كتاب مسائل نحو مفردة
صنعة أبي البقاء العكبري
... ... ... ... ت 616هـ
تقديم وتحقيق
الدكتور جميل عويضة
1422هـ / 2001 م
كتاب مسائل نحو مفردة
أبو البقاء العكبري
كتاب مسائل نحو مفردة
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
الرئاسة العامة ـ وكالة الغوث الدولية
قسم التعليم
خبير تربوي
بسم الله الرحمن الرحيم
-18-
كتاب مسائل نحو مفردة
نسخة الكتاب المعتمدة :
اعتمدنا نسخة محفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق ، ضمن مجموع رقمه ( 1447) ، وهذه النسخة تقع في خمس صفحات من القطع الكبير ، وفي كل صفحة اثنان وثلاثون سطرا ، وخطها نسخي واضح ، ولا تحمل اسم الناسخ ، ولا تاريخ النسخ ، غير أنّ خطها من خطوط القرن العاشر الهجري 0
سبب تصنيف المسائل :
يفهم من كلام أبي البقاء أنّ مسائلة هذه جاءت على شكل إجابات عن أسئلة تلقّاها من سائلين ، والواقع أن ثلاث مسائل كانت كذلك ، أمّا مسألتا (لو ) و (إذا) الزمانية ، فلم يذكر أنّ سائلا سأل أبا البقاء عنها ، وإنما ضمنها أبو البقاء مسائله مصدّرة بالقول : ومن كلامه في لو، ومن كلامه في إذا الزمانية ، وقد خلت هذه المسائل من مقدّمة تبين طريقة مؤلفها في تناول هذه المسائل 0
ترتيب المسائل بين مصنفات أبي البقاء :
لقد اتضح من إشارة أبي البقاء في كتابه إعراب الحديث أنّ هذه المسائل سبقت في تأليفها كتاب إعراب الحديث ، ويبدو أن إعراب القرآن قد صُنِّف قبل أن يشرع أبو البقاء في تصنيف هذه المسائل ، أو على الأقل قبل أن يُسأل عنها ، والدليل على ذلك أنّ أبا البقاء عندما عرض لإعراب قوله تعالى [ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها ] (1) لم يشر أدنى إشارة إلى هذه المسائل بل اكتفى بالقول :
( إليها ) : إنما أنث الضمير لأنه أعاده إلى التجارة ، لأنها كانت أهم عندهم (2) 0
فذكر وجها من عدة وجوه ذكرها في تعليله لتغليب جانب المؤنث ن عند عرضه لهذه المسألة في مصنفه : مسائل نحو مفردة 0
ـــــــــــــــــــ(1/1)
(1) سورة الجمعة ، آية 11
(2) العكبري ، إعراب القرآن ، ص 1223
-19-
مسائل الكتاب :
بلغ عدد المسائل التي ناقشها أبو البقاء في هذا المصنف خمس مسائل ، هي :
... ـ مسألة [ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها ] (1) 0
... ـ مسألة " إنما يرحم الله من عباده الرحماء "(2) 0
... ـ مسألة لو 0
... ـ مسألة إذا الزمانية 0
... ـ مسألة " نحن أحقّ بالشك من إبراهيم " (3) 0
وقد أشار أبو البقاء إلى المسألة الثانية " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " في كتابه إعراب الحديث حين قال : " وقد أفردت هذه المسألة بالكلام ، وذكرت في ( ما ) وجوها كثيرة في جزء
مفرد " (4) وقول أبي البقاء هذا أوقع كثيرا ممن ترجموا له في لبس ، فاعتبروا أنّ هذه المسألة مصنف مستقل ، والصحيح أن هذه المسألة واحدة من خمس مسائل ، وردت في مصنف لأبي البقاء هو : مسائل نحو مفردة ، وهذه المسألة أم المسائل الخمس في هذا المصنف ، فقد تناولها أبو البقاء بشيء من التفصيل ، فجاءت أطول مسألة في هذا المصنف ، وربما سمي المصنف باسمها لهذا السبب ، وقد ذكر ابن رجب هذه المسألة ، ومسألة (لو ) بنصهما (5) 0
وتختلف مسائل أبي البقاء من حيث الطول والقصر ، فقد بسط القول في مسألة " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " ، على حين جاءت مسألة ( إذا ) الزمانية مختصرة غاية الاختصار ، فلم يتجاوز حديثه عنها الثلاثة الأسطر ، أمّا باقي المسائل فقد جاءت منزهة من الإطناب الممل ، والاختصار المخل ، فكانت بين بين 0
?
