبل"، ويقاتل المشركين حتى يقتل وما يعرفه أحد بعد موته من كثرة الطعن إلا أخته، عرفته بعلامة في بنانه، يقول الصحابة رضوان الله عليهم: وكنا نرى قول الله تبارك وتعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا 23 (الأحزاب)، نزلت في أنس بن النضر.
وسقط مصعب بن عمير وزياد بن السكن وغيرهما شهداء حول النبي ص في أحد وهم يدافعون عنه، ولفظ سعد بن الربيع رضي الله عنه أنفاسه الأخيرة وهو يوصي برسول الله الصحابة قائلاً: "لا عذر لكم إن خُلِص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف".
وفي مؤتة يلقى الأمراء الثلاثة "زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة" ربهم شهداء، فداءً لهذا الدين.
وقد أشعل عبدالله بن رواحة حماس ثلاثة آلاف من المسلمين لمحاربة مائتي ألف من الروم قائلاً: "إننا لا نقاتل القوم بعدد ولا عدة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي ألزمنا الله"، وراح ينشد سائلاً ربه الشهادة:
ولكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرع تفرغ الزبدا
وطعنة بيدي حران مجهزة
من رمحه تقطع الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جسدي
يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
وارتجل في هذه المعركة أراجيز مازال صداها يتردد في صدور المجاهدين حتى الآن، وآلى جعفر بن أبي طالب ألا يترك راية الإسلام تسقط فحملها بيمينه، فلما قطعت حملها بشماله، فلما قطعت احتضنها بعضده، وما تركها حتى فارق الحياة ولقي ربه شهيداً.
وغيرهم كثيرون من السلف في الفتوحات الإسلامية، منهم من مات في البر ومنهم من مات في البحر، لتبقى راية الإسلام خفاقة، ولتبقى كلمة التوحيد تتردد في جنبات هذا الكون، ومازالت شجرة الإسلام ترويها دماء الشهداء في فلسطين والبوسنة وفي كوسوفا والفلبين وكشمير وأفغانستان ومازالت الجنة تفتح أبوابها لاستقبال وفود الشهداء في الأرض المقدسة، الذين تحصدهم مدافع الحقد اليهودي كل لحظة.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب بعد انتهاء إحدى المعارك فسأله عمر عن الشهداء، فقال: قتل فلان يا أمير المؤمنين، وقتل فلان، وأناس لا أعلمهم قال عمر: "ولكن الله يعلمهم".
رابعاً: إيثار المشقة على الراحة: والخطر على السلامة، والشظف على الترف.
ومضرب المثل في ذلك... مصعب بن عمير الذي عاش مترفاً، ثم آثر العيش الخشن في جوار رسول الله ص، وقد رق له رسول الله ص ذات مرة وأشار إليه قائلاً: "انظروا إلى هذا الفتى الذي نوَّر الله قلبه، وصل به حب الله وحب رسوله إلى ما ترون، ولقد رأيته في مكة بين أبوين يغذوانه أطيب الطعام ويلبسانه أفخر الثياب".
وعندما سمع حنظلة بن أبي عامر الراهب، داعي الجهاد ليلة زفافه، نهض من فراش عروسه إلى المعركة، دون أن يغتسل، ولقي الله شهيداً، فأخبر ص أنه رأى الملائكة تغسله بين السماء والأرض، وسمي "غسيل الملائكة"، إنه ضحى بليلة عمره، كما يقولون بل بحياته كلها وضحى بعروسه في ليلتها الأولى، لتعانقه الحور العين في جنة الفردوس، ووجد أبوخيثمة في جيش العسرة امرأتيه قد أعدتا له طعاماً شهياً وماء بارداً ومجلساً ليناً وظلاً ظليلاً، فصرخ: ما هذا بالنَّصف (أي بالعدل)، رسول الله ص في الحر وأنا هنا؟! جهزاني، وما نزل عن راحلته حتى لحق برسول الله ص.
وأبو ذر الغفاري تقعد به راحلته وتضعف عن مواصلة السير في غزوة العسرة، فيطرح عنها متاعه ويضعه على عاتقه ويقطع طريق الصحراء الحارقة وحده على قدميه، فيلحق برسول الله ص فيمدحه رسول الله قائلاً: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث أمة وحدة".
وتتحقق فيه نبوءة سيدنا رسول الله ص، فيموت بالربذة فلا تجد امرأته من يعينها على تجهيزه، فتضعه بقارعة الطريق، حتى يمر ابن مسعود وجماعة معه فيعرفه ابن مسعود، ويصدق مقالة رسول الله ويجهزه ويدفنه مع إخوانه.
5 ألوان أخرى من التضحية:
لا تقتصر التضحية على لون معين، بل كل ما يقدمه العبد في سبيل الله تضحية. قال تعالى: وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون 60 (الأنفال).
و"ما" في الآية نكرة تفيد العموم، وكذلك كلمة "شيء" لذا كانت التضحية بكل محبوب مرغوب سبباً في تحقيق النصر.
ومن صورها كذلك التضحية بالنوم أو الراحة عموماً، حيث نقل عن صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه أنه ما شبع من النوم ليالي المعارك كلها وما شبع من الطعام، وكان مريضاً وكان قوله دائماً آنذاك في حرقة وأسى "وا إسلاماه وا إسلاماه"، كما روي عنه أنه ترك التبسم حزناً على المقدسات حتى تحررت.
وعَلْية بن زيد واحد من أصحاب رسول الله ص الذين لم يجد رسول الله ما يحملهم عليه هجر منامه وقام ليلة يصلي وتصدق على كل مسلم ظلمه بالعفو عنه، فلما أصبح قال ص: يا علية، لقد قبل الله صدقتك الليلة في الصدقات.
وطلب القائد قتيبة بن مسلم من أحد قواده أن ينظر مَن في المسجد قبل أن يغادر المدينة للمعركة، فجاءه قائلاً: ليس إلا رجل واحد هو محمد بن واسع رافعاً أصبعه إلى السماء يسأل الله النصر للمسلمين، قال قتيبة: "لأصبع محمد بن واسع عندي خير من ألف فارس".
وفي العصر الحديث هناك من باع سريره ونام على الأرض، ومن باع دراجته التي تحمله إلى عمله وسار على قدميه، ليقدم كل منهما ثمن السرير أو الدراجة لينصر دينه، وغيرهما كثيرون، أخفياء أتقياء يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.
بمثل هذه الجهود الصادقة والدعوات المخلصة والتضحيات المتباينة ينصر الله دينه ويؤيد جنوده. نسأل الله أن يجعلنا منهم وألا يحرمنا بركتهم.
ــــــــــــــ(1/269)
عدو النفاق والمنافقين عبد الله بن عبد الله بن أُبي
إنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول -رضي الله عنه-، كان من فضلاء الصحابة وخيارهم، شهد بدرًا وأحدًا والغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وكان اسمه الحُباب فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله.
وأبوه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكان أبوه سيد الخزرج، وكانت قبيلة الخزرج قد اجتمعت على أن يتوجوه ملكًا عليهم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتشرت أخبار الدين الجديد إلى يثرب، سارع الأنصار إلى الإسلام، وبذلك ضاعت الفرصة من يد ابن سلول، وظل حاقدًا على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام والمسلمين، وأصبحت داره منذ تلك اللحظة مقرًا للمنافقين واليهود والمشركين، يدبرون فيها المؤامرات ضد الإسلام، ويخططون فيها لقتل النبي صلى الله عليه وسلم .
وخلال هذه الأحداث لم يقف عبد الله بن عبد الله مكتوف الأيدي، بل أنكر على أبيه ما يفعله، وحاول مرارًا أن يمنعه عن أفعاله ولكن دون جدوى، وفشلت محاولات عبد الله بن عبد الله في أن يجعل أباه مؤمنًا صادق الإيمان، ولما يئس من أبيه ترك الدار، واتخذ لنفسه دارًا أخرى يعبد الله فيها بعيدًا عن بيت النفاق والحقد والحسد.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب عبد الله بن عبد الله حبًّا شديدًا، ويعرف له إخلاصه وصدق إيمانه، بل ويقربه منه، ويجعله من خاصة أنصاره. وكثرت مؤامرات عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وأخذت صورًا كثيرة، و الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالصبر عليه.
وفي غزوة بدر حارب عبد الله بن عبد الله في سبيل الله، وأبلى بلاءً حسنًا، وجاءت غزوة أحد تلك الغزوة التي رجع فيها عبد الله بن أبي بن سلول إلى المدينة بثلث جيش المسلمين حتى كاد ابنه عبد الله أن يجن.
وفي غزوة بني المصطلق، حاول رأس النفاق عبد الله بن أبي أن يوقع بين الأنصار والمهاجرين ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز (أي هو) منها الأذل (يقصد بذلك الرسول وأصحابه). فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله ابن أبى، ورجع إلى المدينة فلقيه أسيد بن حضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي بن سلول؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل)، فقال أسيد: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل.
ولما علم عبد الله بن أبي بن سلول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغه ما قاله أسرع إليه ليعتذر له، ويقسم أنه لم يقل هذا، وسرعان ما نزل القرآن بعد ذلك ليكشف عن كذب هذا المنافق، فقال تعالى: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن أكثر الناس لا يعلمون1} [المنافقون: 8].
ثم قام عبد الله بن أبي بن سلول ليركب ناقته ويعود إلى بيته، فأمسك ابنه عبد الله بناقته وأراد أن يقتله، فمنعه المسلمون من ذلك، فقال لهم: والله لا أفارقه حتى يقول لرسول الله هو الأعز، وأنا الأذل.
ثم ذهب عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، فوالذي بعثك بالحق، لئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقى معنا) [ابن هشام].
ثم مات رأس المنافقين، وهدأت نفس عبد الله بن عبد الله، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم القميص، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] وسأزيد على سبعين).
فقال عمر: إنه منافق، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم إكرامًا لابنه، فأنزل الله عز وجل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة: 84]. (متفق عليه).
واستمر عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، طالبًا الشهادة ليسجل في التاريخ صفحة مضيئة بعد ما أنفق معظم ماله في سبيل الله. ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فحزن عبد الله حزنًا شديدًا. وجاءت حروب الردة ليقاتل فيها عبد الله بكل فدائية وإخلاص، ويدخل وسط جيوش الأعداء في معركة اليمامة يضرب يمينًا وشمالاً، فيلتف حوله المشركون، ويضربوه حتى يسقط شهيدًا -رضي الله عنه-.
ــــــــــــــ(1/270)
أول من صلى تجاه الكعبة البراء بن معرور
إنه البراء بن معرور الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-، أمه الرباب بنت النعمان، وكنيته أبو بشر، أسلم وهو في المدينة قبل أن يهاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان سيد الأنصار وكبيرهم، وأحد الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى، وكان نقيبًا لبني سلمة، وأول من أوصى بثلث ماله.
وخرج البراء يومًا مع نقباء الأنصار إلى مكة، وفي الطريق حان وقت الصلاة، وكانت قبلة المسلمين في ذلك الوقت ناحية بيت المقدس، فقال البراء لمن معه من المسلمين: يا هؤلاء، قد رأيت أن لا أدع هذه البنية (يقصد الكعبة) مني بظهر (وراء ظهري)، وأن أصلي إليها (أي اتجه نحوها). فقال له أصحابه: والله ما بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام (يقصد بيت المقدس)، وما نريد أن نخالفه، فقال البراء: إني لمصلٍّ إلى الكعبة. فقالوا له: ولكنا لا نفعل.
فكان البراء -رضي الله عنه- إذا حضرت الصلاة يصلي ناحية الكعبة، وباقي أصحابه يتجهون ناحية بيت المقدس، وظلوا على هذه الحال حتى وصلوا مكة، وكانوا يعيبون على البراء صلاته ناحية الكعبة حتى إنه شك فيها، وخاف أن يكون بفعله هذا قد خالف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ولما وصل الأنصار إلى مكة أسرع البراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية (الكعبة) مني بظهر (وراء ظهري) فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي شك من ذلك، فماذا ترى يا رسول الله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها)، ثم أمره أن يصلي ناحية بيت المقدس، فاستجاب البراء لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم . [أحمد].
ثم عاد البراء إلى المدينة، وهناك مرض مرض الموت، فقال لأهله قبل أن يموت: استقبلوا بي ناحية الكعبة، فلما فارق الحياة وضعوه نحو الكعبة، فكان بذلك أول من استقبل الكعبة بوجهه حيًّا وميتًا حتى جاء أمر الله بتغيير القبلة إلى الكعبة.
ومات البراء بن معرور -رضي الله عنه- في شهر صفر قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبره ومعه أصحابه فكبر وصلى عليه.
ــــــــــــــ(1/271)
خطيب الأنصار ثابت بن قيس
إنه ثابت بن قيس -رضي الله عنه-، خطيب الأنصار، وخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم :. فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قام ثابت خطيبًا، وقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال: (الجنة). قالوا: رضينا. [الحاكم].
ولما قدم وفد تميم، وافتخر خطيبهم بأمور، قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت: (قم، فأجب خطيبهم) فقام، فحمد الله وأبلغ، وسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بمقامه. [ابن هشام].
