ويومها قال لي خالي ومن سمعوني: يا آمين.. قلت وأوجزت.. وعبرت.. عما يجيش في صدور الخلق.
قالوا عن الشيخ الشعراوي
فقد العلماء بالموت خسارة إنسانية كبرى، إن الناس يحسون عندئذ أن ضوءا مشعا قد خبا، وأن نورا يهديهم قد احتجب، ولقد كان هذا شيئا قريبا من إحساسنا بموت الشيخ محمد متولي الشعراوي يرحمه الله تبارك وتعالى.
كان أول ظهور له على المستوى العام "في التليفزيون" هو ظهوره في برنامج "نور على نور" للأستاذ أحمد فراج.
وكانت الحلقة الأولى التي قدمها عن حلية رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
كانت الحلقة تتحدث عن أخلاق الرسول وشمائله، ورغم أن هذا الموضوع قديم كتب فيه الكاتبون، وتحدث فيه المتحدثون، إلا أن الناس أحسوا أنهما أمام فكر جديد وعرض جديد ومذاق جديد.. لقد أحسوا أنهم يسمعون هذا الكلام لأول مرة.
ولعل هذه كانت أول مزية للشيخ الشعراوي، إن القديم كان يبدو جديدا على لسانه، أيضا أشاعت هذه الحلقة إحساسا في الناس بأن الله يفتح على الشيخ الشعراوي وهو يتحدث، ويلهمه معاني جديدة وأفكارا جديدة.
بعد هذا القبول العام انخرط الشيخ الشعراوي في محاولة لتفسير القرآن وأوقف حياته على هذه المهمة؛ ولأنه أستاذ للغة أساسا كان اقترابه اللغوي من التفسير آية من آيات الله، وبدا هذا التفسير للناس جديدا كل الجدة، رغم قدمه ورغم أن تفسير القرآن قضية تعرض لها آلاف العلماء على امتداد القرون والدهور، إلا أن تفسير الشيخ الشعراوي بدا جديدا ومعاصرا رغم قدمه، وكانت موهبته في الشرح وبيان المعاني قادرة على نقل أعمق الأفكار بأبسط الكلمات.. وكانت هذه موهبته الثانية.
وهكذا تجمعت القلوب حول الرجل وأحاطته بسياج منيع من الحب والتقدير.. وزاد عطاؤه وزاد إعجاب الناس به، ومثل أي شمعة تحترق من طرفيها لتضيء مضي الشيخ الشعراوي في مهمته حتى اختاره الله إلى جواره.. عزاء لنا وللأمة الإسلامية.
"أحمد بهجت"
إن الشيخ الشعراوي عليه رحمة الله كان واحدًا من أعظم الدعاة إلى الإسلام في العصر الذي نعيش فيه. والملكة غير العادية التي جعلته يطلع جمهوره على أسرار جديدة وكثيرة في القرآن الكريم.
وكان ثمرة لثقافته البلاغية التي جعلته يدرك من أسرار الإعجاز البياني للقرآن الكريم ما لم يدركه الكثيرون وكان له حضور في أسلوب الدعوة يشرك معه جمهوره ويوقظ فيه ملكات التلقي. ولقد وصف هو هذا العطاء عندما قال: "إنه فضل جود لا بذل جهد". رحمه الله وعوض أمتنا فيه خيرًا.
د."محمد عمارة"
إن الشيخ الشعراوي قد قدم لدينه ولأمته الإسلامية وللإنسانية كلها أعمالا طيبة تجعله قدوة لغيره في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
د."محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر"
فقدت الأمة الإسلامية علما من أعلامها كان له أثر كبير في نشر الوعي الإسلامي الصحيح، وبصمات واضحة في تفسير القرآن الكريم بأسلوب فريد جذب إليه الناس من مختلف المستويات الثقافية.
د."محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف"
إن الشعراوي أحد أبرز علماء الأمة الذين جدد الله تعالى دينه على يديهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها].
د."أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر"
إن الفقيد واحد من أفذاذ العلماء في الإسلام قد بذل كل جهد من أجل خدمة الأمة في دينها وأخلاقها.
"الشيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا"
إن الجمعية الشرعية تنعى إلى الأمة الإسلامية فقيد الدعوة والدعاة إمام الدعاة إلى الله تعالى، حيث انتقل إلى رحاب ربه آمنا مطمئنا بعد أن أدى رسالته كاملة وبعد أن وجه المسلمين جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما يصلح شئون حياتهم ويسعدهم في آخرتهم. فرحم الله شيخنا الشعراوي رحمة واسعة وجعله في مصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجزاه الله عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء.
د."فؤاد مخيمر رئيس عام الجمعية الشرعية"
لا شك أن وفاة الإمام الراحل طيب الذكر فضيلة الشيخ الشعراوي تمثل خسارة فادحة للفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية والعالم الإسلامي بأسره، فقد كان رحمه الله رمزًا عظيمًا من رموز ذلك كله وخاصة في معرفته الشاملة للإسلام وعلمه المتعمق وصفاء روحه وشفافية نفسه واعتباره قدوة تحتذى في مجال العلم والفكر والدعوة الإسلامية وإن حزننا لا يعادله إلا الابتهال إلى الله بأن يطيب ثراه وأن يجعل الجنة مثواه.
"د. أحمد هيكل وزير الثقافة السابق"
لا ينبغي أن نيأس من رحمة الله والإسلام الذي أفرز الشيخ الشعراوي قادر على أن يمنح هذه الأمة نماذج طيبة وعظيمة ورائعة تقرب على الأقل من الشيخ الشعراوي ومع ذلك نعتبر موته خسارة كبيرة، خسارة تضاف إلى خسائر الأعوام الماضية أمثال أساتذتنا الغزالي وجاد الحق وخالد محمد خالد. وأخشى أن يكون هذا نذير اقتراب يوم القيامة الذي أخبرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن من علاماته أن يقبض العلماء الأكفاء الصالحون وأن يبقى الجهال وأنصاف العلماء وأشباههم وأرباعهم فيفتوا بغير علم ويطوعوا دين الله وفقا لضغوط أولياء الأمور ويصبح الدين منقادًا لا قائدًا.
ونسأل الله أن يجنب الأمة شر هذا وأن يخلفها في الشيخ الشعراوي خيرًا.
"د. عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ الإسلامي"
ـــــــــــــــ(1/144)
المحدث محمد ناصر الدين الألباني
صفحة من صفحات أمتنا البيضاء طويت مع ما طوي قبلها من صفحات ، وكلها صفحات من نور ، وورقة أخرى من ورقات شجرة الحياة سقطت بعد ما سقط قبلها - فسقط بسقوطها علم وهوى بهويها نجم بل قمر، وانطفأت شمس طالما أضاءت الطريق إلى الله تعالى .
إنه الفقيد الذي ارتبط اسمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يذكر إلا ويذكر معه ، العالم الذي بزّ لداته ، وفاق أقرانه ، وتميز حتى صار شامة في جبين الصحوة المعاصرة ، والعلم الذي أحيا مكانة السنة الصحيحة ، وأوضح أثرها في حياة نهضة الأمة ، وفضح السنة المنحولة ، وحذّر منها وبيَّن ضعيفها وسقيمها .
إنه الساعي الحثيث في إعلاء شأن الحديث ، العالم الرباني، والعلامة الجهبذ ، والمحدث الكبير ، ناصر السنة ، وقامع البدعة الشيخ الفاضل : أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
مولده ونشأته
ولد الشيخ سنة 1332هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك - لأسرة فقيرة وكان بيته بيت علم ، فوالده رحمه الله من كبار علماء الحنفية في ألبانيا .
نزح الشيخ مع والده إلى سوريا فراراً من حكم الهالك أحمد زوغو الذي حول ألبانيا إلى دولة علمانية تحارب الإسلام وأهله .. وفي سوريا بدأ دراسته الابتدائية ، وحفظ القرآن على يد والده وأخذ عنه كثيراً من الفقه الحنفي ، كما قرأ الشيخ على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفلاح وشذور الذهب وبعض كتب البلاغة، ومنحه الشيخ محمد راغب الطباخ محدث حلب إجازة في الحديث .
تعلّم الألباني مهنة تصليح الساعات من والده وأتقنها، وبها كان يتكسب رزقه .
توجه الشيخ للحديث وولَّى وجهه شطره ، وكانت البداية مقالاً نشره الشيخ رشيد رضا في مجلته "المنار" عن كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، وبيّن فضله وقيمته لولا ما فيه من أحاديث ضعيفه وموضوعه ، ثم ما فعله العراقي من نقد هذه الأحاديث والحكم عليها .
وبعد أن قرأ الألباني المقال ذهب إلى سوق المسكية بدمشق واستأجر الكتاب - إذ لم يكن بمقدوره شراؤه - ثم نسخ كل الأحاديث وبجوار كل حديث تعليقات العراقي عليه ، حتى جمعها في كتاب خالص ، كان هو مدرسته الأولى التي عليها تتلمذ وبها تخرج .
علو الهمة
كما هو حال كل علماء الأمة العظام ، كان الصبر على العلم والهمة والنهمة في طلبه ، والمحافظة على الوقت لأقصى درجة ، وإمضاؤه في القراءة والبحث والتنقيب ، أو في التأليف والتقييد .
كذلك كان شيخنا - رحمه الله - يكتفي بعمل ساعة في اليوم أو ساعتين فيحصل قوته وأولاده ثم ينطلق إلى المكتبة الظاهرية لينكب على الكتب والمخطوطات دراسة وبحثاً وتنقيباً ، فربما قضى فيها خمس عشرة ساعة كل يوم ، وربما بقي بعد انتهاء الدوام فيطلب منه الموظفون أن يغلق الأبواب خلفه ، ومن جميل ما يذكر أنه كان أحياناً يصعد على السلم ليلتقط كتاباً من على الرف فيبقى على السلم ساعة يقرأ وقد نسي نفسه من شغفه بالقراءة .
مدرسة جديدة
استطاع الشيخ بتوفيق الله له أن يؤسس مدرسة جديدة في علم الحديث ، كان أهم معالمها تنقية السنة الشريفة مما يعرف عن العلماء بالحديث المردود ( الموضوع والضعيف بأقسامه)، وألف رحمه الله كتبا خصصها للأحاديث الصحيحة وأخرى للضعيفة، وعمل على عزل الصحيح عن الضعيف في كتب السنة ـ كما فعل في الكتب الستة وغيرها ، وخرج أحاديث بعض الكتب ، ونقد نصوصا حديثة في الثقافة الإسلامية ، ودافع عن الحديث النبوي والسيرة بالرد على من تجرؤا عليهما .. إلى غير ذلك من جهوده المميزة التي جعلته بحق مدرسة في علم الحديث تذكر بجهود الأولين في حفظ سنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ومما لا ينبغي إغفاله أنه قد تخرج على يدي الشيخ رحمه الله أعداد غفيرة من طلبة العلم الذين اشتغلوا بهذا العلم الشريف على منهجه في كل البلاد ، فكانوا بإذن الله صدقة جارية تبقى في صحائف الشيخ مع مؤلفاته إلى يوم الدين .
مؤلفاته
وقد بارك الله في حياة الشيخ ووقته وعلمه فألف التآليف الماتعة، وألقى المحاضرات والدروس النافعة ، وانتشرت كتبه في كل مكان حتى انتفع بها القاصي والداني ، وصارت دواوين للسنة يرجع إليها المبتدؤون والمتخصصون ، ويعزو إليها الكاتبون والمؤلفون والمحققون ، وجمع الله كلمة الناس على فضله في هذا العلم ، واقر له الكثير بطول الباع فيه ، فأقر الله عينه بهذه المؤلفات ، كما نفع بها جموع المسلمين.
ومن مؤلفاته النافعة الماتعة : -
1-إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ولعله من أنفع كتبه .
2- سلسلة الأحاديث الصحيحة .
3- سلسلة الأحاديث الضعيفة .
4- تلخيص أحكام الجنائز .
5- صفة صلاة النبي ( وهو من أول مؤلفاته وأكثرها انتشاراً ونفعاً ) .
6- حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
7- الحديث حُجّة بنفسه .
8- ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة لابن أبي عاصم .
9- تحقيق مشكاة المصابيح .
10- تحريم آلات الطرب .
إضافة إلى الكثير والكثير من الكتب التي خرَّج أحاديثها ، والمؤلفات التي أمتع بها ونفع بها . فله أكثر من مائة كتاب ما بين صغير وكبير .
وهو رحمه الله من المكثرين تأليفاً وتحقيقاً رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً .
درّس الشيخ في الجامعة الإسلامية لمدة ثلاث سنوات بداية من 1383هـ ، وبترشيح من الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة ، ثم عاد إلى سوريا ومنها إلى الأردن .
وفي سنة 1419هـ حصل على جائزة الملك فيصل العالمية ، فرع الدارسات الإسلامية ، نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة الإسلام ، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثناء العلماء عليه
وقد أثنى العلماء على الشيخ رحمه الله ثناءً حسناً .
فمن ذلك قول الشيخ ابن باز رحمه الله - لا نعلم أحدًا أعلم بالحديث منه يعني الألباني وقال : ماتحت أديم السماء عالم بالحديث في العصر الحديث ( فيما نعلم ) مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني .
وسمعت الشيخ صالح بين عثيمين وقد ذكر الشيخ أمامه بسوء فقال :
أقلُّوا اللَّوم لا أبا لأبيكم عليه أو سدُّوا المكان الذي سدَّا
ثم قال : أشهد أن الشيخ الألباني كان عالماً محدثاً فقيهاً ولكن غلب عليه الحديث أكثر، لا أقول إنه معصوم ولكنه إمام . أو نحوه .
وتكفي شهادة هذين العالمين الإمامين للدلالة على فضل الألباني ومكانته - رحمه الله.
أولاده
رزق الشيخ بسبعة أولاد وست بنات ، وقد تزوج من أربعة نسوة .
وفاته
وفي مساء السبت 22/6/1420هـ ، وفي إحدى مستشفيات عمان عاصمة الأردن ، أسلم الشيخ روحه إلى باريها بعد صراع مع المرض دام عامين ، وقد شيعه وصلى عليه خلق كثير .
رحم الله الشيخ الألباني، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، ونضر وجهه بخدمته للسنة، وأخلف على المسلمين خيرًا منه. آمين.
-----------------------
الشيخ الألباني العلامة الشيخ 2
العلامة الشيخ ناصر الألباني أحد أبرز العلماء المسلمين في العصر الحديث، ويعتبر الشيخ الألباني من علماء الحديث البارزين المتفردين في علم الجرح والتعديل، والشيخ الألباني حجة في مصطلح الحديث وقال عنه العلماء المحدثون إنه أعاد عصر ابن حجر العسقلاني والحافظ بن كثير وغيرهم من علماء الجرح والتعديل.
مولده ونشأته
ولد شيخ الإسلام الألباني في مدينة أشقدورة، عاصمة ألبانيا، عام 1914، في أسرة فقيرة متدينة، فقد تخرج أبوه نوح نجاتي من المعاهد الشرعية في استنبول، وبعد أن تولى الملك أحمد زوغو الحكم هاجر أبوه إلى دمشق، بدأ شيخ الإسلام المهاجر دراسته في مدرسة الإسعاف الخيرية الابتدائية بدمشق، استمر على ذلك حتى أشرف على نهاية المرحلة الابتدائية، وفي هذه الأثناء هبت أعاصير الثورة السورية بالفرنسيين الغزاة، وأصاب المدرسة حريق أتي عليها، ونظرا لسوء رأي والده في الدراسة النظامية أخرجه من المدرسة ووضع له برنامجا علميا مركزا فقام بتعليمه القرآن والتجويد والصرف والفقه الحنفي، كما أنه تلقى بعض العلوم الدينية والعربية على بعض الشيوخ من أصدقاء والده مثل الشيخ سعيد البرهاني إذ قرأ عليه كتاب (مراقي الفلاح) وبعض الكتب الحديثة في علوم البلاغة.
تعلمه الحديث
أخذ الشيخ إجازة في الحديث من الشيخ راغب الطباخ، علامة حلب في زمانه، وذلك إثر مقابلة له بواسطة الأستاذ محمد المبارك الذي ذكر للشيخ الطباخ ما يعرفه من إقبال الفتى على علوم الحديث وتفوقه فيها، فلما استوثق من ذلك خصه بإجازته.
وكان قد توجه للحديث وهو في العشرين من عمره متأثرا بالأبحاث التي كان يكتبها محمد رشيد رضا في مجلة المنار. يقول شيخ الإسلام الألباني: (أول ما ولعت بمطالعته من الكتب القصص العربية كالظاهر وعنترة والملك سيف وما إليها. ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها، وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءا من مجلة المنار فاطلعت عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير إلى محاسنة ومآخذه.. ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ورأيتني أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه. ومن ثم أقبلت على قراءة الكتب، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه) أخذ الشيخ عن والده صناعة إصلاح الساعات حتى صار من أهل الشهرة فيها، وأخذ يكسب رزقه منها، ثم ترك يومين فقط لهذا العمل أما باقي الأيام فكان في المكتبة الظاهرية يدرس وينهمك في المطالعة طوال اليوم،
لقد كان لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأثر الكبير في توجيه الألباني علما وعملا، فتوجه نحو المنهج الصحيح، وهو التلقي عن الله ورسوله فقط، مستعينا بفهم الأئمة الأعلام من السلف الصالح دون تعصب لأحد منهم أو عليه. وإنما كان رائده الحق حيث كان، ولذلك بدأ يخالف مذهبه الحنفي الذي نشأ عليه، وكان والده رحمه الله يعارضه في مسائل كثيرة في المذهب، فبين له الشيخ أنه لا يجوز لمسلم أن يترك العمل بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ما ثبت عنه وعمل به بعض الأئمة لقول أحد من الناس، كائنا من كان، ويذكر له أن هذا هو منهج أبي حنيفة وغيره من الأئمة الكرام رحمهم الله.
مؤلفاته
وقد أثرى المكتبة الإسلامية بعدد كبير من المؤلفات على رأسها سلسلة الأحاديث الصحيحة وسلسلة الأحاديث الضعيفة وكتاب "صفة صلاة النبي" والذي لقي رواجا كبيرا بين شباب الصحوة الإسلامية.
نشره للعلم
وحين تمكن الإمام من العلم بدأ يتصل بالناس ينشر الدعوة، فقد رفع الإمام راية التوحيد والسنة وزار الكثيرين من المشايخ في دمشق، وجرت بينه وبينهم مناقشات في مسائل التوحيد والتعصب للمذاهب والبدع، وتابع الحساد وجهلة المتنطعين والجواسيس والوشاة والمعارضين لمنهجه، حتى ألقي به في السجن عام 1967 لمدة شهر وفي وقت لاحق لمدة ست شهور، وحين تم تأسيس الجامعة الإسلامية في المدينة وقع اختيار سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ-رئيس هيئة كبار العلماء ورئيس الجامعة آنذاك-على شيخ الإسلام ليتولى تدريس الحديث وعلومه.
ومن آثار الإمام الألباني رحمه الله على الجامعة أنه وضع القاعدة لمادة الإسناد، وسبق كل الجامعات الموجودة بذلك، إلا لإخلاصه أثارت عليه الحاقدين من بعض أساتذة الجامعة فكادوا له ووشوا به عند المسؤولين ولفقوا عليه الدسائس والافتراءات حتى أجبرت الجامعة على الاستغناء عنه.
رحلاته
هاجر شيخ الإسلام حفظه الله من دمشق إلى عمان في رمضان عام 1400هـ، ثم اضطر للخروج منها عائدا إلى دمشق ومن هناك إلى بيروت، ثم هاجر إلى الإمارات حيث استقبله محبيه من أهل السنة والجماعة وحل ضيفا على جمعية دار البر، فكانت أيامهم معه أيام علم ونصح وإرشاد وإنهاك في العلم، وإبان إقامة الشيخ في الإمارات تمكن من السفر إلى الدول الخليجية المجاورة والتقى في قطر الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، ثم عاد إلى دمشق، وكانت آخر زيارة له لدولة الإمارات في عام 1989، وحين نزل ضيفا على جمعية دار البر ألقى الدروس في مزرعة رئيس الجمعية، وسمي المسجد التابع للمزرعة مسجد الإمام الألباني، تخليدا لذكرى زيارته، وفي رمضان عام 1419هـ فرح المسلمون بإعطاء شيخ الإسلام جائزة الملك فيصل وهذا تقدير وعرفان من المملكة العربية السعودية لما قام به الشيخ من خدمة للإسلام والمسلمين.
مناقبه وفضائله
كان الشيخ رحمه الله متبعا لمنهج السلف متخلقاً بأخلاقهم وجعل نصب عينيه قول الله ورسوله في كل شيء، فكان لا يستحي من الحق، يعلنها في كتبه ومحاضراته، وهذه خصلة حميدة طيبة، كقول أبي حنيفة رحمه الله: (نحن قوم نقول القول اليوم ونرجع فيه غدا، ونقوله غدا ونرجع فيه بعد غد كلنا خطاء إلا صاحب هذا القبر). وهذا مما جعل لشيخ الإسلام الألباني محبين في كل مكان من عالمنا الإسلامي الكبير، وحسده كثير من جانب آخر.
________________________________________
ثناء العلماء عليه
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (ما رأيت تحت أديم السماء عالما بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني)
وقال الفقيه العلامة الإمام محمد صالح العثيمين: (إنه حريص جدا على العمل بالسنة ومحاربة البدعة سواء كانت في العقيدة أم في العمل. ومن متابعتك لمؤلفاته تعرف عنه ذلك وأنه ذو علم جم في الحديث والرواية والدراية وأن الله تعالى قد نفع بما كتبه كثيرا من الناس من حيث العلم ومن حيث المنهاج والاتجاه إلى علم الحديث وهذه ثمرة كبيرة للمسلمين ولله الحمد)
وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: (عالم من علماء المسلمين، وعلم من أعلام الدعوة إلى الله، وشيخ المحدثين وإمامهم في العصر الراهن، ألا وهو أستاذي محمد ناصر الدين الألباني - حفظه الله وبارك فيه)
و قال الشيخ محمد إبراهيم شقرة رئيس المسجد الأقصى: (لو أن شهادات أهل العصر من شيوخ السنة وأعلام الحديث والأثر اجتمعت، فصيغ منها شهادة واحدة، ثم وضعت على منضدة تاريخ العلماء فإني أحب أن تكون شهادة صادقة في عالم الحديث الأوحد، أستاذ العلماء، وشيخ الفقهاء، ورأس المجتهدين في هذا الزمان، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أكرمه الله في الدارين)
وقال الشيخ مقبل الوادعي: (والذي أعتقده وأدين الله به أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله من المجددين الذين يصدق عليهم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) [إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها]
ومن الشعر الذي قيل فيه:
إن الذي ينصر شريعة ربنا ... ينصر كما قاله الوحيان
ولقد رأينا من محقق عصرنا ... أعني المحدث ناصر الألباني
ذاك الذي تسعى حثيثا ضده ... ياظالما فارجع عن العصيان
قام الألى يتعصبون لمذهب ... وطريقة وعقيدة الكهان
قام الألى يتعصبون لمذهب ... ووظيفة فيها الحطام الفاني
قام الجميع وأعلنوها ثورة ... بالسب والتشنيع في البلدان
قامت قيامتهم وقام جميعهم ... والشيخ ناصر ثابت الأركان
نشر العلوم بعصرنا يا حبذا ... من ناشر لشريعة الرحمن
ترك التعصب للمذاهب كلها ... مدح الأئمة شيعة الرحمن
نفع الإله بعلمه رغم الذي ... قد قاله ذو الحقد والأضغان
قالوا قريض الشعر قلت أحبه ... لا سيما في ناصر الألباني
علم الزمان فلست أزري حقه ... شيخ المشايخ ذو النهي الرباني
فهو المجدد للزمان وقد أتى ... خبر صحيح ينتهي للداني
في كل آونة يقوم معلم ... يدعو لشرعة ربنا الرحمن
فهو الإمام إّذا الأئمة عددوا ... لا شك عندي والذي سواني
وهو الذي أضحى فريد زمانه ... بالفقه والتحديث والقرآن
كم ذب عن سنن النبي محمد ... المصطفى المختار من عدنان
كم حارب البدع التي شوهت ... وجه الشريعة بالأذى الفتان
يدعو إلى التوحيد والتقوى وكم ... قال اتبع نبينا العدنان
فرض وحتم لازم لا نهتدي ... في غيره إن صح في الميزان
ـــــــــــــــ(1/145)
عبد الله بن زيد آل محمود
الحمد الله الذي رفع أهل العلم أعلى الدرجات ، والصلاة والسلام على من أسكنه ربه أعلى الجنات محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا ..
وبعد :
فهذه ترجمة مختصرة لعلم من أعلام القضاء في الجزيرة العربية وعالم من علمائها الأفذاذ الشيخ العلامة عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
اسمه ونسبه
هو العالم الجليل والفاضل النبيل، الشيخ العلامة " عبد الله بن زيد بن عبد الله بن محمد بن راشد بن إبراهيم بن محمود " ينتهي نسبه إلى الأشراف من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . كنيته : أبو محمد ومحمد أكبر أبنائه .
مولده ونشأته
ولد الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود بحوطة بني تميم في نجد عام 1329هـ ، وقد نشأ بها في كنف والديه ، وقد توفى أبوه ولم يبلغ الشيخ عبد الله سن الرشد ، فتولى رعايته خاله حسن بن صالح الشثري ، وقد سمت همته لطلب العلم منذ الصغر ، فتلقى العلم على عدد من مشايخ الحوطة.
وكان قد بدأ بالقرآن الكريم فحفظه وهو صغير ، وبدأ بدراسة العلم مع ما موهبة الله من استعاب ذهني ؛ حيث فاق زملأؤه في الطلب ، وتقدم إمامًا على جماعته في الصلاة والتراويح ، ويم يتجاوز سنه الخامس عشرة .
وقد وفق لطلب العلم على عدد من أئمة الدعوة السلفية في زمنه ،فأخذ عنهم العلم الشرعي، ومنهم :
1- مفتي الديار السعودية العلامة الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ المتوفي سنة 1389هـ .
2- العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع المتوفي سنة 1385هـ .
3- الشيخ / عبد العزيز بن محمد الشثري المتوفي سنة 1387هـ وهو الشهير بأبي حبيب .
4- الشيخ / عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك بن حسين آل الشيخ .
نبوغه في العلم
ومن شواهد نبوغ الشيخ عبد الله استظهاره لعدد من المتون العلمية ومنها :
1- في العقيدة : الأصول الثلاثة وكشف الشبهات ، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ ، والواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية ـ رحمه الله ـ .
2- وفي الحديث : بلوغ المرام للحافظ بن حجر ، وعمدة الحديث للحافظ عبد الغني المقدسي ، وحفظ ألفية السيوطي في مصطلح الحديث .
3- وفي الفقه: آداب المشي إلى الصلاة ، وزاد المستقنع ، ونظم المقنع لابن عبد القوي .
4- في العربية : حفظ متن الآجرومية ، وقطر الندى لابن هشام ، وألفية ابن مالك
أعماله
تولى الوعظ والتدريس بالمسجد الحرام بتكليف من مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، وقد مكث ما يقرب من سنة في مكة ، ثم رحل إلى قطر لتولي القضاء فيها بعد أن رشحه الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع بمباركة من الملك عبد العزيز آل سعود ، والشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني .
وقد باشر عمله بالقضاء والخطابة والتدريس منذ وصوله إلى قطر ، ولم يزل فيها إلى أن توفي
مع تردده إلى مسقط رأسه ومرتع صباه ( الحوطة ) جنوب مدينة الرياض .
صفاته
كان الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود يتمتع إلى جانب العلم الواسع بتواضع جم وحكمة ولباقة في تيسير المسائل الشرعية ، وبيان مشرق عذب في الخطابة والمحاضرة ، وصياغة جميلة وأسلوب رصين في الكتابة والتأليف في المواضيع الإسلامية التي عالجها وفي المشاكل التي يواجهها المسلمون اليوم .
ولخصاله الحميدة وأخلاقه الجميلة كان موضع حب الناس وتقديرهم على اختلاف الطبقات .
مؤلفاته
ألف ـ رحمه الله ـ الكثير من الرسائل والكتب المهمة ، تناول بعضها اجتهاداته في الأمور الشرعية وقد جاوزت مؤلفاته الستين رسالة .
منها : تيسر الإسلام ، بدعة الاحتفال بالمولد ، أحكام عقود التأمين ، الجهاد المشروع في الإسلام ، الأحكام الشرعية ومنافاتها للقوانين الوضعية ، كتاب الصيام ، الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة.
وفاته
بعد حياة حافلة في خدمة الإسلام والمسلمين أدى فيها الشيخ دورًا مهمًا وفاعلاً في الحياة العلمية والاجتماعية على نحو مشرف وغاية سامية نبيلة .
انتقل الشيخ إلى جوار ربه سبحانه وتعالى في حوالي الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس في أواخر العشر المباركة من الشهر الفضيل رمضان ، وذلك في اليوم الثامن والعشرين منه من عام 1417هـ الموافق للسادس من فبراير لعام 1997م عن عمر ناهز التسعين عامًا .
وصلى عليه بالمسجد الكبير ، بعد صلاة عصر يوم الخميس ، وقد أم المصلين للصلاة عليه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي ، وقد ازدحمت جنبات المقبرة وغصت بالناس وقد بكاه أهل قطر رجالاً ونساءً ، وقد رؤيت له رؤى حسنة قبل وفاته وبعدها .
فجزاه الله خيرًا .. وأدخله فسيح جناته .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ـــــــــــــــ(1/146)
العالم الرباني الشيخ محمد المختار الشنقيطي
العالم الرباني الأصولي المفسر اللغوي البحر الموسوعي الشيخ الجليل - نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا - محمد المختار بن محمد سيد الأمين بن حبيب الله بن مزيد الجكني الشنقيطي عليه رحمات الله ورضوانه .
ولد رحمه الله وجزاه عني خيرا في منطقة الشفيق على مقربة من مدينة الرشيد ؛ في بلاد شنقيط بموريتانيا عام 1337هـ، ونشأ في بيت علم حيث كان جده عالماً، ووالده شيخاً لقبيلة آل مزيد الجكنية.
بدأ حفظ القرآن وهو صغير على يد والدته حتى وفاتها، ثم على يد والده إلى أن أتمه، ثم شرع في قراءة ودراسة رسم المصحف وضبطه ، وما يتعلق بذلك من علوم القرآن وفنونه على عدد من علماء بلده، ومنهم: الشيخ محمد بن السالم، والشيخ محمد بن محمود الحبيب ، ودرس كذلك النحو، والصرف، والفقه وأصوله على يد الشيخ أحمد بن خود.
وفي عام 1356هـ هاجر إلى الحجاز فنزل أولاً في مكة المكرمة ثم توجه إلى المدينة المنورة ، وفيها التحق بحلقات العلم في المسجد النبوي الشريف ، وكان من شيوخه: الشيخ عمر السالك ، والشيخ محمد الأمين بن عبدالله الحسن.
ثم رجع إلى مكة المكرمة، وأقام فيها أربع سنوات يطلب العلم بأنواعه على علماء المسجد الحرام ، ومن شيوخه: الشيخ محمد العربي التباني، والشيخ محمد تكر الإفريقي، والشيخ حسن المشاط ، والشيخ محمد أمين كتبي.
ثم عاد إلى المدينة المنورة ، وأخذ مكانه للتدريس في المسجد النبوي ، وكان له خمس حلقات بعدد الصلوات الخمس ، يدرس فيها مختلف العلوم الشرعية والعلمية، حيث ضرب في كل فن من الفنون بسهم وافر.
وتولى الخطابة في مسجد قباء ، وخصص فيه يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع للتدريس ، وبقي فيه حتى عام 1366هـ. حيث انتقل للتدريس في مدرسة الفلاح بجدة، وفي عام 1371 هـ انتقل إلى الرياض للتدريس في معهدها العلمي وبقي فيه إلى عام 1377هـ.
وفي عام 1378هـ، صدر قرار بتعينه مدرساً في دار الحديث بالمدينة المنورة ، كما درس التفسير في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية وبقي فيها حتى عام 1403 هـ، حيث أحيل إلى التقاعد، فتفرغ للعلم والتدريس في المسجد النبوي حتى وفاته عام 1405 هـ.
كان رحمه الله عالماً من علماء المدينة الكبار، وكان له تلاميذ ومحبون لازموه لفترة طويلة، ونهلوا من علمه وأصبحوا علماء ، منهم: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وراشد بن حنين، وعطية محمد سالم، وعبد الله الزاحم، ونايف هاشم الدعيس ، وعبد الله إبراهيم الأنصاري ، ومحيى الدين كمال، وعلي مشرف ، وعبد المحسن آل الشيخ ، وغيرهم.
وكان الشيخ رحمه الله تعالى مقلاً في التأليف حيث وهب نفسه وحياته لدراسة العلم، وتعليمه ونشره بين أهله وذويه ، سواء في المعاهد والمدارس أو في المسجد النبوي، وكان له من المؤلفات المطبوعة :
ـ الجواب الواضح المبين في حكم التضحية عن الغير من الأحياء والأموات.
ـ شرح سنن النسائي .
كما ترك الشيخ مكتبة عامرة بأمهات الكتب والمراجع في مختلف الفنون والعلوم يستفيد منها الباحثون وطلاب العلم.
كذلك فقد خلف عدداً من الأبناء العلماء الذين ساروا على طريقته ونهجوا نهجه في نشر العلم والتدريس في حلقاته، منهم:
الدكتور عبد الله بن محمد المختار، والدكتور محمد بن محمد المختار.
-----------------------
للتوسع: أعلام من أرض النبوة ـ ج2 ص 137
ـــــــــــــــ(1/147)
محمد علال الفاسي (1326 - 1394 هـ)
هو أحد رواد الفكر الإسلامي ، وبطل النضال الزعيم السياسي والمقاوم الصامد الأستاذ الخطيب الأديب محمد علال ابن العلامة الخطيب المدرس الكاتب المفتي عبد الواحد ابن عبد السلام بن علال الفهري نسبا، القصري ثم الفاسي مولدا ودارا ومنشأ.
ينحدر من عائلة عربية عريقة نزحت من موطنها بديار الأندلس إلى المغرب الأقصى فرارا بدينها وعقيدتها من محاكم التفتيش الإسبانية واستوطنت بمدينة فاس تحت اسم بني الجد واشتهرت بآل الفاسي الفهري وساهمت في جميع المجالات العرفانية حيث أنجبت علماء جهابذة وفقهاء نحارير وقضاة بارزين ومؤلفين بارعين.
ولد علال الفاسي بفاس في أواخر شوال عام1326هـ ولما وصل إلى سن التمييز أدخله والده إلى الكتاب لتلقي مبادئ الكتابة والقراءة ، وحفظ القرآن الكريم على الفقيه محمد الخمسي الذي حباه الله تعالى بالخط الجميل البارع وعلى الفقيه محمد العلمي ، إلى أن حفظه في سن مبكرة، وبعد ذلك نقله والده إلى المدرسة العربية الحرة الواقعة بحي القلقليين بفاس القديم ليتعلم مبادئ الدين وقواعد اللغة العربية ، حيث كان محل عناية فائقة خاصة عنده لكونه الولد الوحيد الذي وهبه الله له، وكان أمله الكبير أن يتخرج عالما من علماء المغرب الأفذاذ، وقد حقق الله تعالى رجاءه فكان مبرزا على أقرانه، مفخرة أسرته، بل مفخرة القرويين والمغرب ، علما ونبوغا وذكاء وعبقرية ووطنية صادقة ومقاومة مستميتة، وكان من جملة القائمين بالتدريس في تلك المؤسسة التعليمية ابن عمه الأستاذ الخطيب عبد السلام بن عبد الله الفاسي.
وفي عام 1338هـ التحق بجامع القرويين العامر للارتواء من ينابيعه المتدفقة وجداوله الفياضة الزاخرة، فقرأ على الشريف الفقيه محمد بن العربي العلوي المختصر بشرح الدردير، والتحفة بشرح الشيخ التاودي بن سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلي، والكامل في الأدب للمبرد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبة.
وقرأ على الشريف المفتي الحسين العراقي الألفية بشرح المكودي، والتفسير، وعلى القاضي أحمد بن المامون البلغيثي أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، وعلى محمد ابن عبد المجيد أقصبي كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، وعلى القاضي عبد الله الفضيلي جمع الجوامع بشرح المحلي ، والمختصر بشرح الزرقاني ، والخرشي والرهوني وبناني ، وعلى الفقيه الرباني أحمد العمراني و الفقيه الشيخ أبي شعيب الدكالي صحيح الإمام البخاري، وعلى الفقيه محمد بن عبد الرحمن العراقي ألفية ابن مالك والاستعارة،
وعلى الفقيه المعقولي القاضي العباس بناني منظومة السلم بشرح الشيخ بناني ، وعلى الفقيه المحدث محمد بن الحاج السلمي التفسير، وعلى الفقيه محمد بن حعفر الكتاني دروسا من مسند الإمام أحمد بن حنبل ، وسرد الكتب الستة على أبيه وعمه القاضي عبد الله الفاسي . وعلى الشريف السلفي علي الدرقاوي زاد المعاد في هدي خير العباد، وأدب الدنيا والدين، والشمائل المحمدية، وتابع دراسته إلى أن انتهى الموسم الدراسي فظفر بالفوز مكللا بأكاليل النجاح حاصلا على الشهادة العالمية ، وبعد التخرج صار يقوم بدروس تطوعية في مختلف العلوم بجامع القرويين .
وفي عام 1380هـ عين وزيرا للدولة مكلفا بالشؤون الإسلامية ثم انسحب من الحكومة صحبة رفاقه في حزب الاستقلال وذلك في عام 1382هـ وعين أستاذا بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويين بظهر المهراز وكليتي الحقوق والآداب لجامعة محمد الخامس بالرباط، وبدار الحديث الحسنية بنفس المدينة ، وكان عضوا مقررا عاما في لجنة مدونة الفقه الإسلامي التي شكلت في فجر الاستقلال
وقد أجيز من قبل والده وعمه الفقيه عبد الله الفاسي وشيخيه العلامتين أبي شعيب الدكالي محمد بن جعفر الكتاني ، إجازة رواية كتابية .
و خلف رحمه الله كثيرا من المؤلفات في شتى الموضوعات منها
- الحماية في مراكش ممن الوجهتين التاريخية والقانونية
- الحركات الاستقلالية في المغرب العربي
- السياسة البربرية في المغرب
- النقد الذاتي
- المغرب العربي من الحرب العالمية الأولى إلى اليوم
- حديث المغرب في المشرق
- عقيدة وجهاد
- منهج الاستقلالية
- مفاصد الشريعة الإشلامية ومكارمها
- دفاع عن الشريعة
- الجواب الصحيح والنصح الخالص في نازلة فاس وما يتعلق بمبدإ الشهور الإسلامية العربية
- معركة اليوم والغد
- كيلا ننسى
- محاضرتان عن مهمة علماء الإسلام
- المثل الأعلى في الصدق والثبات وحسن الإنابة
- نضالية الإمام مالك ورجال مذهبه
- واقع العالم الإسلامي
- الإنسية المغربية
- صحراء المغرب المغتصبة
- الإسلام وتحديات العصر
- دفاعا عن الأصالة
- في المذاهب الاقتصادية
- لفظ العبادة : هل يصح إطلاقه لغير الله
- مجموعة أبحاث في الأدب والإجتماع
- هل الإنسان في حاجة إلى الفلسفة ؟
- تاريخ التشريع الإسلامي
- شرح مدونة الأحوال الشخصية
- بحث مفصل عن النظريات الفلسفية المختلفة ومقابلتها بالحرية الإسلامية
- مستندات لتاريخ المقاومة المغربية
هذا زيادة على مجموعة أخرى من الخطب والمحاضرات والمذكرات السياسية والقصائد الشعرية والبحوث والمقالات المنشورة في أمهات الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الدورية. كما أصدرمجلة "البينة"، وجريدة "صحراء المغرب"، و "الحسنى"، كما خط قلمه مجموعة من الكتب باللغة الفرنسية.
وقد أسهم رحمه الله بنصيبه في ميدان الشعر الفسيح ونبغ في قرضه في سن مبكرة فنظم كثيرا من القصائد الطوال والمقطعات والأراجيز في مختلف الموضوعات ، من دينية وسياسية واجتماعية وتاريخية ووطنية ثائرة وحماسية نارية مما أهله لأن يلقب بحق وعن جدارة شاعر الشباب ، ويتوج بتاجه الرفيع. يقول رحمه الله في قصيدة "إما حياة وإما ممات":
إلى كم نعيش بدون حياة وكم ذا ننام عن الصالحات؟
فوا حسرتاه على حالنا وماذا استفدنا من الحسرات؟
عرانا الذهول وياليتنا عرانا الذهول عن المهلكات؟
أنبقى بلا عمل نافع ونرضى جميعا بهذا السبات؟
وافته المنية، رحمه الله تعالى، بمدينة بوخاريست عاصمة رومانيا، إثر نوبة قلبية، عشية يوم الإثنين 20 ربيع الثاني عام 1394 هـ، و نقل جثمانه إلى أرض الوطن، فدفن بمقبرة الشهداء بحي العلو في مدينة الرباط.
ـــــــــــــــ(1/148)
العلامة ابن القيم
ترجمة الإمام ابن القيم -رحمه الله-
نسبه ونسبته:
هو الفقيه، المفتي، الإمام الربّاني شيخ الإسلام الثاني أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرعي ثم الدِّمشقي الشهير بـ"ابن قيم الجوزية" لا غيره خلافًا للكوثري الذي نبزه بـ"ابن زفيل" .
ولادته:
ولد -رحمه الله- في السابع من شهر صفر الخير سنة (691هـ).
أسرته ونشأته وطلبه للعلم:
نشأ ابن قيِّم الجوزية في جوِّ علمي في كنف والده الشيخ الصالح قيم الجوزية، وأخذ عنه الفرائض، وذكرت كتب التراجم بعض أفراد أسرته كابن أخيه أبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن زين الدين عبد الرحمن الذي اقتنى أكثر مكتبة عمّه، وأبناؤه عبد الله وإبراهيم، وكلهم معروف بالعلم وطلبه.
وعُرف عن ابن قيم الجوزية -رحمه الله- الرغبة الصادقة الجامحة في طلب العلم، والجَلَد والتَّفاني في البحث منذ نعومة أظفاره؛ فقد سمع من الشِّهاب العابر المتوفى سنة (697هـ) فقال -رحمه الله- : "وسمّعت عليه عدّة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه؛ لصغر السِّنِّ ، واخترام المنية له -رحمه الله- " وبهذا يكون قد بدأ الطلب لسبع سنين مضت من عمره.
رحلاته:
قَدم ابن قيّم الجوزية -رحمه الله- القاهرة غير مرّة ، وناظر ، وذاكر.
وقد أشار إلى ذلك المقريزي فقال : "وقدم القاهرة غير مرّة" .
قال: "وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر" .
وقال: "وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة"
وزار بيت المقدس، وأعطى فيها دروسًا.
قال: "ومثله لي قلته في القدس" .
وكان -رحمه الله- كثير الحجِّ والمجاورة كما ذكر في بعض كتبه . قال ابن رجب: وحج مرات كثيرةً، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدّة العبادة وكثرة الطواف أمرًا يُتعجب منه" .
مكتبته:
كان ابن قيّم الجوزية -رحمه الله- مُغرمًا بجمع الكتب، وهذا دليلُ الرَّغبة الصّادقة للعلم بحثًا وتصنيفًا، وقراءةً وإقراءً يظهر ذلك في غزارة المادة العلمية في مؤلفاته، والقدرة العجيبة على حشد الأدلة.
وقد وصف تلاميذه -رحمهم الله- مكتبته فأجادوا:
قال ابن رجب: "وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره" .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "واقتنى من الكتب ما لم لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْرِه من كتب السلف والخلف" .
قلت: ومع هذا كله يقول بتواضع جم: "بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب" .
ورحم اللهُ شيخه شيخَ الإسلام ابن تيمية القائل: "فمن نوّر الله قلبه هداه ما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزدْهُ كثرةُ الكتب إلا حيرة وضلالةً" .
مشاهير شيوخه:
تلقى ابن قيم الجوزية -رحمه الله- العلم على كثير من المشايخ ، ومنهم:
1- قيم الجوزية والده -رحمه الله-.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لازمه ، وتفقه به، وقرأ عليه كثيرًا من الكتب ، وبدأت ملازمته له سنة (712هـ) حتى توفي شيخ الإسلام سجينًا في قلعة دمشق (728هـ).
3- المزي -رحمه الله- .
تلاميذه :
1- ابن رجب الحنبلي ، صرح بأنه شيخه، ثم قال: "ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة ، وسمّعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السّنة ، وأشياء من تصانيفه وغيرها" .
2- ابن كثير -رحمه الله- قال : "وكنت من أصحب الناس له وأحبّ الناس إليه"
3- الذهبي -رحمه الله- ترجم لابن القيم الجوزية في "المعجم المختص" بشيوخه
4- ابن عبد الهادي -رحمه الله- ؛ كما قال ابن رجب: "وكان الفضلاء يعظمونه ويتتلمذون له كابن عبد الهادي وغيره" .
5- الفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط" ، كما قال الشوكاني: "ثم ارتحل إلى دمشق فدخلها سنة (755هـ) فسمع من التقي السبكي وجماعة زيادة عن مائة كابن القيم" .
علاقته بشيخه ابن تيمية ومنهجه :
بدأت ملازمة ابن قيم الجوزية لشيخ الإسلام ابن تيمية عند قدومه إلى دمشق سنة (712هـ) ، واستمرت إلى وفاة الشيخ سنة (728هـ) ، وبهذا تكون مدة مرافقة ابن قيم الجوزية لشيخه ستة عشر عامًا بقي طيلتها قريبًا منه يتلقى عنه علمًا جمًا ، وقرأ عليه فنونًا كثيرة.
قال الصفدي: "قرأ عليه قطعة من "المحرّر" لجدّه المجد، وقرأ عليه من "المحصول" ، ومن كتاب "الأحكام" للسيف الآمدي، وقرأ عليه قطعة من "الأربعين" و"المحصل" وقرأ عليه كثيرًا من تصانيفه" .
وبدأت هذه الملازمة بتوبة ابن قيم الجوزية على يدي شيخه ابن تيمية ؛ كما أشار إلى ذلك بقوله
يا قوم والله العظيم نصيحة ... ... من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في ... ... تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله ... ... من ليس تجزيه يدي ولساني
فتى أتى من أرض حرّان فيا ... ... أهلًا بمن قد جاء من حران
وكان لهذه الملازمة أثرٌ بالغٌ في نفس ابن قيم الجوزية ؛ فشارك شيخه في الذَّبِّ عن المنهج السلفي، وحمل رايتَه من بعده ، وتحرر من كل تبعية لغير كتاب الله وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم السلف الصالح.
قال الشوكاني : "وليس له على غير الدليل مُعَوَّل في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدَّفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة ؛ كما يفعله غيرُه من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك ، وغالب أبحاثه الإنصافُ والميلُ مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحث وطوَّل ذيولَه أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما ينشرح له صدورُ الراغبين في أخذ مذاهبهم عن الدليل، وأظنها سرت إليه بركةُ ملازمته لشيخه ابن تيمية في السَّراء والضّراء والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه.
وبالجملة فهو أحد من قام بنشر السُّنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظم جُنَّة ، فرحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرًا .
ومع هذا كله فلم يكن ابن قيم الجوزية -رحمه الله- نسخةً من شيخه ابن تيمية، بل كان متفننًا في علوم شتى -باتفاق المتقدمين والمتأخرين- تدل على علو كعبه، ورسوخه في العلم.
وكيف يكون ابن قيم الجوزية مُرَدِّدًا لصدى صوت شيخه ابن تيمية -رحمه الله- وهو ينكرُ التقليدَ ويحاربُه بكلِّ ما أتي من حَوْل وقوَّة؟!
ثناء العلماء عليه:
قال ابن كثير -رحمه الله- : "سمع الحديث ، واشتغل بالعلم ، وبرع في علوم متعددة ، ولا سيما علم التفسير والحديث الأصلين ، ولما عاد الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الدّيار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًّا ، مع ما سلف له من الاشتغال؛ فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطَّلَب ليلًا ونهارًا، وكثرة الابتهال ، وكان حسنَ القراءة والخُلُق ، وكثيرَ التَّودُّد لا يحسدُ أحدًا ولا يؤذيه ، ولا يستغيبُه ولا يحقدُ على أحد ، وكنت أصحب الناس له ، وأحب الناس إليه ، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثرَ عبادة منه، وكانت له طريقةٌ في الصلاة يطيلها جدًا ، ويمدُّ ركوعَه وسجودَه ويلومُه كثير من أصحابه في بعض الأحيان ، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك -رحمه الله- ، وله من التّصانيف الكِبار والصِّغار شيءٌ كثير ، وكتَبَ بخطّه الحسنِ شيئًا كثيرًا ، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف.
وبالجملة كان قليلَ النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخيرُ والأخلاقُ الصالحةُ ، سامحه الله ورحمه" .
قال ابن رجب -رحمه الله- : "وتفقه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين وأخذ عنه ، وتفنَّن في علوم الإسلام ، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه ، وبأصول الدين ، وإليه فيهما المنتهى ، والحديث معانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه ، لا يُلحق في ذلك ، وبالفقه وأصوله وبالعربية ، وله فيها اليَدُ الطولى ، وتعلم الكلام والنَّحو وغير ذلك ، وكان عالمًا بعلم السّلوك ، وكلام أهل التّصوف وإشاراتهم ودقائقهم ، له في كل فَنّ من هذه الفنون اليد الطولى.
وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتَهَجد ، وطول صلاة إلى الغاية القصوى ، وَتَألُّه ولهج بالذّكر ، وشغف بالمحبة ، والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار له ، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته ، لم أشاهد مثله في ذلك ، ولا رأيت أوسع منه علمًا ، ولا أعْرَف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله " .
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي -رحمه الله- : "وكان ذا فنون في العلوم ، وخاصة التفسير والأصول في المنطوق والمفهوم" .
وقال السيوطي -رحمه الله- : "قد صَنَّفَ ، وناظر ، واجتهد ، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث ، والفروع ، والأصلين ، والعربية" .
مؤلفاته :
ضرب ابن قيم الجوزية بحظ وافر في علوم شتى يظهر هذا الأمر جَليًّا لمن استقصى كتبه التي كانت للمتقين إمامًا، وأفاد منها الموافق والمخالف.
قال ابن حجر -رحمه الله- ، "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته" .
وإليك أشهرها مرتَّبة على حروف المعجم:
1- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
2- أحكام أهل الذمة.
3- إعلام الموقعين عن رب العالمين.
4- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.
5- بدائع الفوائد.
6- تحفة المودود في أحكام المولود.
7- تهذيب مختصر سنن أبي داود.
8- الجواب الكافي، وهو المسمى "الداء والدواء".
9- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأنام.
10- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
11- حكم تارك الصلاة.
12- "الرسالة التبوكية "وهو الذي بين يديك.
13- روضة المحبين ونزهة المشتاقين.
14- الروح.
15- زاد المعاد في هدي خير العباد.
16- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
17- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
18- طريق الهجرتين وباب السعادتين.
19- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.
20- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وقد انتهيت من تحقيقه بحمد الله وفضله على نسختين خطيتين.
21- الفروسية.
22- الفوائد.
23- الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ، وهي "القصيدة النونية".
24- الكلام على مسألة السماع.
25- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
26- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة.
27- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
28- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
29- الوابل الصيب في الكلم الطيب.
محنة وثبات :
حُبس مع شيخه ابن تيمية في المرة الأخيرة في القلعة منفردًا عنه بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبًا بالدرة سنة (726هـ) ، ولم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه سنة (728هـ) .
وحبس مرة لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل.
قال ابن رجب -رحمه الله- : "وقد امتحن وأوذي مرات" .
وفاته :
توفي -رحمه الله- ليلة الخميس ثالث عشرين من رجب الفرد سنة (751هـ) ، ودفن بدمشق بمقبرة الباب الصغير -رحمه الله- وأسكنه الفردوس الأعلى ، وجمعنا وإياه في عليين مع النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا.
مصادر ترجمته:
1- "أبجد العلوم" ، صديق حسن خان ، (3 / 138).
2- "البداية والنهاية" ، ابن كثير ، (14 / 234).
3- "البدر الطالع" ، الشوكاني ، (2 / 143).
4- "بغية الوعاة" ، للسيوطي ، (1 / 62).
5- "التاج المكلل" ، صديق حسن خان ، (ص416).
6- "الدرر الكامنة" ، ابن حجر ، (4 / 21-23).
7- "ذيل طبقات الحنابلة" ، ابن رجب ، (2 / 447).
8- "ذيل العبر في خبر من عبر" ، (5 / 282).
9- "الرد الوافر" ابن ناصر الدين الدمشقي (ص68).
10- "شذرات الذهب" ، ابن العماد ، (6 / 168).
11- "طبقات المفسرين" ، للداوودي ، (2 / 93).
12- "الفتح المبين في طبقات الأصوليين" ، المراغي ، (2 / 76).
وقد صنفت كتب مفردة مثل:
1- "ابن قيم الجوزية" ، محمد مسلم الغنيمي.
2- "ابن قيم الجوزية حياته وآثاره" ، بكر بن عبد الله أبو زيد.
3- "ابن قيم الجوزية وموقفه من التفكير الإسلامي" ، عوض الله حجازي.
4- "ابن القيم وآثاره العلمية" ، أحمد ماهر البقري.
5- "ابن القيم اللغوي" ، أحمد ماهر البقري.
6- "ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه" ، عبد العظيم عبد السلام.
http://www.taimiah.org/Targem.aspx?id=9
ـــــــــــــــ(1/149)
العلاّمة محمد بن صالح العثيمين
1347 - 1421هـ
نسبه ومولده:
هو صاحب الفضيلة الشيخ العالم المحقق, الفقيه المفسّر, الورع الزاهد، محمد ابن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن آل عثيمين من الوهبة من بني تميم.
ولد في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347هـ في عنيزة - إحدى مدن القصيم - في المملكة العربية السعودية.
نشأته العلمية:
ألحقه والده - رحمه الله تعالى - ليتعلم القرآن الكريم عند جدّه من جهة أمه المعلِّم عبد الرحمن بن سليمان الدامغ - رحمه الله -, ثمَّ تعلَّم الكتابة, وشيئًا من الحساب, والنصوص الأدبية في مدرسة الأستاذ عبدالعزيز بن صالح الدامغ - حفظه الله -, وذلك قبل أن يلتحق بمدرسة المعلِّم علي بن عبد الله الشحيتان - رحمه الله - حيث حفظ القرآن الكريم عنده عن ظهر قلب ولمّا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره بعد.
وبتوجيه من والده - رحمه الله - أقبل على طلب العلم الشرعي، وكان فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - يدرِّس العلوم الشرعية والعربية في الجامع الكبير بعنيزة, وقد رتَّب اثنين (1) من طلبته الكبار؛ لتدريس المبتدئين من الطلبة, فانضم الشيخ إلى حلقة الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع ـ رحمه الله ـ حتى أدرك من العلم في التوحيد, والفقه, والنحو ما أدرك.
ثم جلس في حلقة شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله, فدرس عليه في التفسير, والحديث, والسيرة النبوية, والتوحيد, والفقه, والأصول, والفرائض, والنحو, وحفظ مختصرات المتون في هذه العلوم.
ويُعدّ فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - هو شيخه الأول؛ إذ أخذ عنه العلم؛ معرفةً وطريقةً أكثر مما أخذ عن غيره, وتأثر بمنهجه وتأصيله, وطريقة تدريسه، واتِّباعه للدليل.
وعندما كان الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان - رحمه الله - قاضيًا في عنيزة قرأ عليه في علم الفرائض, كما قرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - في النحو والبلاغة أثناء وجوده مدرّسًا في تلك المدينة.
ولما فتح المعهد العلمي في الرياض أشار عليه بعضُ إخوانه (2) أن يلتحق به, فاستأذن شيخَه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - فأذن له, والتحق بالمعهد عامي 1372 - 1373هـ.
ولقد انتفع - خلال السنتين اللّتين انتظم فيهما في معهد الرياض العلمي - بالعلماء الذين كانوا يدرِّسون فيه حينذاك ومنهم: العلامة المفسِّر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي, والشيخ الفقيه عبدالعزيز بن ناصر بن رشيد, والشيخ المحدِّث عبد الرحمن الإفريقي - رحمهم الله تعالى -.
وفي أثناء ذلك اتصل بسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -, فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري ومن رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية, وانتفع به في علم الحديث والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها, ويُعدُّ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - هو شيخه الثاني في التحصيل والتأثُّر به.
ثم عاد إلى عنيزة عام 1374هـ وصار يَدرُسُ على شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي, ويتابع دراسته انتسابًا في كلية الشريعة, التي أصبحت جزءًا من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة, حتى نال الشهادة العالية.
تدريسه:
توسَّم فيه شيخه النّجابة وسرعة التحصيل العلمي فشجّعه على التدريس وهو ما زال طالبًا في حلقته, فبدأ التدريس عام 1370هـ في الجامع الكبير بعنيزة.
ولمّا تخرَّج من المعهد العلمي في الرياض عُيِّن مدرِّسًا في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374هـ.
وفي سنة 1376هـ توفي شيخه العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله تعالى - فتولّى بعده إمامة الجامع الكبير في عنيزة, وإمامة العيدين فيها, والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية التابعة للجامع؛ وهي التي أسسها شيخه - رحمه الله - عام 1359هـ.
ولما كثر الطلبة, وصارت المكتبة لا تكفيهم؛ بدأ فضيلة الشيخ - رحمه الله - يدرِّس في المسجد الجامع نفسه, واجتمع إليه الطلاب وتوافدوا من المملكة وغيرها حتى كانوا يبلغون المئات في بعض الدروس, وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيل جاد, لا لمجرد الاستماع, وبقي على ذلك, إمامًا وخطيبًا ومدرسًا, حتى وفاته - رحمه الله تعالى -.
بقي الشيخ مدرِّسًا في المعهد العلمي من عام 1374هـ إلى عام 1398هـ عندما انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, وظل أستاذًا فيها حتى وفاته- رحمه الله تعالى -.
وكان يدرِّس في المسجد الحرام والمسجد النبوي في مواسم الحج ورمضان والإجازات الصيفية منذ عام 1402هـ , حتى وفاته - رحمه الله تعالى-.
وللشيخ - رحمه الله - أسلوب تعليمي فريد في جودته ونجاحه, فهو يناقش طلابه ويتقبل أسئلتهم, ويُلقي الدروس والمحاضرات بهمَّة عالية ونفسٍ مطمئنة واثقة, مبتهجًا بنشره للعلم وتقريبه إلى الناس.
آثاره العلمية:
ظهرت جهوده العظيمة - رحمه الله تعالى - خلال أكثر من خمسين عامًا من العطاء والبذل في نشر العلم والتدريس والوعظ والإرشاد والتوجيه وإلقاء المحاضرات والدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -.
ولقد اهتم بالتأليف وتحرير الفتاوى والأجوبة التي تميَّزت بالتأصيل العلمي الرصين, وصدرت له العشرات من الكتب والرسائل والمحاضرات والفتاوى والخطب واللقاءات والمقالات, كما صدر له آلاف الساعات الصوتية التي سجلت محاضراته وخطبه ولقاءاته وبرامجه الإذاعية ودروسه العلمية في تفسير القرآن الكريم والشروحات المتميزة للحديث الشريف والسيرة النبوية والمتون والمنظومات في العلوم الشرعية والنحوية.
وإنفاذًا للقواعد والضوابط والتوجيهات التي قررها فضيلته - رحمه الله تعالى - لنشر مؤلفاته, ورسائله, ودروسه, ومحاضراته, وخطبه, وفتاواه ولقاءاته, تقوم مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية - بعون الله وتوفيقه - بواجب وشرف المسؤولية لإخراج كافة آثاره العلمية والعناية بها.
وبناءً على توجيهاته - رحمه الله تعالى - أنشئ له موقع خاص على شبكة المعلومات الدولية (3)، من أجل تعميم الفائدة المرجوة - بعون الله تعالى - وتقديم جميع آثاره العلمية من المؤلفات والتسجيلات الصوتية.
أعماله وجهوده الأخرى:
إلى جانب تلك الجهود المثمرة في مجالات التدريس والتأليف والإمامة والخطابة والإفتاء والدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - كان لفضيلة الشيخ أعمال كثيرة موفقة منها ما يلي:
• عضوًا في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من عام 1407هـ إلى وفاته.
• عضوًا في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العامين الدراسيين 1398 - 1400هـ.
• عضوًا في مجلس كلية الشريعة وأصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم ورئيسًا لقسم العقيدة فيها.
• وفي آخر فترة تدريسه بالمعهد العلمي شارك في عضوية لجنة الخطط والمناهج للمعاهد العلمية, وألّف عددًا من الكتب المقررة بها.
• عضوًا في لجنة التوعية في موسم الحج من عام 1392هـ إلى وفاته - رحمه الله تعالى - حيث كان يلقي دروسًا ومحاضرات في مكة والمشاعر, ويفتي في المسائل والأحكام الشرعية.
• ترأس جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة من تأسيسها عام 1405هـ إلى وفاته.
• ألقى محاضرات عديدة داخل المملكة العربية السعودية على فئات متنوعة من الناس, كما ألقى محاضرات عبر الهاتف على تجمعات ومراكز إسلامية في جهات مختلفة من العالم.
• من علماء المملكة الكبار الذين يجيبون على أسئلة المستفسرين حول أحكام الدين وأصوله عقيدة وشريعة، وذلك عبر البرامج الإذاعية من المملكة العربية السعودية وأشهرها برنامج «نور على الدرب».
• نذر نفسه للإجابة على أسئلة السائلين مهاتفه ومكاتبة ومشافهة.
• رتَّب لقاءات علمية مجدولة, أسبوعية وشهرية وسنوية.
• شارك في العديد من المؤتمرات التي عقدت في المملكة العربية السعودية.
• ولأنه يهتم بالسلوك التربوي والجانب الوعظي اعتنى بتوجيه الطلاب وإرشادهم إلى سلوك المنهج الجاد في طلب العلم وتحصيله, وعمل على استقطابهم والصبر على تعليمهم وتحمل أسئلتهم المتعددة, والاهتمام بأمورهم.
• وللشيخ - رحمه الله - أعمال عديدة في ميادين الخير وأبواب البرّ ومجالات الإحسان إلى الناس, والسعي في حوائجهم وكتابة الوثائق والعقود بينهم, وإسداء النصيحة لهم بصدق وإخلاص.
مكانته العلمية:
يُعَدُّ فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - من الراسخين في العلم الذين وهبهم الله - بمنّه وكرمه - تأصيلاً ومَلَكة عظيمة في معرفة الدليل واتباعه واستنباط الأحكام والفوائد من الكتاب والسنّة, وسبر أغوار اللغة العربية معانِيَ وإعرابًا وبلاغة.
ولما تحلَّى به من صفات العلماء الجليلة وأخلاقهم الحميدة والجمع بين العلم والعمل أحبَّه الناس محبة عظيمة, وقدّره الجميع كل التقدير, ورزقه الله القبول لديهم واطمأنوا لاختياراته الفقهية, وأقبلوا على دروسه وفتاواه وآثاره العلمية, ينهلون من معين علمه ويستفيدون من نصحه ومواعظه.
وقد مُنح جائزة الملك فيصل - رحمه الله - العالمية لخدمة الإسلام عام 1414هـ, وجاء في الحيثيات التي أبدتها لجنة الاختيار لمنحه الجائزة ما يلي:
أولاً: تحلِّيه بأخلاق العلماء الفاضلة التي من أبرزها الورع, ورحابة الصدر، وقول الحق, والعمل لمصلحة المسلمين, والنصح لخاصتهم وعامتهم.
ثانيًا: انتفاع الكثيرين بعلمه؛ تدريسًا وإفتاءً وتأليفًا.
ثالثًا: إلقاؤه المحاضرات العامة النافعة في مختلف مناطق المملكة.
رابعًا: مشاركته المفيدة في مؤتمرات إسلامية كثيرة.
خامسًا: اتباعه أسلوبًا متميزًا في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وتقديمه مثلاً حيًّا لمنهج السلف الصالح؛ فكرًا وسلوكًا.
عقِبُه:
له خمسة من البنين, وثلاث من البنات, وبنوه هم: عبد الله, وعبد الرحمن, وإبراهيم, وعبد العزيز, وعبد الرحيم.
وفاته:
تُوفي - رحمه الله - في مدينة جدّة قبيل مغرب يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال عام 1421هـ, وصُلِّي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة عصر يوم الخميس, ثم شيّعته تلك الآلاف من المصلّين والحشود العظيمة في مشاهد مؤثرة, ودفن في مكة المكرمة.
وبعد صلاة الجمعة من اليوم التالي صُلِّي عليه صلاة الغائب في جميع مدن المملكة العربية السعودية.
رحم الله شيخنا رحمة الأبرار, وأسكنه فسيح جناته, ومَنَّ عليه بمغفرته ورضوانه, وجزاه عما قدّم للإسلام والمسلمين خيرًا.
اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
-------------------------
(1) هما الشيخان محمد بن عبد العزيز المطوع، وعلي بن حمد الصالحي رحمهما الله تعالى.
(2) هو الشيخ علي بن حمد الصالحي رحمه الله تعالى.
(3) www.binothaimeen.com
ـــــــــــــــ(1/150)
محمد الفاتح وفتح القسطنطينية
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ) (روه الإمام أحمد في مسنده).
السلطان محمد الفاتح
هو السلطان محمد الثاني 431هـ- 1481م ، يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين[1]. تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيراً في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية. وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيراً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر. وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيراً أو إهمال وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام وبعد أن قطع أشواطاً مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل انه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية[2].
أولاً: فتح القسطنطينية
تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام 330م على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول[3]، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها: " لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها "[4]، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها[5] عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق[6]، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش[7].
لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة.
كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية وتعد هذه الحملة أقوى الحملات الأموية عليها، وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ[8].
واستمرت المحاولة لفتح القسطنطينية حيث شهد العصر العباسي الأول حملات جهادية مكثفة ضد الدولة البيزنطية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها وتهديدها مع أنها هزتها وأثرت على الأحداث داخلها، وبخاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد[9] سنة 190هـ.
وقد قامت فيما بعد عدة دويلات إسلامية في آسيا الصغرى كان من أهمها دولة السلاجقة، التي امتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى. كما أن زعيمها ألب أرسلان 455- 465هـ / 1063-1072م استطاع أن يهزم امبراطور الروم ديمونوس في موقعة ملاذ كرد عام 464هـ/1070م ثم أسره وضربه وسجنه وبعد مدة أطلق سراحه بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية للسلطان السلجوقي، وهذا يمثل خضوع جزء كبير من امبراطورية الروم للدولة الإسلامية السلجوقية وبعد ضعف دولة السلاجقة الكبرى ظهرت عدة دول سلجوقية كان منها دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى والتي استطاعت مد سلطتها إلى سواحل بحر إيجة غربا وإضعاف الامبراطورية الرومانية.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي خلف العثمانيون سلاجقة الروم[10] وتجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في أيام السلطان بايزيد " الصاعقة " الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة 796هـ - 1393م[11]، وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الأوربية لصد الهجوم الاسلامي عن القسطنطينية، وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الأراضي العثمانية وأخذت تعيث فسادا، فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية، حيث دارت بين الطرفين معركة أنقرة الشهيرة، والتي أسر فيها بايزيد الصاعقة ثم مات بعد ذلك في الأسر سنة 1402م[12] وكان نتيجة ذلك ان تفككت الدولة العثمانية مؤقتا، وتوقف التفكير في فتح القسطنطينية إلى حين.
وما أن استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد ، ففي أيام السلطان مراد الثاني الذي تولى الحكم في الفترة
824هـ-863هـ/ 1421-1451م جرت عدة محاولات لفتح القسطنطينية وتمكنت جيوش العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثرة من مرة ، وكان الإمبراطور البيزنطي في أثناء تلك المحاولات يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان[13]، وبهذه الطريقة نجح في إشغاله في هدفه الذي حرص عليه ، فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن ابنه محمد الفاتح فيما بعد .
كان محمد الفاتح يمارس الأعمال السلطانية في حياة ابيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة، وبالتالي فمنذ أن ولى السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451هـ م[14] كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام ولذلك نشأ على حب الإلتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقى والورع، ومحبا للعلم والعلماء ومشجعا على نشر العلوم ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقها منذ الصغر ، بتوجيهات من والده ، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم ، ممن أشرفوا
على رعايته[15].
لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن إسماعيل الكوراني" مشهودا له بالفضيلة التامة، وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني" والد "الفاتح". وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني -الفاتح- ، أميرا في بلدة "مغنيسيا" وقد أرسل إليه والده عددا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم ، ولم يقرأ شيئا ، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم ، فطلب السلطان المذكور ، رجلا له مهابة وحدّة ، فذكروا له المولى "الكوراني" ، فجعله معلما لولده وأعطاه قضيبا يضربه بذلك إذا خالف أمره . فذهب إليه، فدخل عليه والقضيب بيده، فقال: أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري، فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربا شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد خان، وختم القرآن في مدة يسيرة. . ."[16].
هذه التربية الإسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل، ممن يمزق الأمر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع أو لا ينحني للسلطان، ويخاطبه باسم، ويصافحه ولا يقبل يده، بل السلطان يقبل يده. من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، وأن يكون مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيد بالأوامر والنواهي معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولاً ثم على رعيته، تقياً صالحاً يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين[17].
وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره أمرين هما:
1- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
2- الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش [18] لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور)[19].
ثانياً: الإعداد للفتح:
بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهوداً كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد[20] وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة روملي حصار في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة[21].
أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها[22].
ب- الاهتمام بالأسطول:
ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة[23].
ج- عقد معاهدات:
كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غلطة المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بيهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع المجد والبندقية وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية[24] مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الأثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الإمبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره[25] ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد وقد أضطر الإمبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه إلى القسطنطينية، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس : إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية [26].
ثانياً: الهجوم:
كان القسطنطينية محاطة بالمياة البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور ، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة الى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها الى 60 قدماً ، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند[27]، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها[28]، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، ومافي فتحها من عز للإسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء[29].
وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب[30].
وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي ، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول الى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الاسطول العثماني أن تستولي على جزر الامراء في بحر مرمرة[31].
وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، واحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة، ولم يخلوا الامر من وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعين منذ الايام الأولى للحصار، وفتحت أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصاً من الأفراد الموكلين بالاقتراب من الابواب.
وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة ، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان ما يعيدون بناء الأسوار وترميمها.
ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أوروبا ووصلت إمدادات من جنوة مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي جوستنيان يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة واستطاعت سفنهم أن تصل الى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة وكان لوصول هذه القوة أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وقد عين قائدها جستيان قائداً للقوات المدافعة عن المدينة[32].
وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة[33].
ولم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة، وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب الى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة العذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الامبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف[34].
ثالثاً: مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين:
استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى رأسهم محمد الفاتح وصمد البيزنطيون بقيادة قسطنطين صموداً بطولياً في الدفاع وحاول الإمبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها ، ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً[35]، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمون الرسالة: فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام ومن شاء رحل عنها حيث اراد في أمن وسلام أيضاً[36].
كان الحصار لايزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في ايدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم 18 أبريل[37] تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار ، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين ، وكانت الثغرة ضيفة وكثرة السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين،ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة اخرى للهجوم[38].
وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة الى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الاسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن الى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها[39].
رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:(1/151)
بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة اخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول الى الخليج، حيث بذلت السفن الإسلامية جهوداً كبيرة لمنعها ، وأشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل إلى قائد الأسطول وقال له: إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، وإذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً[40] لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول إلى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الاسطول[41] بعد ما رجع إلى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الاسطول بالطه أوغلي وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر بالطة أوغلي لهذا وقال : إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت انا ورجالي بكل ماكان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة[42].
أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا[43].
لقد ذكرت كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يراقب هذه المعارك البحرية وهو على جواده وقد اندفع نحو البحر حتى غاص حصانه الى صدره وكانت السفن المتقاتلة على مرمى حجر منه فأخذ يصيح لبطله أوغلي بأعلى صوته: ياقبطان! ياقبطان! ويلوح له بيده، وضاعف العثمانيون جهودهم في الهجوم دون أن يأثروا في السفن تأثيراً ليناً[44].
كانت الهزائم البحرية للأسطول العثماني دور كبير في محاولة بعض مستشاري السلطان وعلى رأسهم الوزير خليل باشا إقتناعه بالعدول عن الاستيلاء على القسطنطينية والرضا بمصالحة أهلها دون السيطرة عليها وبالتالي رفع الحصار عنها، ولكن السلطان أصر على محاولة الفتح واستمر في قصف دفاعات المدينة بالمدافع من كل جانب ، وفي الوقت نفسه كان يفكر بجدية في إدخال السفن الإسلامية إلى القرن الذهبي ، خصوصاً وأن الأسوار من ناحية القرن الذهبي متهاوية، وبالتالي سيضطر البيزنطيون إلى سحب بعض قواتهم المدافعة عن الاسوار الغربية من المدينة وبهذا التفريق للقوات المدافعة ستتهيأ فرصة أكبر في الهجوم على تلك الأسوار بعد أن ينقص عدد المدافعين عنها[45].
خامساً: عبقرية حربية فذة:
لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.
بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، الا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن[46].
وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته[47].
كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات ، تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة. لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ماتم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة.
ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها إثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك الى الله سبحانه وتعالى ثم إلى همة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة ، والى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الايدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط.
وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية، وهتافاتهم المتصاعدة، وأناشيدهم الإيمانية العالية[48]، في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين[49]، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الأسكندر الأكبر[50].
ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة"[51] وكان لوجود السفن الاسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار ، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى[52].
وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميته كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.
واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلَّق أسوارها، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد المحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس[53].
كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً[54].
سادساً: اجتماع بين الملك قسطنطين ومعاونيه:
عقد الملك قسطنطين ومعاونيه ومستشاريه ورجال النصرانية في المدينة اجتماعاً، فأشاروا عليه بالخروج بنفسه من المدينة والتوجه لطلب النجدات من الأمم المسيحية، والدول الأوروبية ، ولعل تأتي الجيوش النصرانية ، فيضطر محمد الفاتح لرفع الحصار عن مدينتهم، ولكنه رفض هذا الرأي وأصر على أن يقاوم الى آخر لحظة ولا يترك شعبه في المدينة حتى يكون مصيره ومصيرهم واحداً، وأنه يعتبر هذا واجبه المقدس وأمرهم أن لا ينصحوه بالخروج أبداً وأكتفى بإرسال وفود تمثله الى مختلف أنحاء أوروبا لطلب المساعدة[55] ورجعت تلك الوفود تجر خلفها أذيال الخيبة وكانت الأجهزة الأستخباراتية للدولة العثمانية قد اخترقت القسطنطينية وما حولها بحيث أصبحت القيادة العثمانية على علم تام بما يدور حولها.
سابعاً: الحرب النفسية العثمانية:
ضاعف السلطان محمد الثاني الهجوم على الاسوار وجعله مركزاً وعنيفاً، ضمن خطة أعدها بنفسه أيضاً لإضعاف العدو، وكررت القوات العثمانية عملية الهجوم على الأسوار ومحاولة تسلقها مرات عديدة بصورة بطولية بلغت غاية عظيمة من الشجاعة والتضحية والتفاني ، وكان أكثر ما يرعب جنود الامبراطور قسطنطين صيحاتهم وهي تشق عنان السماء وتقول: الله أكبر الله أكبر فتنزل عليهم كالصواعق المدمرة[56].
وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القوية على الهضاب الواقعة خلف غلطة، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء وأصابت احدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال، فخافت السفن الأخرى واضطرت للفرار، واتخذت من أسوار غلطة ملجأ لها، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الاخرى وكان السلطان محمد الفاتح يوالي الهجمات وإطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل إنهاك قوى المحاصرين، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة، وأعصابهم متوترة مجهودة تثور لأي سبب، واصبح كل واحد من الجنود ينظر الى صاحبه ويلاحظ على وجهه علامات الذل والهزيمة والفشل، وشرعوا يتحدثون علناً عن طرق النجاة والإفلات بأرواحهم وما يتوقعونه من العثمانيين اذا ما اقتحموا عليهم مدينتهم.
واضطر الامبراطور قسطنطين الى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه احد القادة مباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هم في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي ليكونس، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم الى مكان القتال، واستمر القتال الى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون[57].
وكان السلطان محمد -رحمه الله- يفاجئ عدوه من حين لآخر بفن جديد من فنون القتال والحصار، وحرب الأعصاب وبأساليب جديدة وطرق حديثة مبتكرة غير معروفة للعدو[58].
ففي المراحل المتقدمة من الحصار لجأ العثمانيون الى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة الى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريح، فأسرع الامبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه الى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول الى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين لمواجهتهم دون أن يعلموا، حتى إذا وصل العثمانيون الى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب خاصة وسرية تؤدي الى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إذ فاجأهم الروم، فصبوا عليهم ألسنة النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة ، فأختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم من حيث أتوا[59].
لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين ، فعاودوا حفر إنفاق أخرى ، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين أكرى فبو وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لايوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهم يمشون ان هي أصوات خفية لحفر يقوم به العثمانيون، وكثيراً ما كان يخيل لهم إن الأرض ستنشق ويخرج منها الجند العثمانيون ويملئون المدينة ، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة، ويشيرون هنا وهناك في فزع ويقولون : هذا تركي ، ...،هذا تركي ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها انها تطارهم ، وكثيراً ماكان يحدث أن تتناقل العامة الإشاعة فتصبح كأنها حقيقة واقعة رأها احدهم بعيني رأسه وهكذا داخل سكان القسطنطينية فزع شديد أذهب وعيهم، حتى لكأنهم سكارى وماهم بسكارى ، فريق يجري، وفريق يتأمل السماء، ومجموعة تتفحص الأرض، والبعض ينظر في وجوه البعض الآخر في عصبية زائدة وفشل ذريع.
ولم يكن عمل العثمايين هذا سهلاً ، فان هذه الإنفاق التي حفروها قد أودت بحياة كثير منهم، فماتوا اختناقاً واحتراقاً في باطن الأرض، كما وقع الكثير منهم في بعض هذه المحاولات في أسر الروم، فقطعت رؤوسهم وقذف بها إلى معسكر العثمانيين[60].
مفاجأة عسكرية عثمانية:
لجأ العثمانيون إلى أسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها ، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعة واقتربوا بها من الأسوار عند باب رومانوس، فاتجه الإمبراطور بنفسه ومعه قواده ليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به، إلا أن المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلاء الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب[61].
ولم ييأس العثمانيون من المحاولة بل قال الفاتح وكان يشرف بنفسه على ماوقع: غداً نصنع أربعاً أخرى[62].
زاد الحصار وقوي واشتد حتى أرهق من بداخل المدينة من البيزنطيين، فعقد زعماء المدينة اجتماعاً 24 مايو داخل قصر الإمبراطور وبحضوره شخصياً، وقد لاح في الأفق بوادر يأس المجتمعين من إنقاذ المدينة حيث اقترح بعضهم على الإمبراطور الخروج بنفسه قبل سقوط المدينة لكي يحاول جمع المساعدات والنجدات لإنقاذها أو استعادتها بعد السقوط، ولكن الإمبراطور رفض ذلك مرة أخرى وأصر على البقاء داخل المدينة والاستمرار في قيادة شعبه وخرج لتفقد الأسوار والتحصينات.
وأخذت الاشاعات تهيمن على المدينة وتضعف من مقاومة المدافعين عنها، وكان من أقواها عليهم ماحدث في يوم 16 جمادىالأولى الموافق 25 مايو، حيث حمل أهل المدينة تمثالاً للسيدة مريم العذراء بزعمهم، وأخذوا يتجولون به في ضواحي المدينة، يدعونه ويتضرعون الى العذراء أن تنصرهم على أعدائهم، وفجأة سقط التمثال من أيديهم وتحطم، فرأوا في ذلك شؤم ونذير بالخطر، وتأثر سكان المدينة وخصوصاً المدافعين عنها، وحدث في اليوم التالي 26 مايو هطول أمطار غزيرة مصحوبة ببعض الصواعق، ونزلت إحدى الصواعق على كنيسة آيا صوفيا، فتشأم البطريق ، وذهب الى الإمبراطور وأخبره أن الله تخلى عنهم وأن المدينة ستسقط في يد المجاهدين العثمانيين، فتأثر الإمبراطور حتى أغمى عليه[63].
وكانت المدفعية العثمانيةلا تنفك عن عملها في دك الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاء كثيرة من السور والأبراج وامتلئت الخنادق بالأنقاض، التي يئس المدافعون من إزالتها وأصبحت إمكانية اقتحام المدينة واردة في أي لحظة، إلا أن اختيار موقع الاقتحام لم يحدد بعد[64].
ثامناً: المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين:
أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام؛ فكتب إلى الإمبراطور رسالة دعاه فيه الى تسليم المدينة دون إراقة دماء، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة الى حيث يشاؤون بأمان[65]، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها، ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر ، فمال بعضهم الى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور الى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة، فرد الامبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها: إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه او يدفن تحت أسوارها[66]، فلما وصلت الرسالة إلى الفاتح قال: حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش او يكون لي فيها قبر[67].
وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً الى تكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى رأسهم المهندس المجري أوربان الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك ، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة الى ضربها للأسوار والقلاع[68].
تاسعاً: السلطان محمد الفاتح يعقد اجتماع لمجلس الشورى:
عقد السلطان محمد الفاتح اجتماعاً ضم مستشاريه وكبار قواده بالإضافة إلى الشيوخ والعلماء، وقد طلب الفاتح من المجتمعين الإدلاء بآرائهم بكل صراحة دون تردد، فأشار بعضهم بالانسحاب ومنهم الوزير خليل باشا الذي دعا الى الانسحاب وعدم إراقة الدماء والتحذير من غضب أوروبا النصرانية فيما لو استولى المسلمون على المدينة، إلى غير ذلك من المبررات التي طرحها، وكان متهماً بمواطئة البيزنطيين ومحاولة التخذيل عنهم[69]، وقد قام بعض الحضور بتشجيع السلطان على مواصلة الهجوم على المدينة حتى الفتح واستهان بأوروبا وقواتها، كما أشار الى تحمس الجند لإتمام الفتح، وما في التراجع من تحطيم لمعنوياتهم الجهادية، وكان من هؤلاء أحد القواد الشجعان ويدعى زوغنوش باشا وهو من أصل ألباني كان نصرانياً فأسلم حيث هون من شأن القوات الأوروبية على السلطان[70].
