وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " : " وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكنى عن بعضه ولا يصرح به ، خوفا على نفسه منهم ، كقوله : " أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان " ، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة ..... ثم قال : " ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة ، لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها ، لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم ، وقال غيره : " يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة ، وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان ، فينكر ذلك من لم يألفه ، ويعترض عليه من لا شعور له به " أهـ .
وأيا كان تأويل الحديث فليس فيه ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بشيء من ذلك دون غيره من الصحابة .
كل ذلك نموذج لما قيل في هذا الصحابي الجليل ، وهو يكاد يرجع في أصوله ومعناه إلى ما قاله الأقدمون من أهل الأهواء ، بفارق واحد كما قال العلامة " أحمد شاكر " أن أولئك الأقدمين - زائغين كانوا أو ملحدين - كانوا علماء مطلعين ، أكثرهم ممن أضله الله على علم ، وأما هؤلاء المعاصرون فليس إلا الجهل والجرأة وترديد ألفاظ لا يفهمونها ، بل هم فيها مقلدون متبعون لكل ناعق .
وقد تعرض الحاكم رحمه الله في المستدرك لكل من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه ، وجعلهم أصنافاً ، وكأنما يرد على هؤلاء المعاصرين فقال رحمه الله : " وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم ، فلا يفهمون معاني الأخبار ، إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم - الذي هو كفر - فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه ، تمويهاً على الرعاع والسفل ، أن أخباره لا تثبت بها الحجة .
وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام ، إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذي هو ضلال ، لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان ، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة .أو قدري اعتزل الإسلام وأهله ، وكفَّر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها ، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك ، كانت حجته عند نفسه : أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها .
أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه ، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره ، تقليداً بلا حجة ولا برهان ، تكلم في أبي هريرة ، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ، ويحتج بأخباره على مخالفيه ، إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه .
وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها ، أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله تعالى " أهـ .
ثم أخذ الحاكم يذكر بعض الأحاديث التي استشكلت من أحاديث أبي هريرة ويجيب عنها .
فهذه كلمة الحق في رواية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه ، وهذا هو ما ذهب إليه أئمة الهدى ، وأعلام التقى ، وكبار فقهاء الإسلام ومحدثيه ، وإن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على مرأى ومسمع من كبار الصحابة والتابعين ، ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم ، لا يعرف أن أحداً من الصحابة بلغ مبلغه في الآخذين عنه ، وكلهم يجمع على جلالته والثقة به ، وينطوي على ذلك تاريخ الإسلام أربعة عشر قرناً من الزمان ، وكلها شهادات حق وصدق في أحاديثه وأخباره ، ليأتي اليوم من يشكك فيه ، ويزعم أن المسلمين جميعاً أئمة وأصحاباً وتابعين ومحدثين كانوا مخدوعين فيه ، ولم يعرفوه على حقيقته ، وأنه كان يكذب ويفتري في الواقع ، فأي إزراء واستخفاف بعقول هذه الأمة وعلومها ودينها أعظم من هذا ، وصدق الله : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }( الحج 46)
_______________
المراجع :
- السنة ومكانتها في التشريع د.مصطفى السباعي .
- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة .
- أبو هريرة راوية الإسلام د. محمد عجاج الخطيب .
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ، الأمين الصادق الأمين .
- الحديث والمحدثون محمد أبو زهو .
- المستشرقون والحديث النبوي د. محمد بهاء الدين .
- الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني .
ــــــــــــــ(1/122)
أبو هريرة رضي الله عنه .. و لو كره الكارهون
لا يكف الذين أدعو الله لهم أن يرشدهم إلى الطريق السوي في التعامل مع دينهم ، عن محاولاتهم النيل من هذا الدين و تشويه أهله الأولين ، و هم لا يزالون على هذا بدأب عجيب و كأن لا هم لهم إلا أن يسمعوا على المنابر يوما السخريات و اللعنات تصب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لأنهم هم من حرفوا الدين و خرجوا به عن الصراط
إن الوسيلة الأمثل للحكم على عمل عامل أو قول قائل هي النظر إلى النتائج المترتبة على العمل أو القول ، فإذا كانت النتيجة التي يؤدي إليها هذا التطاول المستمر على أصحاب رسول الله و على سنة رسول الله هي ضياع احترام رسول الله صلى الله عليه و سلم ذاته ، فلا أدري كيف أصف الحكم الذي نحكم به على أعمال و أقوال هؤلاء ... و إذا كان الراشدون المهديون الذين أجمعت الأمة عليهم قد "أجرموا في حق دين الله " كما يقول المفترون ، فكيف ببقية ما نعلم من هذا الدين؟ ، و لننظر في أجيال من الشباب الحاليين و القادمين يسمعون ما يقوله أولئك ، كيف سيمكن أن يقتنع شاب من هؤلاء بأن هداه يوجد في مثل هذا الدين الذي لا يحترمه أهله ، بل إنهم قد ضلوا على مدي ألف و أربعمائة سنة ، بسبب انحراف السابقين الأولين به
ألن يسأل سائل من الناشئة هذا السؤال: إن كان رسول الله فعلا قديرا و مؤهلا لرسالة الله الخاتمة ، فكيف عجز عن أن يختار أصحابا يكونون أهل ثقة و إيمان صحيح؟ .... فليدلني واحد على إجابة لمثل هذا السؤال
لقد شهد الله تعالى لأصحاب محمد فقال تعالى في الفتح
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً "29
لم يقل سبحانه و تعالى الذين آمنوا معه ، بل "و الذين معه " ، و شبههم بالرسول المصطفي ذي الخلق العظيم ، فهو صلى الله عليه و سلم شديد على الكفار رحيم بالمؤمنين ، و أصحابه مثله ... و يشهد الله لهم بالإيمان ، فحالهم في الركوع و السجود هو ابتغاء الفضل من الله و الرضوان ، لا الرياء و لا السمعة ، و لكن من بيينا في أيامنا الحالية من يخالف قول الله فيتهمهم بأنهم انحرفوا بدين الله عن إرادة الله تعالى ،
فأي شهادة نقبل ، شهادة الله تعالى أم شهادة عمرو و صبحي و حسين و غيرهم ممن يظنون أنهم اكتشفوا الحق و لم يعرفه أحد من قبلهم؟
و لا أعلم من أن تأتي تهمة التقديس هذه التي يرددونها كلما كتبوا ، فيدعون أننا نقدس هؤلاء ، و يستشهدون بالكتب المتداولة منذ ألف سنة بحكايات و أخبار ، ينكرونها على البعض من الصحابة و التابعين ، في حين أنهم لو أرادوا الحق بالفعل ، لكانت تلك الرويات دليلا لهم على أنه لا تقديس و لا يحزنون ، فالمسلمون و منذ البداية يفكرون و يختلفون ، و الكتب تسجل كل ما كان ، فأين التقديس؟ ... لم يكونوا إلا بشرا و لكن قد من الله عليهم فاختاروا صراطه المستقيم ، و قد وعدهم سبحانه المغفرة و الأجر العظيم ... و لكن من بيننا الآن في أيامنا الحالية من يستنكر هذا ، بل و يرسل غضبه و لعناته عبر القرون إليهم
كل إناء يفيض بما فيه ، و لو أن في داخل هؤلاء ما هو خير مما يقولون به لقالوه ، إذ لاشك أن هناك أساليب للنقد و التمحيص ترقى إلى مستوى السلوك الذي يرضى عنه الله تعالى ، و لكنهم لم يجدوا في أنفسهم إلا السخرية و الاستهزاء و التقليل من شأن من اختارهم الله تعالى و هيأهم لنصرة دينه الخاتم ، و يسمون هذا نقدا و فكرا
..يستطيع النقد و الفكر أن يتعايشا مع التأدب و الاحترام ، و علينا أن نجمع بينهم قبل أن نخرج إلى الناس بما في أنفسنا ، على الأقل خشية من الناس أن يقولوا إننا ينقصنا الأدب ، و لن أقول خشية لله تعالى ، و التزاما بروح دينه
آخر ما خرج به علينا أحدهم هو هذا الكلام الذي حاول كاتبه التشكيك في أمانة أبي هريرة رضي الله عنه ، و خصوصية الرجل أنه أكثر رواة الحديث رواية ، و الهدف المعلن دائما هو التحلل من سنة الرسول عليه الصلاة و السلام ، وقد انتقى الكاتب بعض الروايات دون البعض ، بل لقد اقتطع من بعض الأحاديث ، فذكر من صحيح مسلم أن النبي قال " لا تكتبوا عني غير القرآن و من كتب عني غير القرآن فليمحه" ، رغم أن رواية مسلم تقول: "لا تكتبوا عني ، و من كتب عني غير القرآن فليمحه ، و حدثوا عني و لا حرج ، و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ، أليس الاقتطاع من الحديث تضليلا؟ ، و لن أقول إنه كذب متعمد ، فليقله غيري إن شاء أحد أن يقولها ، و ليغفر الله للجميع
فالمنع لم يكن من الحديث ، و لكنه كان من الكتابة ، و من أبسط ما يكون أن نفهم هذا على أنه الخشية من اختلاط غير القرآن بالقرآن ، فلما تم جمع القرآن لاحقا و بدأ تباعد العهد بزمن رسول الله و انتشر المسلمون في البلاد فإن التحديث بالكلام لن يكفي و سوف تشتد الحاجة للتدوين ، هذا هو المنطق ، و في صحيح مسلم كذلك ، و في نفس الموضع الذي فيه الحديث المذكور أعلاه ، و الذي اقتطع منه كاتب ذلك المقال ، قال مسلم كلاما يعتبر عدم نقله برغم نقل الحديث درجة من الكذب ، فلقد قال ما يلي: " كان بين السلف من الصحابة و التابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثيرون منهم ، و أجازها أكثرهم ، ثم أجمع المسلمون على جوازها و زال ذلك الخلاف"
ثم أضاف مسلم قائلا " و اختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي ، فقيل هو في حق من لا يوثق بحفظه و يخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب ، و تُحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من يوثق بحفظه ، كحديث "اكتبوا لأبي شاه" و حديث صحيفة علي رضي الله عنه ، و حديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض و السنن و الديات ، و حديث كتاب الصدقة و نصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين ، و حديث أبي هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب و لا أكتب ، و غير ذلك من الأحاديث و قيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث ، و كان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلما أمن ذلك ، أذن في الكتابة و قيل إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط ، فيشتبه على القارئ"
فهل نرى العقول المتفتحة في مثل هذا الكلام ؟ و هل نرى العقول المنغلقة التي تعيش حولنا ؟ ... و لكنك إذا ما حدثتهم الحديث كله قالوا بأنه لا نسخ ، و أن الرواة كذابون ، و منافقون للحكام ... و هدموا كل ما تم بناؤه على مدي القرون ، لكى لا يبقى إلا الخراب
.إنهم يستشهدون بأن عمر منع تدوين الحديث ، و لكن لماذا عمر بالتحديد؟ ، لماذا لم يؤثر عن أبي بكر مثلا منع من يحدثون عن رسول الله ، ثم إن ابن عمر ذاته هو من أبرز الرواة ، و ربما ساوى أبي هريرة ، فلما لم يمنعه أبوه ، بل إن ابن عمر تميز بأنه كان يكتب ، و لم يكن أبو هريرة يكتب ، و عن أبي هريرة فقد حاول الكاتب في ذلك المقال أن يسيئ إليه ، فقال إنه تحرر بعد استشهاد عمر و عاد إلى الرواية في قصر معاوية ، و بين معاوية و عمر قرب عقدين من الزمان لا ندري أين كان فيهما أبو هريرة ، و قد أشار الكاتب إلى كتاب تذكرة الحفاظ للذهبي كمرجع لهذه الجزئية ، مع أن الذهبي كتب في تذكرة الحفاظ عن أبي هريرة مقالا قصيرا في حوالي ألف كلمة لم ترد فيها كلمة معاوية ، و ليس فيها أي شيئ سلبي عن صاحب رسول الله أبي هريرة
و حاول الإساءة أيضا موردا قول ابن الجوزي بأنه لم يكن من فقهاء الصحابة ، و أن عمر أنكر عليه أشياء ، و لا أعلم ما يعيبه في هذا ، فلقد تميز بأنه الحافظ الراوية المصاحب لرسول الله لم يفارقه ، لا بالفقه ، ثم إن أبا بكر قد أنكر أشياء على عمر و على قد أنكر على عمر و على عثمان و غيرهما ، و كفانا بالحكاية الشهيرة التي فيها "أصابت امراة و أخطأ عمر" ... فهل يخرجهم هذا من دائرة الثقة و الاحترام ، ألم يكونوا بشرا يبتغون فضلا من الله و رضوانا؟ ، بلى كانوا بشرا يتناصحون بينهم و يأمرون بعضهم بعضا بالمعروف ، و يسددون و يقاربون ، و كان الله معهم دائما
و يزيد كاتب ذلك المقال فيزعم أن عمرا قد اتهم أبا هريرة "ليس بالكذب فحسب بل و بسرقة مال المسلمين عندما ولاه البحرين" ، و في هذه المرة لا يذكر مرجعه في هذا الادعاء ، و في الحقيقة إن لهذا أصلا ، و لكن الكاتب يكرر نفسه فيقتطع من الروايات لغرض يعلمه الله ، فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء تلك الحكاية قائلا إن: "عمرا استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة ألاف فقال له عمر استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله و عدو كتابه ، فقال أبو هريرة فقلت لست بعدو الله و لا عدو كتابه ، و لكني عدو من عاداهما ، قال فمن أين هي لك قلت خيل نتجت و غلة رقيق لي و أعطية تتابعت ، فنظروا فوجدوه كما قال" ... كان هذا هو الأمر الذي ذكر كاتب المقال نصفه فقط و كأن المتهم لا حق له في الدفاع
و يكمل الذهبي فيقول " فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليوليه فأبى ، فقال (عمر) تكره العمل و قد طلب العمل من كان خيرا منك ، يوسف عليه السلام ، فقال (أبو هريرة) يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ، و أنا أبو هريرة بن أميمة ، و أخشى ثلاثا و اثنتين ، قال (عمر) فهلا قلت خمسا ، قال (أبو هريرة) أخشى أن أقول بغير علم و أقضي بغير حلم و أن يضرب ظهري و ينتزع مالي و يشتم عرضي
هكذا كان الرجل الذي يفترون عليه ، وهكذا كان الافتراء في ذلك المقال .. و أكثر من هذا فقد انتقد الكاتب أن أبا هريرة كان يحب المال ، بغير أن يدلل على هذا ، و لا ينفي التاريخ أن أبا هريرة كان له مال ، و لكن تلك الكتب كذلك تذكر انه كان لطيفا ويحب الدعابة.. ونعلم أن عثمان ابن عفان كان مليونيرا وربما أكثر من هذا ، أليس المسلم العزيز القوي اللطيف خيرا من المسلم الكئيب البغيض ؟
و إذا كان البخاري قد اختار أقل من عشرة بالمئة مما يقال إن أبا هريرة رواه ، ألا يشهد هذا للبخاري ، و ألا يخبرنا هذا أنه من الممكن أن روايات كثيرة قد نسبها البعض إلى أبي هريرة ، إن الكتب فيها الكتب التي تتحدث عن الكذابين و المدلسين و الضعفاء و المتروكين ، و فيها التي تخبرنا عن الصادقين و الحفاظ و أهل العلم ، و عندما نرى كل هذا فيجب أن نحمد الله تعالى أن قيض لنا من حفظ هذا العلم و بذل ما أمكنه الله من جهد ليصلنا أصح ما يكون ، و علينا عندئذ أن نحمد لهم جهدهم ، و نري ما يمكننا أن نضيف إلى ما بين أيدينا ، لا أن نهدم ما بنوه ... و لعن الله من يريد أن يوقظ الفتنة
ــــــــــــــ(1/123)
سيرة أبي هريرة رضي الله عنه
أبوهريرة هو عبد الرحمن بن صخر من ولد ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم ابن دوس اليماني ، فهو دوسي نسبة إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر وهو سنوءة ابن الأزد ، والأزد من أعظم قبائل العرب وأشهرها ، تنسب إلى الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان من العرب القحطانية .الراجح عند العلماء أن اسمه في الجاهلية : عبد شمس .
فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " عبد الرحمن " ، لأنه لايجوز تسمية إنسان بأنه عبد فلان أو عبد شيء من الأشياء ، وإنما هو عبد الله فقط ، فيسمى باسم عبد الله أو عبد الرحمن وهكذا ، وعبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب .
اشتهر أبوهريرة بكنيته ، وبها عرف حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى .
أخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إنما كنّوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما لأهلي ، فوجدت أولاد هرة وحشية ، فجعلتها في كمي ، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر من حجري ، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس ؟ فقلت : أولاد هرة وجدتها ، قالوا : فأنت أبوهريرة ، فلزمني بعد .
وأخرج الترمذي عنه قال: كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة ، فكنت أضعها بالليل في الشجرة ، فإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها فكنوني بأبي هريرة
لكن يقول أبو هريرة رضي الله عنه :" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوني : أبا هرٍ ، ويدعوني الناس: أبا هريرة " .
ولذلك يقول: " لأن تكنونني بالذكر أحب إلي من أن تكنونني بالأنثى" .
اسلامه وصحبته:
المشهور أنه أسلم سنة سبع من الهجرة بين الحديبية وخيبر وكان عمره حينذاك نحواً من ثلاثين سنة ، ثم قدم المدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حين رجوعه من خيبر وسكن ( الصّفة) ولازم الرسول ملازمة تامة ، يدور معه حيثما دار ، ويأكل عنده في غالب الأحيان إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام .
حفظه وقوة ذاكرته :
كان من أثر ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ملازمة تامة ، أن اطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أقوال الرسول وأعماله ، ولقد كان سيء الحفظ حين أسلم ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له : افتح كساءك فبسطه، ثم قال له : ضمه إلى صدرك فضمه ، فما نسي حديثاً بعده قط .هذه القصة - قصة بسط الثوب - أخرجها أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد ، والنسائي ، وأبي يعلى،وأبي نعيم .
ثناء الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأهل العلم عليه :
أكرم الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بآيات كثيرة تثبت لهم الفضل والعدالة ، منها ما نزل في صحابي واحد أو في أصحاب مشهد معين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،كرضوانه عن الذين بايعوا تحت الشجرة في الحديبية ، ومنها ما نزل فيهم عامة ودخل تحت ظلها كل صحابي ، وكذلك أكرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه رضي الله عنهم بمثل ذلك من الاستغفار وإعلان الفضل والعدالة لبعضهم أو لطبقة منهم أو لهم عامة .
فمن الآيات العامة الشاملة قوله عزوجل :{ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح /29] ، ومن آخر الآيات نزولاً قوله { لَقَد تابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمهَجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهٌ فِىِ سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنهُو بهَمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة/117] .
فأبو هريرة واحد من الصحابة رضي الله عنهم ينال أجر الصحبة المطلقة ، ويكسب العدالة التي لحقت بهم جميعاً وأثبتتها آيات القرآن الكريم السابقة . وهو ينال شرف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينال أجر الهجرة إلى الله ورسوله ، إذ كانت هجرته قبل الفتح وشرف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وأجر الجهاد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجر حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :والذي نفس محمد بيده ، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي ، لما رأيت من حرصك على العلم .
وفي رواية قال : لقد ظننت لايسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ،لما رأيت من حرصك على الحديث .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبوهريرة وعاء من العلم
قال زيد بن ثابت : فقلنا : يارسول الله، ونحن نسأل الله علما لاينسى فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي .
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه في مسألة ، فقال ابن عباس لأبي هريرة رضي الله عنه : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة .
قال الشافعي : أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره .
وقال البخاري : روى عنه نحو ثمانمائة من أهل العلم ، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره .
وقال الذهبي : الإمام الفقيه المجتهد الحافظ ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أبو هريرة رضي الله عنه الدوسي اليماني ، سيد الحفاظ الأثبات .
وقال في موضع آخر : أبو هريرة رضي الله عنه إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأدائه بحروفه .
وقال أيضاً: كان أبو هريرة رضي الله عنه وثيق الحفظ ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث .
وقال أيضاً : هو رأس في القرآن ، وفي السنة ، وفي الفقه .
وقال : أين مثل أبي هريرة رضي الله عنه في حفظه وسعة علمه .
الصحابة الذين روى عنه :
روى عن كثير من الصحابة منهم : أبو بكر ، وعمر ، والفضل بن العباس ، وأبي ابن كعب ، وأسامة بن زيد ، وعائشة رضي الله عنهم .
وأما الصحابة الذين رووا عنه : منهم ابن عباس ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ، وواثلة بن الأسقع ، وجابر بن عبدالله الأنصاري وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم .
التابعون الذين رووا عنه :
ومن التابعين سعيد بن المسيب وكان زوج ابنته، وعبدالله بن ثعلبة ، وعروة ابن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وسلمان الأغر، وسليمان بن يسار، وعراك بن مالك ، وسالم بن عبدالله بن عمر، وأبو سلمة وحميد ابنا عبدالرحمن بن عوف، ومحمد بن سيرين ، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار رضي الله عنهم وكثيرون جداً بلغوا كما قال البخاري : ثمانمائة من أهل العلم والفقه عدة ما روي عنه من الحديث :
أخرج أحاديثه جمع من الحفاظ من أصحاب المسانيد ، والصحاح ، والسنن ، والمعاجم ، والمصنفات ، وما من كتاب معتمد في الحديث ، إلا فيه أحاديث عن الصحابي الجليل أبى هريرة رضي الله عنه .
وتتناول أحاديثه معظم أبواب الفقه: في العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والجهاد ، والسير، والمناقب، والتفسير، والطلاق، والنكاح، والأدب، والدعوات ، والرقاق ، والذكر والتسبيح .. وغير ذلك .
روى له الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (3848 ) حديثاً وفيها مكرّر كثير باللفظ والمعنى ، ويصفو له بعد حذف المكرّر خير كثير.
وروى له الإمام بقى بن مخلد ( 201 - 276 ه ) في مسنده ( 5374 ) خمسة آلاف حديث ، وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً .
وروى له أصحاب الكتب الستة والإمام مالك في موطئه( 2218 ) ألفي حديث، ومائتين وثمانية عشر حديثاً مما اتفقوا عليه وانفردوا به (3) ، له في الصحيحين منها (609) ستمائة وتسعة أحاديث ، اتفق الشيخان : الإمام البخاري ، والإمام مسلم عن (326) ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً منها، وانفرد الإمام البخاري ب( 93) بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم ب(190) بتسعين ومائة حديث .
أصح الطرق عن أبي هريرة :
أصح أسانيد أبي هريرة في رأي البخاري ماروي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .
وأصح حديث ابي هريرة في رأي الإمام أحمد مارواه محمد بن سيرين ثم مارواه سعيد بن المسيب .
أما عند الإمام علي بن المديني فهم ستة : ابن المسيب ، وأبوسلمة ، والأعرج، وأبو صالح ، وابن سيرين ، وطاوس .
وهم ستة أيضاً عند ابن معين: قال أبوداود : سألت ابن معين: من كان الثبت في أبي هريرة ؟ فقال: ابن المسيب وأبوصالح ، وابن سيرين ، والمقبري ، والأعرج ، وأبو رافع ، وأربعة منهم وافق ابن المديني عليهم ، واستثنى أبا سلمة وطاوس ، وأبدلهما بالمقبري وابي رافع .
وقد أحصى أحمد محمد شاكر ، وذكر أصح أسانيد أبي هريرة ومجموع من ذكرهم ستة : مالك وابن عيينة ومعمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه ، ومالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه، وحماد بن زيد عن ايوب عن محمد بن سيرين عنه، ومعمر عن همام بن منبه عنه ، ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه واسماعيل ابن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عنه .
كثرة حديثه وأسبابها :
كان أبو هريرة رضي الله عنه يبين أسباب كثرة حديثه فيقول : إنكم لتقولون أكثر أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والله الموعد ، ويقولون : ما للمهاجرين لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأحاديث ، وإن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها ، وإني كنت امرءاً مسكيناً :" ألزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ملء بطني " وكنت أكثر مجالسة رسول الله، أحضر إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا يوماً فقال: " من يبسط ثوبه حتى أفرغ فيه من حديثي ، ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئاً سمعه مني أبداً " فبسطت ثوبي - أو قال نمرتي - فحدثني ثم قبضته إلىّ ، فوالله ما كنت نسيت شيئاً سمعته منه .
وكان يقول: وأيم الله.. لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبداً، ثم يتلوا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فىِ الْكِتَبِ أُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ }. وكان يدعو الناس إلى نشر العلم، وعدم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من ذلك ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة " وعنه أيضاً : " ومن كذب علىّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" متفق عليه .
وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه ، حتى إن بعض الصحابة رضي الله عنهم رووا عنه لأنه سمع من النبي الكريم ولم يسمعوا ، ومن هذا أن رجلا جاء إلى طلحة ابن عبيد الله، فقال: يا أبا محمد، أرأيت هذا اليماني- يعني أبا هريرة - أهو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم ؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم ، أم هو يقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل ؟ قال : أما أن يكون سمع ما لم نسمع ، فلا أشك ، سأحدثك عن ذلك : إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل ، كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفى النهار ، وكان مسكيناً ضيفاً على باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده مع يده ، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع ، ولا تجد أحداً فيه خير يقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل وقال في رواية : " قد سمعنا كما سمع ، ولكنه حفظ ونسينا " .
وروى أشعث بن سليم عن أبيه قال : سمعت أبا أيوب " الأنصاري " يحدّث عن أبي هريرة فقيل له : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدّث عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ، وإني أن أحدث عنه أحبّ إليّ من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - يعني ما لم أسمعه منه .
ثم إن جرأة أبى هريرة رضي الله عنه في سؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أتاحت له أن يعرف كثيراً مما لم يعرفه أصحابه ، فكان لا يتأخر عن أن يسأله عن كل ما يعرض له، حيث كان غيره لا يفعل ذلك ، قال أٌبي بن كعب : كان أبو هريرة رضي الله عنه جريئاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها .
كما كان يسأل الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام ، فكان لا يتأخر عن طلب العلم ، بل كان يسعى إليه في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد وفاته .
وهو الذي يروى عنه : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" .
وقد رأينا أبا هريرة رضي الله عنه يحب الخير ويعمل من أجله ، فما أظنه يتأخر عن خير من هذا النوع، وهو الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكلمة يعلمه إياها، ولحكمة يعظه بها
مرضه وفاته :
لما حضرته المنية رضي الله عنه قال: لاتضربوا علي فسطاطاً ، ولاتتبعوني بنار وأسرعوا بي إسراعاً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا وضع الرجل الصالح - أو المؤمن - على سريره قال: قدموني، وإذا وضع الرجل الكافر - أو الفاجر - على سريره ، قال ياويلي أين تذهبون بي ؟ وكانت وفاته في السنة التي توفيت فيها عائشة أم المؤمنين عام (58 ه) .
الرد على الشبهات التي أثارها أهل البدع والمخالفين حول أبي هريرة ورواياته:
ذلكم أبو هريرة رضي الله عنه الذي عرفناه قبل إسلامه وبعد إسلامه ، عرفناه في هجرته وصحبته للرسول الكريم ، فكان الصاحب الأمين والطالب المجد ، يدور مع الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في حلّه وترحاله ، ويشاركه أفراحه وأحزانه،وعرفنا التزامه للسنة المطهرة، وتقواه وورعه ، في شبابه وهرمه ...وعرفنا مكانته العلمية ، وكثرة حديثه ، وقوة حافظته ، ورأينا منزلته بين أصحابه ، وثناء العلماء عليه .
ذلكم أبو هريرة رضي الله عنه الذي صوّره لنا التاريخ من خلال البحث الدقيق ، إلا أن بعض الحاقدين الموتورين لم يسرهم أن يروا أبا هريرة رضي الله عنه في هذه المكانة السامية ، والمنزلة الرفيعة ، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أن يصوّروه صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها ، فرأوا في صحبته للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، غايات خاصة ليشبع بطنه ويروي نهمه ، وصوروا أمانته خيانة ، وكرمه رياء ، وحفظه تدجيل ،وحديثه الطيب الكثير كذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهتاناً ، ورأوا في فقره مطعناً وعاراً ، وفي تواضعه ذلاً ، وفي مرحه هذراً ، وصوروا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لونًا من المؤامرات لخداع العامة، ورأوا في اعتزاله الفتن تحزباً ، وفي قوله الحق انحيازاً ، فهو صنيعة الأمويين و أداتهم الداعية لمآربهم السياسية ، فكان لذلك من الكاذابين الواضاعين للأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتراء وزورا !! .
وفيما يلي ذكر الأباطيل والافتراءات والشبهات التي أوردُوها ، ولنبدأ بالشبهات التي أثارها "عبد الحسين" في كتابه ( أبو هريرة ) مع أجوبتها .
"مع عبد الحسين شرف الدين الموسوي "
قال في مقدمة كتابه " أبو هريرة " (ص5) ما نصه:( هذه دراسة لحياة صحابي روى عن رسول الله فأكثر حتى أفرط و روت عنه صحاح الجمهور و سائر مسانيدهم فأكثرت حتى أفرطت أيضاً ، ولا يسعنا إزاء هذه الكثرة المزدوجة إلا أن نبحث عن مصدرها لإتصالها بحياتنا الدينية والعقلية اتصالا مباشرًا ولولا ذلك لتجاوزناها و تجاوزنا مصدرها إلى ما يغنينا عن تجشم النظر فيها وفيه .
ولكن اسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدين وأصوله فاحتج بها فقهاء الجمهور ومتكلموهم في كثير من أحكام الله عز وجل وشرائعه ملقين إليها سلاح النظر والتفكير ولا عجب منهم في ذلك بعد بنائهم على إصالة العدالة في الصحابة أجمعين ، وحيث لا دليل على هذا الأصل كما هو مبين في محله بإيضاح لم يكن لنا بد من البحث عن هذا المكثر نفسه وعن حديثه كما وكيفا لنكون على بصيرة فيما يتعلق من حديثه بأحكام الله فروعاً وأصولاً وهذا ما اضطرنا الى هذه الدراسة الممعنة في حياة هذا الصحابي ( وهو أبو هريرة ) وفي نواحي حديثه وقد بالغت في الفحص وأغرقت في التنقيب حتى أسفر وجه الحق في كتابي هذا وظهر فيه صبح اليقين .
أما أبو هريرة نفسه فنحيلك الآن في تاريخ حياته وتحليل نفسيته على ما ستقف عليه في الكتاب، إذ مثلناه بكنهه وحقيقته من جميع نواحيه تمثيلا تاما تدركه بحواسك كلها .
وأما حديثه فقد أمعنا النظر فيه كما وكيفا فلم يسعنا -شهد الله - إلا الانكار عليه في كل منها. وأي ذي روية متجرد متحرر يطمئن إلى هذه الكثرة لا يعد لها المجموع من كل ما حدث به الخلفاء الأربعة وأمهات المؤمنين التسع والهاشميون والهاشميات كافة . وكيف تسنى لأمي ( تأخر اسلامه فقلت صحبته أن يعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعه السابقون الأولون من الخاصة وأولي القربى . ونحن حين نحكم الذوق الفني والمقياس العلمي نجدهما لا يقران كثيراً مما رواه هذا المفرط في اكثاره وعجائبه . فالسنة أرفع من أن تحتضن أعشاباً شائكة وخز بها أبو هريرة ضمائر الأذواق الفنية، وأدمى بها تفكير المقاييس العلمية ان يشوه بها السنة المنزهة ويسيء الى النبي وأمته صلى الله عليه وسلم .... .
والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة ، لكنها غير عاصمة ، والصحابة فيهم العدول وفيهم الأولياء والأصفياء والصديقون وهم علماؤهم وعظماؤهم وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم، والكتاب الحكيم يذكر ذلك بصراحة ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم .
فعدولهم حجة ومجهول الحال نتبين أمره ، وأهل الجرائم لا وزن لهم ولا لحديثهم هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة وغيرهم والكتاب والسنة بنيا على هذا الرأي فالوضّاعون لا نعفيهم من الجرح وإن اطلق عليهم لفظ الصحابة ، لأن في اعفائهم خيانة لله عز وجل ولرسوله ولعباده ، ونحن في غنى بالعلماء والعظماء ، والصديقين ، والصالحين ، من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن عترته التي أنزلها منزلة الكتاب وجعلها قدوة لأولي الألباب .
وعلى هذا فقد اتفقنا في النتيجة وإن قضى الالتواء في المقدمات شيئاً من الخلاف، فإن الجمهور إنما يعفون أبا هريرة،وسمرة بن جندب،والمغيرة ، ومعاوية ، وابن العاص، ومروان، وأمثالهم تقديساً لرسول الله لكونهم في زمرة من صحبه صلى الله عليه وسلم ونحن إنما ننتقدهم تقديساً لرسول الله ولسنته صلى الله عليه وسلم شأن الأحرار في عقولهم ممن فهم الحقيقة من التقديس والتعظيم .
وبديهي - بعد - أن تكذيب كل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً خارجاً عن طاقة التصديق أولى بتعظيم النبي وتنزيهه وأجرى مع المنطق العلمي الذي يريده صلى الله عليه وسلم لرواد الشريعة ورواد العلم من أمته ، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بكثرة الكذابة عليه وتوعدهم بتبوء مقاعدهم من النار فأطلق القول بالوعيد .
وإني أنشر هذه الدراسة في كتابي هذا - أبو هريرة - مخلصاً للحق في تمحيص السنة وتنزيهها في ذاتها المقدسة وفي نسبتها لقدسي النبي الحكيم العظيم ( وما ينطق عن الهوى).
قلت: قوله بأن أبا هريرة أفرط ، فهذا كذب ، فأي إفراط كان من أبي هريرة وهو الحافظ الذي عرفناه ، والمفتي الذي احتاجت إليه الأمة بعد وفاة رؤوس الصحابة، وبقى أبو هريرة مع من بقى في المدينة مرجعاً للمسلمين في دينهم وشريعتهم ، بعد أن انطلق الصحابة إلى الأقطار الإسلامية يعلمون أهلها ويفقهونهم ، وسنتعرض للرد التفصيلي على دعواه هذه فيما بعد ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن أبا هريرة لم يكن مفرطاً ، بل كان كغيره من علماء الصحابة ، يستفتى فيفتى ، ويسأل فيجيب ، فلم يكن مفرطاً ، في عهد الخلفاء الراشدين ولا بعدهم ، إنما وثق به القوم، وعرفوا مكانته ، فوضعوه حيث يستحق ، فكم من راحل يقطع المسافات ليرى أبا هريرة ، وكم من مقيم يترك كبار الصحابة ويأتيه في مسألة أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فأبو هريرة لم يكثر من عنده ، إنما وثق الناس بحفظه فحرصوا على أن ينهلوا منه، فما جريرته في ذلك ، وقد شهد بعلمه وحفظه ابن عمر وطلحة بن عبيد الله والزبير وغيرهم ، حتى إنه قال - عندما استكثروا حديثه - : ما ذنبي إذا حفظت ونسوا .
جاء في مصادر القوم ( البحار 18/13) " باب معجزات النبي في استجابة دعائه" نقلا عن الخرائج : أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أسمع منك الحديث الكثير أنساه ، قال : أبسط رداك قال : فبسطته فوضع يده فيه ثم قال : ضمّه فضممته، فما نسيت كثيرا بعده .
فما ذنب أبي هريرة رضي الله عنه إذا دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه الله الحفظ ؟!، بل هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، يزعم أولياء " المؤلف" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا له أن يعطيه فهماً وحفظاً ، فما نسى آية من كتاب الله !! .
ففي " البحار" (40/139 ) "باب 93 أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّمه ألف باب" !! عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) قال : كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجابني ، وإن فنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة إلا أقرأنيها وأملاها عليّ ، وكتبت بيدي وعلّمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ، وكيف نزلت وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة ، دعا الله لي أن يعطيني فهماّ وحفظاّ ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا على من أنزلت أملاه عليّ .
فما ذنب علي رضي الله عنه إذا دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه الله الحفظ ؟! بل ، ما ذنبه إذا علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حسب ادعاء القوم - ألف باب أو كلمة ؟!
وعن الثمالي عن أبي جعفر قال: قال علي (ع): لقد علّمني رسول الله ألف باب كل باب يفتح ألف باب!! . وفي وراية " علّم رسول الله علياً ألف كلمة كل كلمة تفتح ألف كلمة "
ونقل محمد مهدي في كتابه " الجامع لرواة وأصحاب الإمام الرضا" (1/244):
" لقول أمير المؤمنين(ع) : اقتربوا اقتربوا وسلوا وسلوا فإن العلم يفيض فيضاً، وجعل يمسح بطنه!! ويقول: ما ملئ طعام ولكن ملأه علم!! ..." .
ونقل النجاشي في رجاله (2/399-400) تحت ترجمة هشام بن محمد بن السائب....، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختص بمذهبنا وله الحديث المشهور، قال: اعتللت علّة عظيمة، نسيت علمي، فجلست إلى جعفر بن محمد(ع)، فسقاني العلم في كأس، فعاد إليّ علمي ..(1/124)
أليس غريباً بعد ذلك أن يستنكر المؤلف كثرة أحاديث أبي هريرة وعلمه؟!!
ثم من العجيب أن يثير هذا في القرن العشرين !! ، فهل يعجب من قوة ذاكرة الإنسان ولاسيما العرب ؟، فقد كان العرب يحفظون أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة ؟!!
لقد حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار ، فماذا يقول المؤلف" الأمين" في هؤلاء ؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة رضي الله عنها شعرهم؟
وماذا يقول هذا الجاهل في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارا وأخبارها وأنسابها ولغاتها ؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات ، من شعر الجاهلية دون الإسلام؟
ماذا يقول في حفظ الإمام البخاري في الحديث، فقد كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح ، وقد صنّف كتابه في ستمائة ألف حديث
وماذا يقول في حفظ ابن عقدة ، فقد كان يحفظ مائة وعشرين ألف حديث!!
نقل آية الله الكلبايكاني في كتابه ( أنوار الولاية ص 415) " في تحقيق سند الحديث الشريف ":( قال الشيخ الطوسي: سمعت جماعة يحكون عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديثا بأسانيدها !! ، وأذاكر بثلاثة مائة ألف حديث )!! .
إن مشكلة عبد الحسين أنه يدلس في كل صفحة من صفحات كتابه ، فهو يزعم أن أبا هريرة أفرط ، وينسى أو بالأحرى يتناسى أن أئمته الذين يزعمون فيهم العصمة ! ورواتهم ، قد رووا أضعاف ما رواه أبو هريرة ، حتى أفرطوا وأفرطت كتبهم الأربعة أو أصولهم الأربعمائة ! .
فعلاوة على الباب السابق الذي عقده المجلسي من بحاره والتي استغرق عرض الأحاديث فيه من (ص127 -200) ، علاوة على ذلك ، فقد زعموا لأئمتهم مثل ذلك !
قلت: استمع واقرأ واعجب من مرويات ثقاته وعددها !! .
رواة الشيعة يفرطون :
فهذا عالم الشيعة في الجرح و التعديل أبو العباس النجاشي يروي في رجاله المعروف برجال النجاشي أن الراوي أبان بن تغلب روى عن الإمام جعفر الصادق (30) ألف حديث!! ، بل أن هذا المؤلف بنفسه نقل هذا الكلام في كتابه الموضوع على شيخ الأزهر المسمى" بالمراجعات " .
قال المؤلف في مراجعاته ما نصه :( فمنهم أبو سعيد أبان بن تغلب رباح الجريري القارىء الفقيه المحدث المفسر الأصولي اللغوي المشهور،كان من أوثق الناس ، لقى الأئمة الثلاثة فروى عنهم علوماً جمة و أحاديث كثيرة ، وحسبك أنه روى عن الصادق خاصة ثلاثين ألف حديث!! كما أخرجه الميرزا محمد في ترجمة أبان من كتاب منتهى المقال بالإسناد إلى أبان بن عثمان عن الصادق(ع)...) .
وقال عبد الحسين: ( قال الصادق لأبان بن عثمان: إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث!! فاروها عني).
بل أكثر رواتهم الموثقين يروون أضعاف أضعاف هذا العدد .
محمد بن مسلم بن رباح: فهذا عمدتهم في الرجال يذكر أحد رواتهم ويُدعى محمد بن مسلم بن رباح فيقول أنه : سأل الباقر عن ثلاثين ألف حديث!! و سأل الصادق عن ستة عشر ألف حديث!! .
جابر بن يزيد الجعفي: ومن المكثرين المفرطين جابر بن يزيد الجعفي ،كان يجيش في صدره كثرة أحاديث المعصومين حتى يأخذه الجنون، فكان يذهب إلى المقبرة ويدفن أحاديثهم !!
روى الكشي عن جابر الجعفي قال حدثني أبو جعفر (ع) بسبعين ألف حديث!! لم أحدث بها أحداً قط ولا أحدث بها أحد أبدا ، قال جابر فقلت لأبي جعفر (ع) جعلت فداك أنك قد حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سرّكم!! الذي لا أحدث به أحداً!! ، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه الجنون !! قال يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبانة فاحفر حفيرة ودل رأسك ثم قل حدثني محمد بن علي بكذا وكذا .
وأخرج الكشي بإسناده عن جابر الجعفي قال : رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد مني .
قال الحر العاملي في خاتمة الوسائل ما نصه : " أنه روى سبعين ألف حديث!! عن الباقر وروى مائة وأربعين ألف حديث!! ، والظاهر أنه ما روى أحد بطريق المشافهة عن الأئمة أكثر مما روى جابر .
وهؤلاء المكثرون المفرطون من الحديث ذكرهم عبد الحسين بنفسه في كتابه الذي لفقه وسماه " المراجعات " و دافع عنهم و اثنى عليهم . فيا عقلاء من الذي أكثر و أفرط ؟! إي إفراط كان من أبي هريرة رضي الله عنه؟
وأما أن الصحاح وسائر مسانيد الجمهور قد أفرطت فيما روته عنه ، فهذا ظلم وجور ، لا نوافقه عليه ، ولا يقبله إنسان منصف ، ولا يقره عليه عقل راجح ، بل هذا الادعاء كذب مكشوف ، لأن صحاحهم هي التي أفرطت بإعترافه ! .
قال في كتابه الذي لفقه " المراجعات " ما نصه (...وأحسن ما جمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإمامية في أصولهم و فروعهم من الصدر الأول إلى هذا الزمان، وهي : الكافي، و التهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها، والكافي أقدمها و أعظمها وأحسنها و أتقنها ، وفيه ستة عشر ألف و مئة وتسعة وتسعون حديثا، وهي أكثر مما اشتملت عليه الصحاح الستة بأجمعها، كما صرح به الشهيد في الذكرى وغير واحد من الأعلام)
فأنظروا إلى قوله :( وهي أكثر مما اشتملت عليه الصحاح الستة بأجمعها ) !
فيا عقلاء، كتب من التي أكثرت و أفرطت ؟! كتب الحديث عن أهل السنة لم تضم بين دفاتها أي حديث إلا بعد تنقيب وتمحيص .
إن كتب السنة لم تضم بين دفاتها أي حديث إلا بعد بحث وتنقيب وتمحيص ، ومقارنة وتحقيق ، يتناول حياة الراوي وسلوكه وحفظه ، ولا يؤخذ عن إنسان إلا بعد التحقق من عدالته ، فكان النقد يتناول الرجال والمتن ، ولم يكن النقد خارجياً فقط ، بل كانوا يعرضون الرواية على القرآن والسنة ، حتى يتأكدوا من صحة الخبر ، وكان منهم من يجمع الأخبار المتعارضة فيسلك طريق الدراسة والموازنة والتوفيق والترجيح حتى يتبين له وجه الحق والصواب ، فلم تكتب الصحاح إلا على أسس علمية دقيقة ، تتناول السند والمتن على السواء ، وهذا بخلاف كتب القوم ، يقول الاستاذ عبد الله فياض في كتابه الإجازات العلمية عند المسلمين : ( ويبدو أن عملية انتحال الأحاديث من قبل غلاة الشيعة القدامى ودسّها في كتب الشيعة المعتدلين لم تنته بمقتل المغيرة بن سعيد (سنة 119ه)... بل نجد إشارة للعملية نفسها تعود إلى مطلع القرن الثالث الهجري ولعل ذلك ما يدل على عمق حركة الغلو من جهة واستمراريتها من جهة أخرى ...) .
ويقول الأستاذ عبد الله فياض ما لفظه: ( ومن الجدير بالذكر أنه لم تجر عملية تهذيب وتشذيب شاملة لكتب الحديث عند الشيعة الإمامية على غرار العملية التي أجراها المحدثون عند أهل السنة والتي تمخض عنها ظهور الصحاح الستة المعروفة ونتج عن فقدان عملية التهذيب لكتب الحديث عند الشيعة الأمامية مهمتان هما :
أولاً: بقاء الأحاديث الضعيفة بجانب الأحاديث المعتبرة في بعض المجموعات الحديثية عندهم .
ثانياً : تسرب أحاديث غلاة الشيعة إلى بعض كتب الحديث عند الشيعة وقد تنبه أئمة الشيعة الإمامية وعلمائهم إلى الأخطار المذكورة وحاولوا خنقها في مهدها ولكن نجاحهم لم يكن كاملا نتيجة لعدم قيام تهذيب شاملة لكتب الحديث) .
وهذا بخلاف كتب الحديث عند أهل السنه كما أشار إلى ذلك الأستاذ فياض ، فأنهم هذّبوا كتبهم من الروايات الموضوعة حتى ألفوا مجموعة كبيرة من المؤلفات في الأحاديث الموضوعة فألف الحافظ الجوزجاني المتوفي سنة (543ه) أول كتاب في الموضوعات أسمه كتاب: الأباطيل ثم الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه) ألف كتاب سماه الموضوعات ثم الصاغاني اللغوي المتوفى سنة (650 ه) له رسالتان في ذلك ثم السيوطي المتوفى سنة (910ه) وله كتب في التعقيب على ابن الجوزي وهى : النكت البديعات والوجيز واللاّلي المصنوعة والتعقبات .
ثم محمد بن يوسف بن علي الشامي صاحب السيرة المتوفي سنة (942ه) له كتاب " الفوائد المجموعة في بيان الأحاديث الموضوعة " ثم علي بن محمد بن عراق المتوفي سنة (963) له كتاب: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة " ثم محمد بن طاهر الهندي المتوفى سنة (986 ه) له كتاب " تذكرة الموضوعات " ثم الملا علي قاري المتوفي سنة (1014ه) له كتاب تذكرة الموضوعات " ثم الشيخ السفاريني الحنبلي المتوفي سنة (1188ه) له كتاب " الدررالمصنوعات في الأحاديث الموضوعات" في مجلد ضخم ..ثم القاضي الشوكاني المتوفى سنة (1250ه) ألف كتاباً "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "ولأبي المحاسن محمد بن خليل المتوفى سنة (1305) ألف كتابا " اللؤلؤ الموضوع " فيما قيل : لاأصل له أو بأصله موضوع، ولمحمد البشير ظافر الأزهري المتوفى سنة (1325ه) كتاب سماه " تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين " .
كما أن هناك كتب اشتملت على الموضوع والواهي من الأحاديث مثل "التذكرة" للمقدسي و"المغني" عن الحفظ والكتاب " لعمر بن بدر الموصلي المتوفى سنة (543 ه) وله أيضا كتاب " العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة " ومنها كتب يكثر فيها بيان الموضوع منه : تخريج أحاديث الأحياء للعراقي ومختصره لصاحب القاموس والمقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة للسخاوي وللحافظ ابن القيم رسالة باسم " المنار " فيها مباحث في شأن الحديث الموضوع ونحوه... وأخيرا ألف العلامة المعاصر الشيخ الألباني كتاباً ضخم للاحاديث الموضوعة سماه "سلسلة الأحاديث الموضوعة " و"سلسلة الأحاديث الصحيحة " .
طبعاً هذا بخلاف كتب الحديث عند الشيعة حيث لم تتعرض لمثل هذا وتجد الأحاديث الموضوعة بجانب الأحاديث الصحيحة بل لم يؤلف الشيعة إلي يومنا هذا كتاباً مفصلاً في معرفة الأحاديث الموضوعة رغم دس المغيرة وأبي الخطاب أحاديث كثيرة في أحاديثهم التي يزعمون أنهم أخذوها من أهل البيت ... بل نظرة واحدة على كتاب الكافي تكفي مؤونة التفصيل .. كتلك الأحاديث الزاعمة على أهل البيت أن القراّن محرف أو إن الأئمة يعلمون علم الغيب أو إن الأئمة يوحى إليهم أو أن الأئمة يعلمون متى يموتون ... إلى آخر هذه الأحاديث الموضوعة ، ثم ألا يعد الكليني صاحب الكافي من الغلاة الحاقدين، ألم يقل بأن الصادق يقول بتحريف القراّن حتى عقد باباً في كتاب الحجة من كافيه وأورد عشرات الأحاديث على لسان الصادق بتحريف القراّن أن الآية لم تنزل هكذا بل هكذا نزلت حسب زعمه الفاسد .
ولهذه الأسباب لم يؤلف الشيعة كتاباً واحداً في الأحاديث الموضوعة لأنهم أن فعلوا ذلك لانهار " مذهب عبد الحسين " من أساسه لأنه قائم على الأحاديث الموضوعة !!
يقول شيخهم هاشم معروف في كتابه "الموضوعات في الآثار والأخبار" (ص253): ما نصه:( وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما نجد الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة و الاساءة إلى سمعتهم وبالتالي رجعوا إلى القراّن الكريم لينفثوا سمومهم ودسائسهم لأنه الكلام الوحيد الذي يتحمل مالا يتحمله غيره ففسروا مئات الآيات بما يريدون وألصقوها بأئمة الهداة زورا وبهتاناً وتضليلا وألف علي بن حسان، وعمه عبدالرحمن بن كثير وعلي بن أبي حمزة البطائني كتبا في التفسير كلّها تخريف وتحريف وتضليل لا تنسجم مع اسلوب القرآن وبلاغته وأهدافه ) .
لذلك نقول " لعبد الحسين" أنك أخطأت طريقك ، وتنكبت جادة الصواب ، واتهمت المسلمين جميعاً بأنهم لم يعرفوا قيمة "الصحاح " ، في حين إنك لم تعرف حقاً قيمة صحاحك! ، ولكن " المؤلف " لا يذكر هذا ، ليعمى على المسلمين طريقهم ويشككهم في كتبهم المعتمدة ، يريد منّا أن نسلّم له بما يقول ويرى ، فنحن القُرّاء لا نعرف شيئاً عن مذهبه ، لا يمكننا أن نحكم عليه ما لم ندرس "مذهبه " دراسة نزيهه محررة ، نحكم عليه من خلالها ، أما أن نكون فريسة خياله وأهوائه فهذا خلاف البحث العلمي ، وما عهدنا بحثاً توضع نتائجه قبل منا قشته ومحاكمته ، فهذا خلاف المنهج العلمي ، لذلك كان الأولى لهذا المؤلف أن يقوم "بعملية تهذيب وتشذيب شاملة لكتبهم الحديثية ولا سيما " الكافي " من الكفريات كأحاديث تحريف القرآن وكفر الصحابة ولعنهم والقدح في أعراض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن والغلو في الأئمة إلى درجة التأليه ... بدلا من قوله: ( الواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل من حديث أبي هريرة ) .
كان الأولى به أن يقوم بهذا التطهير، بدلا من أن يشاقق الله ورسوله، ويحكم على " الكافي" ( بأنه أقدم و أعظم و أحسن و اتقن الكتب الأربعة )، لأن أهل السنة قاموا بذلك التطهير وقد تمخض عنه ظهور الكتب الستة المعروفة .
وكان الأولى به أن يقوم بذلك ، بدلا من تأليفه كتب مسمومة تفرق الأمة وتشتت شملها ، ككتابه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " وهو في الحقيقة أولى
أن يسمى " بالفصول المهمة في تشتيت الأمة " . وبدلا من اهدار الوقت في الفحص والتنقيب عن صحابي أجمعت الأمة على توثيقه بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم له.... وكان الأولى له أن يبحث في حياة شيخه " النوري الطبرسي" ، الذي ألف كتاباً في إثبات تحريف القرآن المجيد سماه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" ، أورد فيه حوالي (1800) رواية من رواياتهم التي تزعم تحريف القرآن الكريم . كان الأولى على أقل تقدير أن يرد على شيخه ويكفره لتكفير الله له بدلا من أن يكفر أبا هريرة برواية مكذوبة مفتراة وأنه من أهل النار ، وبدلا أن يمجد مولاه بأنه: " شيخ المحدثين في عصره وصدوق حملة الآثار .
ــــــــــــــ(1/125)
الشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه- وكان يكنى أبا محمد. وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وكان أحد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وكان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيله
فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ النبل) [أبو يعلي].
وكان عبد الله عابدًا محبًا لمجالس العلم والذِّكر، فيروى أنه كان إذا لقى رجلا من أصحابه قال له: تعال نؤمن بربنا ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: يا رسول الله، ألا ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة) [أحمد].
وذات مرة ذهب عبد الله إلى المسجد و النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقبل أن يدخل سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجلسوا) فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبتيه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: (زادك الله حرصًا على طواعية الله ورسوله) [البيهقي].
وكان كثير الخوف والخشية من الله، وكان يبكي كثيرًا، ويقول: إن الله تعالى قال: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 17]، فلا أدري أأنجو منها أم لا؟
وعُرفَ عبد الله بن رواحة بكثرة الصيام حتى في الأيام الشديدة الحر، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى وضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة.
ولما نزل قول الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون} [224-226] أخذ عبد الله في البكاء لأنه كان شاعرًا يقول الشعر، ويدافع به عن الإسلام والمسلمين، وقال لنفسه: قد علم الله أني منهم، وكان معه كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة، فنزل قول الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا} [_الشعراء: 227]. ففرح عبد الله بذلك، واستمر في نصرة المسلمين بشعره.
وذات يوم أنشد عبد الله من شعره بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْرَ أَعْرِفُهُ وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَرُ
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْرَمْ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِهِ القَدَرُ
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ تَثَبِيتَ مَوسَى وَنَصْرًا كَالذي نَصَروا
فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم : (وإياك فثبَّتَكَ الله) [ابن سعد].
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
وكان ابن رواحة أمينًا عادلاً، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم (أي أتعامل معكم بالعدل).
وفي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم قد حشدوا جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى حدود الشام عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رَواحة) [البخاري].
فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس، فقالوا: نكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي أمر آخر، فقال لهم ابن رواحة: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور (نصر) وإما شهادة.
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع، وراح يقاتل في شجاعة ويقول:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّه طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّه
فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّة مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّةْ
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتي وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيت
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيتِ وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيتِ
ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.
ــــــــــــــ(1/126)
محامي الفقراء أبو ذر الغفاري
إنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة -رضي الله عنه-، ولد في قبيلة غفار، وكان من السابقين إلى الإسلام، وكان أبو ذر قد أقبل على مكة متنكرًا، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في ذلك الوقت سرًّا، فقال أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم : (بم تأمرني؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)، فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها (أي الشهادة) بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد ونادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
فقام إليه المشركون فضربوه ضربًا شديدًا، وأتى العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم فأكب عليه، وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجارتكم إلى الشام؟ فثابوا إلى رشدهم وتركوه، ثم عاد أبو ذر في الغد لمثلها فضربوه حتى أفقدوه وعيه، فأكب عليه العباس فأنقذه._[متفق عليه].
ورجع أبو ذر إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم على يديه نصف قبيلة غفار ونصف قبيلة أسلم، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أقبل عليه أبو ذر مع قبيلته غفار وجارتها قبيلة أسلم، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله) [مسلم]. وخصَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر بتحية مباركة فقال: (ما أظلت الخضراء (السماء)، ولا أقلت الغبراء (الأرض) من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر) [الترمذي وابن ماجه].
وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب خادمه، ويأكل مما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي على عبدك وجعلتهما ثوبًا واحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنت سيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه؛ فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال صلى الله عليه وسلم : (إخوانكم خولكم (عبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) [البخاري].
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحب الله و رسوله صلى الله عليه وسلم حبًّا كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أنت مع مَنْ أحببت يا أبا ذر) فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أنت مع مَن أحببت) [أحمد]،وكان صلى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده (يسأل عنه) إذا غاب.
وقد أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئًا منه. وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل (من العلم) خير له من ألف ركعة تطوعًا.
وكان -رضي الله عنه- زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا يأخذ منها إلا كما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (أبو ذر يمشى في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام) [الترمذي].
وكان أبو ذر يقول: قوتي (طعامي) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاع من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى. ويقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة. وقال له رجل ذات مرة: ألا تتخذ ضيعة (بستانًا) كما اتخذ فلان وفلان، فقال: لا، وما أصنع بأن أكون أميرًا، إنما يكفيني كل يوم شربة ماء أو لبن، وفي الجمعة قفيز (اسم مكيال) من قمح. وكان يحارب اكتناز المال ويقول: بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة؛ لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه ما يريد، قال له: لا حاجة لي في دنياكم.
وعندما ذهب أبو ذر إلى الرَّبذة وجد أميرها غلامًا أسود عيَّنه عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولما أقيمت الصلاة، قال الغلام لأبي ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدم أنت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود. فتقدم الغلام وصلى أبو ذر خلفه.
وظل أبو ذر مقيمًا في الرَّبَذَة هو وزوجته وغلامه حتى مرض مرض الموت فأخذت زوجته تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بصحراء من الأرض، وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع وحدي القيام بجهازك، فقال أبو ذر: إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلا ما أمر به، فمرَّ بهم عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، فصلى عليه، ودفنه بنفسه.
[ابن سعد]، وكان ذلك سنة (31هـ) وقيل: سنة (32 هـ).
ــــــــــــــ(1/127)
أبو ذر الغفاري
المجاهر بالحق كان أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) من الرجال الذين أحبهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووصفه بصفتين التصقا به وأصبحا يوجهانه في المواقف المختلفة ، وهما الصدق والوحدة والتفرد ، ولقد دفع الصدق أبا ذر لأن يكون من أكثر الصحابة مجاهرة بالحق مهما عرضه ذلك للأذى فكان من القلائل الذين أعلنوا إسلامهم في قريش ، أما الوحدة والتفرد فقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده).
من هو أبو ذر؟! هو أبو ذر جندب بن جنادة كان طوالا آدم وكان يتعبد قبل مبعث رسول الله وكان شجاعا ينفرد وحده فيقطع الطريق ويغير على الناس كأنه السبع.
إسلامه أسلم بمكة قديما وقال كنت في الإسلام رابعا ورجع إلى بلاد قومه فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق ثم قدم المدينة.
ويروي أبو ذر قصة إسلامه في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس(رضي الله عنه)قال: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر قال: قلنا بلى. قال:
قال أبو ذر كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه واتني بخبره فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت ما عندك فقال والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له: لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد قال فمر بي علي فقال كأن الرجل غريب قال: قلت: نعم. قال فانطلق إلى المنزل قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء.
قال فمر بي علي فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله بعد.
قال: قلت لا.
قال: انطلق معي
قال: فقال ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة
قال: قلت له إن كتمت علي أخبرتك
قال: فإني أفعل، قال: قلت له بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه.
فقال له: أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقلت له: اعرض علي الإسلام فعرضه فأسلمت مكاني فقال لي يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فأقلعوا عني فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس قال فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله.
مناقبه
وردت أحاديث في كتب الصحاح في فضل أبي ذر ومناقبه ومنها: عن أبي حرب بن أبي الأسود قال سمعت عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله يقول "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر" رواه الإمام أحمد وعن الحارث بن يزيد الحضرمي عن ابن حجيرة الأكبر "عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" (مسلم) وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول الله سمهم لنا قال علي منهم يقول ذلك ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم" (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك)
وعن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم"(مسلم)
وعن الأحنف بن قيس قال كنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه قال قلت من أنت قال أنا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال قلت ما يفر الناس قال إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ــــــــــــــ(1/128)
أبو ذر الغفارى
من هو : أَبُو ذَرٍّ، جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ الغِفَارِيُّ
قُلْتُ: أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، مِنْ نُجَبَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قِيْلَ: كَانَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فِي الإِسْلاَمِ.
ثُمَّ إِنَّهُ رُدَّ إِلَى بِلاَدِ قَوْمِهِ، فَأَقَامَ بِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَاجَرَ إِلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلاَزَمَهُ، وَجَاهَدَ مَعَهُ.
وَكَانَ يُفْتِي فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ.
وَكَانَ رَأْساً فِي الزُّهْدِ، وَالصِّدْقِ، وَالعِلْمِ، وَالعَمَلِ، قَوَّالاً بِالحَقِّ، لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، عَلَى حِدَّةٍ فِيْهِ.
وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ بَيْتِ المَقْدِسِ مَعَ عُمَرَ.
اسلامه
قَالَ أَبُو جَمْرَةَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُخْبِرُكُم بِإِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ؟
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً بِمَكَّةَ قَدْ خَرَجَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَرْسَلْتُ أَخِي لِيُكَلِّمَهُ، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَكَلِّمْهُ.
فَانْطَلَقَ، فَلَقِيَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟
قَالَ: وَاللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَأْمُرُ بِالخَيْرِ، وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ.
قُلْتُ: لَمْ تَشْفِنِي؟
فَأَخَذْتُ جِرَاباً وَعَصاً، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لاَ أَعْرِفُهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَأَكُوْنُ فِي المَسْجِدِ.
فَمَرَّ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ غَرِيْبٌ؟
قُلتُ: نَعَمْ.
قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى المَنْزِلِ.
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، لاَ أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَلاَ يُخْبِرُنِي!
فَلَمَّا أَصْبَحَ الغَدُ، جِئْتُ إِلَى المَسْجِدِ لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ.
فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعُوْدَ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: مَا أَمْرُكَ، وَمَا أَقْدَمَكَ؟
قُلْتُ: إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ.
قَالَ: أَفْعَلُ.
قُلْتُ: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ نَبِيٌّ.
قَالَ: أَمَا قَدْ رَشَدْتَ! هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ، فَاتَّبِعْنِي وَادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ أَحَداً أَخَافُهُ عَلَيْكَ، قُمْتُ إِلَى الحَائِطِ كَأَنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي! وَامْضِ أَنْتَ.
فَمَضَى، وَمَضَيْتُ مَعَهُ، فَدَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ:
يَا رَسُوْلَ اللهِ، اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ.
فَعَرَضَ عَلَيَّ، فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: (يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ، وَارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ! فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُوْرُنَا، فَأَقْبِلْ).
فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
فَجَاءَ إِلَى المَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيْهِ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
فَقَالُوا: قُوْمُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئ.
فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لأَمُوْتَ!
فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ، فَأَكَبَّ عَلَيَّ، وَقَالَ:
وَيْلَكُم! تَقْتَلُوْنَ رَجُلاً مِنْ غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُم وَمَمَرُّكُم عَلَى غِفَارَ!
فَأَطْلَقُوا عَنِّي، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، رَجَعْتُ، فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ.
فَقَالُوا: قُوْمُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئ!
فَصُنِعَ بِي كَذَلِكَ، وَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ، فَأَكَبَّ عَلَيَّ.
فَهَذَا أَوَّلُ إِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنْتُ رَابِعَ الإِسْلاَمِ، أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلاَثَةٌ، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ، فَقُلْتُ:
سَلاَمٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ.
وَأَسْلَمْتُ، فَرَأَيْتُ الاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: (مَنْ أَنْتَ؟).
قُلْتُ: جُنْدُبٌ، رَجُلٌ مِنْ غِفَارَ.
قَالَ: فَرَأَيْتُهَا فِي وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَكَانَ فِيْهِم مَنْ يَسْرُقُ الحَاجَّ
جهاده فى سبيل الله
كَانَ حَامِلَ رَايَةِ غِفَارَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: أَبُو ذَرٍّ.
وَكَانَ أبو ذر يَقُوْلُ: أَبْطَأْتُ فِي غَزْوَةِ تَبُوْكٍ، مِنْ عَجَفِ بَعِيْرِي.
لَمَّا سَارَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى تَبُوْكٍ، جَعَلَ لاَ يَزَالُ يَتَخَلَّفُ الرَّجُلُ.
فَيَقُوْلُوْنَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ تَخَلَّفَ فُلاَنٌ.
فَيَقُوْلُ: (دَعُوْهُ، إِنْ يَكُنْ فِيْهِ خَيْرٌ فَسَيَلْحَقُكُم، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ).
حَتَّى قِيْلَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيْرُهُ.
قَالَ: وَتَلَوَّمَ بَعِيْرُ أَبِي ذَرٍّ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَخَرَجَ يَتْبَعُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَنَظَرَ نَاظِرٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَرَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيْقِ!
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كُنْ أَبَا ذَرٍّ).
فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ القَوْمُ، قَالُوا: هُوَ -وَاللهِ- أَبُو ذَرٍّ!
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوْتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحَدَهُ).
وصايا الرسول له
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْتَدِئُ أَبَا ذَرٍّ إِذَا حَضَرَ، وَيَتَفَقَّدُهُ إِذَا غَابَ.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَوْصَانِي بِخَمْسٍ: أَرْحَمُ المَسَاِكِيْنَ وَأُجَالِسُهُم، وَأَنْظُرُ إِلَى مَنْ تَحْتِي وَلاَ أَنْظُرُ إِلَى مَنْ فَوْقِي، وَأَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَنْ أَقُوْلَ الحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرّاً، وَأَنْ أَقُوْلَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ).
سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (مَا أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ، وَلاَ أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَوَاضُعِ عِيْسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ).
أَخْبَرَنَا مَالِكُ بنُ دِيْنَارٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَيُّكُمْ يَلْقَانِي عَلَى الحَالِ الَّذِي أُفَارِقُهُ عَلَيْهِ؟).
فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: أَنَا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ، وَلاَ أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ! مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى زُهْدِ عِيْسَى فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ).
سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ فَقَالَ: وَعَى عِلْماً عَجِزَ عَنْهُ، وَكَانَ شَحِيْحاً عَلَى دِيْنِهِ، حَرِيْصاً عَلَى العِلْمِ، يُكْثِرُ السُّؤَالَ، وَعَجِزَ عَنْ كَشْفِ مَا عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ.
وصيه الرسول له
قَالَ شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ: حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خِدْمَتِهِ، أَوَى إِلَى المَسْجِدِ، وَكَانَ هُوَ بَيْتَهُ.
فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدَهُ مُنْجَدِلاً فِي المَسْجِدِ، فَنَكَتَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرِجْلِهِ حَتَّى اسْتَوَى جَالِساً.
فَقَالَ: (أَلاَ أَرَاكَ نَائِماً؟).
قَالَ: فَأَيْنَ أَنَامُ؟ هَلْ لِي مِنْ بَيْتٍ غَيْرِهِ؟
فَجَلَسَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخْرَجُوْكَ مِنْهُ؟).
قَالَ: أَلْحَقُ بِالشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ الهِجْرَةِ، وَأَرْضُ المَحْشَرِ، وَأَرْضُ الأَنْبِيَاءِ، فَأَكُوْنُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ لَهُ: (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخْرَجُوْكَ مِنَ الشَّامِ؟).
قَالَ: أَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَيَكُوْنُ بَيْتِي وَمَنْزِلِي.
قَالَ: (فَكَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخْرَجُوْكَ مِنْهُ الثَّانِيَةَ؟).
قَالَ: آخُذُ إِذاً سَيْفِي فَأُقَاتِلُ حَتَّى أَمُوْتَ.
قَالَ: فَكَشَّرَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: (أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟).
قَالَ: بَلَى، بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُوْلَ اللهِ.
قَالَ: (تَنْقَادُ لَهُمْ حَيْثُ قَادُوْكَ حَتَّى تَلْقَانِي وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ).
عَنِ ابْنِ سِيْرِيْنَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأَبِي ذَرٍّ: (إِذَا بَلَغَ البِنَاءُ سَلْعاً، فَاخْرُجْ مِنْهَا - وَنَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ - وَلاَ أَرَى أُمَرَاءكَ يَدَعُوْنَكَ).
قَالَ: أَوَلاَ أُقَاتِلُ مَنْ يَحُوْلُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمْرِكَ؟
قَالَ: (لاَ).
قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: (اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ).
اعتزاله الفتنه
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ، خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ الشَّامَ.
فَطَلَبَهُ عُثْمَانُ، ثُمَّ بَعَثُوا أَهْلَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَجَدُوا عِنْدَهُمْ كِيْساً، أَوْ شَيْئاً، فَظَنُّوْهُ دَرَاهِمَ، فَقَالُوا: مَا شَاءَ اللهُ.
فَإِذَا هِيَ فُلُوْسٌ.
فَقَالَ عُثْمَانُ: كُنْ عِنْدِي.
قَالَ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي دُنْيَاكُمْ، ائْذَنْ لِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى الرَّبَذَةِ.
فَأَذِنَ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا
وفاته
روى أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَضَرَهُ المَوْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: وَمَا يُبْكِيْكِ؟
قَالَتْ: أَبْكِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَغْيِيْبِكَ، وَلَيْسَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ كَفَناً.
قَالَ: لاَ تَبْكِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ يَقُوْلُ: (لَيَمُوْتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاَةٍ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ).
فَكُلُّهُمْ مَاتَ فِي جَمَاعِةٍ وَقَرْيَةٍ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرِي، وَقَدْ أَصْبَحْتُ بِالفَلاَةِ أَمُوْتُ، فَرَاقِبِي الطَّرِيْقَ، فَإِنَّكِ سَوْفَ تَرَيْنَ مَا أَقُوْلُ، مَا كَذَبْتُ، وَلاَ كُذِبْتُ.
قَالَتْ: وَأَنَّى ذَلِكَ، وَقَدِ انْقَطَعَ الحَاجُّ؟!
قَالَ: رَاقِبِي الطَّرِيْقَ.
فَبَيْنَا هِيَ كَذَلِكَ، إِذْ هِيَ بِالقَوْمِ تَخُبُّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ كَأَنَّهُمُ الرَّخَمُ، فَأَقْبَلُوا حَتَّى وَقَفُوا عَلَيْهَا. و َإِذَا عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قِيْلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ.
فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُوْدٍ يَبْكِي، وَقَالَ:
صَدَقَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَرْحَمُ اللهُ أَبَا ذَرٍّ! يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوْتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ).
فَنَزَلَ، فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَجَنَّهُ.( السير )
ــــــــــــــ(1/129)
دروس وعبر من قصة أبي ذر
إننا لو نظرنا -نحن المسلمين- إلى حياة الصحابة، وكيف كانوا يُبلُون لأجل نصرة الدين وانتشار الإسلام؛ لما وجد هذا الذل والاضطهاد من قبل أعداء الله المشركين. وإن قصة أبي ذر رضي الله عنه لتشهد لنا حقيقة وتبين لنا كيف كانت هممهم في طلب الحق واعتناقه، ثم إذا اعتنقوه دافعوا وبذلوا النفس رخيصة من أجله، وقاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من أحد.
جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكاملاً ...
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سنسمع فيها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم، ونسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة، إن دراسة قصص الصحابة رضوان الله عليهم لها أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، ولقنهم مبادئ الوحي ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة قاطبة جنها وإنسها، ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات الإلهية، كتاباً وسنة، فإن ذلك الجيل لا بد أن يكون جيلاً عظيماً، جيلاً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة، وهذا الجيل -أيها الإخوة- عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وانصهروا في تلك البوتقة الإيمانية التربوية، حتى خرجت تلك النماذج، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في ميزاتهم، وصفاتهم الشخصية، ولذلك نجد أن أرأف الأمة: أبا بكر وأشدها في أمر الله: عمر ، وأكثرها حياءً: عثمان ، وأحسنهم قضاء بين الخصوم: علي بن أبي طالب ، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل ، وأعلمهم بالفرائض: زيد بن ثابت ، وأكثرهم أمانة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن- أبي بن كعب ، فإذاً الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت، ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات، تكون ذلك المجتمع المسلم.......
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ترجمته وحياته ...
ونحن اليوم سنلقي الضوء في هذا الليلة إن شاء الله عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية، فالصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم دخلوا في الإسلام وهم كبار السن، ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب، ولكن عندما يسلم الإنسان تسليماً كاملاً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهلاً، والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة، هو: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، هذه الشخصية التي لا يعلم عنها الكثيرون، وبعض من يعلم عنها شيئاً يعلمون عنها أشياء مشوهة، قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة، فمن الناس من يعتقد أن أبا ذر شخصية ضعيفة مهزوزة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك لضعيف) ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنبين إن شاء الله.......
اسمه ونسبه وفضله ... فأما أبو ذر فإن اسمه: جندب بن جنادة -جُندُب أو جُندَب لغتان صحيحتان- ابن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة، قال الذهبي رحمه الله في السير : هو أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان يفتي في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان ، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل، قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه. وقال عليه الصلاة السلام مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: (ما أقلت الغبراء - الأرض- ولا أظلت الخضراء - السماء- من رجل أصدق لهجة من أبي ذر). أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول: (يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه الصلاة والسلام والإرشاد لأبي ذر ذلك لأن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من الأحيان، مما قد لا يكون مع تلك الحدة جيداً في الإمارة، وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال، ولا بد من إنفاقه كله، ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل الله.فأما أبو ذر فإن اسمه: جندب بن جنادة -جُندُب أو جُندَب لغتان صحيحتان- ابن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة، قال الذهبي رحمه الله في السير : هو أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان يفتي في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان ، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل، قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه. وقال عليه الصلاة السلام مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: (ما أقلت الغبراء - الأرض- ولا أظلت الخضراء - السماء- من رجل أصدق لهجة من أبي ذر). أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول: (يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه الصلاة والسلام والإرشاد لأبي ذر ذلك لأن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من الأحيان، مما قد لا يكون مع تلك الحدة جيداً في الإمارة، وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال، ولا بد من إنفاقه كله، ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل الله.قصة إسلام أبي ذر في الرواية المتفق عليها ...
وأما من ناحية شخصية الرجل، فإنها عظيمة، وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو عن جزء من حياة أبي ذر وهذا الجزء هو قصة إسلامه، إن قصة إسلام أبي ذر -أيها الإخوة- من القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة، وهذه القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله والإمام مسلم في صحيحيهما ، وغيرهما، وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري و مسلم ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره، وبين الروايتين تغاير واضح في السياق، حتى إن بعض أهل العلم قالوا: إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين، وبعضهم قال: يمكن الجمع، والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة، ولذلك نحن سنقتصر إن شاء الله على إيراد الروايتين، وشرحهما، مع ذكر الفوائد فيهما، ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل العلم، على رواية مسلم ، وإن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين، فأما رواية البخاري و مسلم فهي عن عبد الله بن عباس أنه كان في مجلس فقال لمن حوله: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قلنا: بلى. قال ابن عباس : قال أبو ذر : (كنت رجلاً من غفار -قبيلة غفار- فبلغنا أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره). وفي رواية: أن ابن عباس قال: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، - مكة ، لأنها في وادي- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق -أي الأخ- حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر ، فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية: فقال: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر -ليس شعراً- فقال أبو ذر : ما شفيتني -أي ما أتيت لي بالكلام الذي يلبي حاجتي في نفسي، ما شفيتني فيما أردت- فتزود أبو ذر وحمل شنة له فيها ماء وجراباً وعصا حتى قدم مكة -الآن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة الأمر، هل هو حق أم لا؟- حتى قدم مكة ، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه -لكن لا يعرف من هو الرسول صلى الله عليه وسلم- وكره أن يسأل عنه) لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه الله قال: لأنه عرف أن السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي السائل، أو أن السؤال عن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول صلى الله عليه وسلم لعداوتهم له، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه ولا يقابله، ولذلك كان أبو ذر رحمه الله حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه الليل. وفي رواية: أنه قال: (وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام، وأشرب من ماء زمزم- فاضطجع رضي الله عنه، فرآه علي بن أبي طالب ، فعرف أنه غريب من هيئته ومظهره، فقال علي رضي الله عنه: كأن الرجل غريب؟ -يقول: لأبي ذر كأن الرجل غريب؟- قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل -أي حتى أضيفك- فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ذهب أبو ذر مع علي وما سأل علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء، حتى صار الصباح، ثم احتمل قربته -وفي رواية: قريبته، تصغير- وزاده إلى المسجد، خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي للمرة الثانية، فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟). أي: كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى، يعرض عليه الضيافة، وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث، فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء، ويرجع أبو ذر رضي الله عنه في الصباح إلى المسجد- فقال علي في المرة الثالثة: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟) وفي رواية: فقال: (ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت) لو أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه، أخبرتك، وفي رواية: أنه قال لعلي : (إن كتمت علي أخبرتك، قال علي: فإني أفعل) أعطاه وعداً أن يفعل -الآن علي مسلم وليس بكافر- وقال ابن حجر : والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين ولذلك يقول: فالراجح أن هذه القصة وقعت بعد البعثة بسنتين على الأقل، بسنتين فأكثر، أي: يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر بعد البعثة، أو أكثر، المهم أنه فوق أثنتي عشرة سنة، لماذا؟ لأن اثني عشر سنة هو السن المعقول في أن رجلاً مثل علي يخاطب رجلاً ويضيفه، ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة - (فقال أبو ذر لعلي رضي الله عنه: سمعنا أنه ظهر نبي في مكة ، وأتيت أتحقق من الأمر وأسأل، فأخبره أبو ذر ، فقال علي رضي الله عنه: إنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أنه قال له: أما إنك قد رشدت) أي: قد أصبحت على الرشد، أنت فعلاً جئت لشيء صحيح وحق (وهذا وجهي إليه) علي يقول لأبي ذر ، إنني متوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول علي رضي الله عنه: (فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء) يقول علي : هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون بضغط شديد على الدعوة ومحاربة عظيمة جداً، وتتبع مستمر لكل رجل يحاول الالتحاق بركب الدعوة، ولذلك فعلي بن أبي طالب كان لا بد أن يلجأ إلى طريقة لا تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال علي لأبي ذر : (فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك، قمت كأني أريق الماء). وفي رواية: (قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله- فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها: أن تتابع سيرك فيما بعد، قال ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أنه قالهما جميعاً، قال: كأني أريق الماء، أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي ذر ، فسمع من قوله، فأسلم أبو ذر مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك). وفي رواية: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك- فقال: والذي بعثك بالحق، وفي رواية: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول: لا أكتم الأمر، ولا أكتم إسلامي، وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم، أي: بين ظهراني المشركين في مكة ، (فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فنادى بأعلى صوته، يا معشر قريش! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فرآهم وهم يضربونه فأكب على أبي ذر وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟). وفي رواية قال: (ويلكم تقتلون رجلاً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام ) انظر إلى ذكاء العباس يقول: أنتم الآن تريدون أن تقتلوا رجلاً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بلادهم، فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم (فأقلعوا عني -أي كفوا عني- ثم أصبحت الغد، فرجعت فقلت مثلما قلت بالأمس! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع بالأمس -ثاروا إليه، فضربوه- فأكب عليه العباس فأنقذه)، هذه الرواية في البخاري و مسلم ، أما رواية الإمام مسلم رحمه الله ففيها زيادة تفاصيل في بداية القصة وفي نهايتها، وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة.......
قصة إسلام أبي ذر في رواية مسلم ...(1/130)
روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر : (خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام -غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم الله القتال فيه- قال: فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا) هؤلاء الثلاثة هؤلاء أبو ذر و أنيس وأمهما كانوا لا يرضون عن فعل غفار، ولأجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار (فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك -الكلام موجه إلى الخال- فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك، أي: زوجتك، خالف إليهم أنيس) يعني: أنت إذا خرجت من هنا هو جاء إليهم من هنا، وكان أنيس جميل الخلقة (فجاء خالنا، فنثى علينا الذي قيل له -أي أفشى علينا وأشاع ما قيل له- فبلغ أخي هذا الكلام؛ فقال: والله لا أساكنك، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) -قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا، والآن ماذا فعلت بكلامك هذا؟ هذه الإشاعات التي قال لك الناس، ونشرتها الآن، ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف- (ولا جماع لنا فيما بعد، لا نلتقي بك، فقربنا صرمتنا -وهي: القطعة من الإبل أو الغنم يقال عليها صرمة- فاحتملنا عليها، ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي -تأثراً من الخطأ الذي فعله- فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة ، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها). وفي رواية: (فتنافر إلى رجل من الكهان، قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه، فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا) ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنهم كانوا في الجاهلية، يتفاخرون بالشعر، أيهم أشعر من الآخر، ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من الآخر، فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق، فاحتكما إلى كاهن، وهذا عمل حرام، لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا، فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة- رهناً، وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي، فكسب أنيس ، (فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه الحديث: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) يقولأبو ذر: إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فيقول الذي سمع منه القصة: (فقلت: لمن؟ -أي: لمن تصلي؟- قال: لله تعالى، قلت: فأين توجهت؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي) أصلي حيث يوجهني ربي، فالمؤمن يصلي لله، وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجلاً في الجاهلية مثل قومه، فاجر من الفجار، ثم هداه الله إلى التوحيد قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره من الناس الموحدين، وبعضهم كان عنده علم من الديانات السابقة، الأديان السابقة، كان أبو ذر على التوحيد، وكان يعلم أن الذي يستحق العبادة هو الله عز وجل، لكن لا يعرف كيف يصلي ولا أين يستقبل!! ولذلك يقول: (صليت قبل أن آتي الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) صلى قبل الإسلام بثلاث سنوات، وكان يتوجه حيث يوجهه الله (أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء)أصلي حتى أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصلاة، فألقى كأني كساء أي: من تعب العبادة، حتى تعلوني الشمس، فتوقظه، فقال أنيس : (إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة). وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين ونقول: إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة ، ليعلم له خبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول أبو ذر : (فراث علي -أي: أبطأ عليه أخوه، لم يأت بسرعة- ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي: لقيت رجلاً بمكة على دينك) فأنيس الآن يرى أن أخاه على التوحيد، فقال: حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجلاً على دينك، يزعم أن الله أرسله. وفي رواية قال لي: (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ، هو أشبه الناس بك، قلت: فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة ؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس لأخيه: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم -لست بكاهن- ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه- فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) لا يمكن أن يكون شاعراً لأني أعرف أوزان الشعر وطرقه فلا يمكن أن يكون كلامه شعراً (والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر). هنا كأن أبا ذر قال لأخيه: إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل، والتي أتيتني بها غير كافية، أنت أتيتني بأشياء مجملة، فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال: (فأتيت مكة ، وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه: كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: انتبه من أهل مكة ، فإنهم قد أبغضوه وعادوه، وكادوا له، وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ لأنهم عادوه، فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك: أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف. قال أبو ذر : (فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت: أين الصابئ؟). وفي رواية: (فتضاعفت رجلاً منهم) أي: بحثت عن واحد ضعيف مسكين، يقول أبو ذر : (وسألت هذا الضعيف قلت له: أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ ولا أين نبي الله؟ قال: أين الصابئ؟ فلماذا سأل رجلاً ضعيفاً؟ لأن العادة أن الضعيف لا يخشى منه، فيجيب بسذاجة ولا يخشى منه أن يكون رجلاً شريراً، فهو ضعيف، لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة، بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال: (فرفع صوته عليّ، فقال: صابئ، صابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم) أي: نبه كفرة قريش قال: الصابئ، الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم: كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر ، فيقول: (فرماني الناس حتى خررت مغشياً عليّ كأني نصب أحمر) والنصب: هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم، فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه، كأنه الصنم الذي عنده الدماء، تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر! قال: (فخررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت- فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها (.. ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فقط، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى، واللحم إذا سمن جداً ينثني، فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى، فهذه الثنيات تسمى: عكن، ولذلك في حديث: المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول؛ لأنه قال: إذا فتح الله عليك الطائف فعليك ببنت فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة، ولذلك يقول هذا الرجل: إذا فتحت الطائف عليك ببنت فلان؛ لأنها تقبل بأربع أي: أنها من شدة سمنها من الأمام أربع ثنيات، وإذا أدبرت من الخلف تصير الأربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى، لأن العظم الفقري ينصف العكن هذه، فهذا الرجل ليس بذكر ولا أنثى، وهذه طبعاً خلقة من الله عز وجل في ناس من هذا القبيل، وكان يدخل على النساء، وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول: هذه كذا .. فمنعه من الدخول على نسائه صلى الله عليه وسلم، والشاهد: يقول أبو ذر : (فتكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع) وفي رواية: (سَخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً. فقال: (وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي: ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به، قال: (فبينما أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي: مضيئة ( إذ ضرب على أصمختهم ) وأصمختهم أي: آذانهم، ومعنى ضرب الله على آذانهم أي: أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، مثل قول الله عز وجل: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11] أي: ناموا، وأبو ذر الآن مختبئ بين الكعبة وبين أستارها، قال: (إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت -في هذا الوقت، لأنهم ناموا- من كفار قريش إلا امرأتان منهم تدعوا......
فوائد قصة إسلام أبي ذر ...
أيها الإخوة! نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة.......
حرمة الجلوس في أماكن المنكرات ... أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها، فإننا نلاحظ يا إخواني: أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ لأن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام، ومع أن هذا وقع في الجاهلية، لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان، ولذلك إذا كان الإنسان في مكان فيه منكر لا يستطيع أن يغيره، ولا يستطيع البقاء، ربما لا يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة، فلو أن شخصاً -مثلاً- سافر إلى بلاد أخرى ليدرس، فرأى منكرات حين عاش هناك، وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة، أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه، وأحس بضغوط فعلاً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف، فهل يجوز له أن يبقى لإتمام دراسته؟ لا. بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى. ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟ لا. بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها، فإننا نلاحظ يا إخواني: أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ لأن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام، ومع أن هذا وقع في الجاهلية، لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان، ولذلك إذا كان الإنسان في مكان فيه منكر لا يستطيع أن يغيره، ولا يستطيع البقاء، ربما لا يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة، فلو أن شخصاً -مثلاً- سافر إلى بلاد أخرى ليدرس، فرأى منكرات حين عاش هناك، وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة، أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه، وأحس بضغوط فعلاً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف، فهل يجوز له أن يبقى لإتمام دراسته؟ لا. بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى. ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟ لا. بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره ... والقضية الأخرى -أيها الإخوة- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى الله عليه وسلم بإخفاء نجاح الإنسان المسلم، أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم، والناس حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء، هؤلاء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم، فهم يستحقون الإكرام، لأنه خالهم، وهذه الأم أخته، ومع ذلك حسدوه. ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس، ومن العين مثلاً، ألا يخبر بالنعمة التي هو فيها، ويخبئها، لأنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه، وقد يصيبونه بعين، أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول. والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، أي: تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كلاماً، إننا نخشى عليك .. أننا نخاف عليك .. وإننا كذا .. حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه، انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم. وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس، وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد، وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب ، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها. ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها، ولعلنا نفرد إن شاء الله درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها، وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء.والقضية الأخرى -أيها الإخوة- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى الله عليه وسلم بإخفاء نجاح الإنسان المسلم، أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم، والناس حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء، هؤلاء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم، فهم يستحقون الإكرام، لأنه خالهم، وهذه الأم أخته، ومع ذلك حسدوه. ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس، ومن العين مثلاً، ألا يخبر بالنعمة التي هو فيها، ويخبئها، لأنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه، وقد يصيبونه بعين، أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول. والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، أي: تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كلاماً، إننا نخشى عليك .. أننا نخاف عليك .. وإننا كذا .. حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه، انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم. وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس، وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد، وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب ، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها. ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها، ولعلنا نفرد إن شاء الله درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها، وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء.عدم التسرع في تكدير المعروف ... الشيء الآخر أيها الإخوة: أن الإنسان أحياناً يفعل معروفاً، ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس، لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله، فقد يحسن شخص إلى الناس، ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم، وفي لحظة من اللحظات، يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها منّ: ألم أعطك كذا، وكذا ...؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة، فيقول له مرة من المرات: أما أعطيتك كذا ..؟ ويذكر له حاجة واحدة، فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله، ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم، أو إحسان مال، أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد، ألا يمنوا، ولا يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف.الشيء الآخر أيها الإخوة: أن الإنسان أحياناً يفعل معروفاً، ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس، لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله، فقد يحسن شخص إلى الناس، ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم، وفي لحظة من اللحظات، يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها منّ: ألم أعطك كذا، وكذا ...؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة، فيقول له مرة من المرات: أما أعطيتك كذا ..؟ ويذكر له حاجة واحدة، فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله، ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم، أو إحسان مال، أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد، ألا يمنوا، ولا يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف.(1/131)
من يبحث عن الحق يوفقه الله إليه ... وكذلك قوله: (وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) هذه النقطة يؤخذ منها: أن الإنسان الذي يبحث عن الحق، فإن الله يوفقه ولو إلى شيء منه، فقد كان أبو ذر رضي الله عنه مقتنعاً بالتوحيد، كان مقتنعاً أن الله واحد، وأن الناس الذين يعبدون الأصنام هؤلاء مشركون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا هو الحق، ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية، يصلي لله، ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فلا بد أن يصل إليه، وقد يصل إليه على مراحل، أي: أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية الأخرى، ثم إلى الجزئية الأخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.وكذلك قوله: (وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) هذه النقطة يؤخذ منها: أن الإنسان الذي يبحث عن الحق، فإن الله يوفقه ولو إلى شيء منه، فقد كان أبو ذر رضي الله عنه مقتنعاً بالتوحيد، كان مقتنعاً أن الله واحد، وأن الناس الذين يعبدون الأصنام هؤلاء مشركون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا هو الحق، ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية، يصلي لله، ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فلا بد أن يصل إليه، وقد يصل إليه على مراحل، أي: أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية الأخرى، ثم إلى الجزئية الأخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.أهل الحق يتشابهون ... وكذلك قول أنيس لأبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك، أو لقيت رجلاً بمكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون، وأهل التوحيد يتشابهون، ولو لم يلتق أحد منهم بالآخر، أو كان بعيداً عنه كل البعد، فلو رأيت رجلاً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل، في اعتقاده، وعمله، وعبادته، وجميع الأشياء. ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء. ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق -أيها الإخوة- إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا، و عمر رضي الله عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.وكذلك قول أنيس لأبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك، أو لقيت رجلاً بمكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون، وأهل التوحيد يتشابهون، ولو لم يلتق أحد منهم بالآخر، أو كان بعيداً عنه كل البعد، فلو رأيت رجلاً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل، في اعتقاده، وعمله، وعبادته، وجميع الأشياء. ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء. ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق -أيها الإخوة- إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا، و عمر رضي الله عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم ... وكذلك نأخذ من كلام أنيس : (لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة، أن معرفة الأمور تأتي بمعرفة خلفيات الأشياء، فيستطيع أن يحكم عليها، فلأن أنيساً رضي الله عنه يعرف أوزان الشعر، وطرق الشعر، ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه الأشياء ما ضُلِّل وما صدَّق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن ولا شاعر، ولذلك لا بد أن يكون للإنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن يعلم الأمور حتى لا تتشابه عليه الأشياء، فتكون نظرته غير صائبة، وغير صحيحة، فلا بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كلام الكهان، ومن قبل كانت المذاهب الهدامة: الكهانة والسحر إلى آخره، أما الآن فقد اختلفت الأمور وزادت، فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة، فلا بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة، وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار حتى لا يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع، والأعمال التي تعمل، وليست لوجه الله، وإنما يراد من ورائها الصد عن سبيل الله.وكذلك نأخذ من كلام أنيس : (لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة، أن معرفة الأمور تأتي بمعرفة خلفيات الأشياء، فيستطيع أن يحكم عليها، فلأن أنيساً رضي الله عنه يعرف أوزان الشعر، وطرق الشعر، ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه الأشياء ما ضُلِّل وما صدَّق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن ولا شاعر، ولذلك لا بد أن يكون للإنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن يعلم الأمور حتى لا تتشابه عليه الأشياء، فتكون نظرته غير صائبة، وغير صحيحة، فلا بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كلام الكهان، ومن قبل كانت المذاهب الهدامة: الكهانة والسحر إلى آخره، أما الآن فقد اختلفت الأمور وزادت، فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة، فلا بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة، وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار حتى لا يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع، والأعمال التي تعمل، وليست لوجه الله، وإنما يراد من ورائها الصد عن سبيل الله.أهمية التناصح بين المسلمين ... وكذلك فإن هذا الأخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة، قبل أن يذهب إلى مكة ، فقال: (كن على حذر من أهل مكة ، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة، والمسلم أخو المسلم، ينصحه، فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان، وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده، فعليك أن تقدمها له، وتقول: يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا، واحذر، أو استغل كذا، فإن هناك -مثلاً- خيراً، لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث، وهناك رجل عالم بالأصول، أو قابلت مرة من المرات رجلاً يعلم اللغة العربية، فانتهز الفرصة، قابل فلاناً: فعليك النصيحة له.وكذلك فإن هذا الأخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة، قبل أن يذهب إلى مكة ، فقال: (كن على حذر من أهل مكة ، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة، والمسلم أخو المسلم، ينصحه، فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان، وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده، فعليك أن تقدمها له، وتقول: يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا، واحذر، أو استغل كذا، فإن هناك -مثلاً- خيراً، لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث، وهناك رجل عالم بالأصول، أو قابلت مرة من المرات رجلاً يعلم اللغة العربية، فانتهز الفرصة، قابل فلاناً: فعليك النصيحة له.
الأمور المهمة والخطيرة لا يكتفي المسلم فيها بخبر الناس ... كذلك بعض الأمور، أو بعض المهام، لا يكفي الإنسان فيها كلام الأشخاص، فهذه قضية رسول ونبي ظهر، وهي قضية خطيرة، وليست سهلة، وليست مثل شخص يقول: اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني، إن هذه قضية تحدد مسار الإنسان وتحدد مصيره، وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة الإنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكلام أخيه، بل قال: ما شفيتني، وذهب بنفسه. فإذاً: بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.كذلك بعض الأمور، أو بعض المهام، لا يكفي الإنسان فيها كلام الأشخاص، فهذه قضية رسول ونبي ظهر، وهي قضية خطيرة، وليست سهلة، وليست مثل شخص يقول: اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني، إن هذه قضية تحدد مسار الإنسان وتحدد مصيره، وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة الإنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكلام أخيه، بل قال: ما شفيتني، وذهب بنفسه. فإذاً: بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه. ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وكذلك ذكاء أبي ذر رضي الله عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم، انظر قال: (فتضاعفت رجلاً فسألته). فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: ( فتضاعفت رجلاً ) ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول صلى الله عليه وسلم وأين محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإنما: (تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث، ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه، ولذلك كان كلام ابن حجر رحمه الله دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق. هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.وكذلك ذكاء أبي ذر رضي الله عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم، انظر قال: (فتضاعفت رجلاً فسألته). فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: ( فتضاعفت رجلاً ) ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول صلى الله عليه وسلم وأين محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإنما: (تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث، ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه، ولذلك كان كلام ابن حجر رحمه الله دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق. هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله من أراد أن يصل إلى الحق فإن الله يعينه ... وكذلك -أيها الإخوة- فإن الله يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى بالأشياء المادية، فلا يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط، وإنما مثل ما أن الله عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثلاثين يوماً بدون طعام، يعينه لأنه يريد أن يصل إلى الحق.وكذلك -أيها الإخوة- فإن الله يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى بالأشياء المادية، فلا يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط، وإنما مثل ما أن الله عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثلاثين يوماً بدون طعام، يعينه لأنه يريد أن يصل إلى الحق. غيظ الكفار من شعائر المسلمين
وكذلك أيها الإخوة: فإن في فعل أبي ذر تجاه الأصنام فيه إغاظة الكفار، وسب آلهتهم وغيظهم وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم، أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم - إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم لله عز وجل ودين الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام- مثل النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم، تقول: هل هذه عقيدة عقلاء؟! أن الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد! وأن الأب الإله ينظر إلى ولده الإله وهو يصلب ولا يستطيع أن ينقذه! وكيف يموت الله؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة، فهؤلاء الناس عندهم تخطيط في إضلال المسلمين وتشكيكهم، ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغلاة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة، وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى الأعلى ومكتوب على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فالصليب راجح والمسجد تحت، وكتب هذا الخبيث على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق، لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي: أن أصحاب الصليب هم الأثقل، فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين، أن يظهرها الإنسان. وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل، ونلاحظ أن لكل مقام مقال، فكان أبو ذر رضي الله عنه، أديباً جداً هنا، يقول: (فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني) أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة (هن) هذه كناية، قال: ( غير أني لا أكني ) لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقال يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.وكذلك أيها الإخوة: فإن في فعل أبي ذر تجاه الأصنام فيه إغاظة الكفار، وسب آلهتهم وغيظهم وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم، أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم - إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم لله عز وجل ودين الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام- مثل النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم، تقول: هل هذه عقيدة عقلاء؟! أن الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد! وأن الأب الإله ينظر إلى ولده الإله وهو يصلب ولا يستطيع أن ينقذه! وكيف يموت الله؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة، فهؤلاء الناس عندهم تخطيط في إضلال المسلمين وتشكيكهم، ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغلاة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة، وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى الأعلى ومكتوب على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فالصليب راجح والمسجد تحت، وكتب هذا الخبيث على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق، لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي: أن أصحاب الصليب هم الأثقل، فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين، أن يظهرها الإنسان. وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل، ونلاحظ أن لكل مقام مقال، فكان أبو ذر رضي الله عنه، أديباً جداً هنا، يقول: (فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني) أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة (هن) هذه كناية، قال: ( غير أني لا أكني ) لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقال يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.(1/132)
الكفار يعتقدون أنهم على حق ... كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة، وأن المرأتين ولولتا، فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن الآلهة؟! فاعتقادهم في الآلهة اعتقاد كبير، ولذلك قال: (فانطلقتا تولولان ثم قالتا للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) وجلستا تقولان: (لو كان ها هنا أحد من أنفارنا). فإذاً لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، فال الله عنهم: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68].. أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به، فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي الله عنه. وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر : من غفار؟ لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: (متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى الله عليه وسلم، ثم كلمه عن الإسلام.كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة، وأن المرأتين ولولتا، فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن الآلهة؟! فاعتقادهم في الآلهة اعتقاد كبير، ولذلك قال: (فانطلقتا تولولان ثم قالتا للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) وجلستا تقولان: (لو كان ها هنا أحد من أنفارنا). فإذاً لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، فال الله عنهم: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68].. أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به، فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي الله عنه. وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر : من غفار؟ لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: (متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى الله عليه وسلم، ثم كلمه عن الإسلام.
العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات اللهوفي هذا أيضاً: تبجيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر ، فمنعه من أن يمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجعها، وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية: ( وكان أعلم به مني ) وأنه يأتي من الأعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات الله. وفي هذا أيضاً: تبجيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر ، فمنعه من أن يمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجعها، وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية: ( وكان أعلم به مني ) وأنه يأتي من الأعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات الله.
تفقد القادمين للحاق بالدعوة ... وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة، ولو في أمور معاشهم، فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً، فلا يقول له مثلاً: هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا، وإنما يقول له بداية: هل تريد أن تعتقد بكذا..؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا .. فقط. بينما نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بأبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته، صحيح أنه جاء للحق، لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام ... فلابد من الاهتمام بهذه الأشياء، ولا نقول: هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة، المهم الدعوة، والمهم الحق والأدلة، والمهم المبادئ، لا، وإنما حتى هذه الأشياء مهمة، فراحة الناس والأشخاص، والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة مهمة جداً، وضيافتهم للاستئناس، يقولأبو بكر: (ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم، ويكرم ذلك الرجل الذي أتى، وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فلا بد من تعويضه بشيء من الإكرام. وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة، ولو في أمور معاشهم، فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً، فلا يقول له مثلاً: هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا، وإنما يقول له بداية: هل تريد أن تعتقد بكذا..؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا .. فقط. بينما نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بأبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته، صحيح أنه جاء للحق، لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام ... فلابد من الاهتمام بهذه الأشياء، ولا نقول: هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة، المهم الدعوة، والمهم الحق والأدلة، والمهم المبادئ، لا، وإنما حتى هذه الأشياء مهمة، فراحة الناس والأشخاص، والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة مهمة جداً، وضيافتهم للاستئناس، يقولأبو بكر: (ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم، ويكرم ذلك الرجل الذي أتى، وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فلا بد من تعويضه بشيء من الإكرام.
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة ... وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته، وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها، ماذا كان يقول له؟: (ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لعمرو بن عبسة وقالها لأبي ذر الغفاري و الطفيل بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ لأن هذه مرحلة استضعاف، ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان الاضطهاد مثل مكة ، ولذلك لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا، وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها، جاء النصف الأول وجاء النصف الثاني وأسلموا، وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع الإسلامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم، والحرب قائمة، فهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نظره، في تخطيطه لأمور دعوته.وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته، وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها، ماذا كان يقول له؟: (ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لعمرو بن عبسة وقالها لأبي ذر الغفاري و الطفيل بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ لأن هذه مرحلة استضعاف، ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان الاضطهاد مثل مكة ، ولذلك لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا، وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها، جاء النصف الأول وجاء النصف الثاني وأسلموا، وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع الإسلامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم، والحرب قائمة، فهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نظره، في تخطيطه لأمور دعوته.
من يصدق في اللهجة يفتح الله على يديه ... وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة، يفتح الله على يديه مغاليق قلوب الناس، فأبو ذر صادق اللهجة، عرض الكلام على أخيه فأسلم، ثم على أمه فأسلمت، ثم على القبيلة فأسلم نصفهم، وهذا ليس شرطاً، فقد يكون هناك أناس صادقون لا يستجاب لهم، لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق، وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخلاص، ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر، ولا يدل على المتابعة الصحيحة، ولا بد أن أولئك من الأئمة المضلين، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له. والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله عز وجل ونشر الخير بين الناس.وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة، يفتح الله على يديه مغاليق قلوب الناس، فأبو ذر صادق اللهجة، عرض الكلام على أخيه فأسلم، ثم على أمه فأسلمت، ثم على القبيلة فأسلم نصفهم، وهذا ليس شرطاً، فقد يكون هناك أناس صادقون لا يستجاب لهم، لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق، وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخلاص، ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر، ولا يدل على المتابعة الصحيحة، ولا بد أن أولئك من الأئمة المضلين، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له. والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله عز وجل ونشر الخير بين الناس.
بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق ... وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق، فلا نعدم منهم الأمل، فقد يقول لك شخص: أريد أن أفكر في الأمر، أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول: أفكر، قد أحتاج إلى وقت، لا تقول: إما أنك تسلم الآن وإلا اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين، لا، لماذا؟ بعض هؤلاء القوم قالوا: فأسلم نصفهم، والنصف الباقي قالوا: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، ما قال :لا، تسلموا الآن وإلا ..، فقد يتريث بعض الناس، وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إلا في عمل الآخرة، وفي قبول الحق، لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق ولا يلتزم ولا يستقيم بسرعة، لكن اصبر عليه.وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق، فلا نعدم منهم الأمل، فقد يقول لك شخص: أريد أن أفكر في الأمر، أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول: أفكر، قد أحتاج إلى وقت، لا تقول: إما أنك تسلم الآن وإلا اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين، لا، لماذا؟ بعض هؤلاء القوم قالوا: فأسلم نصفهم، والنصف الباقي قالوا: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، ما قال :لا، تسلموا الآن وإلا ..، فقد يتريث بعض الناس، وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إلا في عمل الآخرة، وفي قبول الحق، لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق ولا يلتزم ولا يستقيم بسرعة، لكن اصبر عليه.
هداية الله عظيمة .. وجواز التفاؤل بالأسماء الحسنة ... وكذلك أيها الإخوة: فإن هداية الله عظيمة، فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق، وكانوا يسرقون الحجاج، وهذه من الجرائم العظيمة، ثم هداهم الله فأصبحوا من أعوان وأنصار الإسلام، وكانوا من سراق الحجيج، فلا تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه الله عز وجل. وكذلك الأسماء الحسنة، تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها) لو كان اسمهم: (كعب) أو كان اسمهم: (حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.وكذلك أيها الإخوة: فإن هداية الله عظيمة، فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق، وكانوا يسرقون الحجاج، وهذه من الجرائم العظيمة، ثم هداهم الله فأصبحوا من أعوان وأنصار الإسلام، وكانوا من سراق الحجيج، فلا تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه الله عز وجل. وكذلك الأسماء الحسنة، تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها) لو كان اسمهم: (كعب) أو كان اسمهم: (حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.(1/133)
لابد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق ... وأما بالنسبة لرواية البخاري و مسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس : (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟) وهذه من الأشياء المهمة جداً، هذه القصص التي حدثت، هذه قصة الدعوة، هذا تاريخ، فهذه ليست مسألة سهلة، هذا تاريخ لا بد أن ينقل إلى الناس، ولا بد أن يتعلموه، ولا بد أن يقدم إلى الأمة رصيد التجربة للأجيال القادمة، ولذلك الآن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟) فهذا الرصيد لا بد أن يقدم للأجيال حتى تستفيد منه، وهذه القصة، قصة عظيمة، وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي الاهتمام به؛ لأن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتشابه، وللمعتبر أن يعتبر. وبعد ذلك -أيها الإخوة-هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس رضي الله عنه في التعليم: (ألا أخبركم) ماذا في هذا الأسلوب؟ إنه تشويق للسامعين، ألا أخبركم بإسلام، ما قال: يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة، فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر ، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس ، فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله عز وجل لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فأبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، و علي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله، فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم، ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله عز وجل، حتى يصلوا إلى الحق، واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.وأما بالنسبة لرواية البخاري و مسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس : (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟) وهذه من الأشياء المهمة جداً، هذه القصص التي حدثت، هذه قصة الدعوة، هذا تاريخ، فهذه ليست مسألة سهلة، هذا تاريخ لا بد أن ينقل إلى الناس، ولا بد أن يتعلموه، ولا بد أن يقدم إلى الأمة رصيد التجربة للأجيال القادمة، ولذلك الآن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟) فهذا الرصيد لا بد أن يقدم للأجيال حتى تستفيد منه، وهذه القصة، قصة عظيمة، وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي الاهتمام به؛ لأن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتشابه، وللمعتبر أن يعتبر. وبعد ذلك -أيها الإخوة-هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس رضي الله عنه في التعليم: (ألا أخبركم) ماذا في هذا الأسلوب؟ إنه تشويق للسامعين، ألا أخبركم بإسلام، ما قال: يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة، فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر ، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس ، فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله عز وجل لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فأبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، و علي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله، فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم، ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله عز وجل، حتى يصلوا إلى الحق، واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.الاطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة ... وكذلك أيها الإخوة: فإن الاطمئنان يكون فعلاً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى الاطمئنان، ولما اطمأن أبو ذر لعلي فاتحه بالأمر، و علي رضي الله عنه كان حريصاً على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حريصاً على أبي ذر ، ولذلك أشار له بهذه الإشارات الخفية، أو هذه الإشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة، وما كانت هذه الأشياء منهجاً ينتهج دائماً، وإنما كان شيء يفرضه الواقع، وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة، وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي ذر . بقي نقطتان أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق؛ لأجل المصلحة، والفعل الحسن من العباس رضي الله عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر . وبعد ذلك أيها الإخوة فإن تلك الشخصية العظيمة، شخصية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي تحمل ما تحمل، لأجل الوصول إلى الحق، والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة ، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان لا يخشى في الله لومة لائم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان ، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ، ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة ، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عن المسلمين كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وكذلك أيها الإخوة: فإن الاطمئنان يكون فعلاً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى الاطمئنان، ولما اطمأن أبو ذر لعلي فاتحه بالأمر، و علي رضي الله عنه كان حريصاً على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حريصاً على أبي ذر ، ولذلك أشار له بهذه الإشارات الخفية، أو هذه الإشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة، وما كانت هذه الأشياء منهجاً ينتهج دائماً، وإنما كان شيء يفرضه الواقع، وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة، وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي ذر . بقي نقطتان أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق؛ لأجل المصلحة، والفعل الحسن من العباس رضي الله عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر . وبعد ذلك أيها الإخوة فإن تلك الشخصية العظيمة، شخصية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي تحمل ما تحمل، لأجل الوصول إلى الحق، والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة ، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان لا يخشى في الله لومة لائم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان ، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ، ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة ، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عن المسلمين كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
ــــــــــــــ(1/134)
وقفات مع أبي ذر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نستأنف كتاب الصلاة مع الإمام البخاري ، حيث يستهل كتاب الصلاة بتبويب رائع، حيث يقول: باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء. ثم يقول: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: {يأمرنا -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- بالصلاة والصدق والعفاف }.
ثم ساق حديث أنس ، قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فُرج عن سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهبٍ ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا } الحديث.
هذا أول حديثٍ في كتاب الصلاة يأتي به الإمام البخاري ويستهل به هذا الكتاب العظيم، وفي هذا الكتاب مسائل، وقد تعودنا أن نعيش مع صحابي يكون راوياً أو يذكر في الحديث لنروح به مجلسنا، وقد يتكرر في الترجمة أو سيرة الصحابي شيء ولا بأس بذلك، فحياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هي الحياة:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوع
وأبو ذر هو صاحبنا هذه الليلة، ونحن أصحابه، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرته وزمرة أمثاله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.......
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر
أبو ذر إذا ذكرته ذكرت الزهد، والعبادة، والإنصاف، والتضحية، والعدل، وكلمة الحق. يقول: {أوصاني صلى الله عليه وسلم بسبع، ذكر منها: وعلى قول الحق ولو كان مراً، وذكر منها: وأن أُكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله }. فما معنى أن يكثر أبو ذر من لا حول ولا قوة إلا بالله؟ ذكر صلى الله عليه وسلم أبا ذر بهذه الوصية وقال له: {أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله } لأنه كان سريع الغضب، وفيه حدة، يندفع ولا يتمالك أعصابه رضي الله عنه، فأوصاه صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء حديثاً فيه ضعف قال: {يُحشر أبو ذر مع عيسى عليه السلام يوم القيامة } لجهده ولعبادته ولما فيه من كلمة حقٍ كان يقولها، عرف الإسلام -كما تعرفون- ودخل مكة ، والتمس مكان الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: السلام عليكم ورحمة الله يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه تحية المسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والعرب كانت تحيي بعضها بقولها: " عم صباحاً..." يقول امرؤ القيس :
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العُصُر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم: {لقد أبدلني الله تحيةً خيراً من تحيتك السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته } ودخل في دين الله، وجعله صلى الله عليه وسلم من أقرب أصحابه إلى قلبه.أبو ذر إذا ذكرته ذكرت الزهد، والعبادة، والإنصاف، والتضحية، والعدل، وكلمة الحق. يقول: {أوصاني صلى الله عليه وسلم بسبع، ذكر منها: وعلى قول الحق ولو كان مراً، وذكر منها: وأن أُكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله }. فما معنى أن يكثر أبو ذر من لا حول ولا قوة إلا بالله؟ ذكر صلى الله عليه وسلم أبا ذر بهذه الوصية وقال له: {أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله } لأنه كان سريع الغضب، وفيه حدة، يندفع ولا يتمالك أعصابه رضي الله عنه، فأوصاه صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء حديثاً فيه ضعف قال: {يُحشر أبو ذر مع عيسى عليه السلام يوم القيامة } لجهده ولعبادته ولما فيه من كلمة حقٍ كان يقولها، عرف الإسلام -كما تعرفون- ودخل مكة ، والتمس مكان الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: السلام عليكم ورحمة الله يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه تحية المسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والعرب كانت تحيي بعضها بقولها: " عم صباحاً..." يقول امرؤ القيس :
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العُصُر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم: {لقد أبدلني الله تحيةً خيراً من تحيتك السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته } ودخل في دين الله، وجعله صلى الله عليه وسلم من أقرب أصحابه إلى قلبه.
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر
كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره في بيته في أقصى المدينة ، يوم أن يتكبر الجبابرة أن يزوروا متبوعيهم أو بعض تلاميذهم وطلابهم، ينطلق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم إنسان عرفته البشرية، وأروع مربٍ عرفته الإنسانية، إلى زيارة هذا التلميذ البار والطالب النجيب أبي ذر رضي الله عنه فيزوره في بيته، بل أعظم من ذلك كان يزور العجوز، ويزور الأطفال صلى الله عليه وسلم.
قال أبو ذر : {وتأخر عني محمد صلى الله عليه وسلم مرة من المرات فلما أتاني التزمني فكان أحسن، أو أطيب } يعني: عانقني، فكانت أطيب من غيرها يعني: أعلى وأروع، واستمر رضي الله عنه وأرضاه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم مربياً وحكيماً يلحظ المواهب في الناس، فكان يؤهل كل موهبةٍ في مكانها المناسب.
فلم يأتِ بخالد بن الوليد ليجعله مفتياً في المسجد، وما لأبي سليمان والفتوى؟! وهو يجيد ضرب الرءوس وقطعها، فيجعله صلى الله عليه وسلم في العسكرية، قائداً في الجيش.
وأتى حسان بن ثابت رب القوافي، وصانع الأبيات والقصائد، فلم يأت به صلى الله عليه وسلم ليجعله إماماً في المسجد وما لحسان وللإمامة؟! بل جعله شاعر الدعوة الإسلامية، ينصب له المنبر ويقول: {اهجهم وروح القدس معك }.
وأتى زيد بن ثابت فلم يعينه صلى الله عليه وسلم قائداً عسكرياً، بل عينه في الفرائض؛ لأنه يجيد الفرائض. هذه تخصصات: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] فالله أعلم سبحانه وتعالى كيف يُخدم هذا الدين، ولذلك لا يأت الطبيب ليجعل نفسه مفتياً، ولا يأتِ المفتي ليتطبب، ولا يأتِ الأستاذ الذي يجيد الفقه والحديث ليجعل نفسه مهندساً، ولا يأتِ المهندس ليفتي في الفرائض ويقسم بين أهل الفروض وأهل العصبة؛ ما له ولذلك؟! لكن أين أبو ذر من هذه المواهب وهذه الميزات؟
ميزته في الزهد والانقطاع والخلوة عن الناس، ولذلك بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا لأبي ذر .
قالأبو ذر للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أمّرت فلاناً وفلاناً، وتركتني }.
أول الدعوة يظن أن الأمر بالأغلبية أو أن المسألة مسألة اغتنام، فعلمه صلى الله عليه وسلم أن المسألة ليست هكذا، وقال له: {يا أبا ذر ! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وإنك رجلٌ ضعيف، وإن الإمارة خيبة وندامة يوم القيامة إلا من أدى حق الله فيها } فمنعه صلى الله عليه وسلم أن يتأمَّر، بل أوصاه أن إذا بلغ التقدم الحضاري في المدينة إلى جبل سلع أن يخرج من المدينة ، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة } فبلغ البناء سلعاً فخرج من المدينة رضي الله عنه إلى الربذة حيث صفاء الصحراء الذي يناسب صفاء أبي ذر رضي الله عنه، حيث إن أبا ذر لا يعرف الدجل ولا التدليس ولا النفاق رضي الله عنه وأرضاه.كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره في بيته في أقصى المدينة ، يوم أن يتكبر الجبابرة أن يزوروا متبوعيهم أو بعض تلاميذهم وطلابهم، ينطلق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم إنسان عرفته البشرية، وأروع مربٍ عرفته الإنسانية، إلى زيارة هذا التلميذ البار والطالب النجيب أبي ذر رضي الله عنه فيزوره في بيته، بل أعظم من ذلك كان يزور العجوز، ويزور الأطفال صلى الله عليه وسلم.
قال أبو ذر : {وتأخر عني محمد صلى الله عليه وسلم مرة من المرات فلما أتاني التزمني فكان أحسن، أو أطيب } يعني: عانقني، فكانت أطيب من غيرها يعني: أعلى وأروع، واستمر رضي الله عنه وأرضاه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم مربياً وحكيماً يلحظ المواهب في الناس، فكان يؤهل كل موهبةٍ في مكانها المناسب.
فلم يأتِ بخالد بن الوليد ليجعله مفتياً في المسجد، وما لأبي سليمان والفتوى؟! وهو يجيد ضرب الرءوس وقطعها، فيجعله صلى الله عليه وسلم في العسكرية، قائداً في الجيش.
وأتى حسان بن ثابت رب القوافي، وصانع الأبيات والقصائد، فلم يأت به صلى الله عليه وسلم ليجعله إماماً في المسجد وما لحسان وللإمامة؟! بل جعله شاعر الدعوة الإسلامية، ينصب له المنبر ويقول: {اهجهم وروح القدس معك }.
وأتى زيد بن ثابت فلم يعينه صلى الله عليه وسلم قائداً عسكرياً، بل عينه في الفرائض؛ لأنه يجيد الفرائض. هذه تخصصات: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] فالله أعلم سبحانه وتعالى كيف يُخدم هذا الدين، ولذلك لا يأت الطبيب ليجعل نفسه مفتياً، ولا يأتِ المفتي ليتطبب، ولا يأتِ الأستاذ الذي يجيد الفقه والحديث ليجعل نفسه مهندساً، ولا يأتِ المهندس ليفتي في الفرائض ويقسم بين أهل الفروض وأهل العصبة؛ ما له ولذلك؟! لكن أين أبو ذر من هذه المواهب وهذه الميزات؟
ميزته في الزهد والانقطاع والخلوة عن الناس، ولذلك بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا لأبي ذر .
قالأبو ذر للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أمّرت فلاناً وفلاناً، وتركتني }.
أول الدعوة يظن أن الأمر بالأغلبية أو أن المسألة مسألة اغتنام، فعلمه صلى الله عليه وسلم أن المسألة ليست هكذا، وقال له: {يا أبا ذر ! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وإنك رجلٌ ضعيف، وإن الإمارة خيبة وندامة يوم القيامة إلا من أدى حق الله فيها } فمنعه صلى الله عليه وسلم أن يتأمَّر، بل أوصاه أن إذا بلغ التقدم الحضاري في المدينة إلى جبل سلع أن يخرج من المدينة ، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة } فبلغ البناء سلعاً فخرج من المدينة رضي الله عنه إلى الربذة حيث صفاء الصحراء الذي يناسب صفاء أبي ذر رضي الله عنه، حيث إن أبا ذر لا يعرف الدجل ولا التدليس ولا النفاق رضي الله عنه وأرضاه.
موقف أبي ذر في تبوك
وفي تبوك يتقدم صلى الله عليه وسلم إلى منزله في تبوك فيتفقد الجيش؛ قال: {من تخلف؟ قالوا: فلان، قال: إن يرد الله به خيراً يأتِ به } وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد أبا ذر ، فيقول: {أين أبو ذر ؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يأتِ به، وما هي إلا لحظات وإذا بأبي ذر كالصقر من آخر الصحراء في وهج الشمس، وفي حرارة الصحراء التي تتوقد، يقتلع خطاه من على الرمال، فيقول صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قالوا: ما ندري يا رسول الله! قال: كن أبا ذر -كن أيها المقترب الحبيب أبا ذر - فيقترب رويداً رويداً فإذا هو أبو ذر ، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: رحم الله أبا ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده } فيقدم رضي الله عنه وأرضاه.
فلما توفي صلى الله عليه وسلم خرج أبو ذر من المدينة بطهره وزهده وعبادته، ونصب خيمة في الصحراء يعبد الله ويناجيه ويتلو كتابه، وأتته الوفاة فمات وحده، ثم أدركته عصابة من المؤمنين على رأسهم معلم العراق وداعية الإسلام فيها ابن مسعود رضي الله عنه فدفنوه فعاش في آخر حياته وحده في الصحراء، ومات وحده، ويبعث يوم القيامة أمة وحده، حسناته تزاحمه بجانبيه فلا يطرق مزاحماً معه رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه حينما يُذكر يذكر معه الزهد والعبادة والعزلة والانقطاع عن هرج الناس وخلطتهم وكلامهم.وفي تبوك يتقدم صلى الله عليه وسلم إلى منزله في تبوك فيتفقد الجيش؛ قال: {من تخلف؟ قالوا: فلان، قال: إن يرد الله به خيراً يأتِ به } وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد أبا ذر ، فيقول: {أين أبو ذر ؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يأتِ به، وما هي إلا لحظات وإذا بأبي ذر كالصقر من آخر الصحراء في وهج الشمس، وفي حرارة الصحراء التي تتوقد، يقتلع خطاه من على الرمال، فيقول صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قالوا: ما ندري يا رسول الله! قال: كن أبا ذر -كن أيها المقترب الحبيب أبا ذر - فيقترب رويداً رويداً فإذا هو أبو ذر ، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: رحم الله أبا ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده } فيقدم رضي الله عنه وأرضاه.
فلما توفي صلى الله عليه وسلم خرج أبو ذر من المدينة بطهره وزهده وعبادته، ونصب خيمة في الصحراء يعبد الله ويناجيه ويتلو كتابه، وأتته الوفاة فمات وحده، ثم أدركته عصابة من المؤمنين على رأسهم معلم العراق وداعية الإسلام فيها ابن مسعود رضي الله عنه فدفنوه فعاش في آخر حياته وحده في الصحراء، ومات وحده، ويبعث يوم القيامة أمة وحده، حسناته تزاحمه بجانبيه فلا يطرق مزاحماً معه رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه حينما يُذكر يذكر معه الزهد والعبادة والعزلة والانقطاع عن هرج الناس وخلطتهم وكلامهم.
ــــــــــــــ(1/135)
حتى لا نتخلف عن الركب
التخلف عن ركب محمد صلى الله عليه وسلم خسارة كبيرة جداً، فعلى كل من تخلف عن ركبه صلى الله عليه وسلم أن يتوب ويستغفر وينيب إلى الله عز وجل، وينضم إلى ذلك الركب الجليل، ولا يتخلف عنهم فيصبح من المنافقين، أو يلتفت إلى المغريات فيتأخر عن اللحاق بهم.
غزوة تبوك
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن.
من أطاعك أحببته، ومن تذلل إليك قرِّبته، ومن حاربك أدَّبته، ومن ناوأك خذلته.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
أشهد أنك الملك الحق وأن ما سواك باطل، وأشهد أنك الباقي وأن ما سواك فان، وأشهد أنك قوي وما سواك ضعيف، وأشهد أنك الغني وما سواك فقير، وأشهد أنك الدائم وما سواك زائل.
أشهد أن محمداً خاتم، وصادق، وناصح، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشكر لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم القائمون على هذه القاعدة، أسأل الله أن يثبتهم على الحق، وأن يرزقهم القبول، وأن يسددهم إلى طريق الطاعة.
عنوان المحاضرة: حتى لا نتخلف عن الركب.
ركب من؟!
ركب محمد عليه الصلاة والسلام.
ومسيرة من؟! مسيرة محمد صلى الله عليه وسلم.
طريق من؟! طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
لكن قبل ذلك من واجبي التحية إلى أحباب أحببتهم في الله، وهم أحبوني فيه، فأشهد الله في هذه الليلة -وهو يسمع ويرى- أني أحبكم فيه، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمعني بكم في دار الكرامة: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55] يوم يجمع الأشقياء الخونة العملاء في دار الضلال والشقاء، جهنم وبئس المصير:
سلامٌ على الأحباب ما بارقٌ سرى أرصعه مسكاً وأرويه عنبرا
لمن سكن الدمام من كل ماجدٍ بنفسي تلك الدار ما أحسن القرى
أتيتك من أرض الجنوب مسلماً على ملة التوحيد لا نهج قيصرا
إذا نحن سرنا فالرسول إمامنا دم الجيل من أجل المبادئ قد جرى
رضينا بك اللهم رباً وخالقاًَ وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
أيها الأخيار: يا حملة المبادئ! يا من باعوا أنفسهم من الله! حتى لا نتخلف عن الركب.. أرويها قصة وأربطها بواقعنا، ونعيشها كلمة نسأل عنها عند الله يوم القيامة.......
تجهيز جيش تبوك
تخلف بعض الناس عن ركبه عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك ، فلامهم عليه الصلاة والسلام، وعاتبهم كثيراً، وما كان لهم أن يتخلفوا أبداً، بل قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ولا مسلمٍ ولا مسلمة أبداً أن يتخلف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا في الصلاة ولا في الزكاة، ولا في الصيام، ولا في السنة ولا في اتباع الظاهر والباطن؛ فإن فعل ذلك فقد خان الرسالة.
وقف عليه الصلاة والسلام بعاصمته المقدسة المدينة المنورة يعلن الحرب على الروم، ويخبر أنه سوف يرتحل إلى تبوك فمن شاء فليذهب معه، ليقطع هذه الجزيرة التي تصهرها الشمس في سبيل الله، والتعب في سبيله راحة، والظمأ في سبيله رواء، والجوع في سبيله شبع:
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
فكم بالجهد بتنا قد نراعي نجوم الليل من أجل الصديق
وقف على المنبر فقال: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ وهو الذي يضمن وغيره لا يضمن، وهو الصادق وغيره قد لا يصدق في هذه المواقف، وهو المتكلم عن الله بشرعه، على المنبر؟ فقال عثمان : أنا يا رسول الله! -الجيش بجماله وبأحلاسه وبدراهمه وبدنانيره- فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، الدموع الصادقة الحارة التي لا تعرف الكذب وقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ، ثم نزل من المنبر عليه الصلاة والسلام، ومشى الجيش.تخلف بعض الناس عن ركبه عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك ، فلامهم عليه الصلاة والسلام، وعاتبهم كثيراً، وما كان لهم أن يتخلفوا أبداً، بل قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ولا مسلمٍ ولا مسلمة أبداً أن يتخلف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا في الصلاة ولا في الزكاة، ولا في الصيام، ولا في السنة ولا في اتباع الظاهر والباطن؛ فإن فعل ذلك فقد خان الرسالة.
وقف عليه الصلاة والسلام بعاصمته المقدسة المدينة المنورة يعلن الحرب على الروم، ويخبر أنه سوف يرتحل إلى تبوك فمن شاء فليذهب معه، ليقطع هذه الجزيرة التي تصهرها الشمس في سبيل الله، والتعب في سبيله راحة، والظمأ في سبيله رواء، والجوع في سبيله شبع:
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
فكم بالجهد بتنا قد نراعي نجوم الليل من أجل الصديق
وقف على المنبر فقال: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ وهو الذي يضمن وغيره لا يضمن، وهو الصادق وغيره قد لا يصدق في هذه المواقف، وهو المتكلم عن الله بشرعه، على المنبر؟ فقال عثمان : أنا يا رسول الله! -الجيش بجماله وبأحلاسه وبدراهمه وبدنانيره- فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، الدموع الصادقة الحارة التي لا تعرف الكذب وقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ، ثم نزل من المنبر عليه الصلاة والسلام، ومشى الجيش.
تخاذل المنافقين
وأتى المنافقون الخونة -ثمانون منافقاً أو أكثر- الذين تعطلهم شهواتهم وأراضيهم وبطونهم وقدورهم عن الجهاد في سبيل الله، والتضحية لمنهج الله، وعن الحضور لصلاة الفجر، والتخلف عن صلاة الجماعة، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى عنهم: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11].
جاءوا يستأذنون، يقول أحدهم: يا رسول الله! زوجتي مريضة. قال: معذور! وهذه أعذار تافهة، لكن عذرهم صلى الله عليه وسلم على الظاهر.
وقال الثاني: طفلي مريض! قال: معذور.
وقال الثالث: رأسي يؤلمني! قال: معذور.
وقال الرابع: أنا لا أستطيع الحرب، قال: معذور.
قال الخامس: أنا رجل إذا رأيت بنات الروم أفتتن، قال: معذور.
قال الله عز وجل من فوق سبع سموات: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43] أما تعلم أنهم خونة؟
أما تعلم أنهم ما صدقوا في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟
أما تعلم أنهم ما صدقوا في لا إله إلا الله؟
الآن يزعم أن عدد العالم الإسلامي مليار، لكن أين المليار أمام إسرائيل؟!
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدهم أصفارا
من كل مفتونٍ على قيثارةٍ كلٌ رأيت بفنه بيطارا
أو كاذبٍ خدع الشعوب بدجله عاش السنين بعمره ثرثارا
أو عالم لو مالقوه بدرهمٍ رد النصوص وكذَّب الأخبارا
أذن لهم صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة:
منهم كعب بن مالك ؛ يروي معاناته، وأنا أرويها لكم هذه الليلة، وهي رواية أبكت أهل العلم، وأبكت الفضلاء على مر التاريخ.
إنها حسرة، وإنها دمعة أن يتخلف الإنسان عن الصلاة، أو عن الجهاد، أو عن فعل الخير.
تخلف رضي الله عنه ولم يكن له عذر، فقد ارتحل صلى الله عليه وسلم، وقال كعب بن مالك الشاعر -وهو من الأنصار الصادقين لكن أراد الله أن يتخلف لحكمة أرادها- والله ما كان لي من عذر، وقد قلت: سوف أرتحل غداً وألحق بالرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتحل عليه الصلاة والسلام حين طابت الثمار في المدينة ، وحين أصبح البلح يتدلى من نخل المدينة ، وكان حر الجزيرة يلتهب، فالصحراء تخرج قذائف كالبراكين، والشمس تصهر الناس، ولكن يقول الله عزوجل لهؤلاء الخونة، المارقين المنافقين: وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] يقول بعضهم لبعض: انتظروا لا تخرجوا في الحر، الحر مؤذي، قال الله عزوجل: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] بالله يا مسلمون! يا أخيار! يا أحفاد محمد عليه الصلاة والسلام! أي حر أشد الجزيرة العربية في الظهيرة أم حر جهنم:
تفر من الهجير وتتقيه فهلاَّ من جهنم قد فررت
وتشفق للمصِّر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمت
مشيت القهقرى وخبطت عشوى لعمرك لو وصلت لما رجعت
وأتى المنافقون الخونة -ثمانون منافقاً أو أكثر- الذين تعطلهم شهواتهم وأراضيهم وبطونهم وقدورهم عن الجهاد في سبيل الله، والتضحية لمنهج الله، وعن الحضور لصلاة الفجر، والتخلف عن صلاة الجماعة، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى عنهم: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11].
جاءوا يستأذنون، يقول أحدهم: يا رسول الله! زوجتي مريضة. قال: معذور! وهذه أعذار تافهة، لكن عذرهم صلى الله عليه وسلم على الظاهر.
وقال الثاني: طفلي مريض! قال: معذور.
وقال الثالث: رأسي يؤلمني! قال: معذور.
وقال الرابع: أنا لا أستطيع الحرب، قال: معذور.
قال الخامس: أنا رجل إذا رأيت بنات الروم أفتتن، قال: معذور.
قال الله عز وجل من فوق سبع سموات: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43] أما تعلم أنهم خونة؟
أما تعلم أنهم ما صدقوا في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟
أما تعلم أنهم ما صدقوا في لا إله إلا الله؟
الآن يزعم أن عدد العالم الإسلامي مليار، لكن أين المليار أمام إسرائيل؟!
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدهم أصفارا
من كل مفتونٍ على قيثارةٍ كلٌ رأيت بفنه بيطارا
أو كاذبٍ خدع الشعوب بدجله عاش السنين بعمره ثرثارا
أو عالم لو مالقوه بدرهمٍ رد النصوص وكذَّب الأخبارا
أذن لهم صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة:
منهم كعب بن مالك ؛ يروي معاناته، وأنا أرويها لكم هذه الليلة، وهي رواية أبكت أهل العلم، وأبكت الفضلاء على مر التاريخ.
إنها حسرة، وإنها دمعة أن يتخلف الإنسان عن الصلاة، أو عن الجهاد، أو عن فعل الخير.
تخلف رضي الله عنه ولم يكن له عذر، فقد ارتحل صلى الله عليه وسلم، وقال كعب بن مالك الشاعر -وهو من الأنصار الصادقين لكن أراد الله أن يتخلف لحكمة أرادها- والله ما كان لي من عذر، وقد قلت: سوف أرتحل غداً وألحق بالرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتحل عليه الصلاة والسلام حين طابت الثمار في المدينة ، وحين أصبح البلح يتدلى من نخل المدينة ، وكان حر الجزيرة يلتهب، فالصحراء تخرج قذائف كالبراكين، والشمس تصهر الناس، ولكن يقول الله عزوجل لهؤلاء الخونة، المارقين المنافقين: وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] يقول بعضهم لبعض: انتظروا لا تخرجوا في الحر، الحر مؤذي، قال الله عزوجل: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] بالله يا مسلمون! يا أخيار! يا أحفاد محمد عليه الصلاة والسلام! أي حر أشد الجزيرة العربية في الظهيرة أم حر جهنم:
تفر من الهجير وتتقيه فهلاَّ من جهنم قد فررت
وتشفق للمصِّر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمت
مشيت القهقرى وخبطت عشوى لعمرك لو وصلت لما رجعت
حر الجزيرة أثناء غزوة تبوك
خرج عليه الصلاة والسلام، والحر يلتهب، والشمس المضنية تسحق ذرات الرمل، ومع ذلك أراد الله والدار الآخرة، وذكر الله أنهم لا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا يصعدون جبلاً، ولا يهبطون وادياً، أو يجوعون أو يظمئون إلا كان في سجل حسناتهم.
مشى صلى الله عليه وسلم بجيش عداده عشرة آلاف يخترق وسط الجزيرة العربية إلى شمالها في اتجاه تبوك ، ليطرد المستعمرين والمحتلين والخونة عن حدود الجزيرة ؛ لأنه يريد أن يطهرها لتبقى جزيرة لا إله إلا الله، جزيرة (إياك نعبد وإياك نستعين) جزيرة محمد رسول الله:
أنا الجزيرة في عيني عباقرة المجد والفجر والتاريخ والشرف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتها وفي ربى عرفات دهرنا يقف
ومشى عليه الصلاة والسلام ولما اقترب من تبوك تخلف أبو ذر الغفاري ، فقال: أين أبو ذر ؟
قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحقه معنا، وإن لم يرد الله به خيراً لا يلحقه بنا.
كان أبو ذر له جملاً، فضربه وأراده أن يرتحل ولكن الجمل ما فعل، فأخذ متاعه على ظهره وترك الجمل، وأتى يقتلع خطاه في الصحراء، ليلحق بالرسول عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب قال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا ذر } فكان أبا ذر .
وكان صلى الله عليه وسلم ودموعه تهراق من عينيه يقول: {رحمك الله يا أبا ذر !
تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك }
يقول: أحد الفضلاء المعاصرين: " تعيش وحدك؛ لأن مبادئك وحسناتك لا تترك لك من يزاحكمك، وتموت وحدك؛ لأن ميثاقك واحد، وتبعث وحدك؛ لأنك صادق أمة واحدة ".
ونزل صلى الله عليه وسلم في تبوك ، وتمر به صلى الله عليه وسلم قصص هائلة يجدها من يتدبر السيرة.خرج عليه الصلاة والسلام، والحر يلتهب، والشمس المضنية تسحق ذرات الرمل، ومع ذلك أراد الله والدار الآخرة، وذكر الله أنهم لا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا يصعدون جبلاً، ولا يهبطون وادياً، أو يجوعون أو يظمئون إلا كان في سجل حسناتهم.
مشى صلى الله عليه وسلم بجيش عداده عشرة آلاف يخترق وسط الجزيرة العربية إلى شمالها في اتجاه تبوك ، ليطرد المستعمرين والمحتلين والخونة عن حدود الجزيرة ؛ لأنه يريد أن يطهرها لتبقى جزيرة لا إله إلا الله، جزيرة (إياك نعبد وإياك نستعين) جزيرة محمد رسول الله:
أنا الجزيرة في عيني عباقرة المجد والفجر والتاريخ والشرف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتها وفي ربى عرفات دهرنا يقف
ومشى عليه الصلاة والسلام ولما اقترب من تبوك تخلف أبو ذر الغفاري ، فقال: أين أبو ذر ؟
قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحقه معنا، وإن لم يرد الله به خيراً لا يلحقه بنا.
كان أبو ذر له جملاً، فضربه وأراده أن يرتحل ولكن الجمل ما فعل، فأخذ متاعه على ظهره وترك الجمل، وأتى يقتلع خطاه في الصحراء، ليلحق بالرسول عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب قال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا ذر } فكان أبا ذر .
وكان صلى الله عليه وسلم ودموعه تهراق من عينيه يقول: {رحمك الله يا أبا ذر !
تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك }
يقول: أحد الفضلاء المعاصرين: " تعيش وحدك؛ لأن مبادئك وحسناتك لا تترك لك من يزاحكمك، وتموت وحدك؛ لأن ميثاقك واحد، وتبعث وحدك؛ لأنك صادق أمة واحدة ".
ونزل صلى الله عليه وسلم في تبوك ، وتمر به صلى الله عليه وسلم قصص هائلة يجدها من يتدبر السيرة.
دور المنافقين في غزوة تبوك
يأتي المنافقون وهم في كل زمان موجودون، إن سكنت قرية فمعك الأعداء، وإن سكنت مدينة جعل الله لك أعداء:
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] وهو الصراع العالمي: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251].
في النادي مصارعة بين الحق والباطل، وفي الملعب حرب بين الحق والباطل، وفي الحارة، والحديقة، والشاطئ، والساحة، والجامعة، والمدرسة، وحول المسجد، وفي كل مكان صراع بين الحق والباطل، فقد أراد الله أن يتصارع الحق والباطل، وأراد الله معتركاً عالمياً بين (لا إله إلا الله) (ولا إله والحياة مادة) مثل عراك النور والظلمة، والحلو والحامض، والحار والبارد.
جلس المنافقون يتشفون في محمد صلى الله عليه وسلم، يسبون ويسخرون مثل من يسخر الآن بالأخيار؛ يصفونهم بالتطرف وبالفضوليين وبالأصوليين وبالمتزمتين، وغيرها من التهم التي لا توجه إلا لليهود والنصارى.
فقالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء؛ يقصدون الصحابة أنهم جبناء ويأكلون كثيراً.
وكان المنافقون مندسين في الصف، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما يعلمه الله الذي يعلم السر وأخفى.
نزل جبريل عليه السلام يقول: في الصف دخلاء وعملاء وخونة، استدعهم الآن واسألهم ماذا قالوا البارحة، فاستدعاهم صلى الله عليه وسلم فكانوا يتعلقون بناقته، ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نمزح البارحة، ونخوض ونلعب، ونقطع الطريق، ما أردنا الإساءة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبلله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فالمسألة ليست مسألة استهزاء باللحى والثياب القصيرة والخطب والوعاظ والعلماء، المسألة مسألة هجوم ساحق على الإسلام وعلى الدين، وعلى شباب الصحوة.
إذاً: الحرب شعواء منذ القدم، فالذي يحاربني ويحاربك الآن قد حارب محمداً عليه الصلاة والسلام، فوالله لقد نجح محمد عليه الصلاة والسلام في حرب الإغراء والابتلاء؛ والوسائل التي يجربها دائماً أهل الباطل هي نفسها، جربوا معه الدراهم والدنانير فأبى عليهم، قالوا له: نزوجك أجمل فتاة؟ قال: لا. قالوا: نملكك على العرب؟ قال: لا. قالوا: نجمع لك مالاً حتى تكون أغنى الناس؟ قال: لا. قالوا: أتترك مبادئك وعقيدتك؟ قال: {والذي نفسي بيده! لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه } فلله درك، هكذا فلتكن التضحيات والشجاعة، وجربوا معه الإيذاء.