ـــــــــــــــــــ
(2) سورة الجمعة ، آية 11
(2) من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم ، انظر : صحيح البخاري 2/ 80 باب الجنائز 0
(3) من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم ، انظر : ابن الأثير ، النهاية في غريب الحديث والأثر ، 2/ 495 ( شكك ) ، وفيه ( أنا أولى 000) 0
(4) العكبري ، إعراب الحديث ، ص 14
(5) ابن رجب ، الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 115 - 120
-20-
مادة المسائل :(1/2)
ـ المسألة الأولى :
قوله تعالى : [ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ] لماذا جاء الضمير في ( إليها) مؤنثا مفردا ؟
أجاب أبو البقاء عن هذه المسألة ، فبرر تغليب جانب المؤنث على المذكر من عدة وجوه هي :
- أنه أعاد الضمير إلى التجارة 0
- أنّ كل تجارة لهو ، وليس كل لهو تجارة ، فكان الضمير عائدا على ما اشتمل على المعنيين 0
- أنّ التجارة هي المعطوف عليها ، والبداية بالشيء تدل على الاهتمام به ، فالضمير يعود على الأهم 0
- أنه يجوز أن يعود الضمير على أحد الشيئين ، ويُكتفى به 0
أمّا جعل الضمير مفردا ، فلأنّ ( أو ) لأحد الشيئين ، فلا يعود الضمير إلى الاثنين ، لأنّ عود الضمير إلى الاثنين يكون مع الواو التي هي للجمع ، وليس مع ( أو ) 0
ـ المسألة الثانية :
... ... قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " 0
جوّز أبو البقاء في ( الرحماء ) النصب ، والرفع ، وقد منع بعض النحاة وجه الرفع ، أمّا النصب فله وجهان عنده ، هما :
- أن تكون ما كافة لإنّ عن العمل ، فلا يكون في الرحماء على هذا إلاّ النصب ؛ لأنّ إنّ إذا كُفت عن العمل ، وقعت بعدها الجملة الابتدائية ، ولم يبق لها عمل ، فيتعين حينئذ أن تنصب الرحماء بيرحم ، إذ لم يبق له تعلق بإنّ 0
- أن تكون ما زائدة ، وإنّ بمعنى نعم 0
وأمّا الرفع فقد جوّزه جوازا حسنا ، ومن مسببات الرفع عنده :
- أن تكون ما بمعنى الذي ، والعائد إليها محذوف ، والرحماء خبر إنّ 0
- أن تكون ما نكرة موصوفة ، ويرحم وصف لها ، والرحماء الخبر ، والعائد من الصفة إلى الموصوف محذوف 0
- أن تكون ما مصدرية ، فخبّر عنها بالرحماء 0
-21-
ـ المسألة الثالثة :
... مسألة لو : يرى أبو البقاء أنّ لو تقع في الكلام على ثلاثة أوجه :
... (1) أن يكون معناها امتناع الشيء لامتناع غيره ، وهذا المعنى يرد في اللغة على خمسة
أوجه :
حرف امتناع لامتناع ، نحو : لو قمتَ قمتُ 0(1/3)
حرف وجوب لوجوب ، نحو : لو لم تزرني لم أكرمك 0
حرف وجوب لامتناع ، نحو : لو لم تشتمه لأكرمك 0
حرف امتناع لوجوب ، نحو : لو أحسن إليك لم تسىء إليه 0
حرف مبالغة ، نحو قول عمر بن الخطاب ( رض ) :
" نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " 0 ...
(2) أن يكون معناها بمعنى إنْ الشرطية ، كقوله تعالى :
... ... [ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ] (1) 0
(3) أن يكون معناها بمعنى أنْ الناصبة للفعل المضارع ، ولكنها لا تنصب ، كقوله
تعالى : [ ودّوا لو تكفرون ] (2) 0
ـ المسألة الرابعة :
... مسألة إذا الزمانية : يرى أبو البقاء أنّ إذا الزمانية إذا كان لها جواب ، كان هو الناصب لها ، نحو : إذا جئتني أكرمتك ، فإذا منصوبة بأكرمتك ، وإن لم يكن بعدها جواب ، عمل فيها ما قبلها ، نحو : لأكرمنّك إذا جئتني 0
ـ المسألة الخامسة :
... قوله صلى الله عليه وسلم : ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) ، يرى أبو البقاء أنّ الحديث لا يتضمن أي لفظ يدل على أنّ إبراهيم عليه السلام شكّ في قدرة الخالق على إحياء الموتى ، وهذه المسألة مسألة فقهية ، حاول أبو البقاء بأسلوب منطقي أنْ ينفي الشكّ عن إبراهيم ، وأن يدلل على صحة ما ذهب إليه 0
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة ، آية 221
(2) سورة النساء ، آية 89
-22-
مصادر الكتاب :
... تمثلت مصادر أبي البقاء في مصنفه هذا بالمصادر التالية :
1 - القرآن الكريم : استشهد أبو البقاء بعدد كبير من الآيات القرآنية ، بلغت في مجموعها ثلاثين آية ، واعتبر قراءة الجمهور في قوله تعالى : [ إنما حرّم عليكم الميتة ] (1) بنصب الميتة (2) أنها من القراءات ، فقال : على قراءة مَن نصب 0(1/4)