وكان ثابت جهوري الصوت، فلما نزل قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]. جلس في بيته يبكي، وقال: أنا من أهل النار، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل من يأتيه بخبره، فذهب إليه رجل وعلم منه الأمر، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم : (اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة) _[متفق عليه].
ولما نزل قوله تعالى: {إن الله لا يحب كل مختال فخور} [لقمان: 88] أغلق ثابت داره على نفسه وجلس يبكي، وغاب عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة، فعلم ( بأمره فدعاه إليه وسأله، فقال ثابت: يا رسول الله إني أحب الثوب الجميل والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين، فقال صلى الله عليه وسلم : (يا ثابت، أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة) [الحاكم].
وفي معركة اليمامة، كان ثابت يلبس ثوبين أبيضين، وعندما رأى المسلمين قد تأثروا بهجوم جيش مسيلمة، صاح فيهم قائلاً: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، بئس ما عودتم أقرانكم، وبئس ما عودتم أنفسكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (المشركين)، وأعتذر من صنيع هؤلاء (المسلمين)، ثم أخذ يقاتل هو وسالم مولى أبي حذيفة حتى قتل. [البخاري].
وبعد أن استشهد مرَّ به رجل من المسلمين، فأخذ درعه الثمينة، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال له: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، ثم قص عليه الأمر، ثم قال له: فأت خالدًا -وكان قائدًا للجيش-، فمره فليبعث من يأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، فليقم بسداده.
فلما استيقظ الرجل أخبر خالدًا، فأرسل خالد من يأتي بالدرع فوجدها، ولما رجع المسلمون إلى المدينة قص الرجل رؤياه على أبي بكر، فأنجز وصية ثابت، ولا نعلم أحدًا أجيزت وصيته بعد موته سوى ثابت بن قيس. [الحاكم والهيثمي].
ــــــــــــــ(1/272)
الكريم بن الكريم قيس بن سعد
إنه قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، الذي نشأ في بيت كريم صالح من أكرم بيوت العرب وأعرقها نسبًا، فأبوه هو الصحابي الجليل سعد بن عبادة سيد الخزرج، وقد تربى قيس منذ الصغر على الشجاعة والكرم، حتى صار يضرب به المثل في جوده وكرمه.
وذات مرة جاءت امرأة عجوز تشكو فقرها إلى قيس، فقال لخدمه: املئوا بيتها خبزًا وسمنًا وتمرًا. [ابن عساكر]، وكان قيس يطعم الناس في أسفاره مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا نفد (انتهى) ما معه يستدين وينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد. [ابن عساكر].
باع تجارة بتسعين ألفا، ثم أمر من ينادي بالمدينة: من أراد القرض فليأت، فجاء إليه أناس كثيرون، أقرضهم أربعين ألفًا وتصدق بالباقي، وذات يوم أصابه مرض فقل عواده وزواره، فسأل زوجته: لم قل عوادي؟ فأجابت: لأنهم يستحيون من أجل دينك فأمر مناديًا ينادي: من كان عليه دين فهو له، فأتى الناس يزورونه حتى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه.
وكان -رضي الله عنه- يقول: اللهم ارزقني مالاً وفعالاً (كرمًا) فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال. [ابن عساكر].
وجاءه كثير بن الصلت فطلب منه ثلاثين ألفًا على سبيل القرض، فأعطاه إياها، ولما ردها إليه رفض قيس أن يقبلها، وقال: إنا لا نعود في شيء أعطيناه.
واشترك قيس مع ثلاثمائة صحابي في غزوة سيف البحر بقيادة
أبي عبيدة بن الجراح، فأصابهم فيها جوع شديد، وفنى ما معهم من زاد، فقام قيس فذبح ثلاثة جمال له، وبعد مدة ذبح ثلاثة أخرى، ثم ذبح لهم ثلاثة أخرى، حتى نهاه أبو عبيدة عن ذلك حين رزق الله الجيش بحوت كبير ظلوا يأكلون منه ثمانية عشر يومًا، وعندما عادوا للنبي ( وذكروا له ذلك، قال عن قيس: (أما إنه في بيت جود) [ابن عساكر].
وتحدث أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- عن كرم قيس وسخائه، فقالا: لو تركنا هذا الفتى لسخائه لأهلك (قضى على) مال أبيه، فلما سمع سعد ذلك قام عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يعذرني من ابن أبي قحافة (أبي بكر) وابن الخطاب، يُبَخِّلان عليَّ ابني. وكان قيس يتمتع بالذكاء وحسن التدبير وسلامة التفكير.
وكان قيس ملازمًا للنبي ( حتى قال عنه أنس: كان قيس بن سعد بن عبادة من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. [البخاري والترمذي].
وقد عرف بشجاعته وبسالته وإقدامه، فكان حاملا للواء الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وشهد مع الرسول الغزوات، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة من أبيه سعد وأعطاها لابنه قيس؛ حيث كان بطلاً قويًّا وفارسًا مقدامًا ومجاهدًا عظيمًا.
وجاهد قيس مع الخلفاء الراشدين، ووقف مع الإمام علي بن أبي طالب في معركة صفين والجمل والنهروان، ورأى أن الحق في جانبه، وقد ولاه الإمام علي -رضي الله عنه- حكم مصر، ثم استدعاه منها وجعله على قيادة جيشه، ولما استشهد الإمام علي بايع ابنه الحسن -رضي الله عنه- وقاد خمسة آلاف رجل لحرب معاوية، لكن الحسن آثر أن يحقن دماء المسلمين فتفاوض مع معاوية وبايعه على الخلافة، وتنازل عنها، فرجع قيس إلى المدينة، وجمع قومه وخطب فيهم وقال: إن شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وإن شئتم أخذت لكم أمانًا، فاختار جنوده الأمان وقالوا: خذ لنا أمانًا. فأخذ لهم الأمان من معاوية.[ابن عساكر].
وقد كان قيس بن سعد -رضي الله عنه- معروفًا بالذكاء والدهاء، وكان يقول عن نفسه: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المكر والخديعة في النار لكنت من أمر هذه الأمة.
وروى قيس كثيرًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. وعاش قيس في المدينة، حتى توفي -رحمه الله- في آخر خلافة معاوية.
ــــــــــــــ(1/273)
الملك العادل النجاشي
إنه النجاشي حاكم الحبشة وملكها، واسمه أصحمة -رضي الله عنه- وللنجاشي قصة عجيبة، ففي إحدى الليالي قام بعض المتآمرين بقتل والده ملك الحبشة، واستولوا على عرشه، وجعلوا على الحبشة ملكًا آخر، لكنهم لم يهنأوا بفعلتهم، فقد ظل ابن الملك المقتول يؤرقهم، فخافوا أن ينتقم منهم عندما يكبر، فقرروا أن يبيعوه في سوق العبيد، وبالفعل نفذوا مؤامرتهم، وباعوا ذلك الغلام لأحد تجار الرقيق.
وفي إحدى الليالي خرج الملك الغاصب فأصابته صاعقة من السماء فوقع قتيلاً، فسادت الفوضى في بلاد الحبشة وبحثوا عمن يحكمها، وأخيرًا هداهم تفكيرهم إلى أن يعيدوا ابن الملك الذي باعوه في سوق الرقيق لأنه أحق الناس بالملك، وبعد بحث طويل وجدوه عند أحد التجار، فقالوا له: رد إلينا غلامنا ونعطيك مالك. فرده إليهم.
فقاموا على الفور بإعادته وأجلسوه على العرش، وألبسوه تاج الملك، لكنهم أخلفوا عهدهم مع التاجر ولم يعطوه ماله، فقال التاجر إذن أدخل إلى الملك، وبالفعل دخل إليه وأخبره بما كان، فقال لهم الملك الجديد: إما أن تعطوا التاجر حقه، وإما أن أرجع إليه، فسارعوا بأداء المال للتاجر. [ابن هشام].
وبعد سنوات من حكمه، انتشر عدله، وذهبت سيرته الطيبة إلى كل مكان، وسمع بذلك المسلمون في مكة، فهاجروا إليه فرارًا بدينهم من أذى المشركين واضطهادهم، لكن الكفار لم يتركوهم يهنئون في دار العدل والأمان، فأرسلوا إلى النجاشي عمرو بن العاص، وهو داهية العرب، وعبد الله بن أبي ربيعة بالهدايا العظيمة حتى يسلمهما المسلمين الذين جاءوا يحتمون به، ودخل عمرو، وعبد الله، وقدَّما الهدايا إلى النجاشي، وطلبا منه أن يسلمهما المسلمين، فرفض النجاشي ذلك إلا بعد أن يسمع الطرف الآخر.
فبعث إلى المسلمين رسولا يطلب منهم الحضور، لمقابلة النجاشي، فوقفوا أمامه، وكان جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم أميرهم والمتحدث عنهم، فسأله النجاشي: ما الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في دينى، ولا في دين أحد من الأمم؟ فرد عليه جعفر قائلاً: أيها الملك إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى الله نعبده ونوحده، ونقيم الصلاة، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار (وعدد أمور الإسلام) فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه، فبغى علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأصنام، فلما قهرونا خرجنا إليك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك.
فقال له النجاشي: هل معك شيء مما جاء به رسولكم عن الله قال: نعم. قال: فاقرأ عليَّ. فقرأ جعفر -رضي الله عنه- من أول سورة مريم، فبكى النجاشي عندما سمع القرآن حتى بلَّ لحيته، وبكى الحاضرون من الأساقفة النصارى (رجال الدين المسيحيين)، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . [أحمد وابن هشام].
ثم اتجه النجاشي إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فقال لهما: انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبدًا ولا أكاد، ثم رد عليهما الهدايا. وعاش المؤمنون في أمان على أرض الحبشة وحفظ لهم النجاشي حقهم. وأسلم النجاشي وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ولقد وكله النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زواجه بالسيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب -رضي الله عنها-، وكانت قبل ذلك زوجة لعبيد الله بن جحش، لكنه ضل ودخل في النصرانية، ومات على شركه، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة بعد انقضاء عدتها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبها للزواج، فسعدت أم حبيبة ووكَّلت قريبًا لها هو الصحابي خالد بن سعيد ليكون وليها في الزواج._[ابن سعد].
وقام النجاشي بأداء المهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أربعمائة دينار، ولما هاجر الرسول إلى المدينة، وظهر دين الله، قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي: إن صاحبنا (يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ) قد خرج إلى المدينة، وانتصر على المشركين، وقد أردنا الرحيل إليه فزودنا، فقال النجاشي: نعم، فأعطاهم ما يكفيهم في سفرهم ويزيد، ثم قال لجعفر: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا رسولي معك وأنا أشهد ألا إله إلا الله وأنه رسول الله، فقل له: يستغفر لي، ولولا ما أنا عليه من الملك لأتيت إليه، وقبلت قدمه.
وجاء وفد المؤمنين إلى المدينة، ففرح بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسمع من جعفر، ثم قام وتوضأ ودعا ثلاث مرات: (اللهم اغفر للنجاشي)، فيقول المسلمون آمين، ثم قال جعفر لرسول النجاشي: انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت. [الطبراني].
ولما مات النجاشي قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن أخاكم قد مات بأرض الحبشة)، فخرج بهم إلى الصحراء وصفهم صفوفًا ثم صلى عليه صلاة الغائب. [متفق عليه]، وكان ذلك في شهر رجب (9هـ).
ــــــــــــــ(1/274)
أول شهداء الأنصار عمير بن الحمام
إنه الصحابي الكريم عمير بن الحمام الأنصاري -رضي الله عنه-، وقد شهد عمير غزوة بدر الكبرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم . وفي بداية المعركة وقف الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبًا في الناس يحثهم على الجهاد، ويحرضهم عليه وعلى بذل النفس في سبيل الله، فقال: (لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه). فلما اقترب المشركون، قال صلى الله عليه وسلم : (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض).
فقال عمير -رضي الله عنه-: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (نعم). فقال عمير: بخٍ بخ.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟) فقال عمير: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (فإنك من أهلها).
فأخرج عمير من جعبة سهامه بعض التمرات، وأخذ يأكل، ثم قال لنفسه: لئن أنا حييت (عشت) حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فقام ورمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل. [مسلم]. فكان عمير -رضي الله عنه- بذلك أول شهيد للأنصار قتل في سبيل الله.
ــــــــــــــ(1/275)
عُمَير بن الحُمام" رضي الله عنه أول شهيد في الإسلام
محمد مصطفى ناصيف
كان الصحابي الجليل عمير بن الحمام بن الجموح السلمي، في السابقين من قومه الأنصار.
حين اصطف المسلمون للحرب في غزوة بدر الكبرى قال لهم رسول الله {: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض، قال: "نعم" ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة" فقال عمير ابن الحمام وفي يده تمرات يأكل منها: بخ بخ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال له رسول الله {: "ما يحملك على قول بخ بخ؟" قال عمير: رجاء أن أكون من أهلها، قال له رسول الله: "فإنك من أهلها، فأخرج ما كان معه من تمرات ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراً! إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر وأخذ سيفه وقاتل وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل العباد
والصبر في الله على الجهاد
حتى استشهد (رضي الله عنه) فكان أول شهيد في الإسلام.