سجد عند الكعبة فأتوا بسلى الناقة فوضعوه على رأسه، فقام يبعد الدم عنه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
أخذوا بناته يضربونهن في وجوههن أمامه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
أخرجوه من مكة وحاصروه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
طردوه إلى الطائف فطرده أهل الطائف وأدموا قدميه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
يقول له ملك الجبال، أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ -جبلي مكة -فيقول: {إني أسأل من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً } هذا الذي نجح فيه صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء استهزءوا فكفرهم الله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].يأتي المنافقون وهم في كل زمان موجودون، إن سكنت قرية فمعك الأعداء، وإن سكنت مدينة جعل الله لك أعداء:
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] وهو الصراع العالمي: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251].
في النادي مصارعة بين الحق والباطل، وفي الملعب حرب بين الحق والباطل، وفي الحارة، والحديقة، والشاطئ، والساحة، والجامعة، والمدرسة، وحول المسجد، وفي كل مكان صراع بين الحق والباطل، فقد أراد الله أن يتصارع الحق والباطل، وأراد الله معتركاً عالمياً بين (لا إله إلا الله) (ولا إله والحياة مادة) مثل عراك النور والظلمة، والحلو والحامض، والحار والبارد.
جلس المنافقون يتشفون في محمد صلى الله عليه وسلم، يسبون ويسخرون مثل من يسخر الآن بالأخيار؛ يصفونهم بالتطرف وبالفضوليين وبالأصوليين وبالمتزمتين، وغيرها من التهم التي لا توجه إلا لليهود والنصارى.
فقالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء؛ يقصدون الصحابة أنهم جبناء ويأكلون كثيراً.
وكان المنافقون مندسين في الصف، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما يعلمه الله الذي يعلم السر وأخفى.
نزل جبريل عليه السلام يقول: في الصف دخلاء وعملاء وخونة، استدعهم الآن واسألهم ماذا قالوا البارحة، فاستدعاهم صلى الله عليه وسلم فكانوا يتعلقون بناقته، ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نمزح البارحة، ونخوض ونلعب، ونقطع الطريق، ما أردنا الإساءة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبلله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فالمسألة ليست مسألة استهزاء باللحى والثياب القصيرة والخطب والوعاظ والعلماء، المسألة مسألة هجوم ساحق على الإسلام وعلى الدين، وعلى شباب الصحوة.
إذاً: الحرب شعواء منذ القدم، فالذي يحاربني ويحاربك الآن قد حارب محمداً عليه الصلاة والسلام، فوالله لقد نجح محمد عليه الصلاة والسلام في حرب الإغراء والابتلاء؛ والوسائل التي يجربها دائماً أهل الباطل هي نفسها، جربوا معه الدراهم والدنانير فأبى عليهم، قالوا له: نزوجك أجمل فتاة؟ قال: لا. قالوا: نملكك على العرب؟ قال: لا. قالوا: نجمع لك مالاً حتى تكون أغنى الناس؟ قال: لا. قالوا: أتترك مبادئك وعقيدتك؟ قال: {والذي نفسي بيده! لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه } فلله درك، هكذا فلتكن التضحيات والشجاعة، وجربوا معه الإيذاء.
سجد عند الكعبة فأتوا بسلى الناقة فوضعوه على رأسه، فقام يبعد الدم عنه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
أخذوا بناته يضربونهن في وجوههن أمامه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
أخرجوه من مكة وحاصروه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
طردوه إلى الطائف فطرده أهل الطائف وأدموا قدميه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
يقول له ملك الجبال، أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ -جبلي مكة -فيقول: {إني أسأل من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً } هذا الذي نجح فيه صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء استهزءوا فكفرهم الله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
كعب بن مالك وتخلفه عن الركب
وانتهت الغزوة في مواصفات كثيرة، وفي أحداث مبكية مضنية، ورجع عليه الصلاة والسلام.(1/136)
أما كعب بن مالك فهو في المدينة يعيش أياماً سوداء في حياته، قال: [[كنت أخرج بعد ذهاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد ذهاب الصحابة فلا أرى إلا شيخاً كبيراً في السن، أو عجوزاً، أو امرأة، أو رجلاً مغموساً عليه في النفاق، فلما اقترب عليه الصلاة والسلام من المدينة قال: حضرني بثي وحزني ]] وكان كعب بن مالك شاعراً بليغاً، يجهز المعاذير لكنها سوف تتساقط، ويأتي بحجج يتحفظها في صدره لكنها سوف تهوي.
واقترب صلى الله عليه وسلم من المدينة ، وكان إذا اقترب من المدينة يدخلها وقت الضحى فيستقبله أهل المدينة كأعظم ما يستقبل الأخيار إمامهم وعظيمهم وفاتحهم.
والصحيح عند أهل السير أن الأطفال خرجوا يحيونه بـ(طلع البدر علينا) يوم أتى من تبوك ، خرج الأطفال من المدينة والجواري -البنات الصغار- خرجن على أسقفة المنازل يحيون أعظم قائد عرفه تاريخ الإنسان، فقد أخرج الناس من عبودية الإنسان للإنسان لعبودية الإنسان لرب الإنسان، وأخذوا يهتفون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
استقبال كعب بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم
أخذ صلى الله عليه وسلم يوزع البسمات على هؤلاء، ويحمل أحياناً الأطفال ويقبلهم وينزلهم من على راحلته، ومرة يردف أحدهم ومرة يجعله وراءه؛ لأنه أبو الأطفال، واليتامى، والمساكين، ومحرر المرأة، ورافع حق الإنسان، وموجد حق الحوار.
فوصل صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد فصلى ركعتين، فأما المنافقون فاعتذروا فعذرهم صلى الله عليه وسلم وخرج، وأما كعب بن مالك فجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والحسرة تملأ قلبه.
وانظر إلى عِظَم الحسرة! وهي أن يتخلف تلميذٌ عن شيخه في إحدى مقامات التضحية، لم يكن هناك تحضير للأسماء، لكن الله يعلم الغيب وأخفى، سجل عشرة آلاف الله يعلمهم واحداً واحداً، وأخبر رسوله أن ثلاثة تخلفوا، لكن هؤلاء الثلاثة لهم مكانة في الإسلام.
أتى كعب بن مالك فجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: [[يا رسول الله! والله لو جلست أمام أحدٍ من أهل الدنيا غيرك لظننت أني سوف أخرج بحجة، فإن الله آتاني بياناً وجدلاً، ولكن يا رسول الله! والله إن اعتذرت لك اليوم بعذر كاذب وترضى عني، فإني أخشى أن يسخطك الله عليَّ ويسخط الله عليَّ، وإن اعتذرت لك بعذر صادق وتغضب عليَّ أسأل الله أن يرضيك ويرضى عني، أما أنا فلا عذر لي. قال: قم ويقضي الله في شأنك ما شاء، فقام فتلقته قبيلة بني سلمة، قالوا: ما رأيناك فعلت فعلاً أقبح من فعلك إلا عذرك، عد إليه واعتذر ولو كنت كاذباً. قال: فأردت أن أعود فأكذب نفسي، فذكروا لي رجلين من أهل بدر تخلفا معي واعتذرا بمثل عذري. فقلت: لا ولم ألتفت إليهم ]].أخذ صلى الله عليه وسلم يوزع البسمات على هؤلاء، ويحمل أحياناً الأطفال ويقبلهم وينزلهم من على راحلته، ومرة يردف أحدهم ومرة يجعله وراءه؛ لأنه أبو الأطفال، واليتامى، والمساكين، ومحرر المرأة، ورافع حق الإنسان، وموجد حق الحوار.
فوصل صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد فصلى ركعتين، فأما المنافقون فاعتذروا فعذرهم صلى الله عليه وسلم وخرج، وأما كعب بن مالك فجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والحسرة تملأ قلبه.
وانظر إلى عِظَم الحسرة! وهي أن يتخلف تلميذٌ عن شيخه في إحدى مقامات التضحية، لم يكن هناك تحضير للأسماء، لكن الله يعلم الغيب وأخفى، سجل عشرة آلاف الله يعلمهم واحداً واحداً، وأخبر رسوله أن ثلاثة تخلفوا، لكن هؤلاء الثلاثة لهم مكانة في الإسلام.
أتى كعب بن مالك فجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: [[يا رسول الله! والله لو جلست أمام أحدٍ من أهل الدنيا غيرك لظننت أني سوف أخرج بحجة، فإن الله آتاني بياناً وجدلاً، ولكن يا رسول الله! والله إن اعتذرت لك اليوم بعذر كاذب وترضى عني، فإني أخشى أن يسخطك الله عليَّ ويسخط الله عليَّ، وإن اعتذرت لك بعذر صادق وتغضب عليَّ أسأل الله أن يرضيك ويرضى عني، أما أنا فلا عذر لي. قال: قم ويقضي الله في شأنك ما شاء، فقام فتلقته قبيلة بني سلمة، قالوا: ما رأيناك فعلت فعلاً أقبح من فعلك إلا عذرك، عد إليه واعتذر ولو كنت كاذباً. قال: فأردت أن أعود فأكذب نفسي، فذكروا لي رجلين من أهل بدر تخلفا معي واعتذرا بمثل عذري. فقلت: لا ولم ألتفت إليهم ]].
إعلان المقاطعة على كعب بن مالك
عاد كعب إلى بيته وأعلن عليه الصلاة والسلام في الناس مقاطعة هؤلاء الثلاثة، لا يزارون ولا يكلمون ولا يسلم عليهم ولا ينكحون، ولا يُباع منهم ولا يُشترى، ولا يلقون أبداً ولا يحيون.
وسمع كعب بن مالك فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لا إله إلا الله! وهذا تأديب من الله لهم.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
وهذا تأديب يفعله الزعماء الأخيار، والفاتحون العظماء -الذين هم على بصيرة من الله عز وجل- لكي يكون دواءً.
وهكذا يفعل بأهل المعاصي، فمن وعظته ونصحته ولنت له وبينت له الحق ثم لم يستجب لك فاهجره، حتى يرى أنك على دين الله عز وجل.
أما أن تُآكل أهل المعاصي، وتشاربهم، وتستقبلهم في بيتك، فهذا معناه: أنك تتضامن وتتكاتف معهم، ومعناها: أنك تتوحد معهم ضد الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].
يقول عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: {إنما أهلك بني إسرائيل أنهم كان أحدهم يلقى أخاه على المنكر فيقول له: اتق الله لا تفعل، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار } أي: تمييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضييعه، يسمونه الآن جرح للمشاعر، ويسمونه التدخل في شئون الغير، ويسمونه بتسميات حتى يصفونه بأنه فتنة وهو الحق الصُرَاح.
مقاطعة أعداء الله عزوجل أو من فيه معصية أو انحراف لا بد أن يكون لكي يكون هناك بيان واضح للناس.
وبقي كعب لا يكلمه أحد، فاسمع الآن لمعاناته، يقول: أنزل إلى السوق فأسلم على الناس فلا يردون عليَّ السلام.
وفيه درس امتثال المسلمين لرسولهم عليه الصلاة والسلام، وإلا ليس هناك مراقبة لهم بتجسس، أو بطريقة بوليسية تخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من الذي يرد على كعب أو يسلم عليه، السوق لا تنقل أخباره إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
بل يقول صلى الله عليه وسلم: لا تكلموهم، فينزل كعب فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، فلا يرد عليه أحد من أهل السوق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن مقاطعته، وحضر السلام عليه واستقباله ومبايعته ومشاراته.
يأتي بسمن يريد أن يبيعه في السوق، فيقولون: لا نشتري منك. قال: أريد سمناً، قالوا: لا نبيعك. فقال: أريد ثوباً؟ قالوا: لا نبيعك أبداً، منع الرسول عليه الصلاة والسلام.عاد كعب إلى بيته وأعلن عليه الصلاة والسلام في الناس مقاطعة هؤلاء الثلاثة، لا يزارون ولا يكلمون ولا يسلم عليهم ولا ينكحون، ولا يُباع منهم ولا يُشترى، ولا يلقون أبداً ولا يحيون.
وسمع كعب بن مالك فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لا إله إلا الله! وهذا تأديب من الله لهم.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
وهذا تأديب يفعله الزعماء الأخيار، والفاتحون العظماء -الذين هم على بصيرة من الله عز وجل- لكي يكون دواءً.
وهكذا يفعل بأهل المعاصي، فمن وعظته ونصحته ولنت له وبينت له الحق ثم لم يستجب لك فاهجره، حتى يرى أنك على دين الله عز وجل.
أما أن تُآكل أهل المعاصي، وتشاربهم، وتستقبلهم في بيتك، فهذا معناه: أنك تتضامن وتتكاتف معهم، ومعناها: أنك تتوحد معهم ضد الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].
يقول عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: {إنما أهلك بني إسرائيل أنهم كان أحدهم يلقى أخاه على المنكر فيقول له: اتق الله لا تفعل، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار } أي: تمييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضييعه، يسمونه الآن جرح للمشاعر، ويسمونه التدخل في شئون الغير، ويسمونه بتسميات حتى يصفونه بأنه فتنة وهو الحق الصُرَاح.
مقاطعة أعداء الله عزوجل أو من فيه معصية أو انحراف لا بد أن يكون لكي يكون هناك بيان واضح للناس.
وبقي كعب لا يكلمه أحد، فاسمع الآن لمعاناته، يقول: أنزل إلى السوق فأسلم على الناس فلا يردون عليَّ السلام.
وفيه درس امتثال المسلمين لرسولهم عليه الصلاة والسلام، وإلا ليس هناك مراقبة لهم بتجسس، أو بطريقة بوليسية تخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من الذي يرد على كعب أو يسلم عليه، السوق لا تنقل أخباره إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
بل يقول صلى الله عليه وسلم: لا تكلموهم، فينزل كعب فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، فلا يرد عليه أحد من أهل السوق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن مقاطعته، وحضر السلام عليه واستقباله ومبايعته ومشاراته.
يأتي بسمن يريد أن يبيعه في السوق، فيقولون: لا نشتري منك. قال: أريد سمناً، قالوا: لا نبيعك. فقال: أريد ثوباً؟ قالوا: لا نبيعك أبداً، منع الرسول عليه الصلاة والسلام.
صور من معاناة كعب بن مالك
يعود إلى بيته فيسلم على أهله، فلا يردون عليه السلام. يطرق الباب على جيرانه فيقول: السلام عليكم فلا يردون.
قال: فلما ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت تسورت -أي: تسلقت- حائط ابن عمي أبي قتادة .
وهو أحد الأبطال، وفارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جار كعب وابن عمه ومن أحب الناس إليه، وقد تسور عليه كعب ؛ لأنه لا يفتح له الباب أبداً، فصعد عليه من الجدار وسقط في حوش بيته، فخرج أبو قتادة ، وقال كعب : السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فما رد أبو قتادة عليه السلام، قال يا أبا قتادة : أنشدك الله عزوجل هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فسكت أبو قتادة ، فأعاد عليه ثانية، فسكت، فأعاد عليه ثالثة، فقال كلمة في منتهى البرودة والجفاء -ولو أنه قريبه ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري إلا أن يخبره الله- قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت دموع كعب وبكى.
فهذا موقف مؤثر، لكن إن دل على شيء فإنما يدل على مدى النفس الإيمانية التي عاشها السلف ، ومدى اتباعهم للرسول عليه الصلاة والسلام وصدقهم معه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: اجلسوا؛ فيجلس ابن رواحة خارج المسجد في الشمس.
قالوا: لماذا تجلس في الشمس؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اجلسوا.
ويستمر بكعب وبقية الثلاثة الحال وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت كما ذكر الله في محكم التنزيل.
فتغيرت الأرض، فما هي بالأرض التي يعرفونها، وتغير لون الشجر، وهذا كما قال ابن القيم : "المعصية تغير البصائر والأبصار"، والله تعالى يقول: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون [الأنعام:110] وفيه دليل عند الفضلاء المتأخرين من أهل التفسير: أن الشيوعية سوف تسقط، قالوا هذا: قبل خمس وعشرين سنة، وسقط قبل أيام الحزب الشيوعي ، وخرجوا عراة الأجساد أمام الدبابات يطرحونها، فهم يريدون أن تعود لهم حرية التنفس والرأي، ويقولون: الموت والخزي والعار للشيوعية .
والله يقول: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] فهم خالفوا الفطرة، فقال سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].يعود إلى بيته فيسلم على أهله، فلا يردون عليه السلام. يطرق الباب على جيرانه فيقول: السلام عليكم فلا يردون.
قال: فلما ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت تسورت -أي: تسلقت- حائط ابن عمي أبي قتادة .
وهو أحد الأبطال، وفارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جار كعب وابن عمه ومن أحب الناس إليه، وقد تسور عليه كعب ؛ لأنه لا يفتح له الباب أبداً، فصعد عليه من الجدار وسقط في حوش بيته، فخرج أبو قتادة ، وقال كعب : السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فما رد أبو قتادة عليه السلام، قال يا أبا قتادة : أنشدك الله عزوجل هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فسكت أبو قتادة ، فأعاد عليه ثانية، فسكت، فأعاد عليه ثالثة، فقال كلمة في منتهى البرودة والجفاء -ولو أنه قريبه ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري إلا أن يخبره الله- قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت دموع كعب وبكى.
فهذا موقف مؤثر، لكن إن دل على شيء فإنما يدل على مدى النفس الإيمانية التي عاشها السلف ، ومدى اتباعهم للرسول عليه الصلاة والسلام وصدقهم معه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: اجلسوا؛ فيجلس ابن رواحة خارج المسجد في الشمس.
قالوا: لماذا تجلس في الشمس؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اجلسوا.
ويستمر بكعب وبقية الثلاثة الحال وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت كما ذكر الله في محكم التنزيل.
فتغيرت الأرض، فما هي بالأرض التي يعرفونها، وتغير لون الشجر، وهذا كما قال ابن القيم : "المعصية تغير البصائر والأبصار"، والله تعالى يقول: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون [الأنعام:110] وفيه دليل عند الفضلاء المتأخرين من أهل التفسير: أن الشيوعية سوف تسقط، قالوا هذا: قبل خمس وعشرين سنة، وسقط قبل أيام الحزب الشيوعي ، وخرجوا عراة الأجساد أمام الدبابات يطرحونها، فهم يريدون أن تعود لهم حرية التنفس والرأي، ويقولون: الموت والخزي والعار للشيوعية .
والله يقول: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] فهم خالفوا الفطرة، فقال سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
رسالة ملك غسان إلى كعب بن مالك
اسمع إلى حدث وقع: خرج كعب بن مالك إلى السوق يريد أن ينظر إلى الناس فقط، وبينما هو في السوق إذا برجل من النصارى العرب.
فقومية العرب بلا إسلام، فالذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد وفي الأحزاب وأهل صبرا وشاتيلا ، وأيلول الأسود، واحتلال الكويت ، هم بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
فأتى الرجل برسالة من ملك الغساسنة لكعب بن مالك ، قال: فأخذت الرسالة فإذا هو يقول: من ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك أمَّا بَعْد: فسمعنا أن صاحبك قد جفاك -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى تلهف أهل الباطل- ولم يجعلك الله بدار هوان، فالحق بنا نواسك.
فتعال نكرمك، ونحترمك، وننزلك منزلتك، لا إله إلا الله، والله لو كان كعب بن مالك من أهل الدنيا، والذين يبحثون عن المناصب، والذين ضيعوا حياتهم في الوظائف والسيارات الفخمة والقصور بلا مبادئ لركب راحلته وذهب إلى ملك الغساسنة، ولقال: ماذا أفعل بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقد قاطعني في المدينة ، وحجبني عن أهلي وأصحابي وزملائي؛ ولذلك نرى بعض الناس ينضم إلى معسكرات الكفر بمجرد كلمة، وهذا من ضعف الولاء والبراء، وضعف الانقياد لله عزوجل، فماذا فعل ابن مالك ؟
كان بإمكانه أن يشقق الرسالة، لكن أراد أن يصهرها بالنار ليعلم الله أنه صادق.
قال: [[فتيممت بها التنور فسجرته بها ]] إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وهذه مبادئ أهل الباطل دائماً تحرق، وأعلامهم دائماً تمزق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].اسمع إلى حدث وقع: خرج كعب بن مالك إلى السوق يريد أن ينظر إلى الناس فقط، وبينما هو في السوق إذا برجل من النصارى العرب.
فقومية العرب بلا إسلام، فالذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد وفي الأحزاب وأهل صبرا وشاتيلا ، وأيلول الأسود، واحتلال الكويت ، هم بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
فأتى الرجل برسالة من ملك الغساسنة لكعب بن مالك ، قال: فأخذت الرسالة فإذا هو يقول: من ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك أمَّا بَعْد: فسمعنا أن صاحبك قد جفاك -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى تلهف أهل الباطل- ولم يجعلك الله بدار هوان، فالحق بنا نواسك.
فتعال نكرمك، ونحترمك، وننزلك منزلتك، لا إله إلا الله، والله لو كان كعب بن مالك من أهل الدنيا، والذين يبحثون عن المناصب، والذين ضيعوا حياتهم في الوظائف والسيارات الفخمة والقصور بلا مبادئ لركب راحلته وذهب إلى ملك الغساسنة، ولقال: ماذا أفعل بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقد قاطعني في المدينة ، وحجبني عن أهلي وأصحابي وزملائي؛ ولذلك نرى بعض الناس ينضم إلى معسكرات الكفر بمجرد كلمة، وهذا من ضعف الولاء والبراء، وضعف الانقياد لله عزوجل، فماذا فعل ابن مالك ؟
كان بإمكانه أن يشقق الرسالة، لكن أراد أن يصهرها بالنار ليعلم الله أنه صادق.
قال: [[فتيممت بها التنور فسجرته بها ]] إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وهذه مبادئ أهل الباطل دائماً تحرق، وأعلامهم دائماً تمزق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].
تعزيز المقاطعة باعتزال النساء
وعاد كعب بن مالك وأتى الإعلان الثاني، قال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إلى الثلاثة الذين تخلفوا وقولوا لهم: اعتزلوا نساءكم.
الله أكبر! فذهبوا إلى الثلاثة فأخبروهم، فقال: كعب بن مالك : ماذا نفعل: أنخرجهنَّ من بيوتنا؟ قال: لا. بل لا تقربوهن، فهي تبقى عندك في البيت ولكن لا تقربها أبداً؛ جزاءً ونكالاً حتى يتحرر هذا الإنسان ويكون عبداً لله عز وجل؛ لئلا يكون للشيطان فيه حظ وللرحمن حظ، لأننا نجد كثيراً من الناس أن للمجلة الخليعة وللمصحف منه حظ، وللمقهى وللمسجد منه حظ، وللموسيقى وللتلاوة منه حظ، ولأولياء الله وللشيطان والشريرين في العالم منه حظ، لا. بل لا تكون عبداً لله حتى لا يكون لأحدٍ سوى الله منك حظ.
كان عمر يسجد، ويقول: [[اللهم اجعلني عبداً لك وحدك ]] لله درك فما أحسن هذا الكلام.
فإنك ترى من الناس من هو عبد للسيارة، وعبد للوظيفة، وللمنصب، وللأغنية، وللكرة، وللمجلة، وللفيديو، وللمسلسل، وللهواية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23] ويقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {تعس عبد الدينار -بعض الناس يعبد المال، وهو أحب إليه من الله- تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش } وبعضهم يعبد العمارة والتخطيط والصبة والخلطة والحديد ولبن البناء.
وبعضهم يعبد السيارة، فتجد اعتناءه بشخصيته وسيارته أكثر من اعتنائه بصلاته، وهؤلاء يسمون الهامشيون في الحياة، أو الذين هم خارج الخارطة.
يقول كعب بن مالك عن المعاناة: [[فنزلت إلى المسجد، فكنت أسارق الرسول صلى الله عليه وسلم النظر، فإذا أتيت إليه، قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فألتفت إليه هل يحرك شفتيه بالسلام عليَّ فلا أسمعه يقول شيئاً، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل عليَّ، وإذا سلمت انحرف عني ]] تصور معلم البشر عليه الصلاة والسلام أفضل من خلق الله، وأصدقهم وأخلصهم يعامل هذه المعاملة.
يأتي يسلم عليه فلا يرد، فيقبل كعب بن مالك على صلاته فينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فينظر في قامته وفي وجهه ويتأمل فيه صلى الله عليه وسلم، وذاك يشعر في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فإذا نظر إليه كعب رجع صلى الله عليه وسلم ونكس ببصره الشريف إلى الأرض.
واستمرت الليالي تلو الليالي، واستمرت المعاناة:
أيها المحرقون في كفى دار فالدموع التي تركت غزار
كلها ومضة إلى المصطفى الهادي وفي كفنا العظيم انتصار
وعاد كعب بن مالك وأتى الإعلان الثاني، قال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إلى الثلاثة الذين تخلفوا وقولوا لهم: اعتزلوا نساءكم.
الله أكبر! فذهبوا إلى الثلاثة فأخبروهم، فقال: كعب بن مالك : ماذا نفعل: أنخرجهنَّ من بيوتنا؟ قال: لا. بل لا تقربوهن، فهي تبقى عندك في البيت ولكن لا تقربها أبداً؛ جزاءً ونكالاً حتى يتحرر هذا الإنسان ويكون عبداً لله عز وجل؛ لئلا يكون للشيطان فيه حظ وللرحمن حظ، لأننا نجد كثيراً من الناس أن للمجلة الخليعة وللمصحف منه حظ، وللمقهى وللمسجد منه حظ، وللموسيقى وللتلاوة منه حظ، ولأولياء الله وللشيطان والشريرين في العالم منه حظ، لا. بل لا تكون عبداً لله حتى لا يكون لأحدٍ سوى الله منك حظ.
كان عمر يسجد، ويقول: [[اللهم اجعلني عبداً لك وحدك ]] لله درك فما أحسن هذا الكلام.
فإنك ترى من الناس من هو عبد للسيارة، وعبد للوظيفة، وللمنصب، وللأغنية، وللكرة، وللمجلة، وللفيديو، وللمسلسل، وللهواية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23] ويقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {تعس عبد الدينار -بعض الناس يعبد المال، وهو أحب إليه من الله- تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش } وبعضهم يعبد العمارة والتخطيط والصبة والخلطة والحديد ولبن البناء.
وبعضهم يعبد السيارة، فتجد اعتناءه بشخصيته وسيارته أكثر من اعتنائه بصلاته، وهؤلاء يسمون الهامشيون في الحياة، أو الذين هم خارج الخارطة.
يقول كعب بن مالك عن المعاناة: [[فنزلت إلى المسجد، فكنت أسارق الرسول صلى الله عليه وسلم النظر، فإذا أتيت إليه، قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فألتفت إليه هل يحرك شفتيه بالسلام عليَّ فلا أسمعه يقول شيئاً، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل عليَّ، وإذا سلمت انحرف عني ]] تصور معلم البشر عليه الصلاة والسلام أفضل من خلق الله، وأصدقهم وأخلصهم يعامل هذه المعاملة.(1/137)
يأتي يسلم عليه فلا يرد، فيقبل كعب بن مالك على صلاته فينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فينظر في قامته وفي وجهه ويتأمل فيه صلى الله عليه وسلم، وذاك يشعر في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فإذا نظر إليه كعب رجع صلى الله عليه وسلم ونكس ببصره الشريف إلى الأرض.
واستمرت الليالي تلو الليالي، واستمرت المعاناة:
أيها المحرقون في كفى دار فالدموع التي تركت غزار
كلها ومضة إلى المصطفى الهادي وفي كفنا العظيم انتصار
الفرج بعد الكرب ينزل على كعب بن مالك
أتى الفرج من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى والفرج دائماً يأتي من عنده، ولذلك يقول تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] والذي في السماء هو الله.
عرفها الأعرابي البسيط الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم، أعرابي يصلي مع الناقة لكنه مثقف ثقافة إيمانية أوصلته إلى أن يعرف الله عز وجل، فيصلي ركعتين في الصحراء للواحد الأحد.
قال له أحد الوثنيين الملحدين: "لمن تصلي؟ قال: لله. قال: هل رأيته حتى تصلي له.
قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وليل داج، ونجوم تزهر، وبحر يزخر، ألا يدل على السميع البصير" بلى، هذه عقيدة التوحيد التي أخرجها صلى الله عليه وسلم إلى الناس.
إنها ثقافة الإنسان يحملها الأعرابي في الصحراء.
أعرابي بدوي صلى مع عمر بن الخطاب في آخر الصفوف، ومعه سيف بتار، فخطب عمر ، وعلى عادته يفتح مجال الشورى، وسماع الحوار، والنصيحة، والرأي الآخر.
قال عمر : [[أيها الناس! كيف أنتم لو رأيتموني ملت عن الطريق هكذا -يشير بيده على المنبر- يعني: ما رأيكم لو اعوججت عن الطريق، أي: ملت، أو خنت، أو تركت شرع الله، أو حكمت بغير ما أنزل الله.
فسكت الصحابة، وقام الأعرابي من آخر المسجد -أقلهم ثقافة، أو يعرف بمستوى عصرنا الإسلام، لا من أعرفهم- وسل سيفه، وأشاح به في آخر المسجد، وقال: والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم عمر ، وقال: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا لقال بالسيف هكذا ]] لم يقل: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، اغمطوه، ورشوه، واسحقوه، هذه مسيرة ميشيل عفلق "أمة واحدة ذات رسالة خالدة" حتى يقول فيهم الشاعر:
وحدويون: هم هذا العرب بدون إسلام.
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس وضاعت من قبلها الحمراء
ماركسيون في عدن يقولون: أتينا نحرر الإنسان، أتى رجل عدني مسلم يحج ويعتمر فقال له أحد العلماء في المسجد الحرام: "كيف حالكم مع الماركسية والشيوعية ؟ قال: القائم سدحوه، والقادح قدحوه".
هذه هي شيوعية الغاز، وشيوعية السكر، وشيوعية الخطوط المزفلتة، يقف الواحد عندهم طابوراً بالبطاقة يأخذ كيلو سكر في ساعتين؛ ولذلك خرجوا ثائرين في موسكو ضد هذه الخيانة والظلم والتعسف وكسروا الحديد.
يقول أحد العلماء: سافرت إلى موسكو في عهد برجنيف في مهمة في جمع مخطوطات ومعلومات، قال: "مررت بالحدائق ذات الأسلاك، وقد وضع فيها الناس كالحيوانات، عندهم ماء وخبز وصناديق تظللهم من الشمس؛ لأنهم خرجوا على الحزب الشيوعي "مثل معاملة الحمير، كأنها حظيرة حمير.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوقفهم أمام الأمر الواقع حتى يأتي العفو من الله، لأنه إذا عفا عنك البشر ولم يعفُ عنك الله فلن ينفعك، والله يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135] ثم قال: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].
هل سمعتم أن أحداً من الناس يملك أن يغفر ذنبك إلا الله؟
هل سمعت أن باستطاعة أي إنسان أن يمحو خطيئتك إلا الله؟
لا. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].
ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه يجيب المضطر، وهذه من الأمور التي تقصم ظهور الشيوعية ، أنه لا يجيب المضطر إلا الله، وفي حالة من اضطرار الإنسان يعرف أن هناك إلهاً واحداً مدبراً رازقاً خالقاً متصرفاً في الكون.
يركب الوثني العربي سفينته في البحر الأحمر ، فإذا هزته الريح -وهذا قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: يا الله! يا الله! يا الله! فالله يذكرهم، يقول: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65].
ولذلك مجموعة الأمريكان الذين ألفوا كتاب: الله يتجلَّى في عصر العلم ، إنما أسلموا بسبب رسو سفينة في المحيط الأطلنطي وأخرجهم الله؛ لأنهم نادوا الله.
لأن الإنسان على الفطرة، إذا ضاقت به الحيل التفت إلى الله ودعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]......
بعد خمسين ليلة
وقف كعب بن مالك في هذه المرارة بعد أن مرت به خمسون ليلة، وهو في كل ليلة لا ينام، تزوره كل ليلة، حملة هائلة من الهموم:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظام
أبنت الدهر عندي كل بنتٍ فكيف نجوتِ أنت من الزحام
وبعد ذلك أتى الفرج من الله، ونزل جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118] وعاد برحمته ليعودوا، وهداهم إلى التوبة ليهتدوا إلى صراط الله المستقيم.
أيها الفضلاء: يا أبناء الأمة! يا أمة التوحيد: من أراد الله وجده، يعرف ذلك من جرب الدعاء في الضوائق والشدائد أن الله قريب، وأنه يكشف الكرب، وأنه أقوى قوة تنصر الإنسان حين يلتجئ إليه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] والله يقول: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] والله يقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36] ويقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي: يكفيك الله، ومن ركن إلى الله فلا يخاف.وقف كعب بن مالك في هذه المرارة بعد أن مرت به خمسون ليلة، وهو في كل ليلة لا ينام، تزوره كل ليلة، حملة هائلة من الهموم:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظام
أبنت الدهر عندي كل بنتٍ فكيف نجوتِ أنت من الزحام
وبعد ذلك أتى الفرج من الله، ونزل جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118] وعاد برحمته ليعودوا، وهداهم إلى التوبة ليهتدوا إلى صراط الله المستقيم.
أيها الفضلاء: يا أبناء الأمة! يا أمة التوحيد: من أراد الله وجده، يعرف ذلك من جرب الدعاء في الضوائق والشدائد أن الله قريب، وأنه يكشف الكرب، وأنه أقوى قوة تنصر الإنسان حين يلتجئ إليه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] والله يقول: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] والله يقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36] ويقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي: يكفيك الله، ومن ركن إلى الله فلا يخاف.
نزول التوبة من السماء
نزلت توبة الثلاثة من السماء قبل صلاة الفجر، ولماذا نزلت قبل صلاة الفجر ولم تنزل قبل صلاة العشاء، أو بعد المغرب، أو قبل العصر أو بعده، أو في الظهر؟
قال بعض الفضلاء: نزلت قبل صلاة الفجر؛ لأن هذا الوقت وقت نزول الرحمات، ولأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ليلة -كما هو معتقد أهل السنة والجماعة - يتنزل إلى سماء الدنيا، فيقول:
هل من سائل فأعطيه؟
هل من مستغفر فأغفر له؟
هل من داعٍ فأجيبه؟
وأنا أقول: إن على الإنسان أن يعرض نفسه أمام هذا الفيض الإلهي، وأمام الرحمة المباركة التي لا تنقطع، وأن يعرض نفسه على ربه، وإن وقع في زنا أو مخدرات أو ترك الصلاة، أو ارتكاب فواحش ومنكرات، أو تخلف عن الصلوات، أو قطيعة لميثاق الله، أو غير ذلك، ليقول: أخطأت وعدت.
فالله عزوجل في الثلث الأخير من الليل -يوم لا يقوم إلا الخواص من أوليائه- يبارك في تلك الدقائق وفي تلك الساعات.
نزلت توبتهم على الرسول عليه الصلاة والسلام، فتسابق الناس من يخبرهم أولاً؛ فأتاه فارس على فرس، ورجل يسعى وآخر يمشي.
صلى كعب بن مالك الفجر ثم جلس على سقف بيته -وبيته وبين الرسول صلى الله عليه وسلم جبل سلع - يسبح الله عز وجل في حالة من الضنك والأسى واللوعة والهم والغم كما وصفه الله، وإذا برجل على جبل سلع ، يقول: يا كعب بن مالك ! أبشر بتوبة الله عليك، فيسجد على التراب سجدة الشكر لله:
وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي وقالت لي إلي
فتعاميت كأن لم أرها حينما أبصرت مقصودي لديّ
وإذا الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرض يا أخي
سجد لله عزوجل، ثم رفع رأسه ودعا الله وانهلت ودموع الفرح تنهل من عينيه:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وهي دموع باردة ليست دموعاً حارة كدموع الأسى واللوعة والحزن، لكن دموع باردة هي دموع الفرح، ودموع التائبين، ودموع تحصل على أعظم جائزة يطمح إليها البشر وهي جائزة رضوان الله، لا جائزة نوبل ولا غيره، جائزة رضوان الواحد الأحد أن يرضى عنك.
يقول أحد الناس: ليتني كنت مع الصحابة تحت الشجرة؛ لأعيش مشاعرهم يوم بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم أنزل الله جبريل من السماء، يقول: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] حتى تدري أنت باسمك واسم أبيك أنك من الذين بايعوا تحت الشجرة وأن الله رضي عنك، لا إله إلا الله.
قال: وأتى الفارس على الفرس لكن صاحب الصوت الذي في الجبل سبقه، قال: فأردت أن أكرمه -هذا المبشر الذي يبشرك بشيء لا بد أن تكرمه، وأعظم ما يبشرك أن الله تاب عليك- فخلعت ثوبي له وبقيت في إزار وأعطيته، لم يكونوا يملكون من الدنيا شيئاً، حكموا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية بالرماح الممشوقة، والسيوف المثلمة، ودخلوا يصلون ويكبرون في قرطبة ، وخطبوا في الحمراء ، وسجدوا لله في أسبانيا وسيبيريا والأندلس والسند والهند وطاشقند وغيرها.
هذه الجمهوريات الروسية التي تنفصل عن الاتحاد السوفيتي فتحها أجدادنا بالرمح والسيف والبغال، جمهوريات كازخستان جمهورية البخاري ، وجمهورية أزبيكان جمهورية الترمذي وسيبويه والكسائي وعلماء الإسلام، نعم!
قال: وذهبت إلى ابن جاري فاستعرت ثوباً لأقابل الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يجد ثوباً آخر ليحمله أو ليرتديه، فأخذ ثوباً آخر من ابن جاره.نزلت توبة الثلاثة من السماء قبل صلاة الفجر، ولماذا نزلت قبل صلاة الفجر ولم تنزل قبل صلاة العشاء، أو بعد المغرب، أو قبل العصر أو بعده، أو في الظهر؟
قال بعض الفضلاء: نزلت قبل صلاة الفجر؛ لأن هذا الوقت وقت نزول الرحمات، ولأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ليلة -كما هو معتقد أهل السنة والجماعة - يتنزل إلى سماء الدنيا، فيقول:
هل من سائل فأعطيه؟
هل من مستغفر فأغفر له؟
هل من داعٍ فأجيبه؟
وأنا أقول: إن على الإنسان أن يعرض نفسه أمام هذا الفيض الإلهي، وأمام الرحمة المباركة التي لا تنقطع، وأن يعرض نفسه على ربه، وإن وقع في زنا أو مخدرات أو ترك الصلاة، أو ارتكاب فواحش ومنكرات، أو تخلف عن الصلوات، أو قطيعة لميثاق الله، أو غير ذلك، ليقول: أخطأت وعدت.
فالله عزوجل في الثلث الأخير من الليل -يوم لا يقوم إلا الخواص من أوليائه- يبارك في تلك الدقائق وفي تلك الساعات.
نزلت توبتهم على الرسول عليه الصلاة والسلام، فتسابق الناس من يخبرهم أولاً؛ فأتاه فارس على فرس، ورجل يسعى وآخر يمشي.
صلى كعب بن مالك الفجر ثم جلس على سقف بيته -وبيته وبين الرسول صلى الله عليه وسلم جبل سلع - يسبح الله عز وجل في حالة من الضنك والأسى واللوعة والهم والغم كما وصفه الله، وإذا برجل على جبل سلع ، يقول: يا كعب بن مالك ! أبشر بتوبة الله عليك، فيسجد على التراب سجدة الشكر لله:
وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي وقالت لي إلي
فتعاميت كأن لم أرها حينما أبصرت مقصودي لديّ
وإذا الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرض يا أخي
سجد لله عزوجل، ثم رفع رأسه ودعا الله وانهلت ودموع الفرح تنهل من عينيه:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وهي دموع باردة ليست دموعاً حارة كدموع الأسى واللوعة والحزن، لكن دموع باردة هي دموع الفرح، ودموع التائبين، ودموع تحصل على أعظم جائزة يطمح إليها البشر وهي جائزة رضوان الله، لا جائزة نوبل ولا غيره، جائزة رضوان الواحد الأحد أن يرضى عنك.
يقول أحد الناس: ليتني كنت مع الصحابة تحت الشجرة؛ لأعيش مشاعرهم يوم بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم أنزل الله جبريل من السماء، يقول: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] حتى تدري أنت باسمك واسم أبيك أنك من الذين بايعوا تحت الشجرة وأن الله رضي عنك، لا إله إلا الله.
قال: وأتى الفارس على الفرس لكن صاحب الصوت الذي في الجبل سبقه، قال: فأردت أن أكرمه -هذا المبشر الذي يبشرك بشيء لا بد أن تكرمه، وأعظم ما يبشرك أن الله تاب عليك- فخلعت ثوبي له وبقيت في إزار وأعطيته، لم يكونوا يملكون من الدنيا شيئاً، حكموا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية بالرماح الممشوقة، والسيوف المثلمة، ودخلوا يصلون ويكبرون في قرطبة ، وخطبوا في الحمراء ، وسجدوا لله في أسبانيا وسيبيريا والأندلس والسند والهند وطاشقند وغيرها.
هذه الجمهوريات الروسية التي تنفصل عن الاتحاد السوفيتي فتحها أجدادنا بالرمح والسيف والبغال، جمهوريات كازخستان جمهورية البخاري ، وجمهورية أزبيكان جمهورية الترمذي وسيبويه والكسائي وعلماء الإسلام، نعم!
قال: وذهبت إلى ابن جاري فاستعرت ثوباً لأقابل الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يجد ثوباً آخر ليحمله أو ليرتديه، فأخذ ثوباً آخر من ابن جاره.
لقاء الأحبة بعد فرقة
مشى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس للصحابة يؤول الرؤيا التي تعرض عليه، ويسمع ما وقع في الأمة من وقائع، ويجيب صلى الله عليه وسلم.
قال فدخلت المسجد، فقام لي طلحة بن عبيد الله ، والله ما قام لي إلا هو ولا أنساها لطلحة ؛ يعني: من التبجيل أنه قام له وعانقه.
أحد العلماء يمشي وأحد الأدباء جالس، فقام الأديب فقال العالم لا تقم، قال:
قيامي والإله إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيمُ
وهل رجلٌ له لبٌ وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقوم
عانقه طلحة ، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فهش وبش، عاش السرور كله عليه الصلاة والسلام كأن الفيض له وحده، وكأن الفرح له وحده، قال: فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام حتى استنار، والذي نفسي بيده إني أرى أباريق وأسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان إذا استنار وجهه أصبح كالقمر ليلة أربعة عشر، فرحاً بأن أحد محبيه تاب الله عليه، والله يقول له: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].مشى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس للصحابة يؤول الرؤيا التي تعرض عليه، ويسمع ما وقع في الأمة من وقائع، ويجيب صلى الله عليه وسلم.
قال فدخلت المسجد، فقام لي طلحة بن عبيد الله ، والله ما قام لي إلا هو ولا أنساها لطلحة ؛ يعني: من التبجيل أنه قام له وعانقه.
أحد العلماء يمشي وأحد الأدباء جالس، فقام الأديب فقال العالم لا تقم، قال:
قيامي والإله إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيمُ
وهل رجلٌ له لبٌ وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقوم
عانقه طلحة ، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فهش وبش، عاش السرور كله عليه الصلاة والسلام كأن الفيض له وحده، وكأن الفرح له وحده، قال: فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام حتى استنار، والذي نفسي بيده إني أرى أباريق وأسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان إذا استنار وجهه أصبح كالقمر ليلة أربعة عشر، فرحاً بأن أحد محبيه تاب الله عليه، والله يقول له: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
باب التوبة مفتوح
والله لو تركت الرحمات للبشر ما رحم أحدٌ أحداً، الآن بعض الناس يحجر على الناس طريق التوبة، وتجد بعض الناس يريد أن يغلق باب التوبة على الناس.
رجل من بني إسرائيل قال لأحد الفسقة: {تب إلى الله، قال: اتركني وربي -يقول الفاسق للعابد: اتركني وربي، أنا أصطلح مع الله- قال: والله لا يغفر الله لك -أصدر حكماً من الأرض، والذي في السماء يرفض هذا الحكم- فأوحى الله عز وجل إلى موسى: من الذي يتألى عليَّ -من الذي يحلف علي: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] ويقول: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21]- أشهدكم يا ملائكتي أني قد أحبطت عمل هذا العابد، وغفرت لهذا الفاسق، فليستأنف العمل }.
صلى عليه الصلاة والسلام إحدى الصلوات -إما الظهر أو العصر- فصلى معه أعرابي أتى من البادية وكان يتحملهم صلى الله عليه وسلم كثيراً وقبل أن يسلم الأعرابي من التحيات قال: " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً " انظر العبارة ما أحسنها.
ضاقت عليه الأدعية إلا هذا الدعاء، فسلم عليه الصلاة والسلام- ولم يكن ينادي بالأسماء -قال: من القائل، وهو يعرف أنه هذا؛ لأن أبا بكر لا يقول هذا، ولا عمر ، ولا أُبي ، قال من القائل آنفاً: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فسكتوا، وقال الأعرابي: أنا يا رسول الله! قال: {لقد تحجرت واسعاً } والله رحمت الله وسعت كل شيء، يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
تهلل وجهه صلى الله عليه وسلم وارتاح عند رؤية كعب ، وهذا واجب إيماني أن ترتاح إذا تاب الله على أخيك، أو عاد ضالٌ من ضلاله، أو رجع علماني، أو تاب حداثي، أو كان هناك متخلفاً عن المسجد ثم صلى وسلك الهدى، أو كان هناك من يتناول المخدرات فتاب الله عليه، أما أن تكون مصدر إزعاج وتشهير عليه، وتقول: أنت الذي كنت تفعل وتفعل، هذا خطأ ولا يقره الإسلام، بل تفرح وتحمد الله على هذا الفضل، وتشاركه السرور.والله لو تركت الرحمات للبشر ما رحم أحدٌ أحداً، الآن بعض الناس يحجر على الناس طريق التوبة، وتجد بعض الناس يريد أن يغلق باب التوبة على الناس.
رجل من بني إسرائيل قال لأحد الفسقة: {تب إلى الله، قال: اتركني وربي -يقول الفاسق للعابد: اتركني وربي، أنا أصطلح مع الله- قال: والله لا يغفر الله لك -أصدر حكماً من الأرض، والذي في السماء يرفض هذا الحكم- فأوحى الله عز وجل إلى موسى: من الذي يتألى عليَّ -من الذي يحلف علي: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] ويقول: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21]- أشهدكم يا ملائكتي أني قد أحبطت عمل هذا العابد، وغفرت لهذا الفاسق، فليستأنف العمل }.
صلى عليه الصلاة والسلام إحدى الصلوات -إما الظهر أو العصر- فصلى معه أعرابي أتى من البادية وكان يتحملهم صلى الله عليه وسلم كثيراً وقبل أن يسلم الأعرابي من التحيات قال: " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً " انظر العبارة ما أحسنها.
ضاقت عليه الأدعية إلا هذا الدعاء، فسلم عليه الصلاة والسلام- ولم يكن ينادي بالأسماء -قال: من القائل، وهو يعرف أنه هذا؛ لأن أبا بكر لا يقول هذا، ولا عمر ، ولا أُبي ، قال من القائل آنفاً: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فسكتوا، وقال الأعرابي: أنا يا رسول الله! قال: {لقد تحجرت واسعاً } والله رحمت الله وسعت كل شيء، يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
تهلل وجهه صلى الله عليه وسلم وارتاح عند رؤية كعب ، وهذا واجب إيماني أن ترتاح إذا تاب الله على أخيك، أو عاد ضالٌ من ضلاله، أو رجع علماني، أو تاب حداثي، أو كان هناك متخلفاً عن المسجد ثم صلى وسلك الهدى، أو كان هناك من يتناول المخدرات فتاب الله عليه، أما أن تكون مصدر إزعاج وتشهير عليه، وتقول: أنت الذي كنت تفعل وتفعل، هذا خطأ ولا يقره الإسلام، بل تفرح وتحمد الله على هذا الفضل، وتشاركه السرور.
من ثمار التوبة
قال صلى الله عليه وسلم: {يا كعب بن مالك ! -هذا بيانه صلى الله عليه وسلم بالتوبة- أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك } خير يوم منذ ولدته أمه هو ذاك اليوم، قال شيخ الإسلام : "وفيه أن يوم التوبة هو أفضل يوم يمر على الإنسان، وفيه أن العبد يكون بعد التوبة أرفع منه قبل التوبة"؛ فإن كعب بن مالك قبل هذا الذنب لم يكن كدرجته بعد الذنب والعودة إلى الله عزوجل، بل كان أرفع وأرفع كثيراً.
وفيه: أن الخطايا يكفرها الله لمن تاب.
وفيه: أن الله لا يتعاظمه ذنب.
وفيه: أن العبد عليه أن يصلح حاله بعد الذنب ليدرأ بالحسنة السيئة... إلى غير ذلك من القضايا.(1/138)
قال كعب : [[يا رسول الله! أمن عندك أم من عند الله؟ ]] يريد أن يتأكد من الخبر، يقول: التوبة من عندك يا رسول الله! أو من عند الله عز وجل؟ قال: {بل من عند الله } لأنه هو الذي يتوب على من تاب، وهو الرحمن الرحيم.
قال: يا رسول الله! فإن من توبتي أن أنسلخ من مالي.
يقول: مالي أدفعه يا رسول الله! مزارعه وأملاكه وماله ودراهمه ودنانيره، يدفعه للرسول عليه الصلاة والسلام في سبيل الله، لا إله إلا الله! أي قدرات تلك القدرات، أي تضحيات أن يبلغ بالإنسان أن يتخلى في لحظة واحدة عن كل ما يملك، تصور وأنت جالس تتوب أمام الله، وتقول: لا أعود بشيء وأتوب إلى الله وأنسلخ من مالي.
قال صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك } وهذه حكمته عليه الصلاة والسلام ألا يتخلى الإنسان ويضيع أمواله، أو ينفقها مرة واحدة ويبقى متكففاً للناس، لأن الحياة تحتاج والأسرة والأطفال محتاجون إليه، ولا بد أن يبقى معه شيء من قوام عيش ومن عصب حياة.قال صلى الله عليه وسلم: {يا كعب بن مالك ! -هذا بيانه صلى الله عليه وسلم بالتوبة- أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك } خير يوم منذ ولدته أمه هو ذاك اليوم، قال شيخ الإسلام : "وفيه أن يوم التوبة هو أفضل يوم يمر على الإنسان، وفيه أن العبد يكون بعد التوبة أرفع منه قبل التوبة"؛ فإن كعب بن مالك قبل هذا الذنب لم يكن كدرجته بعد الذنب والعودة إلى الله عزوجل، بل كان أرفع وأرفع كثيراً.
وفيه: أن الخطايا يكفرها الله لمن تاب.
وفيه: أن الله لا يتعاظمه ذنب.
وفيه: أن العبد عليه أن يصلح حاله بعد الذنب ليدرأ بالحسنة السيئة... إلى غير ذلك من القضايا.
قال كعب : [[يا رسول الله! أمن عندك أم من عند الله؟ ]] يريد أن يتأكد من الخبر، يقول: التوبة من عندك يا رسول الله! أو من عند الله عز وجل؟ قال: {بل من عند الله } لأنه هو الذي يتوب على من تاب، وهو الرحمن الرحيم.
قال: يا رسول الله! فإن من توبتي أن أنسلخ من مالي.
يقول: مالي أدفعه يا رسول الله! مزارعه وأملاكه وماله ودراهمه ودنانيره، يدفعه للرسول عليه الصلاة والسلام في سبيل الله، لا إله إلا الله! أي قدرات تلك القدرات، أي تضحيات أن يبلغ بالإنسان أن يتخلى في لحظة واحدة عن كل ما يملك، تصور وأنت جالس تتوب أمام الله، وتقول: لا أعود بشيء وأتوب إلى الله وأنسلخ من مالي.
قال صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك } وهذه حكمته عليه الصلاة والسلام ألا يتخلى الإنسان ويضيع أمواله، أو ينفقها مرة واحدة ويبقى متكففاً للناس، لأن الحياة تحتاج والأسرة والأطفال محتاجون إليه، ولا بد أن يبقى معه شيء من قوام عيش ومن عصب حياة.
ما يستفاد من قصة كعب بن مالك
تلكم هي قصة كعب وتوبته وإنابته، وعودته إلى الله. فما هي الدروس المستفادة إذن، من الدروس أيها المسلمون:......
التخلف عن مجال الخير خسارة
لا ينبغي للعبد أن يتخلف عن مجال الخير، ولا يثبطه الشيطان فإن الله يقول: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] فقد تسمع النداء فتتخلف وتقول: أنتظر دقائق حتى تقرب الإقامة، بل قم إلى المسجد، واذهب إليه من أول الوقت؛ لأن الشيطان يثبطك حتى يضيعك من الصلاة.
إذا سمعت عن المحاضرة والدرس واللقاء العلمي والفائدة وكل عمل فيه خير فلا تتوقف بل بادر فإن الشيطان سوف يثبطك، وهذا درس من هذه القصة لأن الله لام من تخلف.لا ينبغي للعبد أن يتخلف عن مجال الخير، ولا يثبطه الشيطان فإن الله يقول: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] فقد تسمع النداء فتتخلف وتقول: أنتظر دقائق حتى تقرب الإقامة، بل قم إلى المسجد، واذهب إليه من أول الوقت؛ لأن الشيطان يثبطك حتى يضيعك من الصلاة.
إذا سمعت عن المحاضرة والدرس واللقاء العلمي والفائدة وكل عمل فيه خير فلا تتوقف بل بادر فإن الشيطان سوف يثبطك، وهذا درس من هذه القصة لأن الله لام من تخلف.
البذل في سبيل الله والصبر من أجل الله
وفيه أيضاً من الدروس: أجر من بذل في سبيل الله عز وجل، وأن ما يأكله العبد، أو يلبسه، أو يبنيه؛ إنما هو في قسم الضياع، أما من ادخره عند الله عزوجل فلن يضيع:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
ومن الدروس أيضاً: أن على المسلم أن يجاهد بنفسه، وأنه مهما تعرض له من ألم أو أذى أو مشقة أو تشهير أو تبكيت أو تعنيف في جانب الله وفي سبيل الله فهو سهلٌ ميسر، وعذب وزلال.
حتى يقول ابن القيم : "يا ضعيف العزم! ناح في هذا الطريق نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل زكرياء وضرج عمر بدمه في المحراب، وذبح عثمان ، وقطع رأس علي -لماذا؟ لأنهم حملة المبادئ- وسجن الأئمة، وجلدت ظهور العلماء، وأودعوا السجون؛ لماذا؟ لقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] لا يظن مسلم ولا مسلمة، ولا يظن صالح أو داعية، أو من يحمل هموم هذا الدين أن الطريق سوف تفرش له بالياسمين والورد بل هي بالشوك مفروشة؛ لأن الله أراد أن يمحص أولياءه الذين يريدون طريق الجنة:
قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالذي النفوس تشتهي
مع كون كل منهما أدنى إلينا من الشراك في نعلينا
وفيه أيضاً من الدروس: أجر من بذل في سبيل الله عز وجل، وأن ما يأكله العبد، أو يلبسه، أو يبنيه؛ إنما هو في قسم الضياع، أما من ادخره عند الله عزوجل فلن يضيع:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
ومن الدروس أيضاً: أن على المسلم أن يجاهد بنفسه، وأنه مهما تعرض له من ألم أو أذى أو مشقة أو تشهير أو تبكيت أو تعنيف في جانب الله وفي سبيل الله فهو سهلٌ ميسر، وعذب وزلال.
حتى يقول ابن القيم : "يا ضعيف العزم! ناح في هذا الطريق نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل زكرياء وضرج عمر بدمه في المحراب، وذبح عثمان ، وقطع رأس علي -لماذا؟ لأنهم حملة المبادئ- وسجن الأئمة، وجلدت ظهور العلماء، وأودعوا السجون؛ لماذا؟ لقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] لا يظن مسلم ولا مسلمة، ولا يظن صالح أو داعية، أو من يحمل هموم هذا الدين أن الطريق سوف تفرش له بالياسمين والورد بل هي بالشوك مفروشة؛ لأن الله أراد أن يمحص أولياءه الذين يريدون طريق الجنة:
قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالذي النفوس تشتهي
مع كون كل منهما أدنى إلينا من الشراك في نعلينا
فضل أبي ذر
ومن الدروس أيضاً: فضل أبي ذر ؛ والشيوعية تعتقد أن أبا ذر في صفها، وقد ألف في موسكو كتاباً اسمه أبو ذر قائد الثورات ومدبر الانقلابات ، رسموه على الغلاف مع لينين ، ومعه عكاز ولحية طويلة وعليه قبعة.
وكذبوا لعمر الله؛ لأنه كان دخل في مسألة في الدين يقول: ممنوع الاكتناز؛ لأنه فهم الآية على غير ما فهمها الصحابة، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] وقد أخطأ الكاتب الأستاذ: خالد محمد خالد في كتابه رجال حول الرسول في ترجمة أبي ذر ، وهو يقول أنه مدبر الثورات، وعدو الثروات، فهذا ليس بصحيح، بل أبو ذر أخطأ في هذه المسألة، ولكن رعى الله أبا ذر وحماه، لم يكن في المعسكر الشيوعي أبداً بل كان مسلماً حنيفاً صادقاً ولم يكن من المشركين.ومن الدروس أيضاً: فضل أبي ذر ؛ والشيوعية تعتقد أن أبا ذر في صفها، وقد ألف في موسكو كتاباً اسمه أبو ذر قائد الثورات ومدبر الانقلابات ، رسموه على الغلاف مع لينين ، ومعه عكاز ولحية طويلة وعليه قبعة.
وكذبوا لعمر الله؛ لأنه كان دخل في مسألة في الدين يقول: ممنوع الاكتناز؛ لأنه فهم الآية على غير ما فهمها الصحابة، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] وقد أخطأ الكاتب الأستاذ: خالد محمد خالد في كتابه رجال حول الرسول في ترجمة أبي ذر ، وهو يقول أنه مدبر الثورات، وعدو الثروات، فهذا ليس بصحيح، بل أبو ذر أخطأ في هذه المسألة، ولكن رعى الله أبا ذر وحماه، لم يكن في المعسكر الشيوعي أبداً بل كان مسلماً حنيفاً صادقاً ولم يكن من المشركين.
لا يسكت على المستهزئين بالدين
ومن الدروس أيضاً: أنه لا يجوز للإنسان بحال أن يحضر أو يسكت في مجلس تهان فيه القيم، ويلعب بالمبادئ، ويشهر بأهل العلم والدعاة وطلبة العلم والعلماء والدين، فلا يجوز له بحال أن يسكت، فإن هذا من الخطأ الكبير، فالحذر كل الحذر.
وسمعت والعياذ بالله أن بعض الناس يقلد أصوات العلماء ويستهزئ بفتاويهم، ويقلد نغمات صوتهم، وهيكلهم بالمشي وبالجلوس، ويستهزئ ببعض أصوات المؤذنين والأئمة وخطباء المساجد؛ فحسيبه الله ونسأل الله أن يهديه، لكن الإنسان لا يمكن بحال أن يجلس في مجلس يطعن فيه بالدين، وقد نسمع ويأتينا من الأخبار العجيبة التي يندى لها الجبين، ويتمعض لها القلب، ويقذف الإنسان دم، ومع ذلك يصبر والله تعالى يقول: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].
ولكن المطلوب منا أن نرد، فمن حمى عرض أخيه المسلم حمى الله عرضه في مكانٍ ينتهك فيه الأعراض، ومن أسلم عرض أخيه المسلم أسلم الله عرضه للطامعين والحاقدين: {ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره }.
يؤخذ ذلك من قوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمَْ [التوبة:65-66] حتى إن بعض الفضلاء من أهل العلم يرون أنه من استهزأ بمجرد اللحية لأنها سنة؛ فقد كفر وخرج من الملة؛ لأنها لحية وسنة؛ ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من أتى بها ولم يأتِ بها موشي ديان ولا هتلر ، وإنما أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام، والله يقول للأمة ويقول لكل تابع على وجه الأرض: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].ومن الدروس أيضاً: أنه لا يجوز للإنسان بحال أن يحضر أو يسكت في مجلس تهان فيه القيم، ويلعب بالمبادئ، ويشهر بأهل العلم والدعاة وطلبة العلم والعلماء والدين، فلا يجوز له بحال أن يسكت، فإن هذا من الخطأ الكبير، فالحذر كل الحذر.
وسمعت والعياذ بالله أن بعض الناس يقلد أصوات العلماء ويستهزئ بفتاويهم، ويقلد نغمات صوتهم، وهيكلهم بالمشي وبالجلوس، ويستهزئ ببعض أصوات المؤذنين والأئمة وخطباء المساجد؛ فحسيبه الله ونسأل الله أن يهديه، لكن الإنسان لا يمكن بحال أن يجلس في مجلس يطعن فيه بالدين، وقد نسمع ويأتينا من الأخبار العجيبة التي يندى لها الجبين، ويتمعض لها القلب، ويقذف الإنسان دم، ومع ذلك يصبر والله تعالى يقول: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].
ولكن المطلوب منا أن نرد، فمن حمى عرض أخيه المسلم حمى الله عرضه في مكانٍ ينتهك فيه الأعراض، ومن أسلم عرض أخيه المسلم أسلم الله عرضه للطامعين والحاقدين: {ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره }.
يؤخذ ذلك من قوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمَْ [التوبة:65-66] حتى إن بعض الفضلاء من أهل العلم يرون أنه من استهزأ بمجرد اللحية لأنها سنة؛ فقد كفر وخرج من الملة؛ لأنها لحية وسنة؛ ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من أتى بها ولم يأتِ بها موشي ديان ولا هتلر ، وإنما أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام، والله يقول للأمة ويقول لكل تابع على وجه الأرض: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
إنتظار الفرج وهجر العصاة
ومن الدروس أيضاً: أن على العبد أن ينتظر الفرج، وفي الترمذي : {خير العبادة انتظار الفرج } ولا ييأس العبد من روح الله، فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون، يعني جرب التوبة وربما تسقط أول مرة لكن جرب مرة وأخرى وعاشرة ومائة وألف وسوف يجتبيك الله، وسوف يوفقك لطريق التوبة.
ومن الدروس أيضاً: أن العبد لا يطمع إلا في رحمة الله عزوجل، كما قال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] فيطمع في فضل الله تعالى وفي رحمته.
ومن الدروس أيضاً: أن على الأمة أن تهجر العصاة الذين بلغتهم الدعوة واستمروا على فجورهم ومعصيتهم لتأدبهم، وهذا مثل العزل الصحي حتى لا يختلطوا بالمجتمع فيؤثروا فيه؛ لأن الجرباء تعدي الصحيحة، والصحيحة لا تعدي الجرباء، هكذا قال أهل فن الطب.ومن الدروس أيضاً: أن على العبد أن ينتظر الفرج، وفي الترمذي : {خير العبادة انتظار الفرج } ولا ييأس العبد من روح الله، فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون، يعني جرب التوبة وربما تسقط أول مرة لكن جرب مرة وأخرى وعاشرة ومائة وألف وسوف يجتبيك الله، وسوف يوفقك لطريق التوبة.
ومن الدروس أيضاً: أن العبد لا يطمع إلا في رحمة الله عزوجل، كما قال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] فيطمع في فضل الله تعالى وفي رحمته.
ومن الدروس أيضاً: أن على الأمة أن تهجر العصاة الذين بلغتهم الدعوة واستمروا على فجورهم ومعصيتهم لتأدبهم، وهذا مثل العزل الصحي حتى لا يختلطوا بالمجتمع فيؤثروا فيه؛ لأن الجرباء تعدي الصحيحة، والصحيحة لا تعدي الجرباء، هكذا قال أهل فن الطب.
امتثال أمر الله والفرح بتوبته
ومنها أيضاً: أن على الناس أن يمتثلوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] بل عليهم أن يذعنوا ويسلموا ويؤمنوا ويتبعوا نهج الله الذي أرسل به رسوله عليه الصلاة والسلام.
ومنها أيضاً: تبشير التائبين بتوبة الله عليهم، وتبشير أهل الالتزام أنهم على خير، وتشد من عضدهم، وتَحْبوهم، وتقف بجانبهم، وتدلهم على الخير: {من دل على خير فله مثل أجر فاعله }.
ومنها أيضاً: أن على العبد أن يفرح برحمة الله ويستبشر: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فأنت ترى حملة المبادئ يفرحون بنصر الدين، ولا يفرحون بشيء آخر، وإنا نعلم من الصادقين لله عزوجل أنهم إذا سمعوا انتشار الإسلام في بقعة من بقاع الأرض والله يتهلل وجه أحدهم مثل ما يتهلل وجه أحدكم إذا سمع أنه زاد راتبه، أو نجح ابنه، أو حصل على أرض، أو على سيارة، أو على قصر، يقول القاضي الزبيري :
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
قرأت في أحد الجرائد قصيدة لرجل نبطي موحد مؤمن داعية، يتحدى الأشرار في أنه سوف يعلن مبادئه مهما كان الثمن، هذه الشجاعة الإيمانية، يقول:
أنا يا كرى مثلك أحب العلا شجعان يراهن براسه ما يخاف الشماليه
أنا بعت راسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
هذا بطل، فهذه تصلح في عقيدة الطحاوية معتقد أهل السنة والجماعة تكتب في الأخير، وتدرس في الجامعات.
يقول: أنا يا كرى؛ أي: يا صاحب الباطل، يا أيها اليهودي، أو النصراني، أو البعثي، أو الوثني، أو العلماني، أنا أشجع منك، أنت تموت تحت الدبابة من أجل مبادئ ميشيل عفلق ، وأنا من أجل مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا أضحي؟ أنا يا كرى مثلك أحب العلا شجعان، يراهن برأسه -هذا ما عند الإنسان إلا رأس واحد- ما يخاف الشمالية أي: دار أبى سفيان .
أنا بعت رأسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ [التوبة:111] والله تعالى يقول: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] ويقول تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].
حدثنا الشيخ عبد الله عزام رحمه الله قبل أن يستشهد بقليل: "أن امرأة فرنسية كانت في جبال أفغانستان تبشر بالدين النصراني وهي بملابسها وبمتاعها في الجبال والثلوج، وتهبط وتنام على البعوض وفي المستنقعات من أجل أن تبشر بالدين المسيحي المحرف" ثم إذا جئت تقارن بين أهل الإسلام وأهل الدعوة حتى شباب الصحوة، أين البذل، وأين التضحيات؟ وأين تقديم الدين للناس؟ وأين التأثير في البشر؟ وأين كسر الحواجز؟ حتى نصل إلى الناس في نواديهم، وفي ملاعبهم، وفي مقاهيهم، وعلى الشواطئ، ونبلغ دين الله عزوجل، أين التضحيات؟!
بل إنك تجد من الفجرة والخونة على مر التاريخ من يضحى لمبادئه الفاجرة أكثر من تضحية أهل الإيمان لمبادئهم، فنشكو الحال إلى الله.ومنها أيضاً: أن على الناس أن يمتثلوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] بل عليهم أن يذعنوا ويسلموا ويؤمنوا ويتبعوا نهج الله الذي أرسل به رسوله عليه الصلاة والسلام.
ومنها أيضاً: تبشير التائبين بتوبة الله عليهم، وتبشير أهل الالتزام أنهم على خير، وتشد من عضدهم، وتَحْبوهم، وتقف بجانبهم، وتدلهم على الخير: {من دل على خير فله مثل أجر فاعله }.
ومنها أيضاً: أن على العبد أن يفرح برحمة الله ويستبشر: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فأنت ترى حملة المبادئ يفرحون بنصر الدين، ولا يفرحون بشيء آخر، وإنا نعلم من الصادقين لله عزوجل أنهم إذا سمعوا انتشار الإسلام في بقعة من بقاع الأرض والله يتهلل وجه أحدهم مثل ما يتهلل وجه أحدكم إذا سمع أنه زاد راتبه، أو نجح ابنه، أو حصل على أرض، أو على سيارة، أو على قصر، يقول القاضي الزبيري :
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
قرأت في أحد الجرائد قصيدة لرجل نبطي موحد مؤمن داعية، يتحدى الأشرار في أنه سوف يعلن مبادئه مهما كان الثمن، هذه الشجاعة الإيمانية، يقول:
أنا يا كرى مثلك أحب العلا شجعان يراهن براسه ما يخاف الشماليه
أنا بعت راسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
هذا بطل، فهذه تصلح في عقيدة الطحاوية معتقد أهل السنة والجماعة تكتب في الأخير، وتدرس في الجامعات.
يقول: أنا يا كرى؛ أي: يا صاحب الباطل، يا أيها اليهودي، أو النصراني، أو البعثي، أو الوثني، أو العلماني، أنا أشجع منك، أنت تموت تحت الدبابة من أجل مبادئ ميشيل عفلق ، وأنا من أجل مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا أضحي؟ أنا يا كرى مثلك أحب العلا شجعان، يراهن برأسه -هذا ما عند الإنسان إلا رأس واحد- ما يخاف الشمالية أي: دار أبى سفيان .
أنا بعت رأسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ [التوبة:111] والله تعالى يقول: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] ويقول تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].
حدثنا الشيخ عبد الله عزام رحمه الله قبل أن يستشهد بقليل: "أن امرأة فرنسية كانت في جبال أفغانستان تبشر بالدين النصراني وهي بملابسها وبمتاعها في الجبال والثلوج، وتهبط وتنام على البعوض وفي المستنقعات من أجل أن تبشر بالدين المسيحي المحرف" ثم إذا جئت تقارن بين أهل الإسلام وأهل الدعوة حتى شباب الصحوة، أين البذل، وأين التضحيات؟ وأين تقديم الدين للناس؟ وأين التأثير في البشر؟ وأين كسر الحواجز؟ حتى نصل إلى الناس في نواديهم، وفي ملاعبهم، وفي مقاهيهم، وعلى الشواطئ، ونبلغ دين الله عزوجل، أين التضحيات؟!
بل إنك تجد من الفجرة والخونة على مر التاريخ من يضحى لمبادئه الفاجرة أكثر من تضحية أهل الإيمان لمبادئهم، فنشكو الحال إلى الله.
من قضايا الساعة
وفي ختام هذه المحاضرة هناك قضايا وهي من قضايا الساعة:......
الإخاء والاعتصام(1/139)
أولاً: على المسلم أن يسعى إلى الإخاء الذي أنزله الله عز وجل لرسوله مع إخوانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103] ولا يكون مصدر إزعاج لإخوانه، أو تشتيت لصفوفهم، بل يتألف من تألف معهم على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو منهج أهل السنة والجماعة ؛ المنهج الجميل البديع، المنهج الصافي الواضح، فمنهج أهل السنة والجماعة هو المستقرأ والذي ينظره مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، فلا يكون مصدر إزعاج، ولا اختلاف، بل يكون مصدر إسعاد ونَصَيحة فإن المؤمنين نصحة والمنافقين غششة.
ثانياً: أن على الإنسان أن لا يتشاغل بعيوب إخوانه المسلمين، يقول شيخ الإسلام : "بعض الناس مثل الذبابة لا يقع إلا على الجرح" وهذا مثل بعض الناس يشهر بالذنوب والخطايا، وينسى الحسنات ولم يراجع نفسه، ولم يشتغل بعيوبه، فيجازيه الله أن يشغل الناس بعيوبه فيتحدثون فيه:
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل
أولاً: على المسلم أن يسعى إلى الإخاء الذي أنزله الله عز وجل لرسوله مع إخوانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103] ولا يكون مصدر إزعاج لإخوانه، أو تشتيت لصفوفهم، بل يتألف من تألف معهم على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو منهج أهل السنة والجماعة ؛ المنهج الجميل البديع، المنهج الصافي الواضح، فمنهج أهل السنة والجماعة هو المستقرأ والذي ينظره مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، فلا يكون مصدر إزعاج، ولا اختلاف، بل يكون مصدر إسعاد ونَصَيحة فإن المؤمنين نصحة والمنافقين غششة.
ثانياً: أن على الإنسان أن لا يتشاغل بعيوب إخوانه المسلمين، يقول شيخ الإسلام : "بعض الناس مثل الذبابة لا يقع إلا على الجرح" وهذا مثل بعض الناس يشهر بالذنوب والخطايا، وينسى الحسنات ولم يراجع نفسه، ولم يشتغل بعيوبه، فيجازيه الله أن يشغل الناس بعيوبه فيتحدثون فيه:
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل
الدعوة إلى الله عز وجل والصبر عليها
ثالثاً: أننا في مرحلة تستوجب منا المشاركة، والمفاعلة، وبذل الدعوة بأي وسيلة، فنقرأ مواهبنا واستعداداتنا التي جعلها الله فينا، فما هي موهبتك؟ هل أنت خطيب، أو مفتي، أو متحدث، أو منظر، أو إداري، أو موظف، أو تاجر، أو فلاح، أو مهندس، أو غير ذلك، أو جندي؟ فابذل دعوتك من طريقك، كلكم على ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، الله الله لا يهدم دين محمد صلى الله عليه وسلم وأنت حاضر، الله الله لا يتلاعب بالدين وأنت موجود، فاحمِ مبدأ محمد صلى الله عليه وسلم، بل انصر الدين، وحاول أن تكون صابراً متجلداً.
رابعاً: أن تصبر أمام العواصف، مثل السخرية والاستهزاء والسب والشتم، واعلم أنها في درجات حسناتك، وأنها من ذخيرتك عند الله وتكفير سيئاتك.
خامساً: على المرأة المسلمة أن تعيش دورها الذي جعلها الإسلام فيه، وهي مسئوليتها أمام الله وأمام رسوله عليه الصلاة والسلام وأمام المسلمين، فعلى المرأة أن تكون داعية في بنات جنسها، داعية إلى منهج الله، وإلى جنة عرضها السموات والأرض، ملتزمة بشرعه، عاملة بالكتاب والسنة، مؤثرة تحمل هموم الدعوة؛ لأننا قصرنا كثيراً في جانب تعليم النساء، وتثقيفهن وتفقيههن ومدارسة العلم معهنَّ، هذا تقصيرٌ حاصل، وهو كثير ومستقرأ ومستفيض.
فأنا أوصي المرأة الآن أن تقوم بدورها في الحياة فهي مستهدفة، ويريد أهل الباطل أن يدخلوا من طريقها لهدم هذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.ثالثاً: أننا في مرحلة تستوجب منا المشاركة، والمفاعلة، وبذل الدعوة بأي وسيلة، فنقرأ مواهبنا واستعداداتنا التي جعلها الله فينا، فما هي موهبتك؟ هل أنت خطيب، أو مفتي، أو متحدث، أو منظر، أو إداري، أو موظف، أو تاجر، أو فلاح، أو مهندس، أو غير ذلك، أو جندي؟ فابذل دعوتك من طريقك، كلكم على ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، الله الله لا يهدم دين محمد صلى الله عليه وسلم وأنت حاضر، الله الله لا يتلاعب بالدين وأنت موجود، فاحمِ مبدأ محمد صلى الله عليه وسلم، بل انصر الدين، وحاول أن تكون صابراً متجلداً.
رابعاً: أن تصبر أمام العواصف، مثل السخرية والاستهزاء والسب والشتم، واعلم أنها في درجات حسناتك، وأنها من ذخيرتك عند الله وتكفير سيئاتك.
خامساً: على المرأة المسلمة أن تعيش دورها الذي جعلها الإسلام فيه، وهي مسئوليتها أمام الله وأمام رسوله عليه الصلاة والسلام وأمام المسلمين، فعلى المرأة أن تكون داعية في بنات جنسها، داعية إلى منهج الله، وإلى جنة عرضها السموات والأرض، ملتزمة بشرعه، عاملة بالكتاب والسنة، مؤثرة تحمل هموم الدعوة؛ لأننا قصرنا كثيراً في جانب تعليم النساء، وتثقيفهن وتفقيههن ومدارسة العلم معهنَّ، هذا تقصيرٌ حاصل، وهو كثير ومستقرأ ومستفيض.
فأنا أوصي المرأة الآن أن تقوم بدورها في الحياة فهي مستهدفة، ويريد أهل الباطل أن يدخلوا من طريقها لهدم هذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
التثبت من الأخبار
سادساً: أن على المسلمين عامة في وقت الفتن أن يثبتوا، وأن يتأكدوا من مصادر الأخبار، وأن لا يتعجلوا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] وليحذر الخطيب والواعظ والداعية والمتحدث أن يقدم على شيء قبل أن يستقرأ خبره، ويتأكد منه؛ قلت هذا بمناسبة قتل المجاهد الشيخ جميل الرحمن رحمه الله وأسكنه الله في فردوس رحمته، وجمعنا به في دار الكرامة، والحقيقة أنه سعى لشيء وقد أدركه.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فقدم على ما قدم، ولقي الذي يطمح إليه، فنسأل الله أن يجمعنا بالصالحين في دار الكرامة.
فعلى الإخوة ألا يتحدثوا في مثل هذه المسائل حتى تتضح ويصدر فيها شيء من أهل العلم بعد التبين، وبعد أخذ الحيطة، وبعد معرفة الأخبار، ومصدر الأخبار: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] لأني سمعت أن بعض الناس تعجل في بعض كلماته، واتهم بعض الناس، ونحن نبرأ إلى الله عزوجل من اتهام المسلمين أنهم يريدون دماء المسلمين؛ لأن دم المسلم ليس بالرخيص، في حديث صحيح قدسي،يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وعزتي وجلالي لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلمٍ لكببتهم على وجوههم في النار } ويقول عليه الصلاة والسلام: {ولزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم }.
يقال ابن تيمية استقبل القبلة قبل أن يموت وقال: "تبت عن كل من كفرت من أهل القبلة" مع ذلك يُنسب أن فلاناً سفك دم فلان.
ثم أقول لكم إن الفتنة وقعت بين طائفتين من المسلمين في عهد علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فأثبت أنهم يقتتلون، وقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] فسماهم إخوان ولم يخرجهم من الإسلام، وقد اقتتل الصحابة في الجمل وصفين فلم يكفروا بالقتال، وما خرجوا من الملة، وما خرجوا من الدين.
ثم إني أطالب من الإخوة ألا يسافروا في هذه الفترة إلى أفغانستان ، وقد رأى كثير من أهل العلم وأهل الفضل أن السفر في هذه الأيام ليس بسديد، وينتظر العبد حتى تصفوا الأمور وتظهر، وأرى أن يسددوا من جهود إخوانهم، وأن يدعوا للمجاهدين بأن يجمع الله شملهم وينصرهم على الباطل، ثم لا يشهرون بأحد، ثم لا يكونون مصدر إزعاج، ثم لا يكونون دخيلاً ومعيناً للمنافقين والحاسدين والحاقدين في ضرب الجهاد.
هذه مسائل أحببت أن أعرضها على إخواني فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحسيب، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يغفر لنا ولكم الخطأ والزلل، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يرحمنا وإياكم رحمة عامة وخاصة ظاهرة وباطنة، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يوفق كل من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن يهدم كل من في هدمه صلاح للإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ولا يفوتني أن أشكر باسمكم جميعاً المقدم سعيد الدخيل وإخوانه وزملاءه والحضور أجمعين.سادساً: أن على المسلمين عامة في وقت الفتن أن يثبتوا، وأن يتأكدوا من مصادر الأخبار، وأن لا يتعجلوا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] وليحذر الخطيب والواعظ والداعية والمتحدث أن يقدم على شيء قبل أن يستقرأ خبره، ويتأكد منه؛ قلت هذا بمناسبة قتل المجاهد الشيخ جميل الرحمن رحمه الله وأسكنه الله في فردوس رحمته، وجمعنا به في دار الكرامة، والحقيقة أنه سعى لشيء وقد أدركه.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فقدم على ما قدم، ولقي الذي يطمح إليه، فنسأل الله أن يجمعنا بالصالحين في دار الكرامة.
فعلى الإخوة ألا يتحدثوا في مثل هذه المسائل حتى تتضح ويصدر فيها شيء من أهل العلم بعد التبين، وبعد أخذ الحيطة، وبعد معرفة الأخبار، ومصدر الأخبار: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] لأني سمعت أن بعض الناس تعجل في بعض كلماته، واتهم بعض الناس، ونحن نبرأ إلى الله عزوجل من اتهام المسلمين أنهم يريدون دماء المسلمين؛ لأن دم المسلم ليس بالرخيص، في حديث صحيح قدسي،يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وعزتي وجلالي لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلمٍ لكببتهم على وجوههم في النار } ويقول عليه الصلاة والسلام: {ولزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم }.
يقال ابن تيمية استقبل القبلة قبل أن يموت وقال: "تبت عن كل من كفرت من أهل القبلة" مع ذلك يُنسب أن فلاناً سفك دم فلان.
ثم أقول لكم إن الفتنة وقعت بين طائفتين من المسلمين في عهد علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فأثبت أنهم يقتتلون، وقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] فسماهم إخوان ولم يخرجهم من الإسلام، وقد اقتتل الصحابة في الجمل وصفين فلم يكفروا بالقتال، وما خرجوا من الملة، وما خرجوا من الدين.
ثم إني أطالب من الإخوة ألا يسافروا في هذه الفترة إلى أفغانستان ، وقد رأى كثير من أهل العلم وأهل الفضل أن السفر في هذه الأيام ليس بسديد، وينتظر العبد حتى تصفوا الأمور وتظهر، وأرى أن يسددوا من جهود إخوانهم، وأن يدعوا للمجاهدين بأن يجمع الله شملهم وينصرهم على الباطل، ثم لا يشهرون بأحد، ثم لا يكونون مصدر إزعاج، ثم لا يكونون دخيلاً ومعيناً للمنافقين والحاسدين والحاقدين في ضرب الجهاد.
هذه مسائل أحببت أن أعرضها على إخواني فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحسيب، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يغفر لنا ولكم الخطأ والزلل، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يرحمنا وإياكم رحمة عامة وخاصة ظاهرة وباطنة، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يوفق كل من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن يهدم كل من في هدمه صلاح للإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ولا يفوتني أن أشكر باسمكم جميعاً المقدم سعيد الدخيل وإخوانه وزملاءه والحضور أجمعين.
الأسئلة
تمكين المشركين
السؤال: نحن نعلم ما للمشركين فيه من تمكينٍ في الأرض، فهل مُكنوا لأنهم مشركون لكي يضلوا من في الأرض، أم لأنهم أخذوا بأسباب التمكين، فإذا كانت الثانية فما هي نصائحك للمسلمين لكي يمكنوا في الأرض؛ لأن في ذلك قوة للإسلام والمسلمين؟
الجواب: الأمر الأول: مُكن المشركون في الأرض، وأنا لا أسميه تمكين، بل هو شيءٌ من البقاء الوقتي الطارئ الذي سوف يزول، أما التمكين فلأولياء الله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور:55] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] فالتمكين للمؤمنين.
لكن نقول: لماذا الكفار مكنوا؟ تقول: مكنوا أولاً: هذا ابتلاء، فهي سنة المدافعة، أن يدفع بها الله عزوجل أولياءه، ويدفع أولياءه بالكافر، فهم أخذوا وملكوا من الأسباب ما جعلتهم يبقون ردحاً من الدهر، أو يحكمون قطعة من الأرض.
الأمر الثاني: تَخَلى المسلمون عن أسباب التمكين، فحوصروا في أنحاء الدنيا وفي أنحاء الكرة الأرضية، وأخذت عليهم حتى بلادهم التي فتحوها بالإسلام.السؤال: نحن نعلم ما للمشركين فيه من تمكينٍ في الأرض، فهل مُكنوا لأنهم مشركون لكي يضلوا من في الأرض، أم لأنهم أخذوا بأسباب التمكين، فإذا كانت الثانية فما هي نصائحك للمسلمين لكي يمكنوا في الأرض؛ لأن في ذلك قوة للإسلام والمسلمين؟
الجواب: الأمر الأول: مُكن المشركون في الأرض، وأنا لا أسميه تمكين، بل هو شيءٌ من البقاء الوقتي الطارئ الذي سوف يزول، أما التمكين فلأولياء الله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور:55] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] فالتمكين للمؤمنين.
لكن نقول: لماذا الكفار مكنوا؟ تقول: مكنوا أولاً: هذا ابتلاء، فهي سنة المدافعة، أن يدفع بها الله عزوجل أولياءه، ويدفع أولياءه بالكافر، فهم أخذوا وملكوا من الأسباب ما جعلتهم يبقون ردحاً من الدهر، أو يحكمون قطعة من الأرض.
الأمر الثاني: تَخَلى المسلمون عن أسباب التمكين، فحوصروا في أنحاء الدنيا وفي أنحاء الكرة الأرضية، وأخذت عليهم حتى بلادهم التي فتحوها بالإسلام.
حتى لا يفوتنا الركب
السؤال: ماذا نصنع حتى لا يفوتنا الركب؟ وما الذي تنصح الشباب باتباعه والعمل به في هذا المجال؟
الجواب: اسمع كلمات حتى لا يفوتك الركب، هي تلخيص المحاضرة، ولو أنها وردت فيها:
أولاً: أن تتوب وتعلن توبتك من الليلة، وتركب في ركب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام مالك : "السنة كسفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تركها هلك"، وليس هناك سفينة إلا سفينة محمد صلى الله عليه وسلم:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
السؤال: ماذا نصنع حتى لا يفوتنا الركب؟ وما الذي تنصح الشباب باتباعه والعمل به في هذا المجال؟
الجواب: اسمع كلمات حتى لا يفوتك الركب، هي تلخيص المحاضرة، ولو أنها وردت فيها:
أولاً: أن تتوب وتعلن توبتك من الليلة، وتركب في ركب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام مالك : "السنة كسفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تركها هلك"، وليس هناك سفينة إلا سفينة محمد صلى الله عليه وسلم:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
جماعة الدعوة والتبليغ
السؤال: إني شاب ملتزم ولله الحمد، وإن هناك جماعة تأتي إلي وهم جماعة الدعوة والخروج، يريدونني أن أخرج معهم إلى الدعوة في بعض الدول، وهناك بعض الناس يقولون: إنهم جماعة أصحاب بدع، فما ردك على هؤلاء؟
الجواب: جماعة الدعوة والتبليغ ؛ جماعة في مجموعها تعمل وتريد الخير، ولها جهود تشكر عليها مثل: الصبر، والتحمل في الدعوة، والحلم، وأنهم جابوا الأقاليم ووصلوا إلى كثير من الأمكنة، وأن الله هدى بهم كثيراً من العصاة نعرفهم، حتى إني رأيت كثيراً منهم في بلاد خارجية ورأيت كثيراً منهم هدى به الله ملأ من الناس، عندهم روحانيات، وعندهم أذكار، وعمل صالح، لكن لا بد أن نناصحهم في مسائل:
المسألة الأولى: أن يهتموا بالعلم الشرعي؛ علم محمد صلى الله عليه وسلم، علم الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: لا يغتروا بكثير من مذكرات المؤسسين مثل: محمد بن إياس الذي أسس الجماعة، أو غيره من الذين ليسوا في هذه البلد، لأني ما أعرف جماعة الدعوة في هذه البلاد هنا إلا على منهج السلف ، لكن هناك قد يوجد شركيات وبدع وخرافات رأيناها وقرأنها فلينتبه لها.المسألة الثالثة: لا يصح أن الواحد منهم إذا قام أمام الناس أن يذكر ماضيه الأسود، يكفي أنه تاب إلى الله، أما أنه يقول: كنت أفعل وأفعل وأعصي وأترك الصلاة، فليس هذا من منهج الدين، بل المنهج أن تستر نفسك.
أما أن تخرج معهم فإن كنت طالب علم، أو عندك حصيلة من العلم، وبإمكانك أن تعرف البدعة من غيرها، وأن تؤثر فأرى أن تخرج معهم.
لأنك ينفع الله بك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون داعية، هذا رأيي، وإن كنت لم تبلغ هذا المستوى فأرى أن تقترب من طلبة العلم، ومن المحاضرات، ومن الدعاة الصادقين.
أما إذا أنست بعقيدة أحدهم وبعلمه وبفعله وعرفت أنه يحمل عقيدة أهل السنة والجماعة ، فلا بأس أن ترافقه.
هذا ما عندي في المسألة باختصار.السؤال: إني شاب ملتزم ولله الحمد، وإن هناك جماعة تأتي إلي وهم جماعة الدعوة والخروج، يريدونني أن أخرج معهم إلى الدعوة في بعض الدول، وهناك بعض الناس يقولون: إنهم جماعة أصحاب بدع، فما ردك على هؤلاء؟
الجواب: جماعة الدعوة والتبليغ ؛ جماعة في مجموعها تعمل وتريد الخير، ولها جهود تشكر عليها مثل: الصبر، والتحمل في الدعوة، والحلم، وأنهم جابوا الأقاليم ووصلوا إلى كثير من الأمكنة، وأن الله هدى بهم كثيراً من العصاة نعرفهم، حتى إني رأيت كثيراً منهم في بلاد خارجية ورأيت كثيراً منهم هدى به الله ملأ من الناس، عندهم روحانيات، وعندهم أذكار، وعمل صالح، لكن لا بد أن نناصحهم في مسائل:
المسألة الأولى: أن يهتموا بالعلم الشرعي؛ علم محمد صلى الله عليه وسلم، علم الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: لا يغتروا بكثير من مذكرات المؤسسين مثل: محمد بن إياس الذي أسس الجماعة، أو غيره من الذين ليسوا في هذه البلد، لأني ما أعرف جماعة الدعوة في هذه البلاد هنا إلا على منهج السلف ، لكن هناك قد يوجد شركيات وبدع وخرافات رأيناها وقرأنها فلينتبه لها.المسألة الثالثة: لا يصح أن الواحد منهم إذا قام أمام الناس أن يذكر ماضيه الأسود، يكفي أنه تاب إلى الله، أما أنه يقول: كنت أفعل وأفعل وأعصي وأترك الصلاة، فليس هذا من منهج الدين، بل المنهج أن تستر نفسك.
أما أن تخرج معهم فإن كنت طالب علم، أو عندك حصيلة من العلم، وبإمكانك أن تعرف البدعة من غيرها، وأن تؤثر فأرى أن تخرج معهم.
لأنك ينفع الله بك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون داعية، هذا رأيي، وإن كنت لم تبلغ هذا المستوى فأرى أن تقترب من طلبة العلم، ومن المحاضرات، ومن الدعاة الصادقين.
أما إذا أنست بعقيدة أحدهم وبعلمه وبفعله وعرفت أنه يحمل عقيدة أهل السنة والجماعة ، فلا بأس أن ترافقه.
هذا ما عندي في المسألة باختصار.
الغناء والطرب
السؤال: هناك أناس يحلون الغناء والطرب عن طريق هذا الحدث الذي هو: استقبال المصطفى صلى الله عليه وسلم بطلع البدر علينا، وهو غناء أهل المدينة عند قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هو ردك على هؤلاء؟
الجواب: لم يكن معهم طبول فيما أعلم ولم ينقل حتى في كتب الحديث، إنما هم شباب وأطفال خرجوا ينشدون، والنشيد جائز لمثل هذا المستوى، والرجز جائز، لكن لا يصاحبه دف ولا طبل للرجال، ولا مزمار ولا زير؛ لأن هذه قد حرمت على الرجال.
أما النساء فلا بأس بالدف لهن في الزواجات، فلا دليل في هذا على ما استدل به هذا الشخص، والذي يستدل بهذا على أنه يجوز استصحاب المعازف وآلات اللهو، كمن يستدل بأن الحبشة لعبوا في مسجده صلى الله عليه وسلم بالحراب فيأتي بعد كل صلاة يلعب بالحربة، فبعد الظهر يلعب وبعد العصر يلعب وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد الفجر، فإذا سألته قال: الحبشة لعبوا، وهم ما لعبوا إلا مرة في الحياة ثم هم مؤلفة قلوبهم والرسول صلى الله عليه وسلم رأى من الحكمة أن يمكن لهم قليلاً حتى يعو الدين، ولم يكن معهم دف ولا طبل ولا مزمار، وهذا مثل هذا.السؤال: هناك أناس يحلون الغناء والطرب عن طريق هذا الحدث الذي هو: استقبال المصطفى صلى الله عليه وسلم بطلع البدر علينا، وهو غناء أهل المدينة عند قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هو ردك على هؤلاء؟
الجواب: لم يكن معهم طبول فيما أعلم ولم ينقل حتى في كتب الحديث، إنما هم شباب وأطفال خرجوا ينشدون، والنشيد جائز لمثل هذا المستوى، والرجز جائز، لكن لا يصاحبه دف ولا طبل للرجال، ولا مزمار ولا زير؛ لأن هذه قد حرمت على الرجال.
أما النساء فلا بأس بالدف لهن في الزواجات، فلا دليل في هذا على ما استدل به هذا الشخص، والذي يستدل بهذا على أنه يجوز استصحاب المعازف وآلات اللهو، كمن يستدل بأن الحبشة لعبوا في مسجده صلى الله عليه وسلم بالحراب فيأتي بعد كل صلاة يلعب بالحربة، فبعد الظهر يلعب وبعد العصر يلعب وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد الفجر، فإذا سألته قال: الحبشة لعبوا، وهم ما لعبوا إلا مرة في الحياة ثم هم مؤلفة قلوبهم والرسول صلى الله عليه وسلم رأى من الحكمة أن يمكن لهم قليلاً حتى يعو الدين، ولم يكن معهم دف ولا طبل ولا مزمار، وهذا مثل هذا.
المولد النبوي
السؤال: ما حكم إقامة الموالد احتفاءً بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ حبذا لو كان جواباً موجزاً غير مخلٍ حفظكم الله ورعاكم.(1/140)
الجواب: إقامة الموالد للرسول صلى الله عليه وسلم بدعة: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ولم يفعله أحد من السلف الصالح ، وإحياءه صلى الله عليه وسلم إنما هو بإحياء ذكراه بالعمل، باتباع السنة، وبنشر مبادئه في الناس، وبتعليم سنته في العالمين، وبالمحافظة على سنته، وليس بالموالد الخرافية.السؤال: ما حكم إقامة الموالد احتفاءً بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ حبذا لو كان جواباً موجزاً غير مخلٍ حفظكم الله ورعاكم.
الجواب: إقامة الموالد للرسول صلى الله عليه وسلم بدعة: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ولم يفعله أحد من السلف الصالح ، وإحياءه صلى الله عليه وسلم إنما هو بإحياء ذكراه بالعمل، باتباع السنة، وبنشر مبادئه في الناس، وبتعليم سنته في العالمين، وبالمحافظة على سنته، وليس بالموالد الخرافية.
بعض من يعتدي على الجيل الأول
السؤال: حول بعض الأدباء، حيث إنهم من العلمانيين، ولهم بعض الكتابات في السيرة وفي التاريخ, وقد يشوبها بعض التجني على العصر الأول، نريد توضيح ذلك حيث إنني قرأت لهم وملت إلى هذه القراءات فما رأيكم؟
الجواب: الحق معلوم، وأرى أنه إذا اشتبه في رجل منهم أن تسأل أهل العلم والدعاة عنه بذاته، وإن كان لك بصيرة أنت وأصبحت في مستوى من العلم يمكنك أن تعرف الحق من الباطل، فلا بأس أن تقرأ.
لكن والحمد لله هناك عند أهل الإيمان من البدائل ومن الدعاة والأدباء ومن الشعراء ما يكفيك عن هؤلاء، فإن أولياء الله وأنصاره كثير، في قسم الأدب والعقيدة والفقه والتفسير والفكر والكتابات وكل أطروحة.
فأدلك على أدباء وكتاب الإسلام في الفكر: أبو الأعلى المودودي ، أبو الحسن الندوي ، سيد قطب ، محمد قطب ، وأمثال هؤلاء الأخيار، ومن علمائنا الكبار كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وفضيلة الشيخ محمد بن الصالح بن عثيمين ، والشيخ حمود التويجري ، ومن كتب من أمثالهم، وقبلها كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه، وقبلها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، والحمد لله الخير كثير.
ومن الشعراء مثل شعر: إقبال على بعض المآخذ فيه من أنه جعل الإسلام في قسم الفلسفة، أو أنه كان عنده شيء من التصوف لكن أفكاره في الجملة كانت مسددة، وكان نابغةً في الأدب والشعر.
ومن الشعراء العصريين الآن: الدكتور عبد الرحمن العشماوي ، والدكتور أحمد بهكلي ، والدكتور صالح عون ، وكثير من شباب الصحوة وشباب الدعوة.
ومن الكتاب: أحمد التويجري وأمثاله من الأخيار الفضلاء الذين يستفاد بهم.
وأدلكم على الدعاة الفضلاء الذين لهم تواجد في ساحة الإسلام، وأنا ذكرت العلماء وهم علماء أيضاً: كالدكتور ناصر العمر ، والدكتور سعيد آل زعير ، والشيخ سلمان العودة ، والشيخ سفر الحوالي ، والشيخ عبد الوهاب الطريري ، والدكتور محمد بن سعيد القحطاني ، والدكتور عبد الله التويجري ، والشيخ عوض القرني ، والشيخ سعيد بن ناصر الغامدي ، هؤلاء الفضلاء والأخيار أرى أن تسمعوا لهم كثيراً فإني أعرفهم، وأعرف ثقافتهم، وأعرف درايتهم، ومكانتهم ولهم قدم صدق، وقد نفع الله بهم الأمة، فأرى الاطلاع على كتاباتهم والسماع لهم كثيراً.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.السؤال: حول بعض الأدباء، حيث إنهم من العلمانيين، ولهم بعض الكتابات في السيرة وفي التاريخ, وقد يشوبها بعض التجني على العصر الأول، نريد توضيح ذلك حيث إنني قرأت لهم وملت إلى هذه القراءات فما رأيكم؟
الجواب: الحق معلوم، وأرى أنه إذا اشتبه في رجل منهم أن تسأل أهل العلم والدعاة عنه بذاته، وإن كان لك بصيرة أنت وأصبحت في مستوى من العلم يمكنك أن تعرف الحق من الباطل، فلا بأس أن تقرأ.
لكن والحمد لله هناك عند أهل الإيمان من البدائل ومن الدعاة والأدباء ومن الشعراء ما يكفيك عن هؤلاء، فإن أولياء الله وأنصاره كثير، في قسم الأدب والعقيدة والفقه والتفسير والفكر والكتابات وكل أطروحة.
فأدلك على أدباء وكتاب الإسلام في الفكر: أبو الأعلى المودودي ، أبو الحسن الندوي ، سيد قطب ، محمد قطب ، وأمثال هؤلاء الأخيار، ومن علمائنا الكبار كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وفضيلة الشيخ محمد بن الصالح بن عثيمين ، والشيخ حمود التويجري ، ومن كتب من أمثالهم، وقبلها كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه، وقبلها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، والحمد لله الخير كثير.
ومن الشعراء مثل شعر: إقبال على بعض المآخذ فيه من أنه جعل الإسلام في قسم الفلسفة، أو أنه كان عنده شيء من التصوف لكن أفكاره في الجملة كانت مسددة، وكان نابغةً في الأدب والشعر.
ومن الشعراء العصريين الآن: الدكتور عبد الرحمن العشماوي ، والدكتور أحمد بهكلي ، والدكتور صالح عون ، وكثير من شباب الصحوة وشباب الدعوة.
ومن الكتاب: أحمد التويجري وأمثاله من الأخيار الفضلاء الذين يستفاد بهم.
وأدلكم على الدعاة الفضلاء الذين لهم تواجد في ساحة الإسلام، وأنا ذكرت العلماء وهم علماء أيضاً: كالدكتور ناصر العمر ، والدكتور سعيد آل زعير ، والشيخ سلمان العودة ، والشيخ سفر الحوالي ، والشيخ عبد الوهاب الطريري ، والدكتور محمد بن سعيد القحطاني ، والدكتور عبد الله التويجري ، والشيخ عوض القرني ، والشيخ سعيد بن ناصر الغامدي ، هؤلاء الفضلاء والأخيار أرى أن تسمعوا لهم كثيراً فإني أعرفهم، وأعرف ثقافتهم، وأعرف درايتهم، ومكانتهم ولهم قدم صدق، وقد نفع الله بهم الأمة، فأرى الاطلاع على كتاباتهم والسماع لهم كثيراً.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي
السؤال: ذكرت في المحاضرة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، وذكرت بعض التائبين إلى الله في بعض أشرطتك، كتوبة المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي ، ولأنك والشيخ سفر الحوالي ستشرفون على كتابه محاكمة أهل الفن ، فنرجو منكم نبذة مختصرة عن هذا الكتاب، وإذا كنت التقيت بهذا التائب فنرجو منك تعريفه للشباب؟
الجواب: هذا الأخ الأستاذ أنيس عبد المعطي قد رأيته في مكة وقابلته، ورأيت فيه الخير ولنا الظاهر من الناس وقد اهتدى، وهو صاحب تجربة مع أهل الفن، وقد ألف كتاباً سوف يكون له أثر ودوي وهو محاكمة أهل الفن من واقع تجربته، وهو مزود بالوثائق والحقائق عن عالمهم، وعما يدور وراء كواليسهم، ووراء حجبهم، وما يدور في حياتهم وفي دنياهم، وسوف يخرج هذا. وقد قدم له الشيخ سفر الحوالي وختمتُ له الكتاب، وعسى الله أن ينفع به، هذا بإيجاز.السؤال: ذكرت في المحاضرة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، وذكرت بعض التائبين إلى الله في بعض أشرطتك، كتوبة المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي ، ولأنك والشيخ سفر الحوالي ستشرفون على كتابه محاكمة أهل الفن ، فنرجو منكم نبذة مختصرة عن هذا الكتاب، وإذا كنت التقيت بهذا التائب فنرجو منك تعريفه للشباب؟
الجواب: هذا الأخ الأستاذ أنيس عبد المعطي قد رأيته في مكة وقابلته، ورأيت فيه الخير ولنا الظاهر من الناس وقد اهتدى، وهو صاحب تجربة مع أهل الفن، وقد ألف كتاباً سوف يكون له أثر ودوي وهو محاكمة أهل الفن من واقع تجربته، وهو مزود بالوثائق والحقائق عن عالمهم، وعما يدور وراء كواليسهم، ووراء حجبهم، وما يدور في حياتهم وفي دنياهم، وسوف يخرج هذا. وقد قدم له الشيخ سفر الحوالي وختمتُ له الكتاب، وعسى الله أن ينفع به، هذا بإيجاز.
قصيدة عاصفة الصحراء
السؤال: نطلب من فضيلة الشيخ أن يختم هذا اللقاء بقصيدته عاصفة الصحراء؟
الجواب: أعتذر من عاصفة الصحراء؛ لأنها انتهت عندكم وانتهت عندي، ولكني -إن شاء الله- أعوضكم مكانها قصيدة: (محمد في فؤاد الغار يرتجف) لخللٍ فني، فلا أريد لكم عاصفة الصحراء لكني أريد لكم آخر قصيدة وهي (محمد في فؤاد الغار يرتجف) أحفظ منها أبياتاً، فهي ما يقارب الخمسين بيتاً، وهي في حبيبنا وعظيمنا محمد صلى الله عليه وسلم:
محمد في فؤاد الغار يرتجف في كفه الدهر والتاريخ والصحف
مزملٌ في رداء الوحي قد صعدت أنفاسه في ربوع الكون تأتلف
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صوف ولا خصف
والكفر يا ويحه غضبان من أسفٍ لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسف
ولا حمته سيوف كلها كذبُ في صولة الحق والإيمان تنقصف
أتى الرسول إلينا والربا جثثٌ مطمورةٌ وعليه يضحك القرف
والمارد الفاجر المعتوه محترمٌ جماجم الجيل في أسيافه لطف
نجوع نأكل موتانا وسهرتنا أكل الضياع وليل أحمرٌ دنف
ومنها:
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده من بحر علمك كل الناس يرتشف
إن لم تصغ منك أقلام معارفها فالزور ديدنها والظلم والصلفُ
في كفك الشهم من حبر الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
وفي الختام! أشكركم شكراً جزيلاً، وأشكر لكم تعبكم وصبركم وعرقكم، وأسأل الله أن يبدلكم رضواناً في الجنة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.السؤال: نطلب من فضيلة الشيخ أن يختم هذا اللقاء بقصيدته عاصفة الصحراء؟
الجواب: أعتذر من عاصفة الصحراء؛ لأنها انتهت عندكم وانتهت عندي، ولكني -إن شاء الله- أعوضكم مكانها قصيدة: (محمد في فؤاد الغار يرتجف) لخللٍ فني، فلا أريد لكم عاصفة الصحراء لكني أريد لكم آخر قصيدة وهي (محمد في فؤاد الغار يرتجف) أحفظ منها أبياتاً، فهي ما يقارب الخمسين بيتاً، وهي في حبيبنا وعظيمنا محمد صلى الله عليه وسلم:
محمد في فؤاد الغار يرتجف في كفه الدهر والتاريخ والصحف
مزملٌ في رداء الوحي قد صعدت أنفاسه في ربوع الكون تأتلف
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صوف ولا خصف
والكفر يا ويحه غضبان من أسفٍ لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسف
ولا حمته سيوف كلها كذبُ في صولة الحق والإيمان تنقصف
أتى الرسول إلينا والربا جثثٌ مطمورةٌ وعليه يضحك القرف
والمارد الفاجر المعتوه محترمٌ جماجم الجيل في أسيافه لطف
نجوع نأكل موتانا وسهرتنا أكل الضياع وليل أحمرٌ دنف
ومنها:
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده من بحر علمك كل الناس يرتشف
إن لم تصغ منك أقلام معارفها فالزور ديدنها والظلم والصلفُ
في كفك الشهم من حبر الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
وفي الختام! أشكركم شكراً جزيلاً، وأشكر لكم تعبكم وصبركم وعرقكم، وأسأل الله أن يبدلكم رضواناً في الجنة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ــــــــــــــ(1/141)
سيد القراء أبي بن كعب
إنه أبي بن كعب -رضي الله عنه- أحد فقهاء الصحابة وقرَّائهم، (وقد شهد بيعة العقبة الثانية، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكان من الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم :، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمه صهيلة بنت الأسود، عمة أبي طلحة الأنصاري، وكان يُكَنَّى بأبي الطفيل وأبي المنذر.
وسأله النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فأجاب قائلا: الله ورسوله أعلم. فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله: (يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فأجاب أُبي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره بيده، ودعا له بخير، وقال: (ليَهْنِك العلم أبا المنذر (أي هنيئًا لك العلم).[مسلم].
وكان أبي بن كعب -رضي الله عنه- من (أوائل الذين كانوا يكتبون الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكتبون الرسائل، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (أقرأ أمتي أبى) [الترمذي].
وكان من أحرص الناس على حفظ القرآن الكريم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: (يا أبي بن كعب، إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1]، فقال أُبي في نشوة غامرة: يا رسول الله: بأبي أنت وأمى، آلله سمَّاني لك؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (نعم)، فجعل أبي -رضي الله عنه- يبكى من شدة الفرح. [مسلم].
وكان -رضي الله عنه- واحدًا من الستة أصحاب الفُتْيَا الذين أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات التي تحدث بينهم، وردِّ المظالم إلى أهلها، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن حارثة، وأبو موسى الأشعري.
وقال ( فيه وفي غيره: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدَّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم (أعلمهم بالمواريث) زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)
[الترمذى وابن ماجه].
وكان -رضي الله عنه- لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا عرضًا، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال: هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
وكان أبي بن كعب ورعًا تقيًّا يبكي إذا ذكر الله، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}_[الأنعام: 65]، يغشاه الهم والأسى.
وقد روي أن رجلا من المسلمين، قال يا رسول الله: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبي ابن كعب: يا رسول الله، وإن قَلَّتْ؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها)، فدعا أبي أن لا يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّه حتى مات. [أحمد وابن حبان].
وقد كان أبي -رضي الله عنه- مستجاب الدعوة، فيحكى ابن عباس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا. فكان ابن عباس مع أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلا: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أن رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّا قال: اللهم اصرف عنا أذاها. فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.
وكان عمر يجل أبيَّا، ويستفتيه في القضايا، وقد أمره أن يجمع الناس فيصلي بهم في المسجد صلاة التراويح في رمضان، وقبلها كان يصلي كل إنسان وحده.
وروى أبي بن كعب -رضي الله عنه- بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين، ومن أقواله -رضي الله عنه-: ما ترك أحد منكم لله شيئًا إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل -ذات يوم- أوصني: فقال له أُبيُّ: اتخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحكمًا، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم. [أبو نعيم].
وتوفي -رضي الله عنه- في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ويوم موته رأى رجل الناس في المدينة يموجون في سككهم، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقال بعضهم: ما أنت من أهل البلد؟ قال: لا. قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب.
ــــــــــــــ(1/142)
أبى بن كعب
أُبَيُّ بنُ كَعْبِ بنِ قَيْسِ بنِ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ ابْنِ زَيْدِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ عَمْرِو بنِ مَالِكِ بنِ النَّجَّارِ.
سَيِّدُ القُرَّاءِ، أَبُو مُنْذِرٍ الأَنْصَارِيُّ، النَّجَّارِيُّ، المَدَنِيُّ، المُقْرِئُ، البَدْرِيُّ.
وَيُكْنَى أَيْضاً: أَبَا الطُّفَيْلِ.
شَهِدَ العَقَبَةَ، وَبَدْراً، وَجَمَعَ القُرْآنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وَحَفِظَ عَنْهُ عِلْماً مُبَارَكاً، وَكَانَ رَأْساً فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
أقرأ الأمة لكتاب الله
قَالَ أَنَسٌ:
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: (إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ).
وَفِي لَفْظٍ: (أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ القُرْآنَ).
قَالَ: الله سَمَّانِي لَكَ؟
قَالَ: (نَعَمْ).
قَالَ: وَذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالَمِيْنَ؟
قَالَ: (نَعَمْ).
فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
وَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُبَيّاً عَنْ: (أَيِّ آيَةٍ فِي القُرْآنِ أَعْظَمُ؟).
فَقَالَ أُبَيٌّ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّوْمُ}
ضَرَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: (لِيَهْنِكَ العِلْمُ أَبَا المُنْذِرِ).
قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ: جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةٌ، كُلُّهُم مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، أَحَدُ عُمُوْمَتِي.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَالَ أُبَيٌّ لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: إِنِّي تَلَقَّيْتُ القُرْآنَ مِمَّنْ تَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيْلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وَهُوَ رَطْبٌ.
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَقْرَأُ أُمَّتِي أُبَيٌّ).
سيد المسلمين
وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ، قَالَ:
قَالَ أُبَيٌّ: يَا رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! مَا جَزَاءُ الحُمَّى؟
قَالَ: (تُجْرِي الحَسَنَاتِ عَلَى صَاحِبِهَا).
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُمَّىً لاَ تَمْنَعُنِي خُرُوْجاً فِي سَبِيْلِكَ.
فَلَمْ يُمْسِ أُبَيٌّ قَطُّ إِلاَّ وَبِهِ الحُمَّى.
قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ جَابِرٌ، أَوْ جُوَيْبِرٌ:
طَلَبْتُ حَاجَةً إِلَى عُمَرَ، وَإِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ الثِّيَابِ وَالشَّعْرِ، فَقَالَ:
إِنَّ الدُّنْيَا فِيْهَا بَلاَغُنَا وَزَادُنَا إِلَى الآخِرَةِ، وَفِيْهَا أَعْمَالُنَا الَّتِي نُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ.
فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ؟
قَالَ: هَذَا سَيِّدُ المُسْلِمِيْنَ؛ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ.
عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: أَوْصِنِي.
قَالَ: اتَّخِذْ كِتَابَ اللهِ إِمَاماً، وَارْضَ بِهِ قَاضِياً وَحَكَماً، فَإِنَّهُ الَّذِي اسْتَخْلَفَ فِيْكُم رَسُوْلُكُم، شَفِيْعٌ مُطَاعٌ، وَشَاهِدٌ لاَ يُتَّهَمُ، فِيْهِ ذِكْرُكُم وَذِكْرُ مَنْ قَبْلَكُم، وَحَكَمُ مَا بَيْنَكُم، وَخَبَرُكُم، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُم.
روى أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِالجَابِيَةِ، فَقَالَ:
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ القُرْآنِ، فَلْيَأْتِ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الفَرَائِضِ، فَلْيَأْتِ زَيْداً، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الفِقْهِ، فَلْيَأْتِ مُعَاذاً، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ المَالِ، فَلْيَأْتِنِي، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَنِي خَازِناً وَقَاسِماً.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو مَرْفُوْعاً: (اسْتَقْرِئُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَأُبَيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
قَالَ عُمَرُ: اخْرُجُوا بِنَا إِلَى أَرْضِ قَوْمِنَا.
فَكُنْتُ فِي مُؤَخَّرِ النَّاسِ مَعَ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، فَهَاجَتْ سَحَابَة، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنَّا أَذَاهَا.
قَالَ: فَلَحِقْنَاهُمْ، وَقَدِ ابْتَلَّتْ رِحَالُهُم.
فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَصَابَكُمُ الَّذِي أَصَابَنَا؟
قُلْتُ: إِنَّ أَبَا المُنْذِرِ قَالَ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنَّا أَذَاهَا.
قَالَ: فَهَلاَّ دَعَوْتُمْ لَنَا مَعَكُمْ.
أبى بن كعب و الولاية
قَالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: مَا لَكَ لاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟
قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُدَنَّسَ دِيْنُكَ.
وكَانَ أُبَيٌّ صَاحِبَ عِبَادَةٍ، فَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ، تَرَكَ العِبَادَةَ، وَجَلَسَ لِلْقَوْمِ.
عَنِ الحَسَنِ:
أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِم عِشْرِيْنَ رَكْعَةً.
وفاته
عَنِ الحَسَنِ، حَدَّثَنِي عُتَيُّ بنُ ضَمْرَةَ، قَالَ:
رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِيْنَةِ يَمُوْجُوْنَ فِي سِكَكِهِم.
فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ هَؤُلاَءِ؟
فَقَالَ بَعْضُهُم: مَا أَنْتَ مِنْ أَهْلِ البَلَدِ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ اليَوْمَ سَيِّدُ المُسْلِمِيْنَ؛ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ.(السير )
ــــــــــــــ(1/143)
الحِب بن الحِب أسامة بن زيد
إنه الصحابي الجليل أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، وهو ابن مسلمين كريمين من أوائل السابقين إلى الإسلام، فأبوه زيد بن حارثة، وأمه السيدة أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومربيته.
كان شديد السواد، خفيف الروح، شجاعًا، رباه النبي صلى الله عليه وسلم وأحبه حبًّا كثيرًا، كما كان يحب أباه فسمي الحِبّ بن الحبّ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذه هو والحسن ويقول: (اللهم أحبهما فإني أُحِبُّهما) [أحمد والبخاري].
وكان أسامة شديد التواضع، حاد الذكاء، يبذل أقصى ما عنده في سبيل دينه وعقيدته.
وخرج أسامة مع النبي صلى الله عليه وسلم (عام الفتح إلى مكة راكبًا خلفه ( على بغلته، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ليصلي فيها ركعتين، ومعه أسامة وبلال، ووقع أسامة على الأرض فجرحت جبهته؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم مسرعًا ليمسح الدم الذي يسيل منها حتى وقف النزيف.
وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم درسًا لا ينساه أبدًا، يقول أسامة: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمح حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلت كان متعوذًا، فما زال يكررها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. ثم قال أسامة للرسول صلى الله عليه وسلم : إني أعُطى الله عهدًا، ألا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بعدى يا أسامة؟) قال: بعدك. [متفق عليه].
وقد حمل أسامة كل صفات ومواهب القائد الشجاع، مما زاد من إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم به، فجعله قائدًا لجيش المسلمين لغزو الروم، وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرًا على جيش فيه كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر، فاستكثر بعض المسلمين على أسامة كل هذا، وتكلموا في ذلك، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وحمد الله ثم أثنى عليه وقال: (إن تطعنوا في إمارته (أي إمارة أسامة)؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقًا للإمارة لجديرًا بها، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ (يقصد زيد بن حارثة)، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده) [متفق عليه].
ويموت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحرك جيش أسامة إلى غايته التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم وهى قتال الروم، (وقبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه أن يسارعوا بتحريك جيش أسامة فقال لهم: (أنفذوا بعث أسامة، أنفذوا بعث أسامة) [ابن حجر في الفتح].
ويتولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ويصر على إنجاز وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيقول له عمر: إن الأنصار ترى أن يتولى قيادة الجيش من هو أكبر سنًّا من أسامة، فيغضب أبو بكر -رضي الله عنه- ويقول: ثكلتك أمك يابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطفني؛ لأنفذت بعث أسامة.
ويخرج القائد أسامة من المدينة بجيشه، ويخرج معه أبو بكر مودعًا، وبينما أسامة راكب على فرسه، إذا بأبي بكر يسير على قدميه، فيستحي أسامة من هذا الموقف، ويقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، والله لتركبن أو لأنزلن. فيقول أبو بكر: والله لا نزلت، والله لا ركبتُ، وما عليَّ أن أغبر
قدمي في سبيل الله ساعة، ثم يستأذن أبو بكر من أسامة أن يبقى معه عمر في المدينة ليعينه على أمور الحكم فيعطي أعظم قدوة في استئذان القائد مهما كان صغيرًا.
وانطلق جيش أسامة إلى البلقاء، ليهاجم القرى التي حددها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر، فينتصر عليهم ويأسر منهم الكثير، ويجمع الغنائم، ويعود إلى المدينة منتصرًا بعد أن لقن الروم درسًا لا ينسى، ويعود الجيش بلا ضحايا فيقول المسلمون يومئذ: ما رأينا جيشًا أسلم من جيش أسامة.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما يقسم أموال بيت المال على المسلمين، يجعل نصيب أسامة منها ثلاثة آلاف وخمسمائة، في حين يعطي ابنه عبد الله ثلاثة آلاف، فيقول ابن عمر لأبيه: لقد فضلت عليَّ أسامة، وقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يشهد، فيرد عليه عمر قائلاً: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك._[الترمذي وابن سعد].
وعندما نشبت الفتنة بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- وقف أسامة محايدًا مع حبه الشديد لعلي، وبعث له رسالة قال فيها: يا أبا الحسن إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد (فمه) لأخذت بمشفره الآخر معك حتى نهلك جميعًا أو نحيا جميعًا، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه فوالله لا أدخل فيه أبدًا، ولزم أسامة داره فترة النزاع حتى لا يقتل مسلمًا.
وكان -رضي الله عنه- كثير العبادة، محافظًا على صوم يوم الاثنين والخميس مع كبر سنه وضعف جسمه؛ تأسيًا ب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوفي أسامة -رضي الله عنه- في خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة (54هـ)، وقد روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
ــــــــــــــ(1/144)
صاحب الصوت الجميل أسيد بن حضير
إنه أسيد بن حضير بن عبد الأشهل الأنصاري -رضي الله عنه-، فارس قومه ورئيسهم، فأبوه حضير الكتائب زعيم الأوس، وواحد من كبار أشراف العرب في الجاهلية.
وكان أسيد أحد النقباء الذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية، فقد أسلم أسيد بعد بيعة العقبة الأولى، عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة، فجلس هو وأسعد بن زرارة في بستان، وحولهما أناس يستمعون إليهما، وبينما هم كذلك، كان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ زعيما قومهما يتشاوران في أمر مصعب بن عمير الذي جاء يدعو إلى دين جديد.
فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذا الرجل، فازجره، فحمل أسيد حربته وذهب إليهما غضبان، وقال لهما: ما جاء بكما إلى حيِّنا (مدينتنا)، تسفهان ضعفاءنا)؟ اعتزلانا، إذا كنتما تريدان الحياة. فقال له مصعب: أَوَ تَجْلِس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ فقال أسيد: لقد أنصفت، هاتِ ما عندك. فأخذ مصعب يكلمه عن الإسلام ورحمته وعدله، وراح يقرأ عليه آيات من القرآن، فأشرق وجه أسيد بالنور، وظهرت عليه بشاشة الإسلام حتى قال من حضروا هذا المجلس: والله صلى الله عليه وسلم :لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم، عرفناه في إشراقه وتسهله.
ولم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد قائلاً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فقال له مصعب: تطهّر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم تصلي.
فقام أسيد مسرعًا فاغتسل وتطهر ثم صلى ركعتين معلنًا إسلامه. وعاد أسيد إلى سعد بن معاذ، وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: أقسم، لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، ثم قال له سعد: ماذا فعلت؟ فقال أسيد: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، فقالا لي: نفعل ما أحببت، ثم قال أسيد لسعد بن معاذ: لقد سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك، فقام سعد غضبان وفي يده حربته، ولما وصل إلى مصعب وأسعد وجدهما جالسين مطمئنين، عندها أدرك أن هذه حيلة من أسيد لكي يحمله على السعي إلى مصعب لسماعه، واستمع سعد لكلام مصعب واقتنع به وأعلن إسلامه، ثم أخذ حربته، وذهب مع أسيد بن حضير إلى قومهما يدعوانهم للإسلام، فأسلموا جميعًا.
وقد استقبل أسيد النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة خير استقبال، وظل أسيد يدافع عن الإسلام والمسلمين، فحينما قال عبد الله بن أبي بن سلول لمن حوله من المنافقين أثناء غزوة بني المصطلق: لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دياركم، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إن شاء الله، هو والله الذليل، وأنت العزيز يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز (حبات يطرز بها التاج) ليتوجوه على المدينة ملكًا، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكًا.
وذات ليلة أخذ يقرأ القرآن، وفرسه مربوطة بجواره، فهاجت الفرس حتى كادت تقطع الحبل، وعلا صهيلها، فسكت عن القراءة فهدأت الفرس ولم تتحرك، فقرأ مرة ثانية فحدث للفرس ما حدث لها في المرة الأولى، وتكرر هذا المشهد عدة مرات، فسكت خوفًا منها على ابنه الصغير الذي كان ينام في مكان قريب منها، ثم نظر إلى السماء فإذا به يرى غمامة مثل الظلة في وسطها مصابيح مضيئة، وهى ترتفع إلى السماء.
فلما أصبح ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحدثه بما رأى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (تلك الملائكة دنت (اقتربت) لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) [البخاري].
وعاش أسيد -رضي الله عنه- عابدًا قانتًا، باذلا روحه وماله في سبيل الله، وندم أسيد على تخلفه عن غزوة بدر، وقال: ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت. [ابن سعد]، وقد جرح أسيد يوم أحد سبع جراحات، ولم يتخلف عن غزوة بعدها قط.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع فريق من الأنصار في سقيفة بني ساعدة على رأسهم سعد بن عبادة، وأعلنوا أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واشتد النقاش بينهم، فوقف أسيد بن حضير مخاطبًا الأنصار قائلاً: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- لا يقدم عليه أحدًا من الأنصار، تقول السيدة عائشة: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. [ابن هشام].
وتوفي أسيد -رضي الله عنه- في عام (20 هـ)، وأصرَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يحمل نعشه على كتفه، ودفنه الصحابة بالبقيع بعد أن صلوا عليه، ونظر عمر في وصيته، فوجد أن عليه أربعة آلاف دينار، فباع ثمار نخله (البلح أو التمر) أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دينه. [البخاري وابن سعد]
ــــــــــــــ(1/145)
أسيد بن الحضير
ابن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل .
الإمام أبو يحيى -وقيل: أبو عتيك- الأنصاري ، الأوسي الأشهلي ، أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة .
أسلم قديما ، وقال : ما شهد بدرا ، وكان أبوه شريفا مطاعا يدعى حضير الكتائب ، وكان رئيس الأوس يوم بعاث فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بست سنين وكان أسيد يعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي .
قال محمد بن سعد : آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين زيد بن حارثة ، وله رواية أحاديث ، روت عنه عائشة ، وكعب بن مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، ولم يلحقه .
وذكر الواقدي أنه قدم الجابية مع عمر ، وكان مقدما على ربع الأنصار ، وأنه ممن أسلم على يد مصعب بن عمير ، هو وسعد بن معاذ .
قال أبو هريرة : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : نعم الرجل أبو بكر . نعم الرجل عمر ، نعم الرجل أسيد بن حضير أخرجه الترمذي وإسناده جيد .
وروي أن أسيدا كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن .
ابن إسحاق : عن يحيى بن عباد بن عبد الله ، عن عائشة قالت : ثلاثة من الأنصار من بني عبد الأشهل لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وعباد بن بشر ، رضي الله عنهم .
قال ابن إسحاق : أسيد بن حضير نقيب لم يشهد بدرا ، يكنى أبا يحيى . ويقال : كان في أسيد مزاح وطيب أخلاق .
روى حصين ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أسيد بن حضير - وكان فيه مزاح - أنه كان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فطعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعود كان معه ، فقال : أَصْبِرْني ، فقال : اصطبرْ ، قال : إن عليك قميصا وليس علي قميص ، قال : فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- قميصه ، قال : فجعل يقبل كَشْحَه ويقول : إنما أردت هذا يا رسول الله .
أبو صالح كاتب الليث : حدثنا يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما هلك أسيد بن الحضير ، وقام غرماؤه بمالهم ، سأل عمر في كم يؤدى ثمرها ليوفى ما عليه من الدين . فقيل له : في أربع سنين ، فقال لغرمائه : ما عليكم أن لا تباع ، قالوا : احتكم ، وإنما نقتص في أربع سنين ، فرضوا بذلك ، فأقر المال لهم ، قال : ولم يكن باع نخل أسيد أربع سنين من عبد الرحمن بن عوف ، ولكنه وضعه على يدي عبد الرحمن للغرماء .
عبد الله بن عمر : عن نافع ، عن ابن عمر قال : هلك أسيد ، وترك عليه أربعة آلاف ، وكانت أرضه تغل في العام ألفا ، فأرادوا بيعها ، فبعث عمر إلى غرمائه : هل لكم أن تقبضوا كل عام ألفا ؟ قالوا : نعم .
قال يحيى بن بكير : مات أسيد سنة عشرين وحمله عمر بين العمودين عمودي السرير حتى وضعه بالبقيع ثم صلى عليه ، وفيها أرخ موته الواقدي وأبو عبيد وجماعة .
وندم على تخلفه عن بدر ، وقال : ظننت أنها العير ، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت . وقد جرح يوم أحد سبع جراحات .
ــــــــــــــ(1/146)
خادم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنس بن مالك
إنه الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-وأمه الرميصاء أم سليم بنت ملحان الأنصارية -رضي الله عنها- وكانت أمه قد أتت به وهو ابن عشر سنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقالت له: هذا غلام يخدمك. فقبله النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنَّاه أبا حمزة، ولازم الغلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة شديدة، ما فارقه فيها أبدًا. وخدم أنس النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وشهد معه ثماني غزوات، وصلى معه إلى القبلتين.
وامتلأ قلب أنس بحب النبي صلى الله عليه وسلم ، فها هو ذا يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي (يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم :). وقد أحبت أسرة أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، وكانت لأسرته في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة خاصة، فأمه أم سليم، وخالته أم حرام بنت ملحان، وعمه أنس بن النضر بطل أحد، وعمته الربيع بنت النضر.
وكان أنس يحفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فها هو ذا -رضي الله عنه- يقول: أسر إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا فما أخبرت به أحدًا بعد، ولقد سألتني عنه أم سليم فما أخبرتها به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أنسًا ويقربه إليه ويمازحه، فلقد قال له يومًا: (ياذا الأذنين) [أبو داود والترمذي].
واشتهر أنس -رضي الله عنه- بالعلم والفقه والتبحر في علوم الدين، وروى كثيرًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما يدل على علمه الغزير أنه قال لثابت البناني: يا ثابت خذ عني، فإنك لن تأخذ عن أحد أوثق مني، إني أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، وأخذه جبريل عن الله.
وشارك أنس -رضي الله عنه- في حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وقد استخدمه أبو بكر -رضي الله عنه- في جمع الصدقات، فدخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاستشاره أبو بكر فقال عمر: ابعثه فإنه لبيب كاتب. وكان -رضي الله عنه- ممن حضر موقعة اليمامة، وشهد الفتوحات في عهد عمر، وعثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم-.
وكان لأنس بن مالك -رضي الله عنه- فضائل كثيرة، فقد روى ثابت البناني قوله: كنت مع أنس فجاء قهرمانه (حاجبه) فقال: يا أبا حمزة، عطشت أرضك، فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين ثم دعا، قال ثابت: فرأيت السحاب تلثم ثم أمطرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال له: انظر أين بلغت السماء؟ فنظر فلم تجاوز أرضه إلا يسيرًا، وكان ذلك في الصيف.
وكان يحب الستر على المسلمين، فيروى أن صالح بن كرز جاء بجارية له زنت إلى الحكم بن أيوب، وبينما هو جالس إذ جاء أنس بن مالك -رضي الله عنه- فجلس فقال: يا صالح ما هذه الجارية معك؟ فقال صالح: جارية لي بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمام ليقيم عليها الحد، فقال: لا تفعل، رد جاريتك، واتق الله، واستر عليها، فقال صالح: ما أنا بفاعل، فقال أنس: لا تفعل وأطعني، فلم يزل يراجعه حتى ردها.
وفي عهد عبد الملك بن مروان، لقى أنس بعض الأذى من الحجاج بن يوسف الثقفي، فاشتكاه أنس إلى عبد الملك وقال: لو أن اليهود رأوا خادم نبيهم لأكرموه، وأنا خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فبعث عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يعنفه ويزجره، ويأمره أن يذهب إلى أنس ويقبل يديه ورجليه.
وقد ضعف أنس في آخر أيامه، ولم يعد يستطيع الصوم فأحضر طعامًا وأطعم ثلاثين مسكينًا، ولما مرض سأله أهله أن يأتوا له بطبيب فقال لهم: الطبيب أمرضني. وقال وهو يحتضر: لقنوني لا إله إلا الله.
وتوفي أنس -رضي الله عنه- بالبصرة في أوائل التسعينيات من القرن الأول الهجري، وعمره يقترب من المائة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، ولما مات قال أهل البصرة: ذهب اليوم نصف العلم، وذلك لأنهم كانوا يرجعون إليه في كل ما اختلفوا فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
ــــــــــــــ(1/147)
المجاهد أبو أيوب الأنصاري
إنه أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد -رضي الله عنه-، حفيد مالك بن النجار، وأمه هند بنت سعيد، آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين مصعب بن عمير، شهد بيعة العقبة الثانية.
وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض النصرة والإيمان مختتمًا رحلته الطويلة التي هاجر فيها من مكة إلى المدينة، وصار وسط جموع المسلمين التي خرجت لاستقباله، وتزاحم الناس حول زمام ناقته، كل يريد أن يستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم :، و النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (خلوا سبيلها، فإنها مأمورة) [البيهقي].
ويمضي موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصل إلى حي بني ساعدة، فحي بني الحارث، فحي بني عدي، ويخرج من كل حي من يعترض طريق الناقة آملاً أن يسعدوا بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وفي كل مرة يجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم (خلوا سبيلها، فإنها مأمورة) [البيهقي].
إن قدر الله -عز وجل- هو الذي يتحكم في اختيار مكان نزول النبي صلى الله عليه وسلم حيث سيكون لهذا المكان مكانته العظيمة، ففوق أرضه سيقام المسجد الذي تنطلق منه أشعة الهدى والنور؛ لتضيء الدنيا بأسرها، وبجوار هذا المسجد سيقيم النبي صلى الله عليه وسلم في حجرات متواضعة.
وأمام دار مالك بن النجار بركت الناقة، ثم نهضت وطوَّفت بالمكان، ثم عادت إلى مكانها الأول، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم متفائلا، وتقدم أحد المسلمين، وقد عمرت الفرحة قلبه، فحمل متاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخله بيته، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للدخول.
وكان بيت أبي أيوب مالك بن دينار طابقين، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الطابق الأسفل ليكون محل إقامته، وصعد أبو أيوب إلى الدور العلوي ولكنه لم ينم تلك الليلة، لأنه لم يستطع أن يتخيل نفسه وهو نائم في مكان أعلى من المكان الذي ينام فيه الرسول صلى الله عليه وسلم . وفي الليل سال الماء في غرفته، فقام هو وزوجته أم أيوب ينظفانه خشية أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء.
وفي الصباح ذهب أبو أيوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يلح عليه ويرجوه أن ينتقل إلى الطابق العلوي، فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرجائه، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب حتى انتهى من بناء المسجد، وبناء حجرة له بجواره.
وكان -رضي الله عنه- محبًّا للجهاد في سبيل الله، فمنذ أن حضر بيعة العقبة الثانية وحتى منتصف القرن الأول الهجري وهو يعيش في جهاد متواصل، لا يغيب عن حرب، ولا يتكاسل عن غزو، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا والخندق، والغزوات كلها، وحتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخلف عن غزوة كُتب للمسلمين أن يخوضوها إلا غزوة قد أمَّر فيها على الجيش شاب لم يقنع أبو أيوب بإمارته، فقعد ولم يخرج معهم، ولكنه ما لبث أن ندم على موقفه هذا وقال: ما خبرني مَنْ استُعمِلَ عليّ؟ ثم خرج فلحق بالجيش.
ورغم أن عمره تجاوز الثمانين عامًا إلا أنه ما كاد يسمع منادى الجهاد يحثُّ المسلمين على الخروج لفتح القسطنطينية (إستامبول الآن) حتى حمل سيفه على عاتقه قائلا: أمرنا الله -عز وجل- أن ننفر في سبيله على كل حال، فقال تعالى: {انفروا خفافًا وثقالاً} [التوبة: 41].
وفي هذه المعركة أصيب أبو أيوب، فذهب قائد الجيش يزيد بن معاوية يعوده، وقال له: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: إذا أنا مت فاحملوني إلى أرض العدو ثم ادفنوني، ثم قال لهم: أما إني أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: (من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة) [متفق عليه]. وبالفعل كان له ما أراد، فلما كان الصباح قالت الروم للمسلمين: لقد كان لكم الليل شأن عظيم، فقالوا: هذا رجل من أكابر أصحاب نبينا (، وأقدمهم إسلامًا، قد دفناه حيث رأيتم، والله لئن نُبِشَ قبره لا يُضْرَب لكم ناقوس أبدًا (شعائر عبادتهم) في أرض العرب ما كانت لنا دولة، فكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.
وكان -رضي الله عنه- زاهدًا ورعًا لا يحب البذخ أو الترف، فقد دخل يومًا بيتًا من بيوت المسلمين فوجد أصحابه قد زينوه بالستائر فطأطأ رأسه ناكرًا لفعلهم، وتركهم وقفل راجعًا، وكان واحدًا من رهبان الليل وفرسان النهار، عشق الجهاد، وتمنى الشهادة.
وظل هكذا حتى لقى ربه بعد حياة طويلة شاقة قضاها جنديًّا من جنود الله الذين لم يرضوا لأنفسهم الركون إلى الدنيا، وخرجوا بأنفسهم وأموالهم فاتحين بلاد المشرق والمغرب، ليُخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وليسعدوا جميعًا بالإسلام في الأرض.
ــــــــــــــ(1/148)
أبو أيوب الأنصارى
من هو :
أَبُو أَيُّوْبَ الأَنْصَارِيُّ، خَالِدُ بنُ زَيْدِ بنِ كُلَيْبٍ الخَزْرَجِيُّ، النَّجَّارِيُّ، البَدْرِيُّ، السَّيِّدُ الكَبِيْرُ، الَّذِي خَصَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالنُّزُوْلِ عَلَيْهِ فِي بَنِي النَّجَّارِ، إِلَى أَنْ بُنِيَتْ لَهُ حُجْرَةُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ سَوْدَةَ، وَبَنَى المَسْجِدَ الشَّرِيْفَ.
اسْمُهُ: خَالِدُ بنُ زَيْدِ بنِ كُلَيْبِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ عَبْدِ عَمْرٍو بنِ عَوْفِ بنِ غَنْمِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّجَّارِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ الخَزْرَجِ.
استضافته لرسول الله
لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم الى المدينة قَالَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ لِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ادْخُلِ المَدِيْنَةَ رَاشِداً مَهْدِيّاً.
فَدَخَلَهَا، وَخَرَجَ النَّاسُ يَنْظُرُوْنَ إِلَيْهِ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ، قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، هَا هُنَا.
فَقَالَ: (دَعُوْهَا، فَإِنَّهَا مَأُمُوْرَةٌ)- يَعْنِي النَّاقَةَ -.
حَتَّى بَرَكَتْ عَلَى بَابِ أَبِي أَيُّوْبَ.
عَنْ أَبِي رُهْمٍ، أَنَّ أَبَا أَيُّوْبَ حَدَّثَهُ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَزَلَ فِي بَيْتِنَا الأَسْفَلِ، وَكُنْتُ فِي الغُرْفَةِ، فَأُهْرِيْقَ مَاءٌ فِي الغُرْفَةِ، فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوْبَ بِقَطِيْفَةٍ لَنَا نَتَتَبَّعُ المَاءَ، وَنَزَلْتُ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُوْلَ اللهِ، لاَ يَنْبِغِي أَنْ نَكُوْنَ فَوْقَكَ، انْتَقِلْ إِلَى الغُرْفَةِ.
فَأَمَرَ بِمَتَاعِهِ، فَنُقِلَ - وَمَتَاعُهُ قَلِيْلٌ -.
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، كُنْتَ تُرْسِلُ بِالطَّعَامِ، فَأَنْظُرُ، فَإِذَا رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعَكَ، وَضَعْتُ فِيْهِ يَدِي.
عَنْ أَبِي أَيُّوْبَ، قَالَ:
أَقْرَعَتِ الأَنْصَارُ: أَيُّهُمْ يُؤْوِي رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
فَقَرَعَهُمْ أَبُو أَيُّوْبَ، فَكَانَ إِذَا أُهْدِيَ لِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَعَامٌ، أُهْدِيَ لأَبِي أَيُّوْبَ.
و روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه بطعام من خضرة فيه بصل أو كراث فلم ير فيه أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يأكل، فقال له: ما منعك؟ قال: لم أر أثر يدك قال: أستحي من ملائكة الله وليس بمحرم
حبه و حرصه على رسول الله
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
لَمَّا دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِصَفِيَّةَ، بَاتَ أَبُو أَيُّوْبَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا أَصْبَحَ، فَرَأَى رَسُوْلَ اللهِ كَبَّرَ، وَمَعَ أَبِي أَيُّوْبَ السَّيْفُ، فَقَالَ:
يَا رَسُوْلَ اللهِ، كَانَتْ جَارِيَةً حَدِيْثَةَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، وَكُنْتَ قَتَلْتَ أَبَاهَا وَأَخَاهَا وَزَوْجَهَا؛ فَلَمْ آمَنْهَا عَلَيْكَ.
فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لَهُ خَيْراً.
جرأته و شجاعته فى الحق
قَدِمَ أَبُو أَيُّوْبَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيْرِ، وَحَادَثَهُ، وَقَالَ:
يَا أَبَا أَيُّوْبَ، مَنْ قَتَلَ صَاحِبَ الفَرَسِ البَلْقَاءِ الَّتِي جَعَلَتْ تَجُوْلُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا؟
قَالَ: أَنَا؛ إِذْ أَنْتَ وَأَبُوْكَ عَلَى الجَمَلِ الأَحْمَرِ مَعَكُمَا لِوَاءُ الكُفْرِ.
فَنَكَّسَ مُعَاوِيَةُ، وَتَنَمَّرَ أَهْلُ الشَّامِ، وَتَكَلَّمُوا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَهْ! وَقَالَ: مَا نَحْنُ عَنْ هَذَا سَأَلْنَاكَ.
دَخَلَ أَبُو أَيُّوْبَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّكُم سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا).
فَبَلَغَتْ مُعَاوِيَةَ، فَصَدَّقَهُ، فَقَالَ: مَا أَجْرَأَهُ! لاَ أُكَلِّمُهُ أَبَداً، وَلاَ يُؤْوِيْنِي وَإِيَّاهُ سَقْفٌ.
وَخَرَجَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الغَزْوِ
وفاته
مَرِض أبو أيوب الأنصارى َ؛ فَعَادَهُ يَزِيْدُ بنُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ عَلَى الجَيْشِ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، إِذَا أَنَا مِتُّ، فَارْكَبْ بِي، ثُمَّ تَبَيَّغْ بِي فِي أَرْضِ العَدُوِّ مَا وَجَدْتَ مَسَاغاً؛ فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغاً، فَادْفِنِّي، ثُمَّ ارْجِعْ.
