بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى
هو الإمام الحبر الهمام، بدر الأعلام، مفتي الأنام، حجة الإسلام، قمر الدجى، وشمس الضحى، الثقة الثبت، العلم الحجة البارع، التقي النقي الورع، الفارس في العلوم، والسيف الصارم المسلول على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين. ذو الهمة والشجاعة والإقدام، فائق علماء زمانه، مجتهد أوانه. فلك هو قطبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر. إذا ذكر الكلام على المسألة بهت الناس من كثرة نقوله ومقوله، بجودة إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه. يقول الحق الذي أدى إليه اجتهاده. إلى ما اشتهر عنه من الورع وكمال الفكر وسرعة الفهم، مع الخوف من الله والتعظيم لحرماته. لم ير تحت أديم السماء بعد والده مثله في وقته علما وعملا وحالا ومقالا وحلما وخلقا، واتباعا وكرما، وقياما في حق الله. هو عالم نجد ومفتيها بعد والده.(1/5)
ولد في بلدة الدرعية، وأخذ العلم عن والده وفاق، وتفقه في المذاهب وأدرك في الأصول والفنون أعلاها، وتفنن في علوم الإسلام حتى بلغ علاها. كان عارفا بالتفسير لا يجارى، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه لا يلحق في ذلك. وبالفقه وأصوله، وبالعربية. وبالجملة له اليد الطولى في كل فن من فنون العلم. له المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوى القاطعة غير المعلولة، والرسائل والنصائح النافعة المبرورة. منها "جواب أهل السنة، في نقض كلام الشيعة والزيدية" مجلد. و"مختصر السيرة" مجلد، وهو هذا. وله مشاركة في كتاب "التوضيح عن توحيد الخلاق1" وله "الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة2" و"منسك في الحج" ورسائل وفتاوى تبلغ مجلدا.
وله مجالس في التدريس مشهورة، بإحياء علوم أصول الدين معمورة. تأتي إليه العلماء من الأمصار، والسؤالات تتوالى عليه من جميع النواحي والأقطار. فيفهم السائلين أحسن إفهام. ويجيب بأحسن جواب بإيجاز وانتظام. أثنت عليه أهل نجد بأسرها وأهل الخبرة من شرقها وغربها.
وقد قال الشيخ حسين بن غنام يثني عليه وعلى إخوانه من علماء الدرعية:
مدارسهم معمورة بعلومهم ... وما ثبطوا عن نشر أحكامهم ثبطا
فلست ترى إلا مفيدا وهاديا ... عكوفا على جمع الحديث له ضبطا
وأمرا بمعروف وتنكير منكر ... وتنكيل من قد قارب الحوب والسخطا
وحثا على فعل الصلاة جماعة ... وتوبيخ من عنها تخلف أو أبطا
ـــــــ
1 المطبوع في القاهرة سنة 1319هـ
2 طبعت مرارا، أجودها بالمطبعة السلفية بالقاهرة(1/6)
وقال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بعد ثنائه على الشيخ:
وأبناؤه الغر الكرام قد اقتفوا ... محجته المثلى وفي نصرها جدوا
فكانوا إلى التوحيد يدعون دأبهم ... فكم قد أفادوا من يروح ومن يغدو
وكم سنة أحيوا وكم بدع نفوا ... وكم شبهة أجلوا وأبوابها سدوا
وقال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي:
وحف بآل الشيخ أعلام مكة ... على حلقات الذكر والعلم هاديا
مدارس في التوحيد تصنيف والد ... لما طالما غطت عليها العوافيا
فأصبح توحيد العبادة ظاهرا ... على الأرض والشرك المحرم خازيا
أئمة حق والنصوص طريقهم ... وأحمد خريت الطريق وهاديا
على مذهب الحبر الإمام بن حنبل ... عليهم من المولى سلام موافيا
عقائدهم سنية أجمع الملا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا
أخذ عنه العلم الخلق الكثير والجم الغفير من الجهابذة النبلاء. منهم بنوه الشيخ سليمان وعلي وعبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ(1/7)
عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين الفقيه والشيخ عبد الرحمن بن حسين وحمد وعلي بنو الشيخ حسين ابن الشيخ، والشيخ محمد بن سلطان والشيخ محمد بن عبد العزيز والشيخ أحمد الوهيبي والشيخ عبد العزيز بن معمر والشيخ مسعد ابن حجي والشيخ جمعان ومسفر بن عبد الرحمن من أهل عسير والشيخ محمد ابن مقرن والشيخ عثمان بن عبد الجبار والشيخ إبراهيم بن سيف وغيرهم.
وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول قيام ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والافتقار إلى الله والانكسار والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، ولم ير في زمانه مثله.
وكان رحمه الله شجاعا مقداما ذكر عنه في حرب الدرعية حين حاصرتها العساكر أنه وقف في باب "سمحان" المعروف في الدرعية شاهرا سيفه يقاتل حتى كسر العساكر وهو يقول لأهل الدرعية: "بطن الأرض على عز ولا ظهرها على ذل، وأنا أبو سليمان". هكذا يقول رحمه الله.
فلما نقلت العساكر أهل الدرعية من آل مقرن وآل الشيخ رحلوا به معهم إلى مصر في سنة 1233هـ، وتوفي فيها سنة 1242هـ. رحمه الله وعفا عنه وأسكنه الفردوس الأعلى.(1/8)
باب النسب المحمدي وولادته صلى الله عليه وسلم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
النسب المحمدي وولادته صلى الله عليه وسلم
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد: فأنا أذكر لك شيئا من نسب رسول الله محمد سيد البشر، وشيئا من أحواله وآياته وأخباره وآدابه إلى أن توفي بالاختصار. وأذكر فيه خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم.
أما نسبه فهو: أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ابن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا متفق على صحته، وما فوق عدنان مختلف فيه. ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم. وإسماعيل هو الذبيح، على القول الصحيح، والقول بأنه إسحاق باطل.(1/11)
ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل، وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأهل الفيل نصارى أهل الكتاب، دينهم خير من دين أهل مكة لأنهم عباد أوثان، فنصرهم الله نصرا لا صنع لبشر فيه، تقدمة للنبي الذي خرج من مكة، وتعظيما للبلد الحرام.
وولد عليه السلام يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول، أختاره1 وقيل لعشر منه، وقيل لاثنتي عشرة خلت منه. ونبئ يوم الاثنين لأيام خلت من ربيع2. ومات لثمان خلون من ربيع الأول.
وفي عبد المطلب يجتمع معه بنو علي وبنو جعفر و[بنو عقيل3] بنو أبي طالب، وبنو العباس وبنو الحارث وبنو أبي لهب.
وفي عبد مناف يجتمع معه [بنو أمية4] وسائر بني عبد شمس، وبنو المطلب وبنو نوفل.
وفي قصي يجتمع معه عليه السلام بنو عبد العزى وبنو عبد الدار، منهم حجبة الكعبة، ومنهم النضر بن الحارث. ومن بني عبد العزى الزبير بن العوام وخديجة وورقة بن نوفل.
وفي كلاب يجتمع معه عليه السلام بنو زهرة بن كلاب، وأمه منهم، ومنهم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف.
وفي مرة يجتمع معه عليه السلام بنو تيم بن مرة وبنو مخزوم بن يقظة ابن مرة. فمن بني تيم بن مرة أبو بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله. ومن بني مخزوم خالد بن الوليد وأبو جهل بن هشام.
وفي كعب يجتمع معه عليه السلام بنو عدي بن كعب، ومنهم عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد، وبنو جمح ومشاهيرهم أمية بن خلف عدو رسول الله، وأخوه أبي بن خلف مثله في العداوة لرسول الله، وبنو سهم ومنهم عمرو ابن العاص.
ـــــــ
1 مخروم في الأصل
2 مخروم في الأصل
3 مخروم في الأصل
4 مخروم في الأصل(1/12)
وفي لؤي يجتمع معه عليه السلام بنو عامر بن لؤي، ومنهم عمرو بن عبد ود فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب، ومنهم سهيل بن عمرو.
وفي غالب يجتمع بنو تيم الأدرم "والأدرم الناقص". وفي فهر يجتمع معه بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر، ومن بني الحارث بنو الخلج ومنهم أبو عبيدة بن الجراح1. وفهر هذا هو أبو قريش كلها، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس قرشيا.
وفي كنانة يجتمع معه عليه السلام كل من ينتمي إلى كنانة من بني عبد مناة وملكان وملك وعمرو وعامر أولاد كنانة. فصار من بني عبد مناة بنو بكر ومن بني بكر بنو الديل رهط أبي الأسود الدؤلي، وبنو مدلج وبنو ليث وبنو ضمرة. ومن بني الحارث الأحابيش.
وقد قيل: إن النضر بن كنانة هو قريش، والصحيح أنه فهر بن مالك.
وفي خزيمة يجتمع معه عليه السلام بنو أسد والقارة، وهم الهون بن خزيمة، فمن الهون عضل وهي قبيلة أبيهم عضل بن الهون، ومنهم الديش أخو عضل، ويقال لهاتين القبيلتين القارة.
وفي مدركة يجتمع معه بنو تميم بن مرة بن أد بن طايخة بن إلياس، وبنو ضبة ابن أد، والرباب ومزينة، وهم بنو عمرو بن أد، ويقال لهم مزينة نسبة إلى أمهم مزينة ابنة كلب بن وبرة.
وفي مضر يجتمع معه عليه السلام بنو قيس عيلان بن مضر، وهو بالعين المهملة، قيل إن عيلان فرسه وقيل كلبه، وقد جعل الله لقيس من الكثرة أمرا عظيما، فمن ولده جميع قبائل غطفان بن سعد بن قيس عيلان، وجميع قبائل هوازن، وسليم ومازن ابنا منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس
ـــــــ
1 أبو عبيدة من بني ضبة بن الحارث، والخلج ينتسبون إلى إخوتهم بني قيس بن الحارث.(1/13)
عيلان، ومن هوازن بنو سعد بن بكر، وبنو كلاب، وبنو كعب، وبنو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومن جشم دريد بن الصمة بن غزية بن جشم بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومنهم بنو كعب بن ربيعة وبنو هلال وبنو نمير وبنو جعدة وبنو قشير، وبنو عقيل بن كعب بن ربيعة منهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل، ومنهم بنو خفاجة بن عمرو بن عقيل، ومن هوازن بنو سلول وبنو ثقيف بن منبه بن بكر ابن هوازن، ومن قيس عيلان بنو عبس وذبيان، ومن ذبيان بنو فزارة بن ذبيان ابن بغيض، ومنهم عدوان وباهلة، ومن بني سليم بن منصور رعل وذكوان وعصية ابن خفاف ابن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، وزعب بن مالك بن خفاف بن امرئ القيس. وقد قيل إن ثقيفا من إياد، وقيل من بقايا ثمود. ومن بني ذبيان النابغة الشاعر المشهور.
وفي نزار يجتمع معه صلى الله عليه وسلم بنو ربيعة بن نزار، ومنهم بنو أسد وضبيعة ابني ربيعة، ومن بني أسد بكر وتغلب وعنز أبناء وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى ابن جديلة بن أسد بن ربيعة، ومنهم بنو عبد القيس بن أفصى والنمر بن قاسط، ومنهم بنو حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ومنهم بنو عجل ابن لجيم، ومن رجال بكر مرة وابناه همام وجساس قاتل كليب، وطرفة بن العبد الشاعر. ومن بني تغلب كليب بن ربيعة ملك بني وائل الذي قتله جساس فهاجت بسببه تلك الحرب المعروفة بحرب البسوس بين بني بكر وبني تغلب، ومن ربيعة عنزة بن أسد بن ربيعة فمنهم بنو عنزة وهم أهل خيبر، ومن بني عنزة القارضان، ومن ربيعة سدوس واللهازم.
ويجتمع معه صلى الله عليه وسلم أيضا في نزار بنو إياد بن نزار وبنو أنمار بن نزار، فمن بني إياد كعب بن أمامة الذي يضرب بجوده المثل، وقس بن ساعدة وكان يضرب بفصاحته المثل. والله أعلم(1/14)
باب عمود نسبه صلى الله عليه وسلم في خيار البشر
...
عمود نسبه صلى الله عليه وسلم في خيار البشر
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه" .
وفي صحيح مسلم عن وائلة بن الأسقع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفة كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خير فرقتهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني في خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا" رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
وفي حديث رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن الله اختار خلقه فاختار منهم بني آدم، ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل من خيار من خيار، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم".(1/15)
باب: أبوه وأمه وبشائر ظهوره
...
أبوه وأمه وبشائر ظهوره
وأما عبد الله أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ابن عبد المطلب المذكور، وكان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم، وكان أبوه يحبه. والأكثر يقولون إنه توفي وهو حمل، وقيل إنه مات ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شهران، وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنته.
وأمه عليه السلام آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.(1/15)
ولد عليه السلام لثمان خلون من ربيع الأول، وقيل لعشر، وقيل لاثنتي عشرة، يوم الاثنين وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا. قال العباس: فأعجب عبد المطلب جده وحظي عنده، وقال: ليكونن لهذا شأن. وذكر البيهقي أيضا أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى وسقط منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس. ولم تخمد قبل ذلك من ألف عام، وغاضت بحيرة ساوة. وفي سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات وقد ملك منهم في أربع سنين عشرة، وملك الباقون إلى خلافة عثمان. وروى أحمد وغيره عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" وكذلك أمهات المؤمنين يرين. وعن ميسرة الضبي قال: قلت يا رسول الله: متى كنت نبيا؟ وفي رواية متى كتبت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" وروى ابن سعد أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام، وولدته نظيفا ما به قذر، وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب في شعره حيث قال:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
ونحن في ذلك الضياء وفي النور ... فسبل الرشاد تخترق
قال في اللطائف: وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزالت به ظلمة الشرك. كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} الآية. وأما إضاءة بصرى بالنور الذي خرج منه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته، فإنها دار ملكه كما ذكر كعب: إن في الكتب السالفة "محمد رسول الله، مولده بمكة، ومهاجره يثرب، وملكه بالشام" ولهذا أسرى به(1/16)
إلى الشام إلى بيت المقدس، كما هاجر إبراهيم عليه السلام إلى الشام وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وهي أرض المحشر والمنشر.(1/17)
باب: رضاعه من ثويبة عتيقة أبي لهب
...
رضاعه من ثويبة عتيقة أبي لهب
وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة عتيقة أبي لهب، أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم. وقد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه خفف عني كل اثنين، وأمص من بين إصبعي هاتين ماء -وأشار برأس إصبعه- وإن ذلك بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له. قال ابن الجوزي: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به فما حال المسلم الموحد من أمته صلى الله عليه وسلم يسر بمولده؟ وثويبة مولاة أبي لهب أول من أرضعه بعد أمه بلبن ابنها مسروح، وأرضعت أيضا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسروح حمزة عم رسول الله، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. ثم أرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية.(1/17)
باب: شق بطنه وصدره
...
شق بطنه وصدره
وفي السنة الرابعة من مولده ذكر أن الملكين شقا بطنه واستخرجا قلبه وشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء سم غسلا قلبه وبطنه بالثلج، وقال أحدهما: زنه بعشرة من أمته، فوزنه. ثم ما زال يزيد حتى بلغ الألف، فقال: والله لو وزنته بأمته لوزنها. وروي أنه وقع شق صدره الشريف مرة أخرى عند مجيء جبرائيل له بالوحي في غار حراء، ومرة أخرى عند الإسراء، وروي الشق أيضا وهو ابن عشر, وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وأنه يشم منه مسكا، وأنه مثل زر الحجلة، ذكره البخاري. وفي مسلم: جُمْعٌ عليه خيلان كأنها الثآليل السود عند نغض كتفه، وروي: عند غضروف كتفه اليسرى، وروي الأيمن. وفي مسلم أيضا: كبيضة الحمامة، وفي الشمائل: بضعة ناشزة, وفي الترمذي ودلائل البيهقي: كالتفاحة. وقوله مثل زر الحجلة بالزاي والراء، والحجلة بالحاء المهملة(1/17)
باب موت أمه وجده
...
موت أمه وجده
وماتت أمه عليه السلام ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين، حين انصرفت من زيارة أخواله بني النجار، وكانت خرجت به معها ومعه دايته أم أيمن، وقدمت به أم أيمن إلى مكة بعد موتها، فكفله جده عبد المطلب، ورق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يفارقه، وما كان يجلس على فراشه إجلالا له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقدم مكة قوم من بني مدلج من القافة، فلما نظروا إليه قالوا لجده: احتفظ به، فلم نجد قدما أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه، فقال لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء واحتفظ به.
وتوفي جده عبد المطلب في السنة الثامنة من مولده، وأوصى به إلى أبي طالب. قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب من سادات قريش، محافظا على العهود، يتخلق بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم بالحجيج، ويطعم حتى الوحوش والطير في رؤوس الجبال، ويطعم في الأزمان، ويقمع الظالمين.
وأم عبد المطلب سلمى بنت زيد من بني النجار، تزوجها أبوه هاشم بن عبد مناف، فخرج إلى الشام وهي عند أهلها وقد حملت بعبد المطلب، فمات بغزة، فولدت عبد المطلب وسمته "شيبة". فلما ترعرع خرج إليه المطلب ليأتي به إلى مكة، فأبت أمه فقال: إنه يلي ملك أبيه، فأذنت له فقدم به مكة، فقال الناس هذا عبد المطلب. فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم. فولي عبد المطلب ما كان يلي أبوه، وأقام لقومه ما أقام آباؤه، وشرف فيهم شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبوه، وعظه خطره فيهم. وكان له أولاد عشرة، أكبرهم(1/18)
الحارث توفي في حياة أبيه، وأسلم من أولاد الحارث يوم بدر ربيعة وأبو سفيان وهو عبد الله. ومنهم الزبير ابن عبد المطلب شقيق عبد الله، ولم يدرك الإسلام، وأسلم من أولاده عبد الله وضباعة. ومنهم أبو طالب واسمه عبد مناف، وقيل إته شقيق عبد الله، وحضر الإسلام ولم يسلم، وله من الولد طالب وعقيل وجعفر وعلي، وبين كل واحد وأخيه عشر سنين، أكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي. ومنهم أبو لهب مات عقيب بدر، وله من الولد عتيبة الذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله السبع، وله عتبة ومعتب أسلما يوم الفتح. ومنهم حمزة والعباس أسلما رضي الله عنهما.