2 - الكلام العربي : استشهد أبو البقاء بخمسة أبيات من الشعر ، جاءت أربعة أبيات منها غفلا من ذكر اسم قائلها ، ونسب البيت الخامس إلى الخنساء ، وشواهده هنا من الشواهد التي عُرف قائلوها ، والاستشهاد بها جائز ، وقد استشهد بها النحاة قبله ، ومن المنثور استشهد بقول عمر بن الخطاب ( رض ) : " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " ، واستشهد بحديث فضالة بن شريك حين لقي ابن الزبير سائلا ، فمنعه ابن الزبير ، فقال له : " لعن الله ناقة حملتني إليك " ، فأجابه ابن الزبير : " إنّ وراكبَها " ، أي : نعم ، ولعن الله راكبَها ، كما استشهد بما حكاه أبو زيد عن بعض العرب من جعل ( ما ) بمنزلة ( مَنْ ) في قولهم : " سبحان ما سبحتن له " و " سبحان ما سخّركن لنا " ، واستشهد بالأقوال المنثورة مصدرة بقوله : قالوا 00وقولهم 00
3 - النحاة : لم يذكر من لنحاة إلاّ سيبويه ، وأبا علي الفارسي ، وذلك عند عرضه لما المصدرية في قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء "، قال : قال أبو علي: " لك أن تجعل ما مصدرية " ويعني ( ما ) في قوله تعالى : [ والله مخرج ما كنتم تكتمون ] (3) ، أي : مخرج كتمانكم ، وكتمانكم بمعنى مكتومكم ، لأنّ حقيقة الكتمان لا تظهر ، وإنما يظهر المكتوم ، وأنشد سيبويه : أروّاح مودع أم بكور ... أنت فانظر لأي حال تصير
إن شئت كان التقدير : أرائح أنت أم مبتكر ، وإن شئت كان التقدير : أمروِّح أنت أم مبكَّر بك ؟ ، ومنه قولهم : هذا درهمٌ ضرب الأمير ، أي : مضروبه ، وهذا ثوبٌ نسج اليمن ، أي: منسوجه ، وهذا درهمٌ وزنٌ ، أي : موزون ، وهو كثير 0
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة ، آية 173 ، وسورة النحل ، آية 115
(2) قراءة الجمهور بنصب ( الميتة ) ، وقرأ ابن أبي عبلة برفع ( الميتة ) وما بعدها ، على أن (ما) موصولة اسم إنّ والعائد عليها محذوف ، تقديره : إنّ الذي حرمه الله الميتة 0(1/5)
أنظر : مكي بن أبي طالب ، مشكل إعراب القرآن 1/ 187 ، والعكبري ، إعراب القرآن ، ص 140 - 141 ،
وأبو حيان الأندلسي ، البحر المحيط 1/ 486
(3) سورة البقرة ، آية 72
-23-
ذكر الوجوه والخلاف :
... أكثر أبو البقاء في هذه المسائل من ذكر الوجوه المحتملة في المسألة الواحدة ، فتأنيث الضمير في ( إليها ) من قوله تعالى [ انفضّوا إليها ] (1) يحتمل أربعة أوجه عنده ، ونصب (الرحماء) ورفعه في قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " جائز ، ففي النصب وجهان ، أمّا الرفع فحسن ، وقد حسّن أبو البقاء ذلك بذكر ثلاثة أوجه ، وفي كل وجه كان يذكر الوجوه الجزئية المحتملة أيضا ، و ( لو ) تقع في الكلام على ثلاثة أوجه ، والوجه الأول منها يَرِد في اللغة على خمسة أوجه 0
... لقد أظهر أبو البقاء كلفا شديدا بذكر الوجوه المحتملة في هذه المسائل ، واهتم بالتفريعات الجزئية 0
... أمّا الخلاف في هذه المسائل فقد أشار إليه عند عرضه لقوله تعالى : [ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ] (2) إلى خلاف القوم في عود الضمير في ينفقونها ، فقال : إعادة الضمير عند قوم إلى الفضة ، وقال قوم : الذهب يؤنث أيضا ، وقال قوم : إنه أعاد الضمير إلى الأموال ، لأنّ الذهب والفضة أموال ، وقال قوم : الذهب جنس ، والفضة جنس ، وكل جنس يشتمل على أنواع ، فعاد الضمير على أنواع الجنسين 0
... وأمّا سوى ذلك فقد عرَّى أبو البقاء مسائله من إيراد الخلاف ، وكان غرضه أن تشتمل إجاباته على غاية المطلوب ، ليحيط السامع والقارىء لهذه المسائل على جملة العلم في أقصر أوان ، ولم يذكر أبو البقاء المذاهب ، أو أسماء النحاة الذين أُثر عنهم هذا الخلاف 0(1/6)
... ومن الأمور التي عرض لها أبو البقاء في مسائله اهتمامه بجانب المعنى ، فالفائدة من دخول (ما ) الكافة على ( إنّ ) إثبات المذكور ، ونفي ما عداه ، وبذا يصبح معنى [ إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] ثبات رحمة الله للرحماء دون غيرهم 0
... ومن هذا القبيل اهتمامه بأسباب النزول ؛ لما لذلك من أهمية في إيضاح المعنى ، فقد أولى أبو البقاء هذا الأمر أهمية في فهم معنى قوله تعالى : [ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها ]
فقال : والاعتناء بالأسباب أولى 0
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة الجمعة ، آية 11
(2) سورة التوبة ، آية 34
-24-
... وأبو البقاء يعول كثيرا على ما كثر استعماله ، شأنه في ذلك شأن البصريين ، فزيادة ( ما ) في الكلام كثير ، ووقوع ( إنّ ) بمعنى نعم كثير أيضا ، واستعمال ( ما ) بمعنى ( مَنْ ) كثير في القرآن ، وإتيان المصدر بمعنى المفعول كثير ، و ( لو ) بمعنى ( أنْ ) الناصبة للفعل المستقبل كثير في القرآن والشعر 0