فَلَمَّا مَاتَ رَكِبَ بِهِ، ثُمَّ سَارَ بِهِ، ثُمَّ دَفَنَهُ.
وَكَانَ يَقُوْلُ: قَالَ اللهُ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} لاَ أَجِدُنِي إِلاَّ خَفِيْفاً أَوْ ثَقِيْلاً.
عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، قَالَ:
أَغْزَى أَبُو أَيُّوْبَ، فَمَرِضَ، فَقَالَ: إِذَا مِتُّ، فَاحْمِلُوْنِي، فَإِذَا صَافَفْتُمُ العَدُوَّ، فَارْمُوْنِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: (مَنْ مَاتَ لاَ يُشرِكُ بِاللهِ شَيْئاً، دَخَلَ الجَنَّةَ).
تُوُفِّيَ عَامَ غَزَا يَزِيْدُ فِي خِلاَفَةِ أَبِيْهِ القُسْطَنْطِيْنِيَّة وَصَلَّى عَلَيْهِ يَزِيْدُ، وَدُفِنَ بِأَصْلِ حِصْنِ القُسْطِنْطِيْنِيَّةِ ( السير )
ــــــــــــــ(1/149)
آيات يخطئ فهمها الكثيرون
إن القرآن العظيم هو مصدر الهداية والنور، يهدي الله به من شاء من عباده، وقد أمرنا الله بتدبره والتأمل في آياته، ويسر لنا الادكار به حيث جعله سهلاً ميسراً تفهمه العقول ويلامس شغاف القلوب، ولكن التدبر والتأمل للقرآن ومعرفة أحكامه وحكمه لا بد لها من ضوابط من الشريعة، وفي هذا الدرس يتطرق الشيخ لبعض الآيات التي يخطئ فهمها الكثير من الناس.
أهمية تدبر القرآن
الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المجتمع الذي نسأل الله أن يكون من مجتمعات الخير ومغفرة الذنوب، وأن يتجاوز الله عنا وعنكم التقصير والغفلة، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة إن شاء الله تعالى، موضوع حساسٌ وخطيرٌ في نفس الوقت، لأنه يتعلق -أيها الإخوة- بأغلى شيء عند الإنسان المسلم، أغلى ما يملكه الإنسان المسلم في هذه الحياة، وأعز شيء عنده، بل هو دليله ونوره الذي لا يستطيع السير بدونه، ألا وهو القرآن. وسيكون محور الكلام في هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه متعلق بهذا القرآن العظيم الذي هو مصدر الهداية وإشعاع النور الذي يهدي الله تعالى به من شاء من عباده. أيها الإخوة: إن الله عز وجل أمر بتدبر القرآن، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد:24] دعوة للتدبر، أفلا يتدبرون القرآن أم أن القلوب مقفلة؟! أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فالناس قلوبهم غفلت عن ذكر الله وعن القرآن، وصار عليها أقفال غليظة من الغفلة والإعراض، فهي لا تنفتح مطلقاً لهذا النور الرباني، والذكر العظيم الذي أنزله الله تعالى، والله عز وجل من رحمته بالمسلمين أنه يسر هذا الذكر للادكار لمن يريد أن يدكر ويتذكر، فقال الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:40] أي: هل من مدكر يريد أن يتذكر؟ أيها الإخوة: إن القرآن ليس صعباً بحيث لا تفهمه العقول ولا تدركه النفوس، كلا. إنه سهلٌ ميسرٌ لمن أراد الله تعالى به الخير، ولذلك كثيرٌ من الناس يفتحون القرآن يريدون أن يفهموا ماذا يحوي، ولكن بسبب الغفلة والجهل المسيطر على أفئدتهم وعقولهم، فإنهم لا يلبثون أن يقفلوا هذا الكتاب، لأنهم لا يعون ما يقرءون، أما من وفقه الله تعالى وقذف في قلبه النور والهداية -نسأل الله أن نكون منهم- فإنهم لا يجدون المشقة، ولا يجدون المستحيل والمعوقات وهم يقرءون كتاب الله لكي يتذكروا ما فيه ويفقهوا معناه. أيها الإخوة: إن التدبر والتأمل في القرآن وإرادة معرفة المعاني وما اشتمل عليه من الفوائد والحكم والأحكام مسألة لابد لها من ضوابط من الشريعة الإسلامية، وإلا فإن الإنسان المسلم ينحرف بدونها. ولذلك كان من أسباب ضلال أهل الكتاب ممن كانوا قبلنا أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، والله عز وجل عنفهم على هذا وأنبهم تأنيباً شديداً فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] وقال الله عز وجل أيضاً: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:90-91] مفرقة، فآمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر، جعلوه عضين، مقسماً ومجزأ إلى أجزاء، فما وافق هواهم آمنوا به واتبعوه، وما كان مصادماً لأهوائهم وشهواتهم أعرضوا عنه وأغفلوه، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يأخذون هذا القرآن بقوة، ويعرفون معناه، ويطلبون المعنى الذي أراده الله عز وجل، يريدون أن يعرفوا المعنى حتى لا يصبحوا كمن كان قبلهم من أهل الكتاب. وكذلك كان السلف رحمهم الله في غاية الدقة، والحرص، وفي غاية التحرج وهم يفسرون هذه الآيات، والعلماء الواحد منهم يعلم أنه لو قال برأيه في القرآن فأصاب فقد أخطأ، فكان أحدهم عندما يفسر القرآن يعلم تماماً أنه إذا خاض في آية ليس عنده علم بها أنه سيأثم حتى وإن كان ما قاله صواباً، ولذلك قال ابن كثير رحمه الله معلقاً: أي أخطأ؛ لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكنه قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه. ليس عنده العدة التي يفسر بها حتى وإن كان كلامه صحيحاً، فهو آثم؛ لأن القرآن لا يصح لأحدٍ أن يخوض في تفسيره وتبيان المراد منه بغير علم وبغير أدلة. ولذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: [أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!]. وكان ابن أبي مليكة -من كبار علماء السلف - يقول: سئل ابن عباس عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها -لو أحد سئل فيها الآن لأفتى وقال فيها- فأبى أن يقول فيها. أبى ابن عباس ، و ابن عباس هو الحبر البحر، إمام أهل السنة في التفسير قاطبةً، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا الله عز وجل أن يعلمه التأويل، فعلمه الله عز وجل أشياء كثيرة، فلما جاء عند آية لم يعرف معناها، رفض أن يتكلم فيها!......
العلوم التي يحتاجها المفسر
وكذلك- أيها الإخوة- لو أردنا أن نسرد شيئاً من أطراف العلم، أو شيئاً من أنواع العلم التي يحتاج إليها المفسر، لوجدنا علماءنا قد نقلوا أشياء كثيرة، فمنها ما نقله الذهبي المتأخر رحمه الله تعالى المتأخر في كتابه التفسير والمفسرون ، قال: العلوم التي يحتاج إليها المفسر كثيرة منها: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق، وعلم البلاغة بأنواعه الثلاثة: البيان والبديع والمعاني، وعلم القراءات، وعلم العقيدة، وعلم أصول الفقه، وعلم أسباب النزول، وعلم القصص والتاريخ، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأحاديث المبينة لمجمل القرآن ومبهمه. فإذاً المفسر شأنه عظيم، ليس أي واحد يشتغل بالتفسير، نحن المسلمين ماذا نفعل الآن؟ نحن نقرأ هذا القرآن مفسراً بأقوال علماء السلف، هذا القرآن أنزل نعم، ومن هذا القرآن ما يفهمه العامة كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هل هناك أحد لا يفهمها؟ لا. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ماذا تعني لكن اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] قد نحتاج في فهم كلمة ( الصمد ) إلى الرجوع لأقوال المفسرين والعلماء: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ما المقصود بالفلق؟ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] ما هو ( الغاسق إذا وقب )؟ هذه الآيات التي يرددها كثير من المسلمين في صلواتهم بدون معرفة لمعناها، كم شخص الآن من الذين يقرءون هذه الآية: غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] يعرف ما معناها؟ قلة. أيها الإخوة: لا بد من الرجوع إلى أقوال العلماء في التفسير، وإلا لضللنا ضلالاً بعيداً بدون أقوال علماء التفسير، ولا يمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام في فهم القرآن. أيها الإخوة: هناك علماء عندهم العدة فهم يفسرون، وهناك أناسٌ من طلبة العلم ومن عامة الناس الذين أراد الله تعالى بهم الخير يقرءون القرآن وتفسيره على ضوء أقوال علماء المسلمين المتخصصين في هذا المجال. إذاً: لا بد أن يفتح المسلم قلبه لهذا القرآن، وأن يعي معناه، وأن يتعلم تفسيره حتى يستطيع أن يسير على نور من ربه. أيها الإخوة: لابد أن يدخل المسلم منا عالم القرآن الكريم بدون مقررات سابقة، وبدون مؤثرات سابقة، وبدون فلسفات وثقافات سابقة، لا بد أن يدخل المسلم ساحة القرآن الكريم وصدره خالٍ من أي شيء سابق؛ حتى يشكل القرآن خلفية هذا المسلم ويكون له فكره، ويكون القرآن هو الذي ينشئ معرفة المسلم، وثقافته وقيمه وموازينه ومعاييره، وإلا فإن الأمور ستضطرب. ومن الأمثلة على هذا: هؤلاء الناس الذين ضلوا من قبلنا ودخلوا عالم القرآن وعندهم قواعد فلسفية من علم الكلام والمنطق وما شابه ذلك، فنزلوا آيات الله على أشياء لم يردها الله عز وجل، وضلوا ضلالاً بعيداً.......
أسباب الضلال في فهم القرآن
إذا أردنا أن نستعرض معكم جزءاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنها- أيها الإخوة- ترجع إلى عوامل كثيرة منها:......
الزيغ في العقيدة
الزيغ في العقيدة، فالإنسان إذا كانت عقيدته منحرفة ودخل في فهم القرآن، فإنه لا بد أن يضل في القرآن، ولذلك تجد طوائف كثيرة ممن انتسبوا إلى الإسلام عندما دخلوا في القرآن وعندهم قواعد سابقة من الضلال في العقيدة، انحرفوا انحرافاً كبيراً، ولا أدل على ذلك من استدلال كافة الفرق المنحرفة لصحة مذاهبهم بالقرآن، حتى ولو كانت استدلالات مضحكة، هؤلاء المعتزلة يستدلون على صحة مذهبهم بأن إبراهيم قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] قالوا: بما أن إبراهيم اعتزل إذاً الاعتزال هو الصحيح، ومذهب المعتزلة هو الحق، وهؤلاء الرافضة وغيرهم من الفرق المنحرفة عندما دخلوا في القرآن بقواعدهم الفاسدة، أفرزوا إفرازات غريبة عن المنهج الإسلامي. الزيغ في العقيدة، فالإنسان إذا كانت عقيدته منحرفة ودخل في فهم القرآن، فإنه لا بد أن يضل في القرآن، ولذلك تجد طوائف كثيرة ممن انتسبوا إلى الإسلام عندما دخلوا في القرآن وعندهم قواعد سابقة من الضلال في العقيدة، انحرفوا انحرافاً كبيراً، ولا أدل على ذلك من استدلال كافة الفرق المنحرفة لصحة مذاهبهم بالقرآن، حتى ولو كانت استدلالات مضحكة، هؤلاء المعتزلة يستدلون على صحة مذهبهم بأن إبراهيم قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] قالوا: بما أن إبراهيم اعتزل إذاً الاعتزال هو الصحيح، ومذهب المعتزلة هو الحق، وهؤلاء الرافضة وغيرهم من الفرق المنحرفة عندما دخلوا في القرآن بقواعدهم الفاسدة، أفرزوا إفرازات غريبة عن المنهج الإسلامي.
اتباع الهوى
وإذا أردت سبباً آخر من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنه: اتباع الهوى: اتباع الهوى بكافة فروعه وأنواعه، فمن الناس من يكون اتباعهم للهوى في فهمهم للقرآن ناتجاً عن التهجم على كتاب الله والجرأة عليه بغير علم، كل واحد يظن نفسه أنه سيفتي ويفهم القرآن على كيفه، ويقول: أنا أفهم، وأنا مجتهد، وهكذا يدخل ويفسر يميناً ويساراً، وتجد التخبط الشديد في هذا الجانب، وأمثلة كثيرة في هذا المجال لعل الوقت يتسع لذكر بعضها، ومنهم من يحمله الهوى على محاولة تبرير أخطائه هو لتشهد الآيات عليها، يعني: هو إنسان مخطئ ومذنب ومقصر، فيأتي إلى القرآن يبحث عن آيات يحملها على محمل لكي تبرئه وتظهره أمام الناس بأنه إنسان مستقيم وغير مخطئ، ولا مقصر- كما سيمر معنا أمثلة من هذا. وإذا أردت سبباً آخر من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنه: اتباع الهوى: اتباع الهوى بكافة فروعه وأنواعه، فمن الناس من يكون اتباعهم للهوى في فهمهم للقرآن ناتجاً عن التهجم على كتاب الله والجرأة عليه بغير علم، كل واحد يظن نفسه أنه سيفتي ويفهم القرآن على كيفه، ويقول: أنا أفهم، وأنا مجتهد، وهكذا يدخل ويفسر يميناً ويساراً، وتجد التخبط الشديد في هذا الجانب، وأمثلة كثيرة في هذا المجال لعل الوقت يتسع لذكر بعضها، ومنهم من يحمله الهوى على محاولة تبرير أخطائه هو لتشهد الآيات عليها، يعني: هو إنسان مخطئ ومذنب ومقصر، فيأتي إلى القرآن يبحث عن آيات يحملها على محمل لكي تبرئه وتظهره أمام الناس بأنه إنسان مستقيم وغير مخطئ، ولا مقصر- كما سيمر معنا أمثلة من هذا.
أخذ بعض القرآن وترك بعضه
كذلك- أيها الإخوة- من أسباب الضلال في فهم القرآن: أخذ بعضه وترك بعضه، وكما ذكرنا قبل قليل أن أحدهم يأخذ آية ويترك آيات. وإذا ما جمعنا النصوص من مذهب أهل السنة والجماعة عن طريقتهم في فهم القرآن والسنة تجد العالم النحرير عندما يطرق موضوعاً لا يأتي له بآية واحدة إلا إذا لم يكن يوجد غيرها في هذا الباب، أو حديث واحد، ولكنه يجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب، لأن الآية ربما تتكلم عن جانب من الجوانب، ولا تتكلم عن جانب آخر، أو آية تتكلم مثلاً عن فترة معينة نزلت، ثم نسخت بآية أخرى، فيكون الاستدلال بالآية الأولى المنسوخة فيه ضلال، لأن هذا الرجل لم يجمع الآيات في الباب الواحد، فيكون فعله مثل الذي يأخذ قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ويسكت عن الباقي ويفعل كما فعل أبو نواس عندما قال:
ما قال ربك ويلٌ للألى سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينَ
ما قال الله ويلٌ للذين يسكرون، وإنما قال: ويل للمصلين، يعني: نحن لا نصلي ونسكر!! فإذاً- أيها الإخوة- أخذ بعض الكتاب وترك بعضه من أسباب الانحراف والزيغ الذي وقع فيه كثير من الطوائف السابقة واللاحقة.كذلك- أيها الإخوة- من أسباب الضلال في فهم القرآن: أخذ بعضه وترك بعضه، وكما ذكرنا قبل قليل أن أحدهم يأخذ آية ويترك آيات. وإذا ما جمعنا النصوص من مذهب أهل السنة والجماعة عن طريقتهم في فهم القرآن والسنة تجد العالم النحرير عندما يطرق موضوعاً لا يأتي له بآية واحدة إلا إذا لم يكن يوجد غيرها في هذا الباب، أو حديث واحد، ولكنه يجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب، لأن الآية ربما تتكلم عن جانب من الجوانب، ولا تتكلم عن جانب آخر، أو آية تتكلم مثلاً عن فترة معينة نزلت، ثم نسخت بآية أخرى، فيكون الاستدلال بالآية الأولى المنسوخة فيه ضلال، لأن هذا الرجل لم يجمع الآيات في الباب الواحد، فيكون فعله مثل الذي يأخذ قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ويسكت عن الباقي ويفعل كما فعل أبو نواس عندما قال:
ما قال ربك ويلٌ للألى سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينَ
ما قال الله ويلٌ للذين يسكرون، وإنما قال: ويل للمصلين، يعني: نحن لا نصلي ونسكر!! فإذاً- أيها الإخوة- أخذ بعض الكتاب وترك بعضه من أسباب الانحراف والزيغ الذي وقع فيه كثير من الطوائف السابقة واللاحقة.
الهزيمة النفسية أمام الغرب الكافر
كذلك: الهزيمة النفسية أمام الغرب، من العوامل التي تحمل بعض المسلمين على الدخول والخوض في القرآن ونفسيتهم متصفة بالهزيمة أمام الكفار، أمام الغربيين وغيرهم، فيأخذ يستنتج من القرآن كل شيء، يريد أن يثبت للناس أن القرآن فيه كل شيء، وأنه سبق الأمم في العلوم، وأن فيه جميع أنواع العلوم ...إلخ، كما فعل طنطاوي جوهري وغيره من الذين انحرفوا في هذا المجال. فهذا أيضاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، و الشاطبي رحمه الله بين في كتابه الموافقات قواعد عظيمة للاستنباط والفهم واستخراج الأحكام وكذلك في كتاب الاعتصام أيضاً، وينبغي لمن أراد التوسع في هذا المجال أن يرجع إلى هذه الكتب.كذلك: الهزيمة النفسية أمام الغرب، من العوامل التي تحمل بعض المسلمين على الدخول والخوض في القرآن ونفسيتهم متصفة بالهزيمة أمام الكفار، أمام الغربيين وغيرهم، فيأخذ يستنتج من القرآن كل شيء، يريد أن يثبت للناس أن القرآن فيه كل شيء، وأنه سبق الأمم في العلوم، وأن فيه جميع أنواع العلوم ...إلخ، كما فعل طنطاوي جوهري وغيره من الذين انحرفوا في هذا المجال. فهذا أيضاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، و الشاطبي رحمه الله بين في كتابه الموافقات قواعد عظيمة للاستنباط والفهم واستخراج الأحكام وكذلك في كتاب الاعتصام أيضاً، وينبغي لمن أراد التوسع في هذا المجال أن يرجع إلى هذه الكتب.
أمثلة على الفهم الخاطئ المؤدي إلى العمل الخاطئ
واعلموا -أيها الإخوة- أن عدم الفهم الصحيح يؤثر على التطبيق تأثيراً مباشراً، إذ أن الخطأ في الفهم يقود إلى الخطأ في التطبيق. لماذا نحن الآن نركز على مسألة كيف يفهم القرآن فهماً صحيحاً؟ ونحن الآن لم نتوسع فيها وما ذكرنا جوانبها المتشعبة، بل ذكرنا لمحة بسيطة، لكن ما هي أهمية الموضوع؟ الذي لا يفهم القرآن فهماً صحيحاً لا يطبق تطبيقاً صحيحاً، وينعكس فهمه الخاطئ إلى فهمه العملي انعكاساً مباشراً، فتنتج هذه الانحرافات والخرافات في الفهم والتصور والعمل والتطبيق.......
قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...)(1/150)
فإذا أردنا مثالاً فلنأخذ بعض الأمثلة على آيات يخطئ في فهمها الكثير من الناس، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] ماذا يفهم الآن كثيرٌ من المسلمين من هذه الآية؟ إن هذه الآية أيها الإخوة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] صارت معتمداً للكسالى والقاعدين والمقصرين في باب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتبرها هؤلاء الناس عذراً لهم في القعود عن القيام بواجب التبليغ والدعوة إلى الله، وقال كل إنسان منهم: عليك نفسك، لأن الله قال: عليكم أنفسكم، عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، ما دام أنك تطبق الشرع ما عليك من الناس، هكذا يفهم من هذه الآية. فعند هؤلاء المنحرفين هذه الآية تجيز لكل مسلم في مفهومهم أن يلتزم بالطاعة هو، وأن يبتعد عن المحرمات هو، وأنه إذا فعل هذا، فقد أدى الواجب الذي عليه، وأن الله لا يريد منه أكثر من هذا، وأنه ليس عليه أن يدعو الآخرين، ولا أن يدلهم ويهديهم هداية الإرشاد والدلالة، وأن كون المجتمع فاسداً والناس منحرفين لا يضر، لأن الله يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] هكذا يفهمون. أما إذا جئت معي إلى المفهوم الصحيح الذي ذكره علماؤنا في تفسير هذه الآية، فإنك ستجد الأمر مختلفاً تماماً، وستجد عندما ترى الصورة الصحيحة يتبين لك مدى الانحراف الحاصل في فهم هذه الآية عند كثير من المسلمين، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي تفسير ابن كثير -مثلاً- نجد قولين أساسيين في تفسير هذه الآية: فمن العلماء من يقول أن هذه الآية خاصة بظرف معين، أي كما قال بعض علماء السلف: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم يستجب لك، ولم تطع، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. إذا أنت قمت بالواجب، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وما سمع لك الناس، وما استجابوا لك، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وكذلك يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت". إذاً: هذه الآية خاصة بظرف معين وهو إذا كان الناس لا يستجيبون، وصار الوقت وقت فتنة، ويدخل في هذا الأوقات والظروف التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقتصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القلب في بعض الأحيان عندما تشتد الظروف على المسلمين في بعض الأوقات والأحوال، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، إذا فسد الناس وفسد المجتمع، وصار الوضع أن يخرج الإنسان إلى الجبال -كما سيحدث في آخر الزمان- فتكون أحسن أحوال المسلم أن يأخذ قطيعاً من الغنم ويخرج خارج هذا المجتمع، لأنه لم يعد يجد على الخير أعواناً، ولا يمكن أن يبقى، لأنه سينحل ويفسد لو بقي في المجتمع، هذا حال آخر الزمان، وقد يحدث جزءٌ من هذه الحال في بعض الأوقات والأحيان، ولكنها تتغير، لأن الله عز وجل يغير الظروف، ويداول الأيام بين الناس، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فيكون المسلمون في حالة ضعف يعقبها حالة قوة، ثم حالة ضعف، ثم حالة قوة، وأحياناً يكونون في مكان قوة، وفي مكان ضعف في نفس الوقت: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. المعنى الثاني وهو فقه مهم، يقول الله عز وجل: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] هل تتصور -يا أخي المسلم- أن تهتدي ويصير اسمك مهتدياً إذا اهتديت وأنت لا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر، ولا تدعو إلى الله، هل يكون اسمك مهتدياً؟ لا طبعاً. إذا كنت صالحاً في نفسك فقد حققت جزءاً من الهداية، لكنك لم تحقق الهداية كلها، لأنك لا يمكن أن تصير مهتدٍياً تماماً إلا إذا قمت بهذا الواجب العظيم، فعند ذلك نستطيع أن نفهم: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] إذا اهتديتم: سرتم على الهداية بجميع فروعها، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وما عليك إلا نفسك، أنت لا تحاسب إلا عن نفسك: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]. الأمر الثالث: أنه يجب أن نجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب قبل أن نستنبط عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا جمعت الآيات الأخرى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] وإذا اطلعت على هذا الحديث الصحيح عن قيس بن أبي حازم ، قال: (قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))[المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بالعقاب). أيها الإخوة: إن أخذ الموضوع من جميع جوانبه، والاستشهاد بالآيات والأحاديث بعمومها هو الذي ينجي الإنسان من هذه المآزق التي يقع فيها، ولابد أن نقوم بالواجب كاملاً: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] ثم إن هذه الآية لسان حالها يقول لكل مسلم: عليك نفسك أصلحها وأبعدها عن المعاصي، حسناً كيف نبعد النفس عن المعاصي ونحن نترك الناس في الفساد يرتعون ويمرحون كما شاءوا، يعني: هل يمكن أن تصلح نفسك وأهلك الذين أنت مكلفٌ بإصلاحهم والمجتمع من حولك فاسد؟ لا يمكن. إذاً إصلاحك لنفسك ولأهلك يستلزم أن تصلح المجتمع، وتسعى في إصلاح المجتمع؛ لأنك لا يمكن أن تصلح نفسك في بيئة فاسدة، هل أنت تعيش لوحدك في قمة جبل ليس عندك أحد حتى تصلح نفسك بدون مؤثرات خارجية؟ لا يمكن. فإصلاحك لنفسك أيضاً: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] يتطلب ويتضمن أن تسعى في إصلاح البيئة التي من حولك. فهذه الآية -أيها الإخوة- تأمرنا بالعمل في المجال الخاص وهو الإقبال على النفس، وتربية النفس وإصلاحها؛ لتستقيم على طاعة الله، وتبتعد عن معصية الله، وكذلك تأمرنا بأن نعمل في مجال العامة، وهو الإقبال على الآخرين ووعظهم ونصحهم وتذكيرهم بأمر الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.فإذا أردنا مثالاً فلنأخذ بعض الأمثلة على آيات يخطئ في فهمها الكثير من الناس، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] ماذا يفهم الآن كثيرٌ من المسلمين من هذه الآية؟ إن هذه الآية أيها الإخوة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] صارت معتمداً للكسالى والقاعدين والمقصرين في باب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتبرها هؤلاء الناس عذراً لهم في القعود عن القيام بواجب التبليغ والدعوة إلى الله، وقال كل إنسان منهم: عليك نفسك، لأن الله قال: عليكم أنفسكم، عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، ما دام أنك تطبق الشرع ما عليك من الناس، هكذا يفهم من هذه الآية. فعند هؤلاء المنحرفين هذه الآية تجيز لكل مسلم في مفهومهم أن يلتزم بالطاعة هو، وأن يبتعد عن المحرمات هو، وأنه إذا فعل هذا، فقد أدى الواجب الذي عليه، وأن الله لا يريد منه أكثر من هذا، وأنه ليس عليه أن يدعو الآخرين، ولا أن يدلهم ويهديهم هداية الإرشاد والدلالة، وأن كون المجتمع فاسداً والناس منحرفين لا يضر، لأن الله يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] هكذا يفهمون. أما إذا جئت معي إلى المفهوم الصحيح الذي ذكره علماؤنا في تفسير هذه الآية، فإنك ستجد الأمر مختلفاً تماماً، وستجد عندما ترى الصورة الصحيحة يتبين لك مدى الانحراف الحاصل في فهم هذه الآية عند كثير من المسلمين، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي تفسير ابن كثير -مثلاً- نجد قولين أساسيين في تفسير هذه الآية: فمن العلماء من يقول أن هذه الآية خاصة بظرف معين، أي كما قال بعض علماء السلف: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم يستجب لك، ولم تطع، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. إذا أنت قمت بالواجب، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وما سمع لك الناس، وما استجابوا لك، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وكذلك يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت". إذاً: هذه الآية خاصة بظرف معين وهو إذا كان الناس لا يستجيبون، وصار الوقت وقت فتنة، ويدخل في هذا الأوقات والظروف التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقتصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القلب في بعض الأحيان عندما تشتد الظروف على المسلمين في بعض الأوقات والأحوال، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، إذا فسد الناس وفسد المجتمع، وصار الوضع أن يخرج الإنسان إلى الجبال -كما سيحدث في آخر الزمان- فتكون أحسن أحوال المسلم أن يأخذ قطيعاً من الغنم ويخرج خارج هذا المجتمع، لأنه لم يعد يجد على الخير أعواناً، ولا يمكن أن يبقى، لأنه سينحل ويفسد لو بقي في المجتمع، هذا حال آخر الزمان، وقد يحدث جزءٌ من هذه الحال في بعض الأوقات والأحيان، ولكنها تتغير، لأن الله عز وجل يغير الظروف، ويداول الأيام بين الناس، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فيكون المسلمون في حالة ضعف يعقبها حالة قوة، ثم حالة ضعف، ثم حالة قوة، وأحياناً يكونون في مكان قوة، وفي مكان ضعف في نفس الوقت: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. المعنى الثاني وهو فقه مهم، يقول الله عز وجل: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] هل تتصور -يا أخي المسلم- أن تهتدي ويصير اسمك مهتدياً إذا اهتديت وأنت لا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر، ولا تدعو إلى الله، هل يكون اسمك مهتدياً؟ لا طبعاً. إذا كنت صالحاً في نفسك فقد حققت جزءاً من الهداية، لكنك لم تحقق الهداية كلها، لأنك لا يمكن أن تصير مهتدٍياً تماماً إلا إذا قمت بهذا الواجب العظيم، فعند ذلك نستطيع أن نفهم: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] إذا اهتديتم: سرتم على الهداية بجميع فروعها، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وما عليك إلا نفسك، أنت لا تحاسب إلا عن نفسك: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]. الأمر الثالث: أنه يجب أن نجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب قبل أن نستنبط عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا جمعت الآيات الأخرى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] وإذا اطلعت على هذا الحديث الصحيح عن قيس بن أبي حازم ، قال: (قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))[المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بالعقاب). أيها الإخوة: إن أخذ الموضوع من جميع جوانبه، والاستشهاد بالآيات والأحاديث بعمومها هو الذي ينجي الإنسان من هذه المآزق التي يقع فيها، ولابد أن نقوم بالواجب كاملاً: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] ثم إن هذه الآية لسان حالها يقول لكل مسلم: عليك نفسك أصلحها وأبعدها عن المعاصي، حسناً كيف نبعد النفس عن المعاصي ونحن نترك الناس في الفساد يرتعون ويمرحون كما شاءوا، يعني: هل يمكن أن تصلح نفسك وأهلك الذين أنت مكلفٌ بإصلاحهم والمجتمع من حولك فاسد؟ لا يمكن. إذاً إصلاحك لنفسك ولأهلك يستلزم أن تصلح المجتمع، وتسعى في إصلاح المجتمع؛ لأنك لا يمكن أن تصلح نفسك في بيئة فاسدة، هل أنت تعيش لوحدك في قمة جبل ليس عندك أحد حتى تصلح نفسك بدون مؤثرات خارجية؟ لا يمكن. فإصلاحك لنفسك أيضاً: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] يتطلب ويتضمن أن تسعى في إصلاح البيئة التي من حولك. فهذه الآية -أيها الإخوة- تأمرنا بالعمل في المجال الخاص وهو الإقبال على النفس، وتربية النفس وإصلاحها؛ لتستقيم على طاعة الله، وتبتعد عن معصية الله، وكذلك تأمرنا بأن نعمل في مجال العامة، وهو الإقبال على الآخرين ووعظهم ونصحهم وتذكيرهم بأمر الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(1/151)
تعال معي إلى آية أخرى، وانظر كيف يكون سوء الفهم، وعدم الفهم الصحيح للآية قائداً ودليلاً إلى سوء التطبيق -والعياذ بالله- يقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. ماذا يفهم الآن كثير من المسلمين من هذه الآية؟ إنهم يفهمون أن التقصير في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات، والترخص في بعض الأحكام، نأخذ من الرخص مما هب ودب، والتفلت من بعض التكاليف، هذا ليس فيه شيء، لأن الله قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] يعني: إذا استطعت على بعض الأشياء، لا بأس أن تأخذها، وإذا لم تناسب الظروف ولم تساعد الأحوال، لا بأس أن تترك بعض الواجبات، وتتفلت من بعض الأحكام، وإذا وقعت في بعض المنكرات، فلا بأس أيضاً وهكذا، ويبرر هؤلاء الناس حالهم بهذه الآية، فيقولون: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. كثير من الناس تناقشه في الواقع الفاسد، يقول: يا أخي! فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وهذه استطاعتي. إذاً: عندما تأتي لتفهم هذه الآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] إنها تعني -يا أخي المسلم- كما يقول ابن كثير رحمه الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] يعني: بحسب وسعكم وطاقتكم. انظر! الفرق في الفهم عندما تفهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وعندما تفهم اتق الله ما استطعت، يعني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً اتق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) على قدر الاستطاعة، ما استطعت إلى تنفيذ هذا الأمر سبيلاً، طبق والتزم ما استطعت، وليس معنى ما استطعت هنا أي: كم في المائة تطبق لا بأس، لا. ما استطعت، يعني: على قدر كل استطاعتك، كل قدراتك، تتقي الله عز وجل، لا تفرط ولا بشيء من استطاعتك في طاعة الله مطلقاً. وإذا تذكرنا الآية الأخرى وهي قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] كيف يتقي الإنسان حق التقوى إلا إذا اتقى الله بقدر استطاعته وقدر جهده؟! كل ما عندك من جهد، وكل ما عندك من إمكانيات واستطاعات اتق الله عز وجل، فهذا يحمينا من الانحراف الذي يقع فيه كثير من المسلمين في فهمهم القاصر لهذه الآية مما يترتب عليه تفاوتهم في الالتزام بالإسلام؛ لأن كل واحد يقول: هذه استطاعتي، الثاني يقول: لا. أنا أقدر، وكلهم يستطيعون، لكن كل واحد يأخذ على حسب هواه. فيتفاوت التزامهم بالإسلام نتيجةً لفهمهم الخاطئ لهذه الآية وغيرها، فيقدم كل منهم صورة مختلفة عن الإسلام، ويتحول الإسلام عملياً إلى إسلامات، لأن كل واحد يعمل على قدر فهمه، يعني: على حسب الظروف، ويتحول الإسلام في واقعه العملي إلى صورة مشوهة جداً، كل واحد يفعل على مزاجه، ويطبق على مزاجه، ويقول في النهاية: هذه استطاعتي، ثم يزعمون أنهم على الحق، وأن القرآن يشهد لفعلهم. كذلك -أيها الإخوة- ليس الشخص هو الذي يحدد مقدار استطاعته، وإنما الشرع هو الذي يحدد لك مقدار استطاعتك، فإذا فرض الله عليك الصلاة، معناها أنك تستطيع أن تصلي في الظروف العادية غير الحالات الطارئة، وإذا فرض الله عليك الزكاة وأنت عندك مال، يعني: باستطاعتك أنك تزكي مادام عندك مال، ... وهكذا. فالشرع هو الذي يحدد الاستطاعات العامة، ولكن في نفس الوقت هناك أناس معذورون لأعذار قاهرة، هؤلاء أعذارهم بينها الشرع الحنيف، ولم يترك شيئاً إلا وبينه. وكذلك نفس الموضوع هذا عندما تكلم الكثير من الناس عن واقع المنكرات التي يعيشونها ويحيون فيها، يقولون لك: يا أخي! لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] تقول: يا أخي! هذا العمل وهذه الوظيفة لا تجوز، هذا الراتب الذي تأخذه من هذه الوظيفة حرام؛ لأن عملك هذا فيه منكر، أنت تعمل في منكر، يقول: يا أخي! أين أحصل على غيره؟ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. فتجده يحتج بهذه الآية على تقصيره وإهماله وتفريطه في حق الله عز وجل. وعندما تأتي معي إلى سبب نزول هذه الآية ينجلي عنك الإشكال والغموض واللبس تماماً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (لما نزلت على رسول الله (( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ...))[البقرة:284] إلى آخر الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق -الصلاة والصيام والزكاة والصدقة، ما عندنا في ذلك إشكال- وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -يعني: (( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ))[البقرة:284] سواءً أسررته، أو أعلنته يحاسبكم به الله- فقالوا: يا رسول الله! أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -في نوع من الجرأة كان في كلامهم رضي الله عنهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين -اليهود والنصارى- سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا) ما دام أن الله أنزل عليكم هكذا، قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، واسألوا الله المغفرة على هذا التقصير الذي يحصل منكم، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ثم انظر إلى العبارة التي ستأتي الآن، وقد عبر عنها الراوي بعبارة دقيقة وجميلة جداً، يقول: ( فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] وأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ) نزل التخفيف، كان من أول: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] سواءً أظهرت النية السيئة، أم لم تظهرها، ما دام أنها جاءت في نفسك، سيحاسبك الله عز وجل عليها، ويسجل عليك سيئات، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، استسلموا لأمر الله، قالوا: ما دام أنها نزلت من عند الله، سمعنا وأطعنا. انظروا -أيها الإخوة- كيف إن الله عز وجل يكافئ المطيع على طاعته، فلما أطاع الصحابة الله عز وجل، نزل التخفيف، فقال في الآية: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: نعم. لا يؤاخذهم إن نسوا، أو أخطئوا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال: نعم. رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] قال: نعم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال: نعم. فنزلت الرخصة، ونزل التخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب طاعتهم لله عز وجل. وهذا -أيها الإخوة- من فضل الصحابة، وهذا التصرف كان سبباً في نزول التخفيف، وصارت الآن القضية لو جاء في نفسك خاطر سوء، لكنك لم تنفذه فلا تعاقب عليه بعد التخفيف بل: (من هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله له حسنة). انظر! التخفيف، كانت القضية من أول: لو جاء في نفسك خاطر سوء، تأثم ولو لم تفعله، وصارت المسألة بعد ذلك -في التخفيف- لما اقترأها الصحابة وذلت بها ألسنتهم إذا همت نفسك بالسيئة وهممت بها ولم تعملها يكافئك الله عز وجل بالحسنات، لأنك ابتعدت وتركت المنكر والسيئة لأجل الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.تعال معي إلى آية أخرى، وانظر كيف يكون سوء الفهم، وعدم الفهم الصحيح للآية قائداً ودليلاً إلى سوء التطبيق -والعياذ بالله- يقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. ماذا يفهم الآن كثير من المسلمين من هذه الآية؟ إنهم يفهمون أن التقصير في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات، والترخص في بعض الأحكام، نأخذ من الرخص مما هب ودب، والتفلت من بعض التكاليف، هذا ليس فيه شيء، لأن الله قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] يعني: إذا استطعت على بعض الأشياء، لا بأس أن تأخذها، وإذا لم تناسب الظروف ولم تساعد الأحوال، لا بأس أن تترك بعض الواجبات، وتتفلت من بعض الأحكام، وإذا وقعت في بعض المنكرات، فلا بأس أيضاً وهكذا، ويبرر هؤلاء الناس حالهم بهذه الآية، فيقولون: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. كثير من الناس تناقشه في الواقع الفاسد، يقول: يا أخي! فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وهذه استطاعتي. إذاً: عندما تأتي لتفهم هذه الآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] إنها تعني -يا أخي المسلم- كما يقول ابن كثير رحمه الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] يعني: بحسب وسعكم وطاقتكم. انظر! الفرق في الفهم عندما تفهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وعندما تفهم اتق الله ما استطعت، يعني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً اتق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) على قدر الاستطاعة، ما استطعت إلى تنفيذ هذا الأمر سبيلاً، طبق والتزم ما استطعت، وليس معنى ما استطعت هنا أي: كم في المائة تطبق لا بأس، لا. ما استطعت، يعني: على قدر كل استطاعتك، كل قدراتك، تتقي الله عز وجل، لا تفرط ولا بشيء من استطاعتك في طاعة الله مطلقاً. وإذا تذكرنا الآية الأخرى وهي قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] كيف يتقي الإنسان حق التقوى إلا إذا اتقى الله بقدر استطاعته وقدر جهده؟! كل ما عندك من جهد، وكل ما عندك من إمكانيات واستطاعات اتق الله عز وجل، فهذا يحمينا من الانحراف الذي يقع فيه كثير من المسلمين في فهمهم القاصر لهذه الآية مما يترتب عليه تفاوتهم في الالتزام بالإسلام؛ لأن كل واحد يقول: هذه استطاعتي، الثاني يقول: لا. أنا أقدر، وكلهم يستطيعون، لكن كل واحد يأخذ على حسب هواه. فيتفاوت التزامهم بالإسلام نتيجةً لفهمهم الخاطئ لهذه الآية وغيرها، فيقدم كل منهم صورة مختلفة عن الإسلام، ويتحول الإسلام عملياً إلى إسلامات، لأن كل واحد يعمل على قدر فهمه، يعني: على حسب الظروف، ويتحول الإسلام في واقعه العملي إلى صورة مشوهة جداً، كل واحد يفعل على مزاجه، ويطبق على مزاجه، ويقول في النهاية: هذه استطاعتي، ثم يزعمون أنهم على الحق، وأن القرآن يشهد لفعلهم. كذلك -أيها الإخوة- ليس الشخص هو الذي يحدد مقدار استطاعته، وإنما الشرع هو الذي يحدد لك مقدار استطاعتك، فإذا فرض الله عليك الصلاة، معناها أنك تستطيع أن تصلي في الظروف العادية غير الحالات الطارئة، وإذا فرض الله عليك الزكاة وأنت عندك مال، يعني: باستطاعتك أنك تزكي مادام عندك مال، ... وهكذا. فالشرع هو الذي يحدد الاستطاعات العامة، ولكن في نفس الوقت هناك أناس معذورون لأعذار قاهرة، هؤلاء أعذارهم بينها الشرع الحنيف، ولم يترك شيئاً إلا وبينه. وكذلك نفس الموضوع هذا عندما تكلم الكثير من الناس عن واقع المنكرات التي يعيشونها ويحيون فيها، يقولون لك: يا أخي! لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] تقول: يا أخي! هذا العمل وهذه الوظيفة لا تجوز، هذا الراتب الذي تأخذه من هذه الوظيفة حرام؛ لأن عملك هذا فيه منكر، أنت تعمل في منكر، يقول: يا أخي! أين أحصل على غيره؟ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. فتجده يحتج بهذه الآية على تقصيره وإهماله وتفريطه في حق الله عز وجل. وعندما تأتي معي إلى سبب نزول هذه الآية ينجلي عنك الإشكال والغموض واللبس تماماً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (لما نزلت على رسول الله (( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ...))[البقرة:284] إلى آخر الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق -الصلاة والصيام والزكاة والصدقة، ما عندنا في ذلك إشكال- وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -يعني: (( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ))[البقرة:284] سواءً أسررته، أو أعلنته يحاسبكم به الله- فقالوا: يا رسول الله! أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -في نوع من الجرأة كان في كلامهم رضي الله عنهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين -اليهود والنصارى- سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا) ما دام أن الله أنزل عليكم هكذا، قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، واسألوا الله المغفرة على هذا التقصير الذي يحصل منكم، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ثم انظر إلى العبارة التي ستأتي الآن، وقد عبر عنها الراوي بعبارة دقيقة وجميلة جداً، يقول: ( فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] وأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ) نزل التخفيف، كان من أول: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] سواءً أظهرت النية السيئة، أم لم تظهرها، ما دام أنها جاءت في نفسك، سيحاسبك الله عز وجل عليها، ويسجل عليك سيئات، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، استسلموا لأمر الله، قالوا: ما دام أنها نزلت من عند الله، سمعنا وأطعنا. انظروا -أيها الإخوة- كيف إن الله عز وجل يكافئ المطيع على طاعته، فلما أطاع الصحابة الله عز وجل، نزل التخفيف، فقال في الآية: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: نعم. لا يؤاخذهم إن نسوا، أو أخطئوا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال: نعم. رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] قال: نعم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال: نعم. فنزلت الرخصة، ونزل التخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب طاعتهم لله عز وجل. وهذا -أيها الإخوة- من فضل الصحابة، وهذا التصرف كان سبباً في نزول التخفيف، وصارت الآن القضية لو جاء في نفسك خاطر سوء، لكنك لم تنفذه فلا تعاقب عليه بعد التخفيف بل: (من هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله له حسنة). انظر! التخفيف، كانت القضية من أول: لو جاء في نفسك خاطر سوء، تأثم ولو لم تفعله، وصارت المسألة بعد ذلك -في التخفيف- لما اقترأها الصحابة وذلت بها ألسنتهم إذا همت نفسك بالسيئة وهممت بها ولم تعملها يكافئك الله عز وجل بالحسنات، لأنك ابتعدت وتركت المنكر والسيئة لأجل الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(1/152)
كذلك عندما تأتي معي إلى آية أخرى، يقول الله عز وجل: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] يؤخذ هذا الشطر من الآية اليوم عند المسلمين وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فإذا رأوا مجاهداً في سبيل الله يخوض غمار الحروب، قالوا: ألقى بنفسه في التهلكة، مجاهد يذهب في سبيل الله ويشق صفوف العدو، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهكذا في الدخول في غمار الأجواء التي ترضي الله عز وجل، ويكون فيها خطر على النفس، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولم يعرفوا كيف نزلت هذه الآية، ومعرفة سبب النزول يقود إلى أخذ الفكرة الصحيحة المطلوبة من هذه الآية. هذه الآية -أيها الإخوة- نزلت كما روى الترمذي رحمه الله بإسناد صحيح يقول الراوي: (كنا في حرب مع الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن نافع ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين -شخص واحد فقط- على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أيها الناس! إنكم تأولون هذه التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها) الصحابة قالوا في فترة من الفترات بعد فتح مكة ، أو بعد ما انتشر الإسلام، قال هؤلاء الصحابة في أنفسهم: الآن الحمد لله انتشر الإسلام، وكثر المناصرون للإسلام، وأموالنا نحن في غمار الجهاد والتضحيات السابقة تلفت، وصار الواحد منا ليس عنده ما ينفق على نفسه، ليس عنده أموال ولا زرع، وما عنده بيوت، فالآن الحمد لله الدنيا صارت بخير وانتشر الإسلام، صار في مركز قوة، فنلتفت نحن إلى أموالنا فنصلحها، وهذا الكلام سر فيما بينهم، وهذه خاطرة يعني: قد تكون طبيعية في هذا الجو، أناس تعبوا وجاهدوا وقاتلوا وضحوا سنوات طويلة جداً حتى انتشر الإسلام، فجاء في أنفسهم هذا الخاطر، لو الآن أقمنا والتفتنا إلى أحوالنا، فأصلحناها. فهنا -أيها الإخوة- ينزل الله هذه الآية العظيمة لكي يربي المسلمين على مبادئ كبيرة جداً، فيقول الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فيقول الصحابي رضي الله عنه: (وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سيبل الله حتى دفن في أرض الروم). أيها الإخوة: انظروا كيف إن المسلمين يستدلون بها على أي شيء، وهي نزلت في أية مناسبة؟ فرق كبير جداً، فالآية لا تتخيل، ولا تتصور إلا بعد أن تعرف سبب النزول فإذا عرفت سبب النزول، فهمت أن الله يريد أن يربي المسلمين على الاستمرارية في التضحية، لا تقول: أنا جاهدت ودعوت عشر سنوات، عشرين سنة، دعني الآن أشتغل في التجارة، وأتفرغ لنفسي وأحوالي المعيشية، والحمد لله الآن الدعاة كثروا، بعض الناس عندهم هذا المفهوم، يقول: الحمد الله الآن الدعاة كثروا، والإسلام بخير، والصحوة الإسلامية منتشرة، وأنا لي الآن فترة طويلة أدعو وأضحي، فدعني الآن ألتفت إلى تجارتي ومعيشتي أنشغل بها فيما بقي من عمري، وأصلح أحوالي وأحوال أسرتي. هذه الحالة منافية للحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم. فالإنسان المسلم -أيها الإخوة- داعية ومجاهد على طول الخط، وفي طول الطريق يبقى مضحياً في سبيل الله، ويبقى عطاؤه وإنفاقه مستمراً في سبيل الله لا يتركه لحظة واحدة، ومتى ما ترك ذلك فقد هلك وانتهى؛ لأن الشخص الذي ينتقل من أجواء الدعوة والتضحية والبذل والعطاء إلى جو الأموال والمتاع الدنيوي، يقضى عليه تماماً، وينسى حتى الأشياء الأساسية، النفس تغفل، إذا انشغلت بالدنيا انتهت. فلذلك الله يأمر المسلمين بالاستمرارية في العطاء، صحيح أن الإسلام انتشر، لكن ما زال هناك أناس لم يصل إليهم الإسلام، ما زال هناك جهاد في سبيل الله، ما زال هناك مجالات للإنفاق، لا تقل أنا أشتغل بنفسي، وأترك الإسلام ينتشر لوحده، أو الأجيال الجديدة التي ظهرت الآن هي التي تتحمل، فأنا أقدم استقالتي، وأترك هذا العمل الإسلامي، كلا. إن هذه القضية خطيرة جداً تعود بالوبال على من يفكر فيها لحظة واحدة وينقلها إلى مجال التطبيق، فهؤلاء الذين يبررون قعودهم عن أداء الواجب، ويرون الرخص في عدم الجهر بالحق والصدع بالأمر وتبليغ الدعوة، أحياناً تطلب الدعوة تبليغ الحق يكون فيه أذى عن النفس، ويكون فيه شدة ومشقة، فيأتي الشيطان يقول للإنسان: يا أخي! لا تلق بنفسك إلى التهلكة، لماذا تذهب تصدع بالحق وتجر الأذى على نفسك، وتفعل وتفعل؟ لا، الآن الحمد الله الناس بخير والصحوة الإسلامية منتشرة، أنت الآن لا تصدع، فيبرر لهؤلاء الكسالى المتقاعسين القعود عن التضحية والعمل من أجل الإسلام. والآية -أيها الإخوة- ترد على هذه المزاعم: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. فأنفق يا أخي! أنفق مالك في سبيل الله، أنفق وقتك في سبيل الله، أنفق جهدك في سبيل الله، اجعل تخطيطك ومخططاتك أيضاً فيها حظ كبير للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وتربية النفس وتربية الناس ونشر الخير بين المسلمين بدلاً من أن تجعل كل مخططاتك وتخطيطك كلها دنيوية بحتة، ماذا أفعل غدا؟ وكيف أقيم مشروعاً؟ وكيف أكسب؟ وكيف أزيد دخلي؟ وهكذا؛ لأن من صدق الالتزام بالإسلام أن يكون شغلك الشاغل وتخطيطك للمستقبل فيه تفكير لأمور الإسلام والمسلمين، لكن أكثر المسلمين اليوم تجد تفكيراتهم المستقبلية كلها دنيوية لا يفكر بأحوال المسلمين ماذا ستكون، ماذا يمكن أن نقدم في المستقبل، كيف أطور نفسي، ما هي الأساليب الجديدة في الدعوة إلى الله، كيف أدخل في آفاق جديدة ومجالات لم أتطرق إليها من ذي قبل، كيف أصعد من همتي ونشاطي في الدعوة إلى الله. إذاً: لا بد أن تكون حتى أفكارنا ومشاعرنا، وآلامنا وآمالنا كلها من أجل الإسلام ومصلحة المسلمين، فلابد أن ننفق حتى الأفكار والمشاعر، وحتى الآمال والتطلعات والتخطيطات، وحتى الأموال والجهد والوقت، لا بد أن ينفق هذا كله في سبيل الله. ويقول ابن كثير رحمه الله في هذه الآية بعدما فسر الآية ونقل أقوال السلف : ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر أوجه القربات وأوجه الطاعات، وخاصةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوي المسلمين على عدوهم، ويقول: والإخبار- يعني: هذه الآية تتضمن أيضاً- أن ترك ذلك هلاكٌ ودمارٌ إن لزمه واعتاده. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين ينفقون أوقاتهم وأعمارهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل.كذلك عندما تأتي معي إلى آية أخرى، يقول الله عز وجل: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] يؤخذ هذا الشطر من الآية اليوم عند المسلمين وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فإذا رأوا مجاهداً في سبيل الله يخوض غمار الحروب، قالوا: ألقى بنفسه في التهلكة، مجاهد يذهب في سبيل الله ويشق صفوف العدو، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهكذا في الدخول في غمار الأجواء التي ترضي الله عز وجل، ويكون فيها خطر على النفس، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولم يعرفوا كيف نزلت هذه الآية، ومعرفة سبب النزول يقود إلى أخذ الفكرة الصحيحة المطلوبة من هذه الآية. هذه الآية -أيها الإخوة- نزلت كما روى الترمذي رحمه الله بإسناد صحيح يقول الراوي: (كنا في حرب مع الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن نافع ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين -شخص واحد فقط- على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أيها الناس! إنكم تأولون هذه التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها) الصحابة قالوا في فترة من الفترات بعد فتح مكة ، أو بعد ما انتشر الإسلام، قال هؤلاء الصحابة في أنفسهم: الآن الحمد لله انتشر الإسلام، وكثر المناصرون للإسلام، وأموالنا نحن في غمار الجهاد والتضحيات السابقة تلفت، وصار الواحد منا ليس عنده ما ينفق على نفسه، ليس عنده أموال ولا زرع، وما عنده بيوت، فالآن الحمد لله الدنيا صارت بخير وانتشر الإسلام، صار في مركز قوة، فنلتفت نحن إلى أموالنا فنصلحها، وهذا الكلام سر فيما بينهم، وهذه خاطرة يعني: قد تكون طبيعية في هذا الجو، أناس تعبوا وجاهدوا وقاتلوا وضحوا سنوات طويلة جداً حتى انتشر الإسلام، فجاء في أنفسهم هذا الخاطر، لو الآن أقمنا والتفتنا إلى أحوالنا، فأصلحناها. فهنا -أيها الإخوة- ينزل الله هذه الآية العظيمة لكي يربي المسلمين على مبادئ كبيرة جداً، فيقول الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فيقول الصحابي رضي الله عنه: (وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سيبل الله حتى دفن في أرض الروم). أيها الإخوة: انظروا كيف إن المسلمين يستدلون بها على أي شيء، وهي نزلت في أية مناسبة؟ فرق كبير جداً، فالآية لا تتخيل، ولا تتصور إلا بعد أن تعرف سبب النزول فإذا عرفت سبب النزول، فهمت أن الله يريد أن يربي المسلمين على الاستمرارية في التضحية، لا تقول: أنا جاهدت ودعوت عشر سنوات، عشرين سنة، دعني الآن أشتغل في التجارة، وأتفرغ لنفسي وأحوالي المعيشية، والحمد لله الآن الدعاة كثروا، بعض الناس عندهم هذا المفهوم، يقول: الحمد الله الآن الدعاة كثروا، والإسلام بخير، والصحوة الإسلامية منتشرة، وأنا لي الآن فترة طويلة أدعو وأضحي، فدعني الآن ألتفت إلى تجارتي ومعيشتي أنشغل بها فيما بقي من عمري، وأصلح أحوالي وأحوال أسرتي. هذه الحالة منافية للحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم. فالإنسان المسلم -أيها الإخوة- داعية ومجاهد على طول الخط، وفي طول الطريق يبقى مضحياً في سبيل الله، ويبقى عطاؤه وإنفاقه مستمراً في سبيل الله لا يتركه لحظة واحدة، ومتى ما ترك ذلك فقد هلك وانتهى؛ لأن الشخص الذي ينتقل من أجواء الدعوة والتضحية والبذل والعطاء إلى جو الأموال والمتاع الدنيوي، يقضى عليه تماماً، وينسى حتى الأشياء الأساسية، النفس تغفل، إذا انشغلت بالدنيا انتهت. فلذلك الله يأمر المسلمين بالاستمرارية في العطاء، صحيح أن الإسلام انتشر، لكن ما زال هناك أناس لم يصل إليهم الإسلام، ما زال هناك جهاد في سبيل الله، ما زال هناك مجالات للإنفاق، لا تقل أنا أشتغل بنفسي، وأترك الإسلام ينتشر لوحده، أو الأجيال الجديدة التي ظهرت الآن هي التي تتحمل، فأنا أقدم استقالتي، وأترك هذا العمل الإسلامي، كلا. إن هذه القضية خطيرة جداً تعود بالوبال على من يفكر فيها لحظة واحدة وينقلها إلى مجال التطبيق، فهؤلاء الذين يبررون قعودهم عن أداء الواجب، ويرون الرخص في عدم الجهر بالحق والصدع بالأمر وتبليغ الدعوة، أحياناً تطلب الدعوة تبليغ الحق يكون فيه أذى عن النفس، ويكون فيه شدة ومشقة، فيأتي الشيطان يقول للإنسان: يا أخي! لا تلق بنفسك إلى التهلكة، لماذا تذهب تصدع بالحق وتجر الأذى على نفسك، وتفعل وتفعل؟ لا، الآن الحمد الله الناس بخير والصحوة الإسلامية منتشرة، أنت الآن لا تصدع، فيبرر لهؤلاء الكسالى المتقاعسين القعود عن التضحية والعمل من أجل الإسلام. والآية -أيها الإخوة- ترد على هذه المزاعم: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. فأنفق يا أخي! أنفق مالك في سبيل الله، أنفق وقتك في سبيل الله، أنفق جهدك في سبيل الله، اجعل تخطيطك ومخططاتك أيضاً فيها حظ كبير للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وتربية النفس وتربية الناس ونشر الخير بين المسلمين بدلاً من أن تجعل كل مخططاتك وتخطيطك كلها دنيوية بحتة، ماذا أفعل غدا؟ وكيف أقيم مشروعاً؟ وكيف أكسب؟ وكيف أزيد دخلي؟ وهكذا؛ لأن من صدق الالتزام بالإسلام أن يكون شغلك الشاغل وتخطيطك للمستقبل فيه تفكير لأمور الإسلام والمسلمين، لكن أكثر المسلمين اليوم تجد تفكيراتهم المستقبلية كلها دنيوية لا يفكر بأحوال المسلمين ماذا ستكون، ماذا يمكن أن نقدم في المستقبل، كيف أطور نفسي، ما هي الأساليب الجديدة في الدعوة إلى الله، كيف أدخل في آفاق جديدة ومجالات لم أتطرق إليها من ذي قبل، كيف أصعد من همتي ونشاطي في الدعوة إلى الله. إذاً: لا بد أن تكون حتى أفكارنا ومشاعرنا، وآلامنا وآمالنا كلها من أجل الإسلام ومصلحة المسلمين، فلابد أن ننفق حتى الأفكار والمشاعر، وحتى الآمال والتطلعات والتخطيطات، وحتى الأموال والجهد والوقت، لا بد أن ينفق هذا كله في سبيل الله. ويقول ابن كثير رحمه الله في هذه الآية بعدما فسر الآية ونقل أقوال السلف : ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر أوجه القربات وأوجه الطاعات، وخاصةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوي المسلمين على عدوهم، ويقول: والإخبار- يعني: هذه الآية تتضمن أيضاً- أن ترك ذلك هلاكٌ ودمارٌ إن لزمه واعتاده. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين ينفقون أوقاتهم وأعمارهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل.
قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... )
فإذا أتيت معي إلى آية أخرى، وهي قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]. هذه الآية -أيها الإخوة- يحارب بها بعض المسلمين، أو المتمسلمين كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل، وينتقدونهم ويرفضونهم ويخطئونهم لنصحهم الناس ودعوتهم الناس إلى الخير، ويأخذون عليهم جهرهم بالحق، لماذا؟ لأنهم يخالفون -بزعمهم- هذه الآية، فتجد أحدهم يأتي إليك ويقول: يا أخي! لماذا تنكر على الناس المنكرات؟ ولماذا تكلم الناس عن هذه المعاصي؟ ولماذا تصدع بالحق؟ ولماذا تجهر به؟ أما قال الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]؟ فالناس عندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن تسكت عن تبيين الحق، وعندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن الإنسان إذا جلس في مجلس يعصى الله فيه يسكت ولا يتكلم ولا كلمة؛ لأنه يقول: هذه حكمة، الآن عندما أسكت حكمة؛ لأني لو تكلمت كرهوني وانتقدوني وعابوني، فإذاً أسكت، فيعتبر هذه حكمة. والناس الآخرون لو تكلم، قالوا: أين الحكمة في الدعوة؟ فيثبطونه ويقعدون به عن المضي في صراط الله المستقيم، فما كانت هذه أبداً في شرع الله عز وجل، ما كان حضور المنكرات والانفعال فيها ومشاركة الناس فيها أبداً من باب الحكمة والدعوة بالموعظة الحسنة مطلقاً، والله عز وجل يأبى هذا ولا يرضاه، وشريعة الله لا تقر هذا بأي حال من الأحوال. وما كانت -أيها الإخوة- الحكمة والموعظة الحسنة عند السلف في يوم من الأيام أن يرضى الإنسان المسلم الدنية في دينه، ويرضى مواقف الذل في حياته، ويشارك أعداء الإسلام، ويتنازل عن تشريعات كثيرة، وأحكام كثيرة من أحكام الدين باسم المرونة، أو التطور وما شابه ذلك، فالآن الناس يفسرون ويقولون: كن مرناً، الحكمة والموعظة الحسنة أن تكون مرناً، ليس هناك داع أن تنكر وتلتزم بكل هذه الأشياء، فيجعلون التفلت من الالتزامات الإسلامية، والسكوت عن الحق والمداهنة هو الحكمة والموعظة الحسنة. وعندما ترجع إلى التفسير تجد أن القضية مختلفة تماماً، فيقول ابن كثير رحمه الله ناقلاً عن ابن جرير : الحكمة هي ما أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة. هذه هي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269]. وهذا طبعاً لا يعني أنك عندما تعرض الكتاب والسنة على الناس أن تترك الأشياء المساعدة لك في الدعوة إلى الله، كالقول المناسب في الوقت المناسب بالقدر المناسب والأسلوب المناسب، فإن هذا من تكملة الحكمة ومن تفريعاتها ومن مستلزماتها ومتضمناتها، والحكمة أساساً هي: الكتاب والسنة، لكن هذا يتضمن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، فلابد أن تنتقي القول المناسب وتنتقي الوقت المناسب، وتنتقي الأسلوب المناسب بالقدر المناسب والتدرج المناسب، وهذا لا ينافي الشريعة مطلقاً، بل إن هذا أمر مطلوب، وتدعو إليه الشريعة، وأحوال الرسل والأنبياء. والموعظة الحسنة- كما يقول ابن جرير رحمه الله- أي: ما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا من بأس الله. يعني: بالموعظة الحسنة ادعهم بما يرقق قلوبهم من ذكر النار وعقاب الله عز وجل والعذاب، ومصائر الأمم الغابرة التي أهلكها الله تعالى، رقق قلوبهم حتى بآيات الجنة وآيات الثواب، وآيات الرحمة والمغفرة، استخدم هذه الأشياء التي ترقق القلوب، المهم أن ترقق القلوب، هذا هو استخدام الموعظة الحسنة. فانظر -رحمك الله- إلى فهم الناس للآية والفهم الإسلامي الصحيح، تجد الفرق شاسعاً نتيجة التصور الخاطئ، لم يكلفوا أنفسهم بفتح كتاب واحد من كتب التفسير المعتمدة، وإنما أطلقوا العنان لأهوائهم في حمل هذه الآيات على المحامل المختلفة التي ليس من شأنها إلا تثبيط المسلمين وتبرير الأخطاء.فإذا أتيت معي إلى آية أخرى، وهي قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]. هذه الآية -أيها الإخوة- يحارب بها بعض المسلمين، أو المتمسلمين كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل، وينتقدونهم ويرفضونهم ويخطئونهم لنصحهم الناس ودعوتهم الناس إلى الخير، ويأخذون عليهم جهرهم بالحق، لماذا؟ لأنهم يخالفون -بزعمهم- هذه الآية، فتجد أحدهم يأتي إليك ويقول: يا أخي! لماذا تنكر على الناس المنكرات؟ ولماذا تكلم الناس عن هذه المعاصي؟ ولماذا تصدع بالحق؟ ولماذا تجهر به؟ أما قال الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]؟ فالناس عندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن تسكت عن تبيين الحق، وعندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن الإنسان إذا جلس في مجلس يعصى الله فيه يسكت ولا يتكلم ولا كلمة؛ لأنه يقول: هذه حكمة، الآن عندما أسكت حكمة؛ لأني لو تكلمت كرهوني وانتقدوني وعابوني، فإذاً أسكت، فيعتبر هذه حكمة. والناس الآخرون لو تكلم، قالوا: أين الحكمة في الدعوة؟ فيثبطونه ويقعدون به عن المضي في صراط الله المستقيم، فما كانت هذه أبداً في شرع الله عز وجل، ما كان حضور المنكرات والانفعال فيها ومشاركة الناس فيها أبداً من باب الحكمة والدعوة بالموعظة الحسنة مطلقاً، والله عز وجل يأبى هذا ولا يرضاه، وشريعة الله لا تقر هذا بأي حال من الأحوال. وما كانت -أيها الإخوة- الحكمة والموعظة الحسنة عند السلف في يوم من الأيام أن يرضى الإنسان المسلم الدنية في دينه، ويرضى مواقف الذل في حياته، ويشارك أعداء الإسلام، ويتنازل عن تشريعات كثيرة، وأحكام كثيرة من أحكام الدين باسم المرونة، أو التطور وما شابه ذلك، فالآن الناس يفسرون ويقولون: كن مرناً، الحكمة والموعظة الحسنة أن تكون مرناً، ليس هناك داع أن تنكر وتلتزم بكل هذه الأشياء، فيجعلون التفلت من الالتزامات الإسلامية، والسكوت عن الحق والمداهنة هو الحكمة والموعظة الحسنة. وعندما ترجع إلى التفسير تجد أن القضية مختلفة تماماً، فيقول ابن كثير رحمه الله ناقلاً عن ابن جرير : الحكمة هي ما أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة. هذه هي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269]. وهذا طبعاً لا يعني أنك عندما تعرض الكتاب والسنة على الناس أن تترك الأشياء المساعدة لك في الدعوة إلى الله، كالقول المناسب في الوقت المناسب بالقدر المناسب والأسلوب المناسب، فإن هذا من تكملة الحكمة ومن تفريعاتها ومن مستلزماتها ومتضمناتها، والحكمة أساساً هي: الكتاب والسنة، لكن هذا يتضمن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، فلابد أن تنتقي القول المناسب وتنتقي الوقت المناسب، وتنتقي الأسلوب المناسب بالقدر المناسب والتدرج المناسب، وهذا لا ينافي الشريعة مطلقاً، بل إن هذا أمر مطلوب، وتدعو إليه الشريعة، وأحوال الرسل والأنبياء. والموعظة الحسنة- كما يقول ابن جرير رحمه الله- أي: ما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا من بأس الله. يعني: بالموعظة الحسنة ادعهم بما يرقق قلوبهم من ذكر النار وعقاب الله عز وجل والعذاب، ومصائر الأمم الغابرة التي أهلكها الله تعالى، رقق قلوبهم حتى بآيات الجنة وآيات الثواب، وآيات الرحمة والمغفرة، استخدم هذه الأشياء التي ترقق القلوب، المهم أن ترقق القلوب، هذا هو استخدام الموعظة الحسنة. فانظر -رحمك الله- إلى فهم الناس للآية والفهم الإسلامي الصحيح، تجد الفرق شاسعاً نتيجة التصور الخاطئ، لم يكلفوا أنفسهم بفتح كتاب واحد من كتب التفسير المعتمدة، وإنما أطلقوا العنان لأهوائهم في حمل هذه الآيات على المحامل المختلفة التي ليس من شأنها إلا تثبيط المسلمين وتبرير الأخطاء.
قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً)(1/153)
أيضاً إذا جئت إلى قول الله عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] يقول الله لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] الآن ماذا يحصل نتيجة الفهم الخاطئ لهذه الآية؟ الذي يحصل -أيها الإخوة- أن الناس صاروا يخلطون بين مضمون الإسلام وبين الأسلوب، أو المنهج الذي تعرض به حقائق الإسلام، ما معنى: قَوْلاً لَيِّناً [طه:44]؟ أي: يكون أسلوب الإنسان في الخطاب ليناً، درجة الخطاب، مستوى الخطاب، القالب الذي تقدم به الحقائق وليست الحقائق نفسها، فالقالب الذي يقدم به الحقائق والصورة التي تعرض بها الحقائق، والإطار -اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات- هذا لين، هذا مأمور فيه باللين واختيار الألفاظ والتراكيب والعبارات والجمل التي تدل على الموضوع، هذا الذي فيه لين، أما أن نقول: إن الحقائق نفسها هي التي نلين فيها فهذا من الضلال، والعياذ بالله! فالآن الناس ينقلون هذا المفهوم: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ينقلونه من الأسلوب إلى المضمون، المفروض أن يكون الأسلوب ليناً، وليس المضمون يعني: أنت الآن إذا عرضت حقيقة من حقائق الإسلام، حكم معين بأسلوب ما، فقال الشخص الآخر: لا. أنا أرفض هذا الحكم، هل تقول: حسناً يا أخي ليس هناك مانع، الزنا ليس حرام، حسناً ليس هو حراماً، بعض الناس سبحان الله! كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه، يعني: يعرضون أحكام الإسلام على الناس كأنهم يربتون على أكتافهم ويتدسسون إليهم بالإسلام تدسساً. يعني: كأن الواحد منهم خجلان من الأحكام التي يقولها للناس، ولذلك هو يعرض شيئاً، ويترك شيئاً، ويعلن شيئاً، ويخفي أشياء، وهكذا يتدسس تدسس كأن أحكام الإسلام عار وخزي وخجل. فهذا -أيها الإخوة- من الضلال، فمن أكبر الانحرافات في الدعوة إلى الله أن نخلط بين الرقة في الأسلوب واللين في الحقائق والمضامين، فإن هذه الأمور إذا اختلطت صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وصارت أحكام الإسلام كلها مرنة من هذه المرونة الشيطانية التي كلها تنازل عن حقائق الإسلام، وتغيير وقلب للأمور وتسميتها بغير مسمياتها كلها انطلاقاً من هذه الأفهام الخاطئة لمثل قول الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] أو فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44].أيضاً إذا جئت إلى قول الله عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] يقول الله لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] الآن ماذا يحصل نتيجة الفهم الخاطئ لهذه الآية؟ الذي يحصل -أيها الإخوة- أن الناس صاروا يخلطون بين مضمون الإسلام وبين الأسلوب، أو المنهج الذي تعرض به حقائق الإسلام، ما معنى: قَوْلاً لَيِّناً [طه:44]؟ أي: يكون أسلوب الإنسان في الخطاب ليناً، درجة الخطاب، مستوى الخطاب، القالب الذي تقدم به الحقائق وليست الحقائق نفسها، فالقالب الذي يقدم به الحقائق والصورة التي تعرض بها الحقائق، والإطار -اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات- هذا لين، هذا مأمور فيه باللين واختيار الألفاظ والتراكيب والعبارات والجمل التي تدل على الموضوع، هذا الذي فيه لين، أما أن نقول: إن الحقائق نفسها هي التي نلين فيها فهذا من الضلال، والعياذ بالله! فالآن الناس ينقلون هذا المفهوم: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ينقلونه من الأسلوب إلى المضمون، المفروض أن يكون الأسلوب ليناً، وليس المضمون يعني: أنت الآن إذا عرضت حقيقة من حقائق الإسلام، حكم معين بأسلوب ما، فقال الشخص الآخر: لا. أنا أرفض هذا الحكم، هل تقول: حسناً يا أخي ليس هناك مانع، الزنا ليس حرام، حسناً ليس هو حراماً، بعض الناس سبحان الله! كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه، يعني: يعرضون أحكام الإسلام على الناس كأنهم يربتون على أكتافهم ويتدسسون إليهم بالإسلام تدسساً. يعني: كأن الواحد منهم خجلان من الأحكام التي يقولها للناس، ولذلك هو يعرض شيئاً، ويترك شيئاً، ويعلن شيئاً، ويخفي أشياء، وهكذا يتدسس تدسس كأن أحكام الإسلام عار وخزي وخجل. فهذا -أيها الإخوة- من الضلال، فمن أكبر الانحرافات في الدعوة إلى الله أن نخلط بين الرقة في الأسلوب واللين في الحقائق والمضامين، فإن هذه الأمور إذا اختلطت صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وصارت أحكام الإسلام كلها مرنة من هذه المرونة الشيطانية التي كلها تنازل عن حقائق الإسلام، وتغيير وقلب للأمور وتسميتها بغير مسمياتها كلها انطلاقاً من هذه الأفهام الخاطئة لمثل قول الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] أو فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44].
قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
كذلك -يا أخي- إذا جئت إلى قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] ماذا تجد في الواقع؟ تجد أن الناس غالباً يحتجون بهذه الآية في احتجاجات خاطئة، مثلاً: عندما يرون داعياً إلى الله عز وجل يدعو الناس، ويتعب ويبذل الجهد، يأتي شخص من هؤلاء المخذلين والمثبطين فيقول: يا أخي! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تدعو؟ ولماذا تنصح؟ يا أخي! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].. اترك الناس، تريد أن تهديهم بالقوة؟! أعرض عن هذا واشتغل بأي شغل آخر وهكذا. من واقع ماذا؟ يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] وهو يخلط تماماً وليس عنده أصلاً أي فكرة في التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق، وهذا الجهل أصلاً في الفرق بين أنواع الهداية، وهو الذي يعرض الناس للوقوع في هذه المزالق، والإنكار على الصالحين بمثل هذه الآيات، يقول: لماذا تتعب نفسك وليس هناك فائدة؟ بل إنه أحياناً تجد أن العاصي الذي تدعوه وصاحب المنكر إذا جئت تذكره وتنصحه، يقول لك: تريد أن تهديني بالقوة؟! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] سبحان الله! يأتي بهذه الآية ويضعها ستاراً ويدافع بها عن نفسه يقول: تريد أن تهديني بالقوة؟! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]. يا أخي! الهداية بيد الله، وتقول لهذا الرجل من الناس الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم: انظر في سبب النزول دائماً، فإنها من الأمور المهمة جداً، كيف نزلت هذه الآية؟ وفيمن نزلت؟ وما مناسبة النزول؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبو جهل ، و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب -آخر كلامه-: هو على ملة عبد المطلب) اختار الكفر-والعياذ بالله- لأن الناس هؤلاء يضغطون على رأسه.
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فهو خشي الملامة والمسبة، وخشي أن يعيره الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] وأنزل الله في أبي طالب -هذه تكملة الرواية-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]) أنزلها الله في أبي طالب فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] هل هذه الآية نزلت قبل أن يبذل الرسول جهداً في دعوة أبي طالب ؟ هل نزلت هذه الآية بعد أن قطع الرسول مرحلة في دعوة أبي طالب ؟ متى نزلت الآية؟ نزلت بعد أن استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم جهده كله في دعوة أبي طالب بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، بل حتى على فراش الموت، نزلت هذه الآية بعدما شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من الحزن والندم لمصير هذا الرجل، قال الله عز وجل له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] بعدما استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم وسعه وطاقته في دعوة أبي طالب نزلت هذه الآية، فانظر كيف يستخدمها الآن هؤلاء المغفلون المغرضون في حجب النور عن الناس، وتثبيط الدعاة إلى الله.كذلك -يا أخي- إذا جئت إلى قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] ماذا تجد في الواقع؟ تجد أن الناس غالباً يحتجون بهذه الآية في احتجاجات خاطئة، مثلاً: عندما يرون داعياً إلى الله عز وجل يدعو الناس، ويتعب ويبذل الجهد، يأتي شخص من هؤلاء المخذلين والمثبطين فيقول: يا أخي! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تدعو؟ ولماذا تنصح؟ يا أخي! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].. اترك الناس، تريد أن تهديهم بالقوة؟! أعرض عن هذا واشتغل بأي شغل آخر وهكذا. من واقع ماذا؟ يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] وهو يخلط تماماً وليس عنده أصلاً أي فكرة في التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق، وهذا الجهل أصلاً في الفرق بين أنواع الهداية، وهو الذي يعرض الناس للوقوع في هذه المزالق، والإنكار على الصالحين بمثل هذه الآيات، يقول: لماذا تتعب نفسك وليس هناك فائدة؟ بل إنه أحياناً تجد أن العاصي الذي تدعوه وصاحب المنكر إذا جئت تذكره وتنصحه، يقول لك: تريد أن تهديني بالقوة؟! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] سبحان الله! يأتي بهذه الآية ويضعها ستاراً ويدافع بها عن نفسه يقول: تريد أن تهديني بالقوة؟! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]. يا أخي! الهداية بيد الله، وتقول لهذا الرجل من الناس الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم: انظر في سبب النزول دائماً، فإنها من الأمور المهمة جداً، كيف نزلت هذه الآية؟ وفيمن نزلت؟ وما مناسبة النزول؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبو جهل ، و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب -آخر كلامه-: هو على ملة عبد المطلب) اختار الكفر-والعياذ بالله- لأن الناس هؤلاء يضغطون على رأسه.
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فهو خشي الملامة والمسبة، وخشي أن يعيره الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] وأنزل الله في أبي طالب -هذه تكملة الرواية-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]) أنزلها الله في أبي طالب فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] هل هذه الآية نزلت قبل أن يبذل الرسول جهداً في دعوة أبي طالب ؟ هل نزلت هذه الآية بعد أن قطع الرسول مرحلة في دعوة أبي طالب ؟ متى نزلت الآية؟ نزلت بعد أن استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم جهده كله في دعوة أبي طالب بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، بل حتى على فراش الموت، نزلت هذه الآية بعدما شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من الحزن والندم لمصير هذا الرجل، قال الله عز وجل له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] بعدما استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم وسعه وطاقته في دعوة أبي طالب نزلت هذه الآية، فانظر كيف يستخدمها الآن هؤلاء المغفلون المغرضون في حجب النور عن الناس، وتثبيط الدعاة إلى الله.
من نتائج الفهم الخاطئ للقرآن
أخذ تصورات خاطئة عن أقوام من البشر
كذلك -أيها الإخوة- عدم فهم بعض الآيات فهماً صحيحاً يؤدي إلى أخذ تصورات خاطئة عن أقوامٍ من البشر، مثال: يقول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82] كثيرٌ من المسلمين الآن يقولون: الآية هذه تقول أن النصارى يحبوننا لأن الله قال: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. وهذه الآية -للأسف- يستخدمها المبشرون استخداماً رهيباً في الكلام مع المسلمين لإزالة الحواجز التي ترسخت بفعل العقيدة الإسلامية الصحيحة، يأتي بعض المبشرين الآن ويقولون للمسلمين وهم يخاطبونهم: نحن وإياكم شيء واحد، نحن نحبكم ونودكم، وما نقول هذا الكلام من عندنا، لا. إن قرآنكم يقول هذا، لأن الله يقول: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] فإذاً نحن وإياكم أصحاب، ونحن وإياكم شيء واحد، ونحن بيننا علاقات وجسور قوية ومتينة من المحبة والمودة- يضحكون على المسلمين- وكذلك بعض المسلمين يلين للنصارى كثيراً ويشاركهم في معتقداتهم، ولا ينكر عليهم، بل لا يكلف نفسه حتى بالنصح لهم، لماذا؟ لأنه رأى الآية: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. فأين منشأ الخطأ؟ الخطأ أن هذا الرجل الذي فهم هذا الفهم لم يتأمل قول الله كاملاً، وإذا كنت تريد معرفة الرد، فانظر إلى تكملة الآيات التي بعدها: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] من أين أتت هذه المودة؟ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. فإذاً أول شيء أنتج هذه المودة عدم الاستكبار، وهو الاستكبار الذي يمنع قبول الحق. ثانياً: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة:83] رسولنا صلى الله عليه وسلم: تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] هل النصارى الآن يفعلون هذا: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83]؟ ليس هذا فقط، ليس فقط لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترى أعينهم تفيض من الدمع، لا، وإنما أيضاً: يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83] يعني: دخلوا في الإسلام: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] هذه تكملة الآيات: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ [المائدة:85]. إذاً- أيها الإخوة- هذا الصنف من الناس هم أقرب مودة للذين آمنوا، يعني: الآيات هي التي تحكي هذا: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. إذاً هو صنف معين من النصارى عرفوا الحق وآمنوا به، ليس عندهم استكبار، هؤلاء أقرب الناس، وسيدخلون بعد ذلك في الإسلام، هؤلاء هم أقرب مودة للذين آمنوا، وإلا فإن واقع النصارى اليوم والواقع السابق أيضاً الواقع الأسود والحملات الصليبية التي خاضت فيها خيول النصارى في دماء المسلمين إلى ركبها في فلسطين وغيرها عندما دخلوها وقتلوا المسلمين، وما حدث في الأندلس المفقود عندما دخله الأسبان النصارى، وما يحدث اليوم من النصارى ضد المسلمين في أنحاء العالم، إنه أمر يهز الإنسان المسلم هزاً. وأفيدك -يا أخي- بأن هؤلاء لا يزالون في عداوة شديدة للإسلام والمسلمين، وأن حالهم أبداً لا يقارن ولا يقارب شيئاً مطلقاً من الأحوال التي ذكرها الله عن صفات هؤلاء النصارى. إذاً لا بد أن يعرف المسلم عدوه، وألا يخلط الأمور، وألا يلبس عليه وألا يفهم خطأً.كذلك -أيها الإخوة- عدم فهم بعض الآيات فهماً صحيحاً يؤدي إلى أخذ تصورات خاطئة عن أقوامٍ من البشر، مثال: يقول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82] كثيرٌ من المسلمين الآن يقولون: الآية هذه تقول أن النصارى يحبوننا لأن الله قال: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. وهذه الآية -للأسف- يستخدمها المبشرون استخداماً رهيباً في الكلام مع المسلمين لإزالة الحواجز التي ترسخت بفعل العقيدة الإسلامية الصحيحة، يأتي بعض المبشرين الآن ويقولون للمسلمين وهم يخاطبونهم: نحن وإياكم شيء واحد، نحن نحبكم ونودكم، وما نقول هذا الكلام من عندنا، لا. إن قرآنكم يقول هذا، لأن الله يقول: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] فإذاً نحن وإياكم أصحاب، ونحن وإياكم شيء واحد، ونحن بيننا علاقات وجسور قوية ومتينة من المحبة والمودة- يضحكون على المسلمين- وكذلك بعض المسلمين يلين للنصارى كثيراً ويشاركهم في معتقداتهم، ولا ينكر عليهم، بل لا يكلف نفسه حتى بالنصح لهم، لماذا؟ لأنه رأى الآية: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. فأين منشأ الخطأ؟ الخطأ أن هذا الرجل الذي فهم هذا الفهم لم يتأمل قول الله كاملاً، وإذا كنت تريد معرفة الرد، فانظر إلى تكملة الآيات التي بعدها: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] من أين أتت هذه المودة؟ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. فإذاً أول شيء أنتج هذه المودة عدم الاستكبار، وهو الاستكبار الذي يمنع قبول الحق. ثانياً: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة:83] رسولنا صلى الله عليه وسلم: تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] هل النصارى الآن يفعلون هذا: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83]؟ ليس هذا فقط، ليس فقط لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترى أعينهم تفيض من الدمع، لا، وإنما أيضاً: يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83] يعني: دخلوا في الإسلام: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] هذه تكملة الآيات: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ [المائدة:85]. إذاً- أيها الإخوة- هذا الصنف من الناس هم أقرب مودة للذين آمنوا، يعني: الآيات هي التي تحكي هذا: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. إذاً هو صنف معين من النصارى عرفوا الحق وآمنوا به، ليس عندهم استكبار، هؤلاء أقرب الناس، وسيدخلون بعد ذلك في الإسلام، هؤلاء هم أقرب مودة للذين آمنوا، وإلا فإن واقع النصارى اليوم والواقع السابق أيضاً الواقع الأسود والحملات الصليبية التي خاضت فيها خيول النصارى في دماء المسلمين إلى ركبها في فلسطين وغيرها عندما دخلوها وقتلوا المسلمين، وما حدث في الأندلس المفقود عندما دخله الأسبان النصارى، وما يحدث اليوم من النصارى ضد المسلمين في أنحاء العالم، إنه أمر يهز الإنسان المسلم هزاً. وأفيدك -يا أخي- بأن هؤلاء لا يزالون في عداوة شديدة للإسلام والمسلمين، وأن حالهم أبداً لا يقارن ولا يقارب شيئاً مطلقاً من الأحوال التي ذكرها الله عن صفات هؤلاء النصارى. إذاً لا بد أن يعرف المسلم عدوه، وألا يخلط الأمور، وألا يلبس عليه وألا يفهم خطأً.
يوقع في حبائل أهل الهوى
كذلك أيها الإخوة: عدم الفهم الصحيح للقرآن يوقع المسلم في حبائل أهل السوء، ويجعله يقع أيضاً في الحرام وتتلبس عليه الأمور. كذلك أيها الإخوة: عدم الفهم الصحيح للقرآن يوقع المسلم في حبائل أهل السوء، ويجعله يقع أيضاً في الحرام وتتلبس عليه الأمور.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا...)(1/154)
مثلاً: يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] كثيرٌ من الناس اليوم يقولون: الله نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفةً كأن يؤخذ (50%) أو (100%) أو (300%) هذا هو المحرم، أما إذا أخذنا شيئاً بسيطاً، كأن يؤخذ (5%) أو (7%) أو (3.5%) فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه الله يقول: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] يعني: الأضعاف المضاعفة هذه هي التي منهي عنها، لكن هذه النسب البسيطة ليس فيها شيء ولا تدخل في الآية، من أين أتي هؤلاء في سوء النتيجة التي وصلوا إليها؟ أولاً: لم يعرفوا هذه الآية نزلت في أي شيء، هذه الآية نزلت -أيها الإخوة- تنكر واقعاً ربوياً قد تعارف عليه العرب في الجاهلية، العرب في الجاهلية كان الواحد منهم إذا استلف من الآخر نقوداً ثم جاء موعد السداد ولم يؤد الذي عليه مع النسبة الربوية مثلاً، يقول له الشخص الآخر صاحب المال: أؤجلك سنة وأضاعف عليك النسبة، وتأتي السنة التي بعدها ولم يستطع الأداء، يقول له: أؤجلك سنة أخرى وأضاعف عليك النسبة، فهذه الآية في بيان فساد هذا الواقع: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] كلما عجز عن التسديد، أعطى له زيادة في المدة مع مضاعفة الربا، لكن الله يقول في آية محكمة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] ثم يقول مهدداً: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]. فإذاً - أيها الإخوة - الاحتجاج بهذه الآية ونسيان الآيات الأخرى، وعدم معرفة هذه الآية نزلت في تبيان أي واقع من الأمور يسبب الانحراف عن منهج الله والوقوع في المحرمات. مثلاً: يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] كثيرٌ من الناس اليوم يقولون: الله نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفةً كأن يؤخذ (50%) أو (100%) أو (300%) هذا هو المحرم، أما إذا أخذنا شيئاً بسيطاً، كأن يؤخذ (5%) أو (7%) أو (3.5%) فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه الله يقول: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] يعني: الأضعاف المضاعفة هذه هي التي منهي عنها، لكن هذه النسب البسيطة ليس فيها شيء ولا تدخل في الآية، من أين أتي هؤلاء في سوء النتيجة التي وصلوا إليها؟ أولاً: لم يعرفوا هذه الآية نزلت في أي شيء، هذه الآية نزلت -أيها الإخوة- تنكر واقعاً ربوياً قد تعارف عليه العرب في الجاهلية، العرب في الجاهلية كان الواحد منهم إذا استلف من الآخر نقوداً ثم جاء موعد السداد ولم يؤد الذي عليه مع النسبة الربوية مثلاً، يقول له الشخص الآخر صاحب المال: أؤجلك سنة وأضاعف عليك النسبة، وتأتي السنة التي بعدها ولم يستطع الأداء، يقول له: أؤجلك سنة أخرى وأضاعف عليك النسبة، فهذه الآية في بيان فساد هذا الواقع: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] كلما عجز عن التسديد، أعطى له زيادة في المدة مع مضاعفة الربا، لكن الله يقول في آية محكمة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] ثم يقول مهدداً: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]. فإذاً - أيها الإخوة - الاحتجاج بهذه الآية ونسيان الآيات الأخرى، وعدم معرفة هذه الآية نزلت في تبيان أي واقع من الأمور يسبب الانحراف عن منهج الله والوقوع في المحرمات.
الشعور بتناقض القرآن
كذلك يؤدي عدم فهم بعض الآيات إلى الشعور بأن القرآن فيه تناقض، مثال: روى البخاري عن سعيد بن جبير ، قال: جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، قال: وما هو؟ -كان يجد أشياء متناقضة- قال: وما هو؟ قال: قال الله: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] يعني: الله سبحانه وتعالى ذكر في آية حالة من الحالات لا يتساءلون، وفي حالة أخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] فهذا فيه تناقض، فكيف؟ فقال ابن عباس ورضي الله عنه وأرضاه: [فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى -ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون- ثم في النفخة الثانية: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون]. فإذاً هذه آية وردت في حال وهذه في حال آخر، إلى آخر المناقشة، وهي مناقشة جيدة ينبغي الرجوع إليها لمعرفة كيف يكون أحياناً عدم فهم الآيات مشعر لبعض المسلمين بالتناقض في القرآن مع أنه ليس هناك تناقض، وإنما التناقض في فهم هذا الشخص. كذلك يؤدي عدم فهم بعض الآيات إلى الشعور بأن القرآن فيه تناقض، مثال: روى البخاري عن سعيد بن جبير ، قال: جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، قال: وما هو؟ -كان يجد أشياء متناقضة- قال: وما هو؟ قال: قال الله: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] يعني: الله سبحانه وتعالى ذكر في آية حالة من الحالات لا يتساءلون، وفي حالة أخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] فهذا فيه تناقض، فكيف؟ فقال ابن عباس ورضي الله عنه وأرضاه: [فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى -ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون- ثم في النفخة الثانية: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون]. فإذاً هذه آية وردت في حال وهذه في حال آخر، إلى آخر المناقشة، وهي مناقشة جيدة ينبغي الرجوع إليها لمعرفة كيف يكون أحياناً عدم فهم الآيات مشعر لبعض المسلمين بالتناقض في القرآن مع أنه ليس هناك تناقض، وإنما التناقض في فهم هذا الشخص.
اعتقاد مخالفة القرآن للوقائع
أحياناً يؤدي عدم فهم القرآن إلى الاعتقاد بأن القرآن مخالف للحقائق التاريخية، يعني مثلاً: يأتي واحد ويستعرض قول الله في سورة مريم: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] هذا الكلام يوجهه إلى من؟ إلى مريم، ومريم بعد هارون الذي كان مع موسى بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، فكيف يقول قومها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم:28] وهارون الذي كان مع موسى بينه وبين مريم آلاف السنين؟ كيف صارت أخته! هذا الإشكال أورده نصارى نجران لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم المغيرة بن شعبة ، فلما قدم عليهم، قالوا له: إنكم تقرءون: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: هارون هذا غير هارون أخي موسى، حيث كان بنو إسرائيل يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، مثلنا نحن الآن نسمي إبراهيم على اسم النبي إبراهيم، نسمي صالحاً على اسم النبي صالح وهكذا، فبنو إسرائيل هكذا أيضاً، فقال هذا هارون الذي أخته مريم ليس هو هارون أخا موسى، هذا هو الرد ببساطة. وقال بعض المفسرين: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يعني: أخته في الدين، حتى لو كان هارون ذاك أخا موسى. وقال بعضهم: حتى لو كان هارون ذاك، فإنها تحمل على: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يعني: أخته في الشبه في العبادة، الآن بعض العامة يقولون: هذه السيارة أخت السيارة هذه، ماذا يقصد؟ هل يعني أختها بالنسب؟ لا، ولكن بالشبه، يقولون: هذه أختها بالضبط، يعني: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يا شبيهته بالعبادة، ولكن القول الأول الذي فسره صلى الله عليه وسلم هو الأولى، ولو كانت باقي الأقوال تصح في المعنى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها تفسيراً واضحاً جلياً.أحياناً يؤدي عدم فهم القرآن إلى الاعتقاد بأن القرآن مخالف للحقائق التاريخية، يعني مثلاً: يأتي واحد ويستعرض قول الله في سورة مريم: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] هذا الكلام يوجهه إلى من؟ إلى مريم، ومريم بعد هارون الذي كان مع موسى بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، فكيف يقول قومها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم:28] وهارون الذي كان مع موسى بينه وبين مريم آلاف السنين؟ كيف صارت أخته! هذا الإشكال أورده نصارى نجران لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم المغيرة بن شعبة ، فلما قدم عليهم، قالوا له: إنكم تقرءون: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: هارون هذا غير هارون أخي موسى، حيث كان بنو إسرائيل يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، مثلنا نحن الآن نسمي إبراهيم على اسم النبي إبراهيم، نسمي صالحاً على اسم النبي صالح وهكذا، فبنو إسرائيل هكذا أيضاً، فقال هذا هارون الذي أخته مريم ليس هو هارون أخا موسى، هذا هو الرد ببساطة. وقال بعض المفسرين: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يعني: أخته في الدين، حتى لو كان هارون ذاك أخا موسى. وقال بعضهم: حتى لو كان هارون ذاك، فإنها تحمل على: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يعني: أخته في الشبه في العبادة، الآن بعض العامة يقولون: هذه السيارة أخت السيارة هذه، ماذا يقصد؟ هل يعني أختها بالنسب؟ لا، ولكن بالشبه، يقولون: هذه أختها بالضبط، يعني: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يا شبيهته بالعبادة، ولكن القول الأول الذي فسره صلى الله عليه وسلم هو الأولى، ولو كانت باقي الأقوال تصح في المعنى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها تفسيراً واضحاً جلياً.
فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس
كذلك -أيها الإخوة- الفهم الخاطئ لآيات القرآن يؤدي إلى فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس، وقد يوضع أناس في غير منازلهم التي هم عليها حقيقة، مثال: يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ويقول الله عز وجل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] الآن الناس يستشهدون بها على أن هؤلاء العلماء الكفار الذين في الغرب عندهم خشية لله، لأن الله مدحهم وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. هؤلاء علماء الفلك وعلماء الطب، وعلماء الأرصاد وعلماء وعلماء.. إلى إلخ، وبعضهم يضل ضلالاً أكثر ويفهم الآية بالعكس، يقول: الله يخاف من العلماء، يعني: العلماء عندهم سلطان وعلم، فلذلك الله يخشى منهم، وهي الآية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ [فاطر:28] لفظ الجلالة مفعول به مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] والعلماء هم الفاعل، فالفاعل الذي يخشى هو العلماء، وهو فاعل مؤخر، ولفظ الجلالة مفعول به مقدم، يعني: إنما يخشى العلماءُ اللهَ، فهذا الأصل. وهذه جاءت في القرآن لمعانٍ بلاغية كبيرة. من هم العلماء الذين يخشون الله؟ علماء الشريعة وليسوا علماء الفلك والطب وعلماء العلم الدنيوي، علماء الشريعة هم الذين يخشون الله، وإلا فهناك علماء كبار في الذرة والفلك ما نفعهم علمهم، وإنما قادهم إلى تشغيل مخترعاتهم فيما يدمر البشرية، وما يعود على الناس بالوبال وبسائر الأمور الشريرة. فإذاً يجب أن نفهم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] حتى إن بعض السلف قال: العالم هو كل من خشي الله، كل من خشي الله فهو عالم، يعني: عالم عنده علمٌ بالخشية، نفس الشيء: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. ومن الناس الآن من أخذ شهادة -مثلاً- في حقل الهندسة، أو الطب، أو الفلك وترى مكتوباً على الشهادة: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وشهادات التقدير الدراسية التي تمنح في التفوق في الرياضيات والإنجليزي وكذا.. مكتوب عليها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. فهل المقصود في الآية هذا؟ لا طبعاً، لما ترجع إلى تفسير السلف إلى هذه الآيات، تجد أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فمن هم الذين يعلمون؟ صفتهم في نفس الآية سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] هؤلاء الذين يعلمون؛ لأن الله قال: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]هؤلاء الصنف: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فهم الذين يعلمون. أيها الإخوة: لو لم يفهم هذا فإننا سوف نفسر القرآن ونضع هؤلاء الناس الذين عندهم علم الدنيا في المنازل العالية، ونفسر الآيات بناءً على هذا، وهذا من القضايا الخطيرة.كذلك -أيها الإخوة- الفهم الخاطئ لآيات القرآن يؤدي إلى فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس، وقد يوضع أناس في غير منازلهم التي هم عليها حقيقة، مثال: يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ويقول الله عز وجل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] الآن الناس يستشهدون بها على أن هؤلاء العلماء الكفار الذين في الغرب عندهم خشية لله، لأن الله مدحهم وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. هؤلاء علماء الفلك وعلماء الطب، وعلماء الأرصاد وعلماء وعلماء.. إلى إلخ، وبعضهم يضل ضلالاً أكثر ويفهم الآية بالعكس، يقول: الله يخاف من العلماء، يعني: العلماء عندهم سلطان وعلم، فلذلك الله يخشى منهم، وهي الآية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ [فاطر:28] لفظ الجلالة مفعول به مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] والعلماء هم الفاعل، فالفاعل الذي يخشى هو العلماء، وهو فاعل مؤخر، ولفظ الجلالة مفعول به مقدم، يعني: إنما يخشى العلماءُ اللهَ، فهذا الأصل. وهذه جاءت في القرآن لمعانٍ بلاغية كبيرة. من هم العلماء الذين يخشون الله؟ علماء الشريعة وليسوا علماء الفلك والطب وعلماء العلم الدنيوي، علماء الشريعة هم الذين يخشون الله، وإلا فهناك علماء كبار في الذرة والفلك ما نفعهم علمهم، وإنما قادهم إلى تشغيل مخترعاتهم فيما يدمر البشرية، وما يعود على الناس بالوبال وبسائر الأمور الشريرة. فإذاً يجب أن نفهم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] حتى إن بعض السلف قال: العالم هو كل من خشي الله، كل من خشي الله فهو عالم، يعني: عالم عنده علمٌ بالخشية، نفس الشيء: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. ومن الناس الآن من أخذ شهادة -مثلاً- في حقل الهندسة، أو الطب، أو الفلك وترى مكتوباً على الشهادة: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وشهادات التقدير الدراسية التي تمنح في التفوق في الرياضيات والإنجليزي وكذا.. مكتوب عليها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. فهل المقصود في الآية هذا؟ لا طبعاً، لما ترجع إلى تفسير السلف إلى هذه الآيات، تجد أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فمن هم الذين يعلمون؟ صفتهم في نفس الآية سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] هؤلاء الذين يعلمون؛ لأن الله قال: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]هؤلاء الصنف: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فهم الذين يعلمون. أيها الإخوة: لو لم يفهم هذا فإننا سوف نفسر القرآن ونضع هؤلاء الناس الذين عندهم علم الدنيا في المنازل العالية، ونفسر الآيات بناءً على هذا، وهذا من القضايا الخطيرة.
اتهام الأنبياء بما لا يتصوره مسلم(1/155)
كذلك قد يؤدي أحياناً عدم الفهم لآيات القرآن الكريم إلى اتهام الأنبياء بأشياء لا يمكن أن يتصورها مسلم صحيح العقيدة، يخشى الله ويعظم قدر الأنبياء. فمثلاً: قصة إبراهيم: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:75-78]. فالآن بعض المسلمين يفهمون أن إبراهيم مر في حياته في فترة تردد وحيرة وضياع، وما كان يعرف أين الله، ولذلك مرة يقول على الكوكب هو الله، ومرة يقول على الشمس الله، وتخبط حتى اهتدى في الأخير إلى التوحيد. والله عز وجل يقول: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً [آل عمران: 67] ما كان ولا في يوم من الأيام: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران:67] طول عمر إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو رجلاً لا يعرف الله، ولا يعرف أين ربه. فإذاً كيف نفهم هذه الآيات؟ لما نرجع إلى التفسير، نجد أن علماءنا قالوا: إبراهيم عليه السلام كان يناقش قومه ويجادلهم، فلو قال لهم: هذا الكوكب ليس هو الله من أول مرة، ما استطاع أن يفحمهم؛ لأن آل إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكذلك كانوا يعبدون النجوم والكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يفحمهم بأسلوب عجيب يجب أن يتعلم منه كل داعية، حيث كان مع قومه في مناسبة، فخرج كوكب، قال: هذا ربي، ليس اعتقاداً من إبراهيم، إنما تنزلاً معهم في المجادلة والنقاش، وهذا أسلوب معروف في النقاش، وهذا مثلما نقول نحن الآن على فرض أنه كذا، فكذا وكذا وكذا، وإن كان هذا الفرض خاطئ ولا يمكن أن يحصل. فهذه كانت طريقة إبراهيم، قال: هذا ربي، فلما غاب -وهو يعرف إبراهيم أن الكوكب سيغيب- قال: لا أحب الآفلين، يعني: لا يمكن أني أحب إله يغيب، والقمر نفس الشيء، والشمس وهي الأكبر، قال: هذه أكبر، الآن هذه ربي، فلما غابت، قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] هذه أسلوب في العرض، يتنزل معهم في النقاش حتى يوصلهم إلى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً [الأنعام:79]. وأيضاً يونس عليه السلام نبي كريم من أنبياء الله، وقد جاء في آية: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كيف يفهم الآن الناس: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]؟ هم يفهمون أن يونس ذهب مغاضباً، وفكر أن الله لا يقدر أن يأتي به، فكان جزاؤه أن التقمه الحوت، فجلس ينادي في الظلمات، فهم يفسرون قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] أنه فكر أننا لن نقدر على الإتيان به. وفعلاً -أيها الإخوة- هذه من الأمثلة على أنه لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير ومعرفة أقوال العلماء، ترجع إلى كتب التفسير فتجد أن (نقدر) هنا ليس من القدرة وهي الاستطاعة، بل الفعل: نقدر ماضيه: قدَر وليس قدِر، قدِر يعني: استطاع، وإنما قدَر يعني: ضيق، ولذلك يقول الله في القرآن: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] الذي ضيقنا عليه في الرزق ينفق على حسب استطاعته وما عنده، وكذلك: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] فقوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] أي: ضيقه. فماذا يكون معنى الآية؟ معنى الآية أن يونس ذا النون لما صار في بطن الحوت- ابتلاء من الله ليعظم الدرجات له في الجنة، ظن يعني: أيقن، فهي قد تأتي بمعنى أيقن، وقد تأتي بمعنى شك، وهي هنا بمعنى: أيقن، وهذا مثل قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20] يعني: متأكد أني ملاقٍ حسابيه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] يعني: أيقن أننا لن نضيق عليه في بطن الحوت، وأننا سننجيه ولن نضيق عليه ولن ننساه، وسنجيب دعاه، فلذلك نادى، وإلا لو أنه ظن أنه ليس هناك أمل، لماذا قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]؟ لم يكن هناك فائدة من الدعاء، ولكن لأن هذا النبي الكريم يعلم بأن الله لن يقدِر عليه، لن يضيق عليه في بطن الحوت، فلذلك نادى في الظلمات: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. كذلك قد يؤدي أحياناً عدم الفهم لآيات القرآن الكريم إلى اتهام الأنبياء بأشياء لا يمكن أن يتصورها مسلم صحيح العقيدة، يخشى الله ويعظم قدر الأنبياء. فمثلاً: قصة إبراهيم: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:75-78]. فالآن بعض المسلمين يفهمون أن إبراهيم مر في حياته في فترة تردد وحيرة وضياع، وما كان يعرف أين الله، ولذلك مرة يقول على الكوكب هو الله، ومرة يقول على الشمس الله، وتخبط حتى اهتدى في الأخير إلى التوحيد. والله عز وجل يقول: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً [آل عمران: 67] ما كان ولا في يوم من الأيام: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران:67] طول عمر إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو رجلاً لا يعرف الله، ولا يعرف أين ربه. فإذاً كيف نفهم هذه الآيات؟ لما نرجع إلى التفسير، نجد أن علماءنا قالوا: إبراهيم عليه السلام كان يناقش قومه ويجادلهم، فلو قال لهم: هذا الكوكب ليس هو الله من أول مرة، ما استطاع أن يفحمهم؛ لأن آل إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكذلك كانوا يعبدون النجوم والكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يفحمهم بأسلوب عجيب يجب أن يتعلم منه كل داعية، حيث كان مع قومه في مناسبة، فخرج كوكب، قال: هذا ربي، ليس اعتقاداً من إبراهيم، إنما تنزلاً معهم في المجادلة والنقاش، وهذا أسلوب معروف في النقاش، وهذا مثلما نقول نحن الآن على فرض أنه كذا، فكذا وكذا وكذا، وإن كان هذا الفرض خاطئ ولا يمكن أن يحصل. فهذه كانت طريقة إبراهيم، قال: هذا ربي، فلما غاب -وهو يعرف إبراهيم أن الكوكب سيغيب- قال: لا أحب الآفلين، يعني: لا يمكن أني أحب إله يغيب، والقمر نفس الشيء، والشمس وهي الأكبر، قال: هذه أكبر، الآن هذه ربي، فلما غابت، قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] هذه أسلوب في العرض، يتنزل معهم في النقاش حتى يوصلهم إلى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً [الأنعام:79]. وأيضاً يونس عليه السلام نبي كريم من أنبياء الله، وقد جاء في آية: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كيف يفهم الآن الناس: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]؟ هم يفهمون أن يونس ذهب مغاضباً، وفكر أن الله لا يقدر أن يأتي به، فكان جزاؤه أن التقمه الحوت، فجلس ينادي في الظلمات، فهم يفسرون قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] أنه فكر أننا لن نقدر على الإتيان به. وفعلاً -أيها الإخوة- هذه من الأمثلة على أنه لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير ومعرفة أقوال العلماء، ترجع إلى كتب التفسير فتجد أن (نقدر) هنا ليس من القدرة وهي الاستطاعة، بل الفعل: نقدر ماضيه: قدَر وليس قدِر، قدِر يعني: استطاع، وإنما قدَر يعني: ضيق، ولذلك يقول الله في القرآن: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] الذي ضيقنا عليه في الرزق ينفق على حسب استطاعته وما عنده، وكذلك: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] فقوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] أي: ضيقه. فماذا يكون معنى الآية؟ معنى الآية أن يونس ذا النون لما صار في بطن الحوت- ابتلاء من الله ليعظم الدرجات له في الجنة، ظن يعني: أيقن، فهي قد تأتي بمعنى أيقن، وقد تأتي بمعنى شك، وهي هنا بمعنى: أيقن، وهذا مثل قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20] يعني: متأكد أني ملاقٍ حسابيه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] يعني: أيقن أننا لن نضيق عليه في بطن الحوت، وأننا سننجيه ولن نضيق عليه ولن ننساه، وسنجيب دعاه، فلذلك نادى، وإلا لو أنه ظن أنه ليس هناك أمل، لماذا قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]؟ لم يكن هناك فائدة من الدعاء، ولكن لأن هذا النبي الكريم يعلم بأن الله لن يقدِر عليه، لن يضيق عليه في بطن الحوت، فلذلك نادى في الظلمات: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
إخضاع الآيات القرآنية لمخترعات الكفار
إذاً: أيها الإخوة! المنعطفات والمزالق كثيرة في قضية فهم الآيات، ومن هذه المزالق والمنعطفات قضية الفتنة التي حصلت بهذا العلم التجريبي عند الكفار، مما جعل بعض المسلمين يتهافتون تهافتاً على إخضاع الآيات والأحاديث لنظريات الكفار، فنتجت عن هذه أشياء عجيبة جداً مذهلة، هذا مصطفى محمود يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] هذا يؤيد نظرية دارون، في أن الإنسان أصله خلية، وبعد ذلك صار برمائيات وزواحف وثدييات، وبعد ذلك صار قرداً، وبعد ذلك صار إنساناً، لأن الله يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] يعني: كان في طور من أطواره خلية، ثم صار برمائياً، وطور صار فيه زواحف، وطور صار فيه ثديات، هذا فهمه، وله كتاب خطير جداً القرآن محاولة لفهم عصري كله من هذه الخرافات والشعوذات، هكذا فهم خلقناكم أطوار، مع أن المفهوم الصحيح لخلقناكم أطواراً نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، فكسونا العظام لحماً، هذه الأطوار، وهذه خطورة عدم الاعتماد على أقوال المفسرين من السلف ، حيث أدى إلى هذه النتيجة الوخيمة. وأحدهم قال: أما تدري أن المكيف موجود في القرآن؟ كيف يكون المكيف موجوداً في القرآن؟! قال: أليس الله يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] يعني: من الداخل رحمة وبرودة، ومن خارج عذاب وحر، يعني: هذا المكيف موجود في القرآن، هذا يوم القيامة يضرب بين الكفار والمؤمنين بسور له باب داخله فيه الرحمة: الجنة ومما يلي المؤمنين، ومن قبله العذاب مما يلي الكفار، هذا السور الذي يضرب بينهم، فهذا الأخ يقول: ورد المكيف في القرآن. وأحدهم يقول: الطائرات موجودة في القرآن؟ كيف؟ قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] الطائرات النفاثات في القرآن. وأحدهم يقول: الذرة هذه مكتشفة: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:8]. أيها الإخوة: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] أحد المؤلفين له كتاب فيه، قال: هذه تدل على أشعة الليزر، وظل يقول: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] وأن أشعة الليزر تتولد من مصباح في زجاجة، وتوضع في... فهو مثل الكوة، وتخرج أشعة لا هي شرقية، ولا هي غربية، ويؤلف تأليفاً كله من هذا الباب العجيب. ولذلك أختم كلامي بقول الشنقيطي رحمه الله -وهو مهم جداً في هذا الموضوع- في أضواء البيان: واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء الكفرة والإفرنج -مثلما فعل هذا في نظرية دارون وغيرها- ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا والآخرة، وإنما هو فساد الدارين، ونحن إذ نمنع من التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض المسلمين على بذل الوسع في تعلم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]. وهذا كلام نفيس جداً، يقول: نحن لا نخضع الآيات، لكننا نقول للمسلمين.. ادرسوا وتعلموا هذه العلوم حتى تنصروا بها الدين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القارئين لكتاب الله، اللهم اجعلنا ممن يقرءون كتابك فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه، واجعلنا ممن يقيم حدوده وحروفه، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، واجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، واجعله حجةً لنا لا حجةً علينا بحولك وقوتك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.إذاً: أيها الإخوة! المنعطفات والمزالق كثيرة في قضية فهم الآيات، ومن هذه المزالق والمنعطفات قضية الفتنة التي حصلت بهذا العلم التجريبي عند الكفار، مما جعل بعض المسلمين يتهافتون تهافتاً على إخضاع الآيات والأحاديث لنظريات الكفار، فنتجت عن هذه أشياء عجيبة جداً مذهلة، هذا مصطفى محمود يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] هذا يؤيد نظرية دارون، في أن الإنسان أصله خلية، وبعد ذلك صار برمائيات وزواحف وثدييات، وبعد ذلك صار قرداً، وبعد ذلك صار إنساناً، لأن الله يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] يعني: كان في طور من أطواره خلية، ثم صار برمائياً، وطور صار فيه زواحف، وطور صار فيه ثديات، هذا فهمه، وله كتاب خطير جداً القرآن محاولة لفهم عصري كله من هذه الخرافات والشعوذات، هكذا فهم خلقناكم أطوار، مع أن المفهوم الصحيح لخلقناكم أطواراً نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، فكسونا العظام لحماً، هذه الأطوار، وهذه خطورة عدم الاعتماد على أقوال المفسرين من السلف ، حيث أدى إلى هذه النتيجة الوخيمة. وأحدهم قال: أما تدري أن المكيف موجود في القرآن؟ كيف يكون المكيف موجوداً في القرآن؟! قال: أليس الله يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] يعني: من الداخل رحمة وبرودة، ومن خارج عذاب وحر، يعني: هذا المكيف موجود في القرآن، هذا يوم القيامة يضرب بين الكفار والمؤمنين بسور له باب داخله فيه الرحمة: الجنة ومما يلي المؤمنين، ومن قبله العذاب مما يلي الكفار، هذا السور الذي يضرب بينهم، فهذا الأخ يقول: ورد المكيف في القرآن. وأحدهم يقول: الطائرات موجودة في القرآن؟ كيف؟ قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] الطائرات النفاثات في القرآن. وأحدهم يقول: الذرة هذه مكتشفة: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:8]. أيها الإخوة: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] أحد المؤلفين له كتاب فيه، قال: هذه تدل على أشعة الليزر، وظل يقول: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] وأن أشعة الليزر تتولد من مصباح في زجاجة، وتوضع في... فهو مثل الكوة، وتخرج أشعة لا هي شرقية، ولا هي غربية، ويؤلف تأليفاً كله من هذا الباب العجيب. ولذلك أختم كلامي بقول الشنقيطي رحمه الله -وهو مهم جداً في هذا الموضوع- في أضواء البيان: واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء الكفرة والإفرنج -مثلما فعل هذا في نظرية دارون وغيرها- ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا والآخرة، وإنما هو فساد الدارين، ونحن إذ نمنع من التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض المسلمين على بذل الوسع في تعلم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]. وهذا كلام نفيس جداً، يقول: نحن لا نخضع الآيات، لكننا نقول للمسلمين.. ادرسوا وتعلموا هذه العلوم حتى تنصروا بها الدين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القارئين لكتاب الله، اللهم اجعلنا ممن يقرءون كتابك فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه، واجعلنا ممن يقيم حدوده وحروفه، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، واجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، واجعله حجةً لنا لا حجةً علينا بحولك وقوتك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
ــــــــــــــ(1/156)
ساقي الحرمين العباس بن عبد المطلب
إنه العبَّاس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم رسول الله صلى الله عليه وسلم :، كان من أكرم الناس وأجودهم، قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هذا العباس أجود قريش كفًّا، وأوصلها) [أحمد]. ويروى أنه أعتق عند وفاته سبعين عبدًا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حبًّا شديدًا، ويقول صلى الله عليه وسلم : من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه (أي مثل أبيه)) [الترمذي]. وقد كان العباس أكبر سنًّا من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ولد قبله بثلاث سنين، ومن حسن أدبه أنه لما سُئل: أأنت أكبر أم رسول الله؟ قال: هو أكبر، وأنا ولدت قبله) [الطبراني].
وكان العباس من سادة قريش، وكان يتعهد المسجد الحرام، فيسقي الحجاج ويقوم بخدمتهم، وقد ورث ذلك عن أبيه عبد المطلب، وكان قبل إسلامه شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم :، ويقف بجانبه، ويدفع عنه أذى المشركين، وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، ليطمئن عليه ( وهو لم يعلن إسلامه بعد، فلما التقوا، وتواعدوا على أن يكون اللقاء في اليوم التالي، كان العباس أول من أتى، فبايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصرة والبيعة، والعباس آخذ بيده. [ابن سعد].
فلما كانت غزوة بدر، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقتلوا العباس لأنه خرج مستكرهًا، وبعد المعركة استطاع أبو اليسر -رضي الله عنه- أن يأسر العباس، فلما أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأله رسول الله كيف أسرته؟ قال أبو اليسر: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ولا بعد هيئته كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد أعانك عليه ملك كريم).[ابن هشام وابن سعد].
وقد خشى النبي صلى الله عليه وسلم على عمه، وخاف أن يقتله الأنصار، فأمر عمر أن يأتيهم ويأتي بالعباس إليه، فلبَّتْ الأنصار أمر نبيهم، وتركوا العباس، فقال العباس: يا رسول الله، إني كنت مسلمًا. فنزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} [الأنفال: 70].
ويروى أن رجلا من الأنصار سبَّ أبا للعباس كان في الجاهلية، فغضب العباس ولطمه، فجاء الأنصاري إلى قومه، فقالوا: والله لنلطمنه كما لطمه، فلبسوا السلاح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر، وقال: (أيها الناس، أي أهل الأرض أكرم على الله؟) قالوا: أنت. قال: (فإن العباس مني وأنا منه، لا تسبُّوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا). فجاء القوم فقالوا: نعوذ بالله من غضبك يا رسول الله. [أحمد وابن سعد والحاكم].
وقد أسلم العباس -رضي الله عنه- قبل فتح مكة، وحضر الفتح، وهو الذي طلب الأمان لأبي سفيان بن حرب، وكان سببًا في إيمانه، واشترك -رضي الله عنه- بعد ذلك في فتوح المسلمين، وكان يوم حنين ممسكًا بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ممن التفَّ حول الرسول صلى الله عليه وسلم يدافع عنه بعد أن فرَّ أغلب المسلمين، وأخذ العباس ينادى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين حتى ثبتوا، وأنزل الله عليهم سكينته، وكان النصر العظيم في ذلك اليوم. [مسلم].
وعندما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه إلى أهل الطائف، عسكر بجيشه في مكان قريب منها، ثم بعث إليهم حنظلة بن الربيع -رضي الله عنه- ليكلمهم، فلما وصل إليهم خرجوا وحملوه ليدخلوه حصنهم ويقتلوه، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، خاف على حنظلة، ونظر إلى أصحابه يحثهم على إنقاذه، وقال: (مَن لهؤلاء؟ وله مثل أجر غزاتنا هذه) [ابن عساكر]. فلم يقم أحد من الصحابة إلا العباس الذي أسرع ناحية الحصن حتى أدرك حنظلة، وقد كادوا أن يدخلوه الحصن، فاحتضنه وخلصه من أيديهم فأمطروه بالحجارة من داخل الحصن، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له حتى وصل إليه ومعه حنظلة، وقد نجا من هلاك محقق.
وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- أجدبت الأرض وأصابها الفقر الشديد، فخرج الناس إلى الصحراء ومعهم عمر والعباس، فرفع عمر بن الخطاب يديه إلى السماء، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإن نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. [البخاري].
فلما استسقى عمر بالعباس، قام العباس ورفع يديه إلى ربه وقال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث. ولم يكد العباس ينهي دعاءه حتى امتلأت السماء بالغيوم والسحاب، وأنزل الله غيثه، فانطلق الناس يهنئون العباس، ويقولون له: هنيئًا لك ساقي الحرمين.
وكان للعباس مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، وعظماء الصحابة، فيروى أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان جالسًا بجانب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى العباس مقبلاً، فقام أبو بكر له وأجلسه مكانه بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (إنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهلُ الفضل) [ابن عساكر].
وكان أبو بكر إذا قابل العباس نزل من على دابته، وسار معه احترامًا وإكرامًا له حتى يصل العباس إلى المكان الذي يريده، وكان علي بن أبي طالب يقبل يد العباس ويقول له: يا عم، ارض عني.
وقد كان للعباس ولدان، هما عبد الله بن عباس حَبرْ الأمة، وعبيد الله بن عباس. وتوفي العباس سنة (32هـ)، ودفن بالبقيع، وكان عمره (88) عامًا، وصلى عليه عثمان -رضي الله عنه-.
ــــــــــــــ(1/157)
حكيم الأمة أبو الدرداء الأنصاري
إنه الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن قيس بن عامر الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-، أسلم في غزوة بدر، وقيل إنه آخر مَنْ أسلم من الأنصار.
ومما يروى في قصة إسلامه، أنه كان عنده صنم في داره، وذات يوم دخل عليه عبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة، فشاهدا الصنم فكسراه إلى قطع صغيرة، فبدأ أبو الدرداء يجمع القطع المتناثرة من أحجار الصنم، وهو يقول للصنم: ويحك! هلا امتنعت ألا دافعت عن نفسك؟ فقالت زوجته أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد لدفع عن نفسه ونفعها.
فقال أبو الدرداء أعدي لي ماءً في المغتسل، ثم قام فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إليه ابن رواحة مُقبلا، فقال: يا رسول الله، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا الدرداء إنما جاء ليسلم، وأن الله وعد رسوله بأن يسلم أبو الدرداء، وبالفعل أعلن أبو الدرداء إسلامه، فكان من خيرة الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-.
وشهد أبو الدرداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد وغيرها من المشاهد، وعرف -رضي الله عنه- بالعفو والسماحة، ويحكى أن رجلا قال له ذات مرة قولاً جارحًا، فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه، فعلم بذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فغضب وذهب إلى أبي الدرداء وسأله عما حدث فقال: اللهم غفرانًا، أوكل ما سمعنا منهم نأخذهم به (أي نعاقبهم ونحاسبهم عليه)؟!
وكان أبو الدرداء تاجرًا مشهورًا، فلما أسلم تفرغ للعلم والعبادة، وقال: أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة. ووصف بالشجاعة، حتى قيل عنه: نعم الفارس عويمر. وكان ينطق بالحكمة، فقيل عنه: حكيم الأمة عويمر.
وكان لأبي الدرداء ثلاثمائة وستون صديقًا، فكان يدعو لهم في الصلاة، ولما سئل عن ذلك قال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب إلا وكل الله به مَلَكيْن يقولان، ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟!
وحفظ أبو الدرداء القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان ابن عمر يقول لأصحابه: حدثونا عن العاقلين: معاذ بن جبل وأبي الدرداء.
وكان من العابدين الزاهدين، وقد زاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في بيته فلم ير فيه غير فراش من جلد، وكساء رقيق لا يحميه من البرد، فقال له: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم :؟ قال عمر: أي حديث؟ قال: (ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب) [الترمذي]. قال: نعم، قال أبو الدرداء: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟
وحرص أبو الدرداء -رضي الله عنه- على العلم، وكان حرصه على العمل بما يعلم أقوى وأشد، وكان ملازمًا للنبي ( حتى قال عنه الصحابة: أتْبَعُنَا للعلم والعمل أبو الدرداء.
وكان يقول: لن تكون عالمًا حتى تكون متعلمًا، ولن تكون متعلمًا حتى تكون بما علمت عاملاً، إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما عملت فيما علمت؟، وقال: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات.
وكان -رضي الله عنه- يعلِّم الناس القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ويحثهم على طلب العلم، ويأخذ بأيديهم إلى الصواب، فيقول لهم: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهَّالكم لا يتعلمون؟! تعلموا فإن العالم والمتعلم شريكان في الأجر.
وذات يوم مرَّ أبو الدرداء على أناس يضربون رجلاً ويسبونه، فقال لهم: ماذا فعل؟ فقالوا: أذنب ذنبًا، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في بئر أكنتم تستخرجونه منها؟ قالوا: نعم نستخرجه، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، فقالوا له: ألا تبغضه وتكرهه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
ويروى أنه كان مع المسلمين في قبرص، ففتحها الله على المسلمين، وغنموا خيرًا كثيرًا، وكان أبو الدرداء واقفًا مع جبير بن نفير، فمرَّ عليه السبي والأسرى، فبكى أبو الدرداء، فقال له جبير: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال أبو الدرداء: يا جبير، بينما هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله فلقوا ما ترى! ما أهون العباد على الله إذ هم عصوا!
ويحكى أن يزيد بن معاوية تقدم ليخطب ابنة أبي الدرداء فردَّه، فأعاد يزيد طلبه، فرفض أبو الدرداء مرة ثانية، ثم تقدم لخطبتها رجل فقير عرف بالتقوى والصلاح، فزوجها أبو الدرداء منه، فتعجب الناس من صنيعه، فكان رده عليهم: ما ظنَّكم بابنة أبي الدرداء إذا قام على رأسها الخدم والعبيد وبهرها زخرف القصور، أين دينها يومئذ؟! وكان يقول: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك، وأن تبارى (تنافس) الناس في عبادة الله تعالى.
وعاش أبو الدرداء حياة بسيطة يملؤها الزهد والتواضع حتى جاءته ساعة الموت، فقال عند احتضاره: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ وكان يقول: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده. وقد توفي سنة (32هـ) في خلافة عثمان بن عفان.
ــــــــــــــ(1/158)
أبو الدرداء
من هو :
أَبُو الدَّرْدَاءِ، عُوَيْمِرُ بنُ زَيْدِ بنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيُّ الإِمَامُ، القُدْوَةُ، قَاضِي دِمَشْقَ، وَصَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو الدَّرْدَاءِ، عُوَيْمِرُ بنُ زَيْدِ بنِ قَيْسٍ.
حَكِيْمُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَسَيِّدُ القُرَّاءِ بِدِمَشْقَ.
رَوَى: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِدَّةَ أَحَادِيْثَ.
وَهُوَ مَعْدُوْدٌ فِيْمَنْ تَلاَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَبَداً أَنَّهُ أَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَهُوَ مَعْدُوْدٌ فِيْمَنْ جَمَعَ القُرْآنَ فِي حَيَاةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَتَصَدَّرَ لِلإِقْرَاءِ بِدِمَشْقَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ.
وَوَلِيَ القَضَاءَ بِدِمَشْقَ، فِي دَوْلَةِ عُثْمَانَ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ذُكِرَ لَنَا مِنْ قُضَاتِهَا، وَدَارُهُ بِبَابِ البَرِيْدِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ صَلاحِ الدِّيْنَ تُعْرَفُ: بِدَارِ الغَزِّيِّ.
وَيُرْوَى لَهُ: مائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَسَبْعُوْنَ حَدِيْثاً.
اسلامه كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ آخِرِ الأَنْصَارِ إِسْلاَماً، وَكَانَ يَعْبُدُ صَنَماً، فَدَخَلَ ابْنُ رَوَاحَةَ، وَمُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ بَيْتَهُ، فَكَسَرَا صَنَمَهُ.
فَرَجَعَ، فَجَعَلَ يَجْمَعُ الصَّنَمَ، وَيَقُوْلُ: وَيْحَكَ! هَلاَّ امْتَنَعْتَ، أَلاَ دَفَعْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟
فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَو كَانَ يَنْفَعُ أَوْ يَدْفَعُ عَنْ أَحَدٍ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَنَفَعَهَا.
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَعِدِّي لِي مَاءً فِي المُغْتَسَلِ.
فَاغْتَسَلَ، وَلَبِسَ حُلَّتَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ رَوَاحَةَ مُقْبِلاً، فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! هَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمَا أُرَاهُ إِلاَّ جَاءَ فِي طَلَبِنَا.
فَقَالَ: (إِنَّمَا جَاءَ لِيُسْلِمَ، إِنَّ رَبِّي وَعَدَنِي بِأَبِي الدَّرْدَاءِ أَنْ يُسْلِمَ).
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ وَعَدَنِي إِسْلاَمَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَأَسْلَمَ)
غزوة أُحد قَالَ سَعِيْدُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ: أَسْلَمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ شَهِدَ أُحُداً، وَأَمَرَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ أَنْ يَرُدَّ مَنْ عَلَى الجَبَلِ، فَرَدَّهُمْ وَحْدَهُ.
قَالَ شُرَيْحُ بنُ عُبَيْدٍ الحِمْصِيُّ: لَمَّا هُزِمَ أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ يَوْمَ أُحُدٍ، كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمَئِذٍ فِيْمَنْ فَاءَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا أَظَلَّهُمُ المُشْرِكُوْنَ مِنْ فَوْقِهِمْ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُوْنَا).
فَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ، وَانْتَدَبُوا، وَفِيْهِم عُوَيْمِرُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، حَتَّى أَدْحَضُوْهُمْ عَنْ مَكَانِهِمْ، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمَئِذٍ حَسَنَ البَلاَءِ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نِعْمَ الفَارِسُ عُوَيْمِرٌ).
وَقَالَ: (حَكِيْمُ أُمَّتِي: عُوَيْمِرٌ).
جمع القرآن
كان من القلائل الذين استطاعوا أن يحفظوا القرىن كاملاً فى صدورهم
عَنْ أَنَسٍ:
مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَجْمَعِ القُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذٌ، وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ.
عَنِ الشَّعْبِيِّ:
جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ سِتَّةٌ، وَهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: مُعَاذٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَأُبَيٌّ، وَسَعْدُ بنُ عُبَيْدٍ.
كَانَتِ الصَّحَابَةُ يَقُوْلُوْنَ: أَرْحَمُنَا بِنَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَنْطَقُنَا بِالحَقِّ عُمَرُ، وَأَمِيْنُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَعْلَمُنَا بِالحَرَامِ وَالحَلاَلِ مُعَاذٌ، وَأَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَرَجُلٌ عِنْدَهُ عِلْمٌ ابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَتَبِعَهُم عُوَيْمِرُ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالعَقْلِ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَو أُنْسِيْتُ آيَةً لَمْ أَجِدْ أَحَداً يُذَكِّرُنِيْهَا إِلاَّ رَجُلاً بِبَرْكِ الغَمَادِ، رَحَلْتُ إِلَيْهِ.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ:
سَلُوْنِي، فَوَاللهِ لَئِنْ فَقَدْتُمُوْنِي لَتَفْقِدُنَّ رَجُلاً عَظِيْماً مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ أَبُو ذَرٍّ لأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا حَمَلَتْ وَرْقَاءُ، وَلاَ أَظَلَّتْ خَضْرَاءُ أَعْلَمَ مِنْكَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ.
ورعه و تقواه
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:
كُنْتُ تَاجِراً قَبْلَ المَبْعَثِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ، جَمَعْتُ التِّجَارَةَ وَالعِبَادَةَ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا، فَتَرَكْتُ التِّجَارَةَ، وَلَزِمْتُ العِبَادَةَ.
و الأَفْضَلُ جَمْعُ الأَمْرَيْنِ مَعَ الجِهَادِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ أَمْزِجَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَقْوَى عَلَى الجَمْعِ كَالصِّدِّيْقِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وَكَمَا كَانَ ابْنُ المُبَارَكِ، وَبَعْضُهُمْ يَعْجزُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى العِبَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْوَى فِي بِدَايَتِهِ، ثُمَّ يَعْجِزُ، وَبِالعَكْسِ، وَكُلٌّ سَائِغٌ، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ النَّهْضَةِ بِحُقُوْقِ الزَّوْجَةِ وَالعِيَالِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ الصَّحَابَةُ يَقُوْلُوْنَ: أَتْبَعُنَا لِلعِلْمِ وَالعَمَلِ أَبُو الدَّرْدَاءِ.
وَرَوَى أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَجَاءهُ سَلْمَانُ يَزُوْرُهُ، فَإِذَا أُمُّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةٌ.
فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟
قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ لاَ حَاجَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، يَقُوْمُ اللَّيْلَ، وَيَصُومُ النَّهَارَ.
فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَرَحَّبَ بِهِ، وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَاماً.
فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: كُلْ.
قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ.
قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُفْطِرَنَّ.
فَأَكَلَ مَعَهُ، ثُمَّ بَاتَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ، أَرَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنْ يَقُوْمَ، فَمَنَعَهُ سَلْمَانُ، وَقَالَ:
إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ، وَائْتِ أَهْلَكَ، وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
فَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ، قَالَ: قُمِ الآنَ إِنْ شِئْتَ.
فَقَامَا، فَتَوَضَّأَا، ثُمَّ رَكَعَا، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّلاَةِ، فَدَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيُخْبِرَ رَسُوْلَ اللهِ بِالَّذِي أَمَرَهُ سَلْمَانُ.
فَقَالَ لَهُ: (يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً مِثْلَ مَا قَالَ لَكَ سَلْمَانُ).
علمه و عبادته
قَالَ القَاسِمُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنَ الَّذِيْنَ أُوْتُوا العِلْمَ.
عَنْ مَسْرُوْقٍ، قَالَ:
شَامَمْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمُ انْتَهَى إِلَى: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللهِ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ.
وَعَنْ يَزِيْدَ بنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ مِنَ العُلَمَاءِ وَالفُقَهَاءِ الَّذِيْنَ يَشْفُوْنَ مِنَ الدَّاءِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ:
رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ مِنَ الأَتْبَاعِ مِثْلُ السُّلْطَانِ، فَمِنْ سَائِلٍ عَنْ فَرِيْضَةٍ، وَمِنْ سَائِلٍ عَنْ حِسَابٍ، وَسَائِلٍ عَنْ حَدِيْثٍ، وَسَائِلٍ عَنْ مُعْضِلَةٍ، وَسَائِلٍ عَنْ شِعْرٍ
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَيْلٌ لِلَّذِي لاَ يَعْلَمُ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلَّذِي يَعْلَمُ وَلاَ يَعْمَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ أَدْبَرَا عَنْهُ، نَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ:
ارْجِعَا إِلَيَّ، أَعِيْدَا عَلَيَّ قَضِيَّتَكُمَا.
قُلْتُ لأُمِّ الدَّرْدَاءِ: أَيُّ عِبَادَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ كَانَتْ أَكْثَرَ؟
قَالَتْ: التَّفَكُّرُ وَالاعْتِبَارُ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ.
قِيْلَ لأَبِي الدَّرْدَاءِ - وَكَانَ لاَ يَفْتُرُ مِنَ الذِّكْرِ -: كَمْ تُسَبِّحُ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟
قَالَ: مائَةَ أَلْفٍ، إِلاَّ أَنْ تُخْطِئَ الأَصَابِعُ.
رُوِيَ عَنْ: أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: لَوْلاَ ثَلاَثٌ مَا أَحْبَبْتُ البَقَاءَ سَاعَةً: ظَمَأُ الهَوَاجِرِ، وَالسُّجُوْدُ فِي اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُوْنَ جَيِّدَ الكَلاَمِ، كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ.
الأَعْمَشُ: عَنْ غَيْلاَنَ، عَنْ يَعْلَى بنِ الوَلِيْدِ، قَالَ:
لَقِيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقُلْتُ: مَا تُحِبُّ لِمَنْ تُحِبُّ؟
قَالَ: المَوْتُ.
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَمُتْ؟
قَالَ: يَقِلُّ مَالُهُ وَوَلَدُهُ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:
ثَلاَثَةٌ أُحِبُّهُنَّ وَيَكْرَهُهُنَّ النَّاسُ: الفَقْرُ، وَالمَرَضُ، وَالمَوْتُ، أُحِبُّ الفَقْرَ تَوَاضُعاً لِرَبِّي، وَالمَوْتَ اشْتِيَاقاً لِرَبِّي، وَالمَرَضَ تَكْفِيْراً لِخَطِيْئَتِي.
وَرَوَى: صَفْوَانُ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُسُ، مُرَّ بِالسَّبْيِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَبَكَى.
فَقُلْتُ لَهُ: تَبْكِي فِي مِثْلِ هَذَا اليَوْمِ الَّذِي أَعَزَّ اللهُ فِيْهِ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ!
قَالَ: يَا جُبَيْرُ! بَيْنَا هَذِهِ الأُمَّةُ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ، إِذْ عَصَوُا اللهَ، فَلَقُوا مَا تَرَى، مَا أَهْوَنَ العِبَادَ عَلَى اللهِ إِذَا هُمْ عَصَوْهُ.
عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ:
كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لاَ يُحَدِّثُ بِحَدِيْثٍ إِلاَّ تَبَسَّمَ.
فَقُلْتُ: إِنّي أَخَافُ أَنْ يُحَمِّقَكَ النَّاسُ.
فَقَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يُحَدِّثُ بِحَدِيْثٍ إِلاَّ تَبَسَّمَ.
عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ:
كَانَ لأَبِي الدَّرْدَاءِ سِتُّوْنَ وَثَلاَثُ مائَةِ خَلِيْلٍ فِي اللهِ، يَدْعُو لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ رَجُلٌ يَدْعُو لأَخِيْهِ فِي الغَيْبِ إِلاَّ وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَقُوْلاَنِ: وَلَكَ بِمِثْلٍ، أَفَلاَ أَرْغَبُ أَنْ تَدْعُوَ لِيَ المَلائِكَةُ.
و روى أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي المَوْتَى، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ المَظْلُوْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلِيْلاً يُغْنِيْكَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيْرٍ يُلْهِيْكَ، وَأَنَّ البِرَّ لاَ يَبْلَى، وَأَنَّ الإِثْمَ لاَ يُنْسَى
وَعَنْهُ، قَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الأَغْنِيَاءَ يَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُمْ مِثْلُنَا عِنْدَ المَوْتِ، وَلاَ نَتَمَنَّى أَنَّنَا مِثْلُهُمْ حِيْنَئِذٍ، مَا أَنْصَفَنَا إِخْوَانُنَا الأَغْنِيَاءُ، يُحِبُّوْنَنَا عَلَى الدِّيْنِ، وَيُعَادُوْنَنَا عَلَى الدُّنْيَا.
دوره فى الشام جَمَعَ القُرْآنَ خَمْسَةٌ: مُعَاذٌ، وَعُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأُبَيٌّ، وَأَبُو أَيُّوْبَ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ، كَتَبَ إِلَيْهِ يَزِيْدُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ:
إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ كَثُرُوا، وَمَلَؤُوا المَدَائِنَ، وَاحْتَاجُوا إِلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمُ القُرْآنَ، وَيُفَقِّهُهُمْ، فَأَعِنِّي بِرِجَالٍ يُعَلِّمُوْنَهُمْ.
فَدَعَا عُمَرُ الخَمْسَةَ، فَقَالَ: إِنَّ إِخْوَانَكُم قَدِ اسْتَعَانُوْنِي مَنْ يُعَلِّمُهُمُ القُرْآنَ، وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّيْنِ، فَأَعِيْنُوْنِي يَرْحَمْكُمُ اللهُ بِثَلاَثَةٍ مِنْكُمْ إِنْ أَحْبَبْتُمْ، وَإِنِ انْتُدِبَ ثَلاَثَةٌ مِنْكُمْ، فَلْيَخْرُجُوا.
فَقَالُوا: مَا كُنَّا لِنَتَسَاهَمَ، هَذَا شَيْخٌ كَبِيْرٌ - لأَبِي أَيُّوْبَ - وَأَمَّا هَذَا فَسَقِيْمٌ - لأُبَيٍّ -.
فَخَرَجَ: مُعَاذٌ، وَعُبَادَةُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ.
فَقَالَ عُمَرُ: ابْدَؤُوا بِحِمْصَ، فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُوْنَ النَّاسَ عَلَى وُجُوْهٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهُمْ مَنْ يَلْقَنُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَوَجِّهُوا إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا رَضِيْتُمْ مِنْهُمْ، فَلْيَقُمْ بِهَا وَاحِدٌ، وَلْيَخْرُجْ وَاحِدٌ إِلَى دِمَشْقَ، وَالآخَرُ إِلَى فِلَسْطِينَ.
قَالَ: فَقَدِمُوا حِمْصَ، فَكَانُوا بِهَا، حَتَّى إِذَا رَضُوا مِنَ النَّاسِ، أَقَامَ بِهَا عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ، وَخَرَجَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلَى دِمَشْقَ، وَمُعَاذٌ إِلَى فِلَسْطِيْنَ، فَمَاتَ فِي طَاعُوْنِ عَمَوَاسَ.
ثُمَّ صَارَ عُبَادَةُ بَعْدُ إِلَى فِلَسْطِيْنَ، وَبِهَا مَاتَ، وَلَمْ يَزَلْ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ حَتَّى مَاتَ.
بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ ابْتَنَى كَنِيْفاً بِحِمْصَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
يَا عُوَيْمِرُ، أَمَا كَانَتْ لَكَ كِفَايَةٌ فِيْمَا بَنَتِ الرُّوْمُ عَنْ تَزْيِيْنِ الدُّنْيَا، وَقَدْ أَذِنَ اللهُ بِخَرَابِهَا، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي، فَانْتَقِلْ إِلَى دِمَشْقَ.
عَنْ مُسْلِمِ بنِ مِشْكَمٍ:
قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: اعْدُدْ مَنْ فِي مَجْلِسِنَا.
قَالَ: فَجَاؤُوا أَلْفاً وَسِتَّ مائَةٍ وَنَيِّفاً، فَكَانُوا يَقْرَؤُوْنَ، وَيَتَسَابَقُوْنَ عَشْرَةً عَشْرَةً، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ انْفَتَلَ، وَقَرَأَ جُزْءاً، فَيُحْدِقُونَ بِهِ، يَسْمَعُوْنَ أَلْفَاظَهُ، وَكَانَ ابْنُ عَامِرٍ مُقَدَّماً فِيْهِم. حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بنُ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يُصَلِّي، ثُمَّ يُقْرِئُ، وَيَقْرَأُ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ القِيَامَ، قَالَ لأَصْحَابِهِ: هَلْ مِنْ وَلِيْمَةٍ أَوْ عَقِيْقَةٍ نَشْهَدُهَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، وَإِلاَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي صَائِمٌ، وَهُوَ الَّذِي سَنَّ هَذِهِ الحِلَقَ لِلقِرَاءةِ.
وفاته
قَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، جَعَلَ يَقُوْلُ: مَنْ يَعْمَلُ لِمِثْلِ يَوْمِي هَذَا، مَنْ يَعْمَلُ لِمِثْلِ مَضْجَعِي هَذَا. مَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.سنة 32 ( السير )
ــــــــــــــ(1/159)
أبو الدَّرْدَاء
الإمام القدوة . قاضي دمشق ، وصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو الدرداء عويمر بن زيد بن قيس ويقال : عويمر بن عامر ، ويقال : ابن عبد الله . وقيل : ابن ثعلبة بن عبد الله - الأنصاري الخزرجي .
حكيم هذه الأمة . وسيد القراء بدمشق .
وقال ابن أبي حاتم : هو عويمر بن قيس بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج .
قال : ويقال : اسمه عامر بن مالك .
روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث .
وهو معدود فيمن تلا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولم يبلغنا أبدا أنه قرأ على غيره .
وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وتصدر للإقراء بدمشق في خلافة عثمان ، وقبل ذلك .