ومن أولاد عبد المطلب عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يولد لأبيه وأمه غيره صلى الله عليه وسلم فيما ذكر. وله من البنات ست: البيضاء أم حكيم تزوجها كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فولدت له عامرا أبا عبد الله ابن عامر الجواد المشهور، وبنات منهن أروى تزوجها عفان بن أبي أمية فولدت له عثمان بن عفان، ثم خلفه عليها عقبة بن أبي معيط فولدت له الوليدن وعاشت إلى خلافة ابنها عثمان. ومنهن برة أم أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ومنهن عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية واختلف في إسلامها. ومنهن صفية أم الزبير أسلمت وهاجرت، وأروى أم آل جحش عبد الله وأبي أحمد وعبيد الله وزينب وحمنة.
ومات جده عبد المطلب وله ثمان سنين وقيل أكثر وله من العمر عشر ومائة سنة، وكفله عمه أبو طالب، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك لكونه شقيق عبد الله. قال الواقدي: أقام أبو طالب من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة ثلاثا وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذب عنه ويلطف به.(1/19)
باب: الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم وهو طفل
...
الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم وهو طفل
وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء(1/19)
حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي وأخصب النادي والبادي وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
والثمال بكسر المثلثة: الملجأ والغياث، وقيل المطعم في الشدة وعصمة للأرامل أي يمنعهم من الضياع والحاجة، والأرامل المساكين من رجال ونساء.(1/20)
باب خروجه مع عمه إلى الشام وكلمة بحيرا فيه
...
خروجه مع عمه إلى الشام وكلمة بحيرا فيه
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة ومع جده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، وينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من الكرامة. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب حتى بلغ بصرى فرآه بحيرا الراهب واسمه جرجيس فعرفه بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي. وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا. وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود. الحديث رواه ابن أبي شيبة، وفيه أنه أقبل عليه الصلاة والسلام وعليه غمامة تظله.(1/20)
باب خروجه في تجارة خديجة
...
خروجه في تجارة خديجة
ثم خرج مرة أخرى، ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، فمزل تحت ظل شجرة، فقال(1/20)
باب زواجه بأم المؤمنين خديجة
...
زواجه بأم المؤمنين خديجة
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك، وكانت تحت أبي إهابة بن زرارة التميمي، ثم تزوجها عتيق بن عائذ المخزومي فولدت له هندا، وكان لها حين تزويجها برسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة، فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنين وبنات، وكل أولاده من خديجة، حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية. فالذكور من ولده: القاسم وبه كان يكنى وهو أكبر ولده عاش أياما يسيرة، ولد قبل النبوة. وولدان آخران اختلف في اسمهما، وعبد الله والطيب والطاهر، وأما إبراهيم فولد له بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبل موته عليه السلام بثلاثة أشهر يوم كسوف. وبناته عليه السلام أربع: زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع، وكانت خديجة خالته. ومات أبو العاص في خلافة عمر وولدت له عليا مات مراهقا، وأمامة تزوجها علي رضي الله بعد فاطمة ولم تلد له. وماتت زينب في حياة أبيها صلى الله عليه وسلم. ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا رقية وتزجها عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يكن لها زوج غيره، فولدت له ابنا مات وله أربع سنين، ثم ماتت رقية بعد بدر بنحو ثلاثة أيام. وكان له عليه السلام فاطمة تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وابنا مات صغيرا اسمه المحسن رضي الله عنه، فتزوج زينب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له علي بن عبد الله له عقب. وتزوج أم كلثوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وماتت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر. وكان لرسول الله أيضا أم كلثوم وهي أصغر بناته كانت مملكة بعتبة بن أبي(1/21)
لهب فلم يدخل بها وطلقها، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه فماتت عنده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تلد له.
وخديجة أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها.(1/22)
باب تعبده في غار حراء
...
تعبده في غار حراء
ثم حبب إليه الخلوة والتعبد لربه فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه، وبغضت إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. وأنبته الله نباتا حسنا حتى كان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأعزهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا، حتى سماه قومه "الأمين" لما جمع الله فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة قامت قريش في بناء الكعبة.(1/22)
باب حال مكة وظهور قصي قبل قريش
...
حال مكة وظهور قصي قبل قريش
قال أهل السيرة: كان أمر البيت وولايته بعد إسماعيل إلى ولده، ثم غلبهم أخوالهم من جرهم، فلم يزل في أيديهم حتى استحلوا حرمته وأكلوا ما يهدى إليه وظلموا من دخل مكة فرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، وغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ولا بغي، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجه الله منها، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه، فيقال ما سميت بكة إلا أنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها. ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر، وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات، متفرقون في قومهم من بني(1/22)
دار الندوة وتوزيع السلطة بين بني قصي
واتخذ لنفسه "دار الندوة" وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها. قال السهيلي: "ولفظها مأخوذ من لفظ الندا، والنادي والمنتدى هو مجلس القوم الذي يندون حوله أي يذهبون قريبا منه ثم يرجعون. وهذه الدار تصيرت من بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي، فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم وذلك في زمن معاوية، فلامه معاوية على ذلك وقال: بعت مكرمة آبائك وشرفهم. فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر وبعتها بمائة ألف درهم وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون؟ ذكر هذا الخبر الدارقطني في أسماء رجال الموطأ له". انتهى.
فلما كبر قصي، وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وعبد العزى وعبد، قال قصي لعبد الدار: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا بيدك، ولا يشرب رجل من مكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك. فأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة. وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع به طعاما للحجاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد، وذلك أن قصيا فرض على قريش فقال لهم: إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا. فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنع به طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.(1/24)
حلف المطيبين وحلف الفضول
وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم. ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد بني عبد الدار وأنهم أولى بذلك، فتفرقت قريش: بعضهم مع بني عبد مناف وبعضهم مع عبد الدار، فعقد كل قوم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة.فأخرج بنو عبد مناف حفنة مملوءة طيبا، أخرجتها لهم بعض نسائهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، فسموا المطيبين. ثم تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار. ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة".
وأما "حلف الفضول" فقال ابن إسحاق: اجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان، وكان أكرم حلف سمع به في العرب وأشرفه. وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوما وجمحا وسهما وعديا، فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل، فعلا جبل أبي قبيس.. وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بشعر يصف فيه ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك [الزبير] بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياما، فتعاهدوا وتعاقدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة. فسمت قريش ذلك الحلف "الفضول" وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه.
وقال الزبير ابن عبد المطلب:(1/25)
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه توافقوا وتعاقدوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" وعبد الله بن جدعان هذا تيمي يكنى أبا زهير، ابن عم عائشة، ولذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم الدين؟" فقال: "لا، لأنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أخرجه مسلم. وفي غريب الحديث لابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان [في] صكة عمي يعني في الهاجرة" 1 قال ابن إسحاق: فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان سفارا قلما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا.
ـــــــ
1 الصكة من الاصطكاك أي الازدحام. إجابة لدعوة ابن جدعان. وعمي اسم رجل من عدوان كان يفيض بالناس عند الهاجرة.(1/26)
رحلة الصيف والشتاء
...
رحلة الشتاء والصيف
وكان هاشم أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف. وأول من أطعم الثريد بمكة، وكان اسمه عمرو فما سمي هاشما إلا لهشم الخبز بمكة لقومه. قال الشاعر2:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
ـــــــ
2 هو مطرود بن كعب الخزاعي(1/26)
المطلب، وعبد المطلب واكتشاف زمزم
قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بغزة من أرض الشام تاجرا، فولي السقاية والرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم وكان ذا شرف في القوم وفضل، وكانت قريش تسميه "الفياض" لسماحته. ثم هلك المطلب. ثم ولي عبد المطلب السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامهما للناس، وأقام لقومه ما أقام آباؤه، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه. ثم إن عبد المطلب أتي في المنام وأمر بحفر زمزم، وذلك لأن الجرهمي عمرو بن الحارث لما أحدث قومه بحرم الله وقيض الله من أخرجهم من مكة فعمد عمرو إلى نفائس [الكعبة] فجعلها في زمزم وبالغ في طمها، وفر إلى اليمن. فأتي عبد المطلب في المنام وأمر بحفرها، ووصف له موضعها بعلامات وأمارات، ففعل ذلك، فغدا بمعوله ومعه الحارث ابنه، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقالوا: "يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا فيها". قال: "ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم". فخاصموه إلى كاهنة بني سعد. وقيل إنه لما حفر وجد فيها غزالين من ذهب وأدراعا وأسيافا، فقالت قريش: "يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق"، قال: "لا، وهلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، تضرب عليها بالقداح"، قالوا: "وكيف نصنع؟" قال: "أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له". فقالوا: "أنصفت". فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا صاحب القداح الذي يضرب عليها عند هبل، وقام عبد المطلب يدعو،وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدرع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف بابا لكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حليت به الكعبة فيما يزعمون. ثم أن(1/27)
عبد المطلب [جعل] سقاية زمزم للناس، فنذر لله لئن آتاه الله عشرة من الولد يمنعونه لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم يمنعونه جمعهم فأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء، فأطاعوه، وقالوا: "كيف نصنع؟" قال: "ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم أتوني". ففعلوا. فدخل بهم على هبل فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطلب أحب ولده إليه، فكان يرى أن السهم إذا أخطأ فقد أشوى1: فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح فخرج على عبد الله، فأخذ بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل على إساف ونائلة ليذبحه2، فقامت إليه قريش من أنديتها فمنعوه، وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم -وكان عبد الله ابن أخت القوم-: "والله لا تذبحه حتى تعذر فيه أبدا، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه" ثم أتوا عرافة فسألوها. فقالت: "كم الدية فيكم؟" قالوا: "عشرة من الإبل". وكانت كذلك. قالت: "فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرة من الإبل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربك ونجا صاحبكم". فقام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وقربوا عشرا من الإبل، وعبد المطلب عند هبل يدعو الله، فضربوا فخرج القدح على عبد الله، فلم يزالوا يزيدون عشرا عشرا والقدح يخرج على عبد الله إلى أن بلغوا مائة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله فخرج القدح على الإبل، ثم أعادوا الثانية فخرج على الإبل، ثم أعادوا الثالثة فضربوا فخرج على الإبل فنحرت وتركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع، فجرت الدية في قريش والعرب مائة من الإبل، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
ـــــــ
1 رمى فأشوى: أي لم يصب الهدف
2 إساف ونائلة: صنمان كانا عند الصفا والمروة.(1/28)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا ابن الذبيحين" يعني إسماعيل وأباه عبد الله. وروى الحاكم في المستدرك أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: "يا ابن الذبيحين" فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه .(1/29)
إعادة بناء الكعبة
وقد كان السيل هدم الكعبة فسرق منها لما انهدمت غزال من ذهب وحلي وجوهر فنقضتها قريش، وكان في حيطانها صور كثيرة بأنواع الأصناف عجيبة، منها صورة إبراهيم عليه السلام في يده الأزلام، ويقابلها صورة ابنه إسماعيل على فرس مخبر، وبعد هذه الصور صور كثير من أولادهم إلى قصي بن كلاب وغيره في نحو ستين صورة، في كل واحدة من تلك الصور آلة صاحبها وكيفية عبادته وما اشتهر من فعله. ولما بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها وتأتى لها ما أرادت في بنائها من الخشب الذي ابتاعوه من السفينة التي رمى بها البحر إلى ساحله التي بعث بها ملك الروم من القلزم من بلاد مصر إلى الحبشة ليبني بها هناك كنيسة، وانتهوا إلى موضع الحجر على ما ذكرنا، وتنازعوا أيهم يضعه اتفقوا على أن يرتضوا بأول من يطلع عليهم من باب بني شيبة.(1/29)
تحكيمه صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر بموضعه
فكان أول من ظهر لأبصارهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الباب،وكانوا يعرفونه بالأمين لوقاره وهديه وصدق لهجته واجتنابه القاذورات والأدناس، فحكموه فيما تنازعوا فيه، وانقادوا لقضائه، فبسط ما كان عليه من رداء وقيل كساء وأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر فوضعه في وسطه، ثم قال لأربعة رجال من قريش وأهل الرياسة فيهم والزعماء منهم، وهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، والأسود بن المطلب ن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأبو حذيفة بن المغيرة ابن عمرو بن مخزوم، وقيس بن عدي السهمي: ليأخذ كل واحد منكم بجنبة من حنبات هذا الرداء، فشالوه حتى ارتفع من الأرض وأدنوه من موضعه، فأخذ.(1/29)
وصف ما كان عليه الكعبة
...
وصف ما كانت عليه الكعبة
وقال ابن إسحاق: إنها كانت قبل ذلك رضما فوق القامة. قال السهيلي: "والرضم أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط. وقوله "فوق القامة" كلام غير مبين لمقدار ارتفاعها إذ ذاك. وذكر غيره أنها كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، فلما بنتها قريش قبل الإسلام زادوا فيها تسع أذرع، قال: وكان بناؤها في الدهر خمس مرات: الأولى حين بناها شيث بن آدم، والثانية حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى، والثالثة حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام، والرابعة حين احترقت في عهد ابن الزبير بشرارة طارت من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترقت. وقيل إن امرأة أرادت تجمرها فطارت شرارة من المجمرة في أستارها فاحترقت فشاور ابن الزبير في هدمها من حضره، فهابوا هدمها وقالوا: ترى أن تصلح ما وهي، ولا تهدم. فقال: "إن دار أحدكم إذا احترقت لم يرض إلا بأكمل صلاحها إلا بهدمها"، فهدمها(1/30)
حتى أفضى إلى قواعد إبراهيم، فأمرهم أن يزيدوا في الحفر، فحركوا حجرا منها فرأوا تحته نارا وهولا أفزعهم، فأمروا أن يقروا القواعد وأن يبنوا من حيث انتهى الحفر. وفي الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد فطاف الناس بتلك الأستار، فلم تخل قط من طائف، حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب واشتغل الناس فلم ير طائف طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها، فلما استتم بنيانها ألصق بابها بالأرض، وعمل لها خلفا أي بابا آخر من ورائها وأدخل الحجر فيها وذلك لحديث حدثته به خالته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألم تر أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم حين عجزت بهم النفقة" ثم قال: "لولا حدثان قومك بالجاهلية لهدمتها وجعلت لها خلفا وألصقت بابها بالأرض وأدخلت فيها الحجر" أو كما قال عليه الصلاة والسلام. قال ابن الزبير: "فليس بنا اليوم عجز عن النفقة" فبناها على مقتضى حديث عائشة، فلما قام عبد الملك بن مروان قال: "لسنا من تخليط أبي خبيب"، فهدمها وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من بنائها جاءه الحارث بن أبي ربيعة المعروف بالقناع، وهو أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر ومعه رجل آخر، فحدثه عن عائشة بالحديث المتقدم، فندم وجعل ينكث في الأرض بخصرة في يده ويقول: "وددت أني تركت أبا خبيب وما تحمل من ذلك". فهذه المرة الخامسة. فلما قام أبو جعفر المنصور أراد أن يبنيها على ما بناها ابن الزبير فشاور في ذلك فقال له مالك بن أنس: "أنشدك الله يا أمير المؤمنين، ولن يجعل الله هذا البيت ملعبة للملوك من بعدك لا يساء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس"، فصرفه عن رأيه فيه.
وكانت الكعبة قبل أن يبنيها شيت خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها، لأنها أنزلت من الجنة، وكان قد حج إلى موضعها من الهند، وقد قيل أيضا: إن آدم أول من بناها، ذكره ابن إسحاق في غير رواية البكائي. وذكر ابن إسحاق أن الماء لم يعلها حين الطوفان. ويذكر أن يعرب قال لهود عليه السلام: "ألا نبنيه؟" قال: "إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي يتخذه الرحمن خليلا". فلما نصح ماء الطوفان كان مكان البيت ربوة من مدرة وحج إليه هود وصالح ومن آمن معهما وهو كذلك. فلما بعث الله إبراهيم ونبت إسماعيل(1/31)
بمكة أمر إبراهيم ببناء الكعبة، فدلته عليه السكينة وظللت له على موضع البيت، فلما بلغ إبراهيم الركن جاءه جبريل بالحجر الأسود من جوف أبي قبيص. وروى الترمذي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل الحجر من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم". وذكر أيضا عن عبد الله بن عمرو أن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان من الجنة، ولولا ما طمس من نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب.(1/32)
توسيع عمر بن الخطاب المسجد الحرام
وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أن الناس ضيقوا على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال عمر: "إن الكعبة بيت الله ولابد للبيت من فناء، وإنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم". فاشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها. ثم كان عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاشترى دورا أخر وأغلى في ثمنها، وزاد في سعة المسجد. فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه لا في إتقانه، وجعل فيه عمدا من الرخام، وزاد في أبوابه وحسنها. فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة، واحتملت من جدة على العجل إلى مكة. وأمر الحجاج بن يوسف فكساها بالديباج، وكان ابن الزبير كساها الديباج قبل الحجاج، ذكره الزبير بن بكار. ثم كان الوليد بن عبد الملك فزاد في حليها. فلما كان أبو جعفر المنصور وابنه محمد المهدي زاد أيضا في إتقان المسجد وتحسين هيئته". انتهى كلام السهيلي ملخصا.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، إلى الأسود والأحمر، ناسخا بشريعته جميع شرائع الأنبياء قبله. ونذكر قبل ذلك شيئا من أمور الجاهلية وما كانوا عليه قبل مبعثة.(1/32)
رسالات الله وطروء الوثنية عليها
واعلم رحمك الله أن أهل الجاهلية لا عذر لهم في ترك رسالة الله؛ لأن الرسالة عمت بني آدم، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وأصل ذلك ما ذكر الله أنه لما أهبط آدم ومن معه من الجنة قال سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} الآية.