وإن النصر لم يأت إلا عن إيمان وتضحية وشجاعة في قلوب الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه كمثل بطلنا عمير في طليعتهم. وهكذا حال جيل القدوة في أمتنا التي تخرجت من مدرسة قائد البشرية وهاديها ومعلمها الخير {.
ــــــــــــــ(1/276)
مشروعية ... وفاعلية العمليات الاستشهادية
تردد في السنوات الأخيرة ولايزال وفي إطار الصراع مع العدو الصهيوني ما يعرف بالعمليات الاستشهادية، بعد غيبة من الأمة طويلة عن هذه المعاني الجهادية الكريمة، مما أذلها وأغرى بها عدوها، حيث تحقق فيها القول المأثور (ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، ولاتشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء).
ولقد كثر الكلام حول مشروعية العمليات الاستشهادية ومدى حرمتها أو جوازها.
وفي المقال سأتناول بعون الله تعالى الموضوع مستعرضاً الأدلة التي اعتمدها كل فريق، مؤكداً مشروعية العمليات الاستشهادية، بل وجوب اعتمادها ودعمها وتشجيعها، لأنها السلاح الوحيد القادر بعون الله على تدمير هذا الكيان السرطاني، وإزالته من الوجود، وتحقيق الموعود الرباني الذي أكده رسول الله ص بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلونهم، فيختبيء اليهودي وراء كل شجر وحجر، فيقول الشجر والحجر: يامسلم، ياعبدالله، ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر يهود).
معنى الاستشهاد
هو طلب الشهادة في سبيل الله، والتصميم عليه، وصولاً إلى بلوغه وتحقيق المقصدين الأساسيين منه: (1) الفوز برضاء الله تعالى وجنته (2) إيقاع المستطاع الأكبر من الأذى في العدو نفسياً وحسياً.
وترجمة الاستشهاد اليوم يمكن أن تتحقق من خلال اقتحام موقع للعدو وتفجيره جسدياً أو آلياً، دون أية مظنة للنجاة، عدا تقدير العزيز العليم.
فهو إقبال على الشهادة بكل تصميم وإصرار وفرح بلقاء الله تعالى، ومن أحب لقاء الله تعالى أحب لقاءه، ومن أحب الله لقاءه أعتق رقبته وأدخله جنته.
عكس الانتحار
وليس بين الاستشهاد في سبيل الله وبين الانتحار الذي هو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أدنى صلة أو علاقة، والحكم الشرعي في كليهما كالحكم الشرعي بين الحلال والحرام، ومصير من يأتيهما كمصير الجنة والنار.
الانتحار هروب بسبب ظروف الحياة، وكفران بما عند الله ومخالفة صريحة لأمره.. أما الاستشهاد فهو تضحية بالنفس في سبيل الله واستعلاء على الدنيا وزهد بها، طمعاً في الآخرة وما عند الله وما عند الله خير وأبقى" للذين آمنوا وعلى" ربهم يتوكلون (الشورى 36).
والانتحار جبن ويأس من روح الله ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (يوسف 87) وهو اعتراض على قضاء الله وقدره، وتحد لإرادته ومشيئته، أما الاستشهاد فهو ذروة الإجابة لأمر الله تعالى في مجاهدة أعدائه وقهر أولياء الشيطان، مصداقاً لقوله فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (النساء 76)، وقوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ا(التوبة 14).
أما إذا قيل بأن العمليات الاستشهادية ضرب من الإرهاب، فهذا صحيح.. وإنما هو الإرهاب الذي حض عليه الإسلام وأشار إليه الله تعالى بقوله وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم (الأنفال 76).
إن من قبيل التعامل بالمثل على الأقل أن يواجه الإرهاب الصهيوني وهو الإرهاب الضارب في عمق التاريخ وعلى إمتداده بما يماثله ويردعه امتثالاً لقوله فمن اعتدى" عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى" عليكم (البقرة 194) وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم (البقرة 190).
المعترضون
وهم ليسوا سواء: فمنهم علماء نحسبهم صادقين، تناولوا العمليات الاستشهادية، بعيداً عن أبعاد التآمر الصهيوني ومقاصده ومخاطره.
ومنهم مقلدون يرددون أقوال أولئك دون أن يكون لديهم نصيب من العلوم الشرعية التي تخولهم النظر في أمثال هذه الموضوعات.
ويبقى من المعترضين صنف المرجفين المشككين الذين يظاهرون اليهود بمواقفهم تلك على أمتهم، فهؤلاء الذين باعوا دينهم بعرض زائل، وارتضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، وهم لايستحقون الحوار والنقاش، بل إننا لانحسبهم منا، إذا ارتضوا أن يكونوا مع أعدائنا.
وقد كنت بصدد تفنيد مزاعم هؤلاء لولا أن الآثار الباهرة التي خلفتها العمليات الاستشهادية على الكيان الصهيوني، وما أدت إليه الانتفاضة المباركة والمقاومة من إسقاط وهم أسطورة الدولة التي لاتقهر، جعلني أعزف عن ذلك، لأن أدلتهم سقطت ميدانياً.
في شروط المجيزين للعمليات
هناك مجموعة من الشروط توقف عندها بعض العلماء الذين أجازوا العمليات الاستشهادية نقتطف منها التالي:
وجوب الهروب والنجاة بعد التفجير إن قدر ذلك.
ضمان تحقيق النكاية بالعدو وإنزال الخسارة به.
اشتراط وجود خلافة وقيادة إسلامية للجيش وموافقتها على ذلك.
في حال ضمان عدم تترس العدو بالمسلمين وبخاصة نساؤهم وعجائزهم وأطفالهم.
تحقق مصلحة حقيقية يقينية للمسلمين فإن عُلم خلاف ذلك لايجوز.
عدم وجود بديل آخر لقهر العدو والتغلب عليه.
أن يكون قصد الاستشهادي إعلاء كلمة الله والموت في سبيله وإعزاز دينه.
أن يكون تقدير المصالح الناجمة عن العمليات الاستشهادية للجماعة وليس للفرد.
في الأدلة المجمع عليها من المجيزين
كثيرة هذ الأدلة الشرعية التي تجيز وتحض وتبارك العمليات الاستشهادية والتي يصعب إحصاؤها.. لذلك سأكتفي هنا بإيراد بعضها.
1 قول محمد بن الحسن الشيباني: (لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو) تفسير القرطبي ص-264.
2 قول ابن العربي في الاقتحام على العسكر: (لابأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم، إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، وذلك بّين في قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (البقرة 207) قواعد الأحكام.
3 قول العز بن عبدالسلام: (التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين في النكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام) قواعد الأحكام.
4 قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين) مجموع الفتاوى 28-540.
5 قول السيوطي: (لابأس بالانهزام إذا أتى المسلم من العدو مالا يطيقه، ولابأس بالصبر أيضاً بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة بل في هذا تحقيق بذل النفس في سبيل الله تعالى، فقد فعله غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم) شرح السير الكبير 1-125.6 وقال ابن عابدين: (لابأس أن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل، إذا كان يصنع شيئا بقتل أو بجرح أو بهزم) حاشية ابن عابدين 4-202.
بعض آثار العمليات الاستشهادية
إن الآثار التي أحدثتها العمليات الاستشهادية أكبر من أن تحصى، من ذلك:
إسقاط أسطورة الدولة التي لاتقهر.
إرباك المشروع الصهيوني جملةً وتفصيلاً.
ضرب استقرار وأمن الكيان المحتل.
سقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوف العدو.
تزايد أعداد الفارين والهاربين والمهاجرين من الأرض المحتلة، مما دفع السلطات إلى حجز جوازات السفر كإجراء قمعي لوقف تدفق المغادرين.
ضرب الاقتصاد الصهيوني وتعطيل حركة السياحة.
انسحاب القوات المحتلة من الجنوب اللبناني.
بعث الروح الجهادية لدى المسلمين وإحياء الأمل لديهم بالنصر.
طرح الإسلام عقيدة وشريعة ومنهجاً كخيار حتمي لإخراج الأمة من الواقع المهين الذي تعيش فيه.
نماذج لعمليات استشهادية
عبر التاريخ
نكتفي تحت هذا العنوان باستعراض نماذج لعمليات استشهادية متفرقة من التاريخ الإسلامي.
حادث عمير بن الحمام الأنصاري يوم بدر.
حادث عوف بن الحرث يوم بدر.
بيعة الموت.
طارق بن زياد وإحراق السفن حتى لاتحدث أحداً نفسه بالعودة والفرار.
في معركة اليرموك: اقترب رجل من أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وقال: إني عزمت على الشهادة، فهل من حاجة أبلغها إلى رسول الله حين ألقاه؟ قال: نعم، قل له: (يارسول الله، إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا)، واندفع الرجل يقاتل بشدة حتى وقع شهيداً. وأخيراً فإن واقع المسلمين اليوم وعلى امتداد العالم يواجه أعتى التحديات وبخاصة من قِبل الصهيونية العالمية، والنظام الدولي.. وإن هذا الواقع الذي أنجب من رحم الإسلام ظاهرة الانتفاضة المباركة والمقاومة الإسلامية الظافرة بسلاح العقيدة والإيمان والشهادة، ليؤكد من جديد أن الإسلام هو الحل، كما يؤكد حتمية هذا الحل، لا لقضية فلسطين فحسب بل لقضايا الأمة كلها ومشكلاتها المختلفة. إن عملية استشهادية واحدة باتت تهز الكيان الصهيوني، وإن سلاح الشهادة أسقط أسطورة الدولة التي لاتقهر، وعطل السلاح النووي الذي تملكه تل أبيب لكونها عاجزة عن استخدامه. فما أحوج الأمة بأنظمتها ومؤسساتها وشعوبها لإدراك ذلك وللعمل على اسئتئناف الحياة الإسلامية في مجالات الحياة جميعها، استجابة للنداء القرآني الخالد يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم (الأنفال 24).
ــــــــــــــ(1/277)
الصادق عمير بن سعد
إنه عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري -رضي الله عنه-، الذي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما زال غلامًا، وأبوه هو الصحابي الجليل سعد القارئ
-رضي الله عنه-.
ومنذ أسلم عمير وهو عابد لله سبحانه، تجده في الصف الأول في الصلاة والجهاد، وما عدا ذلك فهو معتكف في بيته، لا يسمع عنه أحد، ولا يراه الناس إلا قليلاً، اشتهر بالزهد والورع، كان صافي النفس، هادئ الطبع، حسن الصفات، مشرق الطلعة، يحبه الصحابة ويأنسون بالجلوس معه.
وذات يوم، سمع عمير زوج أمه الجلاس بن سويد -وكان له كالأب ينفق عليه- وهو يقول: إن كان محمد حقًّا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام غضبًا شديدًا، وامتلأ قلبه غيظًا وحيرة ، ثم قال لجلاس: والله يا جلاس إنك لمن أحب الناس إليَّ وأحسنهم عندي يدًا، وأعزهم عليَّ أن يصيبه شيء يكرهه، ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك، ولو صَمَتُّ عليها ليهلكن ديني، وإن حقَّ الدين لأولى بالوفاء، وإني مُبْلغٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت.
فقال الجلاس له: اكتمها عليَّ يا بني، فقال الغلام: لا والله. ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لأبلِّغنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي يُشْرِكني في إثمك.
فلما وصل الغلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بما قاله جلاس، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم في طلب الجلاس، فلما جاء الجلاس ذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله الغلام، فأنكر وحلف بالله أنه ما قال ذلك.
فأنزل الله قرآنًا يؤكد صدق الغلام، ويفضح الجلاس ويحفظ للغلام مكانته عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} [التوبة: 74].
فاعترف الجلاس بما قاله الغلام، واعتذر عن خطيئته، وتاب إلى الله، وحسن إسلامه، وما سمع الغلام من الجلاس شيئًا يكرهه بعدها، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أذن الغلام، وقال: (وفَتْ أُذُنُك يا غلام، وصدَّقَك ربك)[عبد الرزاق].
ويواصل عمير حياته على هذه الحال حتى تأتي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ويبدأ في اختيار ولاته وأمرائه، وفق دستوره الذي أعلنه في عبارته الشهيرة: أريد رجلاً إذا كان في القوم، وليس أميرًا عليهم بدا (ظهر) وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير، بدا وكأنه واحد منهم، أريد واليًا لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن .. يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق بابه دون حوائجهم. وعلى هذا الأساس اختار عمر بن الخطاب عميرًا ليكون واليًا على حمص، وحاول عمير أن يعتذر عن هذه الولاية، لكن عمر بن الخطاب ألزمه بها.