روى عنه : أنس بن مالك ، وفضالة بن عبيد ، وابن عباس ، وأبو أمامة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ; وغيرهم من جلة الصحابة ، وجبير ابن نفير ، وزيد بن وهب ، وأبو إدريس الخولاني ، وعلقمة بن قيس ، وقبيصة بن ذؤيب ، وزوجته أم الدرداء العالمة ، وابنه بلال بن أبي الدرداء ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن يسار ، ومعدان بن أبي طلحة ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وخالد بن معدان ، وعبد الله بن عامر اليحصبي .
وقيل : إنه قرأ عليه القرآن ولحقه ; فإن صح ، فلعله قرأ عليه بعض القرآن وهو صبي .
وقرأ عليه عطية بن قيس ، وأم الدرداء .
وقال أبو عمرو الداني : عرض عليه القرآن : خليد بن سعد ، وراشد بن سعد ، وخالد بن معدان ، وابن عامر . كذا قال الداني . وولي القضاء بدمشق ، في دولة عثمان . فهو أول من ذكر لنا من قضاتها . وداره بباب البريد . ثم صارت في دولة السلطان صلاح الدين تعرف بدار الغزي .
ويروى له مائة وتسعة وسبعون حديثا .
واتفقا له على حديثين ، وانفرد البخاري بثلاثة ، ومسلم بثمانية .
روى سعيد بن عبد العزيز ، عن مغيث بن سمي : أن أبا الدرداء ، عويمر بن عامر من بني الحارث بن الخزرج .
وقال ابن إسحاق مرة : هو عويمر بن ثعلبة .
مات قبل عثمان بثلاث سنين .
وقال البخاري : سألت رجلا من ولد أبي الدرداء ، فقال : اسمه عامر بن مالك . ولقبه : عويمر .
وقال أبو مسهر : هو عويمر بن ثعلبة . وقال أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعدة : عويمر بن عامر
وآخر من زعم أنه رأى أبا الدرداء ، شيخ عاش إلى دولة الرشيد ، فقال أبو إبراهيم الترجماني : حدثنا إسحاق أبو الحارث ، قال : رأيت أبا الدرداء أقنى أشهل يخضب بالصفرة .
روى الأعمش ، عن خيثمة : قال أبو الدرداء : كنت تاجرا قبل المبعث ، فلما جاء الإسلام ، جمعت التجارة والعبادة ، فلم يجتمعا ، فتركت التجارة ، ولزمت العبادة
قلت : الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد ، وهذا الذي قاله ، هو طريق جماعة من السلف والصوفية ، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك ، فبعضهم يقوى على الجمع ، كالصديق ، وعبد الرحمن بن عوف ، وكما كان ابن المبارك ; وبعضهم يعجز ، ويقتصر على العبادة ، وبعضهم يقوى في بدايته ، ثم يعجز ، وبالعكس ; وكل سائغ . ولكن لا بد من النهضة بحقوق الزوجة والعيال .
قال سعيد بن عبد العزيز : أسلم أبو الدرداء يوم بدر ، ثم شهد أحدا ، وأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ أن يرد مَنْ على الجبل ، فردَّهم وحدَه . وكان قد تأخر إسلامه قليلا .
قال شريح بن عبيد الحمصي : لما هُزم أصحاب رسول الله يوم أحد ، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله في الناس ، فلما أظلهم المشركون من فوقهم ، قال رسول الله : اللهم ، ليس لهم أن يَعْلُونا فثاب إليه ناس ، وانتدبوا ، وفيهم عويمر أبو الدرداء ، حتى أدحضُوهم عن مكانهم ، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء . فقال رسول الله : نِعْمَ الفارس عُوَيْمِر! .
وقال : حكيم أمتي عويمر .
هذا رواه يحيى البابلتي : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن شريح .
ثابت البناني ، وثمامة ، عن أنس : مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد .
وقال زكريا ، وابن أبي خالد ، عن الشعبي : جمع القرآن على عهد رسول الله ستة ، وهم من الأنصار : معاذ ، وأبو الدرداء ، وزيد ، وأبو زيد ، وأبي ، وسعد بن عبيد .
وكان بقي على مجمع بن جارية سورة أو سورتان ، حين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم .
إسماعيل ، عن الشعبي ، قال : كان ابن مسعود قد أخذ بضعا وسبعين سورة ، يعني من النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وتعلم بقيته من مجمع ، ولم يجمع أحد من الخلفاء من الصحابة القرآن غير عثمان .
قال أبو الزاهرية : كان أبو الدرداء من آخر الأنصار إسلاما وكان يعبد صنما ، فدخل ابن رواحة ، ومحمد بن مسلمة بيته ، فكسرا صنمه ، فرجع فجعل يجمع الصنم ، ويقول : ويْحَكَ! هلاّ امتنعت! ألا دفعت عن نفسك؟! ، فقالت أم الدرداء : لو كان ينفع أو يدفع عن أحد ، دفع عن نفسه ، ونفعها ! .
فقال أبو الدرداء : أعدي لي ماء في المغتسل . فاغتسل ، ولبس حلته ، ثم ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ; فنظر إليه ابن رواحة مقبلا ، فقال : يا رسول الله ، هذا أبو الدرداء ، وما أراه إلا جاء في طلبنا ؟ فقال : إنما جاء ليسلم ، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم .
روى من قوله : "وكان يعبد ... إلى آخره" معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير .
وروى منه ، أبو صالح ، عن معاوية عن أبي الزاهرية ، عن جبير ، عن أبي الدرداء : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إن الله وعدني إسلام أبي الدرداء ، فأسلم .
وروى أبو مِسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز : أن أبا الدرداء أسلم يوم بدر ، وشهد أحدا . وفرض له عمر في أربع مائة -يعني في الشهر- ألحقه في البدريين
وقال الواقدي : قيل : لم يشهد أحدا .
سعيد بن عبد العزيز ، عن مكحول : كانت الصحابة يقولون : أرْحَمُنَا بنا أبو بكر ; وأنْطَقُنَا بالحقِّ عمر ; وأمِينُنَا أبو عبيدة ; وأعْلَمُنَا بالحرام والحلال معاذ ; وأقْرَأُنَا أُبَيُّ ، ورجل عنده علم ابن مسعود ، وتبعهم عُوَيْمِر أبو الدرداء بالعَقْلِ .
وقال ابن إسحاق : كان الصحابة يقولون : أتبعنا للعلم والعمل أبو الدرداء .
وروى عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله آخى بين سلمان وأبي الدرداء ; فجاءه سلمان يزوره ، فإذا أم الدرداء متبذلة ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : إن أخاك لا حاجة له في الدنيا ، يقوم الليل ، ويصوم النهار . فجاء أبو الدرداء ، فرحب به ، وقرب إليه طعاما . فقال له سلمان : كُلْ . قال : إني صائم . قال : أقسمت عليك لتفطرن . فأكل معه . ثم بات عنده ، فلما كان من الليل ، أراد أبو الدرداء أن يقوم ، فمنعه سلمان وقال : إن لجسدك عليك حقا . ولربك عليك حقا . ولأهلك عليك حقا ; صم ، وأفطر ، وصل ، وائت أهلك ، وأعط كل ذي حق حقه
فلما كان وجه الصبح ، قال : قم الآن إن شئت ; فقاما ، فتوضآ ، ثم ركعا ، ثم خرجا إلى الصلاة ، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله بالذي أمره سلمان . فقال له : يا أبا الدرداء ، إن لجسدك عليك حقا ، مثل ما قال لك سلمان .
البابلتي : حدثنا الأوزاعي : حدثنا حسان بن عطية ، قال : قال أبو الدرداء : لو أُنسِيتُ آية لم أجد أحدا يذكرنيها إلا رجلا بِبَرْكِ الغِماد ، رحلت إليه .
الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أبي الدرداء ، قال : سلوني ، فوالله لئن فقدتموني لتفقدن رجلا عظيما من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم .
ربيعة القصير ، عن أبي إدريس ، عن يزيد بن عميرة ، قال : لما حضرت معاذا الوفاة ، قالوا : أوصنا . فقال : العلم والإيمان مكانهما ، من ابتغاهما وجدهما . -قالها ثلاثا- فالتمسوا العلم عند أربعة : عند عويمر أبي الدرداء ، وسلمان ، وابن مسعود ، وعبد الله بن سلام ، الذي كان يهوديا فأسلم .
وعن ابن مسعود : علماء الناس ثلاثة : واحد بالعراق، وآخر بالشام -يعني: أبا الدرداء- وهو يحتاج إلى الذي بالعراق -يعني: نفسه- وهما يحتاجان إلى الذي بالمدينة -يعني: عليا رضي الله عنه .إسناده ضعيف .
ابن وهب : أخبرني يحيى بن عبد الله ، عن عبد الرحمن الحجري ، قال : قال أبو ذر لأبي الدرداء : ما حملت ورقاء ، ولا أظلت خضراء ، أعلم منك يا أبا الدرداء
منصور ، عن رجل ، عن مسروق ، قال : وجدت علم الصحابة انتهى إلى ستة : عمر ، وعلي ، وأبي ، وزيد ، وأبي الدرداء ، وابن مسعود ; ثم انتهى علمهم إلى علي ، وعبد الله .
وقال خالد بن معدان : كان ابن عمر يقول : حدثونا عن العاقلين . فيقال : من العاقلان ؟ فيقول : معاذ ، وأبو الدرداء .
وروى سعد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب ، قال : جمع القرآن خمسة : معاذ ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وأبي ، وأبو أيوب . فلما كان زمن عمر ، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان : إن أهل الشام قد كثروا ، وملؤوا المدائن ، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم . فأعني برجال يعلمونهم . فدعا عمر الخمسة ; فقال : إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن ، ويفقههم في الدين ، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم ، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا .
فقالوا : ما كنا لنتساهم ، هذا شيخ كبير -لأبي أيوب- وأما هذا فسقيم - لأبي - فخرج معاذ ، وعبادة ، وأبو الدرداء .
فقال عمر : ابدؤوا بحمص ، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة ، منهم من يلقن ، فإذا رأيتم ذلك ، فوجهوا إليه طائفة من الناس ، فإذا رضيتم منهم ، فليقم بها واحد ، وليخرج واحد إلى دمشق ، والآخر إلى فلسطين . قال : فقدموا حمص فكانوا بها ; حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة بن الصامت ; وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ، ومعاذ إلى فلسطين ، فمات في طاعون عمواس . ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين وبها مات . ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات .
الأحوص بن حكيم : عن راشد بن سعد ، قال : بلغ عمر أن أبا الدرداء ، ابتنى كنيفا بحمص . فكتب إليه : يا عويمر ، أما كانت لك كفاية فيما بنت الروم عن تزيين الدنيا ، وقد أذن الله بخرابها . فإذا أتاك كتابي ، فانتقل إلى دمشق .
مالك ، عن يحيى بن سعيد ، قال : كان أبو الدرداء ، إذا قضى بين اثنين ، ثم أدبرا عنه ، نظر إليهما ، فقال : ارجعا إليَّ ، أعيدا علي قضيتكما .
معمر ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، قال : كتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد : سلام عليك . أما بعد ، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله ، أبغضه الله ; فإذا أبغضه الله ، بغَّضَهُ إلى عباده .
وقال أبو وائل ، عن أبي الدرداء : إني لآمركم بالأمر وما أفعله ، ولكن لعل الله يأجرني فيه .
شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه : أن عمر قال لابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي الدرداء : ما هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم! وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب
سعيد بن عبد العزيز ، عن مسلم بن مشكم : قال لي أبو الدرداء : اعدد من في مجلسنا . قال : فجاءوا ألفا وست مائة ونيفا . فكانوا يقرءون ويتسابقون عشرة عشرة ، فإذا صلى الصبح ، انفتل وقرأ جزءا ; فيحدقون به يسمعون ألفاظه . وكان ابن عامر مقدما فيهم .
وقال هشام بن عمار : حدثنا يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه ، قال : كان أبو الدرداء يصلي ، ثم يقرئ ويقرأ ، حتى إذا أراد القيام ، قال لأصحابه : هل من وليمة أو عقيقة نشهدها ؟ فإن قالوا : نعم ، وإلا قال : اللهم ، إني أشهدك أني صائم . وهو الذي سن هذه الحلق للقراءة .
قال القاسم بن عبد الرحمن : كان أبو الدرداء من الذين أوتوا العلم .
أبو الضحى ; عن مسروق ، قال : شاممت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فوجدت علمهم انتهى إلى عمر ، وعلي ، وعبد الله ، ومعاذ ، وأبي الدرداء ، وزيد بن ثابت .
وعن يزيد بن معاوية ، قال : إن أبا الدرداء من العلماء الفقهاء ، الذين يشفون من الداء .
وقال الليث ، عن رجل عن آخر : رأيت أبا الدرداء دخل مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ومعه من الأتباع مثل السلطان : فمن سائل عن فريضة ، ومن سائل عن حساب ، وسائل عن حديث ، وسائل عن معضلة ، وسائل عن شعر .
قال ربيعة بن يزيد القصير : كان أبو الدرداء إذا حدث عن رسول الله قال : اللهم إن لا هكذا ، وإلا فكشكله .
منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال أبو الدرداء : ما لي أرى علماءكم يذهبون ، وجهالكم لا يتعلمون ! تعلموا ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الأجر .
وعن أبي الدرداء ، من وجه مرسل : لن تكون عالما حتى تكون متعلما ، ولا تكون متعلما حتى تكون بما علمت عاملا ; إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي : ما عملت فيما علمت ؟ .
جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، قال أبو الدرداء : ويل للذي لا يعلم مرة ، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات .
ابن عجلان ، عن عون بن عبد الله : قلت لأم الدرداء : أي عبادة أبي الدرداء كانت أكثر؟ قالت : التفكر والاعتبار .
وعن أبي الدرداء : تفكر ساعة خير من قيام ليلة .
عمرو بن واقد ، عن ابن حلبس : قيل لأبي الدرداء -وكان لا يفتر من الذكر-: كم تُسَبِّح في كل يوم ؟ قال : مائة ألف ، إلا أن تخطئ الأصابع .
الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، قال : بينا أبو الدرداء يوقد تحت قدر له ، إذ سمعت في القدر صوتا ينشج ، كهيئة صوت الصبي ، ثم انكفأت القدر ، ثم رجعت إلى مكانها ، لم ينصب منها شيء . فجعل أبو الدرداء ينادي : يا سلمان ، انظر إلى ما لم تنظر إلى مثله أنت ولا أبوك ! فقال له سلمان : أما إنك لو سكت ، لسمعت من آيات ربك الكبرى .
الأوزاعي ، عن بلال بن سعد ، أن أبا الدرداء قال : أعوذ بالله من تفرقة القلب . قيل : وما تفرقة القلب ؟ قال : أن يجعل لي في كل واد مال .
روي عن أبي الدرداء ، قال : لولا ثلاث ما أحببت البقاء : ساعة ظمأ الهواجر ، والسجود في الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما ينتقى أطايب الثمر .
الأعمش ، عن غيلان ، عن يعلى بن الوليد ، قال : لقيت أبا الدرداء ، فقلت : ما تحب لمن تحب ؟ قال : الموت . قلت : فإن لم يمت ؟ قال : يقل ماله وولده .
قال معاوية بن قرة : قال أبو الدرداء : ثلاثة أحبهن ، ويكرههن الناس : الفقر ، والمرض ، والموت . أحب الفقر تواضعا لربي ، والموت اشتياقا لربي ، والمرض تكفيرا لخطيئتي .
الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبيه : أن أبا الدرداء أوجعت عينه حتى ذهبت ، فقيل له : لو دعوت الله ؟ فقال : ما فرغت بعد من دعائه لذنوبي ; فكيف أدعو لعيني ؟ .
حريز بن عثمان : حدثنا راشد بن سعد ، قال : جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال : أوصني . قال : اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء ; وإذا ذكرت الموتى ، فاجعل نفسك كأحدهم ، وإذا أشرفت نفسك على شيء من الدنيا ، فانظر إلى ما يصير .
إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث : كان أبو الدرداء يقرئ رجلا أعجميا : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فقال : "طعام اليتيم" فردَّ عليه ، فلم يقدر أن يقولها . فقال : قل : طعام الفاجر . فأقرأه "طعام الفاجر" .
منصور ، عن عبد الله بن مرة ، أن أبا الدرداء قال : اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى ، وإياك ودعوة المظلوم ، واعلم أن قليلا يغنيك خير من كثير يلهيك ، وأن البر لا يبلى ، وأن الإثم لا ينسى .
شيبان ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن أبي الدرداء : إياك ودعوات المظلوم ; فإنهن يصعدن إلى الله كأنهن شرارات من نار .
وروى لقمان بن عامر ، أن أبا الدرداء قال : أهل الأموال يأكلون ونأكل ، ويشربون ونشرب ، ويلبسون ونلبس ، ويركبون ونركب ، ولهم فضول أموال ينظرون إليها ، وننظر إليها معهم ، وحسابهم عليها ونحن منها برآء .
وعنه ، قال : الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت ، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ . ما أنصفنا إخواننا الأغنياء : يحبوننا على الدين ، ويعادوننا على الدنيا .
رواه صفوان بن عمرو الحمصي ، عن عبد الرحمن بن جبير .
وروى صفوان ، عن ابن جبير ، عن أبيه ، قال : لما فتحت قبرس ، مر بالسبي على أبي الدرداء ، فبكى ، فقلت له : تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟ قال : يا جبير ، بينا هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله ، فلقوا ما ترى . ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه .
بقية ، عن حبيب بن عمر ، عن أبي عبد الصمد ، عن أم الدرداء ، قالت : كان أبو الدرداء لا يحدث بحديث إلا تبسم ، فقلت : إني أخاف أن يحمقك الناس . فقال : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحدث بحديث إلا تبسم .
أخرجه أحمد في "المسند" .
عكرمة بن عمار ، عن أبي قدامة محمد بن عبيد ، عن أم الدرداء ، قالت : كان لأبي الدرداء ستون وثلاث مائة خليل في الله . يدعو لهم في الصلاة ، فقلت له في ذلك ، فقال : إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب إلا وَكَّل الله به ملكين يقولان : ولك بمثل . أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة .
وقال أبو الزاهرية : قال أبو الدرداء : إنا لنُكَشِّر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم
قالت أم الدرداء : لما احتضر أبو الدرداء ، جعل يقول : من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ .
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق : أخبرنا الفتح بن عبد السلام ، أخبرنا محمد بن عمر القاضي ، ومحمد بن علي ، ومحمد بن أحمد الطرائقي : قالوا: أخبرنا محمد بن أحمد بن المسلمة : أخبرنا عبيد الله ابن عبد الرحمن : أخبرنا جعفر الفريابي : حدثنا محمد بن عائذ : حدثنا الهيثم بن حميد : حدثنا الوضين بن عطاء ، عن يزيد بن مزيد ، قال : ذكر الدجال في مجلس فيه أبو الدرداء فقال نوف البكالي إني لغير الدجال أخوف مني من الدجال . فقال أبو الدرداء : وما هو ؟ قال : أخاف أن أُسْتَلَبَ إيماني وأنا لا أشعر . فقال أبو الدرداء : ثكلتك أمك يا ابن الكندية ! وهل في الأرض خمسون يتخوفون ما تتخوف؟ ثم قال : وثلاثون ، وعشرون ، وعشرة ، وخمسة . ثم قال : وثلاثة . كل ذلك يقول : ثكلتك أمك! والذي نفسي بيده ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه ، أو انتزع منه فيفقده . والذي نفسي بيده ما الإيمان إلا كالقميص يتقمصه مرة ويضعه أخرى .
قال الواقدي ، وأبو مسهر ، وابن نمير : مات أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين .
وعن خالد بن معدان ، قال : مات سنة إحدى وثلاثين .
فهذا خطأ ، لأن الثوري روى عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن حريث بن ظهير ، قال : لما جاء نعي -يعني: ابن مسعود- إلى أبي الدرداء ، قال : أما إنه لم يخلف بعده مثله! ووفاة عبد الله في سنة 32 .
وروى إسماعيل بن عبيد الله ، عن أبي عبيد الله الأشعري ، قال : مات أبو الدرداء قبل مقتل عثمان -رضي الله عنهما .
وقيل : الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل ، ولكل عشرة منهم ملقن ، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما ، فإذا أحكم الرجل منهم ، تحول إلى أبي الدرداء - يعني يعرض عليه .
وعن أبي الدرداء ، قال : من أكثر ذكر الموت قل فرحه ، وقل حسده .
ــــــــــــــ(1/160)
صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان
إنه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، كان يكنَّى أبا عبد الله، دخل هو وأبوه اليمان في دين الإسلام، وحاَلفَ أبوه بني عبد الأشهل من الأنصار، وعندما توجها إلى المدينة أخذهما كفار قريش، وقالوا لهما: إنكما تريدان محمدًا، فقالا: ما نريد إلا المدينة، فأخذ المشركون عليهما عهدًا أن ينصرفا إلى المدينة، ولا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاءت غزوة بدر أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بعهدهما مع المشركين، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم (انصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) [مسلم].
وشارك حذيفة وأبوه في غزوة أحد، وأثناء القتال، نظر حذيفة إلى أبيه، فرأى المسلمون يريدون قتله ظنًّا منهم أنه من المشركين، فناداهم حذيفة يريد أن ينبههم قائلاً: أي عباد الله! أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه دية لأبيه، ولكن حذيفة تصدق بها على المسلمين.
وفي غزوة الأحزاب، حيث كان المشركون متجمعين حول المدينة، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف أخبارهم، وطلب من الصحابة أن يقوم رجل
منهم ويتحسس أخبارهم، قائلاً: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟) فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع وشدة البرد، قال حذيفة: فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حيث دعاني، فقال: (يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئًا حتى تأتينا).
فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناء، فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، فارتحلوا إني مرتحل. وعاد حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث.
وذات يوم دخل حذيفة المسجد فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي، فوقف خلفه يصلي معه، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران في ركعة واحدة، وإذا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ استعاذ...)_[مسلم].
وقد استأمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على سرِّه، وأعلمه أسماء المنافقين، فكان يعرفهم واحدًا واحدًا، وكان عمر ينظر إليه إذا مات أحد من المسلمين، فإذا وجده حاضرًا جنازته علم أن الميت ليس من المنافقين فيشهد الجنازة، وإن لم يجده شاهدًا الجنازة لم يشهدها هو الآخر. وقال علي -رضي الله عنه-: كان أعلم الناس بالمنافقين، خَيَّرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة.
ودخل حذيفة المسجد ذات مرة فوجد رجلا يصلي ولا يحسن أداء الصلاة، ولا يتم ركوعها ولا سجودها، فقال له حذيفة: مُذْ كم هذه صلاتك؟ فقال الرجل: منذ أربعين سنة، فأخبره حذيفة أنه ما صلى صلاة كاملة منذ أربعين سنة، ثم أخذ يعلِّمه كيف يصلي.
وكان حذيفة فارسًا شجاعًا، وحينما استشهد النعمان بن مقرن أمير جيش المسلمين في معركة نهاوند، تولى حذيفة القيادة، وأخذ الراية وتم للمسلمين النصر على أعدائهم، وشهد فتوح العراق وكان له فيها مواقف عظيمة.
وعرف حذيفة بالزهد، فقد أرسل إليه عمر مالاً ليقضي به حاجته، فقسم حذيفة هذا المال بين فقراء المسلمين وأقاربه، وأرسله عمر أميرًا على المدائن، وكتب لأهلها أن يسمعوا لحذيفة، ويطيعوا أمره، ويعطوه ما يسألهم، وخرج حذيفة متوجهًا إلى المدائن، وهو راكب حمارًا، وبيده قطعة من اللحم، فلما وصل إلى المدائن قال له أهلها: سلنا ما شئت. فقال حذيفة: أسألكم طعامًا آكله، وعلف حماري ما دمت فيكم. وظل حذيفة على هذا الأمر، لا يأخذ من المال قليلاً ولا كثيرًا إلا ما كان من طعامه وعلف حماره.
وأراد عمر أن يرى حال حذيفة وما أصبح فيه، فكتب إليه يطلب قدومه إلى المدينة، ثم اختبأ في الطريق حتى يرى ماذا جمع؟ فرآه على نفس الحال التي خرج بها، فخرج إليه فرحًا سعيدًا يقول له: أنت أخي وأنا أخوك. وكان عمر يقول: إني أتمنى أن يكون ملء بيتي رجالا مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان أستعملهم في طاعة الله.
وكان حذيفة -رضي الله عنه- يحب العزلة ويقول: لوددت أن لي مَنْ يصلح من مالي (يدير شئونه)، وأغلق بابي فلا يدخل عليَّ أحد، ولا أخرج إليهم حتى ألحق بالله.
وذات مرة غضب الناس من أحد الأمراء، فأقبل رجل إلى حذيفة في المسجد فقال له: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فرفع حذيفة رأسه، وعرف ما يريد الرجل، ثم قال له: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن، وليس من السنة أن تشهر (ترفع) السلاح على أميرك. وقد سئل: أي الفتنة أشد؟ فقال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب. وقال لأصحابه: إياكم ومواقف الفتن، فقيل له، وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه. وتُوفي -رضي الله عنه- سنة (36هـ).
ــــــــــــــ(1/161)
التأثير ومنهج ابن اليمان
د. علي الحمادي
إن هندسة التأثير أمر متاح للجميع، ولكن لها مستلزمات ومتطلبات، ومن مستلزماتها أن يقتنع الإنسان أنه قادر على ذلك، وأن تكون رؤيته لنفسه ولمستقبله واضحة جلية لديه، وأن يتخذ قراراً حازماً للوصول إليها، وأن يبدأ المشوار بجد واجتهاد، وقبل هذا وذاك أن يتوكل على الله ويستعين به.
إننا جميعاً مدعوون إلى التسابق في هذا المضمار، إذ إنه مضمار خير ونفع للفرد والمجتمع، بل وللبشرية بأسرها، وصدق خالق السماوات والأرض إذ يقول: سابقوا إلى" مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21) (الحديد).
ويقول الله تعالى: وعجلت إليك رب لترضى" 84 (طه).
ويقول الشاعر:
دعي نفسي التكاسل والتواني
وإلا فاثبتي في ذا الهوان
فلم أر للكسالى الحظ يُعطي
سوى ندم وحرمان الأماني
ويقول الشاعر وهو يوصي ابنه جبيلاً:
أجبيل إن أباك كارب يومه
فإذا دعيت إلى العظائم فاعجل
أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح
طبن بريب الدهر غير مغفل
ويُحسن بنا الإشارة إلى أهم العوائق التي تحول بين المرء وبين إحداث تأثير نافع فذّ في هذه الحياة، وذلك للتحذير منها والتنبيه إلى خطورتها وكذلك إلى ضرورة التخلص منها ومعالجتها، متخذين في ذلك منهج الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان الذي كان يسأل عن الشر، لا حباً فيه وإنما رغبة في الحذر والتحذير منه، حتى لا يقع هو فيه أو يُبتلى فيه أحد المسلمين.
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "انظر جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
ويقول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
أما بخصوص عوائق التأثير والعقبات التي يمكن أن تعترضه فهي كثيرة، ولكن أهمها عشرون وهي:
1 عدم توفيق الله تعالى، ومن حُرم توفيق الله تعالى فقد وُكل إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه خاب وخسر.
2 التردد وعدم الحزم في اتخاذ القرارات اللازمة لصناعة التأثير.
3 الخوف من المجهول أو من الآثار المتوقعة لصناعة التأثير.
4 عدم الاقتناع بأهمية وضرورة أن يكون الإنسان مؤثراً وصانعاً للحياة.
5 ضعف الهمة وانعدام الطموح.
6 الخجل من مزاحمة المؤثرين أو المساعدين على التأثير وعدم ولوج مجالسهم ومنتدياتهم، والابتعاد عن محاورتهم ومناقشتهم.
7 الشعور بالنقص والدونية.
8 الاستسلام للفشل، وانعدام نفسية التحدي، وعدم المثابرة حتى آخر رمق.
9 القناعة المزيفة التي تؤدي بصاحبها إلى الرضى بالدون.
10 مجالسة الكسالى والتأثر بهم.
11 عدم المحاولة، والبعد عن التجريب.
12 التعود على الإمعية والتبعية وتربية الذات "أو الجيل" عليها.
13 القهر والاستبداد وكتم أنفاس البشر وعدم ترك المجال لهم للتعبير عن آرائهم وقناعاتهم.
14 الجهل وعدم تطوير الذات، مما يحول دون فهم وإدراك مجالات التأثير وأدواته وفرصه وأساليبه وطرقه ووسائله.
15 اليأس والإحباط من الواقع الخاص أو العام.
16 انعدام الجدية، والتعامل مع الحياة بصورة مائعة هزلية.
17 الاهتمام بصغائر الأمور وإهمال عظائمها.
18 الاستعجال في قطف الثمرة، والتسرع في إصدار الأحكام على الأشخاص أو القضايا وعدم القدرة على استيعاب الأوضاع والتكيف مع المستجدات بشيء من التعقل والتروي والأناة.
19 التربية الخاطئة وضيق الصدر.
20 الحماقة وقلة العقل، وصدق من قال:
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
ــــــــــــــ(1/162)
العلماء المرابطون في أفواه الثغور
د. نزار عبد القادر ريان(*
كان سيدنا النبي { يقف يوم بدر على رأس ثلاث مئة وستين مجاهدًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم... قليل عددهم، ضئيل زادهم، لم يكن فيهم فرسان يومها غير الزبير والمقداد، وأكثرهم حفاة، لا يجد النبي { ما يحملهم عليه، أو يكسوهم به.
يومها كانت فارس تمتد في المشرق من أطراف الجزيرة العربية حتى تتجاوز أسوار الصين، وتسيطر روما على مغارب الأرض من أطراف أوروبا الشرقية حتى ساحل الشام وبعض بلاد إفريقيا الشمالية، وكأني بالصحابة يتحدثون: "كنا نحن القليل عددهم، الضئيل زادهم، لا نرى غير راية الحق التي نحمل للعالمين، ننقذ البشرية مما هي فيه من ضلال وتيه، فاستعصى الطغاة على الدعوة، ولم تبق غير الحراب المؤمنة، تنفي العناد والشرك عن الأمم والشعوب التي تضطهدها أنظمة الجاهلية والكفر". لذلك كان سيدنا النبي { على رأس المجاهدين، سيفه ذو الفَقَار الأقطع، ورمحه البتار يسبق الريح، ينشر الخير والنور والعدل والإيمان.
ومضت تلك السنة مضيئة الآفاق، خالدة المعالم، تكتب التاريخ بسطور من دموع ودماء وإباء، فهذا أبو بكر الصديق يخرج في جيش أسامة بن زيد نحو الشام، ويتبعه بعد ذلك عمر في فتح بلاد بيت المقدس، يكتب له أبوعبيدة بن الجراح، ويذكر جموع الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: "أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله له بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسرٌ يسرين، وإن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200) (آل عمران).
ثم يمضي على السنة عثمان، ويتواصل خروج الصحابة القراء حتى يستحر القتل فيهم، فيجمع القرآن من الأفواه في المصحف العثماني، ولا يمنع القراء من مواصلة الخروج على رؤوس البعوث، يتقدمهم عبدالله بن عباس فاتحًا في ثلوج أذربيجان، ويتبعه تلميذه سعيد بن جبير على رأس آلاف القراء من طلبة العلم مع ابن الأشعث شرقًا، بعد أن صار ركوب البحر من حمص، نحو قبرص ومطالع أوروبا دأب الفاتحين ونهجهم.
ويسلم العراق والشام، وتمتد أعناق المطي برايتنا وارفة الظلال في البقاع الطاهرة، يحرس ثغورها العلماء جيلاً بعد جيل، فهذا الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، يحرس الثغر الشمالي في أطراف الشام العليا، فيرابط في ثغر طرسوس وحلب، ويخرج محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة من الشام إلى الحرم، فيملي عبد الله بن المبارك عليه هذه الأبيات لإبلاغها إلى الفضيل بن عياض، ويودعه للخروج وينشد معه:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبارالأطيب
قال محمد بن إبراهيم: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: "صدق أبوعبدالرحمن ونصحني".
كذلك كان علماؤنا، وكذلك كان أهل الحديث خاصة، فالإمام ابن المبارك إمام في الحديث والجهاد، يمضي على طريقته الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل يقول: "خرجت إلى الثغر على قدمي، فالتقطت" يعني: كان يلتقط التمر من الأرض من الجوع، يصاحب المجاهدين في مواقع النبال، ويفتي المرابطين في الثغور ويعلمهم دينهم، ويروي لهم الحديث في مظان الموت تمامًا كما كان أبو موسى الأشعري يفعل حين يروي أحاديث الجهاد والرباط التي تلقاها عن سيدنا النبي { في مرابط الخيل، ووجه العدو، فيؤديها كما علمها.
كان هذا دأب الصالحين من قبل، فأبو أيوب الأنصاري يشخص مرابطًا في سبيل الله، حتى يدفن تحت أسوار القسطنطينية، ينتظر وعد رسولنا {، بفتح القسطنطينية أولاً، وها هي شواهد الحق تروي للناس من بعد حكاية أصحاب النبي {، فهنا قبر أبي عبيدة، وهنا قبر معاذ بن جبل، وهنا قبر عكرمة، وهناك في الأرض تتبعثر قبور الصالحين من الفاتحين والمجاهدين، ليلتئم شمل أمة الجهاد والفتح المبين بعد.
وهذا إمامنا البخاري رحمه الله، إمام الحديث والفقه الجهادي، يرى حراسة الثغور دينًا كما رواية الحديث وطلبه، فيلزم الثغر الذي يخاف منه هجوم العدو، فيرابط في بلادنا فلسطين في قيسارية جنوب حيفا، ويرابط في أيلة، وبيت المقدس، ويتعب في رواية الحديث يومًا "فيستلقي على قفاه، فيقول له تلميذه: ما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسنا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حَدَث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أُهبة، فإن غافصنا فاجأنا العدو كان بنا حَراك"
وكان يركب إلى الرمي كثيرًا، فما أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، وكان لا يسبق" يهتف بالحديث: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا".
وكان حذيفة بن اليمان يغازي في أذربيجان وأرمينيا، ويعقب عمر الجيوش في كل عام، فشغل عنهم عمر، فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر، فاشتد عليهم وتواعدهم وهم أصحاب رسول الله {؛ لتركهم الثغر في الموعد المحدد، فكيف بمن سيب الثغور كلها؟
هؤلاء أئمة الدين والجهاد، فقد عرفت فالزم.
ــــــــــــــ(1/163)
حذيفة بن اليمان
من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب السر.
- واسم اليمان: حسل ويقال: حسيل - ابن جابر العبسي اليماني ، أبو عبد الله حليف الأنصار ، من أعيان المهاجرين.
- وكان والده ( حسل ) قد أصاب دماً في قومه، فهرب إلى المدينة، وحالف بني عبدالأشهل. فسماه قومه (اليمان) لحلفه لليمانية ، وهم الأنصار.
- شهد هو وابنه حذيفة أحداً فاستشهد يومئذ. قتله بعض الصحابة غلطاً ، ولم يعرفه ، لأن الجيش يختفون في لأمة الحرب ، ويسترون وجوههم ، فإن لم يكن لهم علامة بينة ، وإلا ربما قتل الأخ أخاه ، ولا يشعر. ولما شدوا على اليمان يومئذ بقي حذيفة يصيح : أبي ! أبي ! يا قوم ! فراح خطأ ، فتصدق حذيفة عليهم بديته.
- عن أبي يحيى، قال: سأل رجل حذيفة ، وأنا عنده ، فقال : ما النفاق ؟ قال: أن تتكلم بالإسلام ولا تعمل به.
- عن ابن سيرين ، أن عمر كتب في عهد حذيفة على المدائن : اسمعوا له وأطيعوا ، وأعطوه ما سألكم. فخرج من عند عمر على حمار موكف ، تحت زاده ، فلما قدم استقبله الدهاقين وبيده رغيف ، وعرق من لحم.
- ولي حذيفة إمرة المدائن لعمر ، فبقي عليها إلى بعد مقتل عثمان ، وتوفي بعد عثمان بأربعين ليلة.
- قال حذيفة : ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي ، فأخذنا كفار قريش ، فقالوا : إنكم تريدون محمداً ! فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا العهد عليها: لنصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ( نفي بعهدهم، ونستعين الله عليهم).
- وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأمة.
- وحذيفة هو الذي ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو ، وعلى يده فتح الدينور عنوة. ومناقبه تطول رضي الله عنه.
- عن حذيفة، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي فقال : ( الائتزار ها هنا ، فإن أبيت فأسفل ، فإن البيت ، فلا حق للإزار فيما أسفل الكعبين). وفي لفظ: (فلا حق للإزار في الكعبين).
- عن الزهري: أخبرني أبو إدريس: حذيفة يقول: والله إني لأعلم الناس بكل فتنه هي كائنة فيما بيني وبين الساعة.
- قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
- عن حذيفة ، قال : قام فينا رسول الله مقاماً ، فحدثنا بما هو كائن إلى قيام الساعة ، فحفظه من حفظه ونسيه من نسيه.
- قلت [ أي الذهبي ]: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل كلامه ويفسره ، فلعله قال في مجلسه ذلك ما يكتب في جزء ، فذكر أكبر الكوائن ، ولو ذكر ما هو كائن في الوجود ، لما تهيأ أن يقوله في سنة ، بل ولا في أعوام ، ففكر في هذا.
- مات حذيفة بالمدائن سنة ست وثلاثين، وقد شاخ.
- عن أبي عاصم الغطفاني ، قال : كان حذيفة لا يزال يحدث الحديث ، يستفظعونه. فقيل له: يوشك أن تحدثنا: أن يكون فينا مسخ ! قال: نعم: ليكونن فيكم مسخ: قردة وخنازير.
- عن بلال بن يحيي ، قال : بلغني أن حذيفة كان يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا: وأنت ؟ قال: وأنا والله، إني لأدخل على أحدهم وليس أحداً إلا فيه محاسن ومساوئ فأذكر محاسنه، وأعرض عما سوى ذلك ، وربما دعاني أحدهم إلى الغداء ، فأقول : إني صائم ، ولست بصائم.
- عن الحسن، قال: لما حضر حذيفة الموت ، قال : حبيب جاء على فاقه ، لا أفلح من ندم ! أليس بعدي ما أعلم ! الحمد لله الذي سبق بي الفتنة ! قادتها وعلوجها.
- عن النزال بن سبرة ، قال : قلت لأبي مسعود الأنصاري : ماذا قال حذيفة عند موته ؟ قال لما كان عن السحر : قال : أعوذ بالله من صباح إلى النار ، ثلاثاً. ثم قال : اشتروا لي ثوبين أبيضين ، فإنهما لن يتركا علي إلا قليلاً حتى أبدل بهما خيراً منهما ، أو أسلبهما سلباً قبيحاً.
نزهة الفضلاء ، للدكتور محمد موسى الشريف 1/162
ــــــــــــــ(1/164)
وقفة تربوية حال القلوب مع الفتن
روى الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي ص قال: "تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرب من هواه".
فمن أراد الابتعاد عن المعاصي، والحذر منها، ورام صفاء القلب، ونقاءه من الأقذاء، فعليه بتذكر هذا الذي ذكره الرسول ص لصحابته الكرام، وما يحدث للقلب عند المعصية، وكيف يتحول القلب، ويغطيه الران حتى تغلق جميع مسامات الإحساس التي لديه!، فلا يعود يشعر بالخير أبداً أو يتأثر به.
يروي الإمام الأعمش عن أحد هؤلاء الربانيين الذين يديمون هذا الشعور واستحضاره حتى يستمروا في هذه اليقظة الإيمانية، لئلا يقتحم قلوبهم إحدى تلك المعاصي التي تؤذي بذلك الانسداد الكامل يقول: "كنا عند مجاهد فقال: القلب هكذا، وبسط كفه، فإذا أذنب الرجل ذنباً قال: هكذا، وعقد واحداً ثم أذنب وعقد اثنين ثم ثلاثاً ثم أربعاً، ثم رد الإبهام على الأصابع في الذنب الخامس، ثم يطبع على قلبه".
قال مجاهد: "فأيكم يرى أنه لم يطبع على قلبه" (صفة الصفوة 2-210).
أيها الداعية إلى الله: لا تظنن أنك بمنأى عن ذلك، إذا ما توالت معاصيك، وأنت لا تشعر بمصيبتك.=>
ــــــــــــــ(1/165)
صاحب العمامة الحمراء أبو دجانة الأنصاري
إنه الصحابي الجليل أبو دجانة الأنصاري، واسمه سِمَاك بن أوس بن خرشة، أسلم وآمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عتبة بن غزوان، وكان شديد الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، كثير العبادة، اشترك في غزوة بدر وحضر المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وأبلى فيها بلاء حسنًا.
وقف يوم أحد إلى جانب فرسان المسلمين، يستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض عليهم سيفه، قائلا: (من يأخذ مني هذا؟) فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا ..أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فمن يأخذه بحقه؟)، فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه أبو دجانة، ففلق به هام المشركين (أي شق رءوسهم) [مسلم].
وأخذ أبو دجانة عصابته الحمراء وتعصب بها، فقال الأنصار من قومه: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، ثم نزل ساحة المعركة، وهو ينشد:
أَنَا الذي عَاهَدَنِي خَلِيلِي وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَنْ لا أُقِيمَ الدَّهرَ في الكبُولِ أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ
وأخذ يقتل المشركين، ويفلق رءوسهم بسيف الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدأ النصر يلوح للمسلمين، فلما ترك الرماة أماكنهم، وانشغلوا بجمع الغنائم، عاود المشركون هجومهم مرة أخرى، ففر كثير من المسلمين، وثبت بعضهم يقاتل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم :، منهم أبو دجانة الذي كان يدفع السهام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما رأى كتائب المشركين تريد الوصول إليه، فتصدى لهم بكل ما أوتى من قوة؛ أملا في الحصول على الشهادة.
ومات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنه، فواصل جهاده مع خليفته أبي بكر الصديق، وشارك في حروب الردة، وكان في مقدمة جيش المسلمين الذاهب إلى اليمامة لمحاربة مدعى النبوة مسيلمة الكذاب وقومه بني حنيفة، وقاتل قتال الأسد حتى انكشف المرتدون، وفروا إلى حديقة مسيلمة، واختفوا خلف أسوارها وحصونها المنيعة، فألقى المسلمون بأنفسهم داخل الحديقة وفي مقدمتهم أبو دجانة، ففتح الحصن، وحمى القتال، فكسرت قدمه، ولكنه لم يهتم، وواصل جهاده حتى امتلأ جسده بالجراح، فسقط شهيدًا على أرض المعركة، وانتصر المسلمون، وفرحوا بنصر الله، وشكروا لأبي دجانة صنيعه من تضحية وجهاد لإعلاء كلمة الله.
ــــــــــــــ(1/166)
جيل القدوة "أبو دُجَانة" رضي الله عنه
المقاتل بسيفين
هو سِماك بن خرشة الخزرجي الأنصاري، كان من السابقين الأنصار الذين نصروا رسول الله {. من صناديد الإسلام وأبطاله ومن فضلاء الصحابة وأكابرهم، آخى رسول الله بينه وبين عتبة بن غزوان (رضي الله عنهما).
كان "أبو دجانة" (رضي الله عنه) يتميز بوضع عصابة حمراء يعصب بها رأسه في المعارك، شجاعاً متحدّياً المشركين غير هياب، مندفعاً للقتال دفاعاً عن دين الله ورسوله.
شهد "أبو دجانة" بدراً وأحداً، حيث كان أحد الأبطال في الفئة التي ثبتت والتي كان في طليعتها: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وسعد وأبو عبيدة (رضي الله عنهم أجمعين).
لقد كانت المعركة حاسمة وكادت أن تنتهي بالهزيمة لولا أن الله تدارك المسلمين برحمته ونصرهم ويأبى الله إلا أن يتم نوره (التوبة:32) فلولا لطف الله بثبات هؤلاء لما بقي للإسلام أثر ولكن الرسول القائد ثبت، والمؤمنين ثبتوا وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" (الأنفال:17).
أخذ رسول الله { يوم أحد سيفاً وقال: من يأخذ هذا السيف؟ فبسطوا أيديهم، فقال الرسول القائد: من يأخذه بحقّه؟ فأحجم القوم. فقام أبو دجانة البطل فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله. فأخذه وارتجز أبياتاً من الشعر، وقام يمشي متبختراً، فقال رسول الله: انها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموقف، وتلك كانت مشية البطل "أبو دجانة" في المعارك.
كان يقاتل بسيفين: سيف الرسول القائد الذي أخذه بحقه وسيفه.
عاد بعض الصحابة الكرام أبا دجانة وهو مريض، وكان وجهه مشرقاً فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنين: أما أحدهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الاخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً. واحسبهما من جوهر الإسلام.
خاض أبو دجانة (رضي الله عنه) جميع الغزوات والمعارك، واستشهد يوم اليمامة بعدما كسرت رجله، وغطته دماء الجراح التي أصابته، رضي الله عنه.
محمد مصطفى ناصيف
ــــــــــــــ(1/167)
أبو دُجانة الأنصاري
سماك بن خَرَشة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد الساعدي .
كان يوم أحد عليه عصابة حمراء ، يقال : آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عتبة بن غزوان .
قال الواقدي : ثبت أبو دجانة يوم أحد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وبايعه على الموت . وهو ممن شارك في قتل مسيلمة الكذاب ، ثم استشهد يومئذ .
قال محمد بن سعد : لأبي دجانة عقب بالمدينة وببغداد إلى اليوم .
وقال زيد بن أسلم : دخل على أبي دجانة وهو مريض ، وكان وجهه يتهلل . فقيل له : ما لوجهك يتهلل ؟ فقال : ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليما .
وعن أنس بن مالك قال : رمى أبو دجانة بنفسه يوم اليمامة إلى داخل الحديقة ، فانكسرت رجله ، فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل -رضي الله عنه .
وقيل : هو سماك بن أوس بن خرشة .
صالح بن موسى ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : لما وضعت الحرب أوزارها ، افتخر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأيامهم ، وطلحة ساكت لا ينطق ، وسماك بن خرشة أبو دجانة ساكت لا ينطق فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأى سكوتهما : لقد رأيتني يوم أحد وما في الأرض قربي مخلوق غير جبريل عن يميني ، وطلحة عن يساري .
وكان سيف أبي دجانة غير دميم ؛ وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض ذلك السيف حتى قال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فأحجم الناس عنه ، فقال أبو دجانة : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : تقاتل به في سبيل الله حتى يفتح الله عليك أو تقتل . فأخذه بذلك الشرط ، فلما كان قبل الهزيمة يوم أحد خرج بسيفه مصلتا وهو يتبختر ، ما عليه إلا قميص وعمامة حمراء قد عصب بها رأسه ، وإنه ليرتجز ويقول : إني امرؤ عاهدني خليلي
إذ نحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقيم الدهر في الكبول
أضرب بسيف الله والرسول
قال : يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في مثل هذا المواطن .
وحِرْزُ أبي دجانة شيء لم يصح ما أدري من وضعه .
ــــــــــــــ(1/168)
أصغر النقباء أسعد بن زرارة
إنه أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-، أول من قدم المدينة بالإسلام، ويروى أنه أول من صلى الجمعة بها مع أربعين من أصحابه.
وكان قد خرج مع صاحب له يدعى ذكوان بن عبد القيس إلى مكة يتحاكمان إلى عتبة بن ربيعة وكانا قد اختلفا فيما بينهما، فلما وصلا إلى مكة، وسمعا ب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبا إليه، فعرض عليهما الإسلام، وتلا آيات من القرآن الكريم، فأسلما، ولم يقربا عتبة بن ربيعة، ثم رجعا إلى المدينة فكانا أول من قدم بالإسلام إلى المدينة [ابن سعد].
شهد بيعة العقبة الأولى والثانية، وكان أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ، واختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبًا على قبيلته، ولم يكن في النقباء أصغر سنًّا منه.
وعن أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة -قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس الصلوات الخمس، يجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل ابني رافع. قالت: فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، لما قدم في ذلك المسجد وبناه، فهو مسجده اليوم (أي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ) [ابن سعد].
وكان -رضي الله عنه- كريمًا، وقد استضاف مصعب بن عمير -رضي الله عنه- عندما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ ليعلم أهلها الإسلام، وجلس مصعب وأسعد في أحد بساتين بني عبد الأشهل، فالتفَّ حولهما الناس، وأخذا يدعوان الناس إلى الإسلام فأسلم على يديهما جمع كبير من بني عبد الأشهل ووقف أسعد ابن زرارة -رضي الله عنه- مواقف بطولية تدل على نبل أخلاقه، وصدق إيمانه، وعظمة حبه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وعندما مرض أسعد بن زرارة، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمرضه، ذهب يزوره، فوجده مريضًا بالذبحة (وجع في الحلق)، ثم مات -رضي الله عنه- في السنة الأولى للهجرة و الرسول صلى الله عليه وسلم يبني مسجده، وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ودفن بالبقيع، فكان -رضي الله عنه- أول صحابي من الأنصار يدفن بالبقيع. وقد أوصى أسعد ببناته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وكن ثلاثًا، فكن في رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفالته. [ابن سعد].
ــــــــــــــ(1/169)
الشهيد الصادق أنس بن النضر
إنه الصحابي الجليل أنس بن النضر -رضي الله عنه-، عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وعلى اسمه يسمَّى، وينسب إلى بني النجَّار في المدينة.
وقد أحب أنس رسوله صلى الله عليه وسلم ، وظل مدافعًا عنه حتى آخر قطرة دم في جسده، ولم يعلم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم لقتال المشركين يوم بدر، فحزن حزنًا شديدًا، ونذر نفسه للشهادة في سبيل الله ليعوض ما فاته من يوم
بدر.
وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نادمًا أن فاتته غزوة بدر، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، غبت عن قتال بدر، غبت عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين اللهُ ما أصنع، فلما كان يوم أحد، خرج أنس بن النضر مع المسلمين، وهو يتمنى أن يلقى الله شهيدًا في هذه الغزوة.
وبدأت المعركة وكان النصر حليف المسلمين إلى أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وتحول النصر إلى هزيمة، وفر عدد كبير من المسلمين، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى نفر قليل، فلما رأى أنس بن النضر
-رضي الله عنه- ذلك المشهد تذكَّر على الفور وعده لله تعالى، وقوله للرسول صلى الله عليه وسلم : لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع.
فانطلق يشق صفوف المشركين قائلاً: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعنى أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى المشركين)، ثم تقدم شاهرًا سيفه، فاستقبله سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد. وأخذ يقاتل ويضرب بسيفه يمينًا وشمالاً، حتى سقط شهيدًا على أرض المعركة، وبعد انتهاء القتال حكى سعد بن معاذ -رضي الله عنه- للنبي ( ما صنعه أنس بن النضر، وقال: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
وقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليتفقدوا شهداء أحد، ويتعرفوا عليهم، فوجدوا أنس بن النضر وبه بضعة وثمانون جرحًا ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثل به المشركون فلم يعرفه أحد إلا أخته الربيع بنت النضر بعلامة في أصابعه [البخاري]. وروى أن هذه الآية الكريمة {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 23] نزلت في أنس بين النضر ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم.
ــــــــــــــ(1/170)
قاتل المائة البراء بن مالك
إنه البراء بن مالك بن النضر -رضي الله عنه- أخو أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وأحد الأبطال الأقوياء، بايع تحت الشجرة، وشهد أحدًا وما بعدها من الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، عاش حياته مجاهدًا في سبيل الله.
وكانت كل أمانيه أن يموت شهيدًا، وقتل بمفرده مائة رجل في المعارك التي شارك فيها، فقد دخل عليه أخوه أنس مرة وهو يتغنى بالشعر، فقد منحه الله صوتًا جميلا، فقال له: يا أخي، تتغنى بالشعر، وقد أبدلك الله به ما هو خير منه القرآن؟ فقال له: أتخاف عليَّ أن أموت على فراشي، لا والله، ما كان الله ليحرمني الشهادة في سبيله، وقد قتلت مائة بمفردي سوى من شاركت في قتله.
وشارك في حروب الردة، وأظهر فيها بطولة فائقة، أبهرت عقول من رآه، وها هو ذا يوم اليمامة يقف منتظرًا أن يصدر القائد خالد بن الوليد أمره بالزحف لملاقاة المرتدين، ونادى خالد: الله أكبر. فانطلقت جيوش المسلمين مكبرة، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك.
وراح يقاتل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه، وهم يتساقطون أمامه قتلى؛ الواحد تلو الآخر، ولم يكن جيش مسيلمة ضعيفًا، ولا قليلا، بل كان أخطر جيوش الردة، وقد تصدوا لهجوم المسلمين بكل عنف حتى كادوا يأخذون زمام المعركة، وتحولت مقاومتهم إلى هجوم، فبدأ الخوف يتسرب إلى صفوف المسلمين، فأسرع خالد بن الوليد إلى البراء بن مالك قائلا له: تكلم يا براء، فقام البراء، وصاح في المسلمين مشجعًا، ومحفزًا لهم على القتال، فقال: يا أهل المدينة، لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله وحده والجنة. وركب فرسه واندفع نحو الأعداء، ومعه المسلمون يقاتلون قتالا شديدًا حتى رجحت كفة المسلمين، واندفع المرتدون إلى الوراء هاربين، واحتموا بحديقة لمسيلمة ذات أسوار عالية .
ووقف المسلمون أمام الحديقة يفكرون في حيلة يقتحمون بها الحصن، فإذا بالبراء بن مالك، يقول: يا معشر المسلمين، ألقوني إليهم. فاحتمله المسلمون وألقوه في الحديقة، فقاتلهم حتى فتحها على المسلمين، ودخل المسلمون الحديقة، وأخذوا يقتلون أصحاب مسيلمة، وانتصر المسلمون إلا أن حلم البراء لم يتحقق، لقد ألقى بنفسه داخل الحديقة آملا أن يرزقه الله الشهادة، ولكن لم يشأ الله بعد.
ورجع البراء بن مالك وبه بضعة وثمانون جرحًا ما بين ضربة بسيف أو رمية بسهم، وحمل إلى خيمته ليداوى، وقام خالد بن الوليد على علاجه بنفسه شهرًا كاملا.
وعندما شُفي البراء من جراحات يوم اليمامة، انطلق مع جيوش المسلمين التي ذهبت لقتال الفرس، وفي إحدى حروب المسلمين مع الفرس لجأ الفرس إلى وسيلة وحشية حيث استخدموا كلاليب من حديد معلقة في أطراف سلاسل ملتهبة محماة بالنار، يلقونها من حصونهم، فترفع من تناله من المسلمين، وسقطت إحدى هذه الكلاليب على أنس بن مالك، فلم يستطع أنس أن يخلص نفسه، فرآه البراء، فأسرع نحوه، وقبض على السلسلة بيديه، وأخذ يجرها إلى أسفل حتى قطعت، ثم نظر إلى يديه فإذا عظامها قد ظهرت وذاب اللحم من عليها، وأنجى الله أنس بن مالك بذلك.
وظل البراء -رضي الله عنه- يقاتل في سبيل الله معركة بعد أخرى متمنيًا أن يحقق الله له غايته، وها هى ذي موقعة تُسْتُر تأتى ليلاقي المسلمون فيها جيوش الفرس، وتتحقق فيها أمنية البراء.
لقد تجمع الفرس واحتشدوا في جيش كثيف، وجاءوا من كل مكان للقاء المسلمين، وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أميريه على الكوفة والبصرة أن يرسل كل منهما جيشاً إلى الأهواز، والتقى الجيشان القادمان من الكوفة والبصرة بجيش الفرس في معركة رهيبة، وكان البراء أحد جنود المسلمين في تلك المعركة، وبدأت المعركة بالمبارزة كالعادة، فخرج البراء للمبارزة، والتحم الجيشان وتساقط القتلى من الفريقين، وكاد المسلمون أن ينهزموا.
فاقترب بعض الصحابة من البراء قائلين له: يا براء، أتذكر يوم أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنك: (كم من أشعث أغبر ذى طمرين (ثوبين قديمين)، لا يؤبه له (لا يهتم به أحد) لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك؟) [الترمذي]. ثم طلب الصحابة منه أن يدعو الله لهم، فرفع البراء يده إلى السماء داعيًا: اللهم امنحنا أكتافهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، اللهم ألحقني بنبيك.
ثم انطلق فركب فرسه، وهجم على الفرس، وقتل أحد كبارهم، وفتح الله على المسلمين وانتصروا على الفرس، واستشهد البراء بن مالك في هذه المعركة بعد رحلة جهاد طويلة، قدم فيها البراء كل ما يملك في سبيل دينه، وكانت وفاته في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة (20هـ) رضي الله عنه وأرضاه.
ــــــــــــــ(1/171)
التوازن.. بين كراهية الإمارة ووجوب قيادة الناس
توفيق علي
ليس الأمر في فقه التأمير منوطاً فقط بالقدرات العملية للداعي العامل في المؤسسات الدعوية، وإنما للقدرات النفسية والأخلاقية كذلك، فقد يكون هذا الداعي من حيث قدراته العملية ممتازاً ومناسباً للعمل، لكن من حيث قدراته النفسية غير مناسب، وهذا لا يقدح فيه بأي حال من الأحوال.
يقول الشيباني في شرح السير الكبير: كان عمر بن الخطاب يكتب إلى عمّاله: لا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش المسلمين؛ فإنه هلكة من الهُلك يقدم بهم، أي أنه شجاع مقدام لا يهاب أبداً، فقد يهلك الجيش.
والبراء بن مالك قال فيه النبي {: "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك"، رواه مسلم.
فبرغم أنه مستجاب الدعاء إلا أنه لا يصلح لقيادة الجيش لفرط شجاعته رضوان الله عليه.
وكذا الأمر في المؤسسة الدعوية، قد يكون الأخ على علم شرعي، لكنه غضوب لا يصلح للعمل التربوي وتربية الجدد من الدعاة.
وقد يكون الأخ ماهراً في إلقاء الدروس إلا أنه لا يصلح لترتيب مؤتمر لأنه لا يبالي بالوقت والدقة فيه.. ونحو ذلك، وهذه الأمور يعرفها القادة في العاملين معهم.
مظاهر الحرص على الإمارة:
1 العُجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم وخُلُق وغيره.
2 بيان عيوب الآخرين وخاصة الأقران والغيرة منهم عند مدحهم ومحاولة التقليل من شأنهم.
3 الشكوى من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير لتقلّد بعض المناصب.
4 الحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس والتأليف والقضاء. وهي من فروض الكفاية التي لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.
5 عدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوساً، والتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها.
6 كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها.
7 الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.
8 القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب، وكثرة الدخول عليهم، وهو مظنة قوية للفتنة في الدين.
العلاج:
1 تكثيف التربية الإيمانية؛ القائمة على الإخلاص والتجرد لله تبارك وتعالى والعمل للآخرة، والزهد في الدنيا.
2 التربية على الطاعة وهضم النفس منذ الصغر، والرضا بالموقع الذي يعمل فيه، وأداء واجبه أياً كان نوعه، كما صوّر النبي { تلك الحال في قوله: "طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٍ رأسه، مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع".
3 التزام الضوابط الشرعية في المدح، وتجنب مدح أحد الأقران أمام قرينه مطلقاً.
4 توضيح الأسس الشرعية لاختيار الأمير، وأنه لا يجوز طلب الإمارة، ولا الحرص عليها، وأن من طلبها لا يُعطاها، وإن وُلِّيها لم يُعَن عليها.
5 المصارحة والمكاشفة لمن تبدو عليه علامات الحرص، مع إحسان الظن به، فقد يكون متميزاً أو لديه مهارات فطرية، ومن ثَمّ النصيحة الفردية، فقد نصح النبي { أباذر } في هذا الأمر خاصة.
6 تبيان الآثار المفسدة لنفس العالم والداعية من جرّاء حرصه علي الإمارة.
7 توضيح تبعاتها في الدنيا والآخرة. ومما ورد في ذلك قوله {: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة". وقوله {: "ما من أمير عشيرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور".
8 الاعتبار بحال السلف الصالح في تواضعهم لله تعالى وكراهيتهم الشهرة والتصدّر، وكل ما يؤدي إليها، ومحاولة عزل أنفسهم من بعض المواقع كما حصل من أبي بكر، وعبدالرحمن بن عوف، والحسن، وعمر ابن عبدالعزيز رضي الله عنهم والأمثلة كثيرة.. تركوها لله، لانشغالهم بمرضاته، وتوحّد همّهم وقصدهم، فتكفّل الله لهم بخير الدارين، فعوّضهم الله بشرف التقوى، وهيبة الخلق، قال عز وجل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96) (مريم)، وقال رسول الله {: "وما تواضع أحد لله إلا رفعه". وقال: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".
ولا يمكن بحال تحصيل هذه المنزلة لمن كان في قلبه حب المكانة في قلوب الخلق في الدنيا؛ لأن هذا من أعظم الصوارف عن الله تعالى، كتب وهب بن منبه إلى مكحول: "أما بعد: فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى".
والمراد بالعلم الباطن: المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته ومراقبته، والتوكل عليه والرضا بقضائه والإقبال عليه دون سواه.. فمن أغل نفسه بالمحافظة على ما حصل له من منزلة عند الخلق كان ذلك حظه من الدنيا، وانقطع به عن الله.
بين كراهية الإمارة ووجوبها
لا ينبغي أن يفهم من هذا الموضوع إرادة قتل الطموح، وتفضيل دنو الهمة والقعود والخمول والعجز والكسل والتهرب من المسؤولية، وترك العمل، والتخاذل عن الواجبات، وفروض الكفايات، خاصة إذا تعينت على الأكفاء، وترك اغتنام الفرص النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد جعل ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بين الأمرين كالفرق بين تعظيم أمر الله وتعظيم النفس.
فالناصح لله المعظم لله يحب نصرة دينه، فلا يضره تمنيه أن يكون ذلك بسببه وأن يكون قدوة في الخير.
أما طالب الرياسة فهو ساعٍ في حظوظ دنياه، ولذا ترتب على قصده مفاسد لا حصر لها.
والمقصود أن الداعية المخلص يكره الإمارة بطبعه؛ لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة، وهو فارس الميدان إذا تعين عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم: واجعلنا للمتقين إماما 74 (الفرقان) أي: أئمة هدى يقتدى بأفعالهم، وهذا لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون العباد ممتثلين لأمره.
وصايا عملية:
اعمل ولا تتوقف، واجعل حب الإمارة في يدك لا في قلبك.. فإن كنت الأمير العادل عملت وبذلت وقمت بحق مكانك، وإلا فأنت الجندي النشيط الذي لا يقصر ولا يتوانى.
إن الإمارة يجب أن تقوم على الكفاءة، وأن تكون على تخصص، وليست هي بالعموم، حتى لا يتولد لدينا "السوبر قائد" الذي يعرف كل شيء ويجيد كل شيء! ويتأمر على كل شيء!!
إن العمل الدعوي إن قبل طلب الإمارة من أحد الدعاة فإنما يربط ذلك بالإنجاز وتحقيق الأهداف ليس غير، فإن عجز الداعي عن ذلك فعليه أن يعتذر ولا يكابر، وكما تقدم لينجز فعليه أن يتأخر لينجز غيره.. ولا يتشبث!!
إن معايير التأمير والقيادة في العمل الإسلامي يجب أن تخرج من إطار النظر إليها أنها أعمال تطوعية، لننظر إليها كمؤسسة لها ضوابطها، ولها معاييرها، ولها شروطها؛ فمن أنجز فهو الأمير بحق، ومن عجز فيبقى ود الإخاء، ولا محاباة على مصلحة المؤسسة.
ادع الله أن يُعينك على دعوتك، واطلب التوفيق منه، ودع عنك كلام الناس، فقط اطلب العون من الله، فإنه محاسبك حتى على خلجات نفسك.
ــــــــــــــ(1/172)
مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. المثل الأعلى
عبدالقادر أحمد عبدالقادر
المسلم الحق يحيي ذكرى النبي ص كل يوم، بل كل ساعة من خلال اتباع سنته والسير على هديه، في نومه ويقظته، وظعنه وإقامته، وعباداته ومعاملاته، وفي كل ما يأتي وكل ما يدع، متخذاً من قول الله تعالى.. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) (الأحزاب).
فهل من وقفة صادقة مع النفس ليرى كل مسلم مدى قربه أو بعده من سنة النبي الخاتم ص؟
إن بعض الناس يتخذون في حياتهم مُثلاً عليا من ذوي المكانة العالية أو الجاه والوجاهة، أو النفوذ والسلطان، وحري بالمسلم أن يحرص على اتخاذ الرسول ص مثلاً أعلى من هذا المنطلق.
فقد خاطبه ربه تعالى بقوله: وإنك لعلى" خلق عظيم (4) (القلم).
ولقبه أهل الجاهلية بالصادق الأمين، وقال ص عن نفسه: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نسباً". (رواه الترمذي وقال: حديث حسن).
وقال: "إني عند الله لخاتم النبيين... دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه ورؤيا أمي، التي رأت حين وضعتني نوراً، أضاءت منه قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين"، وقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، وما من نبي يومئذ إلاتحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر"، وهو ص صاحب الشفاعة العظمى، حين يحيلها كل نبي إلى من بعده، حتى ينهض بها ص قائلاً: "أنا لها، أنا لها".
وقد سئل صاحبه البراء: هل كان وجه رسول الله ص مثل السيف؟ قال: "لا، بل مثل القمر".
وقال صاحبه وابن عمه علي رضي الله عنه، يصفه: من رآه بدهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: "لم أر قبله ولا بعده مثله"، ووصفته زوجه خديجة رضي الله عنها بقولها: "فإنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، يجعلني أعتقد جازماً أن متخذي المثل العليا لا يمكن أن يتجاوزوا رسول الله إلى غيره من البشر العاديين، بل من النبيين عليهم الصلوات والتسليمات.
ولنواصل حياتنا مع الرسول ص.
حسن الظن بأهل الدين: قال ص: "حسن الظن من حسن العبادة".
وقال عمر رضي الله عنه: "لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة، يظن بها سوءاً، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً"، معنى الكلمة العمرية أن يحمل كلام أهل الدين على حسن النية والمقصد، ومادام المسلم يحتاط فإنه لا يتوجس، ومدام يأخذ حذره، فإنه لا يتهم، وبالتالي فليتغلب على ظنون السوء تجاه أهل الدين، وليطردها من وجدانه يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم (الحجرات:12).
ومع اجتناب سوء الظن وطرد الهواجس، يتسلح المسلم بالحذر يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو \نفروا جميعا 71 (النساء).
وليتفرس في الوجوه، وفي الانفعالات، وفي نظرات العيون، قال ص: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ورغم ضعف هذا الحديث، فإن شواهد الواقع تؤيده.
لقد عملت المذاهب الملحدة، العلمانية والماركسية، وعمل أهل الأهواء والمعاصي، مستعينين بوسائل الإعلام التي في أيديهم لنشر سوء الظن تجاه أهل الدين. و"صحبة الأشرار أورثت سوء الظن بالأخيار"، كما قال بشر الحافي.
هذا ويجب على أهل الدين أن يبتعدوا عن مواضع الشبهات. روي أن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها أتت النبي ص تزوره وهو معتكف، وأن رجلين من الأنصار رأياهما بعد الخروج من المسجد، وكان الوقت ليلاً، فأسرعا، فقال ص: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله (يتعجبان لإفصاح النبي عن زوجه)، قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً" أو قال: "شراً".
وما دامت السنة هي حسن الظن بالصالحين وأهل الدين، فالمعنى الضمني هو ألا نحسن الظن بالكفار على اختلاف فصائلهم، وألا نحسن الظن بأتباع المذاهب الباطلة، رغم تسميهم بأسمائنا وارتدائهم ملابسنا، وألا نحسن الظن بالعصاة، المصرين على معاصيهم، وبالمبتدعين والزنادقة، مهما تزينوا أو زيَّنوا أقوالهم.
الاستمتاع بالمباحات
"الغناء واللعب".. نموذج
ورد في البخاري عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله ص في سفر، وكان معه غلام له أسود، يقال له أنجشة، يحدو "يغني"، فقال له رسول الله ص: "ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير"، وورد في صحيح مسلم، عن أنس أيضاً، أن النبي ص أتى على أزواجه، وسواق يسوق بهن، يقال له أنجشة، فقال ص: "ويحك يا أنجشة، رويدك سوقك بالقوارير"، قال أبوقلابة: تكلم رسول الله ص بكلمة، لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه، يقصد إباحته ص بالغناء الحلال.
وفي مسند أحمد، عن أنس أيضاً، يقول: بينما رسول الله ص يسير، وحادٍ يحدو بنسائه، فضحك رسول الله ص، ثم قال: "يا أنجشة، ويحك، ارفق بالقوارير".
وفي المسند، عن أنس أيضاً، أن البراء بن مالك كان يحدو بالرجال، وأنجشة يحدو بالنساء، وكان حسن الصوت، فحدا، فأعنقت الإبل "جدت وأسرعت في السير"، فقال رسول الله ص: "يا أنجشة، رويداً سوقك بالقوارير".
وورد في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل رسول الله ص وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهه، فدخل أبوبكر، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله ص؟ فأقبل عليه رسول الله ص، فقال: "دعهما"، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما غفل غمزتهما، فخرجتا، وفي سنن ابن ماجه، فقال النبي ص: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا".
وكان يوم عيد، يلعب السود بالدَّرَق والحراب، قال ص: "تشتهين تنظرين؟"، فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة" (يخاطب الحبشة السودان، حتى يستمروا في اللعب)، قالت عائشة رضي الله عنها: حتى إذا مللت، قال: "حسبك"؟، يعني: هل يكفيك ذلك؟ قلت: نعم، قال: "فاذهبي".
والسؤال: متى يتخذ المسلم، نبيه ص مثلاً أعلى فيسعد في الدارين؟!.
ــــــــــــــ(1/173)
قوة بعد ضعف
ضعف وانهزام يضرب بالأمة ويصدِّع جدرانها. تقرأ وتسمع وترى بأم عينيك ذلك في حال الأمة اليوم والجميع محبطون ويرفضون الواقع المرير فلماذا ونحن لنا أصول تاريخية وحضارة علمية وأرض مليئة بالخيرات؟! انظر إلى ما يقوم به شهداء فلسطين، إنها لأمثلة رائعة يجب الاقتداء بها وتوريثها لأنها نبراس الحق، وذروة سنامه. فإذا كان الصحابي الجليل البراء بن مالك رضي الله عنه وُضع فوق أسنة الرماح ليقتحم حديقة الموت، ويفتح أبوابها ليدخل الجيش فاتحاً، فإن هؤلاء الشهداء قدموا أنفسهم بقوة خارقة تاركين خلفهم وصية لأبنائهم، ودرساً عملياً ميدانياً لمن خلفهم والنفس لا تحب الموت فهؤلاء الاستشهاديون لا يقل أجرهم عند الله عن صحابة رسول الله ص. ومادام ذلك كذلك، فَلِمَ الضعف والانهزام ونحن أمة زاخرة بمثل هؤلاء الأبرار وغيرهم من الخبراء والعلماء؟ نحن بحاجة إلى زاد إيماني لا مادي، وبأمس الحاجة إلى الله والعودة إلى محرابه، فلنعد حساباتنا مرة ثانية، ولنكثر من التوبة والاستغفار. فلقد نصر الله المسلمين في غزوة تبوك على الرومان دون اشتباك معهم، وقذف في قلوب الروم الرعب، كما هو الحال مع بني النضير.. لقد قامت إسرائيل ولم تقعد منذ أيام لصورة الطفل الذي ظهر في التلفاز وهو يربط على بطنه حزاماً ناسفاً، فالرعب هو حليف اليهود، ومن شايعهم، والقوة والكرامة هي منبع عزنا، ومادام فينا من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله... فالنصر حليفنا بإذن الله لا محالة.=>
محمد معجوز مكة المكرمة
ــــــــــــــ(1/174)
التربية الجادة
تتقطع أيدٍ .. وتتناثر أشلاء .. وتهشم رؤوس، ومع ذلك تسير عجلة التضحيات وتدور رحى الفدائية والاستشهاد. عندما ننظر إلى تلك النماذج التي تعيد لنا ذكريات جيل الصحابة ومن تلاهم من الكرام .. نقف مذهولين .. فمئات الأنفس تتسابق على الموت حتى تنال الكرامة والعزة. كل نفس تحلم بذاك اليوم الذي تعطى فيه الإذن لتحقيق مناها ونيل رفعتها والخروج من دهاليز الذلة إلى بوابات الكرامة.
وتتكرر المشاهد على أرض الرباط لتسطّر للعالم حقيقة مبادئ المسلمين وإيمانهم الصادق بوعد ربهم من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) (الأحزاب:23)
أين تُصنع هذه القنابل الموقوتة؟ يقف الآخرون مذهولين حائرين من هذه الشخصيات الفذة التي تقدم أرواحها رخيصة دون مبادئها ودينها، وقبل ذلك يتعجب الصهاينة من رباطة جأش هذه الثلة المباركة التي لا تزال تضحي بأرواحها في سبيل الله. . كيف تطيق ذلك؟ ولم يعلموا أن هؤلاء كانوا حصاد سنين من التربية الجادة التي خرّجت رجالاً لا يبذلون المال والجهد والوقت فحسب، بل جعلوا نفوسهم في مقدمة ذلك كله.
لقد مكث رسول الله ص ثلاث عشرة سنة في مكة ينشر الدين ويلقى من العداوة ما أترعت به كتب السير ولكنه خرّج في مدرسته النبوية صوراً ونماذج تهزم جبروت الجبابرة وطغيان الطغاة، فبلال يُجلد ويُلقى في رمضاء مكة يسومونه سوء العذاب بصخرة تتلظى ناراً يضعونها على صدره ليرجع عن دينه لكنه يجد حلاوة تذهل المشركين.
وعمار يعذب ويذبح أبوه وتُقتل أمه ولا يرده ذلك عن دينه، وذاك خبيب بن عدي يُقطع جسده قطعة قطعة وهو يقول:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
وأنس بن النضر في ساحة المعركة تجتاح صدره حربة فيبصر الجنة ويشم رائحتها ويدندن: فزت ورب الكعبة.. وكأنما جاءت الحربة شافية لصدره ومحققة لغايته وأمنيته.
وفي حفرة يقع الحبيب الكريم عليه صلوات ربي وسلامه فيأتي أحد النماذج التربوية المدربة.. إنه صاحب عصابة الموت أبو دجانة سماك بن خرشنة فيتترس رسول الهدى ليصبح ظهره درعاً للحبيب فيكون كالقنفذ من كثرة السهام المصوبة على ظهره. وعلى أسنة الرماح يطير البراء بن مالك إلى ساحة الأعداء حتى يتوسطهم ويلاعبهم بسيفه ليصل إلى باب الحصن ويغير اسمه من حصن إلى حديقة.. حديقة تؤهله لدخول جنة عرضها السماوات والأرض هنا مكمن السر. إن الممحص لهذه المشاهد الفدائية والمحلل لهذه النماذج الاستشهادية ليجد أن تكرر هذه الصور ما كان إلا بدافع جعل هذه الشخصيات تحمل أرواحها على أيديها ومن ثم تردد:
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى
وما كان هذا الدافع إلا منطلقاً من عقيدة صافية ورؤية واضحة ونفوس عامرة بالإيمان بالله واليوم الآخر، وليس هذا فحسب بل هي تربية جادة ومتابعة دعوية مستمرة أخرجت مثل هذا الرعيل الفذ والجيل الناضج الذي فهم أن الحياة عقيدة وجهاد، وأنها لا تحلو إلا بالعزة أو الاستشهاد، إنه الجيل الذي أدرك غاية الإدراك أن المسلم لا تستهويه الدنايا ولا تستوعبه المغريات.. إذن نحن في هذه الفترة نعيش أزمة تربوية ونحتاج لتخريج جيل في مدارس التربية النبوية ذات العقيدة الصافية .. والهمة العالية. . والفهم الواعي .. والحماس المتزن .. والثقافة الواسعة .. والعلم الراسخ .. والقائد القدوة .. والصدق والصبر، فإذا اكتمل هذا العقد في صياغته وتكامله خرج حينها جيل لا يهاب الصعاب ولا يخشى المنايا.
رائد محمد جعفر الغامدي
الطائف
ــــــــــــــ(1/175)
جهاد الاستشهاديين الأطهار ومنزلته في الفقه والآثار
جهاد الاستشهاديين الأطهار ومنزلته في الفقه والآثار (1)
ما كنت أظن يوماً أني سأمسك القلم لأدافع عن رجال أطهار عظماء، هم من أشرف رجال هذه الأمة وأعظمهم، ولهم في الجهاد قدم صدق، رفعوا رأس الأمة عالياً في زمان ألفت الأمة فيه تنكيس الرؤوس وتوالي النكبات، ولم نعد نسمع من الأخبار السارة إلا أخبارهم، ولا نفرح إلا ببطولاتهم، ولا نفخر إلا بأعمالهم، وعاش جنرالات اليهود إلى اليوم الذي صاروا يسمعون فيه ويرون من يذيقهم سوء العذاب، ويحطم آمالهم في بقاء دولتهم المسخ، وينقض نظرية أمنهم المطلق وجيشهم الذي لا يقهر.
والعجب العجاب أن هؤلاء الأطهارَ المجاهدين الذين قلب الله تعالى بهم الأوضاع يتعرضون اليوم للوم بل التأثيم والإنكار بدعوى أن صنيعهم يخالف الشرع المطهر، ويضاد مدلول الأدلة الشريفة، فأين يُذهب بهذه الأمة؟ وكيف يكون هذا؟! وقد اطلعت على فتاوى المنكرين فوجدتها مبنية على أدلة عامة لا تدل في الحقيقة على ما ذهبوا إليه، وهم محجوجون بجملة من الأدلة منها عمل طائفة من الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح وهم أولى مَن فهم هذه الأدلة وعلم ما يُراد منها وبها، ولكني لما رأيت طائفة من الأمة تعلقت بهذه الفتاوى وصار القاعدون ينكرون على المجاهدين!! ويسفهون ما يقومون به من جميل الفعال، ولما رأيت أن اليهود أخذوا يقرعون الشباب الفلسطيني بمضمون هذه الفتاوى، لما رأيت هذا كله غرت والله على هذا الدين وعلى عبادة الجهاد التي هي ذروة السنام منه، وأحببت أن أكتب في هذا الموضوع ما أرى أنه حق، والله تعالى أعلم، ألا وهو أن هذه العمليات الاستشهادية الجهادية من أعظم القربات وأحسن أنواع الجهاد ضد هذا العدو الضال الوحشي الذي لا يرقب فينا إلاًّ ولا ذمة، وقسمت الموضوع قسمين: القسم الأول في الأدلة والآثار التي تدل بوضوح على جواز مثل هذا العمل، وقرنت بها كلام الفقهاء العظام رحمهم الله تعالى والقسم الآخر عمل طائفة من السلف ومَن تبعهم في هذا الباب المبارك.
واعتمدت في موضوعي هذا بعد الاستعانة بالله عز وجل على كتابين نفيسين أحدهما أجود وأنفس من الآخر، أما الكتاب الأجود فهو "مصارع العشاق ومشارع الأشواق"، لابن البنا الدمياطي المتوفى شهيداً سنة 814، والكتاب النفيس الآخر رسالة للعلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية بعنوان: "قاعدة في الانغماس في العدو، وهل يباح؟"، وهما كتابان جديران بالقراءة والتدبر خاصة الكتاب الأول، وهما مما يشرح صدر المؤمن للحق إن شاء الله تعالى.
أما الأدلة والآثار فهي:
1 قول الله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207) (البقرة).
ووجه الدلالة فيها ما جاء في سبب نزولها أن صهيباً رضي الله عنه لما هاجر إلى المدينة المنورة النبوية اتبعه نفر من قريش وهو وحده فأراد قتالهم بمفرده، ثم صالحهم بعد ذلك على ماله يعطيهم إياه، فلما قدم على النبي ص قال له: ربح البيع أبا يحيى، وأثنى على صنيعة الله تبارك وتعالى في كتابه، فلو لم يكن قتاله العدو وهو منفرد وحيد، ويغلب على الظن هلاكه، أقول: لو لم يكن هذا جائزاً لما أثنى الله تعالى عليه. والله أعلم.
وقد استدل عمر رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في حادثة مهمة جرت زمان خلافته، ورد فيها على من يقول: إن الانغماس في العدو هو تعريض النفس للهلاك وأنه لا يجوز، وهو ما يتمسك به بعض من أفتى بحرمة العمليات الاستشهادية في فلسطين، فقد روى ابن المبارك وابن أبي شيبة عن مدرك بن عوف الأحمسي واختلف في صحبته قال: كنت عند عمر رضي الله عنه إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن الصحابي المشهور رضي الله عنه فسأله عمر عن الناس، فقال: أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم. فقال عمر رضي الله عنه: لكن الله يعرفهم. فقال يا أمير المؤمنين، ورجل شرى نفسه، فقال مدرك بن عوف: ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين، زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذب أولئك، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنا في غزاة فتقدم رجل فقاتل حتى قتل، فقالوا: ألقى هذا بيده إلى التهلكة، فكُتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكَتب عمر: ليس كما قالوا، هو من الذين قال الله فيهم: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ، (البقرة: 207) ففي هذا الأثر والذي قبله بيان لجواز صنيع مَن حمل على الكفار بمفرده.
وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين قال: جاءت كتيبة من قبل المشرق من كتائب الكفار فلقيهم رجل من الأنصار فحمل عليهم فخرق الصف حتى خرج، ثم كر راجعاً فصنع مثل ذلك مرتين أو ثلاثاً، فإذا سعد بن هاشم يذكر ذلك لأبي هريرة رضي الله قائلاً هذه الآية: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ، (البقرة: 207).
2 ذكر الله تعالى قصة طالوت وأصحابه في معرض الثناء عليهم، وقد حملوا وحدهم وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أصحاب بدر وقابلوا جيشاً مؤلفاً من عشرات الآلاف، قيل: كانوا تسعين ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، وفي ذلك هلكة بيِّنة.
3 وهذا معاذ بن عفراء رضي الله عنه يسأل النبيص: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً، قال: فألقى درعاً كانت عليه وقاتل حتى قتل رضي الله عنه وغمس الرجل يده في العدو حاسراً فيه تعريض نفسه للموت المحقق، وهو يشبه ما يصنعه أبطال الجهاد في فلسطين في عملياتهم الاستشهادية.
جهاد الاستشهاديين الأطهار ومنزلته في الفقه والآثار (2) ومازلنا نستعرض الأدلة والآثار الواردة بشأن قاعدة "الانغماس في العدو":
1 فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير بإسناد عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبيص قال: "ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه، فإما أن يقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه، والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء لرقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام في السحر في ضراء وسراء"، وموضع الشاهد من هذا الدليل قوله ص: "قاتل وراءها بنفسه"، وهذا مظنة الهلكة ولكن الله تعالى يحب هذا الصنيع ويرتضيه.
2 وأخرج الإمام أحمد بسنده إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ص قال: "عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحيه إلى صلاته فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه وعلم ما عليه من الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى يهرق دمه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى يهرق دمه".
قال ابن النحاس الدمياطي رحمه الله تعالى: ولو لم يكن في هذا الباب إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس.(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: فهذا رجل انهزم هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتل، وقد أخبر النبي ص أن الله يعجب منه، وعجب الله من الشيء يدل على عظم قدره، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته، وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي، لايكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز حتى يقال: وإن جاز مقاتلة الرجل حتى يغلب على ظنه أن يُقتل فترك ذلك أفضل، بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقتل فيه الرجل كثيراً أو غالباً.(2)
3 وروى ابن أبي شيبة والحاكم بسند صحيح إلى أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي ص: "ثلاثة يحبهم الله، فذكر أحدهم: "رجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له".
ومن أحسن ما يُردّ به على من يقول: إن العمليات الاستشهادية إلقاء بالنفس في التهلكة ما رواه أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بين عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس: وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس: إنكم لتؤولون هذا التأويل، وإنما نزلت فينا الآية معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقد قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله ص: "إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلما أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، أنزل الله تعالى ما يرد علينا ما قلنا: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195)، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فمازال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.
فأي تفسير أحسن من هذا التفسير الذي فسر به أبو أيوب رضي الله عنه هذه الآية؟!! وهل يملك أحد بعده أن يؤول الآية خلاف تأويله؟!.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقياً بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله، ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله، والآية إنما هي أمرٌ بالجهاد في سبيل الله ونهي عما يصد عنه.(3)
فإن قيل: قد قال الله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195)، وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يُقتل فقد ألقى بيده إلى التهلكة، قيل: تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا مازال الصحابة والأئمة ينكرون على من يتأول الآية على ذلك كما ذكرنا.(4)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى بعد أن ذكر مزايا الشهيد وفضائله، وأن الله نهى عن تسميته ميتاً، قال: إذا كان الله نهى عن تسميته ميتاً واعتقاده ميتاً لئلا يكون منفراً عن الجهاد، فكيف يسمى الشهادة تهلكة، واسم الهلاك أعظم تنفيراً من اسم الموت، فمن قال: قوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195)، يُراد به الشهادة في سبيل الله، فقد افترى على الله بهتاناً عظيماً.(5).
وعن القاسم بن مخيمرة أحد أئمة التابعين وأعلامهم أنه قال في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195) قال: التهلكة: ترك النفقة في سبيل الله، ولو حمل الرجل على عشرة آلاف لم يكن بذلك بأس.(6)
أما الفقهاء رحمهم الله تعالى فقد تكلموا عن هذه المسألة كلاماً حسناً جداً، فمن ذلك الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى حين قال: لا خلاف في أن المسلم الأحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل... لكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز، فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقتل حتى يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله، فتُكسر بذلك شوكتهم (7).
الهوامش
(1) مشارع الأشواق 1-532.
(2) قاعدة في الانغماس 54 55.
(3) المصدر السابق: 61.
(4) المصدر السابق: 59.
(5) المصدر السابق: 66.
(6) مشارع الأشواق: 1-528.
(7) المصدر السابق: 1-557.
جهاد الاستشهاديين الأطهار ومنزلته في الفقه والآثار (3) ونواصل استعراض الأدلة والآثار الواردة بشأن الهجوم على الكفار فقد قال الرافعي والنووي وغيرهما: التغرير بالنفس في الجهاد جائز.(1)
وقال ابن خويز منداد من المالكية:
فأما أن يحمل على مائة أو على جملة من العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أنه يُقتل ولكن سيُنكي نكاية أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً.(2)
وقال محمد بن الحسن وهو من الأحناف: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك، فهو مكروه لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه لأن فيه نفعاً للمسلمين على بعض الوجوه، فإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى: إن الله اشترى" من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، (التوبة:111) إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه.(3)
وسئل الإمام أحمد رحمه الله : الأسير يجد السيف والسلاح فيحمل عليهم وهو يعلم أنه لا ينجو، أعان الله نفسه؟ قال: أما سمعت قول عمر حين سأله الرجل فقال: إن أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: ذاك اشترى الآخرة بالدنيا(4).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً أو يبادر الرجل وإن كان الأغلب أنه مقتول، لأنه قد بودر بين يدي رسول الله ص وحمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي ص بما في ذلك من الخير فقتل.(5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد روى مسلم في "صحيحه": عن النبي ص قصة أصحاب الأخدود وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر.
فإن كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يُقتل به لأجل مصلحة الجهاد مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا، الذي لا يندفع إلا بذلك أولى(6).
ونخلص من ذلك إلى أن العمليات الاستشهادية التي تجري في فلسطين من أعظم القربات وأحسن أنواع الجهاد، خاصة إذا اقترنت بها عدة أمور منها:
1 إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين ومنفعة لهم.
2 الإنكاء في العدو وإيذاؤه.
3 أو تجرئة المسلمين على العدو.
4 أو إرهاب العدو ليعلم صلابة المسلمين وإقدامهم على الموت.
5 كسر قلوب الكفار لكسر شوكتهم.
وإذا نظرنا إلى أثر العمليات الاستشهادية في فلسطين، فإننا نجد أنها حققت كل الأهداف السابقة، فقد آذت العدو إيذاءً لم يؤذه إياه جيوش عربية مجتمعة منذ أن وُجدوا في فلسطين، وجرأت الشباب المسلم على اليهود، بعد أن كانوا أسيرين لنظرية جيش العدو الذي لا يقهر، وأرهبت العدو إرهاباً عظيماً وكسرت قلوبهم حتى صاروا يغادرون مستوطناتهم خوفاً من أبطال المسلمين، وهذا ما كنا نحلم بأنه كائن يوماً ما، هذا إضافة الى الأثر الاقتصادي العظيم على دولة العدو وازدياد عجزها، وهرب السياح وعشرات من الآثار السلبية، فهل بعد هذا كله يقال إن هذه العمليات حرام؟ خاصة أننا لا نكاد نرى وسيلة أخرى لإيذاء العدو غير هذه الوسيلة، فالقول بتحريمها قد يفضي إلى إغلاق باب الجهاد وإفراح العدو.
وهناك شبهة يتعلق بها بعض الناس وهي استهداف هذه العمليات الطاهرة لمدنيين، وأنا أقول: حرروا هذه اللفظة، فهل هناك مدنيون في فلسطين السليبة؟! والرجال والنساء غير العسكريين هم جنود احتياط ومدربون على السلاح ومحرضون علينا، وقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم: 7-324: "كل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك"(7).
ففي الحقيقة لا يوجد من يستحق أن يوصف بأنه مدني في فلسطين من اليهود، ومن غصب أرضنا جاز لنا أن نخرجه منها بكل وسيلة.
أما قضية مقتل الأطفال من اليهود وهم غير مكلفين، فالجواب عنها بما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن الصعب بن جثَّامة قال: سئل النبي ص عن المشركين يُبيَّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم، وقال ابن حجر في قوله ص "هم منهم"، أي من الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم"(8)، وهذا واضح في قضية الجهاد في فلسطين اليوم، هذا على أن ما يصاب من أطفال العدو قلة قليلة جداً.
وهناك نقطة مهمة وهي أن أفراد حماس وغيرهم من المجاهدين لم يقدموا على هذه العمليات إلا بفتوى علماء لا عن هوى ولا تشهي، وعلماؤهم أعلم بواقع الحال، ألم يقل سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: إذا اختلفتم في مسألة فأسألوا أهل الثغور فإن الحق معهم، مستدلاً بقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . (العنكبوت:69).
الهوامش
(1) المصدر السابق: 1-558.
(2) المصدر السابق: 1-559.
(3) المصدر السابق: 1-560.
(4) (5) قاعدة في الانغماس، هامش ص25.
(6) المصدر السابق: هامش ص 24.
(7) نقلاً عن الجهاد والقتال في السياسة الشرعية د.محمد خير هيلك 2-1264 1265.
(8) المصدر السابق: 2-1264.
جهاد الاستشهاديين الأطهار ومنزلته في الفقه والآثار (4) أخبار سلفنا الصالح وقصصهم تزيد صدر المسلم انشراحاً واطمئناناً إلى أن هذه العمليات الاستشهادية من أحسن أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، فقد أخرج ابن عساكر بسنده عن عقبة بن قيس الكلابيّ أن رجلاً قال لأبي عبيدة بن الجراح يوم اليرموك: إني قد أجمعت أمري أن أشد عليهم فهل توصوني إلى نبيكم ص بشيء؟ فقال: تقرئه السلام وتخبره أنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. فقد أقر أبو عبيدة رضي الله عنه الرجل على أن يشد عليهم وحده، وفي ذلك هلاكٌ بيِّنٌ لكنه من أعظم القربات، كما بينت قبل ذلك.
وروى الحافظ المزي وغير واحد بأسانيدهم عن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: غزا بُسر بن أرطأة الروم فجعلت ساقته(1) لا تزال تصاب فيكمن لهم الكمين فيصاب الكمين، فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم فإذا براذين(2) مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم فيها فرسان تلك البراذين الذين كانوا يعقبونه في ساقته، فنزل عن فرسه فربطه، ثم دخل الكنيسة فأغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منهم ثلاثة، وفقده أصحابه، فأتوا فعرفوا فرسه، وسمعوا الجلبة في الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض السقف ونزلوا عليهم وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمنى، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشياً عليه، فأقبلوا على أولئك فأسروا وقتلوا فأقبلت عليهم الأسارى.فقالوا: ننشدكم الله من هذا؟ قالوا: بُسر بن أرطأة، فقالوا: والله ما ولدت النساء مثله، فعمدوا إلى أمعائه فردوه في جوفه ولم ينخرق منه شيء، ثم عصبوه بعمائمهم وحملوه ثم خاطوه فسلم وعوفي، وقد اختلف في صحبته، وكان من شجعان الأمة وأبطالها.(3).
وهذا البراء بن مالك رضي الله عنه يوم اليمامة حمله أصحابه في ترس ورفعوه على الرماح وألقوه على العدو، فقاتل وحده وقتل منهم عشرة وفتح الباب، وجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحاً، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم وروى هذا البيهقي في السنن(4)، وقد كان في الحديقة آلاف من بني تميم معتصمون بها وهم مقاتلون أشداء.
وحمل أبو حدرد الأسلمي رضي الله عنه وصاحباه على عسكر عظيم ليس معهم رابع، ونصرهم الله على المشركين، واستاقوا غنيمة عظيمة.(5).
وذكر الطرطوشي في "سراح الملوك" وغيره أن عمرو بن معدي كرب نزل يوم القادسية على النهر فقال لأصحابه: إني عابر على الجسر فإن أسرعتم مقدار جزر الجزور(6) وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل تلقاء وجهي، وقد غفرني القوم(7) وأنا قائم بينهم، وإن أبطأتم وجدتموني قتيلاً بينهم، ثم انغمس فحمل على القوم، فقال بعضهم لبعض: يا بني زبيد: علام تدعون صاحبكم؟ والله ما أرى أن تدركوه حياً، فحملوا فانتهوا إليه، وقد صرع عن فرسه، وقد أخذ برجلي فرس رجل من العجم فأمسكها، وإن الفارس ليضربه فما يقدر الفرس أن يتحرك فلما غشيناه رمى الرجل بنفسه وخلى فرسه فركبه عمرو، وقال: أنا أبو ثور، كدتم والله أن تفقدوني(8)
وهذا عبدالعزيز بن زرارة يتعرض للشهادة في غزوة القسطينطينية سنة خمسين، وقد التحمت الحرب يوماً، واشتدت المقارعة فشد على من يليه يقتل وانغمس في جمهورهم فشجرته العلوج برماحها(9) فاستشهد رحمه الله.(10)
وهذا علي بن أسد، مر ليلة بالكوفة، فمر برجل يقرأ في جوف الليل: قل يا عبادي الذين أسرفوا على" أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) ، (الزمر) فقال علي: أعد فأعاد، ثم قال: أعد فأعاد، فعمد فاغتسل ثم غسل ثيابه، فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء وصارت ركبتاه كركبتي البعير، فغزا البحر فلقي الروم، فقرنوا مراكبهم بمراكب العدو، قال علي: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً، فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فمازال يضربهم وينحازون، ويضربهم وينحازون حتى مالوا في شق واحد فانكفأت عليهم السفينة فغرق وعليه درع الحديد.(11).
وأخلص من هذا السرد القصصي الجهادي إلى أن اقضية الانغماس في العدو والتعرض للشهادة وابتغاء مظان القتل قضية كانت معروفة زمان سلفنا بلا نكير، تساندها الأدلة التي سقت بعضها، وفتاوى الفقهاء العظام، فكيف يُعترض اليوم على إخواننا المجاهدين الاستشهاديين ويذمون ويلامون إذا تابعوا أسلافهم وأخذوا بقول فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم؟!.
اللهم إن هذا لشيء عجيب!! وقرة عين للعدو، فليتق الله تعالى كل من يفتي بحرمة هذه العمليات الاستشهادية الرائعة التي أفقدت اليهود رباطة جأشهم، وكدرت عليهم عيشهم، وأذهبت أحلامهم وأحلام من يعاونهم أدراج الرياح، والله المستعان.
الهوامش
(1) الساقة: من الجيش مؤخرته: انظر المعجم الوسيط، س. و. ق.
(2) البرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، انظر المصدر السابق: ب ر ذ ن.
(3) "مشارع الأشواق" 1-39 5 540.
(4) المصدر السابق: 1-540.
(5) المصدر السابق: 1-545 546.
(6) أي مقدار نحر الواحد من الإبل.
(7) أي غطوني.
(8) "مشارع الأشواق" 1-548.
(9) أي شبكته برماحها من كثرتها واختلافها في جساره.
(10) المصدر السابق: 1-553.
(
11) مشارع الأشواق: 1-554 555.
ــــــــــــــ(1/176)
(1/177)
شهيد اليمامة زيد بن الخطاب
إنه زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- أخو عمر بن الخطاب لأبيه، وكان أكبر منه سنًا، وأسلم قبله واستشهد قبله، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي العجلاني، وظلا معًا حتى استشهدا في اليمامة، وكان إيمانه بالله وب رسوله صلى الله عليه وسلم إيمانًا قويًّا، فلم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أو مشهد، شهد بدرًا وأحدًا والخندق وشهد بيعة الرضوان بالحديبية، وفي كل مرة يقابل فيها أعداء الإسلام كان يبحث عن الشهادة.
رآه أخوه عمر يوم أحد، وقد سقط الدِّرع عنه، وأصبح قريبًا من الأعداء، فصاح قائلا: خذ درعي يا زيد فقاتل به، فردَّ عليه زيد: إني أريد من الشهادة ما تريده
يا عمر، وظل يقاتل بغير درع في فدائية، ولكن الله لم يكتب له الشهادة في تلك الغزوة.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ارتدت كثير من قبائل العرب، فرفع الصديق لواء الجهاد في وجوه المرتدين حتى يعودوا إلى الإسلام، وكانت حرب اليمامة من أشد حروب الردة، ودارت رحاها بين المسلمين وبين جيوش مسيلمة الكذاب، وكاد المسلمون أن ينهزموا بعد أن سقط منهم شهداء كثيرون، فلما رأى زيد ذلك، صعد على ربوة وصاح في إخوانه: يا أيها الناس، عضوا على أضراسكم، واضربوا عدوكم، وامضوا قدمًا، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة وأصحابه. ثم نذر ألا يكلم أحدًا حتى يقضي الله بين المسلمين وأعدائهم فيما هم فيه مختلفون، ثم قال: والله لا أتكلم اليوم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله، فأكلمه بحجتي.
ثم أخذ سيفه، وقاتل قتالا شديدًا، وعمد إلى الرجَّال بن عنفوة قائد جيوش مسيلمة وقتله، وكانت أمنيته أن يقتل هذا المرتد، وظل يضرب في أعداء الله حتى رزقه الله الشهادة.
فحزن المسلمون لموت زيد حزنًا شديدًا، وكان أشدهم حزنًا عليه أخوه عمر الذي قال حينما علم بموته: رحم الله زيدًا سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي، واستشهد قبلي. وكان دائمًا يقول: ما هبت الصبا إلا وجدت منها ريح زيد، وها هو ذا يقول لمتمم بن نويرة: لو كنت أحسن الشعر لقلت في أخي زيد مثل ما قلت في أخيك مالك، وكان متمم قد رثى أخاه مالكًا بأبيات كثيرة، فقال متمم، ولو أن أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه، فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به.
ــــــــــــــ(1/178)
أوصاف بعض الصحابة رضوان الله عليهم
خالد بن سعيد بن العاص:
هادئ السمت، قوي التصميم، من السابقين إلى الإسلام.. حضر المشاهد والغزوات مع رسول الله ص.
خالد بن الوليد: أسلم وهاجر في السنة الثامنة من الهجرة، وعاش مجاهداً مقاتلاً، وبطلاً فذاً لم يُهزم في معركة واحدة، سيف من سيوف الله، سله الله على الكفار والمنافقين.
زيد بن حارثة: "حب رسول الله" ما بُعث في سرية إلا أمَّره رسول الله ص عليها، شهد جميع الغزوات، وسطر على أرض الشام بدمائه الزكية كلمة الإيمان، أول قائد للمسلمين في مؤتة، وقاتل قتالاً شديداً حتى استشهد فيها.
زيد بن ثابت: "ترجمان حبيب الرحمن" من كتاب الوحي، الحافظ والضابط والجامع الواعي رجل القرآن.
زيد بن الخطاب: بطلٌ باهرُ البطولة، "صقر يوم اليمامة"، شهد بدراً وجميع المشاهد بعدها.
زيد بن أرقم: الجندي المجاهد الذي لم يتخلف عن غزوة من الغزوات، ومن الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين أحسن استقبال وقدموا لهم المال والأنفس والأرواح.
سلمان الفارسي: "الباحث عن الحقيقة" الصحابي الزاهد الذي أخرج حظ نفسه من نفسه. قال عنه رسول الله ص: "سلمان منَّا أهل البيت".=>
محمد عدنان غنام الكويت
رباعيات
<= قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما كانت الدنيا همَّ أحد إلا لزم قلبه أربع: "فقر لا يدرك غناه، وهم لا ينقضي مداه، وشغل لا ينفد أوله وأمل لا يدرك منتهاه".
<= عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "من أُعطي أربع خصال فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة وفاز بحظه منهما: ورع يعصمه عن محارم الله، وحسن خلق يعيش به في الناس، وحلم يدفع به جهل الجاهل، وزوجة صالحة تعينه على مر الدنيا والآخرة".
<= قال الإمام مالك بن أنس: "لا يُؤخذ العلم من أربعة، ويُؤخذ ممن سوى ذلك: لا يُؤخذ من سفيه، ولا من صاحب هوى، ولا ممن يكذب في أحاديث الناس، ولا ممن لا يعرف ما يحدث به من حيث المصادر والاختيار".
<= قال حكيم: خذ من أربع لأربع: "من عافيتك لسقمك، ومن صباك لهرمك، ومن غناك لفقرك، ومن دنياك لآخرتك"".
<= أربعة يجب الدفاع عنها: الدين، والشرف، والوطن، والمبدأ.
<= أربعة مطلوبة: الاعتراف بالجميل، ومحبة الوالدين، والصديق الوفي، والوفاء بالوعد.
<= أربعة يجب ضبطها: اللسان، والأعصاب، والنفس، والشعور.=>
شحات بدوي محمود سوهاج البلينا مصر
خير ما يُرزقه العبد
قال ملك لأحد وزرائه يمتحنه: "ما خير ما يرزقه العبد"؟
قال: عقل يعيش به.
قال: فإن عدمه؟
قال: فأدب يتحلى به.
قال: فإن عدمه؟
قال: فمال يستره.
قال: فإن عدمه؟
قال: فصاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد!.=>
عبدالله مكي السعودية
قالوا في حُسن الخُلق
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خلقاً" (رواه الترمذي).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ص يقول: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" (أخرجه أبوداود).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (رواه الإمام أحمد في المسند).
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ص يقول: "ما شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله ليبغض الفاحش البذيء". (أخرجه الترمذي).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حسن الخلق في ثلاث خصال... اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال".
عن عبدالله بن المبارك يرحمه الله في تفسيره لحسن الخلق قال: "هو طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى".
قال الإمام أحمد يرحمه الله: "حسن الخلق ألا تغضب ولا تحقد".
ومن فوائد حسن الخلق:
1 من أفضل ما يقرب العبد إلى الله تعالى.
2 يورث محبة الناس وقربهم منه.
3 يمحو الله به الذنوب.
4 يحرم الله صاحبه على النار.=>
مهند محمد الخارجي صباح السالم الكويت.
نصيحة
لا تكن ممن يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، فإن أعطي منها لم يشبع، وإن مُنع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى الناس ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي... يحب الصالحين ولا يعمل بعملهم ويبغض الطالحين وهو منهم!.=>
ــــــــــــــ(1/179)
خطيب قريش سهيل بن عمرو
إنه الصحابي الجليل سهيل بن عمرو -رضي الله عنه-، كان من أشراف قريش وسادتها، وكان خطيبًا مفوهًا، يخطب في أهل مكة؛ ليحرضهم على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحارب سهيل في صفوف الشرك في غزوة بدر الكبرى، وهو الذي قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضًا على خيل بلق (أي بها سواد وبياض)، بين السماء والأرض، معلمين، يقاتلون، ويأسرون، يقصد الملائكة التي أنزلها الله لتقاتل مع المسلمين مشركي قريش.
وظل سهيل بن عمرو على عناده وكفره حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاصدين الحج إلى بيت الله الحرام، وعندما علمت قريش انتدبت بعض رجالها ليفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان آخرهم سهيل بن عمرو، وتم صلح الحديبية الذي كان فيه سهيل بن عمرو نائبًا وخطيبًا عن قريش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين: (قد سهل لكم من أمركم) [البخاري].
وقال سهيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال له اكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدرى ما هي ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اكتب باسمك اللهم)، فكتبها عليُّ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اكتب: هذا ما قاض عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، وقال للكاتب: (اكتب محمد بن عبد الله) [البخاري].
وروى أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل سهيل داره وأغلق عليه بابه، ثم أرسل ابنه عبد الله بن سهيل -وكان مسلمًا- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الأمان لأبيه، فذهب عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله: أبي تؤمنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نعم هو آمن بأمان الله، فليظهر)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله من المسلمين: (من لقى منكم سهيلا فلا يشدُّ إليه النظر، فليخرج، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام) [ابن عساكر].
ففرح بذلك عبد الله وأسرع عائدًا إلى أبيه يخبره بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرَّ سهيل بما سمع، وقال: كان والله برًّا صغيرًا وكبيرًا (يقصد النبي صلى الله عليه وسلم )، ثم خرج من بيته يغدو ويروح لا يتعرض له أحد. وخرج سهيل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى حنين وهو مازال على شركه، واشترك معهم في القتال، وانتصر المسلمون، فلما عاد المسلمون أعلن إسلامه، فسعد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأعطاه من غنائم حنين مائة من الإبل.
وقد حسن إسلامه، وأصبح كثير العبادة، وأصبح محبًا لله ورسوله، ومكث بمكة يقيم فيها شعائر ربه، ويرفع فيها راية الإسلام خفاقة عالية، حتى إذا جاء نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هاج المسلمون في مكة، وهم بعضهم أن يرتد عن الإسلام، فتدارك سهيل بن عمرو الموقف، ووقف خطيبًا في أهل مكة، فتلا قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144]. ثم قال: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، والله إني أعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس من طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم، إن موت النبي صلى الله عليه وسلم حق، والله موجود حيٌّ لا يموت، والإسلام باقٍ ما بقِيَت السماء والأرض. فعاد أهل مكة إلى صوابهم، وتمسكوا بإسلامهم.
وتحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له عمر عن سهيل حين أسر في غزوة بدر: دعني أنزع ثنتيه، فلا يقوم علينا خطيبًا، فقال صلى الله عليه وسلم : (دعها فلعلها أن تسرك يومًا) [البيهقي في الدلائل].
وذات يوم أذن عمر بن الخطاب لأهل بدر في الدخول عليه، فأذن لبلال وعمار، بينما لم يأذن لمن حضر من سادة قريش، فكره أبو سفيان ذلك، وقال غاضبًا: ما رأيت كاليوم قط، إنه يأذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا ولا يأذن لنا، فقال سهيل: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم، فقد دعي القوم (يقصد البدريين) ودعيتم إلى الإسلام، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل فيما يرون أشد عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه.
وكان سهيل -رضي الله عنه- شجاعًا، محبًّا للجهاد في سبيل الله، وكان يقول: والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضًا.
وقد دخل سهيل على أمير المؤمنين عمر يسأله عن أمر يستدرك به ما فاته وما سبقه به إخوانه المسلمون، فأشار عليه عمر بالجهاد في سبيل الله على حدود الروم، فلم يتوان سهيل عن ذلك، وعزم على أن يقضى باقي عمره مجاهدًا لله ورسوله، ووقف سهيل يخطب في أشراف مكة، ويحثهم على الجهاد في سبيل الله، فقال لهم: والله إني لمرابط في سبيل الله حتى أموت ولن أرجع إلى مكة. وخرج سهيل بأهله إلى الشام، وظل مجاهدًا في سبيل الله عز وجل، حتى رزقه الله بالشهادة في معركة اليرموك.
ــــــــــــــ(1/180)
أسرَعوا .. وأبطأتم
نأمل أن تأتينا اختياراتكم موثقة بحيث يُذكر المصدر الذي نُقِلت عنه، واسم صاحبه.
رُوي عن الحسن أنه قال: حضر الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو وأبوسفيان بن الحارث... فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال... وكان يحبهم وكان قد أوصى بهم.
فقال أبوسفيان: ما رأيت كاليوم، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل: أيها القوم، قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودُعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدُّ عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تتنافسون عليه... إن هؤلاء قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى أن يرزقكم الله الشهادة... ثم نفض ثوبه فقام فلحق بالشام، وخرج بأهله، فماتوا كلهم إلا هنداً وفاختة بنت عتبة بن سهيل، وقُتل سهيل شهيداً باليرموك، فقدم بفاختة على عمر، وكان الحارث بن هشام خرج بأهله فلم يرجع منهم إلا ولده عبدالرحمن، فقال عمر: زوجوا الشريد الشريدة، وأقطعهما عمر بالمدينة خطة وأوسع لهما، فقيل له: أكثرت لهما. فقال: عسى الله أن ينشر منهما ولداً كثيراً، رجالاً ونساء... فولد لهما أبوبكر وعمر وعثمان وعكرمة وخالد ومخلد فأبوبكر أحد الفقهاء السبعة "فقهاء المدينة"، وكان يُدعى: راهب قريش...
كتاب التوابين للمقدسي
ــــــــــــــ(1/181)
سهيل بن عمرو رضي الله عنه
والله لا أدع موقفا مع المشركين ، إلا وقفت مع المسلمين " مثله ، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين ، إلا أنفقت مع " المسلمين مثلها ، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا000
سهيل بن عمرو في غزوة بدر وقع سهيل بن عمرو أسيرا بأيدي المسلمين فقال عمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم )000فأجابه الرسول العظيم :( لا أمثل بأحد ، فيمثل الله بي ، وإن كنت نبيا )000ثم أدنى عمر منه وقال :( يا عمر لعل سهيلاً يقف غدا موقفاً يسرك !!)000 وتحققت النبوءة وتحول أعظم خطباء قريش سهيل بن عمرو الى خطيب باهر من خطباء الإسلام000 صلح الحديبية خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب يريد العمرة ، فمنعتهم قريش من ذلك ، فنزل الرسول الكريم ومن معه في الحديبية ، وأرسلت قريش رسلها للمسلمين ، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجيبهم جميعا بأنه لم يأت للحرب وإنما لزيارة البيت العتيق ، حتى بعث الرسول ( عثمان بن عفان ) لقريش فسرت شائعة بأنه قتل ، فبايع المسلمون الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الموت في بيعة الرضوان000 فبعثت قريش سهيل بن عمرو الى الرسول مفاوضا ، فلما رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال :( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل )000فلما انتهى سهيل الى الرسول تكلما وأطالا حتى تم الصلح الذي أظهر التسامح الكبير والنبيل للرسول -صلى الله عليه وسلم-000ودعا الرسول علي بن أبي طالب ليكتب الصلح فقال :( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم )000فقال سهيل :( لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم ) فكتبها000ثم قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو )000فقال سهيل :( لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك )000فقال الرسول :( اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو )000وهكذا حتى تم ما قد اتفق عليه000 دعوة الرسول كان سهيل بن عمرو من الذين دَعَا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : الحارث بن هاشم وصفوان بن أمية فنزلت الآية الكريمة000 قال الله تعالى :( ليس لكَ مِنَ الأمْرِ شيءٌ أو يتوبَ عليهم أو يُعذِّبَهُم فإنّهم ظالمون )000آل عمران / 128 فاستبشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهدايتهم ، فتِيْبَ عليهم كلهم000 فتح مكة وإسلامه وفي يوم الفتح الكبير000فتح مكة ، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكة :( يا معشر قريش ، ما تظنون أني فاعل بكم ؟)000هنالك تقدم سهيل بن عمرو وقال :( نظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم )000وتألقت الإبتسامة على وجه الرسول الكريم وقال :( اذهبوا فأنتم الطلقاء )000وفي هذه اللحظة التي سبقها الخوف والرهبة ثم تلاها الخجل والندم تألقت مشاعر سهيل بن عمرو وامتلأت عظمة وأسلم لرب العالمين000فأصبح من الذين نقلهم الرسول بعفوه من الشرك الى الإيمان000 قوة إيمانه لقد أصبح سهيل -رضي الله عنه- بعد إسلامه في عام الفتح سمحاً كثير الجود ، كثير الصلاة والصوم والصدقة وقراءة القرآن والبكاء خشية الله ، وأخذ على نفسه عهداً فقد قال :( والله لا أدع موقفا مع المشركين ، إلا وقفت مع المسلمين مثله ، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين ، إلا أنفقت مع المسلمين مثلها ، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا )000 وفاة الرسول عندما توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم أكثر أهل مكة بالرجوع عن الإسلام حتى خافهم والي مكة آنذاك ( عتاب بن أسيد ) فقام سهيل بن عمرو وقد كان مقيما بمكة آنذاك ، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال :( إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ، فمن رابنا ضربنا عنقه )000فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وتحققت نبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال لعمر :( إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه )000وحين بلغ ذلك أهل المدينة تذكر عمر حديث الرسول الكريم له فضحك طويلا000 باب عُمَر حضر باب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جماعة من مشيخة الفتح وغيرهم ، فيهم سُهيل بن عمرو ، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، فخرج الآذن فقال :( أين صُهيب ؟ أين عمّار ؟ أين سليمان ؟ ليدخلوا !)000فتمعّرت وجُوه القوم ، فقال سهيل :( لِمَ تمعُّر وجوهكم ؟ دُعوا ودُعينا ، فأسرعوا وأبطأنا ، فلئن حسدتموهم على باب عمر ، فما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر من هذا !)000 الرباط أخذ سهيل بن عمرو مكانه في جيش المسلمين مقاتلا شجاعا ، وخرج معهم الى الشام مقاتلا ، وأبى أن يرجع الى مكة وطنه الحبيب وقال :( سمعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول :( مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير له من عمله طوال عمره )000وإني لمرابط في سبيل الله حتى أموت ، ولن أرجع مكة )000 وظل مرابطاً حتى وافته المنية000 الشهادة استشهد سهيل بن عمرو في اليرموك سنة ( 15 هـ ) وكان له قصة في ذلك ، فقد كام ممن استشهد معه عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام وجماعة من بينهم المغيرة ، فأُتوا بماء وهم صَرْعى ، فتدافعُوهُ حتى ماتوا ولم يذوقوه ، فقد أتي عكرمة بالماء فنظر الى سهيل بن عمرو ينظر إليه فقال :( ابدؤوا بهذا )000فنظر سهيل إلى الحارث بن هشام ينظر إليه فقال :( ابدؤوا بهذا )000فماتوا كلهم قبل أن يشربوا ، فمرّ بهم خالد بن الوليد فقال :( بنفسي أنتم )
=========
العقيدة وأهمية الدفاع عنها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فالحمد لله الذي جمعنا في هذا البيت من بيوته، ونسأله عز وجل أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن نكون إخواناً على سرر متقابلين، وفي الغرفات من الآمنين. حديثنا عن العقيدة؛ هذه العقيدة التي أنزل الله بها كتابه وعلمنا إياها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذه العقيدة التي تصوغ شخصية المسلم لتجعله خلقاً آخر، فقد كان يرجو ويرهب الدنيا، وأهل الدنيا وأصبح لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله. إنها عقيدةٌ أيها الإخوة تجعل الإنسان يستمد من أسماء ربه وصفاته ما يتعامل به مع سائر الناس من حوله، فهو يطلب المغفرة من الله إذا أذنب، لأنه يعلم أن ربه غفورٌ رحيم تواب، وهو يطلب العفو من الله، لأنه عفوٌ كريم يتجاوز، وهذا من شأن الكريم، والمؤمن كذلك بعقيدته يسأل الله الرزق ولا يسأله غير الله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] فهو الذي يرزق، فلا يخشى هذا المسلم أن يقطع رزقه أحد، وهؤلاء الناس أسباب قد يأتي الرزق عن طريقهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فالذي ينفع هو الله، ولئن اجتمع الإنس والجن على أن يضروا إنساناً لم يكتب الله الضرر عليه ما استطاعوا. فهذه العقيدة تصوغ شخصية المسلم، تجعله سلماً لأولياء الله، حرباً على أعداء الله، موالياً لأولياء الله، معادياً لأعداء الله، وهكذا تتميز فيه هذه العقيدة بمظهر الولاء والبراء من خلال هذا الكتاب العزيز وهذه السنة النبوية. أيها الإخوة: هذه العقيدة التي تشتمل على العلاقة بالله والإيمان به: بربوبيته، بألوهيته، بأسمائه وصفاته، بقضائه وقدره، بأنبيائه وكتبه ورسله وباليوم الآخر الذي يحاسبنا فيه، هذه العقيدة المشتملة على أبواب الإيمان: قولٌ وعمل، وعلى الموقف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غير ذلك من أمور؛ تحتاج إلى صيانة، وتحتاج إلى حفاظ عليها. فمن أنواع الجهاد المهم جهاد الحجة والبيان، نكافح فيه عن عقيدتنا التي تتعرض لأخطار من قبل المشركين ومن قبل المبتدعين ومن قبل الغلاة ومن قبل المرجئة . واليوم هناك أعداء كثر ومنحرفون ومبتدعة يشنون الغارات على العقيدة، ويشككون الناس فيها، ويدعون الناس إلى عقيدة غير العقيدة الصحيحة، ويهاجمون العقيدة الصحيحة، ويهاجمون الناس حتى في مصادر التلقي، ويجعلون لهم مصادر تلقٍّ غير المصادر الشرعية، غير الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويريدون أن ينسفوا ثوابت هذه العقيدة، وأن يجعلوا مكانها أسساً مبتدعة من عندهم. العقيدة تتعرض لأخطار كثيرة، وواجبنا هو الدفاع والمنابذة والجهاد بالحجة والبيان، كما أن الجهاد يكون بالسيف والسنان أيضاً.
العلماء هم حراس العقيدة
فحماية هذه العقيدة من العاديات؛ وكف العدوان والمعتدين من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، ولهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وسيرهم مملوءة بالعبر التي كثرت فيها مصارع أهل البدعة والزندقة والكفر على أيديهم، أي: أيدي أهل العقيدة وعلمائها، حتى حصحص الحق وزهق الباطل، فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق، إذ هو حجة وبينة ودليل وآية وبرهان ونور وشفاء لما في الصدور، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً ودامغٌ لقول مخالفينا ومزهقٌ لهم أبداً، وربَّ قوةٍ باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، وقد قتل أنبياء كثر وما غلبت حجتهم قط. قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء. ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين. قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟! واليهود يقولون: ( يد الله مغلولة ) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل. لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لأهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لأهل السنة. لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، و عبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك و القدرية و الجبرية و المعطلة و المشبهة و الجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً ، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة. ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة. تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بنصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم. عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.
عصر الشيخين وخلوه من البدع ... ...
في عهد الصديق و الفاروق ما كان أحد يتجرأ أن يتلفظ ببدعة، لأن اليد الحديدية كانت تضربه وتقمعه، كذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه أن صبيغ بن عسل يجلس في المجالس ويثير الشبهات ويسأل عن متشابه القرآن، والقرآن فيه آيات قد تخفى معانيها على العامة؛ فهناك آيات تتحدث أن الكفار يوم القيامة لا ينطقون، وهناك آيات تدل أنهم يتكلمون، فيأتي يقول: هذه تقول كذا وهذه تقول كذا فكيف؟! وما هي النازعات؟ وما هي العاديات؟ ويوم القيامة يوم طويل فهو خمسون ألف سنة، في وقت يتكلم فيه الكفار، ووقت يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وهكذا تنزل مثل هذه الآيات على حالٍ دون حال. أول ما سمع عمر رضي الله عنه بهذا الرجل، استدعاه وقد أعد له عمر عراجين النخل، قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، قال: وأنا عبد الله عمر ، ثم أخذ العراجين، وأخذ يضرب بها على رأس صبيغ ضرباً متوالياً شديداً مبرحاً حتى سال الدم على وجهه ورأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي؛ كل الشبهات تبخرت مع هذه العقوبة وهذا الضرب، ولم يكتف بذلك بل نفاه ومنع المسلمين أن يكلموه في المنفى حتى مرض الرجل نفسياً وتأزم، وكتب إلى عمر خطاب استرحام فأذن عمر للناس أن يكلموه ويكلمهم، من كان إذاً يتجرأ أن يرفع رأسه ببدعة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه؟ ولما دخل الضعف على المسلمين بدأت بدع القدرية وبدع الخوارج ، هذه العوامل أدت إلى ظهور مناقشات ومناظرات، وقام أهل الحق يردون على أهل الباطل، وألفت الكتب وعقدت المجالس، فنريد أن نعرف كيف ندافع عن عقيدتنا، خصوصاً الآن، إذ يوجد -كما قلت لكم- أناس يريدون اللعب بثوابت الأمة ومصادر تلقي الأمة، يريدوننا أن نتحاكم إلى العقل ونترك النص، والنص إذا لم يجئ على مزاجهم نسفوه، ولو كان في صحيح البخاري ، ويقومون بليِّ أعناق النصوص لتوافق ما عند الغربيين، ويضعفون أشياء صحيحة، ويصححون أشياء ضعيفة، وربما لم يأخذوا بالحديث أصلاً، وهكذا قام من يشكك بأحكام ثابتة في الشرع كالربا والحجاب وتعدد الزوجات، ويثيرون الشبهات على المسلمين، نريد أن نعرف كيف ندافع، فما هو وضع المنهج؟ وما هي الأصول؟ ما هي الآداب في المناظرة؟ وما هي الأحوال التي يمكن أن تقع فيها؟ ما هي طرق المناظرة؟ فالجهاد بالحجة والبيان قضية في غاية الأهمية، خصوصاً في هذا العصر الذي كثر فيه الرماة على العقيدة والدين وعلى المسلمين، مقالات تكتب، وأشياء تقال في الهواء والفضائيات، وأمور تثير الشبهات، ونحن لا يصح أن نسكت إطلاقاً، بل يجب أن نقوم لله بالواجب، وأن نرد، وأن نعرف كيف نرد، وأن نكون أصحاب علم وحجة وبيان وبلاغة، ويتكلم منا القادر بعلمه وبيانه، فيسكت أهل الباطل ويقمعهم، وسنعرف أمثلة كثيرة لهذا إن شاء الله من خلال هذا الدرس.
ــــــــــــــ(1/182)
صاحب البيت الأموي أبو سفيان بن حرب
إنه أبو سفيان صخر بن حرب -رضي الله عنه-، والد أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووالد أمير المؤمنين معاوية -رضي الله عنه-، وواحد من أشراف العرب وسادتهم وحكمائهم، وكان يكبر النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، أسلم يوم الفتح، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، وأعطاه ( من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم : والله إنك لكريم، فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرًا.
وروى ابن عباس قصة إسلامه؛ فقال: لما أتى به العباسُ يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وطلب منه أن يأمنه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله)، فقال بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد، فقال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله)، فقال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا.
فقال له العباس: ويحك، أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد وأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر والذكر، فأكرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بكرامة عظيمة، وقال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه على نفسه فهو آمن) [ابن إسحاق].
وفي يوم الطائف أصيبت عينه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة)، فقال أبو سفيان: الجنة. [ابن عبد البر].
وقاتل أبو سفيان يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد، وسمعه أحد الصحابة وهو يقول: يا نصر الله اقترب، ثم وقف خطيبًا في الناس ويقول: أيها الناس الله الله إنكم ذادة (سادة) العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
وكان أبو سفيان صادقًا حتى مع خصومه، فلم تمنعه خصومته للنبي ( قبل إسلامه من قول الصدق أمام هرقل وهو يسأله عن محمد صلى الله عليه وسلم . ومات -رضي الله عنه- في خلافة عثمان بن عفان.
ــــــــــــــ(1/183)
رحم الله العقلاء
د.علي الحمادي
انظر إلى ذكاء أسلافنا وفطنتهم ومكرهم بالأعداء وعمق تفكيرهم، والذي به بعد توفيق الله وتأييده سادوا وقادوا وفتحوا العالم وصنعوا الحياة وتركوا بصمات عميقة في دنيا الناس حتى هذه الساعة.
فهذا جرجير قائد الروم يعلن في جيشه أنه من يقتل قائد قوات المسلمين عبدالله بن سعد فسيمنحه مائة ألف دينار ويزوجه ابنته، فما كان من عبدالله بن سعد إلا أن يرد بذكاء وفطنة ويعلن إعلاناً مضاداً: "من أتاني برأس جرجير نفلته (أي أعطيته من الغنائم) مائة ألف دينار وزوجته ابنة جرجير واستعملته على بلاده" فصار جرجير أشد خوفاً من عبدالله بن سعد.
وهذا نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي استخدم عقله وذكاءه وفطنته وحيلته في القضاء على الأحزاب الذين اجتمعوا لقتال المسلمين في غزوة الخندق وتشتيتهم وتفتيت وحدتهم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (في غزوة الأحزاب) فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنَّا إن استطعت، فإن الحرب خُدعة".
فخرج نعيم بن مسعود رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم.
فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم، ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج نعيم بن مسعود رضي الله عنه حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني، فقالوا: نفعل.
قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج نعيم بن مسعود رضي الله عنه حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ فقال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم، فأنزل الله بالمشركين.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نفعل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.
فلما رجع إليهم الرسول بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل محمداً حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم.
رحم الله العقلاء والحكماء، ومهندسي الحياة من قبلنا حينما حذَّروا أشد التحذير من مصاحبة الحمقى ومن لا عقل لهم، وأبانوا خطورتهم وفساد قولهم وفعلهم، وأظهروا أن أحدهم يريد أن يصلح فيفسد، ويبني فيهدم، ويقدم فيؤخر، ويعز فيذل، ويرفع فيخفض، وينفع فيضر، فما أسوأ أثرهم، وما أقبح صنيعهم.
ــــــــــــــ(1/184)
صاحب المال الرابح أبو طلحة الأنصاري
إنه أبو طلحة زيد بن سهل الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-، أحد النقباء الاثني عشر الذين حضروا بيعة العقبة، وكان أبو طلحة يعبد شجرة قبل أن يسلم، فأراد أن يتزوج أم سليم -رضي الله عنها-، وكانت مسلمة، فقالت له: ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى، قالت: أفلا تستحي أن تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقًا (مهرًا) غيره. قال: حتى أنظر في أمري، فذهب، ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالت لولدها أنس: يا أنس زَوِّج أبا طلحة، فزوجه.
وحضر أبو طلحة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كل الغزوات،وكان صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد إذا رمى أبو طلحة سهمًا يرفع بصره ينظر إلى أين يقع السهم، وكان يدفع صدر الرسول صلى الله عليه وسلم بيده لخوفه عليه، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم. [أحمد]. وكان يقول له: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء. وفي غزوة حنين قتل أبو طلحة عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم. [أبوداود والدارمي والحاكم].
وكان أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً، وكان أحب أمواله إليه (بيرحاء) وهى أرض بها نخيل، وكانت أمام المسجد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلى الله عليه وسلم : (بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه [متفق عليه].
وكان أبو طلحة كثير الصيام، وكان حريصًا على الجهاد رغم كبر سنه؛ لقوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالا}، فكان يقول لأبنائه: لا أرى ربنا إلا يستنفرنا شبابا وشيوخًا، يا بني جهزوني، فإني خارج معكم إلى الغزو، فيقول أبناؤه: يرحمك الله يا أبانا، قد غزوت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر حتى مات، فدعنا نغزو عنك، ولكنه صمم على رأيه، ولبس ثياب الحرب، وخرج معهم، ومات أثناء غزوة في البحر، ولم يجد الصحابة جزيرة قريبة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم تتغير رائحة جسده.[ابن سعد].
وكان موته -رضي الله عنه- سنة (20 هـ).
ــــــــــــــ(1/185)
دور الذكر والجهاد في صناعة المستقبل
هذه دراسة في جهاد أهل الذكر، وبيان حالهم، في ساحات الجهاد، في سبيل الله، نشرح فيها معاني كلمة الذكر، في لغة القرآن الكريم، وصفات أهل الذكر، ومراتب الجهاد في سبيل الله، ومقام الجهاد في الدين، مع تقديم نماذج من جهاد أهل الذكر، من لدن عهد النبوة، والصحابة والتابعين لهم، لتكون أنموذجاً للاقتداء، حيث يقوم اليوم، طوائف من أهل الذكر، بأمر الدين، والجهاد في سبيل الله، يدورون مع الكتاب، حيث دار، ويهتدون بهدي السنة النبوية، ويجددون، أمر هذا الدين، يحيون شعائره، ويقيمون شرائعه، ويجمعون بين القرآن والسلطان، ويؤاخون بين السيف والقلم، وهم أهل البشرى، بشرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال :(لا يزال أهل الغرب، ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة ) (1)، وهم أهل الحدة، والشوكة، والسلاح، أي الجهاد في سبيل الله، وهم أيضاً، امتداد المهاجرين والأنصار، ممن ساحوا في الأقطار، يرفعون لواء التوحيد، وذلك إلى كونهم أظهر جهة في اتجاه الغرب، وأقربها من جهة القبلة.
وهذه هي المعاني الجامعة لكلمة الغرب، كما جاءت في هذا الحديث (2)، وأنها الطائفة المنصورة إن شاء الله تعالى، تحقيقا لوعد ربنا :(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) (الصافات :171-173).
معاني الذكر في لغة القرآن الكريم
قد جاءت معاني الذكر في القرآن الكريم، على أوجه كثيرة، يجمع بينها أنها تعد كلها من صفات أهل الذكر، منها ما يعد صفة ملازمة لأهل الذكر، الذاكرين الله كثيراً:
(أ) فالذكر :بمعنى الوحي، كما في قوله تعالى :(أءلقى الذكر عليه من بيننا ) (القمر:25)، يعني الوحي.
(ب) والذكر: بمعنى القرآن، كما في قوله تعالى :(وهذا ذكر مبارك أنزلنه ) (الأنبياء :50)، يعني القرآن.
(ج) والذكر :بمعنى الحفظ، كما في قوله تعالى :(واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) (البقرة :63)، يعني احفظوا ما فيه.
(د) والذكر :بمعنى طاعة الله، التي لا يكون بدونها أحد ذاكراً، كما في قوله تعالى :(فاذكروني أذكركم ) (البقرة: 152).
(هـ) والذكر :أيضاً الشيء يجري على اللسان، كما في قوله تعالى: ( فإذا قضيتم الصلوات فاذكروا الله ) (النساء:103)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (ما يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) (3).
(و) والذكر بالقلب، كما في قوله تعالى :(والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ) (آل عمران:135)، أي ذكروه في أنفسهم، وعلموا أنه سائلهم عما عملوا.
(ز) والذكر :بمعني التفكر، وذلك في وقوله تعالى :(إن هو إلا ذكر للعالمين ) (يوسف:104).
(ج) والذكر، والذكرى: بمعنى التذكير :(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (الذاريات :55).
(ط) والذكر، والذكرى: نقيض النسيان :(وادكر بعد أمة ٍ) (يوسف:45)، أي تذكر بعد نسيان.
(ي) والذكر :بمعني الصلوات الخمس، وذلك في قوله تعالى :(رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (النور:37)، يعني الصلوات الخمس.
(ك) والذكر: بمعني الدراسة، كما في قوله تعالى :(واذكروا ما فيه ) (الأعراف:171)، معناه: وادرسوا ما فيه.
(ل) والذكر: الصيت، والثناء، والشرف(ص والقرءان ذى الذكر ) (ص:1).
(م) والذكر: بمعنى الخبر، كما في قوله تعالى :(سأتلوا عليكم منه ذكرا ً) (الكهف:83)، يعني خبراً.
(ن) والذكر: بمعني البيان، كما في قوله تعالى :(أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ) (الأعراف:63و69)، أي بيان من ربكم
(س) والذكر :الكتاب الذي فيه تفصيل الدين، ومنه قوله تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر :9).
(ع) الذكر: الصلاة، والتسبيح، والدعاء، والشكر، وتمجيد الله تعالى، وتهليله، والثناء على الله، بجميع محامده(4).
(ص) وقد أحسن صنعاً، الحكيم الترمذي، حين ذكر قي كتابه :(تحصيل نظائر القرآن)، أن من معاني الذكر: الجهاد. قال:(وإنما صار الذكر(الجهاد) في مكان آخر، لأنه إنما يجاهد عن لا إله إلا الله، ولإقامتها، وللذب عنها، فذلك الفعل هو ذكر) (5).
ويلزم أهل الذكر، ليكونوا من أهل الثناء، والشرف، والرفعة حقيقية، أن يكونوا أهل فكر، وعظة، واعتبار، وعمل صالح، كالصلاة، والجهاد، وذكر الله بالقلب، واللسان، وذكر الله بتلاوة القرآن، وحفظه، وتدبره، ومعرفة بيانه، وأخباره، وذكر الله بالدعاء والتسبيح، والشكر، والثناء على الله تعالى.
هذا، وذكر الله واسع سعة معاني الدين، وشموله لشؤون الحياة كلها، كما نجد في الهدي النبوي، الأنموذج، والقدوة الحسنة. وقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم، كلها ذكراً، إذ كان يذكر الله في جميع أحيانه.
وهكذا كان فقه الصحابة..وهذه واحدة من الصحابيات الجليلات، كمثال على هذا الفقه: فعن أم الدرداء أنها قالت في تفسير قوله تعالى :(ولذكر الله أكبر ) (العنكبوت:45 ).
فإن صليت، فهو من ذكر الله.
وإن صمت، فهو من ذكر الله.
وكل خير تعمله، فهو من ذكر الله.
وكل شر تجتنبه، فهو من ذكر الله.
وأفضل الذكر، تسبيح الله (6).
صفات أهل الذكر
أهل الذكر هم المسبحون، الحامدون، التالون، المصلون، المقيمون لشعائر الله، وشرائعه، وهم المحبون لله تعالى، والمحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين يحبون إخوانهم في الدين، وهم المستجيبون لأمر ربهم، بالإكثار من ذكره تعالى.
قال تعالى :(يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا ً) (الأحزاب: 41-42)، وقد جاءت هذه الآية، في سياق إثبات ختم النبوة والرسالة، لخاتم الأنبياء والمرسلين :(ما كان محمدُُ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيءٍ عليم اً) (الأحزاب :40).. وفي الذكر إشارة واضحة، إلى أن الذكر صفة ملازمة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالذكر ... . ذكراً، ومذكراً.
وفيها من لطائف الإشارات، أنها جاءت على رأس الأربعين آية من سورة الأحزاب، الموافقة لسن النبوة، عند نزول الوحي.
وقال تعالى :(والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (الأحزاب:35).
وهذه الآية جاءت في سياق الأمر بذكر الله، وتلاوة كتابه، وإحسان الفقه في القرآن، علماً، وعملاً، مع إخلاص الإسلام، والإيمان، وصدق للدين، والصبر، والخشوع، والإنفاق، والتصدق، والصيام، والعفاف، قال تعالى :(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً * إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (الأحزاب:34-35)، وقال تعالى :(اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلوة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) (العنكبوت:45)، أي ذكر الله لكم بالثواب، والثناء عليكم، أكبر من ذكركم له في عبادتكم، وصلواتكم.. قال معناه ابن مسعود، وابن عباس، وأبو الدرداء، وأبو قرة، وسلمان، والحسن، وهو اختيار الطبري(7).. وثواب ذكر الله، هو أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث القدسي:(من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم ) (8).
والذكر النافع، هو ما كان مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه إلا من الله، وأهل الذكر، قد باعوا لله أنفسهم، وزكوا أنفاسهم في سبيل مرضاته، فما يقعدهم عن الجهاد شيء.. كيف لا وهم المتحققون بالتوبة، والعبادة الخالصة لله، وهي العبادة الجامعة لأركان الإسلام، وسهامه، وشعائره، وشرائعه، بالتوحيد الخالص، والصلاة الخاشعة، والإحسان في إيتاء الزكاة، وصيام رمضان والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمحافظة على حدود الله تعالى، والدعوة إليه جل جلاله:(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآءمرون بالمعروف والناهون عن المنكروالحفظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) (التوبة:111-112)، وقد ورد وصف المؤمنين من أهل الذكر، في سياق الجهاد، في صدر سورة الأنفال التي تسمى أيضاً سورة الجهاد، وسورة بدر :(يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين * إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيامناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) (الأنفال :1-4). وذلك ليطهروا نفوسهم، عن الاشتغال بالاختلاف حول المغانم، ولتتعلق هممهم بالفردوس الأعلى، وليتحققوا الإيمان الكامل.
الجهاد وصدق الإيمان:
ثم إنه لا يكون صدق الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على دين الله، وأمره، إلا بالجهاد في سبيله تعالى، بالمال، والنفس، مصدقاً لقوله تعالى :(إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصدقون ) (الحجرات :15).
جهاد النفس:
ولا يكون جهادنا في ساحات القتال، إلا ونحن نجاهد أنفسنا جهاداً عظيماً، حتى نتخلى عن رغائب الدنيا، وجواذبها الأرضية، ومن لم يجاهد نفسه، لم ينتصر عليها، فيخرج مقاتلاً للعدو الخارجي :(كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا ًوهو خيرُُ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرُُ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:216)، وبجهاد النفس، يصير ما تكرهه حبيباً إليها، حتى القتال، ومبارزة العدو، وتعريض النفس للخطر، وحينئذ فالمجاهدون لا يفرغون من غزوة، إلا وأعدوا أنفسهم لما بعدها، ولولا هذه الروح الدافعة، والسر العظيم في الجهاد، ما بلغوا في وجيز من الزمان مشارق الأرض ومغاربها. وفي بيان المقام العظيم لجهاد النفس يقول صلى الله عليه وسلم :(المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل )(9).
الجهاد: المعنى .. والمراتب
معنى الجهاد:
وتفسير الجهاد، في لغة القرآن الكريم، على ثلاثة وجوه:
1- الجهاد بالقول، في ذلك كما في قوله تعالى :(وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) (الفرقان :52).
2- القتال بالسلاح كما في قوله تعالى :(لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) (النساء:95).
3- الجهاد يعني العمل، فذلك قوله تعالى :(ومن جهاد فإنما يجاهد لنفسه ) (العنكبوت:6)، يعني :ومن عمل الخير، فإنما يعمل لنفسه، وله نفع ذلك (10).
والجهاد في سبيل الله باب واسع، فمنه جهاد النفس، وجهاد العلم، والحجة، واللسان، وجهاد المال، والبذل، والإنفاق، وجهاد العدو بالقتال والمبارزة.
وقد حقق بعض العارفين القول في الجهاد، ومراتبه، على نحو ما يرد موجزاً، في فيما يلي:
مراتب الجهاد:
الجهاد على أربع مراتب:
المرتبة الأولى :جهاد النفس، وهو أيضاً أربع مراتب:
أحدها :أن يجاهدها على تعلم الهدى.
الثانية :على العمل به بعد علمه.
الثالثة :على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله.
الرابعة : على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانياً، حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه.
المرتبة الثانية :جهاد الشيطان، وهو مرتبتان :إحداهما، جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، والثانية جهاده على دفع ما يلقي من الشهوات.
فالأولى بعدة اليقين، والثانية بعدة الصبر، قال تعالى :(وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون ) (السجدة:24).
المرتبة الثالثة :جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال والنفس.. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم، والمنكرات، والبدع، وهو ثلاث مراتب: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه (11).
وقد كانت حياة السلف الصالح، قائمة على ذكر الله آناء الليل، وأطراف النهار، تلاوة للقرآن، مع الالتزام ْوردٍ فيه معلوم، بحسب مقام كل واحد منهم، مع التزام الجماعة، جماعة المسلمين، وجماعة الصلاة، وقيام الليل، وصيام التطوع، والسعي في مصالح المسلمين، وإيصال النفع، والخير لهم، مع الاستقامة على أمر الله، والقيام بواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في رفق، وأناة، وحلم، حتى رضى الله عنهم، ورضوا عنه، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، يوالي بعضهم بعضاً، ويذكرون الله بلسان حالهم، ومقالهم، على نحو ما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه :(اجلس بنا نؤمن ساعة) (12).