وفي الآية الأخرى { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} الآيات. وهداه الذي وعدنا به هو إرسال الرسل وإنزال الكتب، وقد وفى بما وعد سبحانه، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فتوارث بنو آدم العلم والهدى عن أبيهم آدم عليه السلام. قال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أول من بعث نوح" وهكذا قال مجاهد وغير واحد من السلف.
وكان أول ما كادهم به الشيطان من تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} فروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت، وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.(1/33)
وروى عبد الله بن حميد عن محمد بن كعب في قوله تعالى: {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية، قال: "كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم تنظرون إليهم، فصوروا، ثم ماتوا، فنشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها. وروى ابن جرير عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فلما ماتوا جاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وقال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، وطال عليهم الأمد فعبدوهم. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" . وقال الكلبي: "كانوا هؤلاء قوما صالحين، فماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم فصوروا صورهم. قال: فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه، حتى ذهب ذلك القرن، ثم جاء قرن ثان فعظموهم أشد من تعظيم الأول، ثم جاء القرن الثالث فقالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم، فعبدوهم. فلما بعث الله نوحا وغرق من غرق أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة. فلما نضب الماء بقيت على الشط، فسفت الريح حتى وارتها.(1/34)
وثنية عمرو بن لحي الخزاعي
قال: وكان عمرو بن لحي سيد خزاعة كاهنا، وكان له رئي من الجن، فأتاه فقال: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة. ائت جدة، تجد فيها أصناما معدة. فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب؟ فأتي جدة فاستثارها ثم حملها حتى أوردها تهامة وحضر الحج، فدعا العرب إلى(1/34)
عبادتها فأجابوه". انتهى ما ذكره هشام بن محمد الكلبي ملخصا. وقيل: إن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب البلقاء وبها يومئذ العماليق فرآهم يعبدون الأصنام، فاستحسن ذلك وظنه حقا فقال لهم: أفلا تعطوني صنما منها فأسير به إلى أرض العرب؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. قال السهيلي: وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة قد جعلته العرب ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يعظم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة، حتى إن اللات الذي كان يلت السويق للحاج على صخرة معروفة فسميت صخرة اللات، ويقال إن الذي كان يلت من ثقيف، فلما مات قال لهم: إنه لم يمت ولكن دخل في الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبني عليها بيت يسمى "اللات". وذكر أبو الوليد الأزرقي في أخبار مكة أن عمرو بن لحي فقأ عين عشرين بعيرا، وكانوا بفقئون عين الفحل إذا بلغت ألف فإذا بلغت ألفين فقئوا عينه الأخرى، قال الشاعر:
وكان شكر القوم عند النعم ... كي الصحيحات وفقء الأعين
وكانت التلبية من عهد إبراهيم عليه السلام "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال "لبيك لا شريك لك" فقال الشيخ "إلا شريكا هو لك" فأنكر ذلك عمرو فقال: "وما هذا؟" فقال الشيخ: "قل"تملكه وما ملك" فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو فدانت بها العرب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار فسألته عمن بيني وبينه من الناس فقال: هلكوا". قال ابن إسحاق: حدثني محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول لأكثم الخزاعي: "يا أكثم(1/35)
رأيت عمرو بن لحي ابن قمعة بن خندف1 يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه" فقال أكثم: "عسى ألا يضرني شبهه يا نبي الله؟" قال: "إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إبراهيم، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة"
ـــــــ
1 في نسب عمرو بن لحي اختلاف كثير.(1/36)
البحيرة والوصيلة والسائبة والحامي
وفي الصحيحين عن ابن المسيب قال: "البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب". والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول إنتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام الفحل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي
قال ابن إسحاق: "ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حتى ضاقت، والتمسوا الفسح في البلاد، فكان لا يظعن منهم ظاعن إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم، حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان فصاروا إلى ما كانت عليه قبلهم من الضلالات، وفيهم على ذلك بقايا من دين إبراهيم يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة ومزدلفة وإهداء البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم ما ليس فيه. فكانت قريش وكنانة إذا أهلوا قالوا "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك،(1/36)
تملكه وما ملك" فبوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده". انتهى كلام ابن إسحاق.
وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان يلبي أهل الشرك "لبيك اللهم لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك" فأنزل الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}" الآية. قال المفسرون: والمعنى أيرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وهو فيه سواء؟ قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك، كذلك الله لا شريك له. والمعنى إن أحدكم يأنف من ذلك، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟ وهذا كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي من البنات، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله، وقد كان أحدهم إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم.
أصنام الحجاز وأماكنها
قال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: وكان من أقدم أصنامهم مناة، وكان منصوبا على ساحل البحر الأحمر من ناحية المشلل بقديد بين مكة والمدينة، وكانت العرب جميعا تعظمه، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له، ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج". قال هشام: "وحدثنا رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: كانت الأوس ومن جاورهم من عرب يثرب وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك. وكانت مناة لهذيل وخذاعة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح.
ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مريعة، وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها، وبها كانت تسمى زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع منارة(1/37)
مسجد الطائف اليسرى اليوم، فلم تزل كذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب لما أسلمت ثقيف فهدمها وحرقاها بالنار" انتهى. وروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال: "كان يلت السويق للحاج فمات، فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: "كان يلت السويق للحاج". رواه البخاري بنحوه.
ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتا، فكانوا يسمعون منها الصوت. قال هشام: "وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "كانت للعزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: "ائت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى". فأتاها فعضدها. فلما جاء إليه قال: "هل رأيت شيئا؟" قال: "لا" قال: "فاعضد الثانية" ، فعضدها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل رأيت شيئا؟" قال: "لا" قال: "فاعضد الثالثة" فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقيها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها فقال خالد:
كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا حممة، ثم عضد الشجرة وقتل السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب". انتهى.
وقال بعض العلماء: "وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات والعزى ومناة. كما ذكر الله ذلك في كتابه حيث يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} وكل واحد من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب. والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة: مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية. وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عقب فتح(1/38)
مكة فأزالها، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم مالها، وخرجت منها شيطانة، فيئست العزى أن تعبد. وأما مناة فكانت لأهل المديتة يهلون لها شركا بالله، وكانت حذو قديد الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعرف كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء. ولما كان لمشركين سدرة يعلقون بها أسلحتهم ويسمونها "ذات أنواط" فقال بعض الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: "الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم" فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطم من ذلك وأعظم من مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه"انتهى. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" ، وذلك أنه إذا لم يعرف ما كان عليه أهل الجاهلية وقع فيه وهو لا يشعر.
قال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: "وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم هبل وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان، وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا، أتوه فاستقسموا عنه بالقداح،وهو الذي قال أبو سفيان يوم أحد: "اعل هبل" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا الله أعلى وأجل".
وكان لهم أساف ونائلة، قيل: إن أصلها أن أساف رجل من جرهم ونائلة بنت زيد بن جرهم، وكان يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلوا حجاجا، فلما خلا البيت فوجدا غفلة من الناس ففجر بها في البيت، فمسخا حجرين، فأخرجوهما فوضعوهما عند الكعبة ليتعظ بهما الناس. فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها، فكانوا يذبحون عندهما. والله أعلم.(1/39)
قال ابن إسحاق والكلبي: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب، وكان مروة بيضاء منقوشا عليها كهيئة التاج، وكان له بيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لجرير بن عبد الله البجلي]: "ألا تكفيني ذا الخلصة؟" فسار إليه بأحمس فقاتلته خثعم وباهلة، فظفر بهم، وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار. وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد بتبالة. وذكر السهيلي أن موضعه اليوم1 لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم. وذكره المبرد عن أبي عبيدة. قال السهيلي: وكان بعث جرير له قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين.
قال جرير: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا تريحني من ذي الخلصة" وكان بيتا في خثعم يسمى الكعبة اليمانية، فانطلقت في خمسين ومائة من أحمس إلى ذي الخلصة وكانوا أصحاب خيل، فقلت: "يا رسول الله إني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال: "اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا" فانطلق إليها فكسرها وحرقها فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره، فقال رسول جرير: "والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجرب"، فبارك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات. رواه البخاري ومسلم. وثبت عن الصادق المصدوق أنه سيعبد في آخر الزمان، وثبت في الحديث أنه لا تقوم الساعة حتى تضرب إليات نساء دوس وخثعم حول ذي الخلصة.
وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين، فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي فحرقه.
وكان لبني الحارث بن يشكر صنم يقال له الشرى.
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر وكان لمزينة صنم يقال له بهم، وبه كانت تسمى عبد بهم.
وكان لعنزة صنم يقال له سعير.
وكان لطي صنم يقال له الفلس بين سلمى وأجأ.
ـــــــ
1 بياض بالأصل.(1/40)
وكان لأهل كل دار بمكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر فكان [أول] ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به.
قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم يقال له عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله بزعمهم، فما دخل في حق عم أنس من حق الله سموه له وتركوه، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية.
قال ابن إسحاق: وكان لبني ملكان من كنانة بن خزيمة صنم يقال له سعد، صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل -وكان تهراق عليه الدماء- نفرت منه، فذهبت في كل وجه، فغضب ربها، فأخذ حجرا فرماه به ثم قال: "لا بارك الله فيك نفرت عني إبلي". ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... ففرقنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد
وقال أبو رجاء العطاري: كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به. وروى الدرامي عن مجاهد قال: حدثني مولاي1 أن أهله يعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال: "فمنعني أن آكل الزبد لمخافتها" قال: "فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم وهو إساف ونائلة. قال هارون: "كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل
ـــــــ
1 مولاه السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي الإمام المقرئ المفسر.(1/41)
حمل معه ثلاثة أحجار لقذره والرابع يعبده ويربي كلبه ويقتل ولده". وروى أيضا أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، فكانت عندي بنت لي، فلما أحانت وكانت مسرورة بدعائي إذ دعوتها يوما فاتبعتني، فمررت حتى أتيت بئرا من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها تقول: يا أبتاه يا أبتاه". فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينيه. فقال رجل: "أحزنت يا رسول الله" فقال له: "كف فإنه يسأل عما أهمه" ثم قال: "أعد علي حديثك، فأعاده، فبكى حتى كف الدمع من عينيه على لحيته، ثم قال له: "gإن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك" .انتهى.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بسية قوسه في وجوهها وعيونها يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} وهي تتساقط على رؤوسها. ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود بنحوه، ولم يذكرا "وهي تتساقط" إلخ وعندهما "فجعل يطعنها بعود كان في يده" إلخ(1/42)
أديان العرب في الجاهلية
قال أبو الحسن المسعودي في كتابه مروج الذهب: "كانت العرب في جاهليتها فرقا: منهم الموحد المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور موقن بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي، كقس بن ساعدة المشهور بالفصاحة ورباب الشني وبحيرا الراهب وكان من عبد القيس، ومنهم من أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم وأقر بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام، وهو الذين حكى الله تعالى قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الأصنام وقصدوها، ونحروا لها البدن ونسكوا لها النسائك، وحرموا لها وأحلوا لها. ومنهم من أقر بالخالق والبدء وكذب بالرسل والبعث ومال إلى قول أهل الدهرن وهم الذين أخبر الله عنهم(1/42)
بقوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} الآية. ومنهم من مال إلى اليهودية والنصرانية. وقد كان صنف من العرب يعبدون الملائكة ويزعمون أنها بنات الله تعالى وتقدس عن قولهم، فكانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} الآية، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} الآيات". انتهى كلامه. وقال غيره: "ومنهم من كان يعبد الجن، وكانت علومهم علم الأنساب والأنواء والتواريخ وتعبير الرؤيا، وكانت لأبي بكر رضي الله عنه فيها يد طولى، وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاء الإسلام بها، وكانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات، وكان أقبح ما يأتونه الجمع بين الأختين، وكان الرجل منهم يتزوج امرأة أبيه، وكانوا يغتسلون من الجنابة، وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس والسواك والاستنجاء وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى، وكانوا يحجون ويعتمرون.
وقد قسم المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة وعاربة ومستعربة. أما البائدة فهم الأولى الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم، وعاد وثمود وجرهم الأولى.! وكانت على عهد عاد! فبادوا ودرست أخبارهم. وأما جرهم الثانية فهم من ولد قحطان، وبهم اتصل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ولم يبق من ذكر العرب البائدة إلا القليل. وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان، وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل. انتهى.(1/43)
فصل أسباب انتشار الوثنية
قال ابن القيم: "وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، وتلاعب بكل قوم على قدر عقولهم. فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صور تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا، وقال: "اشتد غضب الله على قوم(1/43)
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ومر بتسوية القبور وطمس التماثيل، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله، إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا. هذا السبب هو الغالب على عوام المشركين، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم، أو جعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا، ولم يزل في هذه الدنيا قديما وحديثا، فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كان به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار، ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركين على اسم الزهرة فخربه عثمان بن عفان، ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخربه المعتصم. وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك الهند.
وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم الخليل عليه السلام الذين ناظرهم فطلبوا تحريقه، وهو مذهب قديم في العالم، وأهله طوائف شتى: فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك، فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع، وله سدنة وقوام وحجبة. وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت. ولذا توسطت الفلك، ولهذا يقال نها الشيطان1 في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات، قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا، وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام.
وطائفة أخرى اتخذت القمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي. ومن شريعة عبادته أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل ويجره أربعة وبيد الصنم جوهرة ويعبدونه ويسجدون له ويصومون
ـــــــ
1 كذا الأصل ولعل فيه تحريفا.(1/44)
له أياما معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه.
ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيها بزعمهم، وبنوا لها هياكل ومتعبدات، لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه، فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه, ومن هاهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه، وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده. ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، فبجهلهم وسخفهم يظنون أن المتكلم هو الصنم نفسه المخاطب. وعقلاؤهم يقولون إن هذه روحانيات الأصنام، وبعضهم يقولون إنها الملائكة. وبالجملة فإن أكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح كما تقدم، وهياكلها وسدنتها ومحارمها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبقت الأرض. قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم، الذي أبطله الله وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله، قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية. وقال عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه، فإن هذا لم يقله أحد ولم يكونوا يفعلونه، فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من [ذلك في] فطر الناس كلهم، ولكن المشبهون يغلون فيمن يعظمونه، فيشبهونه بالخالق". والله أعلم.(1/45)
عود ذكر أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي
وفي الصحيحين عن ابن المسيب قال: "البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها. والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. واحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا ضربه ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل فلا يحمل عليه، وسموه الحامي" انتهى.
وقال ابن إسحاق: "البحيرة بنت السائبة، هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر سيبت، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها فهي البحيرة بنت السائبة. والوصيلة الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر جعلت وصيلة. قالوا: قد وصلت، فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم. والحامي إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره وخلى في إبله ضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك. قال ابن إسحاق: "فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل الله {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} الآية، وأنزل {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} الآية، وقوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} الآية.(1/46)
أمر الحمس
قال ابن إسحاق: "وقد كانت قريش -لا أدري قبل الفيل أو بعده- ابتدعت للحمس رأيا رأوه وأرادوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم وولاة البيت(1/46)
وقاطنو مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل مثل ما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم. ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره كما يعظم. نحن الحمس والحمس أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من مساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك، ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما. ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئا طافوا بالبيت عراة. فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب أحمس وطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ولم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره. فكانت العرب تسمي تلك الثياب "اللقي" فحملوا على ذلك العرب فدانت به. أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع المرأة ثيابها كلها إلا درعا مفرجا ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يعني قريشا والعرب،وأنزل فيما حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إلى قوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية.(1/47)
ذكر أهل الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم
قال المسعودي: وكان بين المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم في الفترة جماعة من أهل التوحيد وممن يقر بالبعث قد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى أن منهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك.
فممن ذكر رياب الشني وكان من عبد القيس ثم من شن وكان على دين المسيح قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعوا مناديا ينادي من قبل السماء قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: "خير أهل الأرض رياب الشني وبحيرا الراهب ورجل آخر لم يأت بعد", يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وكان لا يموت أحد من ولد رياب إلا رأوا طشا على قبره.
ومنهم أسعد أبو كرب الحميري وكان مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بسبعمائة سنة وقال:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وهو أول من كسا الكعبة الأنطاع والبرود، ولذلك يقول بعض حمير:
وكسونا البيت الذي حرم الله(1/48)
قس الإيادي وزيد بن عمرو العدوي
ومنهم قس بن ساعدة من إياد بن معد، وكان حكيم العرب، وكان مقرا بالبعث وهو الذي يقول "من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت" وقد ضرب العرب بحكمته الأمثال قال الأعشى:(1/48)
وأحكم من قس وأجرى من الذي ... بذي الغيل من غسان أصبح حادرا
وقدم وفد من إياد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عنه، فقالوا: "هلك". فقال: "رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أحمر وهو يقول: "أيها الناس، استمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. أما بعد فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا. بحر يفور، ونجوم تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع. أقسم قس بالله قسما: إن له دينا أرضى من دين أنتم عليه. ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ سبيل مؤتلف، وعمل مختلف" وقال أبياتا لا أحفظها" فقام أبو بكر فقال: "أنا أحفظها يا رسول الله" فقال:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده".