... ونلمح شخصية أبي البقاء الحوارية ، فنراه يذكر الوجوه المختلفة في المسألة التي يطرحها ، ولا يغفل ما يمكن أن يخطر ببال القارىء من اعتراضات ، فيذكر ذلك ويعلله ، فوقوع ( إنّ ) بمعنى نعم كثير ، فإن قيل : إنما يجيء ذلك بعد كلام تكون ( إنّ ) جوابا له ، ولم يسبق ما يجاب عنه بنعم ، قيل : إنْ لم يسبق لفظا فهو سابق تقديرا ، وفي رفع الرحماء من قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " يمكن أن تكون ( ما ) بمعنى الذي ، والعائد إليها محذوف ، والرحماء خبر إنّ ، فإن قيل : يلزم من ذلك أن تكون ( ما ) ههنا لمن يعقل ، ففيه جوابان :
الأول : أنّ ما قد استعملت بمعنى مَنْ ، وهو كثير في القرآن 0(1/7)
والثاني : أنّ ما تقع بمعنى الذي بلا خلاف ، والذي تستعمل فيمن يعقل ، وفيما لا يعقل ، وإنما يعرف ذلك بما يتصل بها ، فإن اتصل بها ما يدل على أنها لمن يعقل حملت عليه ، وإن دلّ على أنها لما لا يعقل حملت عليه ، وكذلك ( ما ) ، فإن قيل : كيف يصح هذا والرحماء جمع ، وما بمعنى الذي مفردة ، والمفرد لا يخبر عنه بالجمع ؟ قيل : ما يجوز أن يخبر عنها بلفظ المفرد تارة ، وبلفظ الجمع أخرى ، مثل : ( مَنْ ) و ( كل ) كقولك : ما عندي ثياب ، وما عندي ثوب ، ولا خلاف في ذلك ، كما أنه لا خلاف في قولك : جاءني مَنْ تعرفه ، ومن تعرفهم 0 ومن وجوه ( ما ) التي يجوز معها رفع الرحماء أن تكون ما نكرة موصوفة ، ويرحم وصف لها ، والرحماء الخبر ، والعائد في الصفة إلى الموصوف محذوف ، فإن قيل : كيف يصح الابتداء بالنكرة ، والإخبار بالمعرفة عنها ؟ قيل : النكرة هنا قد خصصت بالوصف ، والرحماء لا يقصد بهم قصد قوم بأعيانهم ، فكان فيه لذلك نوع من إبهام ، فلما قُرنت النكرة هنا بالصفة من المعرفة ، وقُرِّبت المعرفة من النكرة بما فيها من إبهام ، صحّ الإخبار بها عنها ، على أنّ كثيرا من النكرات تجري مجرى المعارف في باب الأخبار إذا حصلت من ذلك فائدة ، والفائدة هنا حاصلة 0 ولو قد تأتي بمعنى ( أنْ ) الناصبة ، ولكنها لا تنصب ، فإن قيل : فإذا كانت بمعنى ( أنْ ) فلم لم تنصب ؟ قيل : لأنّ لو قد تعددت معانيها ، فلم تختص ، وجرت لذلك مجرى حتى في الأفعال 0
التحقيق
-26-
كتاب - مسائل نحو مفردة - محققا
1ـ سئل الشيخ أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري رحمه الله عن قوله تعالى : [ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها ] (1) وقد قيل : إذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّب جانب المذكر ، وههنا غُلِّب جانب المؤنث ، وقد قيل : كان ينبغي أن يكون الضمير مثنى ، فما وجه ذلك ؟(1/8)
... فأجاب : أمّا قوله [ انفضوا إليها ] جعل الضمير للتثنية ، فلا يدل اللفظ عليه ، لأنه قال : [ تجارة أو لهوا ] ، و [ أو ] لأحد الشيئين ، فلا يجوز أن يعود الضمير إلى الاثنين ؛ لأنّ ذلك حكم الواو التي هي للجمع ، ولهذا لو قلت : زيد أو عمرو قائماً ، لم يجز ، بل تقول : زيد أو عمرو قام ؛ لأنّ المعنى أحدهما قام ، وأمّا جعل الضمير مؤنثاً ففيه أجوبة :
أحدها : أنه أعادها إلى التجارة ؛ لأنّ سبب نزول الآية ، تفرّقهم لأجل التجارة ، وذلك أنّ جلباً (2) ورد المدينة ، فسمع بذلك الصحابة ، ففارقوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخرجوا ينظرون إليها ، والاعتناء بالأسباب أولى (3) 0
والوجه الثاني : أنّ كل تجارة لهو ، أي : يُلهى بها عن الطاعة ، وليس كل لهو تجارة ، فكان الضمير عائدا على ما اشتمل عليه المعنيين ، ولو أُعيد على اللهو للزم إلغاء التجارة 0
والثالث : هي المعطوف عليها ، والبداية بالشيء تدل على الاهتمام به ، فالضمير يعود على الأهم ، ثم يعود حكم المعطوف من التشريك بحكم العطف 0
والرابع : أنّ الضمير يعود على أحد الشيئين ، ويُكتفى به ؛ لأنّ حكم الآخر كحكم المذكور ومثله قول الشاعر (4) : ( من الكامل )
... وكأنّ في العينين حبَّ قَرَنفُلٍ ... ... أو سُنبُلاً (5) كُحِلَتْ به فانهلَّتِ
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة الجمعة ، آية 11
(2) الجَلَب : ما جُلِب من إبل وغنم ومتاع للتجارة ، المعجم الوسيط ، مادة ( جلب ) 0
(3) انظر سبب نزول هذه الآية في : الواحدي ، أسباب النزول ، ص 286 ، السيوطي ، أسباب النزول _ بذيل تفسير
الجلالين ، ص 737