وذكرت كتب التاريخ موقف زوغنوش باشا فقالت: ما أن سأله السلطان الفاتح عن رأيه حتى استوفز في قعدته وصاح في لغة تركية تشوبها لكنة ارناؤوطية: حاشا وكلا أيها السلطان، أنا لا أقبل أبداً ماقاله خليل باشا، فما أتينا هنا إلا لنموت لا لنرجع. وأحدث هذا الاستهلال وقعاً عميقاً في نفوس الحاضرين، وخيم السكون على المجلس لحظة ثم واصل زوغنوش باشا كلامه فقال: إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة ولكنه لن يبوء إلا بالخيبة والخسران. ان جيش الاسكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف الى الهند وقهر نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن اكبر من جيشنا فإن كان ذلك الجيش استطاع ان يستولي على تلك الأراضي العظيمة الواسعة أفلا يستطيع جيشنا أن يتخطى هذه الكومة من الأحجار المتراكمة، وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم ولكن مالدول الغربية هذه؟ وهل هي الدول اللاتينية التي شغلها مابينها من خصام وتنافس، هل هي دول البحر المتوسط التي لاتقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصرة بيزنطة لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن، ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبوا الى الحرب وقاتلونا فهل سنقف منهم مكتوفي الأيدي بغير حراك، أو ليس لنا جيش يدافع عن كرامتنا وشرفنا؟
يا صاحب السلطنة ، أما وقد سالتني رأيي فلأعلنها كلمة صريحة، يجب أن تكون قلوبنا كالصخر ، ويجب ان نواصل الحرب دون أن يظهر علينا اقل ضعف أو خور، لقد بدأنا أمراً فواجب علينا أن نتمه، ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة ونفتح ثغرات جديدة وننقض على العدو بشجاعة. لا أعرف شيئاً غير هذا، ولا استطيع ان أقول شيئاً غير هذا .... [71].
وبدأت على وجه الفاتح أمارات البشر والانشراح لسماع هذا القول، والتفت الى القائد طرخان يسأله رأيه فأجاب على الفور : ان زوغنوش باشا قد اصاب فيما قال وانا على رأيه ياسلطاني. ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما. وكان الفاتح يثق بهما كل الثقة فأجابا أنهما على رأي زوغنوش باشا وقالا: يجب الاستمرار في الحرب، وبالغاية الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر[72].
وسرت الحمية والحماس في جميع الحاضرين وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء الشيخين بالنصر والظفر ولم يملك نفسه من القول : من كان من اجدادي في مثل قوتي[73]؟
لقد أيد العلماء الرأي القائل بمواصلة الجهاد كما فرح السلطان حيث كان يعبر عن رأيه ورغبته في مواصلة الهجوم حتى الفتح، وانتهى الاجتماع بتعليمات من السلطان أن الهجوم العام والتعليمات باقتحام المدينة باتت وشيكة وسيأمر بها فور ظهور الفرصة المناسبة وأن على الجنود الاستعداد لذلك[74].
عاشراً : محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه:
في يوم الاحد 18 جمادى الأولى 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه ، لعل الله أن يسر لهم الفتح ، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين ، كما قام الفاتح بنفسه ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخر أحوالها ، وما وصلت إليه وأوضاع المدافعين عنها في النقاط المختلفة ، وحدد مواقع معينة يتم فيها تركيز القصف العثماني ، تفقد فيها أحوالهم وحثهم على الجد والتضحية في قتال الأعداء ، كما بعث إلى أل غلطة التي وقفت على الحياد مؤكدا عليهم عدم التدخل فيما سيحدث ضامنا لهم الوفاء بعهده معهم ، وانه سيعوضهم عن كل ما يخسرونه من جراء ما يحدث. وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون نارا كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم بالتهليل والتكبير[75] ، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانيين ، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدما، مما أوقع الرعب في قلوب الروم ، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقدا وموجها ومذكرا بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد[76].
وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والحماس ، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد ، والثواب الجزيل من الله تعالى وستسد دسائس هذه المدينة التي طالما مالأت عليهم الأعداء والمتآمرين وسيكون لأول جندي ينصب راية الإسلام[77] على سور القسطنطينية الجزاء الأوفى والإقطاعات الواسعة.(1/152)
وكان علماء المسلمين وشيوخهم يتجولون بين الجنود ويقرأون على المجاهدين آيات الجهاد والقتال وسورة الأنفال ، ويذكرونهم بفضل الشهادة في سبيل الله وبالشهداء السابقين حول القسطنطينية وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري ويقولون للمجاهدين : لقد نزل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري ، وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا ، وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشد الحماس والحمية[78].
وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم التعليمات الأخيرة ، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فردا فردا ، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرا وشرفا ، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم ، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون . . .[79].
وفي هذا الوقت كان الإمبراطور البيزنطي يجمع الناس في المدينة لإقامة ابتهال عام دعا فيه الرجال والنساء والصبيان للدعاء والتضرع والبكاء في الكنائس على طريقة النصارى لعله أن يستجاب لهم فتنجوا المدينة من هذا الحصار ، وقد خطب فيهم الإمبراطور خطبة بليغة كانت آخر خطبة خطبها ، حديث أكد عليهم بالدفاع عن المدينة حتى لو مات هو ، والاستماتة في حماية النصرانية أمام المسلمين العثمانيين ، وكانت خطبة رائعة كما يقول المؤرخون أبكت الجميع من الحاضرين ، كما صلى الإمبراطور ومن معه من النصارى الصلاة الأخيرة في كنيسة آياصوفيا أقدس الكنائس عندهم[80] ثم قصد الإمبراطور قصره يزوره الزيارة الأخيرة فودع جميع من فيه واستصفحهم وكان مشهدا مؤثرا وقد كتب مؤرخو النصارى عن هذا المشهد ، فقال من حضره، لو أن شخصا قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدموع لهذا المنظر[81].
وتوجه قسطنطين نحو صورة يزعمون أنها صورة المسيح معلقة في أحد الغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر عند نحو منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ فرانتزتس ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى المدافعة ولاحظوا حركة الجيش العثماني النشطه المتوثبة للهجوم البري والبحري . وقبيل ذلك الليل بقليل رذت السماء رذا خفيفا كأنما كانت ترش الأرض رشا فخرج السلطان الفاتح من خيمته ورفع بصره إلى السماء وقال: لقد أولانا الله رحمته وعنايته فأنزل هذا المطر المبارك في أوانه فإنه سيذهب بالغبار ويسهل لنا الحركة[82].
الحادي عشر: "فتح من الله ونصر قريب"
عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار ، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحريا في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس ، بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة[83]، وبعد أن انهكت الفرقة الاولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، وتمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للإقتحام ، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستمية من المهاجمين ، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق ، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أن ظنوا ان الأمر قد هدأ وكانوا ، قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال[84] كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم ، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالإنسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف ، واتعبتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند طوب قابي ورفعوا الأعلام العثمانية[85].
مما زاد في حماس بقية الجيش للاقحام كما فتّوا في عضد الأعداء ، وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين جستنيان بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة[86] مما أثر في بقية المدافعين ، وقد تولى الإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فارا من أرض المعركة ، وقد بذل الامبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.
وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية اخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الاعلام العثمانية عليها، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لايعرف ، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة[87].
وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده وكان قواده يهنئونه وهو يقول : الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر[88].
كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين ، وقد هرب أغلب أهل المدينة الى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادي الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م، إلا والسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون : ما شاء الله ، فالتفت إليهم وقال : لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً لله تعالى[89].
الثاني عشر: معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين:
توجه محمد الفاتح الى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة الى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة الى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الاسلامية.
وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع[90].
لقد حاول المؤرخ الأنجليزي ادوارد شيبردكريسي في كتابة "تاريخ العثمانيين الاتراك أن يشوه صوره الفتح العثماني للقسطنطينية ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد[91] وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام ، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية، وساقهم الى اسواق الرقيق في مدينة ادرنة حيث تم بيعهم هناك[92].
إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول أن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين ، واجتمع مع الاساقفة وهدأ من روعهم ، وطمأنهم الى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا أجناديوس برطيركا، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الاساقفة الى مقر السلطان، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى، دينية وسياسية واجتماعية وخرج البطريرك من لقاء السلطان، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك، بل والمسلمين عامة، وشعر انه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وانسانية رفيعة، ورجولة مكتملة ، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لابد لاحقهم، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام[93].
كان العثمانيون حريصون على الالتزام بقواعد الاسلام، ولذلك كان العدل بين الناس من أهم الأمور التي حرصوا عليها، وكانت معاملتهم للنصارى خالية من أي شكل من أشكال التعصب والظلم ، ولم يخطر ببال العثمانيين أن يضطهدوا النصارى بسبب دينهم[94].
إن ملل النصارى تحت الحكم العثماني تحصلت على كافة حقوقها الدينية ، وأصبح لكل ملة رئيس ديني لا يخاطب غير حكومة السلطان ذاتها مباشرة، ولكل ملة من هذه الملل مدارسها الخاصة وأماكن للعبادة والأديرة، كما أنه كان لا يتدخل أحد في ماليتها وكانت تطلق لهم الحرية في تكلم اللغة التي يريدونها[95].
إن السلطان محمد الفاتح لم يظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إلا بدافع إلتزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم بخلفائه الراشدين من بعده، الذين أمتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم[96].
الفاتح المعنوي للقسطنطينية
الشيخ آق شمس الدين
هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي ارتحل مع والده الى الروم، وطلب فنون العلوم وتبحر فيها وأصبح علم من أعلام الحضارة الإسلامية في عهدها العثماني.
وهو معلم الفاتح ومربيه يتصل نسبه بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق t، كان مولوده في دمشق عم 792هـ 1389م حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في انقرة وتوفي عام 1459هـ.
درّس الشيخ آق شمس الدين الأمير محمد الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الزمن وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية ، والفارسية والتركية وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة الولاية، وأصول الحكم .
واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش[97].
وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية، وكان شاباً صغير السن وجّهه شيخه فوراً الى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً. ودارت الحرب العنيفة 54 يوماً.
وعندما حقق البيزنطيون انتصاراً مؤقتاً وابتهج الشعب البيزنطي بدخول أربع سفن ارسلها البابا إليهم وارتفعت روحهم المعنوية اجتمع الأمراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمد الفاتح وقالوا له : إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ -يقصدون آق شمس الدين- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عون من بلاد الأفرنج للكافرين داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح...[98]. فأرسل السلطان محمد وزيره ولي الدين أحمد باشا الى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله الحل فأجاب الشيخ: لابد من أن يمنّ الله بالفتح[99].
ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب، فأرسل وزيره مرة أخرى ليطلب من الشيخ أن يوضح له أكثر، فكتب هذه الرسالة الى تلميذه محمد الفاتح يقول فيها: هو المعزّ الناصر ... إن حادث تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملامة وأحدث في الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي : إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله... ولقد لجأنا الى الله وتلونا القرآن الكريم وماهي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث مثلها من قبل[100].
أحدث هذا الخطاب راحة وطمأنينة في الأمراء والجنود. وعلى الفور قرر مجلس الحرب العثماني الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية، ثم توجه السلطان محمد الى خيمة الشيخ شمس الدين فقبل يده، وقال : علمني ياسيدي دعاءً أدعو الله به ليوفقني ، فعلمه الشيخ دعاءً، وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام[101].
اراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله الفتح القريب[102].
وعاد السلطان محمد الفاتح عقب ذلك الى مقر قيادته ونظر الى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية[103].
ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني[104].
وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينية على يديه[105].
وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس، تقدم الشيخ الى السلطان الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في الشريعة الاسلامية[106].
وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا والعطايا وعمل لهم مأدبة حافلة استمرت ثلاثة أيام اقيمت خلالها الزينات والمهرجانات، وكان السلطان يقوم بخدمة جنوده بنفسه متمثلاً بالقول السائد سيد القوم خادمهم. ثم نهض ذلك الشيخ العالم الورع آق شمس الدين وخطبهم، فقال: ياجنود الاسلام. اعلموا واذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنكم: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش[107]. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا. ألا لاتسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولاتبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه. ثم التفت الى الفاتح وقال له : ياسلطاني ، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله. ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد[108].
وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية[109].
وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقي خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا[110].
الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان من الغرور:
كان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بين السلطان لمن حوله -بعد الفتح- : إنكم ترونني فرحاً . فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين.
وعبر الشيخ عن تهيبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا. قال السلطان الفاتح: إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري . إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة[111].
ذكر صاحب البدر الطالع أن :... ثم بعد يوم جاء السلطان الى خيمة صاحب الترجمة - أي آق شمس الدين - وهو مضطجع فلم يقم له فقبل السلطان يده وقال له جئتك لحاجة قال: وماهي؟ قال: ان ادخل الخلوة عندك فأبى فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال أنه يأتي إليك واحد من الاتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى عليّ فقال الشيخ: إنك اذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح ثم ارسل إليه ألف دينار فلم يقبل ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه: ماقام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام فاراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو....[112].
هكذا كان هذا العالم الجليل الذي حرص على تربية محمد الفاتح على معاني الإيمان والاسلام والإحسان ولم يكن هذا الشيخ متبحراً في علوم الدين والتزكية فقط بل كان عالماً في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهوراً في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض. وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلاً بين الناس يقول: إن النبات ليحدث آق شمس الدين[113].
وقال الشوكاني عنه: ...وصار مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان فإنه اشتهر أن الشجرة كانت تناديه وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني ثم اشتهرت بركته وظهر فضله... [114].
وكان الشيخ يهتم بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض النفسية.
واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتماماً خاصاً بالامراض المعدية، فقد كانت هذه الامراض في عصره تسبب في موت الآلاف، وألف في ذلك كتاباً بالتركية بعنوان "مادة الحياة" قال فيه: من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الاشخاص تلقائيا، فالأمراض تنتقل من شخص الى آخر بطريق العدوى. هذه العدوى صغيرة ودقيقة الى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة. لكن هذا يحدث بواسطة بذور حيّة [115].
وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك ، ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد. وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستير ليقوم بأبحاثه وليصل الى نفس النتيجة.
وأهتم الشيخ آق شمس الدين أيضاً بالسرطان وكتب عنه وفي الطب ألف الشيخ كتابين هما: مادة الحياة ، وكتاب الطب ، وهما باللغة التركية والعثمانية. وللشيخ باللغة العربية سبع كتب، هي : حل المشكلات، الرسالة النورية ، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، تلخيص المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بايرام ولي[116].
وفاته:
عاد الشيخ الى موطنه كونيوك بعد أن أحسس بالحاجة الى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في استنبول ومات عام 863هـ/1459م فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان[117].
وهكذا سنة الله في خلقه لايخرج قائد رباني ، وفاتح مغوار إلا كان حوله مجموعة من العلماء الربانيين يساهمون في تعليمه وتربيته وترشيده والأمثلة في ذلك كثيرة وقد ذكرنا دور عبدالله بن ياسين مع يحيى بن ابراهيم في دولة المرابطين، والقاضي الفاضل مع صلاح الدين في الدولة الأيوبية ، وهذا آق شمس الدين مع محمد الفاتح في الدولة العثمانية فرحمة الله على الجميع وتقبل الله جهودهم وأعمالهم وأعلى ذكرهم في المصلحين.
أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلامي
كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار الإسلام في أوروبا ولذلك فإن سقوطها يعني فتح الاسلام لدخول أوروبا بقوة وسلام لمعتنقيه أكثر من ذي قبل ، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصاً تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة[118].
وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإعادة تحصينها، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية وأطلق عليها لقب اسلام بول أي مدينة الاسلام[119].(1/153)
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والالم والخزي ، وتجسم لهم خطر جيوش الاسلام القادمة من استنبول ، وبذل الشعراء والادباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين ، وعقد الامراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادى النصارى الى نبذ الخلافات والحزازات وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الايطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتم إلا أن الموت عاجل البابا بسبب الصدمة العنيفة الناشئة عن سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين والتي تسببت في همه وحزنه فمات كمداً في 25 مارس سنة 1455م[120].
وتحمس الأمير فيليب الطيب دوق بورجونديا والتهب حماساً وحمية واستنفر ملوك النصارى الى قتال المسلمين وحذ حذوه البارونات والفرسان والمتحمسون والمتعصبون للنصرانية، وتحولت فكرة قتال المسلمين الى عقيدة مقدسة تدفعهم لغزو بلادهم ، وتزعمت البابوية في روما حروب النصارى ضد المسلمين وكان السلطان محمد الفاتح بالمرصاد لكل تحركات النصارى، وخطط ونفذ مارآه مناسباً لتقوية دولته وتدمير أعدائه، واضطر النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي آماسيا، وبلاد المورة ، طرابيزون وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم الى السلطان في أدرنة لتهنئته على انتصاره العظيم[121].
وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ، وحنكة سياسية، تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين ولما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية، فلقد انهكت حرب المائة عام انكلتر وفرنسا، كما أن بريطانيا كانت منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، وأما أسبانيا فهي مشغولة بالقضاء على مسلمي الأندلس وأما الجمهوريات الايطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها بالدولة العثمانية مكرهة وحباً في المال ، فكانت تهتم بعلاقتها مع الدولة العثمانية.
وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا واصبحت المجر والبندقية تواجه الدولة العثمانية لوحدهما؛ أما البندقية فعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية لمصالحها وأما المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانية واستطاع العثمانيون أن يضموا الى دولتهم بلاد الصرب، واليونان والافلاق والقرم والجزر الرئيسية في الأرخبيل. وقد تم ذلك في فترة قصيرة ، حيث داهمهم السلطان الفاتح، وشتت شملهم ، واخذهم أخذاً عظيماً[122].
وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين : حاول أولاً أن يقنع الاتراك باعتناق الدين النصراني، ولم يقم بارسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على ارسال خطاب الى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعضد النصرانية، كما عضدها قبله قسطنطين وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه ان هو اعتنق النصرانية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ الى الخطة الثانية خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وكانت نتائج هذه الخطة الثانية قد بدأ فشلها مسبقاً بهزيمة الجيوش الصليبية والقضاء على الحملة التي قادها هونياد المجري[123].
وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الاسلامي - فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الاجيال ، ولقد تطلعت له طويلاً وهاقد تحقق وارسل السلطان محمد الفاتح رسائل الى حكام الديار الاسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الاسلامي العظيم- وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط والأعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة[124].
يقول ابن إياس صاحب كتاب بدائع الزهور في هذه الواقعة : فلما بلغ ذلك ، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم أن السلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولاً الى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح[125].
وندع المؤرخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة عندما وصل إليها وفد الفاتح ومعهم الهدايا واسيران من عظماء الروم، قال : قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح العظيم وجاء القاصد المذكور ومعه اسيران من عظماء اسطنبول وطلع بهما الى السلطان سلطان مصر إينال وهما من أهل القسطنطينية وهي الكنيسة العظيمة باسطنبول فسر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياماً ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران الى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال بعد أن اجتار القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة. وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك الى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل.. [126].
وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ما هو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الإسلامية الأخرى. وقد بعث السلطان محمد الفاتح برسائل الفتح إلى سلطان مصر وشاه ايران وشريف مكة وأمير القرمان، كما بعث بمثل هذه الرسائل إلى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاق والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا والى جميع أطراف مملكته[127].
000000000000000000
[1] انظر: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص253.
[2] انظر: قيام الدولة العثمانية ، ص43.
[3] انظر: اوروبا في العصور الوسطى، سعيد عاشور، ص29.
[4] فتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح، د.محمد مصطفى، ص36-46.
[5] المجتمع المدني الجهاد ضد المشركين، د. أكرم ضياء العمري، ص115.
[6] احمد في مسنده 4/335.
[7] المصدر السابق نفسه 4/335.
[8]ابن خلدون العبر 3/70 ، تاريخ خليفة بن خياط، ص315.
[9] خليفة بن خياط، تاريخه، ص458، تاريخ الطبري 10/69، ابن الأثير الكامل 6/185،186.
[10] قيام الدولة العثمانية، ص46.
[11] تاريخ سلاطين آل عثمان ، ص18.
[12] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور ، د. عبدالعزيز العمري، ص358.
[13] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص358.
[14] المصدر السابق نفسه، ص359.
[15] انظر: تاريخ الدولة العثمانية ، د. علي حسون، ص42.
[16] كتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، ص52 نقلاً عن تاريخ الدولة العثمانية، ص43.
[17] انظر: تاريخ الدولة العثمانية، د.علي حسون، ص43.
[18] رواه احمد في مسنده 4/335.
[19] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص359.
[20] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد بك، ص161.
[21] انظر: سلاطين آل عثمان، ص26.
[22] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص361.
[23] انظر: محمد الفاتح ، ص90، سالم الرشيدي .
[24] انظر: تاريخ سلاطين آل عثمان ، ص58.
[25] انظر: فتح القسطنطينية، محمد صفوت، ص69.
[26] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص89.
[27] انظر: سلاطين آل عثمان، ص2؛ محمد الفاتح، ص96.
[28] انظر: محمد الفاتح، سالم الرشيدي، ص82؛ فتح القسطنطينية محمد صفوت، ص57.
[29] انظر: سلاطين آل عثمان، ص24،25.
[30] انظر: الفتوحات الاسلامية عبر العصور، ص364.
[31] انظر: محمد الفاتح ، ص98؛ العثمانيون والبلقان،ص89.
[32] انظر: العثمانيون والبلقاء، د.علي حسون، ص92.
[33] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص120.
[34] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص100.
[35] انظر: تاريخ سلاطين آل عثمان، ص58.
[36] محمد الفاتح، عبدالسلام فهمي ، ص92.
[37] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص367.
[38] انظر: محمد الفاتح ، عبدالسلام فهمي، ص123.
[39] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص368.
[40] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص101.
[41] انظر: مواقف حاسمة، محمد عبدالله عنان، ص180.
[42] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص103.
[43] المصدر السابق نفسه، ص103.
[44] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص103.
[45] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص369.
[46] انظر: السلطان محمد الفاتح، عبدالسلام فهمي، ص100.
[47] الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص370.
[48] انظر: السلطان محمد الفاتح، عبدالسلام فهمي،ص102.
[49] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص370.
[50] تاريخ الدولة العثمانية ، يلماز أوزنتونا، ص135.
[51] انظر: محمد الفاتح، ص106.
[52] انظر: محمد الفاتح، ص106.
[53] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور ، ص371.
[54] المصدر السابق نفسه، ص371.
[55] انظر: محمد الفاتح، ص116.
[56] المصدر السابق نفسه، ص106.
[57] انظر: السلطان محمد الفاتح، ص108.
[58] المصدر السابق نفسه، ص108.
[59] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص372.
[60] انظر: السلطان محمد الفاتح، ص110.
[61] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص144.
[62] انظر: السلطان محمد الفاتح، ص122.
[63] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص118.
[64] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص375.
[65] انظر: محمد الفاتح للرشيدي ، ص119.
[66] محمد الفاتح ، عبدالسلام فهمي ، ص116.
[67] الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص376.
[68] المصدر السابق، ص376.
[69] انظر: فتح القسطنطينية ، محمد صفوت، ص103.
[70] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص377.
[71] انظر: محمد الفاتح للرشيدي، ص122.
[72] انظر: محمد الفاتح، ص122.
[73] انظر: محمد الفاتح، ص122.
[74] انظر: تاريخ الدولة العلية ، محمد فريد، ص164.
[75] انظر: تاريخ سلاطين آل عثمان ، يوسف آصاف، ص60.
[76] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص378.
[77] انظر: محمد الفاتح ، ص125.
[78] انظر: محمد الفاتح، ص126.
[79] المصدر السابق نفسه ، ص126.
[80] المصدر السابق، ص129.
[81] محمد الفاتح ، ص129.
[82] المصدر السابق نفسه ،ص130.
[83] الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص380.
[84] المصدر السابق نفسه، ص
[85] انظر: الفتوح الاسلامية عبر العصور ، ص382.
[86] محمد الفاتح ، ص137.
[87] انظر: محمد الفاتح، ص139.
[88] المصدر السابق نفسه، ص131.
[89] الفتوح الاسلامية عبر العصور، ص383.
[90] المصدر السابق نفسه، ص384.
[91] انظر: جوانب مضيئة ، ص265.
[92] المصدر السابق نفسه، ص267.
[93] انظر: السلطان محمد الفاتح، ص134،135.
[94] انظر: جوانب مضيئة ، ص274.
[95] المصدر السابق نفسه، ص283.
[96] المصدر السابق نفسه، ص287.
[97] سبق تخريج الحديث.
[98] انظر: البطولة والفداء عند الصوفية، أسعد الخطيب، ص146.
[99] انظر: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص373.
[100] العثمانيون في التاريخ والحضارة ، ص373.
[101] المصدر السابق نفسه، ص373.
[102] العثمانيون في التاريخ والحضارة ، ص374.
[103] المصدر السابق نفسه، ص374.
[104] انظر: البدر الطالع 2/167.
[105] المصدر السابق نفسه 166/2.
[106] انظر: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص374.
[107] سبق تخريج الحديث.
[108] انظر: محمد الفاتح ، ص149.
[109] المصدر السابق نفسه، ص149.
[110] انظر: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص374.
[111] العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص375.
[112] البدر الطالع 2/167.
[113] العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص375.
[114] البدر الطالع 2/166.
[115] العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص376.
[116] العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص376.
[117] المصدر السابق نفسه، ص376.
[118] انظر : تاريخ الدولة العثمانية ، يلماز أوزيونا، ص384.
[119] انظر: تاريخ الدولة العلية، محمد فريد بك، ص164.
[120] انظر: السلطان محمد الفاتح ، ص136،137.
[121] المصدر السابق نفسه، ص140.
[122] انظر: السلطان محمد الفاتح، ص140.
[123] انظر: السلطان محمد الفاتح، ص141.
[124] المصدر السابق نفسه، ص142.
[125] المصدر السابق نفسه، ص142.
[126] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 16/71.
[127] انظر: محمد الفاتح، ص142.
ـــــــــــــــ(1/154)
الشيخ أبو الحسن الندوي رباني الأمة
الملكة الأدبية
من هو أبو الحسن الندوى؟
القلب الحى
ثناء العلماء عليه
الخلق الكريم
مواقف لا تنسى
العقيدة السليمة
مآثر الشيخ الشخصية والأخلاقية
المشروع الفكرى والدعوى
الثقافة الواسعة
وفاة الإمام الندوى
رباني الأمة
عالم رباني وداعية مجاهد وأديب تميز بجمال الأسلوب وصدق الكلمات، إنه الداعية الكبير ورباني الأمة الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ صاحب كتاب من أشهر كتب المكتبة الإسلامية في هذا القرن وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"
من هو أبو الحسن الندوي؟
الشيخ أبو الحسن الندوي غني عن التعريف فقد عرفه الناس من خلال مؤلفاته الرائدة التي تعد من المصابيح التي أضاءت الطريق أمام طلاب العلم من جيله والأجيال التي تلته، ونذكر هنا سطورا ومواقف لا تنسى من حياته.
ولد بقرية تكية، مديرية رائي بريلي، الهند عام 1332هـ/ 1913م.
تعلم في دار العلوم بالهند (ندوة العلماء)، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور، حيث تخصص, في علم التفسير، ومن يوم تخرجه أصبح شعلة للنشاط الإسلامي سواء في الهند أو خارجها، وقد شارك رحمه الله في عدد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، ومنها تأسيس المجمع العلمي بالهند، وتأسيس رابطة الأدب الإسلامي كما أنه: عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أبناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية.
يعد من أشهر العلماء المسلمين في الهند، وله كتابات وإسهامات عديدة في الفكر الإسلامي، فله من الكتب: موقف الإسلام من الحضارة الغربية، السيرة النبوية، من روائع إقبال، نظرات في الأدب، من رجالات الدعوة، قصص النبيين للأطفال وبلغ مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنواناً، منها 177 عنوانا بالعربية، وقد ترجم عدد من مؤلفاته إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى.
كان سماحة الشيخ كثير السفر إلى مختلف أنحاء العالم لنصرة قضايا المسلمين والدعوة للإسلام وشرح مبادئه، وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات تولى منصب رئيس ندوة العلماء منذ عام 1961م وظل فيه حتى وفاته، وقد منح عددا من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.
ثناء العلماء عليه
قال عنه الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ: هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه، لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتاً إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها، إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر -رضي الله عنه- بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أبو الحسن الندوي - فيما أعلم - هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.
وقد أصدر الدكتور يوسف القرضاوي بيانا من الدوحة نعى فيه العالم الكبير الشيخ أبا الحسن مؤكدا أن الشيخ الندوي كان يمثل نسيجا مميزا من العلماء المسلمين ينضم إلى العلماء الكبار الذين فقدتهم الأمة الإسلامية خلال العام الأخير من القرن العشرين "ابتداء بعلامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مرورا بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي ومن بعده الفقيه المجدد العلامة الشيخ مصطفى الزرقا وبعده المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني".
وقال الشيخ القرضاوي في نعيه أن الشيخ الندوي كان يتمتع بخمس صفات تميزه عن غيره من العلماء فهو إمام رباني إسلامي قرآني محمدي عالمي.
فأما أنه رباني فلأن سلف الأمة قد أجمعوا على أن الرباني هو من يعلم ويعمل ويعلِّم وهي الصفات الثلاثة التي كان يتحلى بها الشيخ، وأما أنه إسلامي فلأن الإسلام كان محور حياته ومرجعه في كل القضايا والدافع الذي يدفعه إلى الحركة والعمل والسفر والكتابة والجهاد، ساعيا لأن يقوي الجبهة الداخلية الإسلامية في مواجهة الغزوة الخارجية عن طريق تربية الفرد باعتباره اللبنة الأساسية في بناء الجماعة المسلمة، وأما أنه قرآني فلأن القرآن هو مصدره الأول الذي يستمد منه ويعتمد عليه ويرجع إليه ويستمتع به ويعيش في رحابه ويستخرج منه اللآلئ والجواهر، وأما أنه محمدي فليس لمجرد أنه من نسل الإمام الحسن حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم [ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه] بل لأنه جعل من الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها واتخذ سيرته نبراسا له في تعبده وزهده وإعراضه عن زخارف الدنيا وزينتها فهو يعيش في الخلف عيشة السلف.
مواقف لاتنسى
وفي حياة الشيخ الندوي مواقف كثيرة فيها دروس وعبر للعاملين على طريق الدعوة ومنها ما يرويه الشيخ يوسف القرضاوي فيقول: أذكر أنه حينما زارنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في قطر، وكان يشكو من قلة موارد (دار العلوم) بندوة العلماء، اقترح عليه بعض الإخوة أن نزور بعض الشيوخ وكبار التجار، نشرح لهم ظروف الدار ونطلب منهم بعض العون لها فقال:
لا أستطيع أن أفعل ذلك! وسألناه: لماذا؟ قال: إن هؤلاء القوم مرضى، ومرضهم حب الدنيا، ونحن أطباؤهم، فكيف يستطيع الطبيب أن يداوي مريضه إذا مد يده إليه يطلب عونه؟ أي يطلب منه شيئاً من الدنيا التي يداويه منها؟!
قلنا له: أنت لا تطلب لنفسك، أنت تطلب للدار ومعلميها وتلاميذها حتى تستمر وتبقى. قال: هؤلاء لا يفرقون بين ما تطلبه لنفسك وما تطلبه لغيرك ما دمت أنت الطالب، وأنت الآخذ!! وكنا في رمضان، وقلنا له حينذاك: ابق معنا إلى العشر الأواخر، ونحن نقوم عنك بمهمة الطلب. فقال: إن لي برنامجًا في العشر الأواخر لا أحب أن أنقضه أو أتخلى عنه لأي سبب، إنها فرصة لأخلو بنفسي وربي. وعرفنا أن للرجل حالاً مع الله، لا تشغله عنه الشواغل، فتركناه لما أراد، محاولين أن نقلده فلم نستطع، وكل ميسر لما خلق له.
مآثر الشيخ الشخصية والأخلاقية
يقول ا.د.يوسف القرضاوى: الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسلام في عصرنا، بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك: كتبه ورسائله ومحاضراته التي شرقت وغربت، وقرأها العرب والعجم، وانتفع بها الخاص والعام.
كما أنبأت عن ذلك رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والحق أن الشيخ - رحمه الله - قد آتاه الله من المواهب والقدرات، ومنحه من المؤهلات والأدوات ما يمكنه من احتلال هذه المكانة الرفيعة في عالم الدعوة والدعاة.
فقد آتاه الله: العقل والحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] والحكمة أولى وسائل الداعية إلى الله تعالى، كما قال -عز وجل- {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
ولهذا نجده يقول الكلمة الملائمة في موضعها الملائم، وفي زمانها الملائم، يشتد حيث تلزم الشدة، حتى يكون كالسيل المتدفق، ويلين حيث ينبغي اللين، حتى يكون كالماء المغدق، وهذا ما عرف به منذ شبابه الباكر إلى اليوم.
الثقافة الواسعة
ويوضح الدكتور القرضاوي أن الثقافة الواسعة هي أهم جوانب حياة الشيخ الندوي فقد آتاه الله: الثقافة التي هي زاد الداعية الضروري في إبلاغ رسالته، وسلاحه الأساسي في مواجهة خصومه، وقد تزوَّد الشيخ بأنواع الثقافة الستة التي يحتاجها كل داعية وهي: الثقافة الدينية، واللغوية، والتاريخية، والإنسانية، والعلمية، والواقعية، بل إن له قدمًا راسخة وتبريزًا واضحًا في بعض هذه الثقافات، مثل الثقافة التاريخية، كما برز ذلك في أول كتاب دخل به ميدان التصنيف، وهو الكتاب الذي كان رسوله الأول إلى العالم العربي قبل أن يزوره ويتعرف عليه، وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نفع الله به الكثيرين من الكبار والصغار، ولم يكد يوجد داعية إلا واستفاد منه.
وكما تجلَّى ذلك في كتابه الرائع التالي: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" في جزئه الأول، ثم ما ألحق به من أجزاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي: والإمام الدهلوي، ثم عن أمير المؤمنين علي (المرتضى) رضي الله عنه.
وقد ساعده على ذلك: تكوينه العلمي المتين، الذي جمع بين القديم والحديث، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأردية والهندية والفارسية، ونشأته في بيئة علمية أصيلة، خاصة وعامة، فوالده العلامة عبد الحي الحسني صاحب موسوعة "نزهة الخواطر" في تراجم رجال الهند وعلمائها، ووالدته التي كانت من النساء الفضليات المتميزات فكانت تحفظ القرآن، وتنشئ الشعر، وتكتب وتؤلف، ولها بعض المؤلفات، ومجموع شعري. كما نشأ في رحاب "ندوة العلماء" ودار علومها، التي كانت جسرًا بين التراث الغابر، والواقع الحاضر، والتي أخذت من القديم أنفعه، ومن الجديد أصلحه، ووفقت بين العقل والنقل، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والإيمان، وبين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة.
الملكة الأدبية
ووهب الله للشيخ الندوي البيان الناصع والأدب الرفيع، كما يشهد بذلك كل من قرأ كتبه ورسائله، وكان له ذوق وحس أدبي، فقد نشأ وتربي في حجر لغة العرب وأدبها منذ نعومه أظفاره، وألهم الله شقيقه الأكبر أن يوجهه هذه الوجهة في وقت لم يكن يعني أحد بهذا الأمر، لحكمة يعلمها الله تعالى، ليكون همزة وصل بين القارة الهندية وأمة العرب، ليخاطبهم بلسانهم، فيفصح كما يفصحون، ويبدع كما يبدعون، بل قد يفوق بعض العرب الناشئين في قلب بلاد العرب.
يقول الدكتور القرضاوي: لقد قرأنا الرسائل الأولى للشيخ الندوي التي اصطحبها معه حينما زارنا في القاهرة سنة 1951م، ومنها: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم.. معقل الإنسانية دعوتان متنافستان.. بين الصورة والحقيقة.. بين الهداية والجباية.. وغيرها، فوجدنا فيها نفحات أدبية جديدة في شذاها وفحواها، حتى علّق الشيخ الغزالي -رحمه الله- على تلك الرسالة بقوله: هذا الدين لا يخدمه إلا نفس شاعرة! فقد كانت هذه الرسائل نثرًا فيه روح الشعر، وعبق الشعر. وقرأنا بعدها مقالة: اسمعي يا مصر.. ثم اسمعي يا سورية. اسمعي يا زهرة الصحراء.. اسمعي يا إيران.. وكلها قطرات من الأدب المُصفى.
وقرأنا ما كتبه في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان البوطي: ما كتبه من قصص رائع ومشوق عن حركة الدعوة والجهاد، التي قام بها البطل المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وما كتبه من مقالات ضمنها كتابة الفريد "الطريق إلى المدينة" الذي قدمه أديب العربية الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله-، وقال في مقدمته: يا أخي الأستاذ أبا الحسن! لقد كدت أفقد ثقتي بالأدب، حين لم أعد أجد عند الأدباء هذه النغمة العلوية، التي غنى بها الشعراء، من لدن الشريف الرضي إلى البرعي، فلما قرأت كتابك وجدتها، في نثر هو الشعر، إلا أنه بغير نظام. أ. هـ.
ولا غرو أن رأيناه يحفظ الكثير والكثير من شعر إقبال، وقد ترجم روائع منه إلى العربية، وصاغه نثرًا هو أقرب إلى الشعر من بعض من ترجموا قصائد لإقبال شعرًا.
القلب الحي
و يواصل د. القرضاوي شرح جوانب فقه الدعوة عن الندوي فيقول: آتاه الله القلب الحي، والعاطفة الجياشة بالحب لله العظيم، ولرسوله الكريم، ولدينه القويم، فهو يحمل بين جنبيه نبعًا لا يغيض، وشعلة لا تخبو، وجمرة لا تتحول إلى رماد.
ولا بد للداعية إلى الله أن يحمل مثل هذا القلب الحي، ومثل هذه العاطفة الدافقة بالحب والحنان والدفء والحرارة، يفيض منها على من حوله، فيحركهم من سكون، ويوقظهم من سبات، ويحييهم من موات.
وكلام أصحاب القلوب الحية له تأثير عظيم في سامعيه وقارئيه، فإن الكلام إذا خرج من القلب دخل إلى القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان، ولهذا كان تأثير الحسن البصري في كل من يشهد درسه وحلقته، على خلاف حلقات الآخرين، ولهذا قيل: ليست النائحة كالثكلى!
هذا القلب الحي، يعيش مع الله في حب وشوق، راجيًا خائفًا، راغبًا راهبًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، كما يعيش في هموم الأمة على اتساعها، ويحيا في آلامها وآمالها، لا يشغله هم عن هم، ولا بلد عن آخر، ولا فئة من المسلمين عن الفئات الأخرى.
وهذه العاطفة هي التي جعلته يتغنى كثيرًا بشعر إقبال، ويحس كأنه شعره هو، كأنه منشئه وليس راويه، وكذلك شعر جلال الدين الرومي، وخصوصا شعر الحب الإلهي، كما جعلته يولي عناية خاصة لأصحاب القلوب الحية، مثل: الحسن البصري والغزالي والجيلاني وابن تيمية والسرهندي وغيرهم.
الخلق الكريم
وآتاه الله الخلق الكريم والسلوك القويم، وقد قال بعض السلف: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف! وعلق على ذلك الإمام ابن القيم في "مدارجه" فقال: بل الدين كله هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.
ولا غرو أن أثنى الله على رسوله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وأن أعلن الرسول الكريم عن غاية رسالته، فقال: [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]
ومن عاشر الشيخ -ولو قليلاً- لمس فيه هذا الخلق الرضي، ووجده مثالاً مجسدًا لما يدعو إليه، فسلوكه مرآة لدعوته، وهو رجل باطنه كظاهره، وسريرته كعلانيته، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكيه على الله -عز وجل-.
ومن هذه الأخلاق الندوية: الرقة، والسماحة والسخاء والشجاعة، والرفق، والحلم، والصبر، والاعتدال، والتواضع، والزهد، والجد، والصدق مع الله ومع الناس، والإخلاص، والبعد عن الغرور والعجب، والأمل والثقة والتوكل واليقين والخشية والمراقبة، وغيرها من الفضائل والأخلاق الربانية والإنسانية.
وهذا من بركات النشأة الصالحة في بيئة صالحة في أسرة هاشمية حسنية، {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}.
إن الداعية الحق هو الذي يؤثِّر بحاله أكثر ممّا يؤثر بمقاله، فلسان الحال أبلغ، وتأثيره أصدق وأقوى، وقد قيل: حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل! وآفة كثير من الدعاة: أن أفعالهم تكذب أقوالهم، وأن سيرتهم تناقض دعوتهم، وأن سلوكهم في وادٍ، ورسالتهم في وادٍ آخر. وأن كثيرًا منهم ينطبق عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2،3].
العقيدة السليمة
ويتناول الدكتور القرضاوي جانب العقيدة في حياة الندوي فيقول: آتاه الله قبل ذلك كله: العقيدة السليمة: عقيدة أهل السنة والجماعة، سليمة من الشركيات والقبوريات والأباطيل، التي انتشرت في الهند، وكان لها سوق نافقة، وجماعات مروجة تغدو بها وتروح، تأثروا بالهندوس ومعتقداتهم وأباطيلهم، كما هو الحال عند جماعة "البريليوين" الذين انتسبوا إلى التصوف اسمًا ورسمًا، والتصوف الحق براء منهم، وقد حفلت عقائدهم بالخرافات، وعباداتهم بالمبتدعات، وأفكارهم بالترهات، وأخلاقهم بالسلبيات.
ولكن الشيخ تربى على عقائد مدرسة "ديوبند" التي قام عليها منذ نشأتها علماء ربانيون، طاردوا الشرك بالتوحيد، والأباطيل بالحقائق، والبدع بالسنن، والسلبيات بالإيجابيات. وأكدت ذلك مدرسة الندوة - ندوة العلماء - وأضافت إليها روحًا جديدة، وسلفية حية حقيقية، لا سلفية شكلية جدلية، كالتي نراها عند بعض من ينسبون إلى السلف، ويكادون يحصرون السلفية في اللحية الطويلة، والثوب القصير، وشن الحرب على تأويل نصوص الصفات.
إن العقيدة السلفية عند الشيخ هي: توحيد خالص لله تعالى لا يشوبه شرك، ويقين عميق بالآخرة لا يعتريه شك، وإيمان جازم بالنبوة لا يداخله تردد ولا وهم، وثقة مطلقة القرآن والسنة، مصدرين للعقائد والشرائع والأخلاق والسلوك
المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي
يلخص العلامة القرضاوي أهم جوانب المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي في ركائز وأسس تبلغ العشرين، منها انطلق، وإليها يستند، وعليها يعتمد، نجملها فيما يلي:
1ـ تعميق الإيمان في مواجهة المادية:
تعميق الإيمان بالله تعالى، وتوحيده سبحانه ربا خالقًا، وإلهًا معبودًا واليقين بالآخرة، دارًا للجزاء، ثوابًا وعقابًا، في مواجهة المادية الطاغية، التي تجحد أن للكون إلهًا يدبره ويحكمه، وأن في الإنسان روحًا هي نفحة من الله، وأن وراء هذه الدنيا آخرة. المادية التي تقول: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع! ولا شيء بعد ذلك. أو كما حكى الله عنهم: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] وقد تخللت هذه الركيزة الفكرية المحورية معظم رسائله وكتبه؛ وخصوصًا: الصراع بين الإيمان والمادية.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكر الإسلامي والفكرة الغربية.
2- إعلاء الوحي على العقل:
بمعنى اعتبار الوحي هو المصدر المعصوم، الذي تؤخذ منه حقائق الدين وأحكامه، من العقائد والشرائع والأخلاق، واعتبار نور النبوة فوق نور العقل، فلا أمان للعقل من العثار إذا سار في هذا الطريق وحده، ولا أمان للفلسفات المختلفة في الوصول إلى تصور صحيح عن الألوهية والكون والإنسان والحياة، حتى الفلسفة الدينية أو علم الكلام حين خاضا هذه اللجة غرقا فيها. وقصور العقل هنا شهد به بعض كبار المتكلمين كالفخر الرازي، والآمدي وغيرهما، وبعض كبار الفلاسفة، وأحدثهم (كانت) وكذلك فلسفات الإشراق لم تصل بالإنسان إلى بر الأمان، وقد بين ذلك الشيخ الندوي في عدد من كتبه، منها: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن. ومنها: الدين والمدنية، وأصله محاضرة ألقاها في مقتبل الشباب (في الثلاثين من عمره)
3- توثيق الصلة بالقرآن الكريم باعتباره كتاب الخلود، ودستور الإسلام وعمدة الملة، وينبوع العقيدة، وأساس الشريعة،
وهو يوجب اتباع القواعد المقررة في تفسيره وعدم الإلحاد في آيه، وتأويلها وفق الأهواء والمذاهب المنحولة، ولهذا أنكر على القاديانيين هذا التحريف في فهم القرآن. ومن قرأ كتب الشيخ وجده عميق الصلة بكتاب الله، مستحضرًا لآياته في كل موقف محسنًا الاستشهاد بها غاية الإحسان، وله ذوق متفرد في فهم الآيات، كما أن له دراسات خاصة في ضوء القرآن مثل: تأملات في سورة الكهف -والتي تجلي الصراع بين المادية والإيمان بالغيب- والنبوة والأنبياء في ضوء القرآن.. ومدخل للدراسات القرآنية.. وغيرها من الكتب والرسائل، وقد عمل مدرسًا للقرآن وعلومه في دار العلوم بلكهنو عدة سنوات.
4-توثيق الصلة بالسنة والسيرة النبوية
وذلك أن السنة مبينة القرآن وشارحته نظريًا، والسيرة هي التطبيق العملي للقرآن، وفيها يتجلى القرآن مجسدًا في بشر [كان خلقه القرآن] وتنجلي الأسوة الحسنة التي نصبها الله للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، لهذا كان من المهم العيش في رحاب هذه السيرة، والاهتداء بهديها والتخلق بأخلاقها، لا مجرد الحديث عنها، باللسان أو بالقلم. وقد بين الشيخ أثر الحديث في الحياة الإسلامية، كما أبدع في كتابة السيرة للكبار وللأطفال، وهو هنا يجمع بين عقل الباحث المدقق، وقلب المحب العاشق، وهذا يكاد يكون مبثوثًا في عامة كتبه.
5- إشعال الجذوة الروحية (الربانية الإيجابية)
إنه إشعال للجذوة الروحية في حنايا المسلم، وإعلاء "نفخة الروح" على قبضة الطين والحمأ المسنون في كيانه، وإبراز هذا الجانب الأساسي في الحياة الإسلامية التي سماها الشيخ "ربانية لا رهبانية" وهو عنوان لأحد كتبه الشهيرة، وقد سماه بهذا الاسم لسببين: أولهما: أن يتجنب اسم التصوف لما علق به من شوائب، وما ألصق به من زوائد، على مر العصور، وهذا من جناية المصطلحات على الحقائق والمضامين الصحيحة، وما التصوف في حقيقته إلا جانب التزكية التي هي إحدى شعب الرسالة المحمدية، أو جانب الإحسان الذي فسره الرسول في حديث جبريل الشهير. والسبب الثاني: إبراز العنصر الإيجابي في هذه الحياة الروحية المنشودة، فهي روحية اجتماعية، كما سماها أستاذنا البهي الخولي رحمه الله، وهي ربانية إيجابية تعمل للحياة ولا تعتزلها، ولا تعبدها، وتجعل منها مزرعة للحياة الأخرى: حياة الخلود والبقاء. كما وضح الشيخ الندوي الجانب التعبدي الشعائري في حياة المسلم في كتابه المعروف "الأركان الأربعة" وهو يمثل نظرة جديدة في عبادات الإسلام الكبرى: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وآثارها في النفس والحياة.
6- البناء لا الهدم
، والجمع لا التفريق فالشيخ الندوي رحمه الله جعل همه في البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق وأنا أشبهه هنا بالإمام حسن البنا رحمه الله، الذي كان حريصًا على هذا الاتجاه الذي شعاره: نبني ولا نهدم، ونجمع ولا نفرق، ونُقرّب ولا نباعد، ولهذا تبنى قاعدة المنار الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" وهذا هو توجه شيخنا الندوي فهو يبعد ما استطاع عن الأساليب الحادة، والعبارات الجارحة، والموضوعات المفرقة، ولا يقيم معارك حول المسائل الجزئية، والقضايا الخلافية. ولا يعني هذا أنه يداهن في دينه، أو يسكت عن باطل يراه أو خطأ جسيم يشاهده، بل هو ينطق بما يعتقده من حق، وينقد ما يراه من باطل أو خطأ، لكن بالتي هي أحسن، كما رأيناه في نقده للشيعة في مواقفهم من الصحابة في كتابه "صورتان متضادتان" وفي نقده للعلامة أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب، فيما سماه "التفسير السياسي للإسلام" وإن كنت وددت لو اتخذ له عنوانًا غير هذا العنوان، الذي قد يستغله العلمانيون في وقوفهم ضد شمول الإسلام، وقد صارحت الشيخ بذلك ووافقني عليه رحمه الله.
7- إحياء روح الجهاد في سبيل الله(1/155)
وتعبئة قوى الأمة النفسية للدفاع عن ذاتيتها ووجودها، وإيقاد شعلة الحماسة للدين في صدور الأمة، التي حاولت القوى المعادية للإسلام إخمادها، ومقاومة روح البطالة والقعود، والوهن النفسي، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت. وهذا واضح في كتابه "ماذا خسر العالم" وفي كتابه "إذا هبت ريح الإيمان" وفي حديثه الدافق المعبر عن الإمام أحمد بن عرفان الشهيد وجماعته ودعوته، وعن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله من أبطال الإسلام. ومنذ رسائله الأولى وهو ينفخ في هذه الروح، ويهيب بالأمة أن تنتفض للذود عن حماها، وتقوم بواجب الجهاد بكل مراتبه ومستوياته حتى تكون كلمة الله هي العليا. 8- استيحاء التاريخ
الإسلامي وبطولاته: والركيزة الثامنة: استيحاء التاريخ - ولا سيما تاريخنا الإسلامي- لاستنهاض الأمة من كبوتها، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، ومخزن عبرها، ومستودع بطولاتها. والشيخ يملك حسًا تاريخيًا فريدًا، ووعيًا نادرًا بأحداثه، والدروس المستفادة منها، كما تجلى ذلك في رسالته المبكرة "المد والجزر في تاريخ الإسلام" وفي كتابه: "ماذا خسر العالم" وفي غيره، والتاريخ عنده ليس هو تاريخ الملوك والأمراء وحدهم، بل تاريخ الشعوب والعلماء والمصلحين والربانيين. ليس هو التاريخ السياسي فقط، بل السياسي والاجتماعي والثقافي والإيماني والجهادي. ولهذا يستنطق التاريخ بمعناه الواسع، ولا يكتفي بمصادر التاريخ الرسمية، بل يضم إليها كتب الدين، والأدب، والطبقات المختلفة، وغيرها، ويستلهم مواقف الرجال الأفذاذ، وخصوصًا المجددين والمصلحين، كما في كتابه: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" الذي بين فيه أن الإصلاح والتجديد خلال تاريخ الأمة: حلقات متصلة، ينتهي دور ليبدأ دور، ويغيب كوكب ليطلع كوكب. والنقص ليس في التاريخ: إنما هو في منهج كتابته وتأليفه.
9- نقد الفكرة الغربية والحضارة المادية أوالجاهلية الحديثة،
ورؤيته في هذا واضحة كل الوضوح لحقيقة الحضارة الغربية وخصائصها، واستمدادها من الحضارتين: الرومانية اليونانية، وما فيهما من غلبة الوثنية، والنزعة المادية الحسية والعصبية القومية، وهو واع تمامًا للصراع القائم بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية وخصوصًا في ميادين التعليم والتربية والثقافة والقيم والتقاليد. وقد أنكر الشيخ موقف الفريق المستسلم للغرب، المقلد له تقليدًا أعمى في الخير والشر، ومثله: موقف الفريق الرافض للغرب كله، المعتزل لحضارته بمادياتها ومعنوياتها.. ونوه الشيخ بموقف الفريق الثالث، الذي لا يعتبر الغرب خيرًا محضًا، ولا شرًا محضًا. فيأخذ من الغرب وسائله لا غاياته، وآلياته لا منهج حياته، فهو ينتخب من حضارته ما يلائم عقائده وقيمه، ويرفض ما لا يلائمه، واهتم الشيخ هنا بشعر د. إقبال باعتباره أبرز ثائر على الحضارة المادية، مع عمق دراسته لها، وتغلغله في أعماقها. وقد تجلى هذا في كثير من كتبه ورسائله، ولا سيما: حديث مع الغرب.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية. أحاديث صريحة في أمريكا.. محاضرة "الإسلام والغرب" في أوكسفورد.
10-نقد الفكرة القومية والعصبيات الجاهلية
وهو ما شاع في العالم العربي الإسلامي كله بعد ما أكرم الله به هذه الأمة من الأخوة الإسلامية، والإيمان بالعالمية، والبراءة من كل من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية أو مات على عصبية، وأشد ما آلمه: أن تتغلغل هذه الفكرة بين العرب الذين هم عصبة الإسلام، وحملة رسالته، وحفظة كتابه وسنته، وهو واحد منهم نسبًا وفكرًا وروحًا. لذا وقف في وجه "القومية العربية" العلمانية المعادية للإسلام، المفرقة بين المسلمين، والتي اعتبرها بعضهم "نبوة جديدة" أو "ديانة جديدة" تجمع العرب على معتقدات ومفاهيم وقيم غير ما جاء به محمد ((صلى الله عليه وسلم) الذي هدى الله به أمة العرب، وجمعهم به من فرقة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور. وهو رغم رفضه للقومية، لا ينكر فضل العرب ودورهم وريادتهم، بل هو يستنهض العرب في محاضراته ورسائله وكتبه للقيام بمهمتهم، والمناداة بعقائدهم ومبادئهم في وجه العالم: "محمد رسول الله روح العالم العربي" ويوجه رسالة عنوانها: اسمعوها مني صريحة أيها العرب. ورسائل أخرى: العرب والإسلام.. الفتح للعرب المسلمين. اسمعي يا مصر.. اسمعي يا سورية.. اسمعي يا زهرة الصحراء (يعني: الكويت).. كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟.. كيف دخل العرب التاريخ.. العرب يكتشفون أنفسهم: تضحية شباب العرب... إلى آخره.
11- تأكيد عقيدة ختم النبوة
ومقاومة الفتنة القاديانية وختم النبوة عقيدة معلومة من الدين بالضرورة لدى المسلمين طوال القرون الماضية، ولم يثر حولها أي شك أو شبهة، وإنما أوجب تأكيد هذه العقيدة: ظهور الطائفة القاديانية بفتنتهم الجديدة التي اعتبرها الشيخ "ثورة على النبوة المحمدية". ولقد كتب في هذه القضية ما كتب من مؤلفات ومقالات، ولكن الشيخ شعر بمسئوليته الخاصة إزاءها؛ فكتب في بيان أهمية ختم النبوة في اعتبارها تكريمًا للإنسانية بأنها "بلغت الرشد"، وأنها انتهت إلى الدين الكامل الذي يضع الأسس والأصول، ويترك التفصيلات للعقل البشري، الذي يولد ويستنبط في ضوء تلك الأصول ما تحتاج إليه المجتمعات في تطورها المستمر، وهي تغلق الباب على المتنبئين الكذابين، وتمنع فوضى الدعاوى الكاذبة المفترية على الله تعالى. وقد أكد الشيخ ذلك في فصل من كتابه "النبوة والأنبياء" عن محمد خاتم النبيين، ثم ألف كتابًا عن "النبي الخاتم"، وجعل السيرة النبوية للأطفال بعنوان "سيرة خاتم النبيين"، ثم صنف كتابًا خاصًا عن "القادياني والقاديانية" تضمن دراسة وتحليلاً لشخصية "غلام أحمد" ودعوته، ونشأته في أحضان الاستعمار الإنجليزي، واعترافه المتكرر بذلك في رسائله وكتاباته، ودعوته المسلمين إلى طاعة الإنجليز، وإلغاء الجهاد، وبيّن الشيخ الندوي بكل صراحة: أننا -مع القاديانة - في مواجهة دين إزاء دين، وأمة إزاء أمة. كما اشتد نكيره عليهم في تحريفهم للقرآن، وتلاعبهم باللغة العربية، وهذا الكتاب مرجع علمي موثق بالأدلة من مصادرها القاديانية ذاتها.
12-مقاومة الردة الفكرية:
والركيزة الثانية عشرة: هي مقاومة الردة الفكرية التي تفاقم خطرها بين العرب والمسلمين عامة، والمثقفين منهم خاصة. فكما قاوم الشيخ الردة الدينية التي تمثلت في القاديانية، التي أصر علماء المسلمين كافة في باكستان على اعتبارهم أقلية غير مسلمة، لم يألُ جهدًا في محاربة هذه الردة العقلية والثقافية. ولا غرو أن جند قلمه ولسانه وعلمه وجهده في كشف زيفها، ووقف زحفها، ومطاردة فلولها، وقد ألف فيها رسالته البديعة الشهيرة "ردة ولا أبا بكر لها!".
13-تأكيد دور الأمة المسلمة واستمرارها في التاريخ نبراس هداية للبشرية
، والشهادة على الأمم، والقيام على عبادة الله وتوحيده في الأرض، كما أشار إلى ذلك الرسول يوم بدر "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض". وهذه الأمة صاحبة رسالة شاملة، وحضارة متكاملة، مزجت المادة بالروح، ووصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان، ووفّقت بين حقوق الفرد ومصلحة المجتمع، وهذه الأمة موقعها موقع القيادة والريادة للقافلة البشرية، وقد انتفعت منها البشرية يوم كانت الأمة الأولى في العالم. ثم تخلفت عن الركب لعوامل شتى، فخسر العالم كثيرًا بتخلفها، وهو ما عالجه كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي عرفت به الشيخ قبل أن ألقاه، والذي استقبله العلماء والدعاة والمفكرون المسلمون استقبالاً حافلاً، وقال شيخنا الدكتور محمد يوسف موسى: إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لإعادة مجد الإسلام! ولا زال العلامة الندوي يبدئ ويعيد في تنبيه الأمة المسلمة على القيام بدورها الرسالي، ومهمتها التي أُخرجت لها، فقد أخرجها الله للناس لا لنفسها. وآخر إنتاجه في ذلك محاضرته التي ألقاها في دولة قطر، بعنوان "قيمة الأمة الإسلامية بين الأمم ودورها في العالم"
14- بيان فضل الصحابة ومنزلتهم في الدين:
أي بيان فضل الجيل المثالي الأول في هذه الأمة، وهو جيل الصحابة رضوان الله عليهم، أبر الناس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ونصرة دينه، وأنزل عليهم ملائكته في بدر والخندق وحنين، وهم الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه في عدد من سوره، وأثنى عليهم رسوله في عدد من أحاديثه المستفيضة، وأكد ذلك تاريخهم وسيرتهم ومآثرهم، فهم الذين حفظوا القرآن، والذين رووا السنة، والذين فتحوا الفتوح، ونشروا الإسلام في الأمم، وهم تلاميذ المدرسة المحمدية، وثمار غرس التربية النبوية. وهم أولى من ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وهم طليعة الأمة وأسوتها في العلم والعمل، وأئمتها في الجهاد والاجتهاد، وتلاميذهم من التابعين على قدمهم، وإن لم يبلغوا مبلغهم، [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم] فمن شكك في عظمة هذا الجيل وفي أخلاقه ومواقفه، فقد شكك في قيمة التربية المحمدية، وهذه الصورة المعتمة التي رسمها الشيعة لجيل الصحابة، مناقضة للصورة المشرقة الوضيئة التي رسمها أهل السنة والجماعة، وهذا ما وضحه علامتنا في رسالته الفريدة "صورتان متضادتان" لنتائج جهود الرسول الأعظم الدعوية والتربوية، وسيرة الجيل المثالي الأول عند أهل السنة والشيعة الإمامية.
15- التنويه بقضية فلسطين وتحريرها
فقضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، بل هي قضية المسلمين جميعًا، فلا بد من إيقاظ الأمة لخطرها، وتنبيهها على ضرورة التكاتف لتحريرها، واتخاذ الأسباب، ومراعاة السنن المطلوبة لاستعادتها. وليست هذه أول مرة تحتل فلسطين من قبل أعداء الدين والأمة، فقد احتلت أيام الحروب الصليبية نحو مائة عام، وأسر المسجد الأقصى تسعين سنة كاملة، حتى هيأ الله لهذا الأمة رجالا أفذاذًا، جددوا شباب الأمة بالإيمان، وإحياء روح الكفاح ومعنى الجهاد في سبيل الله، مثل: نور الدين وصلاح الدين، الذي أشاد به الشيخ الندوي كثيرًا في كتبه ورسائله. ولا سبيل إلى تحرير فلسطين إلا بهذا الطريق، وعلى نفس هذا المنهاج تجميع الأمة على الإسلام، وتجديد روحها بالإيمان، وتربية رجالها على الجهاد، وقد كتب في ذلك الشيخ مثالات ورسائل، أظهرها "المسلمون وقضية فلسطين".
16- العناية بالتربية الإسلامية الحرة التي لا تستمد فلسفتها من الغرب ولا من الشرق،
إنما تستمد فلسفتها من الإسلام عقيدة وشريعة وقيمًا وأخلاقًا، في حين تقتبس وسائلها وآلياتها من حيث شاءت، في إطار أصولها المرعية، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. وهو ينكر على التعليم القديم طرائقه في العناية بالألفاظ والجدليات، كما ينكر على التعليم الحديث إغفاله للروح وأهداف الحياة، وينقل عن إقبال قوله: أن التعليم الحديث لا يعلم عين الطالب الدموع، ولا قلبه الخشوع! ولقد أولى شيخنا جانب التربية اهتمامًا بالغًا، لأنها هي التي تصنع أجيال المستقبل، والتهاون فيها تهاون في الثورة البشرية للأمة، وقد نقل الشيخ عن بعض شعراء الهند: أن فرعون كان يكفيه عن تذبيح بني إسرائيل أن ينشئ لهم كلية يكيف عقولهم فيها كما يريد، ولكنه كان غبيًا. كتب الشيخ في ذلك رسائل، أبرزها: التربية الإسلامية الحرة، كما ناقش كثيرًا من قضايا التربية في كتابه: "كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟". كما شارك الشيخ بنفسه في هذا المجال علمًا وعملاً.
17- العناية بالطفولة والنشء والكتابة للأطفال والناشئين بوصفهم رجال الغد،
وصناع تاريخ الأمم. وقد التفت الشيخ إلى هذا الأمر الخطير، وهو في الثلاثينات من عمره، وكتب مجموعة من قصص النبيين للأطفال، في لغة سهلة، وأسلوب عذب، وطريقة شائقة، مضمنًا إياها ما يحب من المعاني والقيم، ومن الدروس والعبر، ومن العقائد والمثل، حتى قال بعض العلماء: أنها "علم توحيد" جديد للأطفال، وأثنى عليها أديب كبير كالشهيد سيد قطب مارس هذا العمل أيضا. وبعد ثلاثين سنة أو أكثر عاد فأكمل قصص الأنبياء، وختمها بسيرة خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) كما أنشأ مجموعة "قصص من التاريخ الإسلامي" للأطفال أيضًا، وقال: أنه يرجو أن ينال بهذه الخطوة تقدير رجال التربية، وأن تليها خطوات، وتؤلف مجموعات.
18- إعداد العلماء والدعاة الربانيين
الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية، وهذا ما اجتهد الشيخ في أن يسهم فيه بنفسه عن طريق التدريس في "دار العلوم" ثم عن طريق تطوير المناهج، وعن طريق وضع المقررات والكتب الدراسية، ثم عن طريق الاشتراك في مجالس الجامعات والمؤسسات التعليمية في الهند، وفي غيرها، مثل المجلس الأعلى للجامعات الإسلامية بالمدينة المنورة. وهو يرى أن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن، الذي إذا استقضى قضى بحق، وإذا استفتى أفتى على بينة، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.
19- ترشيد الصحوة والحركات الإسلامية التي يشهدها العالم الإسلامي،
بل يشهدها المسلمون في كل مكان، حتى خارج العالم الإسلامي، حيث توجد الأقليات والجاليات الإسلامية في أوربا والأمريكتين والشرق الأقصى وغيرها. وهي صحوة عقول وقلوب وعزائم، ولكن يُخشى على الصحوة من نفسها أكثر من غيرها. فتتآكل من الداخل، قبل أن تضرب من الخارج. وأعظم ما يُخشى على الصحوة: الغلو والتشديد في غير موضعه، والتمسك بالقشور وترك اللباب، والاشتغال الزائد بالجزئيات والخلافيات، وسوء الظن بالمسلمين إلى حد التأثيم والتضليل، بل التكفير. والشيخ بطبيعته رجل معتدل في تفكيره، وفي سلوكه وفي حياته كلها: فهو قديم جديد، وهو تراثي وعصري، وهو سلفي وصوفي، ثابت ومتطور، في لين الحرير وصلابة الحديد. وهكذا يريد لجيل الصحوة أن يكون. لم يقيد الشيخ الندوي نفسه بالالتزام بجماعة معينة، فقد بقى حرًا، يشرف على الجماعات من خارجها، فيرى من نواقصها ما لا يراه أعضاؤها، ويبصر نقاط ضعفها، فيوجه وينصح، وينقد ويسدد، ولعل في ذلك خيرًا. كما لا يدخر وسعًا في النصح لحكام المسلمين وزعمائهم ما وجد إلى ذلك سبيلا. وخصوصًا أنه لا يطمع في شئ من أحد منهم.
20- وآخر هذه الركائز وهي المكملة للعشرين دعوة غير المسلمين للإسلام
، استكمالاً لما قامت به الأمة في العصور الأولى، وقد ساهم الشيخ في ذلك منذ عهد مبكر وهو ابن الثانية والعشرين بدعوة الدكتور أمبيدكر زعيم المنبوذين إلى الإسلام، ورحلته إليه في بومباي. وهو يرى أن فضل الأمة الإسلامية على غيرها في قيامها بواجب الدعوة إلى الله، وأن البشرية اليوم رغم بلوغها ما بلغت من العلم المادي والتطور التكنولوجي أحوج ما تكون إلى رسالة الإسلام، حاجة الظمآن إلى الماء، والسقيم إلى الشفاء، والأمة الإسلامية هي وحدها التي تملك قارورة الدواء، ومضخة الإطفاء. تلك هي الركائز العشرون، التي قام عليها فقه الدعوة عند الإمام الندوي، وكل ركيزة منها تحتاج إلى شرح وتفصيل، اسأل الله تعالى أن يعين عليه، ويوفق لإتمامه. أنه سميع مجيب
وفاة الإمام الندوي
وكان الشيخ أبو الحسن الندوي قد توفاه الله في يوم مبارك وهو يوم الجمعة وفي شهر رمضان المبارك أثناء اعتكافه بمسجد قريته "تكية" بمديرية "راي باريلي" في شمال الهند وجرى دفنه مساء نفس اليوم في مقبرة أسرته بالقرية في حضور الأقارب والأهالي وبعض مسئولي ندوة العلماء التي ظل مرتبطًا بها طيلة حياته الحافلة بالجهاد والدعوة طوال 86 عاماً هي عمر الفقيد رحمه الله.
وقد عم الحزن الأوساط الإسلامية في الهند جمعاء، وصدرت بيانات عن كل الجمعيات والمنظمات والمؤسسات الإسلامية الكبرى تنعي وفاته، وتعتبرها خسارة لا تعوض لمسلمي الهند والعالم الإسلامي، ويصعب تعويضها في المستقبل القريب. وكان في طليعة المعزين أمير الجماعة الإسلامية الهندية الشيخ محمد سراج الحسن، ورئيس جمعية العلماء الشيخ أسعد المدني، وإمام المسجد الجامع بدهلي عبد الله البخاري، وأمين مجمع الفقه الإسلامي الشيخ مجاهد الإسلامي القاسمي، إلى جانب مسئولي الحكومة الهندية، كرئيس الوزراء أتال بيهاري واجباي، ورئيسة حزب المؤتمر سونيا غاندي. وقال رئيس الوزراء الأسبق (في. بي. سينغ): إن وفاة الشيخ أبي الحسن خسارة شخصية له. وقد توالت التعازي من مختلف أنحاء الهند والعالم في الفقيد الكبير، وأقيمت له صلاة الغائب والترحم في مختلف المناطق.
ـــــــــــــــ(1/156)
أبو زرعة الرازي سيد الحفاظ
سيد الحفاظ
وصفه كتاب التراجم والسير بأنه سيد الحفاظ لقوة حفظه التي تميز بها بين أقرانه من أهل الحديث
إنه المحدث الإمام أبو زرعة الرازي الذي يقول عن نفسه: "أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد (سورة الإخلاص).
نسبه ونشأته
هو الإمام سيد الحفاظ عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ محدث الري ودخول الزاي في نسبته غير مقيس كالمروزي، ولد سنة 210هـ
بدأ طلب العلم وهو حدث فارتحل من الري وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأقام بالكوفة عشرة أشهر ثم رجع إلى الري ثم خرج في رحلته الثانية وغاب عن وطنه أربع عشرة سنة وجلس للتحديث وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وارتحل إلى الحجاز والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان ليتعلم على عدد من علماء الحديث، ومن شيوخه أحمد بن يونس اليربوعي والحسن بن بشر.
وروي عن ابن مهدي الرازي المعمر قال: هذا الشيخ عندي صدوق فانه قال رأيت أبا زرعة الرازي فقلت له كيف رأيته فقال أسود اللحية نحيف أسمر وهذه صفة أبي زرعة.
قوة حفظه
قال صالح بن محمد جزرة سمعت أبا زرعة يقول كتبت عن إبراهيم ابن موسى الرازي مائة ألف حديث وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف فقلت له بلغني أنك تحفظ مائة ألف حديث تقدر أن تملي علي ألف حديث من حفظك قال لا ولكن إذا ألقي علي عرفت.
وسئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل حنث فقال: لا، ثم قال أبو زرعة أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد (سورة الإخلاص) وفي المذاكرة ثلاث مائة ألف حديث.
وروي عن محمد بن مسلم قال: كنت عند إسحاق بنيسابور فقال رجل من العراق سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبع مائة ألف حديث وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ ست مائة ألف حديث.
وعن ابن عدي قال:سمعت أبا يعلى الموصلي يقول ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكبر من رؤيته إلا أبا زرعة الرازي فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير كتبنا بانتخابه بواسط ستة آلاف حديث.
وقال الحاكم سمعت الفقيه أبا حامد أحمد بن محمد سمعت أبا العباس الثقفي يقول لما انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري سألوه أن يحدثهم فامتنع فقال: أحدثكم بعد أن حضر مجلسي أحمد وابن معين وابن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو خيثمة قالوا له فإن عندنا غلاما يسرد كل ما حدثت به مجلسا مجلسا قم يا أبا زرعة قال فقام فسرد كل ما حدث به قتيبة فحدثهم قتيبة.
وقال سعيد بن عمرو الحافظ سمعت أبا زرعة يقول دخلت البصرة فحضرت سليمان الشاذ كوني يوم الجمعة فروى حديثا فرددت عليه ثم قال حدثنا ابن أبي غنية عن أبيه عن سعد ابن إبراهيم عن نافع بن جبير قال: [لا حلف في الإسلام] فقلت هذا وهم وهم فيه إسحاق بن سليمان وإنما هو سعد عن أبيه عن جبير قال من يقول هذا قلت حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا أبن أبي غنية فغضب ثم قال لي ما تقول فيمن جعل الأذان مكان الإقامة قلت يعيد قال: من قال هذا قلت الشعبي قال من عن الشعبي قلت حدثنا قبيصة عن سفيان عن جابر عن الشعبي قال ومن غير هذا قلت إبراهيم وحدثنا أبو نعيم حدثنا منصور بن أبي الأسود عن مغيرة عنه قال أخطأت قلت حدثنا أبو نعيم حدثنا جعفر الأحمر حدثنا مغيرة قال أخطأت قلت حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو كدينة عن مغيرة قال أصبت ثم قال أبو زرعة اشتبه علي وكتبت هذه الأحاديث الثلاثة عن أبي نعيم فما طالعتها منذ كتبتها ثم قال وأي شيء غير هذا قلت معاذ بن هشام عن أشعث عن الحسن قال هذا سرقته مني وصدق كان ذاكرني به رجل ببغداد فحفظته عنه.
ثناء العلماء عليه
قال أبو بكر الخطيب: كان إماما ربانيا حافظا متقنا مكثرا جالس أحمد بن حنبل وذاكره وحدث عنه.
وقال ابن أبي شيبة ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.
وقال محمد بن إسحاق الصاغاني: أبو زرعة يشبه بأحمد بن حنبل.
وقال علي بن الحسين بن الجنيد ما رأيت أحدا أعلم بحديث مالك ابن أنس مسندها ومنقطعها من أبي زرعة وكذلك سائر العلوم.
قال ابن أبي حاتم سئل أبي عن أبي زرعة فقال إمام.
قال عمر بن محمد بن إسحاق القطان سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول ما جاوز الجسر أحد أفقه من إسحاق بن راهويه ولا أحفظ من أبي زرعة.
وقال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي فليس له أصل.
قال ابن أبي حاتم سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة هو وأبو حاتم إماما خراسان.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن أحمد سمعت أحمد بن حنبل يدعو الله لأبي زرعة وسمعت عبد الواحد بن غياث يقول ما رأى أبو زرعة مثل نفسه.
ابن عدي سمعت القاسم بن صفوان سمعت أبا حاتم يقول أزهد من رأيت أربعة آدم بن أبي إياس وثابت بن محمد الزاهد وأبو زرعة الرازي وذكر آخر.
قال النسائي: أبو زرعة رازي ثقة.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الحميد القرشي سمعت عبد الله بن أحمد يقول ذاكرت أبي ليلة الحفاظ فقال يا بني قد كان الحفظ عندنا ثم تحول إلى خراسان إلى هؤلاء الشباب الأربعة قلت من هم قال أبو زرعه ذاك الرازي ومحمد بن إسماعيل ذاك البخاري وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي والحسن بن شجاع ذاك البلخي قلت يا أبه فمن أحفظ هؤلاء قال أما أبو زرعة فأسردهم وأما البخاري فأعرفهم وأما عبد الله يعني الدارمي فأتقنهم وأما ابن شجاع فأجمعهم للأبواب.
مواقف من حياته
قال أبو علي جزرة قال لي أبو زرعة مر بنا إلى سليمان الشاذكوني نذاكره قال فذهبنا فما زال يذاكره حتى عجز الشاذكوني عن حفظه فلما أعياه ألقى عليه حديثا من حديث الرازيين فلم يعرفه أبو زرعة فقال سليمان يا سبحان الله حديث بلدك هذا مخرجه من عندكم وأبو زرعة ساكت والشاذكوني يخجله ويري من حضر أنه قد عجز فلما خرجنا رأيت أبا زرعة قد اغتم ويقول لا أدري من أين جاء بهذا فقلت له وضعه في القوت كي تعجز و تخجل قال هكذا قلت نعم فسري عنه.
****
وروي عن ابن عدي سمعت محمد بن إبراهيم المقرئ سمعت فضلك الصائغ يقول دخلت المدينة فصرت إلى باب أبي مصعب فخرج إلي شيخ مخضب وكنت ناعسا فحركني وقال: من أين أنت أي شيء تنام، قلت: أصلحك الله أنا من الريّ، فقال: تركت أبا زرعة وجئتني لقيت مالكا وغيره فما رأت عيناي مثل أبي زرعة.
قال ودخلت على الربيع بمصر فقال من أين قلت من الري قال تركت أبا زرعة وجئت إن أبا زرعة آية وإن الله إذا جعل إنسانا آية أبانه من شكله حتى لا يكون له ثان
***
وقال أبو نعيم بن عدي سمعت ابن خراش يقول كان بيني وبين أبي زرعة موعد أن أبكر عليه فأذاكره فبكرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعد وحده فأجلسني معه يذاكرني حتى أضحى النهار فقلت بيني وبين أبي زرعة موعد فجئت إلى أبي زرعة والناس منكبون عليه فقال لي تأخرت عن الموعد قلت بكرت فمررت بهذا المسترشد فدعاني فرحمته لوحدته وهو أعلى إسنادا منك.
***
وروي عن محمد بن مسلم بن وارة قال: رأيت أبا زرعة في المنام فقلت له ما حالك قال أحمد الله على الأحوال كلها إني حضرت فوقفت بين يدي الله تعالى فقال لي يا عبيد الله لم تذرعت في القول في عبادي قلت يا رب إنهم حاولوا دينك فقال صدقت ثم أتي بطاهر الخلقاني فاستعديت عليه إلى ربي فضرب الحد مائة ثم أمر به إلى الحبس ثم قال ألحقوا عبيد الله بأصحابه وبأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله سفيان ومالك وأحمد بن حنبل.
***
قال أبو الحسن البناني حدثنا محمد بن علي بن الهيثم الفسوي قال لما قدم حمدون البرذعي على أبي زرعة لكتابة الحديث دخل فرأى في داره أواني وفرشا كثيرة وكان ذلك لأخيه قال فهم أن يرجع ولا يكتب فلما كان من الليل رأى كأنه على شط بركة ورأى ظل شخص في الماء فقال أنت الذي زهدت في أبي زرعة أما علمت أن أحمد بن حنبل كان من الأبدال فلما مات أبدل الله مكانه أبا زرعة.
***
وسمعت أبا زرعة يقول إذا انفرد ابن إسحاق بالحديث لا يكون حجة ثم روى له حديث القراءة خلف الإمام وسمعته يقول كان الحوضي وعلي بن الجعد وقبيصة يقدرون على الحفظ يجيؤون بالحديث بتمام وذكر عن قبيصة كأنه يقرأ من كتاب، قلت يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنه جراح، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي ومحمد بن الحسين الفقيه وإبراهيم بن عبد الرحمن الشاهد وست القضاة بنت يحيى قراءة قالوا أخبرتنا كريمة بنت عبد الوهاب القرشية أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد بن محمد الباغبان في كتابه أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده أخبرنا أبي أخبرنا محمد بن الحسين النيسابوري حدثنا أبو زرعة الرازي حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كان من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك، أخرجه مسلم عن أبي زرعه فوافقناه بعلو درجة.
وفاته
قال أبو جعفر محمد بن علي وراق أبي زرعة حضرنا أبا زرعة وهو يحتضر بماشهران وهو في السوق حدثنا بندار وعنده أبو حاتم وابن وارة والمنذر بن شاذان وغيرهم فذكروا حديث التلقين لقنوا موتاكم لا إله إلا الله واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه فقالوا تعالوا نذكر الحديث فقال ابن وارة حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح وجعل يقول ابن أبي ولم يجاوزه وقال أبو حاتم حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح ولم يجاوز والباقون سكتوا فقال أبو زرعة وهو في السوق حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ ابن جبل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [من كان آخر كلامه لا اله إلا الله دخل الجنة وتوفي رحمه الله]
قال أبو الحسين بن المنادي وأبو سعيد بن يونس توفي أبو زرعة الرازي في آخر يوم من سنة أربع وستين ومائتين ومولده كان في سنة مائتين.
وذكر إبراهيم بن حرب العسكري أنه رأى أبا زرعة الرازي بالمنام وهو يؤم الملائكة في السماء الرابعة فقلت بم نلت هذه المنزلة قال برفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه.
ـــــــــــــــ(1/157)
الإمام النسائي صاحب السنن
نسبه ونشأته
هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام ناقد الحديث أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني النسائي صاحب السنن.
ولد بنسا في سنة 215هـ وطلب العلم في صغره فارتحل إلى قتيبة في سنة 230هـ فأقام عنده بمدينة بغلان سنة فأكثر عنه، ومن شيوخه إسحاق بن راهويه وهشام بن عمار ويروي عن رفقائه.
مكانته العلمية
كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف رحل في طلب العلم في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور ثم استوطن مصر ورحل الحفاظ إليه ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
حدث عنه أبو بشر الدولابي وأبو جعفر الطحاوي وأبو علي النيسابوري وغيرهم كثير.
قال الحافظ ابن طاهر سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقلت قد ضعفه النسائي فقال يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم قلت صدق فإنه ليَّن جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم.
قال الحاكم كلام النسائي على فقه الحديث كثير ومن نظر في سننه تحير في حسن كلامه، وقال ابن الأثير في أول جامع الأصول كان شافعيا له مناسك على مذهب الشافعي وكان ورعا متحريا قيل إنه أتى الحارث بن مسكين في زي أنكره عليه قلنسوة وقباء وكان الحارث خائفا من أمور تتعلق بالسلطان فخاف أن يكون عينا عليه فمنعه فكان يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع ولذلك ما قال حدثنا الحارث وإنما يقول قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع.
قال مأمون المصري المحدث خرجنا إلى طرسوس مع النسائي سنة الفداء فاجتمع جماعة من الأئمة عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن إبراهيم مربع وأبو الآذان فتشاوروا من ينتقي لهم على الشيوخ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي وكتبوا كلهم بانتخابه.
وقال أبو طالب أحمد بن نصر الحافظ من يصبر على ما يصبر عليه النسائي عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة يعني عن قتيبة عن ابن لهيعة قال فما حدث بها.
مناقبه وفضائله
قال محمد بن المظفر الحافظ سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه والانبساط في المأكل وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج.
ثناء العلماء عليه
قال الحافظ أبو علي النيسابوري:الإمام في الحديث بلا مدافعة أبو عبد الرحمن النسائي.
وقال أبو الحسن الدار قطني أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره.
وقال الدار قطني كان أبو بكر بن الحداد الشافعي كثير الحديث ولم يحدث عن غير النسائي وقال رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى
قال أبو سعيد ابن يونس في تاريخه كان أبو عبد الرحمن النسائي إماما حافظا ثبتا.
قال أبو عبد الله بن منده الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة البخاري ومسلم وأبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي.
وفاته
روى أبو عبد الله بن مندة عن حمزة العقبي المصري وغيره أن النسائي خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله فقال لا يرضى رأسا برأس حتى يفضل قال فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد ثم حمل إلى مكة فتوفي بها كذا قال وصوابه إلى الرملة.
وقال الدار قطني خرج حاجا فامتحن بدمشق وأدرك الشهادة فقال احملوني إلى مكة فحمل وتوفي بها وهو مدفون بين الصفا والمروة وكانت وفاته في شعبان سنة 303هـ قال وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال.
تراث النسائي
ترك النسائي مجموعة من الكتب أهمها كتاب السنن وهو الذي عرف به وجاء في سير أعلام النبلاء عن كتبه الأخرى " قد صنف مسند علي وكتابا حافلا في الكنى وأما كتاب خصائص علي فهو داخل في سننه الكبير وكذلك كتاب عمل اليوم والليلة وهو مجلد هو من جملة السنن الكبير في بعض النسخ وله كتاب التفسير في مجلد وكتاب الضعفاء وأشياء والذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتنى منه انتخاب أبي بكر بن السني سمعته ملفقا من جماعة سمعوه من ابن باقا بروايته عن أبي زرعة المقدسي سماعا لمعظمه وإجازة لفوت له محدد في الأصل.
ـــــــــــــــ(1/158)
الإمام النّووي
هو صاحب أشهر ثلاثة كتب يكاد لا يخلو منها بيت مسلم وهي " الأربعين النووية " و"الأذكار" و "رياض الصالحين"، وبالرغم من قلة صفحات هذه الكتب وقلة ما بذل فيها من جهد في الجمع والتأليف إلا أنها لاقت هذا الانتشار والقبول الكبيرين بين الناس، وقد عزى كثير من العلماء ذلك، إلى إخلاص النووي رحمه الله، فرب عمل صغير تكبره النية.
فمع سيرة الإمام النووي ومواقف من حياته.