وممن كان في الفترة زيد بن عمرو، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة، وهو ابن عم عمر بن الخطاب،وقد كان زيد رغب عن عبادة الأوثان وعابها، فأولع به عمه الخطاب سفهاء مكة فسلطهم عليه وآذوه. قال ابن إسحاق: "واجتمعت قريش يوما في عيد صنم من أصنامهم وكانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به وكان ذلك عيدا لهم [في كل] سنة يوما، فخلص(1/49)
منهم أربعة نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجل. وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وعبيد الله بن جحش –وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب- وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى. فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نظيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا، فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون دين إبراهيم، فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيا، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم [على] زوجته أم حبيبة بعده، فأرسل إلى النجاشي عمرو بن أمية فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة دينار. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده. وأما زيد بن عمرو فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموؤدة وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادأ قومه بعيب ما هم عليه". وقال ابن إسحاق: "وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: "يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري." ثم يقول: "اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك، ولكن لا أعلمه" ثم يسجد على راحته" قال ابن إسحاق: "وحديث ابنه سعيد بن زيد بن عمرو وعمر بن الخطاب وهو ابن عمه قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنستغفر لزيد بن عمرو؟" قال: "نعم فإنه يبعث أمة وحده". وقال الليث كتب إلى هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: "يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري" وكان يحي الموؤدة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: "لا تقتلها فأنا أكفيك مؤنتها" فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: "إن(1/50)
شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها". وروى البخاري أيضا عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل عليه الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم1 فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد: "لست آكل مما تذبحون على أصنامكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"، وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: "الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله" إنكارا لذلك وإعظاما له. قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه يحدث إلا عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويبتغيه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: لعلي أدين بدينكم، فقال: لا تكن على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم". انتهى.
قال ابن إسحاق: "قال زيد بن عمرو في فراق دين قومه وما كان لقي منهم في ذلك:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
ـــــــ
1 لعله سقط هنا كلمة "ذبيحة" أو "لحوم ذبيحة".(1/51)
فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير
ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبور
ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير
وقال أيضا:
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا ... وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... إله ولا رب يكون مدانيا
ألا أيهاأيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لا تخفي عن الله خافيا
وإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإن سبيل الرشد أشبح باديا
حنانيك إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا(1/52)
وأنت الذي من فضل من ورحمة ... يعثت إلى موسى رسولا مناديا
وقلت له اذهب وهرون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له أأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له أأنت رفعت هذه ... بلا عمد ارفق إذا بك بانيا
وقولا له أأنت سيرت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه ... وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت بفضل منك نجيت يونسا ... وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وإني وإن سبحت باسمك ربنا ... لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
فرب العباد ألق سيبا ورحمة ... علي وبارك في بني وماليا
وقال ابن هشام هي لامية ابن أبي الصلت في قصيدة له. وقال زيد أيضا:(1/53)
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا
وكان الخطاب قد آذى زيدا حتى أخرجه إلى أعلى مكة فنزل حراء مقابل مكة ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم، فقال لهم لا تتركوه يدخل مكة، وكان لا يدخلها إلا سرا منهم، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم. ثم خرج يطلب دين إبراهيم يسأل الأحبار والرهبان حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجاء إلى الشام كلها حتى انتهى إلى راهب ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج في بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه. وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا، فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه. فقال ورقة بن نوفل يبكيه:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا(1/54)
فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وممن كان في الفترة أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان عاقلا،وكان يتجر إلى الشام فيلقى أهل الكتاب من اليهود ويقرأ الكتاب. وقد كان علم أن نبيا سيبعث في العرب فطمع أن يكون هو، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفت عنه النبوة حسد وكفر، فكان يقول أشعارا على آراء أهل الديانة يصف فيها السموات والأرض والشمس والقمر والملائكة والأنبياء، ويذكر البعث والنشور والجنة والنار ويعظم الله وحده، ومن ذلك قوله:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يكن هكذا فقد ظلما
ووصف أهل الجنة في بعض كلامه فقال:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به لهم مقيم
ولما بلغه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم اغتاظ لذلك وتأسف، وأتى المدينة ليسلم فرده الحسد، فرجع إلى الطائف فبينما هو ذات يوم مع فتية ليشرب إذ وقع عليه غراب فنعق ثلاثة أصوات وطار، فقال أمية: أتدرون ما قال؟" قالوا: "لا". قال: "إنه يقول: إن أمية لا يشرب الكأس الثالثة حتى يموت". فقال القوم: "لنكذبن قوله". قال: "احثوا كأسكم" فحثوها، فلما انتهت الكأس الثالثة إلى أمية أغمي عليه، فسكت طويلا ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما ...
ها أنا ذا لديكما(1/55)
أنا من خفت عليه النعمة، ولم يحمد الشكر
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما
ثم أنشأ يقول:
إن يوم الحساب يوم عظيم ... شاب منه الصغير شيبا طويلا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا
ثم شهق شهقة كانت فيها نفسه.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الآية: إنه أمية بن أبي الصلت. وهو أول من كتب "باسمك اللهم" ومنه تعلمت قريش، ولتعلمه هذه الكلمة سبب عجيب ذكره المسعودي.
وقد أسلمت عاتكة أخت أمية هذا فخبرت عنه بخبر ذكره عبد الرزاق في تفسيره أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته أنها رأت وهي في اليقظة نسرين نزلا على سقف بيتها، وفيه أخوها أمية نائما. فشقا السقف، فنزل أحدهما على أمية فشق صدره وحشاه بشيء، ثم أصلحه فخرج. فقال له النسر الآخر: "وعى؟" قال: "نعم" قال: "هل زكا؟" قال: "لا". فكذلك كان ينطق بالحكمة في أشعاره ويذكر التوحيد ويعظم الرب ويذكر الجنة والنار، فلما قتل ببدر من قتل من أشراف قريش بكاهم ورثاهم وحقد على الإسلام وحرم التوفيق. ومما ذكر من شعره قوله:(1/56)
إن آيات ربنا باقيات ... ما يماري فيهن إلا كفور
خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب كريم ... بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
لازما حلقة الجران كما قط ... ر من صخر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطأ ... ل ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعا ... كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عنـ ... د الله إلا دين الحنيفة بور
ومن ذلك قوله أيضا:
إله محمد حقا إلهي ... وديني دينه غير انتحال
إله العالمين وكل أرض ... ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا ... بلا عمد يرين ولا حبال
وسواها وزينها بنور ... من الشمس المضيئة والهلال(1/57)
ومن شهب تلألأ في دجاها ... مراميها أشد من النصال
وأنشأ المزن تدلج بالروايا ... خلال الرعد مرسلة العزالى
ليسقي الحرث والأنعام منها ... سجال الماء حالا بعد حال
وشق الأرض فانبجست عيونا ... وأنهارا من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكى ... بها ما كان من حرث ومال
وأجرى الفلك في تيار موج ... تفيض على المداليح الثقال
وكل معمر لا بد يوما ... وذي دنيا يصير إلى زوال
ويفنى بعد جدته ويبلى ... سوى الباقي المقدس ذي الجلال
كأنا لم نعش إلا قليلا ... إذا كنا من الهوم البوالي
ونادى مسمع الموتى فجئنا ... من الأجداث كالسفن العجال
فلا أنساب بين الناس ترجى ... ولا رحم يصير إلى وصال
سوى التقوى ولا مولى يرجى ...
سوى الرب الرحيم من الموالي(1/58)
وسيق المجرمون وهم عصاة ... إلى ذات المقامع والنكال
إذا نضجت جلودهم أعيدت ... كما كانت وعادوا في سفال
ونادوا مالكا ودعوا ثبورا ... وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا ... وكلهمو بحر النار صال
وحل المتقون بدار صدق ... وعيش ناعم تحت الظلال
ظلال بين أعناب ونخل ... وبنيان من الفردوس عال
لهم ما يشتهون وما تمنوا ... من اللذات فيها والجمال
ومن استبرق يكسون فيها ... عطايا جمة من ذي المعالي
وكأس لذة لا غول فيها ... من الخمر المشعشعة الحلال
وله أشعار كثيرة غير ذلك. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد"ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم". وعن عمرو بن الشريد1 عن أبيه قال: "استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدته، حتى أنشدته مائة قافية". رواه البخاري في الأدب المفرد2. وممن كان في الفترة أبو قيس صرمة بن
ـــــــ
1 في الأصل الرشيد
2 رقم 869 طبع السلفية(1/59)
أبي أنس من الأنصار من بني النجار، وقد كان ترهب ولبس المسوح وهجر الأوثان ودخل بيتا فاتخذه مسجدا لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: "أعبد رب إبراهيم"، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم وحسن إسلامه، وفيه نزلت آية السحور {َكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، وهو القائل في النبي صلى الله عليه وسلم:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا
وهو الذي يقول:
يقول أبو قيس وأصبح غاديا ... ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
وأوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم، والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم ... وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا ... وما حملوكم في الملمات فاحملوا
وإن ناب غرم فادح فارفعوهم ... وإن فضل الخير فيكم فأفضلوا
ومن ذلك قوله أيضا:
سبحوا الله شرق كل صباح ...
طلعت شمسه وكل هلال(1/60)
عالم السر والبيان لدينا ... ليس ما قال ربنا بضلال
يا بني الأرحام لا تقطعوها ... وصلوها قصيرة من طوال
واتقوا الله في ضعاف اليتامى ... ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم وليا ... عالما يهتدي بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه وال
وأجمعوا أمركم على البر والتقوى ... وترك الخنا وأخذ الحلال
ومنهم أبو عامر الأوسي واسمه عبد عمرو بن صيفي بن النعمان من بني عمرو بن عوف، وابنه حنظلة بن أبي عامر وهو غسيل الملائكة، وكان سيدا في الجاهلية قد ترهب فيها ولبس المسوح، وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اهره بالعداوة فخرج فارا إلى قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء معهم يوم أحد وحفر حفائر بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم في أول المبارزة فاستمالهم إلى نصره، فلما عرفوه قالوا: "ألا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله" ونالوا منه، فرجع وهو يقول: لقد أصاب قومي بعدي شر، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت طريدا بعيدا فنالته الدعوة، وذلك أنه لما رأى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتفاع ذهب إلى هرقل يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من أهل النفاق من قومه يعدهم أنه سيقدم عليهم بجيش، فبنوا مسجد الضرار، فلما فرغوا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "إنا قد فرغنا من مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة"ن فأنزل الله فيه القرآن {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً} الآيات, وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من تبوك فحرقه.(1/61)
ذكر قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه
قال ابن إسحاق: "وحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة الأنصاري عن محمد بن لبيد عن عبد الله بن العباس قال: حدثني سلمان الفارسي من فيه قال: "كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان أهل قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة". قال: "وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بني قد اشتغلت في بنياني هذا عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها بعض ما يريد، ثم قال: ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت عندي أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري. قال: "فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون. فلما رأيتهم أعجبتني صفتهم في صلانهم، ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها. ثم قلت لهم: من أين أصل هذا الدين؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت له: يا أبت مررت بنصارى يصلون بكنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. قال قلت له: كلا والله إنه لخير من ديننا. فخافني، فجعل في رجلي قيدا ثم احتبسني في بيته. قال وبعثت إلى النصارى وقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني(1/62)
بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال فجئت فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك وأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك. قال: ادخل. فدخلت معه. قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه للمساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع. ثم مات، فاجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا. فقالوا لي وما علمك بذلك؟ قلت لهم: إني أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه. قال فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا. قال فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة، وجاءوا برجل فجعلوه مكانه. قال يقول سلمان: فما رأيت رجلا يصلي الخمس أرى أنه أفضل ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه. قال: فأحببته حبا شديدا لم أحب شيئا قبله. قال فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إني قد كنت معك فأحببتك حبا لم أحبه شيئا من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحق به. قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. فقال لي: أقم عندي. فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني أن ألحق بأمرك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟ قال: يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان. فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به(1/63)
صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بني والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه،فإن أحببت فأته فإنه على أمرنا. فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم. قال فاكتسبت حتى صار لي بقرات وغنيمة. قال ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم أصبح اليوم أحد من الناس على مثل ما كان عليه هؤلاء آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات وغيب. قال ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه. قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني على رجل يهودي عبدا. فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي، فبينما أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: يا فلان قاتل الله بني قيلة1 والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من
ـــــــ
1 بنو قيلة هم الأوس والخزرج أهل المدينة.(1/64)
مكة اليوم يزعم أنه نبي. قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني العرواء وهي الحمى النافض –قال ابن هشام: العرواء هي المرعدة من البرد والانتفاض- حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ قال فغضب سيدي. فلكمني لكمة شديدة ثم قال: مالك وهذا؟ أقبل على عملك. قال فقلت له: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال. قال: وقد كنت عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته وذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقبا، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم. قال: فقربته إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "كلوا" ، وأمسك يده فلم يأكل. فقلت في نفسي هذه واحدة. ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجئته به فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها. قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه منها. قال: فقلت في نفسي: هاتان ثنتان. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة أحد أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبل فبكى وأبكى، فقال لي صلى الله عليه وسلم: تحول، فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، فقال سلمان: ثم قال لي صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير، وهي شبه الآبار الصغار المدمة للنخل وأربعين أوقية زاد البلاد1، وشيء من ذهب، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعطوني بالنخل الرجل ثلاثون ودية2 والرجل بعشرين والرجل بخمسة عشر والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده حتى
ـــــــ
1 كذا، ولم أقف على أصله.
2 الودية: النخلة الصغيرة كالفيل.(1/65)
اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقر لها1 فإذا فرغت فأتني أكون أنا واضعها بيدي. قال: ففقرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودية ويضعه صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغنا، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخلة وبقي علي المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ قال فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان. قال قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله من الذي علي؟ فقال: خذها فإن الله سيؤديها عنك. قال: فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم منها. وعتق سلمان. فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرا، ثم لم يفتني مشهد". انتهى. وفي صحيح البخاري عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب. وفيه عن أبي عثمان قال: سمعت سلمان يقول: أنا من رام هرمز. وفيه عن عثمان عن سلمان قال: فترة ما بين عيسى ومحمد ستمائة سنة. وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.
ـــــــ
1 أي احفر لها موضعا تغرس فيه، واسم الحفرة فقرة وفقير.(1/66)
ذكر صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: "وجدت في التوراة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل. ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتتح عيونا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا إله إلا الله".(1/66)
وذكر الواقدي من حديث النعمان قال: كان من أحبار يهود باليمن فلما سمع بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه فسأله عن أشياء ثم قال: إن أبي كان يختم على سفر يقول: لا تقرأه حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب، فإذا سمعت به فافتحه. قال نعمان: فلما سمعت به فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة, وإذا فيه ما يحل وما يحرم, وإذا فيه أنك خير الأنبياء, وأمتك خير الأمم, واسمك أحمد صلى الله عليه وسلم, وأمتك الحامدون, وقربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم. لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم يتحنن الله إليهم كتحنن النسر على فراخه. ثم قال لي: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه. فأتاه فقال صلى الله عليه وسلم: يا نعمان حدثنا. فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم, ثم قال: أشهد أتي رسول الله. وهو الذي قتله الأسود العنسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول: أشهد أن محمدا رسول الله وأنك كاذب مفتر على الله ثم حرقه بالنار.
وقال أبو العباس رحمه الله في الرد على النصارى1: وقد استخرج غير واحد من العلماء من الكتب الموجودة الآن في أيدي أهل الكتاب من البشارات بنبوته مواضع متعددة, وصنفوا في ذلك مصنفات. وهذه البشارات في هذه الكتب من جنس البشارات بالمسيح عليه السلام, واليهود يقرون باللفظ لكن يدعون أن المبشر به ليس هو المسيح ابن مريم وإنما هو آخر ينتظر, وهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا المسيح الدجال, وينتظرون أيضا لمجيء عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء ويحرفون دلالة اللفظ ويقولون إنها لا تدل على نبي منتظر, كما قالوا في قوله سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك يل موسى, أنزل عليه توراة, أجعل كلامي على فيه. قال بعضهم: ليس هذا إخبارا بل استفهام إنكار, وقدروا ألف استفهام أي "أسأقيم", وليس في النص شيء من ذلك. واليهود يحرفون الدلالات المبشرة بالمسيح وذلك عند المسلمين والنصارى لا يقدح في البشارة بالمسيح بل يبين دلالة المنصوص عليه وبطلان تحريف اليهود, وكذلك البشارات
ـــــــ
1 هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".(1/67)
بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة لا يقدح فيها تحريف أهل الكتاب اليهود والنصارى بل يبين دلالة تلك النصوص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبطلان تحريف أهل الكتاب.