وذهب عمير إلى حمص، وبقى فيها عامًا كاملا دون أن يرسل إلى أمير المؤمنين بالمدينة، بل لم يصل إلى أمير المؤمنين منه أية رسالة، فأرسل إليه عمر -رضي الله عنه- ليأتي إليه، وجاء عمير وشاهده الناس، وهو يدخل المدينة وعليه آثار السفر، وهو يحمل على كتفيه جرابًا وقصعة (وعاء للطعام) وقربة ماء صغيرة، ويمشي في بطء شديد من التعب والجهد.
ولما وصل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فرد عمر السلام ثم قال له: ما شأنك يا عمير؟ فقال عمير: شأني ما ترى، ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا (يقصد أنه يملك الدنيا كلها)؟ فقال عمر: وما معك؟ قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي، وقَصْعَتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوًا إن عَرَض (ظهر)، فوالله ما الدنيا إلا تَبعٌ لمتاعي. فقال عمر: أجئت ماشيًا؟ قال عمير: نعم.
فقال عمر: أَوَلَمْ تَجدْ من يعطيك دابة تركبها؟ قال عمير: إنهم لم يفعلوا، وإني لم أسألهم. فقال عمر: فماذا عملت فيما عهدنا إليك به؟ قال عمير: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعت صُلَحَاء أهله، ووليتُهم جَبايَة فيئهم (جمع صدقاتهم) وأموالهم، حتى إذا جمعوها وضعتها، ولو بقى لك منها شيء لأتيتك به، فقال عمر: فما جئتنا بشيء ؟ قال عمير: لا. فصاح عمر وهو فخور سعيد: جدِّدوا لعمير عهدًا، ولكن عميرًا رفض وقال في استغناء عظيم: تلك أيام خَلَتْ، لا عَمِلتُ لك، ولا لأحد بعدك.
فأي صنف من الرجال كان عمير بن سعد؟ لقد كان الصحابة على صواب حين وصفوه بأنه نسيج وحده (أي شخصيته متميزة فريدة من نوعها)، وكان عمر محقًّا أيضًا حينما قال: وددت لو أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين.
لقد عرف عمير مسئولية الإمارة، ورسم لنفسه وهو أمير حمص واجبات الحاكم المسلم وها هو ذا يخطب في أهل حمص قائلاً: ألا إن الإسلام حائط منيع، وباب وثيق، فحائط الإسلام العدل، وبابه الحق، فإذا نُقِضَ (هُدِمَ) الحائط، وخطم الباب، استفتح الإسلام، ولا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف، ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاءً بالحق، وأخذًا بالعدل. وظل عمير بن سعد رضي الله عنهما مقيمًا بالشام حتى مات بها في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان.
ــــــــــــــ(1/278)
اليقين روح أعمال القلوب
(الشبكة الإسلامية)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد: فإن حديثنا في هذه المقالة عن مقام من أعلى مقامات الدين، وخلة من أعظم خلال العارفين، إنه اليقين.. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن منزلة اليقين: "هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافسَ المتنافسون، وإليه شمَّر العاملون، وعملُ القوم إنما كان عليه وإشاراتُهم كلُّها إليه، وإذا تزوَّج الصبر باليقين وُلد بينهما حصول الإمامة في الدين. قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
وخصَّ سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال وهو أصدق القائلين: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات:20].
وخصَّ أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالَمين، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:4، 5].
وأخبر عن أهل النار أنهم لم يكونوا من أهل اليقين، فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية:32].
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي روح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصِّدِّيقية، وهو قُطب هذا الشأن الذي عليه مداره".اهـ.
التوكل ثمرةُ اليقين:
و"التوكُّل ثمرتُه ونتيجتُه، ولهذا حسُن اقتران الهدى به؛ قال تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل:79]. فالحقُّ هو اليقين.
وقالت رسُل الله: (وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) [إبراهيم:12]. ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كلُّ ريب وشكٍّ وسُخْطٍ، وهمٍّ وغمٍّ، فامتلأ محبَّةً لله وخوفًا منه، ورضًا به وشكرًا له، وتوكُّلاً عليه، وإنابةً إليه؛ فهو مادَّة جميع المقامات والحامل لها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرُها بالبخل والأمل".[أخرجه أحمد في الزهد، وحسنه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: "نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلِك آخِرُها بالبخل والأمل". [رواه ابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني].
الرسول صلى الله عليه ويسلم يسأل ربه اليقين:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلَّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدَّعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحولُ بيننا وبين معاصِيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علِمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا". [أخرجه الترمذي وحسنه الألباني].
رجحان العمل وحصول الرضا باليقين:
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "يا حبَّذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامَهم؟! ولَمثقال ذرَّةٍ من برٍّ، من صاحب تقوى ويقين، أفضل وأرجح وأعظم، من أمثال الجبال عبادةً من المغْترين".[أخرجه أحمد].
وصحَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن الرَّوح والفرج في اليقين والرضا، وإن الغمَّ والحزن من الشَّكِّ والسُّخط".
وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول: "اللهم هبْ لنا يقينا بك حتى تهون علينا مصيباتُ الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمتَ لنا به".
وقال بلال بن سعد: "عباد الرحمن، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيَّام طِوال، في دار زوال لدار مقام، ودار حزن ونصبٍ لدار نعيم وخُلدٍ، ومَن لم يعمل على اليقين فلا يغْترَّ". أي أن الأفعال تدل على ضعف اليقين.
وقال رحمه الله: "كأنَّا قومٌ لا يعقلون، وكأنَّا قومٌ لا يُوقنون".
وقال رحمه الله: "عباد الرحمن، أمَّا ما وكَّلكم الله به فتضيِّعونه، وأمَّا ما تكفَّل لكم به فتطلبونه، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين، أذَوُو عقولٍ في طلب الدنيا، وبُلْهٌ عمَّا خلقتم له؟ فكا ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعة الله عز وجل، فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصي الله عز وجل".
واعلم - رعاك الله - أنه على قدر قربك من التقوى تدرك من اليقين، ولا يسكن اليقين قلبًا فيه سكون إلى غير الله تعالى.
أمثلة عطرة على علو الهمة في اليقين:
إن من يقلب صفحات التاريخ يجده يزخر بأمثلة عطرة على علو الهمة في اليقين والثقة بالله، ومنها:
خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كان خلقه اليقين:
فكل مواقفه عليه السلام تدل على ذلك، ففي محاجَّته لقومه كان خلقه اليقين: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:80-82].نعم ،كيف يخاف من عنده هذا اليقين؟!!.
ويتجلى يقينه وتوكله وثقته بربه حينما ألقوه في النار، وجاءه جبريل يقول: ألك حاجة؟ فيجيبه: أما إليك فلا، ثم يردد نشيده العلوي: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
إن كل موقف من مواقف الخليل ملؤه اليقين.. إلقاء طفله الرضيع وزوجه في البرية، همه بذبح ولده.. فصلوات ربي وسلامه عليه.
الرسول صلى الله عليه وسلم.. القمة في علو الهمة:
ومَنْ كرسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما يشتد الكرب يبدو يقينه مثالاً يحتذى، ولا كرب أشد من ساعة الهجرة: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40]. حين يقول له الصديق: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه: "يا أبا بكرٍ ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".
ثم انظر إلى يقينه بربه بعد أن جرى له ما يشيب لذكره الولدان في رحلته إلى الطائف، وهو يقول لملك الجبال الذي عرض عليه الانتقام من المشركين: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا".
صيحة عمير بن الحمام.. منارة من منارات اليقين:
فإنه لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". قال: بخٍ بخ. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على قولك: بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله، إلاَّ رجاء أن أكون من أهلها. قال صلى الله عليه وسلم: "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات كنَّ في قرنه (جيبه) فجعل يأكل منهنَّ ثم قال: لئن حييتُ حتى آكل تمراتي هذه؛ إنها لحياة طويلة. فرمى بما كان معه ثم قاتلهم حتى قتل".
ولله در القائل:
يا أمتي وأقول اليوم في ثقة.. ... ..إني اليقينُ فلا شيءٌ يزعزعني
إني العقيدة والإقدام فيصلها.. ... ..وليس غيرُ نداء الله يسحرني
أذود عنه وفيها علَّ خاتمتي....تكون في ظلها يومًا فتقبلني
فالليل يعقبه فجر ومئذنةٌ.. ... ..والله أكبر نبراسٌ على الزمن
الهول في خطوي والنورفي دربي.. . وأظل أسمع صوتَ الحق في أذني
رزقنا الله يقينا لا يتزحزح، وقرة عين لا تنفد... اللهم آمين.
للاستزادة:
( نضرة النعيم / جزء 8 )
( صلاح الأمة / جزء 5 )
ــــــــــــــ(1/279)
خير الرجالين سلمة بن الأكوع
إنه الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-، الذي يقول: رأيت الذئب قد أخذ ظبيًا، فطلبته حتى نزعته منه. فقال الذئب: ويحك! مالي ولك؟ عمدت إلى رزق رزقنيه الله، ليس من مالك فتنزعه مني! فتعجب سلمة، وصاح: أيا عباد الله، ذئب يتكلم إن هذا لعجب. فقال الذئب: أعجب من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله، وتأبون إلا عبادة الأوثان. فقال سلمة: فلحقت ب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت. [ابن عبد البر].
وكان سلمة -رضي الله عنه- من أصحاب بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت يوم الحديبية، وشارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته، يقول سلمة: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما بعث من البعوث سبع غزوات. [متفق عليه]، وقال عنه ابنه إياس: ما كذب أبي قط.
وكان من أمهر رماة السهام، شجاعًا، فقد خرج مع رباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بالإبل لتشرب، فهجم عليهم عيينة بن حصن وبعض المشركين، فقتلوا راعي الإبل، وأخذوا يطاردون الإبل أمامهم ليأخذوها، فلما رآهم سلمة قال لرباح: يا رباح اركب على هذا الفرس، وأعطه لطلحة بن عبيد الله فإنه فرسه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين هجموا على الإبل، وسوف أقاتلهم حتى تأتوا إليَّ.
ثم صعد أعلى جبل، وأخذ ينادي بأعلى صوته: يا صباحاه، ثلاث مرات، فسمع المشركون الصوت، وتوجهوا نحوه، وهم لا يرونه، فأخذ يرميهم بالنبال والسهام، ثم أظهر لهم نفسه وأخذ يقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع (هلاك اللئام). فانشغل المشركون به، وتركوا الإبل، وإذ بالمقداد بن الأسود، والأخرم الأسديوأبو قتادة قد أقبلوا على فرسانهم، فظن المشركون أنهم جيش المسلمين كله، فتصدى سلمة والأخرم للمشركين، وتبع أبو قتادة الفارين منهم، ووصل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه خمسمائة مائة فارس، فلما علم بما فعله سلمة وأبو قتادة قال: ( كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا (أي مشاتنا) سلمة [مسلم].
ولما أحس سلمة أن أبواب الفتنة قد ظهرت بعد قتل عثمان رحل إلى الربذة، وتزوج بها، وولد له فيها، وكان يقول: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أنه قد أتى بابًا من أبواب الكبائر.
وفي أواخر أيامه حنَّ إلى المدينة فسافر إليها زائرًا، فبقى فيها ليالي حتى مات بها، وكان ذلك في سنة (74)هـ، ودفن بها.
ــــــــــــــ(1/280)
الثقة بالقدرات
الشيخ عبدالحميد البلالي
نتناول في هذه الحلقة، الخطوة السابعة في تنشيط القوة الداخلية وهي (الثقة بالقدرات).
أرسل هذه الرسالة إلى نفسك "أنا أشعر وأرى بوضوح قوة أفكاري، وما أومن به، وأثق بقدراتي ونفسي أكثر من أي وقت مضى".
ما هي القدرات؟
تناولنا في بداية هذه السلسلة، وضمن تعريفات القوة، أن أحد معانيها (الثقة بالذات)، وأشرنا إلى أسس النجاح الثلاثة، وهي (القدرات، والمواهب، والاستعدادات)، وذكرنا أن سبب ارتفاع معدل الفاشلين في الحياة يرجع إلى أن معظم الناس لا يثقون بقدراتهم، مما يسبب ضعف أو خمول القدرة الداخلية.
والقدرات هي أحد عوامل النجاح المهمة في حياة الإنسان، وما من مخلوق كما ذكرنا سابقاً إلا وقد أودع الله فيه قدرة أو قدرات متعددة تهيئه للانطلاق والنجاح في هذه الحياة.
أنواع القدرات:
هناك نوعان من القدرات:
أولاً: قدرات ذهنية:
مثل القدرة على فهم المسائل الرياضية، والكيميائية، والفيزيائية، وحل الألغاز، والكلمات المتقاطعة، ولعبة الشطرنج، ووضع الاستراتيجيات، والأهداف، والتخطيط، وقدرة التحدث والتعبير، والشعر، وكتابة المقالات، والمسرحيات، والتمثيليات، والسيناريوهات، وعمليات الإخراج والمونتاج، وغيرها من الأمور.
ثانياً: قدرات عملية:
مثل لعب كرة القدم، أو اليد، أو الجري، أو السلة، أو الجولف، وما شابهها من ألعاب، والقدرة على النسيج والغزل، والأعمال اليدوية الخشبية والخزف وصيد الأسماك، والغوص والسباحة، وإصلاح ماكينات الآلات والسيارات وما شابهها، والقدرة على الرسم والأصباغ والزراعة وتنسيق الزهور، والطبخ والتجارة، وغيرها من الأمور المشابهة.