نسَبُه ومَوْلده
هو الإِمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزَام، النووي نسبة إلى نوى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية، ثم الدمشقي الشافعي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
ولد النووي رحمه اللّه تعالى في المحرم 631 هـ في قرية نوى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرّغه لطلب العلم، فاستجاب له.
وفي سنة 649 هـ قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي من جهة الشرق.
وفي عام 651 هـ حجَّ مع أبيه ثم رجع إلى دمشق.
أخلاقُهُ وَصفَاتُه
أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن النووي كان رأساً في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطيب لنا في هذه العجالة عن حياة النووي أن نتوقف قليلاً مع هذه الصفات المهمة في حياته:
الزهد
تفرَّغَ الإِمام النووي من شهوة الطعام واللباس والزواج، ووجد في لذّة العلم التعويض الكافي عن كل ذلك. والذي يلفت النظر أنه انتقل من بيئة بسيطة إلى دمشق حيث الخيرات والنعيم، وكان في سن الشباب حيث قوة الغرائز، ومع ذلك فقد أعرض عن جميع المتع والشهوات وبالغ في التقشف وشظف العيش.
الورع
وفي حياته أمثلة كثيرة تدلُّ على ورع شديد، منها أنه كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: إنها كثيرة الأوقاف، والأملاك لمن تحت الحجر شرعاً، ولا يجوز التصرّف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء.ومن جوَّزَها قال: بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟. واختار النزول في المدرسة الرواحيّة على غيرها من المدارس لأنها كانت من بناء بعض التجّار.
وكان لدار الحديث راتب كبير فما أخذ منه فلساً، بل كان يجمعُها عند ناظر المدرسة، وكلما صار له حق سنة اشترى به ملكاً ووقفه على دار الحديث، أو اشترى كتباً فوقفها على خزانة المدرسة، ولم يأخذ من غيرها شيئاً. وكان لا يقبل من أحد هديةً ولا عطيّةً إلا إذا كانت به حاجة إلى شيء وجاءه ممّن تحقق دينه. وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أُمُّه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يُرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئاً.
مُناصحَتُه الحُكّام
لقد توفرت في النووي صفات العالم الناصح الذي يُجاهد في سبيل اللّه بلسانه، ويقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مخلصٌ في مناصحته وليس له أيّ غرض خاص أو مصلحة شخصية، وشجاعٌ لا يخشى في اللَّه لومة لائم، وكان يملك البيان والحجة لتأييد دعواه.
وكان الناسُ يرجعون إليه في الملمّات والخطوب ويستفتونه، فكان يُقبل عليهم ويسعى لحلّ مشكلاتهم، كما في قضية الحوطة على بساتين الشام:
لما ورد دمشقَ من مصرَ السلطانُ الملكُ الظاهرُ بيبرسُ بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد، زعم له وكيل بيت المال أن كثيراً من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها، أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيءٍ منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه، فلجأ الناس إلى الشيخ في دار الحديث، فكتب إلى الملك كتاباً جاء فيه "وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواعٌ من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثباتٌ لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحلّ عند أحد من علماء المسلمين، بل مَن في يده شيء فهو ملكه لا يحلّ الاعتراض عليه ولايُكلَّفُ إثباته" فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه وأمر بقطع رواتبه وعزله عن مناصبه، فقالوا له: إنه ليس للشيخ راتب وليس له منصب. لما رأى الشيخ أن الكتاب لم يفِدْ، مشى بنفسه إليه وقابله وكلَّمه كلاماً شديداً، وأراد السلطان أن يبطشَ به فصرف اللَّه قلبَه عن ذلك وحمى الشيخَ منه، وأبطلَ السلطانُ أمرَ الحوطة وخلَّصَ اللَّه الناس من شرّها.
حَيَاته العلميّة
تميزت حياةُ النووي العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلاثة أمور: الأول: الجدّ في طلب العلم والتحصيل في أول نشأته وفي شبابه، وقد أخذ العلم منه كلَّ مأخذ، وأصبح يجد فيه لذة لا تعدِلُها لذة، وقد كان جادّاً في القراءة والحفظ، وقد حفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة، واستطاع في فترة وجيزة أن ينال إعجاب وحبَّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعلَه مُعيد الدرس في حلقته. ثم درَّسَ بدار الحديث الأشرفية، وغيرها. الثاني: سعَة علمه وثقافته، وقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، وقد حدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كلََّ يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللمع لابن جنّي في النحو، ودرساً في إصلاح المنطق لابن السكّيت في اللغة، ودرساً في الصرف، ودرساً في أصول الفقه، وتارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة. الثالث: غزارة إنتاجه، اعتنى بالتأليف وبدأه عام 660 هـ، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، وقد بارك اللّه له في وقته وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةُ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، والإِنصافَ في عرض آراء الفقهاء، وما زالت مؤلفاته حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم، والانتفاع بها في سائر البلاد. ويذكر الإِسنوي تعليلاً لطيفاً ومعقولاً لغزارة إنتاجه فيقول: اعلم أن الشيخ محيي الدين رحمه اللّه لمّا تأهل للنظر والتحصيل، رأى أن من المسارعة إلى الخير؛ أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً، وهو غرض صحيح وقصد جميل، ولولا ذلك لما تيسر له من التصانيف ما تيسر له".
ومن أهم كتبه
"شرح صحيح مسلم" و"المجموع" شرح المهذب، و"رياض الصالحين" و"تهذيب الأسماء واللغات"، والروضة روضة الطالبين وعمدة المفتين"، و"المنهاج في الفقه" و"الأربعين النووية" و"التبيان في آداب حَمَلة القرآن" و"الأذكار "حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبّة في الليل والنهار"، و"الإِيضاح" في المناسك.
شيوخه
من شيوخه في الفقه:
عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، تاج الدين، عُرف بالفِرْكاح، توفي سنة 690 هـ. 3. إسحاق بن أحمد المغربي، الكمال أبو إبراهيم، محدّث المدرسة الرواحيّة، توفي سنة 650 هـ. 4. عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي، أبو محمد، مفتي دمشق، توفي سنة 654 هـ. 5. سلاَّر بن الحسن الإِربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي، إمام المذهب الشافعي في عصره، توفي سنة 670 هـ.
ومن شيوخه في الحديث:
إبراهيم بن عيسى المرادي، الأندلسي، ثم المصري، ثم الدمشقي، الإِمام الحافظ، توفي سنة 668 هـ. 2. خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، أبو البقاء، زين الدين، الإِمام المفيد المحدّث الحافظ، توفي سنة 663 هـ. 3. عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، الحموي، الشافعي، شيخ الشيوخ، توفي سنة 662 هـ. 4. عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي، أبو الفرج، من أئمة الحديث في عصره، توفي سنة 682 هـ. 5. عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد الحرستاني، أبو الفضائل، عماد الدين، قاضي القضاة، وخطيب دمشق. توفي سنة 662 هـ. 6. إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليُسْر التنوخي، أبو محمد تقي الدين، كبير المحدّثين ومسندهم، توفي سنة 672 هـ. 7. عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، ثم الدمشقي الحنبلي، المفتي، جمال الدين. توفي سنة 661 هـ. 8. ومنهم: الرضي بن البرهان، وزين الدين أبو العباس بن عبد الدائم المقدسي، وجمال الدين أبو زكريا يحيى بن أبي الفتح الصيرفي الحرّاني، وأبو الفضل محمد بن محمد بن محمد البكري الحافظ، والضياء بن تمام الحنفي، وشمس الدين بن أبي عمرو، وغيرهم من هذه الطبقة.
ومن شيوخه في علم الأصول
أما علم الأصول، فقرأه على جماعة، أشهرهم: عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي، أبو الفتح. توفي سنة 672 هـ.
شيوخه في النحو واللغة
وأما في النحو واللغة، فقرأه على: الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي، أبي العباس، توفي سنة 664 هـ.والفخر المالكي.والشيخ أحمد بن سالم المصري.
مسموعاته
سمع النسائي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبي عوانة الإِسفراييني، وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وشرح السنّة للبغوي، ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب البغدادي، وأجزاء كثيرة غير ذلك.
تلاميذه
وكان ممّن أخذ عنه العلم: علاء الدين بن العطار، وشمس الدين بن النقيب، وشمس الدين بن جَعْوان، وشمس الدين بن القمَّاح، والحافظ جمال الدين المزي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ورشيد الدين الحنفي، وأبو العباس أحمد بن فَرْح الإِشبيلي، وخلائق.
وَفَاته
وفي سنة 676 هـ رجع إلى نوى بعد أن ردّ الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودّعهم، وبعد أن زار والده زار بيت المقدس والخليل، وعاد إلى نوى فمرض بها وتوفي في 24 رجب. ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفاً شديداً، وتوجّه قاضي القضاة عزّ الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره، ورثاه جماعة، منهم محمد بن أحمد بن عمر الحنفي الإِربلي، وقد اخترت هذه الأبيات من قصيدة بلغت ثلاثة وثلاثين بيتاً:
عزَّ العزاءُ وعمَّ الحادث الجلل *** وخاب بالموت في تعميرك الأمل
واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها *** وساءَها فقدك الأسحارُ والأصلُ
وكنت للدين نوراً يُستضاء به مسدَّد *** منك فيه القولُ والعملُ
زهدتَ في هذه الدنيا وزخرفها *** عزماً وحزماً ومضروب بك المثل
أعرضت عنها احتقاراً غير محتفل *** وأنت بالسعي في أخراك محتفل
وهكذا انطوت صفحة من صفحات عَلَمٍ من أعلاَم المسلمين، بعد جهاد في طلب العلم، ترك للمسلمين كنوزاً من العلم، لا زال العالم الإسلامي يذكره بخير، ويرجو له من اللَّه تعالى أن تناله رحماته ورضوانه.
رحم اللّه الإِمام النووي رحمة واسعة، وحشره مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وجمعنا به تحت لواء سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم.
------------------
(1) مستقاة بتصرف من مقدمة كتاب الأذكار والمصادر التالية:
) طبقات السبكي 8/395ـ 400، وتذكرة الحفاظ 4/1470 ـ 1474، والبداية والنهاية 13/278، ومعجم المؤلفين 13/202، و"الاهتمام بترجمة الإِمام النووي شيخ الإِسلام للسخاوي، والنووي؛ للشيخ علي الطنطاوي والإِمام النووي للشيخ عبد الغني الدقر. والمنهاج السوي في ترجمة محيي الدين النووي للسيوطي. طبعة دار التراث الأولى 1409 هـ تحقيق: د. محمد العيد الخطراوي.
ـــــــــــــــ(1/159)
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز نموذج وقدوة للشباب
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ابن شابه أباه في زهده وعفته وورعه، وكان خير ناصح لوالده في كثير من المواقف، وكما كان عبد الملك قدوة لأبناء جيله من الشباب فهو أيضا قدوة لكل شاب يريد أن ينشأ في عبادة ربه ليكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
قال عنه الحافظ أبو نعيم في الحلية: "كان للحق نافذا وللباطل واقذا"
وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت أخير من عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك ومولاه مزاحم.
لم تذكر لنا كتب التاريخ والتراجم مولده ونشأته بقدر ما ذكرت مواقف من حياته في الزهد والعفة والنصيحة فإلى بعضها من خلال هذه السطور.
نصيحته لعمر
لم يستغل عبد الملك منصب أبيه ومكانة أسرته؛ ليعيش حياة كلها ترف وتنعم دون إحساس بأية مسئولية تجاه ما يحدث حوله من أحداث، بل على العكس من ذلك عرف عبد الملك زهدا أكثر من زهد أبيه، وكان نعم الناصح لأبيه، خوفا عليه من عظم المسئولية الملقاة على عاتقه.
روي عن عبد الله بن يونس الثقفي عن سيار أبي الحكم قال: قال ابن لعمر بن عبد العزيز يقال له عبد الملك ـ وكان يفضل على عمر ـ يا أبت أقم الحق ولو ساعة من نهار.
وعن يحيى بن يعلى المحاربي عن بعض مشيخة أهل الشام قال كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك.
وروي عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن عمر قال له يا أبت ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل والله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك قال يا بني إنما أنا أروض الناس رياضة الصعب إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه .
وعن خالد ابن يزيد عن جعونة قال: دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلا لم تمته قال اقعد يا بني ان آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها ولكن أليس حسبي جميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقا وأمت فيه باطلا حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك.
وعن إسماعيل بن أبي حكيم وكان كاتب عمر بن عبد العزيز قال دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال أين وقع لك رأيك فيما ذكر لك مزاحم من رد المظالم. قال: على إنفاذه فرفع عمر يديه ثم قال الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني.
مواقف من حياته
عن هشام بن حسان قال: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم كم ترانا أصبنا من أموال المؤمنين قال قلت يا أمير المؤمنين أتدري ما عيالك قال نعم الله لهم فخرجت من عنده فلقيت ابنه عبد الملك فقلت له هل تدري ما قال أمير المؤمنين قال وما قال قلت قال هل تدري ما أصبنا من أموال المؤمنين قال فما قلت له قال قلت له هل تدري ما عيالك قال نعم الله لهم قال عبد الملك بئس الوزير أنت يا مزاحم ثم جاء يستأذن على أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه فقال له الآذن إنما لأبيك من الليل والنهار هذه الساعة قال لا بد من لقائه فسمع عمر مقالتهما قال من هذا قال الآذن عبد الملك قال ائذن له قال فدخل فقال ما جاء بك هذه الساعة قال شيء ذكره لي مزاحم قال نعم فما رأيك قال رأيي أن تمضيه قال فإني أروح إلى الصلاة فأصعد المنبر فأرده على روؤس الناس قال ومن لك أن تعيش إلى الصلاة قال فمه قال الساعة قال فخرج فنودي في الناس الصلاة جامعة فصعد المنبر فرده على رؤس الناس.
وعن إسماعيل بن أبي حكيم قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه الصلاة جامعة قال فجئت المسجد فإذا عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها وما كان ينبغي لهم أن يعطونها وإني قد رأيت ذلك ليس على فيه دون الله محاسب وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي أقرأ يا مزاحم فجعل مزاحم يقرأ كتابا كتابا ثم يأخذه عمر فيقطعه حتى نودي بالظهر.
***
و عن ميمون ابن مهران قال بعث إلي عمر بن عبد العزيز وإلي مكحول والى أبي قلابة فقال ما ترون في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلما فقال مكحول يومئذ قولا ضعيفا كرهه فقال أرى أن تستأنف فنظر إلي عمر كالمستغيث بي قلت يا أمير المؤمنين ابعث إلى عبد الملك فأحضره فإنه ليس بدون من رأيت قال يا حارث ادع لي عبد الملك فلما دخل عليه عبد الملك قال يا عبد الملك ما ترى في هذه الأموال التي قد أخذت من الناس ظلما قد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها قال أرى أن تردها فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها.
***
وقال إسماعيل بن أبي حكيم قال غضب عمر بن عبد العزيز يوما فاشتد غضبه و كان فيه حدة وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حاضر فلما سكن غضبه قال يا أمير المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك وموضعك الذي وضعك الله به وما ولاك من أمر عباده يبلغ بك الغضب ما أرى قال كيف قلت قال فأعاد عليه كلامه فقال أما تغضب يا عبد الملك فقال ما تغني سعة جوفي إن لم أردد فيها الغضب حتى لا يظهر منه شيء أكرهه قال وكان له بطين.
***
عن ابن أبي عبلة قال جلس عمر يوما للناس فلما انتصف النهار ضجر وكل ومل فقال للناس مكانكم حتى أنصرف إليكم فدخل ليستريح ساعة فجاء ابنه عبد الملك فسأل عنه فقالوا دخل فاستأذن عليه فأذن له فلما دخل قال يا أمير المؤمنين ما أدخلك قال أردت أن أستريح ساعة قال أو أمنت الموت أن يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرونك وأنت محتجب عنهم فقام عمر من ساعته وخرج إلى الناس .
وفاته
توفي عبد الملك وهو في ريعان الشباب وحزن عليه عمر حزنا شديدا، وروي أبو نعيم أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أصابه الطاعون في خلافة أبيه فمات قال والله ما من أحد أعز علي من عمر ولأن أكون سمعت بموته أحب إلي من أن أكون كما رأيته.
وقد رزقه الله بصيرة نافذة حتى أنه شعر بدنو أجله، فلما جاءت امرأته إليه وقد ترجلت ولبست إزارا ورداءا ونعلين فلما رآها قال اعتدى اعتدى.
وروي عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حيث دفن ابنه عبد الملك قال لما دفنه وسوى عليه قبره بالأرض وضعوا عنده خشبيتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ثم جعل قبره بينه وبين القبلة واستوى قائما وأحاط به الناس فقال رحمك الله يا بني لقد كنت بارا بأبيك والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسرورا بك ولا والله ما كنت قط أشد بك مسرورا ولا أرجي بحظي من الله فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمر الله والحمد لله رب العالمين ثم انصرف.
وقال علي ابن حصين: شهدت عمر تتابعت عليه مصائب مات أخ له ثم مات مزاحم ثم مات عبد الملك فلما مات عبد الملك تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لقد دفعته إلى النساء في الخرق فما زلت أرى فيه السرور وقرة العين إلى يومي هذا فما رأيته في أمر قط أقر لعيني من أمر رأيته فيه اليوم.
وروي أن عمر كتب في رثاء عبد الملك إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن في شأن ابنه عبد الملك حين توفي أما بعد فإن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره كتب على خلقه حين خلقهم الموت وجعل مصيرهم إليه فقال فيما أنزل من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حقه أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون ثم قال لنبيه عليه السلام {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} ثم قال منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى فالموت سبيل الناس في الدنيا لم يكتب الله لمحسن ولا لمسيء فيها خلدا ولم يرض ما أعجب أهلها ثوابا لأهل طاعته ولم يرض ببلائها نقمة لأهل معصيته فكل شيء منها أعجب أهلها أو كرهوا منه شيئا متروك. لذلك خلقت حين خلقت وسكنت منذ سكنت ليبلو الله فيها عباده أيهم أحسن عملا، فمن قدم عند خروجه من الدنيا إلى أهل طاعته ورضوانه من أنبيائه وأئمة الهدى الذين أمر الله نبيه أن يقتدي بهداهم خالد في دار المقامة من فضله لا يمسه فيها نصب ولا يمسه فيها لغوب، ومن كانت مفارقته الدنيا إلى غيرهم وغير منازلهم فقد قابل الشر الطويل وأقام على مالا قبل له به، أسأل الله برحمته أن يبقينا ما أبقانا في الدنيا مطيعين لأمره متبعين لكتابه، وجعلنا إذا خرجنا من الدنيا إلى نبينا ومن أمرنا أن نقتدي بهداه من المصطفين الأخيار وأسأله برحمته أن يقينا أعمال السوء في الدنيا والسيئات يوم القيامة ثم إن عبد الملك ابن أمير المؤمنين كان عبدا من عباد الله أحسن الله إليه في نفسه وأحسن إلى أبيه فيه أعاشه الله ما أحب أن يعيشه ثم قبضه اليه حين أحب أن يقبضه وهو فيما علمت بالموت مغتبط يرجو فيه من الله رجاء حسنا فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي وإحسانه إلى ونعمته علي وقد قلت فيما كان من سبيله والحمد لله ما رجوت به ثواب الله وموعده الصادق من المغفرة إنا لله و إنا اليه راجعون ثم لم أجد والحمد لله بعده في نفسي إلا خيرا من رضى بقضاء الله واحتساب لما كان من المصيبة فحمدا لله على ما مضى وعلى ما بقي وعلى كل حال من أمر الدنيا والآخرة أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمك من قضاء الله فلا أعلم ما نيح عليه في شيء من قبلك ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس ولا رخصت فيه لقريب من الناس ولا لبعيد واكفني ذلك بكفاية الله ولا ألومك فيه إن شاء الله والسلام عليك.
ـــــــــــــــ(1/160)
محمد زاهد الكوثري
المولود سنة 1296هـ -والمتوفى سنة 1371هـ
للإمام الشيخ محمد أبو زهرة
(وقد وصف الكوثريَّ بالإِمامة 11 مرة، وترضَّى عنه 10مرات، وقال: إنه كان من المجددين بالمعنى الحقيقي لكلمة التجديد).
قال رحمه الله :
1ـ منذ أَكثر من عام فَقَدَ الإِسلامُ إماماً من أَئمة المسلمين الذين عَلَوْا بأَنفسهم عن سَفْسَافِ هذه الحياة، واتجهوا إلى العلم اتجاهَ المؤمن لعبادة ربه، ذلك بأَنه عَلِمَ أَن العلم عبادةٌ من العبادات يَطلُبُ العالمُ به رضا الله لا رضا أَحَدٍ سواه، لا يَبْغِي به عُلُوّاً في الأَرض ولا فساداً، ولا استطالةً بفضلِ جاه، ولا يُريدُه عَرَضاً من أَعراض الدنيا، إِنما يَبغِي به نُصرةَ الحق لإِرضاءِ الحق جل جلاله. ذلكم هو الإِمام الكوثري، طيَّب الله ثراه، ورَضيَ عنه وأَرضاه.
لا أَعرفُ أَنَّ عالماً مات فخَلاَ مكانُه في هذه السنين، كما خلا مكانُ الإمام الكوثري، لأَنه بَقِيَّةُ السلفِ الصالح الذين لم يجعلوا العِلْمَ مُرتَزَقاً ولا سُلَّماً لغاية، بل كان هو منتَهَى الغاياتِ عندهم، وأَسمَى مَطارح أَنظارِهم، فليس وراءَ علم الدين غايةٌ يتغيَّاها مؤمن، ولا مُرْتَقىً يَصِلُ إِليه عالم.
لقد كان رَضيَ الله عنه عالماً يَتحقَّقُ فيه القولُ المأثورُ «العلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ»، وما كان يَرى تلك الوِراثةَ شَرَفاً فقط، ليفتَخِرَ به ويَستطِيلَ على الناس، إِنما كان يَرى تلك الوراثة جهاداً في إِعلان الإِسلام، وبيانِ حقائقِه، وإِزالةِ الأَوهام التي تَلحَقُ جوهرَهُ، فيُبْدِيه للناس صافياً مُشْرِقاً منيراً، فيَعْشُو الناسُ إِلى نُورِه، ويهتدون بهديه، وأنَّ تلك الوِراثَةَ تتقاضَى العالَمِ أَنْ يُجاهِدَ كما جاهد النبيُّون، ويَصبِرَ على البأساءِ والضراءِ كما صَبَرُوا، وأَن يَلْقَى العَنَتَ ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لَقُوا، فليسَتْ تلك الوراثةُ شَرَفاً إلاَّ لمن أَخَذَ في أَسبابها، وقام بحقها، وعَرَف الواجب فيها، وكذلك كان الإمامُ الكوثري رَضِيَ الله عنه.
2ـ إِنَّ ذلك الإمامَ الجليل لم يكن من المنتحلين لمذهبٍ جديدٍ، ولا من الدعاةِ إلى أَمرٍ بَدِيءٍ لم يُسْبَق به، ولم يكن من الذين يَسِمُهم الناسُ اليومَ بسِمَةِ التجديد، بل كان يَنفِرُ منهم، فإنه كان مُتَّبِعاً، ولم يكن مُبْتَدِعاً، ولكني مع ذلك أَقول: إِنه كان من المجدِّدين بالمعنى الحقيقي لكلمةِ التجديد، لأَنَّ التجديد ليس هو ما تعارَفَهُ الناسُ اليوم من خَلْعٍ للرِّبْقَةِ ورَدٍّ لعهدِ النبوَّةِ الأُولى، إنما التجديد هو أَن يُعادَ إِلى الدين رَوْنَقُه ويُزالَ عنه ما عَلِقَ به من أَوهام، ويُبيَّنَ للناس صافياً كجوهرِه، نقيّاً كأَصلِه، وإِنه لمن التجديد أن تَحيا السُّنَّةُ وتَمُوتَ البدعةُ ويقومَ بين الناس عَمُودُ الدين.
ذلك هو التجديدُ حقاً وصدقاً، ولقد قام الإمامُ الكوثري بإِحياءِ السنة النبوية، فكَشَفَ عن المخبوءِ بين ثنايا التاريخ من كُتُبِها، وبيَّنَ مناهجَ رُواتِها، وأَعلَنَ للناس في رَسَائِلَ دَوَّنها وكُتُبٍ أَلَّفَها سُنَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم، من أَقوالٍ وأَفعالٍ وتقريرات. ثم عَكَفَ على جهودِ العلماءِ السابقين الذين قاموا بالسنة ورَعوْها حَقَّ رعايتها، فنَشَر كتبَهم التي دُوِّنَتْ فيها أَعمالُهم لإِحياءِ السُّنَّة: والدِّيْنُ قد أُشْرِبَتْ النفوسُ حُبَّهُ، والقلوبُ لم تُرنَّقْ بفسادٍ، والعلماءُ لم تَشغلهم الدنيا عن الآخرةِ، ولم يكونوا في رِكابِ الملوك
3ـ لقد كان الإِمامُ الكوثري عالماً حقاً، عَرَف عِلمَهُ العلماءُ، وقليلٌ منهم من أَدرَك جهادَه، ولقد عَرَفتُهُ سِنينَ قبلَ أَن أَلقاه، عَرَفتُهُ في كتاباتِهِ التي يُشرِقُ فيها نُورُ الحق، وعَرَفتُهُ في تعليقاتِهِ على المخطوطاتِ التي قام على نشرها، وما كان والله عَجَبِي من المخطوط بقَدْرِ إِعجابي بتعليقِ من عَلَّقَ عليه، لقد كان المخطوط أَحياناً رسالةً صغيرة ولكنْ تعليقات الإِمام عليه تجعلُ منه كتاباً مقروءاً، وإِنَّ الاستيعابَ والاطِّلاعَ واتِّساعَ الأُفق، تَظهرُ في التعلُّق بادية العيان، وكلُّ ذلك مع طَلاَوة عبارة، ولطفِ إِشارة، وقُوَّةِ نقد، وإِصابةٍ للهدف، واستيلاءٍ على التفكير والتعبير، ولا يمكنُ أَن يجولَ بخاطر القارىءِ أَنه كاتبٌ أَعجمي وليس بعربي مُبِين.
ولقد كان لفَرْطِ تواضُعِهِ لا يَكتُبُ مع عنوان الكتابِ عَمَلَهُ الرسميَّ الذي كان يتولاه في حكم آل عثمان، لأَنه ما كان يَرى رَضِيَ الله عنه أَنَّ شَرَفَ العالِمِ يَنالُهُ مِن عَمَلِهِ الرسمي وإِنما ينالُهُ من عملِهِ العِلْمي، فكان بعضُ القارئين ـ لسلامةِ المبنى مع دقة المعنى ولإشراقِ الديباجةِ وجزالةِ الأُسلوب ـ لا يَجُولُ بخاطره أَنَّ الكاتبَ تُركيٌّ بل يعتقد أَنه عربي، وُلِدَ عربياً، وعاش عربياً، ولم تُظِلَّهُ إِلاَّ بيئةٌ عربية، ولكن لا عجَبَ، فإِنه كان تركياً في سُلالتِهِ وفي نشأَتِهِ، وفي حياتِهِ الإنسانيةِ في المدة التي عاشها في الآستانة، أَما حياتُه العلمية فقد كانت عربيةً خالصة، فما كان يقرأ إِلاَّ عربياً، وما ملأَ رأْسَهُ المُشْرِقَ إِلاَّ النورُ العربيُّ المحمديُّ، ولذلك كان لا يكتُبُ إِلاَّ كتابةً نقيةً خاليةً من كل الأَساليب الدخيلة في المنهاج العربي، بل كان يَختارُ الفصيحَ من الاستعمال الذي لم يَجرِ خِلافٌ حولَ فصاحتِه، مما يَدلُّ على عِظَم اطِّلاعِهِ على كتب اللغة متناً ونحواً وبلاغةً، ثم هو فوقَ ذلك يَقْرِضُ الشعرَ العربي فيكونُ منه الحَسَنُ.
4ـ لقد اختَصَّ رَضِيَ الله عنه بمزايا رَفَعَتْهُ وجعَلَتْهُ قُدوةً للعالِم المسلم، لقد علا بالعلم عن سُوْق الاتجار، وأَعلَمَ الخافِقَين أَنَّ العالِمَ المسلم وطنُهُ أَرضُ الإِسلام، وأَنه لا يَرضَى بالدَّنِيَّة في دِينِه، ولا يأخذُ من يُذل الإِسلام بهوادة، ولا يجعل لغير الله والحقِّ عنده إرادة، وأَنه لا يَصِحُّ أَن يعيشَ في أَرضٍ لا يستطيع فيها أَن يَنطِقَ بالحق، ولا يُعلِيَ فيها كلمةَ الإِسلام، وإِن كانت بلَدَهُ الذي نشأَ فيه، وشَدَا وترعرَعَ في مَغَانِيه، فإِنَّ العالِمَ يَحيَا بالروح لا بالمادة، وبالحقائِق الخالدةِ، لا بالأَعراضِ الزائلة. وحَسْبُهُ أَن يكون وجيهاً عند الله وفي الآخِرة، وأَما جاهُ الدنيا وأَهلِها فَظِلٌّ زائل، وعَرَضٌ حائل.
5ـ وإِنَّ نظرةً عابرةً لحياة ذلك العالم الجليل، تُرينا أَنه كان العالِمَ المخلِصَ المجاهدَ الصابرَ على البأساء والضرَّاء، وتَنقُّله في البلاد الإِسلامية والبلاءُ بلاء، ونشره النورَ والمعرفةَ حيثما حَلَّ وأَقام. ولقد طَوَّفَ في الأَقاليم الإِسلاميةِ فكان له في كل بلد حَلَّ فيه تلاميذُ نَهَلُوا من منهلِهِ العذب، وأَشرقَتْ في نفوسهم رُوحُه المخلصة المؤمنة، يُقدِّمُ العلم صَفْواً لا يُرنِّقُه مِراءٌ ولا التواء، يَمضي في قولِ الحق قُدُماً لا يَهمُّه رَضِيَ الناسُ أَو سَخِطُوا ما دام الذي بينه وبين الله عامراً.
ويظهرُ أَنّ ذلك كان في دمِهِ الذي يَجرِي في عُرُوقِه، فهو في الجهادِ في الحق منذ نشأَ، وإِنَّ في أُسرته لَتَقْوَى وقُوَّةَ نَفْسٍ وصبرٍ واحتمالٍ للجهاد، إِنه من أسرة كانت في القُوقاز، حيث المَنَعةُ والقُوَّة وجَمَالُ الجسمِ والروحِ، وسلامةُ الفِكر وعُمقُه.
ولقد انتقل أَبوه إلى الآستانة فوُلِدَ على الهُدَى والحق، فدَرَس العلومَ الدينيةَ حتى نال أَعلى درجاتِها في نحو الثامنةِ والعشرين من عمره، ثم تدرَّجَ في سُلَّم التدريس حتى وَصَل إلى أَقصى درجاته وهو في سن صغيرة، حتى إِذا ابتُلِيَ بالذين يُريدون فَصْلَ الدنيا عن الدين، لتُحْكَمَ الدنيا بغير ما أَنْزَل الله، وقَفَ لهم بالمرصاد، والعُوْدُ أَخضَرُ، والآمالُ متفتحة، ومَطامحُ الشباب متحفِّزة، ولكنه آثَرَ دِينَه على دُنياهم، وآثَرَ أَنْ يُدافِعَ عن البقايا الإِسلامية على أَن يكون في عيش ناعم، بل آثَرَ أن يكون في نَصَبٍ دائم فيه رضا الله على أن يكون في عيشٍ رافهٍ وفيهِ رِضَا الناسِ ورِضَا من بيدِهم شُؤونُ الدنيا، لأَنَّ إِرضاءَ الله غايةُ الإِيمان.
6ـ جاهَدَ الاتحاديين الذين كان بيدهم أَمرُ الدولة لما أَرادوا أَن يُضيِّقُوا مَدَى الدراسات الدينية ويُقصِّرُوا زمنَها، وقد رأَى رَضِيَ الله عنه في ذلك التقصيرِ نقصاً لأَطرافِها، فأَعمَلَ الحِيلةَ ودبَّر وقدَّر، حتى قَضىَ على رغبتهم، وأَطال المدةَ التي رغبوا في تقصيرها، ليتمكن طالبُ علوم الإِسلام من الاستيعاب وهَضْمِ العلوم، وخصوصاً بالنسبةِ لأَعجميٍّ يتعلم بلسانٍ عربيٍّ مُبين.
7ـ وهو في كل أَحواله العالِمُ النَّزِهُ الأَنِفُ الذي لا يَعْتَمِدُ على ذي جاه في ارتفاع، ولا يتملَّقُ ذا جاه لنيل مطلبٍ أَو الوصولِ إلى غايةٍ مهما شَرُفَتْ، فإِنه رَضِيَ الله عنه كان يَرى أَن معاليَ الأُمور لا يُوصِلُ إِليها إِلاَّ طريقٌ سليم، ومِنهاجٌ مستقيم، ولا يُمكِنُ أَن يصِلَ كريمٌ إلى غايةٍ كريمة إِلاَّ من طريقٍ يَصُونُ النفسَ فيها عن الهَوَان، فإِنه لا يُوصِلُ إِلى شريفٍ إِلاَّ شرِيفٌ مِثلُه، ولا شَرَفَ في الاعتماد على ذوي الجاه في الدنيا، فإِنَّ من يعتمدُ عليهم لا يكون عند الله وجيهاً.
8ـ سَعَى رَضِيَ الله عنه بجِدِّهُ وعَمَلِه في طريق المعالي حتى صار وكيلَ مشيخةِ الإِسلام في تركيا، وهو ممن يَعرِفُ للمنصِب حقَّه، لذلك لم يُفرِّط في مصلحةٍ إِرضاءً لذي جاهٍ مهما يكن قوياً مسيطراً، وقَبِلَ أَن يُعزَلَ من منصبِهِ في سبيلِ الاستمساك بالمصلحة، والاعتزالُ في سبيلِ الحقِّ خير من الامتثالِ للباطل.
9ـ عُزِلَ الشيخُ عن وكالة المشيخة الإِسلامية، ولكنه بَقِيَ في مجلس وكالتها الذي كان رئيساً له، وما كان يَرى غَضّاً لمقامِهِ أَن يَنزِلَ من الرياسةِ إِلى العضوية ما دام سَببُ النزول رفيعاً، إِنه العُلوُّ النفسيُّ لا يمنَعُ العاملَ من أَن يَعمَلَ رئيساً أَو مرؤوساً، فالعِزَّةُ تُستمَدُّ من الحق في ذاتِهِ، ويُباركها الحقُّ جل جلاله.
10ـ ولكنَّ العالِمَ الأَبيَّ العَفَّ التَّقِيَّ يُمتحَنُ أَشدَّ امتحان، إِذ يَرى بلدَهُ العزيزَ وهو دار الإِسلام الكبرى، ومَناطُ عِزَّتِه، ومَحطُّ آمالِ المسلمين: يَسُودُهُ الإِلحاد، ثم يُسيطِرُ عليه مَن لا يرجو لهذا الدين وقاراً، ثم يُصبحُ فيه القابضُ على دِينه كالقابضِ على الجَمْر، ثم يَجِدُ هو نَفْسَهُ مقصوداً بالأَذَى، وأَنه إِن لم يَنْجُ أُلقِيَ في غَياباتِ السجن، وحِيلَ بينه وبين العِلم والتعليم.
عندئذٍ يَجِدُ الإِمام نفسَه بين أمورٍ ثلاثة: إِما أَن يَبقَى مأسوراً مقيَّداً، يَنطفىءُ علمُهُ في غياباتِ السجون، وإِنَّ ذلك لعزيزٌ على عالمٍ تَعوَّدَ الدرسَ والإِرشادَ، وإِخراجَ كنوزِ الدِّين ليُعلِّمها النَّاسَ عن بيّنة، وإِما أَن يَتملَّقَ ويُداهِنَ ويُمالىء، ودون ذلك خَرْطُ القَتاد بل حَزُّ الأَعناق، وإِما أَن يُهاجِرَ وبلادُ الله واسعة، وتذكَّر قولَه تعالى: {ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها} [النساء: 97].
11ـ هاجَرَ إِلى مصر ثم انتَقَل إِلى الشام، ثم عاد إِلى القاهرة، ثم رجع إِلى دمشق مرةً ثانية، ثم أَلقَى عصا التسيار نهائياً بالقاهرة، وهو في رحلاته إِلى الشام ومُقامِهِ في القاهرة كان نُوراً، وكان مَسْكَنُهُ الذي كان يَسكُنُه ضَؤُلَ أَو اتَّسَعَ مَدْرَسَةً يَأوِي إليها طلابُ العلم الحقيقي، لا طلابُ العلم المَدْرَسِي، فيَهتدِي أولئك التلاميذُ إِلى ينابيع المعرفة من الكُتُبِ التي كُتِبَتْ وسُوقُ العلوم الإِسلاميةُ رائجةٌ ونفوسُ العلماءِ عامرةٌ بالإِسلام، فرَدَّ عقولَ أولئك الباحثين إليها ووجَّهَهم نحوَها، وهو يُفسِّرُ المُغْلَقَ لهم، ويَفِيضُ بغزير علمِه وثمارِ فِكرِه.
12ـ وإِنَّ كاتبَ هذه السطور لم يَلْقَ الشيخ إِلاَّ قَبْلَ وفاتِهِ بنحوِ عامين، وقد كان اللقاءُ الرُّوحيُّ من قَبْلِ ذلك بسِنين، عندما كنت أَقرأُ كتاباتِه، وأَقرأُ تعليقَه على ما يُخرِجُ من مخطوط، وأَقرأُ ما أَلَّف من كتب، وما كنتُ أَحسَبُ أَنَّ لي في نفسِ ذلك العالم الجليل مِثلَ مالَهُ في نفسي، حتى قرأتُ كتابه «حُسْنُ التقاضي في سيرة الإِمام أبي يوسف القاضي» فوجدتُه رَضيَ الله عنه خَصَّني عند الكلام في الحِيَلِ المنسوبةِ لأَبي يوسف بكلمةِ خير، وأَشهَدُ أَني سمعتُ ثناءً من كُبَراءَ وعُلَماء، فَمَا اعتززتُ بثناءٍ كما اعتززتُ بثناءِ ذلك الشيخِ الجليل، لأَنه وِسامٌ عِلْميٌ ممن يَملِكُ إِعطاءَ الوِسامِ العلمِي.
سَعيتُ إِليهِ لأَلقاه، ولكني كنتُ أَجهَلُ مُقامَهُ، وإِني لأَسِيرُ في مَيْدانِ العَتَبةِ الخضراءِ، فوجدتُ شيخاً وجيهاً وقوراً، الشيبُ ينبثقُ منه كنُورِ الحق، يَلْبَسُ لباسَ علماءِ التُّرك، قد التَفَّ حولَهُ طلبةٌ من سُوْرِيَة، فوَقَع في نفسي أنه الشيخُ الذي أَسعَى إليه. فما أَنْ زايَلَ تلاميذَهُ حتى استفسرتُ من أَحدِهم: من الشيخ؟ فقال: إِنه الشيخُ الكوثري، فأَسرعتُ حتى التقيتُ به لأَعرِف مُقامَه، فقدَّمتُ إِليه نفسي، فوجدتُ عنده من الرغبة في اللقاءِ مِثلَ ما عندي، ثم زرتُه فعَلِمت أَنه فَوْقَ كُتُبه، وفَوْقَ بُحوثه، وأَنه كَنْزٌ في مِصر.
13ـ وهنا أُريد أَن أُبديَ صفحةً من تاريخ ذلك الشيخ الإِمام، لم يعرفها إِلاَّ عددٌ قليل:
لقد أَردتُ أَن يَعُمَّ نفعُه، وأَن يتمكَّن طلابُ العلم من أَن يَرِدوا وِرْدَهُ العذب، وينتفعوا من مَنْهلِهِ الغزير، لقد اقتَرَح قسمُ الشريعة على مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة: أَن يُندَبَ الشيخُ الجليل للتدريس في دبلوم الشريعة، من أَقسام الدراسات العليا بالكلية، ووافَقَ المجلسُ على الاقتراح بعد أَن عَلِمَ الأَعضاءُ الأَجلاءُ مكانَ الشيخ من علوم الإِسلام، وأَعمالَهُ العلميةَ الكبيرة.
وذهبتُ إلى الشيخ مع الأُستاذ رئيس قسم الشريعة إِبَّانَ ذاك، ولكننا فوجئنا باعتذار الشيخ عن القبول بمَرَضِهِ ومَرَضِ زوجِه، وضَعْفِ بصره، ثم يُصِرُّ على الاعتذارِ، وكلَّما أَلححنا في الرجاءِ لَجَّ في الاعتذار، حتى إِذا لم نجد جَدْوَى رجوناه في أَن يُعاوِدَ التفكيرَ في هذه المُعاونة العلمية التي نَرْقُبُها ونتمنَّاها، ثم عُدتُ إِليه منفرداً مرةً أُخرى، أُكرِّرُ الرجاءَ وأُلحف فيه، ولكنه في هذه المرةِ كان معي صريحاً، قال الشيخ الكريم... إِنَّ هذا مكانُ علمٍ حقاً، ولا أُريدُ أَن أُدرِّسَ فيه إِلاَّ وأَنا قَوِيٌّ أُلقِي درُوسي على الوجه الذي أُحِبُّ، وإِنَّ شيخوختي وضَعْفَ صحتي وصِحَّةِ زوْجِي، وهي الوحيدةُ في هذه الحياة، كلُّ هذا لا يُمَكِّننِي من أَداءِ هذا الواجبِ على الوجهِ الذي أَرضاه.
14ـ خرجتُ من مجلس الشيخ وأَنا أقولُ أَيُّ نَفْسٍ عُلْوِيَّةٍ كانت تُسجَنُ في ذلك الجسم الإِنساني، إِنها نفس الكوثري.
وإنَّ ذلك الرجلَ الكريمَ الذي ابتُلِيَ بالشدائد، فانتَصَر عليها، ابتُلِيَ بفقدِ الأَحبة، ففَقَدَ أَولادهُ في حياته، وقد اخترمَهُم الموتُ واحداً بعدَ الآخر، ومع كل فقدٍ لَوْعَة، ومع كل لوعة نُدوبٌ في النفسِ وأَحزانٌ في القلب. وقد استطاع بالعلم أَن يَصبِرَ وهو يقول مقالةَ يعقوب «فصَبْرٌ جميلٌ واللهُ المُستَعانُ» ولكنَّ شريكتَه في السرَّاءِ والضراءِ أَو شريكتَهُ في بأساءِ هذه الحياة بعدَ توالي النكبات، كانت تُحاوِلُ الصبرَ فتَتَصبَّرُ، فكان لها مُواسياً، ولكُلُومها مُداوياً، وهو هو نفسُه في حاجةٍ إِلى دَوَاءٍ.
ولقد مَضىَ إِلى ربه صابراً شاكراً حامداً، كما يَمضي الصِّدِّيقُون الأَبرار، فرَضيَ الله عنه وأَرضاه.
محمد أبو زهرة
ـــــــــــــــ(1/161)
مسلم بن الحجاج القشيري
هو الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق، أبوالحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ولد بمدينة نيسابور سنة 206هـ وتوفى بها سنة 261 هـ . رحل إلى الحجازومصر والشام والعراق في طلب الحديث ، وكان أحد أئمة الحديث وحفاظه ، اعترف علماء عصره ومن بعدهم له بالتقدم والإتقان في هذا العلم ، من شيوخه الكبار إسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، وسعيد بن منصور ، وغيرهم ، ومن الذين رووا عنه الترمذي وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة .
و كان إماماً جليلاً مهاباً ، غيوراً على السنة ذابَّاً عنها ، تتلمذ على البخاري وأفاد منه ولازمه ، وهجر من أجله من خالفه ، وكان في غاية الأدب مع إمامه البخاري حتى قال له يوماً : دعني أقبل رجلك يا إمام المحدثين وطبيب الحديث وعلله .
ثناء العلماء عليه :
أثنى أئمة العلم على الإمام مسلم ، وقدمه أبو زرعة و أبو حاتم على أئمة عصره . وقال شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء : كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم ، ما علمته إلا خيراً ، وقال مسلمة بن قاسم : ثقة جليل القدر من الأئمة ، و قال النووي: أجمعوا على جلالته وإمامته ، وعلو مرتبته وحذقه في الصنعة وتقدمه فيها .
مؤلفاته المطبوعة
* صحيح مسلم
* التمييز، وهو كتاب في علل الحديث
* الكنى والأسماء
* المنفردات والوحدان
وله كتب مفقودة، منها :
* طبقات التابعين ورجال عروة بن الزبير
* أولاد الصحابة
* الإخوة والأخوات
* الأقران،
* أوهام المحدثين
* ذكر أولاد الحسين
* مشايخ مالك
* مشايخ الثوري
* ومشايخ شعبة
وفاته
ظل الإمام مسلم بن الحجاج بنيسابور يقوم بعقد حلقات العلم التي يؤمها طلابه والمحبون لسماع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر تلاميذه الذين رحلوا إليه أبو عيسى الترمذي، ويحيى بن صاعد، وابن خزيمة وأبو بكر محمد بن النضر الجارودي وغيرهم، كما شغل وقته بالتأليف والتصنيف حتى إن الليلة التي توفي فيها كان مشغولا بتحقيق مسألة علمية عرضت له في مجلس مذاكرة، فنهض لبحثها وقضى ليله في البحث، لكنه لقي ربه قبل أن ينبلج الصباح في 25 من رجب 261 هـ = 6 من مايو 875م، وهو في الخامسة والخمسين من عمره، ودفن يوم الإثنين في مقبرته بنصر آباد في نيسابور
كتابه الصحيح :
صنَّف الإمام مسلم كتبًا كثيرة ، وأشهرها صحيحه الذي صنفه في خمس عشرة سنة ، وقد تأسى في تدوينه بالبخاري رحمه الله فلم يضع فيه إلا ما صح عنده .
وقد جمع مسلم في صحيحه روايات الحديث الواحد في مكان واحد لا براز الفوائد الاسنادية في كتابه ، ولذلك فإنه يروي الحديث في أنسب المواضع به ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع، بخلاف البخاري فإنه فرق الروايات في مواضع مختلفة ، فصنيع مسلم يجعل كتابه أسهل تناولاً ، حيث تجد جميع طرق الحديث ومتونه في موضع واحد ، وصنيع البخاري أكثر فقهًا ؛ لأنه عنى ببيان الأحكام ، واستنباط الفوائد والنكات ، مما جعله يذكر كل رواية في الباب الذي يناسبها ، ففرق روايات الحديث ، ويرويه في كل موطن بإسناد جديد أيضا.
وكتاب صحيح مسلم مقسم إلى كتب ، وكل كتاب يقسم إلى أبواب ، وعدد كتبه 54 كتابًا ، أولها كتاب الإيمان وآخرها كتاب التفسير .
وعدد أحاديثه بدون المكرر نحو 4000 حديث ، وبالمكرر نحو 7275 حديثًا .
من شروح صحيح الإمام مسلم :
(1) المنهاج في شرح الجامع الصحيح للحسين بن الحجاج:
وهو شرح للإمام النووي الشافعي المتوفى سنة ( 676هـ) ، وهو شرح وسط جمع عدة شروح سبقته ، ومن أشهر شروح صحيح مسلم.
(2) المعلم بفوائد كتاب صحيح مسلم:وهو شرح المازري أبي عبد الله محمد بن علي المتوفى سنة 536 هـ .
(3) إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم : وهو شرح للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي إمام المغرب المالكي المتوفى سنة ( 544هـ).
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: شرح أبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي المتوفى سنة ( 611هـ) .
(5) إكمال إكمال المعلم : وهو شرح الأبي المالكي وهو أبو عبد الله محمد بن خليفة من أهل تونس ـ والأبي نسبة إلى " أبة " من قرى تونس ـ المتوفى سنة ( 728هـ) ، جمع في شرحه بين المازري وعياض والقرطبي والنووي .
(7) الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج :وهو شرح جلال الدين السيوطي المتوفى عام (911هـ).
(6) شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي المتوفى (926هـ).
(5 ) شرح الشيخ علي القاري الحنفي نزيل مكة المتوفى سنة (1016هـ) وشرحه في أربع مجلدات .
ـــــــــــــــ(1/162)
الحافظ البيهقي
بقلم » الشيخ نايف هاشم الدعيس
ولد أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله[1] بن موسى البيهقي في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة[2] بقرية - خسرو جرد[3] - وعاش أربعاً وسبعين سنة وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في نيسابور[4] وحمل[5] منها إلى ( بيهق )[6] فدفن بها.
وقد عاش في زمن عاصف بالفتن التي ضربت أمواجها بلاد الإسلام فابتلى المسلمون بلاءًا عظيماً وصاروا طوائف وأحزاباً يطعن بعضهم في بعض حتى طمع فيهم أعداؤهم وهاجم[7] ملك الروم بلاد الشام بجيوشه الجرارة على حين غفلة من المسلمين.
ولو لا ما قدر في كتاب لجاز البلاد والأموال وصدّع الصرح الشامخ الذي بناه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وفي الوقت الذي يهاجم الروم فيه الشام تحاصر مدينة البصرة ويباع[8] نصف مدينة ( الرها ) بعشرين ألف دينار، ويدخل طغرلبك مدينة نيسابور وخراسان وما جاورها، وتتجدد الفتن في كل وقت وحين بين أهل السنة من جهة والشيعة والرافضة من جهة أخرى عمّ الذعر قلوب الناس وتخلخل الأمن ونهب[9] الأتراك كل من ورد إلى بغداد فشاع الغلاء وقلّ المورد، ولعن الخطباء الرافضة والأشاعرة على المنابر ونحي عن المناصب الشافعية فضج أهل خراسان وأرسل [10] البيهقي رسالته إلى عميد عبد الملك الكندري التي دافع فيها عن أهل السنة عامة وعن الأشعري وما نسب إليه خاصة دفاعاً قوياً لم يترك في نفس الوزير الكندري إلا أثراً عكسياً فتمادى في ظلمه وعد وأنه ولم يأبه بكل ما كتب إليه حتى مات ( طغرلبك ) وانتقل الأمر من بعده إلى ابن أخيه ( ألب أرسلان ) الذي نقم على الكندري أعماله فقبض عليه وقتله وأسند أمر الوزارة إلى ( نظام الملك ) الذي انتصر للشافعية وأبطل ما كان من سب الأشعرية.
وليس مهمّاً أن تُعدد الحوادث بقدر الإهتمام بمعرفة مدى تأثيرها على نفسه المملؤة إيماناً وورعاً ونزاهة وحباً للسنة، التي نصب نفسه للدفاع عنها والتمسك بها فجمع كل ما تحصل عليه ليجعل منه منهجاً يتسم بالتمسك بعرى وثيقة تستمد الهدي من مشكاة النبوة فتكشف الظلام الكثيف الذي هيمن على ربوع الأرض وأحاطها من كل جانب بسبب المطاحنة المذهبية والتعصبات الجاهلية.
وهكذا نراه يمضي قُدماً في ترسيخ الأسس التي قام عليها صرح الإسلام فألف الكتب وجمع فيها ما لم يتهيأ لغيره جمعه فاستوعب الكثير مما يتعلق بالعقائد والسنة والفقه. وكان جل اهتمامه متابعة ما أثر عن الشافعي بعد أن ثبت له تمسكه بالكتاب والسنة وأنه فاق غيره في ذلك.
ولم يكن البيهقي بالرجل الذي يطوع النصوص لمذهبه كما فعل غيره وإنما غرضه منها أسمى من أن يتحدث عنه بمثل ذلك.
وليس غريباً أن يسلك هذا السبيل وهو يتبع إماماً تمسك بالسنة وأوصى بها[11] ما بلغه منها وما لم يبلغه، حتى علق قوله بثبوت ما خفي عليه منها.
أضف إلى ذلك تلقيه العلم عن أئمة برزوا في مناحي الإجتهاد فكان كل واحد منهم جبلا شامخاً تتحطم عنده أمواج التعصب.
وقد انعكس ذلك على مؤلفاته فجاءت صورة صادقة للتعبير عما ينطوي عليه نفسه من حب وإيثار للسنة على غيرها وميول نحو الحق وإن أدى إلى مخالفة الإمام الذي[12] تولى الدفاع عنه، واشتهر بحبه له، فصنف التصانيف لنصرة[13] مذهبه حتى اشتهر عن إمام الحرمين قولته المشهورة " ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منه، إلا أحمد البيهقي فإن له على الشافعي منه "[14]. وقال الذهبي:" إن البيهقي أول من جمع نصوص الشافعي "[15]، وردّ عليه السبكي[16] ورجح أنه آخر من جمع نصوصه، وأيده السيد أحمد صقر[17] بما نقله عن البيهقي نفسه وأنه ذكر ثلاثة كتب[18] سبقه مؤلفوها إلى جمع نصوص الشافعي فيها والظاهر أن الذهبي قال ذلك في حقه باعتبار استيعابه في مصنفاته أكثر - أو كل - ما في كتب السابقين، وبهذا تجتمع الأقوال التي اتفقت على تفوق البيهقي في هذا المضمار على كل من شارك فيه.
( صفاته )
قال السبكي[19] :" كان الإمام البيهقي أحد أئمة المسلمين وهداة المؤمنين والدعاة إلى حبل الله المتين، فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحوي زاهد ورع، قانت لله، قائم بنصرة المذهب أصولاً وفروعاً جبلاً[20] من جبال العلم، أخذ الفقه عن ناصر العمري وقرأ علم الكلام على مذهب الأشعري ثم اشتغل بالتصنيف بعد أن صار أوحد زمانه وفارس ميدانه، وأحذق المحدثين وأحدهم ذهناً، وأسرعهم فهماً، وأجودهم قريحة ". هـ .
وقال ابن ناصر الدين:" كان واحد زمانه، وفرد أقرانه حفظاً واتقاناً، وثقة، وعمدة "[21].هـ
وقال[22] ابن خلكان:" كان قانعاً من الدنيا بالقليل "[23]. هـ.
(علمه )
لم تذكر كتب التراجم كيف بدأ البيهقي حياته العلمية كما لم تعطنا فكرة واضحة المعالم عن أسرته وطفولته وكيف نشأ، لكنها لم تغفل اهتمامه وشغفه بالبحث والإطلاع الذي جازبه حدود قريته إلى العراق والجبال [24] والحجاز فتلقى من علمائها الكثير وقد ربي عددهم على المائة[25].
فأخذ عن شيخه أبي عبد الله الحاكم علم الحديث، وأخذ الفقه[26] عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي [27] . ( ت 444هـ ).
وقال عبد الغافر[28] :" جمع بين علم الحديث والفقه، وبيان علل الحديث ".
وقال السمعاني[29] :" جمع بين معرفة الحديث والفقه ". هـ.
ومن الغريب أن يقول الذهبي عنه:" دائرته في الحديث ليست كبيرة لكن بورك له في مروياته"[30].
على رغم ما لمسناه في كتبه من الإطلاع الواسع والمعرفة التامة بالأحاديث وما يتعلق بها.
ورغم ما تقدم من أقوال العلماء وشهاداتهم له وتقديمه في معرفة الحديث ورغم ما أثر عنه من أقوال[31] تفيد مدى اهتمامه واشتغاله بهذا العلم منذ حداثته ونعومة أظافره.
وكما استغربنا كلام الذهبي عنه نقف حائرين أمام تفسير عدم تمكنه من الإطلاع على (سنن النسائي ) و ( سنن ابن ماجه ) و ( جامع الترمذي )[32]، وقد علمنا مدى حرصه واهتمامه بكتب السنة وما قام به من رحلات عديدة للتحصيل وجمع المعلومات.
( مصنفاته )
بعد أن جاب البيهقي أقطار الأرض طلباً للعلم والتقى بالكثير من العلماء ونهل من مواردهم المختلفة حتى فاق الكثير منهم عاد إلى بلده[33] وأخذ يكتب الرسائل ويؤلف الكتب حتى بلغت - فيما قيل - ألف جزء، منها ما هو في الحديث، ومنها ما جمع بين الفقه والحديث ومنها ما انفرد بالعقائد، ولقد بورك له في مؤلفاته حتى لا يكاد يستغني عنها مسلم فنشر منها الكثير وما لم تزغ عنه أعين الباحثين يترقبون له الفرص لنشره وبثه ليستقى من نهله العذب.
ولقد عدّد المترجمون عنه الكثير من كتبه لاسيما ما كتبه السيد أحمد صقر فقد ذكر من مؤلفاته واحداً وثلاثين مؤلفاً لكنه اقتصر في التعريف بها على ما كتبه السبكي عنها، وهي عبارات وجيزة مختصرة ولهذا سنذكر أهم تلك المؤلفات مع التعريف بها:-
1- السنن الكبرى .
وهو أهم مؤلفاته وشهد له السبكي بقوله:" ما صنف في علم الحديث مثله تهذيباً وترتيباً وجودة" فأقر قول شيخه الذهبي " ليس لأحد مثله "[34] وذكره[35] السخاوي ضمن كتب السنن وقال:" فلا تعد عنه لاستيعابه لأكثر أحاديث الأحكام، بل لا تعلم - كما قال ابن الصلاح- في بابه مثله ولذا كان حقه التقديم على سائر كتب السنن ولكن قدمت تلك لتقديم مصنفيها في الوفاة ومزيد جلالتهم".
وقال الفاداني[36] المكي:"لم يصنف في الإسلام مثلهما " ويعني السنن الكبرى والسنن الصغرى".
وقال أبو عبد الله محمد الأمير الكبير في تفسير كلام السخاوي المتقدم - أي لا تتجاوز أنت عن كتاب السنن الكبرى ولا حاجة لك في طلب غيره "[37] وقد جمع في مؤلفه السنن من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وموقوفات الصحابة وما أرسله التابعون فكان موسوعة كبرى في الحديث وقد رتبه على أبواب الفقه[38]، واشتغل به بعض العلماء فاختصره كل من إبراهيم بن علي المعروف بابن عبد الخالق الدمشقي ( ت 744هـ) في خمس مجلدات[39] والحافظ الذهبي ( ت 748 هـ) والشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني (ت 974 هـ) وصنف الشيخ علاء الدين علي بن عثمان المعروف بابن التركماني (ت 750 هـ) كتاباً سماه ( الجوهر النقي في الرد على البيهقي ) وهو مطبوع في حاشية كتاب ( السنن الكبرى ) وأكثره اعتراضات[40] عليه ومناقشات له ومباحثات معه.
ولخص كتاب ( الجوهر النقي )[41] زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي ( ت 879 هـ) في كتاب سماه ( ترجيح الجوهر النقي ) وقد رتبه على حروف المعجم وبلغ فيه إلى حرف الميم.
2- ( معرفة السنن والآثار ):
قال السبكي[42] :" وأما المعرفة- معرفة السنن والآثار- فلا يستغني عنه فقيه شافعي، وسمعت الشيخ الإمام رحمه الله يقول: مراده معرفة الشافعي بالسنن والآثار ". هـ.
والحق أنه لا غنى لفقيه شافعي وغيره عنه لما جمع فيه من أحكام يستدل عليها بما في الكتاب والسنة، ويوازن فيه بين أقوال الفقهاء ويذكر أدلتهم ويبين الصحيح منها والضعيف.
فهو بدون ريب من موسوعات كتب الفقه المقارن قل أن تجد مثله وقد ضمنه الرد على أبي جعفر أحمد بن سلامه الطحاوي الحنفي الذي شن[43] الغارة على الشافعي وأصحابه.
ويأتي ضمن البحوث تعريف كامل بكتاب ( معرفة السنن والآثار ) نشير فيه إلى نسخه ومواضعها.
وقد خرج فيه مؤلفه ما احتج به الشافعي من الأحاديث في الأصول والفروع بأسانيدها التي رواها بها مع ما رواه مستأنساً به غير معتمد عليه أو حكاه لغيره مجيباً عنه.
وقد تكلم البيهقي على تلك الأحاديث والأخبار بالجرح والتعديل والتصحيح والتعديل وأضاف إلى بعض ما أجمله الشافعي ما يفسره من كلام غيره وإلى بعض ما رواه ما يقويه من رواية غيره.
وبين فيه أن الشافعي لم يصدر باباً برواية مجهولة ولم يبن حكماً على حديث معلول وأنه قد يورده في الباب على رسم أول الحديث بإيراد ما عندهم من الأسانيد واعتماده على الحديث الثابت أو غيره من الحجج.
وأنه قد يئق ببعض من هو مختلف في عدالته على ما يؤدي إليه اجتهاده كما يفعل غيره.
وأنه لم يدع سنة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلغته وثبتت عنده حتى قادها، وهكذا نرى مقصده من تأليف ( معرفة السنن ) يتجلى في مقدمته الطويلة التي صدرها كتابه.
3- كتاب ( المبسوط ) :
قال السبكي[44]:" وأما المبسوط في نصوص الشافعي فما صنف في نوعه مثله ". وألفه البيهقي ليجمع كلام الشافعي ونصوصه مضبوطة بعد ما ضاق صدره مما وجده في الكتب [45] من الإختلاف في نصوص الشافعي وإيراد الحكايات عنه دون تثبت، فحمله ذلك على نقل مبسوط ما اختصره المزني من كلام الشافعي وأدلته على ترتيب المختصر[46].
4- كتاب ( الأسماء والصفات ) :
قال السبكي:" وأما كتاب الأسماء والصفات فلا أعرف له نظيراً ".هـ. وألفه البيهقي لبيان أسماء الله تعالى وأدلتها من الكتاب أو السنة أو الإجماع.
وبدأه بالثناء على الله ثم ذكر أسماء الله تعالى التي من أحصاها دخل الجنة وربط معاني تلك الأسماء بخمسة أبواب، وذكر أن هناك أسماء غير هذه لله تعالى[47].
5- كتاب ( الإعتقاد ):
قال السبكي[48] : "وأما- كتاب الإعتقاد- وكتاب دلائل النبوة- وكتاب شعب الإيمان- وكتاب مناقب الشافعي- وكتاب الدعوات الكبير- فأقسم ما لواحد منها نظير ".
وكتاب الإعتقاد كتبه البيهقي ليبين فيه ما يجب على المكلف اعتقاده والإعتراف به مع الإشارة إلى أطراف أدلته.
وقال المؤلف نفسه:" هذا الذي أودعناه هذا الكتاب اعتقاد أهل السنة والجماعة وأقوالهم ".
وهو لاشك كتاب نفيس في موضوعه يتسم بسلاسة الأسلوب والنقاش الهادئ وقوة الأدلة. وقد جمعه من تواليفه مما كتبه فيما يجب على المكلف اعتقاده والإعتراف به ملتزماً ما فيه الإختصار[49].
6- كتاب[50] ( دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ) :
تكلم فيه عن مولد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ونشأته وشرف أصله ووفاة أبيه وأمه وجده.
و ذكر فيه صفاته الخلقية والخلقية وزهده في الدنيا وسيرة حياته منذ ولادته حتى وفاته، تباشير بعثته والمعجزات التي ظهرت على يديه.
وركز في مباحثه على المعجزات وخوارق العادات فذكر فيها أحاديث جلها صحيحة وبعضها فيه مقال[51].
وهو كتاب من أجمع تصانيف، مؤلفه لما أورده فيه وعنى به وقد اعتمد فيه على كتب السابقين له.
7- كتاب ( شعب الإيمان ) [52]:
وهو كتاب كبير في ست مجلدات، كتبه البيهقي على نمط ( كتاب )[53] أبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي (ت 403هـ) في بيان شعب الإيمان المشار إليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأوضعها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"[54] ولم يجمع تلك الشعب ثم يكلم عليها واحدة تلو الأخرى وإنما أورد كلامه مفصلاً عن كل واحدة منها مستوفياً أدلتها وشارحاً لها في جميع الكتاب وقد زاد على ( كتاب ) الحليمي ذكر الأسانيد التي عليها مدار الروايات.
8- كتاب ( مناقب الشافعي )[55]:
وهو أجمع ما رأيت من كتب مناقب الإمام الشافعي، وقد نقل فيه مؤلفه عمن كتب قبله في ترجمة الإمام-كابن أبي حاتم ( ت 327 هـ)، وأبي الحسن محمد بن عبد الله الرازي (ت 454 هـ).
ويتضح فيه تحمسه الشديد للشافعي ومذهبه أن دون المساس بأحد وكأن مرجع ذلك اقتناع البيهقي بتمسك الشافعي بالكتاب والسنة وأنه أقرب الأئمة منهما.
وبدأ كتابه بذكر ما لقريش من الخصائص لا سيما بني هاشم وبني المطلب ليدلل على مكانة الشافعي ونسبه.
وقد ذكر فيه مولده ونسبه وتعلمه وتعليمه وتصرفه في العلم وتصانيفه واعتراف علماء دهره بفضله، ومما يستدل به على كمال عقله وزهده في الدنيا وورعه واشتهاره بخصال الخير، ومكارم الأخلاق.
وقد أورد فيه أحاديث صحيحة وأخرى لا تخلوا من مقال[56].
وقد نقل كثير من المؤلفين عن كتاب ( مناقب الشافعي ) بل كان جل كتاباتهم مستقاة منه لأن البيهقي لم يترك شيئاً مما له أدنى علاقة بالشافعي إلا وذكره إلى جانب التثبت من الروايات.
9- كتاب ( الدعوات الكبير )[57]:
ألفه البيهقي إجابة لسؤال أحد، إخوانه في أن يجمع له ما ورد من الأخبار في الأدعية المرجوة التي دعا بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو علّمها أحداً من أصحابه، وقد ذكرها بأسانيدها وقد رتبه على ترتيب كتاب المختصر المأثور لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأضاف إليه زيادات لم يعرض لها ابن خزيمة.
بدأ كتابه بذكر ما للدعاء والذكر من الأجر والثواب.
10- كتاب ( الدعوات الصغير ):ولم أقف عليه.
11- كتاب ( الزهد الكبير ) [58]:
ذكر فيه أقوال السلف والخلف رضي اللّه عنهم في فضيلة الزهد وكيفيته وأنه في قصر الأمل والمبادرة بالعمل الصالح.
12- كتاب ( إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين ) [59]:
أورد فيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقاويل السلف لإثبات عذاب القبر وسؤال الملكين، وقد بين أن ذلك جائز عقلاً كما جاز شرعاً.
13- كتاب ( أحكام القرآن ) [60] :
جمع البيهقي فيه من نصوص الشافعي ما يدل على مبلغ- علمه- بالمعاني الدقيقية في القرآن.
ومقصد الكتاب ظاهر من عنوانه وهو مثل كتاب ( أحكام القرآن ) لأبى بكر أحمد بن علي الرازي- الجصاص-، وكتاب ( أحكام القرآن ) لأبي بكر بن العربي.
14- كتاب ( المدخل ) [61]:
وهو من سماع عبيد الله بن عمر يحي بن عمر الكجي وخط تقي الدين أبي عمر وعثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى أبي نصر النصري الشهروزري.
وعلى الكتاب بعض السماعات وفي آخره ذكر السند إلى البيهقي. وخط النسخة دقيق متداخل بعضه في بعض، وعليها سماعات ابن الصلاح والحافظ المزي وسماعات أخرى.
15- كتاب ( البعث والنشور ) [62] :
وهو بخط محمد بن عبد العزيز بن محمد في خيزان في سنة أربع وأربعين وثمانمائة وعليه بعض السماعات.
16- كتاب ( تخريج أحاديث الأم ) [63]:
وقد خرج فيه أحاديث كتاب ( الأم ) حديثاً حديثاً مع سنده والتعليق عليه.
17- كتاب ( الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة ) [64]:
ذكر فيه ما اختلف فيه أبو حنيفة والشافعي في الأحكام، وقد رتبه على أبواب الفقه.
18- كتاب ( بيان خطأ من أخطأ على الشافعي ):
( علمه بمصطلح الحديث )
من الإطلاع على ما كتبه البيهقي تدرك معرفته بعلم مصطلح الحديث وهو يتفق في جميع القواعد التي قعدها علماء المصطلح مع جمهورهم والكثرة الغالبة منهم.
وقد يخرج عن قواعدهم أحياناً لكنه لا يفتأ أن يعود إلى الإلتزام بمنهجهم حتى فيما خالفهم فيه أحياناً أخرى.
وأصدق مثال على هذا ما اتفق عليه جمهورهم من الإختصار على الرمز ( ثنا ) الدال على الفعل (حدثنا) وقد تزاد (الدال) على الرمز ( ثنا ) فتكون العبارة (دثنا).
وقد تحذف الثاء فتكون العبارة ( نا ).
وما اتفقوا عليه أيضاً من استعمال الرمز ( أنا ) الدال على الفعل ( أخبرنا ) وقد تزاد الراء بعد الألف فتكون العبارة ( أرنا ).
وفي كل ما تقدم من الإصطلاحات يختلف البيهقي عن الجمهور ويستعمل رموزاً أخرى مشتقة من مبنى الأفعال المرموز لها فيقول في حدثنا ( دثنا ) يعني بزيادة حرف (الدال) على اصطلاح الجمهور.
وكذلك فإنه يزيد ( الباء ) على الرمز ( أنا ) فيقول ( أبنا ) بتقديم الباء على النون.
وقد وجدناه في مؤلفاته يستعمل الرمز الأخير بكثرة بينما لم يستعمل الرمز الأول إلا نادراً، مع أنه لم يخرج عن استعمال الجمهور لهذين الرمزين بالكلية وإنما يرجع إليهما في غالب رواياته لاسيما رمز ( ثنا ) فإنه لم يستعمل غيره في النسخة التي بين يدي ولا في غالب كتبه إلا في بعض المواضع. أما رمز (أبنا) ولم يستعمله في باقي كتبه كما استعمله هنا بل غالب ما هنالك ما اتفق عليه جمهورهم.
ولا يقبل البيهقي الرواية المرسلة إلا أن يأتي ما يعضدها ويقويها وقد نص على ذلك في كتابه[65] المعرفة بقوله:" ونحن إنما لا نقول بالمنقطع إذا كان مفرداً فإذا انضم إليه غيره وانضم إليه قول بعض الصحابة، أو ما يتأكد [66] به المراسيل ولم يعارضه ما هو أقوى منه فإنا نقول به، وقد مضى بيان ذلك في أول الكتاب ".
-------------
[1] جاء في كتاب الأنساب للسمعاني تسميته - أحمد بن الحسين بن علي بن موسى بن عبد الله - فقدم وأخر، وهو خطأ ظاهر. انظر ( الأنساب ص101 ).
[2] انظر ( طبقات الشافعية الكبرى 3/3 ).
[3] ( خسرو جرد ) بضم الخاء المعجمة وسكون السين المهملة وفتح الراء وسكون الواو وكسر الجيم وسكون الراء وفي آخرها الدال المهملة قرية من ناحية ( بيهق ) ذكره السبكي في ( طبقات الشافعية الكبرى 3/3 ).
[4] ( نيسابور ) بفتح النون وسكون الياء وفتح السين المهملة وسكون الألف وضم الباء الموحدة.
قال ابن الأثير :" هي أحسن مدن خراسان وأجمعها للخيرات ".
وقال ياقوت:" ( نيسابور ) والعامة يسمونها ( نشاور ) وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ومنبع العلماء... وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه... وقيل أنها فتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يد الأحنف بن قيس ". انظر ( اللباب 3/341 ) و ( معجم البلدان 5/331 ).
[5] انظر ( تذكرة الحفاظ 3/1143 ).
[6] قال ياقوت:" ( بيهق ) ناحية كبيرة وكسورة واسعة، كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور، تشتمل على ثلاثمائة وعشرين قرية، وكانت قصبتها أولاً ( خسرو جرد ) وقد أخرجت هذه الكورة من لا يحصى من الفضلاء والعلماء والفقهاء والأدباء ". ( معجم البلدان 2/346 ).
[7] انظر ( الكامل في التاريخ 7/349 ).
[8] ( المرجع السابق 7/353 ).
[9] انظر ( الكامل في التاريخ 8/67 ) ، ( 8/97 من نفس المرجع ).
[10] انظر ( مقدمة السيد صقر على كتاب معرفة السنن والآثار 1/18 ).
[11] هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله.
[12] ومن ذلك ما ذكره البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه كان ينكر قضاء شريح لعمر ولا يثبته . وأشار إلى اختلاف العلماء في المسألة وأتى بخبرين فيهما دلالة على أن شريحاً تولى القضاء لعمر . ( انظر مناقب الشافعية للبيهقي 1/546)
[13] انظر ( شذرات الذهب 3/305 ).
[14] انظر ( وفيات الأعيان 1/58 ) وغيره ممن ترجموا عن البيهقي.
[15] انظر( تذكرة الحفاظ 3/1133 ) وكذلك قال ابن خلكان مثل قول الذهبي انظر ( وفيات الأعيان 1/76 ).
[16] انظر ( طبقات الشافعية للسبكي 3/4 ) .
[17] في مقدمته على كتاب ( معرفة السنن والآثار 1/25 ).
[18] الكتب الثلاثة هي، كتاب ( التقريب ) للقاسم بن محمد بن علي الشاشي ( ت في حدود الأربعمائة هـ) وكتاب (جمع الجوامع) لأبي سهل بن العفريس الزوزني تلميذ الأصم.
وكتاب ( عيون المسائل ) لأبي بكر أحمد بن أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي ابن سريج. ( المرجع السابق 1/25، 26 ) .
[19] في ( طبقات الشافعية الكبرى 3/3 ) بتصرف.
[20] هكذا بالنصب على تقدير ( كان ) أو يكون حالاً من الضمير في قائم.
[21] ابن العماد ( شذرات الذهب 3/304 ).
[22] ( وفيات الأعيان 1/85 ).
[23] نقل الذهبي عن عبد الغافر بن إسماعيل قوله " كان البيهقي على سيرة العلماء قانعاً باليسير متجملاً في زهده وورعه" انظر ( سير أعلام 11/184 ورقة ).
[24] قال ياقوت:" الجبال جمع جبل، اسم علم للبلاد المعروفة اليوم باصطلاح العجم بالعراق وتسمية العجم له بالعراق غلط لا أعرف سببه وهو اصطلاح محدث لا يعرف في القديم ، وقد حددنا العراق في موضعه " ( معجم البلدان 2/99).
وظاهر كلامه رحمه الله أن الجبال على البلاد التي في شرق العراق وغرب إيران. فلم نرد الإطالة بنقل كلامه.
[25] عدد الأستاذ السيد أحمد صقر جماعة من مشايخ البيهقي في مقدمته على كتاب ( معرفة السنن 1/2-9 ).
[26] صرح بذلك البيهقي في كتابه ( معرفة السنن والآثار 1/143 ) وانظر ( طبقات الشافعية الكبرى 3/4 ) و (وفيات الأعيان 1/76 ).
[27] انظر ترجمته في كتاب ( العبر 3/208 ) ، ( شذرات الذهب لابن العماد 3/273 ).
[28] عبد الغافر صاحب كتاب ( السياق ) وهو ذيل على تاريخ نيسابور، ونقل الحافظ الذهبي كلامه في كتاب (تذكرة الحفاظ 3/1133 ) ، ( سير أعلام النبلاء 11/185 ) وفيه قوله: " كتب الحديث وحفظه من صباه ".
[29] ( الأنساب ص 101 ).
[30] طبقات الشافعية للسبكي 3/3 . ولم أقف على قول الذهبي:" دائرته في الحديث ليست كثيرة " في مؤلفاته إلا أن يكون في كتابه ( تاريخ الإسلام ) وقد وقفت على صورته التي في الجامعة الإسلامية ولم تبلغ ترجمة البيهقي.
[(1/163)
31] من ذلك قوله " وهو أني منذ نشأ وابتدأت في طلب العلم أكتب أخبار سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين وأجمع آثار الصحابة الذين كانوا أعلام الدين، وأسمعها ممن حملها، وأتعرف أحوال رواتها من حفاظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها ومرفوعها من موقوفها وموصولها من مرسلها ". (معرفة السنن 1/140 ط).
وجاء في رسالته لأبي محمد الجويني " وقد علم الشيخ اشتغالي بالحديث واجتهادي في طلبه ومعظم مقصودي منه في الإبتداء التمييز بين ما يصح الإحتجاج به من الأخبار وبين ما لا يصح ". ( المرجع السابق 1/20 مقدمة ). وانظر (طبقات الشافعية الكبرى 3/210 - 217 ).
[32] قال الذهبي :" لم يكن عنده ( سنن النسائي ) ولا ( جامع الترمذي ) ولا ( سنن ابن ماجه ) " انظر ( تذكرة الحفاظ 3/1132 ) و ( طبقات الشافعية الكبرى 3/3 ) ، وكذلك ( سير أعلام النبلاء 11/184 ).
[33] انظر طبقات الشافعية لابن هداية ص159 - 160 .
[34] انظر ( طبقات الشافعية الكبرى 3/4 )، ( سير أعلام النبلاء 11/184 ).
[35] ( فتح المغيث 2/333 ).
[36] ( سد الأرب من علوم الإسناد والأدب، حاشية ص115 )
[37] ( سد الأرب من علوم الإسناد والأدب، حاشية 115 )
[38] والحق أن كتاب السنن الكبرى غني عن التعريف فهو مطبوع بين أيدي الناس يتداولونه في عشر مجلدات، وقد طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند سنة 1344هـ.
[39] انظر ( كشف الظنون 2/1007 ).
[40] ومن تلك الإعتراضات ما نقلناه عنه في موضوع ( العقيقة ) في النسخة التي بين يدي.
[41] انظر ( كشف الظنون 2/1007 ).
[42] ( طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/4 ).
[43] هاجم أبو جعفر الطحاوي الشافعي وأتباعه هجوماً عنيفاً في كتابه ( شرح معاني الآثار ).
[44] ( طبقات الشافعية الكبرى 3/4 ).
[45] سبق البيهقي جماعة إلى جمع نصوص الشافعي في كتب مستقلة ذكرناهم في أول البحث وأشرنا إلى كتبهم.
[46] انظر ( طبقات الشافعية الكبرى 3/215 ).
[47] طبع الكتاب في دار إحياء التراث العربي بلبنان باعتناء وتعليق الشيخ محمد زاهد الكوثري.
[48] ( طبقات الشافعية الكبرى 3/4 ).
[49] وقد نشر الكتاب بتحقيق أحمد محمد موسى عام 1380 هو لم يذكر اسم المطبعة ولا مكان الطبع.
[50] الكتاب طبع منه الجزء الأول بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1390هـ ذكره السيد أحمد صقر ( مقدمة معرفة السنن والآثار 1/10 ). وقد طبع الجزء الأول والثاني منه بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان - ومنشورات محمد عبد المحسن الكتبي- صاحب الكتبة السلفية بالمدينة المنورة- عام 1389 هـ وكأن السيد أحمد صقر لم يقف على هذه الطبعة أو غفل عنه.
[51] قال البيهقي:" فاستخرت الله تعالى في الإبتداء بما أردته واستعنت به في إتمام ما قصدته... وعلى نحو ما شرطته في مصنفاتي من الإكتفاء بالصحيح من السقيم، والإجتزاء من المعروف بالغريب إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه فأورده والإعتماد على جملة ما نقدمه من الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ وبالله التوفيق ". ( دلائل النبوة 1/63 ).
[52] وقفت على صورة الكتاب في أربع عشرة مجلدة في مكتبة السيد حبيب أحمد بالمدينة المنورة وصورة أخرى للنسخة الآصفية في مكتبة السيخ عبد الرحيم صديق بمكة المكرمة واختصر الكتاب المذكور الشيخ الإمام أبو جعفر عمر القزويني (ت 699هـ) في كتاب ( مختصر شعب الإيمان ) إجابة على سؤال محمد بن القاسم المزي له عن عدد شعب الإيمان وكان قد تكرر منه هذا السؤال وذلك بسبب الخلاف في عدد شعب الإيمان، إذ جاء في بعض الروايات "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة " وفي بعضها " ست وسبعون أو سبع وسبعون " وفي " بعضها أربع وستون " وقد ذكر المصنف في الكتاب سبعة وسبعين شعبة جمعها من متفرق ما كتبه البيهقي في كتابه الذي نحن بصدده فاختصرها على شكل رؤوس المسائل واقتنع باستدلال آية من كتاب الله تعالى أو بحديث من أصح ما روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مؤلفه رحمه الله " وربما زدت في بعض الشعب آية أو آيات أو حديثاً أو كلمات، أو حكاية أو حكايات أو بيتاً أو أبيات لم يذكرها البيهقي" وكتاب ( مختصر الشعب ) مطبوع بتحقيق محمد منير الدمشقي في إدارة الطباعة المنيرية عام 1355هـ.
[53] وهو كتاب ( منهاج الدين في شعب الإيمان ) قال عمر رضا كحالة: وهو في نحو ثلاث مجلدات (معجم المؤلفين 4/3 ).
[54] الحديث أخرجه جمع من الأئمة منهم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واللفظ له. انظر ( سنن النسائي 8/110).
[55] طبع الكتاب في جزئين نشراً بتحقيق السيد أحمد صقر عام 1391هـ، في مكتبة دار التراث وقد ذكر السيد صقر أن الكتاب طبع منه الجزء الأول عام 1390، بدار التراث وهو يخالف ما نقلناه من كتاب ( مناقب الشافعي ) وانظر (معرفة السنن 1/10 ).
[56] مثل حديث " عالم قريش يملأ الأرض علماء " أخرجه في المناقب 1/45 وحديث " لا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرض علماً، اللهم أذقت أولها نكالاً فأذق آخرها نوالاً " أخرجه في ( المناقب 1/26 ) وغيرها.
[57] رأيت صور من الكتاب في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق بمكة عن نسخة المكتبة السعدية بالهند.
[58] لا يزال الكتاب مخطوطاً وقفت على صورته في مكتبة السيد حبيب. وتبلغ أوراقه تسع عشرة ومائة ورقة من الحجم المتوسط. ورأيت صورة أخرى للكتاب في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق خطها واضح وحديث يرجع إلى عام 1319 هـ وهي مصورة من نسخة المكتبة الآصفية.
[59] الكتاب لا يزال مخطوطاً ويقوم بتحقيقه زميلنا الشيخ مصطفى سعيد خالد قطاني.
[60] طبع الكتاب بدار الكتب العلمية في بيروت عام 1359 هـ بتحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق.
[61] الكتاب في مجلدين وقفت على صورة الثاني منهما في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق والنسخة مصورة من مكتبة الجمعية الأسيوية بكلكتا.
[62] وقفت على صورة الكتاب في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق بمكة وعليها ختم مكتبة السلطان أحمد.
[63] ويرجع تاريخ نسخ هذا الكتاب إلى حوالي القرن الثامن، وهو موجود في مكتبة دار الكتب المصرية التي رأيت صورتها ناقصة في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق ويبدأ الجزء الموجود من كتاب الإستسقاء وينتهي إلى حكم الطفل مع أبويه في الدين. وقد أشار كاتبه إلى أنه يتلوه الجزء الثالث وأوله كتاب الفرائض، وهناك أيضاً كتاب آخر أكبر من هذا الكتاب وهو ( تخريج أحاديث مؤلفات الشافعي ) وقد وقفت عليه أيضاً في مكان نفسه.
[64] الكتاب موجود في مكتبة السلطان أحمد الثالث وقد وقفت عل صورة منه في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق.
[65] ( معرفة السنن والآثار 1/129 )
[66] ذكر السخاوي عن البيهقي ما رواه عن الشافعي وشرطه في قبول المرسل حيث ذكر من شرطه أن يأتي ما يعضده سواء كان حديثاً مسنداً أو قول صحابي أو مرسل تابعي آخر، أو أن يوجد جماعة من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
وكذلك من شرط قبول المرسل أن يكون من أرسله ضابطاً وأن لا يسمى مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه إن سئل عن تسميته. هـ. بتصرف ( فتح المغيث 1/141 ).