وشهادة الكتب لمحمد إما شهادتها بنبوته، وإما شهادتها بمثل ما أخبر به هو من الآيات البينات على نبوته ونبوة من قبلها، وهو حجة أهل الكتاب على أصناف المشركين الملحدين، كما ذكر الله هذا النوع من الآيات في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} ، {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} ، وقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} الآية {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول: تجلى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران. قال كثير من العلماء واللفظ لأبي محمد: ليس بهذا خفاء على من يذكره ولا غموض، لأن مجيء الله من طور سيناء إنزاله التوراة على موسى من طور سينا كالذي هو عند أهل الكتب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة وباسمها سمي من اتبعه نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران وهي جبال مكة. وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر أن ذلك من تحريفهم وإفكهم. قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران، وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح، أوليس "استعلن" و"علا" وهما بمعنى واحد وهو ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارقها ومغاربها فشوه؟ قال ابن ظفر: ساعير جبل بالشام منه ظهور نبوة المسيح. قلت: وبجانب بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح تسمى إلى اليوم ساعير ولها جبال تسمى ساعير، وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا(1/68)
بساعير، وأمر لله موسى أن لا يؤذيهم، وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقا: جبل حراء الذي ليس حول مكة أعلى منه وفيه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة حتى قد قيل إن بمكة اثني عشر ألف جبل، وذلك المكان يسمى برية فاران إلى هذا اليوم، والبرية التي بين مكة وطور سيناء برية فاران، ولا يمكن أن أحدا بعد المسيح نزل عليه كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه، وقال في الأول: جاء وظهر، وفي الثاني أشرق، وفي الثالث استعلن، فكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء ولهذا قال "واستعلن من جبال فاران" فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أظهر مما ظهر بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها ولهذا سماه الله {سِرَاجاً مُنِيراً} وسمى الشمس {سِرَاجاً وَهَّاجاً} ، والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن السراج الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت وفي كل مكان، ليلا ونهارا سرا وعلانية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي نبت فيها ذلك ومنها بعث المسيح وأنزل عليه الإنجيل، وأقسم بطور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بالبلد الأمين وهي مكة، وهو البلد الذي أسكن فيه إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه. فقوله تعالى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} الآية إقسام منه تعالى بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه وأنزل فيها الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن كما ذكر الثلاثة في التوراة(1/69)
بقوله: جاء الله من طور سينا، وأشرق من عاسير، واستعلن من جبال فاران. ولما كان ما في التوراة خبرا عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني فقدم الأسبق، وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها، وذلك لقدرته وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات؛ فأقسم أولا بالتين والزيتون ثم بطور سيناء ثم بمكة "شرفها الله" لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل، وكذا الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح والذاريات، ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسرا وقد قيل إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} والكواكب فوق السحاب. ثم قال {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله. وما ذكره ابن قتيبة وغيره من تربية إسماعيل في برية فاران فهكذا هو في التوراة.
وقال داود في الزبور في قوله: سبحوا الله تسبيحا جديدا، وليفرح بالخلق من اصطفى الله له أمته وأعطاه النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة يسبحونه على مضاجعهم ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه. وهذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد وأمته، فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس، وعلى الأماكن العالية، كما قال جابر بن عبد الله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا. فوضعت الصلاة على ذلك. رواه أبو داود وغيره. وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في أعيادهم عيد الفطر وعيد النحر في الصلاة والخطبة، وفي آذانهم للصلاة، وفي أيام منى الحجاج وسائر أهل الأمصار يكبرون عقيب الصلاة ويكبرون على قرابينهم وهديهم وضحاياهم، والنصارى يسمون عيد المسلمين عيد الله الأكبر لظهور التكبير فيه، وليس هذا لأحد من الأمم غير المسلمين، وإنما كان موسى يجمع بني إسرائيل بالبوق، والنصارى شعارهم الناقوس. وكذلك قوله: "بأيديهم سيوف ذات(1/70)
شفرتين" وهي السيوف العربية التي بها فتح الصحابة وأتباعهم البلاد. وقوله: "يسبحون على مضاجعهم" بيان لنعت المؤمنين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويصلي أحدهم [الفرض]1 قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، ويصلون في البيوت وعلى المضاجع، بخلاف أهل الكتاب، والصلاة أعظم التسبيح.
فصل
وقال داود في مزاميره وهي الزبور "ومن أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد، فتقلد أيها الجبار بالسيف لأن البهاء2 لوجهك والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق وسمة التأله، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك".
قالوا فليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرت له الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة كما قال صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". وقد أخبر داود أن له ناموسا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور، وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، بخلاف من كان ذليلا للطائفتين من النصارى المقهورين مع الكفار، أو كان عزيزا على المؤمنين من اليهود، بل كان مستكبرا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. قالوا: وقال داود في مزمور له: إن ربنا عظيم محمود جدا. وفي رواية: إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا. قالوا فقد نص داود على اسم محمد وبلده، وسماها قرية الله فأخبر أن كلمته تعم الأرض كلها. وقد تقدم الحديث الصحيح لما قيل لعبد الله بن عمرو: أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وذكر صفته
ـــــــ
1 عن الجواب الصحيح 3/299
2 في الأصل "لا الها" والتصحيح عن الجواب الصحيح 3/300 وأمثال ذلك من الأخطاء صححت من مواضعها في الجواب الصحيح.(1/71)
موجودة بنبوءة أشعيا، وليست موجودة في نفس كتاب موسى، ولفظ "التوراة" يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، وكذلك ما يوجد كثيرا في قول كعب الأحبار وغيره قرأت في التوراة، إنما يريدون به جنس الكتاب الذي عند أهل الكتاب، لا يخصون بذلك كتاب موسى. وأهل الكتاب يجدونه مكتوبا في الكتب التي بأيديهم، وهو في كثير منها أصرح مما هو في كتاب موسى خاصة، فإذا أريد بالتوراة جنس الكتب فلا يستريب عاقل في كثرة نعته وذكره، ونعت أمته في تلك الكتب، ومعلوم أن الله أراد الاستشهاد به في تلك الكتب وإقامة الحجة بذكره، فإذا كان ذكره، فإذا كان ذكره في غير كتاب موسى أشهر وأظهر وأكثر كان الاستدلال بذلك أولى من تخصيص الاستدلال بكتاب موسى. قالوا: وقال داود في مزموره: "ويجوز من البحر إلى البحر،ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وتخر أهل الجزائر بين يديه، وتلحس أعداؤه التراب، وتسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلى عليه ويبارك في كل حين".
وهذه الصفات منطبقة على محمد وأمته لا على المسيح، فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته ولا من اتبعه بعد موته.
فصل
قالوا وقال أشعياء النبي عليه السلام معلنا باسم رسول الله "إني جعلت أمرك محمدا يا محمد، يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد" ونص على خاتم النبوة "ولد لنا غلام يكون عجبا وبشرا، والشامة على كتفيه، أركون السلام إله جبار وسلطانه سلطان السلم، يجلس على كرسي داود" فهل يبقى بعد ذلك لزائغ أو لطاعن مجال؟ قالوا: الأركون هو العظيم بلغة الإنجيل، والأراكنة المعظمون، فقد شهد أشعيا بصحة نبوة محمد ووصفه بأخص علامته وأوضحها وهي شامته، فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح، وقد(1/72)
وصفه بالجلوس على كرسي داود، يعني أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم وملكهم [ويبتزهم] رياستهم.
قالوا وقال أشعيا في نبوته "قيل لي قم نظارا فانظر ماذا ترى؟ فقلت: أرى راكبين مقبلين، أحدهما على حمار والآخر على جمل، ويقول أحدهما لصاحبه سقطت أصنام بابل وأصحابها للبحر1. قالوا فراكب الحمار هو المسيح واكب الجمل هو محمد، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار، وبمحمد صلى الله عليه وسلم سقطت أصنام بابل.
فصل
قالوا وقال حزقيل2 وهو يصف لهم أمة محمد: "وإن الله يظهرهم عليكم وباعث فيهم نبيا ومنزل عليهم كتابا ويملكهم رقابكم، فيقهرونكم ويذلونكم بالحق ويخرج رجال بني قيذار في جماعات الشعوب ومعهم ملائكة على خيل بيض متسلحين فيحيطون بكم وتكون عاقبتكم إلى النار". نعوذ بالله من النار. وذلك أن رجال بني قيذار هم ربيعة ومضر أبناء عدنان وهم جميعا من ولد [قيذار ابن إسماعيل، والعرب كلهم من بني عدنان وبني قحطان، فعدنان أبو ربيعة ومذر وأنمار من ولد3] إسماعيل باتفاق الناس. وأما قحطان فقيل هم من ولد إسماعيل وقيل من ولد هود، ومضر ولده إلياس بن مضر، وقريش هم من ولد إلياس بن مضر، وهوازن مثل عقيل وكلاب وسعد بن بكر وبنو نمير وثقيف وغيرهم من ولد إلياس بن مضر، وهؤلاء انتشروا في الأرض فاستولوا على أرض الشام والجزيرة [ومصر والعراق4] وغيرها، حتى أنهم لما سكنوا الجزيرة بين الفرات ودجلة سكنت مضر في حران وما قرب منها فسميت ديار مضر، وسكنت ربيعة في الموصل وما قرب منها فسميت ديار ربيعة. وقوله "تنزل
ـــــــ
1 في الجواب الصحيح 3/403 للمنحر
2 في الجواب الصحيح 3/312: دانيال
3 عن الجواب الصحيح 3/312
4 عن الجواب الصحيح 3/312(1/73)
ذكر حدوث الرمي وإنذار الكهان برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بما يقارب زمانه، وأما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعن ما وجدوا في كتبهم صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه. وأما الكهان من العرب فتأتيهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم. وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره ولا تلقي العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه الله، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها. فلما تقارب زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين القاعدة التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله. قال ابن(1/76)
إسحاق: وذلك لئلا يلتبس بالوحي، وليكون ذلك أظهر للحجة، وأقطع للشبهة. قال السهيلي: وما قاله صحيح، ولكن القذف بالنجوم كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء في الجاهلية. وذكر عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن شهاب أنه سئل عن هذا الرمي بالنجوم أكان في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذا جاء الإسلام غلظ وشدد. وفي قوله {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} فلم يقل حرست دليل على أنه قد كان منه شيء، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ملئت حرسا شديدا وشهبا، وذلك ما أخبر الله من طرد الشياطين عن استراق السمع، فإن ذلك التغليظ والتشديد كان زمن النبوة، ثم بقيت منه –أعني استراق السمع- بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة والأمكنة، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء" فقيل إنهم يتكلمون بالكلمة فتكون كما قالوا فقال: "تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرقرها في أذن وليه قرقرة الدجاجة فيخلط معها أكثر من مائة كذبة" ويروى كقر الزجاجة. وفي تفسير ابن سلام عن ابن عباس قال إذا رمى الشهاب الجني لم يخطئه، ويحرق ما أصاب ولم يقتله. وعن الحسن قال: يقتله في أسرع من طرفة عين. وروى أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة عن رجل من بني لهب يقال له الهيب قال: حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة. فقلت1: بأبي وأمي، نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا: يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها؟ فإنا قد فزعنا لنا وخشينا سوء عاقبتها. فقال: ائتوني بسحر، أخبركم الخبر، بخير أم ضرر، أو لأمن أو حذر. قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه، فناديناه يا خطر، فأومأ إلينا أن أمسكوا، فانقض نجم عظيم من
ـــــــ
1 في الأصل "فقال" والتصحيح من الروض الأنف 1/138(1/77)
السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته: أصابه إصابة. خامره عقابه. عاجله عذابه. أحرقه شهابه. زايله جوابه. يا ويله ما حاله. بلبله بلباله، عاوده خباله. تقطعت حباله، وغيرت أحواله. ثم أمسك طويلا وهو يقول:
يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق والبيان
أقسمت بالكعبة والأركان ... والبلد المؤتمن السدان
قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان
من أجل مبعوث عظيم الشان ... يبعث بالتنزيل والقرآن
وبالهدي وفاصل الفرقان ... تبطل به عبادة الأوثان
قال فقلت: ويحك يا خطر، إنك لتذكر عظيما، فماذا ترى لقومك؟ قال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
بمحكم التنزيل غير اللبس ... برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الحمس
فقلنا له: يا خطر ومن هو؟ فقال والحياة والعيش. إنه لمن قريش.ما في حلمه طيش. ولا في خلقه هيش. يكون في جيش أي جيش. ومن آل قحطان وآل أيش. فقلنا له: بين من أي قريش هو؟ فقال: والبيت ذي الدعائم. والركن والأجائم. إنه لمن نجل هاشم. ومن معشر أكارم. يبعث بالملاحم. وقتل كل ظالم.ثم قال: هذا هو البيان. أخبرني به رئيس الجان. ثم قال: الله أكبر. جاء(1/78)
الحق وظهر. وانقطع عن الجن الخبر. ثم سكت وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه يبعث يوم القيامة وحده". قال الحافظ أبو القاسم1 في هذا الأثر أصابه إصابة هكذا قيده بكسر الهمزة من إصابة علي بن أبي بكر بن طاهر، ووجهه أن تكون الهمزة بدلا من واو مكسورة مثل وشاح وإشاح والمعنى أصابه وصابه جمع وصب مثل جمل وجمال، وقوله "من آل قحطان وآل أيش" يعني بآل قحطان الأنصار لأنهم من قحطان، وأما آل أيش فيحتمل أن تكون قبيلة من الجن المؤمنين منسوبون إلى أيش. فإن يكن هذا وإلا فله معنى في المدح غريب تقول فلان أيش هو وابن أيش هو، وعناه أي شيء عظيم، فكأنه قال من قحطان ومن المهاجرين الذين يقال فيهم مثل هذا كما يقال هم وما هم وزيد وما زيد وأي شيء زيد، وأيش في معنى أي شيء، كما يقال ويلمه في معنى ويل أمه على الحذف لكثرة الاستعمال.
ـــــــ
1 أي السهيلي "الروض الأنف" وهو فيه 1/138(1/79)
ذكر خبر سواد بن قارب
عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب ذات يوم جالسا إذ مر به رجل، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار؟ قال: ومن هذا؟ قالوا: هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم؟قال: فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك. قال:فغضب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أن أسلمت يا أمير المؤمنين. فقال عمر: سبحان الله، ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك. قال: فأخبرني بإتيان رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم. قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئيي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي(1/79)
واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها
ثم ذكر أنه أتاه ليلتين بعد الأولى هو فيها كلها بين النائم واليقظان وقال له: قم يا سواد بن قارب، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي ابن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته. وأنشده في كل ليلة أبيات بمعنى المتقدمات على قواف أخر وذكر تمام الخبر.
وفي آخر شعر سواد: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده ما كان من أمر الجني وذلك قوله:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وأرقلت ... من العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وإنك أدنى المرسلين وسيلة ...
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب(1/80)
فمرني بما يأتيك من وحي ربنا ... وإن كان في ما قلت شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في دوس حين بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام حينئذ سواد فقال: يا معشر الأزد، إن من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقاوتهم ألا يتعظوا إلا بأنفسهم، وإن لم تنفعه التجارب ضرته، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس.
وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تناول قوما أبعد منكم فظفر بهم، وأوعد قوما أكثر منكم فأخافهم، ولم يمنعه منكم عدة ولا عدد، وكل بلاء منسي إلا ما بقي أثره في الناس، ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية، وإنما كف نبي الله عنكم ما كفكم عنه، فلم تزالوا خارجين مما فيه أهل البلاء داخلين فيما فيه أهل العافية حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبكم ونقيبكم فعبر الخطيب عن الشاهد ونقب النقيب عن الغائب، ولست أدري لعله تكون للناس جولة، فإن يكن فالسلامة منها الأناة، والله يحبها فأحبوها. فأجابه القوم وسمعوا قوله، فقال في ذلك سواد بن قارب:
جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها تزداد
أبقى لنا فقد النبي محمد ... صلى الإله عليه ما يعتاد
حزنا لعمرك في الفؤاد مخامرا ... وهل لمن فقد النبي فؤاد
كنا نحل به جنابا ممرعا ...
جف الجناب فأجدب الرواد(1/81)
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد
كان العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك في النفوس تلاد
إن النبي وفاته كحياته ... الحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبي محمدا ... بذلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيه النفوس ببذلها ... هذا له الأغياب والأشهاد
هذا وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداه سواد
إني أحاذر والحوادث جمة ... أمرا عاصفا ريحه إرعاد
إن حل منه ما يخاف فأنتم ... للأرض إن رجفت بنا أوتاد
لو زاد قوم فوق منية صاحب ... زدتم وليس لمنية مزداد
فأعجب القوم شعره وقوله، فأجابوه إلى ما سأل وأحب.(1/82)
ذكر إنذار برسول الله صلى الله عليه وسلم
...
عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به وكذبوه، ففينا وفيهم نزلت الآيات من البقرة {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيات. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال قال لي: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن شعية وأسيد بن شعية وأسد بن عبيد إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قال قلت: لا. قال: إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنتين فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر علينا قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعا من تمر ومدين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي الله لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث. قال ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال فقلنا: أنت أعلم. قال: فإني قدمت هذه البلدة أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه. قد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية وكانوا شبابا أحداثا: يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا وأحرزوا دماءهم وأهليهم.(1/73)
كتاب المبعث
قال ابن إسحاق: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين. وكان الله قد أخذ الميثاق على كل نبي يبعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} الآية.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهدن ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي؟ فأخبرها الخبر. لقد خشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عمها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء اله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى. يا ليتني فيها جزع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال(1/84)
رسول الله: أو مخرجي هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا فيما بلغنا، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منها تبدى جبرائيل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع. فإذا طال عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك، فإذا وافى ذروة الجبل تبدى له جبرائيل فقال مثل ذلك .
قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان مولى الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما تبدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبرائيل؟ قال: فقال عبيد وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية، والتحنث التبرز، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها، وذلك الشهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاء جبرائيل بأمر الله. فذكر الحديث نحو ما تقدم، وفيه: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف راجعا صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله". انتهى.
ومما ذكر من شعر ورقة فيما أخبرته به خديجة عن النبي صلى الله عليه وسلم:(1/85)
يا للرجال لصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت عل الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري
وأرسلته إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة كملت في أهيب الصور
ثم استمر فكان الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السور
وسوف أبليك إن أعلنت دعوته ... من الجهاد بلا من ولا كدر
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى إذ كان الملكان يظلانه. فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا نبي هذه الأمة، قد عرفت أنه(1/86)
كائن لهذه الأمة ينتظر هذا زمانه، أو كما قال. فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ فقال ورقة في ذلك:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... وقد طال انتظاري يا خديجا
بطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
وما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
فياليتني إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجى بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا(1/87)
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يصيح الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خروجا
ومن قول ورقة أيضا ن رواية يونس عن ابن إسحاق:
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت ترجى خيره ... بغور وبالنجدين حيث الضحاضح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الإهمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له ...