(4) لسُلميّ بن ربيعة الضبي ، ونسب في الأصمعيات لعلباء بن أرقم ، والقرنفل والسنبل : من أخلاط الأدوية التي تحرق العين(1/9)
وتسيل الدموع ، والشاهد في : أبو زيد الأنصاري ، النوادر في اللغة ، ص 121 ،الأصمعي ، الأصمعيات ، ص 161 ، والقالي ، أمالي القالي 1/ 81 ، وابن الشجري ، أمالي ابن الشجري 1/ 121 ، والبغدادي ، خزانة الأدب 7/ 553
(5) في الأصل ( حب أو سنبل ) وما أثبتناه هو الصواب 0
-27-
فأعاد الضمير إلى أحد المعنيين ، وفُهم من ذلك التنبيه على الأخرى ، وكذلك قول الآخر(1)
... ... لِمَن زحلوقة زلّ ... ... ... بها العينين تنهلُّ (2) ( الهزج )
فأعاد الضمير إلى الخصلة المذمومة ، فالتجارة خصلة ، واللهو خصلة ، فأتى بالضمير الجامع بالمعنى دون اللفظ ، وهذا كما في المذكر في قوله ( تعالى ) (3) :[ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً ] (4) أي : بذلك الفعل الذي هو خطيئة ، أو إثم ، وكذلك قوله تعالى : [ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ] (5) فأعاد الضمير عند قوم إلى الفضة ؛ لأنها أقرب المذكورين ، وقال آخرون : الذهب يؤنث أيضاً ، وقال قوم : إنه أعاد الضمير إلى الأموال ؛ لأنّ الذهب والفضة أموال ، وقال قوم : الذهب جنس ، والفضة جنس ، وكل جنس يشتمل على أنواع ، فعاد الضمير على أنواع الجنسين ، وهذا كقوله تعالى : [ فإذا هم فريقان يختصمون ] (6) فكل واحد من الفريقين يشتمل على آحاد ، فكان الاختصام راجعاً إلى آحاد الفريقين ، لا إلى لفظ الفريقين ، والله أعلم 0
2 ـ وقال رحمه الله : سألني سائل عن قوله صلى اله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " (7) فقال : أيجوز في الرحماء النصب والرفع ؟ وذكر أنّ بعضهم زعم أنّ الرفع غير جائز ، فأجبت وبالله التوفيق بأنّ الوجهين جائزان ، أمّا النصب فله وجهان :(1/10)
أقواهما : أن تكون (ما) كافة لإنّ عن العمل ، فلا يكون في الرحماء على هذا إلاّ النصب ؛ لأنّ ( إنّ ) إذا كُفت عن العمل ، وقعت بعدها الجملة من الفعل والفاعل ، والمبتدأ والخبر ، ولم يبق لها عمل ، فيتعين حينئذ أن تنصب الرحماء بيرحم ، إذ لم يبق له تعلّق بإنّ ، ومثله [ إنما حرّم عليكم الميتة ] (8) على قراءة مَنْ نصب (9) ، والفائدة من دخول ما على هذا الوجه إثبات المذكور ، ونفي ما عداه ، ومعنى ذلك : أن تثبت رحمة الله (10) للرحماء دون غيرهم 0
ـــــــــــــــــــ
(1) لامريء القيس ، قيل : أنشده وهو في مرضه ، حين رأى قبرا يحفر له ، ونسب في التعليقة على المقرب للنابغة الجعدي ، والزحلوقة : أهل العالية من نجد يقولون : الزحلوفة ، وتميم تقولها بالقاف ، وهي آثار تزلج الصبيان فوق التل ، والزل : ما تزل عنه القدم ، ديوان امريء القيس ، ص 154 ، وابن جني ، المحتسب 2/ 180 ، والقالي أمالي القالي 1/42 ، والبهاء بن النحاس ، التعليقة على المقرب ، ص 118 ب 0
(2) في الأصل : لمن زحلوقة زلوا به الفيان تنهل ، وما أثبتناه هو الصواب 0
(3) زيادة يقتضيها السياق 0 (4) سورة النساء ، آية 12 (5) سورة التوبة ، آية 34 (6) سورة النمل ، آية 45 (7) ورد إعراب هذا الحديث في كتابه إعراب الحديث ، ص 14 ، وكان حديثه عنه مختصرا
(8) سورة البقرة ، آية 173 ، وسورة النحل ، آية 115 (9) قراءة النصب هي قراءة الجمهور 0
(10) وردت هذه المسألة في كتاب الذيل على طبقات الحنابلة مع اختلاف يسير في اللفظ دون الجوهر 0
-28-(1/11)
والوجه الثاني : أن تكون (ما) زائدة ، و ( إنّ ) بمعنى نعم ، وزيادة ( ما ) كثير ، قال الله تعالى : [ فبما نقضهم ميثاقهم ] (1) وقال الله تعالى [ فبما رحمة من الله ] (2) ، ووقوع ( إنَّ ) بمعنى نعم كثير أيضاً ، فمنه قوله تعالى : [ إنّ هذان لساحران ] (3) في أحد القولين (4) ومنه قول ابن الزبير ، حين قال له رجل (5) : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إنَّ وراكبَها ، وهو كثير في الشعر ، فإن قيل : إنما يجيء ذلك بعد كلام تكون ( إنّ ) جواباً له ، ولم يسبق ما يجاب عنه بنعم ، قيل : إن لم يسبق لفظا ، فهو سابق تقديرا ، فكأنّ قائلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيرحم الله من عباده من يرحم الخلق وإن كان مقصراً فيما بينه وبين الله ؟ فقال : نعم ، وهذا مما يجوز أن يسأل عنه ، لأنّ تقصيره فيما بينه وبين الله ربما أوهم أنه لا يمحى برحمته للخلق ، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يجوز في الرحماء غير النصب 0