الشيخ نايف هاشم الدعيس
المحاضر بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
مجلة الجامعة العدد 44
ـــــــــــــــ(1/164)
جلال الدين السيوطي
عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد سابق الدين الخضيري الأسيوطي المشهور بإسم جلال الدين السيوطي، (849 هـ/1445 م-911 هـ/1505 م) من كبار علماء المسلمين.
نشأته
ولد السيوطي مساء يوم الأحد غرة شهر رجب من سنة849هـ، الموافق سبتمبر من عام 1445م، في القاهرة، واسمه عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري الأسيوطي، وكان سليل أسرة أشتهرت بالعلم والتدين، وكان أبوه من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة التي جعلت بعض أبناء العلماء والوجهاء يتلقون العلم على يديه. وقد توفي والد السيوطي ولابنه من العمر ست سنوات، فنشأ الطفل يتيمًا، وأتجه إلى حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة مثل العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، فاتسعت مداركه وزادت معارفه. وكان السيوطي محل العناية والرعاية من عدد من العلماء من رفاق أبيه، وتولى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم الكمال بن الهمام الحنفي أحد كبار فقهاء عصره، وتأثر به الفتى تأثرًا كبيرًا خاصة في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة.
وقام برحلات علمية عديدة شملت بلاد الحجاز والشام واليمن والهند والمغرب الإسلامي. ثم دَّرس الحديث بالمدرسة الشيخونية. ثم تجرد للعبادة والتأليف عندما بلغ سن الأربعين.
مؤلفاته
ألف جلال الدين السيوطي عدد كبير من الكتب والرسائل إذ يذكر ابن إياس في "تاريخ مصر" أن مصنفات السيوطي بلغت ست مائة مصنف. وقد ألف في طيف واسع من المواضيع تشمل التفسير والفقه والحديث والأصول والنحو والبلاغة والتاريخ والتصوف والأدب وغيرها. ومن هذه المصنفات:
• ... إسعاف المبطأ برجال الموطأ
• ... الآية الكبرى في شرح قصة الاسراء
• ... الأشباه والنظائر
• ... الإتقان في علوم القرآن
• ... الجامع الصغير من حديث البشير النذير
• ... الجامع الكبير
• ... الحاوي للفتاوى
• ... الحبائك في أخبار الملائك
• ... الدر المنثور في التفسير بالمأثور
• ... الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة
• ... الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج
• ... الروض الأنيق في فضل الصديق
• ... العرف الوردي في أخبار المهدي
• ... الغرر في فضائل عمر
• ... الفية السيوطي
• ... الكاوي على تاريخ السخاوي (ألفه بسبب خصومته مع السخاوي)
• ... اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة
• ... المَدْرَج إلى المُدْرَج
• ... المزهر في علوم اللغة وأنواعها
• ... المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب
• ... أسباب ورود الحديث
• ... أسرار ترتيب القرآن
• ... أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب
• ... إرشاد المهتدين إلى نصرة المجتهدين
• ... إعراب القرآن
• ... إلقام الحجر لمن زكى ساب أبي بكر وعمر
• ... تاريخ الخلفاء
• ... تحذير الخواص من أحاديث القصاص
• ... تحفة الأبرار بنكت الأذكار النووية
• ... تدريب الراوى في شرح تقريب النواوي
• ... تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك
• ... تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش
• ... تنوير الحوالك شرح موطأ مالك
• ... تنبيه الغبيّ في تبرئة ابن عربي
• ... حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة
• ... در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة
• ... ذم المكس
• ... شرح السيوطي على سنن النسائي
• ... صفة صاحب الذوق السليم
• ... طبقات الحفّاظ
• ... طبقات المفسرين
• ... عقود الجمان في علم المعاني والبيان
• ... عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد في إعراب الحديث
• ... عين الإصابة في معرفة الصحابة
• ... كشف المغطي في شرح الموطأ
• ... لب اللباب في تحرير الأنساب
• ... لباب الحديث
• ... لباب النقول في أسباب النزول
• ... ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين
• ... مشتهى العقول في منتهى النقول
• ... مطلع البدرين فيمن يؤتى أجره مرتين
• ... مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة
• ... مفحمات الأقران في مبهمات القرآن
• ... نظم العقيان في أعيان الأعيان
• ... همع الهوامع شرح جمع الجوامع
• ... الفارق بين المصنف والسارق وهو أول كتاب فقهي حول الملكية الفكرية التي لم يتعرف عليها العالم إلا في عام 1886م، من خلال أتفاقية برن لحقوق المؤلف.
أحداث زمانه
سقطت الخلافة العباسية في بغداد عام 656هـ، الموافق عام 1258م في أيدي المغول وتحطم معها كل شيء بدءًا من النظام السياسي الذي سقط، والخليفة الذي قُتل هو والعلماء والرعية -إلا القليل- وانتهاءً بالمكتبة العربية الضخمة التي أُلقيت في نهر دجلة. وفي أقصى الغرب كانت المصيبة أفدح، حيث زالت دولة الإسلام بالأندلس بعد سقوط غرناطة عام 897هـ، الموافق عام 1492م، ثم جاءت معها محاكم التحقيق لتقضي على البقية الباقية من المسلمين هناك، ويحرق رهبان هذه المحاكم مكتبة الإسلام العامرة هناك، وبدا المشهد وكأن المغول والنصارى يطوون سجادة الإسلام من خريطة العالم، غير أن هذه الهزة السياسية العنيفة واكبها صعود ثقافي وعلمي للمسلمين حيث ظهر عصر الموسوعات الضخمة في العلوم والفنون والآداب، والذي أستمر أكثر من قرن ونصف. ومن أصحاب هذه الموسوعات الضخمة "ابن منظور" المتوفي 711 هـ، 1311م، صاحب كتاب "لسان العرب" و"النويري" المتوفي 732 هـ، 1331م، صاحب " نهاية الأرب"، و"ابن فضل الله العمري" المتوفي 748هـ، 1347م، صاحب "مسالك الأبصار" و"القلقشندي" المتوفي 821هـ، 1418م، صاحب "صبح الأعشى".
شيوخه
عاش السيوطي في عصر كثر فيه العلماء الأعلام الذين نبغوا في علوم الدين على تعدد ميادينها، وتوفروا على علوم اللغة بمختلف فروعها، وأسهموا في ميدان الإبداع الأدبي، فتأثر السيوطي بهذه النخبة الممتازة من كبار العلماء، فابتدأ في طلب العلم سنة 864 هـ، 1459م، ودرس الفقه والنحو والفرائض، ولم يمض عامان حتى أجيز بتدريس اللغة العربية، وألف في تلك السنة أول كتبه وهو في سن السابعة عشرة، فألف "شرح الاستعاذة والبسملة" فأثنى عليه شيخه "علم الدين البلقيني". وكان منهج السيوطي في الجلوس إلى المشايخ هو أنه يختار شيخًا واحدًا يجلس إليه، فإذا ما توفي انتقل إلى غيره، وكان عمدة شيوخه "محيي الدين الكافيجي" الذي لازمه السيوطي أربعة عشر عامًا كاملة وأخذ منه أغلب علمه، وأطلق عليه لقب "أستاذ الوجود"، ومن شيوخه "شرف الدين المناوي" وأخذ عنه القرآن والفقه، و"تقي الدين الشبلي" وأخذ عنه الحديث أربع سنين فلما مات لزم "الكافيجي" أربعة عشر عامًا وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني، وأخذ العلم ـ أيضًا ـ عن شيخ الحنفية "الأفصرائي" و"العز الحنبلي"، و"المرزباني" "وجلال الدين المحلي" و"تقي الدين الشمني" وغيرهم كثير، حيث أخذ علم الحديث فقط عن (150) شيخًا من النابهين في هذا العلم. ولم يقتصر تلقي السيوطي على الشيوخ من العلماء الرجال، بل كان له شيوخ من النساء اللاتي بلغن الغاية في العلم، منهن "آسية بنت جار الله بن صالح"، و"كمالية بنت محمد الهاشمية" و "أم هانئ بنت أبي الحسن الهرويني"، و"أم الفضل بنت محمد المقدسي" وغيرهن كثير.
رحلاته
كانت الرحلات وما تزال طريقًا للتعلم، إلا أنها كانت فيما مضى من ألزم الطرق للعالم الذي يريد أن يتبحر في علمه، وكان السيوطي ممن سافر في رحلات علمية ليلتقي بكبار العلماء، فسافر إلى عدد من الأقاليم في مصر كالفيوم ودمياط والمحلة وغيرها، وسافر إلى بلاد الشام واليمن والهند والمغرب والتكرور (تشاد حاليًا) ورحل إلى الحجاز وجاور بها سنة كاملة، وشرب من ماء زمزم، ليصل في الفقه إلى رتبة سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني. ولما أكتملت أدوات السيوطي جلس للإفتاء عام 871 هـ،1466م، وأملى الحديث في العام التالي، وكان واسع العلم غزير المعرفة، يقول عن نفسه: "رُزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع"، بالإضافة إلى أصول الفقه والجدل، والقراءات التي تعلمها بنفسه، والطب، غير أنه لم يقترب من علمي الحساب والمنطق. ويقول: "وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله، أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله لا فخرًا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر؟!". وكانت الحلقات العلمية التي يعقدها السيوطي يقبل عليها الطلاب، فقد عُيّن في أول الأمر مدرسًا للفقه بالشيخونية، وهي المدرسة التي كان يلقي فيها أبوه دروسه من قبل، ثم جلس لإملاء الحديث والإفتاء بجامع ابن طولون، ثم تولى مشيخة الخانقاه البيبرسية التي كانت تمتلئ برجال الصوفية. وقد نشب خلاف بين السيوطي والمتصوفة، وكاد هؤلاء المتصوفة أن يقتلونه، حينئذ قرر أن يترك الخانقاه البيبرسية، ويعتزل الناس ومجتمعاتهم ويتفرغ للتأليف والعبادة.
أعتزال السيوطي الحياة العامة
قضى السيوطي فترة غير قصيرة في خصومات مع عدد من علماء عصره، كان ميدانها الحملات الشرسة في النقد اللاذع في الترجمة المتبادلة، ومن خصومه: البرهان الكركي، وأحمد بن محمد القسطلاني، والشمس الجوجري، غير أن أشد خصوماته وأعنفها كانت مع شمس الدين السخاوي، الذي أتهم السيوطي بسرقة بعض مؤلفاته، واغتصاب الكتب القديمة التي لا عهد للناس بها ونسبتها إلى نفسه. ولم يقف السيوطي مكتوف الأيدي في هذه الحملات، بل دافع عن نفسه بحماسة بالغة وكان من عادته أن يدعم موقفه وقراره بوثيقة ذات طابع أدبي، فألف رسالة في الرد على السخاوي، اسمها "مقامة الكاوي في الرد على السخاوي" نسب إليه فيها تزوير التاريخ، وأكل لحوم العلماء والقضاة ومشايخ الإسلام. وكان لهذه العلاقة المضطربة بينه وبين بعض علماء عصره، وما تعرض له من اعتداء في الخانقاه البيبرسية أثر في اعتزال الإفتاء والتدريس والحياة العامة ولزوم بيته في روضة المقياس على النيل، وهو في الأربعين من عمره، وألف بمناسبة اعتزاله رسالة أسماها "المقامة اللؤلؤية"، ورسالة "التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس". وقد تنبه بعض خصوم السيوطي إلى خطئهم فيما صوبوه إلى هذا العالم الجليل من سهام في النقد والتجريح وخصومات ظالمة، فأعلنوا عن خطئهم، وفي مقدمتهم الشيخ القسطلاني الذي أراد أن يسترضي هذا العالم الجليل الذي لزم بيته وعزف عن لقاء الناس، فتوجه إليه حافيًا معتذرًا، غير أن هذا الأمر لم يجعل السيوطي يقطع عزلته ويعود إلى الناس، ولكنه استمر في تفرغه للعبادة والتأليف.
أعتزال السلاطين
عاصر السيوطي (13) سلطانًا مملوكيًا، وكانت علاقته بهم متحفظة، وطابعها العام المقاطعة وإن كان ثمة لقاء بينه وبينهم، وضع نفسه في مكانته التي يستحقها، وسلك معهم سلوك العلماء الأتقياء، فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم وتجاهلهم، فقد ذهب يومًا للقاء السلطان الأشرف قايتباي وعلى رأسه الطيلسان [عمامة طويلة] فعاتبه البعض، فأنشأ رسالة في تبرير سلوكه أطلق عليها "الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان". وفي سلطنة طومان باي الأول حاول هذا السلطان الفتك بالسيوطي، لكن هذا العالم هجر بيته في جزيرة الروضة واختفى فترة حتى عُزل هذا السلطان. وكان بعض الأمراء يأتون لزيارته، ويقدمون له الأموال والهدايا النفيسة، فيردها ولا يقبل من أحد شيئا، ورفض مرات عديدة دعوة السلطان لمقابلته، وألف في ذلك كتابًا أسماه "ما وراء الأساطين في عدم التردد على السلاطين".
ريادة ثقافية في عصر العلماء
كان السيوطي من أبرز معالم الحركة العلمية والدينية والأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، حيث ملأ نشاطه العلمي في التأليف مختلف الفروع في ذلك الزمان من تفسير وحديث وفقه وتاريخ وطبقات ونحو ولغة وأدب وغيرها، فقد كان موسوعي الثقافة والاطلاع. وقد أعانه على كثرة تأليفه انقطاعه التام للعمل وهو في سن الأربعين حتى وفاته، وثراء مكتبته وغزارة علمه وكثرة شيوخه ورحلاته، وسرعة كتابته، فقد اتسع عمره التأليفي (45) سنة، حيث بدأ التأليف وهو في السابعة عشرة من عمره، وانقطع له (22) عامًا متواصلة، ولو وُزع عمره على الأوراق التي كتبها لأصاب اليوم الواحد (40) ورقة، على أن القسم الأكبر من تأليفه كان جمعًا وتلخيصًا وتذييلا على مؤلفات غيره، أما نصيبه من الإبداع الذاتي فجِدّ قليل. وقد تمنى السيوطي أن يكون إمام المائة التاسعة من الهجرة لعلمه الغزير، فيقول: "إني ترجيت من نعم الله وفضله أن أكون المبعوث على هذه المائة، لانفرادي عليها بالتبحر في أنواع العلوم". وزادت مؤلفات السيوطي على الثلاثمائة كتاب ورسالة، عدّ له بروكلمان (415) مؤلفا، وأحصى له "حاجي خليفة" في كتابه "كشف الظنون" حوالي (576) مؤلفا، ووصل بها البعض كابن إياس إلى (600) مؤلف. ومن مؤلفاته في علوم القرآن والتفسير: "الاتقان في علوم التفسير"، و"متشابه القرآن"، و" الإكليل في استنباط التنزيل"، و"مفاتح الغيب في التفسير"، و"طبقات المفسرين"، و"الألفية في القراءات العشر". أما الحديث وعلومه، فكان السيوطي يحفظ مائتي ألف حديث كما روى عن نفسه، وكان مغرما بجمع الحديث واستقصائه لذلك ألف عشرات الكتب في هذا المجال، يشتمل الواحد منها على بضعة أجزاء، وفي أحيان أخرى لا يزيد عن بضع صفحات.. ومن كتبه: "إسعاف المبطأ في رجال الموطأ"، و" تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك"، و" جمع الجوامع"، و" الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة"، و" المنتقى من شعب الإيمان للبيهقي"، و"أسماء المدلسين"، و"آداب الفتيا"، و" طبقات الحفاظ". وفي الفقه ألف "الأشباه والنظائر في فقه الإمام الشافعي"، و"الحاوي في الفتاوي"، و" الجامع في الفرائض" و" تشنيف الأسماع بمسائل الإجماع". وفي اللغة وعلومها كان له فيها أكثر من مائة كتاب ورسالة منها: "المزهر في اللغة"، و"الأشباه والنظائر في اللغة"، و"الاقتراح في النحو"، و"التوشيح على التوضيح"، و"المهذب فيما ورد في القرآن من المعرب"، و"البهجة المرضية في شرح ألفية ابن مالك". وفي ميدان البديع كان له: "عقود الجمان في علم المعاني والبيان"، و"الجمع والتفريق في شرح النظم البديع"، و"فتح الجليل للعبد الذليل". وفي التاريخ والطبقات ألف أكثر من (55) كتابًا ورسالة يأتي في مقدمتها: "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"، و"تاريخ الخلفاء"، و"الشماريخ في علم التاريخ"، و"تاريخ الملك الأشرف قايتباي"، و"عين الإصابة في معرفة الصحابة"، و"بغية الوعاة في طبقات النحاة"، و"نظم العقيان في أعيان الأعيان"، و"در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة"، و"طبقات الأصوليين". ومن مؤلفاته الأخرى الطريفة: "منهل اللطايف في الكنافة والقطايف"، و"الرحمة في الطب والحكمة"، و"الفارق بين المؤلف والسارق"، و"الفتاش على القشاش"، و"الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض". وقد شاءت إرادة الله أن تحتفظ المكتبة العربية والإسلامية بأغلب تراث الإمام السيوطي، وأن تطبع غالبية كتبه القيمة وينهل من علمه الكثيرون.
[عدل] تلاميذه
وتلاميذ السيوطي من الكثرة والنجابة بمكان، وأبرزهم "شمس الدين الداودي" صاحب كتاب "طبقات المفسرين"، و"شمس الدين بن طولون"، و"شمس الدين الشامي" محدث الديار المصرية، والمؤرخ الكبير "ابن إياس" صاحب كتاب "بدائع الزهور".
وفاته
توفي الإمام السيوطي في منزله بروضة المقياس على النيل في القاهرة في 19 جمادى الأولى 911هـ، الموافق 20 أكتوبر 1505 م، ودفن بجواره والده.
المصادر
• ... جلال الدين السيوطي - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة ـ الطبعة الأولى 1387 هـ=1967م.
• ... مصطفى الشكعة: جلال الدين السيوطي ـ مطبعة الحلبي 1401هـ، 1981م.
• ... عبد الحفيظ فرغلي القرني: الحفاظ جلال الدين السيوطي ـ سلسلة أعلام العرب (37) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1990.
• ... محمد عبد الله عنان: مؤرخو مصر الإسلامية ـ الهيئة العامة للكتاب ـ "سلسلة مكتبة الأسرة".
• ... موقع إسلام أون لاين: http://www.islamonline.net/arabic/history/1422/08/article09.shtml
ـــــــــــــــ(1/165)
الحافظ المؤرخ المفسر ابن كثير
1-نسبه وميلاده:
هو الإمام الحافظ، المحدث، المؤرخ، عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن درع القرشي الدمشقي الشافعي.
ولد بقرية "مِجْدَل" من أعمال بصرى، وهي قرية أمه، سنة سبعمائة للهجرة أو بعدها بقليل.
2-نشأته:
نشأ الحافظ ابن كثير في بيت علم ودين، فأبوه عمر بن حفص بن كثير أخذ عن النواوي والفزاري وكان خطيب قريته، وتوفى أبوه وعمره ثلاث سنوات أو نحوها، وانتقلت الأسرة بعد موت والد ابن كثير إلى دمشق في سنة (707 هـ)، وخلف والده أخوه عبد الوهاب، فقد بذل جهدًا كبيرًا في رعاية هذه الأسرة بعد فقدها لوالدها، وعنه يقول الحافظ ابن كثير: "وقد كان لنا شقيقا، وبنا رفيقًا شفوقًا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة (750 هـ) فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله منه ما تيسر وسهل منه ما تعسر" ((1) البداية والنهاية (14/ 32).)
3-شيوخه:
1-شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية، رحمه الله.
2-الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي، رحمه الله.
3-الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، رحمه الله.
4-الشيخ أبو العباس أحمد الحجار الشهير بـ "ابن الشحنة".
5-الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الفزاري، رحمه الله.
6-الحافظ كمال الدين عبد الوهاب الشهير بـ "ابن قاضي شهبة".
7-الإمام كمال الدين أبو المعالي محمد بن الزملكاني، رحمه الله.
8-الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى الشيباني، رحمه الله.
9-الإمام علم الدين محمد القاسم البرزالي، رحمه الله.
10-الشيخ شمس الدين أبو نصر محمد الشيرازي، رحمه الله.
11-الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني، رحمه الله.
12-عفيف الدين إسحاق بن يحيى الآمدي الأصبهاني، رحمه الله.
13-الشيخ بهاء الدين القاسم بن عساكر، رحمه الله.
14-أبو محمد عيسى بن المطعم، رحمه الله.
15-عفيف الدين محمد بن عمر الصقلي، رحمه الله.
16-الشيخ أبو بكر محمد بن الرضى الصالحي، رحمه الله.
17-محمد بن السويدي، بارع في الطب.
18-الشيخ أبو عبد الله بن محمد بن حسين بن غيلان، رحمه الله.
19-الحافظ أبو محمد عبد المؤمن الدمياطي، رحمه الله.
20-موسى بن علي الجيلي، رحمه الله.
21-جمال الدين سليمان بن الخطيب، قاضي القضاة.
22-محمد بن جعفر اللباد، شيخ القراءات.
23-شمس الدين محمد بن بركات، رحمه الله.
24-شمس الدين أبو محمد عبد الله المقدسي، رحمه الله.
25-الشيخ نجم الدين بن العسقلاني.
26-جمال الدين أبو العباس أحمد بن القلانسي، رحمه الله.
27-الشيخ عمر بن أبي بكر البسطي، رحمه الله.
28-ضياء الدين عبد الله الزربندي النحوي، رحمه الله.
29-أبو الحسن علي بن محمد بن المنتزه، رحمه الله.
30-الشيخ محمد بن الزراد، رحمه الله.
4-تلاميذه:
1-الحافظ علاء الدين بن حجي الشافعي، رحمه الله.
2-محمد بن محمد بن خضر القرشي، رحمه الله.
3-شرف الدين مسعود الأنطاكي النحوي، رحمه الله.
4-محمد بن أبي محمد بن الجزري، شيخ علم القراءات، رحمه الله.
5-ابنه محمد بن إسماعيل بن كثير، رحمه الله.
6-الإمام ابن أبي العز الحنفي، رحمه الله.
7-الحافظ أبو المحاسن الحسَيني، رحمه الله.
5-مؤلفاته:
أ-في علوم القرآن:
1-تفسير القرآن العظيم: وسيأتي الكلام عليه في المبحث الثاني إن شاء الله تعالى.
2-فضائل القرآن: وهو ملحق بالتفسير في النسخة البريطانية، والنسخة المكية، وقد اعتمدت إلحاقه بالتفسير لقرب موضوعه من التفسير؛ ولأن هاتين النسختين هما آخر عهد ابن كثير لتفسيره.
وقد طبعت مفردة بتحقيق الأستاذ محمد البنا في مؤسسة علوم القرآن ببيروت.
ب-في السنة وعلومها:
3-أحاديث الأصول.
4-شرح صحيح البخاري.
5-التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والمجاهيل: منه نسخة بدار الكتب المصرية برقم (24227) في مجلدين، وهي ناقصة ولديَّ مصورة عنها.
6-اختصار علوم الحديث: نشر بمكة المكرمة سنة (1353 هـ) بتحقيق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، ثم شرحه الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، وطبع بالقاهرة سنة (1355 هـ).
7-جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن: منه نسخة بدار الكتب المصرية برقم (184) حديث، ونشره مؤخرًا الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، وطبع بدار الكتب العلمية ببيروت.
8-مسند أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.
9-مسند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: نشره الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، وطبع بدار الوفاء بمصر.
10-الأحكام الصغرى في الحديث.
11-تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فقه الشافعية.
12-تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب: طبع مؤخرًا بتحقيق الكبيسي، ونشر في مكة.
13-مختصر كتاب "المدخل إلى كتاب السنن" للبيهقي.
14-جزء في حديث الصور.
15-جزء في الرد على حديث السجل.
16-جزء في الأحاديث الواردة في فضل أيام العشرة من ذي الحجة.
17-جزء في الأحاديث الواردة في قتل الكلاب.
18-جزء في الأحاديث الواردة في كفارة المجلس.
جـ -في الفقه وأصوله:
19-الأحكام الكبرى.
20-كتاب الصيام.
21-أحكام التنبيه.
22-جزء في الصلاة الوسطى.
23-جزء في ميراث الأبوين مع الإخوة.
24-جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها.
25-جزء في الرد على كتاب الجزية.
26-جزء في فضل يوم عرفة.
27-المقدمات في أصول الفقه.
د-في التاريخ والمناقب:
28-البداية والنهاية: مطبوع عدة طبعات في مصر وبيروت، أحسنها الطبعة التي حققها الدكتور علي عبد الستار وآخرون.
والنهاية مطبوع في مصر بتحقيق أحمد عبد العزيز.
29-جزء مفرد في فتح القسطنطينية.
30-السيرة النبوية: مطبوع باسم الفصول في سيرة الرسول بدمشق.
31-طبقات الشافعية: منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا، وقد طبع مؤخرًا في مصر.
32-الواضح النفيس في مناقب محمد بن إدريس: منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا.
33-مناقب ابن تيمية.
34-مقدمة في الأنساب.
6-ثناء العلماء عليه:
كان ابن كثير، رحمه الله، من أفذاذ العلماء في عصره، أثنى عليه معاصروه ومن بعدهم الثناء الجم:
فقد قال الحافظ الذهبي في طبقات شيوخه: "وسمعت مع الفقيه المفتي المحدِّث، ذى الفضائل، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الشافعي.. سمع من ابن الشحنة وابن الزراد وطائفة، له عناية بالرجال والمتون والفقه، خرَّج وناظر وصنف وفسر وتقدم" (1) .
وقال عنه أيضًا في المعجم المختص: "الإمام المفتي المحدِّث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال" (2) .
__________
(1) طبقات الحفاظ للذهبي (4/ 29) وعمدة التفسير لأحمد شاكر (1/ 25)
(2) المعجم المختص للذهبي.
وقال تلميذه الحافظ أبو المحاسن الحسيني: "صاهر شيخنا أبا الحجاج المزي فأكثر، وأفتى ودرس وناظر، وبرع في الفقه والتفسير والنحو وأمعن النظر في الرجال والعلل" (1) .
وقال العلامة ابن ناصر الدين: "الشيخ الإمام العلامة الحافظ عماد الدين، ثقة المحدثين، عمدة المؤرخين، علم المفسرين" (2) .
وقال ابن تغري بردي: "لازم الاشتغال، ودأب وحصل وكتب وبرع في الفقه والتفسير والفقه والعربية وغير ذلك، وأفتى ودرس إلى أن توفى" (3) .
وقال ابن حجر العسقلاني: "كان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع الناس بها بعد وفاته" (4) .
وقال ابن حبيب: "إمام روى التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ، والحديث والتفسير" (5) .
وقال العيني: "كان قدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، وسمع وجمع وصنف، ودرس، وحدث، وألف، وكان له اطلاع عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهى إليه رياسة علم التاريخ والحديث والتفسير وله مصنفات عديدة مفيدة" (6) .
وقال تلميذه ابن حجي: "أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث، وأعرفهم بجرحها ورجالها وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وكان يستحضر شيئا كثيرا من الفقه والتاريخ، قليل النسيان، وكان فقيها جيد الفهم، ويشارك في العربية مشاركة جيدة، ونظم الشعر، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إلا واستفدت منه" (7) .
وقال الداودي: "أقبل على حفظ المتون، ومعرفة الأسانيد والتعلل والرجال والتاريخ حتى برع في ذلك وهو شاب" (8) .
7-وفاته ورثاؤه:
في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة توفي الحافظ ابن كثير بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية، رحمه الله.
وقد ذكر ابن ناصر الدين أنه "كانت له جنازة حافلة مشهودة، ودفن بوصية منه في تربة شيخ الإسلام ابن تيمية بمقبرة الصوفية".
وقد قيل في رثائه، رحمه الله:
لفقدك طلاب العلوم تأسفوا ... وجادوا بدمع لا يبير غزير
ولو مزجوا ماء المدامع بالدما ... لكان قليلا فيك يا بن كثير
__________
(1) ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني ص 58، وعمدة التفسير لأحمد شاكر (1/ 26).
(2) الرد الوافر.
(3) النجوم الزاهرة (11/ 123).
(4) الدرر الكامنة.
(5) شذرات الذهب لابن العماد (6/ 232).
(6) النجوم الزاهرة (11/ 123).
(7) شذرات الذهب لابن العماد (6/ 232).
(8) طبقات المفسرين.
ـــــــــــــــ(1/166)
الدكتور سيد نوح العالم الرباني
عالم رباني فقدناه ...
الشيخ عبدالحميد البلالي
لم تمنع حرارة يوم 30 يوليو 2007م، والتي تجاوزت الخمسين درجة مئوية، آلاف المحبين من جميع الجنسيات من التوافد على مقبرة الصليبخات لتوديع العالم الرباني الدكتور السيد نوح، بعد أن غادرنا يوم الإثنين 30-7-2007م بعد مرض عضال لم يغير من أخلاقه العالية، وسمته الذي يشبه سمت التابعين، رضي الله عنهم.
فقد زرته في المستشفى قبل وفاته بعشرة أيام، فوجدته راقداً على سرير المرض في مستشفى ثنيان الغانم، وقد مُنعنا من الدخول عليه، ففتحوا الباب، وإذا بالمرض قد أخذ الكثير من وزنه، وبالرغم من كثرة الأسلاك الموصلة بجسده، إلا أن الابتسامة لم تفارقه، فرفع يده إلي مسلماً علي، وابتسامة الإيمان تملأ وجهه الراضي بما كتب الله له..
لقد تعرفت على د. السيد نوح في دولة الإمارات منذ ما يقارب خمس عشرة سنة أو يزيد، وكان لقاءً مشتركاً في محاضرة، ومنذ تلك اللحظة أيقنت أنني أمام عالم رباني يختلف تماماً عن الكثير من علماء هذا العصر، ففي تلك المحاضرة سلم علي بحرارة، وكأنه يعرفني منذ عشرات السنين، وفاجأني حينها بعبارة تدل على تواضع عظيم، عندما قال لي : "أنا أستفيد من كتبكم" فقلت : أستغفر الله. من أنا يا شيخ حتى تستفيد من كتبي!.. لم يقل ذلك مجاملة، بل قالها متجرداً من الألقاب والشهرة، والعلم، قالها لأن الفقيه الحق هو من تواضع للآخرين عن قدرة. فقد خرج الحسن البصري مع صاحبين له يتذاكرون التواضع فقال لهما: وهل تدرون ما التواضع؟ التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
كان يرحمه الله صاحب همة عالية، فلا تكاد تراه إلا وهو في شغل للدعوة إلى الله، ما بين خطبة جمعة أو درس في مسجد، أو حلقة علم يديرها، أو إصلاح بين الناس، أو قراءة، أو بحث ينفع به المسلمين أو سفر لنشر دعوة الله تعالى، حتى بعدما ذهب إلى الصين لزرع كبد جديد، وعودته للكويت، ما إن رأى من نفسه شيئاً من العافية حتى نفض الغطاء عن جسده الواهن، وانطلق إلى مسجده وحلقته وطلبته ينير لهم طريق الحق..
قد ترى الكثير من الناس في حالات متعددة بين الابتسامة والعبوس، أو بين الضحك والبكاء، أو بين السخط والرضا، ولكنني لم أر د. السيد نوح يرحمه الله، ولم ألقه يوماً من الأيام إلا والابتسامة تملأ محياه، حتى في مرض الموت لم تفارقه الابتسامة، وكان إذا سأله أحد وهو في مرضه عن صحته، يقول: "بخير.. الحمد لله".
لقد كان يرحمه الله سريع الدمعة، غزير العبرة، شديد التأثر بكتاب الله تعالى، يقول أحد الذين صلوا يوماً بجانبه: لقد سمعته يبكي بكاءً شديداً عندما قرأ الإمام، ولم يتوقف أبداً من البكاء، حتى انتهت الصلاة، وطلبوا منه أن يقول خاطرة، فقام أمام الناس، وقال: "لا كلام بعد كلام الله، ولا موعظة بعد مواعظ الله". ثم انصرف، واكتفى بهذه الموعظة.
كنت نقلت له عتاب بعض الإخوة علي لاختصاري لبعض المعاني في كتبي الدعوية، رد علي يرحمه الله أنت اختصر ونحن نفصل.. ومن قرأ كتبه حقاً يستمتع بذلك التفصيل غير الممل، والمليء بالعلم، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمجموعة من أروع الكتب في السلوك والدعوة.. منها كتاب "زاد على الطريق"، وكتاب "آفات على الطريق" وكتاب "توجيهات نبوية" والذي يلمس فيه القارئ غزارة العلم، من خلال فهم عميق للأحاديث النبوية، كيف لا وهو المتخصص في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
كان رحمه الله ورضي عنه إذا تحدث في محاضرة أو خطبة، يظن السامع أن المصحف مفتوح أمام عينيه، يختار ما يشاء من الاستشهادات القرآنية دونما تلعثم أو نسيان، بل بسهولة وسرعة بديهة..
وكان المحتك به يحس كأنه تابعي جاء من ذلك الجيل وعاش بيننا..
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع.. ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفراقك يا سيد لمحزونون.
وكما يقول أبو فراس الحمداني:
لا بد من فقد ومن فاقد
هيهات ما في الناس من خالد
نسأل الله أن يرحم فقيد الأمة الإسلامية رحمة واسعة. وأن يعيننا على الصبر والسلوان، وأن يلهم ذويه الصبر والاحتساب، وأن ينفعنا بعلمه الذي تركه، وأخلاقه التي ربت جيلاً من الأتباع والمحبين.. وأن يجمعنا وإياه على سرر متقابلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
-----------------
أمير الدعاة..سلام عليك
سلام عليك يا حافظ القرآن، وعالم الشريعة الفقيه، وداعية الإسلام الفذ، وعالم الأمة الهمام، ولسان الهداية الفصيح، ومربي الأجيال القدوة، وموجه الشباب الكريم.
سلام عليك يا صاحب الخلق الفاضل، والحياء الجميل، والأدب الجم، والنفس الطاهرة، والصدر السليم، والأخوة الحانية، والجهد العظيم.
سلام عليك كريماً في عطائك، سمحاً في بذلك، حانياً في أخوتك، نبيلاً في عشرتك، عزيزاً في نفسك، عفيفاً في يدك.
سلام عليك من الجمهور المحب لك، ومن السائرين في ركابك، والمتفقهين عليك، ومن العاشقين لحديثك، ومن إخوانك المكلومين بفراقك، الفاقدين لعلمك ورجولتك وهديك وجهادك وعاطفتك وسندك وتوجيهك وحنانك.
سلام عليك يا أمير الدعاة وعالي الهمة، صوالاً بكلمة الحق، فما مالأت ظالماً، ولا مدحت سلطاناً، ولا نافقت حاكماً، ولا هادنت فاسقاً، بل كنت دائماً سنداً للحق، وسيفاً على الباطل، ومعيناً لأصحاب الحاجات ومساعداً للمحتاجين والمكلومين، فأنت بحق باق بذكراك ومآثرك، حي بعلمك وآثارك.
يموت الصالحون وأنت حي تخطاك المنايا ولا تموت
وصدق النبي {: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له".
سلام عليك مجاهداً في سبيل الحق، ومرشداً لدروب العلم وموجهاً لأنوار المعرفة وماحيا لظلام الجهالة ومصلحاً لاعوجاج الطبائع ومداوياً لنزغات الشياطين، وباعثاً للنهضة الثقافية الحقة التي تزود الأمة بالرجال الصالحين والشباب العاملين.
سلام عليك ياعلم الهداية وقدوة الدعاة ومبعث النور ومصدر التوجيه للصلاح والإصلاح، وباني العقول والأفهام وقائداً للغر الميامين وإماماً للركع السجود وقائماً بالسنن والفروض ومعيناً للمسرفين على التوبة والإنابة والعمل لليوم الموعود.
سلام عليك جبل الثقافة السامق الذي تتحطم على جنباته أمواج الغزو الثقافي الذي كاد بدهاقينه أن يطبق على خناق العامة ويلفت أهواء مثقفي الأمة إليه، بحيله وأفانينه ومصطلحاته وأضاليله، تارة باسم التنوير، وأخرى باسم العالم المتحضر أو قل (المتوحش)، أو باسم العالم الحر، وهي أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان، وما لها من أصل في الحقيقة، ولكنها صيحات وترهات يطلقها مستعمرو الأمس واليوم ويرددها أذنابهم وعملاؤهم، تلك التي أذاقت الناس الشر والوبال وأرهبتهم وسفكت دماءهم ونهبت ثرواتهم وشجعت البغي والتطهير العرقي وحمت الدكتاتوريات والظلَمة وسراق الشعوب.
فإذا وجدت معك مكافحاً لهذا الغثاء، ومحارباً لهذا الخبال، أفلا تسر وتفرح وتسعد وتهنأ؟ وإذا فقدت سندك ومساعدك وعضدك في مواجهة هذا الزحف، أفلا تحزن وتبتئس وتجزع وترتعد؟
عظيم الناس من يبكي العظاما ويندبهم ولو كانوا عظاما
وأكرم من غمام عند محْل فتى يحيي بمدحته الكراما
وما عذر المقصر عن جزاء وما يجزيهمُ إلا كلاما
هكذا كان سيد نوح، الداعية المتفتح الذي يفهم عصره ويعرف زمانه ويَخبُر عدوه ويجاهد ضلاله وبهتانه.
سلام عليك مبكي الجموع على حال المسلمين، وموجه الجماهير إلى الطريق المستقيم في زمن نادى فيه الدم المسفوح والأشلاء المتناثرة والهلكى وما يسمعهم أحد، وصاح فيه الشيخ المعروق الواهن فلم يجبه إنسان، وبكى فيه الصبي البائس المقروح، وندبت فيه الأسيرة المنهوكة، فما يلبيها مسلم، نادوا بحق الدم، بحق القربى، بحق الإنسانية، بحق الدين، بحق محمد، بحق رب محمد، نادوا: وا إسلاماه، فما أسمعوا أحداً ولا تحرك قلب!
قد كان فقيدنا د. سيد نوح، على حال المسلمين دوماً ينوح، كان يتمزق كمسلم غيور وداعية مخلص، من كمد، ويتفطر قلبه من حسرة وتتقرح كبده من لوعة، لما آل إليه حال الأمة، وكان ينادي مع المخلصين: يا أهل القرار وأصحاب أمانة الحكم، وأصحاب الفخامة والمعالي والجلالة والمهابة والعزة. فما كان يسمع لأحد ركزاً، ولكنه لم ييأس، بل كان يقول: حسبنا أن تتيقظ الشعوب، ولا تيأس الأمة من الإصلاح.
ها أنت اليوم قد ودعتنا، والحمل ثقيل، والطريق وعرة، والكفاح مرير، والحروب ضروس، ولكن يكفيك ما قدمت لتضرب المثل لأمة تنهض إن شاء الله وإن روعها الأسى و انتحب المخلصوب فيها لفراقك:
لو أن أوطاناً تُصوَّر هيكلاً دفنوك بين جوانح الأوطان
أو كان يُحمل في الجوانح ميت حملوك في الأسماع والأجفان
سلام عليك من قلوب تفطرت لفراقك، لأنها تعرف قدرك، ومن مهج التعاعت لرحيلك، لأنها تآخت معك وسعدت بقربك.
سلام عليك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
سلام عليك ورحمة الله وبركاته.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
د.توفيق الواعي
---------------------
د. نوح.. ذلك الصابر المحتسب
كل مَن عرفه تأثَّر به وبأخلاقه.. إن جالسته تشعر بهيبة العالم، ووقار الحكيم، وحنوّ الوالد، وتواضع ابن البلد.. لم يغير لهجته (لجهة ابن البلد) والتزم الزيَّ الأزهريَّ.. كانت بسمته وضَّاءةً مشرقةً.
له تواضُع يلزمك الصمت أثناء حديثه، فهو حازم وشديد، ومع ذلك رقيق وطيب، إنسان صادق، سريع الدمعة، كلما مرَّ على لفظ الجلالة أو ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ يبكي ويُبكي مَن حوله، مَن رآه أحبه في الله.
عنده هدف، ورسالة يعيش من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى الله، وإصلاح الناس.. يحب العلم حبًّا شديدًا، فقد عاش مع العلم أكثر من أربعين سنةً من عمره، تأخَّر قليلاً عن المحاضرة ذات يوم، ربما لدقائق، فأخذ يعتذر، وأخبرنا بأنه قَدِمَ من المستشفى، فقلنا له: يا دكتور.. لا ترهق نفسك، فقال: "بالعكس، أنا سعادتي مع العلم، أنا كالسمكة التي لا تعيش بدون الماء، فكذلك لا أستطيع العيش بدون العلم".
حريص على وقته، دقيق في مواعيده، له طريقة في التعليم بديعة ومبتكرة، تُخرج الطالب متمكنًا من المادة العلمية، غنيًّا بالمعلومات.. سعادته في خدمة الناس، وتقديم العون ومساعدتهم، فمسجده الذي يصلي به ممتلئ بالفقراء وأصحاب الحاجات.
له قبول في قلوب الناس، كثير العبادة، يقرأ في اليوم الواحد ما يقارب خمسة إلى عشرة أجزاء.
أُصيب قبل سنتين تقريبًا بسرطانٍ في الكبد، وكان متعبًا كثيرًا حتى إنه سقط في الغيبوبة أكثر من مرة، وفي يوم إجراء العملية يقول: متُ فأحياني الله، وهذا بفضل الله أولاً وآخرًا، ولصلاح الرجل- نحسبه والله حسيبنا وحسيبه- ثم بدعاء محبيه والناس له.
يصفه الدكتور عصام العريان فيقول: "كان مثالاً للعالم الرباني المتواضع في غير ذلّة، العفيف في غير غنى، الفقير إلى الله وحده، القويّ في الحق، الناصع الحجة عند الجدل، القدوة في التربية والسلوك، الفصيح عند الخطابة، المنتصر عند المحجة، كان صابرًا محتسبًا راضيًا، قانعًا بقضاء الله تعالى، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، عينه تفيض بالحب والود لكل مَن يلقاه، خاصةً هؤلاء الأحباب الذين فرَّقت بينه وبينهم الديار، فمَن هو هذا الذي جعل الدعوة إلى الله رسالته التي يحيا لها؟!
مَن هو هذا الصابر المحتسب؟!
مَن هو هذا العالم الرباني الذي يصدق فيه قول الحسن البصري- رضي الله عنه-: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما طرد الليل والنهار".
هيا بنا لنتعرف عليه أكثر ونقتدي به، وندعو له بالرحمة والمغفرة والرضوان.
في قرية أبو غانم التابعة للكراكات مركز بيلا محافظة كفر الشيخ كان مسقط رأسه، ثم انتقل إلى المحلة الكبرى، ودرس بالأزهر الشريف، وتخرَّج في كلية أصول الدين جامعة الأزهر 1971م، وحصل على الماجستير عام 1973م في موضوع: "زواج النبي بزينب بنت جحش وردّ المطاعن التي أُثيرت حوله في ضوء المنهج النقدي عند المحدثين" من جامعة الأزهر، وعلى الدكتوراه في موضوع: "الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي وجهوده في كتاب تهذيب الكمال".
وشَغَل فقيد الدعوة عدة وظائف، منها:
- أستاذ حديث وعلومه بجامعة الأزهر.
- أستاذ زائر بجامعة قطر كلية الشريعة من 1981- 1982م.
- أستاذ مساعد بجامعة الإمارات المتحدة كلية الآداب في مادة التفسير وعلومه والحديث وعلومه من 82-91م.
- أستاذ الثقافة الإسلامية وأصول الدين كلية دبي الطبية للبنات 91- 93م.
- أستاذ مشارك بكلية الدراسات العربية والإسلامية دبي.
- أستاذ مساعد بكلية الشريعة جامعة الكويت من 93- 99م.
- أستاذ الحديث وعلومه بكلية الشريعة الآن.
- عضو مجلس كلية الشريعة.
- أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وشارك في مناقشة العديد منها.
- رئيس قسم التفسير والحديث بكلية الشريعة جامعة الكويت
- عضو مجلس جامعة الكويت.
نشاطه
- عضو مجلة الشريعة بكلية الشريعة جامعة الكويت لمدة سنتين.
- رئيس برنامج الحديث وعلومه والدراسات العليا بجامعة الكويت الآن.
- خطيب متطوع بوزارة الأوقاف لمدة ثماني سنوات.
- له نحو 16 بحثًا منشورًا ومحكمًا.
- عضو في لجنة الترقيات بالكلية.
- عضو المجلس العلمي الاستشاري لمدة سنة.
- قام بالتحكيم في أكثر من 15 بحثًا علميًّا في مجلات علمية معتمدة في الكويت وبقية دول الخليج وبلدان أخرى من العالم الإسلامي.
- له سلسلة إذاعية بعنوان "جهود علماء المسلمين في خدمة الحديث النبوي".
- كاتب بمجلة "المجتمع" وبمجلة "الوعي الإسلامي".
- شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات.
- له دروس ثابتة بالكويت في الجمعيات النسائية، مثل: "جمعية لجنة: ساعد أخاك
المسلم"، والجمعية النسائية بالشامية، وجمعية الرعاية الإسلامية.
مؤلفاته
له مؤلفات مطبوعة ما بين مطول ومختصر تصل إلى 20 كتابًا، من أهمها:
"توجيهات نبوية، آفات على الطريق، شفا الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين، الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث، التابعون وجهودهم في خدمة الحديث، منهج الرسول في غرس روح الجهاد في نفوس أصحابه، شخصية المسلم بين الفردية والجماعية، الدعوة الفردية في ضوء المنهج الإسلامي".
عِبَرٌ من المحنة
وقد امتحنه الله بالمرض، فقد أُصيب- رحمه الله- مؤخرًا بتضخم الكبد مع ورمٍ سرطاني فيه يزيد على خمسة سنتيمترات، مما استدعى أن يقوم بعملية زرع كبد.. فلنترك له المجال ليحكي لنا عن بعض خواطره عن تلك المحنة.
دعاء السحر
في ليلةٍ من ليالي المرض دعوتُ ربي أن يُفرِّج عني وأن يرزقني قليلاً من النوم، وبينما أنا أدعو أخذتني سنةٌ من النوم، فأتاني أقوام أسمع أصواتهم ولا أراهم بستة متكآت من الإستبرق، وقالوا لي: نَمْ.. وفعلاً نمت نحو نصف ساعة، استيقظتُ بعدها مستريحًا كأنما نمتُ أيامًا، فقلت: هذا عطاءٌ من ربي ببركة الدعاء في جوف الليل.
أفعال لا تخالف الأقوال
كنتُ أنبه الناسَ وأوصيهم برعاية هذه الأخلاق وتلك الآداب، وأنا غارقٌ في أداء واجب الدعوة، مهملاً بدني أيما إهمال، بدعوى أن العمر محدود وأن الأمة بحاجةٍ إلى أقل الجهد حتى تتحرر من سيطرة الأعداء ثقافيًّا وفكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وكنتُ بذلك كمَن يُضيء الطريق لغيره ويمشي هو في الظلام ناسيًا مبدأً مهمًّا في ديننا الحنيف، وهو أن العبرة بالأفعال التي لا تتعارض مع الأقوال، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)} (البقرة).
وإن من ينهج هذا النهج مآله الانقطاع وعدم الاستمرار، وكم نصحني المقربون مني: "تذكر ما تقوله لنا واعلم أن الصحةَ تاجٌ على رءوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى، وأنك مسئولٌ عن صحتك مسئوليةً كبرى أمام الله عز وجل يوم القيامة"، وأنا لا أعير كل ذلك أذنًا، ولا أُعطيه اهتمامًا.
ماذا أقول لربي غدًا؟
طال بقائي في العناية المركزة لنحو أسبوع، والذي كان يشغل بالي، ماذا أقول لربي غدًا، وقد أهملتُ بدني وصحتي حتى صرتُ إلى هذا الوضع السيئ المخيف؟ بل كان الذي يشغلني أكثر الخوف من عقاب ربي لي على ذلك بأن يحرمني النطق بالشهادتين عند الموت، فأخسر الدنيا والآخرة.
وكم تضرعتُ لربي أن يُسامحني وأن يعفو عني وأن يختم لي بالإيمان، وعاهدتُه سبحانه إن عافاني هذه المرة أن تكون عنايتي ببدني وصحتي في أوائل اهتمامي مع مراعاة الجوانب الأخرى في حياتي، فأحقق بذلك التوازن والتكامل الذي دعا إليه الشرع الحنيف.
وعدتُ بذاكرتي إلى ما كنتُ أدعو الناس إليه من ضرورة استفراغ الطاقة والجهد في الوصول إلى السنن الكونية، والنفسية، وهي مبذولة من الله لمَن يطلبها بجدٍّ واجتهاد.
لقد طلبها غير المسلمين، ونفرٌ قليلٌ من المسلمين فأكرمهم الله بها، وقعد كثيرٌ من المسلمين عن طلبها فحرمهم الله منها، وأصبحوا عالةً على غيرهم فيها، والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، وإليه يرجع الأمر كله.
حسرة تعتصر الفؤاد
ونزلنا في أرقى دارٍ للعلاج في مصر (دار الفؤاد) بسبب تعاقدها مع أطباء يابانيين وأوروبيين.. دارٌ للعلاج تبني سمعتها ومنزلتها بين دور العلاج على التعاقد مع أطباء أجانب!
يا لها من حسرةٍ تعتصر الفؤاد أن تصل أمة القيادة البشرية إلى هذا المستوى، والطب عند هؤلاء مصدره المسلمون في الأندلس.
أعقمت مصر؟ أعقمت بلاد العرب؟ أعقمت بلاد الأمة كلها عن إنجاب أطباء عمالقة في جراحة الكبد؟ هل ذلك راجع إلى غباء أبناء هذه الأمة؟ هل ذلك راجع إلى قلة الإمكانات المادية اللازمة لقيام مثل هذه الجراحة؟
تصور أنه لا هذا ولا ذاك،
إنه راجع إلى حالة التشرذم والفرقة التي تعيشها الأمة على المستوى الدولي والإقليمي والمحلِّي، الحكومي والشعبي.
فضلاً عن ضعف الإيمان وسيطرة النزعة المادية على كثيرٍ من أبناء هذه الأمة، بحيث صار كلٌّ يقول: نفسي نفسي، وإنه راجع كذلك إلى ضعف القيادة، واشتغالها بدنياها عن رعاية مصالح الأمة وتقدير العلماء النابهين وتشجيعهم.
"لقد جرت سنة الله في خلقه أن ينتقم ممن حاربه شر انتقام، فأين عاد وفرعون وإخوان لوط؟ وأين مَن كذبوا الرسل وتفننوا في الإساءةِ إليهم، وفي الدعوة إلى صرف الناس عمَّا يدعون إليه من فضيلة وأخلاق.
تلميذه وجليس دروسه يوسف نور الدين
---------------
الشيخ السيد نوح.. الداعية الرباني
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
في الوقت الذي يهتم فيه الإعلام الرسمي وغير الرسمي بالمُخرِجين والفنانين، ومن لم يقدموا للأمة شيئًا يُنْهِضُها من كبوتها المعاصرة، أو يعزز مسيرتها الحضارية.. يجب علينا أن نحييَ ذكرى علمائنا الأطهار ودعاتنا الأبرار، الذين جعلوا حياتهم وقفًا على الدعوة، وسخروا كل ما يملكون من وقت وجهد ومال وعلم في خدمة دين الله، فحقق الله على أيديهم نتائجَ مبهرةً، وأثمرت جهودهم وجهادهم ثمرات يانعة، وأسست في حياتهم بسعيهم ونداءاتهم مؤسسات كثيرة لا يمحو أثرَها في الأمة اختلافُ الليل والنهار.
وبحلول يوم الأربعاء 30/7/2008م الموافق 27 رجب 1429هـ تحل علينا الذكرى الأولى لعالم وداعية رباني حبيب إلى قلوبنا، عزيز على أنفسنا، خسرت الدعوة بموته عَلمًا من أعلامها، وفقدت الأمة بفقده كوكبًا من كواكب الهداية في سمائها.. إنه العالم المحدِّث، والداعية الرباني الشيخ الدكتور السيد محمد نوح، عليه رحمة الله ورضوانه.
المولد والنشأة (1)
ولد السيد محمد السيد نوح في عزبة السباعي الشهيرة بـ"عزبة غانم" التابعة لقرية الكوم الطويل في مركز بيلا بمحافظة كفر الشيخ في جمهورية مصر العربية في 23 جمادى الأولى 1365هـ الموافق 24 أبريل 1946م لأسرة ريفية فقيرة؛ الأب فيها يعمل بالزراعة، وله عشرة إخوة: خمسة أشقاء، وخمسة غير أشقاء؛ حيث تزوج أبوه محمد السيد نوح من ثلاث نسوة، وكان فقيدنا أكبر إخوته سنًّا؛ حيث تزوج من أخت الشيخ زين العشري أحد زملائه الذين كان يحبهم ويتأثر بهم، وأقام في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، وأنجب عشرة من الأولاد: تسعة ذكور، وبنتًا واحدةً.
أتم حفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمانية أعوام، ثم انتقل إلى المعهد الأزهري الابتدائي بكفر الشيخ، ثم إلى معهد المحلة الأزهري الثانوي ليحقِّق في الثانوية الأزهرية ترتيب الأول على محافظته والثالث على الجمهورية، ثم تخرَّج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، وتدرج حتى حصل على العالمية "الدكتوراه" عام 1976م.
وقد حمل سيد نوح هموم أسرته الفقيرة منذ الصغر، فكان يشارك في إعالتها عبر المكافآت (45 جنيهًا مصريًّا) التي كان يتقاضاها من الأزهر بحكم تفوقه الدراسي حتى كان هدفه من حصوله على الماجستير والدكتوراه- إلى جانب تحصيل العلم- تحسين حاله وحال أسرته الاقتصادي.
تأثر في المرحلة الثانوية تأثرًا كبيرًا بالشيخ إبراهيم خميس، ثم بالشيخ عبد الفتاح سلطان، وهيَّأ له القَدَر في مرحلة الدكتوراه أن يقرأ كتاب: "العبادة في الإسلام" للشيخ يوسف القرضاوي الذي أثَّر فيه تأثيرًا كبيرًا، وأدرك من خلاله سر وجوده ومهمته في الحياة.
كان الشيخ موغلاً في التصوف، وكان صادقًا في تصوفه، وكان شيخه في هذا الشيخ عبد السلام أبو الفضل إمام مسجد العباسي في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في ذلك الوقت الذي تتلمذ على يديه هو ومحمد محمد الشريف، وحسن الحفناوي، وكان الشيخ سيد- يرحمه الله- متابعًا لمجلة الدعوة الإخوانية، ومعجبًا بما يكتبه الأستاذ عمر التلمساني، ومتابعًا لنشاط الأستاذ محمد العدوي في قرية محلة أبو علي التابعة للمحلة الكبرى، فأراد الشيخ الدكتور يحيى إسماعيل رفيق عمره في الدراسة والدعوة والتخصص، أن ينقل إليه بعضًا من فكر الإخوان ومنهجهم، ودله على الشيخ محمد العدوي.
وفي إحدى المناسبات تقابل د. نوح بالشيخ العدوي وعرَّفه بنفسه، فقال له الشيخ العدوي: "أين أنتم؟! وأين دور علماء الأزهر؟!" فقال له الشيخ نوح: فيكم الكفاية والبركة إن شاء الله، فقال له العدوي: "انطلقوا وجاهدوا ونحن أحذية في أقدامكم".
وكان هذا من الأسباب البارزة لالتحاقه بالإخوان المسلمين، والتي كان لها دور بارز في تفتيح آفاقه ليطل منها على قضايا الأمة، ويصبح داعيةً شاملاً؛ يحمل هموم أمته بعد أن كان مجرد واعظ وأكاديمي، فتفجَّرت فيها طاقاته الدعوية، وملكاته الإيمانية والتربوية، وانطلق انطلاقته المباركة حتى قُطعت أنفاس كل من كان يعمل معه، ولقي الله وهو على ذلك.(1/167)
بعد تعيينه بعامَين مدرِّسًا بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، استقدمه الشيخ رءوف شلبي وكيلاً لأصول الدين في المنصورة لمساعدته في تنفيذ برنامجه التربوي هناك، وشجَّعه الشيخ العدوي على ذلك، ثم انتُدب أستاذًا زائرًا في كلية الشريعة بدولة قطر عام 1981م؛ حيث كان عميدها في ذلك الوقت الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، ثم انتقل إلى الإمارات عام 1982م، ومكث فيها حتى عام 1993م، وهو العام الذي انتقل فيه إلى كلية الشريعة بجامعة الكويت أستاذًا للحديث وعلومه إلى أن وافته المنية.
ومن الجدير بالذكر أن الشيخ أُخْرِج من مصر عام 1993م لظروف أمنية، وظل حتى عام 2003م بعيدًا عن أمه إلى أن استقدمها في العام نفسه إلى الكويت، وذهب معها إلى الأراضي المقدسة ليقضيَ معها فريضة الحج، ولم ينزل مصر إلا مريضًا في عام 2005م في مستشفى دار الفؤاد بمدينة 6 أكتوبر بالقاهرة.
صفاته الإنسانية والخلقية
تمتع الشيخ بمجموعةٍ من الصفات أجمع عليها كل من عرفه، حتى إن من اقترب منه وتعامل معه لا يملك إلا أن يتمثَّل ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض" (2).
وأحسب أن الشيخ قد وُضِع له القبول في الأرض بما آتاه الله من صفات كريمة وخلال حميدة، ومن أهم هذه الصفات:
الإخلاص: ومع أن الإخلاص سرٌّ بين العبد وربه؛ لا يستطيع أحد أن يقطع به، فإن له آثارًا وشواهدَ تدل عليه، وأعمالاً ومظاهر تقود إليه؛ منها أن كلامه كان يمس شغاف القلوب بالرغم من أنه كلام يقوله غيره لكن لا يكون له مثل هذا الأثر، ومنها مشهده في الصلاة الذي كان يزيد من رآه إيمانًا، وكان كثير البكاء كما سبق القول.
وكان من أهل الليل، ومن أهل القرآن؛ حيث كان حريصًا على وِرْد القراءة ووِرْد المراجعة، فكان وِرْده اليومي ستة أجزاء التزم بها حتى في أيام مرضه، أما في رمضان فقد كان له مع القرآن شأن آخر؛ حيث كان التهجد عنده يبدأ من أول رمضان، وله في رمضان ثلاث ختمات: الختمة الأولى في العشرين الأوائل، والختمة الثانية في العشر الأواخر، والختمة الثالثة في صلواته فرائض ونوافل أثناء نهار رمضان وليله، هذا في الصلوات، أما في ورد القراءة اليومي فقد كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام من أيام رمضان.
حتى رأيت قول الإمام الشاطبي متحققًا فيه أكمل ما يكون التحقق، من أن القرآن الكريم: "كليةُ الشريعة، وعمدةُ الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاةَ بغيره، ولا تَمَسُّكَ بشيء يخالفه.
وإذا كان كذلك لَزِمَ ضرورةً لمن رامَ الاطلاعَ على كلياتِ الشريعة، وطَمِعَ في إدراك مقاصدها واللحاقِ بأهلها أن يتخذَه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مرِّ الأيام والليالي؛ نظرًا وعملاً، لا اقتصارًا على أحدهما، فيوشك أن يفوزَ بالبُغْيَةِ، ويظفرَ بالطُّلْبَةِ، ويجدَ نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول" (الموافقات: 4/346، طبعة دار الفكر العربي).
ومنها التواضع: فكان تواضعه لا يصدر عن تكلُّف أو تصنُّع أو مجاملة، بل كان تواضعًا صادقًا خالصًا حقيقيًّا غير مشوب بما يكدِّر صدقه وصفاءه.
وقد قاده هذا التواضع إلى صفة أخرى هي صفة إنكار الذات؛ فكان لا يرى لنفسه حقًّا عند أحد، ولا يرى ذاته ولا عمله في أي مقام، بل كان يشعر مع نفسه، ويُشعر غيره بالتقصير في جنب الله وفي حق الإسلام ودعوته، حتى إنه كان يعتذر مبكرًا للمتحدثين معه إذا ظهر خلافٌ في معرض الأحاديث الخاصة حتى لو لم يكن مخطئًا؛ إنجازًا للمهام، وحرصًا على الوقت، وتنازلاً عن حق نفسه، وسدًّا لباب الجدل والمِرَاء الذي لا يأتي بخير، كما كان يعتذر عن إخوانه ويتنازل عن حظه من أجلهم، ويعطي من حقه لحقوقهم؛ إيثارًا وحبًّا، وبغيةً في ثواب الله.
ومن الصفات الإنسانية التي تميَّز بها الشيخ الدكتور نوح: السماحة والحلم، فكان سمحًا مع كل الناس، حليمًا عليهم، بالرغم من غلظة بعضهم وجلافة بعض آخر، ومع علمه بحقيقة كل من يعامله كان يبادل المسيء إحسانًا، والمحسن إحسانًا مضاعفًا، حتى أحبه غير المسلمين.
ولعل أبرز الصفات التي تمتع بها أنه كان دائمًا في حاجة الناس، وكان موئل الناس في قضاء حوائجهم ومصالحهم، كما كان نشطًا في الجانب الاجتماعي؛ فلا يقصر في حق من الحقوق الاجتماعية العامة، ولا الحقوق الاجتماعية الخاصة، فضلاً عن علاقاته الاجتماعية مع رفاق دربه.
كل هذه صفات وغيرها تحتاج إلى سرد مواقف للتدليل عليها بما يضيق المقام عنه هنا، وهي مواقف كثيرة ومتنوعة شهد بها الموالي والمعادي، والمسلم وغير المسلم.
صفات التكوين العلمي
العلماء الربانيون هم الذين يجمعون بين العلم والعمل والتعليم، فلا يبلغ العالم أن يكون ربانيًّا إلا إذا تعلَّم ما يجهل، ويَعْمل بما عَلِم، ويُعَلّم ما يَعْلم.
وأحسب أن الشيخ سيد نوح جمع بين العلم والعمل والتعليم؛ فهو عالم أزهري متمكن، لا سيما في مجال السنة وعلوم الحديث كما سيأتي، عامل بما علم؛ فكان صوَّامًا قوَّامًا ذاكرًا لله تعالى، وكانت له دروسه التعليمية لكل الفئات: للعمال، ولطلبة العلم، وللمتخصصين في العلم الشرعي، كما كان العلم رحمًا موصولةً بينه وبين إخوانه من الدعاة والعلماء.
ومن صفات التكوين عنده أنه جمع بين الدعوة والتأصيل الشرعي، ولِمَ لا، وهو العالم المتضلع من السنة وعلومها، الماهر بالقرآن حفظًا وتلاوةً واستحضارًا واستشهادًا؟! فكثير من الدعاة ينطلقون على غير بصيرة، لا سيما ونحن في عصر الفضائيات والدعاة الجدد، وكثيرٌ من الشرعيين لا يتحرَّكون بعلمهم ولا يكون لهم نصيب في الدعوة والحركة بهذا العلم، ومن هنا نقول: إننا نعاني في الواقع العملي الفقهي والدعوي معًا من وجود فجوة ليست صغيرةً بين الفقيه وساحة الدعوة، وبين الداعية ومجال الفقه؛ فقلما تجد داعيةً يملك عقل الفقيه، أو فقيهًا يحمل روح الداعية.
إنما الفقيه معزول عن الواقع والحياة، والداعية بعيد عن محراب العلم الشرعي الرصين، في حين أنه لا تنافرَ بينهما في التصور الشرعي، بل كلاهما يستدعي الآخر ويستوجبه؛ فلن يجدد الدين في عقول الأمة إلا فقهاء يحملون أرواح الدعاة، ودعاة يملكون عقول الفقهاء، وقد جمع الشيخ سيد نوح هذه المعادلة المهمة، ووفقه الله فيها إلى حد بعيد.
ومن صفات وآثار تكوينه العلمي السليم أنه يقوم بتوصيل المعاني الكبيرة بأسلوب ميسور يفهمه الجميع؛ فكثير من الناس يتحدث بأسلوبٍ لا يفهمه إلا الخاصة، فضلاً عمن يتقعرون في أحاديثهم ويأتون بالغريب الوحشي من الألفاظ، أما التعبير عن المعاني الكبيرة والمفاهيم الصعبة بأسلوب ميسور يفهمه العالم والجاهل، فهذه ميزة لا يقدر عليها إلا أولو العزم من أهل العلم والدعوة، وقد استطاع الدكتور نوح أن يمزج بين العلم الرصين وإيصاله إلى الناس بشكل يتلاءم معهم؛ فالتقعر والإيغال في غريب الألفاظ ربما عبَّر عن نقص علمي فيمن يتحدثون به للإيهام بأنهم علماء متخصصون متمكنون من تخصصهم، وهم في الحقيقة فراغ وخواء من هذا التخصص؛ يستخدمون هذه الغرائب ليواروا بها السوءات والعورات.
وكنت إذا سمعت الشيخ نوح يتحدث في درس عام شارحًا لحديث أو مستعرضًا لقصة ظننت أن هذا الرجل داعية جماهيري؛ يحسن الحشد والتأثير على المشاعر، ولا علاقة له بالأكاديميات، لكن حين تسمعه بين العلماء في مناقشة رسالة علمية أو في مجلس لأهل العلم فهو العالم المتمكن الرصين المقدَّم، الذي غاص في بحار العلم وعايش بطون الكتب حتى استخرج كنوزها ولآلئها، ودلَّ على المعلومة في الكتب التراثية برقم الجزء، وأحيانًا برقم الصفحة.
ومن الأمور المنهجية التي تمتع بها عالمنا أنه تميَّز بالوضوح في العرض والترتيب في الأفكار، وهو منهج تسمعه في حديثه كما تقرؤه في كتبه سواء بسواء؛ ففي خطبه ودروسه كان يقسِّم خطبته أو محاضرته إلى عناصر وأفكار يتلوها غالبًا على مسامع الناس في بداية حديثه حتى يكون لدى الناس تصور واضح، ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من تأثير على يقظة المتلقي وانتباهه، وحمله على متابعة الحديث عنصرًا بعنصرٍ وفكرةً بفكرةٍ.
آثاره العلمية التأليفية
أعني بالآثار العلمية هنا ما كتبه الشيخ سيد نوح في مجال علوم السنة والحديث والفكر الإسلامي، وهذا الجانب غير ظاهر وغير معروف عن الشيخ؛ فقد عرف بالدعوة والتربية أكثر من الصنعة الحديثية، مع أن جهوده العلمية ومؤلفاته في علوم السنة أكثر مما كتبه في الدعوة والتربية، وفيما يلي بيان بأهم آثاره التأليفية في هذه المجالات:
أولاً: في مجال الحديث والسنة:
فقد بدأ تخصصه في الماجستير والدكتوراه عن علوم السنة والحديث، فتناول في الماجستير موضوع: "زواج النبي بزينب بنت جحش ورد المطاعن التي أثيرت حوله في ضوء المنهج النقدي عند المحدثين" من جامعة الأزهر عام 1393هـ = 1973م، وفي الدكتوراه تناول موضوع: "الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي وجهوده في كتابه تهذيب الكمال" من جامعة الأزهر أيضًا عام 1396هـ = 1976م، وقد كان له السبق في الكشف عن الحافظ المزي والتنويه بكتابه تهذيب الكمال.
ثم كانت له أبحاث محكمة نَشرت معظمَها مجلةُ الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدر في الكويت، ثم نشرها بعد ذلك في كتب مستقلة.
ومن هذه الأبحاث: "علم الطبقات.. حقيقته وقيمته العلمية والحضارية"؛ تناول فيه تاريخ علم الطبقات، وبيَّن فوائده وثمراته ومنهج العلماء في تحديد الطبقات مع التمثيل لذلك.
ومنها كتاباه- شاركه فيهما الدكتور عبد الرزاق الشايجي الأستاذ بكلية الشريعة بالكويت-: "الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي"، وكتاب: "التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي"، بيَّنا فيهما جهود الصحابة والتابعين في خدمة السنة تحمُّلاً وأداءً، وذَكَرَا أن جهود التابعين في حاجةٍ إلى الدراسة والاهتمام في هذا المجال.
ومنها كتابه- بالمشاركة أيضًا- بعنوان: "مناهج المحدثين في رواية الحديث بالمعنى"؛ أورد فيه مذهب المجوِّزين روايةَ الحديث بالمعنى مع ذكر ضوابطهم وأدلتهم، كما أورد مذهب المانعين لهذا الأمر مع بيان مسوغاتهم وأدلتهم، ورجَّح مذهب المجوِّزين لقوة الأدلة نقلاً ونظرًا مع اعتبار شروط ذلك.
ومن كتبه في الصنعة الحديثية كتابه: "درء تعارض أحاديث كراء الأرض"؛ أورد فيه الأحاديث التي تبيح كراء الأرض، والأحاديث التي تحظره، ودرأ التعارض بينها على طريقة الأصوليين المحدثين.
ثانيًا: في مجال الفكر الإسلامي:
أما في مجال الفكر الإسلامي فأبرزُ ما كتب الشيخ- رحمه الله- في هذا المجال ثلاثة كتب: الأول: "منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير"؛ حيث تناول هذه القضية من بُعد دعوي وتربوي؛ فتعرَّض فيه لمفهوم أهل السنة والجماعة وماهية الدعوة والتربية، وبيَّن الحاجة للدعوة والتربية في نظر أهل السنة والجماعة، وأهداف أهل السنة والجماعة من الدعوة والتربية، ومن أهم ما بيَّنه في هذا الكتاب أنه قرر قواعد ومنطلقات للدعوة والتغيير والتربية من وجهة نظر أهل السنة والجماعة.
والكتاب الثاني بعنوان: "حاجة البشرية إلى الحكم بما أنزل الله كتابًا وسنةً"؛ شخَّص فيه واقع الأمة المسلمة، وبيَّن الأسباب التي انتهت بهم إلى هذا الواقع، ورسم معالم طريق الخلاص مما تعاني منه البشرية اليوم من خلال الحكم بما أنزل الله.
أما الكتاب الثالث فجاء تحت عنوان: "دوافع عناية المسلمين بالقرآن الكريم"؛ ذكر فيه أحد عشر سببًا دفع المسلمين إلى الرعاية والاهتمام بالقرآن الكريم؛ يذكر الدافع ثم يستشهد له من القرآن نفسه، ومن الأحاديث والآثار، ومن تاريخ الأمة إذا لزم الأمر.
ثالثًا: في مجال الدعوة والتربية:
وهذا هو مجاله الأشهر وميدانه الأرحب الذي عُرف به واشتهر عنه؛ فالدكتور السيد نوح هو صاحب المصنف الشهير "آفات على الطريق"، و"توجيهات نبوية على الطريق"، وفي هذين الكتابين يقدِّم نموذجًا علميًّا تربويًّا خلقيًّا شهد بتميزه المتخصصون في الشرع كما شهد له المتخصصون في التربية والمناهج وطرق التدريس.
ففي "آفات على الطريق" صدر له ثمانية أجزاء يتناول الآفة بشكل مميز؛ حيث يعرِّفها في اللغة والاصطلاح ويذكر أسبابها ومظاهرها وآثارها، ثم يرسم الطريق لعلاجها.
وفي "توجيهات نبوية" ينتقي أحاديث يختارها، ثم يقوم عليها بالشرح والإيضاح الذي له فيه منهجه الخاص كذلك؛ حيث يخرج الحديث ثم يذكر معناه إجمالاً، ويوضح ما فيه من جوانب متعددة، ثم يبين ما فيه من دروس دعوية وعِبَر إيمانية وملامح تربوية ينتفع بها الدعاة والقادة والمربون.
وله في هذا المجال كتابه الماتع: "من أخلاق النصر في جيل الصحابة"، وهو كتاب أخلاقي تربوي صوفي؛ أورد فيه الشيخ أربعة عشر خلقًا عند الصحابة كانت سببًا في تمكين الله لهم ونصره إياهم؛ يذكر الخلق ثم يدلل عليه بما في سيرة الصحابة مستشهدًا له بالقرآن والسنة، ولم يَفُتْه في نهاية الكتاب أن سجَّل بعض أقوال الأعداء عن هذه الأخلاق تؤكد أهميتها عند الصحابة وكيف كانت سببًا في نصر الله لهم.
وله رسالة طيبة عن: "تكوين البيت المسلم"؛ ذكر فيها الشروط التي وضعها الإسلام ليكون البيت مسلمًا بحق، كما بيَّن العقبات التي يضعها أعداء الإسلام في طريق تكوين البيت المسلم وكيف يمكن التغلب عليها.
بالإضافة إلى كتابه: "الدعوة الفردية في ضوء المنهج الإسلامي"، وكتابه: "منهج الرسول في غرس روح الجهاد في نفوس أصحابه".
جهوده الدعوية والحركية
نذر الشيخ سيد نوح نفسه للدعوة إلى الله تعالى، وجعل نفسه وقفًا لله في وقت مبكر من حياته، ولقد كان لانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين أثرٌ بالغٌ في انطلاقته المباركة، وفي فهمه للإسلام، وفي حمله لقضايا الأمة وهمومها، لا سيما قضية فلسطين التي كان لها مكانتها وقيمتها عنده في كل محفل وفي كل خطبة.
توزعت جهودَ الشيخ الدعوية مجالاتٌ عدة؛ فكان خطيبًا متطوعًا في وزارة الأوقاف الكويتية منذ 1994م حتى وفاته؛ يخطب الجمعة في مسجد الوزان بشكل مستمر إلا في أيامه الأخيرة بسبب ظروفه الصحية، ولما كانت عملية تغيير الكبد وشفاه الله نصحه الأطباء بعدم بذل أي مجهود مراعاةً لحالته، لكنه كان يقول: "لقد كنت في حكم الميت، وأحياني الله تعالى لينظر ماذا أفعل، ومِن شُكر الله تعالى ألاَّ أتأخر عن دعوته وتبليغ رسالته"، فكان يخطب الجمعة ويلقي الدروس ويتحدث في الندوات ويحضر المؤتمرات حتى وافاه الأجل المحتوم.
ولقد كان للشيخ أيادٍ بيضاءُ على ما يُعرف في الكويت بـ"لجنة زكاة العثمان" التي أسسها المرحوم بإذن الله الشيخ حسن أيوب؛ حيث جعل لها الشيخ نوح أنشطة ثقافية وخيرية وعلمية، وفعَّل دورها الخيري في أنحاء الكويت وخارج الكويت، فكان لها الفضل الكبير في التكافل الاجتماعي ونشر العلم وتعليمه.
ومن العلامات البارزة في جهود الشيخ الحركية والدعوية مجال العمل الخيري؛ فقد جعله الله سببًا في كفالة كثير من الأيتام، وفي إطلاق سراح كثيرٍ من المسجونين المُعْسرين، وفي توفير الأدوية لكثيرٍ من المرضى، وفي توفير فرص عمل للعاطلين، وفي قضاء مصالح الناس وحوائجهم.. كل ذلك عبر دعوته للخير عن طريق أهل الخير؛ حيث كان مسجده "الوزان" يقوم بما لا تقوم به مؤسسة متخصصة في العمل الخيري.
القضية الفلسطينية في حياة الشيخ
السيد نوح
ومن أبرز القضايا التي كان له فيها دوره في العمل الخيري: القضية الفلسطينية؛ فقد كان يحشد الحشود، ويوحِّد الجهود، ويجمع النقود لأهل فلسطين، حتى إنه كان في عيد الأضحى يجمع قيمة الأضحية فيرسلها إلى فلسطين ويتم الذبح والتضحية هناك؛ فكان يجمع في الجمعة الواحدة أيام الأضحى ثمن ما يقرب من عشرين أو ثلاثين أضحية، علمًا بأن ثمن الأضحية الواحدة أربعون أو خمسون دينارًا كويتيًّا.
وبالإضافة إلى هذا العمل الخيري وجَمْع الأموال الواجبة لأهل فلسطين، كان من الناحية الفكرية والدعوية لا تكاد تخلو خطبة من خطبه من حديثٍ عن فلسطين وقضيتها وأزماتها، وكذلك دروسه ومحاضراته؛ فكانت القضية حاضرةً في عقله، بارزةً في وجدانه، فكان يحيا لها، ويجاهد من أجلها جهادًا كبيرًا، بل عاشت في كيانه وجَرَت في عروقه مجرى الدم.
نهاية المطاف
قبل عامين ونصف من رحيله ذهب إلى الصين ليركب كبدًا غير الكبد، وعاد معافًى إلى دروسه ونشاطه الدعوي بالرغم من أن الأطباء كانوا ينصحونه- كما سبقت الإشارة- بعدم بذل مزيد من الجهد، لكنه لم يكن يستجيب لهذه النداءات، وانطلق الشيخ انطلاقةً جديدةً بالرغم من مرضه وكأنما كان يلاحق القدر، أو يشعر باقتراب الأجل، فأراد أن يحصِّل من الأجر والثواب وعمل الخير ما يكون زادًا له يوم القيامة.
وكتب الشيخ خواطره عن المرض "دروس وعبر"، ثم دخل في حالة مرضية غيبوبية مثل الأولى بسبب هذا الوباء الذي أصيب به العديد من أبناء الشعب المصري، ولقي ربه صابرًا محتسبًا راضيًا مرضيًّا فجر يوم الإثنين 30 يوليو2007م، 16 رجب 1428هـ، بعد رحلة طويلة مع المرض الذي شاء الله أن يكون له ممحِّصًا، ورافعًا للدرجات إن شاء الله.
كانت جنازته مهيبة؛ تُذكِّر- في ضخامة عددها- الإنسانَ بجنازات الزعماء والقادة والرؤساء، ولِمَ لا، وصاحبها من كبار الدعاة إلى الله، ومن أبرز العلماء الربانيين في الدعوة الإسلامية في هذا الزمان؟!
كانت هناك موانع كثيرة تمنع الناس من أن تشارك في الجنازة؛ منها: الحر الشديد، والرطوبة العالية، وحرارة الشمس اللافحة التي ربما تجاوزت خمسًا وخمسين درجة في هذا اليوم، وهي كفيلة بأن تجعل الناس يتردَّدون في الذهاب إلى الجنازة.
ومنها أننا كنا في فصل الصيف، بل في كبد الصيف، وكثير من الوافدين عادوا إلى بلادهم ليقضوا إجازتهم السنوية، ومنها بُعد المكان في هذا الحر؛ فقد دفن الشيخ بمكانٍ يسمى "الصليبخات"، وهي مكان يبعد عن مدينة الكويت بحوالي 40 كيلو مترًا في هذا الجو الخانق.
ومع ذلك تجمعت السيارات من كل حدب وصوب نحو مكان المصلى والدفن؛ يحدوهم حب الشيخ الذي تمكَّن من قلوبهم، وعيونهم ملأى بالدموع حزنًا على رحيله، لا سيما عند صلاة الجنازة، وليس بمستغرب أن تجتمع له هذه الألوف المؤلفة من البشر لتصليَ عليه، وهو الذي كان يصلي أسبوعيًّا صلاة الغائب يوم الجمعة في مسجد الوزان على من يبلغه خبر وفاته، ومن يموت من المسلمين في كل أسبوع.
وكما هو معروف أن بلاد الخليج فيها من كل الجنسيات، ومع ذلك لم يقتصر الحضور على المصريين فقط، بل كان فيها معظم الجنسيات الموجودة بالكويت، كما تجمَّع فيها كثير من التيارات الفكرية من سلفية، وإخوانية، وغيرها.
وإن دلَّ ذلك فإنما يدل على أن الشيخ كان رجلاً ربانيًّا، وداعيةً إيمانيًّا، وعالمًا عاش هموم أمته وهموم مجتمعه بعيدًا عن الانغلاق والتعصب، وهذه الألوف المؤلفة شاهدةٌ على أنها عاجل بشرى الشيخ إن شاء الله، وعلى أنه القبول في الدنيا قبل الآخرة.
رحمه الله ورفع درجاته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
--------
* Wasfy75@yahoo.com
--------
* المعلومات التي كتبتها هنا استقيتها من الأخ الأستاذ عبادة السيد نوح، ابن الشيخ يرحمه الله، ومن شيخنا الأستاذ الدكتور يحيى إسماعيل حبلوش أستاذ الحديث وعلومه.
صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدًا حببه إلى عباده.
ـــــــــــــــ(1/168)
ابن الجوزى
ضمن سلسلة عظماء من بلاد الإسلام قدم فضيلة الشيخ الدكتور محمد موسى الشريف محاضرة عن الإمام ابن الجوزي في جامع ابن حمد بجدة بعد صلاة العشاء يوم 11شعبان 1425هـ.
بداية ذكر الشيخ ان ابن الجوزي تميز بشكل كبير بالوعظ , كما تميز الإمام الشافعي بالذكاء و ابن القيم بالعاطفة..
بعد ذلك دخل الشيخ في تفاصيل سيرة ابن الجوزي الحافلة بالعلم و علو الهمة وهداية الناس.
مولده و نشأته
ولد رحمه الله سنة 510هـ و هو يرجع في نسبه للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة المعروفين. نشأ يتيما و تخلت عنه أمه فكفلته عمته و ربته و كانت تدور به على المشايخ.
وكان رحمه الله محبا للعلم مجتهدا في طلبه منذ صغره فلم يكن يلعب مع الصبيان.
حفظه و ذكاؤه
كان رحمه الله واسع الحفظ فقد حفظ مسند الإمام أحمد و الصحيحين و تاريخ الخطيب البغدادي و طبقات ابن سعد.
علو همته و حرصه على الوقت
كان ابن الجوزي رحمه الله محافظا على وقته بشكل عجيب . يقول في معرض تهربه من لقاء الناس حرصا على وقته: ادافع الناس جهدي فاذا اتوه قصر في الكلام ليستعجل خروجهم , والا اشتغل بما لا يحتاج إلى تركيز ذهني نحو تقطيع الكاغد و بري الأقلام..
ومن همته ما ذكره عن نفسه : لو قلت أني طالعت أكثر من 20 ألف مجلدة ما بالغت و أنا بعد في الطلب".
مواعظه و مكانته في قلوب الناس
كان ابن الجوزي يأسر الألباب بمواعظه فكان حضور مجالسه يفوق عشرة آلاف شخص.
دعاه مرة اهل الحربية - حي من أحياء بغداد- ليلقي عليهم درسا فاكتظت الطرقات بالناس و قدرمن حضر بحوالي 300 ألف شخص بين رجل وامرأة.
اسلم على يديه 100ألف و تاب على يديه كذلك 100 ألف.
يقول الرحالة ابن جبير الأندلسي واصفا مكانة ابن الجوزي و وعظه:
يضيق الوجود عن مثله, وهو آية الزمان.. ما ظننت أن الله يخلق بشرا يتلاعب بعقول الناس مثله".
من كلماته المعبرة و أجوبته المسكتة
لإبن الجوزي كلمات و أجوبة مسكتة حفظت عنه تنم عن ذكائه و لا تخلو من الطرافة في بعض الأحيان.
قال عن فرعون :
يفتخر فرعون مصر بنهر ما أجراه ما أجرأه
انه لم يجر النهر فما اجرأه على الله.
سئل عن أيهما افضل التسبيح ام الإستغفار فاجاب : الاستغفار لأن الثوب الوسخ يحتاج إلى غسيل.
و سأله سائل عن ابي بكر وعلى رضى الله عنهما أيهما أفضل فقال الذي ابنته تحتهإ شارة الى السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أم المؤمنين السيدة عائشة بنت ابي بكر الصديق فلكل أن يقرا الجواب بطريقته ,و خرج الإمام من الحرج في زمن الفتن.