وما أثر عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يقول، وهو يأخذ بيد الرجل والرجلين أصحابه :(قم بنا نزدد إيماناً)، فيذكرون الله تعالى بعض الوقت(13) .
لقد كانوا حقاً رهباناً في الليل، فرساناً في النهار، وربما تقرحت بطون بعضهم، من التزام أكل قدر محدود من التمر كل يوم، كأهل الصفة الذين رحم حالهم حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموصوف بالرأفة، والرحمة، حتى إنه لم يجد شيئاً يطعمهم غير شعير ولبن، مع تطييب خاطرهم، بأنه لا يجد في بيته غير هذا(14).
وقد يسقط بعضهم من الإعياء، في طريقه إلى صلاة الجماعة، على قرب المكان، أو يربط على بطنه الحجر من الجوع، لكنه إذا نودي للجهاد، كان أسرع إجابة للنداء، ولربَّما قال بلسان حاله، أو مقاله: ما أحسن الآن لو سمعت منادياً ينادي: يا خيل الله اركبي(15). إن همهم الفردوس الأعلى.
وهذان مثلان لرجلين، من هؤلاء الرجال، فأحدهما وهو يصب ماء الضوء لنبي لله، فيطلبه أن يسأل ما يتمنى، فلا يكون جوابه إلا :(أسألك مرافقتك في الجنة)، قال له عليه الصلاة والسلام :(أو غير ذلك ) ؟ فأكد ما طلبه أولاً، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) (16).
والمثل الثاني لعمير بن الحمام، وقد بلغ به الشوق مداه لدار الخلد، لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على القتال، ويبشر الشهداء، فما كان منه إلا أن سارع إلى مبتغاه، وهو يلقي، بتمرات كن معه قائلاً:(لئن أنا عشت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة) (17).
النبي صلى الله عليه وسلم أسوة المؤمنين في جميع أبواب البر:
وإن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على قدر طاقتنا، وهو سيد الذاكرين، والشاكرين، والحامدين، والمصلين، والصائمين، والمنفقين، وهو سيد قراء القرآن، وهو قائد الغر المحجلين، وهو إمامنا في كل خير(18)
الجهاد ذروة سنام الإسلام:
والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو ركن من أركان الدين.. والنبي صلى الله عليه وسلم، أسوة المؤمنين، هو المعظم شأن الجهاد، الواصف له بأنه ذروة سنام الإسلام(19).
والجهاد ملحق بأركان الإسلام الخمسة، وقد وعدّ النبي صلى الله عليه وسلم، أسهم الإسلام الثمانية: الخمسة المعروفة، وأضاف إليها ثلاثة، هي: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(20).
النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الذاكرين والمجاهدين:
وقد جاء ذكر الأسوة في القرآن، في ثلاثة مواضع، في سورتي الأحزاب، والممتحنة، المدنيتين، كلها في سياق الولاء، والبراء في الله تعالى، والجهاد في سبيله.. ففي موضعي سورة الممتحنة، دعاء إلى التأسي بأبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا، وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام، وموضوع الأسوة هنا، في الولاء في الله تعالى، لأوليائه، والبراءة من المشركين، ومقاطعة الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً.
قال تعالى :(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شىءٍ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) (الممتحنة: 4-6).
أما آية سورة الأحزاب، فقد جاءت في سياق الجهاد، تدعو للتأسي بسيد الذاكرين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً * ولما رءا المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً * من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً ) (الأحزاب: 21-23).
يقول ابن كثير في تفسيره : هذه الآية، أصل كبير في التأسي برسول صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأفعاله، وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهداته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا، وتزلزوا، واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، أي: هلا اقتديتم به، وتأسيتم، بشمائله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى :(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) (21).
وهذه الآية الأخيرة، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، بين يدي جثمان المعلم الأول، ومقرئ القرآن بالمدينة، الصحابي الشهيد مصعب بن عمير، رضى الله عنه، ثم قال :(إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة).
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن هذه الآيات، نزلت في عمه أنس بن النضر رضي الله عنه :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ... الآية (22).
ومن الصحابة، من أسعده الله، وشرفه بالشهادة النبوية، أنه ممن ينتظر، وما بدول تبديلاً.. فعن طلحة رضي الله عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحد، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر، والذخر، ثم قرأ هذه الآية :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً)، فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء ؟ فأقبلت وعليَّ ثوبان أخضران حضرميان فقال: (أيها السائل هذا منهم) (23).
المجاهدون وملازمة الذكر:
وذكر الله، يلازم المجاهدين في سبيل الله، وهم يستغيثون الله، ويدعونه، ويتضرعون إليه، في ساحات القتال، ويفتقرون إليه تعالى، ويخضعون له، ومع إعدادهم العدة اللازمة، فهم لا يعتمدون عليها، بل يفوضون أمرهم إلى الله، ويتوكلون عليه، أو كما وصف صاحب البردة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كأنهم في ظهور الخيل نبتُ ُربىً *** من شدة الحزم لا من شدة الحُزُمِ
ولكنهم معتمدون على عناية الله:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الأطم
ودعوة هذا شأنها، وهؤلاء جنودها، فإنها منصورة بإذن الله، مهما كان أعداؤها:
ما حوربت قط إلا عاد من حرب *** أعدى الأعادي إليها ملقي السلم
وقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، رجال من الصحابة الكرام، وتبعهم بإحسان رجال ممن جاء بعدهم: (والذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر :10).
لقد كان ذكر الله حالة غالبة عليهم، وجهاد النفس سمة تميزهم، وساحات الجهاد، سياحة لهم. والمؤمنون مأمورون بالإكثار من ذكر الله تعالى.
ثم إنه لو كان الله تعالى، مرخّصاً لأحد في ترك الذكر، لكتن ذلك مع زكريا عليه السلام حين سأله أن يجعل له آية :(رب اجعل لي ءايةً قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار ) (آل عمران:41)، ولكان ذلك أيضاً مع المجاهدين، وهم يقاتلون في ساحات الجهاد، فقد أُمروا بذكر الله كثيراً :(يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) (الأنفال:45).
أهل الذكر وساحات الجهاد:
وأهل الذكر، قلوبهم متعلقة بساحات الجهاد، لأنها مظنة استجابة الداء، ومدد الملائكة في الغزوات :(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ) (الأنفال:9).. وقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن الدعاء يستجاب في ميدان القتال، حيث قال صلى الله عليه وسلم :(ثنتان لا تردان- الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلجم بعضهم بعضاً ) (24)، كما روى الشافعي في كتابه (الأم)، بسند مرسل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(اطلبوا استجابة الدعاء، عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث ) (25).
وأهل الذكر، هم المرابطون على ثغور الإسلام :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعكلم تفلحون ) (آل عمران:200).
وعيون الخاشعين، الذاكرين الله كثيراً، مثل عيون المرابطين، يحرسون ثغور الإسلام، كتب الله لها النجاة: (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) (26).
الجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام:
وأهل الذكر، مجاهدون، دعاة إلى الله.. والجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام، وهو ذروة سنامه، وأقصر طريق إلى رضوان الله، وأقربه، فالجنة تحت ظلال السيوف، ثم إنه لا سبيل لإعلاء كلمة الله تعالى، بدون الجهاد، وإنه لحقاً أعظم العبادات، حتى إن المالكية يذكرون باب الجهاد، متصلاً بالعبادات، اعتباراً بنية المجاهد :(لتكون كلمة الله هي العليا) (27).
نماذج من مجاهدي الصحابة(1/186)
لقد كان الصحابة، من المهاجرين والأنصار، على مراتبهم في الأولية، والسبق، والفضل، يتصدر التعريف بكل واحد منهم، بعد ذكر إسلامه، أنه شهد المشاهد، والغزوات كلها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذكر في ترجمته مقدار ما شهد من هذه المشاهد، وشارك في تلك الغزوات، مع ذكر جمعه للقرآن، أو ما حفظه منه، وذكر عبادته، وتهجده، وإنفاقه، وبذله.. وهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين، إلى تمام العشرة المبشرة، وقد زادوا فوق ذلك، تحمل أعباء الخلافة، والإمارة، والقيادة (28).
وحيثما نظرت في تراجم هؤلاء الرجال، وجدتهم في المشهورين بالعلم، والزهد، والتعبد، والجهاد، ومن بينهم عدد وافر من الصحابيات العابدات، اللائي اشتركن في جملة من الغزوات، بما تيسر من مشاركة مناسبة، كالسقي، والتمريض، والنقل، والأعمال الإدارية، مع المشاركة الفعلية في القتال أحياناً (29)، وقد شاركت جملة من أمهات المؤمنين في بعض هذه الغزوات، بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفقاً لقسمهن، وسهمهن، في الخروج(30).
وهذه نماذج يسيرة، من هدي خير القرون، من جيل الصحابة، السابقين بالإحسان، من المعروفين بالقراء والعلماء، الذين كانوا من أهل التقوى، والمغفرة، والجهاد، والبذل في سبيل الله، والعبادة، والتهجد، والصوم، وسلامة الصدر، ولزوم الذكر:
1- مصعب بن عمير.. المقرئ:
أول من يهاجر إلى المدينة، داعية إلى الإسلام، يمضي شهيداً يوم أحد، وهو يتلو القرآن في الميدان:
لقد ظل مصعب بن عمير يعلِّم القرآن، ويدعو الناس للإسلام، واستشهد يوم أحد وهو يحمل الراية، وجعل يقرأ القرآن في الميدان، يثبت به المؤمنين، وكان آخر ما قرأ: (وما محمد إلا رسولُُ قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشكرين ) (آل عمران:144).
2- سالم مولى أبي حذيفة.. يحمل اللواء يوم القيامة، على درب مصعب بن عمير (31):
كما اعتنق سالم مولى أبي حذيفة، اللواء يوم اليمامة، وجعل يدعو الناس للاجتماع والقتال :(يا أهل سورة البقرة، يا أهل سورة آل عمران)، وأنكر على من ظن به أن الراية تسقط من يده فقال :(بئس حامل القرآن أنا إذاً). وقطعت يداه، والراية على صدره، بين يديه، وهو يقرأ بين يدي استشهاده، تماماً مثلما صنع مصعب ابن عمير، قرأ:(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. .) (آل عمران:14) (32).
3- معاذ بن جبل.. أنموذج فريد، في حب الله، ولقائه:
لقد حُبب لقاء الله إلى الصحابة، وهم سادة الذاكرين، إنهم كانوا يذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً، فزكت نفوسهم، واشتاقوا للقاء الله، إن كانوا في ميدان الجهاد، فهم يرجون الشهادة، وإلا فحسن الختام، وهم في سبيل ذلك يلبون النداء، فيخرجون عن المدينة، التي يحبونها، ويحتملون ألم فراق سيد الصحابة، بل سيد الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم.
وإنه يمثل لنا هذا الأنموذج، معاذ بن جبل رضى الله عنه، وقد كان معلماً، داعية إلى الخير، مجاهداً. فعن عاصم بن حميد، عن معاذ بن جبل قال، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال :(يا معاذ عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا، وقبري )، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت، فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال :(إن أولى الناس بي، المتقون، من كانوا، حيث كانوا ) (33).
وقد أعد معاذ بن جبل، رضي الله عنه، نفسه للقاء الله، بل إن أهله كانوا مثله، فإنه لما أصاب ولديه الطاعون قبله، استبشر معهما بلقاء الله، قال لهما: كيف تجدانكما؟
قالا :يا أبانا(الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) (البقرة:147)، قال :وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين (34).. ثم إن معاذ بن جبل استقبل الموت بحفاوة بالغة، وذلك في طاعون عمواس، بناحية الأردن، سنة ثمان عشرة من الهجرة، وله من العمر حينئذٍ ثلاث وثلاثون سنة. ولما شعر بدنو الأجل، هتف: مرحباً بالموت مرحباً، زائر مُغب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، إنك لتعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها، لكري، الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عند حلق الذكر(35).
وقد خص الله تعالى معاذ بن جبل رضي الله عنه، بجملة فضائل، من السبق في الإسلام، والبيعة، والعلم، والعمل والزهد، والورع، والكرم، والجود، والتعبد، والاجتهاد. شهد بيعة العقبة، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردفه وراءه، وبعثه إلى اليمن، بعد غزوة تبوك، وشيعه ماشياً في مخرجه، وهو راكب.
وهو مع ذلك، متواضع، يقول إذا قام يتهجد من الليل، يناجي ربه: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى، ترده إلى القيامة، إنك لا تخلف المعياد (36).
4- أبو طلحة الأنصاري.. رجل كألف:
أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري، شهد العقبة مع السبعين، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الرماة المذكورين، يقي بصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوي التأثير على العدو، حتى قال صلى الله عليه وسلم (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة ) (37)، وفي رواية أخرى :(لصوت أبي طلحة أشد على المشركين من فئة ).
وكان من أكثر الأنصار مالاً، ولما نزل قوله تعالى :(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران: 92)، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقف أمواله إليه، وجعلها صدقة في سبيل الله على الأقربين، وبني عمه (38) وعن أنس، أن أبا طلحة، ما أفطر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في مرض، أو سفر، حتى لقي الله. وعنه: أن أبا طلحة، غزا البحر، فمات، فلم يوجد له جزيزة يدفن فيها، سبعة أيام، فلم يتغير(39).
5- عبدالله بن رواحة.. الفدائي المقدام والصوّام:
عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امريء القيس، يكنى أبا محمد، أحد النقباء الاثني عشر، وشهد العقبة مع السبعين، وبدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء. واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة في عزوة بدر الموعد (بدر الآخرة)، وبعثه في سرية في ثلاثين مجاهداً، إلى أسير بن رزام اليهودي، بخيبر، فقتله، وأرسله إلى خيبر خارصاً.
وعن أبي الدرداء قال :لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، في اليوم الحار، الشديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شده الحر، وما في القوم صائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن رواحة (40).
6- أبو دجانة.. يبايع على الموت:
أبو دجانة سماك بن خرشة، شهد بدراً، وأحداً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذٍ، وبايعه على الموت، وقتل بعد اليمامة شهيداً.
كان سليم الصدر، يحفظ وقته ولسانه، فلا يتكلم فيما لا يعنيه، فعن زيد بن أسلم، قال :دُخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل :ما لوجهك يتهلل ؟ فقال :ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنين، أما أحدهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً (41).
7- خُبيب بن عدي.. أول شهيد سن صلاة ركعتين بين يدي القتل:
وهذا خبيب بن عدي بن مالك، شهداً أحداً مع النبي صلى الله عليه سلم، وكان فيمن بعثه مع بني لحيان، فأسروه هو وزيد بن الدثنة، فباعوهما من قريش، فقتلوهما، وصلبوهما بمكة، بالتنعيم. ولما خرجوا به من الحرم، ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب :دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، وقال :والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع، لزدت: (اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً).
وقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
وكان خبيب، هو الذي سن هذه الصلاة لكل مسلم، ويستبشر بلقاء الله عز وجل، فيصلى بين يدي تقديمه للقتل، رحمه الله، وأحسن لقاءه (42).
نماذج من مجاهدي التابعين لهم بإحسان
1- صله بن أشيم العدوي.. شهيد من أهل الذكر والذاكرين:
وهذا نموذج لرجل من التابعين، وهو صلة بن أشيم العدوي، من كبار التابعين، من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع، وعبادة، وزهد، كان يصلي ما يستطيع أن يأتي الفراش إلا حبواً، وله مناقب كثيرة جداً. وكان يكثر من صلاة الليل في الغزوات، التي يشارك فيها، مقاتلاً مع الجيش، وقال رجل لصله :ادع الله لي.. فقال :( رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ورزقك اليقين، الذي لا يرجى إلا إليه، ولا يعَّول في الدين إلا عليه).
وكان صله في غزاة، ومعه ابنه، فقال :أي بني، تقدم فقاتل، أحتسبك.. فحمل فقاتل حتى قتل، ثم قاتل صله، حتى قتل.
واجتمع النساء عند امرأته، معاذة العدوية، فقالت :إن كنتن لتهنيئنني، فمرحباً بكُن، وإن جئتن لتعزينني، فارجعن (43).
2- عبدالله بن المبارك.. فقيه محدث، من أهل الذكر والجهاد:
وهذا عبدالله بن المبارك، أحد أئمة المسلمين، أدرك جماعة من التابعين، وروى عن كبار الأئمة، رجل جمع الله له بين العلم الغزير، والعمل الوفير، والإحسان الجزيل، والجهاد المتصل، فكلما سمع صيحة، لبى النداء، وهو مع ذلك كثير النفع لعباد الله، بعلمه، وماله، ويعتني في ذلك بأهل العلم، ورفقة الحج، ويجتهد في إدخال السرور على المسلمين.
وابن المبارك، كثير الخشية، والمراقبة لله عزوجل، فإذا أدرك محل استجابة الدعاء، سأل الله أن ينجيه من ظمأ يوم القيامة.. وفي هذا المعنى، يقول سويد بن سعيد:
رأيت عبدالله بن المبارك بمكة، أتى زمزم، فاستقى منها، ثم استقبل الكعبة، فقال :اللهم إن ابن أبي الموالي، حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(ماء زمزم لما شرب له )(44)، وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه.
ثم إن أطيب الناس عيشاً، وأسعدهم حالاً، من كان عارفاً بالله، وفي ذلك يقول ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا، قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له :وما أطيب ما فيها؟ قال :المعرفة بالله عزوجل.
وعن القاسم بن محمد، قال : كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي :بأي شيء فضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس، هذه الشهرة؟
لئن كان يصلى، إنا لنصلي، ولئن كان يصوم، إنا لنصوم، وإن كان يغزو، فإنا لنغزو، وإن كان يحج، إنا لنحج ! قال :فكنّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيت، إذ طفيء السراج، فقام بعضنا، فأخذ السراج، وخرج يستصبح، فكمث هنيهة، ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك، ولحيته قد ابتلت من الدموع. فقلت في نفسي :بهذه الخشية، فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة، ذكر القيامة.
ولقد كان عبدالله بن المبارك، القدوة في الزهد، والقيام، والذكر.. كان كذلك الإمام المجاهد، بلسانه، وسنانه، حتى اصبح مثلاً يحتذى، وقدوة للمجاهدين ... وهو الذي يرسل لصاحبه وأخيه الفضيل بن عياض، من ساحات الشهادة، هذه الأبيات، كما رواها الإمام الذهبي في السير، قال :روى عبدالله بن محمد، قاضي نصيبين، ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض، من طرسوس:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يُكْذَب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق الله بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال :فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه، وبكى، ثم قال :صدق أبو عبدالرحمن ونصح (45).
لقد ظل ابن المبارك طيلة حياته، يحج عاماً، ويغزو عاماً، حتى توفي في (هيت) من نواحي العراق، وهو منصرف من الغزو، سنة إحدى وثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وعن محمد بن فضيل بن عياض، قال :رأيت عبدالله بن المبارك في المنام، فقلت :أي الأعمال وجدت أفضل ؟ قال :الأمر الذي كنت فيه. قلت :الرباط والجهاد ؟ قال :نعم.فقلت :فأي شيء صنع ربك ؟ قال :غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكلمتني امرأة من أهل الجنة، أو امرأة من الحور العين (46).
وكما كان عبدالله بن المبارك رحمه الله، العالم الذي يذكرك الآخرة برؤيته، كذلك هو بعد مماته.. فهذا أحد الصالحين، يمر على قبر عبدالله بن المبارك، فيتذكر سيرته الزكية في العبادة، وفي الجهاد، فأنشأ يقول :
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظاً وليس بناطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنياً وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق(47).
3- إبراهيم بن أدهم.. الزاهد الأواه، يركب البحر غازياً في سبيل الله.
وهذا إبراهيم بن أدهم، ويكنى أبا إسحاق، ورى عن جماعة من التابعين.. نشأ في بيت شرف، وعز، ومال، وانصرف عنه إلي العبادة، والزهد، وانشرح صدره بما آتاه الله من فضله، وما ذاقه من لذة العبودية لله، والافتقار إليه، حتى قال :لو علم الملوك، وأبناء الملوك، وما نحن فيه من النعيم، والسرور، لجالدونا عليه بالسيوف، أيام الحياة.
إن هذا النعيم، يدركه أهل الذكر والجهاد، ومراقبة المولى عزوجل، وهكذا كان إبراهيم بن أدهم، فعن محمد بن الحسين، قال :ما انتبهت من الليل، إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله، فأغتم، ثم أتعزى بهذه الآية: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) (المائدة:45).
وعن عبدالملك بن سعد الدمشقي، قال :سمعت إبراهيم بن أدهم يقول :أعربنا الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.
وكان مستجاب الدعوة، حتى إنه ركب البحر، غازياً في سبيل الله، عصفت بهم ريح شديدة، فأشرفوا على الهلاك، فدعا ربه :(اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك)، فسكن البحر، وصار كأنه قدح زيت.
وهكذا ظل إبراهيم بن أدهم، بين الذكر والجهاد، حتى قال عشية موته:
أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات، وهو قابض عليه، يريد الرمي على العدو (48).
وحسبنا ما قدمنا من سيرة هؤلاء العشرة، وقد أكثرنا من ذكر الصحابة، لأنهم النماذج العملية في حسن التأسي، والاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه :(فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (الأعراف:157).
وجزى الله خيراً من اتبعهم بإحسان :(والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر :109).
وكلهم يتسابق في التحقق بصفات الرجال المؤمنين، الصادقين، المجاهدين، والثابتين على الحق :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً) (الأحزاب :23).
الحركات الإسلامية المعاصرة.. تحاول الجمع بين الذكر والجهاد:
وهكذا كانت حركات الجهاد، والتحرر من الاستعمار، في بلادنا العربية، والإسلامية، فقد ظلت ساحات الجهاد، مجالاً لسياحة أهل الذكر، في أرجاء العالم الإسلامي.. وقد لا نحتاج إلى التفضيل، فكتائب الجهاد الإسلامية، لا يمكن أن تغمر أو تطمس، في السودان، والجزائر، وفلسطين، وسائر بلاد المسلمين.
وساحات الجهاد القائمة اليوم في عالمنا الإسلامي، لجنودها، في كل ركن أذان، وإقامة، وصلاة، وقيام ليل، وتهجد، وصيام، وتلاوة جماعية للقرآن، والتزام للذكر كثيراً، حتى أضاءت وجوه الذاكرين، فهي ناضرة بذكر الله، متعلقة بالفراديس العلى، وتتصل الأنوار من قبور شهدائها، بالسماء، ويفوح المسك من دم الشهداء، ويعظم الاحتمال والصبر، عند جرحى العلميات، ويكثر الذكر والتسبيح، من الممسكين بالزناد، في خط النار، وكلهم يتسابقون حول غايتهم في صدق ووفاء:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) (الأحزاب :23).
وأهل الذكر يجتهدون، حتى تنشرح صدورهم، وتطمئن قلوبهم بذكر الله : (ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) (الرعد :28-29).
وأهل الذكر، في جهاد متصل الحلقات، في صلاة، وركوع، وسجود، وفعل الخير، وعبادة لله، وطاعة مع جهاد للعدو، وامتثال لجميع ما أمر الله به، وانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، وجهاد في الطاعة، ورد النفس عن الهوى، وجهاد في رد وساوس الشيطان، ومدافعة لأهل الظلم والكفر(49).
وذلك كله امتثالاً لأمر الله جل جلاله :(يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (الحج: 77-78). وقد يبلغون درجة الحبور، بذكر الله، حتى يعبر بعضهم عن هذه الحالة، فيقول :(إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لايدخدل جنة الآخرة) (50). وإنها لمجاهدة متصلة، وتزكية للنفس، لبلوغ درجة الإحسان في العبادة : (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك ) (51). وصدق الله العظيم، القائل في محكم تنزيله :(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت :69).
ــــــــــــــ(1/187)
ذو النور الطفيل بن عمرو
إنه الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه- كان شاعرًا لبيبًا، كثير الترحال والسفر، وكان لمكة من ترحاله نصيب، وقد قدمها مرة بعدما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فحذره أهل مكة من أن يسمع له أو يجالسه.
ففكر الطفيل ألا يدخل المسجد البتة، ولكنه دخل وقد وضع في أذنه قطنًا، حتى لا يسمع ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم حدَّث نفسه أن يسمع، فإن كان ما يقوله خيرًا أخذه عنه، وإن كان شرًّا لم ينصت إليه.
وقف الطفيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فإذا به يسمع كلامًا ليس كسائر الكلام، إنه شيء معجز، لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله، ولا يملك من يسمعه بعقل سليم إلا أن يؤمن به.
فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قد أبى الله إلا أن يسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، فاعرض عليَّ دينك، وما تأمر به وما تنهى عنه. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فقبله وحسن إسلامه.
ثم طلب الطفيل -رضي الله عنه- من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسله إلى قبيلته دوس؛ ليدعوهم إلى الإسلام، وأن يدعو الله سبحانه أن يؤيده بآية من عنده، فقال صلى الله عليه وسلم : (اللهم نَوِّر له). [ابن عبدالبر]. فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب، أخاف أن يقولوا إنه مُثعلَة (شناعة أو عيب)، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة المظلمة. [ابن هشام].
وقدم الطفيل إلى عشيرته، ودعاهم إلى الله، فلم يسلم معه إلا قليل، فرجع الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بعصيان قومه له، وأشار على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم فيهلكوا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الرحيم رفع يديه إلى السماء وقال (اللهم اهدِ دوسًا وائت بهم) [متفق عليه].
ثم أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ويدعوهم ويرفق بهم، فعلم الطفيل -رضي الله عنه- أن طريقته في الدعوة هي التي صرفت قلوب الناس عنه، فعاد الطفيل إلى أهله يدعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وصبر عليهم حتى لانت قلوبهم، وأقبلوا على الله -عز وجل- ودخلوا جميعًا في الإسلام، وكان من ثمرات هذه القبيلة أبو هريرة -رضي الله عنه-.
وقدمت قبيلة دوس جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام فتح خيبر. وظل الطفيل -رضي الله عنه- إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فشهد معه غزواته بعد خيبر، وكان معه حين فتحت مكة، وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح إلى صنم كبير في بيت عمر بن حممة كان يعبده المشركون ويسمونه ذا الكفين، فذهب إليه الطفيل وحرقه، وهو يقول:
يَاَذا الكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا
مِيلادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِلادِكَا
إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ في فُؤَادِكَا
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عن الطفيل بن عمرو، وفي عهد الخليفة الأول أبي بكر -رضي الله عنه- كان الطفيل علمًا من أعلام المجاهدين، الذين تصدوا للمرتدين وجاهدوهم ، وكان الطفيل في طريقه مع جيش المسلمين إلى قتال مسيلمة قد رأى رؤيا عجيبة، يقول فيها: رأيت كأن رأسي حُلق، وخرج من فمي طائر، وكأن امرأة أدخلتني في فرجها، وكان ابني يطلبني طلبًا حثيثًا، فحيل بيني وبينه، فحدثت بها قومي، فقالوا: خيرًا.فقلت: أما أنا، فقد أوَّلتها: أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي، والمرأة الأرض أدفن فيها، فقد رُوِّعت أن أقتل شهيدًا، وأما طلب ابني إياي، فما أراه إلا سيعذر في طلب الشهادة، ولا أراه يلحق في سفره هذا. فقتل الطفيل -رضي الله عنه- يوم اليمامة شهيدًا، وجرح ابنه، ثم قتل يوم اليرموك.
ــــــــــــــ(1/188)
الطفيل بن عمرو
من هو:
الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرِو بنِ طَرِيْفٍ الدَّوْسِيُّ صَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ سَيِّداً مُطَاعاً مِنْ أَشْرَافِ العَرَبِ.
وَدَوْسٌ بَطْنٌ مِنَ الأَزْدِ.
وَكَانَ الطُّفَيْلُ يُلَقَّبُ: ذَا النُّوْرِ، أَسْلَمَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِمَكَّةَ.
اسلامه
عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ: أَنَّ الطُّفَيْلَ بنَ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً شَاعِراً، سَيِّداً فِي قَوْمِي، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، فَمَشَيْتُ إِلَى رِجَالاَتِ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ سَيِّدٌ، وَإِنَّا قَدْ خَشِيْنَا أَنْ يَلْقَاكَ هَذَا الرَّجُلُ، فَيُصِيْبَكَ بِبَعْضِ حَدِيْثِهِ، فَإِنَّمَا حَدِيْثُهُ كَالسِّحْرِ، فَاحْذَرْهُ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا أَدْخَلَ عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ المَرْءِ وَأَخِيْهِ، وَبَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ المَرْءِ وَابْنِهِ.
فَوَاللهِ مَا زَالُوا يُحَدِّثُوْنِي شَأْنَهُ، وَيَنْهَوْنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ، حَتَّى قُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَدْخُلُ المَسْجِدَ إِلاَّ وَأَنَا سَادٌّ أُذُنَيَّ.
قَالَ: فَعَمَدْتُ إِلَى أُذُنَيَّ، فَحَشَوْتُهَا كُرْسُفاً، ثُمَّ غَدَوْتُ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا بِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِماً فِي المَسْجِدِ، فَقُمْتُ قَرِيْباً مِنْهُ، وَأَبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِه.
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللهِ إِنَّ هَذَا لَلْعَجْزُ، وَإِنِّي امْرُؤٌ ثَبْتٌ، مَا تَخْفَى عَلَيَّ الأُمُوْرُ حَسَنُهَا وَقَبِيْحُهَا، وَاللهِ لأَتَسَمَّعَنَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ رُشْداً أَخَذْتُ مِنْهُ، وَإِلاَّ اجْتَنَبْتُهُ.
فَنَزَعْتُ الكُرْسُفَةَ، فَلَمْ أَسْمَعْ قَطُّ كَلاَماً أَحْسَنَ مِنْ كَلاَمٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ.
فَقُلْتُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا سَمِعْتُ كَاليَوْمِ لَفْظاً أَحْسَنَ وَلاَ أَجْمَلَ مِنْهُ.
فَلَمَّا انْصَرَفَ تَبِعْتُهُ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ بَيْتَهُ، فَقُلْتُ:
يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ قَوْمَكَ جَاؤُوْنِي، فَقَالُوا لِي: كَذَا وَكَذَا، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالُوا، وَقَدْ أَبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ أَسْمَعَنِي مِنْكَ مَا تَقُوْلُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُ حَقٌّ، فَاعْرِضْ عَلَيَّ دِيْنَكَ.
فَعَرَضَ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ، فَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي أَرْجِعُ إِلَى دَوْسٍ، وَأَنَا فِيْهِم مُطَاعٌ، وَأَدْعُوْهُم إِلَى الإِسْلاَمِ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهِم، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً.
قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً تُعِيْنُهُ).
فَخَرَجْتُ حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى ثَنِيَّةِ قَوْمِي، وَأَبِي هُنَاكَ شَيْخٌ كَبِيْرٌ، وَامْرَأَتِي وَوَلَدِي، فَلَمَّا عَلَوْتُ الثَّنِيَّةِ، وَضَعَ اللهُ بَيْنَ عَيْنَيَّ نُوْراً كَالشِّهَابِ يَتَرَاءاهُ الحَاضِرُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَأَنَا مُنْهَبِطٌ مِنَ الثَّنِيَّةِ.
فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ وَجْهِي، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةٌ لِفِرَاقِ دِيْنِهِم.
فَتَحَوَّلَ، فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسِيْرُ عَلَى بَعِيْرِي إِلَيْهِم، وَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ سَوْطِي كَأَنَّهُ قِنْدِيْلٌ مُعَلَّقٌ.
قَالَ: فَأَتَانِي أَبِي، فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكَ، وَلَسْتَ مِنِّي.
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قُلْتُ: إِنِّي أَسْلَمْتُ، وَاتَّبَعْتُ دِيْنَ مُحَمَّدٍ.
فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ! دِيْنِي دِيْنُكَ، وَكَذَلِكَ أُمِّي، فَأَسْلَمَا.
ثُمَّ دَعَوْتُ دَوْساً إِلَى الإِسْلاَمِ، فَأَبَتْ عَلَيَّ، وَتَعَاصَتْ.
ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ:
غَلَبَ عَلَى دَوْسٍ الزِّنَى وَالرِّبَا، فَادْعُ عَلَيْهِم.
فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً).
ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِم، وَهَاجَرَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقَمْتُ مِنْ ظَهْرَانِيْهِم أَدْعُوْهُم إِلَى الإِسْلاَمِ، حَتَّى اسْتَجَابَ مِنْهُم مَنِ اسْتجَابَ، وَسَبَقَتْنِي بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالخَنْدَقُ.
ثُمَّ قَدِمْتُ بِثَمَانِيْنَ أَوْ تِسْعِيْنَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ دَوْسٍ، فَكُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! ابْعَثْنِي إِلَى ذِي الكَّفَيْنِ، صَنَمِ عَمْرِو بنِ حُمَمَةَ حَتَّى أُحْرِقَهُ.
قَالَ: (أَجَلْ، فَاخْرُجْ إِلَيْهِ).
فَأَتَيْتُ، فَجَعَلَتُ أُوْقِدُ عَلَيْهِ النَّارَ.
ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى بَعْثِ مُسَيْلِمَةَ وَمَعِي ابْنَيْ عَمْرٍو، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيْقِ، رَأَيْتُ رُؤْيَا، رَأَيْتُ كَأَنَّ رَأْسِي حُلِقَ، وَخَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَكَأَنَّ امْرَأَةً أَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا، وَكَأَنَّ ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَباً حَثِيْثاً، فَحِيْلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
فَحَدَّثْتُ بِهَا قَوْمِي، فَقَالُوا: خَيْراً.
فَقُلْتُ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَوَّلْتُهَا: أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي: فَقَطْعُهُ.
وَأَمَّا الطَّائِرُ: فَرُوْحِي.
وَالمَرْأَةُ: الأَرْضُ أُدْفَنُ فِيْهَا، فَقَدْ رُوِّعْتُ أَنْ أُقْتَلَ شَهِيْداً.
وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إِيَّايَ: فَمَا أَرَاهُ إِلاَّ سَيُعْذَرُ فِي طَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَلاَ أَرَاهُ يَلْحَقُ فِي سَفَرِهِ هَذَا.
قَالَ: فَقُتِلَ الطُّفَيْلُ يَوْمَ اليَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ، ثُمَّ قُتِلَ يَوْمَ اليَرْمُوْكِ بَعْدُ.(السير)
ــــــــــــــ(1/189)
الطفيل بن عمرو الدوسي
" اللهم اهد دوساً وأت بهم مسلمين " حديث شريف الطفيل بن عمرو الدوسي نشأ في أسرة كريمة في أرض ( دَوْس ) وذاع صيته كشاعر نابغة ، وكان موقعه في سوق عكاظ في المقدمة ، وكان كثير التردد على مكة000 اسلامه وفي إحدى زياراته لمكة كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد شرع بدعوته ، وخشيت قريش أن يلقاه الطفيل ويسلم ، فيضع شعره في خدمة الإسلام ، لذا أحاطوا
فيه وأنزلوه ضيفاً مكرماً ، وراحوا يحذرونه من محمد ، بأن له قولاً كالسحر ، يفرق بين الرجل وأبيه ، والرجل وأخيه ، والرجل وزوجته ، ويخشون عليه وعلى قومه منه ، ونصحوه بألا يسمعه أو يكلمه ، لذلك حين خرج الطفيل من عندهم ، وضع في أذنه كُرسُفاً ( القطن ) كي لا يسمع شيئا ، ووجد النبي -صلى الله عليه وسلم- قائما يصلي عند الكعبة ، فقام قريبا منه فسمع بعض ما يقرأ الرسول الكريم ، فقال لنفسه :( واثُكْلَ أمي ، والله إني لرجل لبيب شاعر ، لا يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول ، فإن كان الذي يأتي به حسن قبلته ، وإن كان قبيحا رفضته )000ثم تبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى منزله ودخل ورائه و قال :( يا محمد إن قومك قد حدثوني عنك كذا وكذا ، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ، ولكن الله شاء أن أسمع ، فسمعت قولا حسنا ، فاعرض علي أمرك )000فعرض عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإسلام ، وتلا عليه القرآن ، فأسلم الطفيل وشهد شهادة الحق وقال :( يا رسول الله ، إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم ، وداعيهم الى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه )000فقال عليه السلام :( اللهم اجعل له آية )000 أهل دَوْس ما كاد الطفيل -رضي الله عنه- يصل الى داره في أرض ( دَوْس ) حتى أخبر والده ودعاه الى الإسلام ، وأخبره عن الرسول العظيم وأمانته وطهره ، فأسلم أبوه بالحال ، ثم دعا أمه فأسلمت ، ثم زوجته فأسلمت ، وبعدها انتقل الى عشيرته فلم يسلم أحد منهم سوى أبو هريرة -رضي الله عنه- ، وخذلوه حتى نفذ صبره معهم ، فركب راحلته وعاد الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه وقال :( يا رسول الله إنه قد غلبني على دَوْس الزنى والربا ، فادع الله أن يهلك دَوْساً !)000وكانت المفاجأة التي أذهلت الطفيل حين رفع الرسول -صلى الله عليه وسلم-كفيه الى السماء وقال :( اللهم اهْدِ دَوْساً وأت بهم مسلمين ) ثم قال للطفيل :( ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم )000فنهض وعاد الى قومه يدعوهم بأناة ورفق000 قدوم دَوْس وبعد فتح خيبر أقبل موكب ثمانين أسرة من دَوْس الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكبرين مهللين ، وجلسوا بين يديه مبايعين ، وأخذوا أماكنهم والطفيل بين المسلمين ، وخلف النبي -صلى الله عليه وسلم-000 فتح مكة ودخل الطفيل بن عمرو الدوسي مكة فاتحا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ، فتذكر صنماً كان يصحبه اليه عمرو بن حُممة ، فيتخشع بين يديه ويتضرع إليه ، فاستأذن النبي الكريم في أن يذهب ويحرق الصنم ( ذا الكَفَين ) ، فأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فذهب وأوقد نارا عليه كلما خبت زادها ضراما وهو ينشد :( يا ذا الكفين لست من عُبّادكا ، ميلادنا أقدم من ميلادكا ، إني حشوت النار في فؤادكا )000 حروب الردة وبعد انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى الرفيق الأعلى ، شارك الطفيل -رضي الله عنه- في حروب الردة حربا حربا ، وفي موقعة اليمامة خرج مع المسلمين وابنه عمرو بن الطفيل ، ومع بدء المعركة راح يوصي ابنه أن يقاتل قتال الشهداء ، وأخبره بأنه يشعر أنه سيموت في هذه المعركة وهكذا حمل سيفه وخاض القتال في تفان مجيد000 استشهاده وفي موقعة اليمامة استشهد الطفيل الدوسي -رضي الله عنه- حيث هوى تحت وقع الطعان ، كما استشهد ابنه عمرو بن الطفيل في معركة اليرموك000 ...
ــــــــــــــ(1/190)
الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً
كانت غزوة فتح مكة - كما قلنا - معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتاً، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فيقولون يزعم أن اللَّه أرسله. أوحى إليه... أوحى اللَّه كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يقرأ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللَّه من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. الحديث.(1/191)
وهذا الحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين - التاسع والعاشر - ونرى الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخرفي ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نرى في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام - مائة ألف من الناس أو مائة وأربعة وأربعون ألفاً منهم - يموج حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء. الوفود: والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفداً، لا يمكن لنا استقصاؤها، وليس كبير فائدة في بسط تفاصيلها، وإنما نذكر منها إجمالاً ماله روعة أو أهمية في التاريخ. وليكن على ذكر من القارىء أو وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح، ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضاً: وفد عبد القيس - كانت لهذه القبيلة وفادتان الأولى سنة خمس من الهجرة أو قبل ذلك. كان رجل منهم يقال له منقذ بن حيان، يرد المدينة بالتجارة فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم بالإسلام أسلم وذهب بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العصري الذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه، الحلم والأناة". والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود، وكان عددهم فيها أربعين رجلاً، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه. وفد دوس - كانت وفادة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد قدمنا حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام، ويبطئون عليه حتى يئس منهم، ورجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه أن يدعو على دوس، فقال: اللهم اهد دوساً. ثم أسلم هؤلاء فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتاً من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر فلحق به. رسول فروة بن عمرو الجذامي - كان فروة قائداً عربياً من قواد الرومان، عاملاً لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعد ما رأى من جلاد المسلمين وشجاعتهم، وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة 8هـ ولما أسلم بعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما علم الروم بإسلامه أخذوه فحبسوه، ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت على الردة، فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له عفراء، وضربوا عنقه. وفد صداء - جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ه. وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثة من أربعمائة من المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها صداء. وبينما ذلك البعث عمل معسكراً بصدر قناة، علم به زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: جئتك وافداً على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي. فرد الجيش من صدر قناة، وجاء الصدائي إلى قومه فرغبهم في القدوم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقدم عليه خمسة عشر رجلاً منهم، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع. قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى - كان من بيت الشعراء، من أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8هـ، كتب إلى كعب بن زهير أخوه بجير بن زهير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجاتك. ثم جرى بين الأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة، ونزل على رجل من جهينة وصلى معه الصبح. فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول اللَّه. إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم. قال: أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال: دعه عنك، فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه. وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهورة التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها، لم يفد، مكبول قال فيها - وهو يعتذر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويمدحه -: نبئت أن رسول اللَّه أوعدني والعفو عند رسول اللَّه مأمول مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظ وتفضيل لا تأْخُذَنْ بأقوال الوشاة ولم أذنب، ولو كثرت في الأقاويل لقد أقوم مقاماً لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد، إلا أن يكون له من الرسول بإذن اللَّه تنويل حتى وضعت يمين ما أنازعه في كف ذي نقمات قيلة القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه وقيل: إنك منسوب ومسؤول من ضيغم بضراء الأرض مخدره في بطن عثر غيل دونه غيل إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف اللَّه مسلول ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن قد تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلا بخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاستئذان رجل منهم في ضرب عنقه، قال: يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عرد السود التنابيل فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة: من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابراً عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار وفد عذرة - قدم هذا الوفد في صفر سنة 9هـ - وهم اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن النعمان. قال متكلمهم حين سئلوا من القوم: نحن بنوا عذرة إخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعي وبني بكر لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، أسلموا وأقاموا أياماً ثم رجعوا. وفد بلى - قدم في ربيع الأول سنة 9هـ، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثاً وقد سأل رئيسهم أبو الضبيب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نعم. وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة، وسأل عن وقت الضيافة، فقال: ثلاثة أيام، وسأل عن ضالة الغنم فقال: هي لك أو لأخيك أو للذئب، وسأل عن ضالة البعير. فقال: مالك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه. وفد ثقيف - كانت وفادتهم في رمضان سنة 9هـ، بعد مرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك. وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف في ذي القعدة سنة 8هـ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام - وهو يظن انهم يطيعونه، لأنه كان سيداً مطاعاً في قومه وكان أحب إليهم من أبكارهم - فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهراً، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب - الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا - فأجمعوا أن يرسلوا رجلاً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكلموا عبد ياليل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبى، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة، وقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحدثهم سناً. فلما قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضية صلح بينهم وبين ثقيف، يأذن لهم فيها بالزنى وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبى رسول اللَّه أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا فلم يجدوا محيصاً من الاستسلام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاستسلموا وأسلموا، واشترطوا أن يتولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفاً لا يهدمونها بأيديهم أبداً. فقبل ذلك، وكتب لهم كتاباً، وأمرعليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن. وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يفدون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائماً عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض (وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفاً لما عزمت على الردة قال لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا على الردة، وثبتوا على الإسلام). ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن والكآبة، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سألهم ترك الزنى والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم. فأخذت ثقيفاً نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى اللَّه في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد ارجعوا إليه فاعطوه ما سأل، وحينئذ أبدى الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف. وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجالاً لهدم اللات، أمر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكرزين وقال لأصحابه و اللَّه لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا: أبعد اللَّه المغيرة، قتلته الربة، فوثب المغيرة فقال: قبحكم اللَّه، إنما هي لكاع حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها. وأخرجوا حليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمد اللَّه على نصرة نبيه وإعزاز دينه. رسالة ملوك اليمن - وبعد مرجع النبي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حمير، وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر، ورسولهم إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرهاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً بين فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطى فيه المعاهدين ذمة اللَّه وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية، وبعث إليهم رجالاً من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل. وفد همدان - قدموا سنة 9هـ بعد مرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالداً، فجاء علي إلى همدان، وقرأ عليهم كتاباً من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً، وكتب علي ببشارة إسلامهم إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما قرأ الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان. وفد بني فزارة - قدم هذا الوفد سنة 9هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلاً جاؤوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى، وقال: اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريحاً مريعاً، طبقاً واسعاً، عاجلاً، غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء. وفد نجران - نجران، بفتح النون وسكون الجيم بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا على دين المسيحية. وكانت وفادة أهل نجران سنة 9هـ، وقوام الوفد ستون رجلاً منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران. أحدهم العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة.. ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقى النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59-61]. ولما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسى ابن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا إن يقروا بما قال في عيسى. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، وأقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر لا تفعل فواللَّه لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أمرهم، فجاؤوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة. ألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة اللَّه وذمة رسوله. وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلاً أميناً فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح؛ ليقتص مال الصلح. ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم علياً؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين. وفد بني حنيفة - كانت وفادتهم سنة 9هـ، وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذاب - وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة - نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإماة وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولاً. فلما رأى أن ذلك لا يجدي نفعاً تفرس فيه الشر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى قبل ذلك في المنام أنه أتى بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحى إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الاستنكاف - وقد كان يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته - جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شماس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر اللَّه فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك اللَّه، واللَّه إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف. وأخيراً وقع ما تفرس فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن مسيلمة لما رجع إلى اليمامة بقي يفكر في أمره حتى ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنى، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه، وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم. وكتب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه إن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. وعن ابن مسعود قال: جاء ابن النوحة، وابن أثال رسولاً مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما أتشهدان أني رسول اللَّه؟ فقالا نشهد أن مسيلمة رسول اللَّه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت باللَّه ورسوله. لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما. كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه في ربيع الأول سنة 12، قتله وحشي قاتل حمزة، وأما المتنبىء الثاني، وهو الأسود العنسي الذي كان باليمن، فقتله فيروز، واحتز رأسه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه. وفد بني عامر بن صعصعة - كان فيهم عامر بن الطفيل عدو اللَّه وأربد بن قيس - أخو لبيد لأمه - وخالد بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرا، ثم حبس اللَّه يده فلم يقدر على سله، وعصم اللَّه نبيه، ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم فلما رجعا أرسل اللَّه على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سلولية، فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول أغدة كغدة البعير، وموتاً في بيت السلولية. وفي صحيح البخاري أن عامراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين خصال ثلاث يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان إيتوني بفرسي فركب، فمات على فرسه. وفد تجيب - قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم وكان الوفد ثلاثة عشر رجلاً، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكتب لهم بها، ولم يطلبوا اللبث، ولما أجازهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثوا إليه غلاماً كانوا خلفوه في رحالهم، فجاء الغلام، وقال: واللَّه ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل اللَّه عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له بذلك. فكان أقنع الناس، وثبت في الردة على الإسلام وذكر قومه ووعظهم فثبتوا عليه، والتقى أهل الوفد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في حجة الوداع سنة 10هـ. وفد طيء - قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن زيد ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه، وسماه زيد الخير. وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزد وبني سعد هذيم من قضاعة، وبني عامر بن قيس، بني أسد، وبهراء، وخولان ومحارب، وبني الحارث، كعب، وغامد بني المنتفق، وسلامان، وبني عبس، ومزينة، ومراد، وزبيد، وكندة، وذي مرة، وغسان، وبني عيش، ونخع - وهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة 11هـ في مائتي رجل - وكانت وفادة الأغلبيةمن هذه الوفود سنة 11 و10هـ وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11هـ. وتتابع هذه الوفود يدل على مدى ما نالت الدعوة الإسلامية من القبول التام وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن ترى محيصاً عن الاستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها.(1/192)
إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء بأسرهم، لأنه كان وسطهم كثيراً من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعاً لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد مما تأصل فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب، وقد وصل القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97-98] وأثنى على آخرين منهم فقال: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99]. أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين فقد كان الإسلام فيهم قوياً، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين. نجاح الدعوة وأثرها وقبل أن نتقدم خطوة أخرى إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجليل الذي هو فذلكة حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين حتى توج اللَّه هامته بسيادة الأولين والآخرين. إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 1-2] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2]، فقام، وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها؛ وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى. حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهان الشهوات وأغلالها، حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخرى في ميدان آخر، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، بل معارك متلاصقة مع أعداء اللَّه وعزة المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظل مساحات أخرى. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية. وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت. فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يتوانى لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني. ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة اللَّه هناك، وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة عليه. وفي جهد وكد، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة، وفي نصب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه وترتيل لقرآنه، وتبتل إليه كما أمره أن يفعل. وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها. وصحت العقول العليلة حتى تركت الأصنام بل كسرت، وأخذ الجو يرتج بأصواب التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام اللَّه. وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد اللَّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب اللَّه عنهم عيبة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب. وهكذا تحققت - بفضل هذه الدعوة - الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الأخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، وتبدلت العقلية. إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية - قبل هذه الدعوة - ويتعفن ضميره، وتأنس روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح. فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية، خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان. وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة. وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها. حجة الوداع تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية للَّه، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذاً على اليمن سنة 10هـ قال له فيما قال: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وشاء اللَّه أن يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة. أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للرحيل، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح. فلما أصبح قال لأصحابه أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة. وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم إستدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضاً ثم أهل لما استقلت به على البيداء. ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ - وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى - فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدى، فنزل بأعلى مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج. وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة - وهو يوم التروية - توجه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر - خمس صلوات - ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا اللَّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللَّه. أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم. وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات. وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة - ربيعة بن أمية بن خلف. وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص. وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً. فدفع - من المزدلفة إلى منى - قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة - وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى - فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر - وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة - وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها. ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه. وخطب االنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر - عاشر ذي الحجة - أيضاً حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء؛ وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكر قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وقال: أي شهر هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى. فأي يوم هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا. وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع. وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به. وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر اللَّه، ويقيم سنن الهدى من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق. وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر. وفي يوم النفر الثاني - الثالث عشر من ذي الحجة - نفر النبي صلى الله عليه وسلم من منى، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع وكان قد أمر به أصحابه أيضاً. ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح للَّه وفي سبيل اللَّه. آخر البعوث: كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان والياً على معان من قبل الروم. ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة ه. وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحس أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم اللَّه إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا من أحب الناس إلى بعده. وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي اللَّه به، وقد قضى اللَّه أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق. إلى الرفيق الأعلى طلائع التوديع: لما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعر صلى الله عليه وسلم ، وتتضح بعباراته وأفعاله. إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب. وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، وقال: وهو عند جمرة العقبة خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه. وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم وإني شهيد عليكم، وإني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. وخرج ليلة - في منتصفها - إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى - وبشرهم قائلاً إنا بكم للاحقون. بداية المرض: وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ - وكان يوم الإثنين - شهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع. فلما رجع، وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه. وقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 13، أو 14 يوماً. الأسبوع الأخير: وثقل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة. قبل الوفاة بخمسة أيام: ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وأغمي عليه، فقال: هريقوا على سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول حسبكم، حسبكم. وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد- وهو معصوب الرأس - حتى جلس على المنبر، وخطب الناس - والناس مجتمعون حوله فقال: لعنة اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وفي رواية: قاتل اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وقال: لا تتخذوا قبري وثناً يعبد. وعرض نفسه للقصاص قائلاً: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه. ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم أوصى بالأنصار قائلاً أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. وفي رواية أنه قال: إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. ثم قال: إن عبداً خيره اللَّه أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده. فاختار ما عنده قال أبو سعيد الخدري فبكى أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له، فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره اللَّه بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا. وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن من أأمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً. ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر. قبل أربعة أيام: ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال - وقد اشتد به الوجع - هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده - وفي البيت رجال فيهم عمر - فقال عمر قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب اللَّه. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوموا عني. وأوصى ذلك اليوم بثلاث أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي الصلاة وما ملكت أيمانكم. والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم - يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام - وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً. وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، قالت عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول اللَّه، وهم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ - ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء - فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم. وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبى، وقال: إنكن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس.(1/193)
قبل يوم أو يومين: ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويسمع الناس التكبير. قبل يوم: وقبل يوم من الوفاة - يوم الأحد - أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير. آخر يوم من الحياة: روى أنس بن مالك أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الإثنين - وأبو بكر يصلي بهم - لم يفاجئهم إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليهم بيده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. ثم لم يأت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى. ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها، فسارها بشيءٍ فضحكت، قالت عائشة فسألنا عن ذلك - أي فيما بعد فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفى فيه، فبكيت ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين. ورأت فاطمة ما برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه فقالت: واكرب أباه. فقال لها ليس على أبيك كرب بعد اليوم. ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وفد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول يا عائشة، ما أزال أنجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاعٍ أبهري من ذلك السم. وأوصى الناس، فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم كرر ذلك مراراً. الاختصار: وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم اللَّه علي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري. وأن اللَّه جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل عبد الرحمن - بن أبي بكر - وبيده السواك، وأنا مسندة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره - وفي رواية أنه استن بها كأحسن ما كان مستناً - وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول لا إله إلا اللَّه، إن للموت سكرات - الحديث. وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة وهو يقول مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى. كدّر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى، إنا للَّه وإنا إليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ. وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام. تفاقم الأحزان على الصحابة: وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها. وقال أنس ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . ولما مات قالت فاطمة يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. موقف عمر: ووقف عمر بن الخطاب - وقد أخرجه الخبر عن وعيه - يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما مات. لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، وواللَّه ليرجعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. موقف أبي بكر: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها. ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات. ومن كان منكم يعبد اللَّه، فإن اللَّه حي لا يموت. قال اللَّه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال ابن عباس: واللَّه لكأن الناس لم يعلموا أن اللَّه أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. قال ابن المسيب قال عمر واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض: ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم . فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخيراً اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كان آخر الليل - ليلة الثلاثاء - مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه مغشى بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعليا، والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي. فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله، وأوس أسنده إلى صدره. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة.أدرجوه فيها إدراجاً. واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض"، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً. ودخل الناس الحجرة أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء. ...
ــــــــــــــ(1/194)
شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت
إنه الصحابي الجليل حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري -رضي الله عنه-، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، وأبا الوليد، وأبا الحسام، ويقال له: شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم :. وهو أحد فحول الشعراء، وكان شعره في الجاهلية من أجود الشعر، قال عنه أبو عبيدة: فُضِّل حسان على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم يضع له منبرًا في المسجد وهو ينشد الشعر، ويقول: (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح (يدافع) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :) [أحمد والترمذي]، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (اهج -يعنى المشركين- وجبريل معك) [البخاري]، وقال له صلى الله عليه وسلم : (اهج قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل) [مسلم].
وعندما استأذن حسان النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء قريش، قال له صلى الله عليه وسلم : (فكيف بنسبي؟) فقال: والله لأسلنَّك (أنزعك) منهم كما تُسلُّ الشعرة من العجين. [البخاري]، فقال له صلى الله عليه وسلم : (إيت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك)، فكان حسان يذهب إلى أبي بكر ليعرف منه أنسابهم. فلما سمعت قريش هجاء حسان لهم، قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة (أي: أبا بكر). وقد هجا حسان أبا سفيان، قائلاً:
هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعَنْدَ اللَّهِ في ذَاكَ الجَزَاءُ
هَجَوْتَ مُطَهرًا برَّا حَنِيفًا أمين الله شِيمتُه الوفاءُ
فإنَّ أبي وَوَالِدَتِي وَعِرضي لِعِرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُم وِقَاءُ
وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جارية اسمها سيرين، وهى التي أرسلها المقوقس حاكم مصر هدية له ( مع أختها مارية، فتزوجها حسان، وأنجبت له عبد الرحمن. وقال حسان في وصف النبي صلى الله عليه وسلم :
مَتَى يَبْدُ في الدَّاجِي البَهيمِ جَبِينُه يَلُحْ مثلَ مِصْبَاحِ الدُّجى المتوقدّ
فَمَنْ كَانَ أوْ مَنْ قَدْ يَكُونُ كأَحْمَدٍ نِظَام لحقِّ أوْ نِكَال لِملْحِدِ
ومرَّ به عمر وهو ينشد الشعر في المسجد، فقال: أتنشد مثل هذا الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم :. فقال حسان: لقد كنت أنشد وفيه من هو خير منك (أي: النبي صلى الله عليه وسلم )، فسكت عمر. [متفق عليه].
وقيل لحسان: ضعف شعرك في الإسلام يا أبا الحسام. فقال: إن الإسلام يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، والشعر الجيد يقوم على المبالغة في الوصف، والتزيين بغير الحق، وذلك كله كذب. وتوفي حسان في خلافة عليّ، وعمره مائة وعشرون عامًا، ستون منها في الجاهلية، وستون في الإسلام.
ــــــــــــــ(1/195)
شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم
هو الصحابي حسان بن ثابت الأنصاري، ولد في المدينة المنورة، أبدع في شعره في الفخر والهجاء والمدح، أعجب به الرسول ص، واتخذه شاعراً.
قال في قصيدة يدافع فيها عن الرسول الكريم، موجهاً كلامه إلى أبي سفيان بن الحارث:
هجوت محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء؟
لساني صارم لا عيب فيه وبحري ما تكدره الدلاء
المصدر: المختار من الحكم والأشعار
لمنصور بن ناصر العواجي
ــــــــــــــ(1/196)
هل يجتمع الإسلام والفن؟
منى سيف الإسلام ...
هل الإسلام خصم للفن عموماً؟، لماذا يربط البعض بين الإسلام وتحريم الفنون؟ وماذا عن حفاوة الرسول ص بالشعر، وتشجيعه على توظيفه في خدمة الدين، حتى قرب إليه حسان بن ثابت (رضي الله عنه) وقال له: "اهجهم وروح القدس معك"، وأنصت إلى شعر عبد الله ابن رواحة (رضي الله عنه)، ووصفه بأنه أشد وقعًا على الكفار من وقع السيوف؟.
هل للإسلام تصور معين للفن الهادف، وهل يضع شروطًا للإبداع الذي لا يتعارض مع العقيدة؟.
حول الرؤية الإسلامية للفن تتحدث السطور القادمة:
بداية يعترف الأستاذ محمد قطب المفكر الإسلامي في مؤلفه "منهج الفن الإسلامى" بصعوبة نقل الصورة الإسلامية عن الفنون، وذلك لعدم وجود نماذج للفن الإسلامي يستطيع الناس قراءتها أو مشاهدتها، ويتبينون من خلالها ملامح هذا الفن وخصائصه التي تجعله إنسانياً بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد، وفي ذات الوقت متفردًا بين جميع الفنون، النموذج الوحيد المضمون هو النموذج القرآنى، أما النماذج البشرية، فهي لقلتها تنم عن عدم وجود هذا الاتجاه، ولقلتها أيضًا لم تأخذ مكانها المفروض في ساحة الفنون.
بالإضافة إلى أن مدلول الفن الإسلامي غير واضح في نفوس الناس، فبعضهم يستنكر أن يكون للدين علاقة بالفن.
البعض الآخر يستنكر أن تتدخل قيود الدين في حرية الفن، فالدين في نظرهم مجموعة من القيود والزواجر تقيد مجرى الحياة، بينما الفن انطلاقة توسع مجرى الحياة، وتنقله من المحدود إلى اللامحدود.
مفهوم قاصر
وهناك رأي ثالث يرى أنه لا يمكن أن تكون هناك صلة للدين بالفن، إلا إذا تحول الفن إلى مجموعة من الحكم والمواعظ تخرج الفن من مجاله إلى مجموعة من الدروس الثقيلة المملة التي لا ترتاح لها النفوس.
وحقيقة أن هذا التصور للدين والفن تصور قاصر وخاطئ يقيم عداوة بينهما، وينشئ بينهما انفصالاً لا وجود له في الحقيقة.
الفن تعبير الإنسان عن انعكاسات الحياة من حوله على حسه وفكره وشعوره في صورة تعبيرية جميلة، والفنان هو المرء ذو الحساسية الخاصة التي يلتقط بها الانعكاسات من حوله حتى الرقيق منها الذي قد تغفله النفوس العادية، فتمتلئ نفسه بتلك الانعكاسات وتختلط بكيانه، ثم تخرج صورة فريدة، ويقصد بالصورة المضمون، ولا يغيب عنا أن لكل فنان طابعه الخاص، ومذاقه المتميز النابع من الزاوية التي رصد منها.
فالفن الذي لا يرى من الحياة إلا الأحداث القريبة أضيق من الفن الذي يرى الأحداث البعيدة، ويربط بين القريب والبعيد، ثم يستخرج تفسيرًا واضحًا لسير الأحداث، ويجعل لها أبعادًا متميزة واضحة.
وكذلك الفن الذي ينفعل بقصة فردية ويصورها في حدودها الضيقة أضيق من الذي يستطيع أن يقدم نموذجًا بشريًا عامًا لا يحده الزمان أو المكان.
والذي ينفعل بعنصر واحد من عناصر الحياة سواء كان اقتصادًا، أو سياسة، أو اجتماعًا، ويقدم تصوره من خلال عنصر واحد أضيق من الذي يلمس كل العناصر، ويلمح التفاعل بينها وانعكاساته على حياة الناس.
والذي يهتم بالإنسان فقط أضيق من الذي يتعاطف مع الأحياء كلها؛ حيوان، وطير، ونبات، ويرى الرباط الذي يربط بينها جميعًا.
والذي ينحصر في المخلوقات وحدها أيًا كان عمق تصوره ورؤيته دون أن ينفعل إلى الخالق، ويربط بين الخلق والخالق، ويوضح ما بينهما من صلات، إن الذي لا يلم بكل هذه الجوانب يعطينا صورة غير كاملة، بل ومشوهة عن الحياة، وإذا أدركنا كل هذه الجوانب أدركنا الصلة العميقة بين الإسلام والفن؛ لأن التصور الإسلامي أشمل تصور عرفته الإنسانية.
هذه هي الرؤية الإسلامية والتصور الإسلامي للفن من حيث المبدأ، أما من حيث التطبيق فما تزال الفجوة عميقة بين التصور الإسلامي والإنتاج الفني الإسلامى، والسبب أن حياتنا المعاصرة أقيمت علي أصول غير إسلامية، بل أصول معادية للروح الإسلامية.
والفن تعبير عن الحياة، فإذا كان واقع الحياة غير إسلامي، فمن أين يأتي التعبير الإسلامي؟ وكيف يكون هناك فن إسلامي في مجتمع لا يحكمه الإسلام؟ وإذا كانت القاعدة التي يقف عليها الفنان غير إسلامية، والزاوية غير إسلامية فمن أين يأتي الطابع الإسلامي للإنتاج الفني؟
أما إذا كان هناك فنان، تنفعل نفسه بالإسلام، ويعيش الإسلام بكل أفكاره، ومشاعره، وسلوكه، ويتمنى أن يكون الواقع إسلاميًا، فهذا الذي يمكن أن يصدر عنه إنتاج فن إسلامي متميز.
الطريق الصعب
وتؤكد الكاتبة صافيناز كاظم أن طريق الإنتاج الفني الإسلامي أحجم عنه الكثيرون، واحتل وسائل الإنتاج من لا يحملون الرؤية الإسلامية، واستغل أعداء الإسلام هذه الوسائل كأسلحة لتدمير الهوية الإسلامية، وثقافة الأمة، وكان السيناريو الثقافي من زمن وحتى الآن هو تركيز الضوء الإعلامي عن عمد على أسماء بعينها، وخطفت، واغتيلت، وأخفيت مواهب فنية وثقافية، واتفق على حذفها من دائرة الترديد الإعلامى.
لكن يشاء الله أن يعطي الإسلاميين بصيص أمل من فرص ينتزعونها بأظافرهم، ويقطعون طريقًا مرهقًا من الفكر والجهاد حتى يتاح للكلمة والرؤية الإسلامية أن تنبثق، وأن تتحرر قدرة الإنتاج من معوقات وابتزاز أعدائها، وتصبح القدرة الثقافية الإسلامية لها وسيلة إعلامها التي تنتج الفن الدرامي بكل وسائله، والكلمة بكل حقولها وأشكالها.
الغناء بين الحل والحرمة
أما عن الرؤية الشرعية للفن، وخاصة الغناء من باب الحلال والحرام فيعرضها لنا الدكتور يوسف القرضاوي فيرى أن الإسلام دين واقعي لا يحلق في أجواء الخيال والمثالية، ولم يفرض على الناس أن يكون كل كلامهم ذكرا، وصمتهم فكراً، وكل سماعهم قرآنًا وكل فراغهم في المسجد، بل اعترف بفطرتهم وغرائزهم، فهناك ألوان كثيرة من اللهو، ومنها الغناء، وهو أداة عاتية من أدوات الإثارة، والهدم، وإلهاء الأمة عن غايتها الجليلة، وقضاياها الكبيرة، وقد ارتبط الغناء تاريخيًا وواقعيًا بالترف، ومجالس الشرب، وأصبح جزءاً أساسياً من حياة المتحللين من العفاف، واتسم بالميوعة، والخلاعة، والبعد عن أحكام الدين، لذلك غلب على الحس الديني النفور منه، ووقف علماء المسلمين في مختلف الأزمنة، والأمكنة منه مواقف مختلفة ما بين محرم، وكاره، ومبيح.
فهناك أنواع اتفقوا على تحريمها وهي ما اشتملت على معصية أو دعت إليها، وهناك أنواع اتفقوا على إباحتها وهي الغناء الفطري الذي يترنم به الإنسان مع نفسه، أو المرأة لزوجها، وغناء النساء في الأعراس مع بعضهن البعض.
وهناك أنواع أخرى كانت محل اجتهاد ونظر.
الدكتور القرضاوي يرى ألا حرج في الغناء في حد ذاته، وهو داخل في جملة الطيبات التي أباحها الإسلام، أما الإثم فهو فيما يشتمل عليه، ويقترن به من أشياء تنقله من الحل إلى الحرمة، فالغناء يستحب في المناسبات السارة ترويحًا للنفوس كالأعياد، والأعراس، والوليمة، والعقيقة.
ويرى الدكتور القرضاوي أن هناك قيودًا لابد أن نراعيها في أمر الغناء:
1 الموضوع: فلابد أن يكون مما لا يخالف آداب الإسلام وتعاليمه، فالأغنية التي تصف الجسم مثلاً، أو تمجد الخمر، أو تدعو إلى شربها فأداؤها حرام، والاستماع إليها حرام، وكل ما شابه ذلك.
2 وحتى لو كان موضوع الأغنية غير منافٍ لتوجيه الإسلام، فإن طريقة المغني يمكن أن تنقله من الحل إلى الحرمة كأن يكون هناك تكسر أو تميع، أو تعمد إثارة، أو إغراء بالفتن والشهوات.
3 الدين يحارب الإسراف في كل شيء حتى العبادة، فما بالنا بالإسراف في اللهو، وشغل الوقت؟! والوقت هو الحياة، ولاشك أن الإسراف في المباحات يأكل وقت الواجبات، وقد قيل: "ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع".
4 تبقى أشياء يكون كل مستمع فيها مفتي نفسه، فإذا كان الغناء يثير غريزته أو لون خاص منه يغريه بالفتنة، ويطغي فيها الجانب الحيواني على الجانب الروحي فعليه تجنبه.
ليس مجرد غطاء
ومن الذين يحملون الرؤية الإسلامية للفن الفنانة منى عبد الغني التي تقول: أسعى من خلال أعمالي أن أقدم الرؤية الإسلامية لكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية، وأقوم الآن بعمل برنامج "منى وأخواتها" أناقش فيه كل مشكلات البنات المراهقات، الخادمات، اضطهاد المحجبات وغيرها الكثير.
وترفض منى أن يكون التزام الفنانة، أو تدينها مجرد غطاء تضعه على رأسها، بل هو التزام بقضايا أمتها، والتزام بتقديم الحلول الصحيحة والعرض الواضح لكل الجوانب الإنسانية من غير إسفاف، وأن ترى الموضوع بشكل عام وليس الدور الخاص بها.
وترى أن الجانب الإعلامي في الإسلام أو الفني يحتاج إلى أن يوضع على مائدة البحث والدراسة، وأن يتم تناوله بشكل أكثر جدية واحترام، فلا يمكن أن نحلم بمجتمع مسلم خال من التليفزيون، والسينما، والمسرح، والإذاعة، والأغاني، بل على العكس كيف تكون هذه الوسائل أدوات في بناء المجتمع المسلم، وحل كثير من مشكلاته؟ بل كيف تكون وسائل تربية ووعي، وحفاظ على الدين؟ يجب أن يدرك الناس أن الإسلام ليس جامدًا، فالأصل في الأشياء الإباحة كما يقول العلماء والأعمال بالنيات كما يقول الرسول ص، ما دام العمل يناقش قضايا تهم المجتمع، ولا يتنافى مع دينه وأخلاقه، ولا يتعارض مع الثوابت العامة، ويبعد عن كل مظاهر الحرام من وصف، وميوعة وابتذال، وتبرج، فهو في صالح الإسلام وليس ضده.=>
ــــــــــــــ(1/197)
التقي الطيب الحسن بن علي
إنه الحسن بن علي -رضي الله عنه-، سيد شباب أهل الجنة، وحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم :، أمه السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وأبوه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. ولد في النصف الثاني من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمولده ذهب إلى بيت علي، فقال: (أروني ابني، ما سميتموه؟) فقال علي -رضي الله عنه-: حرب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بل هو حسن) [أحمد والطبراني].
وفي اليوم السابع من مولده، أقام النبي صلى الله عليه وسلم عقيقة له، وذبح كبشًا، وحلق رأس الحسن، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة. [أبوداود وابن حبان].
وكان جده صلى الله عليه وسلم يحبه كثيرًا، ويقول عنه وعن أخيه الحسين: (هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحب من يحبهما) [الترمذي]، وقال صلى الله عليه وسلم : (هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم عليَّ، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). [الترمذي].
وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا إلى المسجد، فصعد به المنبر وأجلسه إلى جواره، وقال لأصحابه: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) [البخاري].
كان -رضي الله عنه- أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم :، وذات يوم رآه أبو بكر الصديق وهو طفل يلعب فحمله، وقال له مداعبًا:
بأبي شبيه النبي ليس شبيهٌ بعلي
فتبسم والده الإمام علي من قول الصديق. [البخاري].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد يقفز الحسن والحسين على ظهره، فلا يقوم النبي صلى الله عليه وسلم من سجوده حتى يتركاه، وكان لا ينهرهما ولا يغضب منهما.
وذات يوم، رأى أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل الحسن على ظهره، فقال: نعم المركب ركبت يا غلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ونعم الراكب هو) [الترمذي].
ونشأ الحسن -رضي الله عنه- متصفًا بصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فكان عابدًا حليمًا، ورعًا، فاضلا، وكان ذا هيبة ووقار، فسمّي التقي، والطيب، والذكي، والولي.
سأل رجل الحسن ذات يوم: أتخاف من عذاب الله وعندك أسباب النجاة؟ ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وشفاعته ( لك، ورحمة الله التي وسعت كل شيء؟
فقال الحسن -رضي الله عنه-: أما إني ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يقول: {إذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. وأما عن الشفاعة؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {من ذا
الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]. وإما الرحمة التي وسعت كل شيء، فالله يقول: {فسأكتبها للذين يتقون}_[الأعراف: 156]، فكيف الأمان بعد ذلك؟!
وكان -رضي الله عنه- جوادًا كريمًا، شجاعًا بطلاً، وقد شارك في فتح شمال أفريقيا وطبرستان، والدفاع عن عثمان بن عفان يوم قتل، ووقف مع أبيه في موقعة الجمل وصفين وحروبه ضد الخوارج.
وكان -رضي الله عنه- حريصًا على المسلمين وعدم تفرقهم، فتنازل عن الخلافة لما علم أن ذلك سيؤدي إلى قيام حرب بين المسلمين، فلما تنازل عن الخلافة؛ أصلح الله بذلك بين الفئتين كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) [البخاري].
وسمي العام الذي تنازل فيه الحسن عن الخلافة لمعاوية -رضي الله عنه- بعام الجماعة، وكان ذلك سنة (40هـ).
وكان إذا تردد في أمرين لا يدرى أيهما أقرب إلى الحسن؛ نظر إلى أيهما أقرب من هواه فخالفه واتقاه. وكان -رضي الله عنه- فصيحًا، له كثير من الأقوال المأثورة التي تحمل معاني الحكمة منها:
- إن المؤمن من تصغر الدنيا في عينه، ويخرج على سلطان بطنه وفرجه وجهله، لا يسخط ولا يشكو، إذا جالس العلماء كان أحرص الناس على أن يسمع منهم على أن يتكلم، لا يشارك في ادعاء، ولا يدخل في مراء (جدل).
- لا أدب لمن لا عقل له، ولا سؤددا (لا سيادة) لمن لا همة له، ولا حياء لمن لا دين له.
- هلاك الناس في ثلاث: الكبر، والحرص، والحسد؛ فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس. والحرص عدو النفس، وبه أخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السوء، وبه قتل قابيل هابيل.
وفي ربيع الأول سنة (50 هـ) توفي الحسن -رضي الله عنه- ودفن بالبقيع، وقد روى -رضي الله عنه- كثيرًا من الأحاديث عن جده صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــ(1/198)
الحسن بن علي بن أبي طالب
الحسن بن علي بن أبي طالب سيد شباب الجنة اللهم إني أحبُّ حسناً فأحبَّه " " وأحِبَّ مَنْ يُحبُّه حديث شريف الحسن بن علي بن أبي طالب ، أبو محمد ، ولدته فاطمة في المدينة سنة ( 3هـ ) ، وهو أكبر أبنائها ، كان عاقلاً حليماً محباً للخير وكان أشبه أهل النبي بجده النبي -صلى الله عليه وسلم- 000
كرم النسب قال معاوية وعنده عمرو بن العاص وجماعة من الأشراف :( من أكرم الناس أباً وأماً وجدّاً وجدّة وخالاً وخالةً وعمّاً وعمّةً )000فقام النعمان بن عجلان الزُّرَقيّ فأخذ بيد الحسن فقال :( هذا ! أبوه عليّ ، وأمّه فاطمة ، وجدّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وجدته خديجة ، وعمّه جعفر ، وعمّته أم هانىء بنت أبي طالب ، وخاله القاسم ، وخالته زينب )000فقال عمرو بن العاص :( أحبُّ بني هاشم دعاك إلى ما عملت ؟)000 قال ابن العجلان :( يا بن العاص أمَا علمتَ أنه من التمس رضا مخلوق بسخط الخالق حرمه الله أمنيّته ، وختم له بالشقاء في آخر عمره ، بنو هاشم أنضر قريش عوداً وأقعدها سَلَفاً ، وأفضل أحلاماً )000 حب الرسول له قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- والحسن على عاتقه :( اللهم إني أحبُّ حسناً فأحبَّه ، وأحِبَّ مَنْ يُحبُّه )000وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصلي ، فإذا سجد وثب الحسنُ على ظهره وعلى عنقه ، فيرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفعاً رفيقاً لئلا يصرع ، قالوا :( يا رسول الله ، رأيناك صنعت بالحسن شيئاً ما رأيناك صنعته بأحد )000قال:( إنه ريحانتي من الدنيا ، وإن ابني هذا سيّد ، وعسى الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين )000 الهيبة والسؤدد كان الحسن -رضي الله عنه- أشبه أهل النبي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقد صلّى أبو بكر الصديق صلاة العصر ثم خرج يمشي ومعه عليّ بن أبي طالب ، فرأى الحسن يلعبُ مع الصبيان ، فحمله على عاتقه و قال :( بأبي شبيه بالنبيّ ، ليس شبيهاً بعليّ )000وعلي يضحك000 كما قالت زينب بنت أبي رافع : رأيت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتت بابنيها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شكواه الذي توفي فيه فقالت :( يا رسول الله ! هذان ابناك فورّثْهُما )000فقال :( أما حسنٌ فإن له هيبتي وسؤددي ، وأما حسين فإن له جرأتي وجودي )000 أزواجه كان الحسن -رضي الله عنه- قد أحصن بسبعين امرأة ، وكان الحسن قلّما تفارقه أربع حرائر ، فكان صاحب ضرائر ، فكانت عنده ابنة منظور بن سيار الفزاري وعنده امرأة من بني أسد من آل جهم ، فطلقهما ، وبعث إلى كلِّ واحدة منهما بعشرة آلاف وزقاقٍ من عسل متعة ، وقال لرسوله يسار بن أبي سعيد بن يسار وهو مولاه :( احفظ ما تقولان لك )000فقالت الفزارية :( بارك الله فيه وجزاه خيراً )000وقالت الأسدية :( متاع قليل من حبيب مفارقٍ )000فرجع فأخبره ، فراجع الأسدية وترك الفزارية000 وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال عليُّ :( يا أهل الكوفة ، لا تزوّجوا الحسن بن عليّ ، فإنه مطلاق )000فقال رجل من همدان :( والله لنزوِّجَنَّهُ ، فما رضي أمسك ، وما كره طلّق )000 فضله قال معاوية لرجل من أهل المدينة :( أخبرني عن الحسن بن علي )000قال :( يا أمير المؤمنين ، إذا صلى الغداة جلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس ، ثم يساند ظهره ، فلا يبقى في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل له شرف إلاّ أتاه ، فيتحدثون حتى إذا ارتفع النهار صلى ركعتين ، ثم ينهض فيأتي أمهات المؤمنين فيُسلّم عليهن ، فربما أتحفنه ، ثم ينصرف إلى منزله ، ثم يروح فيصنع مثل ذلك )000فقال :( ما نحن معه في شيء )000 كان الحسن -رضي الله عنه- ماراً في بعض حيطان المدينة ، فرأى أسود بيده رغيف ، يأكل لقمة ويطعم الكلب لقمة ، إلى أن شاطره الرغيف ، فقال له الحسن :( ما حَمَلك على أن شاطرته ؟ فلم يعاينه فيه بشيء )000قال :( استحت عيناي من عينيه أن أعاينه )000أي استحياءً من الحسن ، فقال له :( غلام من أنت ؟)000قال :( غلام أبان بن عثمان )000فقال :( والحائط ؟)000أي البستان ، فقال :( لأبان بن عثمان )000فقال له الحسن :( أقسمتُ عليك لا برحتَ حتى أعود إليك )000فمرّ فاشترى الغلام والحائط ، وجاء الى الغلام فقال :( يا غلام ! قد اشتريتك ؟)000فقام قائماً فقال :( السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي )000قال :( وقد اشتريت الحائط ، وأنت حرٌ لوجه الله ، والحائط هبة مني إليك )000فقال الغلام :( يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له )000 حكمته قيل للحسن بن علي :( إن أبا ذرّ يقول : الفقرُ أحبُّ إلي من الغنى ، والسقم أحبُّ إليّ من الصحة )000 فقال :( رحِمَ الله أبا ذر ، أما أنا فأقول :( من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمنّ أنه في غير الحالة التي اختار الله تعالى له ، وهذا حدُّ الوقوف على الرضا بما تصرّف به القضاء )000 قال معاوية للحسن بن عليّ :( ما المروءة يا أبا محمد ؟)000قال :( فقه الرجل في دينه ، وإصلاح معيشته ، وحُسْنُ مخالَقَتِهِ )000 دعا الحسنُ بن عليّ بنيه وبني أخيه فقال :( يا بنيّ وبني أخي ، إنكم صغارُ قومٍ يوشك أن تكونوا كبارَ آخرين ، فتعلّموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه ، فليكتبهُ وليضعه في بيته )000 عام الجماعة بايع أهل العراق الحسن -رضي الله عنه- بالخلافة بعد مقتل أبيه سنة ( 40هـ ) ، وأشاروا عليه بالمسير الى الشام لمحاربة معاوية بن أبي سفيان ، فزحف بمن معه ، وتقارب الجيشان في موضع يقال له ( مسكن ) بناحية الأنبار ، ولم يستشعر الحسن الثقة بمن معه ، وهاله أن يقْتتل المسلمون وتسيل دماؤهم ، فكتب إلى معاوية يشترط شروطاً للصلح ، ورضي معاوية ، فخلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الأمر لمعاوية في بيت المقدس سنة ( 41هـ ) وسمي هذا العام ( عام الجماعة ) لاجتماع كلمة المسلمين فيه ، وانصرف الحسن -رضي الله عنه- الى المدينة حيث أقام000 الحسن ومعاوية قال معاوية يوماً في مجلسه :( إذا لم يكن الهاشميُّ سخيّاً لم يشبه حسبه ، وإذا لم يكن الزبيري شجاعاً لم يشبه حسبه ، وإذا لم يكن المخزومي تائهاً لم يشبه حسبه ، وإذا لم يكن الأموي حليماً لم يشبه حسبه )000فبلغ ذلك الحسن بن علي فقال :( والله ما أراد الحق ، ولكنّه أراد أن يُغري بني هاشم بالسخاء فيفنوا أموالهم ويحتاجون إليه ، ويُغري آل الزبير بالشجاعة فيفنوا بالقتل ، ويُغري بني مخزوم بالتيه فيبغضهم الناس ، ويُغري بني أمية بالحلم فيحبّهم الناس !!)000 مرضه قال عبد الله بن الحسين : إن الحسن كان سُقِيَ ، ثم أفلتَ ، ثم سُقِيَ فأفلتَ ، ثم كانت الآخرة توفي فيها ، فلمّا حضرته الوفاة ، قال الطبيب وهو يختلف إليه :( هذا رجلٌ قد قطع السُّمُّ أمعاءه )000فقال الحسين :( يا أبا محمد خبّرني من سقاك ؟)000قال :( ولِمَ يا أخي ؟ )000قال :( اقتله ، والله قبل أن أدفنك ، أولا أقدرُ عليه ؟ أو يكون بأرضٍ أتكلّف الشخوص إليه ؟)000فقال :( يا أخي ، إنما هذه الدنيا ليالٍ فانية ، دَعْهُ حتى ألتقي أنا وهو عند الله )000فأبى أن يُسمّيَهُ ، قال :( فقد سمعتُ بعضَ من يقول : كان معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيَهُ سُمّاً )000 بكاؤه لمّا أن حَضَرَ الحسن بن علي الموتُ بكى بكاءً شديداً ، فقال له الحسين :( ما يبكيك يا أخي ؟ وإنّما تَقْدُمُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وعلى عليّ وفاطمة وخديجة ، وهم وُلِدوك ، وقد أجرى الله لك على لسان النبي -صلى الله عليه سلم- :( أنك سيّدُ شباب أهل الجنة )000وقاسمت الله مالَكَ ثلاث مرات ، ومشيتَ الى بيت الله على قدميك خمس عشرة مرّةً حاجّاً)000وإنما أراد أن يُطيّب نفسه ، فوالله ما زاده إلا بكاءً وانتحاباً ، وقال :( يا أخي إني أقدِمُ على أمرٍ عظيم مهول ، لم أقدم على مثله قط )000 وفاته توفي الحسن -رضي الله عنه- في سنة ( 50هـ ) ، وقد دُفِنَ في البقيع ، وبكاه الناس سبعة أيام : نساءً وصبياناً ورجالاً ، رضي الله عنه وأرضاه000وقد وقف على قبره أخوه محمد بن عليّ وقال :( يرحمك الله أبا محمد ، فإن عزّت حياتك لقد هَدَتْ وفاتك ، ولنعم الروحُ روحٌ تضمنه بدنك ، ولنعم البدن بدن تضمنه كفنك ، وكيف لا يكون هكذا وأنت سليل الهدى ، وحليف أهل التقى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذتك أكف الحق ، وربيت في حجر الإسلام ورضعت ثدي الإيمان ، وطبت حيّاً وميتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك فلا نشك في الخيرة لك ، رحمك الله )000 ...
ــــــــــــــ(1/199)
الحسن.. دارئ الفتن
يتنافس المسلمون في محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وعترته الطاهرة، وهذا التنافس مطلوب لتحقيق مصالح المسلمين، ولا تتحقق تلك المحبة بالعواطف والمشاعر الفياضة فحسب، لأنها ستكون أموراً وقتية، ولكن المحبة تتحقق بالاتباع وعدم الابتداع، وبتحري مقاصد الشريعة، فقد أوتي الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهو ما لم يؤت أحد غيره، وكان آل البيت ذوا بلاغة وفصاحة لا مثيل لها، كيف لا وهم من بطون العرب وأشرافهم وقد أمدهم الله عز وجل بمدد من عنده؟.
وعندما نتكلم عن آل البيت ينبغي ألا ننسى أصل هذا البيت، نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ونحن نعيش ذكرى هجرته إلى المدينة المنورة لإعادة انطلاقة الإسلام، كما ينبغي أن نتذكر حكمة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : "من كنت مولاه فإن علياً مولاه"، الذي درأ الفتنة وبايع الخليفة أبابكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم، اعترافاً بفضلهم وقدرهم حتى أتته الخلافة راغمة.
وينبغي أن نستذكر عقلانية الإمام الحسن بن علي } وأرضاه سيد شباب أهل الجنة الذي تنازل عن حقه بالخلافة درءاً لفتنة عظيمة بين المسلمين وحقناً لدمائهم، ومازال التاريخ يذكرها له، كيف لا وهو سليل أهل بيت طاهرين، أحسنوا تربيته ونشأته وخلقه بفضل من الله عز وجل؟، وكان ذلك مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما صعد المنبر ذات مرة، مشيراً إلى سبطه الحسن: "إن ابني هذا سيد، يصلح الله به بين فئين عظيمتين" (أسد الغابة).
فيا لها من بشارة نبوية تحققت وعاشها الحسن بنفسه، ويا له من دور عظيم لقائد عظيم لم تأخذه الدنيا رغم أنها أتته راغمة، ولم تبهره المناصب والقيادة، ولم يستسلم لآراء الفتانين ممن نكثوا به وأهل البيت الطاهرين من أهل العراق الذين استدعوهم ثم تركوهم هاربين، فتسببوا بمقتل كبراء آل البيت وإهانتهم وتشريدهم في فتنة عظيمة سجلها التاريخ وتداولتها الأجيال في مختلف الأقوال.
إن استذكار الهجرة له معان، ولعاشوراء معان، وقد آن الأوان لاستذكار محاسن آل البيت وفضائلهم بدءاً من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، فلنستحضر رواياتهم وقصصهم لأبنائنا ليعرفوا واقع قادتهم وتاريخهم الدعوي والبطولي الكبير؛ لأجل الاستزادة الروحية ورفع الروح المعنوية لانطلاقة جديدة نحو وحدة إسلامية.=>
ــــــــــــــ(1/200)
سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي
إنه الحسين بن علي -رضي الله عنه-، الحفيد الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم :، من ابنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-، زوج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد وُلد الحسين -رضي الله عنه- يوم الخامس من شعبان سنة أربعة من الهجرة، وعند ولادته أخذه النبي صلى الله عليه وسلم وحمله بين ذراعيه ولثم فاه بقبلة حانية طاهرة، وسماه حسينًا، وقال: (حسين مني وأنا من حسين، أَحَبَ اللهُ من أحب حسينًا) [الترمذي وأحمد].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحسين حبًّا شديدًا، فنشأ الحسين في حجر النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ السابعة من عمره لا يفارقه، ولا يبعد عنه، ويناديه يا أبت، وكان الحسين أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم :، ولذا أحبه الصحابة وعظمه الخلفاء منذ صغره.
وذات يوم دخل الحسين -رضي الله عنه- المسجد، فقال جابر ابن عبد الله
-رضي الله عنه-: (من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا)، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم [أبو يعلي].
وكان الحسين -رضي الله عنه- عابدًا يكثر الصوم والصلاة والحج والصدقة، وكان يحسن المعاملة مع مواليه وخدمه، فيروى أنه دخلت عليه جارية وبيدها باقة من الريحان فحيته بها، فقال لها الحسين: أنت حرَّة لوجه الله -تعالى-، فقيل له: جارية تحييك بطاقة (باقة) ريحان فتعتقها؟
فقال الحسين: هكذا أدبنا الله، فقال تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86]، وكان أحسن منها عتقها.
وأحب الحسين -رضي الله عنه- العلم حتى صار بحرًا في علوم القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه، فكان يلقي دروسًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وكان الصحابة والتابعون يحرصون على حضور حلقته واستماع العلم منه، وفي هذا يقول معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: إذا دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رءوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله الحسين.
وقد عُرف -رضي الله عنه- بشجاعته وجهاده العظيم في سبيل الله لنصْرة الدين، فاشترك في فتح شمال إفريقية في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وساهم في فتح طبرستان، وساند الحسين أباه الإمام عليَّا في حروبه بالجمل وصفين والخوارج.
ولما توفي الإمام على وقف الحسين مع أخيه الحسن يناصره ويؤازره، فلما تنازل الحسن -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ حقنًا لدماء المسلمين، وجمعًا لكلمتهم، قال الحسين لأخيه الحسن في أدب ووقار: أنت أكبر وَلَدِ عليّ، وأمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك.
وعكف الحسين بعد ذلك على طلب العلم والعبادة، حتى مات معاوية بعد أن أخذ البيعة لابنه يزيد مخالفًا بذلك إحدى شروط الصلح، وهو أن يُترك الأمر من بعده شورى بين المسلمين، عندها لم يسكت الحسين، وبايعه كثير من المسلمين، وطلبوا منه أن يكون خليفتهم، وأرسل إليه أهل الكوفة يبايعونه، ويحثونه على أن يأتي إليهم، فخرج الحسين مع أهله وبعض مناصريه متوجهًا نحو الكوفة، وحاول ابن عباس وأبو سعيد الخدري وابن عمر -رضي الله عنهم- منعه عن الخروج من مكة لكنه -رضي الله عنه- عزم على الخروج.
وفي الطريق، قابل الفرزدق الشاعر المعروف فسأله: كيف تركت الناس في الكوفة؟ فأجابه الفرزدق: تركتهم قلوبهم معك وسيوفهم عليك. فقال الحسين: لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم أكمل سيره حتى وصل إلى مكان يسمى (كربلاء) على مقربة من نهر الفرات؛ حيث دارت المعركة، وراح ضحيتها الحسين شهيدًا مع كثير من أهله وصحبه، وكان ذلك سنة (61 هـ).
وقد حفظ الله نسل النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين، فكل من ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرجع نسبه إلى الحسن أو الحسين -رضي الله عنهما-.
ــــــــــــــ(1/201)
الشهيد أخو الشهيد خالد بن سعيد
إنه خالد بن سعيد بن العاص -رضي الله عنه-، أسلم مبكرًا، فلم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى ثلاثة أو أربعة، وقيل إنه أسلم مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
ويروى في إسلامه أنه قام مفزوعًا من نومه ذات يوم، وهو يقول: أحلف بالله إنها لرؤيا حق. فلقى أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال: إني رأيت في منامي أني واقف على شفير نار عظيمة، وأبي يدفعني نحوها، ورسول الله يمنعني من أن أقع فيها، ويجذبني من ملابسي بيده اليمنى المباركة.
فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-: إنه لخير أريد لك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها.
وانطلق خالد يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وجده عند جبل بمكة يسمى أجياد، ثم سأله: يا محمد، إلى من تدعو؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع (تترك) ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عَبَده ممن لم يعبده. [البيهقي والحاكم].
فقال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
ولما علم أبوه سعيد بن العاص بإسلامه، أرسل إليه أحد إخوته، ولم يكونوا أسلموا بعد، فجاء خالد ووقف أمام والده، فأخذ أبوه يشتمه، ويسبه، ويضربه بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدًا وأصحابه، وأنت ترى خلافه مع قومه، وما جاء به من عيب آلهتهم، وعيب من مضى من آبائهم!!
فقال خالد: نعم تبعته على ما جاء به، فصاح أبوه فيه قائلا: اذهب يا أحمق حيث شئت، فوالله لأمنعنك القوت (أي الطعام)، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، ثم طرده من بيته، وقال لإخوته: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت بهذا اللئيم. وغادر خالد دار أبيه بكل ما فيها من نعيم، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظل معه، يعيش بجواره، وينهل من علمه
وفضله.
وعندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الثانية إلى الحبشة، كان خالد من أوائل من خرج إليها، ومكث هناك ما شاء الله له أن يمكث، ورزقه الله بابنه سعيد وابنته أم خالد.
ثم يعود خالد مع إخوانه إلى المدينة بعد فتح خيبر، ويقيم بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشاركه في فتح مكة وحنين والطائف، وتبوك، لا يتخلف عن غزوة، ولا يتقاعس عن جهاد، ثم بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم واليًا على اليمن.
وشاء الله تعالى أن يهدى إخوته إلى الإسلام، فأسلموا جميعًا، وشاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم غزواته، ثم جعلهم أمراء على بعض الإمارات، ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ترك خالد وإخوته الإمارات، ورجعوا إلى المدينة، فقال لهم أبو بكر: ما لكم رجعت عن عمالتكم، ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ارجعوا إلى أعمالكم.
فقالوا: نحن بنو أبي أحيحة (لقب لأبيهم) لا نعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا. ثم ذهبوا إلى الشام يجاهدون في سبيل الله حتى قتلوا جميعًا هناك.
وقد قيل: ما فتحت بالشام بلدة إلا وجد فيها رجل من بني سعيد بن العاص ميتًا. وكان خالد -رضي الله عنه- شديد الحب لله ول رسوله صلى الله عليه وسلم حتى إن أباه سعيد بن العاص مرض ذات يوم، فقال: لئن رفعني الله من مرضي هذا، لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدًا (يقصد بابن أبي كبشة رسول الله صلى الله عليه وسلم :).فلما سمع خالد ما يقوله أبوه قال: اللهم لا ترفعه. فمات أبوه في مرضه ذلك. واستشهد خالد بن سعيد -رضي الله عنه- في معركة أجنادين في جمادى الأولى سنة (13 هـ) قبل وفاة أبي بكر، وقيل: استشهد في معركة مرج الصفر سنة (14هـ) في بداية خلافة عمر -رضي الله عنه-.
ــــــــــــــ(1/202)
بليع الأرض خبيب بن عدي
إنه الصحابي الجليل خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، وأحد الأنصار الصادقين، من قبيلة الأوس، لازم النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن هاجر إليهم، وكان عَذْبَ الروح، قوي الإيمان، وصفه شاعر الإسلام حسان بن ثابت فقال:
صقرًا توسَّط في الأنصار منصبُه
سَمْحَ السَّجِيَّةَ مَحْضًا غير مُؤْتَشَب
شارك في غزوة بدر، فكان جنديًّا باسلاً، ومقاتلاً شجاعًا، قتل عددًا كبيرًا من المشركين من بينهم الحارث بن عامر بن نوفل.
وذات يوم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف نوايا قريش، ومدى استعدادها لغزو جديد، فاختار عشرة من أصحابه من بينهم خُبيب بن عدي، وجعل عاصم بن ثابت أميرًا عليهم، وانطلق الركب ناحية مكة حتى اقتربوا منها، فوصل خبرهم إلى قوم من بني لحيان فأخذوا يتتبعونهم، وأحسَّ عاصم أنهم يطاردونهم، فدعا أصحابه إلى صعود قمة عالية على رأس جبل، فاقترب منهم مائة رجل من المشركين وحاصروهم، ودعوهم إلى تسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم الأمان، فنظر الصحابة إلى أميرهم عاصم فإذا هو يقول: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة مشرك، اللهم أخبر عنا نبيك.
فلما رأى المشركون أن المسلمين لا يريدون الاستسلام؛ رموهم بالنبال، فاستشهد عاصم ومعه ستة آخرون، ولم يبق إلا خبيب واثنان معه، هما زيد بن الدثنة ومرثد بن أبي مرثد، ولما رأى مرثد بداية الغدر حاول الهرب فقتله البغاة، ثم ربطوا خبيبًا وزيدًا وساروا بهما إلى مكة ؛ حيث باعوهما هناك.
وعندما سمع بنو حارث بوجود خبيب أسرعوا بشرائه ليأخذوا بثأر أبيهم الذي قتله خبيب يوم بدر، وظل خبيب في بيت عقبة بن الحارث أسيرًا مقيدًا بالحديد.
وذات يوم دخلت عليه إحدى بنات الحارث فوجدت عنده شيئًا عجيبًا، فخرجت وهي تناديهم وتقول: والله لقد رأيته يحمل قطفًا (عنقودًا) كبيرًا من عنب يأكل منه، وإنه لموثق (مقيد) في الحديد، وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة، ما أظنه إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا.
ولما أجمع المشركون على قتل خبيب استعار موسيًا من إحدى بنات الحارث ليستحد بها (يزيل شعر العانة) فأعارته، وكان لهذه المرأة صبي صغير، غفلت عنه قليلا، فذهب الصبي إلى خبيب فوضعه على فخذه، وفي يده الموسى، فلما رأته المرأة فزعت وخافت على صبيها، فقال لها خبيب أَتَخْشِينَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله، فقالت المرأة: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب.
وأراد المشركون أن يدخلوا الرعب في قلب خبيب، فحملوا إليه نبأ مقتل زيد بن الدثِنَّة، وراحوا يساومونه على إيمانه، ويعدونه بالنجاة إن هو ترك دين محمد، وعاد إلى آلهتهم، ولكن خبيبًا ظل متمسكًا بدينه إلى آخر لحظة في حياته، فلما يئسوا منه أخرجوه إلى مكان يسمى التنعيم، وأرادوا صلبه (تعليقه)، فاستأذن منهم أن يصلي ركعتين، فأذنوا له، فصلى خبيب ركعتين في خشوع، فكان بذلك أول من سنَّ صلاة ركعتين عند القتل.
وبعد أن فرغ من صلاته نظر إليهم قائلاً: والله لولا أَنْ تَحْسَبُوا أَنَّ بي جزعًا (خوفًا) من الموت؛ لازْددت صلاة. ثم رفع يده إلى السماء ودعا عليهم: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا)، ثم أنشد يقول:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
عَلَى أي جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شَلْوٍ ممَزَّعِ
ثم قاموا إلى صلبه، وقبل أن تقترب منه سيوفهم، قام إليه أحد زعماء قريش وقال له: أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك، فيصيح خبيب فيهم قائلاً:
والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة.
إنها الكلمات التي قالها زيد بن الدثنة بالأمس يقولها خبيب اليوم، مما جعل أبا سفيان -ولم يكن قد أسلم- يضرب كفًا بكف ويقول: والله ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كما يحب أصحاب محمدٍ محمدًا.
وما كاد خبيب ينتهي من كلماته هذه حتى تقدم إليه أحد المشركين، وضربه بسيفه، فسقط شهيدًا، وكانوا كلما جعلوا وجهه إلى غير القبلة يجدوه مستقبلها، فلما عجزوا تركوه وعادوا إلى مكة.
وبقى جثمان الشهيد على الخشب الذي صلب عليه حتى علم النبي صلى الله عليه وسلم بأمره، فأرسل الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو فأنزلاه، ثم حمله الزبير على فرسه، وهو رطب لم يتغير منه شيء، وسار به، فلما لحقهما المشركون قذفه الزبير، فابتلعته الأرض، فَسُمِّيَ بَلِيع الأرض.
ــــــــــــــ(1/203)
التقي المغمور سعيد بن عامر
إنه سعيد بن عامر -رضي الله عنه-، أحد كبار الصحابة، أسلم قبل فتح خيبر، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته، وكان تقيًّا ورعًا زاهدًا، فذات يوم أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يبحث عن صحابي يوليه على الشام، وكانت الشام في ذلك الحين بلدًا كبيرًا، ومركزًا هامًا للتجارة، ودار إغراء لكثرة ثرواتها، ولا يصح لها في نظر عمر إلا زاهد تفر أمام زهده كل شياطين الإغراء.
وبعد قليل صاح عمر قائلاً: ائتوني بسعيد بن عامر، فجاء سعيد إلى أمير المؤمنين، فعرض عليه ولاية حمص، فاعتذر سعيد قائلاً: لا تفتني يا أمير المؤمنين، ولكن عمر أصر على رأيه وقال: والله لا أدعك، أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي، ثم تتركونني. فوافق سعيد سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين، وخرج إلى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين جديدين، وزوده عمر بقدر من المال.
ولما وصلا إلى حمص أرادت زوجته أن تستفيد من المال الذي أعطاه عمر لهما، فأشارت على زوجها سعيد أن يشتري لها ما يلزمها من الثياب والمتاع، ثم يدخر الباقي، فقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلنعط هذا المال لمن يتاجر لنا فيه ويزيده. فقالت: فإن خسرت تجارته؟ قال سعيد: سأجعل ضمانها عليه، فقالت: نعم، وخرج سعيد فاشترى بعض ضرورات حياته، ثم تصدق بجميع ماله على الفقراء والمحتاجين، وكانت زوجته كلما سألته عن التجارة ، يقول لها: إنها تجارة موفقة، وإن الأرباح تزيد كل يوم.
وذات يوم أعادت سؤالها عليه أمام قريب لهما يعرف حقيقة الأمر، ويعلم ما صنعه سعيد، فضحك ضحكة فهمت منها الزوجة شيئًا، فألحت عليه أن يصارحها بالحقيقة، فقال لها: إنه تصدق بالمال كله في ذلك اليوم البعيد، فبكت زوجته، وحزنت على المال الذي لم تنتفع منه بشيء.
فنظر إليها سعيد، وقال: لقد كان لي أصحاب سبقوني إلى الله، وما أحب أن أنحرف عن طريقهم، ولو كانت لي الدنيا بما فيها. ثم قال: تعلمين أن في الجنة من الحور العين، والخيرات الحسان، ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعًا، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معًا، فلأن أضحي بك من أجلهن أحرى وأولى من أن أضحى بهن من أجلك. فاقتنعت زوجته، وعلمت أن ما فعله زوجها هو الصواب.
وكان أهل الشام يحبون سعيد بن عامر حبًّا شديدًا، ويفرحون بإمارته وولايته عليهم، حتى إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال له يومًا: إن أهل الشام يحبونك، فقال له سعيد: لأني أعاونهم، وأواسيهم. وحدث أن اشتكاه بعضهم لأمير المؤمنين عمر؛ فعندما سألهم عمر قائلا: ما تقولون في سعيد؟ فقال بعضهم: نشكو منه أربعًا لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، ولا يجيب أحدًا بليل، وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا، وهى أنه تأخذه الغشية (الإغماء) بين الحين والحين، فقال عمر في نفسه: اللهم إني أعرفه من خير عبادك، اللهم لا تخيب فيه فراستي، ثم دعا عمر سعيدًا ليدافع عن نفسه.
فقال سعيد: أما قولهم: إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إنه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه (أتركه) حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم. أما قولهم: لا أجيب أحدًا بليل، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إني جعلت النهار لهم، والليل لربي.
وأما قولهم: إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما، فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس لي ثياب أبدلها، فأنا أغسل ثوبي، ثم أنتظر حتى يجف، ثم في آخر النهار أخرج إليهم.
وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين، فقد شهدت خبيب بن عدي حين صلب بمكة، وهم يقولون له: أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت سليم معافى؟ فيجيبهم قائلاً: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة، ثم دعا عليهم قائلاً: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا، فكلما تذكرت ذلك المشهد الذي رأيته، وأنا يومئذ من المشركين، أرتجف من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني. ففرح عمر لما سمع هذا، وقام يعانق سعيدًا ويقبل جبهته ويقول: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي.
وكان سعيد -رضي الله عنه- يتصدق براتبه على الفقراء والمحتاجين، ولقد قيل له يومًا: توسع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك. فقال: ولماذا أهلي وأصهاري؟ لا والله، ما أنا ببائع رضا الله بقرابة، ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول (أوائل الصحابة).
وفي غزوة اليرموك، كثر عدد الروم، فاستغاث قادة الجيوش الإسلامية بأبي بكر
-رضي الله عنه- فأمدهم بسعيد بن عامر، وتوفي سعيد -رضي الله عنه- سنة (20 هـ) في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب، وهو ابن أربعين سنة.
ــــــــــــــ(1/204)
سعيد بن عامر رضي الله عنه
لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله ، وما أحب أن " " انحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها سعيد بن عامر
سعيد بن عامر بن جِذْيَم بن سَلامان القرشي ، أمه أروى بنت أبي مُعَيط أسلم قبل فتح خيبر وهاجر وشهدها ، ومنذ أسلم وبايع الرسول-صلى الله عليه وسلم- أعطاهما كل حياته ، شهد مع الرسول الكريم جميع المشاهد والغزوات كان أشعث أغبر من فقراء المسلمين ، كما كان من أكبر أتقيائهم000
جيش الشام
بلغ سعيد بن عامر أن أبا بكر يريد أن يبعثه مدداً ليزيد بن أبي سفيان ، ومكث أياماً لا يذكر أبو بكر ذلك له ، فقال سعيد :( يا أبا بكر ، والله لقد بلغني أنك تريد أن تبعثني في هذا الوجه ، ثم رأيتك قد سكت ، فما أدري ما بدا لك ؟! فإن كنتَ تريد أن تبعث غيري فابعثني معه ، فما أرضاني بذلك ، وإن كنت لا تريد أن تبعث أحداً ، فما أرغبني بالجهاد ، إيذنْ لي رحمك الله حتى ألحق بالمسلمين ، فقد ذُكِرَ لي أنه قد جُمِعَت لهم جموع كثيرة )000 فقال له أبو بكر :( رحمكَ الله ، الله أرحم الراحمين يا سعيد ، فإنك ما علمتُ من المتواضعين المتواصلين المخبتين ، المجتهدين بالأسحار ، الذاكرين الله كثيراً )000فقال سعيد :( يرحمك الله ، نِعَمُ الله عليّ أفضل ، له الطّوْل والمنُّ ، وأنت ما علمتُك يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدوقٌ بالحق قوامٌ بالقسط ، رحيمٌ بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، تحكم بالعدل ، ولا تستأثر بالقسم )000 فقال له :( حسبك يا سعيد ، اخرج رحمك الله فتجهّز ، فإني باعثٌ إلى المؤمنين جيشاً مُمِدّاً لهم ، ومؤمِّرَك عليهم )000وأمر بلالاً فنادى في الناس :( ألا انتدبوا أيّها الناس مع سعيد بن عامر إلى الشام )000
السلامة
وجاء سعيد بن عامر ومعه راحلته حتى وقف على باب أبي بكر والمسلمون جلوس ، فقال لهم :( أما إن هذا الوجه وجهُ رحمةٍ وبركة ، اللهم فإن قضيتَ لنا -يعني البقاء- فعلى عادتك ، وإن قضيتَ علينا الفرقة فإلى رحمتك ، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام )000ثم ولى سائراً000 فقال أبو بكر :( عباد الله ، ادعوا الله أن يصحب صاحبكم وإخوانكم معه ، ويُسلّمهم ، فارفعوا أيديكم رحمكم الله أجمعين )000فرفع القومُ أيديهم وهم أكثر من خمسين ، فقال عليّ :( ما رفع عدّة من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئاً إلا استجاب لهم ، ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم )000 فبلغ ذلك سعيداً بعدما وقع إلى الشام ، ولقيَ العدو فقال :( رحم الله إخواني ، ليتهم لم يكونوا دعوا لي ، قد كنت خرجتُ وأني على الشهادة لحريصٌ ، فما هو إلا أن لقيتُ العدو فعصمني الله من الهزيمة والفرار ، وذهب من نفسي ما كنت أعرف من حبي الشهادة ، فلمّا أن أخبرتُ أنّ إخواني دعوا لي بالسلامة ، علمت أني قد استجيب لهم !!)000
ولاية الشام
عندما عزل عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام ، تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه ، يكون زاهد عابد قانت أواب ، وصاح عمر :( قد وجدته ، إلي بسعيد بن عامر )000وعندما جاء وعرض عليه ولاية حمص اعتذر سعيد وقال :( لا تَفْتِنّي يا أمير المؤمنين )000فيصيح عمر به :( والله لا أدعك ، أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي ثم تتركونني ؟!)000واقتنع سعيد بكلمات عمر ، وخرج الى حمص ومعه زوجه000 الزوجة الجميلة
خرج سعيد -رضي الله عنه- ومعه زوجته العروس الفائقة الجمال الى حمص ، ولما استقرا أرادت زوجته أن تستثمر المال الذي زوده به عمر ، فأشارت عليه بشراء ما تحتاج إليه من ثياب ومتاع ثم يدخر الباقي ، فقال لها سعيد :( ألا أدلك على خير من هذا ؟000نحن في بلاد تجارتها رابحة ، وسوقها رائجة ،فلنعط هذا المال من يتجر لنا فيه وينميه )00قالت :( فإن خسرت تجارته ؟)00قال :( سأجعل ضمانها عليه !)00 قالت :( فنعم إذن )00 وخرج سعيد فاشترى بعض ضرورات عيشه المتقشف ، ثم فرق جميع المال على الفقراء والمحتاجين000ومرت الأيام وكلما سألته زوجته عن تجارتهما يجيبها :( إنها تجارة موفقة ، وإن الأرباح تنمو وتزيد )000وعندما شكت وارتابت بالأمر ألحت عليه لتعرف ، فأخبرها الحقيقة ، فبكت وأسفت على المال ، ونظر إليها سعيد وقد زادت جمالا ثم قال :( لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله ، وما أحب أن انحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها )000وقال لها :( تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان ، ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا ، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا ، فلأن أضحي بك من أجلهن ، أحرى وأولى من أن أضحي بهن من أجلك )000وأنهى الحديث هادئا مبتسما وسكنت زوجته وأدركت أنه لا شيء أفضل من السير مع سعيد في طريقه التقي الزاهد000
شكوى أهل حمص
عندا زار عمر -رضي الله عنه- حمص تحدث مع أهلها فسمع شكواهم ، فقد قالوا :( نشكو منه أربعا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار ، ولا يجيب أحد بليل ، وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه ، وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين )000فقال عمر همسا :( اللهم إني أعرفه من خير عبادك ، اللهم لا تخيب فيه فراستي )000ودعا سعيد للدفاع عن نفسه000 فقال سعيد :( أما قولهم :إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار ، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب ، إنه ليس لأهلي خادم ، فأنا أعجن عجيني ، ثم أدعه حتى يختمر ، ثم أخبز خبزي ، ثم أتوضأ للضحى ، ثم أخرج إليهم)000وتهلل وجه عمر وقال :( الحمدلله ، والثانية ؟!)000 قال سعيد :( وأما قولهم : لاأجيب أحدا بليل ، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب ، إني جعلت النهار لهم ، والليل لربي 000 وأما قولهم : إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما ، فليس لي خادم يغسل ثوبي ، وليس لي ثياب أبدلها ، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر حتى يجف بعد حين وفي آخر النهار أخرج إليهم000 وأما قولهم : إن الغشية تأخذني بين الحين والحين ، فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة ، وقد بضعت قريش لحمه ، وحملوه على جذعة ، وهم يقولون له : أتحب أن محمدا مكانك ، وأنت سليم معافى ؟000فيجيبهم قائلا : والله ما أحب أني في أهلي وولدي ، معي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة000فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته ، وأنا يومئذ من المشركين ، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها ، أرتجف خوفا من عذاب الله ويغشاني الذي يغشاني )000 وانتهت كلمات سعيد المبللة بدموعه الطاهرة000ولم يتمالك عمر نفسه وصاح :( الحمد لله الذي لم يخيب فراستي )000وعانق سعيدا000
زهده
لقد كان سعيد بن عامر صاحب عطاء وراتب كبير بحكم عمله ووظيفته ، ولكنه كان يأخذ ما يكفيه وزوجه ويوزع الباقي على البيوت الفقيرة ، وقد قيل له :( توسع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك )000 فأجاب :( ولماذا أهلي وأصهاري ؟000لا والله ما أنا ببائع رضا الله بقرابة )000كما كان يجيب سائله :( ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول ، بعد أن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :( يجمع الله عز وجل الناس للحساب000فيجيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحمام000فيقال لهم : قفوا للحساب000فيقولون : ماكان لنا شيء نحاسب عليه000فيقول الله : صدق عبادي000فيدخلون الجنة قبل الناس )000
وفاته
وفي العام العشرين من الهجرة ، لقي سعيد -رضي الله عنه- ربه نقيا طاهرا
ــــــــــــــ(1/205)
راحة من عناء الإحباط والتجني
بقلم : د. توفيق الواعي
قد تفجأ برأي يدَّعي صاحبه الصواب ويتصور أن الحقائق طوع أمره، وأن النصوص تحت إمرته، وهي في الحقيقة بعيدة عنه بعد المشرقين، ونحن لا نحب أن نخوض في النيات، ولكننا نقول: ما هكذا تورد الإبل. إن الحديث عن المناهج لا يكون إلا إذا كان الإنسان قد خبر وعاين وبحث ودقق، أما أن يخبط الإنسان في الأمور خبط عشواء فهذا لا يليق بباحث منصف أو بتقرير علني يأخذه الناس مأخذ الجد، كما لا يليق هذا بمسلم يعلم سعة الإسلام وإحاطته وعلو شأنه في الفقه والتشريع ويعرف أن الشريعة هي شق الدين الثاني بعد العقيدة.
وقد أفاضت المكتبة الإسلامية على الناس ببحر من العلوم التشريعية، منها المقارن وغيره، وهذا فيه العبرة الكافية.. والحقيقة ما كنت أظن أن باحثاً ما ينكر على الإسلام ودعاته أن يكون عندهم فهم للإصلاح السياسي، في مقابل الإصلاح السياسي الذي عند الأنظمة العربية والإسلامية، وهذا قول لا يجرؤ عليه أعداء الإسلام، أو المستشرقون من النصارى واليهود، إن أعداء الإسلام اليوم يقولون عن الأنظمة التي نعيش في كنفها إنها فاقدة لكل شيء إصلاحي، لا حرية، لا ديمقراطية، لا نظام اجتماعي، ولا اقتصادي، ولا قضائي، ولا قانوني ودستوري، ولا شيء، فهل الإسلام كذلك، وهل تراثه العلمي والفكري والفقهي والقانوني لا يساوي هذا الفراغ الإصلاحي، وكيف حكم الإسلام العالم وأخرجه من الظلمات إلى النور، هل بلا نظام ولا قانون ولا عدالة؟!، إن الحضارة الإسلامية اليوم بكل جوانبها المنيرة الوهَّاجة العظيمة مازالت مادة بكر، نهل منها أصحاب العقول والأفهام الذين يهبّون لإنقاذ الأمة مما هي فيه من ضياع وتيه، إن نابليون بونابرت الذي أخذ قانونه من فقه الإمام مالك ثم فرنسه، لخير شاهد على العطاء الإسلامي لكل الدنيا، شريطة أن يعقل الآخذ ويعي، والمجتمعات العلمية التي تقرر سبق الفقه الإسلامي وغزارة عطائه كثيرة، من ذلك ما قرره مؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة السربون بفرنسا في يوليو سنة 1951م، حين قال:
1 إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا تبارى.
2 إن اختلاف المذاهب الفقهية ينطوي على ثروة هي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة والتوفيق بين حاجاتها، ولهذا يقول برناردشو:
إن القانون الإسلامي هو القانون السامي بسبب حيوية الإسلام العظيمة لأنه الدين الذي يلوح إليَّ أنه الحائز على أهلية العيش لأطوار الحياة المختلفة، بحيث يستطيع أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان"، ويقول ولز: "الدين الحق الذي يساير المدنية هو الإسلام، وحسبك القرآن لما فيه من نظريات علمية، وقوانين وأنظمة فهو كتاب علمي اجتماعي تهذيبي خلقي حضاري"، ويقول صاحب كتاب طبيعة الثقافة ص388: "إن الإسلام لا يخضع للمقاييس التي يخضع لها غيره، من الظواهر الروحية والاجتماعية، إذ لم تكن له طفولة أو شباب، بل انبعث ظاهرة متكاملة كل التكامل".
هذا، ولم يظل القرآن والسنة النبوية الشريفة مجرد تعاليم نظرية، بل أخرج جيلاً قد سار على الأرض قرآناً وبالسنة نبراساً، ليرسم طريقاً لأمة شاهدة على الناس، وأجدني هنا أعزف عن ذكر بعض القوانين الإسلامية التي سطرها العلماء، وأميل إلى طرح عدد من الحوادث والأصول التي كانت مصدراً للتقنين، ومادة خصبة للاستنباط في الأحكام والقوانين التي يأخذ منها المشرع اللبيب ثمارها اليانعة ما يبرز به في كل اتجاه، وأتجاوز مرة أخرى القرآن والسنة حتى لا يطول بي الحديث في ذكر شيء أضوأ من الشمس، وأوضح من فلق الصبح، وأبين من غرة النهار، لأذكر شيئاً من سير الخلفاء والصالحين العملية، المستقاة منهما.
تروي كتب التاريخ أنه لما قدم عمر بن الخطاب إلى حمص أمرهم أن يكتبوا قائمة بأسماء الفقراء، ورُفعت إليه، فإذا فيها سعيد بن عامر، قال الخليفة. مَن سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال الخليفة وأميركم فقير؟، قالوا: نعم، قال: أين راتبه؟ أين رزقه؟ أين عطاؤه؟، قالوا: يا أمير المؤمنين إنه لا يمسك شيئاً!!.فبكى الخليفة، وأرسل إليه ألف دينار، ولما علم بذلك سعيد استولى عليه الجزع، والاضطراب، فسألته زوجته، هل حدث للخليفة شيء، لأنه كان يسترجع، قال إنها فتنة الدنيا، ثم أرسل هذه الدنانير إلى المجاهدين في سبيل الله.
ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لعائشة حين حضرته الوفاة: يا بنية إنا ولينا أمر المسلمين، فلم نأخذ لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر، فلما مات جاء الرسول إلى عمر بهذه الأشياء، فبكى عمر وقال: رحم الله أبابكر، لقد أتعب من بعده، ثم قال: ارفعهن يا غلام إلى بيت المال، فقال عبدالرحمن بن عوف وكان حاضراً: يا أمير المؤمنين، تسلب عيال أبي بكر هذه الأشياء. فقال عمر: فما تأمرني، قال: آمرك بردهن على عياله، فقال عمر: خرج أبوبكر عنهن عند الموت وأردهن أنا على عياله؟! لن يكون ذلك أبداً، الموت أسرع من ذلك.
ويروي الرواة أن يهودياً شكا علياً رضي الله عنه إلى قاضي عمر بن الخطاب في خلافته فلما مثلا بين يديه، خاطب القاضي اليهودي باسمه، بينما خاطب علياً بقوله "أبا الحسن"، حسب عادته في الخطاب، فظهرت آثار الغضب على وجه علي رضي الله عنه فقال القاضي: أكرهت أن يكون خصمك يهودياً، وأن تمثل معه أمام القضاء على قدم المساواة؟، فقال علي: لا ولكني غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه، بل فضلتني عليه، إذ خاطبته باسمه، بينما خاطبتني بكنيتي "أبا الحسن".
سل المعالي عن أمجاد أمتنا
شعارنا المجد يهوانا ونهواه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده
ونحن كان لنا ماض نسيناه
يا من رأى عمراً تكسوه بردته
والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً
من بأسه وملوك الروم تخشاه
دستوره الوحي والمختار قدوته
والمسلمون وإن شتوا رعاياه
وبعد: فمن ينسى كل هذا المجد المؤثل، والزعامة والريادة الفكرية والخُلقية، ومن يتغابى عن هذا الخطاب التشريعي العملي، والمعين الصافي، والبحر الزاخر من المواد الخصبة للاستنباط، ويلمز هذه الآفاق وهذه السحب السامقة يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، فهل يعقل هؤلاء أم يتوارون خجلاً قبل أن تحطمهم الأيام، فالمسلمون قادمون إن شاء الله.=>
ــــــــــــــ(1/206)
رسالة إلى الموظف المسلم
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون، وجعله مراتب وطبقات ليتخذ بعضهم بعضاً سِخرياً، يخدم بعضهم بعضاً، وينفع بعضهم بعضاً، لكن جعل الله الأمانة والمراقبة في كتابه وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، وذلك باسترعاء الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، دون ميل أو مجاملة، وجعل الله العدل أساس كل شيء في جميع المعاملات.
عظم الأمانة.. ومراقبة الله لدى الموظف ...
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليه كلما تضوَّع مسكٌ وفاح، وكلما غرَّد حمام وصاح، وكلما شدا بلبلٌ وناح، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكلٌّ في الكتاب مرتبُ؟ ...
وماذا كسبتم في شبابٍ وصحةٍِ وفي عُمُر أنفاسُكم فيه تُكتبُ؟
فيا ليت شعري ما أقول وما الذي أجيب به إذْ ذاك والأمر أصعبُ؟
خطبتي هذا اليوم: إلى الموظف المسلم. أيها الموظف المسلم: إن الله استرعاك على رعية، واستأمنك على أمانة، وحمَّلك مسئولية، يقول جل ذكره: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] وكل ما كلفنا الله به من عمل فهو أمانة، الموظف مؤتمن، والمدرس مؤتمن، والتاجر مؤتمن، والعالم مؤتمن، والقاضي مؤتمن: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته }. أيها الموظف المسلم! إنك تختلف عن الموظف الكافر تماماً، إن الموظف الكافر يعمل من أجل الدنيا، ويراقب الناس، ويخاف الناس، لا يراقب إلا هذه الحياة الدنيا، أما أنت يا مؤمن! فإن رقيبك الله، وحارسك الله، يقول تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] ويقول سبحانه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93] قال بعض المفسرين: عن لا إله إلا الله، وقال غيرهم: عن الإيمان، وقال ثالث: عن كل ما استرعاك الله عليه. وهو الصحيح. يا أيها الموظف! فوالذي نفسي بيده ليسألنك الله الأحد في يوم تشيب فيه النواصي عن وظيفتك وعن عملك، يقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] إذا كانت الذرة الحقيرة تُسأل عنها عند الله! فما بالك بقوم ضيعوا الله في أعمالهم، ونسوا الله في وظائفهم، خرجوا من الدوائر في غير طاعة، ولم يصيبوا في أعمالهم، وحبسوا المؤمنين والمسلمين بأموالهم، يقول سبحانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] قال أهل العلم: تجد النفس ما قدمت من خير وما قدمت من سوء. فماذا تقول لربك أيها الموظف المسلم إذا نَشَر لك الصحُف؟! وعَرض عليك الصحائف، ورأيت معاملتك السوداء، وخروجك من دوامك، وتأخيرك للمسلمين، وتنغيصك لحياتهم. ماذا تقول لله تبارك وتعالى؟! ولذلك جعل الله عزَّ وجلَّ من نفسه رقيباً على العبد، يقول سبحانه وتعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. ... ... ... إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليك يغيبُ ... ... ... إذا أخفيت عن المسئول، أو عن الأمير، أو عن الوزير، فما أخفيت عن عين الله....... ... نماذج في مراقبة الله عز وجل
مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه -ورفع الله منزلة عمر ، وجمعنا الله في الجنة بعمر - مر براعٍ يرعى غنماً، فقال عمر : [[يا راعي! بعني شاة من غنمك -يريد أن يمتحن إيمانه، وينتظر صدقه مع الله- قال الراعي -وهو مؤمن، وهو مسلم، وهو يراقب الله في الخلوات-: يا أمير المؤمنين! الغنم لسيدي، قال عمر : إذا سألك سيدك عن الشاة فقل: أكلها الذئب، قال الراعي: الله أكبر يا عمر ! أين الله؟! فجلس عمر يبكي ويقول: إي والله، أين الله؟! ]]. فهل قال الموظف المسلم لنفسه: أين الله؟! وهل قال المسئول لنفسه: أين الله؟!......
أبو بكر ومراقبته لله ... ...
تولى أبو بكر الخلافة، وأول خطبة خطبها على المنبر بكى وأبكى الناس، والبيعة على المسلمين، فردوا بيعتهم في عنق أبي بكر ، فأخذها شاردة واردة. كان أزهد الناس، وأخشاهم وأورعهم، ذكر أهل السير: أن عمر كان يتفقد أبا بكر بعد كل صلاة فجر، فإذا هو يخرج من المسجد إلى ضاحية من ضواحي المدينة ، فذهب عمر وراءه يوماً من الأيام، فدخل أبو بكر خيمة، ومكث فيها ساعة ثم خرج، فلما خرج؛ دخل عمر بعده إلى الخيمة، فوجد عجوزاً وأطفالاً، قال للعجوز: يا أمة الله! من أنتِ؟ قالت: أنا عجوز حسيرة كبيرة عمياء، وهؤلاء الأطفال مات أبوهم من سنوات، قال: ومن هذا الشيخ الذي يدخل إليكم؟ قالت: لا أعرفه -لا تعرف أبا بكر ، ولكن الله يعرف أبا بكر - قال: ماذا يفعل؟ قالت: يدخل عندنا، فيكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، ويصنع لنا طعامنا، ثم يخرج، فضرب عمر بيده على رأسه وبكى وقال: [[يا أبا بكر ! أتعبت الخلفاء بعدك ]]. من يفعل مثل هذا الفعل؟! من يترصد مثل هذا الترصد؟! من يخدم مثل هذه الخدمة؟! إنه الصديق الأكبر، ولذلك تولى عمر فأخذ درساً من أبي بكر لا ينساه [[ ولما مات أبو بكر ، قال لأهله: خذوا هذه البغلة، وهذه الثياب، والله ما لبست من ثياب المسلمين، وما أخذتُ من طعامهم، واذهبوا بهذه البغلة والثياب إلى عمر بن الخطاب ، وقولوا: يا عمر ! هذه بقية ميراث أبي بكر ، فاتق الله يا عمر في أموال الأمة، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي ]] فلما تولى عمر أصابه عام وجاع مع المسلمين، فبقي جائعاً شاحباً حزيناً محتاجاً، يقول على المنبر يوم الجمعة وبطنه يُقَرْقِر من الجوع: [[قَرْقِرْ أو لا تُقَرْقِر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين ]].تولى أبو بكر الخلافة، وأول خطبة خطبها على المنبر بكى وأبكى الناس، والبيعة على المسلمين، فردوا بيعتهم في عنق أبي بكر ، فأخذها شاردة واردة. كان أزهد الناس، وأخشاهم وأورعهم، ذكر أهل السير: أن عمر كان يتفقد أبا بكر بعد كل صلاة فجر، فإذا هو يخرج من المسجد إلى ضاحية من ضواحي المدينة ، فذهب عمر وراءه يوماً من الأيام، فدخل أبو بكر خيمة، ومكث فيها ساعة ثم خرج، فلما خرج؛ دخل عمر بعده إلى الخيمة، فوجد عجوزاً وأطفالاً، قال للعجوز: يا أمة الله! من أنتِ؟ قالت: أنا عجوز حسيرة كبيرة عمياء، وهؤلاء الأطفال مات أبوهم من سنوات، قال: ومن هذا الشيخ الذي يدخل إليكم؟ قالت: لا أعرفه -لا تعرف أبا بكر ، ولكن الله يعرف أبا بكر - قال: ماذا يفعل؟ قالت: يدخل عندنا، فيكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، ويصنع لنا طعامنا، ثم يخرج، فضرب عمر بيده على رأسه وبكى وقال: [[يا أبا بكر ! أتعبت الخلفاء بعدك ]]. من يفعل مثل هذا الفعل؟! من يترصد مثل هذا الترصد؟! من يخدم مثل هذه الخدمة؟! إنه الصديق الأكبر، ولذلك تولى عمر فأخذ درساً من أبي بكر لا ينساه [[ ولما مات أبو بكر ، قال لأهله: خذوا هذه البغلة، وهذه الثياب، والله ما لبست من ثياب المسلمين، وما أخذتُ من طعامهم، واذهبوا بهذه البغلة والثياب إلى عمر بن الخطاب ، وقولوا: يا عمر ! هذه بقية ميراث أبي بكر ، فاتق الله يا عمر في أموال الأمة، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي ]] فلما تولى عمر أصابه عام وجاع مع المسلمين، فبقي جائعاً شاحباً حزيناً محتاجاً، يقول على المنبر يوم الجمعة وبطنه يُقَرْقِر من الجوع: [[قَرْقِرْ أو لا تُقَرْقِر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين ]].
عمر ومراقبته لله ... ...
عمر بن الخطاب يبكي ويصيح: [[والله الذي لا إله إلا هو لو عثرت بغلة في ضفاف دجلة بـ العراق ؛ لخشيتُ أن يسألني الله يوم القيامة عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ ]] هذه مراقبة الواحد الأحد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صحَّ عنه: {اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقق عليه } اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئاً ولو يسيراً، ولو وظيفة، أو مشيخة، أو إدارة، أو إمارة، أو وزارة فشق عليهم فاشقق عليه، غداً تكون المشقة عليه يوم العرض الأكبر، يشق الله عليه كما شق على المسلمين، وعلى المساكين والفقراء، وعلى الأرامل والأيتام والمحتاجين، والجزاء من جنس العمل، يوقفه الله نادماً خاسئاً ذليلاً حقيراً، يوم لا حاكم إلا الله يوم ينادي بصوت يسمعه مَن قَرُب كما يسمعه مَن بَعُد: {لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسَه بنفسه ويقول: لله الواحد القهار }. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ولاه الله أمراً من أمر أمتي فاحتجب عن خُلَّتِهم وحاجتهم احتجب الله عن خُلَّتِه وحاجته يوم القيامة } والمعنى: مَن تولى أمراً صغيراً أو كبيراً فأوصد أبوابه، واعتذر بالمعاذير عن عمله، وعطل أعمال الناس، وأخر إجراءاتهم، وأخر مقاصدهم، ومعاملاتهم، احتجب الله عنه وعن خلته وحاجته ومسألته يوم العرض الأكبر، فلا يقضي الله له حاجة، ولا يؤثره برحمة، جزاء ما نكَّد على الأمة الإسلامية.عمر بن الخطاب يبكي ويصيح: [[والله الذي لا إله إلا هو لو عثرت بغلة في ضفاف دجلة بـ العراق ؛ لخشيتُ أن يسألني الله يوم القيامة عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ ]] هذه مراقبة الواحد الأحد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صحَّ عنه: {اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقق عليه } اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئاً ولو يسيراً، ولو وظيفة، أو مشيخة، أو إدارة، أو إمارة، أو وزارة فشق عليهم فاشقق عليه، غداً تكون المشقة عليه يوم العرض الأكبر، يشق الله عليه كما شق على المسلمين، وعلى المساكين والفقراء، وعلى الأرامل والأيتام والمحتاجين، والجزاء من جنس العمل، يوقفه الله نادماً خاسئاً ذليلاً حقيراً، يوم لا حاكم إلا الله يوم ينادي بصوت يسمعه مَن قَرُب كما يسمعه مَن بَعُد: {لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسَه بنفسه ويقول: لله الواحد القهار }. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ولاه الله أمراً من أمر أمتي فاحتجب عن خُلَّتِهم وحاجتهم احتجب الله عن خُلَّتِه وحاجته يوم القيامة } والمعنى: مَن تولى أمراً صغيراً أو كبيراً فأوصد أبوابه، واعتذر بالمعاذير عن عمله، وعطل أعمال الناس، وأخر إجراءاتهم، وأخر مقاصدهم، ومعاملاتهم، احتجب الله عنه وعن خلته وحاجته ومسألته يوم العرض الأكبر، فلا يقضي الله له حاجة، ولا يؤثره برحمة، جزاء ما نكَّد على الأمة الإسلامية. ...
أرسل عمر بن الخطاب سعيد بن عامر إلى حمص والياً وأميراً، وكان سعيد بن عامر من أزهد الناس وأعبدهم، ومن أصدق الناس مع رب الناس، فذهب سعيد بن عامر فتولى ولاية حمص ، ومكث عندهم سنوات، وكان من خيرة الناس، يعيش عيشة الفقير، ومرَّ عمر على أمرائه يسألهم، ويسأل الرعايا عن الأمراء، ويحاكمهم أمام الناس، فلما وصل إلى حمص سأل أهل حمص عن سعيد بن عامر ، فقالوا: فيه كل خير، من أصدق الناس، ومن أعبدهم وأزهدهم لولا أن فيه أربع خصال، قال عمر : وما هي؟ قالوا: لا يخرج لنا حتى يتعالى النهار -أي: يتأخر في دوامه- قال عمر : هذه واحدة -و عمر عنده درَّة، يؤدب بها-. قال: والثانية؟ قالوا: وله يوم في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه. قال: والثالثة؟ قالوا: لا يخرج إلينا في ليل مهما طرقنا على بابه. قال: والرابعة؟ قالوا: إذا أصبح في مجلس الحكم أُغمي عليه حتى يُرش بالماء. قال عمر وقد ترقرقت عيناه بالدموع: اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر ، قم يا سعيد !رد على نفسك -هذا حكم ومناصفة، والرعية جلوس- قال سعيد : والله لوددتُ أن أستر هذا الأمر لكن ما دام أنهم تكلموا فأما قولهم يا أمير المؤمنين: أني لا أخرج إلا إذا تعالى النهار، فامرأتي مريضة وليس لي خادم، فأجلس في بيتي، وأصنع طعام إفطاري، وأصلي الضحى، ثم أخرج إليهم. قال: والثانية؟ قال: وأما قولهم: لا أخرج لهم بليل، فقد جعلتُ لهم النهار، وجعلتُ لربي الليل أصلي وأدعو الله حتى السحر. قال: والثالثة؟ قال: وأما قولهم: إن لي يوماً لا أخرج فيه إليهم، فيوم أغسل ثيابي فيه. قال: والرابعة؟ قال: وأما الرابعة فإنني حضرتُ مقتل خبيب بن عدي في مكة وأنا مشرك وهو مسلم فما نصرتُه، فكلما تذكرتُ ذاك اليوم أُغمي علي، فتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، قال سعيد بن عامر : يا أمير المؤمنين! والله لا أتولى لك ولاية بعدها أبداً. ثم ترك الولاية وخرج، ولكن ما تركه عمر يخرج حتى حاسبه في الأموال وفي الخزائن وفي الأحكام، وعرض عليه الدواوين، فوجده ما أخذ درهماً ولا ديناراً، وإنما خرج كما دخل، بصحفة وشملة وعصا. هؤلاء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.أرسل عمر بن الخطاب سعيد بن عامر إلى حمص والياً وأميراً، وكان سعيد بن عامر من أزهد الناس وأعبدهم، ومن أصدق الناس مع رب الناس، فذهب سعيد بن عامر فتولى ولاية حمص ، ومكث عندهم سنوات، وكان من خيرة الناس، يعيش عيشة الفقير، ومرَّ عمر على أمرائه يسألهم، ويسأل الرعايا عن الأمراء، ويحاكمهم أمام الناس، فلما وصل إلى حمص سأل أهل حمص عن سعيد بن عامر ، فقالوا: فيه كل خير، من أصدق الناس، ومن أعبدهم وأزهدهم لولا أن فيه أربع خصال، قال عمر : وما هي؟ قالوا: لا يخرج لنا حتى يتعالى النهار -أي: يتأخر في دوامه- قال عمر : هذه واحدة -و عمر عنده درَّة، يؤدب بها-. قال: والثانية؟ قالوا: وله يوم في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه. قال: والثالثة؟ قالوا: لا يخرج إلينا في ليل مهما طرقنا على بابه. قال: والرابعة؟ قالوا: إذا أصبح في مجلس الحكم أُغمي عليه حتى يُرش بالماء. قال عمر وقد ترقرقت عيناه بالدموع: اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر ، قم يا سعيد !رد على نفسك -هذا حكم ومناصفة، والرعية جلوس- قال سعيد : والله لوددتُ أن أستر هذا الأمر لكن ما دام أنهم تكلموا فأما قولهم يا أمير المؤمنين: أني لا أخرج إلا إذا تعالى النهار، فامرأتي مريضة وليس لي خادم، فأجلس في بيتي، وأصنع طعام إفطاري، وأصلي الضحى، ثم أخرج إليهم. قال: والثانية؟ قال: وأما قولهم: لا أخرج لهم بليل، فقد جعلتُ لهم النهار، وجعلتُ لربي الليل أصلي وأدعو الله حتى السحر. قال: والثالثة؟ قال: وأما قولهم: إن لي يوماً لا أخرج فيه إليهم، فيوم أغسل ثيابي فيه. قال: والرابعة؟ قال: وأما الرابعة فإنني حضرتُ مقتل خبيب بن عدي في مكة وأنا مشرك وهو مسلم فما نصرتُه، فكلما تذكرتُ ذاك اليوم أُغمي علي، فتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، قال سعيد بن عامر : يا أمير المؤمنين! والله لا أتولى لك ولاية بعدها أبداً. ثم ترك الولاية وخرج، ولكن ما تركه عمر يخرج حتى حاسبه في الأموال وفي الخزائن وفي الأحكام، وعرض عليه الدواوين، فوجده ما أخذ درهماً ولا ديناراً، وإنما خرج كما دخل، بصحفة وشملة وعصا. هؤلاء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام. ...
نداء إلى الموظف المسلم
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد: فإن الموظف المسلم إذا صدق مع الله كسب أموراً: منها الدعاء له الذي هو من أعظم الأعمال عند الله، والثناء الحسن يرسله الله للمخلص الصادق، فيدعون له بالتوفيق والهداية، ويدعون له بالتسهيل كما سهَّل أعمالهم ومعاملاتهم، والموظف الصادق يسهل الله عليه الحساب يوم العرض الأكبر، وانتفاعه من ذلك العمل كما يسر على المسلمين أمورهم ييسر الله عليه أمره يوم الحساب.......
خيانة بعض الموظفين للأمانة ... ... ...
ولكن وُجد من الناس من لا يراقب الله، ولا يرعى الله، ولا يخاف الله في عباد الله، وُجد منهم من يتأخر في دوامه، فيبقى في بيته متخلفاً متأخراً، ومعاملات الناس ومصالحهم مركونة بمكتبه، فإذا حضر سوَّف في عمله، سيئ في خُلُقه، متبجِّح في تصرفاته، لا يراعي حق المسكين، ولا حق الضعيف، ولا حق المسافر المنقطع، بل بعضهم لا تتطلب منه المعاملة وقتاً طويلاً فتكثر الإجراءات، فيَعِدُ الأسابيع بعد الأسابيع، والأشهر بعد الأشهر، فينقطع المسلم ببابه واليتيم والمسكين والأرملة، فيجازيه الله عليه يوم العرض الأكبر. وبعضهم إذا حضر كانت تصرفاته غير سليمة، لا يتعامل بالخلق الحسن، ولا بالرحمة، ولكن تجده معسراً معتباً شرساً متكبراً على عباد الله؛ وهذا لقلة الإيمان في قلبه؛ ولأنه ما عرف سيرة محمد عليه الصلاة والسلام ولا سيرة أصحابه. ومنهم من يخرج أثناء الدوام فيترك وظيفته وعمله، ويخرج في أمور ذاتية شخصية لبيته ولأغراضه الخاصة، يخرج إلى المستشفى أو السوق، وما عمل عمله، فقد خان الأمانة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. ومنهم من لا يراعي الله عزَّ وجلَّ في أعمال المسلمين، فيحيف، وربما ينسى الإنصاف في المعاملة؛ فيقدم قريبه وحبيبه ويُبعد هذا ويُقرب هذا لأمور دنيوية سوف يُسأل عنها يوم يبعثر ما في القبور ويُحصَّل ما في الصدور....... ...