بهاء ومنشور من الذكر واضح(1/88)
ويتبعه حيا لؤي بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس عصره ... فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة نازح
وفي الصحيح قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فحمي الوحي وتتابع.(1/89)
فصل في ذكر فوائد تتعلق بهذه الأخبار
قال بعض العلماء: وكان نزول جبريل فيما ذكر يوم الاثنين لسبع من رمضان، وقيل لسبع عشرة مضت، رواه البراء بن عازب. وروي عن أبي هريرة أنه كان في السابع والعشرين من رجب، وقال ابن عمر لثمان عشرة من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وقال ابن القيم: "واحتج القائلون بأنه كان في رمضان بقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} قالوا: أول ما أكرمه الله بنبوته، وأنزل عليه القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجوما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة كما روي ذلك عن ابن عباس". انتهى.
قال بعض العلماء: والحكمة في الغطة ثلاث مرات شغله عن الالتفات لشيء آخر، وإظهار الشدة والجد في الأمر، تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه. وقول ورقة "يا ليتني فيها جذع" الضمير للنبوة أي ليتني كنت شابا حين(1/89)
ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها،وقوله فغطني أي خنقني، والناموس صاحب سر الملك، وقال بعضهم: الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، ومؤزرا من الأزر وهو القوة والعون، واليأفوخ مهموز ولا يقال لرأس الصبي يأفوخ حتى يشتد، وإنما يقال له الغاذية قال السهيلي: وقد ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن والوحي في أحوال مختلفة:
فمنها النوم كما في حديث ابن إسحاق، وكما قالت عائشة رضي الله عنها. وقد قال إبراهيم عليه السلام {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فقال له ابنه {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فدل على أن الوحي كان يأتيهم في النوم كما يأتيهم في اليقظة. قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا الآية.
ومنها أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته" رواه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم.
ومنها أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه. وقيل إن ذلك ليستجمع قلبه عند تلك الصلصلة فيكون أوعى لما يسمع، وأتقن لما يلقى، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض. وجاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت ترضها.
ومنها أن يتمثل له الملك رجلا فيكلمه، فقد كان يأتيه في صورة دحية بن خليفة، ويروى أن دحية إذا قدم المدينة لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه لفرط جماله. وقال ابن سلام في قوله {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قال: "كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله".
ومنها أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقه الله فيها، وله ستمائة جناح ينثر منها اللؤلؤ والياقوت، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين كما في سورة النجم.(1/90)
ومنها أن يكلمه الله من وراء حجاب، إما في اليقظة كما كلمه في ليلة الإسراء وإما في النوم كما قال في حديث معاذ الذي رواه الترمذي قال: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: في الكفارات لا أدري، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثندوتي. وتجلى لي علم كل شيء وقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: في الكفارات. فقال: وما هن؟ فقلت الوضوء عند الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فمن فعل ذلك عاش حميدا، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وذكر الحديث.
فهذه ست أحوال. قال ابن القيم: "زاد بعضهم مرتبة سابعة، وهي تكلم الله له بغير حجاب".
قلت: وزاد بعضهم مرتبة أخرى، وهي العلم الذي يلقيه الله في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام، لأنه عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد أصاب قطعا وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة في حقه دون الأمة، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد والنفث دونه. وقد ذكر بعضهم أن الحال كان يختلف بالوحي باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك في صورة آدمي وخاطبه من غير كد، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس". انتهى.
قال السهيلي وفي قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} من الفقه أنك لا تقرأه بحولك ولا بصفة نفسك ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم ربك مستعينا به، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان بعدما خلقه فيك كما خلقه في كل إنسان، فالآيتان المقدمتان لمحمد صلى الله عليه وسلم والآخرتان لأمته. وهما قوله {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن وتعلمه نبيهم تلقيا من جبريل، نزله على قلبه بإذن الله ليكون من المرسلين.
وفيه من الفقه وجوب القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم غير أنه أمر مبهم لم يبين له بأي اسم من أسمائه يفتتح حتى جاء البيان بعد في قوله {بِسْمِ اللَّهِ(1/91)
مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} ثم قوله {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم كان بعد ذلك ينزل جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة.
وقول ورقة "لتكذبنه ولتؤذينه" لا ينطق بهذه الهاء إلا ساكنة لأنها هاء السكت، وقوله "أو مخرجي هم" لا بد من تشديد الياء في مخرجي لأنها جمع، والأصل مخرجوني فأدغمت الواو في الياء وهو خبر ابتداء مقدم، ولو كان المبتدأ اسما ظاهرا لجاز تخفيف الياء ويكون الاسم الظاهر فاعلا لا مبتدأ، كما تقول أضارب قومك أخارج إخوتك فتفرد، لأنك رفعت به فاعلا، وهو حسن في مذهب سيبويه والأخفش. وذكر في الحديث أنه قال لرسول الله صلى اله عليه وسلم لتكذبنه فلم يقل شيئا ثم قال ولتؤذينه فلم يقل شيئا ثم قال ولتخرجنه قال: أو مخرجي هم؟ ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس. وأيضا فإنه حرم الله وجوار بيته وبلد أبيه إسماعيل، فلهذا تحركت نفسه عند ذكر الخروج منه ما لم تتحرك قبل ذلك فقال "أو مخرجي هم". والموضع الدال على تحرك النفس وتحرقها إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، وذلك أن الواو ترد إلى الكلام المتقدم ويشعر المخاطب بأن الاستفهام على وجه الإنكار والتفجع لكلامه والتألم منه". انتهى كلام السهيلي.
وقال شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "أول ما نزل من القرآن فيه مسائل، الأولى: الأمر بالقراءة. الثانية: الجمع بين التوكل والسبب خلافا لغلاة المتفقهة وغلاة المتصوفة، الثالثة: السر الذي في الإضافة في قوله {بِاسْمِ رَبِّكَ} المقتضي للتوكل. الرابعة: وصفه سبحانه بالخلق الذي هو أظهر آياته. الخامسة: ذكر خلقه للإنسان خاصة. السادسة: كونه من علق. السابعة: تكرير الأمر بالقراءة. الثامنة: الوصف بأنه الأكرم. التاسعة: ذكر التعليم بالقلم الذي هو في المرتبة الرابعة. العاشرة: تعليم الإنسان خاصة ما لم يعلم. الحادية عشرة: أن الذكر بالقلب واللسان أفضل من الذكر بالقلب وحده. الثانية عشرة: الحث على التواضع لقوله {مِنْ عَلَقٍ}. الثالثة عشرة: فيه معنى اعرف نفسك تعرف ربك. الرابعة عشرة: معنى أن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما إلى يوم القيامة. الخامسة عشرة: رجاء فضله لأجل ما تقدم من فضله. السادسة عشرة: لصفاته لكونه الأكرم. السابعة عشرة: الجمع بين الخلق(1/92)
والتعظيم. الثامنة عشرة: الدلالة على التوحيد. التاسعة عشرة: الدلالة على النبوة. العشرون: الرد على الجهمية. الحادية والعشرون: الرد على الجبرية. الرابعة والعشرون: أن العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية. الخامسة والعشرون: ذكر شرف العلم.
وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ففيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله لا تقتصر على نفسه. الثانية: خطابه بالمدثر. الثالثة: أن الداعي يبدأ بنفسه فيصلح عيوبها. الرابعة: تعظيم الله علما وعملا. الخامسة: هجران الرجز. السادسة: قوله {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} . السابعة: قوله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} فأمره بالطريق إلى القوة على ما تقدم وهو الصبر خالصا، ففيها آداب الداعي، لأن الخلل يدخل على رؤساء الدين ما تركت هذه الوصايا أو بعضها. فمنها الحرص على الدنيا فنهى عنه بقوله {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ، ومنها عدم الجد فنبه عليه بقوله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، ومنها رؤية الناس فيه العيوب المنفرة لهم عن الدين كما هو الواقع، ومنها أن التقصير في تعظيم العلم هو من التقصير في تعظيم الله. ومنها عدم الصبر على مشاق الدعوة. ومنها عدم الإخلاص. ومنها عدم هجران الرجز والتقصير في ذلك وهو من أضرها على الناس، وهو من تطهير الثياب لكن أفرده بالذكر كنظائره.
فأول "اقرأ" فيه الأمر بطلب العلم، وأول "المدثر" فيه الأمر بالعمل به. الثانية: أول "اقرأ" فيه إنعامه عليك. وأول "المدثر" فيه حقه عليك1. الرابعة: أول "اقرأ" فيه الاستعانة، وأول "المدثر" فيه الصبر. الخامسة: أول "اقرأ" فيه إخلاص الاستعانة وأول "المدثر" فيه إخلاص الصبر. السادسة: أول "اقرأ" فيه الاستعانة وأول "المدثر" فيه العبادة. السابعة: أول "اقرأ" فيه أدب المتعلم وأول "المدثر" فيه أدب العالم. الثامنة: أول "اقرأ" فيه معرفة الله ومعرفة النفس وأول "المدثر" فيه الأمر والنهي. التاسعة: أول "اقرأ" فيه معرفتك بنفسك وبربك وأول "المدثر" فيه العمل المختص والمتعدي. العاشرة: أول "اقرأ" فيه أصل الأسماء
ـــــــ
1 الثالثة لم تذكر في الأصل، ولعلها سقطت من الناسخ.(1/93)
والصفات وهما العلم والقدرة وأول "المدثر" فيه أصل الأمر والنهي وهو الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك. الحادية عشرة: في أول "اقرأ" ذكر القلم الذي لا يستقيم العلم إلا به وفي أول "المدثر" ذكر الصبر الذي لا يستقيم العمل إلا به. الثانية عشرة: في أول "اقرأ" ذكر التوكل وأنه يفتح المغلق وأول "المدثر" فيه الصبر الذي يفتحه. الثالثة عشرة: في أول "اقرأ" فيه العمل المختص وأول "المدثر" فيه العمل المتعدي. الرابعة عشرة: في أول اقرأ ست مسائل من الخبر وفي أول "المدثر" ست مسائل من الإنشاء. الخامسة عشرة: في أول "اقرأ" ذكر بدأ الخلق وأول "المدثر" ذكر الحكمة فيه. السادسة عشرة: في أول "اقرأ" ذكر أصل الإنسان وأول "المدثر" فيه كماله. السابعة عشرة: في أول "اقرأ" الربوبية العامة وأول "المدثر" الربوبية الخاصة. الثامنة عشرة: في أول "اقرأ" شاهد لقوله "اعقلها وتوكل" وفي أول "المدثر" الصبر الذي هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. التاسعة عشرة: في أول "اقرأ" ابتداء النبوة وأول "المدثر" ابتداء الرسالة. العشرون: في السورتين شاهد لقوله "العلم قبل العمل". انتهى كلام شيخنا.(1/94)
فصل في حديث أبي سفيان وهرقل عنه
في الصحيحين عن عبد الله بن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش كانوا تجارا بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. قال: أدنوه مني وقربوا أصحابه واجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثر علي كذبا لكذبت عليه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ فقلت: لا. قال:(1/94)
فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا و ننال منه. قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت فلو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا يغدرون. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم بأن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج فلم أكن أظن أنه فيكم، فلو أعلم أنني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما(1/95)
بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}". قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات، وأخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناظور صاحب إيليا وهرقل أسقف على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوما خبيث النفس، فقال له بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك0 قال ابن الناظور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال له حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ فقالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلايهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمر أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبره عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر0 ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم0 وسار هرقل إلى حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال، يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي0 وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.(1/96)
فصل في أول من آمن به صلى الله عليه وسلم
ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله استجاب له عباد الله من كل قبيلة، فكان أول من آمن بالله ورسوله خديجة صديقة النساء، وقامت بأعباء الصديقية. قال ابن إسحاق: "وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدقت بما جاء من عند الله، ووازرته على أمره، فخفف الله بذلك عن رسوله، فكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتهون عليه أمر الناس، حتى ماتت رضي الله عنها". انتهى.
قال ابن القيم: ولما قال لها "لقد خشيت على نفسي" قالت له: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا. ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا. فعلمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والشيم الشريفة تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه، لا تناسب الخزي والخذلان، وإنما يناسبه أضدادها من إكرام الله له وتمام نعمته عليه. ومن ركب على أقبح الصفات وأسوأ الأخلاق والأعمال إنما يناسبه ما يليق به. وبهذا العقل والصديقية استحقت أن يرسل إليها ربها السلام منه مع رسوليه جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. والقصب هو اللؤلؤ المجوف. وهي أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم يتزوج عليها، وكل أولاده منها.
ثم أسلم أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب، يجتمع هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة. وقيل اسمه عتيق، وقيل عتيق لقب لحسن وجهه. واسم أبي قحافة عثمان. وهو أول من أسلم من الرجال، فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا معه إلى الله. وكان أبو بكر مألفا لقومه، محببا سهلا. وكان أنسب قريش لقريش وبما كان فيها من خير وشر. وكان تاجرا ذا خلق ومعروف. وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه(1/97)
لتجارته وحسن مجالسته وغير ذلك، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وسعد بن أبي وقاص واسمه مالك بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، والزبير بن العوام بن خويلد ابن سعد بن عبد العزى بن قصي، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد ابن زهرة، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وأسلم غير هؤلاء علي بن أبي طالب وهو صبي، وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه من عمه في سنة محل إعانة له. وبادر إلى الإسلام زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، وقدم أبوه وعمه في فدائه فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عبدك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه. قال: من هو؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذلك؟ قالا: ما هو؟ قال: أدعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا. قالوا: قد زدتنا على النصف. فدعاه فقال: أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم. قال: من هذا؟ قال: هذا أبي، وهذا عمي. قال: أنا من قد علمت ورأيت صحبتي، فاخترني أو اخترهما. قال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان الأب والعم. قالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وعلى أهل بيتك؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: أشهدكم أن زيدا ابني أرثه ويرثني. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا، ودعي زيد ابن محمد. حتى جاء الله بالإسلام فنزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فدعي يومئذ زيد بن حارثة. قال معمر في جامعه: ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة، وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه وأنعم عليه رسوله وسماه باسمه.. وقيل إن عليا أول من أسلم بعد خديجة. قال أبو عمر: وممن ذهب إلى هذا سلمان وأبو ذر والمقداد وجابر وأبو سعيد الخدري وزيد ابن أرقم وابن شهاب وقتادة وغيرهم. وقيل أول(1/98)
رجل أسلم ورقة بن نوفل. وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة. وفي حديث آخر أنه رأى عليه ثيابا بيضا. قال ابن الصلاح: والورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال". انتهى. وعن ابن عباس أنه كان يقول: أول الناس إسلاما أبو بكر، واستشهد بقول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التالي الثاني المحمد مشهده ... وأول الناس طرا صدق الرسلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فلم ينكر، وأسلم غير هؤلاء عمرو بن عبسة السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان بلال وخالد وسعد وعمر وعلي أولهم إسلاما ثم أسلم بعد هؤلاء أبو عبيدة واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح ابن هلال بن وهب بن ضبة بن الحارث، فهو وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة، وعثمان بن مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح بن هصيص بن كعب بن لؤي، وأخوه قدامة، وعبد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وامرأته فاطمة بنت الخطاب. وكان أبوه زيد قد رفض الأوثان في الجاهلية ووحد الله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يبعث أمة وحده. وامرأته فاطمة بنت الخطاب. وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوجة العباس، وأسلم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وعبد الله بن مسعود حليف بني زهرة وكان يرعى غنم عقبة بن أبي معيط، وكان سبب إسلامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلب من غنمه شاة حائلا فدرت، ومسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد، وسليط بن عمرو بن ود بن نضر(1/99)
ابن مالك بن عامر بن لؤي، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وامرأته أسماء بنت مخزوم التميمية، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص وهو زوج حفصة بنت عمر بن الخطاب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامر بن أبي ربيعة العنزي بإسكان النون من عنزة بن وائل من ربيعة حليف آل الخطاب، وعبد الله بنجحش بن رياب بن معمر بن ضمرة بن مرة بن كثير بن عمر بن دودان بن أسد بن خزيمة حليف بني أمية، وأخوه أبو أحمد بن جحش وكان أعمى، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وامرأته بنت المحلل بن عبد الله، وأخوه خطاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة وامرأته رملة بنت أبي عوف بن ضمرة بن سهم، والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن أسد بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، وعامر بن فهيرة أزدي أمه فهيرة مولاة أبي بكر الصديق، وأمية بنت خالد الخزاعية امرأة خالد بن سعيد بن العاص، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد مناف، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عزيز بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم حليف بن عدي، وخباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة الخزاعي ولاء الزهريب حلفا، وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حلفاء بني عدي، وعمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين ابن الوذيم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس وهو زيد ابن مالك ومالك جماع مذحج ابن أدد حليف بني مخزوم، وأسلم ياسر والد عمار، وأسلم صهيب بن سنان بن مالك ويقال له الرومي، وكان من مولى لعبد الله ابن جدعان، ذكره أبو عمر في السابقين، وذكر فيهم عتبة بن مسعود أخا عبد الله ابن مسعود.
قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدثت به قريش ثم إن الله سبحانه أمر رسوله(1/100)
صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره ويدعو إليه، فكان مدة إخفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله بإظهاره الدين ثلاث سنين فيما بلغني، ثم قال الله له {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ثم قال {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ن فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون. وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب ومنعه وقام دونه، لأنه كان شريفا معظما في قريش مطاعا في أهل مكة لا يتجاسرون على مكاشفته بشيء من الأذى. قال ابن القيم: وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها. وأما أصحابه فمن كانت له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب، ومنهم عمار بن ياسر وأمه وأهل بيته فإنهم عذبوا في الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول: "صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" ، ولقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب أمرا عظيما لما ذخره الله لهم في الآخرة من الكرامة، فطعن الفاسق أبو جهل سمية أم عمار بحربة في قبلها فقتلها رضي الله عنها. وكان سادات بلال وهم من بني جمح يأخذونه ويبطحونه على الرمضاء في حر مكة ثم يلقون على بطنه الصخرة العظيمة ثم يأخذونه ويلبسونه في ذلك الحر الشديد درع حديد ويضعون في عنقه حبلا ويسلمونه إلى الصبيان يطوفون به وهو في كل ذلك صابر محتسب لا يبالي بما لقي في ذات الله، وكان كلما اشتد به العذاب يقول: "أحد، أحد".