محنته
العلماء مبتلون لأنهم ورثة الأنبياء وكان لإبن الجوزي نصيبه من ذلك.
حصل بينه خلاف مع عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني, وذكر أن عبد السلام هذا كان شيعيا فوشى بابن الجوزي عند الخليفة فسجن في واسط وعمره 75 سنة و قضى في السجن 5 سنوات . و تمكن ابنه يوسف من التوسط لدى الخليفة فاطلق وعمره 80 سنة.
خلافه مع الحنابلة
ذكر الشيخ حفظه الله أن ابن الجوزي كان رئيس الحنابلة في زمنه لكنه اختلف معهم في بعض المسائل المتعلقة بتأويل الصفات بسبب تأثره بشيخه ابن عقيل صاحب كتاب الفنون.
قسطه و اعتداله في حياته
كان الإمام يأخذ باعتدال في عيشه ,لا إفراط عنده و لا تفريط, يأخذ من المباحات في حدود الحاجة دون إسراف أو خشونة,وكان يقول :
إن قطع النفوس عن بعض شهواتها يورثها يبوسة و تغيرا في المزاج.
و كان يأخذ هدية السلاطين لكنه كان يعظهم.
مصنفاته
يكفي لمعرفة غزارة انتاج ابن الجوزي انه لما قسم ما كتب على ايام عمره من يوم ولادته الى يوم وفاته , وجد أنه كان يكتب في كل يوم تسع كراست أي ما يعادل 16 ورقة.
و اختلف في عدد مؤلفاته فذكر انها تزيد على 500 مصنف و العدل كما يرى الشيخ حفظه الله , تزيد على 300 مصنف.
و قد صنف رحمه الله في التفسير و الحديث و اللغة وغير ذلك .
و ذكر الشيخ أن صيد الخاطر و تلبيس ابليس يعدان من أهم مؤلفات ابن الجوزي و أنهما يدلان على درايته بأحوال النفس البشرية وأحوال الناس و مداخل الشيطان إليهم.
شيوخه
من أهم مشايخه رحمه الله : ابو البركات الأنماطي و ابن عقيل ,كما كانت له ثلاث شيخات.
ما أخذ عليه
من أهم ما أخذ على ابن الجوزي ,كما يقول الشيخ, أنه كان لا يراجع ما يكتب ,, فكانت له أخطاء و وهمه كثير.
أهم مميزاته
لخص فضيلة الشيخ أهم مميزات ابن الجوزي في النقاط التالية:
- علو همته و حرصه على الوقت
- إمام في الوعظ
- صاحب حاسة نقدية متميزة
- أبدع في بعض مؤلفاته : صيد الخاطر و تلبيس إبليس
- له خبرة ودراية واسعة بأحوال النفس و أحوال الناس
و ذكر الشيخ ان ما أخذ على ابن الجوزي من سلبيات لا يعدو كونه نقطة في بحر أعماله الجليلة.
و نبه الشيخ الى انه يجب اتباع هذا الأسلوب عند تقييم العلماء و الصالحين فإذا ذكرت مآخذهم يذكر مقابلها ما قدموا, بروح الإنصاف و الاعتدال.
وفاته
توفي ابن الجوزي رحمه الله سنة 597هـ , و أوصى أن يسخن الماء الذي اعد لغسله ببراية أقلامه و قد كفت لهذا الغرض, وهذا يدل أيضا على حرصه على عدم تضييع أي شئ يمكن الاستفادة منه. ولنا ان تصور حجم هذه البراية!.
رحم الله ابن الجوزي و أسكنه فسيح جناته فقد قضى عمره في طلب العلم و نشره و وعظ الناس و دعوتهم وإعداد التصانيف المفيدة في مختلف الفنون.
ـــــــــــــــ(1/169)
الدكتور عبد الودود شلبي.. حارس العقيدة
[19:59مكة المكرمة ] [19/06/2008]
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
د. عبد الودود شلبي
إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الله رفع ذكرهم فقال: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة: من الآية 11)، كما أنهم هم حماة الإسلام وأركانه.
والدكتور عبد الودود شلبي أحد هؤلاء الحماة الذين ذادوا عن دينهم وتصدَّوا للحملات التنصيرية في العصر الحديث وفضح خططهم وجادلهم بالتي هي أحسن، وقد رحل هذا العالم الجليل دون أن يشعر به أحد.
نهاية الرحلة
في يوم 21 مايو 2008م فارق العالم الدكتور عبد الودود شلبي الحياة بهدوءٍ دون صخب أو صراخ؛ فلم يعلم عن وفاته أحد، ولم تتناقل وكالات الأنباء خبر وفاته، ولم ينعه الكثير من وسائل الإعلام، ومن نعاه قال في نعيه: "فقدت الأمة الإسلامية والأزهر الشريف عالمًا ومفكرًا من خيرة علماء الأزهر، وهو الدكتور عبد الودود شلبي، الأمين العام الأسبق للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر".
بداية الطريق
منذ أن عرف عبد الودود شلبي معنى العلم وتذوق حلاوته انطلق ينهل منه من كل مكانٍ يصل إليه، وكان ما ساعده على ذلك الصحبة الطيبة التي تعرف عليها، أمثال الدكتور يوسف القرضاوي وغيره من أفاضل علماء الأزهر، ثم التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين وهو طالب، وعمل في وسطها؛ حيث بايع الإمام البنا وتربى على يده، وعندما قام أحد الطلاب التابعين لحزب الوفد بطعن الأخ صادق مرعي مندوب الإخوان في مدرسة المساعي المشكورة بالمنوفية، نظم الأستاذ عبد الودود شلبي قصيدة يرثي فيها مرعي فقال:
يا أخي في الله ما مت ولكن أنت حيّ
أيّ وحش ذلك الـ قاتل يا صادق أيّ؟
إنه الباطل وال باطل إجرام وغيّ
بل هي الأحزاب يا قوم فهل في مصر وعي؟
وظل عبد الودود يعمل وسط إخوانه حتى كانت محنة حل الجماعة عام 1948م واعتقال الإخوان، وكان أحد الذين اعتُقلوا، ورُحِّل إلى الهايكستب، ثم الطور؛ حيث شاركه المحنة زملاؤه الكرام أمثال الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور أحمد العسال.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "وصلنا إلى معتقل الهايكستب، ووُضعنا في أحد عنابره، ووجدنا بعض الإخوان قد سبقونا إليه؛ منهم: الطبيب الأديب الشاعر د. حسان حتحوت الذي تخرج حديثًا، ومنهم العالم الداعية الشيخ محمد جبر التميمي، ومنهم العربي الأصيل الأستاذ صالح أبو رقيق، ومنهم الطالب الأزهري الأديب الشاعر عبد الودود شلبي، ومنهم الأخ سعد كمال، والأخ علي الخولي، ومنهم أصغر طالب في المرحلة الثانوية، وهو الطالب النابه محيي الدين عطية، ومنهم عدد من طلبة معهد دمياط الديني الابتدائي، كانوا قاموا بإضرابٍ في المعهد؛ فاقتادتهم المباحث إلى المعتقل مع الإخوان، ولم يكونوا من الإخوان، وقد أصبحوا منهم بعد ذلك، وكان معنا الأستاذ مصباح عبده الذي كان يقول دائمًا حينما سُئل عن ترتيبه: "أنا والشيخ يوسف نُحيط بالدفعة من طرفيها؛ هو في أولها، وأنا في آخرها؛ فأنا الأول ولكن في الطرف الآخر"، وكنا نُصلي الصلوات في جماعة، وقد اختارني الإخوان إمامًا لهم، كما كنت أخطبهم الجمعة، وأحيانًا يساعدني بعض الإخوة مثل الأخ العسال، أو عبد الودود.
وكان الأخ الشاعر عبد الودود شلبي ينشدنا من شعره أحيانًا، مثل قوله:
أيها الشعب تحرَّكْ أفلا تبصرُ قبرك؟
هاهو الجلادُ قد ألـ ـهبَ بالكرباج ظهْرَك
هاهو الخفارُ قد أو شك أن يُنهي أمرَك
موكب الأحرار أنصا رك للسجن تحرَّك
فتحرَّك أنت يا شعـ ب لكي تهدمَ قبرَك
وذات يوم وجدنا الجنود قد هجموا علينا ضربًا لا ندري ما السبب، وقيل إن الأخ عبد الودود شلبي- الذي كانوا يغلطون في اسمه إذا نادوه، ويقولون: "عبد الوِدّ وِدّ"- تشاجر مع إدارة المعتقل لسببٍ من الأسباب، فأراد الضابط المسئول- واسمه فريد القاضي- أن ينتقم من الجميع، ويعلمهم أدب التعامل مع القادة, أيًّا كان السبب فقد فوجئنا بالجنود يدخلون علينا عنبرنا الرئيس كالتتار، يحملون العصي الغليظة والهراوات الطويلة؛ يضربون بها الكبير والصغير، والصحيح والمريض، لا يتحاشون أحدًا.
ولا ننسى موقف الأخ صالح أبو رقيق وهو يحامي عن الإخوة صغار السن، ويتلقى الضربات عنهم، وموقف الأخ حسان حتحوت، وقد أُصيب في أصبعه، كما لا ننسى موقف الأخ عبد الودود حين نزلت عليه الضربات وهو يصيح ويقول: عثمان بن عفان، شهيد الدار من جديد!".
ويقول الأستاذ عبد اللطيف عامر: "لقد اختار الإخوان عددًا منا لزيارة الزنازين وإلقاء الدروس، وكنت أنا واحدًا منهم، وشاركني الإخوة عبد الودود شلبي ويوسف القرضاوي ومجموعة أخرى من الإخوان كنوعٍ من التذكير من أجل ألا ينفرط العقد".
ومن المواقف التي تشهد للشيخ عبد الودود ما ذكره الأستاذ فؤاد الهجرسي فيقول: "إن إدارة السجن أرادت أن تعرف أسرار الإخوان من خلال أحاديثهم العامة داخل المعتقل، فاختاروا عنبر (1) ليكون مكانًا خاصًّا؛ حيث أخذوا عددًا من الإخوان وأجلسوهم فيه ولم يخرجوهم منه، وقيل إنهم قد وضعوا سماعات فوق لمبات الكهرباء تُسجِّل هذا الكلام، فأدرك الأخ عبد الودود شلبي- والذي كان موجودًا في هذا العنبر- ما يرموا إليه، فقام بحيلةٍ؛ حيث أحضر أحدَ طلاب معهد دمياط الذين كانوا موجودين في عنبر (1)، وكان صوته نديًّا في تلاوة القرآن، فأجلسه بجوار الشباك وأمره أن يُرتل آيات معينة يسمعها الضباط والعساكر ولكن فيها تعليمات وأوامر للإخوان، مثل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...)، وهكذا..، ومن خلالها يتم توجيه أوامر إلى الإخوان، فيفهم الإخوان ما يأمرهم به الأخ، إلى أن انتهى من كل التعليمات المطلوبة، ولقد قسم الإخوان الموجودون في عنبر (1) أنفسهم طوال شهر ونصف الشهر أو شهرين في العبادة والتلاوة ليلاً ونهارًا، لدرجة أن إدارة السجن لم تُسجِّل أي شيء سوى الذكر والعبادة وتلاوة القرآن، ولم تحصل الإدارة على أية معلومات من الإخوان بفضل الحيلة التي عملها الأستاذ عبد الودود شلبي، جزاه الله عنا خيرًا".
انتهت المحنة وخرج الإخوان منها وعادوا إلى نشاطهم وعاد الشيخ معهم، كما لم ينسَ اهتماماته بالعلم، فأخذ ينهل منه، وقد تعرَّف على الشيخ عبد الحليم محمود أستاذه والذي كان يُدرِّس لهم الفلسفة.
عبد الودود شلبي عالمًا ومدافعًا
لقد أصبح الشيخ عبد الودود شلبي عالمًا من العلماء الذين دافعوا عن الدين، وتصدَّوا للتبشير الذي غزى الأمة الإسلامية.
والشيخ من مواليد 18 أبريل 1925، وبدأ حياته العملية سكرتيرًا للشيخ محمود شلتوت، ثم عمل بمكتب الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، ثم عمل أمينًا مساعدًا لمجمع البحوث الإسلامية لشئون الدعوة الإسلامية، ثم أمينًا عامًّا للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر، وحصل على الدكتوراه من باكستان حول موضوع "مهدي السودان"، ووثَّقها من جامعة أكسفورد بلندن.
وعمل محاضرًا في العديد من الدول الإسلامية؛ في باكستان، وقطر، والشارقة، والكويت، ثم عمل مديرًا للمركز الإسلامي في سيدني.
وفي عهد الدكتور عبد الحليم محمود رأس تحرير مجلة الأزهر خلفًا للشيخ عبد الرحيم فودة، وفي عام 82 اختير أمينًا لمؤتمر العيد الألفي بالأزهر الشريف، وفي 85 اختير أمينًا لمؤتمر السيرة والسنة الذي نظَّمه الأزهر.
وقد أُحيل إلى التقاعد من العمل بالأزهر عام 1990م وتفرَّغ بعدها للكتابة، وكان لا يفارق مكتبته الخاصة حتى آخر يومٍ في حياته.
لقد سخَّر الشيخ حياته دفعًا عن الإسلام ضد المشكِّكين والمبشِّرين، وأخذ يواجههم في كل مكان وبكل الوسائل؛ فلقد ذكر في إحدى مؤلفاته تقريرًا جاء فيه: "تقول الإحصائيات إن عدد مؤسسات التنصير وإرسالياته ووكالات الخدمات التنصيرية تبلغ 120.880 مؤسسة، والمعاهد التي تؤهل المنصرين وتقوم بتدريبهم يبلغ عددها أكثر من مائة ألف معهد، ويبلغ عدد المنصرين أكثر من خمسة ملايين، ويوجد في مؤسسات التنصير 82 مليون جهاز كمبيوتر، ويصدر عن المؤسسات التنصيرية 25 ألف مجلة، وفي عام واحد أصدرت المؤسسات التنصيرية مائة ألف كتاب، وتمتلك 2500 محطة إذاعة وتليفزيون، وتمَّ توزيع 53 مليون نسخة من الإنجيل مجانًا، ويدرس تسعة ملايين طالب في المدارس الكنسية، أما دخل الكنائس التي تعمل في التنصير فيبلغ 9 ملايين دولار، وبلغت التبرعات التي قُدِّمت إلى كنيسة في سنة واحدة هي سنة 1990م مبلغ 157 مليون دولار!!"؛ ولذلك يتساءل د. عبد الودود شلبي: "ما مدى وعي دعاة الإسلام بمخططات التنصير في ديار الإسلام؟ وهل لديهم إحصائيات دقيقة عن أعداء المسلمين وتوزيعهم في العالم؟!".
ويشير في غِيرةٍ شديدةٍ إلى أنشطة بابا الفاتيكان في قارة إفريقيا، التي أصبح فيها عدد الكاثوليك 16% من إجمالي عدد سكانها، أي 65 مليون نسمة، وينادي الشيخ عبد الودود شلبي بتوجيه أنشطة الدعوة وبناء المساجد والمعاهد والجامعات إلى إفريقيا، التي من الممكن أن يذهب إليها فلا يجدها إلا في أيدي المنصِّرين الكاثوليك.
كما طلب الشيخ من الأزهر الشريف ألا يرسل دعاته إلى الخارج إلا بعد أن يستوفوا بعض الشروط، مثل: "لا يخرج مبعوث للعمل في أية منطقة إلا بعد أن يتعلم لغتها ويدرس أهم مشكلاتها وثقافتها والبدع والخرافات المنتشرة فيها، وأن يُلِمَّ بتاريخها وجغرافيتها، وأن يجتاز امتحانًا حقيقيًّا في العلوم الإسلامية والأفكار المعاصرة، وأن يجتاز امتحانًا في الحركات التنصيرية والشبهات التي يُثيرها أعداء الإسلام".
ولم يقتصر على التصدي للتبشير فحسب، بل عمل على التقريب بين المذهب السني والشيعي؛ فقال: "تياران عظيمان يشكلان أغلبية المسلمين على الكرة الأرضية، وهما تيار السنة وتيار الشيعة، والتياران نشآ في أحضان عهد الخلفاء الراشدين، خاصةً زمن الفتنة الكبرى بعد مقتل الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه.
جميع القوى في عالم اليوم اتحدت، وجميع المذاهب اتحدت في تجمعات سياسية واقتصادية، وأحلاف عسكرية أمام تيارات الغزو والعدوان، وبقي المسلمون- للأسف- رهن الحزازات النفسية والشخصية والتاريخية التي تحرك العداوة بين السنة والشيعة، والأصل أن جميع الأئمة اتفقوا على أنّ الفرق بين المسلم وغير المسلم هو النطق بالشهادتين؛ فإذا قالها الإنسان دخل زمرة المسلمين، وأن الخلاف في بعض الأمور التي يظن أنها اعتقادية كالقول هل الإنسان مسير أم مخير؟ وهل يرى الله يوم القيامة أم لا؟ هذه هي القاعدة العامة، فالإسلام كلمة من نطق بها فهو مسلم.
والسؤال: هل الخلاف فقهي؟ أم عقدي؟ أم اجتهادي؟، ونقول إن الشيعة يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويحجون كما نحج إلى البيت العتيق، وكتابهم هو المصحف، ونبيهم هو محمد، وما أنكروا رأيًا اجتمعت عليه الأمة، والخلاف الحاصل سياسي استغله بعض المسلمين وغير المسلمين لتوسيع الخلاف، كالقول بأن الشيعة فُرْس يريدون العودة بالإسلام إلى المجونية كلام خرافات، والتاريخ يؤكد أن كبار أئمة الحديث والفقه والطب والفلسفة والشعر كانوا من الفرس أو الشيعة، مثل: الرازي، وأبو حامد الغزالي، والنسفي، ووُلد أحمد بن حنبل بمرو، وأبو حنيفة النعمان من أصل فارسي، وفي الأدب "عمر الخيام"، وهذا يصدِّق قول الرسول: "لو كان العلم بالثريا لناله رجالٌ من فارس"، فلماذا يقع هذا الشقاق الذي تجاوز الحد لدرجة تكفير الشيعة كما حدث من بعض أهل السنة الذين كفَّروا "حسن نصر الله" وشيعة لبنان".
كما أنه طالب بإصلاح الأزهر مرارًا وتكرارًا، فقال: "لو كان للأزهر دور حقيقي ما ارتفعت صيحات الإلحاد والتطرف، واختفت إلى الأبد عصابات الإرهاب المسلَّح؛ فالأزهر تراجع عن دوره في التعريف بدين الإسلام الصحيح السمح، ودوره في تقويم اللسان العربي الذي يكاد يختفي في الأزهر نفسه!!".
وحول وضع الأقليات المسلمة يقول: "الأقليات الإسلامية تعاني من مشكلات كثيرة؛ أهمها ضعف المستوى الثقافي، والتربية الدينية، وخاصةً في مواجهة الحضارة الغربية؛ مما يجعل المسلم الذي يعيش في هذه البلاد سهل الاصطياد، ومما ساعد على ذلك غياب المؤسسات الدينية التي تتولى توعية ورعاية وتربية هذه الأقليات.
وللأسف.. لا توجد دولة إسلامية تتبنى هذه الأقليات بالصورة المُثْلَى التي يمكن أن تحقق الهدف من الحفاظ على شخصية هؤلاء وهويتهم ودينهم، بل إن الطامة الكبرى تأتي من بعض الدول الإسلامية التي تحاول أن تعرض فكرًا معينًا تحت ضغط العوز والحاجة؛ مما يؤدي إلى حدوث خلافات وانقسامات رهيبة تنعكس على العالم الإسلامي كله، وقد أفسد هذا التدخل العملَ الإسلامي، وأظهرَ المسلمين في صورةٍ سيئةٍ، ولكن أستطيع أن أقول للإنصاف: إن بعض الجمعيات الخيرية تقدم عملاً إسلاميًّا متميزًا، وتقدم مساعداتٍ خالصة لوجه الله لكثير من الأقليات المسلمة.
أما عن دور الأزهر فمحدود للغاية وضعيف، والأزهر في بلده مصر ضعيف ويعاني من كثير من الأمراض، وفاقد الشيء لا يعطيه.
والأزهر لم يعد يعبأ بتحفيظ القرآن تحفيظًا كاملاً، وقد كان هذا في الماضي هو الطريق الأساسي لدخول الأزهر، كما أن اختزال المناهج اختزالاً مخلاًّ ساعد في هذا التدهور، حتى إن الطالب في الأزهر لا يكاد ينطق عبارة أو آية صحيحة، والأجيال القديمة التي تربَّت في الأزهر القديم انتهت، وأصبح معظم العاملين الآن من الأجيال التي قلَّت بضاعتها في أمور الدين واللغة؛ مما أدى إلى فقدان الأزهر مكانته في مصر، وبالتالي في العالم الإسلامي.
والذين يقولون غير ذلك كالذين يضعون رءوسهم في الرمال، والدليل على ذلك ما يراه الناس ويسمعونه من أئمة المساجد الذين لا يقدمون فكرًا ولا فقهًا، ويخطئون في القرآن وفي اللغة العربية.
هذا الانهيار أدَّى إلى ظهور ما يسمونه بالتطرف؛ لأن الشباب فقد الثقة في الأزهر وعلمائه الذين يفتون اليوم بخلاف ما أفتَوا بالأمس، فلجأ هؤلاء الشباب إلى الدين وحدهم وهم لا يملكون الأداة العلمية الصحيحة في البحث واستنباط الأحكام، فضلوا وأضلوا، واختلط الحابل بالنابل في مجال العلم الديني، ولو كان للأزهر حضور حقيقي لما سمعنا عن هذه التيارات وهذا التطرف الذي يؤدي بالشباب إلى متاهات تقوده إلى الهلاك".
مؤلفاته
1- في محكمة التاريخ، دار الشروق - القاهرة 1407 هـ 1987 م.
2- أبو جهل يظهر في بلاد الغرب، مكتبة الشروق- القاهرة، 2001م.
3- الوحدة الإسلامية في ضوء الخطبة الشامية، شركة سوزلر للنشر، إستانبول، 1995م.
4- عرب ومسلمون للبيع، دار المختار الإسلامي، القاهرة 1992م.
5- كلنا إخوة شيعة وسنة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1998م.
6- كيف أرى الله؟، بيروت: دار الشروق، 1985م.
7- القرآن يتحدى، مركز الراية، 2000م.
10- الإسلام والغرب، مكتبة الآداب، 2004م.
11- الدين الإسلامي وأركانه، دار الشروق، 1993م.
12- حوار صريح بين عبد الله وعبد المسيح، د.عبد الودود شلبي.
13- هل انتشر الإسلام بالسيف، مركز الراية للنشر والإعلام، مصر.
14- حقائق ووثائق: دراسة ميدانية عن الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي- جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1409هـ ـ 1989م.
15- الزحف إلى مكة: حقائق ووثائق عن مؤامرة التنصير في العالم الإسلامي- القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1409هـ ـ 1989م.
16- عبد الودود شلبي "من شيخ أزهري لشيخ الأزهر".. الأزهر إلى أين؟.
17- رسالة إلى البابا، طبعة المختار الإسلامي.
18- المحاولة الفاشلة لتنصير طالب الأزهر، كتاب المختار، تاريخ النشر: 01/01/2006م.
------
المراجع:
1- يوسف القرضاوي: ابن القرية والكُتّاب.. ملامح سيرة ومسيرة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423?- 2002م.
2- حسان حتحوت: العقد الفريد (1942-1952).. عشر سنوات مع الإمام حسن البنا، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1421?- 2000م.
3- موقع لواء الشريعة 21/5/2008م.
-----
? باحث تاريخي- Abdodsoky1975@hotmail.comـــــــــــــــ(1/170)
محمد محمود الصواف.. رائد الحركة الإسلامية في العراق
محمد محمود الصواف
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
في مدينة الموصل أول شوال 1333هـ، الموافق 12 من أغسطس 1914م، وُلد الشيخ محمد محمود الصوّاف، ونشأ على حب العلم والجهاد، واعتنى به والده منذ الصغر، فعلَّمه القرآن حتى حفظه وهو صغير، ثم أدخله المدرسة الابتدائية الأهلية بالجامع الكبير بالموصل، وبرز فيها ثم انتقل إلى مدارس المساجد التي يشرف عليها العلماء، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس النحو والسيرة النبوية، وفي ذلك يقول: "العراق وطني الأول الذي ولدت فوق أرضه وتحت سمائه وترعرعت في ربوعه، لقد عشت في بلد الموصل الذي عرف بتمسكه بدينه وحرصه على مثله، هذا البلد الذي أنجب عماد الدين زنكي ونور الدين محمود.. لقد كنا نتسابق لحضور صلاة الفجر صغارًا وكبارًا وبعد الصلاة ننشغل بذكر الله وتلاوة القرآن، وكان يسكن بجواري الشيخ محمد الرضواني، رحمه الله، الذي علمني حب الله منذ نعومة أظفاري، وعملت للدعوة مبكرًا والتحقت بجمعية الشبان المسلمين في الثلاثينيات والتي كان يرأسها الشيخ عبد الله النعمة، فكنت أصغر من انتسبت إليها".
درس بالمدرسة الفيصلية ونال شهادتها وبعد ذلك انتقل إلى الأزهر الشريف عام 1358 هـ، وقد عُرف بذكائه العجيب وتفوُّقه في مراحل دراسته، وسافر إلى مصر مرتين وفي بعثتين مختلفتين؛ الأولى فشلت وكانت بعثة مديرية الأوقاف العامة، والثانية كانت بعثة على نفقة الوجيه الموصلي مصطفى الصابونجي، والذي اختاره ليكون رئيسًا لهذه البعثة وكان ذلك عام 1943م.
وبعد أن أنهى الشيخ دراسته بالمدرسة الفيصلية ونال إجازتها سنة (1355هـ الموافق 1936)، لم يلبث أن عيِّن معلمًا غير أنه استقال من الوظيفة، وشدّ الرحال إلى القاهرة وبعد فشل هذه البعثة عاد فعيَّنه رئيس الوزراء رشيد الكيلاني واعظًا سيَّارًا، وبعد انتهاء البعثة الثانية والتي سافر فيها إلى مصر، عاد للعراق وعمل في كلية الشريعة بالأعظمية ببغداد.
الصواف ودعوة الإخوان
الشيخ محمد محمود الصوّاف
التحق الشيخ الصوّاف بعد قدومه إلى القاهرة سنة (1363هـ= 1943م) بالجامع الأزهر طالبًا بكلية الشريعة، ودفعته همته العالية أن يختصر سنوات الدراسة الست في ثلاث، فنجح في الحصول على عالمية الأزهر في سنتين بدلاً من أربع، وعلى شهادة التخصص في سنة واحدة بدلاً من سنتين، وكان نظام الأزهر يسمح بذلك، ويعطي للنابغين والمجتهدين أن يختصروا السنوات ما دامت ملكاتهم تعينهم على ذلك، وتحصيلهم الدراسي يمكنهم من هضم المناهج الدراسية في نصف المدة المقررة على الدارسين، وكان لهذا الإنجاز حديث مدوٍّ بين أوساط العلماء، وتناقلته بعض الصحف، وبلغ من تقدير الإمام الأكبر الشيخ المراغي أن قال للصواف: لقد فعلت يا بني ما يشبه المعجزة، وسننت سنة في الأزهر لم تكن".
ومنذ أن توطَّن مصر للعلم اتصل بالجمعيات الإسلامية والعلماء وكبار الأدباء أمثال الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ طنطاوي جوهري صاحب جمعية الأخوَّة الإسلامية ورئيس تحرير مجلة الإخوان المسلمين، كما اتصل بالشيخ محمد الخضر حسين صاحب جمعية الهداية الإسلامية، والعقاد وأحمد أمين ومحمد فريد وجدي ومحب الدين الخطيب، ثم التقى بالإمام الشهيد حسن البنا، والذي سرعان ما تأثر بمنهجه في الدعوة، ويصف هذا قائلاً: "وأخيرًا استقر بي المقام بلقاء الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- وحضرت دروسه في المركز العام في الحلمية، وأعجبت بنشاطه وأسلوبه الحكيم والرصين في الدعوة إلى الله، ثم قرَّت عيني بتلك الأفواج الصاعدة من شباب الإسلام التي ربَّاها على الإيمان، فتوطَّدت علاقتي له وازداد حبي وإعجابي به، وبادلني رحمه الله حبًّا بحبٍّ وعطفًا بعطفٍ، وتوثَّقت علاقتي بالجماعة وعملت في محيطها، فأسسنا فيها قسم "الاتصال بالعالم الإسلامي" بالتعاون مع الأخ عبد الحفيظ الصيفي من مصر والأخ الفضيل الورتلاني من الجزائر والأخ إسماعيل مندا من إندونيسيا، فكنا نقيم كل ثلاثاء قبل درس الثلاثاء اجتماعًا في المركز العام لنباشر عملنا في القسم".
ولقد كتبت مجلة الإخوان المسلمين تحت عنوان "نجاح أخ كريم": "يسر قسم الاتصال بالعالم الإسلامي بالمركز العام للإخوان المسلمين أن يزف التهنئة الحارة الخاصة إلى أحد أعضائه العاملين الأخ الكريم الأستاذ محمد محمود الصواف رئيس البعثة العراقية بالأزهر، وقد كان نجاحه ممتازًا في الشهادة العالية بكلية الشريعة، وهو أول عراقي ينالها، ومما يزيد فخرًا أنه أول سباق إلى اجتياز مرحلة الدراسة لهذه الشهادة في سنتين، رغم أن مدتها أربع سنوات، وقد أثنى مجلس الأزهر على كفايته العلمية وهمته العالية".
الدعوة في العراق
بعد أن أتم الشيخ الصواف دراسته عادت البعثة مرةً أخرى للعراق لينطلق في الدعوة إلى الله عز وجل فعمل في المساجد والجمعيات بالموصل، وانضمَّ إلى جمعية الشبان المسلمين، ثم أنشأ جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسس مع الشيخ أمجد الزهاوي جمعية الأخوَّة الإسلامية، وتحت لوائها عاش الشباب المسلم، وتمرس بمعاني الدين الحق، كما أنه أصدر مجلة الأخوة الإسلامية؛ لتكون وسيلة لبث الوعي الإسلامي الصحيح، كما أنه عمل في كلية الشريعة والتي أنشأت في بغداد لتوها.
جهاده
أولاً: ضد الإنجليز
لم يكن الشيخ من أولئك المعلمين الذين تنقطع صلاتهم بمن حولهم مكتفين بما يدرسونه في قاعات العلم، بل كان رجلاً مجاهدًا مصلحًا ومربيًا معلمًا، يلقي دروسه بين طلابه، وفي الوقت نفسه يقود المقاومة الشعبية ضد الإنجليز المحتلين، ويحرك المظاهرات الصاخبة، ويلقي بخطبه النارية التي تلهب المشاعر وتؤجِّج العواطف، وحرك المظاهرات ضد المعاهدات التي تقيِّد العراق وتربطه بالإنجليز كمعاهدة (بورتسموت) والتي استطاع أن يفشل مباحثاتها، كما أسهم وتلامذته في العراق بإسقاط معاهدة "جبر- بيفن" الاستعمارية.
ثانيًا: نحو الدول الإسلامية
شغلت القضية الفلسطينية على الشيخ كل وجدانه، فعمل على التصدي للمخطط الصهيوني، بل أرسل المتطوعين العراقيين ليكونوا جنب إخوانهم الفلسطينيين ولينضموا في ركاب كتائب الإخوان المسلمين للدفاع عن فلسطين عام 1948م.
ولقد أخذت قضية فلسطين الحظ الأوفر من كفاحه وبَذْله، فقد أسَّس جمعية إنقاذ فلسطين التي ضمَّت نخبة من العلماء المفكرين؛ كالشيخ علي الطنطاوي والشهيد سيد قطب والشيخ أمجد الزهاوي والشيخ محمد أمين الحسيني، وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى، وعملت هذه الجمعية على شرح القضية الفلسطينية للبلاد الإسلامية وجمع الأموال والتبرعات وتجهيز المتطوعين للدفاع عن أرض فلسطين الطاهرة، كما دعت إلى مؤتمر القدس عام 1953م بالتعاون مع مؤتمر العالم الإسلامي؛ حيث حضره عدد كبير من العلماء، وقد أظهر الشيخ قضية فلسطين على أنها قضية كل المسلمين لا قضية أهل بلد معين.
ويقول في مقدمة كتابه "معركة الإسلام" في سياق كلامه عن معركة المسلمين في فلسطين: "هي امتداد لمعارك صلاح الدين بالأمس، ومهما حاول المضلِّلون والمنافقون وأعداء الإسلام تغيير هذا الواقع فإن الحق لن تغلبه قوةُ الباطل، وإن المعركة ستسير في طريقها المنحرف حتى يقيِّض الله عز وجل القادة المسلمين عقيدة وعملاً وجهادًا".
كما أن قضية المجاهدين الأفغان ملكت عليه مشاعره؛ ففي السنوات العشر الأخيرة من عمره أنفق معظم وقته في خدمة الجهاد الأفغاني الذي ملك عليه نفسه، وصار قضيته الأولى، وسخر لها كل طاقاته، داعيًا الأمة الإسلامية إلى مؤازرة المجاهدين والوقوف إلى جانبهم ومعاونتهم، وحين ظهرت بذرة الخلاف بين فئات المجاهدين وقادتهم، بادر الشيخ إلى وأد الفتنة قبل أن تستفحل، وكانت مواعظه وكلماته المؤثرة العامرة بالإيمان تشيع النور في الصدور، وتعين على نماء علاقات الود والصفاء بين المتخاصمين من زعماء الجهاد.
ولم يتوقف نشاط الشيخ الصوّاف على ذلك، بل انتدبه الملك فيصل بن عبد العزيز للعمل معه مبعوثًا من قِبَله إلى ملوك المسلمين ورؤسائهم، وقد نهض الشيخ الجليل بهذه المهمة على خير وجه، وطاف أكثر من خمس سنوات، وقد أثمرت هذه الجهود المباركة عن تكوين منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد سجَّل الشيخ الصوَّاف هذه الرحلات في كتاب كبير تحت اسم "رحلاتي إلى الديار الإسلامية".
وكانت له مواقف بطولية أمام تجبر الطغاة والمستعمرين، وكان أول كتاب صدر له كتاب "صرخة مؤمنة إلى الشباب والشابات" يلهب فيه الحماس ويحرك المشاعر ويدعوهم فيه إلى الحق والخير والالتزام بالإسلام عقيدةً وشريعةً، وكانت له مواقفه المساندة للثورة الجزائرية مع أخويه الورتلاني والإبراهيمي، ودعاهما لزيارة العراق، ونظَّم لهما المؤتمرات الشعبية لمساندة الثورة وقضية الشعب الجزائري، ولم يترك مدينةً بالعراق إلا وزارها، ودعا جماهيرها إلى منهج الإسلام وطريق الدعوة، كما زار معظم الأقطار، ينشر دعوة الإسلام.
وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره أعطى وقته وجهده للجهاد الأفغاني، يناصره ويسانده، ويصلح بين فئات المجاهدين ليمنع الفتن التي يكيدها أعداء الإسلام ويخطب، يبكي الحضور، ويملأ القلوب إيمانًا وعزيمةً.
محنته
الصواف مع مجموعة من الإخوان
قامت ثورة 1958م في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم، وسيطر الشيوعيون على مقاليد الأمور في البلاد، وبدؤوا يضيِّقون الخناق على دعوة الشيخ الصوّاف، ويقاومون حركته، وانتهى بهم الحال إلى تلفيق التهم له، ونشر الشائعات ضده، ثم قاموا بإغلاق المجلة التي كان يصدرها باسم "لواء الأخوة الإسلامية" والقبض عليه، وسجنه مع عدد من رجالات العراق الكرام مثل اللواء الركن محمود شيت خطاب.
بعد خروجه من السجن لم يكفَّ خصومه عن ملاحقته ومحاولة اغتياله، فاضطر إلى مغادرة بغداد في سنة (1379هـ= 1959م) في مغامرة جريئة محفوفة بالمخاطر حتى بلغ الحدود السورية، واستقبل في حلب ودمشق استقبالاً حافلاً، ثم اتجه إلى المملكة العربية السعودية عام 1962م، واستقر بمكة؛ حيث عمل مدرسًا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وعرف القائمون على الأمور فضله وعلمه، فاختير عضوًا بالمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وفي المجلس الأعلى للمساجد، والمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي.
مؤلفاته
وأضاف الشيخ إلى المكتبة الإسلامية مؤلفات كثيرة؛ مثل:
1- أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، وطبعته دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1402هـ.
2- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، وطبع بمكة المكرمة سنة 1384هـ.
3- معركة الإسلام.. أو وقائعنا في فلسطين بين الأمس واليوم، وطبع بمكة سنة 1389هـ.
4- من سجل ذكرياتي، وطبع بدار الخلافة بالقاهرة سنة 1407 هـ.
5- نداء الإسلام، وطبع بعمان سنة 1382هـ.
6- بين الرعاة والدعاة، وطبع بالقاهرة في دار الاعتصام سنة 1399هـ.
7- صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق، وطبع بالقاهرة في دار الاعتصام 1401هـ.
8- تعليم الصلاة.
9- العلامة المجاهد أمجد الزهاوي شيخ علماء العراق المعاصرين، وطبع بالقاهرة في دار الاعتصام سنة 1408هـ.
وفاته
تُوفي الشيخ يوم الجمعة الموافق (13 من ربيع الآخر سنة 1413هـ= 11 من أكتوبر 1992م) في مطار إستانبول؛ حيث كان ينتظر الطائرة التي تقله إلى مكة المكرمة، وقد نُقِلَ جثمانه ودفن في مقابر المعلاة بمكة، بجوار قبر الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير.
ولقد رثاه الشاعر وليد الأعظمي في قصيدة قال فيها:
أكبرت يومك أن يكون وداعا يا مالئ الوادي هدى وشعاعا
يا باعثًا همم الشباب إلى العلى لولاك كادوا يذهبون ضياعا
يا داعيًا لله أفنى عمره سعيًا ليهدم للفساد قلاعا
ومربيًا للناشئين موجهًا أفكارهم كي يبدعوا إبداعا
وأخذت بالرفق حتى جانبوا سبل الهوى وسرابها اللماعا
يا شيخ أمتنا وحامل همها أفنيت عمرك متعبًا ملتاعا
جاهدت في عرض البلاد وطولها تتجاوز الأقطار والصقاعا
تبكي على القدس الشريف وأهله باتوا عراةً في الخيام جياعا
قد كنت ربَّان السفينة عندنا تمضي وترفع للنجاة شراعا
علمتنا أن الجهاد سبيلنا للمجد نمضي راكضين سراعا
أبشر بفضل الله يوم لقائه بركاته تترى عليك تباعا
المراجع
1- محمد محمود الصواف: صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق، دار الاعتصام.
2- مجلة الإخوان المسلمين نصف الشهرية، العدد (64)، السنة الثالثة، 17 شعبان 1364هـ- 26 يوليو 1945م، ص(23).
3- محمد عبد الحميد أحمد: ذكرياتي، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، سنة 1993م.
4- عبد الله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
5- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين (ظروف النشأة وشخصية الإمام المؤسس)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2003م.
----------
باحث تاريخي- Abdodsoky1975@hotmail.com
ـــــــــــــــ(1/171)
محمد فرغلي.. الداعية الشهيد (1907- 1954)م
الشهيد محمد فرغلي
منذ أن صار هناك متخصصون في وعظ الجماهير وتعليمهم أمور دينهم، أصبح هناك نفر لا يخرج فهمهم لرسالتهم عن إطار كونها وظيفةً حكوميةً؛ تُجرى عليها الرواتب، وتحدد أبعادَها اللوائحُ، ويقاس العمل فيها والجهد بمقياس الأجر والراتب، ولكن ذلك ما كان ليجري على الشيخ محمد فرغلي، واعظ الإسماعيلية، العالم الزاهد المجاهد، الشهيد الذي رصد الاستعمار البريطاني لرأسه 5 آلاف جنيه، وتطوع الطغاة بتقديم رأسه بلا ثمن.
كانت واضحة في ذهنه قضايا المسلمين وضوح شرعة رب العالمين في قلبه إيمانًا، وفي فكره علمًا، وشرعه تامة كاملة أحكمت ضوابط الأمس فسعد الناس، ونكص الناس عنها حاضرًا فشقوا..
كان الإسلام واضحًا في نفسه وفي فكره، فنقله إلى أهل الإسماعيلية على صورته الأولى نقيًّا بلا شوائب، كاملاً بلا تجزؤ.
كان الوعظ في مفهومه كلمة حق تقال، وسلوكًا يحتذى، وجهادًا تشحذ له الهمم. فكان الشيخ فرغلي بين الألوف فريدًا وبين الأقران مميزًا، وعند الحكام مرفوع الهامة موفور الكرامة، وعند المعتدين الغاصبين مصدر خوف ومبعث خطر.
كان الشيخ فرغلي داعيةً إلى الإسلام بمفهوم الإسلام، عمل مع الإمام البنا منذ أن بدأ دعوته في القنال، واختاره الإمام الشهيد فكان عند صدق الاختيار. شمر عن ساعد الجد وسط مدينة كانت ترابط حولها من كل جانب قوات الاحتلال، تظهر أن النيام سيظلون في رقاد، وأن الغافلين سيظلون في سبات، وما درى الإنجليز أن الأرض بدأت تميد بمقدمه تحت أقدامهم.
وصارت دعوة الإسلام في الإسماعيلية فتيةً قويةً، بعد أن كاد يشمل المدينة يأس قاتل تحت سطوة الاستعمار، وافتتحت فيها شُعب تنطلق منها الدعوة إلى الله، ومسجد، ودار ضيافة، ودار للسيدات المسلمات. ووجدت النفوس سبيلها إلى إسلامها.
وصار الشيخ صورةً تحكي فيها الإسماعيلية قفزتها، وتسطر بها قبل الأمة كلها قصة السبق في يقظتها(1).
الشيخ فرغلي مع عمال جباسات البلاح
ولكي نتبين دور الدعوة في إحياء النفوس الميتة، وإيقاظ الشعوب النائمة، وإعادة العزة الإيمانية إلى حياتها، لكي نقف على ذلك ونتبينه نسلط الضوء على مرحلة من حياة الشهيد حين انتدبه الإمام الشهيد حسن البنا، ليكون أول إمام وواعظ للمسجد الذي أنشئ في جباسات البلاح بالإسماعيلية، وذلك من خلال ما جاء في مذكرات الإمام الشهيد "حسن البنا" وفي ذلك يقول:
"اتصل بعض عمال الجباسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية فنقلوا عنهم الفكرة إلى إخوانهم، ودعيت إلى زيارة الجباسات وهناك بايعت الإخوان على الدعوة فكانت هذه البيعة نواة الفكرة في هذا المكان النائي.
وبعد قليل طلب العمال إلى الشركة أن تبني لهم مسجدًا إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل.
وفعلاً استجابت الشركة لمطلبهم، وبُني المسجد، وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية، انتداب أخ من العلماء يقوم بالإمامة والتدريس، فانتدب لهذه المهمة، فضيلة الأخ المفضال الأستاذ الشيخ محمد فرغلي المدرس بمعهد حراء حينذاك.
وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح، وتسلم المسجد، وأعد له سكن خاص بجواره، ووصل روحه القوي المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين. فلم تمض عدة أسابيع وجيزة، حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعًا عجيبًا: لقد أدركوا قيمة أنفسهم، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة، وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوف، والذل والضعف والوهن، واعتزوا بالإيمان بالله، وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة- خلافة الله في أرضه- فجدوا في عملهم إقتداءً بقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، ثم عفوًا عما ليس لهم، فلم تأسرهم المطامع التافهة، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق لا يقول ولا يقبل منه كلمةً نابيةً، أو لفظةً جافيةً، أو مظهرًا من مظاهر التحقير والاستصغار، كما كان ذلك شأنهم من قبل، وتجمعوا على الأخوة، واتحدوا على الحب والجد والأمانة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء، وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك، ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ، ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال.
ظن الرؤساء هذا في الشركة، وفكروا في إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل، وأرسل إليه الرئيس المباشر، فلما توجه إليه قال له: إن المدير أخبرني بأن الشركة قد استغنت عن خدماتك، وأنها تفكر في انتداب أحد العمال للقيام بعملكم في المسجد، وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير.
فكان جواب الشيخ له بكل هدوء: ما كنت أظن يا "مسيو فرانسوا" أنني موظف بشركة جباسات البلاح، ولو كنت أعلم هذا ما قبلت العمل معها، ولكني أعلم أنني موظف من قبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وأتقاضي مرتبي منهم، محولاً عليكم، وأنا متعاقد معهم لا معكم على هذا الوضع، وأنا لا أقبل منك مرتبًا ولا حسابًا، ولا أترك عملي في المسجد، ولا بالقوة إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية الذي انتدبني هنا، هو أمامكم بالإسماعيلية فاتفقوا معه كما تريدون، واستأذن وانصرف.
وسقط في يد إدارة الشركة، وصبرت أيامًا لعل الشيخ يطلب منها مرتبه، ولكنه كان قد اتصل بي بالإسماعيلية فأوصيته بالتمسك بموقفه، وألا يدع مكانه بحال وحجته معقولة، ولا شيء لهم عنده.
لجأت الشركة إلى الإدارة، واتصل مديرها "المسيو ماينو" بمحافظ القنال، الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية، وأوصاه أن يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف، وحضر المأمور بقوته، وجلس في مكتب المدير، وأرسل في طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد، وأجاب الرسول: لا حاجة لي عند المأمور، ولا عند المدير، وعملي بالمسجد، فإذا كان لأحدهما حاجة، فليحضر لي، وعلى هذا، فقد حضر المأمور إلى الشيخ، وأخذ يطلب إليه أن يستجيب لمطالب المدير، ويترك العمل، ويعود إلى الإسماعيلية، فأجاب بمثل ما تقدم، وقال له: تستطيع أن تأتيني من الإسماعيلية بكلمة واحدة في خطاب فانصرف. ولكن لن أخرج من هنا إلا جثة لا حراك بها، ووصل النبأ إلى العمال، فتركوا العمل في لحظةٍ واحدةٍ، وأقبلوا متجمهرين صاخبين، وخشي المأمور العاقبةَ، فترك الموقف وعاد إلى الإسماعيلية، واتصل بي للتفاهم على الحل، ولكني اعتذرت بأنني مضطر إلى التفكير في الأمر، وعقد مجلس إدارة الجمعية للنظر، ثم أجيبه بعد ذلك.
وفي هذه الأثناء يؤسفني أن أقول إنني حضرت إلى القاهرة لمقابلة العضو المصري الوحيد في مجلس إدارة الشركة، فوجدت منه كل إعراض عن مصالح العمال، وكل انحياز إلى آراء الشركة ومديرها، وكل تجرد من أية عاطفة فيها معنى الغيرة الوطنية.
شهادة مدير شركة قناة السويس:
قابلت بعد ذلك مدير الشركة، وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصًا يستسلم لمطالبهم، وكان من كلامه كلمة لا أزال أذكرها "إنني صديق للكثير من زعماء المسلمين، ولقد قضيت في الجزائر عشرين سنةً، ولكني لم أجد منهم أحدًا كهذا الشيخ، الذي ينفذ علينا هنا أحكامًا عسكريةً، كأنه جنرال تمامًا"، فناقشته في هذا الكلام، وأفهمته أنه مخطئ وأن الشركات هي التي تقسو على العمال، وتنقص من حقوقهم، وتستصغر إنسانيتهم، وتبخل عليهم، وتقتر في أجورهم في الوقت الذي يتضاعف ربحها، ويتكدس، وإن من الواجب علاج هذه الحال، بعلاج نظم هذه الشركات ووجوب قناعتها باليسير من الربح، واتفقنا أخيرًا على أن يبقى الأستاذ الشيخ فرغلي شهرين حيث هو، وأن تقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة، وأن تطلب رسميًّا إلى الإخوان من يحل محله من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه، وتعنى بسكنه ومطالبه، وفي نهاية المدة عاد فضيلة الشيخ فرغلي، وتسلم مكانه فضيلة الأستاذ الشيخ شافعي أحمد، واستمرت الدعوة تشق طريقها في هذه الصحراء "باسم الله مجريها ومرساها".
الداعية الصادق يحيي العزة في النفوس
وحتى نقف على ثمرة الدعوة الجادة، وكيف أن الداعية يفيض على من يحدثهم من روحه، ويبعث فيهم روح العزة، وهذا ما يخشاه أعداؤنا، إن هذه المعاني تتجلى واضحةً من خلال هذه المواقف:
استدعى (المسيو سولنت) (باشمهندس) القنال، ورئيس قسم السكسيون الأخ حافظ ليصلح له بعض أدوات النجارة، في منزله، وسأله عما يطلب من أجر فقال 130 قرشًا، فقال المسيو سولنت بالعربي: "أنت حرامي".
فتمالك الأخ نفسه، وقال له بكل هدوء: ولماذا؟
فقال: لأنك تأخذ أكثر من حقك.
فقال له: لن آخذ منك شيئًا، ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك، فإن رأى أنني طلبت أكثر من القدر المناسب، فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل مجانًا، وإن رأى أنني طلبت ما يصح أن أطلب فأسامحك بالزيادة..
واستدعى الرجل فعلاً مهندسًا وسأله فقدر أن العمل يستوجب 200 قرش، فعرفه المسيو سولنت، وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل.
فقال له: سأفعل، ولكنك أهنتني، فعليك أن تعتذر، وأن تسحب كلمتك.
فاستشاط الرجل غضبًا، وغلبه الطابع الفرنسي الحاد، وأخذته العزة بالإثم، وقال: تريد أن أعتذر لك، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له.
فقال حافظ في هدوء أيضا: وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولنت، فأنت في بلد الملك فؤاد، وكان أدب الضيافة، وعرفان الجميل يفرضان عليك، ألا تقول مثل هذا الكلام، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام.
فتركه وأخذ يمشي في البهو الفسيح، ويداه في جيب بنطلونه، ووضع حافظ عدته، وجلس على كرسي، واتكأ على منضدة وسادت فترة سكوت، لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر.
وبعد قليل تقدم من حافظ، وقال له: افرض أنني لم أعتذر لك، فماذا تفعل؟ فقال الأمر هين سأكتب تقريرًا إلى قنصلكم هنا وإلى سفارتكم أولاً، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس، ثم الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية، ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس، فأشكوك إليه، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك ذلك استطعت أن أهينك في الشارع، وعلى ملأ من الناس، وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد، ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية، التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة، ولكني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق.
فقال الرجل: يظهر أنني أتكلم مع "أفوكاتو لانجار" ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس، فكيف تتصور أن أعتذر لك.
فقال حافظ: وألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا وطنك، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة، وستنتهي، ثم تعود إلينا، فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيته الأولى.
وبعد فترة عاد مرة ثانية، وعلى وجهه أمارات التأثر، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات، وهو يقول: اعتذر يا حافظ سحبت كلمتي.
فقام الأخ حافظ بكل هدوء، وقال: متشكر يا مسيو سولنت، وزاول عمله حتى أتمه.
وبعد الانتهاء أعطاه المسيو سولنت 150 قرشًا، فأخذ 130 قرشًا، ورد له العشرين.
فقال له: خذها "بقشيشًا" فقال: لا لا، حتى لا أخذ أكثر من حقي، فأكون "حرامي"، فدهش الرجل. وقال: إني مستغرب، لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت "فاميلي محمد" فقال حافظ: يا مسيو "سولنت" كل المسلمين "فاميلي محمد" ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات وقلدوهم، ففسدت أخلاقهم، فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحًا قائلاً: متشكر، متشكر، كتر خيرك، وفيها الإذن بالانصراف.
جزاء الأمانة:
وكان الأخ حسن مرسي، يعمل عند الخواجة، "مانيو" ويخرج نموذجًا ممتازًا من صناديق الراديو، وكان الصندوق حينذاك يتكلف جنيهًا تقريبًا، فجاء أحد الخواجات من أصدقاء "مانيو" وساوم الأخ حسن على أن يصنع له بعض الصناديق بنصف القيمة، على ألا يخبر بذلك الخواجة "مانيو" فيستفيد حسن بالنصف الذي يأخذه، ويستفيد هذا الخواجة النصف الباقي.
وكان مانيو يثق في الأخ ثقة تامة، وقد أسلم إليه كل ما في الدكان من خامات وأدوات. وأراد صديق "مانيو" أن يستغل هذه الثقة، ولكن الأخ حسن ألقى عليه درسًا قاسيًا في الأخلاق، وقال له: إن الإسلام وكل دين في الوجود يحرم الخيانة، فكيف بمن وثق فيّ هذه الثقة، وإني لأعجب أن تكون صديقه، ومن جنسه، ودينه، ومع ذلك تفكر في خيانته، وتحاول أن تحملني على مثل ذلك، يا هذا يجب أن تندم على هذا التفكير الخاطئ، وثق بأنني سوف لا أخبر الخواجة "مانيو" بعملك هذا، حتى لا أفسد صداقتكما، ولكن بشرط أن تعدني وعدًا صادقًا بألا تعود إلى مثل ذلك.
ولكن هذا الخواجة كان سخيفًا، فقال له إذًا سأخبر الخواجة "مانيو" بأنك أنت الذي عرضت عليّ هذا العرض. وهو سيصدقني، ولا شك فإنه يثق بكلامي كل الثقة، وسيترتب على ذلك إخراجك من العمل، وفقدانك لهذه المنزلة التي تتمتع بها عنده، وخير لك أن تتفق معي، وتنفذ ما أريد، فغضب الأخ وقال له: افعل ما تشاء، وسيكون جزاؤك الخزي إن شاء الله، ونفذ الرجل وعيده وجاء "مانيو" يحقق في الأمر، فاكتسحت أضواء الحق ظلمات الباطل، وأخبره الأخ حسن بالأمر، ولم يشك الرجل أبدًا في صدقه، وطرد هذا الصديق الخائن، وقطع صلته به، وزاد في راتب الأخ جزاء أمانته.
جزاء من عف عن الحرام واعتصم بالله:
وهذا الأخ عبد العزيز غلام النبي الهندي الذي يعمل "ترزيًّا" في المعسكر الإنجليزي تدعوه زوجة أحد كبار الضباط لبعض الأعمال الخارجية بمهنته، لتنفرد به في المنزل، وتغريه بكل أنواع المغريات، فيعظها، وينصح لها، ثم يخوفها ويزجرها.
فتهدد بعكس القضية تارةً وبتصويب المسدس إلى صدره تارةً أخرى، وهو مع ذلك لا يتزحزح عن موقفه قائلاً: إني أخاف الله رب العالمين.
وكم كان جميلاً مضحكًا في وقت واحد أن توهمه في إصرار أنها قد قررت قتله، وستعتذر عن ذلك بأنه هاجمها في منزلها وهَمَّ بها، وتصوب المسدس إليه فيغمض عينيه، ويصرخ في يقين "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فتفاجئها الصيحة، ويسقط المسدس على الأرض، ويسقط في يديها، فلا ترى إلا أن تدفعه بكلتا يديها إلى الخارج، حيث ظل يعدو إلى دار الإخوان المسلمين.
الشهيد فرغلي في فلسطين:
كانت راحته في العمل وسعادته في الجهاد:
نزل الأستاذ البنا بليل إلى الإسماعيلية أيام حرب فلسطين 1948. وقضى مع الشيخ فرغلي جزءًا من الليل. وكان الشهيد على وشك السفر إلى ميدان القتال.
قال له الإمام البنا: ربما أمكنك السفر مع الفجر، وتقضي ليلك معنا، وفي صلاة الفجر، قالوا له لقد سافر الشيخ مبكرًا، وصار الإمام البنا يضرب بكف على كف، ويقول فرحًا: هكذا يكون الرجال المسلمون في مواضع المسئولية.
لم يكن الشيخ فرغلي ليقضي ساعات، ظنها ساعات، بعيدًا عن ميدان الحرب في فلسطين، وهو المسئول عن أرواح المقاتلين، ولما كان فقهه من فقه الأولين ممن مضوا على الطريق، فكان لا بد أن يكون في مقدمة المحاربين. شاهرًا سلاحه، مشاركًا بدمه وروحه في سنة 1948 في حرب قامت على أرض فلسطين، حرب ضارية بين اليهود الذين تساندهم روسيا وأمريكا وفرنسا وإنجلترا، وبين العرب أصحاب الأرض وسكانها.
وأعلن الأستاذ البنا أن تحرير فلسطين عن طريق المجاهدين المؤمنين، أقرب منه عن طريق الجيوش النظامية تحركها حكومات هزيلة، يحكم الاستعمار قبضته حول أعناقها، وطالب الإخوان المسلمون يؤمئذ حكومة النقراشي بفتح الطريق أمامهم إلى فلسطين، وإفساح المجال لهم في الداخل للتدريب والتسلح فرفضت، ورأى الإخوان أن يتسللوا في خفاء إلى فلسطين، فأحكمت الحكومة قبضتها على الحدود وعند القنطرة لمنعهم.
وأحكم الإنجليز إغلاق حدود فلسطين ليمنعوهم من دخولها ومع ذلك تسلل الإخوان ملبين نداء ربهم مستخفين بكل العوائق والعقبات(2).
ويقول الأستاذ كامل الشريف:
لقد عرفت الشيخ فرغلي- أول ما عرفته- يوم كان يرافق المرشد الشهيد، في جولته على خطوط القنال في فلسطين، ثم توثقت عرى الأخوة حين عملنا سويًا، خلال الحملة الفلسطينية، فازددت له معرفة كما ازددت به إعجابًا.
ولم يكن الشيخ فرغلي من ذلك النوع من شيوخ الدين الذين يتعلقون بالقشور، ويبحثون عن المناصب والمراكز، ولو كان كذلك لأعفى نفسه من المتاعب، ولأصاب من المراكز أقصى ما يريد، ولكنه كان مجاهدًا بحق، وحسبه، أنه ترك وظيفته وأهله، وذهب إلى فلسطين مع أول جماعة من المجاهدين(3).
ويقول الضابط حسين حجازي:
"بدأ المركز العام في جمع شعب وفروع الإخوان بالقاهرة والأقاليم للتدريب على القتال، وبدأ تسلل أول فوج بعد تدريبه إلى صحراء النقب، وقد عمل هذا الفوج بقيادة الأخ المجاهد كامل الشريف، والشيخ/ محمد فرغلي"(4).
دور الشهيد فرغلي في معركة القنال
وحين نشبت معركة القنال ترك أهله مرةً أخرى، واندمج بكليته في المعركة، ولم يكن أيضًا (درويشًا ساذجًا) يعالج قضايا الجهاد من زاوية عاطفية، بل كان سياسيًّا، ذا عقلية منظمة، كما كان صاحب شخصية مسيطرة تملأ نفوس من معه بالأمل والثقة، وتشعرهم بأنهم يسيرون خلف قائد قدير عظم الخبرة(5).
وفي 1951 ألغت الحكومة المصرية معاهدة 1936. وقابل الإنجليز الأمر باستخفاف، وعلى طول البلاد وعرضها اتبع رجال الأحزاب المصرية وزعماؤها الأمر بالخطب والبيانات إلا الشيخ فرغلي ومن معه، فقد نزلوا إلى المعركة بعزم وصدق، وجلد وخبرة. وأعلن تشرشل في لندن أن عنصرًا جديدًا قد نزل إلى ساحة المعركة.
وعلى أرض القنال، وفي معسكرات التل الكبير، ووسط ثكنات المستعمرين في بور سعيد والإسماعيلية والسويس، دارت رحى الجهاد وفاضت أرواح وسالت دماء، وتأكد لدى الإنجليز أن مقامهم في مصر لن يطول.
ولم يكن الشيخ فرغلي مجهولاً عند الإنجليز، ومواقفه في الإسماعيلية مشهورة ومعروفة، كم أنذروا رجال الحكومة، وكم نزلوا شوارع المدينة، متحدين عابثين، ووقف رجال الحكومات عاجزين، إلا الشيخ فرغلي، واجه صلف المستعمر بصفعه، وقابل غروره بالسلاح.
أنذر قائد قوات الاحتلال يومًا المحافظ وأنزل إلى الشوارع جنوده ومصفحاته، وتوجه الشيخ فرغلي إلى المحافظ في عربة جيب، وفي زيه الأزهري ومعه سلاحه، لينذر المنذرين بضرورة الانسحاب، وليساند رجال الحكومة في موقفهم، وليشد من أزرهم، وانسحب الإنجليز بالفعل من شوارع الإسماعيلية، وسحبوا إنذارهم(6).
وعن جهده في القنال يقول الأستاذ كامل الشريف:
وفي الإسماعيلية كانت تقوم أقوى تشكيلاتنا السرية، كما توجد القيادة الإدارية الرئيسة لمنطقة القناة ويرأسها داعية محنك عظيم الخبرة هو المرحوم الشيخ (محمد فرغلي) كما يساعده مغامر جسور هو (يوسف طلعت)، وعدد كبير من الشباب الواعي المنبث في مختلف الفئات، والطوائف المهنية(7).
وكان للإسماعيلية شبكة للمعلومات من أقدم الشبكات وأقواها، كما كان يعمل فيها عدد من المحترفين والمتفرغين الذين لا عمل لهم، إلا متابعة النشاط البريطاني، وملاحقة العملاء المصريين، والأجانب الذين يعملون لحسابه، وكانت تدور معركة حفية بين هذا الجهاز، وقلم المخابرات البريطاني، وتظهر هذه المعركة أحيانًا على السطح في اشتباكات متفرقة هنا وهناك.
وكان الإنجليز لا يجهلون خطر هذه الجماعة وبأسها، فكانوا يراقبون الشيخ فرغلي مراقبةً دائمةً، وكان منظرًا مألوفًا، أن يرى هذا الرجل الوقور في شوارع الإسماعيلية بلباسه الديني المبتكر، وعمامته البيضاء الأنيقة، يتابعه عميل بريطاني حيثما سار(8).
وخسر الإنجليز في معارك القنال الكثير؛ قطعت مواصلاتهم، وهوجمت معسكراتهم، وقتل جنودهم، فرصدوا ألوف الجنيهات لمن يأتي بالشيخ فرغلي حيًّا أو ميتًا. وفي سنة 1954 بدت نذر القطيعة، وتأزمت الأمور، وتلبد الجو، ووسط أساليب الإغراء وصور التهديد، وقف الشيخ الشهيد صامدًا لا يلين، قويًّا لا يحيد، ثابتًا لا يتزعزع، رابط الجأش لا يخشى، في عزم المجاهدين وصلابة الأولين، أعرض عن الدنيا بمنافعها ومفاتنها، وكانت تحت قدميه، ورفع رأسه شامخًا، فلم يقبل في دينه الدنيةَ، وبقيت منزلته عند إخوانه كريمةً نقيةً، وصورته في أذهان الآخرين مبعث الخطر، ومكمن الخشية، كانت صفحاته على أرض فلسطين وعلى أرض القنال، وفي ميدان الدعوة ملؤها الشرف والفخار، وكانت صفحاته وهو بين أيادي الجلادين والطغاة، في غياهب السجن الحربي ملؤها الصبر والاحتمال والاحتساب. صبر المؤمنين، واحتمال المجاهدين، واحتساب المخلصين(9).
موقف مشرف
وكان الشيخ فرغلي من ذلك الصنف الذي يفرض عليك- رغم تواضعه الشديد وأدبه الجم- أن تحترمه وتقدره، وكان مفتاح شخصيته هو "الترفع" عن الصغائر، والترفع عن الخصومات، والترفع عن كل ما يشين.
وكان شديد الحرص على سمعة الدعوة ونظمها، غيورًا إلى أبعد الحدود على هيبتها وكرامتها، ومما يروى عنه في ذلك أنه بعد نجاح الانقلاب العسكري، وتأليف وزارة محمد نجيب الأولى عُقد اجتماع في مكتب البكباشي جمال عبد الناصر، وكان وزيرًا للداخلية في تلك الوزارة، كما حضر معه عن رجال الانقلاب- كما أذكر (القائل هو كامل الشريف)، كمال الدين حسين، وصلاح سالم، وعبد الحكيم عامر، وكنا الشيخ فرغلي وأنا نمثل الإخوان في محاولة من تلك المحاولات التي بذلت لتحديد الخلافات بين الإخوان، وحكومة الانقلاب ووضع حلول لها، ويبدو أنهم أرادوا أن يوقعوا بين الشيخ والمرشد العام، وأن يكسبوه في صفهم، وكانوا كثيرًا ما يفعلون ذلك مع بعض أقطاب الجماعة، فأخذوا يمتدحون الشيخ ويذكرون له مواقفه العظيمة في فلسطين، ثم أخذوا ينالون من شخص المرشد العام، ويتحاملون عليه، غير أن الشيخ فرغلي قطع عليهم الحديث، وقال غاضبا: "يجب أن تدركوا أن هذا الذي تتحدثون عنه هو زعيمنا، وقائد جماعتنا، وإنني أعتبر حديثكم هذا، إهانةً للجماعة كلها، ولشخصي بصفة خاصة، وإذا كان هذا هو أسلوبكم في تسوية الخلاف، فإنكم لن تصلوا لشيء إلا زيادة هذا الخلاف".
وكان هذا القول كافيًا لإقناعهم أنهم أمام رجل صلب العود، قوي الشكيمة، فانصرفوا بالحديث إلى جهة أخرى(10).
عبد الناصر يلوح بإسناد مشيخة الأزهر لفرغلي
لقاء في منزل عبد الناصر:
يقول المرشد الراحل فضيلة الأستاذ حامد أبو النصر:
الشيخ محمد فرغلي وجمال عبد الناصر والأستاذ محمد حامد أبو النصر(1/172)
"وكان من بواكير اللقاءات التي تمت هي دعوة الضابط عبد الناصر قائد الحركة لفضيلة الشيخ محمد فرغلي، ومعه (الشاهد على الطريق) محمد حامد أبو النصر لتناول الإفطار في منزله بمنشية البكري، وفي الساعة السادسة صباحًا الميعاد المحدد لهذا اللقاء- توجهنا إلى منزله فوجدناه في انتظارنا في حجرة الاستقبال، وبعد قليل جلس ثلاثتنا حول مائدة صغيرة أعدت بإفطار مبسط عادي، وأذكر أن دارت بيننا أحاديث بدأها الضابط عبد الناصر- من أهمها:
- العمل على إزالة آثار العوائق التي وقعت بين قيادة الإخوان وقيادة الحركة، كما كانت مسألة إصلاح الأزهر الشريف منار الإسلام، وما يجب أن يكون عليه من كفاءة حتى يؤدي رسالته، وهنا لوح الضابط عبد الناصر بإشارات خفيفة حول إسناد مشيخة الأزهر لفضيلة الشيخ فرغلي، كما تناول الحديث إرسال بعثات إسلامية من الإخوان المسلمين إلى جنوب أفريقيا لحاجة شعوبها إلى الإسلام، وقد لاحظت على هذا اللقاء أمرين:
أحدهما: أن الدعوة كانت موجهةً لفضيلة الشيخ فرغلي ولي على اعتبار أننا جميعًا من أبناء محافظة أسيوط- وبهذا كان يريد الضابط عبد الناصر بدعوته لنا هو استقطاب إخوان أسيوط حوله.
وهذه صورة أقل ما يقال عنها إنها نعرة قبلية جاهلية..
والآخر: هو عندما طلبت دخول دورة المياه لقضاء بعض حاجتي، وأثناء خروجي، وبينما كنت أتوضأ، لاحظت الضابط عبد الناصر يدخل الدورة ويفتشها بدقة، وهذا أمر كان له وقع سيئ على نفسي إذ ظن أنني أخفيت له شيئًا ما، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على ريبته في الإخوان، وسوء ظنه بهم.
ولما انتهت الزيارة، وركبت مع أخي فضيلة الشيخ فرغلي السيارة، ذكرت له هذه الواقعة الأخيرة، فضحك كثيرًا، وقال معلقا: "أصلك أنت راجل عظيم يا عم"، وأخذ يكرر هذه العبارة، ونحن نتبادل التعليق والضحك والأسف الشديد.
ومما يذكر أن هذه الواقعة لم أذكرها لأحد في حينها، ولا يعلم بها سوى فضيلة الشيخ فرغلي، والدافع لهذا الكتمان هو تهيئة الجو لتوثيق الرابطة وجمع الشمل.
ومما هو جدير بالذكر أنه رغم وجود الروابط التي كانت تربطنا بالضابط عبد الناصر، وأولاها: رابطة الإخوة في جماعة الإخوان المسلمين، وثانيها: رابطة الانتماء إلى أسيوط حيث الموطن الذي يجمعنا، وثالثها: "رابطة الاجتماع على طعام واحد (العيش والملح).
ورغم هذه الروابط الثلاث القوية فقد حفظها الضابط عبد الناصر، ورعاها فأعدم فضيلة الشيخ فرغلي شنقًا- وحكم عليّ بالأشغال الشاقة المؤبدة".
المكتب يجتمع في ظل الإرهاب ويضم إليه أعضاء بالإكراه:
وفي هذا الجو الصاخب طلب الدكتور خميس حميدة، عقد اجتماع المكتب، فاجتمع الإخوة الأستاذ عبد القادر عودة، وفضيلة الشيخ محمد فرغلي، وفضيلة الشيخ أحمد شريت، والأستاذ عمر التلمساني، والأستاذ عبد الرحمن البنا، والأستاذ صالح أبو رقيق، والشيخ عبد المعز عبد الستار، ومحمد حامد أبو النصر (الشاهد على الطريق).
والعجيب أنه من الطبيعي أن يجتمع المكتب بأعضائه فقط، لكن الذي حدث أنه- كان معنا في هذا الاجتماع الحاج محمد جودة، والمهندس عبد السلام فهمي، والأستاذ حملي نور الدين، واقترح ضم الموجودين للمكتب، وكان هذا الإجراء غير قانوني، لكن المسألة كانت مدبرة، وقصد بها تحويل سياسة الجماعة لتحقيق أهداف الحكومة، وقع كل هذا تحت ظروف الضغط والإكراه، وقبل أن ينتهي الاجتماع اقترح الحاج محمد جودة إصدار بيان من المكتب بتأييد الاتفاقية، كما اقترح عودة الإخوان المفصولين إلى صفوف الجماعة، فما كان من الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة إلا أن ثار، وقال بصوت مرتفع: "والله لا نقرر شيئًا الآن، هي إملاء شروط والا إيه"، وانتهى الاجتماع عند هذا الحد، وأثناء خروجنا من الاجتماع انتحي بي الأخ الأستاذ عبد القادرة عودة، ناحية وأسر إلي كلامًا: "عندي إحساس أنني لن أقابلك مرة أخرى، فربما أعتقل الليلة أو باكر، وقد أوصاني فضيلة المرشد أن أسلمك ما عندي من أوراق خاصة بالجماعة"، فذهبت معه إلى مكتبه، وطلب من الأخ الأستاذ إبراهيم الطيب، أن يسلمني الأوراق، وتسلمتها منه، ثم غادرنا المكتب بعد ذلك حيث زرنا سويًّا الأخ المرحوم الأستاذ منير دلة في منزله، وقصَّ عليه ما حدث في جلسة المكتب الأخيرة، ثم زرنا فضيلة الشيخ محمد فرغلي في شقته، فذكر له إحساسه فرد عليه فضيلة الشيخ فرغلي: "وأنا سألحق بك إن شاء الله.." هكذا كانت أحاسيس القلوب الشفافة التي ترى بنور الله.
وقد صدق إحساسهما فلم أقابلهما بعدها.
ففي المساء اعتقل الأستاذ عبد القادر عودة، وفي صباح يوم السبت الرابع من ديسمبر سنة 1954 استدعينا ووضع الكلابش في أيدينا وتوجهنا في حراسة مشددة إلى مبنى المحكمة لسماع الحكم، وكان في مقدمتنا فضيلة المرشد الأستاذ حسن الهضيبي، وهناك وضعنا في حجرتين كل في مقعد ونودي على الشهداء: عبد القادر عودة- والشيخ محمد فرغلي- وإبراهيم الطيب- ويوسف طلعت- هنداوي دوير- ومحمد عبد اللطيف.
وحكم على هذه المجموعة الأولى بالإعدام شنقًا.
ثم نودي على الأساتذة: فضيلة المرشد حسن الهضيبي- الذي استبدل حكمه من الإعدام إلى المؤبد- وعبد العزيز عطية- والدكتور كمال خليفة- والدكتور حسين كمال الدين- ومنير أمين دلة- وصالح أبو رقيق- ومحمد حامد أبو النصر (الشاهد على الأحداث)، وحكم على هذه المجموعة الثانية بالأشغال الشاقة المؤبدة.
وفي ديسمبر سنة 1954 وقف الشيخ الشهيد أمام حبل المشنقة باسمًا في إقدام، فرحًا في إيمان، ساعيًا إلى شوق، مرددًا مثل من سبقوه وهم يمضون على الطريق: "إنني لمستعد للموت، فمرحبًا بلقاء الله". وصدق الله العظيم {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} (الأحزاب)(11).
مضى الشيخ في طريقه إلى ربه يحكي سيرة المجاهدين على لسان من قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي
مضى فقيرًا لا يملك شروى نقير، ولكن قلبه كان وافر الثراء، مفضلاً ما عند الله فهو خير من كل ثراء، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (القصص: من الآية 60)(12)، رحل عفيفًا زاهدًا، كريمًا، عزيزًا، رابط الجأش، ثابت الجنان، صافي الوجدان، ومهما قيل من كلمات أو سطر من صفحات فلن تفي الشيخ حق الوفاء(13).
وفي مقتله يقول الأستاذ كامل الشريف:
ولقد قتل الشيخ فرغلي بعد ذلك بأيدٍ مصرية، ولعل الذين استباحوا دمه، أرادوا أن يبعدوه عن طريق مجدهم، ولو أدركوا أنهم صنعوا منه شهيدًا خالدًا، وأقاموا منه مثالاً حيًّا سيظل يهيب بالجموع الكثيرة من الإخوان، ومن طلاب الحق، ليكافحوا الباطل حيثما وجدوه، ولو أدركوا أنهم وضعوا بفعلتهم هذه اسمًا جديدًا في قائمة الأسماء اللامعة من شيوخ الإسلام المجاهدين من أمثال: ابن تيمية، وسعيد بن جبير، وعمر المختار، وحسن البنا، ولو أنهم أدركوا ذلك كله، لربما ترددوا كثيرًا في قتله رحمه الله (14).
-----------------------------
(1) مجلة الدعوة المصرية، السنة الأولى، العدد 3.
(2) مجلة الدعوة المصرية، السنة الأولى، عدد 3.
(3) المقاومة السرية في قناة السويس، كامل الشريف، ص 50 - 51 بتصرف.
(4) جماعة افتدت أمة، حسين حجازي، ص 73.
(5) المقاومة السرية في القناة، كامل الشريف، ص50.
(6) الدعوة المصرية، السنة الأولى، عدد 3.
(7) لعل هذا هو السر في الحكم عليهما بالإعدام في الثورة المباركة.
(8) المقاومة السرية، ص 48.
(9) مجلة الدعوة المصرية، السنة الأولى، عدد 3.
(10) المقاومة السرية، ص 49، 50.
(11) سورة الأحزاب، الآية 23.
(12) سورة القصص، الآية60 .
(13) مجلة الدعوة المصرية، السنة الأولى، عدد 3.
(14) المقاومة السرية في قناة السويس، كامل الشريف، ص 50.
ـــــــــــــــ(1/173)
الشيخ محمد الغزالي- الداعية الأديب الشاعر
أ.د. جابر قميحة
في سبتمبر سنة 1917م، كان مولده، وفي مارس سنة 1996م، كان رحيله.. رحيله من دنيا الناس الفانية، إلى عالم البقاء في رحاب الله(1)، كان آخر ما سمعناه منه في مصر خطبة عيد الفطر سنة 1416هـ، بمسجد مصطفى محمود بالجيزة. فكان- كعهدنا به- متوهج العقل والمشاعر، معبرًا في صراحة وتفتح، وشباب وإيمان عن هموم المسلمين والعرب، وما حيك، ويُحاك لهم من مؤامرات الظلم والعدوان.
وكان- يرحمه الله- يُعالج القضايا الإسلامية والعربية والاجتماعية بالنظرة الشاملة الفاحصة الواعية، موزعًا نظره على كل الزوايا والمنحنيات والنتوءات، فلا يترك من "مساحة" الموضوع قيد أنملة إلا استوعبه، وعالجه.
وكان- يرحمه الله- يتمتع بقدرة خاصة على استدعاء الشواهد القرآنية والنبوية، والتاريخية، والعلمية، والإحصائية لتأييد آرائه وتدعيمها، ولكن بدون تعنت أو تعسف، أو افتئات، متحليًّا في جدله بأدب الإسلام في أناة، ووقار ولين ورحمة، ولكن دون أن يتخلى عن حماسة المتمكن، واستعلاء الإيمان.
حتى الذين هاجموا- في شدة وقسوة وتشنج- بعض مؤلفاته الأخيرة، وخصوصًا كتابه "السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وطور بعضهم هجومه من "تجريح" ما كتب، إلى "تجريح من كتب"، حتى مع هؤلاء ظل عف القلم، عف اللسان، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى(2).
بعض من أعطياته
ومما يشهد له في هذا المقام موقفه من كتاب خالد محمد خالد "من هنا نبدأ"، لقد أحدث الكتاب ضجةً كبرى لأنه كان غاصًا بالغلط والمغالطات والهجوم الضاري على ثوابت الإسلام، منتصرًا للتوجهات والمذاهب الغربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن هذا الهراء كان صادرًا من "عالم أزهري"، تصدى له الإمام محمد الغزالي سنة 1950م، بكتابه "من هنا نعلم"، وبعلمه الموسوعي الغزير، وقوة عارضته، استطاع أن ينقض كتاب خالد عروةً عروةً، وخيطًا خيطًا دون أن يخدش الرجلَ في خلقه وعقيدته، وبذلك استطاع الغزالي- بهذا الكتاب، وبما تلاه من كتب - أن يرسي أدب الإسلام في الجدل والمناظرة، والحوار، والتحدي، والتصدي(3).
وتشهد لأستاذنا الغزالي- كذلك- قدرته الفائقة على الربط بين القديم والحديث، وكان يؤمن بأن "الحديث" يجب ألا يُرفض لحداثته "بدعوى أنه بدعة"، أو يُرفض "لعلمانية" صاحبه، وإلا كنا ممن لا يعدلون لشنآن قوم، والتوجيه الإلهي الحق هو {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: من الآية 8).
وقبل البعثة حضر محمد- صلى الله عليه وسلم- في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لنصرة المظلومين والمستضعفين هو "حلف الفضول"، وبعد أن بُعث نبينا أثنى على الحلف، وأعلن أنه لو دُعي إليه في الإسلام لأجاب(4).
ومما يزيد على نصف قرن، وضع الغزالي أمامنا "الميزان الصحيح"، إذ كتب "... نحن نقول: إننا نحارب التدين الباطل بالتدين الصحيح، ونحارب الكهانة المنافقة بالإسلام الحق، ونختبر كل ما يجد في الدنيا من أسماء وحقائق بما لدينا من كتاب وسنة، فما وافق مواريثنا المقدسة من كتاب الله وسنة رسوله قبلناه، وما جافاه نبذناه، ولا كرامة"(5).
ومن إبداع الغزالي- رحمه الله- تلك الخاطرة التي كان يكتبها أسبوعيًّا في صحيفة "الشعب" بعنوان "هذا ديننا"، يعالج في كل منها قيمة من القيم الإسلامية الإنسانية، أو مشهدًا من مشاهد "انكسار المسلمين" أمام "الأكلة" من الصهاينة والصليبية العالمية، ومن على دربهم سار، وقد تمثَّل خاطرته حملة على بدعة ضارة أو عادة اجتماعية خبيثة، أو ما دار في هذا الفلك، وكانت الخاطرة لا تزيد على ثلاثمائة كلمة، ولكنها كانت- بما تتمتع به من "تكثيف" و"تقطير"، في التقييم، وجمال عرض... شهادةً حقيقيةً بأن الغزالي من أبرع مَن يكتب "الخاطرة" في عصرنا هذا، وبذلك اجتمع لقلمه القدرة على كتابة "السفْر الضخم"، وكتابة الأسطر المقطرة الوافية، وما أصعبها إلا على أمثالِ الغزالي العظيم.
واحد من تلاميذه أنا..
وأشهدُ وأعتزُّ بأني كنتُ واحدًا من تلاميذِ شيخنا محمد الغزالي، وما زلتُ، ولكنني- وأعترف- كنت تلميذًا "لفكر" أكثر مني تلميذًا "لمفكر"، كنت تلميذًا أتلقى، أكثر مني تلميذًا يلتقى، فقد عشتُ الغزالي: فكرًا، وأدبًا، وحصائل نفس وعقل وروح أكثر من معايشة مجالس ولقاءات، وقد يكون من أسباب ذلك سنوات غربة موزعة على قرابة ربع قرن قضيتها متقطعات بين الكويتِ وباكستان والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية.. غربة إرادية تهدف إلى تعليمِ الشباب في جامعات هذه البلاد أدبًا ونقدًا وفكرًا ودراسات نقدية وإسلامية.
ولكن واقعي النفسي يقول- بلا غلو أو إفراط وإسراف-: إننى إن فاتني "الرسم" فما فاتني "الوسم"، وإن كانت "سيما" المؤمنين في وجوههم من أثر السجود، فإني رأيتها في شخصيةِ الغزالي التي جمعت في أقطار النفس بين التواضع واستشعار العزة واستعلاء الإيمان، وجمعت في أقطار القلب بين روحانية دفاقة، وواقعية لا تجور، وجمعت في أقطار العقل بين سعة الأفق، والحسم، والقدرة على النقد والنقض والإقناع. إنه الحضور الدائم للشيخ العظيم:
وما كلّ مفقود يُراع لفقدِهِ ولا كل حيٍّ فائقٌ ومحبّب
ولا كل من يحيا الحياة بحاضرٍ ولا كل من في القبر ماضٍ مغيّب
فإن خلود المرء بالعمل الذي يقودُ مسار الخير لا يتهيبُ
عزيزًا مع الحق القويم.. منارةً تشد إليها كل قلب وتجذب
فالغزالي ما غاب وما زال- وسيظل- حاضرًا فائقًا، وإن غاب برسمه وجسمه، وهذه سمة العظماء الأجلاء من البشر، أيًّا كانت مواقعهم في دنيا الناس.. قيادة ورياسة وجندية، وفكرًا وأدبًا وشعرًا.
ولكني أعود فأقول- بصدقية المحب المتابع: إنني عشتُ الغزالي وسمًا ورسمًا.. وجسمًا، وحسًا وشعورًا وصوتًا، ومجالسةً، ومصاحبةً، ومعاناةً وفكرًا؛ فقد اكتشفتُ أن بين "المادي الغزالي"، و"المعنوي الغزالي" ترادفًا؛ لأنه كله يمثل منظومة اسمها محمد الغزالي، ذات أنساق متسقات، وإن اختلفت في الأشكال، كباقة الزهر تجمع بين الورد والنرجس والفل والريحان، ولكنها جميعًا تلتقى في سمات ثلاث: التلاحم والجمال والتقطير.. وهكذا كان شيخنا الغزالي، اتساقًا في الفكر، ودقة في العرض، وإيمانًا بالمقول، وتوافقًا في الأعطيات، وقوة في الإقناع والاستمالة، ولا نزاع.