المثالية الإيمانية لبعض الموظفين
إن التسرع على الانصراف قبل وقته، أو على عمل حسابات ليست بصحيحة، أو على تزوير أوراق، أو على مكالمة لا تمس إلى عمله بصلة، أو على الاشتغال مع زملائه بحديث جانبي، وترك المراجع ولقد تعاطى الساعات الطويلة، وهو ينتظر وراء الباب، وهذا لا يرضي الله، ولا يرضي وُلاة الأمر، الذين قاموا على الحكم بما أنزل الله، ومعنى ذلك: أنها خيانة صريحة وجرح لشعور المسلمين لا يريده الله عزَّ وجلَّ. والذي ينتظر مراقبة المسئول الذي فوقه ولا يراقب الله ليس بمؤمن، أتراقب العبد ولا تراقب المولى؟! أتراقب الضعيف ولا تراقب القوي؟! يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108]. ... ... ...
وإذا خلوت برِيْبَة في ظُلْمَة والنفس داعيةٌ إلى الطغيانِ ... ... ... فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني ... ...
أيها الموظف المسلم: استحل راتبك بالعمل الصالح الصادق، ارحم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، اصدق مع الله؛ لتنال من الله عزَّ وجلَّ المثوبة والأجر، ومن المسئولين الشكر والثناء، ولتنال من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء. وفقك الله، وسدد الله خطاك، وتولاك في الدارَين، وبصَّرك يوم تعمى القلوب. عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً } وقال عليه الصلاة والسلام: {أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك صلاتنا؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء }. اللهم فصلِّ وسلم عليه ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون، اللهم صلِّ وسلم عليه ما شَدَت الأطيار وما ترعرعت الأزهار وما تباسقت الأشجار، صلاةً وسلاماً دائمَين أبديين تصله في روضته صلى الله عليه وسلم. اللهم وارضَ عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين! اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وما ترضاه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق الأمراء والوزراء والمسئولين والموظفين والعلماء والقضاة لكل خير، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم فقههم في دينك، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم يا رب العالمين! اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم تب عليهم وكفِّر عنهم سيئاتهم يا رب العالمين! رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ....... ...
ــــــــــــــ(1/207)
سيد فتيان الجنة أبو سفيان بن الحارث
إنه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، أحد فضلاء الصحابة، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخوه في الرضاعة إذ أرضعتهما حليمة السعدية، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (أبو سفيان بن الحارث سيد شباب أهل الجنة، أو سيد فتيان أهل الجنة) [ابن عبدالبر وابن سعد]. وكان أبو سفيان قبل إسلامه يعادي النبي صلى الله عليه وسلم ويهجوه بشعره، ولا يتخلف عن موضع تسير فيه قريش لقتاله.
وعندما عاد أبو سفيان بن الحارث من بدر، ناداه أبو لهب: يابن أخي، هلم إلينا، حدثنا كيف كان أمر الناس؟ فقال أبو سفيان: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمتُ الناس، لقينا رجالاً بيضًا على خيل بُلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئًا، ولا يقوم لها شيء ولا يقف أمامها شيء.
وفي الوقت الذي توجه فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح، كان الله قد ألقى الإسلام في قلب أبي سفيان بن الحارث، فخرج هو وابنه جعفر، وعبد الله بن أبي أمية، ولقوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم، فقالت أم سلمة، لا يكن ابن عمك وأخو ابن عمتك أشقى الناس بك. فقال علي بن أبي طالب لأبي سفيان: إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال أخوة يوسف ليوسف: {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين}
[يوسف: 91]، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، ففعل أبو سفيان ذلك.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 92] [ابن عبدالبر]. وأسلم أبو سفيان وحسن إسلامه.
وشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، وثبت معه ( عندما فرَّ المسلمون، وأمسك بلجام فرسه (، وراح يضرب رءوس الكفار حتى عاد المسلمون إلى مكانهم، وقاتلوا مع نبيهم، ولما انتهت المعركة نظر ( فوجد أحد أصحابه ممسكا بلجام فرسه، فقال: (من هذا؟) فقال أبو سفيان: أنا ابن أمك يا رسول الله. [ابن هشام].
ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم حزن عليه أبو سفيان حزنًا شديدًا، ورثاه بالشعر، وذات يوم خرج أبو سفيان للحج، وهناك وافته منيته، حيث قطع الحلاق دملاً كان في رأسه، ثم وجدوه يحفر قبرًا، فتعجبوا من ذلك، فقال لهم: إني أعد قبري. ولم تمض ثلاثة أيام حتى مرض، فبكى عليه أهله، فلما رآهم يبكون قال لهم: لا تبكوا علي فإني لم أتلطخ بخطيئة منذ أسلمت.
ــــــــــــــ(1/208)
أبو موسى الأشعرى
من هو :
أَبُو مُوْسَى الأَشْعَرِيُّ، عَبْدُ اللهِ بنُ قَيْسِ ابْنِ سُلَيْمِ بنِ حَضَّارِ بنِ حَرْبٍ.
الإِمَامُ الكَبِيْرُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو مُوْسَى الأَشْعَرِيُّ، التَّمِيْمِيُّ، الفَقِيْهُ، المُقْرِئُ.
وَهُوَ مَعْدُوْدٌ فِيْمَنْ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْرَأَ أَهْلَ البَصْرَةِ، وَفَقَّهَهُمْ فِي الدِّيْنِ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُعَاذاً عَلَى زَبِيْدٍ، وَعَدَنَ.
وَوَلِيَ إِمْرَةَ الكُوْفَةِ لِعُمَرَ، وَإِمْرَةَ البَصْرَةِ، وَقَدِمَ لَيَالِيَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَغَزَا، وَجَاهَدَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَمَلَ عَنْهُ عِلْماً كَثِيْراً.
اسلامه و هجرته
أَسْلَمَ أَبُو مُوْسَى بِمَكَّةَ، وَهَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ
عَنْ أَبِي مُوْسَى، قَالَ: خَرَجْنَا مِنَ اليَمَنِ فِي بضْعٍ وَخَمْسِيْنَ مِنْ قَوْمِي، وَنَحْنُ ثَلاَثَةُ إِخْوَةٍ: أَنَا، وَأَبُو رُهْمٍ، وَأَبُو عَامِرٍ، فَأَخْرَجَتْنَا سَفِيْنَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَعِنْدَهُ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ، فَأَقْبَلْنَا حِيْنَ افْتُتِحَتْ خَيْبَرُ.
فَقَالَ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَكُمُ الهِجْرَةُ مَرَّتَيْنِ، هَاجَرْتُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَهَاجَرْتُمْ إِلَيَّ).
قوم يحبهم الله و يحبونه
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَداً قَوْمٌ، هُمْ أَرَقُّ قُلُوْباً لِلإِسْلاَمِ مِنْكُمْ).
فَقَدِمَ الأَشْعَرِيُّوْنَ، فَلَمَّا دَنَوْا، جَعَلُوا يَرْتَجِزُوْنَ:
غَداً نَلْقَى الأَحِبَّهْ * مُحَمَّداً وَحِزْبَهْ
فَلَمَّا أَنْ قَدِمُوا، تَصَافَحُوا، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ المُصَافَحَةَ.
شُعْبَةُ: عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ:
لَمَا نَزَلَتْ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُمْ قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوْسَى). وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ.
دعوة رسول الله له
عَنْ أَبِي مُوْسَى، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حُنَيْنٍ، بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الأَشْعَرِيَّ عَلَى جَيْشِ أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ اللهُ أَصْحَابَهُ.
فَرَمَى رَجُلٌ أَبَا عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ بِسَهْمٍ، فَأَثْبَتَهُ.
فَقُلْتُ: يَا عَمّ! مَنْ رَمَاكَ؟
فَأَشَارَ إِلَيْهِ، فَقَصَدْتُ لَهُ، فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي، وَلَّى ذَاهِباً، فَجَعَلْتُ أَقُوْلُ لَهُ: أَلاَ تَسْتَحْيِي؟ أَلَسْتَ عَرَبٍيّاً؟ أَلاَ تَثْبُتُ؟
قَالَ: فَكَفَّ، فَالْتَقَيْتُ أَنَا وَهُوَ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ، فَقُلْتُ قَدْ قَتَلَ اللهُ صَاحِبَكَ.
قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ.
فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ المَاءُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْرِهِ مِنِّي السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي.
وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيْراً، ثُمَّ مَاتَ.
فَلَمَّا قَدِمْنَا، وَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ)، حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبِطَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيْرٍ مِنْ خَلْقِكَ).
فَقُلْتُ: وَلِي يَا رَسُوْلَ اللهِ؟
فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللهِ بنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُدْخَلاً كَرِيْماً).
عَنْ أَبِي مُوْسَى، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالجِعْرَانَةِ، فَأَتَى أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلاَ تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟
قَالَ: (أَبْشِرْ).
قَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ منَ البُشْرَى.
فَأَقْبَلَ رَسُوْلُ اللهِ عَلَيَّ وَعلَى بِلاَلٍ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا قَدْ رَدَّ البُشْرَى، فَاقْبَلاَ أَنْتُمَا).
فَقَالاَ: قَبِلْنَا يَا رَسُوْلَ اللهِ.
فَدَعَا بِقَدَحٍ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيْهِ، وَمَجَّ فِيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى رُؤُوْسِكُمَا وَنُحُوْرِكُمَا).
فَفَعَلاَ! فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السَّتْرِ: أَنَّ فَضِّلاَ لأُمِّكُمَا. ,فَأَفْضَلاَ لَهَا مِنْهُ.
أوتى مزمار من مزامير آل داود
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ قَائِمٌ، وَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لِي: (يَا بُرَيْدَةَ، أَتَرَاهُ يُرَائِي؟).
قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (بَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُنِيْبٌ، لَقَدْ أُعْطِيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ).
فَأَتَيْتُهُ، فَإِذَا هُوَ أَبُو مُوْسَى؛ فَأَخْبَرْتُهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى المَسْجِدِ، وَأَنَا عَلَى بَابِ المَسْجِدِ، فَأَخَذَ بِيَدِيْ، فَأَدْخَلَنِي المَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي يَدْعُو، يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ اللهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُوْلَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ).
وَإِذَا رَجُلٌ يَقْرَأُ، فَقَالَ: (لَقَدْ أُعْطِيَ هَذَا مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ).
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أُخْبِرُهُ؟
قَالَ: (نَعَمْ).
فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ لِي: لاَ تَزَالُ لِي صَدِيْقاً، وَإِذَا هُوَ أَبُو مُوْسَى.
وَرَوَى: أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَقَدْ أُعْطِيَ أَبُو مُوْسَى مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ).
عَنْ أَبِي مُوْسَى: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَائِشَةَ مَرَّا بِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي بَيْتِهِ، فَاسْتَمَعَا لِقِرَاءتِهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ، أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ بِمَكَانِكَ، لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيْراً.
عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا مُوْسَى قَرَأَ لَيْلَةً، فَقُمْنَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَمِعْنَ لِقِرَاءتِهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ، أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ، لَحَبَّرْتُ تَحْبِيْراً، وَلَشَوَّقْتُ تَشْوِيْقاً.
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ مِزْمَاراً وَلاَ طُنْبُوْراً وَلاَ صَنْجاً أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ؛ إِنْ كَانَ لَيُصَلِّي بِنَا فَنَوَدُّ أَنَّه قَرَأَ البَقَرَةَ مِنْ حُسْنِ صَوْتِهِ.
و روى أَنَّ أَبَا مُوْسَى الأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَنَزَلَ فِي بَعْضِ الدُّوْرِ بِدِمَشْقَ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنَ اللَّيْلِ لِيَسْتَمِعَ قِرَاءتَهُ.
علمه و ورعه
عَنْ أَبِي البَخْتَرِيِّ، قَالَ: أَتَيْنَا عَلِيّاً، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
قَالَ: عَنْ أَيِّهِمْ تَسْأَلُوْنِي؟
قُلْنَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ.
قَالَ: عَلِمَ القُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، ثُمَّ انْتَهَى، وَكَفَى بِهِ عِلْماً.
قُلْنَا: أَبُو مُوْسَى؟
قَالَ: صُبِغَ فِي العِلْمِ صِبْغَةً، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ.
قُلْنَا: حُذَيْفَةُ؟
قَالَ: أَعْلَمُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ بِالمُنَافِقِيْنَ.
سَمِعَ الأَسْوَدَ بنَ يَزِيْدَ، قَالَ:
لَمْ أَرَ بِالكُوْفَةِ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوْسَى.
وَقَالَ مَسْرُوْقٌ: كَانَ القَضَاءُ فِي الصَّحَابَةِ إِلَى سِتَّةٍ: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَأُبَيٍّ، وَزِيْدٍ، وَأَبِي مُوْسَى.
عَنِ الشَّعْبِيِّ: قُضَاةُ الأُمَّةِ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو مُوْسَى.
عَنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ يُفْتِي فِي المَسْجِدِ زَمَنَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرُ هَؤُلاَءِ: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي مُوْسَى.
عَنْ مَسْرُوْقٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي مُوْسَى فِي غَزَاةٍ، فَجَنَّنَا اللَّيْلُ فِي بُسْتَانٍ خَرِبٍ؛ فَقَامَ أَبُو مُوْسَى يُصَلِّي، وَقَرَأَ قِرَاءةً حَسَنَةً، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ أَنْتَ المُؤْمِنُ تُحِبُّ المُؤْمِنَ، وَأَنْتَ المُهَيْمِنُ تُحِبُّ المُهَيْمِنَ، وَأَنْتَ السَّلاَمُ تُحِبُّ السَّلاَمَ.
اجْتَهَدَ الأَشْعَرِيُّ قَبْلَ مَوْتِهِ اجْتِهَاداً شَدِيْداً، فَقِيْلَ لَهُ: لَوْ أَمْسَكْتَ وَرَفَقْتَ بِنَفْسِكَ!
قَالَ: إِنَّ الخَيْلَ إِذَا أُرْسِلَتْ فَقَارَبَتْ رَأْسَ مَجْرَاهَا، أَخْرَجَتْ جَمِيْعَ مَا عِنْدَهَا؛ وَالَّذِي بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ أَبُو مُوْسَى لاَ تَكَادُ تَلْقَاهُ فِي يَوْمٍ حَارٍّ إِلاَّ صَائِماً.
و كَانَ أَبُو مُوْسَى صَوَّاماً، قَوَّاماً، رَبَّانِيّاً، زَاهِداً، عَابِداً، مِمَّنْ جَمَعَ العِلْمَ وَالعَمَلَ وَالجِهَادَ وَسَلاَمَةَ الصَّدْرِ، لَمْ تُغَيِّرْهُ الإِمَارَةُ، وَلاَ اغْتَرَّ بِالدُّنْيَا.
روى أَنَّ أَبَا مُوْسَى قَالَ: إِنِّي لأَغْتَسِلُ فِي البَيْتِ المُظْلِمِ، فَأَحْنِي ظَهْرِي حَيَاءً مِنْ رَبِّي.
قَالَ أَبُو مُوْسَى: لأَنْ يَمْتَلِئَ مَنْخِرِيْ مِنْ رِيْحِ جِيْفَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ مِنْ رِيْحِ امْرَأَةٍ.
ولايته للبصرة
قَالَ عُمَرُ: بِالشَّامِ أَرْبَعُوْنَ رَجُلاً، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ كَانَ يَلِي أَمْرَ الأُمَّةَ إِلاَّ أَجْزَأَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ.
فَجَاءَ رَهْطٌ، فِيْهِم أَبُو مُوْسَى، فَقَالَ: إِنِّي أُرْسِلُكَ إِلَى قَوْمٍ عَسْكَرَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
قَالَ: فَلاَ تُرْسِلْنِي.
قَالَ: إِنَّ بِهَا جِهَاداً وَرِبَاطاً.
فَأَرْسَلَهُ إِلَى البَصْرَةِ.
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: مَا قَدِمَهَا رَاكِبٌ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ أَبِي مُوْسَى.
و كَانَ أَبُو مُوْسَى إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ، اسْتَقْبَلَ الصُّفُوْفَ رَجُلاً رَجُلاً يُقْرِئُهُمْ، وَدَخَلَ البَصْرَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، وَعَلَيْهِ خَرَجَ لَمَّا عُزِلَ.
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو مُوْسَى حِيْنَ نُزِعَ عَنِ البَصْرَةِ، مَا مَعَهُ إِلاَّ سِتُّ مائَةِ دِرْهَمٍ عَطَاءً لِعِيَالِهِ.
عَنْ أَنَسٍ: بَعَثَنِي الأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟
قُلْتُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ القُرْآنَ.
فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَيِّسٌ! وَلاَ تُسْمِعْهَا إِيَّاهُ.
كَتَبَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ: أَلاَّ يَقِرَّ لِي عَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَأَقِرُّوا الأَشْعَرِيَّ أَرْبَعَ سِنِيْنَ.
أبو موسى و الخلافة
عَنْ أَبِي مُوْسَى، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَمْرَو بنَ العَاصِ قَدْ بَايَعَنِي عَلَى مَا أُرِيْدُ، وَأُقْسِمُ بِاللهِ، لَئِنْ بَايَعْتَنِي عَلَى الَّذِي بَايَعَنِي، لأَسْتَعْمِلَنَّ أَحَدَ ابْنَيْكَ عَلَى الكُوْفَةِ، وَالآخَرَ عَلَى البَصْرَةِ؛ وَلاَ يُغْلَقُ دُوْنَكَ بَابٌ، وَلاَ تُقْضَى دُوْنَكَ حَاجَةٌ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِخَطِّي، فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِخَطِّ يَدِكَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي جَسِيْمِ أَمْرِ الأُمَّةِ، فَمَاذَا أَقُوْلُ لِرَبِّي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، لَيْسَ لِي فِيْمَا عَرَضْتَ مِنْ حَاجَةٍ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ.
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ، أَتَيْتُهُ، فَمَا أَغْلَقَ دُوْنِي بَاباً، وَلاَ كَانَتْ لِي حَاجَةٌ إِلاَّ قُضِيَتْ.
وفاته
وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِيْنَ.(السير )
ــــــــــــــ(1/209)
عبد الله بن قيس بن سليم
الإمام الكبير. صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم. أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المقرئ.
- وهو معدود فيمن قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم.
- أقرأ أهل البصرة ، وفقههم في الدين.
- ففي (الصحيحين) ، عن أبي بردة أبي موسى ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه ، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً).
- وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذاً على زبيد ، وعدن.
- وولي إمرة الكوفة لعمر ، وإمرة البصرة.
- وقدم ليالي فتح خير ، وغزا ، وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وحمل عنه علماً كثيراً.
- قال سعيد بن عبد العزيز : حدثني أبو يوسف ، حاجب معاوية : أن أبا موسى الأشعري قدم على معاوية ، فنزل في بعض الدور بدمشق ، فخرج معاوية في الليل ليستمع قراءته.
- وقال العجلي : بعثه عمر أميراً على البصرة ، فأقرأهم وفقههم ، وهو فتح تستر ، ولم يكن في الصحابة أحد أحسن صوتاً منه.
- قال حسين المعلم : سمعت ابن بريدة يقول : كان الأشعري قصيراً ، أثط - قليل شعر اللحية - خفيف الجسم.
- عن أبي موسى ، قال : خرجنا من اليمن في بضع وخمسين من قومي ، ونحن ثلاثة إخوة ، أنا وأبو رهم ، وأبو عامر : فأخرجتنا سفينتنا إلى النجاشي ، وعنده جعفر وأصحابه ، فاقبلنا حين افتتحت خيبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لكم الهجرة مرتين ، هاجرتم إلى النجاشي ، وهاجرتم إلي ).
- عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقدم عليكم غداً قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) فقدم الأشعريون ، فلما دنوا جعلوا يرتجزون:
غداً نلقى الأحبة ****** محمد وحزبه
فلما أن قدموا تصافحوا ، فكانوا أول من أحدث المصافحة.
- عن عياض الأشعري ، قال : لما نزلت { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة 57). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هم قومك يا أبا موسى ، وأومأ إليه).
- عن أبي موسى قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين ، بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس ، فلقي دريد بن الصمة. فقتل دريد ، وهزم أصحابه ، فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم ، فأثبته. فقلت: يا عم ، من رماك ؟ فأشار إليه ، فقصدت له ، فلحقته ، فلما رآني ، ولي ذاهباً. فجعلت أقول له : ألا تستحي ؟ ألست عربياً ؟ ألا تثبت ؟ قال : فكف ، فالتقيت أنا وهو ، فاختلفنا ضربتين ، فقتلته. ثم رجعت إلى أبي عامر ، فقلت : قد قتل الله صاحبك. قال : فانزع هذا السهم. فنزعته ، فنزا منه الماء. فقال : ابن أخي ، انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقره مني السلام ، وقل له : يستغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس ، فمكث يسيراً ، ثم مات. فلما قدمنا ، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ، توضأ ، ثم رفع يديه ، ثم قال : (اللهم اغفر لعبيد أبي عامر) حتى رأيت بياض إبطيه. ثم قال : (اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك). فقلت : ولي يا رسول الله ؟ فقال : (اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه ، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً).
- عن أبي موسى ، قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ، فأتى أعرابي فقال : ألا تنجز لي ما وعدتني ؟ قال : (أبشر). قال : قد أكثرتَ من البشرى. فأقبل رسول الله علي وعلى بلال ، فقال : (إن هذا قد رد البشرى فاقبلا أنتما) : فقالا : قبلنا يا رسول الله. فدعا بقدح ، فغسل يديه ووجهه فيه ، ومج فيه ، ثم قال : (اشربا منه ، وأفرغا على رؤوسكما ونحوركما) ففعلا ! فنادت أم سلمة من وراء الستر أن فضّلا لأمكما ، فأفضلا لها منه.
- عن أبي بريدة ، عن أبيه ، قال : خرجت ليلة من المسجد ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد قائم ، وإذ رجل يصلي ، فقال لي : ( يا بريدة أتراه يرائي) ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال: (بل هو مؤمن منيب ، لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود). فأتيته ، فإذا أبو موسى ، فأخبرته.
- عن مالك بن مغول : حدثنا ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، وأنا على باب المسجد ، فأخذ بيدي فأدخلني المسجد ، فإذا رجل يصلي ، يدعو ، يقول : اللهم ، إني أسالك ، بأني أشهد أنك الله ، لا إله إلا أنت الأحد الصمد ،الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد. قال : (والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم ، الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي أجاب). وإذا رجل يقرأ ، فقال : (لقد أعطى هذا مزماراً من مزامير آل داود). قلت : يا رسول الله ، أخبره ؟ قال : (نعم). فأخبرته. فقال لي : لا تزال صديقاً. وإذا هو أبو موسى.
- عن أنس : أن أبا موسى قرأ ليلة ، فقمن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يستمعن لقراءته. فلما أصبح ، أخبر بذلك. فقال : لو علمت ، لحبرت تجبيراً ، ولشوقت تشويقاً.
- عن أبي البختري ، قال : أتينا علياً ، فسألناه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قال : عن أيهم تسألوني ؟ قلنا : عن ابن مسعود. قال : علم القرآن والسنة ، ثم انتهي ، وكفى به علماً. قلنا : أبو موسى ؟ قال : صبغ في العلم صبغة ، ثم خرج منه. قلنا : حذيفة ؟ قال : أعلم أصحاب محمد بالمنافقين. قالوا : سلمان ؟ قال : أدرك العلم الأول ، والعلم الآخر ، بحر لا يدرك قعره ، وهو منا أهل البيت. قالوا : أبو ذر ؟ قال : وعي علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه. قال: كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتديت.
- وقال مسروق : كان القضاء في الصحابة إلى ستة : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي ، وزيد ، وأبي موسى.
- عن صفوان بن سليم ، قال : لم يكن يفتي في المسجد زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير هؤلاء : عمر وعلي ، ومعاذ وأبي موسى.
- أيوب ، عن محمد ، قال عمر : بالشام أربعون رجلاً ، ما منهم رجل كان يلي أمر الأمة إلا أجزأه ، فأرسل إليهم. فجاء رهط ، فيهم أبو موسى. فقال : إني أرسلك إلى قوم عسكر الشيطان بين أظهرهم. قال : فلا ترسلني، قال : إن بها جهاداً ورباطاً. فأرسله إلى البصرة.
- عن أنس : بعثني الأشعري إلى عمر ، فقال لي : كيف تركت الأشعري ؟ قلت : تركته يعلم الناس القرآن. فقال : أما إنه كيس ! ولا تسمعها إياه.
- عن أبي سلمة : كان عمر إذا جلس عنده موسى ، ربما قال له : ذكرنا يا أباموسى فيقرأ.
- قال أبو عثمان النهدي : ما سمعت مزماراً ولا طنبوراً ولا صنجاً أحسن من صوت أبي موسى الأشعري ، إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة ، من حسن صوته.
- عن مسروق ، قال : خرجنا مع أبي موسى في غزاة ، فجننا الليل في بستان خرب ، فقام أبو موسى يصلي ، وقرأ قراءة حسنة ، وقال : اللهم ، أنت المؤمن تحب المؤمن ، وأنت المهيمن تحب المهيمن ، وأنت السلام تحب السلام.
- وروى صالح بن موسى الطلحي ، عن أبيه ، قال : اجتهد الأشعري قبل موته اجتهاداً شديداً ، فقيل له : لو أمسكت ورفقت بنفسك ؟ قال : إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها ، أخرجت جميع ما عندها ، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك.
- عن أنس : أن أبا موسى كان له سراويل يلبسه مخافة أن يكتشف.
- لا ريب أن غلاة الشيعة يبغضون أبا موسى رضي الله عنه ، لكونه ما قاتل مع علي ، ثم لما حكمه علي على نفسه ، عزله ، وعزل معاوية ، وأشار بابن عمر ، فما انتظم من ذلك حال.
- عن أبي موسى : أن معاوية كتب إليه : أما بعد : فإن عمرو بن العاص قد بايعني على ما أريد ، وأقسم بالله ، لئن بايعتني على الذي بايعني ، لأستعملن أحد ابنيك على الكوفة ، والآخر على البصرة ، ولا يغلق دونك باب ، ولا تقضى دونك حاجة.
وقد كتبت إليك بخطي ، فاكتب إلي بخط يدك. فكتب إليه : أما بعد : فإنك كتبت إلي في جسيم أمر الأمة ، فماذا أقول لربي إذا قدمت عليه ، وليس لي فيما عرضت من حاجة ، والسلام عليك.
- قال أبو بردة : فلما ولي معاوية أتيته ، فما أغلق دوني باباً ، ولا كانت لي حاجة إلا قضيت.
- قلت : قد كان أبو موسى صواماً قواماً ربانياً زاهداً عابداً ، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر ، لم تغيره الإمارة ، ولا اغتر بالدنيا.
- توفي سنة اثنتين وأربعين.
- عن أبي نضرة : قال عمر لأبي موسى : شوقنا إلى ربنا. فقرأ. فقالوا : الصلاة. فقال : أو لسنا في صلاة.
- روى الزبير بن الخريت ، عن أبي لبيد ، قال : ما كنا نشبه كلام أبي موسى إلا بالجزار الذي ما يخطئ المفصل.
- عن أبي عمرو الشيباني ، قال : قال أبو موسى : لأن يمتلئ منخري من ريح جيفة أحب إلى من أن يمتلئ من ريح امرأة.
- عن عبد الرحمن ابن مولى أم برثن ، قال : قدم أبو موسى الأشعري وزياد على عمر رضي الله عنه. فرأى في يد زياد خاتماً من ذهب ، فقال : اتخذتم حلق الذهب ، فقال أبو موسى ، أما أنا فخاتمي من حديد. فقال عمر : ذاك أنتن ، أو أخبث ، من كان متختماً فليتختم بخاتم من فضة.
- وقال أبو بردة : قال أبي : ائتني بكل شيء كتبته ، فمحاه ، ثم قال : احفظ كما حفظت.
- عن الحسن : قال : كان الحكمان : أبا موسى ، وعمراً ، وكان أحدهما يبتغي الدنيا ، والآخر يبتغي الآخرة.
- عن أبي مجلز : أن أبا موسى قال : إني لأغتسل في البيت المظلم ، فأحني ظهري حياء من ربي.
نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء ، للدكتور محمد موسى 1/165
ــــــــــــــ(1/210)
أبو موسى الأشعري رقيق القلب والمشاعر
وصفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ووصف قومه بأنهم أهل رقة في القلوب وعذوبة في الصوت حتى إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كان يتأثر بقراءته للقرآن ويقول له "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" إنه الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري .
واسمه عبد الله بن قيس بن سليم أسلم بمكة وهاجر إلى أرض الحبشة ثم قدم مع أهل السفينتين ورسول الله بخيبر. وأرسله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع معاذ بن جبل إلى اليمن ، روي عن أبي بردة عن أبيه عن جده أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا .
مناقبه وفضائله
قال أبو بردة عن أبي موسى قال النبي (صلى الله عليه وسلم) إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ومنهم حكيم إذا لقي الخيل أو قال العدو قال لهم إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم
وقد صح من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله: لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود، فقلت يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرًا.
حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا مالك عن ابن بريدة عن أبيه قال خرج بريدة عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت رجل يقرأ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) تراه مرائيا فأسكت بريدة فإذا رجل يدعو فقال اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) والذي نفس محمد بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب قال فلما كان من القابلة خرج بريدة عشاء فلقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت الرجل يقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتقول هو مراء؟! فقال بريدة أتقوله مراء يا رسول الله فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لا بل مؤمن منيب لا بل مؤمن منيب. فإذا الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن الأشعري أو إن عبد الله بن قيس أعطي مزمارا من مزامير داود فقلت ألا أخبره يا رسول الله قال بلى فأخبره فأخبرته فقال أنت لي صديق أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال: خرجنا مع رسول الله في غزاة ونحن ستة نفر على بعير نعتقبه قال: فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزاة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بريدة فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، قال: كأنه كره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه. وعن أبي سلمة قال كان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا تعالى، فيقرأ (أي القرآن). وعن أبي عثمان النهدي قال: صلى بنا أبو موسى الأشعري صلاة الصبح فما سمعت صوت صنج ولا بربط (من آلات العزف) كان أحسن صوتًا منه.
من أقواله رضى الله عنه * وعن أبي كبشة السدوسي قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: إن الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من الجليس السوء، ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب العطر إلا يحذك يعبق بك من ريحه، ألا وإن مثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إلا يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه، ألا وإنما سمي القلب من تقلبه، وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض فضاء تضربها الريح ظهرًا لبطن، ألا وإن من ورائكم فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس البيوت. * وعن أبي كنانة عن أبي موسى الأشعري أنه جمع الذين قرأوا القرآن فإذا هم قريب من ثلثمائة فعظم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار. * وعن أبي مجلز قال: قال أبو موسى: إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياء من ربي عز وجل. * وعن قسامة بن زهير قال: خطبنا أبو موسى فقال: أيها الناس، ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت. رواهما الإمام أحمد رحمه الله. * وعن أبي بردة عن أبي موسى قال: خرجنا غازين في البحر والريح لنا طيبة والشراع لنا مرفوع، فسمعنا مناديًا ينادي يا أهل السفينة قفوا أخبركم حتى والى بين سبعة أصوات، قال أبو موسى: فقمت على صدر السفينة فقلت: من أنت ومن أين أنت أو ما ترى أين نحن وهل نستطيع وقوفًا؟ قال فأجابني الصوت: ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، قال: قلت بلى أخبرنا، قال: فإن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله في يوم حار كان حقًّا على الله أن يرويه يوم القيامة، قال فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان فيصومه. * وعن أبي إدريس قال: صام أبو موسى حتى عاد كأنه خلال، فقيل له لو أجممت نفسك فقال: هيهات، إنما يسبق من الخيل المضمرة، قال وربما خرج من منزله فيقول لامرأته: شدي رحلك فليس على جسر جهنم معبر.
* حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقدم عليكم أقوام هم أرق منكم قلوبا. قال فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري فلما دنوا من المدينة كانوا يرتجزون يقولون غدا نلقى الأحبه محمدا وحزبه .
* حدثنا يحيى بن بشر حدثنا روح حدثنا عوف عن معاوية بن قرة قال حدثني أبو بردة بن أبي موسى الأشعري قال قال لي عبد الله بن عمر هل تدري ما قال أبي لأبيك. قال قلت لا قال فإن أبي قال لأبيك يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا رأسا برأس فقال أبي لا والله قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا وصمنا وعملنا خيرا كثيرا وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك فقال أبي لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن لو نجونا منه كفافا رأسا برأس فقلت إن أباك والله خير من أبي
دعاء النبي( صلى الله عليه وسلم) له
روي عن أبي بردة عن أبيه قال لما فرغ النبي (صلى الله عليه وسلم) من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه فقال أبو موسى وبعثني مع أبي عامر قال فرمي أبو عامر في ركبته رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته فانتهيت إليه فقلت يا عم من رماك فأشار أبو عامر إلى أبي موسى فقال إن ذاك قاتلي تراه ذلك الذي رماني قال أبو موسى فقصدت له فاعتمدته فلحقته فلما رآني ولى عني ذاهبا فاتبعته وجعلت أقول له ألا تستحيي ألست عربيا ألا تثبت فكف فالتقيت أنا وهو فاختلفنا أنا وهو ضربتين فضربته بالسيف فقتلته ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت إن الله قد قتل صاحبك قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء فقال يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأقرئه مني السلام وقل له يقول لك أبو عامر استغفر لي قال واستعملني أبو عامر على الناس ومكث يسيرا ثم إنه مات فلما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهو في بيت على سرير مرمل وعليه فراش وقد أثر رمال السرير بظهر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقلت له قال قل له يستغفر لي فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بماء فتوضأ منه ثم رفع يديه ثم قال اللهم اغفر لعبيد أبي عامر حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك أو من الناس فقلت ولي يا رسول الله فاستغفر فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما قال أبو بردة إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى(رواه مسلم)
وفاته
عن الضحاك بن عبد الرحمن قال: دعا أبو موسى فتيانه حين حضرته الوفاة فقال: اذهبوا فاحفروا وأوسعوا وأعمقوا، فجاؤوا فقالوا قد حفرنا وأوسعنا وأعمقنا فقال: والله إنها لإحدى المنزلتين إما ليوسعن علي قبري حتى يكون كل زاوية منه أربعين ذراعًا ثم ليفتحن لي باب إلى الجنة فلأنظرن إلى أزواجي ومنازلي وما أعد الله عز وجل لي من الكرامة ثم ليصيبني من ريحها وروحها حتى أبعث، ولئن كانت الأخرى ونعوذ بالله منها ليضيقن علي قبري حتى أكون في أضيق من القناة في الزج ثم ليفتحن لي باب من أبواب جهنم فلأنظرن إلى سلاسلي وأغلالي وقرنائي ثم ليصيبني من سمومها وحميمها حتى أبعث.
قال أصحاب السير: توفي أبو موسى سنة اثنتين وخمسين وقيل اثنتين وأربعين وقيل أربع وأربعين ودفن بمكة وقيل دفن بالثوية على ميلين من الكوفة. ...
ــــــــــــــ(1/211)
المؤمن المنيب أبو موسى الأشعري
إنه الصحابي الجليل عبدالله بن قيس بن سليم، المعروف بأبي موسى الأشعري، وقد رزقه الله صوتًا عَذْبًا فكان من أحسنِ الصحابة صوتًا في قراءة القرآن، قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : (لقد أُعْطِىَ أبو موسى مزمارًا من مزامير آل داود) [النسائي].
وقد مَرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيدة عائشة، فوجداه يقرأ القرآن في بيته، فاستمعا لقراءته، فلما أصبح أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال أبو موسى: لو أعلم بمكانك لحبَّرْتُه لك تحبيرًا (أي جودته وحسنته).
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كلما رأى أبا موسى دعاه؛ ليتلو عليه من كتاب الله، وقال له: شوِّقْنَا إلى ربنا يا أبا موسى.
وقد جاء أبو موسى إلى مكة قبل ظهور الإسلام، واشتهر بين أهل مكة بالتجارة وحسن المعاملة، ولما ظهر الإسلام، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، أسرع أبو موسى ليعلن إسلامه، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه بني أشعر ليدعوهم إلى الله، وينشر بينهم الإسلام، ويعلمهم أمور الدين الحنيف، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
فذهب أبو موسى إلى قومه، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، فاستجاب له كثيرون، فهاجر بهم إلى الحبشة، وكان عددهم يزيد على الخمسين رجلا، من بينهم شقيقاه؛ أبو رُهْم وأبو عامر، وأمه ظبية بنت وهب، وبعض النساء والصبيان.
وبعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقر له الأمر فيها، هاجر المسلمون من الحبشة إلى المدينة، وكان أبو موسى الأشعري وقومه من هؤلاء المهاجرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (يَقْدُمُ عليكم غدًا قوم هم أرقُّ قلوبًا للإسلام منكم).
فقدم الأشعريون، ولما اقتربوا من المدينة كانوا يقولون: غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه، ولما دخل أبو موسى الأشعري وقومه المدينة قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (لكم الهجرة مرتين؛ هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ) [متفق عليه].
ولما نزل قول الله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54]، قال النبي صلى الله عليه وسلم (هم قومك يا أبا موسى وأومأ (أشار) إليه) [ابن سعد والحاكم].
واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على زُبيد وعَدَن، وغزا أبو موسى وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قيل عنه: سيد الفوارس أبو موسى.
[ابن سعد]. ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اغفر
لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريمًا) [متفق عليه].
وذات ليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا عند باب المسجد مع خادمه بريدة، فوجدا أبا موسى يصلي بخشوع وخضوع فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (يا بريدة أتراه يرائي؟) قال بريدة: الله ورسوله أعلم. قال: (بل هو مؤمن منيب، لقد أعطى مزمارًا من مزامير آل داود)، فأتاه بريدة فوجد الرجل الذي مدحه الرسول صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه هو أبو موسى فأخبره. [مسلم].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب بالأشعريين المثل في تكافلهم وتعاونهم فيقول: (إن الأشعريين إذا أرملوا (افتقروا) في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسَّوية، فهم منِّي وأنا منهم) [البخاري].
وظل أبو موسى الأشعري مصاحبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اشترك أبو موسى في حروب الردة في عهد خليفة المسلمين أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وجاهد فيها جهادًا حسنًا.
وكان أبو موسى -رضي الله عنه- متواضعًا، يروى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولاه إمارة البصرة، فقال أبو موسى لأهلها حين وصل إليهم: بعثني إليكم أمير المؤمنين أعلِّمكم كتاب ربكم -عز وجل- وسنة نبيكم (، وأنظف لكم طرقكم. فتعجب القوم إذ كيف ينظف الأمير طرق المدينة.
وكان أبو موسى بحرًا في العلم والفقه وأمور الدين، فقد قال عنه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين سُئِلَ عن علمه: صُبغ في العلم صبغة.
وغزا أبو موسى بالبصريين ابتغاء الأجر والثواب من الله -عز وجل-، فافتتح الأهواز، كما فتح الرها وسميساط وغير ذلك، وظل واليًا على البصرة في خلافة عثمان بن عفان حتى طلب أهل الكوفة من أمير المؤمنين أن يوليه عليهم، فوافق الخليفة عثمان على ذلك، وأقرَّه أميرًا على الكوفة.
ومكث أبو موسى في إمارة الكوفة حتى استشهد عثمان -رضي الله عنه-، وجاء من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فعاد أبو موسى إلى مكة المكرمة، وعكف على العبادة والصلاة حتى توفي -رضي الله عنه- سنة (42) من الهجرة.
ــــــــــــــ(1/212)
الرد على قضية التحكيم
قال محمد بن سعد أنا محمد بن عمر حدثني أبو بكر بن عبدالله بن أبي سبرة عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة عن عمرو بن الحكم قال
لما التقى الناس بدومة الجندل قال ابن عباس للأشعري احذر عمرا فإنما يريد أن يقدمك ويقول أنت صاحبك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسن مني فكن متدبرا لكلامه
فكانا إذا التقيا يقول عمرو إنك صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي وأنت أسن مني فتكلم ثم أتكلم فإنما يريد عمرو أن يقدم أبا موسى في الكلام ليخلع عليا فاجتمعا على أمرهما فأداره عمرو على معاوية فأبى وقال أبو موسى عبدالله بن عمر فقال عمرو أخبرني عن رأيك فقال أبو موسى أرى أن تخلع هذين الرجلين ونجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين فيختاروا لأنفسهم من أحبوا
قال عمرو الرأي ما رأيت فأقبلا على الناس وهم مجتمعون فقال له عمرو يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اجتمع فتكلم أبو موسى فقال أبو موسى إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح به أمر هذه الأمة فقال عمرو صدق وبر ونعم الناظر للإسلام وأهله وتكلم يا أبا موسى
فأتاه ابن عباس فخلا به فقال أنت في خدعة ألم أقل لك لا تبدأه وتعقبه فإني أخشى أن تكون أعطاك أمرا خاليا ثم نزع عنه الناس على ملأ من الناس واجتماعهم
فقال الأشعري لا تخش ذلك قد اجتمعنا واصطلحنا
فقام أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس قد نظر في أمر هذه الأمة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أن لا نبتز أمورها ولا تعصبه حتى يكون ذلك عن رضى منها وتشاور وقد اجتمعنا على أمر واحد على خلع علي ومعاوية ويستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيكون شورى بينهم يولون منهم من أحبوا عليهم وإني قد خلعت عليا ومعاوية فولوا أمركم من رأيتم ثم تنحى وأقبل عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن هذا قد قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وإني أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه
فقال سعد بن أبي وقاص ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكائده فقال أبو موسى فما أصنع جامعني على أمر ثم نزع عنه
فقال ابن عباس لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لغيرك الذي قدمك في هذا المقام فقال أبو موسى رحمك الله غدرني فما أصنع
وقال أبو موسى لعمرو إنما مثلك كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث
فقال عمرو إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا
فقال ابن عمر إلى ما صيرت هذه الأمة إلى رجل لا يبالي ما صنع وآخر ضعيف
وقال عبدالرحمن بن أبي بكر لو مات الأشعري من قبل هذا كان خيرا له
(( قلت : هذا أكذب حديث يروى في قضية التحكيم وهو مسلسل بالكذابين ففيه الواقدي كذاب وشيخه أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة كان يضع الحديث وشيخه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك متهم وشيخه مجهول
وعلى هذه الرواية الباطلة استند الحاقدون على الإسلام والمسلمين في مسالة التحكيم وراحوا يصفون عمرا رضي الله عنه بأقبح الصفات من غدر وخيانة ومؤامرة ولم يدر أولئك الحاقدون أنهم يستندون إلى روايات باطلة لا أساس لها من الصحة ويبنون عليها أحكاما باطلة
وهذه الرواية هي عبارة عن مسلسل درامي صاغه خيال أفاك أشر لا يمكن أن تقع على الأرض بهذا الشكل حتى عند الكفار
وإليك التفصيل حول متن هذه الرواية الباطلة :
1- لقد كان يمثل عليا رضي الله عنه مع أبي موسى أربعمائة من خيرة أصحابه وكذلك كان يمثل معاوية أربمائة من أصحابه على رأسهم عمرو بن العاص وقد حضر إلى دومة الجندل ( وهي مكان محايد بين الشام والعراق ) جميع الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة كابن عمر وسعد بن ابي وقاص وسعيد بن زيد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأبي هريرة وغيرهم كثير واستمر النقاش والحوار بينهم ستة أشهر وهذه الرواية الباطلة تظهر أن المسألة كانت بين أبي موسى وعمرو ليس إلا وكأن جميع الموجودين ليس لهم أي دور يذكر إلا أن يسمعوا ما يقول عمرو وأبي موسى وهذا باطل قطعا
2- المشكلة الأساسية التي سببت حربي الجمل وصفين وهي قتلة عثمان (رضي الله عنه ) لم تتعرض لها هذه الرواية لا من قريب ولا من بعيد وهذا يدل على بطلانها قطعا لأن أساس المشكلة إقامة الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه وهم بجيش علي رضي الله عنه وتصور هذه الرواية كأن قتلة عثمان (رضي الله عنه ) انتهى أمرهم وصارت المشكلة تتعلق بالخلافة وهذا غير صحيح لأن الروايات الصحيحة تبين أن القوم جميعا قد اتفقوا على وجوب إقامة الحد على قتلة عثمان (رضي الله عنه )
3- تصوير عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمكر والخداع منذ بداية هذه الرواية وتصوير أبي موسى رضي الله عنه بأنه رجل ساذج مغفل وهذا التصوير باطل قطعا فالأحاديث الصحيحة التي مرت معنا في فضائل عمرو رضي الله عنه وإخلاصه وتفانيه في خدمة الإسلام طوال تلك السنين ترد هذا الإفك المبين عنه ولا سيما أنه كان في آخر عمره (حيث كان عمره ينيف على الثمانين ) وهو المعروف بالحكمة أيخون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في آخره عمره فيختمه بشر ؟ هذا لا يكون أبدا
وكذلك فإن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان من خيار الصحابة ومن نبهائهم وفرسانهم وفقهائهم وقضاتهم وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم بحقه ومن معه لكم هجرتان وهو الذي يقول له لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود وهو الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض السرايا وهو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ قاضيا ومفتيا وواليا فكيف يوليه صلى الله عليه وسلم هذه المناصب وهو يعلم أنه ساذج يمكن أن يخدع بسرعة ؟ وهذا اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك فقد كان قائدا في الفتوحات الإسلامية واستلم إمرة البصرة والكوفةفي عهد عمر وفي عهد عثمان رضي الله عنهما وهو الذي أرسل له عمر رضي الله عنه رسالته المشهورة في القضاء التي تعتبر أهم مرجع مفصل حول أصول القضاء وهو الذي اعتزل الفتنة فلم يقاتل لا مع هؤلاء ولا مع أولئك أفيكون بع كل هذا ساذجا ؟ فإذا كان الذي اختاره ليمثله وهو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه كما هو الصحيح ) فكيف يختاره رئيسا لذلك الوفد وهو يعلم أنه مغفل ساذج من السهولة أن يخدع ويضحك عليه وهو يعلم من هم الذين مع معاوية (رضي الله عنه) من الحنكة والسياسة والدهاء ؟؟؟!!!
فهذا اتهام لعلي (رضي الله عنه) بإساءة الاختيار بل اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم ولعمر ولعثمان ولعلي (رضي الله عنهم جميعا)
وإذا كان الذي اختاره هم جماعة علي ( رضي الله عنه ) كما تصور الروايات المشهورة عن الشيعة فهل يختارون رجلا لا يعرفونه ؟ أم يختارون رجلا خبروه في الإمارة والقضاء والفتيا والتقى والورع ؟؟
ولا سيما أنه كان أميرا على الكوفة والبصرة أكثر من مرة فهو معروف لديهم بعلمه وحكمته ودينه ولذلك اختاروه لهذا السبب وأحسنوا الاختيار ولا سيما أنه قد حذرهم من القتال فلم يسمعوا قوله وبعد انتهاء القتال ثابوا على رشدهم وقالوا والله لقد نصحنا أبو موسى الأشعري فلم ننتصح فعادوا إلى رأيه وأحبوا أن يكون ممثلا عنهم
علما أن أهل الكوفة ما كان يعجبهم أمير وكانوا كثيري التشكي من أمرائهم ( وبغير حق ) حتى شكوا عمارا و سعد بن أبي وقاص وغيرهما ومع هذا لم نسمع أنهم اشتكوا من أبي موسى رضي الله عنه
فهل الذين اختاروه كانوا من السذاجة والبلاهة بمكان ؟؟!!
اللهم لا وألف لا
ولكن التحكيم بما أنه لم يؤد جميع أغراضه فنجد شيعة علي (رضي الله عنه ) يصفون عليا ومن معه بالغفلة والسذاجة وضعف الشخصية ظانين أنهم بذلك يمدحون عليا (رضي الله عنه ) وهذا فيه غاية الذم وليس المدح ولكنهم قوم لا عقول لهم تغلب عاطفتهم عقولهم فلا ينظرون إلى الأشياء بمنظارها الصحيح
4- هذه الرواية تصور أبا موسى بانه لا يسمع النصيحة حيث حذره من ابن عباس من ألاعيب وخدع عمرو فلم يكترث بذلك فهل كان أبو موسى رضي الله عنه كذلك ؟؟!!
الصحيح أنه لم يكن كذلك ومن كان قاضيا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لا يكون كذلك أبدا وإذا كان أبو موسى لا يسمع من القوم الذين أرسل على رأسهم مفاوضا فلماذا اختير ليكون ممثلا لهم ؟؟؟!!!
أليس هذا طعنا بمن أمره عليهم سواء أكان عليا ( رضي الله عنه ) أم من كان معه ؟؟!!!
والمعروف عن ابي موسى خلال وجوده في الكوفة أن كان يستشير وخاصة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ويرجع إلى رأيه
فما الذي غيره هنا ولا سيما أن القضية هنا تتعلق بمصير أمة سفكت فيها دماء كثيرة بغير حق ؟؟
5- قلت قولهم بانه أسن من عمرو بن العاص فكذب قطعا لأننا إذا رجعنا لترجمته في تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب لوجدنا أنهم قالوا توفي ما بين ((44-52 )) هجرية وسنه بضع وستين سنة فكيف يكون أكبر من عمرو الذي كان عمره أثناء التحكيم فوق الثمانين؟؟!!
فهذا يدل كذلك على غباء مختلقي هذه الرواية ليكشفهم الله لنا بأسط الأمور
6- وكذلك قول ابن عباس له سيقدمك وسيقول لك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام فيه نظر أليس عمرا كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدنيه ويقربه ويؤمره وذكر فيه من الفضائل الكثير ؟؟؟!!!
وكأن ابن عباس (رضي الله عنهما ) يعلم الغيب
7- وكذلك فيها قول أبي موسى رضي الله عنه لعمرو أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين وهنا يطهر لنا كذب هذه الرواية لأن معاوية رضي الله عنه لم يكن خليفة باتفاق المسلمين والخليفة الشرعي هو علي بن ابي طالب رضي الله عنه فكيف يقول أبي موسى أرى أن نخلع هذين الرجلين ؟؟ وكانهما خليفتان بآن واحد هذا على الشام وذاك على سائر الأقطار الأخرى وهذا كذب قطعا ولم يدعى معاوية خليفة إلا بعد استشهاد علي رضي الله عنه وتنازل الحسن له عن الخلافة لنه رآه أصلح لها من غيره
وإذا سقطت هذه المقولة سقطت جميع ما يترتب عليها من نتائج وبالتالي تنهار هذه الرواية الباطلة من الأساس وهذا هو الصحيح الذي يجب المصير إليه
8- وكذلك قول أبي موسى (وقد اجتمعنا على أمر واحد على خلع علي ومعاوية ويستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيكون شورى بينهم يولون منهم من أحبوا عليهم )
فهذا القول باطل لأنه يقول اجتمعنا وهذا يشير إلى ممثلين كثيرين من الطرفين والذي حصل في هذه الرواية أن الذين اجمتعوا هما فقط عمرو وأبي موسى فأين بقية الوفد ؟ وما دورهم ؟ وهل استشيروا في هذا الأمر أم لا ؟؟!!
وإذا كان الربعمائة من كل جانب لم نسمع عنهم شيئا فلماذا أرسلوا إذا وهم لا قيمة لوجودهم ؟؟!!!
فهذا كذلك يكشف كذب هذه الرواية
9- وكذلك قول أبي موسى رضي الله عنه (وإني قد خلعت عليا ومعاوية فولوا أمركم من رأيتم ثم تنحى )
وغذا افترضنا صحة هذه المقولة الباطلة فهل يملك أبو موسى رضي الله عنه أن يقول للناس هذا القول ؟؟
ومن الذي فوضه به ؟؟
وما دور جميع من كان بدومة الجندل وهم من خيرة الصحابة لا نسمع لهم بهذه الرواية ذكرا فهم لم يأتوا إلا ليسمعوا ما يقول أبو موسى وعمرو (رضي الله عنهما ليس إلا ) وهذا انتقاص كبير لهم ولدورهم ؟؟!!
والرواية باطلة من الأساس حيث لم يكن معاوية رضي الله عنه خليفة للمسلمين فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا ». أخرجه مسلم
وفي الموسوعة الفقهية :
عَقْدُ الْبَيْعَةِ لِإِمَامَيْنِ : 20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُ إمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , وَلَا يَجُوزُ إلَّا إمَامٌ وَاحِدٌ . وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ : { إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا } . وقوله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقَ وَالتَّنَازُعَ , وَإِذَا كَانَ إمَامَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّفَرُّقُ الْمُحَرَّمُ , فَوُجِدَ التَّنَازُعُ وَوَقَعَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى . فَإِنْ عُقِدَتْ لِاثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتْ فِيهِمَا , أَوْ مُرَتَّبًا فَهِيَ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا . وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ . لِخَبَرِ : { إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا } . وَإِنْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , لِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْأَئِمَّةِ , وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لِأَحَدِهِمَا . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : بُطْلَانُ الْعَقْدِ , وَالثَّانِيَةُ : اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا تَبَاعَدَتْ الْبِلَادُ , وَتَعَذَّرَتْ الِاسْتِنَابَةُ , جَازَ تَعَدُّدُ الْأَئِمَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . .
وقال القرطبي :
إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين. وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته. والأول أظهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم. وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: (ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر). رواه مسلم أيضا، ومن حديث عرفجة: (فاضربوه بالسيف كائنا من كان). وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
10- وقوله( وأقبل عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن هذا قد قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وإني أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه)
وهذا القول باطل قطعا لم يحدث بتاتا فكيف يسوغ لمراوغ و مخادع أن يبدا كلامه بحمد الله تعالى والثناء عليه وهو يعلم أن الله يراه ومطلع على سره ونجواه كيف يحمده وهو يخالف أمره ويعصيه ؟؟؟!!
فهذا من أبين الكذب بلا شك
وكذلك من هم هؤلاء الحاضرون الذين يسمعون هذا الكذب المفضوح ثم يسكتون عليه ؟؟؟!
أليسوا خيرة الصحابة ؟؟!!
فهل هم بهذه السذاجة حتى ينفق عليهم مثل هذا البهتان ؟؟!!
والله لا يصدق هذه الرواية بهذا الشكل المجانين من الناس يقوم أبو مسى الأشعري بخلع الرجلين أمام الناس ويقوم عمرو بعده فيقول للناس ( إن هذا قد قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وإني أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية )
أي أكذوبة هذه التي تقال في هذا المكان ويصدقها الناس لأن هذا لم يحدث قطعا وفيه تهمة لجميع الحاضرين وكيف يسكتون على مثل هذا الإفك المبين ؟؟؟!!!
ألم يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ؟؟!!
علما أن المكان الذي جرى فيه التحكيم ليس فيه سيطرة لأهل الشام
فيكف يتجرأ عمرو بهذا القول الباطل ويسكتون عنه ؟؟
أو يصدقونه والكذبة واضحة جلية أمامهم ؟؟!!
فهذه المقولة لم تحدث في التاريخ كله ولن تحدث إلا في أدمغة السبئية والرافضة المفترين على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى خيرة أصحابه بما فيهم علي رضي الله عنه
كما أن معاوية لم يطالب بالخلافة في هذا الاجتماع أصلا فكيف يقول عمرا هذا القول ويسكت الناس عليه ؟؟؟!!!
11-وأما قول سعد رضي الله عنه له (فقال سعد بن أبي وقاص ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكائده فقال أبو موسى فما أصنع جامعني على أمر ثم نزع عنه )
فهذا يدل على ضعف شخصية سعد رضي الله عنه فلماذا لم يقم بالرد على عمرو وهو يعلم أنه كاذب فيما يقول ؟؟!!
وهل كان سعد رضي الله عنه جبانا حتى لا يتجرأ بالرد عليه ؟؟!!!
فهذه تهمة باطلة لسعد رضي الله عنه وهو الذي عرف عنه الصدع بالحق فحتى معاوية رضي الله لما صار خليفة لم سعد يخافه أو يتملقه وهاك هذه الحادثة
فقد روى الترمذي حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَمَّرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ قَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلاَثًا قَالَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَنْ أَسُبَّهُ لأَنْ تَكُونَ لِى وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لِعَلِىٍّ وَخَلَفَهُ فِى بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِىٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِى مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نُبُوَّةَ بَعْدِى ». وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ « لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ». قَالَ فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ « ادْعُ لِى عَلِيًّا ». فَأَتَاهُ وَبِهِ رَمَدٌ فَبَصَقَ فِى عَيْنِهِ فَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) الآيَةَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ « اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِى ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فمن كان بهذه الصفة لا يسكت على باطل أبدا
ولكن مختلقوا هذه الرواية لا يهمهم اتهام جميه الصحابة بالجبن والضعف والسذاجة وذلك لأنهم في حقيقة الأمر حاقدون على هؤلاء الصحابة الكرام الذين لولاهم لما وصلنا هذا الدين ولما كنا مسلمين
فتبا للكذابين والحاقدين
والصحيح انه لم يحضر التحكيم أساسا وسيرد تفصيل ذلك عند ابن كثير بعد قليل
12- وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما ( فقال ابن عباس لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لغيرك الذي قدمك في هذا المقام فقال أبو موسى رحمك الله غدرني فما أصنع ؟ )
فيه تهمة تهمة لمن جعل أبا موسى رئيسا للوفد المفاوض وهو إما علي رضي الله عنه (( وهو الصحيح)) وإما جماعة علي رضي الله عنه
فقد اتهمهم بالجهل فكيف يولون مغفلا وساذجا وجاهلا ؟؟!!!
وفيه اتهام لأبي موسى الشعري بالغباء
وكذلك ضعف شخصية ابي موسى حيث قال له (رحمك الله عدرني فما أصنع ؟)
وكل ذلك في الحقيقة لم يحدث أصلا
13- وأما قول أبي موسى لعمرو ( وقال أبو موسى لعمرو إنما مثلك كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث )
وقول عمرو له ( فقال عمرو إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا )
فمن يصدق بمثل هذا الهراء ؟؟
ومن يقول ذلك هل هو مسلم حقا ؟؟!!
والمعروف من سيرة الرجلين أنهما من أبعد الناس عن هذا الكلام
فهذين المثلين قيلا في كتاب الله تعالى عن الكفا والفجار فهل انعدم الدين عند الرجلين حتى يتهم كل منهما الآخر بهذه التهمة الخطيرة ؟؟؟!!
وهذا طعن بأبي موسى وعمرو معا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ وَلَا الطَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ ) أخرجه أحمد
وكيف يسكت الحاضرون وهم من خيرة الناس على هذا الضلال المبين ؟؟!!!
فهذا اتهام لهم جميعا بالسكوت على الباطل وإذا كانوا كذلك فلم جاءوا إلى دومة الجندل ؟؟!!
14- وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما ( فقال ابن عمر إلى ما صيرت هذه الأمة إلى رجل لا يبالي ما صنع وآخر ضعيف )
فهو اتهام للرجلين فالأول ليس عنده دين ولا خلق ومن ثم لا يبالي بما يصنع في سبيل الوصول إلى أهدافه
والثاني ضعيف الشخصية والرأي
ولكن هل كان الرجلان كذلك ؟؟!!
وهل قال ابن عمر رضي الله عهما هذا القول ؟؟
والصحيح أنه لم يقله بل هو مفترى عليه والدليل على ذلك لماذا لم يقم ابن عمر عمر بالرد على عمرو بن العاص ؟!!
فهل كان جبانا ؟؟ وما الذي منعه من ذلك ؟؟
والمعروف من سيرته أنه كان لا يخاف في الله لومة لائم وقد كان يرد على الخلفاء والأمراء دون استثناء وكان نعم الناصح لهم والمنكر عليهم ما أخطئوا فيه
فهاهم دعاة ابن الزبير ( رضي الله عنهما ) قد أشاعوا الأكاذيب والأراجيف بعد مقتل الحسين ( رضي الله عنه ) على يزيد بن معاوية وطالبوا أهل المدينة بنقض بيعته وصدقهم كثير من الناس وغلبت دعايتهم فماذا كان موقف ابن عمر رضي الله عنهما من ذلك ؟؟!!
فهل سكت ؟؟!!
أم أجابهم لنقض بيعة يزيد ؟؟!!
كل ذلك لم يكن بل وقف في وجههم وحذرهم وأنكر عليهم فعلتهم الشنعاء دون خوف ولا وجل إلا من الله تعالى ففي مسلم حَدَّثَنَا عَنْ نَافِعٍ قَالَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ اطْرَحُوا لأَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً فَقَالَ إِنِّى لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ».(1/213)
وفي البخاري حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلاَ بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ إِلاَّ كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ.
فهذه المقولة على عبد الله كذب بلا شك
15- وأما قول عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ( وقال عبدالرحمن بن أبي بكر لو مات الأشعري من قبل هذا كان خيرا له )
فلماذا لم يرد على عمرو مقولته وهو الذي وصف في ترجمته بأنه أشجع رجال قريش فأين ذهبت شجاعته ؟؟!!!
والصواب أنه لم يتفوه بحرف من ذلك
كما أن فيه ذما لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي أمره واستقضاه من هو خير من عبد الرحمن أفكانوا لا يعرفونه ؟؟ وإلا فكيف يولون ويستقضون من هو بهذه الشاكلة ؟؟
وقد كان من القلائل الذين لم يعزلهم عمر رضي الله عنه أفكان غافلا عنه ؟؟!!
16- وهناك رواية اخرى مشهورة على الألسنة حول التحكيم باطلة ذكرها الطبري من طريق أبي مخنف لوط بن يحيى التالف الحاقد وسنذكرها في نهاية الترجمة ونفندها
17- وفي العاوصم من القواصم حول التحكيم كلام نفيس وهذا هو :
قاصمة التحكيم
وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله . وإذا لحظتموه بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين ، وفي الأقل جهل متين .
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط ( 1 ) الدارقطني ( 2 ) : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفين ، اقتتلوا في أول يوم - وهو الثلاثاء - على الماء فغلب أهل العراق عليه ( 3 ) .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [ سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ( 4 ) ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلى الصلح ، وتفرقوا على ان تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق ، فكان من جهة على أبو موسى ( 5 ) ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .
وكان أبو موسى رجلاً ثقفاً فقيهاً عالماً حسبما بيناه في كتاب ( سراج المريدين ) ، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ ، وقدمه عمرو واثنى عليه بالفهم ( 6 ) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبلة ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وان ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات . وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى ، وإنما بنوا على ان عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر.
وقالوا : إنما لما أجتمع بأذرح من دومة الجندل ( 7 ) .
---------------------------
( 1 ) هو الإمام الحافظ أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري ، أحد أوعية العلم ، ومن شيوخ الإمام البخاري . قال عنه ابن عدى : هو صدق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة . توفى سنة 240 .
( 2 ) هو الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطني ( 306 - 385 ) كان مع جلالته في الحديث من أئمة فقهاء الشافعية ، وله تقدم في الأدب ورواية الشعر . وجاء من بغداد إلى مصر ليساعد ابن خنزابة وزير كافور على تأليف مسنده فبالغ الوزير في إجلاله . قال الحافظ عبد الغنى بن سعيد (( أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة . علي بن المديني في وقته ، وموسى بن هارون القيسي في وقته . والدارقطني في وقته )) .
( 3 ) لم يكن القتال على الماء جدياً ، وقد قال عمرو بن العاص يومئذ (( ليس النصف أن نكون ريانين وهم عطاش )) . والذين تظاهروا في الجيش الشامي بمنع العراقيين عن الماء أن يذكروهم بمنعهم الماء عن امير المؤمنين عثمان في عاصمة خلافته وهو الذي أشترى بئر رومة من ماله ليستسقى منه إخوانه المسلمون وبعد إشتراكهم في الماء تناوشوا شهر ذي الحجة من سنة 36 ثم تهادنوا شهر المحرم من سنة 37 ، ووقعت وقائع شهر صفر التى سيشير إليها المؤلف .
( 4 ) وكانت تسمى (( ليلة الهرير )) اقتتل الناس فيها حتى الصباح .
( 5 ) وكان آخر العهد بأبي موسى عندما كان والياً على الكوفة ، وجاء دعاة علي يحرضون الكوفيين على لبس السلاح والالتحاق بجيش علي استعداداً لما يريدونه من قتال مع أصحاب الجمل في البصرة ، ثم مع أنصار معاوية في الشام . فكان أبو موسى يشفق على دماء المسلمين ان تسفك بتحريض الغلاة ، ويذكر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقول نبيهم في الفتنة (( القاعد فيها خير من القائم )) فتركه الأشتر يحدث الناس في المسجد بالحديث النبوي ، واسرع إلى دار الإمارة فاحتلها . فلما عاد غليها أبو موسى منعه الأشتر من الدخول وقال له : اعتزل إمارتنا . فاعتزلهم أبو موسى واختار الإقامة في قرية يقال لها عرض بعيداً عن الفتن وسفك الدماء . فلما شبع الناس من سفك الدماء واقتنعوا بأن أبا موسى كان ناصحاً في نهيهم عن القتال طلبوا من على أن يكون أبو موسى هو ممثل العراق في امر التحكيم ، لأن الحالة التى كان يدعو إليها هي التى فيها الصلاح فأرسلوا إلى أبي موسى وجاءوا به من عزلته .
( 6 ) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وآدابه وقواعده .
( 7 ) أذرح : قرية من أعمال الشراة تقع في منطقة بين اراضي شرقي الأردن والمملكة السعودية في الأطراف الجنوبية من بادية الشام .
________________
وتفاوضا ، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ( 1 ) . فقال عمرو لأبي موسى : أسبق بالقول فتقدم : إنى نظرت فخلعت علياً عن الأمر ، وينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعت سيفى هذا من عنقي - أو من عاتقي - واخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فاثبت معاوية في الأمر ( 2 ) كما اثبت سيفي هذا في عاتقي . وتقلده . فأنكر أبو موسى . فقال عمرو : كذلك اتفقنا . وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف .
عاصمة
قال القاضي أبو بكر ( t ) : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط . وإنما هو شئ أخبر عنه المبتدعة ، ووضعته التاريخية للملوك ، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ( 3 ) .
--------------------------------
( 1 ) من الحقائق ما إذا أسئ التعبير عنه شوائب المغالطة يوهم غير الحقيقة فينشا عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه . ومن ذلك حادثة التحكيم وقول المغالطين إن أبا موسى وعمراً اتفقا على خلع الرجلين ، فخلعهما أبو موسى ، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية . وأصل المغالطة من تجاهل أن معاوية لم يكن خليفة ، ولا هو ادعى الخلافة يؤمئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه . بل إن ابا موسى وعمراً اتفقا على ان يعهدا بامر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة من اعيان الصحابة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم . واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول على الذين اشتركوا في قتل عثمان . فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين ، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم تناول التحكيم شيئاً واحداً هو الإمامة . اما التصرف العملى في غرادة البلاد التى كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين فبقى كما كان : علي متصرف في البلاد التى تحت حكمه ، ومعاوية متصرف في البلاد التى تحت حكمه ، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة . وكان يكون محل للمكر أو الغفلة لو أن عمراً أعلن في نتيجة االتحكيم أنه ولي معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين ، وهذا ما لم يعلنه عمرو ، ولا ادعاه معاوية ، ولم يقل به احد في الثلاثة عشر قرناً الماضية . وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي ، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية ، ومن ذلك اليوم فقط سمى معاوية أمير المؤمنين . فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ، لأنه لم يعط معاوية شيئاً جديداً ، ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى . ولم يخرج عما اتفقا عليه معاً ، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها ، وأى ذنب لعمرو في اى شئ مما وقع ؟ إن البلاهة لم تكن من ابي موسى ، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه . فليفهمها كل من شاء كما يشاء . اما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي .
( 2 ) أى أمر ؟ إن كان الاستمرار في إدارة البلاد التى تحت يده ، فإن هذا الأمر ماض على معاوية وعلي معاً ، فكل منهما باق في الحكم على ما تحت يده . وإن كان المراد بالمر أمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إماماً - أي خليفة - حتى يثبته عمرو كما كان . وقد أوضحنا هذه الحقيقة في الفقرة السابقة . وهذه هي نقطة المغالطة التى هزأ بها مؤرخو الإفك المفترى فسخروا بجميع قرائهم وأوهموهم بان هناك خليفتين أو أمير للمؤمنين ، وأن الاتفاق بين الحكمين كان على خلعهما معاً ، وأن أبا موسى خلع الخليفتين تنفيذاً للاتفاق ، وأن عمراً خلع أحدهما وابقى الآخر خليفة خلافاً للاتفاق ، وهذا كله كذب وإفك وبهتان . والذي فعله عمرو وهو نفس الذي فعله أبو موسى لا يفترق عنه قط في نقير ولا قمطير وبقى أمر الإمامة والخلافة أو غمارة المؤمنين معلقاً على نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا . وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من ابي موسى ولا من عمرو ، فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ، ولا أبديا راياً فيها . ولو كان موقف أبي موسى في هذا الحادث التاريخي العظيم موقف بلاهة وفشل لكان ذلك سبة عليه في التاريخ . وإن الأجيال التى بعده فهمت موقفه على أنه من مفاخرة التى كتب الله له بها النجاح والسداد ، حتى قال ذو الرمة الشاعر يخاطب حفيدة بلاب بن أبي بن أبي موسى :
أبوك تلافى الدين والناس بعدما تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح ورد حروباً قد لقحن إلى عقر
( 3 ) إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بنى امية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله . فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف : طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه . وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم ، ولا يكون التقرب إلى الله ، إلا بتشويه سمعة ابي بكر وعمر وعثمان وبنى عبد شمس جميعاً . وطائفة ثالثة من أهل الإنصاف والدين - كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير - رأت أن من الإنصاف أن تجمع اخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب - كلوط بن يحيى الشيعي المحترق ، وسيف ابن عمر العراقي المعتدل - ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها . وقد أثبت أكثر من هؤلاء أسماء رواة الأخبار التى أوردوها ليكون
-----------------------------------
وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما أجتمعا للنظر في الأمر - في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه - عزل عمرو معاوية ( 1 ) .
... ذكر الدارقطني بسنده إلى حصين بن المنذر ( 2 ) : لما عزل عمرو معاوية جاء [ أي حضين بن المنذر ] فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية ، فبلغ نباه معاوية ، فأرسل إليه فقال : إنه بلغنى عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا ( 3 ) ، فأذهب فانظر ما هذا الذي بلغنى عنه ، فأتيته فقلت : أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وابو موسى كيف صنعتما فيه ؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ، والله ما كان الأمر على ما قالوا ( 4 ) ، ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ فقال : إن يستعن بكما ففيكما معونة ، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما قال : فكانت هي التى قتل معاوية منها نفسه : فأتيته فأخبرته [ أي فأتى حضين معاوية فأخبره ] أن الذي بلغه عنه كما بلغه . فأرسل إلى ابي الأعور الذكواني ( 5 ) فبعثه في خيلة ، فخرج يركض فرسه ويقول : أين عدو الله أين هذا الفاسق ؟ .
... قال أبو يوسف ( 6 ) : اظنه قال (( إنما يريد حوباء نفسه )) فخرج [ عمرو ] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عرياناً ، فخرج العلبة ، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة ( 7 ) )) فقال معاوية (( أجل ، وتربذ الحالب فتدق أنفه ، وتكفأ إناءه ( 8 ) )) .
------------------------------
== الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث على حال راويه . وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا ، بل على إنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا ، وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع ، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع ، مكتفياً بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها . وغن الرجوع إلى كتب السنة ، وملاحظان أئمة الأمة ، مما يسهل هذه المهمة . وقد آن لنا ان نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء ، وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بنى امية العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعمانى في انتقاده لكتب جرجى زيدان ، ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق ، فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة ، ولا يبعد - إذا أستمر هذا الجهاد في سبيل الحق - أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ، ويدركوا أسرارها ما وقع في ماضيهم من معجزات .
... ( 1 ) أب بتقريره مع أبي موسى أن إمامة المسلمين يترك النظر فيها إلى أعيان الصحابة .
... ( 2 ) قال الدارقطني : حدثنا إبراهيم بن همام ، حدثنا أبو يوسف الفلوسي وهو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير ، حدثنا الأسود بن شيبان ، عن عبد الله بن مضارب عن حضين بن المنذر ( وحضين من خواص علي الذين حاربوا معه ) .
... ( 3 ) أى عزله علياً ومعاوية ، وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة .
... ( 4 ) أى أنهما لم يعزلا ، ولم يوليا ، ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة .
... ( 5 ) هو أبو الأعور السلمي ( وذكوان قبيلة من سليم ) واسمه عمرو بن سفيان كان من كبار قواد معاوية . وفي حرب صفين طلب الأشتر أن يبارزه فترفع أبو الأعور السلمي عن ذلك لأنه لم ير الأشتر من أنداده . أنظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 264 .
... ( 6 ) أى الفلوسي راوى هذا الخبر عن الأسود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حضين .
... ( 7 ) الضجور : الناقة التى ترغو وتعربد عن الحلب . و (( قد تحلب الضجور العلبة )) مثل ، ومعناه : إن الناقة التى ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة ، وهي قدح ضخم يحلب فيه اللبن . يضربونه للسيئ الخلق قد يصاب منه الرفق واللين ، وللبخيل قد يستخر منه المال .
... ( 8 ) ربذت يده بالقداح أى خفت : والربذ خفة القوائم في المشي ، وخفة الصابع في العمل . وفلان ذو ربذات : أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه .
--------------------
... قال الدارقطني - وذكر سند عدلاً ( 1 ) : ربعى عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال : (( والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شئ لقد غبنا ونقص رأيهما . وآيم الله ما كانا مبغونين ولا ناقصى الرأى . ولئن كانا أمرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا . وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا ( 2 ) )) .
... فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه . فأعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين . وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين . وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هلك من كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه . ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى . وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً . ولا تسترسلوا بالسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق أتخذ الدين هملاً ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً . ورحم الله الربيع بن خثيم ( 3 ) فإنه لما قيل له : قتل الحسين ! قال : أقتلوه ؟ قالوا : نعم . فقال } اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ، انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون { ( الزمر : 46 ) . ولم يزد على هذا ابداً . فهذا العقل والدين ، والكف عن أحوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين .
--------------------------------
( 1 ) قال حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ودعلج بن احمد قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن النضر ، حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الله بن عمر عن ربعي ... . ألخ وربعى هو ابن حراش العبسى أبو مريم الكوفي .
( 2 ) أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه السلف .
( 3 ) هم من تلاميذ عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو بردة . قال له ابن مسعود لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك . توفى سنة 64 .
ــــــــــــــ(1/214)
رسالة عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في القضاء
4524 - حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ النُّعْمَانِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أَبِى خِدَاشٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى حُمَيْدٍ عَنْ أَبِى الْمَلِيحِ الْهُذَلِىِّ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِىَ إِلَيْكَ بِحُجَّةٍ وَانْفُذِ الْحَقَّ إِذَا وَضُحَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لاَ نَفَادَ لَهُ وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِى وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ حَتَّى لاَ يَأْيَسَ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِكَ وَلاَ يَطْمَعَ الشَّرِيفُ فِى حَيْفِكَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً لاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِى فِى الْبَاطِلِ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَخَلَّجَ فِى صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اعْرِفِ الأَمْثَالَ وَالأَشْبَاهَ ثُمَّ قِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى وَاجْعَلْ لِلْمُدَّعِى أَمَدًا يَنْتَهِى إِلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذَ بِحَقِّهِ وَإِلاَّ وَجَّهْتَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِى الْعُذْرِ الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودٍ فِى حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبٍ فِى شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ ظَنِينٍ فِى وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّىَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ فِى مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِى يُوجِبُ اللَّهُ بِهَا الأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهَا الذُّخْرَ فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحْ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ يُشِنْهُ اللَّهُ فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ. 4/207سنن الدارقطنى - (ج 10 / ص 322) وهي صحيحة
ــــــــــــــ(1/215)
أول فرسان الإسلام المقداد بن عمرو
إنه الصحابي الجليل المقداد بن عمرو -رضي الله عنه-، وهو من المبكرين بالإسلام، حيث ذكر ضمن السبعة الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام.
وكان المقداد قد جاء إلى مكة، فأخذه الأسود بن عبد يغوث وتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، فلما نزلت آية تحريم التبني نُسب لأبيه عمرو بن سعد.
وتزوج المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنه مولى وهى قرشية هاشمية شريفة؛ وذلك لأن الإسلام لا يفرق بين عبد أو سيد ولا بين شريف ووضيع، فالكل في نظر الإسلام سواء، لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أسود ولا أبيض إلا بالتقوى والعمل الصالح.وهاجر المقداد إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وحضر بدرًا، وشهد المعارك كلها، وكان أول من قاتل على فرس في سبيل الله، وقيل إنه الوحيد الذي قاتل على فرس يوم بدر، أما بقية المجاهدين فكانوا مشاة أو راكبين إبلاً.
وعُرف المقداد بالشجاعة والفروسية والحكمة، وكانت أمنيته أن يموت شهيدًا في سبيل الله، ويبقى الإسلام عزيزًا قويًّا، فقال -رضي الله عنه-: لأموتن والإسلام عزيز.
وروى أنه لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه قبيل غزوة بدر الكبرى تقدم هذا الصحابي الجليل بعد أن استمع إلى كلام أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وقال مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى -عليه السلام-: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (موضع في اليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له. [ابن هشام].
انطلقت هذه الكلمات الطيبة من فم هذا الصحابي، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا له دعوة صالحة، وتمنى كل صحابي لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم، يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- لما سمع هذا الكلام: لقد شهدت من المقداد مشهدًا، لأن أكون صاحبه، أحب إلي مما في الأرض جميعًا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب المقداد حبًّا كبيرًا، ويقرِّبه منه، وجعله ضمن العشرة الذين كانوا معه في بيت واحد، عندما قسَّم المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة إلى عشرات، وجعل كل عشرة في بيت.
وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم) فقيل: يا رسول الله، سمهم لنا؟ قال: (عليٌّ منهم، يقول ذلك ثلاثًا، وأبوذرِّ، والمقداد، وسلمان، أمرني بحبهم، وأخبرني أنه يحبهم). [أحمد والترمذي].
وكان المقداد حكيمًا عاقلا، وكانت مواقفه تعبِّر عن حكمته فها هو ذا يقول للنبي ( عندما سأله: (كيف وجدت الإمارة؟) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ولاه إحدى الإمارات، فقال المقداد: لقد جعلتني أنظر إلى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعًا دوني، والذي بعثك بالحق، لا أتأمرن على اثنين بعد اليوم أبدًا.
فالمقداد لا يخدع نفسه، إنما يعرف ضعفه، ويخاف على نفسه من الزهو والعجب، فيقسم على عدم قبوله الإمارة، ثم يبّر بقسمه فلا يكون أميرًا بعد ذلك، ويتغنى بحديث للرسول ( قال فيه: (إن السعيد لمن جنب الفتن) [أبو داود].
وللمقداد موقف آخر تظهر فيه حكمته، فيقول أحد أصحابه: جلسنا إلى المقداد يومًا فمر به رجل، فقال مخاطبًا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم :، والله، لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شاهدت، فأقبل عليه المقداد، وقال: ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟ والله لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوامًا، كبهم الله -عز وجل- على مناخرهم (أي: أنوفهم) في جهنم، أو لا تحمدون الله الذي جنبكم مثل بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم. [أبو نعيم].
وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بحب أربعة: علي، وأبي ذر، وسلمان، والمقداد) [أحمد والترمذي وابن ماجه].
وقد كان المقداد جوادًا كريمًا، فقد أوصى للحسن والحسين بستة وثلاثين ألفًا، ولأمهات المؤمنين لكل واحدة سبعة آلاف درهم، وتوفي المقداد -رضي الله عنه- بالمدينة سنة (33هـ) في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وعمره حينئذ سبعون عامًا.
ــــــــــــــ(1/216)
يوم الفرقان
في حياة كل أمة أيام فاصلة تحدد مصائرها، وتوجه مستقبلها، وترسم معالمها، خيراً كان ذلك أو شراً، بعثاً كان أو خموداً، انطلاقاً أو تراجعاً. وغزوة بدر الكبرى بين المسلمين وكفار مكة والمجتمع الجاهلي كانت علامة تحول، ومفرقاً بين عهدين وفاصلاً بين منزلتين، صار المسلمون بعدها في عظمة وقوة، بعد انكسار وذلة، ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة (آل عمران:123) ومن كبت للحق وظهور للباطل، إلى ظهور للحق، ودحر للباطل، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (8) (الأنفال) ومن ضعف وحزن إلى فرح وبشرى وما جعله الله إلا بشرى" ولتطمئن به قلوبكم (الأنفال).
كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً كما قال ربنا سبحانه وما أنزلنا على" عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان (الأنفال:41) فرقاناً بين عهدين كما يقول العلماء المفسرون: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، عهد إعلان تحرير الإنسان في الأرض من عبودية الطواغيت ومطاردة الضلال، إلى هداية الإسلام، وإقامة منهج الله في الأرض، فكانت بدر بحق ميلاداً جديداً للإنسان بعد الظلام والجاهلية التي انبثق منها النظام الإسلامي الفريد الذي جاء بالقيم الجديدة التي ينبغي أن تقوم عليها الحياة كلها، ويقوم عليها نظامه الاجتماعي والتشريعي والقانوني.
يقول الأستاذ سيد قطب: الفرقان في بدر الذي أقر هذه الحقائق، لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر، وإنما صار شيئاً فشيئاً ملكاً للبشرية كلها تأثرت به، سواء في دار الإسلام أم في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته، والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه.
وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائداً عندهم، بعدما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي، والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية، وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض الجديدة، وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوروبا! وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله منذ وقعة بدر متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء!.
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة، فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض. "غر هؤلاء دينهم".. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلاماً يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة.
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7) ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (8) (الأنفال).
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا، أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة) وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة) وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة، وقال لهم الله سبحانه إنه صنع هذا. "ليحق الحق ويبطل الباطل".
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة، إن الحق لا يُحق، وإن الباطل لا يُبطل في المجتمع الإنساني بمجرد "البيان النظري" للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد "النظري" بأن هذا حق وهذا باطل، وأن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس، وأن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد "نظرية" للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي!.
وهذا يؤيد قوله تعالى: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة (التوبة:46)، وقد أعد الرسول ص العدة من الرجال والسلاح، والقاعدة الصلبة، والأرض التي تحتضن هذا التجمع الإيماني العظيم، الذي خرج عن كل شيء لينصر دعوة الله سبحانه. وقد ظهر هذا في حديثهم حين شاورهم رسول الله ص، وقال: أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، فقال الرسول ص: أشيروا عليَّ أيها الناس فقام المقداد بن عمرو، فقال: "يارسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.
فقال الرسول أيضاً أشيروا عليَّ أيها الناس، فقام سعد بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل: فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فحارب بنا من شئت وسالم بنا من شئت! إنا لصُبرٌ في الحرب صُدقٌ عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
فسُر رسول الله ص بقول أصحابه، ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.
نعم... بهذه العزائم المؤمنة وهذا الإيمان المتدفق يُفرَّق بين الحق والباطل ويدفع الظلم والبغي وتسود العدالة، ويحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. نسأل الله أن يحق بنا الحق وأن يهزم بنا الباطل وأن يرعانا بفضل من عنده... آمين. بقلم : د. توفيق الواعي
ــــــــــــــ(1/217)
فادي النبي - صلى الله عليه وسلم - قتادة بن النعمان
إنه الصحابي الجليل قتادة بن النعمان -رضي الله عنه-، أحد الأنصار الذين شهدوا بيعة العقبة، وعاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على أن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، ووفوا له بعهدهم، فرضوان الله عليهم أجمعين.
جاهد قتادة مع الرسول صلى الله عليه وسلم جهادًا عظيمًا، وعندما اشتد القتال يوم أحد، ولاحت في سماء المعركة هزيمة المسلمين؛ انتهز المشركون هذه الفرصة ليتخلصوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم :، خاصة بعد أن انفضّ عنه أكثر أصحابه، ولم يبق معه إلا قليل، وكان قتادة -رضي الله عنه- واحدًا من أولئك القليل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دفع إليه قوسًا، فأخذها وظل يرمي بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم تعد صالحة للرمي؛ فوجد قتادة -رضي الله عنه- نفسه، وليس معه ما يدافع به عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو أحب الناس إليه، فوضع جسده أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتلقى عنه السهام المصوبة نحوه.
فأصاب سهم وجهه فسالت منه عين قتادة -رضي الله عنه- على خده، ورأى الصحابة أن عين قتادة بن النعمان قد أصيبت، فسالت حدقته على وجنته، ورأى الصحابة ما أصاب أخاهم فأشاروا عليه بقطعها، ولكنه ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل عينه في كفه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ له، ودمعت عيناه، وقال: (اللهم إن قتادة قد وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدَّهما نظرًا) [ابن عبد البر]، فاستجاب الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم .
فما أروع التضحية بالنفس الغالية، انتصارًا لدين الله، وإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وما أعظم الجزاء من الله -عز وجل-.
وفي ليلة مظلمة من ليالي الشتاء شديدة البرد؛ حيث يقل الساعون إلى المسجد للصلاة، تحن نفس قتادة -رضي الله عنه- إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول في نفسه: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الصلاة وآنسته بنفسي، فقام وخرج إلى المسجد؛ فلما دخل برقت السماء (أضاءها البرق) فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما السُّري يا قتادة؟)، ما هاج عليك (أي ما الذي أخرجك في هذه الليلة). فقال قتادة -رضي الله عنه-: إن شاهد الصلاة الليلة قليل؛ فأحببت أن أشهدها معك بأبي أنت وأمي وأؤنسك بنفسي. فقال: (فإذا صليت فأت). قال قتادة: فأتيته؛ فقال: خذ هذا العرجون فتحصَّن به، فإنك إذا خرجت أضاء لك عشرًا (أي أمامك وعشرًا خلفك)، ثم قال لي: (فإذا دخلت البيت ورأيت سوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن يتكلم فإنه شيطان)، فلما دخلت البيت وجدته كما وصف لي، فضربته حتى خرج من بيتي. [أحمد].
وكرامة ثالثة يرويها المفسرون أكرم الله بها قتادة -رضي الله عنه-، فقد كان رفاعة بن زيد -رضي الله عنه- عمًا لقتادة بن النعمان -رضي الله عنه- وكانت له مشربة (غرفة) يضع فيها طعامه وشرابه، فعمد رجل من المنافقين اسمه بشر بن أبيرق إلى تلك المشربة فنقبها (أحدث بها فتحة)، وأخذ ما فيها من طعام وسلاح.
فلما أصبحوا جاء قتادة إلى عمه فأخبره بالخبر، فأخذا يتحسسان الأمر ليعلما من الذي اعتدى على غرفتهما، وأخذ الطعام والسلاح إلى أن تأكد لهما أن الذي صنع ذلك هو ابن أبيرق، فقال رفاعة لابن أخيه: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا شربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.
ولكن المنافقين من بني أبيرق ومن ناصرهم لا يفقهون، عمدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوا عليه ليضلوه، قالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت من أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة، وكذبوا، و رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم من الغيب شيئًا إلا ما يخبره به ربه.
وجاء قتادة -رضي الله عنه- ليعرف منه الجواب، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم محتدًا يقول له: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة تثبت، وكانت مفاجأة لقتادة -رضي الله عنه- حين غاب عنه أنه لا يجوز اتهام الناس من غير بينة ولا دليل. فخشى قتادة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب عليه، وأخذ يقول في نفسه: لوددت أني خرجت من أهلي ومالي (فُقدت) ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
في ذلك. ويأتيه عمه يسأله: يابن أخي ما صنعت؟ فيخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فيقول عمه: كما قال نبي الله يعقوب: فصبر جميل والله المستعان.
وينزل القرآن: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا. واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا} [النساء: 105-106]. ويدعو الرسول صلى الله عليه وسلم قتادة فيقرؤه عليه، ويأتي بالسلاح فيدفعه إليه ليرده إلى عمه رفاعة، ففرح قتادة بتأييد الله له، فحمل السلاح إلى عمه، فينتفض الرجل فرحًا؛ ليس لرجوع سلاحه وعتاده، لكن لمثل ما فرح به قتادة، ثم يزيد فيقول: يابن أخي هي في سبيل الله. [الترمذي].
وتوفي قتادة -رضي الله عنه- في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فحضر عمر جنازته وصلى عليه.
ــــــــــــــ(1/218)
قاهر قيصر عبد الله بن حذافة
إنه عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي -رضي الله عنه-، أحد السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم برسالة إلى كسرى.
وذات يوم سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرفع صوته بقراءة القرآن، فقال له: (يابن حذافة، لا تُسَمِّعْنِي وَسَمِّعِ الله) [ابن سعد].
وكان عبد الله رجلا يحب المرح، فقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وجعل عليهم علقمة بن مجزر، فاستأذنت طائفة منهم في الطريق، فأذن لهم علقمة، وأمَّر عليهم عبد الله بن حذافة، وبينما هم في الطريق، أوقد القوم نارًا ليتدفئوا، ويصنعوا عليها طعامًا، فقال لهم عبد الله: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واقعون فيها، قال: أمسكوا إنما كنت أضحك معكم، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: (من أمركم بمعصية فلا تطيعوه) [أحمد وابن ماجه وابن خزيمة].
وفي خلافة عمر، خرج عبد الله مع جيش المسلمين المتجه إلى الشام لقتال الروم، فأسره الروم ومعه بعض المسلمين، ، وذهبوا به إلى قيصر، فقال له قيصر: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟ فقال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. فقال قيصر: إذًا أقتلك، فقال عبد الله: أنت وذاك. فقال القيصر للرماة: ارموه قريبًا من بدنه، وأخذ يعرض عليه المسيحية وعبد الله يأبى، فقال القيصر: أنزلوه، ودعا بوعاء كبير فصبَّ فيه ماء، وأشعل تحته النار، ودعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقى فيها، فاستشهد وهو ثابت على دينه، فبكى عبد الله، فقيل للملك: إنه بكى. فظن الملك أنه جزع.
فقال الملك: ردوه. ثم سأله: ما أبكاك؟ فقال عبد الله: قلت هي نفس واحدة، تلقى الساعة، فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في سبيل الله. فقال الملك: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، فقال عبد الله: وعن جميع الأسرى؟ فقال الملك: نعم، فقبل عبد الله رأسه، وأخذ عبد الله جميع الأسرى، وقدم بهم إلى عمر، فأخبره بما حدث، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل رأسه. [ابن عساكر]. وانتقل عبد الله إلى مصر مع جيش عمرو، واستقر فيها حتى مات في خلافة عثمان.
ــــــــــــــ(1/219)
"مصاحف تمشي"
صلاح حسن رشيد(@)
تأكيدًا لدور الكلمة في إحياء المثل العليا، والنماذج القدوة، وإحياء دور البطولة الفذة المستوحاة من تاريخنا العطر، ومن صفحاته الذهبية يأتي ديوان الدكتور مروان عرنوس "مصاحف تمشي" ملحمة شعرية تروي قصة الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة مع هرقل عظيم الروم، وقد صدر الديوان عن دار الفكر دمشق 2004م. المسرحية الشعرية تحكي قصة الصحابي البطل، الذي رفض المفاتن والشهوات بفيض إيمان، وكل ثبات، وسريرة لا تتطامن، أو ترضخ للماديات والمحسوسات، ولكنها تعانق اللحظات الإيمانية والروحية، وانتصر على مغريات القياصرة والدنيا بأسرها.عبد الله في الزنزانة
يتضرع ابن حذافة لبارئه (جل وعلا) أن ينجيه من هذا الكرب الشديد، وأن يؤنس روحه في وحشتها، فهو لا يخاف الوعيد، ولا التهديد، ولا التعذيب بالسياط:
رباه أنت مثبتي في محنتي ومعيني
وأنا الفقير لرحمةٍ من بطشهم تنجيني
يا مؤنسي في وحشتي لعلاك ذلَّ جبيني
فأنر فؤادي واهدني بكتابك المكنون
أنا لا أخاف وعيدهم والسوط لا يبكيني
إذ بعتك الروح الثمينة مهرَ حورٍ عين
والليل معراجي إليك ومذهبٌ لشجوني
لا لن أبدل بيعتي والقيد لا يثنيني
ثم يبدأ الشاعر في تصوير معركته الإيمانية والعقدية والروحية الثابتة مع هرقل:
أما هرقل فقد توغر حقده في صدره
فالملك قد ولَّى تلاحقه أسنة قهره
فخلا يشاور قادة الجيش الكبار بأمره
ويتعجب هرقل من هزيمة جيشه، فهو كثير العدد والعدة والعتاد، ويتساءل مستنكرًا:
فيم الهزيمة ويلكم من خصمكم؟ ماذا يريد؟
قد فقتموه بالخيول.. بالجنود.. وبالحديد!
أهم زبانية! أجن؟ أم ملائك! أم أسود
ويلي أكلُّ سيوفهم تُردي كسيف ابن الوليد؟
ويشاور هرقل قادته عن المخرج من هذا الأمر الصعب، وكيف يحققون النصر على العرب الحفاة كما يرونهم؟ فيعرض عليه القائد فرجيليوس رأيه:
يا سيدي أعداؤنا هم معشر العرب الحفاة
وأجاءهم لبلادنا جوع يكابده العراة
فمتى البطون تكدّست شحماً هوى بأسُ الغزاة
إلا أن هرقل يضعف هذا الرأي ولا يأخذ به، لذلك يتناول القائد بلاوتوس طرف الحديث ليعرض رأيه الدائر حول إرضاء نزوات هؤلاء العرب بالنعيم والحسان من النساء:
يا سيدي في البيد قحطٌ زادَه حرٌّ وقر
وبلادنا بجنانها الأنهار تبهج والثمر
فجمالها وجمال حسناواتنا جرَّ الخطر
فلنرضهم بجناننا وحساننا نجنِ الظفر
فيرد هرقل رافضاً ذلك:
ماذا أصاب عقولكم؟ بئس الذي قد قلته
أهوى النفوس يبث تضحية وعزماً خفتَه؟
الأمر أعمق ما بصرتَ به وقد أخطأته
ثم يستعرض القائد هوراس تاريخ الدعوة الإسلامية، وكيف أن المسلمين عافوا حياة الجاهلية، وأنهم يدافعون عن دينهم لا عن مشاعرهم، وأنهم يستعذبون الشهادة أملاً في الفردوس الأعلى، ويقارن بينهم وبين جند الروم الباحثين عن النساء والمال:
أهرقل.. جند محمد عافوا حياة الجاهلية
ويقاتلون لدينهم لا للمناصب والحمية
فاق الضراغمَ بأسُهم يتوثبون إلى المنية
هم كالرواسي لا تزحزحها الأعاصير العتية!
فمُناهم الفردوس والجنات لا الدنيا الدنية
لكن جند الروم قد ثملوا بأحضان النساء
ويقاتلون لمغنم أو للمناصب والرياء
ليس الذي يخشى الردى كمُحبه ليسوا سواء!
فيستصوب منه هرقل هذا الرأي، ويقول:
لكأن ما قد قلتَه عين الصواب فأحضروا
أحد الأسارى وليكن من خيرهم فتخيروا
قولوا له قد رام رؤيتك المظفرُ قيصر
ويأتون إليه بعبد الله بن حذافة، وهو مكبل في أغلاله، وهو الذي يضرع إلى ربه في الليل تاليًا آيات كتابه الكريم أن يفرج عنهم هذا الكرب الأليم:
يا أيها الحراس فلتمضوا بجنح السرعة
وأتوه بابن حذافة السهمي رأس العصبة
سوقوه في أغلاله من ظلمة في ظلمة
ذاك الذي يتلو الكتاب بليله في رقة
ولتسمعوه مرددًا آياته في عزة
ويذهبون فيجدون عبد الله يترنم في زنزانته ويصدح بمناجاة خالقه:
عبد الله يشدو في الزنزانة:
يا معقل الأبطال إني من وعيدك لا أخافْ
أنا سيد الساحات ترهبني الصوارم والخفاف
شوقي لذات الشوكة الحمراء قد شغف الشغاف
فأنا ابنها ولها أكرُّ وليس لي عنها انعطاف
فاشدد بقيدك ليس يخشى الليثُ من قرن الخراف
ويأتيه السجان، ويطلب منه أن يقدم إلى هرقل، وأن يسجد إليه، فيصده عبد الله عن مراده، ويأبى أن يسجد إلا لله:
هيهات أن يهوي الجبين سوى لرب العالمين
فبسجدتي عزي، وذلي سجدتي للآخرين
ولتسجدوا لعظيمكم، أما أنا لن أسجدا
أنتم أذلاء ومثلي لم ولن يُستعبدا
ويدخل، ويدور نقاش بينه وبين هرقل عن سبب المجيء إلى أراضيه وعن دعوتهم:
من أنت؟ ما اسمك؟ ما الذي ألقاك في بئس القضاء؟
وإلام تدعو؟ فيم جردتم لنا سيف العداء؟
عبد الله يرد:
أنا مسلم سميت عبد الله لا عبد العبيد
أدعو إلى التوحيد والإيمان والحق الرشيد
والحاقدون على الهدى فكما لنا كادوا نكيد
لكن هرقل يتعجب قائلاً: إنكم كنتم بالأمس القريب ترهبوننا، وتخشون نقمتنا، فلماذا تقدمون على تلك الجرأة العمياء؟ فيبين له عبدالله حقيقة الإسلام، ذلك النور الذي ملأ الدنيا عدلاً وأمناً وسماحة:
بل أرسل الرحمن آخر مرسَل منا وفينا
وعلى جميع الكتْب شعَّ مهيمنًا يحدو السفينا
قد كان فينا صادقاً لا يدعي كذباً أمينا
فعلى هدايته اتحدنا ننصر الحق المبينا
ونقاتل الكفار من عادى الهدى أمسي دفينا
لكن هرقل يتوعد عبد الله، ويُزبد ويرغى ويهدد، ويعرض عليه أمواله، ليتنصر وإلا فسوف يصلبه ويعاقبه:
فلأصلبنك إن رفضت أُعِلُّ من دمك السهام
فالموت عاقبة لمن يأبى التنصر والحمام
إلا أن عبد الله يفجؤه بطلبه الموت والشهادة التي يتمناها:
اقتل، فإن مناي أن ألقى الإله مصلبا
لأحل في الجنات أحظى بالحسان مخضبا
إن الشهادة مطلبي وسواها لا لن أطلبا
ويأمر هرقل بقتله، ويتراجع قائلاً للرماة: ارموه بعيداً عن قلبه، عسى أن يتراجع عن موقفه، لكن المذهل أن عبد الله يصر على موقفه البطولي، وهو يضرب للأجيال المثل العظيم في الثبات على الدين مهما كان الإغراء والتعذيب، ويتعجب الجنود من شكيمة هذا المسلم وقوة إيمانه وتمسكه بدينه:
عجباً لهذا المؤمن الصنديد لا يخشى الردى
لا بل يراه مهللاً يشدو له مستشهدا
اليوم أهبط جنتي وأرى الحبيب محمدا
وإزاء هذا الفشل الذريع من جانبهم في استمالة عبد الله إليهم، يلجأون إلى إغرائه بالنساء، وفعلاً يأتون إليه بالحسناء سيفيلا:
متعْ بجسمي ناظريك وشدني شدّاً إليك
وارشف رحيقي واحتضني إن تكرِّر لا عليك
ويعرض عنها عبدالله قائلاً:
قد قال: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
والله لست بفاعل.. لن تظفري بخيارهم
يا رب إلا تصرفن هذي أكن كشرارهم
قد قلتَ لا يزنون إني في هدى أبرارهم
فلتغربي عني ورومى الفحش مع فجارهم!
وتذهب الحسناء تعلن فشلها أمام هرقل، الذي يطلب من الحراس أن يضعوا عبد الله في مرجل يغلي وهو مقيد في الأغلال ويعرض عليه أخيرا هرقل التنصر:
أعطيك يا بن حذافة للعيش فرصتك الأخيرة
فارض التنصر، فالعقوبة إن تخالفني مريرة
ويتمسك عبد الله بموقفه البطولي إلى النهاية:
والله لن أرتد عن ديني ولو قطعت لحمى!
إن المُحال تنصري، سيريك صدق القول عزمي
ثم يأتون بأحد المسلمين ويضعونه في القدر، ويحترق أمام عيني عبد الله، لكنه لم يتزعزع، وعندما اقتربوا من لحظة وضعه في القدر أيضاً، تلوح منه قطرات الدموع فيتهللون ظناً منهم أنه تراجع لكنه يقول في عزة المؤمن الصلب:
والله دمعي ما جرى جزعاً فقلبي قد تمنى
مائة من الأرواح تقتلها بحب الله تفنى
واستصغر القلب الممات بناركم فبكى وأنَّا
ياليتها مائة تقتّلها فيرضى الله عنا
فاخسأ فدمعي قد جرى كرماً ولم ينهل جبنا
وهكذا ينتصر الإيمان على الغطرسة والكذب والنفاق، وتعلو صفحة الإسلام، وتحلق عالية خفاقة في سماء العزة، وينهزم هرقل وجنوده وكل من يقتدي به على مر الأيام.
ــــــــــــــ(1/220)
العالم العامل عبد الله بن عمرو
إنه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، أمه رائطة بنت
الحجاج بن منبه السهمية. كان اسمه قبل إسلامه العاص، فلما أسلم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله. [ابن عساكر]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعم أهل البيت أبو عبد الله وأم عبد الله وعبد الله) [أحمد].
أسلم عبد الله قبل أبيه، وكان شديد الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان يكثر من العبادة، وقراءة القرآن، وكتابة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان يحافظ على حضور مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم واستماع حديثه وتدوينه، حتى أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم يومًا: يا رسول الله، أأكتب كل ما أسمع منك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (نعم). فقال عبد الله: في الرضا والغضب؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (نعم، فإني لا أقول إلا حقًا) [أبو داود].
وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصوم كل يوم ولا يفطر، فقال له: (كيف تصوم؟). قال: أصوم كل يوم. فقال صلى الله عليه وسلم : (وكيف تختم؟) قال: كل ليلة، فقال صلى الله عليه وسلم : (صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر)، فقال عبد الله: أطيق أكثر من ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (صم ثلاثة أيام في الجمعة)، فقال عبد الله: أطيق أكثر من ذلك، قال: (أفطر يومين، وصم يومًا)، قال عبد الله: أطيق أكثر من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم : (صم، أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرة) [البخاري].
وفي رواية: (فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك (ضيوفك) عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا)، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم (فإنك لا تدري لعلك يطول بك عمرٌ) [أحمد]. ولما كبر سنه كان يقول: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
وقد روى عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وروى أنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: ما كان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وكان عبد الله جوادًا كريمًا يحب الإنفاق في سبيل الله، فكان يملك ثلاثمائة راحلة بمكة، فجعل منها مائة للمسلمين يركبونها، ويحملون عليها أمتعتهم، ومائتين لأهل البلدان البعيدة يذبح لهم منها في موسم الحج، ويتصدق بها عليهم. وكان محبًّا لأبيه عمرو وبارًا به، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم له: (أطع أباك ما دام حيًّا) [أحمد]. وتوفي عبد الله سنة (65 هـ) في مصر، وعمره آنذاك (72) سنة.
ــــــــــــــ(1/221)
الشباب.. والعناية بالقرآن الكريم
(الشبكة الإسلامية)
القرآن دستور الأمة وأساس نهضتها، به أخرجها الله من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وفي كل زمان هو المخرج لها من الفتن والهادي لها من الضلال والحافظ لها من موارد الشبهات والشهوات.
ومع كثرة الفتن وتتابعها في زماننا وانفتاح أبواب الشهوات ـ أمام الشباب خصوصاـ على مصارعها، كان لابد من توجيه كل شاب يريد الخلاص إلى أهم أسباب النجاة والعصمة ألا وهو كتاب الله الذي من تمسك به فلن يضل أبدا.
ونحن معاشر الشباب اليوم أحوج ما نكون لنتعلم كيف نتعامل مع القرآن الكريم وليس من سبيل إلى هذه المعرفة إلا بقراءة أحوال شباب الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلموا منه.. فكيف تعامل هؤلاء الصحابه الشباب مع أعز وأكرم وأفضل كتاب؟
الحرص حتى التفوق
لقد كان الحرص الذي تمتع به شباب الصحابة - رضوان الله عليهم - على هذا الكتاب مدعاة لأن يفوقوا غيرهم حتى يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستقراء القرآن من أربعة، ثلاثة منهم من الشباب وهم: معاذ، وابن مسعود، وسالم - رضي الله عنهم - إذ يقول: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل". قال: لا أدري بدأ بأبي أو بمعاذ" [رواه البخاري ومسلم].
ويشهد أنس رضي الله عنه مع معاذ لشاب آخر هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، بأنه قد وعى القرآن وجمعه فيقول: "جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة؛ كلهم من الأنصار: أُبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت" [رواه البخاري ومسلم].
أربعة من الشباب
وتعالوا أخواني الشباب لنتعرف على هؤلاء الأربعة وعما صنعه القرآن بهم وماذا بلغوا به:
فأما معاذ بن جبل: فقد اتفق أهل السير على أنه مات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة للهجرة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واختلفوا في عمره عند وفاته فقال البعض كان عمره 33 سنة، وقال آخرون 38 سنة، وعليه فيكون عمره عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إما خمس عشرة سنة وإما عشرين سنة... فماذا صنع القرآن بابن العشرين؟
لقد بلغ به القرآن مكانا فاق به كبار الصحابة وصغارهم في الفقه والعلم، ولك أن تتخيل ذلك الأثر حين تسمع النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول عنه: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل " رواه أحمد، وأخبر عنه أنه يأتي يوم القيامة إماما للعلماء قد سبقهم جميعا برتوة، أي رمية سهم أو رمية حجر.
لقد قاده القرآن للخير كل الخير.. فعن ابن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شابًّا جميلا سمحًا من خير شباب قومه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.
وعن أبي مسلم الخولاني قال: أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، قال: قلت لجليس لي من هذا؟ قالوا هذا معاذ بن جبل.
وعن ثور بن يزيد قال: كان معاذ بن جبل إذا تهجد من الليل قال: اللهم قد نامت العيون وغارت النجوم وأنت حي قيوم: اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى ترده إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
وفي الخاتمة كان الوسام الذي وشحه به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له: "والله إني لأحبك".
الفتى المعلم
وأما ابن مسعود فهو الغلام المعلم كما قال له النبي صلى الله عليه وسلم فاسمع إلي الغلام يقول: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وقد فرا من المشركين فقالا: يا غلام هل عندك من لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست ساقيكما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل؟ قلت: نعم فأتيتهما بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح الضرع ودعا فحفل الضرع ثم أتاه أبو بكر رضي الله عنه بصخرة منقعرة فاحتلب فيها فشرب وشرب أبو بكر ثم شربت ثم قال للضرع: اقلص فقلص فأتيته بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول قال: إنك غلام معلم قال: فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد "[رواه أحمد وهو صحيح].
علاقته بالقرآن وطيدة ومنزلته به عند النبي صلى الله عليه وسلم رفيعة وهو الذي استقرأه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كما في الصحيحين أن النبي قال له: "اقرأ علي . قال : قلت : اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أشتهي أن أسمعه من غيري . قال : فقرأت النساء حتى إذا بلغت : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } . قال لي : كف ، أو أمسك . فرأيت عينيه تذرفان .
إنها شهادة تدل على حسن القراءة مع الإتقان مع جمال الصوت وخشوع القلب وإلا فلماذا اختاره هو دون غيره ليسمع منه، وهذه الشهادة أكدتها شهادة أخرى وزينها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْباً كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ). وهو سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
وهو الذي قال عن نفسه : مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ، وَفِيْمَا نَزَلَتْ .
وأقر له بالفضل سادة الصحابة: فعن علقمة قال : جاء رجل إلى عمر، فقال : إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب . ففزع عمر ، فقال : ويحك انظر ما تقول . وغضب ، فقال : ما جئتك إلا بالحق . قال : من هو ؟ قال : عبد الله بن مسعود . فقال : ما أعلم أحدا أحق بذلك منه ، وسأحدثك عن عبد الله : إنا سمرنا ليلة في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خرجنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين أبي بكر ، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم- يستمع إليه ، فقلت : يا رسول الله ، أعتمت ، فغمزني بيده : اسكت ، قال : فقرأ وركع وسجد ، وجلس يدعو ويستغفر ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : سل تعطه . ثم قال : من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل ، فليقرأ قراءة ابن أم عبد . فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله .
لقد أورثه القرآن سمتا حسنا وهديا أشبه بهدي رسول الله فما كان أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم منه حتى قال عنه حذيفة: إن أشبه الناس هديا ودلا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع، والله، لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أنه من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة.
وعَنْ أَخِيْهِ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا هَدَأَتِ العُيُوْنُ قَامَ، فَسَمِعْتُ لَهُ دَوِيّاً كَدَوِيِّ النَّحْلِ.
عَنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ، قَالَ: رَأَيْتُ بِعَيْنَيْ عَبْدِ الله بن مسعود لهِ أَثَرَيْنِ أَسْوَدَيْنِ مِنَ البُكَاءِ.
وأما هو فقد علمه القرآن التواضع وهضم االنفس حتى قال: لَوْ تَعْلَمُوْنَ ذُنُوْبِي، مَا وَطِئَ عَقِبِي اثْنَانِ، وَلَحَثَيْتُمُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِي، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللهَ غَفَرَ لِي ذَنْباً مِنْ ذُنُوْبِي، وَأَنِّي دُعِيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوْثَةَ. وكان يَقُوْلُ فِي دُعَائِهِ: خَائِفٌ مُسْتَجِيْرٌ، تَائِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، رَاغِبٌ رَاهِبٌ.
زيد بن ثابت
ونلمس الحرص نفسه عند زيد بن ثابت رضي الله عنه، فيأتي قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفاخرين يقولون: "هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا زيد، تعلم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمن يهود على كتابي". قال زيد: فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب"[رواه البخاري وأحمد].
ولك أن تعلم أن زيدا أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعمره أحد عشر عاما. ولم يشهد بدرا لصغر سنه وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد. وكان هذا الصغير يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصار أحد فقهاء المدينة السبعة, واشتهر بالفرائض, وكان ابن عباس على جلالة قدره يأتيه إلى بيته للأخذ عنه ويقول: العلم يؤتى ولا يأتي. استعمله عمر بن الخطاب على القضاء وكان يستخلفه في كل سفر.
وأما منقبته الكبرى التي فاقت نقل الجبال والتي تكفي لمعرفة قدر هذا الشاب الهمام أنه هو الذي أشرف على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر ثم للمرة الثانية في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وإنما اختاروه لتولي هذا الشرف العظيم وتلك المسؤولية الجسيمة وثوقا بدينه وحفظه وإتقانه وحسن كتابته, مع من معه.
سالم مولى أبي حذيفة
كان عبدا رقيقا، رفع الإسلام من شأنه وبلّغه القرآن بين المسلمين شأوا رفيعا ومكانة عالية، أهّلته لها فضائل روحه وسلوكه وتقواه، فقد كان سالم ملتقى لكل فضائل الإسلام الرشيد فكانت تزدحم فيه وحوله .. وكان إيمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق. حتى إن سيد الأمس أبو حذيفة بن عتبة سيد قريش يجد شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة..!!
و كانت الخاتمة السعيدة في حروب الردة، حيث كان سيفه صوّالا جوّالا في أعناق المرتدين، أخذ راية المهاجرين يوم اليمامة بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب، فقال المسلمون نخشى أن نؤتى من قبلك! فقال سالم:" بئس حامل القرآن أنا .. لو هوجم المسلمون من قبلي! وحفر لنفسه في الأرض حفرة حتى لا يتزحزح وأمسك بالراية والسيف يقاتل في سبيل الله.. وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة:{ وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}
وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن بعد أن كان قد نال الشهادة العظمى من أصدق شاهد على وجه الأرض حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك" [رواه أحمد].
شباب عظماء آخرون
ولم يتوقف الاهتمام بالقرآن عند هؤلاء وإنما كان الأمر فاشيا في كل شباب الصحابة.. فكان عمرو بن سلمة رضي الله عنه وهو من صغار الصحابة حريصًا على تلقي القرآن، فكان يتلقى الركبان ويسألهم ويستقرئهم حتى فاق قومه أجمع، وأهَّله ذلك لإمامتهم، ولنستمع لذلك من روايته رضي الله عنه، إذ يقول: "كنا على حاضر فكان الركبان يمرون بنا راجعين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدنوا منهم فأسمع حتى حفظت قرآنًا، وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، فلما فتحت جعل الرجل يأتيه فيقول: يارسول الله! إنا وافد بني فلان، وجئتك بإسلامهم، فانطلق أبي بإسلام قومه فرجع إليهم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قدموا أكثركم قرآنًا" قال: فنظروا وإني لعلى حِواء عظيم(أي مكان فيه عدد كبير من الناس)، فما وجدوا فيهم أحدًا أكثر قرآنًا مني، فقدموني وأنا غلام"[رواه أحمد].
ولم يكن البراء بن عازب رضي الله عنه قد تخطى العاشرة إلا قليلا حين قال: "لم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورًا من المفصل"[طبقات ابن سعد].
وفي كتاب الإصابة: "كان مجمع بن جارية حدثًا قد جمع القرآن".
ولن أكلمك عن ابن عباس فأنت أعرف به مني لكن أذكرك أنه حين مات النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ناهز العاشرة فقط.
فضل القرآن على أهله
إن هذا الذي ذكرناه ليمثل أعظم دافع لشبابنا بأن يغتنموا سني شبابهم في حفظ كتاب الله تبارك وتعالى والعناية به، كيف لا وقد رتب الشرع على ذلك الفضائل العظيمة. ومنها:
أن صاحبه مع السفرة الكرام البررة: كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران"[رواه البخاري].
تفضيل في الحياة وبعد الممات: فقد جعل الشرع حامل القرآن مقدمًا على الناس، فهو أحقهم بالإمامة في الصلاة؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة..."[رواه مسلم].
ولا يقف التقديم عند حد الحياة بل حتى بعد موته؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين رجلين من قتلى أحد، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟" فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد؛ فقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة..."[رواه البخاري].
رفع المنزلة في الجنة: فحامل القرآن الحافظ له العامل به تعلو درجته يوم القيامة حين يدخل الجنة كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها" [رواه الترمذي وأبو داود].
إن هذه النصوص وغيرها كانت تدفع شباب الرعيل الأول للعناية بالقرآن وتعلمه وتعاهده، فما أجدر شبابنا بالسير على نهجهم واقتفاء أثرهم.
الأمر لا يقف عند مجرد الحفظ:
ولم يكن الأمر لدى شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تعلم القرآن واقفًا عند مجرد حفظه وإقامة حروفه، بل كانوا يتعلمون أحكامه وحدوده.فالحفظ وسيلة إلى ما بعده من المداومة على التلاوة والقراءة والتدبر والوقوف عند المعاني، ومن ثم أخذ النفس بها والالتزام بما دلت عليه. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهنَّ حتى يعرف معانيهنَّ، والعمل بهنَّ"[أخرجه الطبري].
تعليم القرآن:
ويدرك الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ القرآن وتعلمه يتطلب منهم أن يقوموا بواجب التعليم، كما أخبر صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"[رواه البخاري].
ولهذا بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحدهم وهو مجمع بن جارية رضي الله عنه لأهل الكوفة يعلمهم القرآن.
وفي النهاية أقول لإخواني الشباب: إذا كانت الأمة بأسرها مطالبة باتباع الرعيل الأول والسلف الصالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلامة دينهم وعقيدتهم ومنهجهم ولشهادة الله لهم ورضاه عنهم، فإن شباب اليوم أحوج ما يكونون إلى الاقتداء بشباب الصحابة رضوان الله عليهم في كل أحوالهم عامة وفي تعاملهم مع القرآن خاصة ففي ذلك السلامة من الفتن والانتصار على الشهوة وعلو الهمة ورفعة الدرجة في الحياة وبعد الوفاة
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
ــــــــــــــ(1/222)
الليل.. مشروعيته ومقداره
(الشبكة الإسلامية) يسري شاهين
سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيما يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم أهل الدنيا أن اللذة والجنة في الأموال والنساء وفي البيت الجميل والفراش الوثير، فإن جنة المؤمن في محرابه ولذته في مناجاته لربه سبحانه وتعالى حين يقوم فيترك فراشًا وثيرًا وزوجة حسناء، ويلقى عن نفسه التعب والكسل ليجيب نداء ربه وهو يدعوه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً)، يا أيها الملتف في ثيابه المستدفئ في فراشه: قم فإنك على موعد مع ربك وخالقك، وهو ينادي على محبيه: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
قيام الليل .. وما أدراك ما قيام الليل ؟
سنة عظيمة أضعناها، ولذة عجيبة ولكننا ما تذوقناها، وجنة للمؤمنين في هذه الحياة ولكننا ما دخلناها ولا رأيناها .
قيام الليل مدرسة تربي فيها النفوس، وتهذب فيها الأخلاق، وتزكى فيها القلوب .
قيام الليل عمل شاق وجهاد عظيم لا يستطيعه من الرجال إلا الأبطال الأطهار، ولا من النساء إلا القانتات الأبرار.. (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)(آل عمران:17) .
قيام الليل دأب الصالحين قبلنا، ومكفرة لسيئاتنا، وقربة لنا إلى ربنا، ومطردة للداء عن أجسادنا.
لماذا الحديث عن قيام الليل
الحديث عن قيام الليل له أسباب كثيرة ..
أولها: أنه بداية الطريق لإعادة بناء الأمة، وتأهيلها مرة أخرى لقيادة العالم وسيادته وريادته .. فبهذا الأمر ربى الله تعالى الرعيل الأول وجهزهم لتحمل مشاق الرسالة والقيام بأمر الدعوة؛ لأن العبد إذا قام الليل طهر قلبه، وإذا طهر القلب فلن تجد منه إلا السمع والطاعة.
ولذلك لن تعجب إذا علمت أن الله افترض على المسلمين قيام الليل قبل أن تنزل الأحكام وقبل أن تفرض الفرائض وقبل فرض الصلوات الخمس كما جاء في حديث حكيم بن حزام أنه جاء إلى السيدة عائشة رضي الله عنها يسأل عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ سورة المزمل؟ قال: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً (سنة كاملة) وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًَا بعد فريضة .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن قيام الليل كان فريضة في أول الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة كاملة حتى نسخ الله هذا في آخر السورة.
فطهارة القلب وزكاة النفس لا تكون إلا بقيام الليل .
الثاني: تبدل أحوالنا عن أحوال السلف، وانقلاب ليالينا إلى لهو ولعب وتفريط في الأعمار وتضييع للأوقات.. وبدلا من أن تقضى ساعات الليل في صلاة ومناجاة لله صار الأعم الأغلب يقضيها في معاص أضاعت على المسلمين دينهم.
وغاب عن الكثير منا حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له؟".(رواه الجماعة) .
وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن " .
الثالث: هو قسوة في القلوب، وجفاف وجفاء في الباطن طفح على الظاهر فأورث النفوس عدم تلذذ بالقرآن والآيات، وعدم تأثر بالمواعظ والبينات، ومن كان هذا حاله فلا بد له أن يقوم الليل ليسأل ربه أن يمن عليه بقلب خاشع رقيق فما استجيبت الدعوات بمثل دعاء الأسحار.
الرابع: رغبة في إحياء سنة من سنن النبي صلوات الله وسلامه عليه، تركها الناس ورغبوا عنها، وفي إحياء سننه أجر عظيم وثواب كبير.
قيام الليل في القرآن
لقد تنوعت صور دعوة القرآن المسلمين لقيام الليل ما بين الأمر به، وبيان فضله، وامتداح أهله، وعاقبه أصحابه ترغيبًا وتحبيبا، وهذه الآيات منها المدني والمكي:
فأمر الله به في سورة المزمل كما سبق، وفي سورة الإسراء: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)(الإسراء:78، 79).
قال الحسن ومجاهد: أي أن القيام في حق النبي نافلة؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو في حق المسلمين فريضة، فقالا: لابد من قيام الليل ولو ركعتين في السحر .
وفي سورة ق قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (ق:39، 40) .
وفي وصف أهل الإيمان امتدح الحق تبارك وتعالى المتقين المحسنين داعيا للاقتداء بهم فقال عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(الذريات:15 - 18).
وقال : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(الفرقان:63، 64) . فجعل من صفات عباده الذين شرفهم بنسبتهم إليه أنهم يبيتون ليلهم سجدًا وقيامًا.
وفي بيان ما أعد للقوام من الجزاء والنعيم قال تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(السجدة:15 - 17) . وكل هذه السور مكية باتفاق المفسرين
أما السور المدنية فقد تابع الله فيها التنبيه على تلك الشعيرة العظيمة كما في قوله سبحانه: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)(آل عمران: 17) .
وقال أيضا: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(آل عمران:113) .
وفي سورة الإنسان قال تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(الإنسان:25، 26) .
القيام في السنة
لقد تواطأت السنة المطهرة مع الكتاب العزيز في الدعوة لهذه الفضيلة العظيمة وحث المؤمنين عليها وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله هو الحادي لأمته في اقتفاء أثره، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل".
ولذلك كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: "لأن أصلي في جوف الليل ركعة أحبَّ إليَّ من أن أصلي بالنهار عشر ركعات".
وعندما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما كلمهم، أمرهم بقيام الليل، قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".(رواه ابن حبان) .
وكان صلوات الله عليه وسلامه يتعهد المسلمين ويحثهم على قيام الليل، فعن أبيّ بن كعب قال رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى ثلثا الليل نادى بأعلى صوته: أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه". وطرق عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلا وقال: ألا تصليان؟".
وقال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل". قال سالم بن عبد الله: فكان ابن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. (متفق عليه). وقال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل ".(متفق عليه) .
وفي وصية جبريل للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" .
والنساء أيضا
ولم يقتصر الأمر بقيام الليل على الرجال فحسب وإنما أيضا دعيت إليه المسلمات.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء".(رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح) .
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات " .
وذكر أن العبد إذا فعل ذلك أو فعلته امرأته ضحك الله من فعلهما. وفي المسند: "إذا ضحك الله من عبد فلا حساب عليه".
مقدار قيام الليل:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل أحد عشر ركعة، أو ثلاث عشر ركعة، ولا يزيد على ذلك، وكان يقول: " صلاة الرجل مثنى مثنى"، وروت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "فصلى أربعًا، لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم صلى أربعًا لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم أوتر بثلاث .
هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه، وكل إنسان يفعل ما تيسر له قدر استطاعته، والمقصود هو وجود قيام الليل وإحياء تلك السُّنَّة فيصلي العبد ما شاء ثم إذا تعب نام. وفي الحديث: "ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد"، وقال: "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا".(رواه البخاري ومسلم) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، ورغب فيه حتى قال: "عليكم بصلاة الليل ولو ركعة".
وقال رضي الله عنه: ذكرت قيام الليل فقال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصفه، ثلثه، ربعه، فواق حلب ناقة، فواق حلب شاة". والفواق: هو مقدار ما يرفع الحالب يده عن الضرع ثم يعيدها إليه ، وقيل مدة الحلب ... والمقصود أنها مدة قصيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين". يعني الذين يوفون أجرهم بالقناطير. (رواه أبو داود، ابن خزيمة وهو في صحيح الجامع).
يا رجال الليل جدوا .. ... .. رب داع لا يرد
لا يقوم الليل إلا .. ... .. من له عزم وجد
ــــــــــــــ(1/223)
قاتل السبعة عبد الرحمن بن أبي بكر
إنه عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه-، يكنى أبا عبد الله، وقيل أبا محمد، وأمه أم رومان بنت الحارث، وهو شقيق أم المؤمنين عائشة
-رضي الله عنها-.كان أشجع رجال قريش، وأرماهم بسهم، وقف ضد المسلمين في بدر، وكان أحد الرماة الذين جندتهم قريش يوم أحد، تأخر إسلامه حتى هدنة الحديبية (الفترة التي توقف فيها القتال)، رغم أن أباه كان أول الناس إيمانًا بالله ورسوله. كان على رأس رماة قريش في غزوة أحد، وقبل أن يلتحم الجيشان، وقف عبد الرحمن متحديًا يدعو من يبارزه من المسلمين، ونهض أبوه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ليبارزه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك به ومنعه من مبارزة ولده. وظل عبد الرحمن يحارب دين الله حتى شرح الله صدره للإيمان، فاندفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معلنًا إسلامه، فتألق وجه أبي بكر، وفرح حينما رأى ابنه يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وانطلق عبد الرحمن بعد إسلامه يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوض ما فاته، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يجاهد في سبيل الله مع الخلفاء الراشدين، لا يتخلف عن غزو، ولا يقعد عن جهاد. وفي يوم اليمامة وقف موقفًا عظيمًا، وجاهد جهادًا كبيرًا، وكان له دور كبير في كسب المعركة؛ حيث قتل محكم بن الطفيل العقل المدبر لمسيلمة الكذاب، والذي كان يحمي بقوته أهم أماكن الحصن الذي احتمى فيه جيش مسيلمة، فلما قتل محكم بسهم من عبد الرحمن تفرق من معه، وانفتح الحصن، فتدفق المسلمون داخله، وتم نصر الله، وقد قتل عبد الرحمن سبعة من الكفار في هذه المعركة.
وكان -رضي الله عنه- صالحًا، يخلص لله في عبادته، ويخاف عقابه، وكان يتمتع بروح الدعابة والظرف، وشارك في فتح الشام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكان -رضي الله عنه- لا يخاف في الله لومة لائم، يدافع عن الحق أينما وجد، ويعلنه في كل مكان.
ــــــــــــــ(1/224)
الهارب من الفتن محمد بن مسلمة
إنه أبو عبد الله محمد بن مسلمة الأنصاري، أحد فضلاء الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها من الغزوات، ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وكان أسمر شديد السمرة، طويلاً، أصلع الرأس، ضخم الجسم، استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته، وأمَّره على نحو (51) سرية، وكان يرسله ليأتي بالصدقات من الإمارات الإسلامية.
وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وأسلم على يد مصعب بن عمير حينما كان في المدينة، وكان أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي الذي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
وظل يجاهد في سبيل الله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم-.
وكان عمر -رضي الله عنه- يعتمد عليه في الأمور الصعبة، فقد بعثه إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- حين بنى لنفسه قصرًا بالكوفة، واحتجب عن الرعية، وأمره أن يحرق باب القصر، فذهب إلى هناك، وفعل ما أمره به أمير المؤمنين.
وكان -رضي الله عنه- شجاعًا في الحق، فقد روى أنه لما تولى عمر بن الخطاب الخلافة سأل قائلاً: كيف تراني يا فلان؟ فقال له: أراك والله كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قويًّا على جمع المال، عفيفًا عنه، عدلاً في قسمه، ولو مِلْتَ عدلناك كما يعدل السهم في الثقاب، فقال عمر متعجبًا من شجاعته، ومسرورًا بما قال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْتُ عدلوني.
وعندما قامت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان، أخذ محمد بن مسلمة سيفه، وذهب إلى صخرة قوية، وأخذ يضرب السيف على الصخرة حتى كسَّر السيف، واتخذ لنفسه سيفًا من خشب، وذهب إلى الربذة وبنى لنفسه بيتًا صغيرًا جلس فيه، فقال له أصحابه: لماذا فعلت ذلك يا محمد؟ فأجابهم قائلا: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفًا، وقال لي: (يا محمد بن مسلمة، جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضًا، فائت به أُحَدًا (أي: جبل أحد) فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية (يعنى الموت))، وقد فعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم :. [أحمد].
ومات -رضي الله عنه- سنة (43 هـ)، وعمره (77) سنة، وترك من الولد عشرة ذكور وست بنات، وقد روى بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
ــــــــــــــ(1/225)
استحباب النظر إلى من يريد تزوجها
تاريخ الفتوى : 07 ذو القعدة 1424 / 31-12-2003 السؤال
ما حكم النظر إلى المرأه الأجنبية قبل الزواج بقصد الزواج منها إذا أعجبته هذه المرأة مع العلم بأن هذه النظرة ليست نظرة شهوة إنما نظرة تفحص ليحدد هذا الشخص إن كانت تناسبه أم لا؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً. اخوكم في الله ابن الاسلام
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالنظر إلى المرأة بقصد الزواج منها مستحب، لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً.
قال الحافظ ابن حجر : فيه استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها، وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء.
ولا يشترط في جواز هذا النظر رضا المرأة، بل له أن يفعل ذلك في غفلتها، لما رواه أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. قال جابر: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها.
وروى أحمد وابن ماجه عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ منكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها.
فينبغي أولاً أن تسأل عن المرأة ودينها وأهلها، فإن رضيتها ووقع في نفسك إرادة الزواج منها فانظر إليها.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــــــ(1/226)
النظر إلى المخطوبة وهل من حقه الرفض بعد النظر
تاريخ الفتوى : 10 شوال 1426 / 12-11-2005 السؤال
أنا شاب أبحث عن فتاة للزواج إن شاء الله، من العادة عندنا أن تبحث الأم عن الفتاة وتذهب لرؤيتها هي وترى أحوال عائلتها وإن رأتها الأم ملائمة وطيبة الأخلاق يأتي دوري لكي أذهب أنا لرؤيتها والتعرف عليها وتكون الكلمة بعد ذلك لي، سؤالي هنا عن هذه الطريقة لإيجاد الزوجة وهل بمجرد أن أراها أقبل بالزواج بها أو لدي الحق بالرفض كونها لم تعجبني؟ وشكراً لكم إخواني مسبقا. الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما الطريقة التي ذكرتها للبحث عن الزوجة فلا حرج فيها وهي من الطرق الصحيحة السليمة إذ النساء أعرف بالنساء ويستطعن معرفة ما لا يمكن للرجل معرفته عن المرأة ورؤية ما لا يمكن له رؤيته، فقد أخرج البيهقي في سننه والحاكم في مستدركه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوج امرأة فبعث امرأة لتنظر إليها فقال: شمي عوارضها وانظري عرقوبيها، قال: فجاءت إليهم فقالوا ألا نغديك يا أم فلان، فقالت: لا آكل إلا من طعام جاءت به فلانة، قال: فصعدت في رف لهم فنظرت إلى عرقوبيها، ثم قالت: افليني يا بنية، قال: فجعلت تفليها وهي تشم عوارضها، قال: فجاءت فأخبرت. قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. ويجوز كذلك نظرك إليها بل يندب، لما بيناه في الفتوى رقم: 2729.
قال العيني في عمدة القارئ: ومما احتج به القائلون بجواز النظر حديث محمد بن مسلمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ألقي في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها. رواه الطحاوي وابن ماجه والبيهقي، وبحديث أبي حميد الساعدي وقد كان رأي النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وإن كانت لا تعلم. رواه الطحاوي وأحمد والبزار، وبحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل. رواه الطحاوي وأبو داود. وقد بينا حدود ذلك وما يجوز للخاطب النظر إليه من مخطوبته في الفتوى رقم: 2729، والفتوى رقم: 5814.
وننبهك إلى أن أولى ما ينبغي أن تحرص عليه في المرأة هو دينها وخلقها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاظفر بذات الدين تربت يداك. متفق عليه، فالجمال الحقيقي هو جمال الدين والخلق كما بينا في الفتوى رقم: 31475، والفتوى رقم: 61632.
وإذا رأى الخاطب مخطوبته فلم يجد بها ما يدعوه إلى نكاحها ورغب عنها فلا حرج عليه في تركها ورفضها، ولكن إذا كانت ذات خلق ودين فالأولى له الظفر بها وعسى أن يكره المرء شيئاً وهو خير له، كما في قوله تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216}.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــــــ(1/227)
التائب الصادق كعب بن مالك
إنه الصحابي الجليل كعب بن مالك -رضي الله عنه-، صاحب التوبة الصادقة، وكان كعب قد أسلم حين سمع بالإسلام، فأتى مكة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه آخى النبي بينه وبين طلحة بن عبيد الله.
وكان كعب شاعرًا مجيدًا، وخاصة في مجال المغازي والحروب الإسلامية، وكان واحدًا من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين يردون عنه الأذى بقصائدهم، وهم: كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، فكان كعب يخوفهم بالحرب، وكان حسان يهجوهم بالأنساب، وكان عبد الله يعيرهم بالكفر.
وقد جاء كعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه) [ابن عبد البر].
وكان لكعب مواقف مشهودة في غزوة أحد، حين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وألبسه ملابسه التي يلبسها في الحرب، ولبس النبي صلى الله عليه وسلم ملابس كعب الحربية، يقول كعب: لما انكشفنا يوم أحد كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرت به المؤمنين حيًّا سويًّا، وأنا في الشِّعْب، وقد جرح سبعة عشر جرحًا. [ابن هشام]، وكان المشركون يوجهون إليه السهام ظنًّا منهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان كعب قد تخلف عن غزوة تبوك التي سمي جيشها بجيش العسرة، والسبب في هذه التسمية أن المسلمين مروا بصعوبات كثيرة في تمويل الجيش؛ حيث إن العدد كان كبيرًا، وعدتهم كانت ضئيلة، وقد تخلف المنافقون عن هذه الغزوة بدون أعذار.
ولما عاد المسلمون إلى المدينة دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد أولا، وصلَّى فيه ركعتين، فدخل عليه المنافقون الذين تخلفوا عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وبدءوا يكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويتعللون بأعذار واهية.
ولكن كعبًا لم يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقر بذنبه وتقصيره في حق الله وتكاسله عن الجهاد، وفعل مثله هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، وكانا قد تخلفا أيضًا.
وبعدما سمع النبي صلى الله عليه وسلم كلام كعب، أمر المسلمين أن يقاطعوه وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر، فلم يكلمهم أحد من المسلمين، ولم يتعاملوا معهم.
فجلس الاثنان كل منهما في بيته يبكيان، أما كعب فلم يحبس نفسه مثلهما، بل كان يخرج للصلاة، وكان إذا سار في السوق أو غيره لا يتحدث معه أحد، وكان لكعب ابن عم يحبه حبًّا شديدًا هو الصحابي الجليل أبو قتادة -رضي الله عنه-، ولما اشتد الأمر بكعب، ذهب إلى ابن عمه أبي قتادة في بستانه وألقى عليه السلام، ولكن أبا قتادة لم يرد عليه، فقال له كعب: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فلم يرد عليه أبو قتادة، فكرر كعب السؤال، فقال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب بالدموع وتركه.
وذات يوم، ذهب كعب إلى السوق، فإذا برجل نصراني من الشام يسأل عنه، وعندما قابله أعطاه النصراني رسالة من ملك غسان، فقرأها كعب ووجد فيها: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك محمدًا جفاك، (هجرك وتركك) ولم يجعلك الله بدار مذلة أو هوان، فالحق بنا نواسك.
وبعد أن قرأ كعب الرسالة قال في نفسه: والله إن هذه أيضا من الفتنة والابتلاء، ثم ألقى بالرسالة في النار.
ومضى على كعب وصاحبيه أربعون يومًا، وهم على تلك الحالة من الندم والبكاء والمقاطعة الكاملة من كل المسلمين، وبعدها أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجروا زوجاتهم، وظلوا على هذه الحالة عشرة أيام.
وبعد خمسين يومًا جاء الفرج، ونزلت التوبة من الله على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فبعد أن صلى كعب صلاة الفجر، جلس بمفرده، فسمع صوتًا ينادى من بعيد: يا كعب، أبشر يا كعب، فلما سمعها كعب خرَّ ساجدًا لله -عز وجل-، وعلم أن الله قد تاب عليه، وبلغ من شدة فرحته أنه خلع ثوبه وألبسه للرجل الذي بشره، ثم انطلق مسرعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فاستقبله الصحابة وهم سعداء، وقام طلحة بن عبيد الله من بين الحاضرين جميعًا وأسرع ليهنئ كعبًا، فلم ينسها له كعب أبدًا، وتبسم له الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك) [البخاري]، وأنزل الله فيه وفي صاحبيه قرآنًا، قال تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب} [التوبة: 118].
وكان كعب -رضي الله عنه- يقول: والله، ما مر عليَّ يوم كان خيرًا ولا أحب إليَّ من ذلك اليوم الذي بشرت فيه بتوبة الله تعالى عليَّ وعلى صاحبيّ، ثم قال للرسول صلى الله عليه وسلم : إن من توبتي أن أتصدق بمالي كله لله ولرسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك) [البخاري]، فقال كعب: يا رسول الله، إن الله تعالى أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث أحسن مما ابتلاني.
وكان كعب يقول بعد ذلك: ما تعمدت منذ ذكرت ذلك ل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا شيئًا من الكذب، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى بقية عمري.
وكان كعب -رضي الله عنه- يقول: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فقد قال الله تعالى: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنه إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءً بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 95-96].
وهكذا كان صدق كعب سببًا في نجاته، وقبول توبة الله عليه، بينما أهلك الله المنافقين الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم :، واعتذروا بالباطل، فجعلهم الله من أهل النار.
وظل كعب يجاهد في سبيل الله، ولا يتخلف عن حرب أبدًا، فحارب المرتدين في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وشارك في الفتوحات الإسلامية على عهد الفاروق عمر، وكذلك في خلافة كل من عثمان وعليّ وأول خلافة معاوية -رضي الله عنهم-، وظل على صدق إيمانه وقوة عقيدته.
وتوفي -رضي الله عنه- بالشام في خلافة معاوية سنة (50هـ) وقيل سنة (53 هـ)، وعمره آنذاك (77) سنة ويقال: إن الله سبحانه قد ابتلاه بفقد بصره قبل وفاته، فصبر لذلك حتى ينعم بما عند الله من الجنة.
وقد روى كعب بن مالك ثلاثين حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
ــــــــــــــ(1/228)
وقفات وفوائد في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لقد زكى الله تعالى الصادقين في توبتهم، ودعا المؤمنين إلى أن يكونوا معهم.
قال جل ذكره: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:18،19].
ولقد أخبر كعب بن مالك رضي الله عنه عن قصة هؤلاء الثلاثة وتخلفهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتبْ أَحَد تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ العَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الغَزَاةِ. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزاةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَعَدُوًا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ- يُرِيدُ الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ. وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا. فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ- بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِن الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي. فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ- وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ؟» أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ». فَقُمْتُ. وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ المُخَلَّفُّون، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ. فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُوننِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي. ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، فَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ. فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي. حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِن البَلاَءِ. فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا. حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِن الخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ. بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ. قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ. لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبْكِ». قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ. فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِنَا. فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ: قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ. قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِن الفَرَسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ. وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ. وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ حَتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَأَني، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ غيرُه، وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِن السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ». قَالَ قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِه. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِن المُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الحَدِيثِ- مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [التوبة:711] إِلَى قَوْلِهِ-: وكونوا مع الصادقين [التوبة:911] فوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ- بَعْدَ أَنْ هَدَانِي للإِسْلاَمِ- أَعْظَمَ، فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، فَقَالَ عز وجل: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم [التوبة:59] إِلَى قَوْلِهِ-: فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:69] قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَن الغَزْوِ، إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ. أ. هـ
وفي هذا الحديث من الفوائد الكثيرة؛ نذكر منها:
الأولى: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، وما ترتب على هذا التقصير من هجر ولوم وتأنيب وانعكاس ذلك على نفسه حتى ضاقت عليه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وفي ذكر هذا التفريط والتقصير نصيحة للمسلمين حتى يقبح لهم المعصية والمخالفة، ليتأسوا بذلك فيهجروا المعاصي ويتركوا الذنوب لما يترتب عليها من آثار سيئة وعاقبة وخيمة، فالعاقل من اعتبر بغيره، ثم إن كعبًا رضي الله عنه حين يعطي خلاصة هذه التجربة إنما يريد أن ينصح بها، ليتجنب من يبلغه الحديث أسباب ما وقع فيه، وفيه الحض على الإسراع بفعل الخير وعدم التكاسل عنه.