أذكياء وأغبياء:
في حقيقة الأمر لا يمكن أن تطلق كلمة ذكي أو غبي كحقيقة مطلقة على إنسان، ومن الأفضل والأدق أن نقول فلان قدراته في الناحية الفلانية ضعيفة، وفي الناحية الفلانية قوية، فقد يكون الإنسان ضعيف القدرات في أمور كثيرة، وقوياً في أمور أخرى.
من يكتشف قدراتنا؟
أول المكتشفين للقدرات هو الإنسان نفسه، ويأتي بالدرجة الثانية بعده والداه اللذان تقع عليهما مسؤولية كبيرة في ملاحظة ومتابعة قدرات أبنائهما، وأن يوجها هذه القدرات إلى المسار الصحيح، وألا يرغما أبناءهما على سلوك مجالات لا تسعفهم قدراتهم إلى النجاح فيها، ويأتي بالدرجة الثالثة المعلمون في المدارس، والمربون التربويون، والأصدقاء، والأقرباء، وزملاء العمل، وأصبحت هناك مؤسسات تقوم بعمل دورات خاصة، لاكتشاف القدرات.
قدرة الاكتشاف:
إن القادة الناجحين والآباء والأمهات والمربين هم الذين يملكون قدرة متميزة، وعيناً فاحصة لاكتشاف القدرات فيمن يعولونهم من الأبناء أو الطلبة أو العاملين لديهم..
عين النبي الفاحصة:
إن من أبرز ما تميز به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من صفات قيادية.. اكتشافه الكثير من طاقات وقدرات الصحابة الكرام وتوظيفها في مكانها المناسب، فقد لاحظ في الصحابي الجليل أبي هريرة حرصه على العلم فهيأ له البيئة المناسبة، وخصه بالكثير من الأحاديث حتى غدا أكثر الصحابة حفظاً ونقلاً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ...
ولاحظ في الصحابي الجليل خالد بن الوليد قدرة على القتال والتخطيط القتالي، فدفعه للتخصص في ذلك، وهيأ له قيادة الجيش في الكثير من المعارك حتى اشتهر بين الصحابة بلقبه (سيف الله المسلول).
واكتشف في الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع سرعته في العدو، ودقته في التصويب والقتال، بحيث كان يسابق الذئاب والكلاب، وكان الصحابة إذا أقبلوا إلى المدينة من غزو سبقهم عدواً للمدينة، فاستعمله على ملاحقة المعتدين على إبل الصدقة وحده حتى قبض عليهم جميعاً وأتى بهم موثقين بالحبال.
واكتشف الصوت الجميل في بلال فكلفه بالأذان. وهكذا كان الخلفاء الراشدون من بعده على هذه الوتيرة في اكتشاف الطاقات والقدرات وتوجيهها في مجالها الصحيح..
عوامل تقوية الثقة بالقدرات:
1 عدم الالتفاف للتثبيط:
من يريد تقوية الثقة بقدراته عليه أولاً ألا يعير أو يأبه لأي تثبيط من المحيطين به من الأقرباء أو الأصدقاء أو المجتمع، لأن ذلك التعيير أو التثبيط والرسائل السلبية لا تخرج في غالب الأمر إلا من حاسد أو فاشل يستكثر أو يستبعد النجاح للآخرين.
2 استخدام هذه القدرات:
لا يكفي أن تكتشف هذه القدرات لديك، فالمرحلة التي تعقب الاكتشاف هي الثقة بهذه القدرات، والثقة لا تتعزز إلا باستخدامها، وبعدها ستزيد ثقتك بها كلما تعمقت في هذا الاستخدام.
3 لا تفزعك النتائج:
عندما تستخدم هذه القدرات فلن تحصل على النتائج الباهرة في بداية الأمر، هذا لا بد أن تتوقعه وأن تصبر عليه، فالنجاح الكبير لا يأتي في يوم وليلة إنما يحتاج إلى صبر ومصابرة ومثابرة وإصرار وعناد وثبات.
4 كن مع من يماثلك:
ابتعد عن بيئة المثبطين والفاشلين وكن مع من يماثلك من أصحاب القدرات والناجحين، فإن ذلك من شأنه زيادة الثقة بقدراتك.
ــــــــــــــ(1/281)
صاحب العصا المضيئة عباد بن بشر
إنه عباد بن بشر -رضي الله عنه-، أحد الأنصار الذي أسلموا على يد مصعب بن عمير -رضي الله عنه- قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وشهد عباد مع الرسول صلى الله عليه وسلم الغزوات كلها وأبلى فيها بلاء حسنا، وهو من الذين قتلوا اليهودي كعب بن الأشرف الذي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويضايقه ويحرض قومه على أذاه، فخلصوا الإسلام من شروره.
وقالت السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن عباد: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً كلهم من بني عبد الأشهل؛ أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وعباد بن بشر. [ابن إسحاق والحاكم].
وكانت عصاه تضيء له إذا خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ليلاً، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم اغفر له) [البخاري].
وعرف عباد بشجاعته وفروسيته وقوته في الحرب، وقد أظهر مواقف بطولية كثيرة تدل على حبه للجهاد ورغبته في الشهادة في سبيل الله، ويحكى أنه بعد غزوة ذات الرقاع نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في مكان يبيتون فيه، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم نفرًا للحراسة ومنهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر، وبينما هما يحرسان قال عباد لعمار: أي الليل تحب أن تحرس، أوله أم آخره؟
فقال عمار: بل آخره، فنام عمار، ووقف عباد يصلي بجواره، فجاء رجل من العدو فرأى عبادًا يصلي؛ فأخرج سهما ثم رمى به عبادا، فأصابه في جسده، فنزعه عباد، وظل واقفا يصلي فرماه الرجل بسهم ثان، فنزعه عباد -أيضًا-، وظل يصلي فرماه الرجل بسهم آخر فنزعه عباد، وواصل صلاته حتى أتمها، ثم أيقظ عمارا فهرب الرجل.
ونظر عمار إلى عباد فوجد دماءه تسيل، فقال له: سبحان الله: أفلا أيقظتني أول ما رماك؟ فقال عباد: كنت أقرأ سورة الكهف في صلاتي، فلم أحب أن أقطعها حتى أنتهي منها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا (أترك مكانًا) أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها.
وظل عباد بن بشر -رضي الله عنه- يجاهد ويغزو في سبيل الله ونصرة دينه حتى جاءت معركة اليمامة في عهد أبى بكر الصديق -رضي الله عنه-، فخرج مع المسلمين لمحاربة المرتدين وقتال مسيلمة الكذاب ومن معه.
ويحكى أن عبادًا نام في الطريق بعض الوقت ثم استيقظ فرحًا مستبشرًا لأنه رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن تحققت مع طلوع الشمس على أرض المعركة، وحكى عباد تلك الرؤيا لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فقال له: لقد رأيت في منامي كأن السماء قد فرجت (فتحت) لي، ثم دخلت فيها ثم أطبقت عليّ، فهي إن شاء الله الشهادة، فقال له أبو سعيد: خيرًا والله رأيت.
وبدأت معركة اليمامة واشتد القتال، وكاد المسلمون أن ينهزموا فصاح عباد بأعلى صوته في الأنصار قائلاً: حطموا جفون السيوف (أي: كسروا أغمادها حتى لا تعود إليها مرة ثانية)، وتميزوا من الناس (أي: ابعدوا عن الناس حتى تظهر بطولتكم فيكون ذلك حافزًا على القتال)، وأخلصونا أخلصونا (أي أخلصوا في الحرب والقتال).
ثم انطلق أربعمائة رجل من الأنصار، وكان في مقدمتهم عباد بن بشر والبراء بن مالك، وهجموا على باب الحديقة التي كان يختفي فيها مسيلمة وبعض أنصاره.
وتذكر عباد قول النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار شعار، والناس دثار.[مسلم] (بمعنى أنهم بطانة النبي صلى الله عليه وسلم ، وخاصته دون سائر الناس)، فقاتل عباد بشجاعة حتى رزقه الله -عز وجل- الشهادة في تلك المعركة، وكان ذلك في العام الثاني عشر من الهجرة.
وقد وجد في جسده جراحات كثيرة حتى أن الصحابة لم يعرفوه، ولم يعرفه إلا صديقه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- بعلامة فيه كان يعرفها، وحينئذ كان عباد قد بلغ من العمر خمسًا وأربعين سنة، فرضى الله عنك ورحمك يا عباد.
ــــــــــــــ(1/282)
ظليل الملائكة عبد الله بن عمرو بن حرام
إنه عبد الله بن عمرو بن حرام -رضي الله عنه-، أحد الأنصار السبعين الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة الثانية، واختاره النبي صلى الله عليه وسلم نقيبًا على قومه بني سلمة، وكان ملازمًا ل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة واضعًا نفسه وماله وأهله في خدمة الإسلام.
وشهد عبد الله بدرًا، وقاتل يومها قتال الأبطال، وفي غزوة أحد أحس عبد الله أنه لن يعود من هذه الغزوة، وكان بذلك فرحًا مستبشرًا، فنادى ابنه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، وقال له: إني لا أراني إلا مقتولاً في هذه الغزوة، بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين، وإني والله لا أدع (أترك) أحدًا بعدي أحب إليَّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وإن علي دينًا، فاقض عني ديني، واستوص بإخوتك خيرًا.
ثم قاتل -رضي الله عنه- قتال المجاهدين حتى سقط شهيدًا على أرض المعركة. وبعد انتهاء القتال، أخذ المسلمون يبحثون عن شهدائهم، وذهب جابر بن عبد الله يبحث عن أبيه، فوجده بين الشهداء، وقد مثل به المشركون كما مثلوا بغيره من شهداء المسلمين.
ووقف جابر وبعض أهله يبكون على شهيدهم، فمرَّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فسمع صوت أخته تبكي، فقال لها: (تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه [متفق عليه].
يقول جابر: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال: "يا جابر، مالي أراك منكرًا مهتمًّا؟" قلت: يا رسول الله، استشهد أبي، وترك عيالاً وعليه دين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحًا (أي مواجهة ليس بينهما حجاب)، فقال: يا عبدي سلني أعطك، فقال، أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيًا، فقال الله له: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، فقال عبد الله: يا رب، أبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
[آل عمران: 196-197]._[الترمذي وابن ماجه].
وبعد مرور ست وأربعين سنة على دفنه، نزل سيل شديد غطى أرض القبور، فسارع المسلمون إلى نقل جثث الشهداء، وكان جابر لا يزال حيًّا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبد الله بن عمرو ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح، فوجدهما في قبرهما نائمين كأنهما ماتا بالأمس لم يتغيرا.
ــــــــــــــ(1/283)
الآمن التائب صفوان بن أمية
إنه صفوان بن أمية -رضي الله عنه-، أحد فصحاء العرب، وواحد من أشراف قريش في الجاهلية، قُتل أبوه أمية بن خلف يوم بدر كافرًا، وقُتل عمه أبي بن خلف يوم أحد كافرًا بعد أن صرعه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان صفوان واحدًا من المشهورين في إطعام الناس في قريش حتى قيل: إنه لم يجتمع لقوم أن يكون منهم مطعمون خمسة إلا لعمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف.
وكان صفوان من أشد الناس عداوة وكرهًا للنبي ( وأصحابه قبل أن يدخل في الإسلام، أسلمت زوجته ناجية بنت الوليد بن المغيرة يوم فتح مكة، وظل هو على كفره وعداوته للإسلام حتى منَّ الله عليه بالإسلام، فأسلم وحست إسلامه.
وقد جلس صفوان يوماً في حجر الكعبة بعد غزوة بدر، وأخذ يتحدث مع
عمير بن وهب عما حدث لقريش في بدر، ورأى صفوان أن صديقه عميرًا يريد الذهاب لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يملك، فساعده في تحقيق ذلك. وذهب عمير إلى المدينة مصممًا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن شاء الله أن يسلم عمير، وخاب ظن صفوان.
وجاء فتح مكة، فهرب صفوان في شعب من شعاب مكة، فعلم بذلك
عمير بن وهب الذي ظل محافظًا على صداقته لصفوان، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر؛ خوفًا منك فأمنه (أي أعطيه الأمان) فداك أبي وأمي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (قد أمِّنته)، فخرج عمير من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا إلى الشعب الذي اختبأ فيه صفوان.
فلما رآه صفوان قال له: يا عمير ما كفاك ما صنعت بي، قضيت عنك دينك، وراعيت عيالك على أن تقتل محمدًا فما فعلت، ثم تريد قتلي الآن، فقال عمير:
يا أبا وهب، جعلت فداك، جئتك من عند أبر الناس، وأوصل الناس، قد أمّنك رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال صفوان: لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فرجع عمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له ما يريده صفوان، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عمامته، فأخذها عمير وخرج إلى صفوان، وقال له: هذه عمامة رسول الله يا صفوان، فعرفها صفوان، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمّنه. ثم قال له عمير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك أن تدخل في الإسلام، فإن لم ترض؛ تركك شهرين أنت فيهما آمن على نفسك لا يتعرض لك أحد.