قطوف من الشجرة الشامخة
وأشهد أنني- وأنا طالب في بداية المرحلة الثانوية أواخر الأربعينيات- فتحت عيني وعقلي وقلبي معايشًا متتلمذًا على بواكير أعطياته الفكرية: الإسلام والأوضاع الاقتصادية (1947م) والإسلام والمناهج الاشتراكية، والإسلامي المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، ثم الإسلام والاستبداد السياسي، وتأملات في الدين والحياة، وعقيدة المسلم، وخلق المسلم، ثم كتاب: من هنا نعلم (1950م) الذي قصم ونقض فيه كل ما كتبه: خالد محمد خالد: من هنا نبدأ، وعشرات من الكتب بعدها.
وزيادة على ما أثريته من هذه الكتب في مجالات العقيدة والفكر ومناهج التناول والمعالجة والبحث والخلق الإسلامي العتيد... خرجت بأدب رفيع آسر جميل "وإن من البيان لسحرًا"، فالرجل- رحمه الله- كان يعرض الحقائق الإيمانية، والمضامين الفكرية، وقواعد الدين والخلق في أسلوب طلي أخَّاذ، يشد القارئ إلى المعروض- كتابًا أو مقالاً، أو خطبة، أو محاضرة- ويحقق له المتعة الوجدانية، زيادة طبعًا على الحصائل الفكرية... إنه يقدم الدواء في "عصائر" طيبة المذاق، فواحة الأريج، منزهًا عن التجرد والجفاف، فجاء نقيًّا نديًّا، يؤتي أكله- بإذن ربه- كل حين، وإن كل شريحة من شرائحه النصية في أي كتاب من كتبه لتصلح شاهدًا على هذه السمة: حلاوة الأسلوب وطلاوته، وتدفقه وقوة أسره، ونقدم في السطور الآتية بعض القطوف التي تدل على هذه السمة:
1 - إذا دهمتك شدة تخاف منها على كيانك كله، فما عساك تصنع؟ تدع الروع ينهب فؤادك، والعواصف الجائحة ترمي بك في مكان سحيق، أم تقف مطمئنًا، وتحاول أن تتلمس بين هذه الضوائق مأمنًا يهديك إليه الفكر الصائب؟(6).
2 - ... والحق أن الرجولات الضخمة لا تُعرف إلا في ميدان الجرأة، وأن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلامًا لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة، وكما أن التردد خدش في الرجولة، فهو تهمة للإيمان، وقد كره النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرجع بعدما ارتأت كثرة الصحابة المصير إليه(7).
3 - الرجل صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدًا أن تفرض على الدنيا نفسها، وأن تغرس في حاضر الإنسان جذرها ليمتد على مر الأيام والليالي فروعًا متشابكة تظلل المستقبل. وتتغلغل فيه(8).
4 - إن محمدًا وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات، بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم، والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب، وليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة(9).
التمثل والاستشهاد
ومن اللوازم الأسلوبية للغزالي الإكثار من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية والحكم السلفية، والمأثور من الشعر القديم، وكذلك بعض الشعر الحديث، وهو يملك موهبة بصيرة قادرة على التقاط الشواهد، ووضعها في أنسب مكان لها، فيتحقق الانسياب والاندماج والتوافق، وكأن شواهده- غير القرآن والأحاديث النبوية- ما صيغت إلا للنص المعروض، ومن دقة اختياره المأثورة الآتية في سياق النعي على أدعياء الدين والتدين، الذين يفرطون في دينهم من أجل الحياة الناعمة، وزهرة الحياة الدنيا:
"عن مالك بن أنس قال لي أستاذي ربيعة:(10) يا مالك، مَن السفلة؟ قلت: مَن أكل بدينه. فقال: من سفلة السفلة؟ قلت: مَن أصلح دنيا غيره بفساد دينه"، فصدقني (أي قال لي: صدقت)، وقال الفضيل بن عباس: "لأن آكل الدنيا بالطبل والمزمار أحب إلى من أن آكلها بدين"(11).
ولا يكاد فصل من كتاب للغزالي- وأكاد أقول صفحة- يخلو من شاهدٍ من شواهد الشعر القديم يلتحم بنثره كأنهما يخرجان من مشكاة واحدة، يقول الغزالي: "وإنني بعدما بلدت الناس أجدني مضطرًا لأن أقول: محِّض عملك لله، وانشد ثوابه وحده، ولا تنتظر أن يشكرك أحد من الناس، بل توقع أن يضيق الناس بك!! وأن يحقدوا عليك، وأن يبتغوا لك الريبة، وينسوا الفضل!! وأن يكونوا كما قال الشاعر:
إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحًا عني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا
جهلاً علينا، وجبنًا عن عدوهمُ لبئست الخلتان: الجهلُ والجبنُ(12)
وللشعر الحديث مكان في كتاباته وخطبه، ومن كلماته: "فالنهج الأقوم أن يكون مصدر طاقتنا المادية والمعنوية هو الحق وحده، وماذا على المريضِ المصاب بقرحة الأمعاء، لو أنه حسب الموت نُقلة من بلد إلى بلد؟ وماذا لو تحمل نبأ العلة التي أصابته بطمأنينة وتسليم لأنه يؤمن بالله، ولا يحزن من لقائه، وإن اقترب موعده؟! ومن أبيات للشاعر محمد مصطفى حمام:
علَّمتني الحياةُ أنَّ حياتي إنما كانت امتحانًا طويلا
قد أرى بعده نعيمًا مقيمًا أو أرى بعده عذابًا وبيلا
علَّ خوفي من الحساب كفيلٌ ليَ بالصفح يومَ أرجو الكفيلا
علَّ خوفي يردني عن أمورٍ خبثتْ غايةً وساءت سبيلا
وعد الله من يُنيب ويخشى بطشه رحمة وصفحًا جميلا
وبحسبي وعدٌ من الله حقٌ إنه كان وعده مفعولا"(13)
الوجوه المتقابلة
وفي أداء الشيخ يكثر توظيف التضاد، أو ما يمكن أن نسميه "الوجوه المتقابلة"، وما يُسمَّى فنيًّا "المفارقة"، وهو أسلوب "يعتمد بصفةٍ أساسيةٍ على عرض المتناقضات، أو المتقابلات، فهو يقتضي وجود "طرفين" تربط بينهما علاقة الضدية، وقد تكون المفارقة بين لفظين كالأبيض والأسود، كما تكون بين صورتين أو لوحتين متقابلتين لهدفٍ فني أو فكري"(14)، يُسميها بعضهم "بلاغة الأضداد"(15). والتناقض في المفارقةِ التصويرية فكرة تقوم على استنكارِ الاختلاف والتفاوت بين أوضاعٍ كان من شأنها أن تتفق وتتماثل، أو بتعبير مقابل: تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف(16).
وواضح أنَّ الهدف الأساسي من المفارقةِ هو خلق التمييز القوي الواعي لإدراكِ الفرقِ الشاسع بين الوجهين المتقابلين، فبضدها تتميز الأشياء، وذلك يكون قوة نفسية دافعة للمتلقي أن يختار الوجه الأحسن الأفضل.
ونُقدم في السطورِ التالية نموذجين لهذه المفارقة، أو "الوجوه المتقابلة" من كتاباتِ الشيخ:
1- النفس المختلة تُثير الفوضى في أحكمِ النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.
إنَّ القاضي النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به، أما القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة. وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما في الدنيا من تياراتٍ وأفكار، ورغبات ومصالح، ومن هنا كان الإصلاح النفسي الدعامة الأولى لتغلب الخير في هذه الحياة، فإذا لم تصلح النفس أظلمت الآفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم(17).
2 - تمثيلية الصلاة في إطار من غيبوبة عقلية تامة، هل له من صلاته شيء؟ إننا لن نعده مبارزًا بالعصيان، وتاركًا للفريضة، لكن هل هذه التمثيلية تُزكي نفسًا، وترفع رأسًا؟ هذا المصلي الذاهل صنو المؤمن المقلد، وكلاهما لا تنهض به حياة، ولا يرشد به مجتمع؛ لأن كليهما معطوب من داخله، وأجهزته النفسية والفكرية في حالةِ ركود، على أنَّ خطورةَ هذا النوع من التدين تبدو في ميادين الأعمال العادية، فالرجل صاحب الفكرة أو صاحب الدعوة يتفاعل مع الحياة العامة، وتتفاعل معه؛ لأنه يستحيل أن يتحرَّك بمعزلٍ عنها، فإن كان صاحب عقل يقظان، ويقين وثّاب فرض نفسه عليها، وطوَّع كل شيء حوله لما يريده.
والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمّة، والبيئة المائعة أثر أناس أمرهم فرط، وأخلاقهم سائبة، والأمة المجاهدة صنْع أناس يغالون بإيمانهم، ويسخرون ما يملكون لدعمه، ويوجهون مواهبهم العلمية، وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية لخدمة ما يعتنقون، والمؤمنون المقلدون، والمصلون الذاهلون ينفعلون، ولا يفعلون، ويقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يُقال لهم، لا ما توحيه ضمائرهم(18).
من ملامح الأداء التعبيري
ومع سهولةِ الأسلوب وتدفقه وحلاوته نرى السجع قليلاً في عباراته، وأكثر منه الازدواج، فالأسلوب في مجموعه أسلوب مرسل لا تكلف فيه ولا تصيد، كما أنه في أدائه يكثر من التكرار المعنوي أو ما يسمى بالترادف، أى أداء المعنى الواحد بأساليب متعددة بهدف تأكيد المعنى وترسيخه، كما أنه يزيد من امتداد جاذبية الأسلوب، ومن ثَمَّ تقوية ارتباط القارئ بالمقروء تحقيقًا للغرض المرجوِّ المنشود.
ومع ذلك نجد في "التكرار المعنوي" بعض الفروق الكمية بزيادة محدودة في المعنى، أو ملمحًا- ولو ناصلاً- بفتح الطريق لزيادة في التفكير والتوليد، ومن التكرار المعنوي قوله: "ونظرت للقراء الذين يطالعون الصحف، والجمهور الذي يسمع الإذاعة فما وجدت جبينًا مقطبًا، ولا عينًا دامعةً، ولا تعليقًا محزونًا!! إنهم يقرءون أخبارًا لسكان كوكب آخر!! إن الغزو الثقافي نجح أتم نجاح في إماتة الأخوة الإسلامية، وإهالة التراب عليها"(19).
ومن سماته الأسلوبية إيثار نوعين من الجمل: الجمل المساوية التي تأتي على قدر الفكرة المعبرة عنها، وأكثر منها الجمل الطويلة التي تتسع للفكرة المنبسطة الممتدة، كما رأينا في نص سابق: "والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمّة... والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم...".
وتجسيم المعنويات- أي إبراز المعنوي في صورة حسية- وكذلك تشخيص الجامد ببث الروح والنبض فيه- فكأنه حي من الأحياء- هي ظاهرة مطردة في التصوير عند الغزالي، كما نرى في الأمثلة الآتية:
- ولن يتم تذوق النفس لبرد الرضا بإصدار أمر جاف، أو فرض تكليف أجوف، كلا، فالأمر يحتاج إلى تلطف مع النفس، واستدراج لمشاعرها النافرة، وإلا فلا قيمة لأن تقول: أنا راضٍ، ونفسك طافحة بالضيق والتقزز!! وأول ما يطلبه الإسلام منك أن تتهم مشاعرك حيال ما ينزل بك(20).
لقد جسم الغزالي الرضا، والأمر، والتكليف، والضيق والتقزز.. فبدت في صورة حسية مجسَّدة، كما شخص: النفس والمشاعر؛ فإذا بها في صورة حية نابضة، وهذه الظاهرة التصويرية- زيادة على ما فيها من طرافة- تبرز المعروض أمامنا كأننا نراه رأي العين، فيزيد إحساسنا به، ومعايشتنا له.
تأثر بالأداء القرآني
وكل ما ذكرناه آنفًا من الملامح الموضوعية والفنية في نثر الغزالي إنما جاءت أثرًا من آثار معايشته للأسلوب والمضامين القرآنية، وعن السمة الأخيرة يقول شهيد الإسلام سيد قطب: "التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسَّة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية.."(21).
والمفارقة أو "الوجوه المتقابلة" من أبرز سمات الأسلوب القرآني، وخصوصًا في عرض مشاهد القيامة كما نرى في الآيات الآتية:
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)}(22).
فالغزالي عاش القرآن معنى ومبنى، وتربَّى على مائدة الإسلام بعقيدة قوية، وعقلية ناضجة، وحافظة واعية، فلا عجبَ أن يتأثر بالأسلوب القرآني، وطوابعه الفنية، ومضامينه وتوجيهاته الإنسانية.. هذا عن الغزالي كاتبًا وخطيبًا.. أي الغزالي ناثرًا، فماذا عن الغزالي الشاعر؟!
الشاعرية والشاعر
وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان طالبًا في السنة الرابعة من المعهد الديني الثانوي صدر لمحمد الغزالي ديوان شعر باسم "الحياة الأولى"(23)، وفي طبعته الأخيرة(24) قرأنا لأستاذنا الكبير الدكتور مصطفى الشكعة تقديمًا- بل دراسة ضافية للديوان وشعر الفقهاء: مناحيه وموضوعاته وتطوره، وهي دراسة من ثمانين صفحة، أي بعدد صفحات الديوان نفسه.
و"الحياة الأولى" عنوان كالمنشور الزجاجي الذي يُعطي ألوان الطيف السبعة، مع أن مصدرها شعاع واحد، وكذلك هذا العنوان قد يبادر ابتداءً فيعطينا دلالةً دينيةً تعني (الحياة الدنيوية)، استلهامًا لقوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى}، وقد يعطي دلالةً زمانيةً.. تعني أنه "شعر الحياة الأولى"، أي الشبيبة الباكرة.
وقد يكون المقصود "الأولوية" بمفهومها القيمي، لا "الأوَّلية"، بمفهومها الزمني، كأن الديوان يرسم الحياة الأَوْلى- بفتح الهمزة وتسكين الواو- أي الحياة "الأجدر" بأن تعاش دينًا وخلقًا وسلوكًا.. فهي صاحبة المرتبة الأُولى- بضم الهمزة- متقدمة على كل المراحل.
ونقرأ القصيدة التي استهل بها ديوانه، فإذا عنوانها "الحياة الأولى أو نحو المجد"، مما يشي بأنه يريد الدلالات الأخيرة، وإن أشار إلى الدلالة الزمانية في مطلع القصيدة:
ثماني عشرة مرت سهادًا أُردتُ على المنام ولن أُرادا(25)
ويقول الدكتور الشكعة: ".. هكذا طمأن الشيخ قارئ شعره من مجرَّد أن تقع عيناه على عنوان أولى قصائده أنها سيرة ذاتية رفيعة المحتوى، بل هي منهج لسيرة ذاتية سوف يقوم الشيخ الشاب على التزامه في مسار نقي، ومضمار نظيف، سعيًا إلى مستقبل مجيد، ومكانة رفيعة، كل ذلك القول الرصين أطلقه الشاعر، وهو ابن ثمانية عشر ربيعًا"(26).
والديوان خلا تمامًا من الغزل حتى البريء منه، وخلا من الهجاء والنفاق، والمدح الكاذب، وكل ما يشين ذوي المروءة، ولكنه عالج الحكمة والإخوانيات، والتعبير عن ذاته وسلوكه، ومكارم الأخلاق والإنسانيات والروحانيات في طوابع ووجهات صوفية، وتحدَّث عن بعض مظاهر الطبيعة كالفجر والشروق والشمس وبعض الموضوعات الوطنية(27).
فشعره إذن دار حول محاور ثلاثة رئيسة لا يكاد يتعداها، وهي:
1 - قصائد الطرح أو الدفق الروحي والأخلاقيات.
2 - قصائد الطبيعة.
3 - قصائد الوطنية أحداثًا وشخصيات.
حقائق ثلاث
وبين يدي الديوان تطالعنا- بعد معايشة قصائده- بضع حقائق تتلخص فيما يأتي:
1- المعروف أنَّ الشعراء الإسلاميين، وذوي التوجهات الدينية، وأكاد أقول شعراء العربية بعامة، وخصوصًا في شعر الشباب والبدايات، يميلون- بل يكثرون من النظم في المناسبات الإسلامية كذكرى مولد الرسول- صلى الله عليه وسلم- والهجرة، والإسراء والمعراج، وبدر، والفتح.. وغيرها، وعلى ذلك كان شوقي وحافظ، وأحمد محرم، ومحمد الأسمر، ومحمود غنيم، وعزيز أباظة وغيرهم.
ولكننا لم نجد شاعرنا الغزالي يخوض هذا المخاض، وينظم في هذه المناسبات التي تهم كل مسلم، وهو مَنْ هو تدينًا وفقهًا، واعتزازًا بالإسلام، وقد يفسر ذلك بأنَّ الشاعر قد استغرقه شعر الدفق الروحي التصوفي، فوجد فيه ما يكفيه مئونة هذه الموضوعات من شعر المناسبات، وربما جاء هذا التوجه كنوعٍ من "الاعتزازِ الذاتي" دفعه إلى إغفالِ نهج الآخرين، وتوجههم الموضوعي والفني.
2- في عناوين كثير من قصائد الغزالي عرامة وقوة إيحاء بعيدًا عن المباشرية والتصريح مثل: الزمن السَّحور- سرى وثرى- نور الحقيقة- صمت الريف الهامد- الموت الضال في مرضِ الطفولة- سقطت ولما تنضج- النور الغريق- الشروق في القبور- ابن الظلمات.(1/174)
وأشهر من نجد عنده هذه السمة في العصر الحديث الشاعر محمود حسن إسماعيل- رحمه الله- فمن عناوين قصائده: أحزان الغروب- ثورة الضفادع- الناي الأخضر- لهيب الحرمان- سجينة القصر- أدمع ومآتم- أغاني الرق- عبيد الرياح- جلاد الظلال- حصاد القمر- عاشقة العنكبوت- هدير البرزخ(28).
3 - الغزالي في تشكيله الشعري اتباعي كلاسيكي فهو ينهج النهج الخليلي في نظام القصيدة: الوزن الواحد والقافية الواحدة، وهو يعتز بهذا "النظام" ويُخلص الولاء له في مغالاة؛ حتى إنه يرى أن الخروج عليه يُخرج الإبداع من وصف الشعرية ليدخله دائرة النثر، ولذلك حمل حملة شعواء على ما سماه "بالشعر المرسل"، فهو- في نظره تقليد أعمى لما يكتبه الغربيون، وهو انسلاخ منكود من النظام الشعري العربي الأصيل الذي أرسى قواعده من قرابة عشرين قرنًا، وهو لا يزيد على كونه تقطعًا عقليًّا في الفكرة المعروضة كأنها أضغاث أحلام، أو خيالات سكران، في ألفاظٍ يختلط هزلها وجدها، وقريبها وغريبها، وتراكيب يقيدها السجع حينًا، وتهرب من قيوده أحيانًا.
فالسمة الغالبة على هذا اللغو لا تتخلف أبدًا: التفكير المشوش، أو اللا تفكير، والتعبير الذي يجمع الألفاظ بالإكراه من هنا ومن هنا، ويحاول وضعها في أماكنها، وتحاول هي الفرار من هذه الأماكن(29).
ونأخذ على هذا الرأي أنه خلط بين مصطلحات ثلاثة: الشعر المرسل، والشعر الحر، وقصيدة النثر، ومقصد شيخنا الحملة على الشعر الحر لا الشعر المرسل، وهما مختلفان:
فالشعر المرسل: هو الشعر الذي يلتزم بوحدة الوزن مع اختلاف القافية(30)، ولعبد الرحمن شكري كثير من هذا النوع، ولكنه لا يجد له نصيرًا في الوقت الحاضر.
أما الشعر الحر، أو شعر التفعيلة فهو الشعر الذي لا يلتزم بوحدة الوزن أو وحدة القافية(31)، فهو متحرر من الوزن الواحد والقافية الواحدة، ولكنه يجعل "التفعيلة"- لا البحر- أساس الوزن. ورائد هذا اللون- في الأدب العربي- بدر شاكر السياب بديوانه "أزهار ذابلة"، أو نازك الملائكة بقصيدتها "الكوليرا"- على خلاف في ذلك.
وما يُسمَّى بقصيدة النثر- وهي ترجمة للمصطلح الفرنسي Poeme en Prose هناك شبه إجماع على صعوبة وضع تعريف جامع مانع لها، وإن كان الرافضون لها- وما أكثرهم- يسجلون عليها ما تحتويه من فوضى وانقلاب وتمرد عشوائي، وتنكر لكل مفاهيم البناء والشكل، وخصوصًا البناء الموسيقى(32).
وتؤكد "سوزان برنار" أنه يوجد في قصيدة النثر- في آنٍ واحدٍ- قوة فوضوية مدمرة تميل إلى رفض الأشكال الموجودة، وقوة منظمة تميل إلى وحدة شاعرية(33).
ونحن مع شيخنا الغزالي في رفض الشعر المرسل- بالمفهوم الصحيح الذي عرضناه- مجافاته للذوق العربي، ونحن معه في رفض ما يُسمَّى بقصيدة النثر؛ لأنه لا علاقة بينها وبين الشعر، وللأسباب التي ذكرها الدكتور محمد عبد المطلب آنفًا.. ولكننا نخالفه في تقييمه للشعر الحر- الذي أطلق عليه خطأ الشعر المرسل؛ لأن الشعر الحر لم يتخل عن الوزن، إذ إنه اعتمد على التفعيلة لا البحر، والمطبوعون من الشعراء أبدعوا من هذا الشعر روائع كقصيدة "شنق زهران" لصلاح عبد الصبور، وما زال الشعر الحر يعايش الشعر الخليلي في سلام ووئام.
شاعر الحلول والاستبطان
وشعر الغزالي لا يعطيك مفتاحه من أول قراءة، إذ يحتاج قراءة ثانية، وشيئًا من التأني والمعاناة، وهو يذكرني بكلمة أبي إسحاق الصابي فيما يرويه عنه ابن الأثير: "إن طريق الإحسان في منثور الكلام يُخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه(34).
والتصريح، ووضوح الذاتية.. والأوصاف المباشرة يخرج بالعمل الشعري عن نطاق الجمال، ويجعله تقريريًّا(35).. فهذا الطابع الذي يسم شعر الغزالي يعد ميزة طيبة بمعيار الشاعرية.
وقد وصفْنا الغزالي- بعد معايشتي لشعره- بأنه "شاعر الحلول والاستبطان"، وأعني بالحلول: معايشته موضوعه واندماجه في جوانيته بصرف النظر عن القشور والمظاهر الخارجية، وأعنى بالاستبطان تأمل موضوعه وتعمقه لاستخلاص ما فيه من طروحات وأعطيات نفسية. ولننظر إلى بعض شعره في الطبيعة، فقصيدته في "الشمس"(36)، نرى فيها الشاعر لا يهتم "ببرَّانية" هذا النجم العظيم، ولكن بما يستخلصه من معطيات النفس ودروس الحياة ومتطلباتها:
أشرقي في الوجود طُهرًا وضيئًا وأنيري السبيل من ظلمات
وأميتي اليأس المعذب موتًا بدّليه تيقظًا من سُباتِ
الوداع الميمون يبدو أصيلاً مائج النور في سنا أمنياتي
في نضار من الأشعة سكرى بحبور يحيى رفات الموات
خير ماضٍ يحفه خير آتٍ يتهادى في ذلك الميقاتِ
وفي مقطوعةٍ مستقلةٍ من أربعةِ أبياتٍ بعنوان (نور الحقيقة) (37) يبلغ الشاعر شأوًا عظيمًا من الاندماج والتأمل، وهو ما سميناه "الحلول والاستبطان" وفيها يقول الشاعر:
أيها النورُ أنت تُلقى وضوحًا لأناسٍ عاشوا بأبشعِ سرِّ
لا يطيقون في الحقيقة عيشًا فضياء الحقيقة الغمرُ يُزري
حشرات في نورها الحقِّ تفنى مثل قتل الشعاع كلَّ مضرّ
ولهذا الظلامُ خيرٌ من النور إذا كنتَ لا ترى وجه حرّ
ومن فضول القول أن نذكر في هذا المقام أن قصائده الأربع في "الخمرة الإلهية"(38) تتمتع بسمة "الحلول والاستبطان" على نطاق رحيب مكين، مما لا يحتاج منا إلى وقفة للإبانة والتوضيح.
ومن أرقى ما نظَّم الشاعر في ديوانه كله، وكذلك بالنظر إلى شعر آخرين من المشاهير قصيدته "تحية عرابي البطل"(39)، فهو لم ينهج النهج التقليدي في وصفِ الوقائع والأحداث والمواقف، ولكنه اعتمد على الحركة النفسية، وطروحاته الوجدانية في عرابي فاستهل قصيدته بقوله:
حيتكَ من نفسي عواطف ثائر لا يستكين لسطوة من جائرِ
ويثيرها نارًا يهول وقودُها فيبيدُ أو تلقاه أوْبة ظافر
حيتك من نفسي عواطف مخلص لا مأربَ يلهيه شأن الفاجر
للمجد ما يبغي يكلل أمة للنصر ما يسعى قليلُ الناصرِ
ثم يتحدث الشاعر عن شخصية الأمة المجاهدة:
في حب مصرَ وفي سبيل خلودها في حب مصر طليقةَ من آسرِ
نفرت من الوادي الجموع تقودها في وجه عات ذي شكيمةِ قادر
ويستغرق الشاعر أغلب القصيدة في تحية عرابي المهزوم المكسور المقهور، ولكنه انكسار الشريف المجبر الذي كانت الظروف أقوى، وأقدر من كل طاقاته، ويهز الشاعر قلوبنا ووجداننا بالأبيات الآتية:
قُدست مهزومًا تعفر في الثرى قدست مقهورًا كسير الناظرِ
قدست يوم بكيت إذ سقط الحمى لا نصرَ يُرجى لا دفاع مغامر
ثم يتحدث عن غدر الغرب اللئيم ومؤامراته، ويختم قصيدته بالأبيات الآتية:
في الأسر يرسف في قيود مهانةٍ خير النفوس نُهي وطيبُ ضمائر
في الأسر ما أعيا وقد حاطت به ظُلَم الغد الداجي وظلْم الحاضر
حيتك أرواح تكافح لا تني دأبَ الحريص على الجهاد الذاكر
أبدًا هو العمل الحثيث أأثمرت أغراسه أم تلك رُجعي الخاسر
لقد ضم الديوان قصائد طوالاً، وأخرى متوسطة الطول، كما ضم قطعًا قصيرةً جدًا مستقلة بعضها لا يزيد على البيتين وهو ما يُسمَّى شعريًّا "الأبجرام" Epigram، وهي منظومة قصيرة جدًّا تنتهى بفكرة طريفة ذكية(40).
ونأخذ على الشاعر أنه كثيرًا ما كان يستخدم بعض الألفاظ المعجمية الغريبة على القارئ، وقد أحسن الدكتور الشكعة صنعًا إذ شرح هذه الكلمات في هوامش الديوان، وربما جاءه هذا الغريب غير الشائع من الألفاظ من حبه للشعر القديم، وكثرة محفوظاته منه، كما نأخذ على الشاعر قلق بعض العبارات والكلمات في السياقة الشعرية، ولكن قد يشفع للشاعر أنه نظَّم ديوانه، وهو طالب في المرحلة الثانوية قبل التحاقه بالجامعة الأزهرية.
إن هذا الديوان كان يحتاج إلى وقفاتٍ أطول نستوفى فيها كل العناصر الشعرية فيه من خيال وعاطفة وتعبير وموسيقى.. ولكنى أرى أن المسار قد طال بنا، وقد أعلنا ابتداءً أنها مجرد وقفة نقدية، وهي في نفس الوقت دعوة ضمنية للباحثين، وطلاب الدراسات العليا أن يدرسوا هذه الجوانب الأدبية من أعطيات الرجل- يرحمه الله، ثم من حقنا أن نختم هذه الدراسة الموجزة بطرح سؤال مؤداه: وماذا بقي من الراحل العظيم؟!
وماذا بقي من الراحل العظيم؟!
لقد رحل الشيخ فجأةً بدون وداع، وجاءت كرامة الرحيل- زمانًا ومكانًا- كفاء لكرامة الراحل، فمات في مناسبة لإكرام العلم والعلماء، وهذا هو عنصر الزمن الكريم. ومات في أرضٍ مباركةٍ طيبةٍ، ودُفن بالبقيع، وهذا هو عنصر المكان المبارك العظيم. ثم كانت كرامة الكرامات- بعد وفاته- متمثلة في فوزه بالإجماع الوجداني الشامل حزنًا هزَّ القلوب، وشعورًا بجلال الخطب، وفداحة الفراق.
واستغرق هذا الشعور الإجماعي مشارق الأرض ومغاربها، ليضم الملوك والأمراء، والعلماء والفقهاء، والصغار والكبار، والرجال والنساء، وكل سويٍّ من عباد الله، وعزيز على النفس أن ترى- في عصرنا.. عصر الغربة والكروب- ساحات العلم والفقه والفكر، وقد خلت من محمد الغزالي، وكأنه المقصود بقول أبي تمام:
عادت وفودُ الناس من قبرهِ فارغة الأيدى وملأى القلوب
قد راعها ما رُزئتْ، إنما يُعرف فقدْ الشمسِ عند المغيب
وبعدها يدور السؤال التقليدي: ماذا بقي من محمد الغزالي؟! وإنا لنجيب- بصدقٍ وإيمانٍ ويقين-: بقي منه الفكر الحر المستنير الذي يستقي حقائق الحياة والحق من كتاب الله وسنة رسوله، متقدمًا في الدربِ لا تأخذه في الله لومة لائم.
بقي منه المرونة والسماحة وسعة الأفق ومنطق التسهيل والتيسير والتحبيب، بعيدًا عن التعصب الأعمى، والتشنج المسعور، وبعيدًا عن الغلو والإفراط، والتهاون والتفريط.. بقي منه مائدة طيبة من عشراتِ كتب في الفقه والسنة، والسيرة والسياسة، والنظم والسياسة الشرعية، وآداب النفس والمجتمع، والذود عن الإسلام في مواجهة الإلحاد، والصهيونية والصليبية والإباحية، وهي مائدة لا تنفد ولا تبور، وكل أولئك يُمثل حيثية الخلود الذي لا يعرف الموت، والتجدد الذي لا يعرف البلى، والتفوق الذي لا يعرف النقص والذبول.
سلامٌ على محمد الغزالي، وألحقه الله بمعية النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
-----------------------
الهوامش والتعليقات:
(1) وُلد الغزالي في قرية (نكلا العنب بمحافظة البحيرة في مصر)، وهذه القرية نفسها ولد فيها الشيخ سليم البشري- شيخ الأزهر- والشيخ محمد عبده، والشيخ محمود شلتوت، ومحمد البهي.
(2) كتاب الغزالي هو (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)، وقد أثار ضجةً كبيرةً، ودويًا عاليًا، وتعرض لهجومات شديدة ضارية، ولكني أشهد أنَّ من هذه الردود كتابات موضوعية هادئة أشهرها كتاب "حوار هادئ مع محمد الغزالي"، لسليمان بن فهد العودة (الرياض 1409ه).
(3) يشهد لخالد محمد خالد- رحمه الله- أنه رجع- بعد ذلك ببضع سنين عن كل ما كتب في كتابه (من هنا نبدأ)، وذلك في كتاب بعنوان "دين ودولة"، وافق فيه كل ما كتبه الغزالي في كتابه (من هنا نعلم).
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 138 (المكتبة التوفيقية- القاهرة 1978م).
وانظر: جابر قميحة: المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 23 (دار الكتاب المصرى، القاهرة 1984م).
(5) الغزالي: من هنا نعلم، ص 110 (ط 2، دار نهضة مصر- القاهرة 1997م).
(6) الغزالي: جدد حياتك، ص 24 (دار نهضة مصر- القاهرة 2004م).
(7) السابق 49، وهو يشير إلى رأي النبي- صلى الله عليه وسلم- في البقاء والتحصن بالمدينة للدفاع عنها، ولكنه نزل على رأي الصحابة في الخروج إلى قتال المشركين، فكانت معركة أحد (انظر سيرة ابن هشام 2/ 63، 105).
(8) الغزالي: تأملات في الدين والحياة، ص 102 (دار الكتاب العربي- المنياوي: القاهرة 1951م).
(9) الغزالي: فقه السيرة، ص 151 (دار الكتاب العربي- المنياوي، القاهرة 1952م).
(10) هو: أبو عثمان ربيعة بن أبى عبد الرحمن فروخ، الملقب بربيعة الرأي، وهو فقيه أهل المدينة، أخذ عنه مالك. كان يُكثر الكلام ويقول: "الساكت بين النائم والأخرس"، ت 36ه.
(11) من هنا نعلم، ص 94.
(12) جدد حياتك، ص 113.
(13) السابق، ص 30، 31.
(14) سيزا قاسم: المفارقة في القصص العربي المعاصر، مجلة فصول، العدد الثاني، المجلد الثاني- القاهرة 1982م.
(15) لويس عوض: الأهرام 7/ 7/ 1972م.
(16) د. علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص 138 (مكتبة العروبة- الكويت 1981م).
(17) جدد حياتك: ص 94.
(18) الغزالي: الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، ص 69 (دار الصحوة- القاهرة 1987م).
(19) السابق: ص 87.
(20) الغزالي: جدد حياتك، ص 134.
(21) سيد قطب: مشاهد القيامة في القرآن، ص 5 (دار المعارف- القاهرة 1947م).
(22) سورة الغاشية: الآيات 1- 16، وانظر سيد قطب: السابق 188.
(23) صدر سنة 1354هـ- 1936م عن المطبعة الإسلامية بالإسكندرية، وكان ثمنه عشرين مليمًا.
(24) دار الشروق بالقاهرة (1426هـ- 2005م).
(25) ديوان الحياة الأولى 81 (مع ملاحظة أن هذه الصفحة هي أول صفحة في الديوان، أما ما قبلها فقد استغرقته الدراسة التي كتبها الدكتور مصطفى الشكعة.
(26) مصطفى الشكعة من تقديمه للديوان 43.
(27) انظر: الشكعة، السابق 40، 41.
(28) جابر قميحة: شرائح النثر في شعر الأميري 58 (بحث قدم في الملتقى الثالث للأدب الإسلامي بالمغرب- أغادير، في الأيام 16 - 18 من يناير 2001م).
(29) انظر: الغزالي: مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، 102 - 105 (الدوحة- قطر- كتاب الأمة رقم 1).
(30) مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب 46 (مكتبة لبنان- بيروت 1974م).
(31) السابق 181.
(32) د. محمد عبد المطلب: النص المشكل 188 (الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999م).
(33) سوزان برنار: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا 157 (ترجمة: زهير مجيد- بغداد 1393هـ).
(34) ابن الأثير: المثل السائر 1/92 (مكتبة الخانجي- القاهرة 1979م).
(35) د. محمد غنيمي هلال: قضايا معاصرة في الأدب والنقد 60 (دار نهضة مصر- القاهرة، د.ت).
(36) ديوان: الحياة الأولى 144.
(37) السابق 116.
(38) الديوان 83 - 90.
(39) الديوان 157.
(40) مجدي وهبة: مرجع سابق 142.
------------------
الشيخ محمد الغزالي.. الفكر السامق والحركة الدائبة
الشيخ محمد الغزالي
تمر بنا هذه الأيام الذكرى العاشرة لوفاة رجل عزيز على أنفسنا حبيب إلى قلوبنا، فقدت الدعوة الإسلامية المعاصرة بموته عَلمًا من أعلامها، وكوكبًا من كواكب الهداية في سمائها؛ لأنه عاش حياته لخدمة الإسلام ومات وهو يدافع عن قضايا الإسلام، إنه الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي- عليه رحمة الله ورضوانه-.
لقد شقَّ قلمه المضيء حجب ظلمات الجهل والبعد عن الله ما يزيد على نصف قرن، فاستضاءت أجيال متعاقبة بهذا القلم الصَّيِّب والكلم الطيب، وقد وجدت هذه الأجيال بغيتها عنده، فأصغى لدرر محاضراته الملايين من المسلمين في المشارق والمغارب، وأخرجت المطابع هذا الكلم الرفيع كتبًا ورسائل ومقالات دبجها يراع داعيتنا الكبير تُزوِّد جيل العودة إلى الله بالبحث والحوار العلمي والتوجيه إلى طريق الرشد في ظل القرآن وتحت رايته.
عُرف الشيخ بنصحه للمسلمين وترشيده لمسار الدعوة إلى الله عز وجل، وأطلق العنان للدعاة يوم كان مسئولاً عن الدعوة في وزارةِ الأوقاف، وله جولاته في مقاومةِ الزحف الأحمر والمد التنصيري، وقد جأر في وجه التيار العلماني الذي حاول سلخ الأمة من عقيدتها وشخصيتها المتميزة، ووقف مع الأزهر ذائدًا عن حماه، عاملاً على إحياء رسالته.
طوف العالم الإسلامي الواسع فعمل بالمملكة العربية السعودية بجامعة الملك عبد العزيز وجامعة أم القرى سبع سنوات، ودافع عن السعودية وعن مؤسسيها، ولكن بعد مغادرته لها حتى لا يُتَّهم، وأبان للعالم أنها دولة دعوة، وعمل في قطر، فساهم في بناء كلية الشريعة هناك، وفي الكويت كانت له لقاءات دورية أفاد بها كثيرًا من المسلمين وعرفته المؤتمرات في أوروبا وأمريكا وفي مشرقنا الإسلامي العريض، كما ذهب إلى الجزائر ليعمل مديرًا لجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة والتي بدأها بكلية واحدة في حين أنها الآن تضم كليات تنتظم الجزائر كلها.
لقد كرس حياته كلها في خدمة الدعوة الإسلامية، والجهاد من أجل إعادة الهوية العربية والإسلامية لكثير من شعوب العالم، على رأسها مصر والجزائر، قضى ما يزيد على شطر حياته الأول في محاربة الاستبداد السياسي، وبيان مكائد الاستعمار، والتحدي للتيار العلماني والزحف الأحمر، وصد طعنات المستشرقين وسماسرتهم في القرآن والسنة، وتوضيح معالم الإسلام، وإرساء قواعد الدعوة إلى الله تعالى، بينما كان شطر حياته الثاني مركَّزًا في محاربة الفهم المغلوط للإسلام، والإنكار الشديد على العقول السقيمة والفكر السطحي والفقه البدوي الذي يصطلي بشُواظٍ من نارٍ أُفْعم بها قلب الشيخ وقلمه ولسانه.
كان- رحمه الله- لا يستريح للعقول المعتلة، ويضيق ذرعًا بالآفاق الضيقة، فمن أقواله: "الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام في شيء، وقد انتمت إلى الإسلام أمم فاقدة الوعي عوجاء الخطى قد يحسبها البعض أُممًا حيةً ولكنها مغمى عليها.. والحياة الإسلامية تقوم على فكرٍ ناضرٍ.. إذ الغباء في ديننا معصية".
ويحتد كثيرًا- ولا ينبغي أن تهدم الحدة ما بنته الفطنة- على الطباع الغليظة الجافة، والقلوب المتكبرة القاسية، ومن أقواله: "أكره أصحاب الغلظة والشراسة، لو كان أحدهم تاجرًا واحتجت إلى سلعةٍ عنده ما ذهبت إلى دكانه، ولو كان موظفًا ولي عنده مصلحة ما ذهبت إلى ديوانه، لكن البلية العظمى أن يكون إمام صلاة أو خطيب جمعة أو مشتغلاً بالدعوة، إنه يكون فتنة متحركة متجددة يصعب فيها العزاء".
وقال أيضًا: "إذا لم يكن الدين خلقًا دمثًا ووجهًا طليقًا وروحًا سمحةً وجوارًا رحبًا وسيرةً جذابةً فما يكون؟! وقبل ذلك إذا لم يكن الدين افتقارًا إلى الله، وانكسارًا في حضوره الدائم، ورجاء في رحمته الواسعة، وتطلعًا إلى أن يعم خيره البلاد والعباد فما يكون؟!".
ـــــــــــــــ(1/175)
العالم الداعية سعيد حوى
العالم الداعية سعيد حوى هو الشيخ سعيد بن محمد ديب حوى، ولد في مدينة حماة بسورية سنة 1935م، توفيت والدته وعمره سنتان فتربى في كنف جدته، برعاية والده الذي كان من المجاهدين الشجعان ضد الفرنسيين، عاصر في شبابه أفكار الاشتراكيين والقوميين والبعثيين والإخوان المسلمين واختار الله له الخير بالانضمام إلى الإخوان المسلمين سنة 1952م، وهو في الصف الأول الثانوي. وقد درس على يد عدد من المشايخ في سورية في مقدمتهم: شيخ حماة وعالمها الشيخ محمد الحامد، والشيخ محمد الهاشمي، والشيخ عبدالوهاب دبس وزيت، والشيخ عبدالكريم الرفاعي، والشيخ أحمد المراد، والشيخ محمد علي المراد، كما درس على يد الأساتذة: مصطفى السباعي، ومصطفى الزرقا، وفوزي فيض الله وغيرهم، وقد تخرَّج في الجامعة 1961م ودخل الخدمة العسكرية سنة 1963م ضابطاً في الاحتياط وتزوج سنة سنة 1964م حيث رزقه الله بأربعة أولاد.
حاضر وخطب ودرَّس في سورية والسعودية والكويت والإمارات والعراق والأردن ومصر وقطر والباكستان وأمريكا وألمانيا، كما شارك في أحداث الدستور في سورية سنة 1973م مشاركة رئيسية، حيث سجن لمدة خمس سنوات من (5-3-1973م ـ 29-1-1978م)، وقد ألَّف وهو في السجن كتاب الأساس في التفسير (11 مجلداً) وعدداً آخر من الكتب الدعوية. تولى مناصب قيادية في تنظيم الإخوان المسلمين على المستوى القطري والعالمي وشارك في عدة أعمال دعوية وسياسية وجهادية، وفي سنة 1987م أصيب بشلل جزئي إضافة لأمراضه الأخرى الكثيرة، السكري... الضغط... تصلب الشرايين... الكلى... مرض العيون... فلجأ للعزلة الاضطرارية، وفي يوم 14-12-1988م دخل في غيبوبة لم يصح منها، حيث توفاه الله ظهر الخميس 9-3-1989م في المستشفى الإسلامي بعمان.
يقول عنه الأستاذ زهير الشاويش في جريدة اللواء الأردنية بتاريخ 15-3-1989م: '... قدَّر الله ولا راد لقضائه، وانقضت حياة سعيد بن محمد ديب حوى في المستشفى الإسلامي بعمان ضحى الخميس غرة شعبان المعظم 1409هـ الموافق 9-3-1989م وصُلي عليه بعد الجمعة في مسجد الفيحاء بالشيباني، ودفن في مقبرة سحاب جنوبي عمَّان، وحضر الجنازة جمع غفير، وأَبَّنه كثيرون منهم الأستاذ يوسف العظم، والشيخ علي الفقير، والشاعر أبو الحسن، والشيخ عبدالجليل رزوق، والأستاذ فاروق المشوح، والأديب الأستاذ عبدالله الطنطاوي، وكان تعاطف أهل الأردن الكرام، مع أخ غريب مات في بلدهم، مثل كرمهم مع الأحياء المقيمين عندهم.... كرم باليد وطيب في الكلام، وعفوية في المبادرة. إن سعيد حوى كان من أنجح الدعاة الذين عرفتهم، أو قرأت عنهم، حيث استطاع إيصال ما عنده من رأي ومعرفة، إلى العدد الكبير من الناس، وقد مات وعمره لم يتجاوز الثالثة والخمسين وهو عمر قصير، وترك من المؤلفات العدد الكبير، مما يلحقه بالمكثرين من المؤلفين في عصرنا الحاضر.... والاختلاف في تقييم كتبه، لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً، وكانت لي معه جولات في كتبه وما حوت، ومع أن بعض رأيي كان ذابحاً ولفظي كان جارحاً، إلا أنه تلقاه دائماً برحابة صدر لم أجدها عند صحبي. زرته في الأحساء وكان في حينها مدرساً في المعهد العلمي، فلم أجد في بيته من الفرش إلا ما يسد حاجة المتقلل، ومن الثياب ما لا يصلح لأمثاله من العلماء والمدرسين في تلك البلاد الحارة، كانت جلابيبه من النوع الحموي السميك، ومازلت به حتى اقتنع، بلبس أثواب بيضاء وعباءة تليق بأمثاله، ولكنه اشترط ألا تكون فضفاضة، وأما الطعام فلم يكن أحسن حالاً من الفرش والثياب، ومما يدخل في هذا الباب تساهله مع الذين تولوا طبع كتبه سواء ممن أذن لهم أو لم يأذن، فقد توالت الطبعات الكثيرة لكتبه ـ بالحلال وبالحرام ـ فما بلغني أنه جعل من ذلك مشكلة مع أحد، وهذا من زهده، إن هذا الخلق وهذا التسامح من سعيد حوى مفخرة، وتذكر أمثولة للناس وهذه شهادتي' انتهى.
لقد عرفته من خلال كتبه، ونشاطه الدعوي في سورية، ومن تلامذته في المدينة المنورة، والتقيته بعد ذلك، في الأردن والكويت وأوروبا وباكستان فوجدت فيه الخلق الفاضل والأدب الجم، والتواضع والزهد، والبساطة في المظهر، والإقبال على الطاعة وكثرة التلاوة والذكر وإدمان القراءة والكتابة في المواضيع الدعوية والحركية والفقهية والروحية والانشغال الكامل بقضايا الإسلام والمسلمين، والتصدي لطواغيت الأرض الذين خرَّبوا البلاد وأذلوا العباد وسعوا في الأرض الفساد. لقد كان سعيد حوى طاقة هائلة، وحيوية متدفقة لا يكل ولا يمل، وله باع طويل في التأليف بحيث يفرغ من الكتاب خلال أيام يكون بعدها بأيدي القراء، وهو ذو نزعة صوفية، تغلبه بعض الأحيان، فيخرج عن المنهج العلمي الذي يطالب به ويدعو إليه، كما أن رقّته وطيبة قلبه وحياءه تجعله يؤثر الصمت في بعض المواقف التي تتطلب المصارحة. لقد سعدنا بزيارته في الكويت أكثر من مرة، وحضر ندوتنا الأسبوعية مساء الجمعة، وتحدث فيها حديثاً شائقاً أخذ بمجامع القلوب، وكان محور حديثه عن منهج الإمام البنا في الاستفادة من الخيرية في كل إنسان، وأن على الدعاة أن يزيدوا الخير في نفوس الناس، وأن يباشروا مخاطبة القلوب التي هي مفتاح الهداية، ونفوس البشر جميعاً فيها الخير وفيها الشر، ولكن بنسب متفاوتة، فإذا وفقنا الله لزيادة الخير في النفس البشرية، فمعنى هذا أننا قللنا نسبة الشر فيها، لأن تزكية النفوس هي المفتاح لتقويم السلوك ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10) (الشمس). كما كانت له دروس وأحاديث ومحاضرات في جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت، ومدرسة النجاة الخاصة فيها، لقيت القبول من شباب الصحوة الإسلامية.
كما كان لمؤلفاته الدعوية والحركية رواجها لدى الشباب المسلم في البلاد العربية والإسلامية وبخاصة في اليمن وبلدان الخليج وبلاد الشام وقد تُرجم بعضها إلى لغات أخرى. ومن أهم مؤلفاته المطبوعة: ـ الله جل جلاله. ـ الرسول صلى الله عليه وسلم . ـ الإسلام ـ الأساس في التفسير ـ الأساس في السنة وفقهها: السيرة ـ العقائد ـ العبادات. تربيتنا الروحية ـ المستخلص في تزكية الأنفس. ـ مذكرات في منازل الصديقين والربَّانيين ـ جند الله ثقافة وأخلاقاً ـ من أجل خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك ـ المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين ـ جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما ـ في آفاق التعاليم ـ دروس في العمل الإسلامي المعاصر ـ فصول في الإمرة والأمير ـ رسالة منطلقات إسلامية لحضارة عالمية جديدة ـ فلنتذكر في عصرنا ثلاثاً: فروض العين، فروض الكفاية، لمن تدفع صدقتك. ـ عقد القرن الخامس عشر الهجري ـ إحياء الربانية ـ إجازة تخصص الدعاة ـ غذاء العبودية ـ أخلاقيات وسلوكيات تتأكد في القرن الخامس عشر الهجري ـ قوانين البيت المسلم ـ السيرة بلغة الحب ـ الإجابات ـ هذه تجربتي وهذه شهادتي ـ جند الله تخطيطاً وتنظيماً إلخ.....
لقد كان الشيخ سعيد حوى قارئاً جيداً، حيث قال عن نفسه في كتابه 'هذه تجربتي': '... كان معدل قراءتي في الساعة ستين صفحة، وكان موجهي في الأسرة الإخوانية هو الأستاذ مصطفى الصيرفي، وتأكدت تلمذتي على يد الشيخ محمد الحامد في هذه المرحلة ثم أصبحت مسؤولاً عن الطلاب في مدينة حماة، وكان لي دور رئيسي في ثلاث مظاهرات طلابية، الأولى حين طالب الإخوان المسلمون في سورية بإدخال نظام الفتوة في المدارس الثانوية، والثانية احتجاجاً على إعدام الإخوان المسلمين في مصر، والثالثة في الذكرى المشؤومة لوعد بلفور، وكنت المتحدث الرسمي في هذه المظاهرات عن الإخوان المسلمين، وقد التحقت بكلية الشريعة بدمشق وحضرت خلال ذلك محاضرة الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين بسورية في مدرج جامعة دمشق، فكانت محاضرة رائعة شعرت أثناءها وكأني منوّم مغناطيسياً. كما حضرت حفل الاستقبال الذي أقيم للأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين في جامع السلطان بمدينة حماة، وتكلم فيه الدكتور مصطفى السباعي والدكتور سعيد رمضان وختم الحفل بكلمة قصيرة للأستاذ الهضيبي) ـ انتهى ـ.
ولقد كان للشيخ سعيد حوى إسهامه في الحقل التعليمي، حيث مارس التدريس داخل سورية وخارجها، فقد عمل في المملكة العربية السعودية خمس سنوات، سنتين في مدينة (الهفوف) بمنطقة الأحساء وثلاث سنوات بالمدينة المنورة. كما كانت له زيارات متعددة إلى كثير من البلاد العربية والإسلامية والأوروبية والأمريكية وقد زار باكستان أكثر من مرة، حيث قابل الإمام أبا الأعلى المودودي في الزيارة الأولى واستفاد من توجيهاته وإرشاداته في مجال الدعوة الإسلامية والعمل الجماعي. وفي الزيارة الثانية لباكستان حضر تشييع جنازة المودودي، واجتمع بقادة الجماعة الإسلامية بباكستان، ثم ذهب إلى لاهور حيث التقى قادة المجاهدين الأفغان وحثَّهم على التعاون والعمل المشترك ونكران الذات وإخلاص النية لله تعالى وجعل الجهاد خالصاً لوجه الله وفي سبيله وألا يكون للنفس فيه حظ. وفي أواخر شهر مايو سنة 1979م سافر إلى إيران ضمن وفد إسلامي، حيث التقى الخميني ووزير الخارجية آنذاك إبراهيم يزدي وكمال خرازي وقام بشرح حقيقة مايجري في سورية، وناشدهم حق الأخوة الإسلامية نحو إخوانهم المسلمين في سورية. يقول الشيخ سعيد حوى في كتابه (هذه تجربتي) : 'إن من ثمار الانقلاب العسكري الأمريكي بسورية بقيادة حسني الزعيم ـ والذي أعلنت المخابرات الأمريكية في أكثر من كتاب أنها وراءه ـ هو: تسليم مستعمرة (مشمار هايردن) لليهود. ـ وتوقيع اتفاق مد خط أنابيب التابلاين كما أرادتها الشركة الأمريكية. ـ وإلغاء مجلة الأحكام العدلية التي كانت القانون المدني الإسلامي لسورية' انتهى.
ومن سنة 1984م كثرت لقاءاتي بالشيخ سعيد حوى بحكم ترددي على الأردن، حيث يقيم، ومن خلالها ازددت به معرفة واشتركت معه، في تقييم كثير من الأحداث والوقائع، وكتابة بعض الدراسات والبرامج والمناهج، التي تحتاج إليها الحركة الإسلامية المعاصرة وكنا نتفق في الكثير من الأمور ونختلف في القليل منها ولايؤثر هذا على موقف أي منا نحو أخيه. وحين أصدر كتابه (في آفاق التعاليم) أثنيت عليه وشكرته على هذا الجهد لأن شباب الدعوة الإسلامية في أمس الحاجة إلى فهم الأصول العشرين التي وردت برسالة التعاليم للإمام الشهيد حسن البنا والتي تناولها بالشرح كثير من الإخوان بمصر وغيرها وهي في حاجة إلى المزيد. وقد قام الأخ مصطفى الطحان بإدراجها في سلسلة مطبوعات الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، وتمت ترجمتها إلى بعض اللغات وراجت رواجاً كبيراً وطبعت عدة طبعات بالعربية وغيرها والحمد لله.
لقد كان الشيخ سعيد حوى يرى في ثبات الإخوان المسلمين بمصر هذه السنين الطويلة رهن السجون والمعتقلات وسط الزنازين وتحت سياط الجلادين، دون أن يتنازلوا قيد شعرة عن مبادئهم رغم طول السنين وقساوة التعذيب ومرارة الحرمان، يرى أنهم القدوة للدعاة في هذا العصر وللإخوان في العالم. وهو في هذا يوافق ماقاله الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (أخلاقنا الاجتماعية) حيث يقول: 'إن في سجون مصر علماء يقطعون الأحجار، ويلبسون ثياب المجرمين، ويعاملون بالزراية والمهانة، لأنهم فهموا العلم، جهاداً ونصيحة وتعباً ومعاملة مع الله عز وجل، فإذا رأوا المنكر أنكروه، وإذا التقوا مع الجاهل نصحوه، وإذا ابتلوا بالظالم وقفوا في وجهه، ليردوه ويهدوه، وإذا كانوا مع مستغلِّي الشعب من أغنياء وزعماء ورجال أحزاب، واجهوهم بالحق الذي جعله الله أمانة في أعناق الذين أوتوا العلم، هذه هي جريمتهم التي زُجّوا من أجلها بالسجون، وقيَّدت أرجلهم بالحديد، وسيقوا إلى مقالع الأحجار كما يساق القتلة واللصوص والأشرار والمجرمون! وياليتهم سلموا من ألسنة إخوانهم من علماء الدنيا، الذين سخَّرهم الطغيان ليخدعوا الناس باسم الدين، فإذا هم أداة تخدير للشعب، وزراية بالعلماء المصلحين وتمجيد للفسقة والمغتصبين. هؤلاء العلماء المصلحون على قلتهم ومحنتهم والعداوات التي تحيط بهم، هم وحدهم الأمل المرتجى لنهضة الأمة وتحررها وانعتاقها.' انتهى. رحم الله أخانا سعيد حوى فكم صبر على الأمراض الكثيرة وعلى البلاء في السجون وعلى الألسنة الطويلة التي امتدت إليه بالإساءة، جعل الله ذلك كله في ميزان حسناته وغفر الله لنا وله وحشرنا وإياه مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
ـــــــــــــــ(1/176)
عبد البديع صقر... الداعية المهاجر
عبد البديع صقر
- الإمام البنا أوصى بمدارسة كتابه "كيف ندعو الناس"
- المخبر قاسي القلب يرفض التجسس على الإخوان
إعداد: نسيبة حسين
هو أحد المهاجرين على طريق الدعوة، الذين استفادوا من فترة إبعادهم عن مصر وكان إمامه قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "ومن هاجر إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" فصدق الله فصدقه الله.. استثمر فترة إبعاده ليكون دعوة متحركة في كل مكان مقتديًا بالرسول- صلى الله عليه وسلم- الذي كان قرآنًا يمشي على الأرض.. فكان كالغيث أينما حل نفع.. نلقي على شخصيته الضوء ليقتدي به العلماء في كل مكانٍ يحلون به للعمل لدين الله والتغلب على الصعاب والعقبات.
هو أحد الدعاة الذين عاصروا الإمام البنا وتعلموا منه الكثير علي مدار اثني عشر عامًا, فهو أحد أعضاء الهيئة التأسيسية للجماعة، وُلد بمصر، وتُوفي عام 1407هـ، الموافق 1986م، عاش للإسلام، فعاش في قلوب الناس، وتجرد لله فأحبه الناس من أعماق قلوبهم حبًّا مجردًا عن الأغراض الدنيوية، عمل لله ولمصلحة المسلمين، وفي خدمة الدين الحنيف، فبارك الله عمله، وأتت أعماله الصالحة أُكلها ضعفين.. وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
إنه- لهذا- رجل عظيم؛ لأنه لا يشتري صفات العظمة، إنه يصد عنها لنفسه بيده، إنها تنبع من قوة شخصيته ومن عظمة إيمانه.
إنَّ الداعية "عبد البديع صقر" عَلَمٌ من أعلامِ الحركة الإسلامية المعاصرة، شاع ذكره في العالم العربي والإسلامي، وأحبه كل مَن عرفه؛ لصفائه، ونقائه، وصدقه، ووضوحه، وإخلاصه، وعمله وجهاده، وتضحيته.
وكانت آثاره واضحة جَلِيَّة في منطقة الخليج عامة، وفي قَطَر خاصةً منذ أنْ قدم إليها من مصر عام 1954م.
تعرفه على الإخوان
التحق بالإخوانِ المسلمين عام 1936م, يصف التحاقه بالإخوان المسلمين فيقول: "لقد نشأتُ في قرية "بني عياض" مركز أبو كبير بالشرقية، وفي سنة 1935م حصلتُ على شهادة "البكالوريا"، ولم أجد وظيفةً، فاشتغلت عاملاً في أحدِ المحال التجارية.
كنا نشتري البُنَّ المطحون من محل الشيخ "سيد أحمد عبد الكريم"، ونشأتْ بيني وبينه مودةٌ خاصة؛ إذ كان كل منا يفرح بلقاءِ الآخر دون سببٍ ظاهر.
ذات يوم أعطاني رسالة "نحو النور"، وقال: اقرأها، وارجع إليَّ غدًا، فلمَّا رجعتُ إليه أمسكها بيدي، قال: هل تؤاخيني في الله؟ قلت: نعم، قال: إن كان أعجبك هذا، فاتصل بجماعة الإخوان المسلمين، ومقرهم بالقاهرة بعمارة الأوقاف، بميدان العتبة الخضراء، وعاد ينشغل بالزبائن".
تركتُ العمل بفاقوس، وذهبت بعد شهور أبحث عن عمل بالقاهرة، وكان ذلك في سنة 1936م، وانتهيت إلى ميدان العتبة، ووقعت عيني على اللافتة، وحين دخلت دار الإخوان المسلمين بميدان العتبة بالقاهرة سنة 1936م، وجدتُ الإمام "البنا" يخطب في الحاضرين قائلاً: "لقد نجح المستعمرون في تثبيت الفصل بين الدين والدنيا؛ وهو أمر إذا صحَّ في دينهم، فلا يصح في ديننا".
فلماذا يكون رجل الدين بعيدًا عن السياسة، ورجل السياسة بعيدًا عن الدين؟! ثم ما هي السياسة؟ أليست هي التعليم، والتربية، وتوزيع الأرزاق، وتوفير الأمن، والعدل للأمة في الداخل والخارج؟ وإذا كانت الوزارات تُمثل السياسة فقد نجد اختصاص ست وزارات داخلاً في قوله تعالي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: من الآية90).. فإن كانت السياسة هي ما تقدَّم فهي جزءٌ من دين الإسلام وإن كانت السياسة هي الحزبية وما تجره على الأمة من صراعٍ وتفرقةٍ فهي ليست من الإسلام في شيء لقوله تعالي {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (الأنعام: من الآية 159).. ولأول مرةٍ وجدتُ جماعة لا يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق وإنما يقولون جميعًا (الله أكبر ولله الحمد)، وانتهى الاجتماع وانصرف بعضُ الحاضرين وأُقيمت الصلاة وصليتُ معهم فأحسستُ أنَّ هذا الشيخ يقرأُ القرآن بطريقةٍ عجيبةٍ.. إنَّ الوقفاتِ التي يقفُ عليها تُعتبر تفسيرًا للقرآنِ الكريم أثناء التلاوةِ كقوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} (الإنسان: من الآية 2) فتشعر أنَّ كلمة {نَبْتَلِيهِ} هي سر الوجود.
وبعد ذلك عُقدت جلسة خاصة للتعارف أدخلتُ نفسي فيها، فقد نسيتُ نفسي وعنوان منزل صديقي وأصبحتُ في القاهرة (ضائعًا تقريبًا) إنني قصير القامة وكنت خفيف الجسم- قلما تقع عليَّ العين.. لكنَّ الشيخ أدار عينه في الجالسين, ثم قال: "يا أخ صالح خل الأخ الجديد الذي بجوارك يحضر ويجلس عندي" وفجاةً وجدتُ نفسي في صدر المجلسِ وكلفني بالتحدثِ إلى الإخوان وقصصتُ عليهم القصة وشعرت أنهم بلغ بهم التأثر.. وقال المرشد معقبًا "انظروا كيف يعيش الأخ بدعوته في تجارته ونومه ويقظته؟" ثم ضرب مثالاً بسيدنا يوسف الذي رافقته دعوته في السجن ثم أصبح خلاصًا لمصر كلها من الضلال والجوع.. ثم قال مَن يضيف هذا الأخ؟" فارتفعت أيدٍ كثيرة فقال: اذهب مع حسن صادق وإخوانه.. ذهبتُ مع ثلاثةٍ من الطلبة الجامعيين, ودخلنا بيتًا نظيفًا في المنيرة قدموا طعامًا فأكلنا ونمتُ نومًا متقطعًا بعد ساعةٍ لاحظتُ أحدهم قام في الليلِ فتوضأ وشرع يُصلي ثم عاد إلى فراشه, وقام غيره يُصلي وسمعته يبكي في الصلاةِ.. وعندما حانت صلاة الصبح قام أحدهم فأذَّن بصوتٍ هادئ وصلينا ثم جلسنا نقرأ ورد الاستغفار إلى أن أشرقت الشمس فأعادني أحدهم لدار الإخوان قائلاً: نحن ذاهبون إلى أعمالنا الآن.. وقد تأخينا معك في الله فلا تقطعنا" وأعطاني العنوان.
جلستُ أفكر في هذا النوعِ الجديد من شبابِ مصر لأول مرة أرى أساتذةً وطلبةً جامعيين يبكون من تلاوةِ القران ويتطوعون بمواخاةِ مثلي وأنا في أشدِ الحاجة للمواساة.. أخذتُ مجموعةً من رسائل الإخوان المسلمين ورجعتُ إلى الريف إذْ لم أجد عملاً في القاهرة.
من هذا الوقت توثقت صلة الأستاذ "عبدالبديع صقر" بالإخوان المسلمين، وصار من دعاتهم البارزين، وعضوًا في الهيئة التأسيسية، وقد صاحب "البنا" لمدة اثني عشر عامًا تعلم فيها من الإمام الكثير الذي أثَّر على حياته وسلوكه.
في السجون
يحكي كثيرٌ من الإخوان المسلمين عن مواقفه الكريمة مع إخوانه المعتقلين في معتقل (الطور) سنة 1948م؛ حيث كان يتولى حلاقة رءوسهم، والقيام بخدمة كبار السن والمرضى، بل يقوم بالكثيرِ من مهماتِ التنظيف التي يأنف منها البعض؛ وهذا لفرط تواضعه، وحرصه على الأجر والثواب.
ويُروى عنه- رحمه الله- أنَّ أحدَ ضباط المباحث الذين مَنّ الله عليهم بالهداية قال للإخوان: "كنا نُرسل بعض المخبرين للتجسسِ على الإخوان، إلا أننا لا نلبث، حتى نفقد الثقة فيمن نُرسلهم؛ لإحساسنا بتحولهم وتبدلهم لاحتكاكهم بالإخوان المسلمين، حتى تعبنا، وأعيانا الأمر؛ فاخترنا رجلاً شريرًا، وقلنا هذا سهمٌ نضربُ به الإخوان يستعصي على الكسر، ومضت الأيام، وبعد أسبوع واحد فقط، وإذا بهذا المخبر يدخل عليَّ مكتبي، وطلب نقله من عند الإخوان قائلاً: "(ودوني) عند الشيوعيين، عند اليهود، عند الكفرة، أما أولاد..... دول (لأ)"، فعجبتُ من أمره، وسألته: لماذا؟ قال: "كل ليلة (يقوموا يصلوا)، وشيخهم يقرأ القرآن لهم، الركعة (تيجي) ساعة.. (معدتش) قادر (أصلب طولي)".
الهجرة والإنجازات
الرجال بآثارهم لا بأسمائهم وأعمارهم، وكلما كان للإنسان أثر في الحياة أو البيئة التي يعيش فيها مهما كانت هذه البيئة صغيرة أو كبيرة.. هكذا كان الشيخ عبد البديع رحمه الله تعالى.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته: وكان الوجيه قاسم درويش في عهد الشيخ علي بن عبد الله- الحاكم السابق لقطر، ووالد الحاكم الحالي الذي تنازل له عن الحكمِ قبل مجيئي إلى قطر بسنة واحدة- هو المسئول عن المعارف قبل الشيخ قاسم بن حمد، وكان له صلة بالعلامة السيد محب الدين الخطيب صاحب مجلتي (الفتح) و(الزهراء).. فأرسل إليه يطلب منه ترشيح شخصية إسلامية قوية تتولى إدارة المعارف. فرشَّح له في أول الأمر: الكاتب الإسلامي الصاعد محمد فتحي عثمان، ولكن ظروفًا خاصة حالت دون استجابة الأستاذ فتحي، فطلب من الإخوان أن يرشحوا له شخصًا للقيامِ بالمهمة المطلوبة فرشحوا له الأستاذ عبد البديع.
وسافر الشيخ عبد البديع إلى قطر مبكرًا سنة 1954، وعُيِّن مديرًا للمعارف مع الشيخ قاسم بن درويش، وكانت المعارف في ذلك الوقت محدودة جدًّا.
تعليم المرأة والإصرار عليه
هكذا هو المسلم أينما كان نفع لا ينتظر أن يصل إلى منصبٍ معين أو مستوى معين.. هكذا كان رحمة الله عليه، فما إنَّ حط رحالة في قطر إلا ونظر إلى أساسِ النشء والجيل وهو بناء الأمة وإعدادها، فما إن وضع قدمه إلا وجد أنَّ عدةَ مدارس ابتدائية للبنين، محدودة العدد، ولا توجد مدرسة إعدادية بعد، وكان تعليم البنات محدودًا جدًّا.. فقد قامت معركة جدلية بين المشايخ في تعليمِ البنات، وإلى أي حدٍّ يجوز لها أن تتعلم؟ فكان بعضهم يحبِّذ أن تتعلم البنت كما يتعلم شقيقها الابن.. فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. وبعضهم يقول: يكفيها التعليم الابتدائي، ولا حاجةَ إلى ما بعد ذلك، وقد قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (الأحزاب: 33).
وظلَّت هذه المعركة محتدمة، ولم تُحسم إلا قبيل قدومي إلى قطر، وقد حسمت في صالح التوسع في تعليم المرأة، ومن الغريب أن الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، صاحب الفتاوى الجريئة في الحج وغيره، كان من أنصار التضييق والتشديد في تعليم المرأة، وكان الشيخان: ابن تركي والأنصاري من القائلين بإتاحةِ الفرصة لتتعلم كل علم نافع تريده وتقدر عليه.
وقد عشتُ في قطر حتى رأيت الشيخ عبد الله بن زيد يكتب إلى مدير جامعة قطر- د. إبراهيم كاظم رحمه الله- يستغرب منه كيف توضع الشروط والعقبات في سبيل تعليم الفتاة، ويطالب بأن تفتح الجامعة أبوابها على مصاريعها لكل فتاةٍ ترغب في استكمالِ تعليمها.. سبحان الله أليس كل مَن سنَّ سنةً حسنةً له أجرها وأجر من عمل بها ...إلخ الحديث.
سنة حسنة
يقول الأستاذ حيدر قفة: عندما جئتُ إلى العمل في قطر وجدتُ في وزارةِ المعارف سنة حسنة، لا أعلم أنَّ لها مثيلاً في بلد آخر أو في وزارة أخرى وهي من الأمور التي تفرَّدت بها وزارة المعارف، ودولة قطر، وهي من الحسناتِ الكبار التي تتوج للعاملين بوزارة المعارف هذه السنة الحسنة هي ما يفعله الموظفون عندما يموت لهم زميل في الوزارة سواء من المدرسين أو الإداريين فيتبرع كل منهم بما يُعادل راتب يوم واحد من معاشه، تدفع هذه المبالغ مجتمعة لورثة زميلهم، وكم أحيا هذه النظام أو هذه السنة أُسرًا، وكم ستر على عائلات، وكم حافظ على أيتام وأرامل من الضياع والتشرد، ولا تزال هذه السنة قائمة إلى وقت كتابة هذا الكتاب، والتي يدعو كل العاملين في الوزارة لمَن كان السبب فيها، ولمن أوجدها ودلَّ عليها، وما أحسبها إلا حسنة من حسنات عبد البديع وأثرًا من آثاره يوم أن كان مديرًا لمعارف قطر.
كتب ومكتبات
شعر عبد البديع- رحمه الله- بخبرته الطويلة في مجالِ الدعوة أنَّ الناسَ في حاجةٍ إلى كتابٍ صغير الحجم كبير النفع يشرح الإسلام بإيجاز ويضع الإجابات السليمة الموفقة السديدة لكل تساؤلاتِ الناس لا سيما الشباب منهم لأن لا صبرَ لهم على المطولات فقدَّم- رحمه الله- مشروع كتاب الجيب وهو كتاب تتضافر جهود العلماء في أكثر من بلدٍ لكتابةِ هذا الكتاب، ففي العمل الجماعي تنتفي مظنة الخطأ أو الحجر على الناس على حسبِ مفهوم الكاتب الواحد لا سيما كتاب سيعمم على بلادِ العالم.. ولكن هذه الفكرة ماتت في مهدها؛ حيث إنَّ فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود تصدي لها.
وقد بذل الشيخ عبد البديع قصارى جهده لنشر التراثِ الإسلامي، وأمهات الكتب الفقهية وغيرها؛ حيث كان يشير على حاكم قطر السابق "علي بن عبدالله آل ثاني"، ثم من بعده ابنه "أحمد بن علي آل ثاني"، بطباعةِ تلك الكتب القديمة التي عزَّ وجودها بين أيدي الناس؛ فيستجيب الحاكم لطباعتها على نفقته؛ حسبةً لله تعالى.
كتب الإمام الشهيد "حسن البنا" عن كتاب الأستاذ "عبدالبديع صقر": "كيف ندعو الناس؟"، قائلاً: "كنت وضعتُ ملاحظاتٍ للإخوة، وعزمتُ على العودةِ إليها؛ لتكميلها وتنقيحها ونشرها، وقد طالعتُ هذه الرسالة للأخ "عبدالبديع صقر"، فرأيتُ فيها ما كفى وأغنى؛ فسُررت وفرحت، وسألت الله له دوام التوفيق، وأن يُحسن عن الدعوةِ مثوبته، وأُوصِي الإخوةَ بها، وأن يسيروا على ضوئها".
له عدة مؤلفات منها الأخلاق للبنات, التجويد، وعلوم القرآن, رحلة الحج، الوصايا الخالدة، شاعرات العرب، مختارات الحسن والصحيح من الحديث الشريف، رسالة الإيمان، نقد البردة، نساء فاضلات، التربية الأساسية للفرد المسلم, حديث إلى دعاة الإسلام.
اهتمامه بالأطفال
ومن إيمانه الراسخ بجدوى الدعوة إلى الله أن تبدأ هذه الدعوة مع الأطفال بأن ينشأوا تنشئة إسلامية في محاضن إسلامية تحت إشراف المخلصين.
ولما كانت علاقته بحكامِ الإمارات حسنة بحكم صلته بحاكم قطر، عرض مشروع إنشاء (روضات إسلامية) على حكام الإمارات سنة 1969م فرحبوا بالفكرة ومنهم من وعده بأرضٍ للبناء ومنهم من سهل له الإنشاء.
ولكن إمكانيات الشيخ عبد البديع- رحمه الله- كانت ضعيفة لا تمكنه من بناءِ عمارة إلا أنه أخذ بمبدأ (ما لا يُدرك كله لا يترك جله) فاستأجر بناءً في عجمان وأنشأ فيها روضة صغيرة من صف وحضانة واحدة، ويذكر أنَّ مقاعد الدراسة لم تتجاوز العشرة ولا يتعدى ثمنها ألفي ريال (قطر ودبي) آنذاك والمراجيح ولعب الأطفال في حدود ألف ريال أي أنَّ روضةَ عجمان لم تكلف ثلاثة آلالف ريال.
وتبع ذلك إنشاء روضة أطفال في دبي وأشرف عليها الشيخ كاظم حبيب، ثم روضة الشارقة وتبع ذلك في أبي ظبي والعين ورأس الخيمة.
العمل في الخليج
لقد عمل الأستاذ "عبدالبديع صقر" فترةً طويلةً في قطر والإمارات، فكان مديرًا للمعارف بقطر، ثم مديرًا لدار الكتب القطرية، ثم مستشارًا ثقافيًّا لحاكم قطر.
يذكر بعض العارفين لأحواله أنه حين كان مديرًا للمعارف في قطر، كان يؤشر على طلبِ الإجازة للوفاة بعبارة: "مع الموافقة على منحه ثلاثة أيام، وعظَّم الله أجره، وأحسن عزاءه، وغفر لميته"، ويُؤشر على طلبِ الإجازة للزواج بعبارة: "مع الموافقة، بارك الله في عروسه، وبارك لها فيه، وجمع بينهما في خير".
وكان أمراء الخليج يُجلُّون الأستاذ "عبد البديع صقر"، ويُقدرونه، ويحترمونه، فضلاً عن محبة العامة وجماهير الناس له؛ لحسنِ خلقه، وتواضعه، وخدماته الكثيرة، وقد عرفوه متحدثًا، ومحاضرًا، وخطيبًا، وواعظًا، وكاتبًا، ومفكرًا ومصلحًا، وداعيةً.
وفاء نادر
كان الأستاذ "عبدالبديع صقر" من الأوفياء لإخوانه، البارِّين بزملائه، وكان يتفقدهم ويتعهدهم بالزيارة، والسؤال عنهم، أو مراسلتهم مهما تشتت بهم الأقطار.
ومن هؤلاء الدكتور "سعيد رمضان"- رحمه الله- زوج ابنة الشهيد "حسن البنا"، الذي كان يقيم في جنيف؛ مطارَدًا من الرئيس "جمال عبدالناصر"، الذي أسقط عنه الجنسية، وحُكم عليه بالإعدام غيابيًّا، فكان الأستاذ "صقر" يتعهده بالزيارة، والسؤال عنه.
يروي الأستاذ "حيدر" عن وفائه لزملائه أن الأستاذ "زهير الشاويش"- صاحب المكتب الإسلامي بدمشق وبيروت- دخل مرةً على الشيخ "عبد البديع" في منزله في الدوحة بعد العشاء، وبعد إلقاء السلام على الحاضرين بالمجلس قال: "يا أبا إبراهيم، أقرضني مائة ريال، فقد خلا الجيب؛ فما قام "عبدالبديع" من مكانه، ولكنه قال لزهير ببساطته المتناهية: "الدرج بجوارك، خذ منه ما تشاء"، فأخذها "زهير"، وخرج دون أن يجلس.
شهادات
كتب الأستاذ "زهير الشاويش" في مجلة "المجتمع" الكويتية، عدد ديسمبر 1987م، بعد وفاة "عبد البديع صقر" يقول: "أرى لزامًا عليَّ أن أؤدي الشهادة فيما تيقنته عنه بعد خبرة وتجربة، فقد عرفت في الأخ "عبد البديع" نزاهة اليد والتعفف عن جرِّ المنفعة لنفسه، أو أخذ قرشٍ مما كان يُوكل إليه إنفاقه على طبعِ الكتب، بل زهدَ في أموالِ الأغنياء؛ فعوَّضه الله عن ذلك بالحلالِ الطيب، وأشهد أنه طالما أنفقَ من ماله الخاص- على قلته- كلما رأى حاجةً للإنفاق في موطنٍ شحَّت عن البذل فيه أيدي الأغنياء".
يذكر المستشار "عبدالله العقيل" أنه حين كان في الكويت دُعي إلى الإمارات لإلقاء محاضرة في (جمعية الإصلاح) بدبي، وعقب المحاضرة أمطره الجمهور بسيل من الأسئلة الكثيرة، قاربت مدتها مدة المحاضرة، وحين توقف عند أحد الأسئلة بادر- رحمه الله- بالجواب عنه.
ويحكي المستشار "العقيل" عنه أيضًا: "كان من أوائل من التقيت بهم في مصر أواخر عام 1949م؛ حيث اجتمعت معه في منزل أحد الإخوان، ولما حان وقت الصلاة قدموه للإمامة، ولفت نظره وجود صورة على الحائط، فما كان منه- رحمه الله- إلا أن سترها، ثم أدينا الصلاة؛ فأدركتُ من وقتها أن الأستاذ "عبدالبديع صقر" ذو نزعة سلفية، يحرص على الالتزام بما صحَّ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما سار عليه السلف الصالح".
وكان عبد البديع صقر شخصية مرحة متميزة، كان يزور الشخص ولا يطيل، ويقول: أعتقد أننا شرفنا! ثم يستأذن وينصرف.
وكان يعزم الناس على الغداء عنده، ثم ينسى أن يخبر أهل بيته، فيفاجأ بالناس وقت الغداء يدقون عليه الباب، فيرحِّب بهم، ويأكلون ما حضر، ويقول لهم: نسيتُ أن أبلغ وزارة الداخلية!
وأحيانًا يقول لأهله: اصنعوا لنا ثريدًا، ويقول: إنَّ قصعة الثريد تقبل القسمة على أيِّ عدد!
وقد بقي مديرًا للمعارف حتى تغيَّر الوضع، وأُعفي الوجيه قاسم درويش، وجيء بالشيخ قاسم بن حمد، واحتضن الشيخ علي ثم الشيخ أحمد الشيخ عبد البديع، ليشرف على مكتبته الخاصة، وعلى المكتبات العامة في قطر.
وفاته
كان رحمة الله عليه قُبيل وفاته بفترةٍ يقول: أنا لم يبقَ لي في الدنيا شيء لقد فرغت من الدنيا وقبل سفره من دبي إلى مصر أقام وليمة كبيرة لجمع كبير من الناس وتكلَّم فيهم وكان مما قال: "لعلنا لا نلتقي بعد اليوم".
ولما وصل إلى مصر أقام وليمةً كبيرةً في بيته دعا إليها جمعًا كبيرًا من الأقاربِ والأرحارم كأنما يودع الناس، ثم زار قبر زوجته رحمها الله تعالي.
وقد انتقل- رحمه الله- إلى جوار ربه مساء السبت (12 من ربيع الأول 1407هـ، الموافق 13/12/1986م) في مصر؛ حيث توجَّه إلى مدينة (بلبيس) بالقربِ من مدينة الزقازيق لإلقاءِ محاضرة، وبعد المحاضرة ركب سيارته قاصدًا الزقازيق، فمات وهو يقود السيارة، فانحرفت به إلى جانب الطريق، وسقط في مجرى مائي، ولم يدركه الناس إلا في وقتٍ متأخر؛ حيث حُمل إلى المستشفى، وغُسِّل، ودُفن إلى جوار زوجته "أم إبراهيم"، التي سبقته إلى الدار الآخرة قبل أكثر من عام.
نسأل المولى الكريم أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يغفر لنا وله، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته.
-----------
المراجع:
- من أعلام الحركة الإسلامية للمستشار "عبدالعقيل".
- وسائل التربية عند الإخوان المسلمين للدكتور "علي عبد الحليم محمود".
- حكايات عن الإخوان للأستاذ "عباس السيسي".
ـــــــــــــــ(1/177)
عبد العزيز جاويش: شيخ التربية والصحافة والجهاد
عبد العزيز جاويش- شيخ التربية والجهاد
إعداد: أمل محمد
بعد احتلال إنجلترا لمصر تصاعدت روح المقاومة الوطنية، سواءٌ في السياسة أو الخطابة أو الشعر والأدب، وفي هذا العصر برز الشيخ عبد العزيز جاويش والذي شارك في كل طيبات عصره، فإذا تحدثت عن أدب ذلك العصر وجدته في مقدمة أدبائه، وإذا تحدثت عن العلم والعلماء رأيته في الذروة، وإذا تحدثت عن التربية والتعليم ألفيته المصلح الكبير، وإذا ذكرت المضحِّين في سبيل الوطنية وجدته أكبر المضحين، وإذا تحدثت عن الإرشاد الاجتماعي وجدته من ذوي الآراء الناضجة، وإذا تحدثت عن المضطهدين في أوطانهم كان أوضح عنوان لهذا الاضطهاد.
المولد والنشأة
وُلد عبد العزيز جاويش في الإسكندرية (12 من شوال 1293هـ= 31 من أكتوبر 1876م)، ونشأ في أسرة كريمة تعمل بالتجارة، وحفِظ القرآنَ الكريم، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، واتجه إلى مواصلة التعليم، فسافر إلى القاهرة والتحق بالأزهر سنة (1310هـ= 1892م) وهو في السادسة عشرة من عمره، لم يستمر عبد العزيز جاويش في الأزهر سوى عامين وتركه، والتحق بمدرسة دار العلوم بعد أن اجتاز اختبارًا صعبًا بين يدي لجنة تضم عشرةً من كبار رجال العلم تمتحن المتقدمين في دقائق الفقه والتفسير والنحو والبيان والبديع والإنشاء والتاريخ.
وحصل على شهادتها سنة (1315هـ= 1897م) وهو في الحادية والعشرين من عمره، ثم عُيِّن الشيخ مدرسًا للغة العربية بمدرسة الزراعة، وكان من سُنن وزارة الزراعة أن تُرسل من خريجي دار العلوم بعثةً سنويةً إلى إنجلترا فاختِيْر الشيخ والتحق هناك بجامعة برورود، وتلقَّى هناك علومَ التربية والطرق الحديثة في التدريس، وظل هناك ثلاث سنوات عاد بعدها إلى القاهرة سنة (1319هـ= 1901م) ليعمل مفتشًا في وزارة المعارف لم يكن همه الأول إحصاء أغلاط المدرسين بل كان همه الأول إصلاح التعليم.
الشيخ الأديب والمجاهد
كان للشيخ فطرةٌ أدبيةٌ ميَّزَته وهو طالب بدار العلوم، كان يكتب في (اللواء) ثم في (العلم) وكذلك في (الهداية) مقالات نارية ضد الاحتلال وحكومات الاحتلال من المصريين كما كان يكتب في تفسير القرآن الكريم.
- رأَس تحرير جريدة (اللواء) 1908 خلفًا لمصطفى كامل، وهنا بدأت مرحلةٌ جديدةٌ في حياته لخَّصها هو في مقاله الأول، الذي نُشر في (1 من ربيع الآخر 1326هـ= 3 من مايو 1908م)، وجاء فيه: "باسمك اللهم قد استدبرت حياةً زادُها الجبن وخوَر العزيمة ومطيتُها الدهان والتلبيس، وبيمينك اللهم أستقبل فاتحة الحياة الجديدة، حياة الصراحة في القول، وحياة الجهر بالرأي، حياة الإرشاد العام، حياة الاستماتة في سبيل الدفاع عن البلاد العزيزة، سيسير (اللواء) على ما كان عليه خادمًا للأمة المصرية، مدافعًا عن الأريكة الخديوية ما حرصت على مصالح رعاياها، مجاهدًا الإنجليز ما بقوا في بلادنا، حاثًّا على الفضيلة والأخلاق الكريمة، داعيًا إلى توحيد عناصر الأمة على اختلاف مللها ونحلها".