وأسلم سلمة بن [هشام والوليد] بن الوليد بن المغيرة وأبو حذيفة مهسم ابن عتبة بن ربيعة وغيرهم، وأعتق أبو بكر الصديق رضي الله عنه بلال بن رباح وأمه حمامة مولاته، وأعتق ابن فهيرة وأعتق أم عبس وزبيرة والنهدية ابنتها وجارية لبني عدي كان عمر بن الخطاب يعذبها على الإسلام وذلك قبل أن يسلم، وقيل إن أبا قحافة قال له: يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أعتقت قوما جلدا يمنعوك.. فقال له أبو بكر: يا أبت إني أريد ما أريد، ففيه نزلت {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} إلى آخر السورة. قال ابن إسحاق: وكان(1/101)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بلغني: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر ما تردد فيه" .(1/102)
ذكر ابتداء فرض الصلاة
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: "افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرت في السفر على فرضها ركعتين". قال ابن إسحاق: "وحدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حيت افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله ينظر ليريه كيف الطهور، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل، ثم قام جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله كما صلى به جبريل فصلت" كذا ذكره ابن إسحاق مقطوعا. وقد وصله الحارث بن أبي أسامة فقال: حدثني الحسن ابن موسى عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد حدثني أبي زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه. وقد روى ابن ماجه عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري بسنده ومعناه. وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس وفي حديث ابن عباس: وكان ذلك من أول الفريضة. فالوضوء على هذا مكي الفرض مدني بالتلاوة لأن آية الوضوء مدنية. وإنما قالت عائشة فأنزل الله آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء قد كان مفروضا، غير أنه لم يكن قرآنا يتلى حتى نزلت آية المائدة. وقال مقاتل بن سليمان: فرض الله في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي لقوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ(1/102)
بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} قال في فتح الباري: "كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل: إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" انتهى. قال النووي: "أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله من قيام الليل ما ذكره في سورة المزمل، ثم نسخه بما في آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة". قال السهيلي: "يحتمل أن يكون قول عائشة "فزيد في صلاة الحضر" أي زيد فيها حتى أكملت خمسا فتكون الزيادة في الركعات وفي عدد الصلوات، ويكون قولها "فرضت الصلاة ركعتين" أي قيل الإسراء وقد قال به طائفة منهم ابن عباس، ويجوز أن يكون معنى قولها "فرضت الصلاة" أي ليلة الإسراء حين فرضت الخمس ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك، وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة. وممن رواه هكذا الحسن والشعبي أن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه ذكره أبو عمر. وذكر البخاري من رواية معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ففرضت أربعا".
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من عمه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول اله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: "أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثني الله به رسولا إلى للعباد، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه" أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت". وذكروا أنه قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي أنت عليه؟ قال: يا أبت آمنت برسول الله وصدقت بما جاء به وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه. وكان(1/103)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قوهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى تقاتلوا، وضرب سعد يومئذ رجلا من المشركين بلحى بعير فشجه، وكان أول دم أهرق في الإسلام". انتهى.(1/104)
فصل في إنذاره صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين
عن ابن عباس قال: "لما أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعده، ثم نادى: يا صباحاه. فاجتمع الناس إليه، بين رجل يأتي إليه وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟" قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}" أخرجاه في الصحيحين، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعم وخص فقال: "يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها" .(1/104)
فصل في مطالبة قريش أبا طالب بكف ابن أخيه
قال ابن إسحاق: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم(1/104)
فصل الهجرة الأولى إلى الحبشة
ولما اشتد أذى قريش على من آمن، وفتن منهم من فتن حتى يقولوا لأحدهم اللات إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون وهذا إلهك من دون الله؟ فيقول نعم. وروى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد، فوافقهم على ذلك مكرها وجاء متعذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية. ورواه البيهقي أيضا وفي أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير. وأنه قال: يا رسول الله ما تركت حتى سببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا. قال: إن عادوا فعد.(1/106)
فلما اشتد البلاء عليهم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وقال: "إن بها ملكا لا يظلم الناس". وكان أول من هاجر عثمان ابن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، وأبو سلمة وامرأته أم سلمة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم وحاجب بن معمر، وسهيل بن وهب، وعبد الله بن مسعود، خرجوا متسللين سرا فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة. وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من المبعث. فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدا، ثم رجعوا إلى مكة في شوال لما بلغهم أن قريشا صافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفوا عنه. وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وقد علمنا أن الله يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا تشفع عنده. فلما بلغ السجدة سجد وسجد معه المسلمون والمشركون، إلا شيخا من قريش رفع إلى جبهته حصى فسجد عليه وقال: يكفيني هذا. فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا عظيما. فأنزل الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآيات.(1/107)
الهجرة الأخرى إلى الحبشة
ولما استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سب آلهتهم عادوا إلى شر ما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم. فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش، ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج(1/107)
إلى الحبشة مرة ثانية فخرجوا، فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر فإنه يشك فيه، قاله ابن إسحاق. ومن النساء تسع عشرة امرأة وهم جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس فولدت له هناك محمدا وعبد الله وعونا، ومن بني أمية بن عبد شمس عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ومعه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية ابن محرث الكناني، وأخوه خالد بن سعيد ومعه امرأته أميمة بنت خلف بن أسعد الخزاعية ولدت له هناك سعيدا وأمة وهي أم خالد وهي التي توجها بعد ذلك فولدت له خالدا وعمرا، ومن حلفائهم من بني أسد بن خزيمة عبد الله بن جحش، وأخوه عبيد الله معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتنصر هناك ومات مرتدا،وقيس بن عبد الله رجل منهم معه امرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان ابن حرب. ومعيقيب بن أبي فاطمة عديد لبني العاص بن أمية وهو من دوس، ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب من قيس عيلان حليف بني نوفل وهو الذي بنى البصرة وأسسها أيام عمر. ومن بني أسد بن عبد العزى الزبير بن العوام، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد. ومن بني عبد بن قصي طليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد، وقد انقرض جميع بني عبد بن قصي. ومن بني عبد الدار بن قصي سويبط بن عبد الدار ومعه امرأته حرملة بنت مالك بن عميلة بن السباق1 بن عبد الدار وجهم ابن قيس بن [عبد2] شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار معه امرأته حرملة بنت عبد الدار بن خزيمة بن قيس بن عامر بن بياضة من خزاعة وابناه عمرو وخزيمة بنت جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وفراس بن النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار, ومن بني زهرة
ـــــــ
1 في الأصل: حريملة بنت مالك بن عملة بنت السابق بن عبد البار. والتصحيح عن كتاب نسب قريش للمصعب الزبيري ص256
2 عن نسب قريش ص 255(1/108)
عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة معه امرأته رملة بنت أبي عون بن صبرة ابن صعيد بن سعد بن سهم ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن المطلب، ومن حلفائهم من هذيل عبد الله بن مسعود وأخوه عتبة والمقداد بن عمرو بن ثعلبة وكان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث بن عبد مناف بن زهرة، وذلك أنه تبناه في الجاهلية وحالفه. ومن بني تيم بن مرة بن الحارث بن خالد بن صخر ومعه امرأته ربطة بنت الحارث من بني تيم ولدت له بأرض الحبشة موسى ابن الحارث وعائشة وزينب وفاطمة وعمرو بن عثمان بن عمرو من بني تيم. ومن بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد معم امرأته أم سلمة فولدت له بأرض الحبشة زينب، وشماس ابن عثمان، وهبار بن سفيان وأخوه عبد الله، وهشام بن أبي حذيفة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، ومن حلفائهم معتب بن عوف من خزاعة. ومن بني جمح عثمان بن مظعون وابنه السائب وأخوه قدامة وأخوه عبد الله، وحاطب بن الحارث معه امرأته فاطمة بنت الخلل وابناه محمد والحارث، وأخوه خطاب بن الحارث معه امرأته فكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر معه ابناه جابر وجنادة وامرأته حسنة وهي أمهما وأخوهما من أمهما شرحبيل بن حسنة. قال ابن هشام: شرحبيل بن عبد الله أحد الغوث بن مر أخي تميم بن مر، قال ابن إسحاق: وعثمان بن ربيعة. ومن بني سهم خنيس بن حذافة وأخوه قيس، وعبد الله وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، وعمير بن رئاب وأبو قيس بن الحارث وأخوه الحارث بن الحارث وعمير بن الحارث وسعيد بن الحارث وبشر بن الحارث، ومحمية بن جزء الزبيدي ومعمر بن الحارث وأخ له من أمه من بني تميم يقال له سعيد بن عمرو، والسائب بن الحارث. ومن بني عدي بن كعب معمر بن عبد الله، وعروة بن عبد العزى، وعدي بن نضلة وابنه النعمان، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب من عنز بن وائل معه امرأته. ومن بني عامر بن لؤي أبو سبرة بن أبي رهم معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو،وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسليط ابن عمر وأخوه السكران بن عمر ومعه امرأته سودة بنت زمعة ومالك بن زمعة معه امرأته عمرة بنت السعدي وأبو حاطب بن عمرو وسعد بن خولة(1/109)
حليف لهم. ومن بني الحارث بن فهر أبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء وهو سهيل بن وهب ولكن أمه غلبت على نسبه وهي دعد بنت جحدم وكانت تدعى بيضاء، وعمرو ابن أبي سرح، وعياض بن زهير، وعمرو بن الحارث بن زهير، وعثمان بن غنم، وسعد بن عبد قيس، والحارث بن عبد قيس.
قال ابن القيم: وقد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهد بدرا فإما أن يكون هذا وهما وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاث قدمات: قدمة قبل الهجرة وقدمة قبل بدر وقدمة عام خيبر، ولذلك قال ابن سعد وغيره: إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ومن النساء ثمان، فمات منهم رجلان بمكة وحبس سبعة وشهد بدرا أربعة وعشرون رجلا وأقاموا عند النجاشي على أحسن حال وبلغ ذلك قريشا.(1/110)
فصل مساعي قريش عند النجاشي
...
طالب بالباب: يستأذن عليك حزب الله. فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل، فقال: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته. فدخلوا ولم يسجدوا له. قال: ما منعكم أن تسجدوا لي؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك. وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا، وأمرنا بالتحية التي رضيها وهي السلام تحية أهل الجنة.فعرف النجاشي أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل. فقال: أيكم الهاتف يستأذن؟ قال جعفر: أنا. قال: فتكلم. قال: إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما فتسمع كلامنا. فقال عمرو بن العاص لجعفر: تكلم. فقال جعفر للنجاشي: سله أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا قد أبقنا من موالينا فارددنا إليهم، فقال عمرو: بل أحرار كرام. فقال: هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ قال: لا، ولا قطرة. قال: فهل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال عمرو: ولا قيراط. قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال: كنا وهم على دين واحد، على دين آبائنا، فتركوا ذلك واتبعوا غيره. فقال النجاشي لجعفر: مت هذا الذي كنتم عليه والذي اتبعتموه؟ واصدقني. فقال جعفر: أما الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان، كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام، جاءنا به من الله رسول، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي: تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك. ثم أمر بضرب الناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فقال: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل، وماذا يأمركم به وماذا ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بحسن الجوار، وصلة الرحم، وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال اقرأ ما يقرأ عليكم. فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم، ففاضت عين النجاشي وأصحابه من الدمع. فقال: زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يسبون عيسى وأمه، فقرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على(1/111)
ذكر عيسى وأمه رفع النجاشي نفاثة من سواكه قدر ما يقذي العين فقال: والله ما زاد المسيح على ما يقول هؤلاء نقدا.
قال ابن إسحاق: فلما قال ذلك تناخرت بطارقته. فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي. والسيوم الآمنون. من سبكم غرم، فلا هوادة اليوم على حزب إبراهيم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها، فوالله ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وفيهم نزلت {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الآيات قاله قتادة وغير واحد. وقيل بعث قريش في شأنهم إلى النجاشي مرتين: الأولى عند هجرتهم والثانية عقب وقعة بدر، وكان عمرو بن العاص رسولا في المرتين ومعه في إحداهما عمارة بن الوليد، وفي الأخرى عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان.(1/112)
فصل الكتاب النبوي إلى النجاشي وإسلامه
فلما كان في ربيع الأول من سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله كتابا إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أمية الضميري. فلما قرئ عليه الكتاب أسلم وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته. وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر هناك ومات، فزوجه إياها، وأصدقها عنه أربعمائة دينار. وكان الذي تولى نزويجها خالد بن سعيد بن العاص، وكتب إليه أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ويحملهم ففعل، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيت افتتح خيبر.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج إلى المصلى فكبر أربع تكبيرات وقال: "استغفروا لأخيكم". قال السهيلي: "وكان موت النجاشي في رجب سنة تسع، ولما صلى عليه رفع(1/112)
إليه سريره بأرض الحبشة حتى رآه بالمدينة.وتكلم المنافقون وقالوا: يصلي على علج مات بأرض الحبشة. قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت: "لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال على قبره نور". وحدثني جعفر ابن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة. وصفوا له فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: وكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى ابن مريم، لم يزد على هذا شيئا وإنما يعني ما كتب. فرضوا وانصرفوا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له. قال السهيلي: والنجاشي اسم لكل ملك يلي الحبشة، كما أن كسرى اسم لملك الفرس، وخاقان اسم لملك الترك، وبطليموس اسم لمن ملك اليونان1. واسم هذا النجاشي أصحمة بن الحر وتفسيره عطية.
وفيه من الفقه الخروج من الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها إذا كان الخروج فرارا بالدين. وإن لم يكن إلى أرض الإسلام، فإن الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ويقولون هو ابن الله، وسموا بهذه الهجرة مهاجرين. وهو أصحاب الهجرتين الذي أثنى الله عليهم بالسبق فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} وجاء في التفسير أنهم الذين صلوا إلى القبلتين وهاجروا الهجرتين. فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة وهم قد خرجوا من بلد الله الحرام إلى بلاد كفر، لما كان فعلهم احتياطا على دينهم، وأن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين مطمئنين. وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر على بلد
ـــــــ
1 أي الذين حكموا منهم في الإسكندرية، ويقال لهم البطالسة.(1/113)
وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق ورجا أن يكون في بلد آخر أي بلد كان يبين فيه دينه ويظهر فيه عبادة ربه. فإن الخروج على هذا الوجه حتم على المؤمن. وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " . انتهى كلام السهيلي.(1/114)
خروج أبي بكر مهاجرا وتوسط ابن الدغنة
وفي الصحيح عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية. فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع أبو بكر وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: فأمر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، وقد جاوز ذلك وابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقرآن فيه، وإنا خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر(1/114)
على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفر في ذمتك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله.(1/115)
فصل إسلام حمزة بن عبد المطلب
ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب. قال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم وكان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره. فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه عامدا إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له. وكان إذا رجع من فنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة. فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله إلى بيته قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده ههنا جالسا فآذاه وشتمه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف لأحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به. فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقولن فرد علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا(1/115)
قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت قريش أن رسول الله قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
وزاد غير ابن إسحاق في إسلام حمزة أنه قال: لما حملني الغضب وقلت أنا على قوله، أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم لا أكتحل بنوم. ثم أتيت الكعبة وتضرعت إلى الله أن يشرح صدري ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زال عني الباطل وامتلأ قلبي يقينا. أو كما قال. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري، فدعا لي أن يثبتني الله. وقال حمزة بن عبد المطلب:
حمدت الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء به من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذي اللب الحصيف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف
ونترك منهم قتلى بقاع ...
لورد الطير كالورد العكوف(1/116)
إسلام عمر بن الخطاب
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عمر، والطبراني عن ابن مسعود وأنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام".
وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس قال: قلت لعمر: لأي شيء سميت "الفاروق"؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، فخرجت فإذا فلان المخزومي، فقلت له: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ فقال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني. قلت: من ذلك؟ قال: أختك وختنك. فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس أختي فضربته وأدميتهن فقامت إلي فأخذت برأسي فقالت: وقد كان ذلك على رغم أنفك. فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست فقلت: أروني هذا الكتاب. فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون. فقمت فاغتسلت، فأخرجوا لي صحيفة فيها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقلت: أسماء طيبة طاهرة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} إلى قوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فتعظمت في صدري، فقلت ما هذا قريش. فأسلمت. فقلت: أين رسول الله؟ قالت: فإنه في دار الأرقم. فأتيته فضربت الباب فاستجمع القوم، وقال لهم حمزة: مالكم؟ قالوا: عمر، قال: وعمر، افتحوا له الباب، فإنه إن أقبل قبلناه، وإن أدبر قتلناه. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج، فتشهد عمر، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. قلت: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قلت: ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صفين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إلي وإلى حمزة فأصابتهم كآبة شديدة. فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم "الفاروق" يومئذ، وفي رواية(1/117)
أنس عند أبي يعلى والحاكم والبيهقي قال: خرج علينا عمر متقلدا بالسيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدا. قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا؟ قال: ما أراك إلا صبوت. قال: أفلا أدلك على العجب؟ إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك. فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب، فلما سمع عمر توارى في البيت، فدخل فقال: ما هذه الهينمة؟ وكانوا يقرأون طه. قالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما؟ فقال ختنه: يا عمر إن كان الحق في غير دينك. فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها فنفحها بيده فدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: إن كان الحق في غير دينك، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم واغتسل وتوضأ، فقام وتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ طه حتى انتهى إلى قوله {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فقال عمر: دلوني على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة وطلحة وناس. فقال حمزة: هذا عمر، إن يرد الله به خيرا يسلم، وإن يكن غير ذلك يكن قتله علينا هينا. قال والنبي صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه. فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال: ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة: فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله. وفي الصحيح عن سعيد ابن زيد قال: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر.