الثانية: جواز إخبار الرجل عن جوانب الخير في نفسه إن لم يكن فخرًا أو كبرًا والتحدث بنعمة الله تعالى التي مَنَّ بها على العبد، فلقد أكرم الله تعالى هؤلاء الثلاثة ودعا المؤمنين إلى أن يكونوا معهم، فإخبار كعب عن هذه التوبة وإتمام نعمة الله عليهم فرحةً وتحدثًا بنعمة الله، كل هذا جائز، فالله تعالى يقول: وأما بنعمة ربك فحدث [الضحى: 11]، وإن كانت تزكية النفس منهيًا عنها فإنها في هذا الموطن جائزة كما تجوز حين يريد الرجل أن يلفت النظر إلى نعم الله التي أنعم بها عليه، فلقد قال الله تعالى عن يوسف: قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف: 55].
الثالثة: جواز تعزير المتخلف عن الجهاد مع ولي أمر المسلمين حتى يشعر بألم المخالفة وينبغي لولي الأمر أن يذكره ويعنفه ويوبخه.. إلى غير ذلك من أنواع التعزير، حتى يأخذ بيده إلى الله تعالى، لأن إهمال المسلمين المقصرين وعدم السؤال عنهم يفسدهم ويعرضهم للزلل والزيغ، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا وقال: «ما فعل كعب؟» وأهمل المنافقين ولم يسأل عنهم لأنهم رجس، نعوذ بالله من الخذلان.
الرابعة: فضل بيعة العقبة والتواثق على الإسلام حتى إن كعبًا كان لا يراها دون مشهد بدر، وذلك لأن المسلمين في بادئ الأمر لاقوا من الاضطهاد والتعذيب ما جعلهم يخفون إسلامهم، ثم في ليلة العقبة يذهب المسلمون الجدد ليبايعوا ويعاهدوا الله ورسوله على الإسلام وهم يخافون أن يطلع عليهم أهل الكفر، فهذا يبين فضل ليلة العقبة وإن كانت بدر هي أشرف مشاهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولقد سمى الله يوم بدر يوم الفرقان.
الخامسة: عدم الاكتفاء بسرد ما حدث، بل التحدث بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والإخبار عنها قدر المستطاع، ففي أثناء حديث كعب يقول: «ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها». ثم يذكر أيضًا في حديثه: «وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس». ثم يذكر أيضًا: «وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر». وكذلك جاء في بعض الروايات: «وكان لا يقدم من سفر إلا نهارًا في الضحى». وهذا يدل على أن المسلم حتى وهو يسرد واقعة حديث له لابد ألا ينسى هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يغيب عنه هذا الهدي الكريم، ثم الحرص على الفائدة، وبذل النصيحة والمعروف ولو لم يطلب منه ذلك، وهذه صفة في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل في مسألة أجاب وربما يزيد لحاجة السائل كالذي سأله عن الوضوء بماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». [رواه أحمد 1/201، 202]
السادسة: الحذر من الجواسيس، وستر بعض الأمور عن الرعية للمصلحة، ولذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، وهذه حكمة عالية فالحذر شيء مطلوب، وكانت هذه عادته صلى الله عليه وسلم أن يعمي على الأعداء ليفوت عليهم فرصة الانقضاض على الإسلام والمسلمين، كما حدث ذلك في هجرته صلى الله عليه وسلم .
السابعة: لم يكن للجيش ديوان يجمعهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من دون الديوان ولذلك كان الرجل إذا تخلف ظن أن ذلك سيخفى على المسلمين، ما لم ينزل بذلك وحي من الله تعالى.
الثامنة: الندم على ما فات من تقصير وأن هذا الندم يدفع الهمم للطاعة لتدارك ما فات، ولذلك قال كعب: «فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت».
التاسعة: أن المتخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إما مغموص عليه النفاق، أو رجل من أهل الأعذار، أو من خلفه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة.
العاشرة: الرد والذب عن عرض المسلمين، فلقد رد معاذ على من طعن في كعب بقوله: حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا. ولو أن كل طاعن وجد من يقوم طعنه، لما تفشى القيل والقال، ولنجِىَّ الله تعالى أعراض المسلمين من الخوض فيها.
الحادية عشرة: الستر على صاحب الخطأ رجاء إصلاحه وعدم فضح أمره، فحينما رَدَّ معاذ عن كعب وَرَدَ ذكر اسمه، أما الذي قال: «حبسه براده والنظر في عطفيه فقال عنه: فقال رجل من بني سلمة» ولم يذكر اسمه، وكذا حينما صدق كعب مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ثار رجال من بني سلمة خلفه يؤنبونه، ولعل العلة في عدم ذكر أسماء هؤلاء وغيرهم حتى لا يشتهر عنهم المخالفة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في نصيحته: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. ولا يصرح بأسمائهم رجاء إصلاحهم وتجنبًا لفضح أمرهم.
الثانية عشرة: عظم أمر المعصية وقبحها، قال ابن حجر: وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله، ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حرامًا ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟
الثالثة عشرة: أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين، فانظر إلى عدد المتخلفين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يمتنع هو وأصحابه عن كلام أحد منهم إلا هؤلاء الثلاثة، ولما كان إيمانهم بهذه المكانة صبروا وتحملوا وخرجوا من هذه المحنة أقوى وأخشع وأتقى لله تعالى.
الرابعة عشرة: إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى، فمع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم كذب المنافقين إلا أنه قَبِلَ منهم علانيتهم ووكل السرائر إلى الله عز وجل، لأننا لم نؤمر أن نشق عن صدور الناس.
والله أعلم.
ــــــــــــــ(1/229)
(1/230)
قصة كعب بن مالك
الهجر من الأحكام المشروعة في هذا الدين، ففيه تطبيق لمبدأ الولاء والبراء، وفي مشروعيته ردع للعاصي والمبتدع، ومن شرع لنا هجرهم حتى يعودوا إلى جادة الصواب ويتركوا ما بسببه هجروا. وفي قصة كعب بن مالك وصاحبيه الدروس الكافية التي نعرف منها صور هذا الهجر وكيفيته وبعض أحكامه، وكيف امتثل الصحابة رضي الله عنهم أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم.
الهجر بين المشروع والممنوع ... ... ...
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فهذا الحديث صحيح الدلالة في عدم جواز هجر المسلم أخاه فوق ثلاث. وقد جاء في حديث كعب بن مالك : (أن المسلمين هجروهم خمسين ليلة) والتوفيق بين حديث كعب وبين هذا الحديث: أن الهجر إذا كان لسبب شرعي يجوز أن يستمر إلى مدة طويلة أما إذا كان الخصام على شيء دنيوي فلا يجوز أن يتجاوز ثلاثة أيام. هذا هو التوفيق بين الحديثين، والتفصيل القادم سيوضح المسألة أكثر. قلنا: إن الهجر إذا كان لسبب شرعي فيجوز أن يطول، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب ورفيقيه؛ لأنهم تخلفوا عن الجهاد، والجهاد آنذاك كان فرض عين لا يحل لمسلم أن يتخلف عنه، ولا يسقط إلا بعذر، كما هو شأن سائر الواجبات، فلا تسقط الواجبات إلا بعذر مانع. ويجب على كل من يستطيع الجهاد أن ينفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ارتكبوا شيئاً محرماً، والرسول صلى الله عليه وسلم إمعاناً منه في تأديبهم هجرهم خمسين ليلة. وأيضاً السيدة زينب رضي الله عنها كان معها أكثر من راحلة فعطب بعير صفية رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب : (أعطيها بعيراً من عندك تركبه، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية! فهجرها أربعين ليلة) وهذا هجر فوق ثلاثة أيام. فالهجر للدين يستمر إلى أن يقلع المهجور عن الشيء الذي من أجله هجرته. فلا يلتبس في الأمر، والهجر بسبب الدنيا ثلاثة أيام فقط. ويحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (من هجر أخاه سنة فكأنما سفك دمه) على الهجر الدنيوي، وليس الهجر الشرعي، أي: إذا كان لا يحل له أن يزيد عن ثلاثة أيام فزاد إلى سنة على شيء دنيوي تافه اختلف مع أخيه فيه، فكأنما سفك دمه، وهذا تعظيم للهجر بغير مسوغ. ...... ...
الفرق بين هجر أهل البدع وهجر أهل المعاصي ...
إذاً: هجر أهل المعاصي مشروع، وهجر أهل البدع آكد في الشرع من هجر أهل المعاصي؛ لأن المبتدع شر من العاصي، وأهل المعاصي أفضل من المبتدعة، والأفضلية هذه لا يتصور منها مشروعية الفعل، لا. وهذا يشبه قول الدارقطني في أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، لما سئل عنه وعن بقية أصحابه قال: (أعور بين عميان) فهذا ذم، ولكن عن طريق المدح، فالمقصود: إن كلاهما شر ولكن هذا أخف في الشر، وهذا هو المقصود. لماذا؟ لأن أي إنسان يرتكب المعصية يعلم أنها معصية، ومهما كابر وأظهر أن هذه ليست معصية، فهو من قرارة نفسه يعلم أنها معصية، كيف لا، وقد فطر على التمييز بين الحلال والحرام! وقد ذكر بعض العلماء -وهو يتكلم عن هذه المسألة ويشرح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) - أنه مهما ادعى إنسان أنه لا يدري فهو كاذب؛ لأن الرسول قال: (بين) ومتى يعذر الإنسان؟ إذا دخلت المسألة في الشبهات، والتبست عليه ولا يدرى أهي حلال أم حرام، كما في المثل المشهور الذي تعرفونه: وهو أنك إذا وضعت للقط قطعة لحم أكلها بجوارك، أما إذا خطفها فإنه يفر. فلماذا يفر إذا خطفها؟ لأنه يعلم أنه خاطف سارق، إذاً: أي إنسان مهما كابر فهو يعلم أنه على معصية، بخلاف المبتدع، فإنه يرى أنه على صواب، ويرى أن البدعة هذه هي من الدين، وأنه يتقرب إلى الله بها، فعندما تقول له: اترك ما أنت عليه من البدعة، يقول لك: لن أترك ديني، ويأبى. لذلك قال علماؤنا كسفيان الثوري وغيره: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها. كان هناك ولد حاضراً في درس فسمع الفتوى ما هو حكم الشرع فيما يفعله بعض المسلمين بين التراويح من قراءة (قل هو الله أحد) ثلاث مرات؟ فقلت: هذه بدعة، وأتيت بالأدلة على أنها بدعة، فهو ذهب وبلغ ذلك لأبيه -والرجل رأس البدعة في بلده، وهو الذي يتزعم هذا- فلم يتمالك نفسه وجاء في موعد الدرس القادم، وقال: أنت أفتيت ابني بكذا وكذا؟ قلت: نعم، قال: قراءة القرآن بدعة؟ ما الذي جرى؟ هل: ارتكبت حراماً؟ فقلت له: وهذا الكلام الذي سأقوله، لو أنك حفظته وألقيته على أي مبتدع لألزمته الحجة بكلامه هو، إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم فاته شيء من الخير، وإما أنه صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، هذا بعد أن تستنطقه على ما يفعل، وتقول له: أعندك دليل صحيح يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؟ إما أن يقول: نعم، وحينئذ يقال له: إن كنت مدعياً فالدليل، أو ناقلاً فالصحة. نريد دليلاً صحيحاً، وهو: لا يستطيع أن يأتي به أبداً، وإما أن يقول: لا، فلو قال: لا فحينئذ تقول له: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك الشيء فإما من اثنتين: إما أن يكون خيراً فات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لك: حاشا رسول الله من ذلك! أو أنه قصر في البلاغ، وهذه لا يقولها أبداً. ثم بعد ذلك تسأله هل الذي أنت تفعله الآن خير أم شر؟ فإذا قال: خير، فقد أقر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاته هذا الخير، وإذا قال: شر فحسبه شهادة على نفسه أنه يفعل الشر، وإذا قال: لا أدري، فهناك جواب آخر، تقريعي وهو: كيف تفعل شيئاً وتتقرب به إلى الله، وليس عندك عن صاحب الشرع منه برهان؟!! فلن يستطيع حينئذ الرد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نعبد الله إلا ببرهان، ولذلك قال العلماء في القاعدة المتفق عليها بينهم: (الأصل في العبادات المنع حتى يرد دليل بالإذن، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل في التحريم)؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] والعبادات على العكس؛ لأنك لا تدري مالذي يحب الله وما الذي يكرهه، وربما تتقرب إلى الله بما يبغضه وأنت لا تدري، وقد قال الله تبارك وتعالى لطائفة من الصحابة: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] فأنت لا تدري ما الذي يحبه ربك أو الذي يبغضه، ونافذتك على معرفة هذا هو الوحي. فلا تتقدم بين يدي الله ورسوله بفعل شيء أو بقول شيء إلا ببرهان. فلما جاء هذا الرجل فقال: لماذا قراءة (قل هو الله أحد) بدعة؟ وهي تعدل ثلث القرآن، فكيف آثم بقراءتها ثلث القرآن؟! فقلت له: ما رأيك إذا عطست أنت الآن فقلت: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟ ما رأيك؟ قال: لا. قلت: لماذا؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله)، أو (الحمد لله على كل حال)، فقلت: والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مستحبة؟ وقد قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] فما المانع أن تفعل شيئاً مستحباً؟ فقال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقلها، قلت: هذا عين الجواب، وأنا أمهلك شهرين حتى تأتيني بدليل ولو ضعيف في هذه الجزئية، فقال الرجل، وهنا الشاهد: (أنا لي ستون سنة مغفلاً)، وهذه هي المشكلة، فاستصعب أن يسلِّم بأنه مغفل، ولو أنه سلم أنه جاهل لأجر؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة ! إن كنت أذنبت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب تاب الله عليه) لا بد أن تعترف، وما المانع؟ فكل إنسان فينا جاهل في جزئية أو أكثر، ونحن جميعاً نموت ونحن مدينون بالجهل، وما هناك إنسان قط مات وقد عرف كل شيء في الشرع، فضلاً عن الدنيا، فلماذا الحرج؟!! إن الصحابة كانوا يعترفون ويقولون: (كنا ضلالاً فما عرفنا الهدى من الضلالة حتى جاءنا الرسول صلى الله عليه وسلم)، فالرجل لم يسلم بذلك وهذه هي مشكلة المبتدع، لا يسلِّم لظهور الحق بجلاء، لذلك قتل الجعد بن درهم على بدعته الشنعاء وصبر على القتل ولم يرجع، لما قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وهذا مضاد لصريح القرآن، وقد جيء به واستتيب، فلم يرجع، فحبسوه حتى جاء عيد الأضحى، وخطب الوالي آنذاك خالد بن عبد الله القسري وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم ؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، وشكر علماء المسلمين ذلك له، أنه ذبح هذا الضال. وإذا كان الله سبحانه وتعالى رخص للإنسان أن يقول كلمة الكفر لينجو بحياته، فقال تبارك وتعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106] فالذي عليه اللعنة والغضب، هو الذي شرح صدره بالكفر، ولكن إذا رأيت أنك ستقتل فتكلم بكلمة الكفر طالما أن قلبك مستقر ومطمئن بالإيمان، فإذا كان الإنسان رخص له أن يستنقذ حياته من القتل بأن يتكلم بكلمة الكفر، فكيف بهذا المبتدع لم ينقذ حياته، وكان يمكن أن يقول: أنا تبت إلى الله؟ وربما من الداخل يبطن الكفر الصريح، ويستنقذ حياته بإظهار الإسلام، فيصير دمه وماله وعرضه مصوناً بإظهار كلمة الإسلام، والجعد لما رأى أنه سيقتل يقيناً، لماذا لم يقل أنا تبت؟ لأنه يعتقد أن البدعة دينه، وقد ناظره علماء المسلمين الثقات الجهابذة الكبار، ومع ذلك لم يرجع، بينما العاصي يمكن أن يرجع ويتوب. مرة كنت أخطب الجمعة في القاهرة، وتكلمت عن الرجم، وأن الرجم ورد في السنة، وهناك آية في نزلت القرآن قبل ذلك ثم نسخت ورفعت، كما هو معروف من الأحاديث الصحيحة، وذكرت أن حد الزاني المحصن أنه يرجم بالحجارة، ويحفر له حفرة في الأرض حتى لا يفر ثم يرجم حتى الموت، فهذا هو حد الزاني المحصن الذي تزوج ثم زنى بعدما تزوج. وبعد الخطبة والدرس بينما أنا خارج من المسجد وجدت رجلاً كبير السن عمره يقارب السبعين عاماً وكان يرتعد، فقلت: هذا الرجل كبير وأعصابه تعبانة فبالتالي هو يرتعد، وكان كذلك، فانتحى بي جانباً وسألني، قال: أنا رجل عشت عمري وأنا أزني، وأول مرة أسمع هذا الكلام، وعندما سمعته كنت أريد أن أخرج من المسجد، لأنك تقول بأنه يرجم، قال: فذهبت إلى البيت، ولكني لم أستطع الجلوس، ولا الأكل ولا الشرب، فرجعت مرة أخرى ماشياً، فقال: هل لي من توبة؟ فالمعصية معروفة لأي عبد في الدنيا أنها معصية، لذا يستحيل أن تكون حلالاً عنده، ولا يستطيع أن يكابر بخلاف البدعة. ......
من أنواع الهجر
فإذا كان أهل المعاصي يشرع لك أن تهجرهم فمن باب أولى أهل البدع، لكن الهجر تكتنفه الأحكام الشرعية الخمسة، الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، التحريم. ...
الهجر المحرم
نقول: إن كل نصوص الشرع جاءت بتحصيل أكبر قدر من المصالح، وتقليل المفاسد ما أمكن، فإذا افترضنا أن هناك رجلاً مبتدعاً في بلد ما، وهذا الرجل له سلطان ومسموع الكلمة، وأنت مع عدد قليل من أهل السنة في هذا البلد، فإذا جهرت بتبديعه نفاكم أو أعدمكم أو أنزل بكم سوء العذاب.. إلى آخره، حينئذ لا تتكلم عليه، ولا تنبه علناً على سوء بدعته، وحصل مقصودك من جانب آخر. إذاً الهجر الذي قد يحرم هو الهجر الذي يترتب عليه ضرر جسيم أو ضرر على غالب الظن يكون أعظم بكثير من المصلحة اللازمة للتحذير من بدعة هذا المبتدع. ...
الهجر القلبي
لكن أدلك على نوع من الهجر لا يكون فيه ذلك الضرر، وتحصَّل مقصود الشارع بالهجر، وهو هجر القلب، فلا تتولاه، ولا تنبسط له، ولا تعنه على شيء واعتزله، فهذا الهجر لا يكلفك شيئاً، ويكون واجباً، ولو أننا هجرنا أهل البدع هجراً قلبياً وكذلك أهل المعاصي لقلَّ العصاة وقلَّ المبتدعة وذلوا. ونحن بكل أسف لا نهجرهم هجر القلب، مع أنه لا خطورة من هجر القلب، وإبراهيم عليه السلام هجر قومه وهو يمشي بين ظهرانيهم قال: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ [الممتحنة:4] فتبرأ منهم وهو بين ظهرانيهم، وليس بالضرورة أن تخرج منهم، وإن خرجت فنعمَّا فعلت، ولكن إن لم تستطع أن تخرج يبقى هجر القلب، الذي هو الولاء والبراء، فتتولى المؤمنين وتتبرأ من الفاجرين الكافرين المبتدعين الظالمين. ...
الإشارة والهجر ...
الصحابة رضوان الله عليهم عندما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكلام مع كعب وصاحبيه انتهوا جميعاً، فإن قال قائل: في نفس حديث كعب بن مالك ، لما جاء نبطي من أهل الشام يقول: (أين كعب بن مالك ؟ قال: فطفقوا يشيرون إليَّ) والإشارة هنا بمنزلة الكلام، فكيف ساغ لهم أن يشيروا إليه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم؟! فيقال: نعم إن الإشارة بمنزلة الكلام لكنها ليست كلاماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخالة بمنزلة الأم) فهل يستوي عقوقك لأمك مع عقوقك لخالتك؟ لا يستويان. وأنا أريد أن أجلي هذه الشبهة؛ لأنه قد يخطر ببال إنسان أن يقول: إذا كانت الإشارة بمنزلة الكلام، فكيف أشاروا إليه؟ وقد تقول: الإشارة يتحصل منها ما يتحصل من الكلام، وهو الإفهام، لأن المطلوب من الكلام هو الإفهام. فأقول: يوضح ما ذكرته أنها وإن كانت بمنزلة الكلام لكنها ليست كلاماً، أنك لو دخلت المسجد فوجدت رجلاً يصلي، فيستحب لك -إذا كانت هذه السنة معروفة في البلد، ولن تقابل بالإنكار- أن تسلم على المصلي، وتقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهو يرد السلام عليك إشارة بصفحة اليد. فهل يستويان؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان الصحابة يسلمون عليه بعد نزول قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] منع من الكلام في الصلاة، وكان يرفع يده ويشير إشارة، وقد كان الصحابة يتكلمون في الصلاة، قبل أن ينزل قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ومشهور حديث ابن مسعود عندما هاجر إلى الحبشة، وقبل أن يهاجر كانوا يتكلمون في الصلاة، فبعدما هاجر نزل قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] فلما رجع سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلم يرد عليه، قال ابن مسعود : (فركبني غم! فلما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته قال: يا ابن مسعود ! إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة)، فالكلام الممنوع هو الذي يكون بحرف وصوت، ولا يسمى كلاماً إلا إذا كان بحرف وصوت؛ لأنه قد يكون بصوت دون حرف، فكيف إذا لم يكن بحرف ولا بصوت الذي هو الإشارة؟! فلو كانت الإشارة كلاماً لبطلت صلاة الذي يشير في أثناء الصلاة إذاً: فالصحابة لما أشاروا على كعب بن مالك ، لم يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض أيضاً لقول أبي قتادة عندما قال لكعب : (الله ورسوله أعلم) حين نأتي على موضعه. الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أسرع الناس مبادرة إلى تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نهى عن كلام هؤلاء الثلاثة امتثل الكل ولم يخالف أحد، ولا يتصور أحدكم أن انتهاء الصحابة كان بسبب خوفهم أن ينزل وحي فقط، حاشاهم! أن يكون الوحي أحد الأسباب الحاملة لهم على أن يلتزموا بشدة، ولكنهم كانوا إذا سمعوا قول قول النبي صلى الله عليه وسلم يتبادرونه جميعاً.
كعب بن مالك وما لاقى في أيام هجره(1/231)
قال كعب بن مالك : (أما صاحباي وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي - فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، فكنت أمشي في الأسواق، وأخالط المسلمين، فلا يكلمني أحد) فلو قال لمسلم: السلام عليكم، فهل يجوز له أن يرد السلام، ورد السلام واجب؟ الجواب: لا. لأن كل حقوق كعب بن مالك سقطت بالهجر، فعلى المسلم الذي يهجر العاصي أو المبتدع أنه إذا سلَّم عليه أن لا يرد السلام عليه؛ لأن حقوق العاصي أو المبتدع تسقط حتى يفيء إلى الله تبارك وتعالى من العصيان أو البدعة، على الشروط التي ذكرناها قبل ذلك. قال: (فكنت أمشي في الأسواق، ولا يكلمني أحد، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين أتيت حائط أبي قتادة ؛ وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ، فتسورته -أي: تسلقته- فرأيته، فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام) فكعب يؤكد ذلك بالقسم؛ لأن الحادثة لم يشهدها أحد، فيقول: (فوالله ما رد عليَّ السلام) ؛ تأكيداً لالتزام أبي قتادة ، فلما لم يرد عليه السلام قال: (يا أبا قتادة ! ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت -فنشده الله تبارك وتعالى- أنشدك بالله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت، فرجع في الثالثة فنشده الله تبارك وتعالى فقال أبو قتادة : الله ورسوله أعلم) حسناً، هل هذا كلام؟ أم لا؟ نعم هذا كلام، هل خالف أبو قتادة ؟ الجواب: لا. متى يكون الكلام معتبراً في الشرع وعليه الإثم؟! وأنا لا أنازع الآن أنه من جهة اللغة والاصطلاح؛ ولكن هل هو الكلام الذي منع منه المسلمون؟ لا، فالكلام الذي منعوا منه هو أن يتم تبادل ما بين أبي قتادة وما بين كعب في الحديث وأبو قتادة لما قال: (الله ورسوله أعلم) لم يقصد الرد عليه، ولا التكلم معه، وإنما علَّق محبة كعب بن مالك على علم الله ورسوله، بالرغم من أن أبا قتادة قد يكون يعلم في قرارة نفسه ومن تصرفات كعب أنه محب لله ورسوله، ولكن بعد الموقف الذي حدث لا يدري ما يحكم الله تبارك وتعالى في شأن كعب ! لذلك لا يكون ذلك بمنزلة الكلام الذي نهي المسلمون عنه. قال كعب : (ففاضت عيناي -أي: بكى، عندما سمع هذا الجواب- وتوليت حتى تسورت الجدار). (قال: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام يقول: من يدلني على كعب بن مالك ؟ -النبطي هو الفلاح، وسمي نبطي؛ لأنه يستنبط الماء من باطن الأرض- قال: فطفق المسلمون يشيرون إليّ، فجاء بكتاب من ملك غسان -ملك غسان هو جبلة بن الأيهم - قال: ففتحته فإذا فيه، أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال كعب : فقلت: وهذا أيضاً من البلاء! فتيممت بها التنور فسجرته بها) وهذا يدل على صلابة إيمان كعب ، وأنه هو لما عرض عليه أن يكفر بالله ورسوله نظير أن يتوج مرة أخرى في الدنيا أبى. حسناً: ما رأيك أنه يوجد الآن من ينتسبون إلى الإسلام يكفرون بغير عرض؟! أي: يكفر ويترك دينه ولم يحصل شيئاً من الدنيا يساوي عند أهل الدنيا ما فقده هذا الإنسان! كمن يذهبون إلى بلاد الكفر ويقدمون الخمور ولحم الخنزير في المطاعم بدعوى أنهم محتاجون إلى المال، مع أن العمل موجود هنا، ولكنه يأنف أن يعملها في بلده، ثم يعملها خارج بلده، ولو ذهب الرجل ليعمل عملاً مباحاً خارج بلده فلن نحول بينه وبين المباح، ولكن أن يقدم دينه قرباناً من أجل أن يحصل على المال، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم المثل لذلك، نحن نقول: (من أراد البحر استقل السواقي)، فانظر إلى الصحابة وإلى جلدهم وصبرهم في ذات الله تبارك وتعالى، وتركهم لحظوظ أنفسهم. فكانت هذه النقطة المشرفة في حياة كعب ، فهو لما عرض عليه الكفر أبى وصبر في ذات الله تبارك وتعالى، وقال: (هذا أيضاً من البلاء)، ثم إنه لم يمزق الرسالة، وكان تمزيقها يكفي، لكنه أحرقها: (فتيممت بها التنور فسجرته بها). :(حتى إذا مرت أربعون ليلة).. وقبل أن أصل لهذه النقطة قال كعب : (وكنت أدخل المسجد فأصلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكنت أُسارقه النظر) أي: وهو يصلي والرسول صلى الله عليه وسلم جالس فينظر إليه بطرف عينه نظرة خفيفة. يقول كعب : (فكنت إذا نظرت إليه أعرض عني، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ) ، لاحظ رأفة الرسول عليه الصلاة والسلام وشفقته بكعب . بعض الناس فهم خطأً من قول كعب : (أسارقه النظر) وأن كعباً التفت في الصلاة، فأقول: ليس معنى مسارقة النظر أنك تلتفت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الالتفات في الصلاة، وقال: (إن الله تبارك وتعالى ينصب وجهه في وجه العبد، فإذا التفت العبد التفت الله عنه، وإذا أقبل على الله تبارك وتعالى أقبل الله عليه) ومعنى مسارقة النظر أي: خطف النظر، ليس معناها أنه يلتفت فهذا لا يقتضي. قال: (حتى إذا مرت أربعون ليلة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ أن اعتزل امرأتك، قلت: أطلِّقها؟) فهل فهم كعب أن كلمة (اعتزل) تعني أنه يطلق؟ لا، ليس بالضرورة أن كلمة اعتزل تعني ذلك، فكيف فهم كعب منها الطلاق؟ لأنها كانت قديماً تعتبر طلاقاً، ولذلك في حديث ابن عباس في الصحيحين، وفي أوله: (حججت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما قضى حاجته أتيته بماء فتوضأ، فقلت له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] ) ... الحديث) فيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب النزول على الرسول صلى الله عليه وسلم هو وجار له من الأنصار، فإذا نزل عمر بن الخطاب يأتي صاحبه بخبر الوحي وغيره، وإذا نزل صاحبه فعل مثل ذلك. ففي يوم من الأيام كان الدور على الأنصاري، فجاء الأنصاري إلى بيت عمر عشاءً وطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: (أثم هو؟ -أي: أهو موجود؟- قال عمر : فخرجت إليه فزعاً، قلت: أجاء غسان)؟ وملك غسان كان يريد أن يغزو المدينة، فالصحابة كانوا مستعدين للدفاع عن المدينة، فالطرق الشديد هذا معناه أن مصيبة كبيرة حدثت، فقال له: (أجاء غسان؟ قال: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه) والرسول عليه الصلاة والسلام لم يطلق، بل اعتزل فقط، ودخل في المشربة واعتزلهن تسعة وعشرين يوماً، فكلمة (اعتزل) كانت تعتبر طلاقاً في عرفهم، ككلمة: (الحقي بأهلك) فتبادر إلى كعب أن الاعتزال يساوي الطلاق، لذلك قال: (أفأطلقها؟) ولو قيل له: نعم لطلقها، ولما تردد لحظة في طلاقها. قال له: (لا، ولكن لا تقربها) . ......
هلال بن أمية واستئذان امرأته النبي صلى الله عليه وسلم في خدمته
وقد جاءت امرأة هلال بن أمية -وهلال رجل عجوز شيخ كبير- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله ! إن هلالاً شيخ ضائع -ضائع أي: وهى عظمه- فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم، ولكن لا يقربك، قالت: والله يا رسول الله! ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا) . هنا يظهر أنموذج المرأة الصالحة، تقول: (هل تأذن لي أن أخدمه)؛ لأن العشرة الطويلة التي كانت بين هذا الرجل وهذه المرأة لا بد أن يكون لها رصيد، وقصص الغدر التي تحدث الآن بين الناس، عندما تقابلها بقصص الوفاء التي كانت في جيل الصحابة تندهش! ولكن يزول عجبك إذا عرفت الفرق. فالمرأة لما كانت تذل لزوجها وتصبر على الإهانة، كانت محتسبة، وتعلم أنها تؤجر، وأنا أرجو أن نقف قليلاً .. عند هذه المسألة لنبصِّر إخواننا وأخواتنا المتزوجين، حتى يقفوا عند حدود الشرع، فما يحدث الآن بين كثير من المسلمين والمسلمات في بيوتهم يدل على أن هؤلاء لا يعرفون شيئاً من الشرع يقفون عند حدوده، وليس المقصود جهل النص بل إنهم يعرفون النص لكنهم ليسوا وقافين عند حدوده. فامرأة هلال بن أمية عندما قالت هذا دل على أنها وفية مع زوجها مع أن هناك قصة ولا أدري هل هي المرأة المقصودة بها، أم لا؟ فإن كانت هي المقصودة بها يكون تم الذي أريد. وهي: أن هلال بن أمية الواقفي رضي الله عنه جاء مرة وقال: (يا رسول الله! رأيت رجلاً مع امرأتي، فقال: يا هلال ! أربعة شهود وإلا حد في ظهرك)، وذلك قبل أن تنزل آيات الملاعنة بين الرجل والمرأة .. وهلال ليس عنده أربعة شهود، وإنما رأى ذلك فأتى فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: (أربعة شهود أو حد في ظهرك، فلما سمع سعد بن عبادة هذا قال: أدعه معها وألتمس أربعة شهداء، والله لا أعطيه إلا السيف غير مصفِح، فقال عليه الصلاة والسلام: انظروا ما يقول سيدكم)؛ فنزلت الآيات في الملاعنة، فلو ثبت أن هذه المرأة ظلت مع هلال بن أمية الواقفي، رغم الذي حدث فانظر إلى وفائها، فكيف إذا كانت المرأة عفيفة طاهرة تحفظ زوجها، لكن يدركها ما يدرك بنات آدم من الاعوجاج والنشوز، قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء جميعاً: (يا معشر النساء! تصدّقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن، فقالت امرأة: نكفر بالله؟ قال: لا، تكفرن العشير والإحسان -العشير: أي الزوج- ولو أحسن الرجل إلى إحداكن الدهر، ثم رأت منه شيئاً لقالت: ما رأيت منك خيراً قط) فالمرأة هكذا، في لحظات الغضب تنسى الإحسان كله، فإذا كنت تعرف أن هذا من الاعوجاج الذي جبلت عليه بنات آدم فأحسن إلى المرأة لأنها خلقت من ضلع أعوج، وأعوج ما في الضلع أعلاه، فأنت إذا علمت هذه الحقيقة واحتسبت ما يحدث من المرأة من نشوز فإن ذلك لن يضيع عند الله تبارك وتعالى، فالمرأة كذلك يجب أن تتقي الله في زوجها. الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهن: (لعل إحداكن تطول أيمتها في بيت أبيها، فإذا رزقها الله بزوج صالح يتقي الله فيه) أي: يطول انتظارها للزوج الصالح في بيت أبيها، فإذا رزقها الله الزوج الصالح بعد ذلك تبدأ تنشز عليه وتعصه. فامرأة هلال بن أمية الواقفي أرادت أن تخدم زوجها ولا تعتزله وتتركه، فاشترط عليها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يقربها، فقالت: (والله ما به من حاجة إلى شيء) فهو يبكي أربعين يوماً لغضب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخشى أن يحبط عمله. قال: (فقال لي بعض من أهلي: ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه أيضاً) لاحظ الذين لا يتركون الناس في حالهم، فعندما قال الصدق ظلوا وراءه حتى قال: (هممت أن أرجع فأكذب نفسي)، وهم نفس الجماعة الذين قالوا له: (ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك أيضاً). مداخلة: ألا يكون هلال بن أمية من المعذورين لكبر سنه؟ الجواب: لا؛ لأن الجهاد كان فرض عين ولا يعذر من يتخلف عن الجهاد إلا من لا يستطيع أن يجاهد، وليس بالضرورة أن كل المجاهدين يقاتلون لا، فقد يكون في الساقة، يسقي ويخدم ويداوي الجريح، والمهم أنه لم يكن به مرض أو علة تمنعه من الخروج والنفير في سبيل الله عز وجل، لذلك لم يكن ممن عذر الله، وإلا لو كان ممن عذر الله لما حصل له ما حصل، وسياق الحديث يدل على أنه خرج من هؤلاء الذين عذرهم الله تبارك وتعالى. مداخلة: هل معنى ذلك أنه كان مريضاً؟ الجواب: لا، ونحن ما نقول إنه مريض وعندما قالت امرأته: (شيخ ضائع) فلا تعني أنه مريض، لا، ومعنى ضائع: رجل كبير، وقد يكون الرجل كبير السن ولكنه صحيح، فقال كعب لما قيل له: (ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه؟ فقال والله لا أستأذنه، وماذا أقول له وأنا رجل شاب) يعني: لا يملك إربه كما يملك الشيخ الكبير إربه، قال كعب : (فمرت علينا خمسون ليلة، وبينا أنا أصلي على ظهر بيت من بيوتنا) واستدل بهذا بعض الناس على عدم وجوب صلاة الجماعة، بدليل: أن كعب بن مالك لم يشهد الجماعة في المسجد، وكان يصلي على ظهر بيته، ولا حجة لهم في هذا، والمسألة أمرها يطول. ......
كعب وفرحته بتوبة الله عليه ... ...
قال: (فبينا أنا أصلي الفجر على ظهر بيت من بيوتنا؛ إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته) أوفى أي: اقترب من جبل سلع، (يا كعب بن مالك ! أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعلمت أنه جاء فرج) في هذا دليل على مشروعية سجود الشكر، وأن الإنسان إذا جاءه خبر سار، أو رأى ما يسره أن يخر ساجداً لله تبارك وتعالى، وهذا الموضع دليل على هذا الحكم. وأيضاً في واقعة أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قتل ذا الثدية ، فلما قتل قال علي بن أبي طالب : (التمسوه فوالله ما كذبت ولا كُذِّبت، فالتمسوه فوجدوه مقتولاً بين القتلى، فخر ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى). قال: (فعلمت أنه جاء فرج) وفي بعض الروايات الأخرى قال: (فأرسلت لي أم سلمة من يهنئني، وكانت بي بارة) أي: أن أم سلمة كانت تبر كعب بن مالك ، فأول ما عرفت بنزول الوحي أرسلت رجلاً إلى كعب بن مالك يبشره، ولكن هذا الصارخ على جبل سلع كان أول من وصل إلى كعب ، وفي هذا دليل على استحباب المبادرة والمسارعة إلى تبشير المسلم .. فهذا يدل على الحب، كوننا نتسابق أن نبشره، هذا يدل على أن هناك نوعاً من المحبة والمودة بيننا. (قال: فجاءني الرجل، وكان الصوت أسرع من الفرس) فهذا الرجل لشدة فرحته صوته كان أسرع من الفرس، وهذا يدل على مدى شفقة المسلمين وحبهم لبعضهم، كما قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] أي: لا يتتبعون عثرات بعض، ويعذروا بعضهم، ويلتمسون لإخوانهم العذر، كما قال الحسن البصري رحمه الله: (إذا جاءك عن أخيك ما تكرهه فقل: له عذر) جزماً وقطعاً معه عذر، (فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً) وأجل محاكمة أخيك إلى أن تلتقي به، ولكن مجرد أن تلقاه لا تتهمه أيضاً، ولا تبادر بالاتهام، لكن قل: بلغني عنك كذا وكذا.. وأنا استبعدته، فهل ذلك صحيح؟ فقد يقول لك: نعم هذا صحيح، وأنا تورطت فسامحني، أو يقول لك: أنا لم أقل. المهم أنه سيجلِّي لك الأمر .. فأنت بعد أن يحصل عندك نوع من المواجهة بينك وبينه تقيِّم خطأه، وتقول بينك وبين نفسك: كلامه مقنع أو غير مقنع، ثم تبدأ تقيِّم جرمه، ولكن أذكرك دائماً بقول من قال من سلفنا: (إن من النبل أن يكون عفوك أوسع من ذنب أخيك)، وهذا النبل إنما يحرزه كرام الناس، يقول: الشاعر: والعذر عند كرام الناس مقبول. سوء الظن تكسب به سيئات، وحسن الظن تكسب به حسنات، وسوء الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، وحسن الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، فإن أسأت الظن فكان في محله لم يكن لك ولا عليك، فإن لم يكن في محله أثمت، حسن الظن إن كان في محله أُجرت، وإن لم يكن في محله ازددت أجراً، فسوء الظن يدور ما بين عدم الأجر والإثم، وحسن الظن يدور ما بين الأجر وزيادته، فتعبّد الله بحسن ظنك بأخيك؛ لأن هذا نابع من المحبة الصادقة، وأولى الناس أن تجد له عذراً أخوك الذي تحبه ويحبك، وقد كان بين الصحابة قصص كثيرة جداً في هذا الباب، بعضها يستجلب دمعك ولو لم يكن في محجريك قطرة من الدمع، للصورة الباهرة التي كانت بين الصحابة رضوان الله عليهم. قال كعب : (فجاءني الرجل فهنأني، فخلعت عليه ثوبيَّ، والله ما أملك غيرهما يومئذ) وفي هذا دليل على استحباب إعطاء البشير، عندما يأتي يبشرك ببشرى شيئاً لهذه البشرى، وكعب بن مالك أعطاه كل ما يملك من الثياب آنذاك، وكانوا يلبسون إزاراً ورداءً، وهذا معنى ثوبيه، وليس معناه أنه خلع الذي عليه ودخل وأحضر الذي في الداخل، لا، فالصحابة كانوا فقراء، وكان الواحد منهم يلبس إزاراً وقد لا يكون عنده رداء، قال: (واستعرت ثوبين) . وهذا يدل على أنه ليس في البيت أي ثياب أخرى....... ...
النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بتوبة كعب ...
قال كعب : (ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حوله، فقال لي: وهو يبرق وجهه من السرور) هنا أيضاً يلتحق بنفس المعنى الأول، وكعب عبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بتعبيرين، قال: (يبرق وجهه من السرور) فشعر كعب أنه مسرورٌ له أكثر منه، فازداد له حباً، وفي الوصف الثاني في نفس الحديث قال كعب : (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر) وهذا شيء يُحسد عليه الصحابة كونهم عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه بالأعين، وفي الأدب المفرد قال رجل للمقداد بن الأسود : (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأحد الصحابة -وأظنه جابر بن سمرة - قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان) أي: القمر كان بدراً ليلة أربعة عشر أو خمسة عشر من الليالي القمرية قال: (فجعلت أنظر إلى البدر تارة وإلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم تارة، والله! لكان في عيني أجمل من البدر) المحب هكذا يرى كل شيء فيمن يحب جميلاً، ولا يرى في المحبوب سيئة أبداً. جاء رجل إلى الحسن البصري وكلمه بكلام لم يتوقعه الحسن ، كأنه طعن في الحسن -الحسن كلامه يشبه كلام الأنبياء، ويقال في بعض الأخبار: أنه رضع من أم سلمة رضي الله عنها- فعاتب الناس الرجل، فقال الحسن (لله دره إنه أحسن إليَّ إذ لم يذكر أكثر من ذلك). فقال له: أنت لم تقل شيئاً، والذي تركت ذكره تفضلاً أعظم من الذي ذكرته، فأرجع المسألة إلى إحسان، لذلك إذا أردت أن تأسر إنساناً أحسن إليه، ولا تبادله السيئة بالسيئة أبداً، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]. قال كعب : (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله، أم من عندك؟ قال: بل من عند الله)، وقد يستشكل هنا ويقال ما الفرق؟ وهل الرسول عليه الصلاة والسلام يأتي بشيءٍ من عنده؟ وهو لا ينطق عن الهوى، فما الداعي للسؤال؟ ولماذا فرّق؟ قبل أن أجيب أذكر واقعة شبيهة بهذا ففي حادثة الإفك لما تكلم المرجفون في المدينة على عائشة رضي الله عنها واتهموها أنها أتت الفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي ، وخاضوا في عرضها، والنبي عليه الصلاة والسلام جفاها قليلاً، وهي كانت مستشعرة بجفاء الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنها لا تدري ما السبب، بالذات وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يزداد حنانه لها عندما تكون مريضة، فهي مرضت في حادثة الإفك، والناس كلهم يعرفون الخبر وهي لا تعرف شيئاً، حتى علمت عائشة رضي الله عنها بعد مضي فترة من الزمن من أم مسطح ، قالت: (فازددت مرضاً على مرضي) وبعد أن علمت فهمت لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن بذاك كما عهدته، فكان يدخل عليها وأمها عندها وأبوها أبو بكر الصديق عندها ويسلم ويقول: (كيف تيكم؟) تيكم: اسم إشارة، أي كيف حال هذه؟ وعائشة لم تعتد على هذا الكلام، وقبل أن تنزل براءتها مباشرة جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إليها وهذه أول مرة يجلس عندها من حين خاض الناس في حديث الإفك، جلس على طرف السرير وأبو بكر جالس وأم رومان أمها زوجة أبي بكر الصديق جالسة، فتشهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: (أما بعد -وأما بعد هذه فصل الخطاب كما يقال- يا عائشة ! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه) ما معنى هذه الكلمة؟ فيها كأنه اتهام ضمني لعائشة أنها فعلت الذنب، لما يقول لها: (يا عائشة ! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري) بمجرد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال هذه الكلمة، قالت: (فقلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة -جفت الدموع تماماً- ثم قالت: وكنت جارية لا أقرأ كثيراً من القرآن -لا تحفظ كثيراً- والله لو قلت لكم: إني فعلت والله يعلم أني ما فعلت لتصدقنني، ولو قلت لكم: إنني ما فعلت والله يعلم أنني ما فعلت لا تصدقونني، والله ما أجد لي معكم مثلاً إلا قول أبي يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، قالت عائشة : وتاه عني اسم يعقوب -من الحزن، ولم أستطع استحضاره، قالت: ثم تحوّلت فنزلت البراءة من السماء مباشرة -فأم رومان أول ما نزلت البراءة ذهبت إلى عائشة وقالت لها: قومي إليه فاحمديه) وفي بعض الروايات قالت: (يا رسول الله! أمنك، أم من الله؟ قال: بل من الله -نفس كلام كعب - فقامت أم رومان فقالت لها: قومي إليه فاحمديه، قالت: والله لا أحمده ولا أحمد إلا الله عز وجل ..) إلى آخر الحديث، وهو حديث طويل وجيد. فهنا كعب بن مالك يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (أمن الله، أم من عندك؟) مع أنه يستوي عند كعب وعند غير كعب أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو القائل حتى يكون من عند الله، لقوله تبارك وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا [النجم:3-4] إن: نافية إِنْ هُوَ إِلَّا [النجم:4] أي: ما هو إلا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] ، فالصحابي حين يقول هذا فهو نوع من تأكيد القول وليس للشك أو التفريق، ونوع من تأكيد البشارة، ولو قال النبي عليه الصلاة والسلام له: أبشر وعفا عنه، لعلم كعب بن مالك أنه معفو عنه، فما كانوا يرتابون في ذلك، ولكن إذا قال: مني مثلاً، فقد يردفه كعب بسؤالٍ آخر، وهل الله راض؟ إذاً فهو لما قال: (أمن عند الله أم من عندك؟) ليس شكاً أبداً، إنما يقصد لكي يستقر قلبه تماماً، ويعلم أن الله تبارك وتعالى راضٍ عنه. فلما سمع كعب بن مالك هذا (قال: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله) انظر الاستعداد الموجود عند الصحابة، فهو يريد أن ينخلع من ماله كله، شكراً لله تبارك وتعالى؛ لأنه تفضل عليه بالتوبة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك) يوضح هذا قوله عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص : (إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . والحديث فيه فوائد أخرى، لكن الوقت ذهب. فنسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم، وأن يوفقنا إلى العمل بما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ...
حكم التهنئة وفضل المبادرة إليها ... ...(1/232)
الثالثة قوله: (فقام إلي فصافحني وهنأني) كلمة (وهنأني) دليل على مشروعية التهنئة بما يسر المسلم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، ولهم في ذلك آثار معروفة ذكرها السيوطي في رسالة له لطيفة اسمها (بلوغ الأماني بوصول التهاني)، ذكر فيها الآثار التي فيها صحيح وضعيف -ولا أصل له عن الصحابة رضي الله عنهم- يوم كانوا يهنئون بعضهم في الأعياد وفي المناسبات التي تسر المسلم. مداخلة: هل هناك صيغة معينة للتهنئة؟ الشيخ: ليس هناك صيغة معينة في التهنئة، بل ما تعارف عليه أهل البلد، إلا أن يكون هناك في الكلمة معنى غير مشروع، وفي هذه المسألة تذكرت سؤالاً وجه لبعض علمائنا في الحجاز، فقد سئل شيخنا هذا: هل يجوز أن يقول الرجل لأخيه عندما يذهب لتعزيته: البقية في حياتك؟ قال: نعم، لا أرى من ذلك مانعاً. ويبدو أن الشيخ لم يتصور المعنى، فمعنى البقية في حياتك، ماذا؟ أي: أنه مات ناقص العمر، فالذي ذهب من عمره ينضم إلى عمرك إن شاء الله. هذا معناها أي: هو يسأل الله تبارك وتعالى أن يضم إلى عمر هذا الإنسان ما فات من عمر الميت، وهذا معنى لا يجوز وهو مضاد لصريح الكتاب والسنة، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. مداخلة: هل يجوز تهنئة غير المسلم في العيد؟ الشيخ: لا، لا يجوز تهنئة غير المسلم في العيد، ولا يجوز تعزية غير المسلم في الحزن. قال: (ولست أنساها لطلحة) وهذا يدل على أن القلوب جبلت على حب الإحسان، وكون كعب بن مالك يحمل هذا الجميل لطلحة بن عبيد الله ، يدلك على أن المسارعة في التهنئة تحفر في القلب أثراً، والله تبارك وتعالى يقول: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] إشارة إلى أن الإحسان يأسر العبد الذي حسنت إليه، ولذلك قال من قال: (ليس هناك حِملٌ أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك)، كلام كالذهب. (ليس هناك حملٌ أثقل من البر) .. فالإنسان عندما يكون فضل له عليك فأحياناً يخطئ عليك وأنت تقول: لولا أنه عمل معي كذا وكذا لكنت رددت عليه، فلذلك أنت تحفظ الجميل، فلا تستطيع أن ترد عليه؛ لأن الرجل أسرك بالجميل، وهذا شيء فطر عليه الإنسان. ففي حديث المسور بن مخرمة .. الحديث الطويل في صلح الحديبية الذي أخرجه الشيخان: أن عروة بن مسعود الثقفي وكان كافراً فذهب إلى قريش وقال لهم: دعوني آت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأعرض عليه ما تقولون، فجاء عروة بن مسعود الثقفي والصحابة حول النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد ! إنها واحدة من اثنتين، إما أن تغلبهم -أي: إذا دخلت في حرب بينك وبين قريش وغلبتهم- فهل سمعت رجلاً اجتاح قومه قبلك -يعني أسمعت أن أحداً فعل في قومه ذلك؟- وإن كانت الأخرى -أي: أنهم يغلبوك- فوالله ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك). فعندما قال هذه الكلمة: (سمع من يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص ببظر اللات) فهذه كلمة شديدة جداً، فعاب آلهتهم أنها أنثى، ثم طعن في موضع العورة أيضاً، فقال عروة بن مسعود : (من هذا الذي يتكلم؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنه ابن أبي قحافة) يعني: أبا بكر الصديق ، واسمه عبد الله بن أبي قحافة ، فقال له عروة بن مسعود لأبي بكر : (لولا أن لك عليَّ يد لأجبتك) فهذا يدل على أن كل الناس مسلمهم وكافرهم فطروا على محبة الإحسان، حتى الكلاب، كما قال الشاعر: يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنَّت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً نبحت عليه وكشرت أنيابها فالكلب إذا رأى المحسن إليه تراه يهز ذيله، وهذا شيء كما قلت يفطر عليه المخلوق. (من برك فقد أوثقك) طالما أنه دائماً يحسن إليك، ولم يصلك منه إساءة (ومن جفاك فقد أطلقك)، أي: لو أن شخصاً يشتمك دائماً، فافعل فيه ما تريد، فلن يلومك أحد، لماذا؟ لأنه ليس له عليك يد. فلذلك التهنئة في الأعياد، والتعزية في الأحزان، مهمة جداً، ولها وقع السحر في النفس، فالشخص عندما يرى أنك مسرور له أكثر منه لا ينساها لك، وحين يرى أنك حزين أكثر منه أيضاً لا ينساها لك، لذلك لما قام طلحة مسروراً وصافح كعب بن مالك قال كعب : (لست أنساها لطلحة ). ... ...
حكم المصافحة والمعانقة ...
المسألة الثانية: المصافحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا التقى المسلمان فتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر) فالمصافحة لها فضيلة، وأول من أتى بالمصافحة هم الأشعريون وهم أبو موسى الأشعري وقومه الذين جاءوا من اليمن. ولكن العناق لا يشرع، هذا الذي كنت سأتكلم عليه والحقيقة هذا البحث قد تكلمت عليه كثيراً، أن الذي يشرع إذا التقيت بأخيك أن تصافحه فقط، إنما الضم بالأحضان والحاجات هذه كل هذا لا يكون إلا في موضع سنذكره. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: (إذا لقي المسلم أخاه أيقبله؟ قال: لا، أيلتزمه؟ قال: لا، أينحني له؟ قال: لا، أيصافحه؟ قال: نعم) ، فلمّا يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيلتزمه؟ ويقول: لا)، فكيف بالمسلم بعد هذا أن يخالف فمن يقابله يأخذه بالأحضان والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك!!.. ولكن إذا قابلت أخاك بعد سفر يمكن لك أن تلتزمه، وقد ورد في ذلك قصة رواها الإمام البخاري في صحيحه معلقة، لكنه وصلها في الأدب المفرد، وهي في مسند الإمام أحمد وغيره أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (بلغني أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي، قال: فابتعت بعيراً -اشترى جملاً- وركبته شهراً) حتى دخل البلد ووصل إلى بيت هذا الصحابي، وهذا الصحابي هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه. قال: (فلما ذهبت إلى داره خرج لي الخادم، قلت: عبد الله بن أنيس -في البيت- قال: من أنت؟) وفي بعض الروايات: قال: (فدخل ثم خرج، قال له: من أنت؟ قال: فقلت له: جابر ، فقال: ابن عبد الله ؟) وقد افترقوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمصار يعلمون الناس العلم والقرآن، (قال: فخرج إليَّ فالتزمني واعتنقني، قال: ما جاء بك؟ ..) ثم ذكر بقية الحديث .. إذاً: يشرع للإنسان إذا قابل أخاه بعد سفر أنه يأخذه ويلتزمه، وإذا لم يكن هناك سفر ولا غياب طويل فالأصل أن المسلم إذا قابل أخاه يصافحه فقط. فلذلك اقتصر طلحة بن عبيد الله على المصافحة، مع أن الموضع هذا من المواضع التي يحصل فيها العناق، بمفهومنا نحن، فهذا رجل تاب الله عليه. والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) أي: أفضل حتى من يوم الإسلام، فهذا إذا كانت المسألة بالعقل والاستحسان لكان أولى المواضع أنه يقبله. مداخلة: هل الالتزام يختص بالرجل والمرأة سواء؟ الجواب: نعم، الأحكام الشرعية يستوي فيها الكل، يعني: فإذا ذكرنا حكماً شرعياً فيستوي فيه الكل، يعني والأصل في أحكام الشرع كذلك، إلا أن يقوم دليل يبين أن النساء لهن كذا والرجال لهم كذا، أما إذا لم يكن هناك دليل فالأصل أن الحكم يشمل كل مسلم، وكلمة (مسلم) اسم جنس، أي: يدخل تحته مسلمة أيضاً. ... ...
حكم القيام للداخل ... ...
(قال: وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس أفواجاً أفواجاً يهنئونني بتوبة الله عليَّ، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله فصافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولست أنساها لطلحة) ثلاث مسائل في قوله: (فقام إلي طلحة فصافحني وهنأني): الأولى: قوله (فقام إليَّ) فهل يشرع القيام للداخل؟ القيام للداخل منه ما هو مشروع ومنه ما هو محرم، فالمحرم هو الذي يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً ..)، وفي الرواية الأخرى: (من سرّه أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالرسول عليه الصلاة والسلام علّق عقاب هذا الرجل على محبته وسروره لقيام القادم له وهذا الحكم فيه مشكل؛ لأن المحبة والسرور مسألة قلبية، فمن أين لي أن أعلم أن هذا الإنسان يحب أو يسر بذلك؟ فهذا الحب والسرور محجوبٌ عني، وإذا علِّق الحكم بمثل هذا لا تستطيع أن تصل فيه إلى نتيجة. فيقال: الجواب عن ذلك: أن الشارع إذا علّق العقوبة على أمرٍ قلبي، فمثل هذا ينصب عليه قرينة في الخارج تدلل على ذلك الذي حُجب في القلب، فأنت حينئذٍ تبني الحكم على القرينة التي في الخارج، وليس على قلب هذا الإنسان، والتفصيل الذي يوضح ذلك: (من سرّه ..) فلو أن شخصاً دخل وأنت لم تقم له فغضب .. فغضبه هذا ظاهر أم خفي؟ ظاهر .. فهذه هي القرينة التي بينت، وهذا الرجل لو كان القيام وعدمه يستوي عنده، أكان يغضب إذا لم تقم؟ لا، إذاً غضب هذا الإنسان لأنني لم أقم دلني على أنه ممن يحب أن يتمثل الناس له قياماً، فإذا نُصِب غضبه كقرينة خارجية حينئذ أستطيع أن أحكم عليه بهذا الذي ظهر منه على ما بطن من أمره، لذلك نحن ننصح إخواننا من المدرسين أن يمنعوا التلاميذ من القيام لهم إذا دخلوا الفصول، فهذه عادة جاهلية ليس فيها أي احترام، فالذي يقول: إن قيام التلميذ هذا دليل الاحترام ليس عنده فقه عن الشرع، ولا وسائل الاحترام، فالاحترام ما كان يوماً في القيام، ولما يعاقب الأستاذ التلميذ الذي لم يقم؛ فهذا ممن ينطبق عليهم الحديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فلولا أن جلوس هذا التلميذ ساء هذا الأستاذ لم يعاقبه، وفي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، وصححه الإمام الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إلى الصحابة رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له، لما كانوا يعرفونه من الكراهة في وجهه). بعض الناس احتج بالحديث الذي في الصحيح: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ويرويه بعضهم بالمعنى رواية ليس لها أصل: (قوموا لسيدكم). ويستدل على جواز القيام!! فنقول: إن هذه الرواية لا أصل لها لا في الصحيح ولا في غير الصحيح، إنما الرواية الصحيحة: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه). وهذا الحديث له قصة، وهي: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه جُرح في غزوة الأحزاب وكان جرحه ينزف دماً، فحملوه على الناقة، فلما وصلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال للأوس: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) ؛ لأنه لا يستطيع النزول، فقد أصيب في أكحله، فهم يعينونه على النزول، إذاً الحديث ليس فيه دليل على جواز القيام، وقد يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قام لزيد بن حارثة كما عند الترمذي وحسّنه: (أن زيد بن حارثة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقام إليه يجر إزاره) نقول: إن القيام للداخل القادم من سفرٍ يشرع، وقد يكون القيام أيضاً لحالة أخرى، وهو أن تستقبل ضيفك فتجلسه، كما صح أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها فأجلسها مكانه). إذاً: القيام المنهي عنه هو القيام على سبيل الإعظام والتكريم، ومما أذكره في هذا المقام ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة الإمام العلم المفرد علي بن الجعد ، قال علي أرسل المأمون إلى تجار الجوهر في بغداد) المأمون هو أمير المؤمنين ويريد أن يشتري ذهباً، بمعنى أنه لن يشتري له شيئاً هيناً، (فأرسل للتجار وناظرهم) أي: على السعر، وبعد أن ناظرهم قام وقضى حاجته، ورجع فدخل المجلس فقاموا جميعاً إلا علي بن الجعد -و علي بن الجعد إمام كبير من تلاميذ شعبة بن الحجاج ، ومن مشايخ البخاري وغيره- لم يقم؛ لأنه من أهل العلم، ويعرف أن القيام لا يجوز، فلما قاموا جميعاً وهو لم يقم، غضب المأمون وناداه .. فقال: ما حمل الشيخ على ألا يقوم كما قام الناس؟ قال: أجللت أمير المؤمنين لحديث عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: حدثني المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن -أي: البصري - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) قال: فأطرق المأمون ساعة في الأرض ثم قال: ما ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ .. قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار، فصدق في علي بن الجعد قول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. فتعظيمك لأمر النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لك الهيبة في قلب مخالفك فضلاً عن موافقك، فلا تتصور أنك إذا عظّمت الله ورسوله أنك تُحتقر، أبداً والله، فالمخالف يعظِّمك، ولكنه لا يظهر هذا التعظيم، لماذا؟ لأنه يريد أن يعاندك نكاية فيك، الذي يقول الحق له وعليه يجعل الله تبارك وتعالى له من المهابة في قلوب الناس ما لا يجعله للذي يرضي الناس بسخط الله.
ــــــــــــــ(1/233)
الصدق
(الشبكة الإسلامية)
مما لاشك فيه أن أعظم زينة يتزين بها المرء في حياته بعد الإيمان هي زينة الصدق، فالصدق أساس الإيمان كما إن الكذب أساس النفاق ،فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر.
الصدق في الظاهر والباطن :
الصدق بمعناه الضيق مطابقة منطوق اللسان للحقيقة ، وبمعناه الأعم مطابقة الظاهر للباطن ، فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه ، ولذلك ذُكر المنافق في الصورة المقابلة للصادق ، قال تعالى : (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِين..َ)الآية (الأحزاب/24) .
لا صدق إلا بإخلاص :
والصدق التزام بالعهد ، كقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)(الأحزاب/23) ، والصدق نفسه بجميع معانيه يحتاج إلى إخلاص لله عز وجل ، وعمل بميثاق الله في عنق كل مسلم ، قال تعالى : (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ )(الأحزاب/7 ، 8) ، فإذا كان أهل الصدق سيُسألون ، فيكف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب والنفاق ؟
والصدق من الأخلاق الأساسية التي يتفرع عنها غيرها ، يقول الحارث المحاسبي : " واعلم - رحمك الله - أن الصدق والإخلاص : أصل كل حال ، فمن الصدق يتشعب الصبر ، والقناعة ، والزهد ، والرضا ، والأنس ، وعن الإخلاص يتشعب اليقين ، والخوف ، والمحبة ، والإجلال والحياء ، والتعظيم ، فالصدق في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به : صدق القلب بالإيمان تحقيقًا ، وصدق النية في الأعمال ، وصدق اللفظ في الكلام " .
الصدق مرتبط بالإيمان :
ولما للصدق من رابطة قوية بالإيمان ، فقد جوّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقع من المؤمن ما لا يُحمد من الصفات ، غير أنه نفى أن يكون المؤمن مظنه الوقوع في الكذب ؛ لاستبعاد ذلك منه ، وقد سأل الصحابة فقالوا: (يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال : " نعم " ، فقيل له : أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : نعم ، قيل له : أيكون المؤمن كذَّابًا ؟ قال : " لا " ))(رواه الإمام مالك) .
قد يجانب الصدق من يحدث بكل ما سمع :
والأصل في اللسان الحفظ والصون ؛ لأن زلاته كثيرة ، وشرّه وبيل ، فالحذر منه والاحتياط في استعماله أتقى وأورع ، فإذا وجدت الرجل لا يبالي ، ويكثر الكلام ، فاعلم أنه على خطر عظيم ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع))(رواه مسلم) ؛ لأن كثرة الكلام مظنة الوقوع في الكذب ، باختراع ما لم يحدث ، حين لا يجد كلامًا ، أو ينقل خبر كاذب - وهو يعلم - فيكون أحد الكذَّابين .
يُنال الصدق بالتحري :
وكل خلق جميل يمكن اكتسابه بالاعتياد عليه ، والحرص على التزامه ، وتحري العمل به ، حتى يصل صاحبه إلى المراتب العالية ، يرتقي من واحدة إلى الأعلى منها بحسن خلقه ، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - : ((عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يُكتب عند الله صدِّيقا)) ، وكذلك شأن الكاذب في السقوط إلى أن يختم له بالكذب : ((وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب ، حتى يُكتب عند الله كذَّابا))(رواه البخاري ومسلم) .
الصدق = الطمأنينة والثبات :
ومن آثار الصدق ثبات القدم ، وقوة القلب ، ووضوح البيان ، مما يوحي إلى السامع بالاطمئنان ، ومن علامات الكذب الذبذبة ، واللجلجة ، والارتباك ، والتناقض ، مما يوقع السامع بالشك وعدم الارتياح ، ولذلك : (( ... فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة))(رواه الترمذي) كما جاء في الحديث .
الصدق نجاة وخير:
وعاقبة الصدق خير - وإن توقع المتكلم شرًا - قال تعالى : (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)(محمد/21) ، وفي قصة توبة كعب بن مالك يقول كعب بعد أن نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا : " يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق ، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقًا ما بقيت " ، ويقول كذلك : " فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوا ... "(رواه البخاري) .
وروى ابن الجوزي في مناقب أحمد أنه قيل له : " كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق ؟ فقال : لو وُضِع الصدق على جرح لبرأ " .
ويوم القيامة يقال للناس : ( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُم)(المائدة/119) .
الصادق جريء :
والصدق يدعو صاحبه للجرأة والشجاعة ؛ لأنه ثابت لا يتلون ، ولأنه واثق لا يتردد ، ولذلك جاء في أحد تعريفات الصدق : القول بالحق في مواطن الهلكة ، وعبر عن ذلك الجنيد بقوله : حقيقة الصدق : أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب .
لا تكثر من المعاريض :
ولكي تكون حياتك كلها صدقًا ، ولتحشر مع الصديقين فاجعل مدخلك صدقًا ، ومخرجك صدقًا ، وليكن لسانك لسان صدق ، لعل الله يرزقك قدم صدق ، ومقعد صدق ، ولا تترك فرصة للشيطان ليستدرجك بالاستكثار من المعاريض ، فالصدق صراحة ووضوح ، والميل عنه التواء وزيغ ، وحال المؤمن الصدق ، و(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون)(النحل/105) .
درر من أقوال الصالحين والعلماء في الصدق:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
من كانت له عند الناس ثلاث وجبت له عليهم ثلاث ، من إذا حدثهم صدقهم ، وإذا ائتمنوه لم يخنهم ، وإذا وعدهم وفى لهم ، وجب له عليهم أن تحبه قلوبهم ، وتنطق بالثناء عليه ألسنتهم ، وتظهر له معونتهم ".
أنشد محمود الوراق:
اصدق حديثك إن في الصـ ـق الخلاص من الدنس
ودع الكذوب لشأنه خير من الكذب الخرس
وقيل للقمان الحكيم: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى. قيل: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: تقوى الله عز وجل ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك مالا يعنيني.
وقال بعضهم :من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت.قيل: وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق.
فنسأل الله الكريم أن يرزقنا الصدق وأن ينزلنا منازل الصديقين.
ــــــــــــــ(1/234)
الاعتذار
(الشبكة الإسلامية) محمود الخزندار رحمه الله
الاعتذار أدب اجتماعي في التعامل الإسلامي، ينفي منك شعور الكبرياء، وينفي من قلب أخيك الحقد والبغضاء، ويدفع عنك الاعتراض عليك، أو إساءة الظن بك، حين يصدر منك ما ظاهره الخطأ.
ومع أن الاعتذار بهذا المعنى حسن، فالأحسن منه أن تحذر من الوقوع فيما يجعلك مضطرًا للاعتذار، فقد جاء في الوصية الموجزة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا". [رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني]. فإن زلت قدمك مرة فإنه "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة". كما في الحديث [رواه أحمد وحسنه الترمذي ووافقه الأرناؤوط].. وعندئذ فإن من التواضع ألا تكابر في الدفاع عن نفسك، بل إن الاعتراف بالخطأ أطيب للقلب، وأدعى إلى العفو. ومعلوم أن توبة الصحابي الكريم كعب بن مالك إنما أنجاه فيها الصدق، فقد كان يقول: "يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني أخرج من سخطته بعذر، والله ما كان لي عذر..."[رواه أحمد وأصله في الصحيحين]. ولن ينقص من منزلتك أن تعترف بخطئك، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يظن أنه لا ضرورة لتأبير النخل أشار بعدم تأبيرها. ثم قال بعد ذلك: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن" [رواه مسلم].
ولا تنتظر من نفسك أن تسيء لتعتذر، بل يمكن أن يكون الاعتذار توضيحًا للموقف، أو بيانًا للقصد. فقد كان الأنصار عند فتح مكة، قد توقعوا ميل النبي صلى الله عليه وسلم للإقامة مع قومه في مكة بعد الفتح، فقالوا: "أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ".. كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون، ويعتذرون بأنهم قالوا ما قالوه لحرصهم على إقامته معهم في المدينة، فقالوا: "والله ما قلنا الذي قلنا إلا لضنّ بالله ورسوله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" [رواه مسلم وأحمد].
وإن صاحب خلق (الاعتذار) ليستحيي من افتضاح تقصيره حين يظن من نفسه التقصير، فإن ابن عمر يروي أنه كان في سرية فانهزموا، ومن حيائهم رجعوا إلى المدينة خفية في الليل، واختفوا في المدينة، ثم قالوا: "لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا إليه". فخرجوا لبيان عذرهم، وقالوا له: "نحن الفرّارون يا رسول الله! قال: بل أنتم العكَّارون، وأنا فئتكم". [رواه أحمد وأبو داود والترمذي]. فهوَّن عليهم ووصفهم بالعكّارين، الذين يغزون كرة بعد كرة، ولا يتوقفون عن الغزو.
وإذا جاءك من يأمرك بالمعروف، فاقبل منه، ووضح عذرك - إن كان لك عذر - فقد وعظ سالم بن عبد الله شابًا مسترخي الإزار، فقال (ارفع إزارك) فأخذ الشاب (يعتذر فقال: إنه استرخى، وإنه من كتّان" [رواه أحمد]. وبذلك بيَّن أنه لم يُرخه كبرًا، وإنما استرخى بنفسه؛ بسبب طبيعة قماشه. وهذا شأن المسلم في دفع سوء الظن، وإثبات براءته حين يكون بريئًا بحق.
ومما ورد بهذا المعنى: أن أناسًا من الأشعريين طلبوا من أبي موسى الأشعري مرافقتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعلم ماذا يريدون، وإذا بهم جاؤوا يطلبون التولية على أعمال المسلمين، فظهر أبو موسى وكأنه جاء يشفع لمن طلب الإمارة، فشعر بالحرج الشديد، قال: "فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذرني". [رواه أحمد والنسائي].
وكان هذا الخلق صفة مميزة لمجتمع الصحابة رضي الله عنهم. يروي الإمام أحمد: أن عثمان بن عفان جاء يعتب على ابن مسعود في أمور سمعها عنه، فقال: "هل أنت منته عمَّا بلغني عنك؟ فاعتذر بعض العذر". ويمكن أن يكون الاعتذار دفعًا لاعتراض، أو إزالة لشبهة قد تثور، وما أعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين جاء يوم الجابية يوضح للناس أسباب عزل خالد بن الوليد، فقال: "...وإني أعتذر إليكم من عزل خالد بن الوليد..". وما أعظم المجتمع الذي يجرؤ أحد أفراده أن يعلن عدم قبوله لعذر الأمير قائلاً له: "والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب...". [رواه أحمد].
وقد يدعوك موقف من المواقف إلى الشدة، التي قد يظنها الناس منك غلظة، فما أجمل أن تبين دواعي شدتك، حتى لا يفسرها أحد بأنها سوء خلق منك. روى الإمام أحمد أن حذيفة طلب ماءً من رجل من أهل الكتاب؛ ليشرب، فجاءه الكتابي بالماء في إناء من فضة، فرماه حذيفة بالإناء، (ثم أقبل على القوم، فاعتذر اعتذارًا وقال: إني إنما فعلت ذلك به عمدًا؛ لأني كنت نهيته قبل هذه المرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن لبس الديباج والحرير، وآنية الذهب والفضة". فأوضح لمن معه أن هذا الرجل يعلم حرمة استعمال آنية الفضة على المسلمين، ومع ذلك تكرر منه ما يدعو إلى الغضب والشدة.
كل هذه الأخلاق وقاية لمجتمع المسلمين من تفشي سوء الظن، وتقاذف التهم، التي إن استقرت في القلوب، لم يعد ينفع معها اعتذار، كما قالت عائشة من حديث الإفك: "والله لئن حلفت لا تصدقونني، ولئن اعتذرت لا تعذرونني" [رواه البخاري]. فمن تغلب على نفسه فاعتذر، فتغلب أنت على كبريائك فاعذُر، فقد عدَّ ابن القيم قبول عذر المعتذر من التواضع، ويقول في ذلك: "من أساء إليك ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته ... وعلامة الكرم والتواضع: أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجّه" [تهذيب مدارج السالكين].
وتلقي الأعذار بطيب نفس، وبالعفو والصفح، يحض الناس على الاعتذار، وسوء المقابلة للمعتذر وتشديد اللائمة عليه يجعل النفوس تصر على الخطأ، وتأبى الاعتراف بالزلل، وترفض تقديم المعاذير، فإن بادر المسيء بالاعتذار فبادر أنت بقبول العذر والعفو عما مضى لئلا ينقطع المعروف.والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. ... ... ... ...
ــــــــــــــ(1/235)
الشهيد ذو الابتسامة أبو حذيفة بن عتبة
إنه الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة -رضي الله عنه-، ابن عتبة بن ربيعة
شيخ قريش، وأخته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، كان من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم قبل دخول المسلمين دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر مع امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنه محمد بن أبي حذيفة، ثم قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد والغزوات كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفي غزوة بدر، كان أبو حذيفة يقاتل في صفوف المسلمين، بينما أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة يقفون في صفوف المشركين، فطلب أبو حذيفة من أبيه الكافر عتبة بن شيبة أن يبارزه، فقالت أخته: هند بنت عتبة شعرًا، جعلته يصرف النظر عن مبارزة أبيه، وبعد انتهاء غزوة بدر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسحب القتلى المشركين؛ لتطرح جثثهم في البئر، ثم وقف على حافة البئر، وخاطب المشركين، وقال: (يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا فإني قد وجدت ما وعدني ربى حقًّا؟) فقالوا: يا رسول الله، تكلم قومًا موتي؟ قال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب).
ورأى أبو حذيفة أباه يسحب ليرمي في البئر، فتغير لونه، وأصابه الحزن، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه، فقال له: (كأنك كاره لما رأيت) فقال: يا رسول الله، إن أبي كان رجلاً سيدًا، فرجوت أن يهديه ربه إلى الإسلام، فلما وقع الموقع الذي وقع أحزنني ذلك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير. [ابن جرير]. وكان أبو حذيفة يتمنى أن يستشهد في سبيل الله، فظل يجاهد حتى توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه-، كان أبو حذيفة في أول صفوف الجيش الإسلامي المتجه إلى اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب، وتحقق لأبي حذيفة ما كان يتمناه من الشهادة في سبيل الله فوقع شهيدًا، وعلى وجهه ابتسامة لما رأى من منزلته عند ربه.
ــــــــــــــ(1/236)
معلم الخير عبادة بن الصامت
إنه الصحابي الجليل أبو الوليد عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، أحد أفراد وفد الأنصار الذين جاءوا إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، وكان أحد الاثني عشر نقيبًا الذين اتخذهم الرسول صلى الله عليه وسلم نقباء على أهليهم وعشائرهم.
وواحد من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شعبًا، لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار) [البخاري].
وقد شهد بدرًا وأحدًا والخندق والغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ولم يتخلف عن مشهد، وهو أحد الذين ساهموا في جمع القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد كان ولاؤه لله ورسوله عظيمًا، حيث يُروى أن قومه كانوا مرتبطين بعهد مع يهود بني قينقاع بالمدينة قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستقروا بها، وتجمعت قبائل اليهود عقب غزوة بدر، وافتعلت إحدى قبائلهم وهم بنو قينقاع أسبابًا للفتنة والصدام مع المسلمين، فلما رأى عبادة موقفهم هذا نبذ إليهم عهدهم قائلا: إنما أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
فنزل القرآن مؤيدًا موقفه هذا قائلاً: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} إلى أن قال: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 51-56].
لقد سمع عبادة بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يتحدث عن مسئولية الأمراء والولاة، والمصير الذي ينتظر من يفرط منهم في حق من حقوق المسلمين، قائلاً: (والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه) [مسلم]، فأقسم عبادة بالله ألا يكون أميرًا على اثنين.
ولما فتح المسلمون الشام أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عبادة ومعاذ بن جبل وأبا الدرداء إلى أهلها؛ ليعلموهم القرآن ويفقهوهم في الدين، فأقام عبادة بحمص، ثم انتقل منها إلى فلسطين؛ حيث تولى القضاء بها، فكان بذلك أول من تولى قضاء فلسطين.
وفي سنة (34 هـ) توفي عبادة بالرَّمْلَة من أرض الشام -وقيل ببيت المقدس-، فرضي الله عنه وأرضاه.
ــــــــــــــ(1/237)
عبادة بن الصامت
عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ بنِ قَيْسِ بنِ أَصْرَمَ الأَنْصَارِيُّ ابْنِ قَيْسِ بنِ أَصْرَمَ بنِ فِهْرِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ غَنْمِ بنِ عَوْفِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفِ بنِ الخَزْرَجِ.
الإِمَامُ، القُدْوَةُ، أَبُو الوَلِيْدِ الأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَمِنْ أَعْيَانِ البَدْرِيِّيْنَ.
سَكَنَ بَيْتَ المَقْدِسِ.
بيعة العقبة الأولى
كان ممَنْ شَهِدَ العَقَبَةَ الأُوْلَى: عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ، شَهِدَ المَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسَوَلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -.
جمع القرآن
جَمَعَ القُرْآنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ: مُعَاذٌ، وَعُبَادَةُ، وَأُبَيٌّ، وَأَبُو أَيُّوْبَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ.
فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، كَتَبَ يَزِيْدُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَيْهِ:
إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَثِيْرٌ، وَقَدِ احْتَاجُوا إِلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمُ القُرْآنَ، وَيُفَقِّهُهُم.
فَقَالَ: أَعِيْنُوْنِي بِثَلاَثَةٍ.
فَقَالُوا: هَذَا شَيْخٌ كَبِيْرٌ - لأَبِي أَيُّوْبَ - وَهَذَا سَقِيْمٌ - لأُبَيٍّ -.
فَخَرَجَ الثَّلاَثَةُ إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ: ابْدَؤُوا بِحِمْصَ، فَإِذَا رَضِيْتُم مِنْهُم، فَلْيَخْرُجْ وَاحِدٌ إِلَى دِمَشْقَ، وَآخَرُ إِلَى فِلَسْطِيْنَ.
لا يخاف فى الحق لومة لائم
روى أَنَّ عُبَادَةَ أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ شَيْئاً، فَقَالَ: لاَ أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ.
فَرَحَلَ إِلَى المَدِيْنَةِ.
قَالَ لهُ عُمَرُ: مَا أَقْدَمَكَ؟
فَأَخْبَرَهُ بِفِعْلِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: ارْحَلْ إِلَى مَكَانِكَ، فَقَبَّحَ اللهُ أَرْضاً لَسْتَ فِيْهَا وَأَمْثَالُكَ، فَلاَ إِمْرَةَ لَهُ عَلَيْكَ.
عَنِ ابْنِ عَمِّهِ؛ عُبَادَةَ بنِ الوَلِيْدِ، قَالَ:
كَانَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَأَذَّنَ يَوْماً، فَقَامَ خَطِيْبٌ يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، فَقَامَ عُبَادَةُ بِتُرَابٍ فِي يَدِهِ، فَحَشَاهُ فِي فَمِ الخَطِيْبِ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ.
فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ: إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا حِيْنَ بَايَعْنَا رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالعَقَبَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَمَكْسَلِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلاَّ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُوْمَ بِالحَقِّ حَيْثُ كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إِذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِيْنَ، فَاحْثُوا فِي أَفْوَاهِهِمُ التُّرَابَ).
كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ إِلَيْكَ، وَإِمَّا أَنْ أُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ رَحِّلْ عُبَادَةَ حَتَّى تَرْجِعَهُ إِلَى دَارِهِ بِالمَدِيْنَةِ.
قَالَ: فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَمْ يَفْجَأْهُ إِلاَّ بِهِ، وَهُوَ مَعَهُ فِي الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عُبَادَةُ، مَا لَنَا وَلَكَ؟
فَقَامَ عُبَادَةُ بَيْنَ ظَهْرَانِي النَّاسِ، فَقَالَ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (سَيَلِي أُمُوْرَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُوْنَكُمْ مَا تُنْكِرُوْنَ، وَيُنْكِرُوْنَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُوْنَ، فَلاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى، وَلاَ تَضِلُّوا بِرَبِّكُمْ).
و روى أَنَّ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ مَرَّتْ عَلَيْهِ قِطَارَةٌ - وَهُوَ بِالشَّامِ - تَحْمِلُ الخَمْرَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ أَزَيْتٌ؟
قِيْلَ: لاَ، بَلْ خَمْرٌ يُبَاعُ لِفُلاَنٍ.
فَأَخَذَ شَفْرَةً مِنَ السُّوْقِ، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَذَرْ فِيْهَا رَاوِيَةً إِلاَّ بَقَرَهَا - وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِذْ ذَاكَ بِالشَّامِ - فَأَرْسَلَ فُلاَنٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَلاَ تُمْسِكُ عَنَّا أَخَاكَ عُبَادَةَ، أَمَّا بِالغَدَوَاتِ، فَيَغْدُو إِلَى السُّوْقِ يُفْسِدُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَتَاجِرَهُمْ، وَأَمَّا بِالعَشِيِّ، فَيَقْعُدُ فِي المَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلاَّ شَتْمُ أَعْرَاضِنَا وَعَيْبُنَا!
قَالَ: فَأَتَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: يَا عُبَادَةُ، مَا لَكَ وَلِمُعَاوِيَةَ؟ ذَرْهُ وَمَا حُمِّلَ.
فَقَالَ: لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَلاَّ يَأْخُذَنَا فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ.
فَسَكَتَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
روى أَنَّ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ مَرَّ بِقَرْيَةِ دُمَّرٍ، فَأَمَرَ غُلاَمَهُ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ سِوَاكاً مِنْ صَفْصَافٍ عَلَى نَهْرِ بَرَدَى، فَمَضَى لِيَفْعَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ:
ارْجِعْ، فَإِنَّهُ إِنْ لاَ يَكُنْ بِثَمَنٍ، فَإِنَّهُ يَيْبَسُ، فَيَعُوْدُ حَطَباً بِثَمَنٍ.
وفاته
مَاتَ: بِالرَّمْلَةِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاَثِيْنَ، وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ سَنَةً.( السير )
ــــــــــــــ(1/238)
المساواة معلم من معالم الحضارة الإسلامية
(الشبكة الإسلامية)
تقرير المساواة حقاً بين الناس من غير نظر إلى ألوانهم هذا جانب من جوانب الدعوة في حضارتنا الإسلامية.
فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة في قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ليعلن في خطابه الخالد: "الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" ، ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التي تعلن في مناسبات متعددة - كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم - بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادي لا يلفت نظراً، ولا يحتاج إلى تصنع أو عناء، فقد نفذت في المساجد حيث كان يلتقي فيها الأبيض والأسود على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، ولم يكن الأبيض ليجد غضاضة أو حرجاً في وقوف الأسود بجانبه. ونفذت في الحج حيث تلتقي العناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تمييز بين أبيض وأسود واستعلاء من البيض على السود.
بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فقد أمر سول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، فكيف يصعد عليها عبد ملوّن كبلال ؟ كيف يطؤها بقدميه ؟ إن مثل هذا أو قريباً منه لا يتصور في الحضارة الحديثة في أمريكا إلى عهد قريب ، ولكن حضارتنا فعلته قبل أربعة عشر قرناً، فما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلاناً لكرامة الإنسان على كل شيء وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لعلمه وعقله وأخلاقه وإيمانه لا لبشرته وبياضه، فما يقدم الإنسان بياضه إذا أخَّره عمله، ولا يؤخره سواده إذا قدمه ذكاؤه واجتهاده.
ولذلك لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وهو من أكرم صحابته أن يسب آخر فيقول له: يا ابن السوداء، لم يرض منه ذلك بل قرَّعه وقال له: "أعيَّرته بسواد أمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية" وهذا حدّ فاصل بين العلم والجهل بين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية.
إن الحضارة التي لا يستعلي فيها عرق على عرق ولا لون على لون هي الحضارة التي يصنعها الإنسان العاقل الكريم وتسعد بها الإنسانية الواعية الكريمة ، والحضارة التي يعلو فيها الأبيض ويمتهن فيها الأسود ، ويسعد بها ذوو البشرة البيضاء ، ويشقى بها الملونون هي الحضارة الجاهلية التي ترتد بها الإنسانية إلى الوراء مئات القرون عمياء متكبرة جاهلة حمقاء.
"إنك امرؤ فيك جاهلية" هذا وصف للحضارة الجاهلية التي تنادي بالتمييز العنصري، وهو ما كافحته حضارتنا في كل ميادين الحياة، في المسجد والمدرسة والمحكمة والقيادة ، مع الأصدقاء والأعداء على السواء .
لمَّا جاء المسلمون لفتح مصر وتوغلوا فيها حتى وقفوا أمام حصن بابليون رغب المقوقس في المفاوضة مع المسلمين، فأرسل إليهم وفدًا ليعلم ما يريدون، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفداً، فأرسل إليه عمرو بن العاص عشرة نفر فيهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود شديد السواد، طويلاً حتى قالوا إن طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون هو الذي يتولى الكلام ، فلما دخلوا على المقوقس تقدمهم عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده وقال لهم: نحّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال رجال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فقال لهم: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيًّا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة، فقال عبادة - وقد رأى فزع المقوقس من السواد - : إن في جيشنا ألف أسود هم أشد سواداً مني.
ألا ترى إلى هذه الحضارة ما أروعها وأسمى إنسانيتها؟ لقد كان الناس جميعاً - حتى المتحضرون في القرن العشرين - يرون السواد منقصة، وكانوا لا يرون الأسود أهلاً لأن يكون في عداد البيض، فكيف يتقدمهم ويقودهم ويفضلهم في الرأي والعلم؟ فجاءت حضارتنا تحطم هذه المقاييس، وتسفه هذه الآراء، وتقدم الأسود على الأبيض حين يقدمه علمه ورأيه وشجاعته.
وليس عبادة بن الصامت إلا واحداً من هؤلاء السود الذين رفعتهم حضارتنا إلى مرتبة القيادة والزعامة.
وكان عبد الملك بن مروان يأمر المنادي في موسم الحج أن لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وعالمها وفقيهها، أتدرون كيف كان عطاء هذا؟ لقد كان أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، مفلفل الشعر.. وكان إذا جلس في حلقته العلمية بين الآلاف من تلاميذه بدا كأنه غراب أسود في حقل من القطن! هذا الأسود الأعور الأفطس الأعرج جعلته حضارتنا إماماً يرجع إليه الناس في الفتوى، ومدرسة يتخرج على يده الألوف من البيض، وهو عندهم محل الإكبار والحب والتقدير.
ولقد كان في حضارتنا المجلون في كل ميادين العلم والأدب، وهم سود البشرة لم يمنعهم سوادهم أن يكونوا أدباء ينادمون الخلفاء كنصيب الشاعر، ولا فقهاء يؤلفون المراجع المعتبرة في الفقه الإسلامي كعثمان بن علي الزيلعي شارح الكنز في الفقه الحنفي، والحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي (762هـ) مؤلف الراية، وكلاهما أسودان من زيلع من بلاد الحبشة.
وليس من أبناء العربية من يجهل كافوراً الأخشيدي العبد الأسود وقد حكم مصر في القرن الرابع الهجري، وهو الذي خلده المتنبي في مدحه وهجائه.
وقصارى القول إن حضارتنا لم تعرف هذا التمييز العنصري بين البيض والسود، ولم يكن فيها مجتمعات خاصة للسود لا يساكنهم فيها أبيض، ولا اضطهاد خاص بهم يجعلهم محل نقمة البيض وازدرائهم، وإنما كانت حضارتنا إنسانية تنظر إلى الناس جميعاً بمنظار الحق والخير، ولا ترى البياض والسواد إلا بياض الأعمال وسوادها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7، 8].
ولقد كان مثل هذا القول يبدو غريباً منذ خمسين سنة، فمن بدهيات الأمور أن الفريق بين البيض والسود عمل همجي لا تلجأ إليه حضارة راقية، وأن حضارتنا لم يكن منها أن تفعل ذلك وهي أشهر حضارة عرفت بنشر الإخاء والمساواة بين الناس، ولكننا منذ قيام هيئة الأمم وإعلان ميثاق حقوق الإنسان، نجد أنفسنا في حاجة إلى مثل هذا الحديث بعد أن رأينا وسمعنا الأحاديث المفجعة عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وعن حالة الزنوج والملونين في أمريكا إلى عهد قريب.
ومن العجيب أن الذين ينادون بالتمييز العنصري وينزلون أشد المحن والبلايا بزنوج أمريكا ليسوا شرقيين حتى يتهموا بالرجعية والتأخر والهمجية كما هو شأن الغربيين في اتهام الشرقيين دائماً، وإنما هم دول راقية من أكبر الدول في هيئة الأمم! فأمريكا أكبر دولة تسيطر على هيئة الأمم، وانجلترا أكبر دولة في أوروبا تباهي بديمقراطيتها، وجنوب إفريقيا كانت إلى عهد قريب ممثلة في هيئة الأمم بطبقة من الحكام الأوروبيين البيض الذين استعمروا تلك المنطقة وأخذوا يتكلمون باسمها، ودول أمريكا الجنوبية لها مقام مرموق ورأي مسموع في أوساط هيئة الأمم. وهذه الدول هي التي تقوم في القرن العشرين بأبشع جريمة إنسانية عرفها التاريخ، جريمة اضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، لا لضعفه ولا لجهله بل للون بشرته!
وعلى مرمى النظر من البيت الأبيض في واشنطن وفي ظل نصب لنكولن التذكاري ينبسط حي بشع يعيش فيه مئتان وخمسون ألف زنجي ، كان إلى عهد قريب يحظر عليهم أن يدخلوا الفنادق والمطاعم والمسارح والمدارس والمستشفيات الخاصة بالبيض، حتى الكنائس، فقد دخل زنجي من جمهورية بناما كنيسة كاثوليكية في واشنطن، وفيما هو مستغرق في صلاته سعى إليه أحد القسس وقدم له قصاصة من ورق قد كتب فيها عنوان كنيسة زنجية كاثوليكية، وحين سئل القس عن سر هذا التصرف أجاب: إن في المدينة كنائس خاصة بالكاثوليك الزنوج يستطيع هذا المرء الأسود أن يقف فيها بين يدي ربه!
وفي عام 100 من الهجرة أي منذ ثلاثة عشر قرناً شكت جارية سوداء تسمى فرتونة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بأن لها حائطاً قصيراً يُقتحم منه عليها فيُسرق دجاجها، فأرسل عمر فوراً إليها يخبرها أنه أرسل إلى والي مصر يطلب إليه أن يصلح لها حائطها ويحصن لها بيتها، وكتب إلى واليه في مصر أيوب بن شرحبيل: إن فرتونة مولاة ذي أصبح قد كتبت إليَّ تذكر قصر حائطها وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها. فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها! فلما وصله الكتاب ركب بنفسه إلى الجيزة ليسأل عن فرتونة حتى عثر على محلها، فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصن لها بيتها.
هذا ما فعلناه قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً.. وهذا مثل من حضارتنا.
"كتاب "من روائع حضارتنا " بتصرف كبير"
ــــــــــــــ(1/239)
من منشورات العلماء
الحديث عن العلماء لا يمل ولا ينبغي أن يمل، ففي حياتهم عبرة، وفي سيرهم ذكرى، وفي طلبهم للعلم والعمل به عظة لمن بعدهم، وفي هذا الدرس ينثر الشيخ طرفاً من أخبارهم وملحهم، فما أطيب ذكرهم!
فضل العلماء الربانيين وأهمية سيرهم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولا حزن إلا ما جعلته حزناً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا تسمع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وأنت على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله! إن موضوعنا في هذه الليلة حول أخبار ومنح ووصايا من أخبار العلماء وكلماتهم ومُلَحِهم وآثارهم، ولهذا الموضوع أهمية، فإن كلمات العلماء وآثارهم ومُلَحِهم ووصاياهم وأقوالهم نابعةٌ من مشكاة النبوة التي ينهلون منها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر } وقال: {إن العلماء ورثة الأنبياء }^ فورثوا عنهم أقوالهم وأقوال الله عز وجل، ولذلك أصطبغت حياتهم وأقوالهم ومعيشتهم وكانت وصاياهم متأثرة أشد التأثر بما ارتووا منه؛ ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخص بكلامي هذا العلماء الربانيين الذين قال الله سبحانه وتعالى: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]^ الذين يعلمون كتاب الله حفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى فيه، والذين يعلمون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النسق المذكور في كتاب الله؛ حفظاً، وفهماً، وتدبراً وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى في سبيل ذلك كله، فإن الله عز وجل أمرنا بأن نكون كذلك، فقال الله عز وجل: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[لا يكون العالم ربانياً حتى يعلم ويعمل ويدعو ويصبر على الأذى ]]^ ونقل عنه رضي الله عنه وأرضاه: [[العلماء الربانيون هم الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره ]]^ يعني: يأخذون الناس بالتدرج خطوة خطوة، لا يقفزون بهم إلى أمور كبار لا تدركها عقولهم، فقد روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: {ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة }^ ونقل أيضاً في الصحيح: {خاطبوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله }^.
فهؤلاء العلماء الربانيون الذين أفنوا أعمارهم في تعلم كتاب الله، وفي تعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا بحق كما قال الله عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير : أشار جل وعلا بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، بعد قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]^ أشار بهذا إلى أن الذين يعلمون حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفة: قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].
ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[يعرف حامل القرآن بليله إذا الناس راقدون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون ]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.......
أهمية سير العلماء ... فأخبار هؤلاء القوم الذين أفنوا أعمارهم في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعلماً وتدبراً ودعوةً وصبراً حقيقةٌ؛ بأن نعقد المجالس لنتدبرها ونتذاكرها، ونتناقل أخبارهم؛ علَّ الله عز وجل أن يشحذ فينا الهمة، فنبلغ ولو جزءاً يسيراً مما بلغوا، وقديماً قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ونقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: "سير الرجال أحب إليَّ من كثير من الفقه" وما ذاك إلا لأن سير الرجال، وأخبار القوم من العلماء الربانيين تشحذ الهمم حينما يستمع إليها الطالب فتعينه على مواصلة طريقه في طلب العلم، وتعينه على الاجتهاد وبذل التضحيات اقتداءً وتأسياً بأولئك السابقين الذين يقرءون ويتدبرون ويتناقلون أخبارهم.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم : "واعلم أن في ذكر السير والتاريخ فوائد كثيرة، من أهمها أن يطلع بذلك على عجائب الأمور، وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وسماع الأخبار، فالنفس تجد راحةً بسماع الأخبار، قال أبو عمرو بن العلاء : قيل لرجل من بكر بن وائل قد كبر وذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح؛ قيل له: أتحب أن تموت؟ قال: لا، قيل له: فما بقي لك من لذة الدنيا؟ قال: أستمع أخبار الرجال وأستمع العجائب"
إذاً: فخير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق بصمت وهدوء دون أمر ونهي، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والاحتذاء بسير الأجلاء الأسلاف؛ خير سبيل إلى ذلك كله هو قراءة سير لبعض العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجدين.
وبعد هذه المقدمة نبدأ في سرد بعض أخبارهم رحمة الله عليهم ورضي عنهم.فأخبار هؤلاء القوم الذين أفنوا أعمارهم في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعلماً وتدبراً ودعوةً وصبراً حقيقةٌ؛ بأن نعقد المجالس لنتدبرها ونتذاكرها، ونتناقل أخبارهم؛ علَّ الله عز وجل أن يشحذ فينا الهمة، فنبلغ ولو جزءاً يسيراً مما بلغوا، وقديماً قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ونقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: "سير الرجال أحب إليَّ من كثير من الفقه" وما ذاك إلا لأن سير الرجال، وأخبار القوم من العلماء الربانيين تشحذ الهمم حينما يستمع إليها الطالب فتعينه على مواصلة طريقه في طلب العلم، وتعينه على الاجتهاد وبذل التضحيات اقتداءً وتأسياً بأولئك السابقين الذين يقرءون ويتدبرون ويتناقلون أخبارهم.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم : "واعلم أن في ذكر السير والتاريخ فوائد كثيرة، من أهمها أن يطلع بذلك على عجائب الأمور، وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وسماع الأخبار، فالنفس تجد راحةً بسماع الأخبار، قال أبو عمرو بن العلاء : قيل لرجل من بكر بن وائل قد كبر وذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح؛ قيل له: أتحب أن تموت؟ قال: لا، قيل له: فما بقي لك من لذة الدنيا؟ قال: أستمع أخبار الرجال وأستمع العجائب"
إذاً: فخير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق بصمت وهدوء دون أمر ونهي، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والاحتذاء بسير الأجلاء الأسلاف؛ خير سبيل إلى ذلك كله هو قراءة سير لبعض العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجدين.
وبعد هذه المقدمة نبدأ في سرد بعض أخبارهم رحمة الله عليهم ورضي عنهم.ضوابط في الجرح والتعديل عند أهل العلم ... فعن مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: " سألت سعيد بن المسيب : إنه ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فقال: [[ من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ]].
وهذه درة عظيمة من سعيد بن المسيب وأما الرواية التي تنقل عنه أنه قال: [[ سيبوني سيبهم الله ]] فهي رواية غير ثابتة كما ذكر ذلك بعض المحققين، فالمقصود أن سعيد بن المسيب رحمة الله عليه، يقول: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. وهذه قاعدة عظيمة جليلة ينبغي لطلبة العلم أن يجعلوها نصب أعينهم دائماً، فهي قاعدة في الجرح والتعديل، إذ ينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم المأمور بحفظ اللسان عن الوقيعة في العلماء، عن الوقيعة في الأخيار من العباد الصلحاء، فمن غلب جانب فضله تغوضي عن نقصه، ولم يشهر به، ولم ينكر عليه، ولم يحذر منه بسبب ما فيه من نقص وتقصير؛ لأن الفضل الكثير يغمر النقص القليل، وقديماً قيل مستدلين بحديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }.
وقال الذهبي رحمة الله عليه في ترجمته لقتادة بن دعامة السدوسي : وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع فإنه مدلس معروف بذلك وقيل كان يرى القدر- نسأل الله العفو والعافية- ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]، قال الذهبي رحمة الله عليه مسترسلاً: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه تغفر له زلاته، ولا نضلله ونصطرفه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وهذه في سابقتها نادرة عظيمة ينبغي أن يضعها طلبة العلم في أذهانهم، وأن يجعلوها نصب أعينهم عند تقويمهم للرجال.
وعن ابن المديني سمعت سفيان يقول: [[ كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر بن ذر ، فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه ]].
وهكذا يجب أن يكون طالب العلم إذا بلغه عن أحد من الناس أنه يقع فيه، أو يشتمه، أو يتأو يتكلم فيه، أو يقدح؛ فإن الواجب عليه أن يلقاه ويتأكد من صحة الخبر، ثم بعد ذلك يقول له هذه المقالة: إنك إن عصيت الله فينا، فلن نعصي الله فيك، بل سنطيع الله فيك، ولا نقدح فيك، ولا نتكلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك }^ وقال الله جل وعلا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]^ وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]^ أي: ادفع سيئة من أساء إليك بالحسنة التي هي أحسن، أي: الكلمة والخصلة التي هي أحسن فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]^ أي: صديق عزيز شديد الصداقة لك بسبب أنك رددت إساءته بالإحسان.
وروى عبدان بن عثمان عن عبد الله بن المبارك -وهذا أيضاً ضابط في الجرح والتعديل- قال: [[ إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن ]].
فالعبرة بأغلب حاله وبمجمله وأكثره، فإن كان أكثر أحواله المحاسن والصلاح، والخير والدعوة والنصح للأمة وللمسلمين، تغوضي عن سيئاته، ولم يشهر به، وأسر بها إسراراً إليه، وإن كان غالب حاله الضلال والفساد والإضلال والمساوئ، فإن جانب المساوئ يغلَّب، ويُحذَّر منه.فعن مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: " سألت سعيد بن المسيب : إنه ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فقال: [[ من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ]].
وهذه درة عظيمة من سعيد بن المسيب وأما الرواية التي تنقل عنه أنه قال: [[ سيبوني سيبهم الله ]] فهي رواية غير ثابتة كما ذكر ذلك بعض المحققين، فالمقصود أن سعيد بن المسيب رحمة الله عليه، يقول: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. وهذه قاعدة عظيمة جليلة ينبغي لطلبة العلم أن يجعلوها نصب أعينهم دائماً، فهي قاعدة في الجرح والتعديل، إذ ينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم المأمور بحفظ اللسان عن الوقيعة في العلماء، عن الوقيعة في الأخيار من العباد الصلحاء، فمن غلب جانب فضله تغوضي عن نقصه، ولم يشهر به، ولم ينكر عليه، ولم يحذر منه بسبب ما فيه من نقص وتقصير؛ لأن الفضل الكثير يغمر النقص القليل، وقديماً قيل مستدلين بحديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }.
وقال الذهبي رحمة الله عليه في ترجمته لقتادة بن دعامة السدوسي : وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع فإنه مدلس معروف بذلك وقيل كان يرى القدر- نسأل الله العفو والعافية- ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]، قال الذهبي رحمة الله عليه مسترسلاً: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه تغفر له زلاته، ولا نضلله ونصطرفه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وهذه في سابقتها نادرة عظيمة ينبغي أن يضعها طلبة العلم في أذهانهم، وأن يجعلوها نصب أعينهم عند تقويمهم للرجال.
وعن ابن المديني سمعت سفيان يقول: [[ كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر بن ذر ، فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه ]].
وهكذا يجب أن يكون طالب العلم إذا بلغه عن أحد من الناس أنه يقع فيه، أو يشتمه، أو يتأو يتكلم فيه، أو يقدح؛ فإن الواجب عليه أن يلقاه ويتأكد من صحة الخبر، ثم بعد ذلك يقول له هذه المقالة: إنك إن عصيت الله فينا، فلن نعصي الله فيك، بل سنطيع الله فيك، ولا نقدح فيك، ولا نتكلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك }^ وقال الله جل وعلا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]^ وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]^ أي: ادفع سيئة من أساء إليك بالحسنة التي هي أحسن، أي: الكلمة والخصلة التي هي أحسن فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]^ أي: صديق عزيز شديد الصداقة لك بسبب أنك رددت إساءته بالإحسان.
وروى عبدان بن عثمان عن عبد الله بن المبارك -وهذا أيضاً ضابط في الجرح والتعديل- قال: [[ إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن ]].
فالعبرة بأغلب حاله وبمجمله وأكثره، فإن كان أكثر أحواله المحاسن والصلاح، والخير والدعوة والنصح للأمة وللمسلمين، تغوضي عن سيئاته، ولم يشهر به، وأسر بها إسراراً إليه، وإن كان غالب حاله الضلال والفساد والإضلال والمساوئ، فإن جانب المساوئ يغلَّب، ويُحذَّر منه.
من أخبار أهل العلم في الطلب
من أخلاق الإمام الشافعي في الخلاف ... قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي - ظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ؛ ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
يعني: على الرغم من خلافي معك في مسألة من مسائل العلم، فإن الواجب أن تظل أخوتنا، ومودتنا، ولا يعادي بعضنا بعضاً بسبب اختلافنا في مسألة من مسائل العلم.قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي - ظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ؛ ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
يعني: على الرغم من خلافي معك في مسألة من مسائل العلم، فإن الواجب أن تظل أخوتنا، ومودتنا، ولا يعادي بعضنا بعضاً بسبب اختلافنا في مسألة من مسائل العلم.موقف عمر ممن يرد على ابن مسعود ... وقد كان السلف رحمة الله عليهم من طلبة العلم يُجلون العلماء ويرفعون قدرهم؛ أيما إجلال وأيما تقدير.
مما نقل عن الصحابة في ذلك ما رواه أبو وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه رأى رجلاً قد أسبل إزاره وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار } وصح عنه صلى الله عليه وسلم:{إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه } فالمقصود أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال للرجل المسبل: [[ ارفع إزارك، فقال ذلك الرجل المسبل: وأنت يابن مسعود فارفع إزارك.
فقال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس ]] فبين عذره في إنزال إزاره.
فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ذلك الرجل رد على عبد الله بن مسعود ، وقال له: [[ وأنت لماذا لم ترفع إزارك؟- فجعل عمر يضرب الرجل، ويقول له: أهكذا ترد على ابن مسعود ! أهكذا ترد على ابن مسعود ! ]].
وما ذاك من عمر إلا تأديباً لهذا الرجل وأمثاله لكي يستقيم أدبهم مع أهل العلم والإيمان والفضل.وقد كان السلف رحمة الله عليهم من طلبة العلم يُجلون العلماء ويرفعون قدرهم؛ أيما إجلال وأيما تقدير.
مما نقل عن الصحابة في ذلك ما رواه أبو وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه رأى رجلاً قد أسبل إزاره وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار } وصح عنه صلى الله عليه وسلم:{إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه } فالمقصود أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال للرجل المسبل: [[ ارفع إزارك، فقال ذلك الرجل المسبل: وأنت يابن مسعود فارفع إزارك.
فقال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس ]] فبين عذره في إنزال إزاره.
فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ذلك الرجل رد على عبد الله بن مسعود ، وقال له: [[ وأنت لماذا لم ترفع إزارك؟- فجعل عمر يضرب الرجل، ويقول له: أهكذا ترد على ابن مسعود ! أهكذا ترد على ابن مسعود ! ]].
وما ذاك من عمر إلا تأديباً لهذا الرجل وأمثاله لكي يستقيم أدبهم مع أهل العلم والإيمان والفضل. أدب الطلب عند ابن عباس ...
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة : [[أن ابن عباس رضي الله عنهما قام إلى زيد بن ثابت ، فأخذ له بركابه، فقال: تنح يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس : إنا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا ]]^ وهذا من أدبه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك حصل ذلك العلم الجم استجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل }.عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة : [[أن ابن عباس رضي الله عنهما قام إلى زيد بن ثابت ، فأخذ له بركابه، فقال: تنح يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس : إنا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا ]]^ وهذا من أدبه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك حصل ذلك العلم الجم استجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل }.الخليفة بين يدي عطاء ... وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي : كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة ، وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إلى عطاء في مكة ، وكان مفتيها في زمانه رضي الله عنه وأرضاه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم -أي: لا تقصرا ولا تتعبا في طلب العلم- فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد.
يعني: أن أمير المؤمنين وخليفة الناس الذي ملك الناس في زمانه، بل كل الدولة الإسلامية جاء عند عطاء بن أبي رباح وكان مولى لامرأة، ثم أعتق، فجلس إليه يسأله عن العلم، و عطاء لا يلتفت إليه مستقبلاً القبلة يجيبهم على أسئلتهم وهم قريب من قفاه رضي الله عن عطاء وأرضاه، فالمقصود أن سليمان أخذ من هذا درساً، وقال لبنيه: لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد، وسماه العبد باعتبار ما كان.
وقيل في عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليه من شدة علمه: كان أشل، وكان أعور، وكان أفطس، وكان بحراً بالعلوم، ولذلك قال بعضهم:
أشل أعور أفطس ومن بحوره العلوم تقتبس
رحمة الله عليه.
وعن عمر بن المدرك ، قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا أشعث بن شعبة النشيطي ، قال: قدم الرشيد - يعني: هارون الرشيد - الرقة؛ فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك ، صادف أن عبد الله بن المبارك قدم في نفس الوقت الذي قدم فيه أمير المؤمنين، فعبد الله بن المبارك أمير المؤمنين بالحديث، و هارون الرشيد أمير المؤمنين في زمانه، فقدما الرقة في وقت واحد، قال: فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال من الزحام، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج القصر، فقالت: ما هذا؟
فقالوا: هذا عالم من أهل خراسان ، يقال له عبد الله بن المبارك قدم، قالت: والله هذا الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي : كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة ، وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إلى عطاء في مكة ، وكان مفتيها في زمانه رضي الله عنه وأرضاه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم -أي: لا تقصرا ولا تتعبا في طلب العلم- فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد.(1/240)
يعني: أن أمير المؤمنين وخليفة الناس الذي ملك الناس في زمانه، بل كل الدولة الإسلامية جاء عند عطاء بن أبي رباح وكان مولى لامرأة، ثم أعتق، فجلس إليه يسأله عن العلم، و عطاء لا يلتفت إليه مستقبلاً القبلة يجيبهم على أسئلتهم وهم قريب من قفاه رضي الله عن عطاء وأرضاه، فالمقصود أن سليمان أخذ من هذا درساً، وقال لبنيه: لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد، وسماه العبد باعتبار ما كان.
وقيل في عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليه من شدة علمه: كان أشل، وكان أعور، وكان أفطس، وكان بحراً بالعلوم، ولذلك قال بعضهم:
أشل أعور أفطس ومن بحوره العلوم تقتبس
رحمة الله عليه.
وعن عمر بن المدرك ، قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا أشعث بن شعبة النشيطي ، قال: قدم الرشيد - يعني: هارون الرشيد - الرقة؛ فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك ، صادف أن عبد الله بن المبارك قدم في نفس الوقت الذي قدم فيه أمير المؤمنين، فعبد الله بن المبارك أمير المؤمنين بالحديث، و هارون الرشيد أمير المؤمنين في زمانه، فقدما الرقة في وقت واحد، قال: فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال من الزحام، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج القصر، فقالت: ما هذا؟
فقالوا: هذا عالم من أهل خراسان ، يقال له عبد الله بن المبارك قدم، قالت: والله هذا الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان. نصيحة لابن مهدي في الحث على الطلب ... قال عبد الرحمن بن مهدي : كان يقال: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، وإذا لقي من هو مثله في العلم، دراسه، أي: تدارس معه العلم.
وبهذه المناسبة أيها الأحبة، فإنني أذكر إخوتي طلبة العلم بأن هناك دورة علمية، أو أكثر من دورة علمية ستقام في إجازة الربيع إن شاء الله لبعض العلماء الأجلاء من الذين قدموا من الرياض ومن غيرها لإقامة دورات علمية في الفقه، وفي الحديث، وفي العقيدة، وفي اللغة، وفي الأصول، فأنصح بملازمة هذه الحلقات، ثم إنني أنصح بأمر آخر، وهو أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على مجالسة أهل العلم ويتلقى العلم عنهم، فإن فاته ذلك، فهناك ما يسمى بالتجارب كما يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمة الله عليه، يقول: كان يقال إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، أي: فليغتنم هذا اليوم، وليتعلم منه تعلماً عظيماً، وإذا لقي من هو مثله -أي من مثله في العلم- دراسه، ولذلك فإنني أنصح إخواني بالمدارسة؛ كأن تخصص لنفسك وقتاً بعد صلاة الفجر تلتقي فيه مع من هو مثلك في العلم قد لا يزيد عليك، فتلتقي أنت وهو فتحفظون مثلاً عمدة الأحكام في الحديث، أو بلوغ المرام ، أو الأربعين النووية إن لم تكونوا حفظتموها، أو كتاب الله أولاً وقبل كل شيء إن لم تكونوا قد حفظتموه، وهكذا يكون لكم ورد يومي بعد صلاة الفجر أنت وأحد أقرانك يعلم بعضكم بعضاً، وينفع بعضكم بعضاً، ويخبر بعضهم الآخر بما فاته من العلم، وبما سمعه من العلماء، فإن هذا باب عظيم كان السلف يتبعونه كما يقول ابن مهدي : وإذا لقي من هو مثله، دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماماً في العلم من حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً من حدث عن كل أحد، ولا من يحدث بالشاذ.
هذه بعض أخبارهم في طلب العلم، ومن ذلك ما نقل عن إبراهيم الحربي -وهو أحد علماء السلف الكبار رحمة الله عليه- قال: كان إبراهيم الحربي رجلاً صالحاً من أهل العلم، بلغه أن قوماً من الذين كانوا يدالفونه -يفضلونه على أحمد بن حنبل - فوقفهم على ذلك، فأقروا به، يعني: سألهم هل تفضلوني على أحمد بن حنبل ؟ قالوا: نعم، فعاقبهم إبراهيم عقوبة شديدة، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لم أشبهه، ولم ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أسمعكم شيئاً من العلم أبداً، فلا تأتوني بعد يومكم، والسبب أنهم قدموه وأنزلوه فوق منزلته حسب نظره رحمة الله عليه.
ومن أخبار السلف رحمة الله عليهم ورضي الله عنهم ما ذكره ابن جريج رحمه الله، قال: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنةً، أي: وهو منقطع عن العلم ينام في المسجد، ويتدبر العلم ليله ونهاره.
وقال إسماعيل بن أمية : كان عطاء يجيد الصمت، فإذا تكلم خيل إلينا أنه مؤيد، يعني: كأنما تمده الملائكة بما يقول، وكان أسود أفطس أعور أشل أعرج ثم عمي، يعني: اجتمعت فيه خمسة عاهات، ففي جسمه خمسة عيوب منها: أنه أسود، وأفطس، وأعور، وأشل، وأعرج، وفي النهاية صار أعمى، فهذه خمسة عيوب كانت في جسمه رحمة الله عليه، ولكنه كان ركناً من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة، وكان ثقةً فقيهاً حج نيفاً وسبعين حجة.قال عبد الرحمن بن مهدي : كان يقال: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، وإذا لقي من هو مثله في العلم، دراسه، أي: تدارس معه العلم.
وبهذه المناسبة أيها الأحبة، فإنني أذكر إخوتي طلبة العلم بأن هناك دورة علمية، أو أكثر من دورة علمية ستقام في إجازة الربيع إن شاء الله لبعض العلماء الأجلاء من الذين قدموا من الرياض ومن غيرها لإقامة دورات علمية في الفقه، وفي الحديث، وفي العقيدة، وفي اللغة، وفي الأصول، فأنصح بملازمة هذه الحلقات، ثم إنني أنصح بأمر آخر، وهو أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على مجالسة أهل العلم ويتلقى العلم عنهم، فإن فاته ذلك، فهناك ما يسمى بالتجارب كما يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمة الله عليه، يقول: كان يقال إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، أي: فليغتنم هذا اليوم، وليتعلم منه تعلماً عظيماً، وإذا لقي من هو مثله -أي من مثله في العلم- دراسه، ولذلك فإنني أنصح إخواني بالمدارسة؛ كأن تخصص لنفسك وقتاً بعد صلاة الفجر تلتقي فيه مع من هو مثلك في العلم قد لا يزيد عليك، فتلتقي أنت وهو فتحفظون مثلاً عمدة الأحكام في الحديث، أو بلوغ المرام ، أو الأربعين النووية إن لم تكونوا حفظتموها، أو كتاب الله أولاً وقبل كل شيء إن لم تكونوا قد حفظتموه، وهكذا يكون لكم ورد يومي بعد صلاة الفجر أنت وأحد أقرانك يعلم بعضكم بعضاً، وينفع بعضكم بعضاً، ويخبر بعضهم الآخر بما فاته من العلم، وبما سمعه من العلماء، فإن هذا باب عظيم كان السلف يتبعونه كما يقول ابن مهدي : وإذا لقي من هو مثله، دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماماً في العلم من حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً من حدث عن كل أحد، ولا من يحدث بالشاذ.
هذه بعض أخبارهم في طلب العلم، ومن ذلك ما نقل عن إبراهيم الحربي -وهو أحد علماء السلف الكبار رحمة الله عليه- قال: كان إبراهيم الحربي رجلاً صالحاً من أهل العلم، بلغه أن قوماً من الذين كانوا يدالفونه -يفضلونه على أحمد بن حنبل - فوقفهم على ذلك، فأقروا به، يعني: سألهم هل تفضلوني على أحمد بن حنبل ؟ قالوا: نعم، فعاقبهم إبراهيم عقوبة شديدة، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لم أشبهه، ولم ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أسمعكم شيئاً من العلم أبداً، فلا تأتوني بعد يومكم، والسبب أنهم قدموه وأنزلوه فوق منزلته حسب نظره رحمة الله عليه.
ومن أخبار السلف رحمة الله عليهم ورضي الله عنهم ما ذكره ابن جريج رحمه الله، قال: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنةً، أي: وهو منقطع عن العلم ينام في المسجد، ويتدبر العلم ليله ونهاره.
وقال إسماعيل بن أمية : كان عطاء يجيد الصمت، فإذا تكلم خيل إلينا أنه مؤيد، يعني: كأنما تمده الملائكة بما يقول، وكان أسود أفطس أعور أشل أعرج ثم عمي، يعني: اجتمعت فيه خمسة عاهات، ففي جسمه خمسة عيوب منها: أنه أسود، وأفطس، وأعور، وأشل، وأعرج، وفي النهاية صار أعمى، فهذه خمسة عيوب كانت في جسمه رحمة الله عليه، ولكنه كان ركناً من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة، وكان ثقةً فقيهاً حج نيفاً وسبعين حجة.الزهري لا ينام الليل يبحث عن حديث ... قال الليث بن سعد : تذاكر محمد بن شهاب الزهري -الحافظ المحدث الفقيه، التابعي الجليل عالم الحجاز رحمه الله -ليلة بعد العشاء حديثاً وهو جالس متوضئ، فما زال ذلك مجلسه وهو يبحث في الحديث حتى طلع الصبح، قال مروان : جعل يتذاكر الحديث، وهو في مجلسه يذكر الحديث ويبحث في كتب العلم بعد صلاة العشاء وهو على الوضوء حتى طلع الفجر وهو كذلك رحمة الله عليه.قال الليث بن سعد : تذاكر محمد بن شهاب الزهري -الحافظ المحدث الفقيه، التابعي الجليل عالم الحجاز رحمه الله -ليلة بعد العشاء حديثاً وهو جالس متوضئ، فما زال ذلك مجلسه وهو يبحث في الحديث حتى طلع الصبح، قال مروان : جعل يتذاكر الحديث، وهو في مجلسه يذكر الحديث ويبحث في كتب العلم بعد صلاة العشاء وهو على الوضوء حتى طلع الفجر وهو كذلك رحمة الله عليه.الشنقيطي يبحث في مسألة فقهية ... وقريباً من هذه القصة نقل عن الشيخ الإمام العابد الزاهد القدوة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان الذي توفي بمكة عام 1392 للهجرة حيث نقل عن نفسه رحمة الله عليه أنه لما كان في بلاده يطلب العلم عن مشايخه شرحت له مسألة في الفقه، فلم يفهمها، فسأل شيخه عنها، فلم يستطع أن يفهمها إياه، قال: فلما انصرفت في الضحى من عند شيخي، ذهبت إلى الكتب والشروحات والمطولات، فأخذت أفتشها وأقرأ فيها، وأبحث عن شرح هذه المسألة حتى أدركتني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقال: فلما صار المغرب وأظلم الليل، أمرت خادمي أن يوقد لي النار لأستضيء بها -وكنت في الصحراء- قال: فجلست أقرأ على ضوء النار حتى طلع الفجر، فقمت فصليت الفجر، ثم جلست أقرأ حتى طلعت الشمس، ثم إنني ما طلعت الشمس حتى كانت المسألة عندي واضحة كل الوضوح، وفهمتها وعقلتها وتبينتها.
فهو رحمة الله عليه بدأ بالبحث قبل صلاة العصر وأدركته صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر وهو في جلسة واحدة لا يقوم منها إلا لصلاة، أو لطعام رحمة الله عليه، ولم يرقد طوال ليله، وهكذا كان السلف يشغلهم العلم حتى ينسيهم أنفسهم رحمة الله عليهم.
وقال فضيل بن غزوان : كنا نجلس أنا و المغيرة ، -وعدد أناساً- نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر. يجلسون بعد العشاء يتذاكرون الفقه والعلم، فربما لا يقومون من مجلسهم حتى يؤذن، أو يسمعون نداء صلاة الفجر، فيتفرقون رحمة الله عليهم.وقريباً من هذه القصة نقل عن الشيخ الإمام العابد الزاهد القدوة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان الذي توفي بمكة عام 1392 للهجرة حيث نقل عن نفسه رحمة الله عليه أنه لما كان في بلاده يطلب العلم عن مشايخه شرحت له مسألة في الفقه، فلم يفهمها، فسأل شيخه عنها، فلم يستطع أن يفهمها إياه، قال: فلما انصرفت في الضحى من عند شيخي، ذهبت إلى الكتب والشروحات والمطولات، فأخذت أفتشها وأقرأ فيها، وأبحث عن شرح هذه المسألة حتى أدركتني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقال: فلما صار المغرب وأظلم الليل، أمرت خادمي أن يوقد لي النار لأستضيء بها -وكنت في الصحراء- قال: فجلست أقرأ على ضوء النار حتى طلع الفجر، فقمت فصليت الفجر، ثم جلست أقرأ حتى طلعت الشمس، ثم إنني ما طلعت الشمس حتى كانت المسألة عندي واضحة كل الوضوح، وفهمتها وعقلتها وتبينتها.
فهو رحمة الله عليه بدأ بالبحث قبل صلاة العصر وأدركته صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر وهو في جلسة واحدة لا يقوم منها إلا لصلاة، أو لطعام رحمة الله عليه، ولم يرقد طوال ليله، وهكذا كان السلف يشغلهم العلم حتى ينسيهم أنفسهم رحمة الله عليهم.
وقال فضيل بن غزوان : كنا نجلس أنا و المغيرة ، -وعدد أناساً- نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر. يجلسون بعد العشاء يتذاكرون الفقه والعلم، فربما لا يقومون من مجلسهم حتى يؤذن، أو يسمعون نداء صلاة الفجر، فيتفرقون رحمة الله عليهم.همة حبر الأمة في الطلب ... عن عكرمة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال ابن عباس : [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب آخر معي من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتعلم منهم، فإنهم اليوم كثير، فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس ! أترى أن الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ]]^ يعني: أن العلماء موجودون، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، أتظن يا ابن عباس أن الناس يحتاجون إليك، وأنت شاب صغير في الثالثة عشرة من عمرك؟
وهذه في الحقيقة كلمة فيها تثبيط، وكثيراً ما نسمعها من طلبة العلم اليوم، فنجد بعض طلبة العلم لا يجتهد في الطلب، ولا يترك أحداً يجتهد، ولا يعين مجتهداً، بل يكون همه التثبيط، فإذا رأى طالب علم شمر عن ساعد الجد واجتهد في طلبه للعلم لينال فيه القدح المعلا، تجده يفتنه فيه في الغالب حتى يصرفه عن حلقات العلم، وحتى يصرفه عن تحصيل العلم، فلا هو بالذي حصَّل بنفسه ولا هو الذي حث غيره، وهذا لم يكف المسلمين من شره ولم يجتهد هو في الخير، وهذه من شر الخصال، والواجب على المسلم أن يتقي الله، وأن يطلب العلم بنفسه ويحث غيره، فإن عجز فلا أقل من أن يطلب العلم، فإن عجز فلا أقل من أن يكف الناس من شره، ولا يثبط طالب علم مشمر عن ساعد الجد سالك السبيل.
والعبرة في قصة ابن عباس أنه لم ينثنِ، ولم ينفتل، ولم يتراجع عن عزيمته القوية على طلب العلم، ولم يصغ إلى كلام هذا الشاب الأنصاري الذي أراد أن يصرفه عن ذلك، ويقول له: اقعد، فالعلماء كثير و أبو بكر موجود و عمر و عثمان و علي ، والعلماء كثر، ولن يحتاج الناس إليك، لم يسمع لكلامه، بل شمر ابن عباس عن ساعد الجد وطلب العلم.
يقول ابن عباس : [[فترك ذاك -يعني: ترك العلم- وأقبلت أنا على المسألة -يعني: أقبل يسأل العلماء من الصحابة من أبي بكر و عمر و عثمان و علي وغيرهم من علماء الصحابة؛ يجمع منهم ويروي عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فإن كنت لآتي الرجل في الحديث الواحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ]]^.
في أيامهم رضي الله عنهم لم يكن العلم ميسراً كما هو الآن، فتجد الواحد منا يمسك صحيح البخاري ويجد فيه خمسة آلاف حديث، و صحيح مسلم ، وغيرها من كتب الحديث، كلها موجودة بين أيدينا في ورق، في مكان صغير يجتمع عشرات الألوف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليها الإنسان بكل سهولة، أما الصحابة فلم تكن عندهم كتب، ولم تكتب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الذي كتب القرآن الكريم فقط، فكان الواحد منهم يسمع أن فلان بن فلان من الصحابة عنده حديث، فيسافر إليه سفراً طويلاً من أجل أن يأخذ عنه هذا الحديث، يقول ابن عباس : [[فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلاً -يعني: نائماً وقت القيلولة في منتصف النهار- فأتوسد ردائي على بابه -فلا يطرق عليه بابه في وقت من أوقات العورات التي قال الله عز وجل فيها: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ [النور:58] قال: فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قد قال: فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي التراب ]] رضي الله عنه وأرضاه، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينام ويتوسد رداءه على بيت عالم من علماء الصحابة من أجل ألا يطرق عليه الباب فيزعجه ويوقظه من نومه، بل ينتظره عند بابه ويتوسد رداءه، فتأتي الريح فتسفي عليه التراب وهو ينتظر أن يخرج الرجل من بيته حتى يسأله عن حديث واحد رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك كان ابن عباس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل }^ كان عالماً جليلاً من علماء الصحابة رضي الله عنهم، بل هو من أكابر العلماء في الفقه والتفسير، وفي فهم كتاب الله، وتعلمون قصته التي رد بها على الخوارج ، وكانوا ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف كما نقل في السير والأخبار، فناقشهم ابن عباس في العلم فرجع منهم أربعة آلاف هداهم الله عز وجل بسبب علم ابن عباس واطلاعه.
فقد جاءهم وعليه ثوب غالي الثمن، ثوب جميل لبسه ابن عباس لما ذهب ليناظرهم، فقالوا: تلبس هذا الثوب بهذا الثمن الغالي وبهذا الثمن الباهظ، فرد عليهم ابن عباس بكتاب الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]^ فأفحمهم بكتاب الله.
ثم إنه ناظرهم في مسألة الحكم لما قالوا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 7]^ و علي حكم الرجال، فقال لهم ابن عباس : لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون عن قولكم؟
لأن الخوارج يحتجون بأن علياً حكم الرجال، يعني: حكم أبا موسى الأشعري ، و عمرو بن العاص ، مع أن الله عز وجل يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:7]^ ويقول: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]^ فالحكم له وحده و علي حكَّم الرجال هكذا كانوا يقولون.
فقال: أرأيتكم لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون؟ قالوا: نعم، فذكر لهم قول الله عز وجل: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]^ وقال تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]^ قال: ألم تروا أن الله عز وجل نصب حكاماً من الخلق في مسائل في طير يقتل بالحرم، قالوا: بلى.
فالشاهد: أنه ناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وهداهم الله عز وجل على يدي ابن عباس ذلك العالم الرباني الذي طلب العلم، وبذل جهده الواسع في سبيل تحصيله حتى كان إماماً في الدين، وهدى الله على يديه هذه الأمة الكبيرة، ويناله أجرهم بإذن الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من دل على هدى كان له مثل أجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً }^ ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم }^ ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ من الدنيا وما فيها }^ ويقول ابن عباس : [[ فكانت الريح تسفي التراب على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج، قال: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك -الصحابي يقول لابن عباس : لو أرسلت إليَّ حتى آتيك أنا بدل أن تأتي إلى بيتي وتتوسد ردائك وتسفي الريح التراب على وجهك- فيقول ابن عباس : لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك ]].
وهذه الواقعة تعددت وحصلت عدة مرات من ابن عباس رضي الله عنهما، يقول ابن عباس : [[ فكان الرجل -يعني: الشاب الأنصاري الذي اقترح عليه أن يجتهد في طلب العلم في أول أيام شبابهما- بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني: العلماء الكبار من الصحابة- واجتمع الناس حولي يسألونني عن العلم، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني ]] أي: الصحابي الشاب الذي اقترح على ابن عباس أن يجمع العلم من الصحابة فرفض، ورأى ابن عباس بعد سنين طويلة أكثر من عشرين أو ثلاثين أو أكثر من ذلك من السنين رآه وقد مات علماء الصحابة الكبار وبقي ابن عباس ، والتف الناس حوله يسألونه عن العلم، فرآه ذلك الشاب الذي كان شاباً، فيقول: كان هذا الفتى أعقل مني.
قال الحاكم عقب هذا الخبر: هذا الحديث أصلٌ في طلب الحديث وتوقير المحدث.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري بسنده عن ابن عباس قال: [[ وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدهم-أقيل: أقضي وقت القائلة -ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأُذن لي، يعني: وأنا أعلم أني لو طرقت الباب، لأذنوا لي وفتحوا الباب، لكني ما كنت أفعل ذلك حتى لا أزعجه، وحتى لا يتذمر مني، وحتى يقبل عليَّ بنفس منشرحة وقد ارتاح واطمأن ]] وهذا من توقير ابن عباس رضي الله عنهما للعلم وأهله، فلم يكن يسعى لإزعاج من عنده العلم، ومن عنده الفهم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسعى لإزعاجه، بل كان يتلطف تلطفاً؛ مع أنه لو طرق عليه الباب لخرج له، يقول: ولو شئت أن يؤذن لي عليه، لأُذن لي، ولكني أبتغي بذلك طيب نفسه، يعني: لا يريد أن يعكر مزاجه ويحدثه وهو سيء المزاج وهو متعب متكدر.عن عكرمة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال ابن عباس : [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب آخر معي من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتعلم منهم، فإنهم اليوم كثير، فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس ! أترى أن الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ]]^ يعني: أن العلماء موجودون، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، أتظن يا ابن عباس أن الناس يحتاجون إليك، وأنت شاب صغير في الثالثة عشرة من عمرك؟
وهذه في الحقيقة كلمة فيها تثبيط، وكثيراً ما نسمعها من طلبة العلم اليوم، فنجد بعض طلبة العلم لا يجتهد في الطلب، ولا يترك أحداً يجتهد، ولا يعين مجتهداً، بل يكون همه التثبيط، فإذا رأى طالب علم شمر عن ساعد الجد واجتهد في طلبه للعلم لينال فيه القدح المعلا، تجده يفتنه فيه في الغالب حتى يصرفه عن حلقات العلم، وحتى يصرفه عن تحصيل العلم، فلا هو بالذي حصَّل بنفسه ولا هو الذي حث غيره، وهذا لم يكف المسلمين من شره ولم يجتهد هو في الخير، وهذه من شر الخصال، والواجب على المسلم أن يتقي الله، وأن يطلب العلم بنفسه ويحث غيره، فإن عجز فلا أقل من أن يطلب العلم، فإن عجز فلا أقل من أن يكف الناس من شره، ولا يثبط طالب علم مشمر عن ساعد الجد سالك السبيل.
والعبرة في قصة ابن عباس أنه لم ينثنِ، ولم ينفتل، ولم يتراجع عن عزيمته القوية على طلب العلم، ولم يصغ إلى كلام هذا الشاب الأنصاري الذي أراد أن يصرفه عن ذلك، ويقول له: اقعد، فالعلماء كثير و أبو بكر موجود و عمر و عثمان و علي ، والعلماء كثر، ولن يحتاج الناس إليك، لم يسمع لكلامه، بل شمر ابن عباس عن ساعد الجد وطلب العلم.(1/241)
يقول ابن عباس : [[فترك ذاك -يعني: ترك العلم- وأقبلت أنا على المسألة -يعني: أقبل يسأل العلماء من الصحابة من أبي بكر و عمر و عثمان و علي وغيرهم من علماء الصحابة؛ يجمع منهم ويروي عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فإن كنت لآتي الرجل في الحديث الواحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ]]^.
في أيامهم رضي الله عنهم لم يكن العلم ميسراً كما هو الآن، فتجد الواحد منا يمسك صحيح البخاري ويجد فيه خمسة آلاف حديث، و صحيح مسلم ، وغيرها من كتب الحديث، كلها موجودة بين أيدينا في ورق، في مكان صغير يجتمع عشرات الألوف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليها الإنسان بكل سهولة، أما الصحابة فلم تكن عندهم كتب، ولم تكتب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الذي كتب القرآن الكريم فقط، فكان الواحد منهم يسمع أن فلان بن فلان من الصحابة عنده حديث، فيسافر إليه سفراً طويلاً من أجل أن يأخذ عنه هذا الحديث، يقول ابن عباس : [[فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلاً -يعني: نائماً وقت القيلولة في منتصف النهار- فأتوسد ردائي على بابه -فلا يطرق عليه بابه في وقت من أوقات العورات التي قال الله عز وجل فيها: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ [النور:58] قال: فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قد قال: فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي التراب ]] رضي الله عنه وأرضاه، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينام ويتوسد رداءه على بيت عالم من علماء الصحابة من أجل ألا يطرق عليه الباب فيزعجه ويوقظه من نومه، بل ينتظره عند بابه ويتوسد رداءه، فتأتي الريح فتسفي عليه التراب وهو ينتظر أن يخرج الرجل من بيته حتى يسأله عن حديث واحد رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك كان ابن عباس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل }^ كان عالماً جليلاً من علماء الصحابة رضي الله عنهم، بل هو من أكابر العلماء في الفقه والتفسير، وفي فهم كتاب الله، وتعلمون قصته التي رد بها على الخوارج ، وكانوا ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف كما نقل في السير والأخبار، فناقشهم ابن عباس في العلم فرجع منهم أربعة آلاف هداهم الله عز وجل بسبب علم ابن عباس واطلاعه.
فقد جاءهم وعليه ثوب غالي الثمن، ثوب جميل لبسه ابن عباس لما ذهب ليناظرهم، فقالوا: تلبس هذا الثوب بهذا الثمن الغالي وبهذا الثمن الباهظ، فرد عليهم ابن عباس بكتاب الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]^ فأفحمهم بكتاب الله.
ثم إنه ناظرهم في مسألة الحكم لما قالوا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 7]^ و علي حكم الرجال، فقال لهم ابن عباس : لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون عن قولكم؟
لأن الخوارج يحتجون بأن علياً حكم الرجال، يعني: حكم أبا موسى الأشعري ، و عمرو بن العاص ، مع أن الله عز وجل يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:7]^ ويقول: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]^ فالحكم له وحده و علي حكَّم الرجال هكذا كانوا يقولون.
فقال: أرأيتكم لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون؟ قالوا: نعم، فذكر لهم قول الله عز وجل: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]^ وقال تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]^ قال: ألم تروا أن الله عز وجل نصب حكاماً من الخلق في مسائل في طير يقتل بالحرم، قالوا: بلى.
فالشاهد: أنه ناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وهداهم الله عز وجل على يدي ابن عباس ذلك العالم الرباني الذي طلب العلم، وبذل جهده الواسع في سبيل تحصيله حتى كان إماماً في الدين، وهدى الله على يديه هذه الأمة الكبيرة، ويناله أجرهم بإذن الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من دل على هدى كان له مثل أجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً }^ ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم }^ ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ من الدنيا وما فيها }^ ويقول ابن عباس : [[ فكانت الريح تسفي التراب على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج، قال: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك -الصحابي يقول لابن عباس : لو أرسلت إليَّ حتى آتيك أنا بدل أن تأتي إلى بيتي وتتوسد ردائك وتسفي الريح التراب على وجهك- فيقول ابن عباس : لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك ]].
وهذه الواقعة تعددت وحصلت عدة مرات من ابن عباس رضي الله عنهما، يقول ابن عباس : [[ فكان الرجل -يعني: الشاب الأنصاري الذي اقترح عليه أن يجتهد في طلب العلم في أول أيام شبابهما- بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني: العلماء الكبار من الصحابة- واجتمع الناس حولي يسألونني عن العلم، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني ]] أي: الصحابي الشاب الذي اقترح على ابن عباس أن يجمع العلم من الصحابة فرفض، ورأى ابن عباس بعد سنين طويلة أكثر من عشرين أو ثلاثين أو أكثر من ذلك من السنين رآه وقد مات علماء الصحابة الكبار وبقي ابن عباس ، والتف الناس حوله يسألونه عن العلم، فرآه ذلك الشاب الذي كان شاباً، فيقول: كان هذا الفتى أعقل مني.
قال الحاكم عقب هذا الخبر: هذا الحديث أصلٌ في طلب الحديث وتوقير المحدث.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري بسنده عن ابن عباس قال: [[ وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدهم-أقيل: أقضي وقت القائلة -ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأُذن لي، يعني: وأنا أعلم أني لو طرقت الباب، لأذنوا لي وفتحوا الباب، لكني ما كنت أفعل ذلك حتى لا أزعجه، وحتى لا يتذمر مني، وحتى يقبل عليَّ بنفس منشرحة وقد ارتاح واطمأن ]] وهذا من توقير ابن عباس رضي الله عنهما للعلم وأهله، فلم يكن يسعى لإزعاج من عنده العلم، ومن عنده الفهم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسعى لإزعاجه، بل كان يتلطف تلطفاً؛ مع أنه لو طرق عليه الباب لخرج له، يقول: ولو شئت أن يؤذن لي عليه، لأُذن لي، ولكني أبتغي بذلك طيب نفسه، يعني: لا يريد أن يعكر مزاجه ويحدثه وهو سيء المزاج وهو متعب متكدر.
العلماء وإنكار المنكر ...
ومما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن السلف من العلماء الأجلاء إنكار المنكر وصدعهم بالحق، لأن هذا هو ضريبة العلم، لأن كل إنسان أعطاه الله العلم، فعليه أن يصدع به، قال الله عز وجل: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39]^ وقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]^.
الشاهد: أن الواجب على من علمه الله العلم، وآتاه الكتاب أن يبينه للناس، ولا يكتمه....... عبادة بن الصامت ينكر على مادح معاوية ... فمما نقل في ذلك عن السلف ما ذكره أحد السلف عن عبادة ، قال: كان عبادة بن الصامت مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً، فأذن يوماً، فقام خطيبٌ من الخطباء يمدح معاوية ويثني عليه، وكان معاوية في ذلك الوقت هو خليفة المسلمين، فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاوية رضي الله عنه وأرضاه.
فقال له عبادة : [[ إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا وعلى أثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا رأيتم المداحين، فحثوا في أفواههم التراب } فأنا أفعل ذلك طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن غضبت ]].
ومما نقل عن السلف في هذا الباب: عن الأوزاعي قال: حدثني أبو كثير عن أبيه، قال: أتيت أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجلٌ، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع أبو ذر رأسه، ثم قال: أرقيب أنت عليَّ؟ لو وضعتم السماطة على هذه، وأشار بيده على قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليَّ لأنفذتها.فمما نقل في ذلك عن السلف ما ذكره أحد السلف عن عبادة ، قال: كان عبادة بن الصامت مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً، فأذن يوماً، فقام خطيبٌ من الخطباء يمدح معاوية ويثني عليه، وكان معاوية في ذلك الوقت هو خليفة المسلمين، فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاوية رضي الله عنه وأرضاه.
فقال له عبادة : [[ إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا وعلى أثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا رأيتم المداحين، فحثوا في أفواههم التراب } فأنا أفعل ذلك طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن غضبت ]].
ومما نقل عن السلف في هذا الباب: عن الأوزاعي قال: حدثني أبو كثير عن أبيه، قال: أتيت أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجلٌ، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع أبو ذر رأسه، ثم قال: أرقيب أنت عليَّ؟ لو وضعتم السماطة على هذه، وأشار بيده على قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليَّ لأنفذتها.
العمري يعظ الرشيد على الصفا ... ومن ذلك ما ذكر عن سعيد بن سليمان ، قال: كنت في مكة في زقاق، وإذا جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري ، وقد حج هارون الرشيد ، فقال له إنسان: يا أبا عبد الرحمن ! هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أخلي له المسعى، فقال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرا؛ً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً، يعني: ما دام أخبرتني أن أمير المؤمنين في المسعى، فقد كلفتني بأمر عظيم كنت في سعة منه، وكنت غنياً عنه، وهو أن أقوم إلى أمير المؤمنين، فآمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر.
ثم تعلق نعليه -يعني: أخذ نعليه معه- وقام، قال: فتبعته، وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا ، فصاح فيه العمري رحمه الله: يا هارون ، فلما نظر إليه هارون .
قال: لبيك يا عمي.
قال: ارق الصفا ، فرقي هارون الرشيد ، فلما رقيه، قال له العمري : ارم بطرفك إلى الكعبة -يعني: انظر إلى الكعبة-
قال: قد فعلت، قال: كم هم؟ يعني: كم الذين يطوفون حول الكعبة؟
قال هارون : ومن يحصيهم؟
قال: فكم من الناس مثلهم غيرهم؟
قال: خلق لا يحصيهم إلا الله.
قال العمري : اعلم يا هارون الرشيد ! أن كل واحد من هؤلاء يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم يوم القيامة، فانظر كيف تكون؟
قال: فبكى هارون الرشيد وجلس، وجعلوا يعطونه منديلاً للدموع.
قال العمري : وأخرى أقولها لك يا هارون .
قال: قل يا عمي.
قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله، فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في بيت مال المسلمين.
ثم مضى و هارون يبكي.
فرحمة الله على هارون الرشيد ، ورحمة الله على من نصحه، وبهذه القصة العطرة أختم هذه الجلسة المباركة إن شاء الله، والتي طفنا فيها في بعض أخبار العلماء وآثارهم وملحهم رحمة الله عليهم.