- قُدِّم للمحاكمة أمام محكمة عابدين 1908 لنشره مقالاً تحت عنوان (دنشواي أخرى في السودان)، وقد حُكم عليه ابتدائيًّا وبرِّئ استئنافيًّا.
- قُدِّم للمحاكمة سنة 1909 بسبب نشره مقالاً في اللواء بعنوان (ذكرى دنشواي) وصدر الحكم بحبسه ثلاثة أشهر.
- في 27 نوفمبر 1909 قَدَّم له الشعب وسامًا في حفل خاص تقديرًا لوطنيته.
- في 1910 أنشأ مجلة (الهداية) لإفهام المسلمين أسرار القرآن.
- في سنة 1910 قُدِّم للمحاكمة بسبب مشاركته في وضع مقدمة لديوان (وطنيتي) لعلي الغاياتي، وحُكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر.
- في سنة 1912 أُبعد الشيخ جاويش إلى تركيا حيث أعاد إصدار مجلة (الهداية) و(الهلال العثماني) و(الحق يعلو).
- في سنة 1912 تزعَّم مع بعض زملائه أنصار الحزب الوطني جمع التبرعات وإرسال الذخائر إلى طرابلس لمقاومة الغزو الإيطالي.
- في سنة 1913 طلبت الحكومة المصرية تسليم الشيخ جاويش لمحاكمته عن تهمة إرسال منشورات ضُبطت مع أحد الطلبة المصريين القادمين من تركيا وتم تسليمه بالفعل وأُودع سجن الحدرة ثم أفرج عنه.
- في سنة 1914 أنشأ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ووضع أساسها وأعاد إصلاح كلية صلاح الدين بالقدس الشريف.
- في سنة 1914 سافر الشيخ إلى إنجلترا؛ حيث اتفق مع أحد أغنياء الهنود على إنشاء أسطول إسلامي.
- في سنة 1915 أُعدت حملةٌ من الجيش التركي لتخليص مصر من الاحتلال وشارك فيها الشيخ.
- فيما بين سنتي 1915 و1918 كان ينتقل ما بين ألمانيا وتركيا والشام، وقد أنشأ مجلاتٍ إحداها باللغة الألمانية باسم Die Islamische Welt" وثانية في إسطنبول باسم (العالم الإسلامي) وفي سويسرا مجلة باسم Egypte؛ وذلك للدفاع عن استقلال مصر، كما اشترك في مؤتمر الدفاع عن الدول المحتلة في إستكهولم.
- في سنة 1918 غادر الشيخ جاويش تركيا خفيةً حيث اتصل بالوفد المصري بباريس.
- في سنة 1922 استدعاه الغازي مصطفى كمال باشا وعيَّنه رئيسًا للجنة الشئون التأليفية الإسلامية بأنقرة.
- في سنة 1923 حدث خلاف بينه وبين الغازي في شأن إلغاء الخلافة، فعاد لمصر خفيةً ونَشرت جميع الصحف مقالاً تحت عنوان (تجديد العهد) بتوقيع الشيخ جاويش، وبعد عشرة أيام صرَّحت له الحكومة بالإقامة في مصر.
العالِم المُصلح
كان الشيخ يحضر دروس الإمام محمد عبده فتأثر به في تفسير القرآن وفي البحث الديني وفي اتجاهاته الإصلاحية، فسلك في ذلك سبيل التأليف والخطابة، فألف كتاب (الإسلام دين الفطرة) أثناء وجوده في إنجلترا وترجَمَه للغة الإنجليزية ليساهم في بناء مفاهيم الإسلام والكشف عنها.
وفي عام 1911 عقدت الحكومة المصرية مؤتمرًا بمصر الجديدة للإصلاح العام، فألقى الشيخ خطبةً عن الإصلاح الاجتماعي كان عنوانها (وجوب مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق أحكام الشرعة الغراء).
وقد دعا إلى ترابط رؤوس الأموال الصغيرة وإنشاء مصرف وطني، وحارب الخمر ومضارّ المسكرات، وألَّف في ذلك كتابًا بعنوان "أذى الخمر ومضارُّه"، وارتفع صوتُه بضرورة العناية بالمرأة وتعليمها وإصلاح أحوالها ورفعه شأنها، وعارض زواج المصريين من الأجنبيات.
الشيخ المربِّي
و قد كتب كتابًا بعنوان (غنية المؤدبين) طُبع عام 1903 حيث عالج فيه أساليب المحاورة والاستنتاج بدلاً من الحفظ والتلقين في التدريس.
كما ألف كتاب (مرشد المترجم)؛ مما يدل على إتقانه للغة الإنجليزية، وأسس مدرسةً ليلية سمَّاها الإعدادية الليلية يتعلم فيها الأزهريون اللغة الفرنسية، وعقد مؤتمرًا كبيرًا في مدينة المنصورة في فبراير 1911 ألقى فيه خطبةً جامعةً في إصلاح التربية والتعليم.
وقد تطلع جاويش إلى اختيار عدد من الطلاب الأزهريين النابهين- الذين يقصدون مدرسته- وإرسالهم في بعثات إلى أوروبا، وكانت البعثات تسافر من كل المدارس ما عدا الأزهر، ونجح جاويش في جمع التبرعات اللازمة لنفقات أول بعثة أزهرية على نفقة الأمة إلى فرنسا، وتكوَّنت من ثلاثة طلاب سافروا إلى فرنسا في (1911م)، وكان معهم جاويش، وكان الهدف من هذه البعثة الوقوف على أساليب التعليم الحديثة ليطبقها هؤلاء المبعثون في الجامعة الأزهرية حتى تصبح عصريةً، غير أن هذا المشروع توقف بعد سفر جاويش إلى تركيا بعد التضييق عليه ومحاربته.
وبعد عودة جاويش رأت الدولة أن تنتفع بخبرته في التربية والتعليم، فأسندت إليه منصب مدير التعليم الأوَّلي سنة (1344هـ= 1925م)، وذلك وفق خطة لمحو الأمية وتوسيع دائرة التعليم، فاستكمل ما كان قد بدأه من طرق الإصلاح في التربية والتعليم، فأخذ يجوب البلاد ويُنشئ المدارس ويضع الخطط للنهوض بالتعليم حتى وافاه أجله.
وكان جاويش- بحكم ثقافته العربية الإسلامية واتصاله بمناهج التعليم الحديثة الغربية- يؤمن بأن الأمم لا تنهض إلا بالتربية والتعليم، ولم يشغله عمله في جريدة (اللواء) عن الدعوة إلى إصلاح التعليم، فأنشأ المدرسة الإعدادية كنواةٍ صالحةٍ ينسج عليها التعليم الثانوي، وكان جاويش يقوم بالتدريس فيها بنفسه، ويفتح أبوابها في إجازات الصيف للطلاب حتى لا تضيع أوقاتهم فيما لا يفيد.
ودعا جاويش إلى إصلاح مناهج التعليم والعناية بالتربية كأساس للتعليم ورفع مستوى القائمين على العملية التعليمية والأخذ بالأساليب الحديثة في التربية، وهاجم مناهج التعليم القائمة؛ لأن الاحتلال هو الذي وضعها وأشرف على تنفيذها، ودعا إلى التوسع في التعليم الزراعي والصناعي، وعمل على إكمال النقص في برامج مدارس بالحكومة، وحماية الطلاب من مناهج التعليم الأجنبي بإنشاء عدد من المدارس تكون تحت رعايته.
وامتدت دعوته إلى إصلاح التعليم، فشملت تطوير التعليم بالأزهر وإدخال العلوم العصرية ضمن مناهجه، وفتح أبواب المدرسة الإعدادية التي أنشأها لطلاب الأزهر، وكان من بين من تعلم فيها طه حسين.
أخلاقه ووفاته
كان الشيخ صريحًا في كل آرائه؛ ولذلك كثرت محاكماته وكثرت سكناه السجون، كما اتسم بخفة الروح والظل لا يمله الجالس كما كان أبي النفس.
كان الشيخ في سنواته الأخيرة يرعى أسرة زميل جهاده محمد فريد الذي توفِّي في برلين سنة (1339- 1920)، ثم كان عليه أن يقوم على رعاية أسرة الصحفي المجاهد أمين الرافعي الذي تُوفي قبله، وفي غمرة هذا العمل المتصل وافاه الأجل المحتوم في فجر يوم الجمعة الموافق (13 من شعبان 1347هـ= الموافق 25 من يناير 1929م)، تاركًا ذكرى عطرةً وسيرةً طيبةً لأجيال أمته.
ـــــــــــــــ(1/178)
الرافعي.. الحكمة في أجمل بيان
- توطئة
- نشأته وحياته
- بدايته وانطلاقه
- ثقافته وتأثره بالتراث
- سمات أدب "الرافعي"
- معارك الرافعي الأدبية
- إنتاجه الأدبي والفكري
- لماذا يحاولون إهالة التراب على أدبه؟
• سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن والعقيدة.
• نمَّا ثقافته بعصاميته وقراءاته من كتب التراث والقراءات المترجمة.
• وضع القرآن الكريم والبلاغة النبوية في المرتبة الأولى من ثقافته وفكره.
• عاش كفافا في طنطا بعيدًا عن أضواء الصحافة.
أ. مصطفى صادق الرافعي
توطئة
في صباح يوم الإثنين 10 من مايو 1937م فقدت الأمة الإسلامية ركنًا من أركان الأدب العربي، وأديبًا من أبلغ من عَرَفَتْ من أدبائها، وكاتبًا في الطبقة الأولى من كتابها منذ أقدم عصورها، ذلك هو "مصطفى صادق الرافعي"- يرحمه الله.
عاش الرجل في فترة زمنية ارتفعت فيها دعاوى التجديد، ومحاولة سلخ الأمة عن هويتها، فآلى على نفسه أن يجعل من قلمه سلاحًا يذود به عن هذه اللغة، وحَربة يحمي بها حياضها؛ من أجل أن يهزم اللسان العربي هذه العُجمة المستعربة، وأن يُعيد إلى لغة القرآن مكانتها المرموقة.
لقد حاول المبطلون- من أعداء العربية قديمًا وحديثًا- طمس معالم هذه اللغة ومحو آثارها، وإهالة التراب عليها، وسنعرض فيها لبعض الحوادث من حياة الراحل وأدبه في هذا الصدد.. ويبدو أن "مصطفى صادق الرافعي" لم يكن مبالغًا عندما قال: "سيأتي يوم إذا ذُكر فيه "الرافعي" قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان"!
نشأته وحياته
ولد "مصطفى صادق الرافعي" على ضفاف النيل في قرية (بهتيم) إحدى قرى مدينة القليوبية بمصر في يناير عام 1880م لأبوين سوريَّين؛ حيث يتصل نسب أسرة والده بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم- في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين.. وقد وفد من آل الرافعي إلى مصر طائفة كبيرة اشتغلوا في القضاء على مذهب الإمام الأعظم "أبي حنيفة النعمان"، حتى آل الأمر إلى أن اجتمع منهم في وقت واحدٍ أربعون قاضيًا في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء أن تكون حِكرًا عليهم، وقد تنبه اللورد "كرومر" لذلك، وأثبتها في بعض تقارير إلى وزارة الخارجية البريطانية.
أما والد "الرافعي" الشيخ "عبد الرزاق سعيد الرافعي"، فكان رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم المصرية، وقد استقر به المقام رئيسًا لمحكمة طنطا الشرعية، وهناك كانت إقامته حتى وفاته، وفيها درج "مصطفى صادق" وإخوته لا يعرفون غيرها، ولا يبغون عنها حولاً.
أما والدته فهي من أسرة الطوخي، وتُدعى "أسماء"، وأصلها من حلب.. سكن أبوها الشيخ "الطوخي" في مصر قبل أن يتصل نسبهم بآل الرافعي، وهي أسرة اشتهر أفرادها بالاشتغال بالتجارة وضروبها، وإلى هذه الأسرة المورقة الفروع ينتمي "مصطفى صادق"، وفي فنائها درج، وعلى الثقافة السائدة لأسرة أهل العلم نشأ؛ فاستمع من أبيه أول ما استمع إلى تعاليم الدين، وجمع القرآن حفظًا وهو دون العاشرة، فلم يدخل المدرسة إلا بعدما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية وسنه يومئذٍ 17 عامًا أصابه مرض (التيفوئيد) فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرًا ووقرًا في أذنيه لم يزل يعاني منه حتى فقد حاسة السمع وهو لم يجاوز الثلاثين بعد، وكانت بوادر هذه العلة هي التي صرفته عن إتمام تعليمه بعد الابتدائية، فانقطع إلى مدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه؛ فكان هو المعلم والتلميذ، فأكبَّ على مكتبة والده الحافلة التي تجمع نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فاستوعبها وراح يطلب المزيد، وكانت علته سببًا باعد بينه وبين مخالطة الناس، فكانت مكتبته هي دنياه التي يعيشها وناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحبته وخلانه وسُمّاره، وقد ظل على دأبه في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم في عمره، يقرأ كل يوم 8 ساعات لا يكل ولا يمل كأنه في التعليم شادٍ لا يرى أنه وصل إلى غاية.
بدايته وانطلاقه
بدأ "الرافعي" حياته الأدبية شاعرًا، وكان لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وأخذ ينشر شعره ومقالاته في المجلات التي كانت تصدر آنذاك، وقد أخرج الجزء الأول من ديوانه سنة 1900م، ثم تلاه الجزآن الثاني والثالث، ومن هنا دخل "الرافعي" إلى مجال الشهرة الأدبية؛ إذ تبنى نشر شعره الشيخ "ناصيف البازجي" في مجلة (الضياء) سنة 1903م.
ثم أخرج "الرافعي" بعد ذلك ديوان (النظرات) سنة 1908م، ثم كتب في تاريخ آداب العرب وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأضاف إلى العربية فنًا جديدًا من فنون النثر لم يسبقه إليه أحد، وهو فن الرسالة الأدبية وذلك من خلال كتبه الثلاثة "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر" و"أوراق الورد"، ومن الإنتاج المتميز للرافعي كتاباه: "تحت راية القرآن"، و"وحي القلم"
ثقافته وتأثره بالتراث
على الرغم من أن "الرافعي" درس اللغة الفرنسية في المدرسة الابتدائية إلا أنها لم تجد عليه إلا قليلاً، بل أخذ "الرافعي" ينمي ثقافته بعصاميته كما ذكرنا سابقًا، وقد وضع كتب التراث أساسًا ومحورًا لها بالإضافة إلى بعض القراءات المترجمة، لكن ظل التراث نبعًا ثريًّا ينهل منه حتى إنه استطاع بفضل الله أن يكتب "تاريخ آداب العرب" من وحي ذاكرته التي جمع فيها شتات قراءاته.
وهذا ما أشار إليه الأستاذ "سعد العريان" في مقدمة كتابه (حياة الرافعي): "وهممت أن أسأل "الرافعي"، ولكني لم أفعل، وهممت أن أعرفه بنفسي فلم أبلغ، ثم عزوت ذلك إلى ذاكرة "الرافعي" وسرعة حفظه فقلت متفرقات قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظة واعية، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعه، لو لم تُجمع له الذاكرة من ذات نفسها".
وهكذا وصل "الرافعي" بعمق ثقافته في التراث إلى أن يكتب كتابًا من ذاكرته، يقع في ثلاثة مجلدات، وما هو إلا توفيق الله له؛ أعانه على أن يبعث أروع الأدب في هذه الأمة من جديد.
ويتضح هذا من خلال قوله لأحدهم: "وما أرى أحدًا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكمًا نافذًا بالأشغال الشاقة الأدبية، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكم على نفسك بالأشغال الشاقة سنتين أو ثلاثًا في سجن الجاحظ أو أدب أبي العلاء المعرى أو غيرهما".
ومن هنا نلمس كيف كان "الرافعي" حريصًا على أن تكون كتب التراث في مقدمة ثقافة الدارسين للغة والآداب؛ حتى يرتكز الأديب على ركن أصيل وتراث زاخر يحميه من كل الأفكار الوافدة التي قد تعصف به وتجعل منه لسانًا للعجمة، كما حدث مع الكثرة ممن انسلخوا من تراثهم وحاولوا أن ينالوا من هذه اللغة ومن أصالتها، وقد وقف "الرفعي" لأصحاب هذه الدعوات بالمرصاد، وقامت بينه وبينهم معارك أدبية، خاضها "الرافعي" مدافعًا عن العربية والإسلام دفاع المستميت.
سمات أدب "الرافعي"
نستطيع أن نبين أهم السمات والملامح التي تميز بها أدب "الرافعي" كما يلي:
أولاً: الأصالة الإسلامية:
من أولى السمات وأبرزها وأوضحها في آداب "الرافعي" السمة الإسلامية، وهي تتضح منذ نشأته وحتى مماته.. فبيته الذي نشأ فيه غرس فيه الروح الإسلامية، وظل ناشئًا معها محاطًا بها في كل أطوار حياته، ونرى السمة الإسلامية في نقده وثقافته، وفي إبداعه؛ وهو ما يدل على أنه كان يبغي وجه ربه في كتاباته، ومن هنا علَّق على نشيده "ربنا إياك ندعو" فقال: إني أعلق أملاً كبيرًا على غرس هذه المعاني في نفوس النشء المسلم، فالرجل لم يكتب لشهرة ولا لمال ولا لمنصب؛ وإنما كان الإسلام هو دافعه وموجهه.
ثانيًا: أصالة المعاني والألفاظ:
إن من يقرأ أدب "الرافعي" ويتمعن في سمو معانيه ودقة ألفاظه يقول: إن هذا الرجل لم يعشْ في القرن العشرين؛ وإنما عاش معاصرًا للجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان، والدليل على ذلك أنه ما وُجد أديب معاصر له قارب أسلوبه أو لغته أو فنه، وكان هذا دافعًا لوجود أعداء كثيرين له، بل لقد عاداه الكثير من أدباء عصره حيًّا وميتًا، ولم يذهب واحد من خصومه معزيًا أهله في وفاته، إلا رجل واحد كتب برقية إلى ولده؛ هو الدكتور "طه حسين".
ثالثًا: القوة في الحق:
القوة في الحق سمة بارزة في أدب "الرافعي" وفي كتاباته، فبرغم أن "العقاد" قال عنه يومًا: "إنه ليتفتق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما يتفتق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها"، إلا أن هذا لم يُغفر للعقاد أن يتناوله "الرافعي" بنقد شديد فيما بعد؛ حرصًا منه على فكرته، كما أننا لم نجد في كتاباته مداهنة لأحد ولا خوفًا من أحد، لقد كان العقاد كاتب الوفد الأول، إلا أن "الرافعي" لم يهبه، وكان "عبدالله عفيفي" شاعر الملك، إلا أنه لم يسلم من قلم "الرافعي"، هذه أبرز سمة في أدب "الرافعي" وهي تكفيه.
* النقد عند الرافعي:
كانت بدايات النقد عند "الرافعي" بعض المقالات التي كان ينشرها في المجلات والجرائد التي كانت تنتشر في عصره، ومن أشهرها: مقال نشره في الجريدة، يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج الأدب فيها.
- من أبرز نقده (تحت راية القران) و(على السفود)، وقد انتقد "طه حسين" ومنهجه كتاب (الشعر الجاهلي) في كتابه الأول، بينما انتقد العقاد في كتابه الثاني.
- كان "الرافعي" ينتقد المعاني والألفاظ من ناحية مستوى تأليفها والابتكار فيها، وينقد التكرار القبيح في الألفاظ والمعاني، كما كان ينقد اضطراب القوافي وثقل الألفاظ.
- كان "الرافعي" عنيفًا على "طه حسين"، كما كان عنيفًا على "العقاد"، وأخذ عليه بعض العبارات القاسية التي كتبها للعقاد في كتابه (على السفود)، التي كان من الأولى أن يسمو قلم "الرافعي" عنها وعن الخوض فيها، ولنقترب أكثر من منهجه في النقد ونقول: كانت للرافعي غيرة واعتداد بالنفس عُرفت من خلال نقده اللاذع، وكان فيه حرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، وكان يؤمن بذلك، فكان بذلك ناقدًا حاد اللسان يغار على أدبه منها كما يغار على عرضه، فكان يضرب كل مَن تطاول عليه، ولا يخشى في الله لومه لائم".
فهو يقول في مقدمة كتابه (تحت راية القرآن)- مبينًا منهجه-: "إننا في هذا الكتاب نعمل على إسقاط فكرة خطرة، وإذ هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدًا فيمن لا نعرفه ونحن نرد على هذا".
"الرافعي" بهذه الكلمات الموجزة قد حدد منهجه في النقد ببساطة ووضوح، فهل هناك منهج نقدي أرقى من هذا المنهج؟!
نخلص إلى أن النقد عند "الرافعي" افترض أصالة الفكرة واللغة عن المبدع والسير حسب الأصول النقدية الصحيحة التي تزرع القاريء عند النقد.. والرافعي في كل هذا إنما ينقد من خلال السمة الإسلامية التي تسيطر عليه.
معارك الرافعي الأدبية
لقد عاش "الرافعي" في عصر كثر فيه أدعياء التجديد ونبذ القديم، بل وقف الرافعي وحده في الميدان مدافعًا، لا يستند إلا على ربه، وما وهبه من علم، فكان يبارز الكثير منهم في ساحة الصحف والمجلات والمطبوعات برغم أنه كان يعيش في (طنطا) بعيدًا عن أضواء الصحافة والمجلات الكثيرة التي كان يسيطر عليها أمثال هؤلاء، فكان يعتمد على مرتبه البسيط الذي كان يتقاضاه من المحكمة الأهلية، التي كان يعمل بها؛ لذلك نجده لم ينافق ولم يراءِ في معاركه، لأن ضميره ودينه يفرضان عليه خوض هذه المعارك.
ومن هنا كانت المعارك التي خاضها "الرافعي" مع "طه حسين" و"العقاد"، و"سلامة موسى" و"زكي مبارك" و"عبد الله عفيفي"، وإن كانت معاركه مع العقاد أشهر هذه المعارك، إلا أن معظمها كانت من منطلق إيمانه بمنهجه وطريقته في الإبداع والنقد، والاحتماء بالتراث العربي الأصيل.. كما أسس الرافعي بتلك المعارك منهجه النقدي من خلال أبرز كتبه، وهي: (تحت راية القرآن)، و(على السفور).
أما أبرز معارك الرافعي العلمية، التي يتعين الإشارة إليها بشيء من التفصيل بعد أن أهال عليها الزمن تراب النسيان، بل إن الكثيرين اليوم لا يحيطون بتفاصيلها.. وبخاصة ما كان بينه وبين كل من الأديبين الراحلين الدكتور "طه حسين" والأستاذ "عباس محمود العقاد" على التوالي.
* معركة "الرافعي" مع "طه حسين":
بدأت المعركة حينما أصدر الرافعي كتابه (تاريخ آداب العرب)، وانتقده "طه حسين"، الذي كان لا يزال طالب علم في ذلك الحين في عام 1912م بمقال نشره بالجريدة، مبديًا أنه لم يفهم من هذا الكتاب حرفًا واحدًا.
وأسرها الرافعي في نفسه، وإن كان "طه حسين" قد عاد بعد ذلك عام 1926م فقال عن ذات الكتاب: إن "الرافعي" قد فطن في كتابه لما يمكن أن يكون عليه تأثير القصص وانتحال الشعر عند القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة"!
وبدأت المعركة في الاحتدام حينما أصدر الرافعي كتابه (رسائل الأحزان) واستقبله "طه حسين" بتقديم شديد، انتهى فيه للقول: "إن كل جملة من هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورًا مؤلمًا"!
ورد عليه "الرافعي" بجريدة "السياسي "ساخرًا بقوله: "لقد كتبت رسائل الأحزان في ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهرًا، وأنت فارغ لهذا العمل، وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدع لي من النشاط ولا من الوقت إلا قليلاً .. هأنذا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها".
واشتدت المعركة وزادت عنفًا حينما أصدر الدكتور "طه حسين" كتابه "الشعر الجاهلي"، وأحدث الضجة المعروفة، وانبرى "الرافعي" يندد بما جاء بهذا الكتاب وفنده فصلاً فصلاً، حتى اجتمع له من ذلك كله كتاب أطلق عليه عنوان (تحت راية القرآن)، الذي كان حديث الناس في تلك الفترة (عام 1926م).
* معركة الرافعي مع العقاد:
بدأت حينما اتهم "العقادُ" "الرافعي"َّ بأنه واضع رسالة الزعيم "سعد زغلول" في تقريظ كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) بقوله إن قول "سعد زغلول" عن الكتاب إنه (تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم) ليروج الكتاب بين القراء .. هذه العبارة من اختراع الرافعي وليست من يراع الزعيم "سعد زغلول"!
ويدافع الرافعي عن هذا الاتهام بقوله للمرحوم محمد سعيد العريان: "وهل تظن أن قوة في الأرض تستطيع أن تسخر سعدًا لقبول ما قال، لولا أن هذا اعتقاده".
وأرجع "الرافعي" السبب في اتهام "العقاد" له إلى أن العقاد كان هو كاتب الوفد الأول، وأن سعدًا كان قد أطلق عليه لقب (جبار القلم)، ولا يقبل "العقاد" منافسًا له في حب "سعد" وإيثاره له.
وقد أخذت المعركة طابعها العنيف حينما شن "العقاد" حملة شعواء عليه في كتابه (الديوان) سنة 1921م، وتناول العقاد فيه أدب "الرافعي" بحملة شعواء جرده فيها من كل ميزة .. وشمر "الرافعي" عن ساعده على إثرها وتناول العقاد بسلسلة من المقالات تحت عنوان (على السفود) بأسلوب حاد كان أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد الموضوعي الجاد.. والسفود في اللغة هو الحديدة التى يُشوى بها اللحم، ويسميها العامة السيخ كما يقول "الرافعي" في شرح العنوان.
وبعد أن هدات الخصومة بينهما بسنوات نشر المرحوم "الزيات" صاحب "الرسالة" رأي "الرافعي" الحقيقي في العقاد الذي يشتمل على استنكار الرافعي نفسه للأسلوب الناري الذي اتبعه وفاءً إلى التسامح بعد بضعة عشر عامًا من خمود المعركة على حد تعبير الأستاذ كمال النجمي.
فقد قال "الزيات" للرافعي وهو يحاوره: ياصاحب (تاريخ آداب العرب) .. هل تستطيع أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتجمل لنا رأيك الخالص في العقاد"؟
فأجاب الرافعي: "أقول الحق، أمَّا العقاد أحترمه وأكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره، ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب .. وأحترمه لأنه أديب قد استمسك آداة الأدب وباحث قد استكمل عدة البحث فصَّير عمره على القراءة والكتابة فلا ينفك كتاب وقلم".
حينما اطلع "العقاد" في الرسالة على ما تقدم من رأي "الرافعي"، وفي أدبه رد على ذلك بعد رحيل "الرافعي" عن عالمنا بثلاث سنوات بقوله: "إني كتبت عن "الرافعي" مرات أن له أسلوبًا جزلاً، وأن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين".
أما المعركة الثالثة في الأهمية فهي تلك التي قال فيها بعضهم: إن كلام العرب في باب (الحكم) أن عبارة (القتل أنفي للقتل) أبلغ من الآية القرآنية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 179)؛ إذ لم ينم "الرافعي" ليلته، بعد أن لفت الأستاذ الكبير "محمود محمد شاكر" برسالة بتوقيع م.م.ش نظره إلى هذا الأمر بقوله: "ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا، لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها"؟
واستطاع الرافعي ببلاغته أن يقوض هذا الزعم من أساسه بمقالاته: (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة)، التي عدَّد فيها وجوه الإعجاز في الآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179).
إنتاجه الأدبي والفكري
استطاع "الرافعي" خلال فترة حياته الأدبية التي تربو على خمس وثلاثين سنة إنتاج مجموعة كبيرة ومهمة من الدواوين، والكتب أصبحت علامات مميزة في تاريخ الأدب العربي.
(1) دواوينه الشعرية:
كان الرافعي شاعرًا مطبوعًا بدأ قرض الشعر وهو في العشرين، وطبع الجزء الأول من ديوانه في عام 1903م، وهو بعد لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وقد قدّم له بمقدمة بارعة فصّل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته، وتألق نجم الرافعي الشاعر بعد الجزء الأول واستطاع بغير عناء أن يلفت نظر أدباء عصره، واستمر على دأبه فأصدر الجزأين الثاني والثالث من ديوانه، وبعد فترة أصدر ديوان (النظرات)، ولقى "الرافعي" حفاوة بالغة من علماء العربية وأدبائها قلّ نظيرها، حتى كتب إليه الإمام "محمد عبده" قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل، وأن يقيمك في الآواخر مقام حسان في الأوائل".
(2) كتبه النثرية:
قلّ اهتمام "الرافعي" بالشعر عما كان في مبتدئه؛ وذلك لأن القوالب الشعرية تضيق عن شعوره الذي يعبر عن خلجات نفسه وخطرات قلبه ووحي وجدانه ووثبات فكره، فنزع إلى النثر محاولاً إعادة الجملة القرآنية إلى مكانها مما يكتب الكتاب والنشء والأدباء، أيقن أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء جيله، وأن له غاية هو عليها أقدر، فجعل هدفه الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسًا يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وينفخ في هذه اللغة روحًا من روحه، يردّها إلى مكانها، ويرد عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ، ولا ينال منها نائل، ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف دخيلته، فكتب مجموعة من الكتب تعبر عن هذه الأغراض عُدت من عيون الأدب في مطلع هذا القرن، وأهمها:
1- تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد: وهو كتاب وقفه- كما يقول- على تبيان غلطات المجددين، الذين يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، وهو في الأصل مجموعة مقالات كان ينشرها في الصحف في أعقاب خلافه مع "طه حسين"، الذي احتل رده على كتاب "في الشعر الجاهلي" معظم صفحات الكتاب.
2- وحي القلم: وهو مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية المستوحاة من الحياة الاجتماعية المعاصرة، والقصص، والتاريخ الإسلامي المتناثرة في العديد من المجلات المصرية المشهورة في مطلع القرن الماضي، مثل: الرسالة، والمؤيد والبلاغ والمقتطف والسياسة وغيرها.
3- تاريخ آداب العرب: وهو كتاب في ثلاثة أجزاء؛ الأول: في أبواب الأدب، والرواية، والرواة، والشواهد الشعرية، والثاني: في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأما الثالث: فقد انتقل "الرافعي" إلى رحمة ربه قبل أن يرى النور؛ فتولى تلميذه "محمد سعيد العريان" إخراجه، غير أنه ناقص عن المنهج الذي خطه الرافعي له في مقدمة الجزء الأول.
4- حديث القمر: هو ثاني كتبه النثرية، وقد أنشأه بعد عودته من رحلة إلى لبنان عام 1912م، عرف فيها شاعرة من شاعرات لبنان (مي زيادة)، وكان بين قلبيهما حديث طويل، فلما عاد من رحلته أراد أن يقول، فكان "حديث القمر".
5- كتاب المساكين: وهو كتاب قدّم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، وهو فصول شتى ليس له وحدة تربطها سوى أنها صور من الآلام الإنسانية الكثيرة الألوان المتعددة الظلال. وقد أسند الكلام فيه إلى الشيخ "علي"، الذي يصفه "الرافعي" بأنه: "الجبل الباذخ الأشم في هذه الإنسانية التي يتخبطها الفقر بأذاه"، وقد لقي هذا الكتاب احتفالاً كبيرًا من أهل الأدب، حتى قال عنه "أحمد زكي" باشا: "لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته".
6- رسائل الأحزان: من روائع الرافعي الثلاثة، التي هي نفحات الحب التي تملكت قلبه وإشراقات روحه، وقد كانت لوعة القطيعة ومرارتها أوحت إليه برسائل الأحزان التي يقول فيها: "هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الأحزان انتهت، ثم لأنها من لسان كان سلمًا يترجم عن قلب كان حربًا؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة، وكان كالحياة ماضيًا إلى قبر".
7- السحاب الأحمر: وقد جاء بعد رسائل الأحزان، وهو يتمحور حول فلسفة البغض، وطيش القلب، ولؤم المرأة.
8- أوراق الورد رسائله ورسائلها: وهو طائفة من خواطر النفس المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه "الرافعي" ليصف حالةً من حالاته، ويثبت تاريخًا من تاريخه.. كانت رسائل يناجي بها محبوبته في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه، أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام.
9- على السَّفُّود: وهو كتاب لم يكتب عليه اسم "الرافعي"؛ وإنما رمز إليه بعبارة إمام من أئمة الأدب العربي، وهو عبارة عن مجموعة مقالات في نقد بعض نتاج العقاد الأدبي.
لماذا يحاولون إهالة التراب على أدبه؟
حاول الكثيرون ممن لهم مصالح في انسلاخ الأمة العربية من جلدها إهالة التراب على هذا الرجل وعلى أدبه؛ لأنه آثر الأصالة والإسلام والمروءة، ولأنه لم ينافق في أدبه ولم يداهن، ولم يبتغ إلا ارتقاء هذا الدين واللغة التي أنزل بها.
ولا نكتب عن "الرافعي" من منطلق رافعي، لكنها تذكرة لهذه الأمة للمحافظة على مكانة الأدباء فيها، ولا ينكر وجود الشمس إلا من بعينيه رمد.. فأي إنصاف وأي عدل أن يُهمل مثل هذا الرجل، وأن نهيل عليه التراب.(1/179)
فيا من تغارون على العربية والإسلام، إن هناك أديبًا عاش مدافعًا عن العربية والإسلام طيلة حياته، ولم يجد من أمته إلا التجاهل والتناسي غمطًا لحق، ومحاولة لطمس معالم أديب اسمه "مصطفي صادق الرافعي".
* أهم المراجع:
1- الرافعي ومي: عبدالسلام هاشم.
2- حياة الرافعي: سعيد العريان.
3- تاريخ آداب العرب: الرافعي.
4- رسائل الرافعي: الرافعي.
5- وحي القلم: الرافعي.
6- أوراق الورد: الرافعي.
7- نشأة النقد في مصر: عز الدين الأمين.
ـــــــــــــــ(1/180)
عاشق الحرية الشاعر/ هاشم الرفاعي
هشام الرفاعى
• توطئة
• المولد والنشأة
• هاشم الرفاعي وأغراض شعره
• هاشم الرفاعي وبعض ما قيل عن شعره
• قصائد مختارة
• المراجع
• توطئة:
ـ لقد أخرجت الحركة الإسلامية في العصر الحديث عددًا كبيرًا من الشعراء الأفذاذ الذين حملوا على عاتقهم همَّ الدعوة لإحياء أمة الإسلام وعودة المجد السليب.
ولقد شهد لهم الجميع- من نقاد وأدباء وشعراء- بشاعرية كبيرة تفوق أمثالهم، استطاعوا من خلالها الدعوة إلى مبادئ الإسلام وعظمته، وحثِّ المسلمين على البذل من أجل نهضة الإسلام.
وكان من هؤلاء الشعراء شاعرٌ فذٌ عظيمٌ، وهو شهيد الشباب وعاشق الحرية هاشم الرفاعي الذي لم يمهله القدر الوقت الكافي؛ ليبدي لنا كل ما عنده، فجاءت وفاته وهو دون الخامسة والعشرين، إلا أن هذا لم يمنعه من أن يقدم لنا روائع شعرية أنبأت عن قلب شاعر مرهف الحس، مالكٍ لأدوات فنه، مخلصٍ لدينه ولأمته، حتى قال عنه بعضهم: "لو عاش هاشم الرفاعي إلى سن الثلاثين لكان أشعر أهل زمانه".
• المولد والنشأة:
في قرية "إنشاص الرمل" في محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية كان مولده في منتصف مارس عام 1935م. وهو "السيد بن جامع بن هاشم بن مصطفى الرفاعي"، ينتهي نسبه إلى الإمام أبي العباس أحمد الرفاعي الكبير- مؤسس الطريقة الرفاعية، ووالده هو الشيخ "جامع الرفاعي"، ورث ريادة الطريقة عن أبيه عن جده، وكان شاعرًا متصوفًا، وقد تُوفي عام 1943م، وكان الشاعر في الرابعة عشرة من عمره، وقد اشتهر الشاعر باسم جده- هاشم الرفاعي- تيمنًا به، فقد كان أحد العلماء الفضلاء من أعلام التصوف السني.
حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة في مكتب الشيخ "محمد عثمان"، ثم التحق الشاعر في صباه بالتعليم المدرسي، ولكنه تركه وهو على أبواب الشهادة الابتدائية "نظام قديم"، ثم التحق عام 1947 بمعهد الزقازيق الديني، وقد أمضى به الشاعر تسع سنوات كاملة من عام 1947 إلى عام 1956م.
ثم التحق الشاعر بكلية دار العلوم، ولكنه لم يتم الدراسة بها، حيث تُوفي قبل التخرج، وكان ذلك يوم الأربعاء الموافق الأول من شهر يوليو 1959م وهو في سن الرابعة والعشرين، وسط ذهول من أهل قريته وأهله وكل من عرفوه.
• هاشم الرفاعي.. وأغراض شعره
بالرغم من حداثة سن الشاعر "هاشم الرفاعي"، وبالرغم من أن حياته الشعرية لم تزد على العشر سنوات إلا أن تنوعًا كبيرًا في أغراضه الشعرية يُوحي بموهبة شعرية غير عادية، فالمتصفح لديوان "هاشم الرفاعي" يجد نفسه أمام ألوان مختلفة من الشعر ما بين المديح والرثاء والوصف والشعر الحماسي وأشعار المناسبات....إلخ.
ويمكننا أن نتناول بعضًا من هذه الأغراض من خلال بعض النماذج الشعرية من شعر هاشم الرفاعي:
* كانت بداية الشاعر مع الشعر الحماسي حيث نجده في أول قصيدة كتبها- وهي قصيدة "فلسطين"- والتي علق عليها قائلاً (باكورة الشعر) يحمِّس فيها الشباب للجهاد فيقول:
آن الجهاد فأقدم أيها البطل وامسك حسامك واطعن قلب صهيونا
جاءوا يريدون تقسيمًا فقل لهم - والسيف يسطرهم- لن نقبل الهونا
* مصر الجريحة:
ومن شعره الوطني قصيدة كتبها عام 1951، وهي قصيدة (مصر الجريحة) فنجده يشبه مصر بالحسناء التي أنهكها الأنين يفيض قلبها أسىً، وتذرف عيناها الدموع، تندب مجدها الضائع وعزتها المهدرة، ويشير فيها إلى حركة "الإخوان المسلمين" وما تحمَّلوه من عذاب في هذه الفترة العصيبة.
يقول فيها:
ما راعني في الليل إلا أن أرى شبحًا بأثواب الدجى يتلفَّع
يمشي الهويني شاكيًا فكأنه صبٌ بساعات الرحيل يودع
فدنوت منه محاذرًا فإذا به حسناء أنهكها الأنين الموجع
فهتفت ما بال الفتاة أرى لها قلبًا يفيض أسىً وعينًا تدفع
من أنت يا فتاة؟ قالت يا فتى إني أنا مصر التي تتوجع
أبكي على مجدي وأندب عزتي هذان فقدْهُما مصاب مجذع
إلى قوله:
ناديتها: نفسي فداؤك لا البكا يجدي ولا طول التفجع ينفع
إن كان ساءك أن أرضك قد غدت مرعىً به ذئب الغواية يرتع
فهنا جند قام يسعى جاهدًا في الدين يقتلع الفساد وينزع
لله در القوم إن نفوسهم لتشع بالحق اليقين وتنبع
فتحملوا ألم الأذى ببسالة وأمضهم كأس العذاب المنزع
ففتى العقيدة مثخن بجراحه والشيخ يضرب بالسياط ويقرع
* مناسبات:
ولم يكن الشاعر يترك مناسبة إلا ويكون له فيها شعر، نجده مثلاً في الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول- صلى الله عليه وسلم- يلقي قصيدة بعنوان (الذكرى العطرة) عام 1951م يقول فيها:
حتى أضاءت بمولود لآمنة أرجاء مكة وانجابت دياجيها
ومن تتبع تاريخ الهدى رأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
ففي البطولة يلقى ما يمجدها وفي الرجولة يلقى ما يزكيها
لما أتوا كعبةً بالبيت واجتمعوا كي يودعوا الحجر الأزكى مبانيها
وأوشكت أن تقوم الحرب بينهم والويل للقوم إن هبت سوافيها
فأرسل الله حقنًا للدماء فتىً أنعم بحكمته إذ كان يبديها!!!
فما مضى عنه فرد كان مكتئبًا إلا مضى مطمئن النفس راضيها
كما نجده يبدأ قصيدته (عيد الهجرة) 1952م بقوله:
عيد على الوادي أتى مختالاً يحكي الربيع بشاشة وجمالا
هو يوم ذكرى من بصادق عزمهم قهروا فسادًا في الورى وضلالا
إنا لنذكر "بالمحرم" فتيةً بكفاحهم ضربوا لنا الأمثالا
خرجو "ليثرب" هاربين بدينهم قد فارقوا أصحابهم والآلا
ولنصرة الحق الذي طلعوا به بذلوا النفوس وقدموا الآجالا
* ديوان جراح مصر:
يحتوي على عشر قصائد وفيها تصوير دقيق للمأساة التي عاشها الشاعر وعاشتها جموع المطالبين بحرية التعبير عن الرأي في الفترة ما بين عامي 1954 - 1957 فجاءت هذه القصائد تحت ضغط نفسي وعصبي رهيبين أقفلا كاهل الشاعر، فأخرج أروع ما لديه، وكانت هذه القصائد هي:
مصر بين احتلالَيْه- جلاد الكنانة- في الربيع- زفرة- جمال يعود من باندونج مع الثورة في ربقة القيد- سقوط ركن من أركان الطغيان- ذكريات عام ضائع- جمال ... رئيس الجمهورية- نواب الأمة)
* حول قيود اللغة العربية:
عندما دعا "يوسف السباعي" إلى استخدام العامية- بادعاء أن اللغة العربية بها قيود تحول بين الأديب والتعبير- قدم لنا الشاعر قصيدة يدافع فيها عن اللغة العربية بعنوان "حول قيود اللغة العربية" يقول فيها:
أشعلت حربًا لم تضع أوزارها تركت بكل صحيفة آثارها
وحملة حملتك الجريئة فانبرت أقلام من خاضوا وراءك نارها
ورميت أخت الضاد منك بطعنة كادت تدك قويةً أسوارها
مجبًا؟ أتحيون التراث بقتلها وترمون بهدمها منهارها
ورأيت قومًا يرهقون عيوبها طلبًا وراحوا يطمسون نضارها
إلى أن يقول:
رفقًا بعابرة القرون ورحمة أتريد منها أن تفارق دارها
إني أعيذك أن تكون- إذا قضت يومًا وواراها الثرى- جزارها
* رماد الفضيلة:
ـ يدعو الشاعر إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق ويحارب الفساد، فنجده يخاطب فتيات الجامعة- اللاتي خرجن عن الأعراف الإسلامية- فيقول في قصيدته (رماد الفضيلة) عام 1957:
لا تمدي لصيده أحبولة من تثنٍّ ومقلة مكحولة
إنه ههنا أخ وزميل أنت أخت له وأنت زميلة
نحن في منهل للعلوم ولسنا في مباراة فتنة مصقولة
فعلام الشفاه ترمي بنار خلفت تحتها رماد الفضيلة
- وينتقد الشباب المستهتر فيقول:
وفتاك الذي جلست إليه جلسات قصيرة وطويلة
تافه في الشباب حين نراه لا ندري فيه ذرة من رجولة
من يظن المجون خفة ظل فهو يبدي خلاعة مرذولة
يطلق النكتة السخيفة من فيه ويزجي العبارة المعسولة
* أغنية أم:
- يذكِّر الشاعر بمحنة الأحرار والإسلاميين في كل مكان في قصيدة بعنوان (أغنية أم) مارس 1959، متبعًا فيها أسلوب التورية الذي كان يلجأ إليه أحيانًا، يقول فيها على لسان من فقدت زوجها، تهدهد صغيرها، وترضعه وصية لها مشوبة بآلام مع ابنها، فيقول:
نم يا صغيري إن هذا المهد يحرسه الرجاء
من مقلة سهرت لآلام تثور مع المساء
فأصوغها لحنًا مقاطعه تأجج في الدماء
أشدوا بأغنيتي الحزينة، ثم يغلبني البكاء
وأمد كفي للسماء لاستحث خطى السماء
نم لا تشاركني المرارة والمحن
فلسوف أرضعك الجراح مع اللبن
حتى أنال على يديك من وهبت لها الحياة
يا من رأى الدنيا ولكن لن يرى فيها أباه
• هاشم الرفاعي... وبعض ما قيل عن شعره
* في 27 أكتوبر عام 1959م أقام المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية حفل تأبين بجامعة القاهرة، وقدم للحفل السيد/ يوسف السباعي بقوله:
"سمعته ينشد شعره مرة واحدة، فأخذت به وأحسست أن الله منحنا موهبة فذة، ولم أشك في أن صوته سيرتفع بيننا في كل حفل، ولكن القدر أبى إلا أن يكون هو نفسه موضوع الحديث في هذا الحفل، وأبى علينا إلا أن نسمع عنه ولا نسمعه، وألا يعلو بيننا صوته إلا صدىً وذكريات".
* وفي كلمته قال الأستاذ /كمال الدين حسين- وزير التربية والتعليم ورئيس المجلس-:
"إن صورة "هاشم الرفاعي" باقية هنا... وقصته باقية في كل مكان وفي كل أرض وفي كل نفس؛ لأنها قصة الشاب المؤمن بدينه وعروبته ووطنه المنطلق في إخلاص يرسل النغم، ولأنها قصة الشاب الذي يرتل الأناشيد في حب الوطن والعقيدة".
ثم يقول:
"ستبقى قصة "هاشم الرفاعي"، وستبقى روحه تدفع الشباب إلى الفداء والبذل مترسمين خطى جريئة شجاعة مؤمنة....".
وقال الشاعر شفيق جبري- من سوريا- في رثائه لهاشم الرفاعي
يا زهرة لو أجهلت ملأت نوافحها الرجاب
لهفي عليك يطول على الحمى منك الغياب؟
لم أنس شعرًا في دمشق كأنه الصدق اللباب
فيه الفتوة والرجولة والدعاء إلى الوثاب
إيمانه ملء القلوب وصدقه ملء العباب
* وقال الشاعر الكبير "علي الجندي"- عميد كلية دار العلوم- عن هاشم الرفاعي:
لهف نفسي على الصبا المنضور لغة الغدر في ظلام القبور
لهف نفسي على القريض المصفى صوحت زهرة عوادي الشرور
بالمكنى في شعره بابن أوس والمسمى بالبحتري الصغير
ولدي هاشم وما كنت إلا ولدي في وفائك المأثور
جدك السبط وهو أكرم سبط لقي الله بالنجيع الطهور
لم يحصنه من كلاب الأعادي أنه بضعة بضيعة البشير النذير
فمثل الرضوان في الخلد وأنعم بين ولدانها وبين الحور
* وقال د/ أحمد هيكل- أستاذ الشعر ووزير الثقافة الأسبق- عن هاشم الرفاعي:
فقده جل أن يكون مصابًا فلقد كان محنة وعذابا
فلقد كان فرحة تفهم "الدار" رجاءً وبهجةً وشبابا
ولقد كان للعروبة نايًا يتغنى بمجدها خلابا
ولقد كان وهو مثل بنينا إن شدا بزنًا فنحني الرقابا
* وقال عنه الأستاذ/ ذكي المهندس- عميد كلية دار العلوم الأسبق، وعضو مجمع اللغة العربية الأسبق-:
"لو عاش هاشم الرفاعي إلى سن الثلاثين لكان أشعر أهل زمانه".
• قصائد مختارة:
1- الشعر والحياة (1959)
ألوان الحياة النابضة في الريف، تصورها هذه القصيدة الطويلة التي التزم فيها الشاعر قافية حصية، أسلس له قيادها ليدحض بها دعوى القائلين: إن الشعر في بنائه العمودي يحول دون حرية التعبير ودقة التصوير.
(القصيدة) الشعر والحياة
في ربوع ظلالها فتانة يبسط السحر فوقها ألوانه
صادح الطير في رباها تُغني وشدا للخميلة الفينانة
وجرى الماء بالحياة نماء طرز العشب والندى غدرانه
ونسيم مؤرج قد تهادى في مجون يُداعب السنديانة
بين تلك الربا وهذي المغاني والرؤى والمفاتن العريانة
قد عرفت الوجود طفلاً بريئًا حظه منه أن يمص بنانه
ورأيت الدنا بعيني صبي لم يكن بعد حاملاً أحزانه
يتبع الرفقة الصغار للهو قد أعدوا في بيدر ميدانه
ويجدُّون في اصطياد فراش طاف بالحق مسرعًا طيرانه
***
أيها الهاتفون بالشعر حرًا ولكم دعوة به طنانة
قد أتيتم له بنهج غريب يعرض اليوم بينكم سلطانه
وهجرتم توافه المتنبي وأبنتم بعلمكم نقانه
وتشدقتم بزخرف قول عن مفاهيم نمقتها الرطانة
ثم قلتم من الحياة كلامًا ومن الواقع استمد كيانه
ليس شعرًا وإنما هو شيء فوقه الشعر رتبة ومكانة
ذهبت عنه روعة للحون يرهف الدهر عندها آذانه
وخلا من أصالة وجلال بهما أظهر الزمان افتتانه
إنه أبصر الحياة سقيمًا حاملاً في يمينه أكفانه
أيعيش الوليد والداء يمشي بين جنبيه ناشرًا سرطانه
إنما الشعر ما تدفق عذبًا في بناءٍ فأحكموا بنيانه
أسمعونا إذا استطعتم قريضًا لا خيالاتٍ جالس في حانة
فإذا شقت القيود عليكم فدعوه لمن يصوغ جماله
إنني ما رأيت في الروض يومًا ما غرابًا مزاحمًا كروانة
***
أمن الفنِّ أن يُساق كلام ساذج باسم نهضة شيطانة؟
طالعوا النور في تراث القدامى وانظروا كيف أبدعوا تيجانه
سجلوا الواقع المراد ولكن جعلوا الفنَّ عاليًا ترجمانه
رسموا صورة الحياة لديهم في جلاء بريشة فنانه
لا أُنادي بأن تحاكوا زهيرًا فيه أو تقلدوا حسانه
راح عهد الوقوف بالطلل الباكي فلا تذكروا به سكانه
جددوا ما استطعمتوا في المعاني وقفوا لا تحطموا أوزانه
ليست الفكرة الجديدة تأبى عرضها في جزالة ورصانة
ألبسوها من القوافي خلودًا ومن الوزن قوة ومتانة
لا تحيطوا تراثنا بلهيب في غد تكره العيون دخانه
كل نهج أتى ليستر عجزًا نقيه ونزدري بهتانه
رب إني على القديم مقيم وأعد الخلاص منه خيانة
2- شباب الإسلام
ـ ألقاها الشاعر في فبراير 1959م في ندوة بجمعية الشبان المسلمين لمناقشة انحراف الشباب، يسطر فيها أمجاد أمة الإسلام، ومفاخر الأفذاذ الأوائل، ويدعو الشباب للعودة إلى تاريخ السابقين؛ من أجل إعادة بناء المجتمع المسلم القوي المتحضر فيقول:
(القصيدة)
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا
حملناها سيوفًا لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يومًا رأيت الهول والفتح المبينا
وكنا حين يرمينا أناس تؤدبهم أباة قادرينا
تفيض قلوبنا بالهدى بأسًا فما نغضي عن الظلم الجفونا
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وألم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟
***
ترى هل يرجع الماضي؟ فإني أذوب لذلك الماضي حنينا
بنينا حقبة في الأرض ملكًا يُدعمه شباب طامحونا
شباب ذللوا سُبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتًا كريمًا طاب في الدنيا غصونا
هم وردوا الحياض مباركاتٍ فسالت عندهم ماءً معينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كُماةً يدكون المعاقل والحصونا
وإن جنَّ المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
شبابٌ لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا
ولم تشهدهم الأقداح يومًا وقد ملأوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ ولكن للعلا صيغت لحونًا
وقد دانوا بأعظمهم نضالاً وعلمًا، لا بأجرئهم عيونا!
فيتحدون أخلافًا عذابًا ويأتلفون مجتمعًا رزينا
فما عرفوا الخلاعة في بناتٍ ولا عرفوا التخنث في بنينا
ولم يتشدقوا بقشور علم ولم يتقلدوا في الملحدينا
ولم يتبجحوا في كل أمر خطير كي يقال مثقفونا
***
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابًا مخلصًا حرًا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تُبنى فيأبى أن يُقاد أو يهونا
دعوني من أمانٍ كاذباتٍ فلم أجد المنى إلا ظنونا
وهاتوا لي من الإيمان نورًا وقروا بين جنبي اليقينا
أمد يدي فأنتزع الرواسي وأبن المجد مؤتلقًا مكينا
• المراجع:
* ديوان هاشم الرفاعي. جمع وترتيب / محمد حسن بديغش.
* ديوان هاشم الرفاعي (الأعمال الكاملة) جمع وترتيب/ عبد الرحيم جامع الرفاعي.
ـــــــــــــــ(1/181)
الحافظ العراقي
هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الرازياني العراقي الأصل المهراني المصري المولد الشافعي المذهب . كنيته : أبو الفضل ، ويلقّب بـ(زين الدين).وُلِدَ في اليوم الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ( 725 ه)
أسرته :
أقام أسلاف الحافظ العراقي في قرية رازيان - من أعمال إربل - إلى أن انتقل والده وهو صغير مع بعض أقربائه إلى مصر ، إذ استقر فيها وتزوج من امرأة
مصرية ولدت له الحافظ العراقي . وكانت أسرته ممن عُرفوا بالزهد والصلاح والتقوى، وقد كان لأسلافه مناقب ومفاخر ، وكانت والدته ممن اشتهرن بالاجتهاد في العبادات والقربات مع الصبر والقناعة .
أمّا والدُه فقد اختصَّ - منذ قدومه مصر - بخدمة الصالحين ، ولعلَّ من أبرز الذين اختصَّ والده بخدمتهم الشيخ القناوي . ومن ثَمَّ ولد للمتَرجَمِ ابنٌ أسماه : أحمد وكنَّاه : أبا زرعة ، ولقَّبه : بولي الدين ، وكذلك بنت تدعى : خديجة ، صاهره عليها : الحافظ نور الدين الهيثمي ورزق منها بأولاد ، وأشارت بعض المصادر أنَّ له ابنتين أخريين : جويرية وزينب .
نشأته :
وُلِد الحافظ العراقي - كما سبق - في مصر ، وحمله والده صغيراً إلى الشيخ القناوي ؛ ليباركه ، إذ كان الشيخ هو البشير بولادة الحافظ ، وهو الذي سمَّاه أيضاً ؛ ولكنَّ الوالد لَمْ يقم طويلاً مَعَ ولده ، إذ إنَّ يدَ المنونِ تخطَّفته والطفل لَمْ يزل بَعْد طريَّ العود ، غضَّ البنية لَمْ يُكمل الثالثة من عمره ، وَلَمْ نقف عَلَى ذكر لِمَن كفله بَعْدَ رحيل والده ، والذي يغلب عَلَى ظننا أنّ الشَّيْخ القناوي هُوَ الَّذِي كفله وأسمعه ؛ وذلك لأن أقدم سماع وجد له كان سنة ( 737 ه) بمعرفة القناوي وكان يُتَوقّعُ أن يكون له حضور أو سماع من الشيخ ، إذ كان كثير التردد إليه سواء في حياة والده أو بعده ، وأصحاب الحديث عند الشيخ يسمعون منه ؛ لعلوِّ إسناده .
وحفظ الزينُ القرآنَ الكريمَ والتنبيه وأكثر الحاوي مَعَ بلوغه الثامنة من عمره ، واشتغل في بدء طلبه بدرس وتحصيل علم القراءات ، وَلَمْ يثنِ عزمه عَنْهَا إلا نصيحة شيخه العزّ بن جَمَاعَة ، إذ قَالَ لَهُ : (( إنَّهُ علم كَثِيْر التعب قليل الجدوى ، وأنت متوقد الذهن فاصرف همَّتك إِلَى الْحَدِيْث )) . وكان قد سبق له أن حضر دروس الفقه على ابن عدلان ولازم العماد محمد بن إسحاق البلبيسي ، وأخذ عن الشمس بن اللبان ، وجمال الدين الإسنوي الأصولَ وكان الأخير كثير الثناء على فهمه ، ويقول : (( إنَّ ذهنه صحيح لا يقبل الخطأ )) ، وكان الشيخ القناوي في سنة سبع وثلاثين - وهي السنة التي مات فيها - قد أسمعه على الأمير سنجر الجاولي ، والقاضي تقي الدين بن الأخنائي المالكي ، وغيرهما ممّن لم يكونوا من أصحاب العلوِّ .
ثمَّ ابتدأ الطلب بنفسه ، وكان قد سمع على عبد الرحيم بن شاهد الجيش وابن عبد الهادي وقرأ بنفسه على الشيخ شهاب الدين بن البابا ، وصرف همَّته إلى التخريج وكان كثير اللهج بتخريج أحاديث " الإحياء " وله من العمر -آنذاك- عشرون سنة وقد فاته إدراك العوالي مما يمكن لأترابه ومَن هو في مثل سنّه إدراكه ، ففاته يحيى بن المصري - آخر مَن روى حديث السِّلَفي عالياً بالإجازة - والكثير من أصحاب ابن عبد الدائم والنجيب بن العلاّق ، وكان أوّل مَن طلب عليه الحافظ علاء الدين بن التركماني في القاهرة وبه تخرّج وانتفع ، وأدرك بالقاهرة أبا الفتح الميدومي فأكثر عنه وهو من أعلى مشايخه إسناداً ، ولم يلقَ من أصحاب النجيب غيره ، ومن ناصر الدين محمد بن إسماعيل الأيوبي، ومن ثَمَّ شدَّ رحاله - على عادة أهل الحديث - إلى الشام قاصداً دمشق فدخلها سنة ( 754 ه) ، ثُمَّ عادَ إليها بعد ذلك سنة ( 758 ه) ، وثالثة في سنة ( 759 ه) ، ولم تقتصر رحلته الأخيرة على دمشق بل رحل إلى غالب مدن بلاد الشام ، ومنذ أول رحلة له سنة ( 754 ه) لم تخلُ سنة بعدها من الرحلة إمّا في الحديث وإمّا في الحجّ ، فسمع بمصر ابن عبد الهادي ، ومحمد بن علي القطرواني ، وبمكة أحمد بن قاسم الحرازي ، والفقيه خليل إمام المالكية بها ، وبالمدينة العفيف المطري ، وببيت المقدس العلائي ، وبالخليل خليل بن عيسى القيمري ، وبدمشق ابن الخباز ، وبصالحيتها ابن قيم الضيائية ، والشهاب المرداوي ، وبحلب سليمان بن إبراهيم بن المطوع ، والجمال إبراهيم بن الشهاب محمود في آخرين بهذه البلاد وغيرها كالإسكندرية ، وبعلبك ، وحماة ، وحمص ، وصفد ، وطرابلس ، وغزّة ، ونابلس ... تمام ستة وثلاثين مدينة . وهكذا أصبح الحديث ديدنه وأقبل عليه بكليته ، وتضلّع فيه رواية ودراية وصار المعول عليه في إيضاح مشكلاته وحلّ معضلاته ، واستقامت له الرئاسة فيه ، والتفرد بفنونه ، حتّى إنّ كثيراً من أشياخه كانوا يرجعون إليه ، وينقلون عنه - كما سيأتي - حتَّى قال ابن حجر : (( صار المنظور إليه في هذا الفن من زمن الشيخ جمال الدين الأسنائي ... وهلمَّ جرّاً ، ولم نرَ في هذا الفنّ أتقن منه ، وعليه تخرج غالب أهل عصره )) .
مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه :
مما تقدّم تبيّنت المكانة العلمية التي تبوّأها الحافظ العراقي ، والتي كانت من توفيق الله تعالى له ، إذ أعانه بسعة الاطلاع ، وجودة القريحة وصفاء الذهن وقوة الحفظ وسرعة الاستحضار ، فلم يكن أمام مَن عاصره إلاّ أن يخضع له سواء من شيوخه أو تلامذته . ولعلّ ما يزيد هذا الأمر وضوحاً عرض جملة من أقوال العلماء فيه ، من ذلك :
1. قال شيخه العزُّ بن جماعة : (( كلّ مَن يدّعي الحديث في الديار المصرية سواه فهو مدَّعٍ )) .
2. قال التقي بن رافع السلامي : (( ما في القاهرة مُحَدِّثٌ إلاّ هذا ، والقاضي عزّ الدين ابن جماعة )) ، فلمَّا بلغته وفاة العزّ قال : (( ما بقي الآن بالقاهرة مُحَدِّثٌ إلاّ الشيخ زين الدين العراقي )) .
3. قال ابن الجزري : (( حافظ الديار المصرية ومُحَدِّثُها وشيخها )) .
4. قال ابن ناصر الدين : (( الشيخ الإمام العلاّمة الأوحد ، شيخ العصر حافظ الوقت ... شيخ الْمُحَدِّثِيْن عَلَم الناقدين عُمْدَة المخرِّجِين )) .
5. قال ابن قاضي شهبة : (( الحافظ الكبير المفيد المتقن المحرّر الناقد ، محَدِّث الديار
المصرية ، ذو التصانيف المفيدة )) .
6. قال التقي الفاسي : (( الحافظ المعتمد ، ... ، وكان حافظاً متقناً عارفاً بفنون الحديث وبالفقه والعربية وغير ذلك ، ... ، وكان كثير الفضائل والمحاسن )) .
7. وقال ابن حجر : حافظ العصر ، وقال : (( الحافظ الكبير شيخنا الشهير )) .
8. وقال ابن تغري بردي : (( الحافظ ، ... شيخ الحديث بالديار المصرية ، ... وانتهت إليه رئاسة علم الحديث في زمانه )) .
9. وقال ابن فهد : (( الإمام الأوحد ، العلاّمة الحجة الحبر الناقد ، عمدة الأنام حافظ الإسلام ، فريد دهره ، ووحيد عصره ، من فاق بالحفظ والإتقان في زمانه ، وشهد له في التفرّد في فنه أئمة عصره وأوانه )) . وأطال النفس في الثناء عليه .
10. وقال السيوطي: (( الحافظ الإمام الكبير الشهير ، ... حافظ العصر )) .
ويبدو أنّ الأمر الأكثر إيضاحاً لمكانة الحافظ العراقي ، نقولات شيوخه عنه وعودتهم إليه ، والصدور عن رأيه ، وكانوا يكثرون من الثناء عليه ، ويصفونه بالمعرفة ، من أمثال السبكي والعلائي وابن جماعة وابن كثير والإسنوي .
ونقل الإسنوي عنه في " المهمات " وغيرها ، وترجم له في طبقاته ولم يترجم لأحد من الأحياء سواه ، وصرّح ابن كثير بالإفادة منه في تخريج بعض الشيء .
ومن بين الأمور التي توضّح مكانة الحافظ العراقي العلمية تلك المناصب التي تولاها ، والتي لا يمكن أن تسند إليه لولا اتفاق عصرييه على أولويته لها ، ومن بين ذلك :
تدريسه في العديد من مدارس مصر والقاهرة مثل : دار الحديث
الكاملية ، والظاهرية القديمة ، والقراسنقرية ، وجامع ابن
طولون والفاضلية ، وجاور مدةً بالحرمين .
كما أنّه تولّى قضاء المدينة المنورة ، والخطابة والإمامة فيها ، منذ الثاني عشر من جُمَادَى الأولى سنة ( 788 ه) ، حتى الثالث عشر من شوال سنة ( 791 ه) ، فكانت المدة ثلاث سنين وخمسة أشهر .
وفي سبيل جعل شخصية الحافظ العراقي بينة للعيان من جميع جوانبها ، ننقل ما زَبَّره قلم تلميذه وخِصِّيصه الحافظ ابن حجر في وصفه شيخه ، إذ قال في مجمعه :
(( كان الشيخ منور الشيبة ، جميل الصورة ، كثير الوقار ، نزر الكلام ، طارحاً للتكلف ، ضيق العيش ، شديد التوقي في الطهارة ، لطيف المزاج ، سليم الصدر ، كثير الحياء ، قلَّما يواجه أحداً بما يكرهه ولو آذاه ، متواضعاً منجمعاً ، حسن النادرة والفكاهة ، وقد لازمته مدّة فلم أره ترك قيام الليل ، بل صار له كالمألوف ، وإذا صلَّى الصبح استمر غالباً في مجلسه ، مستقبل القبلة ، تالياً ذاكراً إلى أن تطلع الشمس ، ويتطوع بصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر وستة شوال ، كثير التلاوة إذا ركب ... )) ، ثُمَّ ختم كلامه قائلاً : (( وليس العيان في ذلك كالخبر )) .
شيوخه :
عرفنا فيما مضى أنَّ الحافظ العراقي منذ أن أكبَّ على علم الحديث ؛ كان حريصاً على التلقي عن مشايخه ، وقد وفّرت له رحلاته المتواصلة سواء إلى الحج أو إلى بلاد الشام فرصة التنويع في فنون مشايخه والإكثار منهم .
والباحث في ترجمته وترجمة شيوخه يجد نفسه أمام حقيقة لا مناص عنها ، وهي أنَّ سمة الحديث كانت الطابع المميز لأولئك المشايخ ، مما أدَّى بالنتيجة إلى تنّوع معارف الحافظ العراقي وتضلّعه في فنون علوم الحديث ، فمنهم من كان ضليعاً بأسماء الرجال ، ومنهم من كان التخريج صناعته ، ومنهم من كان عارفاً بوفيات الرواة ، ومنهم من كانت في لغة الحديث براعته ... وهكذا . وهذا شيء نلمسه جلياً في شرحه هذا بجميع مباحثه ، وذلك من خلال استدراكاته وتعقباته وإيضاحاته والفوائد التي كان يطالعنا بها على مرِّ صفحات شرحه الحافل .
ومسألة استقصاء جميع مشايخه - هي من نافلة القول - فضلاً عن كونها شبه متعذرة سلفاً ، لاسيّما أنه لم يؤلف معجماً بأسماء مشايخه على غير عادة المحدّثين ، خلافاً لقول البرهان الحلبي من أنه خرّج لنفسه معجماً .
لذا نقتصر على أبرزهم ، مع التزامنا بعدم إطالة تراجمهم :
1 - الإمام الحافظ قاضي القضاة علي بن عثمان بن إبراهيم المارديني ، المشهور بـ (( ابن التركماني )) الحنفي ، مولده سنة ( 683 ه) ، وتوفي سنة ( 750 ه) ، له من التآليف : " الجوهر النقي في الرد على البيهقي ، وغيره .
2 - الشيخ المُسْنِد المعمر صدر الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي المصري ، ولد سنة ( 664 ه) ، وهو آخر من روى عن النجيب الحراني ، وابن العلاق ، وابن عزون ، وتوفي سنة ( 754 ه) .
3 - الإمام الحافظ العلاّمة علاء الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي ثم المقدسي ، ولد سنة ( 694 ه) ، وتوفي سنة ( 761 ه) ، له من التصانيف : " جامع التحصيل "، و " الوشي المعلم "، و " نظم الفرائد " وغيرها .
4 - الإمام الحافظ العلاّمة علاء الدين أبو عبد الله مغلطاي بن قُليج بن عبد الله البكجري الحكري الحنفي ، مولده سنة ( 689 ه) ، وقيل غيرها ، برع في فنون الحديث ، وتوفي سنة ( 762 ه) ، من تصانيفه : ترتيب كتاب بيان الوهم والإيهام وسمّاه : " منارة الإسلام " ، ورتّب المبهمات على أبواب الفقه ، وله شرح على صحيح البخاري ، وتعقّبات على المزي ، وغيرها .
5 - الإمام العلاّمة جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي ، شيخ الشافعية ، ولد سنة ( 704 ه) ، وتوفي سنة ( 777 ه) ، له من التصانيف : طبقات الشافعية ، والمهمات ، والتنقيح وغيرها .
تلامذته :
تبين مما تقدّم أنّ الحافظ العراقي بعد أن تبوأ مكان الصدارة في الحديث وعلومه وأصبح المعوّل عليه في فنونه بدأت أفواج طلاب الحديث تتقاطر نحوه ، ووفود الناهلين من معينه تتجه صوبه ، لاسيّما وقد أقرَّ له الجميع بالتفرد بالمعرفة في هذا الباب ، لذا كانت فرصة التتلمذ له شيئاً يعدّه الناس من المفاخر ، والطلبة من الحسنات التي لا تجود بها الأيام دوماً .
والأمر الآخر الذي يستدعي كثرة طلبة الحافظ العراقي كثرة مفرطة ، أنه أحيا سنة إملاء الحديث - على عادة المحدّثين - بعد أن كان درس عهدها منذ عهد ابن الصلاح فأملى مجالس أربت على الأربعمائة مجلس ، أتى فيها بفوائد ومستجدات (( وكان يمليها من حفظه متقنة مهذّبة محرّرة كثيرة الفوائد الحديثية )) على حد تعبير ابن حجر .
لذا فليس من المستغرب أن يبلغوا كثرة كاثرة يكاد يستعصي على الباحث
سردها ، إن لم نقل أنها استعصت فعلاً ، فضلاً عن ذكر تراجمهم ، ولكن القاعدة تقول : (( ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه )) وانسجاماً معها نعرّف تعريفاً موجزاً بخمسة من تلامذته كانوا بحقّ مفخرة أيامهم وهم :
1 - الإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ، مولده سنة ( 725 ه) ، وهو من أقران العراقي ، برع في الفقه ، وله مشاركة في باقي الفنون، توفي سنة ( 802 ه)، من تصانيفه : الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح،وغيره.
2 - الإمام الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي القاهري ، ولد سنة ( 735 ه) ، وهو في عداد أقرانه أيضاً ، ولكنه اختص به وسمع معه ، وتخرّج به ، وهو الذي كان يعلّمه كيفية التخريج ، ويقترح عليه مواضيعها ، ولازم الهيثمي خدمته ومصاحبته ، وصاهره فتزوج ابنة الحافظ العراقي ، توفي سنة ( 807 ه) ، من تصانيفه : مجمع الزوائد ، وبغية الباحث ، والمقصد العلي ، وكشف الأستار ، ومجمع البحرين ، وموارد الظمآن ، وغيرها .
3 - ولده : الإمام العلاّمة الحافظ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي الأصل المصري الشافعي المذهب ، ولد سنة ( 762 ه) ، وبكّر به والده بالسماع فأدرك العوالي ، وانتفع بأبيه غاية الانتفاع ، ودرّس في حياته ، توفي سنة ( 826 ه) ، من تصانيفه : " الإطراف بأوهام الأطراف " و " تكملة طرح التثريب " و " تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل " ، وغيرها .
4 - الإمام الحافظ برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي المشهور بسبط ابن العجمي ، مولده سنة ( 753 ه) ، رحل وطلب وحصّل ، وله كلام لطيف على الرجال ، توفي سنة ( 841 ه) ، من تصانيفه : " حاشية على الكاشف " للذهبي و " نثل الهميان " و " التبيين في أسماء المدلّسين " و " الاغتباط فيمن رمي بالاختلاط " وغيرها .
5 - الإمام العلاّمة الحافظ الأوحد شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني المعروف بابن حجر ، ولد سنة ( 773 ه) ، طلب ورحل ، وألقي إليه الحديث والعلم بمقاليده ، والتفرد بفنونه ، توفي سنة ( 852 ه) ، من تصانيفه: "فتح الباري" و "تهذيب التهذيب" وتقريبه و" نزهة الألباب "، وغيرها.
آثاره العلمية :
لقد عرف الحافظ العراقي أهمية الوقت في حياة المسلم ، لذا فقد عمل جاهداً على توظيف الوقت بما يخدم السنة العزيزة ، بحثاً منه أو مباحثة مع غيره فكانت (( غالب أوقاته في تصنيف أو إسماع )) كما يقول السخاوي ، لذا كثرت تصانيفه وتنوعت ، مما حدا بنا - من أجل جعل البحث أكثر تخصصاً - إلى تقسيمها على قسمين : قسم خاصّ بمؤلفاته التي تتعلق بالحديث وعلومه ، وقسم يتضمن مؤلفاته في العلوم الأخرى ، وسنبحث كلاً منهما في مطلب مستقل .
المطلب الأول
مؤلفاته فيما عدا الحديث وعلومه :
تنوعت طبيعة هذه المؤلفات ما بين الفقه وأصوله وعلوم القرآن ، غير أنَّ أغلبها كان ذا طابع فقهي ، يمتاز الحافظ فيه بالتحقيق ، وبروز شخصيته مدافعاً مرجّحاً موازناً بين الآراء .
على أنَّ الأمر الذي نأسف عليه هو أنَّ أكثر مصنفاته فُقدت ، ولسنا نعلم سبب ذلك ، وقد حفظ لنا مَنْ ترجم له بعض أسماء كتبه ، تعين الباحث على امتلاك رؤية أكثر وضوحاً لشخص هذا الحافظ الجليل ، وإلماماً بجوانب ثقافته المتنوعة المواضيع .
ومن بين تلك الكتب :
1 - أجوبة ابن العربي .
2 - إحياء القلب الميت بدخول البيت .
3 - الاستعاذة بالواحد من إقامة جمعتين في مكان واحد .
4 - أسماء الله الحسنى .
5 - ألفية في غريب القرآن .
6 - تتمات المهمات .
7 - تاريخ تحريم الربا .
8 - التحرير في أصول الفقه .
9 - ترجمة الإسنوي .
10 - تفضيل زمزم على كلّ ماء قليل زمزم .
11 - الرد على من انتقد أبياتاً للصرصري في المدح النبوي .
12 - العدد المعتبر في الأوجه التي بين السور .
13 - فضل غار حراء .
14 - القرب في محبة العرب .
15 - قرة العين بوفاء الدين .
16 - الكلام على مسألة السجود لترك الصلاة (13) .
17 - مسألة الشرب قائماً .
18 - مسألة قصّ الشارب .
19 - منظومة في الضوء المستحب .
20 - المورد الهني في المولد السني .
21 - النجم الوهاج في نظم المنهاج .
22 - نظم السيرة النبوية .
23 - النكت على منهاج البيضاوي .
24 - هل يوزن في الميزان أعمال الأولياء والأنبياء أم لا ؟ .
المطلب الثاني
مؤلفاته في الحديث وعلومه :
هذه الناحية من التصنيف كانت المجال الرحب أمام الحافظ العراقي ليظهر إمكاناته وبراعته في علوم الحديث ظهوراً بارزاً ، يَتَجلَّى لنا ذلك من تنوع هذه التصانيف ، التي بلغت ( 42 ) مصنفاً تتراوح حجماً ما بين مجلدات إلى أوراق معدودة ، وهذه التصانيف هي :
1 - الأحاديث المخرّجة في الصحيحين التي تُكُلِّمَ فيها بضعف أو انقطاع .
2 - الأربعون البلدانية .
3 - أطراف صحيح ابن حبان .
4 - الأمالي .
5 - الباعث على الخلاص من حوادث القصاص .
6 - بيان ما ليس بموضوع من الأحاديث .
7 - تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي .
8 - ترتيب من له ذكر أو تجريح أو تعديل في بيان الوهم والإيهام .
9 - تخريج أحاديث منهاج البيضاوي .
10- تساعيات الميدومي .
11- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد .
12- التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح .
13- تكملة شرح الترمذي لابن سيد الناس .
14- جامع التحصيل في معرفة رواة المراسيل .
15- ذيل على ذيل العبر للذهبي .
16- ذيل على كتاب أُسد الغابة .
17- ذيل مشيخة البياني .
18- ذيل مشيخة القلانسي .
19 - ذيل ميزان الاعتدال للذهبي .
20- ذيل على وفيات ابن أيبك .
21- رجال سنن الدارقطني .
22- رجال صحيح ابن حبان .
23- شرح التبصرة والتذكرة .
24- شرح تقريب النووي .
25- طرح التثريب في شرح التقريب .
26- عوالي ابن الشيخة .
27- عشاريات العراقي (13) .
28- فهرست مرويات البياني (14) .
29- الكلام على الأحاديث التي تُكُلِّمَ فيها بالوضع ، وهي في مسند الإمام أحمد .
30 - الكلام على حديث : التوسعة على العيال يوم عاشوراء .
31- الكلام على حديث : صوم ستٍّ من شوال .
32- الكلام على حديث : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه .
33- الكلام على حديث : الموت كفّارة لكل مسلم .
34- الكلام على الحديث الوارد في أقل الحيض وأكثره .
35- المستخرج على مستدرك الحاكم .
36- معجم مشتمل على تراجم جماعة من القرن الثامن .
37- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث والآثار.
38- مشيخة عبد الرحمن بن علي المصري المشهور بابن القارئ .
39- مشيخة محمد بن محمد المربعي التونسي وذيلها .
40- من روى عن عمرو بن شعيب من التابعين .
41- من لم يروِ عنهم إلا واحد (13) .
42- نظم الاقتراح (14) .
وفاته :
تتفق المصادر التي بين أيدينا على أنَّه في يوم الأربعاء الثامن من شعبان سنة (806ه) فاظت روح الحافظ العراقي عقيب خروجه من الحمام عن عمر ناهز الإحدى وثمانين سنة ، وكانت جنازته مشهودة ، صلّى عليه الشيخ شهاب الدين الذهبي ودفن خارج القاهرة رحمه الله .
ولما تمتع به الحافظ العراقي في نفوس الناس ، فقد توجع لفقده الجميع ، ومن صور ذلك التوجع أن العديد من محبيه قد رثاه بغرر القصائد ، ومنها قول ابن الجزري :
رحمة الله للعراقي تترى حافظ الأرض حبرها باتفاق
إنني مقسم أليَّة صدق لم يكن في البلاد مثل العراقي
ومنها قصيدة ابن حجر ومطلعها :
مصاب لم ينفس للخناق أصار الدمع جاراً للمآقي
ومن غرر شعر ابن حجر في رثاء شيخه العراقي قوله في رائيته التي رثا بها شيخه البلقيني :
ننعم ويا طول حزني ما حييت على عبد الرحيم فخري غير مقتصر
لَهْفِيْ على حافظ العصر الذي اشتهرت أعلامه كاشتهار الشمس في الظهر
علم الحديث انقضى لَمَّا قضى ومضى والدهر يفجع بعد العين بالأثر
لَهْفِيْ على فَقْدِ شيخَيَّ اللذان هما أعزّ عنديَ من سمعي ومن بصري
لَهْفِيْ على من حديثي عن كمالهما يحيي الرميم ويلهي الحي عن سمر
اثنانِ لم يرتقِ النسران ما ارتقيا نسر السما إن يلح والأرض إن يطر
ذا شبه فرخ عقاب حجة صدقت وذا جهينة إن يسأل عن الخبر
لا ينقضي عجبي من وفق عمرهما العام كالعام حتى الشهر كالشهر
عاشا ثمانين عاما بعدها سنة وربع عام سوى نقص لمعتبر
الدين تتبعه الدنيا مضت بهما رزية لم تهن يوما على بشر
بالشمس وهو سراج الدين يتبعه بدر الدياجي زين الدين في الأثر
ـــــــــــــــ(1/182)
الشيخ عبد الرحمن حسن حَبنَّكة
بقلم: محمد المجذوب
هو ابن المجاهد المعروف الشيخ حسن حينكة الشهير بالميداني نسبة إلى حي الميدان في دمشق ، ويرجع نسبه إلى قبيلة بني خالد من عرب حماة ..
كان ميلاده في العام 1927 أثناء غياب والده ، الذي كان يومئذ مع إخوانه المجاهدين لاجئاً إلى الأردن عقب توقف الثورة السورية ، ولما علم بولادته أطلق عليه اسم عبد الرحمن .
وكان بيته أول بيئة علمية فتح عليها عينيه ، إذ كان ذلك البيت مثابة لطلاب العلم الشرعي لا تكاد حلقاته تخلو منهم ليل نهار ، ولما أنشأ والده رحمه الله المعهد المعروف في دمشق باسم (التوجيه الإسلامي) التحق به وتابع دراسته النظامية حتى نهاية مراحلها ..
وفي ظلال ذلك البيت وهذا المعهد تتركز نشأته الخلقية والفكرية ، وتتحدد منطلقاته الأساسية في إطار الاتجاه الإسلامي الأصيل .
فمن ماضي والده المجاهد يتشرب روح المعاني الأولى لمهمة المسلم الحق ، الذي يوقن أن الإسلام هو نظام الحياة الراشدة السعيدة ، فلا فاصل فيه بين العلم والعمل ، ومن دأب هذا الوالد في نشر تلك المعاني عن طريق التربية الجامعة ، والخدمات الاجتماعية ، التي ينهض بها سواء عن طريق المعهد ، أو بوساطة (جمعية التوجيه الإسلامي) التي أسسها لرعاية طلابه وللقيام بالعديد من المهمات الخيرية والإنسانية ، تتكامل رؤيته إلى الحياة على أنها ميدان جهاد لترسيخ القيم التي يدعو إليها الإسلام ، ولإنشاء الروافد البشرية الصالحة لتحقيق رسالته الربانية ..
وباستكمال مراحله الدراسية في معهد والده تهيأ للتدريس فيه ، حيث أسندت إليه المواد العقلية والأدبية ، ومنها الفقه وأصوله والتوحيد ، واستعان في تدريس التوحيد بمادتي المنطق والفلسفة على منهاج السابقين ، وكان للأدب والبلاغة واللغة حظ غير قليل من عمله ..
على أنه لم يستنم إلى محصوله من العلم فآثر استئناف الرحلة في طلبه ، ورافق عدداً من طلاب والده إلى القاهرة ، وهناك التحق بالسنة الثالثة من كلية الشريعة بجامعة الأزهر، حتى إذا حصل على شهادة المرحلة ، مضى لإتمام الشوط فأضاف إليها شهادة العالمية مع تخصص التدريس .
ومن ثم عاد إلى دمشق ، وفي ملاك وزارة المعارف عمل مدرساً في الثانويات العامة والمعاهد الشرعية لمدة ست سنوات ، واستمر موظفاً ضمن هيئة التدريس حتى نهاية العام 1960 . ومن هناك انتقل إلى وزارة الأوقاف ، حيث أسندت إليه إدارة التعليم الشرعي ..
محاولات ومعاكسات :
وكان وجود الشيخ في هذا القسم من وزارة الأوقاف فرصة صالحة لإعطائه جرعة جديدة من النشاط الذي هو أحوج ما يكون إلى مثله ، بعد أن انصرفت جهود المسئولين عن التعليم إلى جانب المدني الصرف ، الذي لا يكاد يتصل بتعاليم الوحي إلا من بعيد ..
وقد بدأ بالجانب الإداري فرسم له هيكلاً ينطلق منه إلى التكامل ، ثم تلا ذلك بطائفة من المناهج والأنظمة العلمية لم تلبث أن أخذت سبيلها إلى التنفيذ ، وكانت الخطوة التالية مشروع قانون يضمن للتعليم الشرعي وضعاً كريماً يعدل نظيره المدني من حيث الملاك والحقوق وما غيها وكان جديراً بهذا التخطيط لو استكمل عناصره أن يرد للتعليم الإسلامي مكانته الطيبة ، وأن يجلو وجهه المشرق ، وبخاصة بعد أن استوفت مناهجه الجديدة كل ما يتطلبه من العلوم العصرية .. ولكن السلطات الحزبية لم تستطع على مشاهدة هذا التطور الصاعد ، ولا سيما بعد الذي ووجهت به من عناية غير متوقعة بالمدارس الشرعية ، وقيام ثانوياتها الخاصة بالإناث ، على مستوى المناطق والمحافظات ..