... وأمّا الرفع فجائز جوازاً حسناً ، وفيه عدة أوجه :
أحدها : أن تكون ( ما ) بمعنى الذي ، والعائد إليها محذوف ، والرحماء خبر ( إنَّ ) ، والتقدير : إنَّ الفريق الذي يرحمه الله من عباده الرحماء ، فإن قيل : يلزم من ذلك أن تكون ( ما ) ههنا لمن يعقل ، ففيه جوابان :
أحدهما : أنّ ( ما ) قد استعملت بمعنى ( مَن ) فمن ذلك قوله تعالى : [ ما طاب لكم من النساء ] (6) ومنه قوله تعالى : [ والمحصنات من النساء إلاّ ما ملكت أيمانكم ] (7) وهو كثير في القرآن ، ومنه [ والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ] (8 في أصح القولين (9) ، وحكى أبو زيد عن بعض العرب : سبحان ما سبحتن (له ) (10) ، وسبحان ما سخّركن لنا 0
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء آية 155 (2) سورة آل عمران ، آية 159 (3) سورة طه ، آية 63
(4) قرأ بتخفيف ( إنّ ) ابن كثير ، وحفص ، وقرأ الباقون بتشديد النون ، أنظر : ابن مجاهد ، السبعة ، ص 419، وابن(1/12)
الجزري ، النشر 2/ 320- 321 ، وابن الباذش ، الإقناع ، ص 699 ، والصواب أن يقال : في إحدى القراءتين ،
وليس القولين 0
(5) هو فضالة بن شريك ، أنظر : اللسان ، مادة ( أنن ) 0 (6) سورة النساء ، آية 3
(7) سورة النساء ، آية 24 (8) سورة الشمس ، الآيتان 5 ، 6
(9) القول الآخر أن ( ما ) مصدرية ، والتقدير : والسماء وبنائها ، والأرض وطحواها ، أنظر : مخلوف ، صفوة البيان لمعاني القرآن 2/ 545
(10) الزيادة من ابن رجب ، الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 118
-29-(1/13)
والثاني : أنّ ( ما ) تقع بمعنى الذي بلا خلاف ، والذي تستعمل فيمن يعقل ، وفيما لا يعقل ، وإنما يعرف ذلك بما يتصل بها ، فإن اتصل بها ما يدل على أنها لمن يعقل، حملت عليه ، وإن دلّ على أنها لما لا يعقل ، حملت عليه ، وكذلك في ( ما ) ، لا سيما إذا اتصل بها ما تصير به وصفا ، وإنما تفترق ( ما ) و ( الذي ) في أنّ الذي توصف بلفظها ، وما لا توصف بلفظها ، فإن قيل : كيف يصح هذا والرحماء جمع ، وما بمعنى الذي مفردة ، والمفرد لا يخبر عنه بالجمع ؟ قيل : (ما ) يجوز أن يخبر عنها بلفظ المفرد تارة ، وبلفظ الجمع أخرى ، مثل ( مَن ) و ( كل ) ، كقولك : ما عندي ثياب ، وما عندي ثوب ، ولا خلاف في ذلك ، كما إنه لا خلاف في قولك : جاءني مَن تعرفه ، ومن تعرفهم ، ومنه قوله تعالى : [ ومنهم من يستمع إليك ] (1) وقال في آية أخرى :[ ومنهم من يستمعون إليك ](2) وكذلك قوله عزّ وجلّ :[ بلى من أسلم وجهه لله ] (3) ثم قال [ ولا خوف عليهم ] ( 4) ، وقال في كل : [ وكل أتوه داخرين ] (5) و [ كلهم آتيه يوم القيامة فردا ] (6) ، فالأفراد محمول على لفظ ( مَن ) و ( ما ) و ( كل ) والجمع محمول على معانيها0 وأمّا الذي فقد استعملت مفردة للجنس ، ورجع الضمير تارة إلى لفظها مفردة ، وتارة (7) إلى معناها مجموعا ، قال الله تعالى : [ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم ] (8) فجاء بالضمير مفرداً وجمعاً ، وقال الله تعالى : [ والذي جاء بالصدق وصدّق أولئك هم المتقون ] (9) فهي مثل الآية الأولى ، ومنه قول الشاعر (10) :
(و ) إنّ الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد ( الطويل )
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام ، آية 25 ، وسورة محمد ، آية 16
(2) سورة يونس ، آية 42
(3) سورة البقرة ، آية 112
(4) سورة البقرة ، آية 112 ، وقد وردت في الأصل ( فلا ) والتصويب من القرآن الكريم 0
(5) سورة النمل ، آية 87(1/14)
(6) سورة مريم ، آية 95
(7) في الأصل ( فتارة ) بالفاء ، والتصويب من ابن رجب ، الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 119
(8) سورة البقرة ، آية 17 (9) سورة الزمر ، آية 33
(10) هو الأشهب بن رميلة ، وفلج : واد بين البصرة وحمى ضرية ، حانت دماؤهم : أي لم يؤخذ لهم بدية ولا قصاص ،
هم القوم كل القوم : أي القوم الكاملون في قوميتهم ، وقد ورد الشاهد بدون الواو ، والتصحيح من : سيبويه
الكتاب 1/ 187 ، وابن الشجري ، أمالي ابن الشجري 2/ 307 ، والسيوطي ، شواهد المغني ، ص 517 ،
والبغدادي ، خزانة الأدب 2/ 315 0
-30-
فأعاد الضمير بلفظ الجمع لا غير ، وإذا جاء ذلك في ( ما ) و ( الذي ) والتي ما بمعناها ، كان ذلك سائغا في الخبر ، من غير دافع عنه ، ولك على هذا الوجه أن تجعل أنّ العاملة ، وأن تجعلها بمعنى نعم ، على ما سبق 0