وخرج صفوان مع عمير حتى وصلا إلى المسجد، وإذا ب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يصلون العصر، فوقف صفوان بفرسه بجانبهم، وقال لعمير: كم يصلون في اليوم والليلة؟، فقال عمير: خمس صلوات، فقال صفوان: يصلى بهم محمد؟ قال عمير: نعم.
وبعد أن انتهت الصلاة وقف صفوان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وناداه في جماعة من الناس، وقال: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت أمرًا، وإلا سيرتني شهرين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنزل أبا وهب)، فقال صفوان: لا والله حتى تبين لي، قال: (انزل، بل لك تسير أربعة أشهر)، فنزل صفوان، وأخذ يروح ويعود بين المسلمين وهو مشرك. [ابن عساكر].
ويوم حنين، طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيره سلاحًا، فقال له صفوان: طوعًا أم كرهًا يا محمد؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (بل طوعًا، عارية مضمونة أردها إليك)، فأعاره صفوان مائة درع وسيف، وأخذها المسلمون وخرجوا إلى الحرب وهو معهم. [أحمد]، فانتصروا وجمعوا من الغنائم الكثير، وأخذ صفوان يطيل النظر في بعض الغنائم كأنها أعجبته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظ ما في عينيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (يعجبك هذا؟) قال: نعم. قال: (هو لك)، فقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا، إلا نفس نبي! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. [ابن عساكر].
قال صفوان: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ. [مسلم].
وظل صفوان مقيمًا في مكة يعبد الله، ويقيم تعاليم الإسلام، وذات يوم، قابله رجل من المسلمين وقال له: يا صفوان، من لم يهاجر هلك، ولا إسلام لمن لا هجرة له، فحزن صفوان أشد الحزن، وخرج إلى المدينة مهاجرًا، فنزل عند العباس بن عبد المطلب، فأخذه العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فسأله رسول الله: ما جاء بك يا أبا وهب؟، فقال صفوان: سمعت أنه لا دين لمن لم يهاجر، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم له وقال: ( ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة، فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) [متفق عليه]، فاطمأن صفوان لذلك القول، ورجع إلى مكة وهو مستريح الصدر.
وشارك صفوان في الفتوحات الإسلامية في عهد أمير المؤمنين عمر وعهد عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- وظل صفوان يجاهد في سبيل الله حتى اشتاقت روحه إلى لقاء ربها، فمات بمكة سنة (42 هـ) في أول خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وقد روى كثيرًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وروى عنه الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم-.
ــــــــــــــ(1/284)
صاحب الرؤيا الصادقة عمرو بن مرة
إنه الصحابي الجليل عمرو بن مرة الجهني -رضي الله عنه-، وكان عمرو قد خرج مع قومه بني غطفان يومًا حاجًّا إلى مكة في الجاهلية، فرأى في منامه وهو بمكة نورًا ساطعًا من الكعبة أضاء كل ما حولها حتى أضاء جبل يثرب، وأضاء قصور الحيرة والمدائن، وسمع صوتًا وسط النور يقول: انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء، ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام. فاستيقظ فزعًا، ثم نادى على قومه، وحكى لهم رؤيته ثم قال لهم: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث.
وبعد أن عاد إلى بلده، سمع أن رجلا من قريش اسمه محمد يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، فأسرع إلى مكة، وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بالرؤيا التي رآها في منامه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام)، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، وإن رغم ذلك كثير من الأقوام. [الطبراني وابن عساكر].
ثم طلب عمرو من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بالرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال له: (عليك بالرفق والقول السديد، ولا تكن فظًّا ولا متكبرًا ولا حسودًا) [الطبراني وابن عساكر وأبو نعيم].
ورجع عمرو إلى قومه، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، ثم قال لهم: يا بني رفاعة، بل يا معشر جهينة، إني رسول رسول الله إليكم، أدعوكم إلى الإسلام، وأخذ يعدد لهم خصال الإسلام، فقام رجل من قومه وقال له: يا عمرو بن مرة، أمر الله عيشك (أي جعله مُرًّا، أتأمرنا برفض آلهتنا، وأن نفرق جمعنا، ونخالف دين آبائنا إلى ما يدعونا إليه هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا حبًّا ولا كرامة.
فقال له عمرو: الكاذب منا أمرَّ الله عيشه، وأبكم لسانه وأكمه أسنانه. فاستجاب الله له، ولم يمت هذا الرجل حتى عمي، وصمَّ، وفسد عقله. وظل عمرو يدعو قومه حتى أسلم منهم عدد كبير، فذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكتب لهم كتابًا، أوصاهم فيه بالزكاة والصلاة والصدقة. [الترمذي وأحمد].
وظل عمرو مع النبي صلى الله عليه وسلم يشارك في الغزوات، ولم يتخلف عن معركة خاضها المسلمون، وشارك في حروب الردة، وفي الفتوحات الإسلامية، وتوفي -رضي الله عنه- في خلافة معاوية.
ــــــــــــــ(1/285)
صاحب الصوت الندي سالم بن معقل
إنه الصحابي الجليل سالم بن مَعْقِل -رضي الله عنه-، كان في الجاهلية عبدًا لأبي حذيفة بن عتبة، فأسلما معًا، وكان أبو حذيفة يتبناه ويعامله كابنه، فكان يسمى سالم بن أبي حذيفة، فلما أبطل الإسلام التبني، قيل: سالم مولى أبي حذيفة، وزوَّجه أبو حذيفة من ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد. وهاجر سالم إلى المدينة، وكان يستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويأخذه عنه، حتى صار من حفاظ القرآن وممن يؤخذ عنهم القرآن، بل كان من الأربعة الذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم، فقال: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبى بن كعب) [متفق عليه].
وعن عائشة قالت: استبطأني رسول الله ذات ليلة، فقال: ما حَبَسَكِ؟ قلت: إن في المسجد لأحسن مَن سمعتُ صوتًا بالقرآن، فأخذ رداءه، وخرج يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة. فقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك) [أحمد والحاكم].
ولما هاجر مع المسلمين إلى المدينة كان يؤم المسلمين للصلاة بمسجد قباء وفيهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وذلك قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر -رضي الله عنه- يكثر من الثناء عليه حتى أنه تمنى أن يكون حيًّا فيوليه الخلافة من بعده.
وعرف سالم بالصدق والشجاعة، واشترك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وغيرها من الغزوات، وخرج في السرية التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة بقيادة خالد بن الوليد، وحينما رأى سالم خالدًا يأمر بقتال هذه القبيلة دون أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ثار واعترض عليه ومعه بعض الصحابة، ولما عادوا أيدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. وظل سالم يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى.
وشارك سالم وأبو حذيفة مع الجيوش الإسلامية التي وجهها الصديق أبو بكر لمحاربة المرتدين عن الإسلام، فكان في مقدمة الجيش المتوجه إلى اليمامة لمحاربة مسيلمة الكذاب، وكان يصيح قائلاً: بئس حامل القرآن أنا لو هوجم المسلمون من قِبَلي، ثم اندفع في قتال المرتدين حاملاً راية الإسلام، بعد أن استشهد حاملها زيد بن الخطاب، ومَنَّ الله على جنوده بالنصر، وأصيب سالم بضربة قاتلة، فأسرع المسلمون إليه، والتفوا حوله فسألهم عن أخيه في الله ومولاه أبي حذيفة، فأخبروه بأنه قد استشهد ولقى ربه، فطلب منهم أن يضعوه بجواره؛ حتى يموتا معًا، ويبعثا معًا. فقالوا له: إنه إلى جوارك يا سالم، ففاضت روحه إلى الله لينعم بالشهادة.
ــــــــــــــ(1/286)
خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد قضى الله بحكمته أن يكون لنبيه المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم صحبٌ كرام، ورجال أفذاذ، هم خيرة الخلق بعد الأنبياء، وهم الذين حملوا رسالة هذا الدين وبثها في أصقاع المعمورة، واختصهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ولولا انفرادهم بالأفضلية والخيرية لما اختيروا لهذه الصحبة العظيمة، والتي هي أجلّ مرافقة على مرّ العصور، كيف لا! وهي مرافقة أفضل الخلق وأكرمهم- عليه الصلاة والسلام-.
ثم إنه قد وقع بين البعض من الصحابة رضوان الله عليهم شيء من الخلاف في أمور اجتهداو فيها، ورأى كلٌ منهم أنه على الحق، ولم يكن اختلافهم هذا من أجل دنيا يرغبون إصابتها، ولا ملك يريدون انتزاعه- كما يتوهم البعض من العامة-، بل كان السبب المُنشىء لهذا الخلاف هو: إحقاقُ الحق، الذي يرى كل منهم أنه معه، فرضي الله عنهم أجمعين.
ومن المؤسف أن يقع البعض في الصحابة الأخيار، وأن يُنال ممن صحبوا الرسول الكريم، وشهد لهم كبار هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بالخير والصلاح، ونصّبوهم المناصب العالية في دولتهم، وسيّروهم على الجيوش الفاتحة لبلاد العالم آنذاك.
ومن هؤلاء الصحابة الكرام، الصحابي الجليل، الخليفةُ والملك القائد،صاحب الفتوحات الإسلامية، والقائد المُحنَّك، وداهية زمانه: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه.
من هو مُعاوية؟
هو: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، يكنى أبا عبد الرحمن.
أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها: صفية بنت أمية بن حارثة بن الأقوص بن سليم.
كان أبيض طويلاًن أبيض الرأس واللحية، أصابته لُقوةٌ (اللّقوة: داء يصيب الوجه) في آخر حياته.
قال أسلم مولى عمر: قَدِمَ علينا معاوية وهو أبيض الناس وأجملهم.
ولقد كان حليماً وقوراً، رئيساً سيداً في الناس، كريماً عادلاً شهماً.
قال المدائني: عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض منفرسي العرب معاوية وهو صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند- أم معاوية- ثكِلْتُهُ إن كان لا يسود إلا قومه.
إسلامه
أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه يوم فتح مكة.
وروي عنه أنه قال: أسلمتُ يوم القضيَّة- أي: يوم عمرة القضاء-، وكتمت إسلامي خوفاً من أبي.
قال معاوية: لمّا كان يوم الحديبية وصدّت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، ودافعوه بالروحاء وكتبوا بينهم القضيَّة، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة، فقالت: إيَّاك أن تخالف أباك، وأن تقطع أمراً دونه فيقطع عنك القوت، وكان أبي يومئذ غائباً في سوق حُباشة.
قال: فأسلمت وأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإني مصدقٌ به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضية وأنا مسلم مصدق به، وعَلِمَ أبو سفيان بإسلامي فقال لي يوماً: لكن أخوك خير منك، وهو على ديني، فقلت: لم آل نفسي خيراً.
فضائله
1- كان أحد الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه كان يكتب الوحي، وفي هذه المسألة خلاف بين المؤرخين، وكان يكتب رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لرؤساء القبائل العربية.
2- شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب وزنها بلال رضي الله عنه.
3- شهد اليمامة، ونقل بعض المؤرخين أن معاوية ممن ساهم في قتل مسيلمة الكذاب.
4- صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث كثيرة، في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد.
5- روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
ثناء الصحابة والتابعين عليه
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بعد رجوعه من صفين: لا تكرهوا إمارة معاوية، والله لئن فقدتموه لكأني أنظر إلى الرؤوس تندرُ عن كواهلها.
وقال سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه-: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب- يعني معاوية-.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: ما رأيت رجلاً أخْلَقَ للمُلك من معاوية، لم يكن بالضيِّق الحصر.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: علمتُ بما كان معاوية يغلب الناس، كان إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار.
وعنه قال: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْوَدَ من معاوية- أي: من السيادة-، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْوَدَ من معاوية.
قال كعب بن مالك- رضي الله عنه-: لن يملك أحدٌ هذه الأمة ما ملك معاوية.
وعن قبيصة عن جابر- رضي الله عنه- قال: صحبتُ معاوية فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطل جهلاً، ولا أبعد أناةً منه.
عن أبي إسحاق قال: كان معاوية، وما رأينا بعده مثله.
حكم سب الصحابة
ينبغي لكل مسلم أن يعلم أنه لا يجوز له بحال من الأحوال لعنُ أحد من الصحابة، أو سبُّه، ذلك أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم نقلة هذا الدين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه » [متفق عليه].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » [رواه البخاري ومسلم].
فهم رضوان الله تعالى عليهم خيرٌ من الحواريين أصحاب عيسى، وخير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا مع هود ونوح وغيرهم، ولا يوجد في أتباع الأنبياء من هو أفضل من الصحابة، ودليل ذلك الحديث الآنف الذكر [انظر فتاوى ابن عثيمين].