في غمار المحنة :
لذلك أسرعت السلطات الحزبية للوقوف بوجه هذا التطور الذي يتنافى مع تصوراتها ، التي برزت في اندفاعها الساحق لمحاربة كل ما يمت للإسلام بصلة ، فإذا الشيخ ينقل من التعليم الشرعي ويعاد إلى وزارة المعارف ليعزل في حجرة منها باسم (عضو بحوث) .. ثم لم يمض على وجوده في هذه الغرفة سوى عام واحد ـ 1966 ـ حتى صدرت القرارات المشهورة بتسريحه وتسريح والده وعمه وجملة من إخوانهم العاملين في معهد التوجيه الإسلامي ، ثم تعطيل جمعية التوجيه وسائر مؤسساتها التعليمية والتوجيهية والاجتماعية ، ومنعهم من أي نشاط إسلامي ، ولا سيما الخطابة المسجدية .
ولم تكتف السلطات الحزبية بذلك ، بل أتمت ضرباتها باعتقال المرحوم الشيخ حسن ـ الوالد ـ وأخيه وبعض أولاده وأعوانه ـ وصادرت أمواله ، واستولت على ممتلكات الجمعية بأسرها .. وكانت محنة غامرة ملئت أثناءها السجون بكبار العلماء والشباب من دعاة الإسلام ثم لم تنجل الغمة إلا في أعقاب الهزيمة التي حلت بدول المواجهة عام 1967 فكانت السبب في الإفراج عنهم .. وأعطتهم فرصة التحرك في حدود السعي لكسب الرزق .
إلى الرياض فمكة :
وشاء الله لحكمة يعلمها أن ينجو من الاعتقال الذي فرضته السلطة على أبيه وإخوانه بعد صدور الأمر بتسريحهم جميعاً ، على الرغم من الجهود التي بذلتها للقبض عليه ، وبذلك أتيحت له فرصة البحث عن ملاذ ينقذه من ذلك الجو الرهيب .. وقد تم له ما تمنى عن طريق التعاقد مع كلية الشريعة بالرياض ، وهي إحدى الكليات والمعاهد العلمية التي صارت أخيراً إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وفيها قضى سنتين دراسيتين تحول بعدها إلى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في مكة المكرمة ، وهي التي أصبحت فيما بعد إحدى مؤسسات (جامعة أم القرى) ، وأخيراً استقر وضعه مدرساً في كلية الدعوة وأصول الدين ، إلى جانب بعض المواد في قسم الدراسات العليا والإشراف على بعض رسائل الماجستير والدكتوراه ..
في ميدان الإعلام :
وطبيعي أن يكون للصديق الكريم ، إلى جانب عمله في نطاق التدريس طوال هذه السنين ، مشاركات غير قليلة في خدمة الفكر والأدب ومختلف القضايا الإسلامية ..
وعن ذلك يحدثنا فضيلته فيذكر أنه شارك في عديد المؤتمرات والندوات العلمية والأدبية ويسمي منها (مؤتمر التعليم الإسلامي) و (مؤتمر الاقتصاد الإسلامي) و (مؤتمر رسالة المسجد) ثم (مؤتمر الأدب الإسلامي) في لكهنؤ و (ندوة الأدب الإسلامي) في المدينة المنورة .
وقد شهدنا معه بعض هذه المؤتمرات في مكة المكرمة والهند والمدينة المنورة ، واستمعنا إلى مناقشاته التي تنم عن تمكن عالم ورهافة أديب وشاعر ..وكان لفضيلته كذلك مشاركات يومية في الإذاعة السعودية استمرت عدد سنين ، ولا تزال أحاديثه الأسبوعية متصلة فيها حتى الآن ، وقد امتد نشاطه هذا إلى التلفاز فشارك في العديد من ندواته سواء في المملكة أو سواها من الأقطار العربية ..
هذا إلى الكثير من المقالات والقصائد التي يسهم بها في ميدان الصحافة ..
هوايته المفضلة :
وعن أحب الأعمال إليه يقول فضيلته : إنه يؤثر من الإنتاج ما يحمل العطاء الفكري المتجدد ، وأوثقه صلة بنفسه ذلك الذي يكلفه بحثاً وتتبعاً وتأملاً ، لأنه بطبيعته يسأم المكرر ، ويستهويه الجديد المبتكر.. ومن هنا كان نفوره من الأعمال الإدارية ، على الرغم من قدرته على ممارستها لأنها تقطعه عن سبيله العلمي وعن اتجاهه التعليمي ..
ولعل أكثر أعماله تصويراً لخصائصه مؤلفاته التي يلمس قارئها أثر الجهد المبذول في تضاعيفها تفكيراً أو تنسيقاً وإخراجاً ولا جرم أن في عنواناتها المختارة بدقة أوضح الدلائل على هذا الواقع .
عنوانات ودلالتها :
وإلى القارئ بعض هذه العنوانات :
1 ـ سورة الرعد : دراسة أدبية ولغوية وفكرية .
2 ـ التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل : تأملات .
3 ـ روائع من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم : دراسات أدبية ولغوية وفكرية .
4 ـ الأمة الربانية الواحدة .
5 ـ مبادئ في الأدب والدعوة .
ومن سلسلة (أعداء الإسلام) التي أصدر منها حتى الآن :
1 ـ مكايد يهودية عبر التاريخ .
2 ـ صراع مع الملاحدة حتى العظم .
3 ـ أجنحة المكر الثلاثة : التبشير ـ الاستشراق ـ الاستعمار.
4 ـ غزو في الصميم .
5 ـ الكيد الأحمر.
6 ـ كواشف زيوف .
ونظرة مدققة إلى كل من هذه العنوانات تطل بك على أبعاد فكره ومدى اهتماماته . فهو يكتب في التفسير ولكنه لا يكتفي منه بعرض المضمون المعنوي ، بل يحاول إشراك القارئ بتذوقه للبيان القرآني ، الذي هو أحد جوانب الإعجاز الخالد في كتاب الله . وفي الكتاب الثاني يخاطب عقول طلبة العلم ليطل بها على دقائق النظم القرآني ، مما لا تتاح رؤيته للمتعجل ، الذي لا يستطيع صبر نفسه على التأمل العميق في لطائفه الباهرة ، ولا يعود فكره تتبع الروابط الخفية بين مفرداته وتراكيبه وآياته وسوره .. ولو هو فعل ذلك لظفر من المتعة الروحية والعقلية بما لا نهاية له من جديد الروائع ، ولهدي إلى الطريقة المثلى في التعامل مع كتاب الله .
وهكذا القول في الأحاديث المختارة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي لا تزيد على ثلاثة عشر حديثاً ولكنها تستغرق ما يقارب المائة والخمسين صفحة من القطع الوسط ، لأن الشيخ قد حاول أن يكشف لطلابه ما اتسع له الوقت المقرر من كنوز المعرفة ، التي ينطوي عليها كل واحد من هذه الروائع النبوية .
وليس بين هذه العنوانات واحد إلا وهو يحمل إيحاؤه المميز لمنهج المؤلف ورغبته الصحيحة في البحث والاستقصاء ، ليوفر ما استطاع من جميل العطاء ، ولكنه بذلك يؤكد لنا ما وصف به ميوله العلمية في بعض إجاباته ، إذ يقصرها على (العقليات والتحليلات والأدبيات..) ..
مع الكتاب والسنة :
وقبل أن أختم هذه الملاحظات حول بعض مؤلفاته أحب أن أقف قليلاً على كتابه في (العقيدة الإسلامية وأسسها) وهو باكورة مؤلفاته ، إذ كان بعضه مذكرات كتبها لمادة التوحيد في الثانويات الشرعية ، ثم أتمها في صورة كتاب أيام ألقت به السياسة في تلك الغرفة ـ أو الزاوية ـ باسم (عضو بحوث) ..
ومن إحدى إجاباته عن الاستطلاع يفهم أنه بدأ تدريس هذه المادة أول الأمر على طريقة المتكلمين ثم اتجه (لدراسة العقائد على منهج السلف غير ملتزم بآراء أشعرية أو ماتريدية خاصة ، بل بما تدل عليه آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة..) وهذا ما دفعه إلى إجراء بعض التعديلات على الكتاب في طبعته الثانية والثالثة .. وبخاصة في موضوع الصفات .. ولا ريب أن في ذلك التعديل دليلاً على التحرر من العصبية التي تفرض على كثير من أهل العلم ، حتى لا يجدوا غضاضة في مخالفة صحيح الحديث لمجرد أن بعض شيوخهم لم يأخذوا به !..
الإسلام هو البديل :
وانتقلنا إلى استطلاع رأيه في مستقبل الإسلام على ضوء الوقائع المتعلقة به والحملات المركزة في تشويه صورته ، والإساءة إلى سمعة دعاته فكان جوابه :
إن الإسلام هو قاعدة الحضارة التي ستخلف حضارة الغرب الراهنة ، بعد أن أخفقت هذه في ميدان السلوك الإنساني ، على الرغم من تقدمها الباهر في نطاق استخدام المادة .. ومن هناك يأتي التوكيد على أن البديل الوحيد لتلك الحضارة المفلسفة هو العودة إلى الدين ، وقد أثبتت التجارب البشرية أن الدين المؤهل لمهمة الاستخلاف ، والجامع بين المادية والإنسانية هو الإسلام ، ولا عجب فإن الدين عند الله هو الإسلام ..
أما بشأن موقف الإعلام المفسد من حملة الدعوة الإسلامية فهو يرى أنه موقف المهزوم ، الذي لم يبق لديه من سلاح يواجه به الخصم سوى المفتريات ، التي يحاول بها صرف العامة عما لدى ذلك الخصم من الحقائق . وهي محاولة يتضح إخفاقها يوماً بعد يوم ، وستنتهي إلى نفس المصير الذي انتهت إليه محاولات المفترين السابقين .
رؤى غير متفائلة :
وهنا يأخذ الشيخ في بسط أفكاره عن أصناف الدعاة فلا يكاد يلمح بينهم الجماعة التي يريد ، وكأنه بذلك يسوغ عزلته عن المشاركة في أي من الأنشطة الجماعية ، التي يموج بها العالم الإسلامي في مختلف أقطاره ، وهو موقف لا يكاد يجد من يقره عليه غير أولئك الذين ضعفت كواهلهم عن المشاركة في تحمل المسئوليات العامة ، وليس هو منهم ولله الحمد ..
والحديث عن مستقبل الإسلام ودعاة الإسلام لا بد أن يخلص بنا إلى الكلام عن أثر الأستاذ الجامعي في تكوين الجيل الإسلامي الصالح للإسهام في بناء المستقبل . وفيلا هذا الصدد يقول فضيلته: إن مردود النظم الجامعية في هذا الميدان دون ما يتوقع بكثير .. لأن القيود التي تثقل هذه النظم لا تسمح للمدرس الجامعي مهما جد وأخلص أن يتحرك في محاولة الإصلاح إلا في نطاق محدود ..
وفي رأيه أن العمل الوظيفي المأجور يظل محدود الأثر لدى المتلقين ، فهو قد يعطي علماً بيد انه لا ينشئ النماذج المنشودة . ذلك لأن الجيل الناشئ في أوساط الجامعات ومعاهد التعليم المنظورة مؤلف من أخلاط غير متناسقة ولا منسجمة فالنتيجة أن يكون جيلاً غير موحد الاتجاه ..
مع الأدب الإسلامي :
أما وقد شارفنا نهاية الاستطلاع فليكن في أخرياته هذا السؤال :
الدعوة إلى الأدب الإسلامي أخذت سبيلها إلى التركيز والتثبيت ، فكيف تنظرون إلى حاضرها ومستقبلها ؟!..
ويجيب الأستاذ الأديب الشاعر قائلاً : هذه الدعوات ظفرت ببعض الاهتمام من ذوي التخصص الأدبي وحاضرها ماثل بين الاندفاع العاطفي ومحاولات التأصيل إلى جانب عقبات تواجهها من أنانيات وخصوم .
أما مستقبلها فمتوقف على توافر الموهوبين الذين يكتبون أدباً إسلامياً .. وهو أدب لا تكفي فيه العاطفة ، ولا يصلح له المتحمسون غير الموهوبين .. وعلى أنصار الأدب الإسلامي الحق من ذوي الأصالة أن يعملوا على إبراز أعمال أولي المواهب من المعنيين بالأدب الإسلامي أو أدب الدعوة في إنصاف برئ من الأنانيات الفردية و (التكتلية..)!
ونحن نثبت تعبيره الأخير دون أن نتبين مراده منه ، إلا أن يكون ذا صلة بموقف الآنف ممن يسميهم (المتصدين للدعوة) .. وهو موقف لا يخلو من بعض حرارة النقد التي من شأنها إحداث الاهتزاز في بعض أفكاره ..
وأخيراً :
وكان بودنا أن نختم هذا العرض بنماذج من شعر الأستاذ الممثل لخصائصه الفنية ذات التذوق البلاغي الرفيع ، ولكن الذي تفضل به علينا من مطبوعاته الشعرية لا يعدو أن يكون لوناً من الشعر التعليمي ذي الطابع الموضوعي ، وهو في رأينا غير الشعر الوجداني المنطلق من أعماق المشاعر الذاتية .. ولعل الصديق الكريم يتحفنا ببعض ما يمثل هذا الجانب الخاص من حياته الوجدانية ، فنجعله خاتمة المطاف .. والله الموفق والمستعان
=============
صراع مع الملاحدة حتى العظم
لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
ظهر حديثاً هذا الكتاب ومؤلفه الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، وهو في خمس مائة صحيفة، وهو الحلقة الثانية للمؤلف من " سلسلة أعداء الإسلام " وكانت الحلقة الأولى " مكايد يهودية عبر التاريخ ".
والإلحاد من أبرز سفاهات الإنسان ومن أشنع حماقاته، وقد دفعه إليه قديماً وحديثاً تكبره وفجوره، وظلمه وإجرامه، وغفلته وجهله، وهو قديم في البشر قدم هذه الآفات فيهم، ولكنه فشا في العصر الحديث بصورة تلفت النظر، وتدعو إلى التفكر، وقد بات من الجلي أمام الباحثين أن أبرز من ينشر الإلحاد في هذا الزمان أعداء الله والبشرية (اليهود)، وأن الشيوعية الملحدة وسيلة من وسائلهم في نشره، وأن مقصدهم من وراء ذلك هدم إنسانية الإنسان ليصير حيواناً بشرياً يمكنهم امتطاؤه وتسخيره لمصالحهم، كما يصرحون بذلك في (تلمودهم) وفي(بروتوكولاتهم)، كما اتضح أن عداء البابوية للعلم والعلماء في فجر النهضة الأوربية كان من أسباب انتشار الإلحاد أيضاً.
والعجيب في إلحاد هذا الزمان أنه يضرب بسيف العلم، ويدفع عقيدة الإيمان بالله سبحانه بحجة أن العلم يأباها، وأن الدين والعلم متناقضان {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}، ولهذا شن الملحدون معركة ضد الدين عامة وضد الإسلام خاصة، وإن الإنسان ليعجب لهذه الفرية الكبرى فأنى للإسلام أن يتناقض مع العلم؟ أليس العلم قوانين أوجدها الله في كونه، والدين كلمة الله أنزلها على أنبيائه؟ فكيف يتناقض شيئآن مصدرهما الحكيم العليم، وكيف يمكن لإنسان عنده شيء من عقل ووعي أن يزعم أن الإسلام يتناقض مع العلم، وهو الذي يدعو إليه ويشجعه؟ ويقول فيما يقول للبشر: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ويدعوهم للانتفاع بكل شيء في الكون بقوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}.
والحق أن الدين الصحيح صديق حميم للعلم، وأن العلم الصحيح عدو مبين للإلحاد، ولكن الملحدين يحلو لهم دائما الكذب والبهتان، واللجاج في الباطل والطغيان.
وقد غزا الإلحاد فيما غزا بلاد الإسلام وقام في ربوعها ناعقون يرددون سفاهاته وينشرون ضلالاته، ثم برز في مؤخرة ركب الملحدين حمال أثقال اسمه (( صادق جلال العظم)) الحائز على لقب (( دكتور )) من الذين دسّوا الكفر في فكره، فجمع ترهات الملحدين في كتاب أسماه (نقد الفكر الديني) وحشاه بالأغاليط والأكاذيب والجهل، ومنته نفسه ورفاقه الملحدون الأماني من وراء مفترياتهم، وطغا عليهم غرورهم، فكان لابد من الرد عليه، ومع اعتقاد المؤلف المفضال أن الإلحاد لا سند له، وأنه أو هي من بيت العنكبوت، إلا أن خوفه من تأثر الناشئة المسلمين بتضليلات العظم وسواه دعاه للرد على العظم رداً أتى فيه على قواعد الملحدين فنسفها بالعلم الصحيح والحجة القوية والاطلاع الواسع.
وقد وجد المؤلف في كتاب (نقد الفكر الديني) لصادق العظم أمثلة كثيرة للمغالطات وأنواع السقطات المقصود بها تضليل من يطالع كتابه من مراهقي الفتيان والفتيات من أجيال الأمة الإسلامية، خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة، وقد جمع كل الأديان وكل ما فيها من حق وباطل، وكل ما نسب إليها من ضعيف وقوي وفاسد وصحيح، وقال: هذه هي الأديان، ثم وجه النقد اللاذع للباطل الظاهر وللضعيف البين وللفاسد المعروف فساده، ثم صنع من ذلك مقدمة فاسدة استنتج منها إبطال الدين كله..
وقد أحصى المؤلف جدليات الملاحدة المعتمدة على المغالطات الفاحشة الوقحة، والمقنعة بالحيلة والخداع في هذه العناصر:
1_ تعميم أمر خاص.
2_ تخصيص أمر عام.
3_ ضم زيادات وإضافات ليست في الأصل.
4_ حذف قيود وشروط لازمة، يؤدي حذفها إلى تغيير الحقيقة.
5_ التلاعب في معاني النصوص.
6_ طرح فكرة مختلفة من أساسها للتضليل بها.
7_ تصيد بعض الاجتهادات الضعيفة لبعض العلماء وجعلها هي الإسلام مع أنها اجتهادات مردودة.
8_ التقاط مفاهيم شاذة موجودة عند بعض الفرق التي تنتسب إلى الإسلام، وإطلاق أنها مفاهيم إسلامية مسلم بها عند المسلمين، والإسلام منها بريء براءة الحق من الباطل.
9_ نسبة أقوال أو نصوص إلى غير قائليها.
10_ كتمان أقوال صحيحة وعدم التعرض إليها مطلقاً مع العلم بها وشهرتها.
11_ الإيهام بأن العلوم المادية ملحدة على خلاف ما هي عليه في الواقع.
وقد أفرد المؤلف فصلاً من فصول الكتاب الأحد عشر للنقد الذاتي حول مفاهيم المسلمين للإسلام، بيّن فيه المفاهيم الدخيلة الغريبة عن الإسلام التي حاول أعداؤه إلصاقها بتعاليمه الناصعة، وكيف تحولت هذه المفاهيم الدخيلة إلى مواريث ثقيلة، وبدع شنيعة أحسنت ظهور الأجيال، وعرقلت سبيل تقدمها، وهيأت المناخ المناسب لفساد الأجيال التي حملت شعار التخلص منها على غير هدى ولا بصيرة، فتخلصت منها ومن الجوهر النافع الذي هو الأصل السليم، وقد وجدت طائفة من هذه الأجيال بسبب تلك الشوائب الدخيلة مبررات كثيرة تلبي عن طريقها الرغبة في الانطلاق والتحرر والانسياق وراء الأهواء، ومن وراء هذه الطائفة شياطين يمدون خراطيهم في الظلمات من ديار الحرب إلى دار الإسلام، فيوسوسون لها ويمنونها ويكيدون في ذلك لها وللأمة الإسلامية ما يكيدون من شر عظيم، ووسائلهم في ذلك الإغراء بالمال، أو الإطماع بالحكم والسلطان، أو الفتنة بالنساء أو الخمر والميسر والمخدرات وأصناف اللهو، وإضعاف القوى الفردية والاجتماعية عن طريقها والخداع بمظاهر الحضارة المادية الخلابة.
ويرجع انحراف المفاهيم الإسلامية في رأي المؤلف إلى عدة صور مصابة بالخلل أو الفساد أو التزوير، ويذكر لها عشرة أسباب مع طرق علاجها وهي:
1_ الجهل وفتور الهمة عن تفهم تعاليم الإسلام الصحيحة.
2_ اتباع الهوى.
3_ الغلو في الدين غير الحق.
4_ النظر الضيق المحدود الذي يلازمه النظر إلى جوانب خاصة معينة من الإسلام واعتبارها الإسلام كله.
5_ الجمود.
6_ التحلل.
7_ الفتنة بكل جديد قبل اختباره.
8_ التعصب لكل قديم مهما كان شأنه، ولو كان مخالفاً للحقيقة البينة ولأسس الإسلام الصحيحة الصافية.
9_ الأثرة التي تولد الإعجاب الشديد بالرأي، وتولد التعصب والفردية في الأعمال، وتشتت الشمل وتفرق الكلمة.
10_ ما يكيده أعداء الإسلام من مكايد، ويدخل تحت هذا السبب صور كثيرة.
وفي فصل آخر من فصول الكتاب يبرز المؤلف الحقائق البينة التي تؤكد موافقة العلم للدين الحق الإسلام، وأن الإسلام يدعو إلى الطرق العلمية في البحث، ويفند مغالطات الملاحدة الذين كثيراً ما يدعون أن فرضية أو نظرية من النظريات قد أصبحت حقيقة علمية غير قابلة للنقض أو التعديل، مع أن هذه النظرية لا تملك أدلة إثبات يقينية تجعلها حقيقة نهائية، أو حقيقة مقطوعا بها، وذلك بشهادة العلماء الذين وضعوا هذه النظرية أو ساهموا في تدعيمها.
ومن أمثلة ذلك الدارونية بالنسبة إلى نشأة الكون وخلق الإنسان فهي لا تملك أدلة إثبات قاطعة أو شديدة الترجيح، ولكن كثيراً من العلماء الماديين يقبلونها تسليماً اعتقادياً لا تسليماً علمياً، إذ ليس لديهم اختيار بعدها إلا الإيمان بالخلق الرباني، وهذا أمر لا يجدون أنفسهم الآن مستعدين له ما دام منطق الإلحاد هو المسيطر على اعتقادهم في بيئتهم.(1/183)
ويأتي أنصاف المتعلمين، كالعظم فيدعون وجود التناقض بين الدين والحقائق العلمية، استناداً إلى وجود اختلاف بين بعض المعارف الدينية وبعض الفرضيات أو النظريات التي لم تثبت ولم ترق إلى درجة الحقائق العلمية وهم يزعمون كذباً أو يتصورون خطأ أن هذه الفرضيات أو النظريات قد أصبحت حقائق علمية ثابتة بشكل قطعي غير قابل للنقض، وهنا يقعون في غلط علمي فاحش جداً، ويتبع ذلك سقوطهم في ضلال اعتقادي كبير تجاه الدين وأصوله ومعارفه، علماً بأن طائفة من النظريات التي نسبت إلى العلم قد وضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد والكفر بالله على أيدي يهود أو أجراء لليهود، وصيغت لها المقدمات والمبررات التي ليس لها قواعد منطقية علمية صحيحة.
يقول المؤلف: "فالواجب إذن يحتم علينا _ أخذاً بطريق البحث العلمي السليم المحرر الذين أمرنا به الإسلام _ أن نمعن النظر فيما قدمته شهادة العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية، وفيما قدمته شهادة النصوص الدينية، وأن نخضع هذه الشهادات للضوابط العلمية الصحيحة المتفق عليها في أصول العقل وأصول الدين.. وإني لأجزم بكل يقين أننا لن نجد مسألة واحدة يستحكم فيها الخلاف بين شهادة النصوص الدينية اليقينية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وبين الشهادة القاطعة التي يقدمها العقل، أو الشهادة القاطعة التي يقدمها البحث العلمي الإنساني البحت، بل اليقيني من كل ذلك لابد أم يتطابق في شهادته متى استطاع أن يصل إلى الحقيقة التي هي موضوع البحث، فإن وصل بعضها وبعضها الآخر لم يصل أعلن كلّ عن مبلغه من العلم، قصر في المعرفة أو زاد وفي هذا لا يوجد تناقض أو خلاف، ولكن يوجد بيان جزئي، وبيان أشمل وأكمل، أو بيان جزئي من جهة وبيان جزئي من جهة أخرى".
وفي فصل (صراع من أجل قضية الإيمان بالله والفكر الديني الصحيح حولها) يقول: "إن الملحدين جميعاً لم يستطيعوا مجتمعين أو متفرقين أن يقدموا أية حجة منطقية أو واقعية مقبولة عند العقلاء تثبت عدم وجود خالق لهذا الكون، وقد قرأنا ما كتبه هذا الملحد وما كتبه غيره من أساطين الإلحاد فلم نجد لديهم دليلاً واحداً صحيحاً ينفي وجود الخالق جل وعلا، بل لم نجد في كل ما كتبوه دليلاً واحداً يقدم ظناً بعدم وجود الخالق، فضلاً عن تقديم حقيقة علمية.. جلّ ما لديهم محاولات للتشكيك بعالم الغيب، والتزام بأن لا يثبتوا إلا ما شاهدوه من مادة بالوسائل العلمية المادية.
وهذا الارتباط بحدود المادة التي لم يشهد العلم حتى العصر الحاضر إلا القليل منها إن هو إلا موقف يشبه موقف الأعمى الذي ينكر وجود الألوان لأنه لا يراها، أو الأصم الذي ينكر وجود الأصوات لأنه لا يسمعها، أو موقف الحمقاء حبيسة القصر التي ترى أن الوجود كله هو هذا القصر الذي تعيش فيه، لأنها لم تشاهد في حياتها غيره.. فما حظ هؤلاء من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع؟ كذلك الملحدون لا حظ لهم من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع، إذ ينكرون الخالق جل وعلا ويصرون على إنكاره ولا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجوده، قد يستخدمون عبارات ضخمة يستغلون فيها أسماء التقدم العلمي والصناعي وتطور مفاهيم العصر، والبحوث العلمية في المختبرات والمعامل للتمويه بها.. مع أن التقدم العلمي والصناعي لم يتوصل إلى قياس شيء من عالم الغيب، بل ما يزال عاجزاً عن قياس أمور كثيرة داخلة في العالم المادي الذي هو مجال كل أنواع التقدم العلمي الذي انتهت إليه النهضة العلمية الحديثة.
والعلماء الماديون الذين يستخدمون المعامل والمختبرات والأجهزة العلمية المتقدمة جداً.. يحاولون تفسير كل ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية يغررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها إنها قوانين طبيعية.
وفي هذا الفصل يتناول ما يردده العظم من الحجة الشيطانية القديمة التي تقول في آخر سلسلة التساؤل: ومن خلق الله؟ ويناقش حججه المادية سارداً أقوال بعض علماء المادة مثل إدوارد كيسل الذي يقول: "أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائياً وجود الأدلة، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول، الخالق الإله".
ويعقد المؤلف فصلاً لمناقشة (برتر أندرسل) و (فرويد) وإمامي العظم، مبينا أن الأول صدر في إلحاده عن الهوى التعصب للدين لأنه يجعل ما يقبله من تفسيرات علمية مقبولاً بصفة ترجيحية لضرورة العجز عن الوصول إلى اليقين ... وأما الثاني فهو يهودي متعصب للصهيونية وقد وصفت إحدى مساعداته في التحليل النفسي إلحاده بأنه كان زائفاً لأنه تركه بعد ذلك متشبثاً باليهودية الصهيونية، وفيا لها، سائراً في طريقها، منفذاً لخططها.
ويطول الكلام لو وقفنا عند فصل من فصول الكتاب واقتباس بعض عباراته، والإشارة إلى القضايا الفكرية التي يعالجها ببيان مشرق وأسلوب يمتاز بالقوة والرصانة وعمق الفكرة، وأدع للقارئ أن يستمتع بقراءة هذا الكتاب النفيس سائلا الله عز وجل أن يهدي به الضالين، ويثبت المؤمنين ويزيدهم إيماناً وأن يجزي المؤلف فضيلة الشيخ عبد الرحمن حنبكة أحسن الجزاء.
===========
خرج علينا قبل أيام عبر قناة الجزيرة : الماركسي القديم ( صادق العظم ) خلال محاورة فكرية ، وكنت أظن أن مثل هذه المخلوقات قد انقرضت بعد سقوط أمها وحاضنتها روسيا الشيوعية ؛ ولكن يظهر أن بعض بني قومنا ماركسيون أكثر من ماركس نفسه ! وقد أحببت أن أعرف القراء بحقيقة هذا الرجل الذي ربما يجهل البعض تاريخه ... فأقول - مستعينًا بالله - :
- هو صادق جلال العظم، ملحد سوري (من أصل تركي) يدين بالفكر الشيوعي البائد. ولد في دمشق سنة 1934م. - والده جلال العظم كان أحد العلمانيين المعجبين بتجربة كمال أتاتورك في تركيا (انظر ص 14-15 من كتاب " حوار بلا ضفاف "، الذي أجراه صقر أبو فخر مع العظم ). وزوجته هي فوز طوقان (عمها الشاعر إبراهيم طوقان وعمتها الشاعرة فدوى طوقان).
- يعترف العظم بأنه نشأ في جو علماني متحرر لا يعرف أحكام دينه ولا ينفذها. يقول (ص 15 من المرجع السابق) : (كان هناك -أي في بيته- تدين عادي ومتسامحٍ وغير متمسك بالشعائر والطقوس)!! ويقول أيضاً (ص22): (لم يكن أحد حولي يصلي أو يصوم)! - سأله صقر أبو فخر (ص 63): (هل ترى في السلفية الجديدة خصماً حقيقياً؟) فأجاب: (نعم، هي خصمٌ جدي) !
- درس الفلسفة، وكانت رسالته عن الفيلسوف (كانط)، عمل في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم أستاذاً بجامعة عمَّان سنة 1968م، ثم باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني، ثم عاد إلى دمشق وتولى رئاسة قسم الفلسفة، بجامعة دمشق.
- اعتنق العظم الفكر الشيوعي (وجهر) بإلحاده في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" المطبوع عام 1969م، الذي خلاصته الزعم بأن الدين (لاسيما الإسلام!) يناقض العلم الحديث! كما هي دندنة الشيوعيين سابقاً قبل أن ينكشف زيفهم وتنتكس شعاراتهم وأفكارهم.
وإليك شيئاً من أقواله في هذا الكتاب :
- (إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يُلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية) ! (ص59من الطبعة الثامنة).
- (أصبح الإسلام الأيدلوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه: السعودية، أندنوسيا، الباكستان) (ص 16-17).
- (إن الدين بديل خيالي عن العلم) (ص17).
- (يعترف رجال الدين الإسلامي! وكتابه بوجود تناقض ظاهري -على أقل تعديل- بين العلم الحديث وثقافته ومناهجه من ناحية، والدين الإسلامي) (ص23) ولا ندري من هؤلاء المعترفون؟!
- يطعن العظم في القرآن (صراحة) بقوله (ص25): (يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم أن الإسلام دين خالٍ من الأساطير والخرافات باعتبار أنه والعلم واحد في النهاية، لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة! بإحالته إلى مسألة محددة تماماً. جاء في القرآن مثلاً أن الله خلق آدم من طين ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا ؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تاماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه لابد من القول أنها تتناقض تناقضاً صريحاً ! مع كل معارفنا العلمية..)!! الخ هرائه. ولا ندري ما هي هذه المعارف العلمية التي تناقض كلام الله؟! إلا إذا كانت معارفه المادية التي لا تؤمن بالغيب.
- يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم" (ص12-13) بأن العظم ألف كتابه السابق: (خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية الإلحادية. وهو في كل ذلك يتستر بعبارات التقدم العلمي والصناعي والمناهج العلمية الحديثة، ولا يقدم من البينات إلا قوله مثلاً: إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا، دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة).
- ويقول العظم عن عقيدته الشيوعية (ص 29): (إنها أهم نظرية شاملة صدرت في العلوم)!
- ومما يثير العجب: أن العظم -رغم إلحاده- عقد فصلاً في كتابه السابق "نقد الفكر الديني" يدافع فيه عن (إبليس) !! سماه (مأساة إبليس) (ص55 وما بعدها) ردد فيه شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب السابقة في اعتراضه على القدر؛ ككتاب "الملل والنحل" للشهرستاني (7-10) . ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى (8/115): (هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه).
وقال -رحمه الله- معدداً طوائف القدرية (القسم الثالث: القدرية الإبليسية الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران [أي أنه قدَّر وأمر ونهى]، لكن عندهم هذا تناقض.. وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة) (الفتاوى 8 /260).
ثم ختم العظم كلامه بقوله عن إبليس (ص85): (يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص!... يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً) !! فتأمل هذا (الكفر) ما أعظمه ؟
قد يقول قائل: كيف يكون العظم ملحداً ثم يعترف بوجود إبليس ؟! فأقول: قد صرح الملحد في بداية كلامه -كما سبق- أنه لا يعترف بوجود إبليس لأنه لا يعتقد أصلاً بوجود خالقه ولكن بحثه -كما يدعي- (ص57): (يدور في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق؛ ألا وهو إطار التفكير الميثولوجي الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) فهو يريد دراسة شخصية إبليس (باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطورها وضخمها خياله الخصب) (ص 57).
ومع هذا: فقد قال الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني" (ص61) بأن بحث العظم عن إبليس: (لم يكن من بنات أفكاره، ولا من وحي ثقافته العلمية، وإنما استقى خطوطه الأساسية من بحث المستشرق "ترتون" عن الشيطان، وبحث المستشرق "فنسنك" عن إبليس المنشورين في الانسكلوبيديا الإسلامية). قلت: انظر البحثين في دائرة المعارف الإسلامية (14/46-57).
أخيراً : فقد قام بالرد على العظم كثير من العلماء والكتاب؛ من أبرزهم:
1- الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم".
2- الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني".
3- الأستاذ جابر حمزة فراج في كتابه "الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني".
4- الأستاذ محمد عزت نصر الله في كتابه "تهافت الفكر الاشتراكي".
5- الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه "القرأن والملحدون" .
6- الدكتور عبداللطيف الفرفور في كتابه "تهافت الفكر الجدلي".
7- الباحث حسن بن محمد الأسمري في رسالته "موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي". ( لم تطبع بعد ) .
8- الأستاذ أحمد أبو عامر في مقاله "إلى متى تنطح صخور الإسلام" في المجلة العربية (رجب 1413هـ).
وقد قمت باختصار مقالة الأستاذ أحمد -حفظه الله- ليستفيد منها القراء؛ نظراً لوفائها بالمقصود: قال الأستاذ أحمد: (صادق جلال العظم كاتب يحمل درجة الدكتوراة في الفلسفة، ويقوم بتدريس تخصصه في الجامعة الأمريكية في بيروت. ماركسي متطرف في توجهه وطروحاته الفكرية. من أشهر كتبه "نقد الفكر الديني" سأوضح نبذة عنه وكيف تصدى له كثير من العلماء والمفكرين بالنقد والمناقشة العلمية، ولا يغيب عن الذهن قول أحد المفكرين المعاصرين من حملة الفكر الفلسفي. إذ يقول: إن الفيلسوف إما أن يحيط بعلمه فيكون مؤمناً أو لا يحيط به فيلحد، وجل الملحدين من هؤلاء أنصاف وأرباع فلاسفة. وهذا هو حال (العظم) الذي يتظاهر بمظهر الفيلسوف وهو ليس كذلك بل هو داعية ملحد في طروحاته الفكرية المعروفة. ولقد بدأ الرجل كاتباً في عدد من الصحف الشيوعية والعلمانية المشبوهة مثل (الثقافة العربية) يسارية، و(دراسات عربية) ماركسية، و(حوار) وهي ذات عمالة لأحد مراكز الاستخبارات الغربية. وكانت تلك المجلات التي تصدر في بيروت تتبنى الطروحات الإلحادية من دعاوى مصادمة العلم مع الدين والدعاية لنظرية النشوء والارتقاء والدعوة إلى أن نهاية كل شيء هو الفناء والدعوة إلى الاتجاه المادي للحياة. وكتابات العظم في تلك المجلات التي جمع بعضها في كتابه (نقد الفكر الديني) يتبين منها إلحاده ومحاولة تستره خلف ظلال باهته من المعرفة المشوهة والعلم الناقص والادعاءات الفارغة والملونة بألوان من الفلسفة والفكر، وأنا حينما أقول ذلك لا أتجاوز الحقيقة كما سترون.
هو كما أسلفت جمع لعدد من مقالاته السابقة وبعض محاضراته التي ألقاها في بعض المنتديات اليسارية والعلمانية، ومن تلك المقالات (الثقافة العلمية والفكر الديني) ومحاضرته (مأساة إبليس) ومحاضرة (الله والإنسان في الفكر المسيحي المعاصر) والتعليق على زعم ظهور (مريم العذراء في مصر) وأما ما يعتبر جديداً وينشر لأول مرة فهو مقالته عن الدعوة إلى التصور العلمي المادي للكون وتطوره. ومن خلال هذه العناوين يمكن تلخيص أفكاره في النقاط التالية:
1- الفكرة الأساسية للكتاب إنكار وجود الباري جل وعلا إنكاراً كلياً!
2- زعمه وجود تناقض بين العلم والدين.
3- إنكاره ما سماه بالنظرية الدينية وزعمه تناقضها مستشهداً بقصة إبليس في القرآن الكريم.
4- دعوته لإقامة تصور مادي للكون وتطوره بمعزل عن الدين.
وقد تناول كثير من العلماء والمفكرين كتابه هذا الذي طارت به الصحف والمجلات الماركسية دعاية وتأييداً كعادتها، لكن علماء الإسلام بعد قراءته نقدوه نقداً علمياً بين تهافت أفكاره وسقوطها.
ولابد من وقفات سريعة تبين تهافت مزاعمه الإلحادية السابقة على النحو التالي:
أولاً: وجود الباري عز وجل: فالعظم لا يقتنع بالأدلة النقلية لأنه لا يؤمن بها أصلاً، فلم يعد أمامي سوى النقاش العقلي الذي أضعه في النقاط الآتية:
1- لابد لكل حادث من محدث ؛ إذن هذا العالم وما يحويه لابد له من خالق مبدع متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقصان وإنكار ذلك ضلال وخطأ.
2- هذا الكون ليس أزلياً لا ابتداء لوجوده ؛ إذ لو كان كذلك لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود وهذا ما يؤكده العلم التجريبي في (القانون الثاني للحرارة الديناميكية) والذي ينص على أن الطاقة في الكون تقل تدريجياً بصورة مطردة. وبما أن له بداية فلا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه كما مر في الفقرة الأولى.
3- القول بالمصادفة بالنسبة لنظام الوجود الشامل المحكم ذي الإتقان العجيب لا يقول به إلا جاهل بعيد عن التحقيق ومكابر يرى الحق ويعرض عنه وهذا ما تؤكده القاعدة الرياضية في حساب الاحتمالات أو (قانون المصادفة) وتفصيلة يطول به البحث. ومن ينكر هذه الحقائق العلمية فما عليه إلا أن يعالج نفسه من أسباب الإنحراف الفكري من جهل وكبر وهوى وتردد في قبول الحق وحينها ستشرق في نفسه بوادر الحق وتتلألأ في قلبه أنوار اليقين.
ثانياً: لابد من إقناعه بنبوة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء برسالة الإسلام، فقد أخبر بالغيوب كغلبة الروم للفرس (سورة الروم الآيات 1-6)، وإخباره بوعد الله باستخلاف المؤمنين في الأرض (سورة النور آية 55) وإخباره بإظهار دين الإسلام على سائر الأديان (الفتح28) . ودليل نبوته صلى الله عليه وسلم معجزته الخالدة القرآن الكريم التي أعجزت العرب قديماً وحديثاً ويكفي القرآن فخراً أن أثبت بحث المستشرق الفرنسي (موريس بوكاي) صدقه في دراسته المعروفة (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة) ويمكن لمعرفة المزيد الرجوع إلى (الوحي المحمدي) لرشيد رضا.
ثالثاً: أما الزعم بوجود تناقض بين الدين والعلم فهو تعميم مرفوض وغير مقبول في الدراسات العلمية، نعم قد يوجد هذا التناقض في الأديان الأخرى غير الإسلام مثل النصرانية واليهودية وكتبهم المقدسة شاهدة على ذلك. أما أن يدخل الإسلام في هذه الدعوى فهو مردود عليه وعلماء المسلمين قد بينوا هذه المسألة قديماً وحديثاً ، فشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) أو ( الرد على المنطقيين ) ناقش هذه المسألة وبين استحالة ذلك مما تسقط معه هذه الشبهة .وفي العصر الحديث كتب عنها كثيراً؛ ومن أبرز ما كتب كتاب (الدين في مواجهة العلم) للداعية الإسلامي الهندي وحيد الدين خان حيث ناقش هذه الإلحادية الغربية في مواقفها المتشنجة من الدين وأسقطها وبين أن هذه الدعوى وليدة الصراع بين العلم الحديث والكنيسة النصرانية، ولا علاقة للإسلام بها إذ أنه دين العلم والفكر، وما جاء في الإسلام من أحكام قد يكشف العلم أسراره وحكمه وقد يعجز لكنه قد يكشف مستقبلاً وصدق الله العظيم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ولذلك كان لكثير من عقلاء الغرب وقفات منصفة مع الإسلام أعلنوا بعد إطلاعهم عليه إسلامهم ومنهم رجال للدين النصراني، فهل بعد ذلك يصح (للعظم) أو غيره إثارة هذه الدعاوي الباطلة؟ وهل يغتر بها سوى الجهلة والمضللين؟ وعلاج هؤلاء بالعلم والإنصاف وستتضح لهم الحقيقة وما بعد الحق إلا الضلال.
أما ضرب العظم (لقصة إبليس ورفضه السجود لآدم) مثالاً للتناقض في الدين وزعمه إنها أسطورة دينية تنتهي بمأساة بطلها إبليس القديس المظلوم، لأنه وضع بين أمرين: الأمر بالسجود لآدم وأن السجود لغير الله كفر. فهذا التناول للقصة خاطئ لاعتماده فيه على آراء شخصية إلحادية وباطنية مع التستر بالمذهب الجبري في موضوع (القضاء والقدر).
فهذه المسألة :
أولاً : دينية يجب أن تبحث على ضوء الدين كتاباً وسنة ولا دخل للفلسفات الأخرى فيها.
ثانياً: أن السجود المطلوب سجود تحية وكان معتبراً قديماً كما سجد أبو يوسف بين يديه تحية له. وبيان سقوط الاتجاه الجبري ورفض الإسلام له يطول به البحث.
وقد نوقشت هذه الشبهة علمياً، ومن أحسن الردود العلمية عليها بحث د. فاروق الدسوقي، وهو بعنوان (مواضع التلبيس في شبهات إبليس) المنشور في مجلة (المسلم المعاصر) العدد33، وكذلك كتاب (أنيس الجليس في رد شبهات إبليس) للأستاذ محمد عزت نصر الله، وقد ناقشها العلامة عبدالرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم) في ص (345) وما بعدها.
ثالثاً: أما الدعوة إلى إقامة تصور علمي مادي للكون فهي الفكرة الماركسية في توجهها الإلحادي وهم يهدفون من هذه الدعوى إلى أن الكون ليس بحاجة إلى خالق وينتفي تبعاً لذلك الدين كله. وهذا المنطق الإلحادي المنكوس قديم جداً وهو سابق للماركسية بآلاف السنين وهو ما كان دافعاً للتكذيب بالأديان والرسل على مر العصور حتى جاء (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص) زاعماً (أن كل كلمة لا رصيد لها إلا الحس المادي فهو الذي يبين صدقها أو زيفها) وتبعه ماديو الحضارة الغربية أمثال ماركس وسارتر وراسل وغيرهم. والماديون يقعون في تناقض ظاهر حينما ينكرون كل ما عدا المحسوسات بينما هم يؤمنون بغيبيات كثيرة في العلم التجريبي مثل (الأثير) و(المغناطيس) و(الإلكترون) وغيرها ؛مع أن إيمانهم بها مبني على مجرد الاستنتاج المنطقي ومعرفة آثاره ، بينما ينكرون الباري جل وعلا وهو معروف بالعقل والنقل وآثاره تملأ الكون (وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد) جل وعلا.. فلماذا يؤمن الماديون الملحدون بمبدأ الاستنتاج المنطقي والمعرفة بالآثار لأنفسهم ويحرمونه على غيرهم ؟! إني أدع ذلك لفطنة القارئ ليكشف تناقض الملحدين وصدق الله العظيم: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ) .
إن الفلسفة الماركسية أفلت شمسها والمبادئ المادية تساقطت على ضوء العلم نفسه، فلم يعد للإلحاد أي معنى ويجب أن تعود أيها ( العظم ) إن كنت ( صادقًا ) حقًا إلى المحاسبة الذاتية بعيداً عن كل خلفية فكرية، وستجد أن الإيمان هو الحل. ونذكرك بالحديث النبوي الذي يقول: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فإذا لم يكن بينه وبينها إلا مقدار ذراع سبق عليه القول فعمل بعمل أهل الجنة فكان من أهلها"، ولا شك أن وقفة متأنية للمحاسبة والاطلاع على الدراسات العلمية التي وضحت تجارب العلماء التجريبيين الغربيين التي دعتهم إلى العودة إلى الإيمان يمكن أن تخلخل نوازع الإلحاد في النفس المضطربة.(1/184)
ومن ذلك (العلم يدعو إلى الإيمان) لكريسي موريسون، وكذلك كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لمجموعة من العلماء ترجمة د. الدمرداش سرحان. كل ذلك جدير بأن يعيد نفحات الإيمان الفطرية إلى مستقرها في الفؤاد الشارد وفيها ستجد أن غمامات الإلحاد تنقشع وظلمات الضلالة تتلاشى وستتبدل بها برداً ويقيناً، ثم لماذا لا تعود إلى مصادر الإسلام الأصيلة والدراسات العلمية التي كتبها علماء ومفكرو الإسلام ممن جمع بين العلم والإيمان فسترى فيها معالم علمية ستساعدك على العودة إلى الله مثل دراسات الأستاذ وحيد خان والأستاذ عبدالرحمن الميداني وجمال الدين الفندي وستجد فيها المنهج العلمي للمعرفة في الإسلام والمنهل العذب لآفاق اليقين.
أرجو أن تتأمل فيما قلته، وأرجو ألا تأخذك العزة بالإثم. فاللهم أرنا الحق وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ). انتهى كلام الأستاذ أحمد أبو عامر -بتصرف يسير واختصار-.
ختامًا : العظم ( ملحد ) أي لا يؤمن بوجود إله .. فأتمنى أن لا يخرج علينا من يستغفر له أو يترحم !!
ـــــــــــــــ(1/185)
محمد عزة دروزة
ولد في نابلس(فلسطين) عام 1889
تلقى تعليمه في نابلس وتخرج عام 1906.
عمل موظفاً في دائرة البريد العثمانية، ووكيلاً لمديرية بيسان، ومأموراً متجولاً، ومفتشاً لبيع الطوابع في بيروت، ومفتشاً للبريد في سيناء، وسكرتيراً لديوان المديرية العامة في بيروت، وكاتباً في ديوان الملك الأردني عام1920 ومديراً لمدرسة النجاح الوطنية(1922-1927)، ومأموراً لأوقاف نابلس الاسلامية(1928-1932)، ومديراً للأوقاف الاسلامية في فلسطين(1933-1937).
عضو جمعية البحوث والدراسات. ...
من مؤلفاته وهي كثيرة جداً:
1-وفود النعمان، رواية.
2-مختصر تاريخ العرب والاسلام- جزآن.
3-دروس في فن التربية.
4-دروس في التاريخ العربي.
5-دروس التاريخ المتوسط والحديث.
6-تركية الحديثة.
7-بواعث الحرب العالمية الأولى.
8-عصر النبي وبيئته قبل البعثة.
9- المذكرات نشرتها دار الغرب الاسلامي ببيروت.
توفي سنة 1984.
-----------------
محمد عزة دروزة.. الكاتب المناضل
(في ذكرى وفاته: 28 من شوال 1404هـ)
أحمد تمام
محمد عزة
ينظر الناس بإعجاب إلى تراث الأجداد، ويتعجبون من قدرة بعضهم على التأليف بغزارة وعمق في جوانب مختلفة من العلم، ويرددون أسماء لامعة في تاريخ فكرنا اتسمت بالتوسع والتنوع في التأليف مثل ابن سينا والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن تيمية والسيوطي، ويتحسرون على انقطاع هذه السلسلة من الأعلام الأفذاذ، وعلى ضياع الهمة وضعف الإرادة وانشغال أهل العلم بما لا يفيد، ولو أنهم أمعنوا النظر لتبين لهم أنهم لن ينصفوا وأن هواهم للقديم وميلهم له حجب عنهم رؤية نجوم لامعة ملأت حياتنا المعاصرة فكرا وأدبا وعلما، وكتبت آلاف الصفحات في موضوعات مختلفة اتسمت بالموضوعية وسعة العلم وعمق التناول مع جمال في البيان والأسلوب، وليس ثمة شك في أن محمد عزة (وتنطق عِزّت) دروزة كان واحدا من هؤلاء الأفذاذ، ارتاد مجالات كثيرة؛ فكان أديبا وصحفيا ومترجما ومؤرخا ومفسرا للقرآن.
المولد والنشأة
في مدينة نابلس بفلسطين كان مولد محمد عزة دروزة في (11 من شوال 1305هـ = 21 من يونيو 1887م) ونشأ في أسرة كريمة من قبيلة "الفريحات" التي كانت تسكن الأردن وانحدرت إلى فلسطين واستوطنت نابلس، وكان والده يعمل في تجارة الأقمشة في نابلس، وتلقى دروزة تعليمه في المدارس الابتدائية، وحصل على الشهادة الابتدائية في سنة 1318هـ = 1900م ثم التحق بالمدرسة الرشيدية في نابلس، وهي مدرسة ثانوية متوسطة، وتخرج فيها بعد ثلاث سنوات، حاصلا على شهادتها.
في ميدان العمل
ولم تمكنه ظروف أسرته المادية من استكمال دراسته، فاكتفى بهذا القدر من الدراسة النظامية، والتحق بالعمل الحكومي موظفًا في دائرة البرق والبريد بنابلس (1324هـ = 1906م)، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مديرية البرق والبريد سنة (1333هـ = 1914م) ثم أصبح مديرًا لها، ثم رُقِّي مفتشًا لمراكز البرق والبريد المدنية في صحراء سيناء وبئر سبع، وظل يترقى في وظائفه حتى أصبح في سنة (1341هـ = 1921م) سكرتيرا لديوان رئيس الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، لكنه تركه بعد شهر، واتجه إلى ميدان التعليم.
وقد حفزه عدم إتمام الدراسة على إكمال ثقافته، وتغطية جوانب النقص بها بالقراءة والاطلاع الدؤوب، قرأ ما وقع تحت يديه من كتب مختلفة في مجالات الأدب والتاريخ والاجتماع والحقوق سواء ما كان فيها باللغة العربية أو بالتركية التي كان يجيدها، ويسرت له وظيفته في مصلحة البريد أن يطلع على الدوريات المصرية المتداولة في ذلك الوقت كالأهرام والهلال والمؤيد والمقطم والمقتطف، وكان البريد يقوم بتوزيع هذه الصحف على المشتركين بها، وهذه الدوريات كانت تحمل زادا ثقافيا متنوعا، ففتحت آفاق الفكر أمام عقل الشاب النابه، ووسعت مداركه، وصقلت مواهبه، وأوقفته على ما يجري في أنحاء الدولة العثمانية من أحداث.
وفي أثناء هذه الفترة التي عملها بدائرة البرق والبريد اتصل بالصحافة، وبدأت محاولاته الأولى في الكتابة، فشارك في تحرير جريدة "الإخاء العثماني" التي كان يصدرها في بيروت أحمد شاكر الطيبي، وكان يترجم لها فصولا مما ينشر في الصحف التركية عن أخبار الدولة العثمانية وأحوال الحركة العربية، وكان يخص جريدة "الحقيقة" البيروتية، التي كان يصدرها كمال بن الشيخ عباس بمقال أسبوعي يتناول موضوعا اجتماعيا أو وطنيا، وشارك أيضا بالكتابة في جريدة فلسطين التي كان يصدرها عيسى العيسى في يافا، وجريدة الكرمل التي كان يصدرها نجيب نصار في حيفا.
في ميدان التربية والتعليم
انتقل دروزة مع فرض الانتداب البريطاني في فلسطين سنة 1342هـ = 1922م إلى ميدان التربية والتعليم، فتولى إدارة مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، وتحولت المدرسة على يديه إلى مركز من مراكز الوطنية إلى جانب رسالتها التعليمية والتربوية، فكانت تلقن طلابها حب العرب والعروبة، وتشعل في قلوبهم جذوة الوطنية، وتضع البرامج التي تغذي فيها الاعتزاز بالأمجاد العربية والإسلامية.
وكانت لدروزة خلال إدارته المدرسة محاضرة أسبوعية في الأخلاق، والاجتماع يلقيها على طلاب الصفوف الثانوية، وظل ملتزما بهذا العمل خمس سنوات متصلة، ولم تشغله أعباء المدرسة عن كتابة المقالات الاجتماعية والتربوية، التي كان يمد بها مجلات "الكشاف" في بيروت، و"المرأة الجديدة" في القاهرة، ونشر مقالات سياسية في جريدتي "الجامعة العربية" و"القدس" في فلسطين.
وأدت جهوده في السنوات الخمس التي تولى فيها إدارة المدرسة إلى تحسين نظمها وارتقاء مناهجها حتى أصبحت ذات مكانة كبيرة وتجلى أثره في توجيهها الوطني حيث تخرج في عهد رئاسته، وتتلمذ على يديه كثير من شباب فلسطين الذين كان لهم دور بارز في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية.
الحفاظ على الأوقاف الفلسطينية
انتقل دروزة في سنة 1347هـ = 1928م إلى العمل في إدارة الأوقاف الإسلامية؛ حيث عُين مأمورا للأوقاف في نابلس، ثم رُقِّي في سنة 1351هـ = 1932م مديرا عاما للأوقاف الإسلامية في فلسطين، وظل يشغل هذا المنصب حتى اندلاع الرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية التي كانت قد شبت في سنة 1355هـ = 1936م، ولما كان دروزة من القائمين عليها أصدرت إدارة الانتداب البريطاني قرارًا بعزله عن منصبه في سنة 1356هـ = 1937م وقرارا آخر بمنعه من العودة إلى فلسطين حيث كان خارجها عند استئناف الثورة، ومنذ ذلك التاريخ ابتعد دروزة عن تولي الوظائف الحكومية والأهلية.
مشاركته في الحركة القومية
محمد عزة دروزة مع رفاقه من زعماء الحركة الوطنيةفي فلسطين
بدأ نشاط محمد عزة دروزة في ميدان الحركة الوطنية مبكرًا في سنة 1327هـ= 1909م، وشارك في إنشاء الجمعيات الوطنية والأحزاب السياسية، وشارك بتأليف الروايات القومية والمسرحيات التي تمجد العروبة، وتعبّر عن المطامح القومية والرغبة في النهوض، وتبوأ المكانة اللائقة، مثل رواية "وفود النعمان على كسرى أنوشروان" سنة 1333هـ = 1911م، و"السمسار وصاحب الأرض" سنة 1333هـ = 1913م.
وأتاح له عمله المتجول الاتصال بكثير من الشخصيات الوطنية والقومية البارزة وتشكيل الجمعيات الوطنية، التي أصبحت قاعدة الحركة الوطنية في فلسطين مثل "الجمعية الإسلامية المسيحية" وتولى سكرتيريتها، حتى يشعر العالم بأن المعارضة للمطامع الصهيونية من المسلمين والمسيحيين على السواء، وأن دروزة من الداعين إلى توحيد الجمعيات الوطنية التي تعمل في أنحاء فلسطين والتنسيق بين جهودها؛ فعقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس في ربيع الأول 1337 = يناير 1919م برئاسة عارف الدحاني، وكان أهم ما صدر عن المؤتمر التأكيد على المطالب القومية في الاستقلال والوحدة واعتبار فلسطين جزءا من سوريا، وفض المطامع الفرنسية وتجديد العلاقات مع بريطانيا على أساس التعاون فقط وعدم قبول أي وعد أو معاهدة جرت بحق البلاد ومستقبلها، وتولى دروزة مع زميل له إعداد مذكرة بخصوص هذا الشأن وتقديمها إلى الحاكم العسكري للبلاد لإرسالها إلى الحكومة في بريطانيا، وإلى مؤتمر السلم المنعقد في باريس، وانغمس دروزة في النشاط الوطني الفلسطيني منذ أن استقر في نابلس، فشارك بجهود مشكورة في انعقاد المؤتمرات السياسية التي كانت تخطط للحركة الوطنية وتتابع نشاطها، وكان على رأس المقاومين للسياسة البريطانية ومشروعاتها المختلفة، فقام مع رفاقه بحركة مقاطعة الدستور وانتخاب مجلس تشريعي مغلول اليد؛ الأمر الذي ترتب عليه وأد الفكرة وقتلها في مهدها، وقاد مظاهرات مختلفة ضد السياسة البريطانية، وأدى هذا إلى اعتقاله، وتقديمه للمحاكمة، والحكم عليه بالسجن، مثلما حدث له في سنة 1353هـ = 1934م، وكان دروزة أحد قادة ثورة فلسطين في سنة 1355هـ= 1936م حيث دعت إلى الإضراب العام، وتحول الإضراب إلى ثورة شعبية كاسحة.
ومال دروزة إلى اتخاذ إجراءات متصاعدة ضد السلطة البريطانية ما لم تستجب لمطالب البلاد، ولم تجد بريطانيا لمواجهة هذه الثورة بُدًّا من اعتقاله هو وزملائه، ولما تجددت الثورة سنة 1356هـ= 1937م كان المسئول عن التخطيط السياسي للثورة الفلسطينية، وكانت تتلقى أوامرها من دمشق حيث كان يقيم دروزة، وغيره من القيادات الفلسطينية اللاجئين بها، وظل هناك قائما على أمر الثورة الفلسطينية حتى اعتقله الفرنسيون بتحريض من الإنجليز في 1358 هـ = 1939م، وحوكم أمام محكمة عسكرية فأصدرت عليه حكما بالسجن، ثم أُفرج عنه سنة 1360هـ= 1941م فذهب إلى تركيا لاجئا، وقضى هناك أربع سنوات عاد بعدها إلى فلسطين، واستمر دروزة يقوم بدوره السياسي في خدمة القضية الفلسطينية حتى اشتد عليه المرض في سنة 1367هـ=1948م، فاستقال من عضوية الهيئة العربية العليا لفلسطين وتفرغ للكتابة والتأليف، وقد سجل مذكراته في ستة مجلدات ضخمة، حوت مسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمان.
إنتاجه الفكري
لم يحل انشغال دروزة بالحركة الوطنية الفلسطينية والمشاركة في قيادتها عن الكتابة والتأليف، فبدأ يؤلف خدمة للحركة الوطنية والنهوض بطلاب العلم في المدارس، فكتب رواياته الوطنية التي تشعل الحماس في النفوس الناشئة، وألف مختصرا في تاريخ العرب، بعنوان "دروس التاريخ العربي من أقدم الأزمنة حتى الآن"، وهو كتاب مدرسي للصفوف الابتدائية، وظل معتمدا في جميع المدارس العربية والوطنية الخاصة في فلسطين، ثم اتجه إلى التأليف العام، وهو يدور في ثلاث دوائر يكمل بعضها بعضا ويكمل كل منها رسالة الآخر.
أما الدائرة الأولى فهي الدائرة الفلسطينية، وقد أسهم فيها بعدد من المؤلفات يأتي على قمتها مذكراته الضخمة التي تُعد أضخم عمل في هذا الباب من كتابه "المذكرات الشخصية"، كشفت جوانب غامضة، وأعانت على تفسير بعض القضايا المبهمة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني، وإلى جانب هذا العمل الكبير ألَّف كتبا كثيرة تخدم القضية الفلسطينية، مثل: "القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها" و"مأساة فلسطين"، "فلسطين" و"جهاد الفلسطينيين عبرة من تاريخ فلسطين"، "قضية الغزو الصهيوني"، "في سبيل فلسطين"، "فلسطين والوحدة العربية" و"من وحي النكبة صفحات مغلوطة" و"مهملة من تاريخ القضية الفلسطينية".
أما الدائرة الثانية فهي الدائرة العربية، وأسهم فيه مؤلفات متعددة منها:
ـ تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار من أقدم الأزمنة، وصدر في ثمانية أجزاء نحو ثلاثة آلاف صفحة.
ـ العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي، وصدر في تسعة أجزاء.
ـ الوحدة العربية، في مجلد كبير، وقد نال عنه جائزة من المجلس الأعلى والفنون والآداب بمصر في سنة 1951م.
ـ حول الحركة العربية الحديثة، في ستة أجزاء.
ـ نشأة الحركة العربية الحديثة، في مجلد واحد، تناول فيه أحوال العرب وتاريخ الدولة العثمانية، والجمعيات العربية التي كانت تطالب بالانفصال عن الدولة العثمانية.
أما الدائرة الثالثة: فهي الدائرة الإسلامية، وشارك فيها بمؤلفات متعددة، يتصدرها عمله الكبير "الدستور القرآني والسنة النبوية في شئون الحياة"، وطُبع في مجلدين كبيرين، أوضح فيه ما احتواه القرآن والسنة النبوية من نظم لمختلف شئون الحياة، ويمثل هذا المؤلف تحولا كبيرا في حياة مؤلفه بعد أن استوفى دراسات التاريخ القومي وقضايا المجتمع العربي، حيث اتسعت نظرته أنه لا نجاح للأمة العربية في تحقيق أهدافها دون التماس منهج القرآن والالتزام به.
وله أيضا "التفسير الحديث"، التزم فيه تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب نزول السور، وبدأ في تأليفه عندما كان لاجئا في تركيا، وصدر في 12 جزءا، وشارك في كتابة السيرة النبوية بكتابه المعروف "سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صورة مقتبسة من القرآن"، وصدر في مجلدين.
وإلى جانب هذه الكتب الثلاثة الكبيرة له مؤلفات إسلامية متنوعة تواجه الاستشراق والتبشير مثل: "القرآن والمرأة"، "القرآن والضمان الاجتماعي"، "القرآن والمبشرون اليهود في القرآن الكريم".
وفاته
وبعد هذه الحياة العريضة التي حياها "محمد عزة دروزة" مناضلا وكاتبا، وافته المنية في دمشق بحي الروضة في يوم الخميس الموافق (28 من شوال 1404هـ = 26 من يوليو 1984م).
من مصادر الدراسة:
محمد عزة دروزة: مذكرات محمد عزة دروزة - دار الغرب الإسلامي بيروت - 1993م.
عادل حسن غنيم: محمد عزة دروزة - دار النهضة العربية - القاهرة - 1987م.
أنور الجندي: أعلام القرن الرابع عشر الهجري - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1981م.
محمد خير رمضان: تتمة الأعلام للزركلي - دار ابن حزم - بيروت - 1418هـ = 1998م.
----------------
محمد عزة دروزة
ولد في نابلس(فلسطين) عام 1889
تلقى تعليمه في نابلس وتخرج عام 1906.
عمل موظفاً في دائرة البريد العثمانية، ووكيلاً لمديرية بيسان، ومأموراً متجولاً، ومفتشاً لبيع الطوابع في بيروت، ومفتشاً للبريد في سيناء، وسكرتيراً لديوان المديرية العامة في بيروت، وكاتباً في ديوان الملك الأردني عام1920 ومديراً لمدرسة النجاح الوطنية(1922-1927)، ومأموراً لأوقاف نابلس الاسلامية(1928-1932)، ومديراً للأوقاف الاسلامية في فلسطين(1933-1937).
عضو جمعية البحوث والدراسات.
من مؤلفاته وهي كثيرة جداً:
1-وفود النعمان، رواية.
2-مختصر تاريخ العرب والاسلام- جزآن.
3-دروس في فن التربية.
4-دروس في التاريخ العربي.
5-دروس التاريخ المتوسط والحديث.
6-تركية الحديثة.
7-بواعث الحرب العالمية الأولى.
8-عصر النبي وبيئته قبل البعثة.
9- المذكرات نشرتها دار الغرب الاسلامي ببيروت.
توفي سنة 1984.
تلقى تعليمه في مدارسها، ونال شهادته سنة 1906. عمل في مصلحة البريد حتى سنة 1918، وحين انشئت مدرسة النجاح في نابلس عين رئيساً لها من 1922-1927، ثم عين مديراً لدائرة الأوقاف الإسلامية في نابلس من 1932-1937 حين اتخذت الحكومة البريطانية من اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى ذريعة لإستيلائها علىالأوقاف وحل المجلس الإسلامي الأعلى، واصدرت قرارها بفصله من منصبه. غادر فلسطين متجهاً الى دمشق حيث واصل جهاده في خدمة بلاده، مما احنق عليه السلطات الفرنسية، فقدمته للمحاكمة العسكرية التي اصدرت حكمها بسجنه خمس سنوات، فقضى منها 26 شهراً في سجن المزة، واطلق سراحه سنة 1940 على اثر انهيار فرنسا في الحرب العالمية الثانية. غادر دمشق سنة 1941 لاجئاً الى تركيا واقام بها اربع سنوات عاد بعدها لدمشق، ولما وقعت نكبة 1948 كان في دمشق، انتابه مرض واجريت له جراحة واصبح النشاط الجسماني عليه عسيراً وثقل سمعه، فأعتزل السياسة وانصرف للقراءة والكتابة والتأليف. من نشاطاته السياسية: انضم لفترة قصيرة لعضوية جمعية الإتحاد والترقي. وامين سر حزب الإئتلاف في نابلس 1909، امين سر الجمعية الوطنية 1911. عضو في جمعية العربية الفتاة 1916، ثم اميناً لسر هيئتها المركزية في دمشق من 1919-1932، وعضو مؤسس لحزب الإستقلال العربي في دمشق 1919-1920، ثم في فلسطين، ومن 1932-1936 ممثلاً لحزب الإستقلال في اللجنة العربية العليا لفلسطين وامين سرها، توفي في اوائل سنة 1982. منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في عام 1990. من اعماله: تركيا الحديثة-بيروت 1946. حول الحركة العربية الحديثة-6 اجزاء 1950. بواعث الحرب العالمية الأولى في الشرق الأدنى-جان بيتون-ترجمة-بيروت 1946. تاريخ بني اسرائيل-القاهرة 1958. الجهاد في سبيل الله. تاريخ بني اسرائيل من اسفارهم-3 أجزاء-القاهرة 1960-1961. تاريخ الجنس العربي في مختلف الأفكار-بيروت 1959-1964. التفسير الحديث-القاهرة 1961-1964. جهاد الفلسطينيين-دمشق 1960. دروس التاريخ العربي-القاهرة 1932. دروس التاريخ القديم 1932. دروس التاريخ المتوسط والحديث-دمشق 1938. دروس في فن التربية-جبرائيل كمبايرة-القاهرة 1937. سيرة الرسول-مجلدان-القاهرة 1948. عروبة مصر-بيروت 1964. الدستور القرآني في شؤون الحياة-القاهرة 1956. القرآن والمبشرة. القرآن والملحدون. في سبيل قضية فلسطين. عبرة من تاريخ فلسطين. العدوان الإسرائيلي في القديم والحديث. صفحات مهملة ومغلوطة من تاريخ القضية الفلسطينية. يوميات محمد عزة دروزة-7 اجزاء 1997. العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي-دمشق 1956. عروبة مصر في التاريخ 1960. عروبة مصر قبل الإسلام وبعده-القاهرة 1961. عروبة منذ الفتح الإسلامي-القاهرة 1961. عصر النبي وبيئته قبل الاسلام -دمشق 1949. القرآن والمرأة - بيروت 1951. القرآن واليهود - دمشق 1949. المرأة في القرآن والسنة - بيروت 1968. القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها - بيروت 1959- 1960. مأساة فلسطين - دمشق 1960. مختصر تاريخ العرب والاسلام - جزآن - القاهرة 1925. مشاكل العالم العربي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية - دمشق 1925. موجز تاريخ اوروبا في الشرق العربي - ترجمة. الوحدة العربية - بيروت 1958. القومية العربية . وفود النعمان على كسرى انو شروان - بيروت 1911. نشأة الحركة العربية الحديثة - بيروت 1973. التفسير الحديث - القاهرة 1961- 1964
مفكرون ومصلحون
ـــــــــــــــ(1/186)
محمد المختار السوسي
هو الوطني الغيور المقاوم الصبورالأستاذ العامل محمد المختار ابن علي بن أحمد السوسي الإلغي الدرقاوي الملقب برضا الله.
ولد في "إلغ" وهي قرية بناحية تازروالت في أقصى جنوب القطر السوسي بجنوب المغرب، وتبعد عن مدينة تيزنيت شرقا ب84كلم، وذلك في شهر صفر الخير عام1318هـ ونشأ بها، وحين بلغ سن الإدراك اتجه إلى الدراسة الأولية لتعلم الكتابة والقراءة واستظهار كتاب الله العزيز على عدة معلمين، أولهم والدته السيدة رقية بنت محمد بن العربي الأدوزي، وختم ذلك سبع ختمات في مختتم عام 1328هـ.
مشوار الطلب
وفي أوائل عام1329هـ صبت همته الطموح للمعالي للدراسة العلمية فارتاد منابع العلوم والثقافة الإنسانية، فدرس بالزاوية الالغية، ثم التحق بمدرسة إيغشان الواقعة في الشمال الشرقي لقرية إلغ ، وأخذ عن العالم عبد الله بن محمد الإلغي ثم ارتحل إلى المدرسة البونعمانية بآيت براييم وأخذ عن العالم الصالح أحمد بن مسعود البونعماني، كما أخذ عن العالم الأديب الطاهر بن محمد الافراني،والشيخ عبد الرحمن البوزاكارني.
ومن بين ما درسه في هاته المعاهد: المقدمة الأجرومية، و لامية المجرادي في أحكام الجمل، ولامية الأفعال للإمام ابن مالك في التصريف، والخلاصة الألفية، ولامية العجم للطغرائي، والمقامات الحريرية، وطرف من الرسالة القيروانية، والمختصر الخليلي، والتحفة للإمام ابن عاصم الغرناطي، والفرائض والحساب مع كثير من القصائد الأدبية المتداولة في الدراسة .
وفي عام 1338هـ رحل إلى عاصمة الجنوب مراكش ، فقطن بمدرسة ابن يوسف، وحضر في الحلقات العلمية بالكلية اليوسفية المعقودة للفقيه محمد بن الحسن الدباغ، والفقيه محمد بن عمر السرغيني الشهير بابن نوح، وأبي شعيب الشاوي، والفقيه أحمد بن الحسن الخصاصي، كما حضر المجالس العلمية التي عقدها هناك الشيوخ الواردون عليها وهم: الفقيه فتح الله بناني، وشيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي .
وقد تلقى عن هؤلاء الشيوخ بمراكش تحفة الحكام، ولامية الزقاق، والجوهر المكنون، والخزرجية في العروض، و السُّلَّم للشيخ الأخضري، وجمع الجوامع، ومختصر المواهب اللدنية، والجامع الصحيح للإمام البخاري .
وفي عام 1343هـ شد الرحلة إلى العاصمة العلمية "فاس" فاستوطن ببيت في المدرسة البوعنانية بالطالعة، وتردد على مجالس الشريف العلامة المحدث محمد بن جعفر الكتاني، والمفتي محمد بن الطيب البدراوي، والعلامة محمد الحجوجي. فدرس الموطأ وشمائل الترمذي، والشفا للقاضي عياض، والمسند للإمام أحمد، والحساب، والجغرافيا، و المعلقات السبع، والكامل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرد، وديوان الحماسة لأبي تمام الطائي. وقد تتلمذ في هذه الدراسة الأدبية للأستاذ الشريف السلفي محمد بن العربي الوزاني المدغري.
وفي عام 1347هـ رحل إلى الرباط، وفيها أخذ عن العلامة الشيخ أبي شعيب الدكالي بعض الأحزاب من تفسير كلام الله المبين، ودروسا من الأمالي لأبي علي القالي، وأخذ عن العلامة محمد المدني بن الحسني طرفا كبيرا من التلخيص للقزويني، و ألفية العراقي في الحديث، و غير ذلك.
وفي عام 1348هـ عاد إلى مراكش وقام بإملاء دروس علمية تطوعية في مختلف مساجدها، وكانت تشتمل على الحديث و النحو والسيرة النبوية، والفقه وأصوله، وانتظم في عقد علماء مراكش الرسميين.
جهاده ضد الاستعمار
كان رحمه الله من الوطنيين الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والذين قاموا بمساع حميدة مشكورة في سبيل الوطن العزيز والعمل على انعتاقه وفك أغلاله وقيوده من ربقة الاستعمار اللعين، فقد ساهم خلال إقامته في فاس في تأسيس بعض الجمعيات السياسية السرية، والمنتديات الأدبية، و واصل نضاله السياسي والوطني في مراكش مما أدى إلى اعتقاله. ولما أكرم الله تعالى المغرب الأقصى بحريته المنشودة عُين في أول حكومة مغربية وطنية وزيرا للأوقاف العمومية وذلك خلال عام 1375 هـ، ثم لما أسس مجلس التاج عين وزيرا عضوا فيه عام 1376هـ، و بقي متقلدا مهام تلك الوظيفة إلى أن توفي رحمه الله، كما أنه اشتغل عضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي.
جهود علمية ومؤلفات
ويعتبر المختار السوسي شخصية بارزة لامعة في أسماء العلم و الأدب و التاريخ والبحث والدراسة، والاستفادة والإفادة، مشارك في كثير من فنون المعرفة، متخصص بارع في مادة الأدب و التاريخ، خصوصا تاريخ سوس، متضلع في ميدان اللغة العربية، متمكن من ناصيتها، فقد أثرى المكتبة بعدد لا يستهان به من نوادر المخطوطات العربية التي اكتشفها في مختلف المكتبات المغربية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
× ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث
× مختصر رحلة العبدري لمؤلف مجهول
× طبقات المالكية لمؤلف مجهول.
وقد خلف رحمه الله مؤلفات بالغة الأهمية نذكر منها :
× المعسول في عشرين جزءا
× سوس العالمة
× من أفواه الرجال
× رجال العلوم العربية في سوس
× اصفى الموارد
× بين الجمود والميع وهو رواية من أفكار إسلامية
× تقييدات على تفسير الكشاف للزمخشري
- - - - - - - - - - - - - - - - - - -(1/187)
الفهرس العام
سعيد بن المسيب ... 3
سعيد بن جبير أعلم التابعين بالتفسير ... 6
الحسن البصري ... 10
الحسن البصري التابعى الجليل ... 12
محمد بن سيرين إذا رأوه ذكروا الله ... 16
عبد الملك بن مروان ... 21
عمر بن عبد العزيز ... 24
المأمون بن الرشيد ... 30
هارون الرشيد ... 34
هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه ... 36
المعتصم بالله ... 43
الناصر لدين الله.. صلاح الدين الأيوبي ... 44
صلاح الدين الأيوبي ... 49
صلاح الدين الأيوبي فارس نبيل وبطل شجاع ... 52
من مآثر صلاح الدين الأيوبي ... 76
سيف الدين قطز ... 81
السلطان عبد الحميد الثاني ... 84
جعفر الصادق ... 91
أبو حنيفة النعمان ... 93
الليث بن سعد ... 95
الليث بن سعد الإمام الحافظ 2 ... 96
شريك بن عبد الله ... 104
مالك بن أنس ... 107
الإمام مالك إمام دار الهجرة ... 109
أبو يوسف ... 115
الإمام الشافعي.. شمس الدنيا وعافية البدن ... 117
الشافعي ... 119
الإمام أحمد بن حنبل ... 123
العلامة ابن حزم الأندلسي ... 126
إمام الحرمين الجويني ... 129
سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ... 131
سلطان العلماء العز بن عبد السلام2 ... 135
شيخ الإسلام ابن تيمية ... 141
سفيان الثوري ... 144
أمير المؤمنين في الحديث( البخاري) ... 146
الإمام البخاري أمير أهل الحديث 2 ... 149
ابن ماجة القزويني ... 164
أبو داود السجستاني ... 166
خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني ... 168
شيخ المؤرخين والمفسرين الطبري ... 171
الإمام الطبري إمام المؤرخين والمفسرين2 ... 172
محمود شكلاي الألوسي ... 180
عملاق الفكر الإسلامي سيد قطب ... 182
إبراهيم بن أدهم شيخ الزهاد ... 185
العالم الرباني عبد الله بن المبارك ... 188
الفضيل بن عياض شيخ زهاد الحرم ... 196
فاتح إفريقية عقبة بن نافع ... 199
فاتح الأندلس طارق بن زياد ... 204
الفتح المجاهد موسى بن نصير ... 206
الفقيه المجاهد أسد بن الفرات ... 211
صاحب الزلاقة يوسف بن تاشفين ... 213
شيخ المجاهدين عمر المختار ... 216
أنور الجندي الكاتب الفذ والعالم المتواضع ... 224
هوامش على تاريخ الحجاج!!( 1 ) ... 235
الخليل بن أحمد الفراهيدي ... 242
شيخ النحويين سيبويه ... 244
الشاعر الكبير أبو تمام الطائي ... 246
عبد القاهر الجرجاني ... 248
صاحب القاموس المحيط الفيروزابادي ... 249
أمير البان شكيب أرسلان ... 251
أمير الشعراء أحمد شوقي ... 254
عباس محمود العقاد ... 259
أقضى القضاة الماوردي ... 264
أبو حامد الغزالي ... 266
ابن رشد الحفيد ... 269
عبد الرحمن الكواكبي ... 271
محمد بن عبد الوهاب ... 274
جمال الدين الأفغاني ... 277
شاعر الإسلام محمد إقبال ... 281
الإمام حسن البنا ... 287
جابر بن حيان ... 289
أبو بكر الرازي ... 291
شيخ الأطباء ابن سينا ... 294
العالم الرياضي البيروني ... 298
شيخ الجغرافيين الشريف الإدريسي ... 303
الطبيب البارع ابن النفيس ... 306
شيخ الرحالة ابن بطوطة ... 308
عبد الرحمن الجبرتي ... 311
الرحالة البحار ابن ماجد ... 314
د.محمد عبد السلام ... 316
العبقري الكبير نجم الدين أربكان ... 319
الشهيد المقعد أحمد ياسين ... 337
عثمان بن محمد فوديو ... 343
أيوب السختياني ... 349
الشيخ الأديب عبد الغني الدقر ... 351
الإمام الحافظ الناقد الذهبي ... 366
أبو الأعلى المودودي ... 369
الشيخ محمد الحامد ... 376
العلامة مصطفى السباعي ... 392
د. مصطفى السباعي.. العالم.. الداعية.. المجاهد 2 ... 404
محب الدين الخطيب ... 411
الشيخ طاهر الجزائري ... 417
كامل الغزّي ... 423
الشيخ كامل القصاب ... 427
محمد المبارك ... 431
محمد بهجت البيطار ... 437
محمد رشيد رضا ... 441
الشيخ علي الطنطاوي ... 447
علي الطنطاوي 2 ... 456
شيخ المؤرخين المعاصرين خير الدين الزركلي ... 463
الشيخ علي الدقر ... 468
القائد الشهيد : عبد القادر الحسيني ... 478
الحاج محمد أمين الحسيني ... 484
أكرم زعيتر ... 494
فوزي القاوقجي ... 498
الشيخ عز الدين القسام ... 503
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ... 509
عبد الله عزام رجل دعوة ومدرسة جهاد ... 523
محمد طاهر الأتاسي مفتي حمص ... 529
رفيق العظم ... 542
عبد العزيز الرنتيسي.. الطبيب الثائر ... 545
الشيخ الحصري.. ولسان الصدق في الآخرين ... 549
محمود شاكر المقاتل التراثي الشجاع ... 554
مسلمة بن عبد الملك.. الفاتح الكبير ... 561
الفقيه الأميرال 1/2 ... 566
الفقيه الأميرال 2/2 ... 568
أحمد ديدات.. دعوة حتى آخر رمق ... 572
د. محمد رأفت السعيد.. الفارس الكبير ... 577
محمد أنور شاه الكشميري .. المحدِّثُ الكبير ... 581
أحمد بن حجر .. قاضي قطر وعالمها ... 585
الشيخ محمد حامد الفقي مؤسس" أنصار السنة ... 589
شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي ... 594
محمد محمد حسين.. رائدٌ سَمَا عَنِ الأَطْمَاع ... 599
الشيخ عبد الله ناصح علوان ... 606
عبد الرحمن الأوزاعي .. العالم المرابط ... 610
علامة الشام جمال الدين القاسمي ... 615
الشيخ الداعية: محمد حسين يعقوب ... 620
الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في سطور ... 622
الشيخ جاد الحق .. صاحب المواقف العظام ... 626
الشيخ محمد أبو زهرة.. الحق على لسان رجل ... 635
وفاة الشيخ محمد صفوت نور الدين ... 638
الشيخ المراغي .. دعوة للإصلاح والتقريب ... 641
بدر الدين الحسني .. المحدث الكبير ... 648
الشيخ عبد الحميد كشك ... 653
العلامة عبد العزيز بن باز ... 655
الإمام عبد العزيز بن باز الداعية الفقيه 2 ... 664
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط ... 677
الشيخ عبد الله الأنصاري ... 684
الشيخ محمد الخضر حسين ... 687
محمد متولي الشعراوي ... 693
الشيخ الشعراوي 2 ... 695
المحدث محمد ناصر الدين الألباني ... 709
الشيخ الألباني العلامة الشيخ 2 ... 713
عبد الله بن زيد آل محمود ... 718
العالم الرباني الشيخ محمد المختار الشنقيطي ... 721
محمد علال الفاسي (1326 - 1394 هـ) ... 723
العلامة ابن القيم ... 727
العلاّمة محمد بن صالح العثيمين ... 735
محمد الفاتح وفتح القسطنطينية ... 741
الشيخ أبو الحسن الندوي رباني الأمة ... 781
الإمام النسائي صاحب السنن ... 807
الإمام النّووي ... 810
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز نموذج وقدوة للشباب ... 817
محمد زاهد الكوثري ... 822
مسلم بن الحجاج القشيري ... 829
الحافظ البيهقي ... 832
جلال الدين السيوطي ... 849
الحافظ المؤرخ المفسر ابن كثير ... 858
الدكتور سيد نوح العالم الرباني ... 865
الشيخ السيد نوح.. الداعية الرباني ... 875
ابن الجوزى ... 888
الدكتور عبد الودود شلبي.. حارس العقيدة ... 892
محمد محمود الصواف.. رائد الحركة الإسلامية في العراق ... 901
محمد فرغلي.. الداعية الشهيد (1907- 1954)م ... 909
الشيخ محمد الغزالي- الداعية الأديب الشاعر ... 927
الشيخ محمد الغزالي.. الفكر السامق والحركة الدائبة ... 948
العالم الداعية سعيد حوى ... 951
عبد البديع صقر... الداعية المهاجر ... 957
عبد العزيز جاويش: شيخ التربية والصحافة والجهاد ... 969
الرافعي.. الحكمة في أجمل بيان ... 976
عاشق الحرية الشاعر/ هاشم الرفاعي ... 991
الحافظ العراقي ... 1001
الشيخ عبد الرحمن حسن حَبنَّكة ... 1013
محمد عزة دروزة ... 1037
محمد المختار السوسي ... 1047(1/187)