الوجه الثاني من وجوه ( ما ) التي يجوز معها رفع الرحماء : أن تكون ( ما ) نكرة موصوفة في موضع فريق أو قبيل ، و ( يرحم ) وصف لها ، و ( الرحماء ) الخبر ، والعائد من الصفة إلى الموصوف محذوف تقديره : إنّ فريقا يرحمه الله الرحماء ، فإن قيل : كيف يصح الابتداء بالنكرة ، والإخبار بالمعرفة عنها ؟ قيل : النكرة هنا قد خصصت بالوصف ، والرحماء لا يقصد بهم قوم بأعيانهم ، فكان فيه لذلك نوع من إبهام ، فلما قُرِنت النكرة هنا بالصفة من المعرفة ، وقُرِّبت المعرفة من النكرة ، بما فيها من إبهام ، صحّ الإخبار بها عنها ، على أنّ كثيرا من النكرات تجري مجرى المعارف في باب الإخبار ، إذا حصلت من ذلك فائدة ، والفائدة هنا حاصلة 0
والوجه الثالث : أن تكون ( ما ) مصدرية ( و ) (1) في تصحيح الإخبار عنها بالرحماء ثلاثة أوجه :(1/15)
أحدها : أن يكون المصدر هنا بمعنى المفعول ، تقديره : إنّ مرحوم الله من عباده الرحماء ، ومثل ذلك قوله تعالى : [ هذا خلق الله ] (2) أي : مخلوق الله ، قال الله تعالى : [ والله مخرج ما كنتم تكتمون ] (3) ، قال أبو علي : لك أن تجعل ما مصدرية ، أي : مخرج كتمانكم ، وكتمانكم بمعنى مكتومكم ، لأنّ حقيقة الكتمان لا تظهر ، وإنما يظهر المكتوم ، وأنشد سيبويه (4) : ( من الخفيف )
أروّاح مودع أم بكور ... ... ... أنت فانظر لأي حال تصير
إن شئت كان التقدير : أرائح أنت أم مبتكر ؟ وإنْ شئت كان التقدير : أمروِّح أنت أم مبكَّر بك ؟ ومنه قولهم : هذا درهمٌ ضرب الأمير ، أي : مضروبه ، وهذا ثوبٌ نسج اليمن ، أي : منسوجه ، وهذا درهمٌ وزنٌ ، أي : موزون ، وهو كثير 0
ـــــــــــــــــــ
(1) زيادة من ابن رجب ، الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 119
(2) سورة لقمان ، آية 11 (3) سورة البقرة ، آية 72
(4) لعدي بن زيد ، أروّاح : أراد أذو رواح ؟، أو ألك رواح ؟، أو أرواحك رواح مودع ؟ والرواح : السير بالعشي ،
والبكور : السير بكرة في أول النهار ، والشاهد في : سيبويه ، الكتاب 1/140 ، أمالي ابن الشجري 1/ 89 ،
السيوطي ، شواهد المغني ، ص 469 ، البغدادي ، خزانة الأدب 1/ 315
-31-
والوجه الثاني : أنّ المضاف إلى المصدر أو إلى الخبر محذوف ، فيجوز أن يكون التقدير : إنّ ذوي رحمة الله من عباده الرحماء ، أي : المستحقون لها ، ويجوز أن يكون التقدير إنّ رحمة الله حقُّ الرحماء ، ومثل هذين الوجهين قوله تعالى : [ ولكنَّ البر من آمن ] (1) تقديره : ولكنّ ذا البر مَن آمن ، أو ولكنّ البر بر من آمن 0
والوجه الثالث : ألاّ تقدير حذف مضاف ، غير أنك تجعل الرحماء هم الرحمة ، على المبالغة ، كما قالوا : رجل عدل ، ورجل زور ، ورجل علم ، وقوم صوم ، إذ (2) كثر ذلك منهم ، ومنه قول الخنساء (3) : ( من البسيط )(1/16)
... ... تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتى إذا ادَّكرتْ فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
فثبت بمجموع ما ذكرناه وهاء قول مَن زعم امتناع الرفع في الرحماء 0
3 ـ ومن كلامه أيضاً في لو :
... أمّا لو فتقع في الكلام على ثلاثة أوجه :
أحدها : امتناع الشيء لامتناع غيره 0
والثاني : بمعنى إنْ الشرطية ، كقوله تعالى : [ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم (4) 0
والثالث : أن تكون بمعنى أنْ الناصبة للفعل المستقبل ، ولكنها لا تنصب ، وهو كثير في القرآن والشعر، فمن ذلك قوله تعالى : [ ودّوا لو تكفرون ] (5) (و) (6) [ يودّ المجرم لو يفتدي ] (7) و [ ودّوا لو تدهن فيدهنون ] (8) ولا يجوز أن تكون للامتناع ،(9) إذ لا جواب لها ، ولأنّ ودّ لا تعلق عن العمل إذ ليس من باب العلم والظن ، ويدل على أنّ معناها أنْ الناصبة أنها قد جاءت بعدها صريحة في قوله تعالى : [ أيودّ أحدكم أن تكون له ] (10) ، فإن قيل : فإذا كانت بمعنى أنْ فلم لم تنصب ؟ قيل : لأنّ لو قد تعددت معانيها فلم تختص ، وجرت لذلك مجرى حتى في الأفعال 0
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة ، آية 177
(2) كتبت إذا ، والصواب ما أثبتناه 0
(3) تصف ناقة أو بقرة فقدت ولدها ، فكلما غفلت عنه رتعت ، فإذا عاودتها الذكرى حنّت إليه ، فأقبلت وأدبرت في حيرة ،
فضربتها مثلا لفقدها أخاها صخرا ، ديوان الخنساء ، ص 26 ، والشاهد في : سيبويه ، الكتاب 1/ 337 ، وابن جني ،
الخصائص 2/ 203 ، وأمالي ابن الشجري 1/ 71 (4) سورة البقرة ، آية 221 ...