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- عمن يلعن معاوية، فماذا يجب عليه؟
فأجاب: الحمد لله من لعن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ونحوهما، ومن هو أفضل من هؤلاء: كأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء: كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق، وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مُستحق للعقوبة البلغية باتفاق أئمة الدين، وتنازع العلماء: هل يُعاقب بالقتل، أم مادون القتل؟ كما بسطنا ذلك في غير هذا الموقع. [مجموع الفتاوى 35].
ولماذا يُصرُّ البعض على الخوض فيما وقع بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما- من خلاف، على الرغم من أن كثيراً من العلماء إن لم يكن جُلُّهم، ينصحون بعدم التعرض لهذه الفتنة، فقد تأول كلٌ منهم واجتهد، ولم يكن هدفهم الحظوظ النفسية أو الدنيوية، بل كان هدفهم قيادة هذه الأمة إلى بر الأمان، كلٌ وفق اجتهاده- وهذا ما أقرَّه العلماء-.
فمعاوية- رضي الله عنه- يعترف بأفضلية علي بن أبي طالب- رضي الله عنه، وأنه خيرٌ منه، أورد ابن عساكر- رحمه الله تعالى- في كتابه تاريخ دمشق ما نصه: جاء أبو موسى الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تُنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله! إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكنْ ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه؟ وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأُسلِّم له.
وإن من العقل والرؤية أن يُعرض المسلم عن هذا الخلاف، وأن لا يتطرق له بحال من الأحوال، ومن سمع شيئاً مما وقع بينهم فما عليه إلا الإقتداء بالإمام أحمد حينما جاءه ذلك السائل يسأله عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض الإمام عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله! هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ: { تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134] هذا هو الجواب نحو هذه الفتنة، لا أن يُتصدّر بها المجالس، ويُخطَّأ هذا، ويُصوّب ذاك!
فمعاوية رضي الله عنه صحابي جليل، لا تجوز الوقيعة فيه، فقد كان مُجتهداً، وينبغي للمسلم عند ذكره أن يُبيّن فضائله ومناقبه، لا أن يقع فيه، فابن عباس رضي الله عنه عاصر الأحداث الدَّائرة بين علي ومعاوية، وهو أجدرُ بالحكم في هذا الأمر، وعلى الرغم من هذا، إلا أنه حين ذُكر معاوية عنده قال: تِلادُ ابن هند، ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته، والله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض، ضنّاً منه بأحسابنا وحسبه.
كان معاوية من المشاركين في معركة اليرموك الشهيرة، وأورد الطبري- رحمه الله تعالى- أن معاوية كان من الموقعين على وثيقة استلام مدينة القدس بعد معركة اليرموك، والتي توَّجها الخليفة عمر بحضوره إلى فلسطين، وكان معاوية واليا على الشام ذلك الوقت.
عن الإمام أحمد قال: إذا رأيت الرجل يذكر أحداً من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتَهِمْهُ على الإسلام.
وقيل لابن المبارك: ما تقول في معاوية؟ هو عندك أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لترابٌ في مِنْخَرَيْ معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ- أو أفضل- من عمر بن عبد العزيز.
فعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، مع جلالة قدره، وعلمه، وزهده، وعدله، لا يُقاس بمعاوية، لأن هذا صحابي، وذاك تابعي!، ولقد سأل رجل المعافى بن عمران- رحمه الله تعالى- قائلاً: يا أبا مسعود! أين عمر بن عبد العزيز من معاوية؟ فغضب وقال: يومٌ من معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز عُمُره، ثم التفت إليه فقال: تجعل رجلاً من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم مثل رجل من التابعين.
قال الإمام الذهبي- رحمه الله- حسبك بمن يُؤمِّرهُ عمر، ثم عثمان على إقليم- وهو ثغر- فيضبطه، ويقوم به أتمّ قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم قد تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك.
قال المدائني: كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه في ثنايا هذه الأسطر، أن يُبيَّن أن كثيراً مما قيل ضِدَّ معاوية لا حقيقة له، ولعله من دسِّ الرافضة، الذين يحملون عليه، لا بسبب! إلا لامتناعه من التسليم لعليِّ رضي الله عنه.
ولولا فضل معاوية ومكانته عند الصحابة لما استعمله أمير المؤمنين عمر خلفاً لأخيه يزيد بعد موته بالشام، فكان في الشام خليفة عشرون سنة، وملكاً عشرون سنة، وكان سلطانه قوي، فقد ورد على لسان ابن عباس أنه قال: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْوَدَ من معاوية، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْود من معاوية- أي في السيادة-.
ثم إن معظم من ذكر معاوية- إما بسوء كالرافضة، أو الغُلاة الذين يُنابذونهم- قد طغوا في ذمهم إياه، أو مديحهم له بشكل غير مقبول البتة.
قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات: (قد تعصّب قوم ممن يدّعي السنة، فوضعوا في فضل معاوية أحاديث ليغيظوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمِّه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح).
وما أجمل أن نختم هذه الأسطر بقول شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى-:
(ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع: مِنْه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً. فالخوض فيما شجر يُوقع في نفوس كثير من الناس بُغضاً وذماً، ويكون هو في ذلك مُخطئاً، بل عاصياً، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك، فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله: إما من ذمّ من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمورٍ لا تستحق المدح).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــ(1/287)
الأحنف بن قيس
إمام في الحلم
ضرب به المثل في الحلم والورع كما ضرب المثل في الذكاء بالقاضي إياس فكانوا يقولون: "في حلم أحنف وذكاء إياس" إنه الصحابي الجليل الأحنف بن قيس، ولقد دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال "اللهم اغفر للأحنف فكان الأحنف يقول فما شيء أرجى عندي من ذلك".
نسبه
هو الأحنف بن قيس ابن معاوية بن حصين الأمير الكبير العالم النبيل أبو بحر التميمي اسمه ضحاك وقيل صخر وشهر بالأحنف لحنف رجليه وهو العوج والميل، قال سليمان بن أبي شيخ كان أحنف الرجلين جميعا ولم يكن له إلا بيضة واحدة واسمه صخر بن قيس أحد بني سعد وأمه باهلية فكانت ترقصه وتقول:
والله لولا حنف برجله، وقلة أخافها من نسله، ما كان في فتيانكم من مثله.
فضله ومناقبه
كان سيد تميم، أسلم في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ووفد على عمر.
حدث عن عمر وعلي وأبي ذر والعباس وابن مسعود وعثمان بن عفان وعدة، وعنه عمرو بن جاوان والحسن البصري وعروة بن الزبير وطلق ابن حبيب وعبد الله بن عميرة ويزيد بن الشخير وخليد العصري وآخرون وهو قليل الرواية.
قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا قليل الحديث وكان صديقا لمصعب ابن الزبير فوفد عليه إلى الكوفة فمات عنده بالكوفة.
قال أبو أحمد الحاكم هو الذي فتح مدينة مرو الروذ وكان الحسن وابن سيرين في جيشه ذاك.
وروي عن الأحنف بن قيس قال بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان إذ لقيني رجل من بني ليث فأخذ بيدي فقال ألا أبشرك قلت بلى قال أما تذكر إذ بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى الإسلام فجعلت أخبرهم وأعرض عليهم فقلت إنه يدعو إلى خير وما أسمع إلا حسنا فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال "اللهم اغفر للأحنف فكان الأحنف يقول فما شيء أرجى عندي من ذلك" رواه أحمد في مسنده
وروي عن الأحنف أيضا أنه قدم على عمر بفتح تستر فقال قد فتح الله عليكم تستر وهي من أرض البصرة فقال رجل من المهاجرين يا أمير المؤمنين إن هذا يعني الأحنف الذي كف عنا بني مرة حين بعثنا رسول الله في صدقاتهم وقد كانوا هموا بنا قال الأحنف فحبسني عمر عنده سنة يأتيني في كل يوم وليلة فلا يأتيه عني إلا ما يحب ثم دعاني فقال يا أحنف هل تدري لم حبستك عندي قلت لا يا أمير المؤمنين قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حذرنا كل منافق عليم فخشيت أن تكون منهم فاحمد الله يا أحنف"
قال خليفة توجه ابن عامر إلى خراسان وعلى مقدمته الأحنف فلقي أهل هراة فهزمهم فافتتح ابن عامر أبرشهر صلحا ويقال عنوة وبعث الأحنف في أربعة آلاف فتجمعوا له مع طوقان شاة فاقتتلوا قتالا شديدا فهزم الله المشركين قال ابن سيرين كان الأحنف يحمل ويقول "إن على كل رئيس حقا أن يخضب القناة أو تندقا"
وقيل سار الأحنف إلى بلخ فصالحوه على أربع مائة ألف ثم أتى خوارزم فلم يطقها فرجع.
وعن ابن إسحاق أن ابن عامر خرج من خراسان معتمرا قد أحرم منها وخلف على خراسان الأحنف وجمع أهل خراسان جمعا كبيرا وتجمعوا بمرو فالتقاهم الأحنف فهزمهم وكان ذلك الجمع لم يسمع بمثله.
قال ابن المبارك قيل للأحنف بم سودوك قال لو عاب الناس الماء لم أشربه.
وقال خالد بن صفوان كان الأحنف يفر من الشرف والشرف يتبعه وقيل للأحنف إنك كبير والصوم يضعفك قال إني أعده لسفر طويل
وقيل كانت عامة صلاة الأحنف بالليل وكان يضع أصبعه على المصباح ثم يقول حس ويقول ما حملك يا أحنف على أن صنعت كذا يوم كذا.
وروي أبو الأصفر أن الأحنف استعمل على خراسان فأجنب في ليلة باردة فلم يوقظ غلمانه وكسر ثلجا واغتسل.
وقال عبد الله بن بكر المزني عن مروان الأصفر سمع الأحنف يقول اللهم إن تغفر لي فأنت أهل ذاك وإن تعذبني فأنا أهل ذاك.
قال مغيرة ذهبت عين الأحنف فقال ذهبت من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد.
قال الحسن ذكروا عن معاوية شيئا فتكلموا والأحنف ساكت فقال يا أبا بحر مالك لا تتكلم قال أخشى الله إن كذبت وأخشاكم إن صدقت.
وعن الأحنف عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر.
حلم الأحنف
قيل عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة، وفيه قال الشاعر:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس*****ظللن مهابة منه خشوعا.
قال سليمان التيمي قال الأحنف ثلاث في ما أذكرهن إلا لمعتبر ما أتيت باب سلطان إلا أن أدعى، ولا دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما، وما أذكر أحدا بعد أن يقوم من عندي إلا بخير.
وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت أمري بأمور: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وقال لست بحليم ولكني أتحالم.
وقيل إن رجلا خاصم الأحنف وقال لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا فقال لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة.
وقيل إن رجلا قال للأحنف بم سدت وأراد أن يعيبه قال الأحنف بتركي ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وروي عن ذي الرمة قال شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم، فتكلم فيه وقال احتكموا قالوا نحتكم ديتين قال: ذاك لكم فلما سكتوا قال أنا أعطيكم ما سألتم. فاسمعوا إن الله قضى بدية واحدة وإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى بدية واحدة وإن العرب تعاطى بينها دية واحدة وأنتم اليوم تطالبون وأخشى أن تكونوا غدا مطلوبين فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم قالوا ردها إلى دية.
من كلمات الأحنف
عن الأحنف ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة شريف من دنيء وبر من فاجر وحليم من أحمق.
وقال من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون
وسئل ما المروءة قال كتمان السر والبعد عن الشر والكامل من عدت سقطاته.
وعنه قال رأس الأدب آلة المنطق لا خير في قول بلا فعل ولا في منظر بلا مخبر ولا في مال بلا جود ولا في صديق بلا وفاء ولا في فقه بلا ورع ولا في صدقة إلا بنية ولا في حياة إلا بصحة وأمن والعتاب مفتاح التقالى والعتاب خير من الحقد.
ورأى الأحنف في يد رجل درهما فقال لمن هذا قال لي قال ليس هو لك حتى تخرجه في أجر أو اكتساب شكر وتمثل أنت للمال إذا أمسكته، وإذا أنفقته فالمال لك.
وقيل: كان الأحنف إذا أتاه رجل وسع له فإن لم يكن له سعة أراه كأنه يوسع له وعنه قال جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه.
وقيل إنه كلم مصعبا في محبوسين قال أصلح الله الأمير إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل يسعهم وإن كانوا حبسوا في الحق فالعفو يسعهم.
وعنه قال: لا ينبغي للأمير الغضب لأن الغضب في القدرة مفتاح السيف والندامة.
وعنه قال: لا يتم أمر السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفة.