وفي الختام أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً من العلماء الربانيين الذين يعملون بالكتاب ويدرِّسون كما قال الله جل وعلا: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]^، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39]^.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاَ ولساناً ذاكراً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا وقاراً، ربنا زدنا هدى، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.ومن ذلك ما ذكر عن سعيد بن سليمان ، قال: كنت في مكة في زقاق، وإذا جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري ، وقد حج هارون الرشيد ، فقال له إنسان: يا أبا عبد الرحمن ! هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أخلي له المسعى، فقال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرا؛ً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً، يعني: ما دام أخبرتني أن أمير المؤمنين في المسعى، فقد كلفتني بأمر عظيم كنت في سعة منه، وكنت غنياً عنه، وهو أن أقوم إلى أمير المؤمنين، فآمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر.
ثم تعلق نعليه -يعني: أخذ نعليه معه- وقام، قال: فتبعته، وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا ، فصاح فيه العمري رحمه الله: يا هارون ، فلما نظر إليه هارون .
قال: لبيك يا عمي.
قال: ارق الصفا ، فرقي هارون الرشيد ، فلما رقيه، قال له العمري : ارم بطرفك إلى الكعبة -يعني: انظر إلى الكعبة-
قال: قد فعلت، قال: كم هم؟ يعني: كم الذين يطوفون حول الكعبة؟
قال هارون : ومن يحصيهم؟
قال: فكم من الناس مثلهم غيرهم؟
قال: خلق لا يحصيهم إلا الله.
قال العمري : اعلم يا هارون الرشيد ! أن كل واحد من هؤلاء يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم يوم القيامة، فانظر كيف تكون؟
قال: فبكى هارون الرشيد وجلس، وجعلوا يعطونه منديلاً للدموع.
قال العمري : وأخرى أقولها لك يا هارون .
قال: قل يا عمي.
قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله، فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في بيت مال المسلمين.
ثم مضى و هارون يبكي.
فرحمة الله على هارون الرشيد ، ورحمة الله على من نصحه، وبهذه القصة العطرة أختم هذه الجلسة المباركة إن شاء الله، والتي طفنا فيها في بعض أخبار العلماء وآثارهم وملحهم رحمة الله عليهم.
وفي الختام أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً من العلماء الربانيين الذين يعملون بالكتاب ويدرِّسون كما قال الله جل وعلا: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]^، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39]^.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاَ ولساناً ذاكراً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا وقاراً، ربنا زدنا هدى، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــ(1/242)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن من أهم خصائص الأمة الإسلامية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام بها أصبحت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وبسبب تركها لعنت أمم، وطردت من رحمة الله.
فالواجب على المسلم أن يقوم بها في كل وقت ومكان، كل بحسب حاله ومكانه، والأمر بالمعروف له شروط وضوابط ووسائل يجب أن ينضبط بها.
ضرورة الانقياد للكتاب والسنة ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
يا أمة الحق والآلام مقبلة متى تعين ونار الشر تستعر
متى الفواق وقد ضمت مصيبتنا متى الخلاص وقد لمت بنا العبر
متى يعود إلى الإسلام مسجده متى يعود إلى محرابه عمر أكل يوم يرى للدين نازلة وأمة الحق لا سمع ولا بصر
عباد الله: ونحن نعيش زمناً عصيباً، ووقتاً دقيقاً وحرجاً، يتعلق بمصير أمتنا، أقول: إن النجاة في انقيادنا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كتب الله لهذه الأمة حين تحيد عن كتاب الله أن تتقلب في ثنايا الإهانات، وتتنقل من هزيمة إلى هزيمة.
فلنرفع الغطاء عن أعيننا، ولنكن صرحاء مع أنفسنا، كفانا نكبات، وكفانا كوارث، وكفانا نكسات، وكفانا تلمس النصر في ثنايا البشر من دون الله، كفانا كوننا عن كتاب الله بعيدين، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حائدين، ولنعُد إلى الحق المبين، فاسمعوا إليه يوم يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] ألا فاتقوا الله حق تقواه يا عباد الله! واعلموا أن من أسباب النجاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أسباب السقوط والهلاك: السكوت عن المنكرات، قال تعالى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165].......الأمر بالمعروف من خصائص هذه الأمة
ألا فاعلموا أن من أعظم خصائص أمتنا أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن علماءها يغضبون إذا انتُهكت محارم الله، ودعاتها يشتاطون غيظاً وغضباً لانتهاك حدود الله، فهي المأمورة بقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
ألا فلتكن طائفة تقف على حدود الله؛ ترعى المجتمع، تنظر لأحوال الأمة لا تسمح للجريمة، غَضِبَ مَنْ غضب ورَضِيَ مَنْ رضي، ليكن منكم علماء ودعاة يقفون أمام الشرور والمنكرات، يؤدون رسالة الله؛ ليرحمنا الله عز وجل: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].
يوم يترك الأمر بالمعروف، فلنعلم أننا نحارب الله، ولنعلم أن غضب الله قد طوَّقنا، وأن سخط الله قد قرب منا.
فإن تمادَتْ بنا الأهواء والخور فهي العقوبة لا تُبقي ولا تذر
ما نتيجة أن يقر الناس على الجريمة، ويسكت على الفاحشة، ويقدم العاصي، ويؤخر المؤمن المرضي الراضي؟
ما نتيجة ترك الصلوات؟
وتعاطي المخدرات؟
والركون إلى الذين ظلموا وسماع الأغاني الماجنات، والجري وراء الشهوات، والمجاهرة بكل هذه المنكرات؟
ما نتيجة الرضا بكل هذه المنكرات، وما نتيجة السكوت على هذه المنكرات؟
إن نتيجة ذلك ومعناه سوف تختل الأمور، ويغضب الله وملائكته، معناه: أن البركة نزعت؛ لأننا سمعنا ورأينا وسكتنا، فما حرَّكنا ساكناً، وإلا لماذا كنا خير أمة أخرجت للناس؟ كنا كذلك بالأمر والنهي؛ نأمر بالمعروف بالمعروف، وننهى عن المنكر بالمعروف، وإلا فإن العذاب والسوء ينتظرنا.......
عاقبة التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... في الأثر: أن الله جل وعلا أوحى إلى جبريل -عليه السلام-: أن اقلب مدينة سبأ على من فيها -وجبريل كما تعلمون أعطاه الله قوة هائلة، يقتلع الجبال والوديان والثغور والأشجار والأحجار، وله ستمائة جناح، بجناح واحد حمل أربع قرى- فرفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم رماهم، فجعل عاليهم سافلهم، أرسله الله إلى هذه المدينة ليقلبها على من فيها، فقال: يا رب إن فيها عبدَك فلاناً، لم يعصِك طرفة عين، قال الله: فبه فابدأ؛ لأنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ قط.
لا إله إلا الله! يصلي ولم يعصِ الله طرفة عين، لكنه يرى المنكر فلا يغار، ويسكت عليه، فنزل جبريل، فأخذه بطرف جناح من معبده، فجعله في أول موكب المعذبين وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78] لم لعنوا؟ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
ذاك في بني إسرائيل، لكن والله قد وجد في مجتمعاتنا من يدعو إلى عدم التكلم عن الجرائم والمنكرات، وعدم تشخيصها وتحذير الأمة منها، ووالله ما حصل ذلك إلا وهلكت الأمة، وذهبت إلى الدمار، والعار، والنار: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
الزنا ودور الخمر فشت، وقطيعة الرحم والعقوق ذاعت، وتَفْوِيت الجماعات شاع، والتطفيف في المكيال والميزان زاد، والضغينة والمنكرات فاحت رائحتها، وعلماء بني إسرائيل ساكتون، صامتون، ملجمون، لماذا سكتوا؟ رغبةً أم رهبةً، والسكوت دائماً إما رغبة وإما رهبة؛ إما رغبة في حطام فانٍ أو منازل ومناصب، أو وظائف لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما رهبة من سوط وقسوة بعض الظلمة، فسكتوا، فماذا كان الجزاء؟
قال سبحانه: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] قال أهل العلم: كان في الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي : {إنما دخل النقض على بني إسرائيل أنه كان إذا لقي أحدهم أخاه وهو على الفاحشة، قال له: اتق الله، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك لعنهم الله، وعمَّهم بعقاب وغضب من عنده، وكان صلى الله عليه وسلم متكئًا فتربع، وجلس، وقال: كلا والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم }.
لا إله إلا الله! نعوذ بالله من لعنة الله، وغضب الله: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم }، {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم }.
أترضون أن يعم الشر؛ فيُؤخَذ الصالح والطالح، وأن تنزل لعنة الله، وإذا تنزلت لا ترفع؟!
أترضون أن يمقتنا الله من فوق سماواته؟!
أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
أما اتكلنا على غير الله؟ أما عمت الشعوذة والخرافة في بعض القرى والبوادي؟ أما انتشر الفحش؟ أما استبدل القرآن في بيوت كثير من الناس بالأغنية؟ أما عوض في متاع القرآن باللهو والمجون؟ أما ضيعت الصلوات- إلا في بيوت من رحم الله-؟ أما تُهُوِّنَ بالجماعات؟ أما انتشر الربا وسُكت عليه؟ أما قطعت الأرحام؟ أما أُعلن الإلحاد؟ أما سُبَّ الإله؟ أما سُبَّ محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما قُتِّل المسلمون؟ أما أُحييت الليالي الماجنات من المغنين والمغنيات على (هل رأى الحب سكارى مثلنا)، (ارفع ستار الخجل)، وغيرها من الترهات والخزعبلات؟ أما أُخذ الميراث؟ أما عُقَّ الوالدان؟
ولم يؤخذ على أيدي هؤلاء والدعاة مئات ومئات، والعلماء كذلك، والجامعات والمعاهد والمدارس تخرج؟في الأثر: أن الله جل وعلا أوحى إلى جبريل -عليه السلام-: أن اقلب مدينة سبأ على من فيها -وجبريل كما تعلمون أعطاه الله قوة هائلة، يقتلع الجبال والوديان والثغور والأشجار والأحجار، وله ستمائة جناح، بجناح واحد حمل أربع قرى- فرفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم رماهم، فجعل عاليهم سافلهم، أرسله الله إلى هذه المدينة ليقلبها على من فيها، فقال: يا رب إن فيها عبدَك فلاناً، لم يعصِك طرفة عين، قال الله: فبه فابدأ؛ لأنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ قط.
لا إله إلا الله! يصلي ولم يعصِ الله طرفة عين، لكنه يرى المنكر فلا يغار، ويسكت عليه، فنزل جبريل، فأخذه بطرف جناح من معبده، فجعله في أول موكب المعذبين وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78] لم لعنوا؟ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
ذاك في بني إسرائيل، لكن والله قد وجد في مجتمعاتنا من يدعو إلى عدم التكلم عن الجرائم والمنكرات، وعدم تشخيصها وتحذير الأمة منها، ووالله ما حصل ذلك إلا وهلكت الأمة، وذهبت إلى الدمار، والعار، والنار: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
الزنا ودور الخمر فشت، وقطيعة الرحم والعقوق ذاعت، وتَفْوِيت الجماعات شاع، والتطفيف في المكيال والميزان زاد، والضغينة والمنكرات فاحت رائحتها، وعلماء بني إسرائيل ساكتون، صامتون، ملجمون، لماذا سكتوا؟ رغبةً أم رهبةً، والسكوت دائماً إما رغبة وإما رهبة؛ إما رغبة في حطام فانٍ أو منازل ومناصب، أو وظائف لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما رهبة من سوط وقسوة بعض الظلمة، فسكتوا، فماذا كان الجزاء؟
قال سبحانه: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] قال أهل العلم: كان في الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي : {إنما دخل النقض على بني إسرائيل أنه كان إذا لقي أحدهم أخاه وهو على الفاحشة، قال له: اتق الله، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك لعنهم الله، وعمَّهم بعقاب وغضب من عنده، وكان صلى الله عليه وسلم متكئًا فتربع، وجلس، وقال: كلا والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم }.
لا إله إلا الله! نعوذ بالله من لعنة الله، وغضب الله: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم }، {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم }.
أترضون أن يعم الشر؛ فيُؤخَذ الصالح والطالح، وأن تنزل لعنة الله، وإذا تنزلت لا ترفع؟!
أترضون أن يمقتنا الله من فوق سماواته؟!
أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
أما اتكلنا على غير الله؟ أما عمت الشعوذة والخرافة في بعض القرى والبوادي؟ أما انتشر الفحش؟ أما استبدل القرآن في بيوت كثير من الناس بالأغنية؟ أما عوض في متاع القرآن باللهو والمجون؟ أما ضيعت الصلوات- إلا في بيوت من رحم الله-؟ أما تُهُوِّنَ بالجماعات؟ أما انتشر الربا وسُكت عليه؟ أما قطعت الأرحام؟ أما أُعلن الإلحاد؟ أما سُبَّ الإله؟ أما سُبَّ محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما قُتِّل المسلمون؟ أما أُحييت الليالي الماجنات من المغنين والمغنيات على (هل رأى الحب سكارى مثلنا)، (ارفع ستار الخجل)، وغيرها من الترهات والخزعبلات؟ أما أُخذ الميراث؟ أما عُقَّ الوالدان؟
ولم يؤخذ على أيدي هؤلاء والدعاة مئات ومئات، والعلماء كذلك، والجامعات والمعاهد والمدارس تخرج؟مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... فيا طلبة العلم! ويا أيها العلماء! ويا دعاة الإسلام! هذا وقت الأمر والنهي، من يأمر وينهى إن لم تأمروا وتنهوا؟ إنا لا ندعو لمضاربة الناس، ولا لشتمهم، ولا لجرح شعورهم، ولا للتشهير بهم، حاشا وكلا، لكن ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة، ندعو إلى إنقاذ الناس من النار؛ ندعو إلى أخذ الناس لمركب النجاة، ندعو إلى الأخذ بحبل الله؛ بكلمة الحق في أي مكان، بالنصيحة في الشارع، بالقدوة الحسنة، بالزيارات.
يقول محمد صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان }، وفي رواية: {وليس بعد ذلك مثقال حبة خردل من إيمان }، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [[بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، فمنا من وفى بذلك؛ فأجره على الله ]].
ألا لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، يغضب مَنْ يغضب إذا رضي الله، ويسخط من يسخط إذا رضي الله {من أرضى الناس بسخط الله: سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس: رضي الله عليه وأرضى عليه الناس }، والله إذا علم منك أنك تريد إرضاءه، أرضى عنك الناس، وحماك وسددك وكفاك وآواك.
ألا فاحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل القائم في حدود الله- أي: الذي يأمر وينهى- والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان قوم أعلاها، وقوم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على الذين في أعلاها، فظنوا أنهم آذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في الجانب السفلي لما آذينا الذين فوقنا } ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فإذا تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً } وهذا مثل من يترك المفسدين الفجرة الذين يلعبون بالأعراض والمبادئ والقيم، ويقول: نفسي نفسي، يصلي ويخرس كالشيطان الأخرس، من بيته إلى المسجد، ويرى الأمم، ويرى الأجيال، والشباب تائهين، ضائعين، حائرين، ثم لا يقول هذا هو الطريق؛ ليبقى وديعاً، هادئ البال، مطمئناً مرتاحاً. من كلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرى الجرائم ولا يتكلم بكلمة، أما -والله- لو أن أحدنا أمر بأمر بسيط، أو نهى عن منكر في اليوم الواحد بالتي هي أحسن لصلح حالنا.فيا طلبة العلم! ويا أيها العلماء! ويا دعاة الإسلام! هذا وقت الأمر والنهي، من يأمر وينهى إن لم تأمروا وتنهوا؟ إنا لا ندعو لمضاربة الناس، ولا لشتمهم، ولا لجرح شعورهم، ولا للتشهير بهم، حاشا وكلا، لكن ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة، ندعو إلى إنقاذ الناس من النار؛ ندعو إلى أخذ الناس لمركب النجاة، ندعو إلى الأخذ بحبل الله؛ بكلمة الحق في أي مكان، بالنصيحة في الشارع، بالقدوة الحسنة، بالزيارات.
يقول محمد صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان }، وفي رواية: {وليس بعد ذلك مثقال حبة خردل من إيمان }، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [[بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، فمنا من وفى بذلك؛ فأجره على الله ]].
ألا لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، يغضب مَنْ يغضب إذا رضي الله، ويسخط من يسخط إذا رضي الله {من أرضى الناس بسخط الله: سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس: رضي الله عليه وأرضى عليه الناس }، والله إذا علم منك أنك تريد إرضاءه، أرضى عنك الناس، وحماك وسددك وكفاك وآواك.
ألا فاحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل القائم في حدود الله- أي: الذي يأمر وينهى- والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان قوم أعلاها، وقوم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على الذين في أعلاها، فظنوا أنهم آذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في الجانب السفلي لما آذينا الذين فوقنا } ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فإذا تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً } وهذا مثل من يترك المفسدين الفجرة الذين يلعبون بالأعراض والمبادئ والقيم، ويقول: نفسي نفسي، يصلي ويخرس كالشيطان الأخرس، من بيته إلى المسجد، ويرى الأمم، ويرى الأجيال، والشباب تائهين، ضائعين، حائرين، ثم لا يقول هذا هو الطريق؛ ليبقى وديعاً، هادئ البال، مطمئناً مرتاحاً. من كلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرى الجرائم ولا يتكلم بكلمة، أما -والله- لو أن أحدنا أمر بأمر بسيط، أو نهى عن منكر في اليوم الواحد بالتي هي أحسن لصلح حالنا.شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... من ننتظر أن يصلح حالنا إذا ما أصلحنا؟ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] لكن يشترط في من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر شروط:
أولها: أن يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خالصاً لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثراً ولا فائدة ولا نفعاً، وأن يكون ذا علم، وذا بصيرة وحكمة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وأن يكون عاملاً بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه! لن تقبل دعوته.
لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب، بشراء الأرواح، إن الذي يأتي ليغير منكراً بمنكر ما فعل شيئاً، بل أعان الشيطان على أخيه.
إن من يجرح ويفضح الناس، ويشتم الناس، ويسب الناس، لن يجد أثراً لدعوته، يقول الإمام الشافعي -وهو يعلن مبدأ عظيماً من مبادئ الدعوة إلى الله-:
تعمدني بنُصحكَ في انفراد وجَنِّبْنِي النَّصِيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعَه
فإن خالفتني وعصيتَ أمري فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة
من ننتظر أن يصلح حالنا إذا ما أصلحنا؟ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] لكن يشترط في من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر شروط:
أولها: أن يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خالصاً لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثراً ولا فائدة ولا نفعاً، وأن يكون ذا علم، وذا بصيرة وحكمة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وأن يكون عاملاً بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه! لن تقبل دعوته.
لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب، بشراء الأرواح، إن الذي يأتي ليغير منكراً بمنكر ما فعل شيئاً، بل أعان الشيطان على أخيه.
إن من يجرح ويفضح الناس، ويشتم الناس، ويسب الناس، لن يجد أثراً لدعوته، يقول الإمام الشافعي -وهو يعلن مبدأ عظيماً من مبادئ الدعوة إلى الله-:
تعمدني بنُصحكَ في انفراد وجَنِّبْنِي النَّصِيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعَه
فإن خالفتني وعصيتَ أمري فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة
صور من معاناة السلف الصالح في الأمر والنهي ...
ألا يا عباد الله: مروا بالمعروف ولا تخشوا إلا الله، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير في من لم يسمعها، ولا تظنوا أن الطريق مفروش بالورود لمن أمر ونهى، إنه طريق محمد صلى الله عليه وسلم أوذي فيه، ووضع سلا الجزور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف وما استكان وما هان، وما كان له ذلك، وللدعاة من بعده قدوة فيه صلى الله عليه وسلم.......
الأوزاعي مع عبد الله بن علي
هاهو عبد الله بن علي الحاكم العباسي عم أبي جعفر المنصور يوم دخل دمشق محتلاً؛ دخلها في يوم واحد فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات؛ كان من جبابرة الدنيا، حتى إنه أدخل الخيول في مسجد بني أمية.
ثم دخل قصره وقال: من يعارضني فيما فعلت؟
قالوا: لا يعارضك أحد.
قال: أترون أحداً من الناس يمكن أن ينكر عليَّ.
قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا الأوزاعي -عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد المحدث الكبير- قال: عليَّ بالأوزاعي .
فلما نُوِدي الأوزاعي ؛ علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ إما أن ينجح، أو يرسب رسوباً ما بعده رسوب؛ علم أن الله أراد أن يمتحنه ليصبر، أولا يصبر، فقالوا: للأوزاعى إن عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، والدماء لا زالت تجري على أرض دمشق لم تجف.
فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟(1/243)
لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته، وقال: يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنوده، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، ثم دخل.
وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي به فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رءوسها، ثم قال: أدخلوا الأوزاعي .
فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي ، غضب هذا الأمير غضباً حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي ؟
قال: يقول: الناس أنِّي الأوزاعي ، وقال الأوزاعي في هذه اللحظة: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، والله ما دخلت قصره إلا وقد بعت نفسي من الله عز وجل.
قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟
قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة } فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتلت، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: فرفع رأسه.
فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟
قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عرياناً كما خلقك؛ فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم، قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج، قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزة وكرامة.
ولما مات هذا الإمام، أتى عبد الله بن علي -ذلك الجبار- إلى قبره، وقال: والله إني كنت أخافك أخوف أهل الأرض، ووالله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزاً.
لم خافه.
لأنه صدق مع الله، واعتصم بحبل الله، وخاف الله فَخَّوف الله منه كل شيء.هاهو عبد الله بن علي الحاكم العباسي عم أبي جعفر المنصور يوم دخل دمشق محتلاً؛ دخلها في يوم واحد فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات؛ كان من جبابرة الدنيا، حتى إنه أدخل الخيول في مسجد بني أمية.
ثم دخل قصره وقال: من يعارضني فيما فعلت؟
قالوا: لا يعارضك أحد.
قال: أترون أحداً من الناس يمكن أن ينكر عليَّ.
قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا الأوزاعي -عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد المحدث الكبير- قال: عليَّ بالأوزاعي .
فلما نُوِدي الأوزاعي ؛ علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ إما أن ينجح، أو يرسب رسوباً ما بعده رسوب؛ علم أن الله أراد أن يمتحنه ليصبر، أولا يصبر، فقالوا: للأوزاعى إن عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، والدماء لا زالت تجري على أرض دمشق لم تجف.
فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟
لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته، وقال: يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنوده، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، ثم دخل.
وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي به فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رءوسها، ثم قال: أدخلوا الأوزاعي .
فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي ، غضب هذا الأمير غضباً حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي ؟
قال: يقول: الناس أنِّي الأوزاعي ، وقال الأوزاعي في هذه اللحظة: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، والله ما دخلت قصره إلا وقد بعت نفسي من الله عز وجل.
قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟
قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة } فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتلت، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: فرفع رأسه.
فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟
قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عرياناً كما خلقك؛ فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم، قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج، قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزة وكرامة.
ولما مات هذا الإمام، أتى عبد الله بن علي -ذلك الجبار- إلى قبره، وقال: والله إني كنت أخافك أخوف أهل الأرض، ووالله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزاً.
لم خافه.
لأنه صدق مع الله، واعتصم بحبل الله، وخاف الله فَخَّوف الله منه كل شيء.أبو مسلم الخولاني مع الأسود العنسي ... وهاهو الأسود العنسي -طاغية اليمن - الكافر الساحر، القبيح الظالم، يجتمع حوله اللصوص، وقطاع الطرق؛ ليكونوا فرقة للصد عن سبيل الله، ليذبحوا الدعاة إلى الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وحرق من حرق، وطرد من طرد، وفر الناس بدينهم، وأخذ يهتك الأعراض، ويعذب الدعاة، ومن بين هؤلاء الدعاة المخلصين أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، وحاول أن يثنيه عن دينه، وعن دعوته، وأمره ونهيه، فقال: كلا والذي فطرني لن أقف: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
جمع الأسود الناس، وقال: أتعتقدون في داعيتكم أنه على حق؟ إن كان على حق، فسينجيه الحق، وإن كان على باطل فسترون، ثم أمر بالنار فأضرمت -نار هائلة تمر الطيور من فوقها فتسقط لعِظَمِ ألسنة لهب هذه النار- ثم ربط يديْ أبي مسلم ورجليه بالقيد، ووضعوه في مقلاع، ثم نسفوه بالمقلاع ليهوي في خضم لهيب النار ولظاها وجمرها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
كاد الموحدون أن تنخلع قلوبهم، وقف الناس ينظرون، وبدأت النار تخبو وتضعف، وإذ بأبي مسلم يخرج من طرفها الأخر ماشياً على قدميه، قد فكت النار وثاقه، عليه ثيابه لم تحترق، يدوس بقدميه الحافيتين الجمر ويتبسم وينظر إلى الناس.
ذهل الطاغية، وخاف أن يسلم من لم يسلم، فهددهم وتوعدهم؛ ليصدهم عن سبيل الله، أما أبو مسلم فخرج من النار، وواصل مشيَه فاراً بدينه، والمؤمنون يتبعونه، حتى وصل إلى المدينة -في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ودخل المسجد، وصلى ركعتين.
وسمع به عمر -رضي الله عنه- فجاء يغذ السير إليه، فلما رآه قال: [[ أأنت أبو مسلم ؟
قال: نعم.
قال: أأنت الذي قذفت في النار، وخرجت منها سليماً؟
قال: نعم.
فاعتنقه عمر يبكي، ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل إبراهيم الخليل عليه السلام ]].
ألا فادعوا الله أيها المسلمون، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله، فوالله لو كادتكم السماوات والأرض ليجعلن الله لكم منها فرجاً ومخرجاً.
فاشدد يديْك بحبلِ الِله معتصما فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ
وهاهو الأسود العنسي -طاغية اليمن - الكافر الساحر، القبيح الظالم، يجتمع حوله اللصوص، وقطاع الطرق؛ ليكونوا فرقة للصد عن سبيل الله، ليذبحوا الدعاة إلى الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وحرق من حرق، وطرد من طرد، وفر الناس بدينهم، وأخذ يهتك الأعراض، ويعذب الدعاة، ومن بين هؤلاء الدعاة المخلصين أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، وحاول أن يثنيه عن دينه، وعن دعوته، وأمره ونهيه، فقال: كلا والذي فطرني لن أقف: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
جمع الأسود الناس، وقال: أتعتقدون في داعيتكم أنه على حق؟ إن كان على حق، فسينجيه الحق، وإن كان على باطل فسترون، ثم أمر بالنار فأضرمت -نار هائلة تمر الطيور من فوقها فتسقط لعِظَمِ ألسنة لهب هذه النار- ثم ربط يديْ أبي مسلم ورجليه بالقيد، ووضعوه في مقلاع، ثم نسفوه بالمقلاع ليهوي في خضم لهيب النار ولظاها وجمرها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
كاد الموحدون أن تنخلع قلوبهم، وقف الناس ينظرون، وبدأت النار تخبو وتضعف، وإذ بأبي مسلم يخرج من طرفها الأخر ماشياً على قدميه، قد فكت النار وثاقه، عليه ثيابه لم تحترق، يدوس بقدميه الحافيتين الجمر ويتبسم وينظر إلى الناس.
ذهل الطاغية، وخاف أن يسلم من لم يسلم، فهددهم وتوعدهم؛ ليصدهم عن سبيل الله، أما أبو مسلم فخرج من النار، وواصل مشيَه فاراً بدينه، والمؤمنون يتبعونه، حتى وصل إلى المدينة -في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ودخل المسجد، وصلى ركعتين.
وسمع به عمر -رضي الله عنه- فجاء يغذ السير إليه، فلما رآه قال: [[ أأنت أبو مسلم ؟
قال: نعم.
قال: أأنت الذي قذفت في النار، وخرجت منها سليماً؟
قال: نعم.
فاعتنقه عمر يبكي، ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل إبراهيم الخليل عليه السلام ]].
ألا فادعوا الله أيها المسلمون، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله، فوالله لو كادتكم السماوات والأرض ليجعلن الله لكم منها فرجاً ومخرجاً.
فاشدد يديْك بحبلِ الِله معتصما فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ أحد الصالحين مع ابن مقلة ... وهاهو أحد الصالحين ذكر أهل السير أنه دخل على ابن مقلة -وزير مجرم عباسي- سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟ أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك.
ويستجيب الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مرت عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله، وقطعت يده، وقطع لسانه، وأخذ يبكي، ويكتب على الحيطان:
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا حياتي بانت يميني فبِيني
يبكي ويكتب على الحيطان:
إذا ما مات بعضك فابكِ بعضاً فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ
وهاهو أحد الصالحين ذكر أهل السير أنه دخل على ابن مقلة -وزير مجرم عباسي- سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟ أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك.
ويستجيب الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مرت عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله، وقطعت يده، وقطع لسانه، وأخذ يبكي، ويكتب على الحيطان:
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا حياتي بانت يميني فبِيني
يبكي ويكتب على الحيطان:
إذا ما مات بعضك فابكِ بعضاً فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ
ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره
يا عباد الله: الأمر والنهي من خصائصنا إن كنا نريد الخيرية والأمان والاطمئنان، ومتى تركناه فلننتظر الجوع، والدمار، والحرب، والخوف، والجفاف، والغضب، والمقت، واللعنة.......
هوان أهل جزيرة قبرص ... هاهو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص ، رأى صراخ أهلها، وبكاء بعضهم إلى بعض؛ فبكى كثيراً، قيل له: يا أبا الدرداء : ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: [[ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة ظاهرة قاهرة تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترون ]].
ولا نذهب بعيداً بل نقلب النظر إلى من كانوا في رغد من العيش، في هناء وسعادة، فطغى أمراؤهم، وسكت علماؤهم، وأُبْلس دعاتهم، فما تُكِلم بمعروف وما نُهِي عن منكر، ولم يؤخذ على يد ظالم، فأمهلهم الله، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
إليكم خياريْن لا ثالث لهما: إما أمر بمعروف ونهي عن منكر بقوة وأخذ على يد الظالم، وإما ضرب للقلوب، ثم لعنة توجب طرداً وإبعاداً من رحمة الله جل وعلا، أقول هذا إعذاراً بين يدي الله، وإقامة للحجة عليكم، وتحذيراً من أن يقع بنا بأس الله؛ فإن بأس الله لا يُرد عن القوم المجرمين، بينما الأمم هانئة وادعة، تترك أمر الله، وترتكب نهيه، ولا آمِر، ولا ناهٍ، إذ بالجو يدلَهِمُّ، والدماء تجري، والخوف والقلق يعم، هذه سنة الله، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
يا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا يومه، بل هذه ساعته، هذا وقت البيان، آن الوقت لئلا تأخذ الأمة في الله لومة لائم، إن الأمر جد خطير، وإن الله ينذر، ثم ينذر، ثم ينذر، ونُذُرُ الله تأتي في صور متعددة؛ فإن ارعوى الناس، وآبوا، وعادوا، وإلا: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
أسأل الله أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بمسئولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، كما كنا إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.هاهو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص ، رأى صراخ أهلها، وبكاء بعضهم إلى بعض؛ فبكى كثيراً، قيل له: يا أبا الدرداء : ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: [[ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة ظاهرة قاهرة تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترون ]].
ولا نذهب بعيداً بل نقلب النظر إلى من كانوا في رغد من العيش، في هناء وسعادة، فطغى أمراؤهم، وسكت علماؤهم، وأُبْلس دعاتهم، فما تُكِلم بمعروف وما نُهِي عن منكر، ولم يؤخذ على يد ظالم، فأمهلهم الله، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
إليكم خياريْن لا ثالث لهما: إما أمر بمعروف ونهي عن منكر بقوة وأخذ على يد الظالم، وإما ضرب للقلوب، ثم لعنة توجب طرداً وإبعاداً من رحمة الله جل وعلا، أقول هذا إعذاراً بين يدي الله، وإقامة للحجة عليكم، وتحذيراً من أن يقع بنا بأس الله؛ فإن بأس الله لا يُرد عن القوم المجرمين، بينما الأمم هانئة وادعة، تترك أمر الله، وترتكب نهيه، ولا آمِر، ولا ناهٍ، إذ بالجو يدلَهِمُّ، والدماء تجري، والخوف والقلق يعم، هذه سنة الله، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
يا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا يومه، بل هذه ساعته، هذا وقت البيان، آن الوقت لئلا تأخذ الأمة في الله لومة لائم، إن الأمر جد خطير، وإن الله ينذر، ثم ينذر، ثم ينذر، ونُذُرُ الله تأتي في صور متعددة؛ فإن ارعوى الناس، وآبوا، وعادوا، وإلا: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
أسأل الله أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بمسئولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، كما كنا إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.مسخ الله لأصحاب السبت ...
الحمد لله رب العالمين جعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
قال الله تعالى مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166]، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111].
هذه قصة قرية أُخِذت أخذ عزيز مقتدر، فضحها الله، وجعل أشخاصها قردة وخنازير، يوم تركوا أمره ونهيه، قرية كانت على الشاطئ مجاورة للبحر، حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فوقفوا لا يصطادون يوم السبت، فزاد الله ابتلاءهم ابتلاءً، وامتحن صدقهم وإخلاصهم، فجعل الأسماك يوم السبت تأتي سابحة إلى الشاطئ، وفي بقية الأيام لا تكاد تجد سمكة إلا قليلاً، فانقسم الناس حيال أمر الله عز وجل إلى أقسام، وهم في كل زمان بهذه الأقسام:
قسم هم أهل الخبث والخيانة والفجور، قالوا: نجري جداول وأنهاراً إلى داخل الشاطئ، فإذا دخلت الأسماك سددنا عليها يوم السبت وأخذناها يوم الأحد.
أَعَلَى الله يضحكون؟ أم على الله يمكرون؟ يخادعون الله وهو خادعهم.
وقسم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال: لا تفعلوا هذا، بل اتقوا الله، وخافوا الله، واحفظوا الله، فلم يسمع لهذا القسم.
وقسم آخر: قال اتركوهم، لِمَ تنهونهم؟ الله سيعذبهم.
فقال الدعاة إلى الخير: نأمرهم معذرة أمام الله عز وجل يوم يجمع الأولين والآخرين؛ علهم أن يهتدوا، فنحن لا نعلم أن الله قد طبع على قلوبهم.
بدأ أهل الخبث في تنفيذ خطتهم، وخداعهم، ومكرهم، فقام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر-الذين يثقون بما يعد الله به- بجعل سور بينهم وبين الفجرة الماكرين؛ حتى لا يصيبهم من العذاب ما يصيب أهل السوء، وتركوا في الجدار نوافذ؛ ليتطلعوا أخبارهم من خلالها، ليكون لهم في ذلك عبرة.
أما القسم الآخر فسكتوا ولم يمكروا، لكنهم رضوا بالمنكر، والراضي كالفاعل.
ويأتي صباح يوم من أيام الله، يوم يغضب الله ويسخط على أعدائه، فيمسخ أولئك قردة وخنازير، فوجئ الدعاة، وإذ بالنوافذ ممتلئة خنازير وقردة، يقولون: من أنت؟ فيقول الرجل: أنا فلان، وهو على صورة خنزير، والمرأة تقول: أنا فلانة، وهي على صورة خنزير، وقعوا فيما يغضب الله، وتركوا الأمر والنهي؛ فصاروا قردة وخنازير.
ثم أتى الله بأولئك الذين سكتوا، وما تكلموا، الذين يقولون في كل زمان: إن الدعوة تطرف وتزمُّت، أتى الله بهم فأدخلهم في الحظيرة، فحولهم قردة وخنازير، هم ما احتالوا على الله، لكنهم سكتوا على المنكر، والراضي كالفاعل ولا يظلم ربك أحداً.
أما أولئك الدعاة الآمرون والناهون فسلموا في الدنيا، ولهم السلامة في الأخرى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
إن من يسكت ويقول: نفسي نفسي، سيأخذه الله مع الطالحين: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102].
تداعت علينا الأمم، ونحن كثرة كاثرة، لكن غثاء كغثاء السيل، أيقاظ نيام في الغالب، نؤمر فلا نأتمر، ونُنهى فلا ننتهي-إلا من رحم الله وقليل ما هم- والحوادث شاهدة: حلت بنا الأحداث، وطوقنا الأعداء، وخوفنا الله، فما زادنا ذلك إلا طغياناً كبيراً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:57].
أَأُخيَّ إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
الحمد لله رب العالمين جعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
قال الله تعالى مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166]، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111].
هذه قصة قرية أُخِذت أخذ عزيز مقتدر، فضحها الله، وجعل أشخاصها قردة وخنازير، يوم تركوا أمره ونهيه، قرية كانت على الشاطئ مجاورة للبحر، حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فوقفوا لا يصطادون يوم السبت، فزاد الله ابتلاءهم ابتلاءً، وامتحن صدقهم وإخلاصهم، فجعل الأسماك يوم السبت تأتي سابحة إلى الشاطئ، وفي بقية الأيام لا تكاد تجد سمكة إلا قليلاً، فانقسم الناس حيال أمر الله عز وجل إلى أقسام، وهم في كل زمان بهذه الأقسام:
قسم هم أهل الخبث والخيانة والفجور، قالوا: نجري جداول وأنهاراً إلى داخل الشاطئ، فإذا دخلت الأسماك سددنا عليها يوم السبت وأخذناها يوم الأحد.
أَعَلَى الله يضحكون؟ أم على الله يمكرون؟ يخادعون الله وهو خادعهم.
وقسم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال: لا تفعلوا هذا، بل اتقوا الله، وخافوا الله، واحفظوا الله، فلم يسمع لهذا القسم.(1/244)
وقسم آخر: قال اتركوهم، لِمَ تنهونهم؟ الله سيعذبهم.
فقال الدعاة إلى الخير: نأمرهم معذرة أمام الله عز وجل يوم يجمع الأولين والآخرين؛ علهم أن يهتدوا، فنحن لا نعلم أن الله قد طبع على قلوبهم.
بدأ أهل الخبث في تنفيذ خطتهم، وخداعهم، ومكرهم، فقام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر-الذين يثقون بما يعد الله به- بجعل سور بينهم وبين الفجرة الماكرين؛ حتى لا يصيبهم من العذاب ما يصيب أهل السوء، وتركوا في الجدار نوافذ؛ ليتطلعوا أخبارهم من خلالها، ليكون لهم في ذلك عبرة.
أما القسم الآخر فسكتوا ولم يمكروا، لكنهم رضوا بالمنكر، والراضي كالفاعل.
ويأتي صباح يوم من أيام الله، يوم يغضب الله ويسخط على أعدائه، فيمسخ أولئك قردة وخنازير، فوجئ الدعاة، وإذ بالنوافذ ممتلئة خنازير وقردة، يقولون: من أنت؟ فيقول الرجل: أنا فلان، وهو على صورة خنزير، والمرأة تقول: أنا فلانة، وهي على صورة خنزير، وقعوا فيما يغضب الله، وتركوا الأمر والنهي؛ فصاروا قردة وخنازير.
ثم أتى الله بأولئك الذين سكتوا، وما تكلموا، الذين يقولون في كل زمان: إن الدعوة تطرف وتزمُّت، أتى الله بهم فأدخلهم في الحظيرة، فحولهم قردة وخنازير، هم ما احتالوا على الله، لكنهم سكتوا على المنكر، والراضي كالفاعل ولا يظلم ربك أحداً.
أما أولئك الدعاة الآمرون والناهون فسلموا في الدنيا، ولهم السلامة في الأخرى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
إن من يسكت ويقول: نفسي نفسي، سيأخذه الله مع الطالحين: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102].
تداعت علينا الأمم، ونحن كثرة كاثرة، لكن غثاء كغثاء السيل، أيقاظ نيام في الغالب، نؤمر فلا نأتمر، ونُنهى فلا ننتهي-إلا من رحم الله وقليل ما هم- والحوادث شاهدة: حلت بنا الأحداث، وطوقنا الأعداء، وخوفنا الله، فما زادنا ذلك إلا طغياناً كبيراً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:57].
أَأُخيَّ إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر التحذير من الإصرار على المعاصي ... قلنا: لعل الحوادث توقظ قلوبنا فنعود إلى الله نأمر وننهى، ونتوب ونعود، ونغير ونبدل، فما حصل شيء من ذلك -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- أسألكم بالله: هل كان الذين يتخلفون عن الجماعة عادوا لحضور الجماعات أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم: هل الذين كانت بيوتهم تعج بالمنكرات، والمغريات، والملهيات، هل خرج شيء من هذه المنكرات في أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم عن الذين يصبح أولادهم على الرسوم المتحركة، ويمسون على الأغنية والفيلم، والمسلسل الرخيص، والتمثيلية التي تدعو إلى الرذيلة، هل غيَّر واحد من برنامجه أثناء هذه الحوادث.
أسألكم عن المختلطين -والذين أصبح الاختلاط ديدناً لهم في كل مناسبة- هل تركوا الاختلاط أثناء هذه الحوادث؟ هل اعتبروا؟ هل تفكروا؟
أسألكم عن أسواقنا، وعن المتبرجات، والمنكرات فيها، هل غُيَّر فيها شيء أثناء هذه الحوادث؟ هل نزل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إلى تلك الأسواق؟
أسألكم: هل مسلم لا زال فيه بعض الإسلام حركته هذه الحوادث، فقفل محلاً من محلات الفيديو في هذه البلدة؟
أسألكم: هل رجل صاحب تسجيلات للأغاني في هذه البلدة أقفلها، أو غيرها إلى تسجيلات إسلامية أثناء هذه الحوادث؟
ألا هل علم هؤلاء -أصحاب الفساد- بأنهم يأكلون حراماً؟
أسألكم: هل اتجه الناس أثناء الحوادث إلى المساجد بدلاً من اتجاههم إلى المقاهي والملاعب، أم زاد الاتجاه إلى الملاعب والمقاهي؟
أبالرياضة نبني مجد أمتنا أم بالفنون وبالأفلام ننتصرُ
أسألكم: هل رأيتم مسلماً أثناء هذه الحوادث رجع إلى الله، فأعفى لحيته بعد أن كان يحلقها، ورفع إزاره بعد أن كان مرخياً له؟
أسألكم: هل سمعتم بتاجر قد أخذ أمواله ووضعها في مصرف لا يتعامل بالربا أثناء هذه الفتن؟
بل أسألكم عن أهم شيء في مثل هذا الوقت: هل سمعتم بالناس يتحدثون عن الجهاد في سبيل الله أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم: هل تحرك الناس، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أثناء هذه الحوادث؟
يموت الميت في هذه الحوادث فلا نرى مراسم العزاء البدعية أثناء هذه الحوادث تنتهي.
ألا هل تغير شيء؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد ما تغير شيء في الغالب، بل ازداد الناس طغياناً، وتوكلاً على غير الله، وكأنهم يقولون: ربنا عجل لنا العذاب، المتخلف عن الجماعة لا زال، والمنكرات والملهيات بدأت تدخل البيوت بحجج واهية شيطانية، الراعي في بيته غش رعيته، فلم يأمرهم ولم ينهَهم، أمسى على الأخبار، والصحف، والأفلام، والمجلة، والمسلسل، وما رفع يده، ورعيته إلى الله رب البرية، ما كأنه سمع قول محمد صلى الله عليه وسلم: {ما من راعٍ استرعاه الله رعية فأمسى غاشاً لهم إلا لم يرح رائحة الجنة }.
الاختلاط كما هو، والأسواق تعج بالمنكرات، وما رأينا آمراً أو ناهياً، الفيديو والتسجيلات الغنائية تزيد يوماً بعد يوم، حلق اللحى يتضاعف، وإسبال الثياب كالنساء يفشو، والحديث عن الجهاد يخبو ويضعف، بل لا يذكر أبداً، والسكوت عن المنكرات يزيد.
لا إله إلا الله، ما أحلمك! ما أكرمك!، تمهل الظالم حتى إذا أخذته لم تفلته!
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.قلنا: لعل الحوادث توقظ قلوبنا فنعود إلى الله نأمر وننهى، ونتوب ونعود، ونغير ونبدل، فما حصل شيء من ذلك -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- أسألكم بالله: هل كان الذين يتخلفون عن الجماعة عادوا لحضور الجماعات أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم: هل الذين كانت بيوتهم تعج بالمنكرات، والمغريات، والملهيات، هل خرج شيء من هذه المنكرات في أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم عن الذين يصبح أولادهم على الرسوم المتحركة، ويمسون على الأغنية والفيلم، والمسلسل الرخيص، والتمثيلية التي تدعو إلى الرذيلة، هل غيَّر واحد من برنامجه أثناء هذه الحوادث.
أسألكم عن المختلطين -والذين أصبح الاختلاط ديدناً لهم في كل مناسبة- هل تركوا الاختلاط أثناء هذه الحوادث؟ هل اعتبروا؟ هل تفكروا؟
أسألكم عن أسواقنا، وعن المتبرجات، والمنكرات فيها، هل غُيَّر فيها شيء أثناء هذه الحوادث؟ هل نزل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إلى تلك الأسواق؟
أسألكم: هل مسلم لا زال فيه بعض الإسلام حركته هذه الحوادث، فقفل محلاً من محلات الفيديو في هذه البلدة؟
أسألكم: هل رجل صاحب تسجيلات للأغاني في هذه البلدة أقفلها، أو غيرها إلى تسجيلات إسلامية أثناء هذه الحوادث؟
ألا هل علم هؤلاء -أصحاب الفساد- بأنهم يأكلون حراماً؟
أسألكم: هل اتجه الناس أثناء الحوادث إلى المساجد بدلاً من اتجاههم إلى المقاهي والملاعب، أم زاد الاتجاه إلى الملاعب والمقاهي؟
أبالرياضة نبني مجد أمتنا أم بالفنون وبالأفلام ننتصرُ
أسألكم: هل رأيتم مسلماً أثناء هذه الحوادث رجع إلى الله، فأعفى لحيته بعد أن كان يحلقها، ورفع إزاره بعد أن كان مرخياً له؟
أسألكم: هل سمعتم بتاجر قد أخذ أمواله ووضعها في مصرف لا يتعامل بالربا أثناء هذه الفتن؟
بل أسألكم عن أهم شيء في مثل هذا الوقت: هل سمعتم بالناس يتحدثون عن الجهاد في سبيل الله أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم: هل تحرك الناس، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أثناء هذه الحوادث؟
يموت الميت في هذه الحوادث فلا نرى مراسم العزاء البدعية أثناء هذه الحوادث تنتهي.
ألا هل تغير شيء؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد ما تغير شيء في الغالب، بل ازداد الناس طغياناً، وتوكلاً على غير الله، وكأنهم يقولون: ربنا عجل لنا العذاب، المتخلف عن الجماعة لا زال، والمنكرات والملهيات بدأت تدخل البيوت بحجج واهية شيطانية، الراعي في بيته غش رعيته، فلم يأمرهم ولم ينهَهم، أمسى على الأخبار، والصحف، والأفلام، والمجلة، والمسلسل، وما رفع يده، ورعيته إلى الله رب البرية، ما كأنه سمع قول محمد صلى الله عليه وسلم: {ما من راعٍ استرعاه الله رعية فأمسى غاشاً لهم إلا لم يرح رائحة الجنة }.
الاختلاط كما هو، والأسواق تعج بالمنكرات، وما رأينا آمراً أو ناهياً، الفيديو والتسجيلات الغنائية تزيد يوماً بعد يوم، حلق اللحى يتضاعف، وإسبال الثياب كالنساء يفشو، والحديث عن الجهاد يخبو ويضعف، بل لا يذكر أبداً، والسكوت عن المنكرات يزيد.
لا إله إلا الله، ما أحلمك! ما أكرمك!، تمهل الظالم حتى إذا أخذته لم تفلته!
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.وسائل الأمر بالمعروف ... يا مسلمون! يا مؤمنون! يا عقلاء! أخاطب فيكم الإسلام، والإيمان، والعقل، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واصدقوا، وأخلصوا لله، من عنده علم فليخرجه قبل أن يُلجم بلجام من نار، من عنده منكر فليخرجه وليتخلص منه قبل أن يندم فلا ينفعه ندم، من عنده مال فليسخره للقضاء على المنكرات وليسخره لدعم المسلمين في كل مكان.
يا أيها التجار! يا من يملك مالاً! يا من ستسأل عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته! الميدان فسيح لك هذه الأيام، يا أيها التجار! اشتروا محلات الفيديو، اشتروا تسجيلات الغناء، واقلبوها إلى تسجيلات إسلامية، تكونوا بمالكم قد دعوتم إلى الله وأنتم في متاجركم، وقضيتم على المنكرات.
يا أيها الشباب: لتنزلوا إلى الأسواق فتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر بالمعروف، يا من لا يستطيع هذا ولا ذاك: مر بالمعروف في بيتك وانهَ عن المنكر.
واعلموا -يا عباد الله- أن دين الله ليس عليه خطر، ولا على رسالة الله خوف؛ الله تكفل بحفظ دينه من دونكم، لكننا نحن بدين الله نحفظ أنفسنا وأمتنا وجيلنا، نحن بحاجة إلى هذا الدين، فلنراجع أنفسنا، لا يزال الله يمهلنا، انهضوا، وعودوا، وتوبوا، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وبادروا إلى الخيرات لعلكم تنجون من عذاب الله القائل: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165]^ يا أيها الأخيار: يا أمراء القبائل! يا مشايخ القبائل: أنتم قدوة لمن أنتم رعاة لهم، بصلاحكم يصلح الله القرى والبوادي، كفى نوماً، وكفى طغياناً، اجتمعوا مع الشباب، وادعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في قراكم، واقضوا على المنكرات؛ ليصلح الله لكم المجتمع، وليؤمنكم مما تخافون.
إن السنن الإلهية لا تجامل أحداً، بل تجري على كل من استحقها ولو كان حراً قرشياً، ومن هذه السنن: أنه ما من بلدة أعلنت الحرب على الأمر بالمعروف، إلا جاءها عذاب الله بكرة أو عشية: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الفتح:23].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء!
اللهم انصر من نصر الدين واجعلنا من أنصاره، واخذل من خذل الدين ولا تجعلنا ممن خذله.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا. اللهم انصرهم وسدِّدهم وثبِّتهم وأيِّدهم يا قوي يا عزيز.
اللهم فرِّق جمع أعداء المسلمين. اللهم رد كيدهم، وامكر بهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين. اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، ومزِّقه كل ممزق يا قوي يا عزيز!
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك. اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم آنسْ وحشتنا في القبور، وآمِن فزعنا يوم البعث والنشور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.يا مسلمون! يا مؤمنون! يا عقلاء! أخاطب فيكم الإسلام، والإيمان، والعقل، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واصدقوا، وأخلصوا لله، من عنده علم فليخرجه قبل أن يُلجم بلجام من نار، من عنده منكر فليخرجه وليتخلص منه قبل أن يندم فلا ينفعه ندم، من عنده مال فليسخره للقضاء على المنكرات وليسخره لدعم المسلمين في كل مكان.
يا أيها التجار! يا من يملك مالاً! يا من ستسأل عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته! الميدان فسيح لك هذه الأيام، يا أيها التجار! اشتروا محلات الفيديو، اشتروا تسجيلات الغناء، واقلبوها إلى تسجيلات إسلامية، تكونوا بمالكم قد دعوتم إلى الله وأنتم في متاجركم، وقضيتم على المنكرات.
يا أيها الشباب: لتنزلوا إلى الأسواق فتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر بالمعروف، يا من لا يستطيع هذا ولا ذاك: مر بالمعروف في بيتك وانهَ عن المنكر.
واعلموا -يا عباد الله- أن دين الله ليس عليه خطر، ولا على رسالة الله خوف؛ الله تكفل بحفظ دينه من دونكم، لكننا نحن بدين الله نحفظ أنفسنا وأمتنا وجيلنا، نحن بحاجة إلى هذا الدين، فلنراجع أنفسنا، لا يزال الله يمهلنا، انهضوا، وعودوا، وتوبوا، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وبادروا إلى الخيرات لعلكم تنجون من عذاب الله القائل: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165]^ يا أيها الأخيار: يا أمراء القبائل! يا مشايخ القبائل: أنتم قدوة لمن أنتم رعاة لهم، بصلاحكم يصلح الله القرى والبوادي، كفى نوماً، وكفى طغياناً، اجتمعوا مع الشباب، وادعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في قراكم، واقضوا على المنكرات؛ ليصلح الله لكم المجتمع، وليؤمنكم مما تخافون.
إن السنن الإلهية لا تجامل أحداً، بل تجري على كل من استحقها ولو كان حراً قرشياً، ومن هذه السنن: أنه ما من بلدة أعلنت الحرب على الأمر بالمعروف، إلا جاءها عذاب الله بكرة أو عشية: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الفتح:23].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء!
اللهم انصر من نصر الدين واجعلنا من أنصاره، واخذل من خذل الدين ولا تجعلنا ممن خذله.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا. اللهم انصرهم وسدِّدهم وثبِّتهم وأيِّدهم يا قوي يا عزيز.
اللهم فرِّق جمع أعداء المسلمين. اللهم رد كيدهم، وامكر بهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين. اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، ومزِّقه كل ممزق يا قوي يا عزيز!
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك. اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم آنسْ وحشتنا في القبور، وآمِن فزعنا يوم البعث والنشور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــ(1/245)
سفير الصدق حبيب بن زيد
إنه حبيب بن زيد -رضي الله عنه- أحد الصحابة الفضلاء، وأحد الرجال السبعين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، وكان أبوه وأمه ممن شاركوا في هذه البيعة أيضًا، وقد لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وشهد معه الغزوات كلها، ولم يتخلف عن غزوة واحدة.
ولما ادعى مسيلمة الكذاب النبوة، وزاد إضلاله وفساده، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقته، ووقع اختيار النبي صلى الله عليه وسلم على حبيب بن زيد بن عاصم ليكون سفيره إلى مسيلمة الكذاب.
وأخذ حبيب الرسالة وسافر إلى مسيلمة متمنيًا أن يكون سببًا في هدايته وعودته إلى رشده، ووصل حبيب إلى مسيلمة وأعطاه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن مسيلمة أصر على ضلاله وغروره، وأمر شرذمة من قومه أن يعذبوه أمام حشد كبير من بني حنيفة.وظن مسيلمة أن كل هذا التعذيب سيجعل حبيبًا يؤمن به، وبذلك يحقق معجزة أمام قومه الذين دعاهم لحضور هذا المشهد، وتوجه مسيلمة بالحديث إلى حبيب قائلا: أَتَشْهَدُ أن محمدًا رسول الله؟
قال حبيب: نعم أشهد أن محمدًا رسول الله. فأصاب الخزى مسيلمة، وعاد يسأل حبيبًا في غضب: وتشهد أني رسول الله؟ فقال حبيب في سخرية واستهزاء: أنا أصم لا أسمع، فكرر مسيلمة السؤال مرارًا، ولكن حبيبًا ظل يردد جوابه السابق، فاسودَّ وجه مسيلمة الكذاب، وفشلت خطته، فهاج، ونادى جلاده، فجاء برمحه وطعن حبيبًا، ثم قطع جسده عضوًا عضوًا، وحبيب يردِّد في إيمان صادق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد حبيب، فغضب غضبًا شديدًا، وجهز جيشًا لمحاربة مسيلمة، ولكنه ( توفي قبل توجه الجيش لمحاربته. فلما تولى أبو بكر الخلافة من بعده، لاقى مسيلمة في موقعة اليمامة تلك المعركة التي انتصر فيها المسلمون، وقُتل مسيلمة وأصحابه، وثأر المسلمون لحبيب من هذا الكذاب.
ــــــــــــــ(1/246)
الشهيد القارئ سعد بن عبيد
إنه أبو عمير سعد بن عبيد بن النعمان الأنصاري الأوسي -رضي الله عنه-، أسلم قبل الهجرة، وعمل على نشر الإسلام بالمدينة، فأسلم معه جماعة من الأنصار، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما صنعه سعد، جعله إمامًا لمسجد قباء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم :، ولقبه بالقارئ، ولم يلقب بهذا اللقب غيره، ثم جاء أبو بكر فأقرّه على إمامة المسجد، وكذلك فعل عمر بن الخطاب.
وكان سعد أحد الأنصار الأربعة الذين جمعوا القرآن الكريم على عهد رسول (، ولم ينصرف سعد إلى العلم والتفقه في الدين فقط، بل وهب روحه ونفسه في سبيل الله، واشترك في الجهاد ضد المشركين في بدر وأحد، وفي كل المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
وخرج -رضي الله عنه- مع جيش أسامة وتحت إمرته لقتال الروم، كما أذن له الصديق -رضي الله عنه- في الخروج إلى العراق للجهاد في سبيل الله، وحمله أمانة تعليم المسلمين والقضاء فيما بينهم، فخرج سعد القارئ -رضي الله عنه- خلف قائده أبي عبيد بن مسعود الثقفي -رضي الله عنه- يبارز بالسيف، ويعلم بالقلم.
ثم خرج في جيش المسلمين تحت إمرة سعد بن أبي وقاص في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى بلاد كسرى في العراق؛ ليواصل جهاده هناك، لتكون كلمة الله هي العليا.
ويبدأ الجيش المسلم سلسلة من اللقاءات الحاسمة مع أعداء الله، بدأها بلقاء مع ملك الحيرة وحليف كسرى، الملك العربي النصراني المنذر بن النعمان بن المنذر.
واصطف الجيشان، وبدأ ملك الحيرة يخطب في جيشه؛ ليشجعهم على القتال، ويشعل الحماسة في قلوبهم، وبينما هو كذلك إذ صاح الحاجب: رسول من قائد الأعداء يطلب مقابلتك أيها الملك.
فحدث بين صفوف الجيش هرج ومرج، فقال ملك الحيرة غاضبًا: ائتني به. فدخل القارئ مرفوع الرأس، ثابت الخطأ يدكُّ الأرض برجله وسيفه، وهو يخترق تلك الجموع الحاشدة التي تأهبت لقتال المسلمين ثم وقف أمام الملك، فقال قائد الحرس لسعد القارئ: قبل الأرض تحية للملك.
فنظر القارئ باستخفاف واستنكار قائلا: الله أمرنا ألا يسجد بعضنا لبعض، ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدًا (، فلما بعث جعل تحيته السلام، أما تحيتكم هذه فهي تحية جبابرة الملوك. اضطرب ملك الحيرة، وارتاع من جرأته، فأسرع صائحًا: ويح قومك! ما الذي جئت لأجله.
فعرض عليهم سعد الإسلام وخيّرهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام، أو الجزية، أو هي الحرب.
فقال له الملك: لقد حدثتكم أنفسكم بالأباطيل، أظننتم أن الفرس مثل الروم؟ كلا، وحق المسيح، إنهم أثبت وأشد، وهذا الملك أزدشير ملك الفرس قد جمع لكم جيوشه وعساكره، وسينالون منكم. فرد سعد القارئ في حزم وقوة: أيها الملك لقد تشرفت بالباطل، وتفوهت بكلام غير عاقل، أما علمت أن العاقبة للمتقين، وأن الله بكرمه يرفع عنا البأس، ويظفرنا بجميع الناس، وإن نبينا ( قال: (ستفتح على أمتي كنوز كسرى وقيصر) فأما كنوز قيصر فقد فتحها الله علينا، وبقيت كنوز صاحبك.
فزاد غضب ملك الحيرة حتى فقد صوابه، فقال: ما عندنا جواب إلا السيف. ورجع القارئ إلى المعسكر، وأخبر قائده سعد بن أبي وقاص بالأمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى زحفت قوات الحق على أهل الباطل، فتطايرت الرءوس، وعلت الصيحات، وكتب الله النصر للمسلمين.
وتقدم المسلمون نحو القادسية، وهناك كانت جيوش الفرس في أوج أهبتها واستعدادها؛ فقد جمعت عدتها وعتادها في انتظار المسلمين.
وظلت الحرب دائرة يومين، وفي مساء اليوم الثالث، أخذ القارئ يحدث الناس، ويحمسهم، ويحثهم على الصبر والإخلاص، ويرغبهم في الشهادة، وما أعده الله للشهيد من فضل وكرامة، وقال لأصحابه: إنا مستشهدون غدًا، فلا تكفنونا إلا في ثيابنا التي أُصِبْنَا فيها.
وفي الصباح كتب الله للمسلمين النصر، وأنعم الله على القارئ بما كان يتمناه، فاستشهد في سبيل الله.
وقد روى سعد القارئ -رضي الله عنه- كثيرًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وترك بنين وبنات، أشهرهم ابنه عمير الذي ولاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولاية الشام.
ــــــــــــــ(1/247)
الجعد الأبيض عمرو بن الجموح
إنه عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- أحد زعماء المدينة، وسيد سادات بني سلمة، وشريف من أشرافهم، وآخر الأنصار إسلامًا، كان زوجًا لهند بنت عمرو أخت عبد الله بن عمرو بن حرام، وقد سبقه ابنه معاذ إلى الإسلام.
وكان عمرو بن الجموح قد اتخذ لنفسه صنمًا من الخشب في داره سماه منافًا، فحزن معاذ، وأخذ ينصحه بالدخول في الإسلام، لكنه ظل مصرًّا على عبادة ذلك الصنم الذي لا ينفع ولا يضر.
وذات يوم، فكر معاذ ومعه بعض الفتيان من بني سلمة في حيلة يُعَرِّفُ بها أباه أن ما يعبده إنما هو صنم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، بل لا يمكنه الدفاع عن نفسه.
فدخلوا ليلا، وأخذوا الصنم من مكانه، ووضعوه في حفرة منكسًا على رأسه، فلما أصبح عمرو بن الجموح لم يجد منافًا، فكاد أن يجن، وغضب غضبًا شديدًا، وخرج يبحث عنه فإذا به ملقى في حفرة على رأسه.
فثار وأخذ يصيح: ويلكم مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم رفعه من الحفرة، وغسّله، وطيَّبه، ووضعه في مكانه بالدار، وهو يقول: أما والله لو أعلم مَنْ فعل هذا بك لأخزينه.
ولما جاء الليل، ونام عمرو، ذهب الفتيان إلى الصنم، وفعلوا به مثلما فعلوا من قبل، وتكرر ذلك عدة مرات، فلم يجد عمرو حيلة إلا أن يعلق سيفه في رقبة ذلك الصنم ويقول له: إني والله لا أعلم مَنْ يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع بهذا السيف (أي فادفع عن نفسك).فلما جاء الليل أخذ معاذ وأصحابه كلبًا ميتًا، وربطوه في عنق الصنم، ثم ألقوه في البئر بعد أن أخذوا السيف، فلما أصبح عمرو لم يجد الصنم، فأخذ يبحث عنه فوجده في البئر مربوطًا فيه كلب ميت، فكرهه عمرو واحتقره وأخذ يقول:
والله لو كنت إلهًا لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن، ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معلنًا إسلامه.
وكان -رضي الله عنه- جوادًا كريمًا، يقيم الولائم، ويطعم الطعام، ويكرم الضيف، وكان يقيم الولائم في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف فضل عمرو، ففي إحدى المرات سأل الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال: (مَنْ سيدكم يا بني سلمة؟) فقالوا: الجد بن قيس، على بخل فيه (أي: رغم أنه بخيل)، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح) [أبو نعيم والبخاري في الأدب المفرد]، فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريمًا لابن الجموح.
وفي هذا قال شاعر الأنصار:
فسود عمرو بن الجموح لجوده وحق لعمرو بالندى أن يسودا
إذا جاءه السؤال أذهب ماله وقال خذوه إنه عائد غدا
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج إلا أنه كان يحب الجهاد والغزو في سبيل الله، وكان يريد أن يجود بروحه وحياته في سبيل الله، كما كان يجود بماله، وكان له أربعة أولاد كلهم مسلمون، وكانوا رجالا صادقين في الإسلام يشهدون الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
وفي غزوة بدر أراد عمرو أن يخرج مجاهدًا مع المسلمين، لكن أبناءه ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يمنع أباهم من الخروج، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة.
ثم جاءت غزوة أحد، وأراد أن يخرج مع أبنائه فقالوا له: والله ما عليك حرج، إن الله قد عذرك (أي جعل لك عذرًا)، ونحن نجاهد عنك، فأخذ عمرو سيفه، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، إن بني (أبنائي) يريدون منعي من الخروج معك إلى الجهاد، والله إني لأرجو أن أطأ (أمشي) بعرجتي هذه الجنة. [ابن هشام].
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم إصراره على الخروج أذن له، وقال له: (أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك، وأما أنتم يا بنيه فما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة).
فأخذ عمرو سيفه فرحًا، وانطلق ناحية القبلة ثم رفع يديه داعيًا: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائبًا.
والتقى الجيشان، وانطلق عمرو بن الجموح، وأبناؤه الأربعة يضربون مع جيش الإسلام بسيوفهم جيش الشرك، وأخذوا يقاتلون في بسالة وإصرار، وأنعم الله على عمرو بن الجموح بالشهادة كما تمنى.
وأخذ المسلمون يدفنون شهداءهم، وعندما أتوا على عبد الله ابن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنا في قبر واحد، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده إن منكم لمن لو أقسم على الله لأبره (يقصد: عمرو بن الجموح)) [أحمد].
وكان -رضي الله عنه- يقول للنبي ( قبل معركة أحد: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نعم)، فلما قتل يوم أحد مرَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وقال: (ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته) [ابن عبدالبر].
ــــــــــــــ(1/248)
الذي أطعمه الله وسقاه أبو أمامة الباهلي
إنه أبو أمامة الباهلي صدى بن عجلان -رضي الله عنه-، وعندما أسلم، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه باهلة يدعوهم إلى الله عز وجل، ويعرض عليهم شرائع الإسلام، فلما جاءهم قالوا له: سمعنا أنك صبوت (أسلمت) إلى هذا الرجل الذي يدعى محمدًا، فقال أبو أمامة لهم: لا ولكن آمنت بالله ورسوله، وقد أرسلني رسول الله إليكم أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، وأعرض عليكم الإسلام، ثم أخذ أبو أمامة يحدثهم عن الإسلام ويدعوهم إليه، ولكنهم أصروا على الشرك وعبادة الأوثان.
فلما أطال الحديث معهم، ويئس منهم، قال لهم: ويحكم، ايتوني بشربة ماء، فإني شديد العطش وكان عليه عمامة، فقالوا له: لا، ولكن ندعك تموت عطشًا، فحزن أبو أمامة وضرب رأسه في عمامته ونام، وكان الحر شديدًا، فأتاه آت في منامه حسن المنظر بإناء فيه شراب، لم ير الناس أجمل منه لونًا وطعمًا، فأخذه منه، وشرب حتى ارتوى.
فلما شبع من الشراب، استيقظ من نومه، فلما رآه القوم قد استيقظ قال رجل منهم: يا قوم أتاكم رجل من سراة القوم فلم تتحفوه (أي تعطوه ما يريد)، فأتوني بلبن، فقال له أبو أمامة: لا حاجة لي به، إن الله أطعمني وسقاني، ثم أظهر لهم بطنه، فلما رأوا بطنه مملوءة، وليس به عطش ولا جوع قالوا له: ماذا حدث يا أبا أمامة، فحكى لهم ما رآه في منامه فأسلموا جميعًا.
وقال أبو أمامة بعد تلك الشربة: فوالله ما عطشت، ولا عرفت عطشًا بعد تيك (تلك) الشربة) [الطبراني والحاكم والبيهقي].
وكان -رضي الله عنه- يحب الجهاد في سبيل الله، وفي يوم بدر أراد أن يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال له خاله أبو بردة بن نيار: ابق مع أمك العجوز؛ لتقض حاجتها، فقال له أبو أمامة: بل ابق أنت مع أختك. وظل كل منهما يريد أن يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد، فاحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا أمامة أن يبقى مع أمه.
وظل -رضي الله عنه- ملازمًا النبي صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته لا يتخلف عن غزوة ، ولا يتقاعس عن جهاد. وشارك -رضي الله عنه- في جميع الحروب مع خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم .
وتوفي أبو أمامة الباهلي بحمص في الشام سنة (81هـ)، وقيل سنة (86هـ)، وكان عمره (91) سنة، وقيل: إنه آخر من مات بالشام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
ــــــــــــــ(1/249)
أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون
إنه عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- عُرِف بحسن الخلق ورجاحة العقل، وُلِدَ بمكة المكرمة، وأبوه مظعون بن حبيب بن وهب، وأمه سخيلة بنت العنبس، وكان يكنى أبا السائب.
أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وكان عمره آنذاك ثلاثين عامًا، وعاش في حماية الوليد بن المغيرة، ثم رأى ما يحدث للمسلمين من اضطهاد وتعذيب، بينما هو يمشى آمنًا ولا يتعرض له أحد من المشركين بسوء، فوقف مع نفسه قائلاً: والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي، ثم ذهب إلى الوليد وردَّ عليه حمايته، وقال له: يا أبا عبد شمس، قد وفت ذمتك، فرددت إليك جوارك، فقال له الوليد: ولِمَ يا بن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي؟ فقال: لا، ولكني أرضي بجوار الله -عز وجل- ولا أريد أن أستجير بغيره.
فقال له الوليد: إذن فهيا أردد عليَّ جواري علانية أمام أهل مكة كما أمنتك علانية، فانطلقا حتى وصلا إلى المسجد الحرام، ووقف الوليد، ونادى على الناس بصوت عال، فرد عليه عثمان جواره وقال: قد وجدته وفيًّا كريمًا، حافظًا للجوار، ولكنى أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
وكان عثمان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وكان يقول: لا أشرب شرابًا يذهب عقلي، ويُضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي. فلما حرمت الخمر، قال: تبًّا لها، قد كان بصري فيها ثاقبًا.
وتعرض عثمان لأذى المشركين، وشارك إخوانه المسلمين في محنتهم، وهاجر معهم إلى الحبشة لمّا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة، وأخذ معه ابنه السائب، وكان عثمان أمير الفوج الأول إلى الحبشة، ثم قُدّر له أَن يعود من الحبشة إلى مكة مرة أخرى.
وذات يوم، كان أهل مكة يجتمعون على الشاعر العربي لبيد ابن ربيعة؛ لينشدهم الشعر، فدخل عليهم عثمان، فسمعه يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان -رضي الله عنه-: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فغضب لبيد، وقال: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث فيكم هذا؟!
فقام رجل من المشركين إلى عثمان، وضربه على إحدى عينيه ضربة شديدة أوجعته وأصابت عينه بضرٍّ شديد، ورأى الوليد بن المغيرة ما حدث
لعثمان بن مظعون، فقال: أما والله يابن أخي إن كانت عيناك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة ومنعة.
فقال عثمان: بلى والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في سبيل الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر، يا أبا عبد شمس. فقال الوليد: هلمَّ يابن أخي فَعُدْ إلى جواري، فقال عثمان: لا.
وحينما أذن للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، هاجر معهم عثمان، وعاش مع المسلمين حتى جاءت غزوة بدر، فقاتل مع المسلمين، وكان -رضي الله عنه- عابدًا زاهدًا، يجتهد في العبادة، وعندما أراد أن ينقطع للعبادة، ولا يتزوج، نهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا عثمان، إن الله لم يبعثني بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة) [ابن سعد].
ومكث عثمان بعد غزوة بدر عدة أيام يشارك المسلمين فرحة النصر على أعداء الله، ولكنه لم يدم طويلاً، فسرعان ما مرض مرضًا شديدًا حبسه في بيته، فزاره النبي صلى الله عليه وسلم ليطمئن عليه، وشاء الله أن يكون مرض الموت، فمات عثمان بن مظعون وهو سعيد بإسلامه، مستبشر بما أعده الله له من الخير والكرامة في الجنة.
وبعد موته قَبَّله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغسَّله، وكفَّنه، وصلى عليه، ثم دفنه بالبقيع، وقال له وهو في مثواه الأخير: (ذهبت ولم تلبس منها (الدنيا) بشيء) [مالك].
فكان أول من دُفن بالبقيع، وأول من مات من المهاجرين بالمدينة المنورة، وكانت وفاته -رضي الله عنه- في السنة الثالثة من الهجرة.
ــــــــــــــ(1/250)
عثمان بن مظعون دفين البقيع الأول
إنه (أبو السائب) عثمان بن مظعون بن حبيب القرشي الجمحي، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، فهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة مع ابنه السائب الهجرة الأولى في جماعة، ورجعوا إلى مكة بعدما بلغهم أن قريشاً أسلمت، فدخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة ثم ردّ جواره ورضي لنفسه ما ارتضاه الله للنبي { وأصحابه.
كان عثمان بن مظعون رضي الله عنه من عبّاد الصحابة.
وهو ممّن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية وقال: لا زشرب شراباً يذهب عقلي، ويضحك علي من هو أدنى مني.
كان عثمان بن مظعون رضي الله عنه أول رجل من المهاجرين مات بالمدينة المنورة، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة بعدما شهد بدراً، كما كان أول من دفن في البقيع.
"روي أن النبي { قبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت وهو يبكي وعيناه تذرفان من الدمع حتى سمع له شهيق" (ذكره ابن حجر في الإصابة).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأته، هنيئاً لك الجنة، فنظر إليها النبي نظرة غضبان وقال: وما يدريك؟ قالت: فارسك وصاحبك، فقال لها النبي {: إني رسول الله وما أدري ما يُفعل بي، فاشتد ذلك على أصحاب النبي {.
وعن الأسود بن سريع قال: لما مات عثمان بن مظعون، أشفق المسلمون عليه، فلما مات إبراهيم ابن رسول الله { قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون" (رواه الطبراني). رضي الله عنه. محمد مصطفى ناصيف
ــــــــــــــ(1/251)
الابتلاء.. ثمرات ودروس
أحمد زهران
الإيمان دعوى، لابد أن يُقام الدليل على صدقها، وقد جعل الله ذلك الدليل متمثلاً في الصبر على ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ وألم ولأواء، وما يطرأ عليه من نعم ومنح، يقول تعالى: الجم" (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) (العنكبوت).
وقد ينزل البلاء بالمؤمن والكافر، والمهتدي والفاسق، والصالح والطالح، فمن شكر فقد وفَّي بالحق، ومن كفر فإن الله غنيٌّ عن العالمين: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) (الإنسان).
والإنسان عامة يفرح عند ورود النعمة، ويجزع عند حلول المصيبة: فأما الإنسان إذا ما \بتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن 15 وأما إذا ما \بتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن 16 (الفجر)
أما المؤمن فله خصوصية ليست لبقية الناس، إنه يقف مع كل بلية نزلت به، ينظر بعين بصيرة، وفكر ثاقب، وعقل واعٍ، فيجد مع كل بلاء ثمرة، ومع كل محنة منفعة، ومن هذه الثمرات والمنافع:
1 إيقاظ النفوس وترقيق القلوب، ومادام الخير فيها مركوزًا، فإنها تتجه إلى الله، ترجو منه، وتتضرع إليه: الذين \ستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم 172 الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل 173 فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم 174 (آل عمران) . فالمؤمنون بعد غزوة أحد كانوا مثخنين بالجراح؛ الجسدية منها والنفسية، وبرغم ذلك نهضوا استجابة لأمر النبي ص فأثنى الله عليهم خيرًا.
أما النفوس المريضة فتتخذ من الألم والمصائب ذريعة للتخلف والاعتذار، وربما لا يكون هناك ألم، وإنما هي لذة الراحة وحب الدنيا: ومنهم من يقول \ئذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين 49 (التوبة).
2 استثارة عناصر المقاومة، وإذكاء نار التحدى، ورفع درجات الاستعداد واليقظة، فيظل المؤمن أبدًا رافعًا شعار "كن مستعدًا" وهو يعلم أن الابتلاء ربما أصابه اليوم أو غدًا.
وتأمل سحرة فرعون عقب إيمانهم وتهديد فرعون لهم، فما لانوا وما جزعوا، وإنما أصروا على الحق الذي آمنوا به واتبعوه، متحدِّين في ذلك الطاغوت. يقول الله تعالى: قالوا لن نؤثرك على" ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا 72 إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى" 73 (طه).
وتأمل سيرة بلال على بطحاء مكة وهو يعلن تحديه: "أحد أحد"، "لو أعلم كلمة هي أغيظ لهم منها لقلتها".
وانظر إلى عثمان بن مظعون بعدما كان يسير في جوار المشركين آمنًا، إذا به يرد جوارهم، فيناله الأذى، وتُفقأ عينه، فيُعيَّر أنه كان في عز ومنعة، فما تلكأ، وما اهتز، وإنما ثبت وأنشد:
فإن تك عيني أصابها
يد ملحد غي وليس بمهتد
فقد عوض الرحمن منا ثوابه
ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
3 الابتلاءات تعلم المؤمنين ما جهلوا من سنن الدين والحياة، أو تذكرهم بما نسوا من ذلك: "فالمؤمن مهما عظمت بالله صلته لا ينبغي أن يغتر به، أو يحسب الدنيا دانت له، أو يظن قوانينها الثابتة طوع يديه.. كلا فالحذر البالغ، والعمل الدائم هما عدتا المسلم لبلوغ أهدافه المرسومة، ويوم يحسب المسلم أن الأيام كلها كتبت له، وأن شيئًا منها لن يكون عليه، وأن أمجاد الدارين تُنال دون بذل التكاليف الباهظة، فقد سار في طريق الفشل الذريع: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين 140 وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين 141 أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين 142 (آل عمران) (فقه السيرة للشيخ الغزالي ص304).
4 والابتلاءات تميز الخبيث من الطيب: "فالدعوات إبان امتدادها وانتصارها تغري الكثيرين بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل، وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسِيَر الرسالات الكبيرة وإنتاجها، ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجّات عنيفة تعزل الخبَث عنها" (فقه السيرة للغزالي ص299).
فالدعوات حال الأمن والرخاء والعافية وامتلاك منابر الدعوة من دون التعرض إلى التضييق أو الأذى والفتنة، ربما دخل فيها ظاهرًا من كان يكيد لها باطنًا، وربما تبوأ ذلك الدَّعيُّ مكانة أو وصل إلى درجة تمكنه من بث بذور الفتنة، أو بذر بذور الشقاق.
يقول الله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على" ما أنتم عليه حتى" يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعلكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم 179 (آل عمران).
والفارق بين النموذجين كبير؛ "فالخبيث يتلكأ ويختلق المعاذير، فقد عاش حياته فى رخاء، وهو غير مستعد لأن يستبدل بالرخاء شدة، ولا باليسر عسرًا، ولا بالنعمة شظفًا، ولا بالعافية ضرًا، ولا بالأمن خوفًا، أما الطيب فهو النموذج الصالح الذى يؤمن بقوله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون 51 (التوبة)، وفى هذا تمحيص للصف، وتثبيت للمؤمنين، وطرد للأدعياء المنافقين" (الظلال 3 - 1337).
5 وليعلم الله الذين آمنوا (آل عمران:140)؛ فالمؤمن يثبت على إيمانه ويزيد، والمنافق ينكص ويحيد، وقد مدح الله المؤمنين في غزوة بدر ونصرهم لما علم من إيمانهم وانكسار قلوبهم بين يديه سبحانه: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون 123 (آل عمران) فالله يحب أن "يستخرج عبودية المؤمنين في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإن ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية". (زاد المعاد).
6 ويتخذ منكم شهداء آل عمران: 140) فمن فكر في عاقبة المحن، وأنه لو مات في سبيل دينه وعقيدته، فسيكون شهيدًا عند الله تعالى، وينال ما يناله الشهيد من: غفران الذنوب، والأمن من الفزع، والشفاعة لسبعين من أهل بيته، وسكن جنة عرضها السماوات والأرض..إلخ فلن تجزع نفسه أو تخور عزيمته، وإنما يُقْدمُ ويصبر.
7 وليمحص الله الذين آمنوا (آل عمران: 141) فالتجارب العملية هي التي تربي الإنسان، وهي التي تظهر مدى استعداده الحقيقي لمجابهة القوارع التي تنزل به وبدينه وأمته، فليست الأماني هي محك الحكم على الإنسان، وإنما هو ميدان العمل والجهاد.
يقول تعالى: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى" إذ قالوا لنبي لهم \بعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين 246 (البقرة).
"والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير، إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيدًا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب، وكثيرًا ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيرًا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير.
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص، ثم إذا هو يكشف على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية أن في نفسه عقابيل لم تمحّص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط، ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة" (في ظلال القرآن 1 - 482 483).
وهذا أمر عظيم، ينبغي أن تفطن إليه القيادة الرشيدة للجماعة المسلمة، "فلا يجوز أن تضع خططها على أساس ما تسمعه من الرغبات والأماني من أعضائها الدعاة أو الأنصار والمؤيدين، فالرغبة في الشيء شيء، والقيام به وبمتطلباته شيء آخر" (المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة 2 - 198 199 للدكتور عبد الكريم زيدان).
8 ويمحق الكافرين 141 (آل عمران)، وهي من أدق الفوائد التي لا يشعر بها أصحاب الدعوات كثيرًا، فالله تعالى: "إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم" (زاد المعاد 2 - 100).
9 صلاح النفوس وتهذيبها، فلو بسط الله لعباده النصر كما يبسط لهم الرزق لبغوا، وطغت نفوسهم، ولكنه سبحانه أعلم بعباده: ما يصلحهم، وما يفسدهم ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير 14 (الملك)، "فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط" (زاد المعاد 2 - 100).
فالخير لا يعلمه إلا الله، ورب محنة انقلبت إلى منحة، وكم من رزية لو فكر في عواقبها صاحبها لعلم أنها هدية: والله يعلم وأنتم لا تعلمون 19 (النور).
10 ومن أعظم ثمرات الابتلاء الحصول على تأييد المؤمنين، بعد تأييد الله تعالى، ويكون ذلك بزيادة مستوى الحب والترابط بين أصحاب العمل الإسلامى، بل وبين المسلمين جميعًا، وانظر إلى المحن والابتلاءات التي تنزل بالمسلمين في المشارق والمغارب، كيف قاربت بين القلوب، وألّفت بين النفوس، "فالمصائب يجمعن المصابينا"، فأصبحنا نرى النصرة بالدعاء للمسلمين في فلسطين والعراق وكشمير والشيشان وغيرها من بلدان المسلمين، وذلك كله بسبب المحنة أو البلية التي نزلت بهذا البلد أو ذاك، فوحدت بين القلوب والمشاعر، وإن ظلت الأجساد متباعدة، يقول تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين 62 وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم 63 (الأنفال).
ويكفي من ذلك تعاطف الناس مع الفكرة الإسلامية وتأييدهم لها، تجد ذلك واضحًا في أي انتخابات يخوضها الدعاة إلى الله بقصد الإصلاح والتغيير، فتشعر حينئذ من التفاف الجماهير وهتافاتهم للإسلام ومنهجه وصلاحيته للتطبيق براحة في الضمير، واطمئنان وثقة بنصر الله تعالى وإن تأخر إلا أنه حتميّ الوقوع ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 (الحج).
11 تفجير الطاقات وبروز الكفاءات: فمن المعلوم أن النفوس تكتسب من الرخاء والعافية الدائمة ركونًا إلى الدنيا "فالرخاء ينسى، والمتاع يلهي، والثراء يطغي، فإذا أراد الله تبارك وتعالى بها خيرًا ذكرها بالابتلاء والشدة، استحياء لها بالألم، والألم خير مهذِّب، وخير مفجّر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرْهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق لعلهم يضرعون" (في ظلال القرآن 3 - 1337).
وانظر كيف كان رسول الله ص يستخرج هذه الينابيع من نفوس أصحابه في مواطن الشدائد، فتبرز الآراء، والتوجيهات، وتبزغ القدرة على العطاء، وتطفو المواهب المستكنة فتعلن عن نفسها في وضوح، فهذا سلمان يصدع يوم الأحزاب بخندقه، وهذا نعيم بن مسعود يبرز بدهائه وحكمته، وذاك حذيفة يُختار من بين الجموع لرويته وحسن تصرفه، والتاريخ مليء بأمثال هؤلاء.
12 غفران الذنوب وتكفير السيئات، فقد روى الترمذي عن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد وما عليه من خطيئة".
13 التذكير بالله تعالى، وبالرجوع إليه، يقول تعالى: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون 168 (الأعراف). فتوالي الابتلاء سواءً أكان بالخير أم الشر رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار. فلعل من ابتُلي بالحسنات أن يشكر، والشكر يقتضي الاعتراف بالمنعم جل جلاله، وبفضله وعطائه ومَنِّه، ومن ابتلي بالسيئات عليه أن يصبر، والصبر نصف الإيمان فلا جزع ولا يأس.
يقول الإمام البنا (رحمه الله): "وهل تنضج الموهبة، ويصفو الجوهر النقي إلا بين المنحة والمحنة؟ وتلك سنة الله تبارك وتعالى في تنشئة الأفراد وتربية الأمم، وسبيل أصحاب الدعوات، من اصطنَع لنفسه من عباده، وصُنع على يديه من خلقه ليكونوا أئمة يهدون بأمره ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون 35 (الأنبياء) مجلة الدعوة العدد 82 - ص 43).
وتأمل قصة أصحاب الجنة في القرآن إذ جاء في آخرها: قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 28 قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين 29 فأقبل بعضهم على" بعض يتلاومون 30 قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين 31 عسى" ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى" ربنا راغبون 32 (القلم). فكان الابتلاء في حقهم رحمة من الله بهم؛ فلو تركهم وما تآمروا عليه من قطع الخير ومنعه عن الآخرين ولم يبتلهم تذكيرًا لهم ولقلوبهم، لضلوا وماتوا على ضلالهم، فكان المنع موجبًا للعطاء بعد ذلك، ورحم الله ابن عطاء حينما قال: "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك" ولو تفكر المرء في المنع وأسبابه "لصار المنع هو عين العطاء".
14 اليقين الجازم أن هذا هو طريق الأنبياء والمرسلين، والدعاة والمصلحين، وفي قصص القرآن العبرة للدعاة إلى الله من أجل تثبيت القلوب وطمأنة النفوس، فما من نبي إلا أوذي في سبيل دعوته يقول تعالى: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى" للمؤمنين 120 (هود: 120)، فمن أراد التمكين فلا بد من البلاء، وقد سُئل أحد أئمة المسلمين: أيمكّن المرء أولاً أم يُبتلى؟ فقال: لا يمكّن المرء حتى يبتلى".
ولله در الإمام البنا رحمه الله وقد قرأ بعين نافذة وبصر ثاقب صفحات الماضي فصاغ منها نظرته إلى المستقبل، يقول: "لا زالت دعوتكم مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقي منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فستُسجنون وتُعتقلون وتُشردون، وتُصادر مصالحكم، وتُعطل أعمالكم، وتُفتش بيوتكم.. وقد يطول بكم الامتحان، ولكن الله وعدكم بعد هذا كله نُصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟" (مجموعة الرسائل).
15 فتح آفاق جديدة وأماكن جديدة للعمل الإسلامي، فما من دعوة يُضيّق عليها في أرضها ووسط أهلها، إلا والتمست كسب أرض جديدة أفضل مناخًا للعمل والعطاء. فحينما ضُيِّق على الدعوة الأولى في مكة هاجر المسلمون إلى الحبشة، وهناك أسلم النجاشي، وأمِنَ الناس على دينهم، ونشروا بين الناس كلمة الحق فأسلم خلق كثيرون.
والحركة الإسلامية المعاصرة ضُيّق عليها في بلادها ووسط أهلها، فهاجر رجالها يلتمسون الأمن في أماكن أخرى، فإذا بدعوتهم الآن تنتشر في أرجاء الأرض.
يقول الإمام البنا في آخر ما كتبه رحمه الله : "ويعود إخوانكم من البعثات العلمية أو من الرحلات التجارية في إنجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها من بلاد الغرب المتهالكة على المادة المتهافتة على الطغيان، فإذا بهم قد أنشأتهم المرحلة نشأة أخرى، وسمعوا ورأوا من حديث الناس هناك عنكم واهتمامكم بشأنكم والتعليق على جهادكم وجهودكم، بما يجعلهم يستشعرون التقصير في حق الدعوة، ويعتزمون بذل الجهد وفوق الجهد في العمل لها والجهاد في سبيلها، ولقد سمعت أحدهم بالأمس القريب يخاطبني في حماسة ويحادثني في قوة وحزم، فيقول: يا أخي، والله إننا لسنا مجهولين إلا في وطننا، ولا مغموطين إلا في أرضنا، فإذا أراد الناس أن يعرفونا، بل إذا أردنا نحن أن نعرف أنفسنا ومدى تأثير دعوتنا، فعلينا أن نرحل إلي هذه الأقطار، ونجوس خلال تلك الأمصار، ونستمع إلى أهل تلك الديار في مجالسهم الخاصة أو مجامعهم العامة، وسنرى من ذلك العجب العاجب، والقول اللازب، فأقول له: لا بأس عليك فقديمًا قيل: "وزامر الحي لا يحظي بإطراب"، وليس لنبي كرامة في وطنه وبين عشيرته، وسيدرك قومنا بعد ذلك من نحن وماذا نصنع؟ والعاقبة للمتقين ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 (الحج) مجلة الدعوة- العدد 82).
ــــــــــــــ(1/252)
الهجرة مشروع الأمة الحضاري
بين الماضي والحاضر: الصلة وثيقة بين ما مرَّ من أحداث في تاريخ الدعوة الإسلامية وما تعيشه الأمة في حاضرها، وذلك من منطلقات عديدة أهمها:
1 إن كل حدث مرَّ به تاريخ الدعوة الإسلامية له ظرف تاريخي وسبب مباشر لكن دلالته وهدفه يتخطيان حدود الظرف التاريخي، والسبب المباشر للحدث، وكأن الله سبحانه أراد لهذا الدين أن تستند كل الأجيال التي تؤمن به إلى تجارب واقعية، تُستلهم في كل زمن ليقاس عليها، ويستفاد منها. وتلك فلسفة تفسير التاريخ الإسلامي فاعتبروا يا أولي الأبصار (2) (الحشر) الذي يستفيد من كل تاريخ سبقه للرسل والأقوام لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى" ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء (يوسف:111)، ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) (الفجر).
من هنا وجبت دراسة أحداث الدعوة وقراءتها بتأمل ودقة.
2 هناك تشابه كبير بين ماضي هذه الأمة وحاضرها من حيث: الصراع بين الحق والباطل كقانون أزلي أبدي، ومن حيث انه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالبشر هم البشر عقولاً ونفوساً ورغبات، والوسائل وإن اختلفت ظاهراً ففي طيها التشابه البالغ حد التماثل أحياناً، ففي الماضي امتحن هذا الدين بأعدائه مشركين ومنافقين وبعض أهل الكتاب، وكان لابد للحق من صمود يبذل فيه جهده ويطلب العون من الله سبحانه، فكان ما كان من أمر الإذن بالقتال والعون للمجاهدين بشتى الوسائل: ملائكة مردفين، ورهبة في قلوب الكفار ونحو هذا مما هو في بابه.
وفي عصرنا يمتحن هذا الدين بتكالب الأعداء عليه بين جهل أبنائه وصلافة أعدائه، وقد بذلت محاولات دءوبة لنشر الزيف عن طريق الاستشراق والاستعمار والتنصير وغيرها، وكان على أهل الحق أن يستفيدوا من تجربة أسلافهم، حملة هذا الدين إلينا فيبذلوا جهدهم ويطلبوا العون من الله سبحانه، من هنا تكون دراسة الماضي دراسة علمية هي الطريق الأمثل للتعامل مع الواقع.
3 لم يغب هذا الفهم عن عقل عدد غير قليل من الدعاة والمصلحين في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد سيطرة الاستعمار في أواخر القرن التاسع عشر وحتى قبيل بل وبعيد منتصف القرن العشرين، وكذلك بعد أن مُنيت الأمة بسقوط رمز وحدتها "الخلافة الإسلامية" وما تلاها من قيام دول علمانية محضة، أو علمانية بنسبة سيطرة القوانين الوضعية فيها.
هذا الفهم من الدعاة والمصلحين حفَّزهم على تقديم رؤى للإصلاح يمكن أن تمثل البذور الأولى لمشروع حضاري يعيد المسلمين إلى فهم عميق لإسلامهم، وسلوك رشيد يترجم هذا الفهم، وعرف الفكر الإسلامي الحديث مشروعات حضارية وإن شئت قلت مشروعات لمشروع حضاري بدءاً من الأفغاني ومروراً بالبنا، والنورسي، ووقوفاً عند المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، بل وغيرهم من اتجاهات أخرى لا تلتزم بالرؤية الإسلامية طريقاً ضرورياً لأسس المشروع وتطبيقاته.
ولكثرة هذه المشروعات وتنوع اتجاهاتها قدمت دراسة علمية لنيل درجة الدكتوراه حول المشروع الحضاري الإسلامي في مقابل المشروع الغربي والعلمانية (دكتوراه طبعها المعهد العالمي للفكر الإسلامي وهي لباحث من كلية دار العلوم، د.أحمد جاد).
لكن الذي لا يختلف عليه عاقلان أن طابع الجماعية أو اتفاق أكبر عدد من مفكري الأمة على مشروع من هذه، إنشاء، ودراسة، وتقويماً، لم يحدث وبذا ظلت فردية إلى حد كبير، وهذا ما دفعني إلى قراءة حدث الهجرة بروح من ينشد للأمة سبيلاً إلى مشروع حضاري تفكر فيه جميعها، وتضحي من أجله وتورثه للأجيال كي تستمر عالمية هذا الدين وخاتميته مثلاً ومثالاً واقعياً.
كيف كانت الهجرة مشروع الأمة
كانت الهجرة من مكة إلى غيرها: الحبشة المدينة، الأمر الذي فكر فيه الجميع مخرجاً من التضييق على الحق، وأملاً في إقامة دولة له ينطلق منها إلى كل ربوع العالم ليبشر برحمة الله للعالمين، وبهديه الذي ختمت به رسالات السماء إلى الأرض.
ولأن هذه الفكرة انبثقت من ظروف معينة شعر بها كل المسلمين آنذاك وأولهم رسول الله ص لأنه هكذا وجدنا الهجرة فكرة نفذها كل من واتته الفرصة لجعلها واقعاً، ترتب عليه قيام دولة بكل مؤسساتها المدنية، وإحساس كل مسلم أنه أسهم بقدر في نجاح هذا المشروع المنبثق منه جعله يبذل كل غال وثمين في سبيل الحفاظ على هذا المشروع ضد المناوئين سواء كانوا كفاراً أو منافقين أو غيرهم، حسب مقتضيات الصراع ووسائل مقاومته، حرباً، أو جدلاً دينياً، أو إحباطاً لمؤامرات الزيف والتشويه.
ازداد أذى قريش لكل من أسلم رجاء صدهم عن اتباع الرسول ص فلم يتركوا باباً إلا ولجوه، فأشار الرسول على أصحابه أن تفرقوا فإن الله سيجمعكم، فلما سألوه عن الوجه أشار إلى الحبشة (محمد الخضري بك: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ص 56، دار مكتبة الهلال طبعة أولى 1409ه 1989م).
وقد ذكر ابن إسحاق أن الرسول ص قال لأصحابه: "إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً" فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله ص. (سيرة ابن إسحاق بتحقيق سهيل: 174، ابن هشام: 1-321).
تلك كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، وقد كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، ويذكر الطبري أن رجالاً ونساء هاجروا في هذه الهجرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار (الطبري تاريخ الأمم 2-221).
وهنا نلحظ أن المهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الأولى كانوا رجالاً ونساء، من الرجال: عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون وغيرهم (عشرة رجال وقيل أحد عشر رجلاً).
ومن النساء: رقية بنت رسول الله، وسهلة بنت سهل مع زوجها أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أمية امرأة أبي سلمة، وكانت مع زوجها، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة.
ومن الأسماء تدرك أن جلَّهم من أشراف قريش الذين أسلموا، خرجوا امتثالاً لأمر النبي ص ، وقد مكثوا بالحبشة قرابة ثلاثة أشهر، ثم عادوا إلى مكة، حيث أرادوا أن يكونوا على صلة بحال إخوانهم الذين لم يهاجروا.
لكن الذي لا خلاف عليه أن هذه التجربة كان لها ما بعدها.
وحين عاد هؤلاء المهاجرون إلى مكة لم يستطيعوا دخولها إلا من وجد له مجيراً، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، غير أنه رد عليه جواره حين رأى ما صنعه بالمسلمين من تنكيل وتعذيب.
إلى الحبشة مرة أخرى
بعد فشل محاولات قريش في صرف بني هاشم وبني عبدالمطلب عن الوقوف مع رسول الله، ص كان قرارهم بالمقاطعة لهم، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو عبدالمطلب إلى النبي ص عدا أبي لهب، ودخلوا في شعب أبي طالب، وعانى القوم من هذه المقاطعة ما عانوا.
هنا أمر الرسول ص جميع المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة، فهاجر معظمهم، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلاً، وثماني عشرة امرأة، وتوجه إليهم من أسلم من اليمن، وهم الأشعريون أبوموسى وبنو عمه.
وقد نجح هؤلاء جميعاً في إقناع النجاشي بما هم عليه من حق، مما أفسد سفارة عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، اللذين كانا قد ذهبا محملين بالهدايا للنجاشي بغية أن يسلم المسلمين إليهما، فما نالا سوى الإهانة والتوبيخ.
هجرات قبل الهجرة إلى يثرب
إذا كانت هجرتا الحبشة حركة من أجل نشر الإسلام وبيان الحق الذي ينطوي عليه للناس، وسعة من الضيق الموجود في مكة فإن رسول الله ص لم
يكف عن الحركة للغرض ذاته، فقد توجه إلى ثقيف بالطائف ومعه زيد بن حارثة، ورغم أنه ص لم يلق من ثقيف خيراً، فقد أسلم عداس النصراني، إثر حديث دار بينه وبين الرسول ص حين سمعه يقول "بسم الله الرحمن الرحيم" قبل أن يأكل العنب. وكان يذهب في المواسم يعرض نفسه على القبائل، ومن أثرها بدء إسلام الأنصار.
بداية انفراجة لمشروع الأمة
صاحب الحق لا يكل ولا يمل من العمل لنشره وتوسيع دائرته، هذا جهده والله لا يضيع أجر العاملين المحسنين، وهذا ما فعله الرسول الكريم حين التقى في الموسم ستة من الخزرج، فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل.
وفي العام المقبل قدم اثنا عشر رجلاً منهم اثنان من الأوس هما أبوالهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، وكانت بيعة العقبة الأولى.
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى التقى النبي ثلاثة وسبعين رجلاً من الأنصار وامرأتين هما نسيبة بنت كعب من بني النجار، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة. (نور اليقين: 75، 76).
وكان لابد من نشر فكرة الحق في غير هؤلاء دعوة وبياناً، لذا أرسل الرسول الكريم إلى الأنصار مصعب بن عمير، وعبدالله بن أم مكتوم، يُقرئان الأنصار القرآن ويفقهانهم في الدين، طريقاً إلى تعريف غير المبايعين به، وهذا ما حدث فاكتسب مشروع الأمة سعة وأنصاراً جدداً.
الهجرة إلى المدينة
رجع الأنصار إلى المدينة فرحين بما حدث من بيعتين كريمتين، لكن أهل مكة لا يزالون يتعرضون للأذى، ويتطلعون إلى هجرة أوسع من هجرتي الحبشة ويعرضون هذا على الرسول الكريم لكنه لم يؤذن له بعد. ثم رأى الرسول ص أرض الهجرة الجديدة كما جاء في البخاري: "رأيت في المنام أني أهاجر إلى أرض بها نخل" (صحيح البخاري مع فتح الباري 7-226).
ثم كان الإذن بالهجرة فأذن الرسول لجميع المسلمين بالهجرة، وكانوا يتسللون خيفة قريش أن تمنعهم.
فارقوا أوطانهم التي ألفوها طلباً لرضا الله، وفرحاً بالإذن بالهجرة أملاً في إقامة دولة للحق في المهجر الجديد... "ولم يبق بمكة إلا أبوبكر وصهيب وعلي وزيد بن حارثة وقليل من المستضعفين الذين لم تمكنهم حالهم من الهجرة" (نور اليقين:77).
ثم كانت رحلة الهجرة بتفاصيلها كما جاءت في كتب السير التي تشير إلى:تضحية الكثيرين من أجل مشروعهم الذي طالما حلموا به. فأبوبكر يضحي بجهده وماله، وولده عبدالله يقوم بدور خطر هو جمع المعلومات لتوصيلها للمهاجرين العظيمين، وأسماء تشق نطاقها وتتحمل ما تتحمل، وعامر بن فهيرة يجيء بغنمه ليمحو آثار أقدام عبدالله بن أبي بكر كيلا تعلم قريش مكان المهاجرين، وعلي يتحمل مخاطرة النوم مكان الرسول المطلوب تصفيته من قريش، وصهيب سابق الروم إلى الإسلام، يضحي بماله، وغير هؤلاء كثيرون.
وفي هذا السياق نذكر استقبال الأنصار للمهاجرين بدءاً من خروجهم للقاء النبي ص وصاحبه، ووصولاً إلى التكافل الذي لا نظير له مع إخوانهم المهاجرين، وما كانوا سيبذلون ما بذلوا ولولا أن الهجرة هي مشروعهم المرتقب لإقامة دولة الحق والوحدة على أنقاض الفرقة والباطل اللذين كانا سمة الحياة في يثرب.
عون الله للأمة في مشروعها
إن الدارس لحدث الهجرة يلحظ بجلاء ووضوح إعانة الله للأمة التي تبنت الهجرة مشروعاً تبني به دولة للحق، وهذا العون تتعدد مظاهره من خروج النبي ص من بيته والقوم بالباب، ومن وقوف القوم على فتحة الغار دون أن يكشفوا أمر المهاجرين، وانقلاب سراقة إلى رجل يعمل للهجرة بدلاً مما كان قد أتى من أجله بفرسه، كل هذا وغيره من العون الإلهي جزاء طيب لمن يخلص في خدمة مشروعه.
وماذا عن مشروعنا نحن الآن؟
نعم بعد الهجرة التي أقامت للإسلام دولة، ليس هناك هجرة كما يذكر الحديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، لكن بقي الجهاد بكل معانيه وكل وسائله تصحبه نية صادقة وعزم أكيد على أن تتبنى الأمة مشروع تحكيم شرع الله وإحلاله محل ما علق بحياة المسلمين من نظم وقوانين، ليس هنا محل الحديث عن ظروف دخولها.
فهل تدرس تجربة الهجرة بكل معطياتها، والدأب على إنجاحها، والسهر من أجل تحقيق هدفها، لنفيد من كل هذا في مشروعنا الحضاري فيصبح مشروع أمة لاجتهاد أفراد، وتتضاءل كل تضحية في أعين باذليها إزاء الهدف الكبير الذي يعني أن يستعيد المسلمون مكانه ومكانتهم مرة أخرى على خريطة العطاء للبشرية، وهدايتها الصراط المستقيم؟
نرجو ذلك والله المستعان.
ــــــــــــــ(1/253)
الكتابة على القبر جائزة
الإجابة للدكتورعجيل النشمي
الناس معتادون على وضع رخامة عند رأس الميت بعد دفنه ويكتب عليها اسمه وتاريخ وفاته، وقد يتضمن الدعوة للدعاء له، فهل تجوز هذه الكتابات؟ لأن بعض طلبة العلم قال: إن هذا بدعة لا تجوز.
اتفق الفقهاء على جواز وضع علامة على القبر من نحو حجر أو خشبة ونحو ذلك لما روي أنه "لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن فأمر النبي { رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله { وحسر عن ذراعيه فحملها فوضعها عند رأسه وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي" (أبوداود وهو صحيح).
وأما الكتابة على القبر فاختلف الفقهاء في ذلك لحديث جابر بن عبدالله قال: "نهى النبي { أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه" (الترمذي 3-359 وهو عند مسلم بدون زيادة وأن يكتب عليه 2-667) وبناء على هذا الحديث قال المالكية والشافعية والحنابلة بكراهة الكتابة على القبر، وذهب الحنفية إلى أنه لا بأس إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأمر ويمتهن، ولعل رأي الحنفية هو الأولى فالحاجة داعية في كل البلاد إلى أن يتعرف أهل الميت على قبر ميتهم، وزيارته والدعاء له، وترك الكتابة قد تسبب ضياعه واختلاطه بغيره، وقد لا يجدي وضع علامات أخرى، وينبغي أن يتحاشى قدر الإماكن ذكر لفظ الجلالة ولا يكتب على الرخام قرآن، خشية أن يهجر أو تسقط الرخامة فتداس وفيها لفظ الجلالة أو قرآن، قال ابن عابدين، مؤيداً جواز الكتابة ومعللاً: بأن النهي عن الكتابة وإن صح فقد وجد الإجماع العملي بها، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف، ويتقوى بما ورد أن رسول { حمل حجراً فوضعها عند رأس عثمان بن مظعون رضي الله عنه وقال: "أتعلم بها قبر أخي وأدفن معه من مات من أهلي" فإن الكتابة طريق إلى تعرف القبر بها، نعم يظهر أن محل هذا الإجماع العملي على الرخصة فيها إذا كانت الحاجة داعية إليه في الجملة، حتى يكره كتابة شيء عليه من القرآن أو الشعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك أي دون حاجة.
ــــــــــــــ(1/254)
لا بأس بتعليم القبر لكن الكتابة عليه مكروهة
<= هل يجوز أن نضع الحصى على القبر بعد الدفن بقصد أن نحفظ التراب فوق القبر، من الرياح ومن أجل أن يسهل التعرف على القبر؟ وهل يجوز وضع رخامة يكتب عليها اسم الميت ليُعرف قبره؟
<< لا بأس بتعليم القبر بوضع علامة تدل عليه بأن تُوضع خشبة أو حجر أو رخامة، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه فقد روى أبو داود بإسناده عن المطلب قال: "لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه، أخرج بجنازته فدفن فأمر النبي ص رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام رسول الله ص فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أعلم بها قبر أخي، وادفن إليه من مات من أهله" (رواه ابن ماجه من رواية أنس المغني 2-376).
وأما الكتابة على القبر، على الحجر أو الرخام فإن الفقهاء كرهوها استناداً إلى ما ورد من النهي عنه في الحديث خوفاً من سقوط الحجر أو غيره، أو أن تدوسه الأقدام ولا يخلو أن يكون فيه اسم الله عز وجل.
والحديث الوارد في ذلك من زيادة الترمذي قول النبي ص الذي رواه مسلم قال: "نهى رسول الله ص أن يُجصص القبر وأن يُبنى عليه، وأن يُقعد عليه". زاد الترمذي "وأن يُكتب عليه". وأما وضع الحصى على القبر بقصد التعرف عليه وحفظه من الاندراس فجائز، بل نص الشافعية على استحبابه، قال الإمام النووي: يُستحب أن يُوضع على القبر حصباء، وهو الحصى الصغار لما ورد أن "النبي ص وضع على قبر ابنه إبراهيم رضي الله عنه الحصباء، من حصباء العرصة".
والحديث كما قال الإمام النووي رواه الشافعي في الأم والبيهقي بإسناد ضعيف. (المجموع للنووي 5-261)، إلا أن الشافعية استحبوا وضع الحصى. ولعل ذلك لعدم معارضة وضعه لمقاصد الشرع من النهي عن مثل التجصيص من الزينة والتباهي، ولأن المقصد مشروع وهو التعرف على القبر وحفظه، ولعدم الفارق بينه وبين وضع خشبة أو حجر بقصد التعرف على القبر، فوضع الحصى فيه زيادة مقبولة وهو حفظه وسهولة التعرف عليه، ولعل هذا كله يؤيد ما ذهب إليه الشافعية من الاستحباب وقبولهم الحديث لتقويه بعموميات غيره.
وعلى هذا أقول: يجوز وضع الحصى على القبر لا بقصد التباهي والتفاخر، وإنما بقصد حفظه من الاندراس والتعرف عليه.
لا بأس بأسماء المتوفين على القبور بهدف تمييزها توفي والدنا ـ يرحمه الله ـ فوضعنا على قبره رخامة مكتوباً عليها: "بسم الله الرحمن الرحيم"، يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى" ربك راضية مرضية (28) (الفجر)، وذكرنا اسمه، وتاريخ وفاته، فهل ما عملناه مشروع أم محرم؟
<< جمهور الفقهاء يجيزون تعليم القبر، بأن توضع عليه خشبة أو حجر مميز يعرف به عن غيره من القبور.
ويرى الشافعية أن ذلك مندوب إليه، لما روي أنه: "لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته، فدفن، فأمر النبي ص رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله ص، وحسر عن ذراعيه فحملها فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهله". (أبو داود 3-543).
وأما الكتابة على القبر، فذهب جمهور الفقهاء ـ عدا الحنفية ـ إلى كراهتها مستدلين بحديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال: "نهى رسول الله ص أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه" (الترمذي 3-359). وفي رواية لمسلم لم يذكر فيها: "وأن يكتب عليه". (مسلم 2-667).
وقال الحنفية، ومعهم السبكي من الشافعية، لا بأس بالكتابة إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر، ولا يمتهن بألا يعرف أنه قبر فيداس أو نحو ذلك.
ويؤيد الجواز الإجماع العملي، قال ابن عابدين: النهي عن الكتابة، وإن صح فقد وجد الإجماع العملي بها، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف، وينتهي ذلك بالحديث السابق في خبر عثمان بن مظعون، فإن الكتابة طريق إلى تعرف القبر بها، ثم قال ابن عابدين: "نعم يظهر أن محل هذا الإجماع العملي على الرخصة فيها ما إذا كانت الحاجة داعية إليه في الجملة".
على أنه يكره كتابة شيء عليه من القرآن أو الشعر أو إطراء أو مدح له، ونحو ذلك.
وبالجملة أقول: لا بأس من كتابة اسم المتوفى على رخامة، ويتحاشى كتابة آيات من القرآن الكريم، لأن الحاجة قائمة لتمييز القبور ومعرفتها عند الزيارة، وهذه الحاجة يكفي فيها كتابة الاسم، ونحوه، وحفظاً ـ في الوقت نفسه ـ للآيات القرآنية من الامتهان.
ــــــــــــــ(1/255)
الراكب المهاجر عكرمة بن عمرو
إنه الصحابي الجليل عكرمة بن عمرو بن هشام -رضي الله عنه-، أبوه عمرو بن هشام الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، لشدة عدائه للإسلام والمسلمين، وقد أسلم عكرمة بعد فتح مكة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أباح قتله؛ بسبب ما ظهر منه من شدة العداء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فلما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، فر هاربًا وترك أهله وماله، واتجه نحو اليمن يفكر في الذهاب إلى الحبشة، إلا أن الله سبحانه كان قد رزقه بزوجة وفية سبقته إلى الإسلام، وهى أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت تحب زوجها وتتمنى له الهداية.
ولما رأت ما كان من هروب زوجها، ذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب منه العفو والأمان لزوجها، فرق قلب النبي صلى الله عليه وسلم لحالها، وأعطاه الأمان، فأسرعت أم حكيم إلى زوجها لتبشره بعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وبعد أن عانت الزوجة المخلصة من سفرها في الصحراء، وصلت إلى ساحل البحر فلحقت بزوجها، وهو في السفينة.
وظلت تنادي عليه حتى سمعها، فقالت: يابن العم، جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فعاد إليها، فقالت له: إني قد استأمنت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال لها: أنت فعلت ذلك؟ فقالت: نعم أنا كلمته فأمَّنك، فرجع معها إلى مكة حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (مرحبًا بالراكب المهاجر) [الترمذي].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبُّوا أباه، فإن سب الميت يؤذى الحي، ولا يبلغ الميت) [الواقدي وابن عساكر].
ووقف عكرمة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم نادمًا على ما حدث منه، وقال: يا رسول الله، علمني خير شيء تعلمه حتى أقوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله)، فقال عكرمة: أنا أشهد بهذا وأشهد بذلك من حضرني، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لي، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته إلا قاتلت ضعفه، وأشهدك يا رسول الله على ذلك.
وهكذا أسلم عكرمة فحسن إسلامه، وشارك مع جيوش المسلمين في كثير من الغزوات، واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على صدقات هوازن في عام وفاته، وواصل عكرمة جهاده مع المسلمين في عهد أبي بكر، واشترك في حروب الردة، وأبلى فيها بلاء حسناً، وسار إلى عمان فحارب المرتدين هناك، وجعله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أميرًا عليها، وبقى فيها حتى وفاة أبي بكر.
فلما تولى عمر بن الخطاب الخلافة، واتسعت في عهده الفتوحات الإسلامية، اشترك عكرمة فيها، وظل يجاهد في سبيل الله، حتى جاءت موقعة اليرموك، وكان عكرمة أميرًا على بعض الكراديس (مجموعة من الجنود)، فنادى في المسلمين: من يبايعني على الموت؟
فأسرع إليه ابنه عمرو وعمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور، ومعهم فارس من المسلمين، وانطلقوا نحو جيوش الروم يحصدون رقابهم، وأظهر عكرمة -رضي الله عنه- في هذه المعركة فدائية وشجاعة نادرة حتى جرح وجهه وصدره، وانتصر المسلمون انتصارًا حاسمًا، ولكن جرح عكرمة كان عميقًا فأدى إلى استشهاده، فقد وجدوا فيه بضعة وسبعين جرحًا ما بين طعنة ورمية وضربة.
وقبل أن يستشهد عكرمة ضرب أروع مثل في الإيثار، فقد كان بجواره الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فجيء إليه بماء فنظر إليه عكرمة، فقال هشام: ادفعه (أعطه) إلى عكرمة، فلما أخذه عكرمة نظر إليه سهيل، فقال عكرمة: ادفعه إلى سهيل، فلما وصل الماء إلى سهيل كان قد مات، ثم تبعه عكرمة والحارث، واستشهدوا جميعًا وقد آثر كل واحد منهم الآخر بشربة الماء -رضي الله عنهم أجمعين-.
ــــــــــــــ(1/256)
نماذج ممن حولوا فشلهم نجاحاً
الشيخ عبدالحميد البلالي
تناولنا في الحلقة السابقة الخطوة السادسة من خطوات تنشيط القوة الداخلية، وهي (التماس النجاح من الفشل). ونكمل هذه الخطوة بذكر نماذج من الرعيل الأول وغيرهم ممن استفادوا من فشلهم وأخطائهم وحولوها إلى نجاح.
عكرمة بن أبي جهل
إنه نموذج فريد من نماذج الناجحين الذين استطاعوا تنشيط القوة الداخلية بالاستفادة من أخطائهم وفشلهم وتحويل ذلك إلى نجاح باهر، إنه ابن فرعون هذه الأمة.. أبو جهل الذي كان أعدى أعداء الرسول {، وقد ناصب ابنه عكرمة العداء للنبي انسياقاً لعداوة أبيه، واشتدت هذه العداوة بعد مقتل أبيه في معركة بدر، ولشدة عداوته، وشدة تنكيله بأصحاب النبي { وشدة كراهيته للإسلام، أهدر النبي { دمه عند دخول مكة حتى ولو تعلق بأستار الكعبة، مما جعله يهرب للبحر خوفاً على نفسه، ولكن زوجته التي أسلمت أمنته بعد أن أخذت عهداً من النبي بعدم قتله، فجاء للنبي وقد فتح الله عليه وأدخل الهداية في قلبه يريد الإسلام، وبعد دخوله الإسلام قال للنبي {: "إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك أو غيبتك"، فدعا له الرسول { بالمغفرة.
لحظة الاستفادة من الخطأ:
في هذه اللحظة كان عكرمة يتذكر الأخطاء المتراكمة التي اقترفها في حق نفسه أولاً ثم في حق نبي الأمة {، وحق الأبرياء من الصحابة الكرام، وكان يتذكر طريق الفشل الذي كان يسلكه والذي كان حتماً سيوصله إلى خسارة الدنيا والآخرة لو استمر عليه. فكانت البادرة الأولى أنه قال للنبي { بعد دخوله الإسلام.. "أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته صداً عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله".
من نجاح إلى نجاح:
هكذا أخذ العهد على نفسه، وهكذا حول الخطأ إلى صواب، والفشل إلى نجاح، فقد شارك في حرب مسيلمة، وأرسله أبوبكر الصديق لقتال المرتدين في عمان ومهرة اليمن، وفي يوم اليرموك كان على قيادة مجنبة القلب، ولما اشتد الكرب على المسلمين، نزل عن جواده وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف المشركين، فتوجه إليه خالد بن الوليد وقال له: لا تفعل يا عكرمة فإن قتلك سيكون شديداً على المسلمين فقال له: إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول الله سابقة أما أنا وأبي، فكنا من أشد الناس على رسول الله في مواطن كثيرة وأفرُّ اليوم من الروم؟ إن هذا لن يكون.
النجاح الأكبر:
إن شعوره بأخطاء الماضي الذي ظل يلازمه طيلة أيام إسلامه وكان يدفعه دائماً للتصحيح، والاستفادة من أخطاء الماضي والتي لاحظناها من قوله لخالد: "أما أنا وأبي فكنا من أشد الناس على رسول الله" وقوله: "قاتلت رسول الله { في مواطن كثيرة" هو الذي دفعه ليصنع منها النجاح الأكبر الذي يقوم به الإنسان في هذه الحياة، إنها الشهادة في سبيل الله.
فبعد انتهاء نقاشه مع خالد، صاح بالمسلمين "من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، وخاض في صفوف الكفار حتى نال الشهادة، فوجدوا به بضعاً وسبعين من طعنة ورمية وضربة"(1).
وحشي بن حرب
قتل عم النبي { حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه لينال حريته من سيده جبير بن مطعم. وعندما دخل الإسلام، وبايع النبي { كان يقول: "وعلى الرغم من أني عرفت بأن الإسلام يجبُّ ما قبله، فقد ظللت أستشعر فداحة الفعلة التي اجترحتها، وأستفظع الرزء الجليل الذي رزأت به الإسلام والمسلمين، وطفقت أتحين الفرصة التي أكفر بها عما سلف مني" (2).
كان يتمنى أن يصحح الخطأ الكبير الذي اقترفته يداه عندما أقدم على قتل رجل من أحب الناس إلى النبي {، وكان يتمنى أن يحرز النجاح بعد إسلامه من خلال الخطأ الذي جاء به، فاستخدم نفس الحربة التي قتل بها عم النبي { حمزة رضي الله عنه في قتل شر الناس وهو مسيلمة الكذاب في فتنة الردة، وكان يقول مفتخراً بعد ذلك الإنجاز: "قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام".
أديسون المثابر
مخترع المصباح الذي وقف أمام رسائل الإحباط التي أحاطت به من كل جهة صلباً عنيداً مصراً على النجاح في نهاية الأمر، "يذكر المؤرخون بأنه أجرى أكثر من 10 آلاف تجربة في محاولاته لتطوير المصباح، وكان يقول: كل خطوة فاشلة هي خطة للنجاح"(3).
هذه نماذج عرفت السبيل إلى تنشيط القوة الداخلية بتلُّمس طريق النجاح من الفشل.
الهوامش
(1 ) الإصابة ترجمة 5640 وتهذيب الأسماء1-338.
(2 ) صور من حياة الصحابة 5-54 الرسالة..
(3 ) كيف أصبحوا عظماء؟ د. الكربياني ص 99 107.
ــــــــــــــ(1/257)
الهجرة والأخوة الإيمانية
ا (الشبكة الإسلامية) يسري شاهين
سيبقى حدث الهجرة حدثا عظيما، ووقعا فريدا، نستلهم منه العبر ونأخذ الدروس ونتعلم كيف نقيم أمة كما أقامها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى طريقته..
لقد كانت الهجرة هي التأريخ الصحيح لبداية عهد بناء الدولة الناشئة، والأمة الواعدة، وقبل ذلك كانت مجرد دعوة، وبحث عن مأوى تنطلق منه الدعوة إلى الله، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ضالته في المأوى في المدينة المنورة، وانتقل إليها مهاجرًا ـ بأمر الله تعالى له ـ ليقيم دعائم دولته، فما هي تلك الدعائم التي أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليها الدولة؟
إن أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد هجرته هو بناء المسجد، وكانت الخطوة الثانية هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وأما الثالثة فكانت كتابة الوثيقة بينه وبين اليهود خاصة وبين سكان المدينة عامة.
فكانت الأولى والثالثة بيانًا لهوية الأمة ووجهتها، فهي دولة دينية أصلها الأول التوحيد (ذات إيدلوجية دينية)، توحيد الله تعالى، وشريعتها (أو ما يسميه أهل الزمان دستورها) هي أوامر الله ورسوله، وعلى هذا ستكون معاملات أبنائها مع بعضهم، وعليه أيضًا ستكون علاقاتها بدول الجوار وغير الجوار.
وأما الدعامة الثانية فهي الأخوة، وهي مقصد هذه الكلمة، فكانت هي الأساس والقاعدة التي سيقوم عليها البناء، فكانت المؤاخاة بيانًا على أن وحدة الصف وجمع الكلمة مطلب ضروري لا غنى عنه لأي أمة تريد الفلاح.
فصفة لازمة للأمة التي تريد التمكين في الأرض، والعزة في المعيشة، والنصر على أعدائها أن تحقق الوحدة والائتلاف وتنبذ الفرقة والاختلاف، فالأولى سبب القوة والنصر، والثانية سبب الفشل وذهاب الريح: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].فآخى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر بين المهاجرين بعضهم وبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، أخوة العقيدة، أخوة الدين، أخوة الإيمان، وجعلها فوق أخوة النسب، فبها يتناصرون، وبها يتوادون ويتحابون، وبها أيضًا يتوارثون حتى نسخ الإرث بعد ذلك، وبقي التناصر والمحبة والمودة والولاء لله ولدينه.
فقامت على هذه الأخوة دولة الإسلام، وكانت هذه الرابطة مضرب الأمثال، وما زال التاريخ يذكر قول سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ـ حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ـ فقال له سعد: إني أكثر الأنصار مالاً فاقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان؛ فانظر أعجبهما إليك فسمها لي فأطلقها؛ فإذا انقضت عدتُها فتزوجها. (فقابل هذا الكرمَ والجودَ وسخاءَ النفس من سعد عفةٌ وكرامةُ نفس وعلوُ همة من عبد الرحمن) فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلاَّ ومعه فضل من أقط وسمن.
مواقف ميمونة
لم تكن هذه حالةً فريدةً من الأنصار، ولكنها كانت علامةً ودلالةً على حال القوم، وعبيرًا فاح ليدل على شذى عطرهم.
لما قدم المهاجرون المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم. فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر. قالوا: نعم يا رسول الله.
وفي البخاري قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. فقال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا.
فهل سمعت الدنيا بمثل ذلك ؟!! قوم الأرض أرضهم وهم الذين يعملون فيها ويوالونها ويقومون على أمرها.. فإذا أنتجت وأثمرت قاموا مقام الأجراء وقاسموا غيرهم الثمر والربح فأين يوجد مثل هذا؟
وفي البخاري عن أنس: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. فقال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة.
وقد أحس المهاجرون بفضائل الأنصار واعترفوا لهم بالإحسان حتى خافوا أن يذهبوا بكل الأجر؛ ففي المسند عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير؛ لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم.
وما أجمل الإحسان، وما أجمل الشكر عليه، وما أعظم وأحسن ما وصف به الفريقين؛ فالمهاجرون تركوا أموالهم وأولادهم وديارهم لله تعالى ولرسوله، فأثنى الله عليهم فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحشر:8]، والأنصار واسوهم بالمال وأحسنوا إليهم، وآثروهم على أنفسهم؛ فأثنى الله عليهم فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9].
إيثار بالنفس والمال
وهذا الإيثار الذي ذكر الله في الآية هو أعلى درجات الكرم والجود أن تؤثر أخاك مع شدة حاجتك؛ وهو قسمان: الأول إيثار بالمال، والثاني إيثار بالنفس. وسأضرب لكلٍّ مثلاً لحاجتنا لمعرفة ذلك. ـ خصوصا ونحن الآن نعيش في زمن الأثرة وحب النفس.
الأول: رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئاً، فقال: "ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه اللّه؟". فقام رجل من الأنصار وقال: أنا يا رسول اللّه، فذهب به لامرأته، وقال: هذا ضيف رسول اللّه، لا تدخريه شيئاً، فقالت: واللّه ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئ السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: "لقد عجب اللّه - أو قال: لقد ضحك - من فلان وفلانة"، وأنزل اللّه تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). وقد سمى الإمام مسلم الأنصاري، وهو: أبو طلحة رضي الله عنه.
وذكر مالك الداري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره.. فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، وقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا (فدفع) بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
وأما الجود بالنفس فكان منه لمحة في معركة اليرموك حكاها حذيفة العدوي بقوله: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقد روى ابن الأعرابي مثل ذلك أيضا عن عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث ين هشام.. وهم من بين المغيرة فلما مر بهم خالد بن الوليد ورءاهم على ما هم عليه قال: بنفسي أنتم والله. ولا غرابة في تكرار ذلك فقد تشابهت قلوبهم فتشابهت فعالهم رضي الله عنهم أجمعين.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها.. ... .. والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ما أحوج الأمة ـ أفرادا ودولا ـ أن تتعلم هذا الدرس من دروس هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تأخذ بهذا السبب من أسباب عودتها للسيادة والريادة والقيادة، فأمة مفترقة غير مجتمعة، ومختلفة غير مؤتلفة، ومتباغضة غير متحابة، ومتنازعة غير مصطلحة هي في الحقيقة أمة فاشلة ذاهبة الريح كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46).
ــــــــــــــ(1/258)
شهيد نهاوند النعمان بن مقرن
إنه الصحابي الجليل النعمان بن مقرن -رضي الله عنه- الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مع أربعمائة من قومه مُزَيْنَة ، فاهتزت المدينة فرحًا بهم، واستبشر بهم المسلمون، وقد هداه الله للإسلام، وهدى معه أهله وإخوته السبعة.
وقد اشتهر بنو مقرن بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والإنفاق في سبيل الله عز وجل، والتضحية من أجل دين الله سبحانه، وفيهم نزل قول الحق تبارك وتعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول إلا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} [التوبة: 99].
ومنذ أن أسلم النعمان بن مقرن وهو يرفع لواء قومه مجاهدًا بهم في سبيل الله شرقًا وغربًا، فنجده في فتح مكة، وفي الجهاد ضد هوازن والطائف وثقيف، ومحاربة المرتدين ومدِّعي النبوة في عهد الصديق -رضي الله عنه-، ثم يرفع لواء قومه في موقعة القادسية والتي شهدت أروع بطولاته وتضحياته. خاض النعمان بقومه كل هذه الحروب محتسبًا أجره عند الله، وطمعًا في مرضاته، متمنيًا أن ينعم الله عليه بالشهادة في سبيله.
وكان النعمان لين الجانب، زاهدًا في الدنيا ومفاتنها، لا يرضى حياة الرفاهية والإمارة، بل يفضل حياة العمل والجهاد، فحين عرض عليه أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الإمارة على قبيلته، رفض ذلك واعتذر لأمير المؤمنين، ويواصل النعمان رحلة جهاده في سبيل إعلاء كلمة الحق، فكان على رأس الجيش الذي نجح في فتح البصرة ثم الكوفة، وقضى بذلك على وجود الفرس في بلاد العرب.
وجمع يزدجر كسرى فارس آنذاك جيشًا عظيمًا عدده أكثر من مائتي ألف فارس، وجعل من نهاوند قلعة يوجِّه منها سهامه إلى الإسلام، وأصر على محاربة المسلمين والقضاء عليهم، وأحس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بخطورة الأمر، فحشد جيوشه الإسلامية، وأراد أن يقود الجيش بنفسه، إلا أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أشار عليه بأن وجوده في المدينة خير للمسلمين من خروجه، حتى يرعى شئون الأمة الإسلامية التي امتدت أطرافها شرقًا وغربًا، واقتنع الفاروق عمر برأى علي، وقال لمن حوله: أشيروا عليَّ برجل أوليه قائدًا في هذه الحرب، وليكن عراقيًّا، وله خبرة بطرقها ومسالكها.
فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم لجندك وقد وفدوا عليك. فقال عمر: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا. فقالوا: ومن يكون؟ قال عمر: النعمان بن مقرن المزني. قالوا: هو لها يا أمير المؤمنين.
فأمر عمر -رضي الله عنه- النعمان بن مقرن أن يتجه بالجيش إلى نهاوند، ثم أرسل إليه عمر جيشًا آخر بقيادة حذيفة بن اليمان ليكون مددًا وعونًا له، فأصبح عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف فارس، والتقى بجيش الفرس في حرب شديدة، ظلت يومين لم يستطع أحد أن يحقق النصر على الآخر، وفي اليوم الثالث نجح المسلمون في أن يبعدوا الفرس عن مواقعهم ويدخلوهم خنادقهم وحصونهم ويحاصرونهم فيها.
وطال حصار المسلمين للفرس، ففكر النعمان وجنده في حيلة يخرجون بها الفرس من حصونهم، فأشار طليحة بن خويلد الأسدي -رضي الله عنه- بأن يوهم بعض المسلمين الفرس أنهم قد انهزموا، وينسحبوا من الميدان، فينجذب نحوهم الفرس، ويتركوا مواقعهم، ثم ينقض عليهم الجيش الإسلامي كله مرة واحدة، فيهزموهم بإذن الله.
ونفذ هذه الخطة الحربية القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- مع بعض جنود المسلمين، ونجحت الحيلة، وظن الفرس أن في جيش المسلمين ضعفًا، فخرجوا وراءهم ليقضوا عليهم، فانقض عليهم المسلمون، واندفع النعمان بن مقرن في صفوف الفرس، يقاتل قتالاً شديدًا؛ طامعًا في النصر للمسلمين وفي الشهادة لنفسه، ودعا الله قائلاً: اللهم إني أسألك أن تقرِّ عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام، واقبضني إليك شهيدًا.
ونال النعمان أمنيته، فسقط شهيدًا في أرض المعركة، وقبل أن تقع الراية من يده أسرع إليه أخوه نعيم وأخذ الراية منه ليواصل المسلمون جهادهم، ويكتم نعيم خبر استشهاد القائد، ويقوم حذيفة بن اليمان الذي أوصى النعمان له بقيادة الجيش من بعده، فيواصل المسيرة حتى تنتهي المعركة بنصر كبير، أعز الله به الإسلام والمسلمين، وفي جو الفرحة تساءل المسلمون عن قائدهم؟ فأجابهم نعيم قائلاً: هذا أميركم، قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة.
ووصل الخبر إلى المدينة، فصعد عمر المنبر ينعي للمسلمين ذلك البطل الشهيد، ويقول وعيناه تذرفان بالدموع: إنا لله وإنا إليه راجعون، فيبكي المسلمون بالمدينة، ويرتفع صوت عبد الله بن مسعود بالبكاء وهو يقول: إن للإيمان بيوتًا وإن بيت ابن مقرن من بيوت الإيمان.
وهكذا يسجل التاريخ يومًا من أعظم أيام الإسلام، يوم نهاوند سنة (21هـ)، ذلك اليوم الذي استشهد فيه أمير نهاوند، وقائد المسلمين فيها النعمان بن مقرن.
وفي نهاوند، دفن النعمان يوم الجمعة في سهل ممتد تكسوه الأشجار العالية، ودفن معه مَنْ استشهد في ذلك اليوم الخالد.
ــــــــــــــ(1/259)
الجهاد حرب مشروعة لرد الغاصبين وحماية المستضعفين
القاهرة : مجاهد الصوابي
دراسة وافية حول مفهوم الجهاد في الإسلام وسمو ورقي أهداف ووسائل ونتائج الحرب في الإسلام أعدها مجمع البحوث الإسلامية بالتعاون مع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وأشرف على إعدادها الدكتور علي جمعة عضو المجمع وأستاذ أصول الفقه بالأزهر بهدف وقف سيل الاتهامات الموجهة للإسلام والمسلمين بالإرهاب والدموية، والتأكيد على أن حروب الإسلام كلها رحمة وحب ودفاع وحماية للمستضعفين ومواجهة للظلم والطواغيت عكس غيرها من الحروب التي شهدتها البشرية قديماً وحديثاً، إذ كلها دماء.. وأغلبها دماء مسلمة..
وما نراه اليوم على الساحة الدولية خير دليل سواء في غارات الصليبية الحديثة في البوسنة أو كوسوفا أو في الفلبين وغيرها، أو غارات الهندوس الذين يحرقون المسلمين أحياء ويهدمون مساجدهم ويحرقون أحياء وقرى بالكامل، أو ما يحدث للمسلمين على أيدي أتباع بوذا في تركستان الشرقية، والأمثلة لا تعد ولا تحصى.. وهذا كله في كفة والإجرام الصهيوني والوحشية اليهودية التي فاقت كل الحدود في كفة أخرى.. هذا كله جعل الأزهر والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية يوجهون هذه الدراسة المستفيضة إلى العالم لتوضيح حقيقة الإسلام ومواجهة الآلة الإعلامية الصهيونية التي تشوه كل شيء وتثقل العالم بالأكاذيب والتزييف والتضليل. الدراسة صدرت في كتاب في مارس الحالي.
تؤكد الدراسة أن الجهاد في الإسلام حرب مشروعة عند جميع عقلاء أهل الأرض. والمتدبر في المصادر الأساسية من ناحية وفي تطبيقات المسلمين لها من ناحية أخرى يخرج بحقيقة واضحة حول معنى الجهاد في الإسلام، ويتبين من التدبر لآيات الله سبحانه وتعالى أن القتال في الإسلام من أنقى أنواع الحروب سواء من ناحية هدفه أو أسلوبه أو شروطه وضوابطه أو انتهائه وإيقافه أو من ناحية ما ترتب عليه من نتائج.
فمن الناحية التنظيرية نجد في القرآن قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى" يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى" لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) (البقرة)
وقوله تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا 75 (النساء).
وقوله تعالى، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم 61 (الأنفال) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على" نصرهم لقدير 39 الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها \سم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 (الحج).
كما أوضحت الدراسة أن هناك من الأحاديث النبوية المئات التي تؤكد المعنى نفسه وتفسره، منها على سبيل المثال:
(1) روى الترمذي في سننه عن النعمان بن مقرن "كان رسول الله ص إذا بعث أميراً على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً وقال اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال أيها أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم إلى الإسلام والتحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين وإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم ما يجري على الأعراب ليس لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت حصناً فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه واجعل لهم ذمتك وذمم أصحابك لأنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم أصحابكم خير من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلوهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا "رواه الترمذي".
(2) روى مسلم في باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله كتاب الإمارة عن أبي هريرة: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
(3) عن وهب بن منبه سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت قال:اشترطت على النبي ص أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي ص بعد ذلك يقول: "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا". سنن أبي داود كتاب الخراج والإمارة والفيء باب ما جاء في خبر الطائف.
(4) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ص فقال : إني أريد الجهاد فقال : أحي والداك ؟ قال: نعم،قال: ففيهما فجاهد. مصنف عبد الرزاق كتاب الجهاد باب الرجل يغزو وأبوه كاره له.
وأوضح أن أهداف الحرب في الإسلام هي رد العدوان والدفاع عن النفس، و تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها، والمطالبة بالحقوق السليبة، ونصرة الحق والعدل.
وفي حين أن شروط تلك الحرب هي :النبل والوضوح في الوسيلة والهدف، وأن لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين، وإذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين، والمحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التي تليق بالإنسان، والمحافظة على البيئة ويدخل في ذلك النهي عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار، وإفساد الزروع والثمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت، والمحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.
وتشير الدراسة إلى أن الآثار المترتبة على الحرب هي: تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية، وإزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس، وهو الشر الذي يؤدي إلى الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وإقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم، وتقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية، وتحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس في أوطانهم.
الحرب في العهدين القديم والجديد
أما من الناحية التطبيقية فإن الحرب ظاهرة اجتماعية نجدها في العهد القديم، فنجد أن التوراة تخبر بأن الله قد أمر موسى عليه السلام أن يشن حرباً على أقوام عبدوا غيره، كما في نص الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر العدد يقول : (وكلم الرب موسى في عربات مواب على أردن أريحا قائلاً: كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأرض إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم)، وفي العهد الجديد، ففي إنجيل متى الإصحاح العاشر 34 : 36 على لسان المسيح عليه السلام (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته).
حقائق حول غزوات النبي
هناك حقائق ثابتة حول غزوات النبي ص فمجموع تحركاته العسكرية نحو ثمانين غزوة وسرية وتجريدة بينما القتال الفعلي لم يحدث إلا في نحو سبع مرات فقط، أما المحاربون فكانوا كلهم من قبائل مضر ولم يقاتل أحداً من ربيعة ولا قحطان، أما عدد القتلى من المسلمين في كل المعارك فهو 139شخصاً ومن المشركين 112 ومجموعهم 251، وهو لا يساوي عدد القتلى من حوادث السيارات في مدينة متوسطة الحجم في عام واحد وبذلك يكون متوسط عدد القتلى بالنسبة إلى التحركات الثمانين هو 3.5 شخص.
أكذوبة انتشار الإسلام بالسيف
وحول أكذوبة انتشار الإسلام بحد السيف يؤكد د. جمعة في دراسته أن الإسلام انتشر بعد ذلك بطريقة طبيعية لا دخل للسيف ولا القهر فيها وإنما بإقامة العلاقات بين المسلمين وغيرهم وعن طريق الهجرة المنتظمة من داخل الحجاز إلى أنحاء الأرض، وهناك حقائق حول هذا الانتشار حيث يتبين أنه في المائة عام الأولى من الهجرة كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي : في فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين 5%، وفي العراق 3%، وفي سورية 2%، وفي مصر 2%، وفي الأندلس أقل من 1%.
بينما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي: في إيران سنة 185ه، والعراق سنة 225ه، وسورية 275ه، ومصر 275ه، والأندلس سنة 295ه.
والسنوات التي وصلت نسبة المسلمين في هذه البلاد إلى 50% من السكان كانت كالآتي : في بلاد فارس 235ه، والعراق 280ه، وسورية 330ه، ومصر 330ه، والأندلس 355ه.
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان فكانت كالآتي: في بلاد فارس 280ه، والعراق 320ه، وسورية 385 ه، ومصر 385ه، والأندلس سنة 400ه.
الفتوح الإسلامية غير دموية
وتوضح الدراسة أن المسلمين في مسيرتهم لنشر الإسلام لم يكونوا دمويين كغيرهم، والدلائل التاريخية كلها تشهد على ذلك حيث تميز هذا الانتشار أيضاً بخصائص منها: عدم إبادة الشعوب، ومعاملة العبيد معاملة راقية بعد تعليمهم وتدريبهم وتوليتهم الحكم في فترة اشتهرت في التاريخ الإسلامي بعصر المماليك، والإبقاء على التعددية العقدية من يهود ونصارى ومجوس وغيرها، كذلك كانوا جميعهم يتمتعون بالحرية الدينية، هذا فضلاً عن إقرار الحرية الفكرية فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة، وقد ظل إقليم الحجاز الذي هو بمثابة مسقط رأس الرسول ص ومصدر الدعوة الإسلامية الأول فقيراً حتى عصر اكتشاف البترول، ولم يقم الخلفاء ولا زعماء الدول الإسلامية التي قامت بجلب كافة أنواع الثروات إلى الحجاز وتجاهل باقي الأقطار، فقد كانوا يتركون كل بلد تنفق من مواردها على نفسها وما يفيض يستغلونه في خدمة الأمة الإسلامية بأثرها عكس ما نرى اليوم في الحضارة المادية حيث 2% من سكان الكرة الأرضية يملكون ثروات تبلغ نسبتها 80% من إجمالي ثروات العالم فضلاً عن تركزها في عواصم الدول الكبرى.
وتؤكد الدراسة أن هذه الحقائق ظلت باقية إلى يومنا هذا وعبر التاريخ، ولكن على العكس منها تعرض العالم الإسلامي للاستعمار، ولإبادة الشعوب وتهجيرها، ولمحاكم التفتيش، والحروب الصليبية، ولسرقة البشر من غرب إفريقيا وصناعة العبيد في أمريكا، وهذا ملف واسع كبير، والغرض من ذكره المقارنة بين نقاء حروب الإسلام في مقابلتها بالحروب عند غير المسلمين قديماً وحديثاً.
ــــــــــــــ(1/260)