(5) سورة النساء ، آية 89 (6) الزيادة يقتضيها السياق 0 ...
(7) سورة المعارج ، آية 11 (8) سورة القلم ، آية 9
(9) في الأصل ( لامتناع ) والتصويب من الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 115 (10) سورة البقرة ، آية 266
-32-
والقسم الأول من أقسام لو يرد في اللغة على خمسة أوجه :
أحدها : أن تدل على كلام لا نفي فيه ، كقولك : لو قمتَ قمتُ ، ويفيد ذلك امتناع
قيامك لامتناع قيامه 0(1/17)
والثاني : أن تدخل على نفيين ، فيصير المعنى إلى إثباتها ، كقولك : لو لم تزرني لم أكرمك ،
أي : أكرمتك لأنك زرتني ، فانقلب النفي ههنا إثباتا ، لأنّ لو امتناع ، والامتناع
نفي ، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا 0
والثالث : أن تكون للنفي فيما دخلت عليه ، دون جوابها ، كقولك : لو لم تشتمه لأكرمك ،
فالشتم واقع ، والإكرام منتف ، فالامتناع أزال النفي ، وبقي الإيجاب بحاله 0
والرابع : عكس الوجه الثالث ، وهو قولك : لو أحسن إليك لم تسىء إليه ، والمعنى معلوم 0
والخامس : أن تقع للمبالغة ، فلا تفيد مفادها في الوجوه الأولى ، وذلك كقول عمر :
" نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " والمعنى أنه لو لم يكن عنده خوف لما
عصى ، كيف يعصي وعنده خوف ؟ ولو لم يرد المبالغة ، لكان معنى ذلك : إنه
يعصي الله لأنه يخافه 0
4 ـ ومن كلامه في إذا الزمانية :
... إذا كان لها جواب كان هو الناصب لها ، كقولك : إذا جئتني أكرمتك ، فإذا منصوبة بأكرمتك ، فإن لم يكن بعدها جواب ، عمل فيها ما قبلها ، كقولك : لأكرمنك إذا جئتني ، ومنه قوله تعالى : [ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ] (1) 0
5 ـ وسئل رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم ، فقيل : هذا يدل على أنّ إبراهيم شكّ في إحياء الموتى ، ولا يجوز ذلك على الأنبياء ، فقال : إنّ إبراهيم لم يشك ، ولفظ الآية (2) لا يدل على لشك ، إذ ليس فيها حرف يدل على الشك ، وإنما طلب من الله تعالى أن يعرّفه كيفية الإحياء ، ومن طلب كيفية شيء فهو معترف بأصله ، وإنما طلب أن يعرف على أي وجه يقع ، وأما قوله عليه السلام : " نحن أحقّ بالشك " فمعناه : أنه
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة ، آية 122
(2) هي الآية 260 من سورة البقرة ، ونصها : [ وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئن قلبي ] 0
-33-(1/18)
كأنّ قائلا قال : قد شكّ إبراهيم حتى سأل أن يرى ذلك حقيقة ؛ ليطمئن قلبه ، فقال عليه السلام : لم يكن ذلك من إبراهيم شكاً ، وإنما كان سؤالاً عن الكيفية ، ولو تطرق الشك على إبراهيم ؛ لتطرق إلينا ، وإبراهيم قد عرف الربوبية والوحدانية قطعاً بالأدلة ، وهو ما تضمنته آيات الأنعام (1) من قوله : [ هذا ربي ] ثم اعترف باليقين حتى قال : [ إني بريء مما تشركون ] [ إني وجهت وجهي ] الآية (2) ، فلما ثبت ذلك عنده ، امتنع أن يتطرق الشك إليه ، وإنما أراد زيادة اليقين في الإحياء ، وإنّ المعاينة أقوى من الخبر ، وإذا لم يتطرق الشك إلى من بعد إبراهيم ، فأولى ألاّ يتطرق الشك إليه ، فإنّ حاله في اليقين فوق حال غيره ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك في الإحياء انتفى الشك عن إبراهيم ضرورة 0
... ... ... ... والله أعلم 0
ـــــــــــــــــــ
(1) الآيات من 67 - 78
(2) نص الآية : [ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ] 0(1/19)