مواقف من حياته
قيل كان زياد معظما للأحنف فلما ولي بعده ابنه عبيد الله تغير أمر الأحنف وقدم عليه من هو دونه ثم وفد على معاوية في الأشراف. فقال لعبيد الله: أدخلهم على قدر مراتبهم فأخر الأحنف. فلما رآه معاوية أكرمه لمكان سيادته وقال إلي يا أبا بحر وأجلسه معه وأعرض عنهم فأخذوا في شكر عبيد الله بن زياد وسكت الأحنف. فقال له لم لا تتكلم قال إن تكلمت خالفتهم. قال: اشهدوا أني قد عزلت عبيد الله فلما خرجوا كان فيهم من يروم الإمارة ثم أتوا معاوية بعد ثلاث وذكر كل واحد شخصا وتنازعوا. فقال معاوية: ما تقول يا أبا بحر قال إن وليت أحدا من أهل بيتك لم تجد مثل عبيد الله فقال قد أعدته قال فخلا معاوية بعبيد الله، وقال كيف ضيعت مثل هذا الرجل الذي عزلك وأعادك وهو ساكت فلما رجع عبيد الله جعل الأحنف صاحب سره.
عن أيوب عن محمد قال نبئت أن عمر ذكر بني تميم فذمهم فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي. قال تكلم قال إنك ذكرت بني تميم فعممتهم بالذم وإنما هم من الناس فيهم الصالح والطالح فقال صدقت فقام الحتات وكان يناوئه فقال يا أمير المؤمنين ائذن لي فأتكلم قال اجلس فقد كفاكم سيدكم الأحنف.
قال الشعبي وفد أبو موسى الأشعري وفدا من البصرة إلى عمر منهم الأحنف بن قيس فتكلم كل رجل في خاصة نفسه. وكان الأحنف في آخر القوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا أمير المؤمنين فإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه وإن أهل الشام نزلوا منازل قيصر وأصحابه وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار والجنان، وفي مثل عين البعير وكالحوار في السلى تأتيهم ثمارهم قبل أن تبلغ وإن أهل البصرة نزلوا في أرض سبخة زعقة نشاشة لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها وطرفها في بحرأجاج وطرف في فلاة لا يأتينا شيء إلا في مثل مريء النعامة فارفع خسيستنا وانعش وكيستنا، وزد في عيالنا عيالا وفي رجالنا رجالا، وصغر درهمنا وكبر قفيزنا ومر لنا بنهر نستعذب منه فقال عمر وفاته
مات الأحنف سنة 67هـ وقيل: مات في إمرة مصعب بن الزبير على العراق رحمه الله.
عن عبد الرحمن بن عمارة بن عقبة قال حضرت جنازة الأحنف بالكوفة فكنت فيمن نزل قبره فلما سويته رأيته قد فسح له مد بصري فأخبرت بذلك أصحابي فلم يروا ما رأيت.
قال أبو عمرو بن العلاء توفي الأحنف في دار عبيد الله بن أبي غضنفر فلما دلي في حفرته أقبلت بنت لأوس والسعدي وهي على راحلتها عجوز فوقفت عليه وقالت من الموافى به حفرته لوقت حمامه قيل لها الأحنف بن قيس قالت والله لئن كنتم سبقتمونا إلى الاستمتاع به في حياته لا تسبقونا إلى الثناء عليه بعد وفاته ثم قالت لله درك من مجن في جنن ومدرج في كفن وإنا لله وإنا إليه راجعون نسأل من ابتلانا بموتك وفجعنا بفقدك أن يوسع لك في قبرك وأن يغفر لك يوم حشرك أيها الناس إن أولياء الله في بلاده هم شهوده على عباده وإنا لقائلون حقا ومثنون صدقا وهو أهل لحسن الثناء أما والذي كنت من أجله في عدة ومن الحياة في مدة ومن المضمار إلى غاية ومن الآثار إلى نهاية الذي رفع عملك عند انقضاء أجلك لقد عشت مودودا حميدا ومت سعيدا فقيدا ولقد كنت عظيم الحلم فاضل السلم رفيع العماد واري الزناد منير الحريم سليم الأديم عظيم الرماد قريب البيت من الناد.
قال قرة بن خالد حدثنا أبو الضحاك انه أبصر مصعبا يمشي في جنازة الأحنف بغير رداء.
ــــــــــــــ(1/288)
أبو سلمة
من هو: أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأَسَدِ بنِ هِلاَلِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمِ بنِ يَقَظَةَ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ.
السَّيِّدُ الكَبِيْرُ، أَخُو رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَابْنُ عَمَّتِهِ: بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ.
وَأَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، هَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ، وَشَهِدَ بَدْراً، وَمَاتَ بَعْدَهَا بِأَشْهُرٍ، وَلَهُ أَوْلاَدٌ صَحَابَةٌ: كَعُمَرَ، وَزَيْنَب، وَغَيْرِهِمَا.
وَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَوْجَتِهِ أُمّ سَلَمَةَ، تَزَوَّجَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَرَوَتْ عَنْ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ القَوْلَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ، وَكَانَتْ تَقُوْلُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا ظَنَّتْ أَنَّ اللهَ يُخْلِفُهَا فِي مُصَابِهَا بِهِ بِنَظِيْرِهِ، فَلَمَّا فُتِحَ عَلَيْهَا بِسَيِّدِ البَشَرِ، اغْتَبَطَتْ أَيّمَا اغْتِبَاطٍ.
مَاتَ كَهْلاً، فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ مِنَ الهِجْرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
هجرته الى الحبشة
هُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُوْنٍ حِيْنَ قَدِمَ مِنَ الحَبَشَةِ، فَأجَارَهُ أَبُو طَالِبٍ.
رَجَعُوا حِيْنَ سَمِعُوا بِإِسْلاَمِ أَهْلِ مَكَّةَ، عِنْدَ نُزُوْلِ سُوْرَة وَالنَّجْمِ.
قَالَ مُصْعَبُ بنُ عَبْدِ اللهِ: وَلَدَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِالحَبَشَةِ: سَلَمَةَ، وَعُمَرَ، وَدُرَّةَ، وَزَيْنَب.
زواج الرسول من أم سلمة بعد وفاته
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا حَضَرْتُمْ المَيِّتَ فَقُوْلُوا خَيْراً، فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُوْلُوْنَ).
قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ:
يَا رَسُوْلَ اللهِ! كَيْفَ أَقُوْلُ؟
قَالَ: (قُوْلِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَأَعْقِبْنَا منهُ عُقْبَى صَالِحَةً).
فَأَعْقَبَنِي اللهُ خَيْراً مِنْهُ؛ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ مُصِيْبَةٌ، فَلْيَقُلْ: إِنَّا لِلِّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، اللَّهُمَّ عِنْدَكَ أَحْتَسِبُ مُصِيْبَتِي، فَأْجُرْنِي فِيْهَا، وَأَبْدِلْنِي خَيْراً مِنْهَا).
فَلَمَّا احْتُضِرَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتَ ذَلِكَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَقُوْلَ: وَأَبْدِلْنِي خَيْراً مِنْهَا، فَقُلْتُ: وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟
فَلَمْ أَزَلْ حَتَّى قُلْتُهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، خَطَبَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَرَدَّتْهُ، وَخَطَبَهَا عُمَرُ، فَرَدَّتْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَتْ: مَرْحَباً بِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِرَسُوْلِهِ
وفاته
شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ أُحُداً، وَكَانَ نَازِلاً بِالعَالِيَةِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيْدٍ، فَجُرِحَ بِأُحُدٍ، وَأَقَامَ شَهْراً يُدَاوِي جُرْحَهُ.
فَلَمَّا هَلَّ المُحَرَّمُ، دَعَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: (اخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ).
وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَقَالَ: (سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ، فَأَغِرْ عَلَيْهِم).
وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُوْنَ وَمَائَةٌ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَدْنَى قطنٍ مِنْ مِيَاهِهِم، فَأَخَذُوا سرْحاً لَهُم، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المَدِيْنَةِ بَعْدَ بِضْع عَشْرَة لَيْلَةً.
فلَمَّا دَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ المَدِيْنَةَ انْتَقَضَ جُرْحُهُ، فَمَاتَ لِثَلاَثٍ بَقِيْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، يَعْنِي: سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَقِيْلَ: مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ سَنَةَ ثَلاَثٍ.(السير )
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الرابع عشر - الصحابة رضي الله عنهم : ... خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
خليفة رسول الله أبو بكر الصديق ... 3
أبو بكر الصديق ... 8
بيعة أبي بكر الصديق ... 17
وفاة الصديق ... 23
وَصيَّة أبي بَكر رَضيَ الله عَنه ... 27
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... 27
شهيد المحراب عمر بن الخطاب ... 29
الفاروق عمر بن الخطاب ... 35
مَقتَل الخليفَة عُمَر بن الخَطّابْ ... 40
قيام الفاروق عمر رضي الله عنه ... 45
ذو النورين عثمان بن عفان ... 48
عثمان بن عفان ... 52
خلاَفة عُثمان بن عَفّان ... 59
المجتَمَع الإسْلاَميّ أيَّام عُثمان ... 62
عبدالله بن سبأ ودوره في ظهور الفتنة : ... 66
جمع أمراء الأمصار في موسم الحج : ... 67
مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ... 71
فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ... 78
1- ... كيف بدأت الفتنة ... 79
2- ... أسباب الفتنة الحقيقية ... 79
3- طبيعة المجتمع في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ... 81
3- ... طبيعة المجتمع في عهد أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ... 82
4- ... بداية الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه وأسبابها الخفية ... 84
5- اغتيال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ... 87
6 - مؤامرة قتل الخليفة الراشدي عثمان رضي الله عنه ... 88
7- شخصية معاوية رضي الله عنه ... 93
8- محاولة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه رأب الصدع ... 94
9- اعتراضات مردودة ... 97
10- حصار الخليفة عثمان رضي الله عنه واستشهاده ... 111
11- الفتنة في عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ... 120
11- معركة الجمل واسبابها ... 132
12 - معركة صفين وأسبابها ... 143
13- ظهور فتنة الخوارج في أواخر عهد علي رضي الله عنه ... 154
14- استشهاد علي رضي الله عنه ... 163
15- تنازل الحسن بالخلافة لمعاوية رضي الله عنهما ... 166
الفدائي الأول علي بن أبي طالب ... 168
على بن أبى طالب ... 172
بيعة علي ... 181
المجتَمَع الإسْلاَمي أيَّام عَليّ ... 186
مقتل علي : ... 203
حروب الردة : ... 205
الفتوحات الإسلامية في عهد الصديق : ... 219
الفتوحَات في عَهْدِ عمَر ... 228
الفتوحَات في عَهدِ عثمان ... 263
فضل الخلفاء الراشدين ... 268
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين ... 288
أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح ... 303
أبو عبيدة ابن الجراح ... 306
أول الرماة في سبيل الله سعد بن أبي وقاص ... 312
سعد بن ابى وقاص ... 315
الثري العفيف عبد الرحمن بن عوف ... 323
عبد الرحمن بن عوف ... 325
مستجاب الدعوة سعيد بن زيد ... 331
سعيد بن زيد ... 333
حواري الرسول الزبير بن العوام ... 336
الزبير بن العوام ... 338
شهيد يمشي على الأرض طلحة بن عبيد الله ... 344
طلحة بن عبيد الله ... 347
طلحة بن عبيد الله ... 352
حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم :زيد بن حارثة ... 357
أول سفير في الإسلام مصعب بن عمير ... 360
مصعب بن عمير ... 362
دروس وعبر من حياة مصعب بن عمير ... 365
مصعب بن عمير سفير فوق العادة ... 379
مصعب بن عمير أول سفراء الإسلام ... 380
سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه ... 383
مصعب بن عمير.. أنموذج مبهر للداعية المسلم ... 391
مؤذن الرسول بلال بن رباح ... 394
بلال بن رباح ... 396
الطيب المطيب عمار بن ياسر ... 399
سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ... 401
سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ... 404
حمزة بن عبد المطلب عم الرسول ... 406
صاحب دار الدعوة الأرقم بن أبي الأرقم ... 410
ذو الجناحين جعفر بن أبي طالب ... 411
جعفر الطيار..ولغة الخطاب الإسلامي ... 413
دروس وعبر من حياة جعفر رضي الله ... 417
أول من سجهر بالقرآن عبد الله بن مسعود ... 430
عبد الله بن مسعود ... 434
عبدالله بن مسعود ... 441
سابق الروم صهيب الرومي ... 448
فاتح مصر عمرو بن العاص ... 450
سيف الله المسلول خالد بن الوليد ... 452
لماذا عزل عمر خالدًا رضي الله عنهما ؟ ... 455
أول من أظهر إسلامه خباب بن الأرت ... 465
راهب الليل عبد الله بن عمر بن الخطاب ... 467
عبد الله بن عمر الورع التقي ... 471
حبر الأمة عبد الله بن عباس ... 475
الشهيد العائذ بالبيت عبد الله بن الزبير ... 478
قيام عبد الله بن الزبير بن العوام ... 481
شهيد السماء سعد بن معاذ ... 482
عبر من سيرة سعد بن معاذ ... 485
الكريم سعد بن عبادة ... 508
ابن الإسلام سلمان الفارسي ... 510
سلمان الفارسي الباحث عن الحقيقة ... 514
شبيه إبراهيم معاذ بن جبل ... 525
معاذ بن جبل إمام العلماء ... 527
معاذ بن جبل القدوة ... 531
توجيه نبوي لمعاذ ... 542
وقفة مع معاذ بن جبل ... 568(1/289)