قال ابن إسحاق: وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة، فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر. وفي البخاري عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. قال الذهبي: أسلم في السنة السادسة من النبوة وله سبع وعشرون سنة،(1/118)
وكان من أشراف قريش، فكانوا إذا أرادوا حربا بعثوه رسولا، وإذا نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر أر سلوه له منافرا ومفاخرا. وفي الصحيح عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر اجتمع الناس إليه عند داره وقالوا: صبأ عمر، وأنا غلام فوق ظهر بيتي. فجاء رجل عليه قباء من ديباج فقال: صبأ عمر فما ذاك؟ فأنا له جار. قال فرأيت الناس تصدعوا عنه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا العاص بن وائل. وفي رواية في الصحيح عنه قال: بينما هو في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو عليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت. قال: أمنت، لا سبيل لهم إليك.(1/119)
فصل ازدياد ضغن قريش على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد ويقوى، مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوته، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إن قومك جاؤوني وقالوا لي كذا وكذا -للذي كانوا قالوه له- فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق قال فظن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بدء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه. قال ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام. فلما ولى ناداه أبو طالب: أقبل يا ابن أخي. قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أقبل يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.(1/119)
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد فقالوا له فيما بلغني: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل. قال: والله لبئس ما تسومونني، تعطونني ابنكم أغذيه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا ما لا يكون أبدا. قال فقال المطعم بن عدي ابن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال: والله ما أنصفتوموني، ولكن قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك. أو كما قال. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضا. فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش ويذكر ما سألوه وما تباعد عن أمرهم:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلاحق ... إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهم الأمر ولكن تجرجما ... كما جرجمت من رأس ذي علق الصخر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر(1/120)
هما أغمرا للقوم في أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر
هما أشركا في المجد من لا أبا له ... من الناس إلا أن يرس له ذكر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا بغى النصر
فوالله ما تنفعك منا عداوة ... ولا منهم ما كان من نسلنا شفر
الشفر: هو حرف جفن العين.
قال ابن إسحاق: "ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، إلا ما كان من أبي لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشا على قومهم". انتهى.(1/121)
دخول أبي طالب وبني هاشم الشعب وتعليق قريش الصحيفة في جوف الكعبة
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: إنهم أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني عبد المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فمنهم من فعل ذلك حمية، ومنهم من فعل ذلك إيمانا ويقينا. فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم(1/121)
ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه سلم للقتل. وكتبوه في صحيفة بخط منصور بن عكرمة، وقيل بغيض بن عامر، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده. وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم إلى أبي طالب فدخلوا معه شعبه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وقال ابن سعد سنتين، حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وفي الشعب ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقطعت قريش عنهم الأسواق حتى كان يسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب، وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أحر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتي بعض فرشهم، وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة قال:(1/122)
لامية أبي طالب
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد خالفوا قوما علينا أضنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ...
علينا بسوء أو ملح بباطل(1/122)
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله أن الله ليس بغافل
وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة واثل
ومن حج بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له ... الآل إلى مفضي الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشية ... يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل(1/123)
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديث إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وإنا لعمر الله إن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
تلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في حرمة وفواضل
وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا ... بسعيك فينا معرضا كالمخاتل
أضاق عليه بغضنا كل تلعة ... من الأرض بين أخشب وجنادل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح ... حسود كذوب مبغض ذي دغاول
وكنت امرأ ممن يعاش برأيه ... ورحمته فينا ولست بجاهل
ومر أبو سفيان عني معرضا ...
كما مر قيل من عظام المقاول(1/124)
يفر إلى نجد وبرد مياهه ... ويزعم أني لست عنك بغافل
ويخبرنا فعل المناصح أنه ... شفيق ويخفي عارمات الدواخل
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم إن القوم ساموك خطة ... وإني متى أوكل فلست بوائل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قصي في الخطوب الأوائل
فكل صديق وابن أخت نعده ... لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلا ب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حومة المجد فاضل(1/125)
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل(1/126)
نقض الصحيفة
ثم بعد ذلك تألف قوم من قريش على نقض تلك الصحيفة ، كان أحسنهم فيها غناء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نضر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي، فإنه لقي زهير بن أمية بن المغيرة فعيره بإسلام أخواله، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فأجابه زهير إلى نقض الصحيفة. ثم مشى هشام إلى المطعم بن عدي فذكره أرحام بني هاشم وبني عبد المطلب ابني عبد مناف فأجابه إلى ذلك. ثم مشى إلى أبي البحتري بن هشام فقال له مثل ما قال للمطعم بن عدي. ثم مشى إلى زمعة بن الأسود فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم فقال:(1/126)
وهل معي على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم. ثم سمى له القوم. واتعدوا حطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة.وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا على أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يباع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت. فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتم وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد أرضة قد أكلتها، إلا باسمك اللهم وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله.
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: إن الله أطلع رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك لعمه، فقال: لا والثواقب ما كذبتني. فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فلما رأوهم رأوا أنهم قد خرجوا من شدة الجوع وأتوا ليعطوهم رسول الله. فتكلم أبو طالب فقال: إنه قد حدث أمر لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحا، فأتوا بصحيفتكم. وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها. فأتوا معجبين لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم، قالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا،فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد قد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم. فقال أبو طالب: لأعطينكم أمرا فيه نصف، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم له فيها وترك فيه غدركم وقطيعتكم، فإن كان ما قال حقا فوالله لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا قد رضينا. ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر، فقالوا: هذا سحر من صاحبكم.(1/127)
فارتكسوا وعادوا لشر مما كانوا عليه. فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا ومزقت الصحيفة. قال ابن إسحاق: فلما مزقت وبطل ما فيها قال أبو طالب في ما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقضها يمدحهم شعرا:(1/128)
دالية أبي طالب
ألا هل أتى بحريّنا صنع ربنا1 ... على نأيهم والله بالناس أرود2
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
تداعى لها من ليس فيها بقرقر ... فطائرها في رأسها يتردد
وكانت كفاء وقعة باثيمة ... ليقطع منها ساعد ومقلد
ويظعن أهل المكتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشر ترعد
ويترك حراث يقلب أمره ... أيتهم فيهم عند ذاك وينجد
فمن ينس من حضار مكة غزه ... فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قليل ... فلم ننفك نزداد خيرا ونحمد
ـــــــ
1 بحرينا: يعني الذين بأرض الحبشة من المهاجرين المسلمين نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه.
2 أرود: أرفق. ومنه "رويدا" أي رفقا.(1/128)
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إذا جعلت أيدي المضيفين ترعد
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا ... على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعود لدى حطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أجرد
جريء على كل الخطوب كأنه ... شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب ... إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه ... على وجهه نسقي الغمام ونسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد ... يحض على مقري الضيوف ويحشد
ويبني لأبناء العشيرة صالحا ... إذا نحن طفنا بالبلاد ويمهد
ألظ بهذا الصلح كل مبرأ ... عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا أمرهم في ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد
هموا رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ...
وسر أبو بكر بها ومحمد(1/129)
متى شرك الأقوام في جل أمرنا ... وكنا قديما قبلها نتودد
وكنا قديما لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيال قصي هل لكم في نفوسكم ... وهل لكم فيما يجيء به غد
فإني وإياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود1
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح، وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس. قال ابن عبد البر: "وذلك بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام.
ـــــــ
1 أسود: جبل كان قد قتل فيه قتيل ولم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول هذه المقالة، يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القاتل ولعرف الجاني، ولكنه لا يتكلم، فذهبت مقالتهم مثلا.(1/130)
موت أبي طالب
وفي الصحيحين عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: يا عم قل "لا إله إلا الله" كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه رسول الله، فأعادا، فكان آخر ما كلمهم به هو: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول "لا إله إلا الله". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك، مالم أنه عنك". فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. وفي الصحيح عن العباس أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟" قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته في ضحضاح" وفي رواية "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في(1/130)
ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه" وفي رواية "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". انتهى. وكان موته في رمضان بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام "عام الحزن"، وكانت مدة إقامة خديجة معه عليه السلام خمسا وعشرين سنة على الصحيح، ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة.(1/131)
فصل النفر الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم
فلما مات أبو طالب اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه وتجرءوا عليه وكاشفوه بالأذى، وأرادوا قتله، فمنعهم الله من ذلك. وذكر العلماء من أهل السير وغيرهم فيما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه أمورا كثيرة: فمنها ما قاله ابن إسحاق حدثني يحي بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر وقال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه، سفه أحلامنا وشتم آباءنا وفرق جماعتنا. فبينما هم إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مضى. فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مر بهم الثالثة فوقف ثم قال: اتسمعون يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح. وإنهم قالوا له: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، فانصرف راشدا. فلما كان من الغد اجتمعوا كذلك إذ طلع، فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد، فلقد رأيت عقبة بن أبي معيط أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وفي حديث أسماء فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معنا.
وفي رواية البخاري عن عروة قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما النبي(1/131)
صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟!
الآية ومنها ما ذكره البخاري أيضا في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه. فانبعث أشقاهم، فلما سجد عليه الصلاة والسلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك وأنا قائم أنظر لو كان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق منطلق إلى فاطمة، وهي جويرية، فأقبلت تسعى. وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع صوته ثم دعا عليه، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: اللهم عليك بقريش، ثم سمى: اللهم عليك بعمرو ابن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد. قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر قد غيرتهم الشمس في يوم حار، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع أصحاب القليب لعنة". انتهى. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان.
ومنها حثو سفهائهم التراب على وجهه ورأسه. ذكره ابن إسحاق. ومنها أنهم يطرحون الفرث والدم على بابه. ومنها بصق أمية في وجهه.
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط وعدي بن حمراء الثقفي وابن الأصداء الهذلي، وكانوا جيرانه، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، وكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا(1/132)
يستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله إذا طرحوا عليه ذلك الأذى كما حدثني عمرو ابن عبد الله بن عروة عن عروة بن الزبير يخرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم على العود فيقف به على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق. وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عروة قال: "لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك". قال ويقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.
ومنها تعذيب أصحابه وهو ينظر، قال ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد قال: لقي أبا بكر سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا، قال فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل قال أبو بكر: ألا ترى ما يفعل هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت ذلك بنفسك، وهو يقول: أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك!
وفي الصحيح عن خباب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: "لقد كان فيمن كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه." قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر ابن الحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار وأبو البختري بن هشام والأسود ابن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله ابن أبي أمية والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان وأمية بن خلف ومن اجتمع إليهم، قال: اجتمعوا عند غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلموه بدء، وكان(1/133)
عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد سببت الآباء وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة. فما يقي من قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك. أو كما قالوا له. وإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك –وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا- فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" . أو كما قال. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي فأصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالوا: فإذا لم تفعل هذا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث لك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وأما لا فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق تلتمس المعاش كما نلتمس حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله(1/134)
صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا –أو كما قال- فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله، إن شاء أن يفعله بكم فعل. قالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم نفعل، ثم سألوك أن تجعل لهم بعض ما تخوفهم من العذاب فلم تفعل –أو كما قال له- فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله –أو كما قال- فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فلتصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا(1/135)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقد غدت قريش في أنديتهم فجلسوا فيها ينظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: أقمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت عرض لي دونه فحل من الإبل والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك جبرائيل، لو دنا لأخذه. فلما قال ذلك لهم أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة فقال: يا معشر قريش، والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة نفثهم وعقدهم. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.
وكان النضر من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة. وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام، وقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل الله. قال ابن إسحاق فكان ابن عباس يقول فيما بلغني: نزل فيه ثلاث آيات من القرآن قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وكل ما ذكر في أساطير الأولين.(1/136)
سفر النضر للقاء اليهود في يثرب
فلما قال لهم النضر بن الحارث ذلك بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم إنكم أهل التوراة قد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه. وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي. وإن لم يفعل فالرجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط بن عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد امرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كان لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم غدا. ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث إليه في ذلك وحي ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه حتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبث الوحي، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاء جبريل من الله بسورة الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عني با جبريل حتى سؤت ظنا. فقال له جبريل(1/137)
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية. وقال فيما سألوه عنه من الروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية.
قال ابن إسحاق: وحدثت عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قالت أحبار يهود: أرأيت قولك {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} إيانا تريد أم قومك؟ قال: كلا. قالوا: فإنك تتلو في ما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه. فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل. قال: وأنزل الله فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أي إني لا أصنع من ذلك إلا ما شاء الله. وأنزل الله عليه في قولهم خذ لنفسك ما سألوه أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول ويرد عليه {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} إلى قوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً} أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآية. وأنزل الله عليه في ذلك من قولهم {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي جعلنا بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفوا لفعلت. وأنزل عليه فيما قال عبد الله ابن أبي أمية {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} وأنزل عليه فيما عرضوا من أموالهم {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فلما جاءهم رسول الله بما عرفوا من الحق وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه، فعتوا على الله، وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ(1/138)
تَغْلِبُونَ} أي اجعلوه لغوا وباطلا واتخذوه هزؤا لعلكم تغلبونه بذلك، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم. فقال أبو جهل يوما وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق: يا معشر قريش يزعم محمدا أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا وكثرة أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟ فأنزل الله في ذلك من قوله {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} إلى آخر القصة. فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلوا من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه. قال ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين مولى عمرو بن عثمان أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه أن عبد الله بن عباس حدثهم أنما نزلت هذه الآية {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} من أجل أولئك، يقول: لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك، ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق السمع ذلك دونهم، فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به. انتهى.
قلت: وقد روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} الآية قال: "نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله عز وجل {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} زاد مسلم في روايته: وابتغ بين ذلك سبيلا، يقول: بين الجهر والمخافتة.(1/139)
استماع كبار قريش لقراءته صلى الله عليه وسلم في جوف الليل
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في قلبه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح نتعاهد لا نعود، ثم تعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا تؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه.(1/140)
ذكر خبر الوليد بن المغيرة
...
ذكر الوليد بن المغيرة
قال ابن إسحاق: ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم قولوا وأسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. فأنزل الله في الوليد بن المغيرة وفي ذلك من قوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إلى قوله {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وأنزل الله في النفر الذين كانوا يصنفون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الله {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي أصنافا {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الآية.
وعن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ علي. فقرأ عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية، قال: أعد. فأعاد عليه قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. وفي رواية: فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إن قومك(1/141)
يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: ولم؟ قال: أتيت محمدا لتعوض مما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له. قال ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم أعلم بالأشعار مني.(1/142)
ذكر خبر عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
روى عبد بن حميد وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك. إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب. لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل، إن كان بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ1} فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا إنكم تكلمونه به إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا والذي نصبها بنية2 ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل
ـــــــ
1 سورة فصلت.
2 البنية هي الكعبة بيت الله الحرام.(1/142)
صاعقة عاد وثمود. وقد ساقه البغوي في تفسيره عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عن جابر، فذكر الحديث إلى قوله {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله لا نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه. فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك طعامه، فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما نغنيك عن طعام محمد. فغضب غضبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا وقال: والله إني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب. ورواه محمد بن إسحاق في السيرة عن محمد بن كعب القرظي، وفي روايته: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.(1/143)
ذكر خبر المستهزئين
منهم عمه أبو لهب وامرأته جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب، سماها الله حمالة الحطب لأنها كانت فيما بلغني تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر، فأنزل الله فيهما {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرة السورة. وقيل إنها كانت تمشي بالنميمة، وتنقل الحديث، وتلقي العداوة بين الناس، وتوقد نارا كما توقد النار بالحطب.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن أم جميل حين سمعت ما نزل في زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، قالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. أما والله إني لشاعرة:
مذمما عصينا وأمره ... أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني.
قال ابن إسحاق: وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما، ثم يسبونه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش؟ يسبون ويهجون مذمما، وأنا محمد".
وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله فيه {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} إلى آخر السورة كلها. قال ابن هشام: الهمزة الذي يشتم الرجل علانية ويكسر عينه عليه ويغمز به، قال حسان بن ثابت:
همزتك فاختضعت لذل نفس ... بقافية تأجج كالشواظ
وجمعه همزات، واللمزة الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم.(1/144)
قال ابن إسحاق: وكان خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قينا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خباب أليس يزعم صاحبكم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال: خباب: بلى. قال: أنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، والله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك. فأنزل الله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} إلى قوله {وَيَأْتِينَا فَرْداً}. قلت: وفي الصحيح عن خباب رضي الله عنه قال: كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل السهمي، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يحييك. قال: إذا أماتني الله ثم بعثني بعثني ولي مال وولد. فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} إلى قوله {وَيَأْتِينَا فَرْداً}.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول اله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" وأنزل الله لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} الآيات.
قال ابن إسحاق: لقي أبو جهل ابن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني فقال له: والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبدن فأنزل الله تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية، فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا فدعا إلى الله وتلا فيه القرآن وحذر قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه النضر بن الحارث في مجلسه إذا قام(1/145)
فحدثهم عن رستم وإسفنديار وملوك فارس ثم قال: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها، فأنزل الله فيه {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الآية. ونزل فيه {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ونزل فيه {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} إلى قوله {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الآيات، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله الزبعري السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر ابن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمدا أكل ما يعبدون من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة واليهود يعبدون عزيرا والنصارى يعبدون عيسى بن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قوله، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته، فأنزل الله عليه {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآيات. ونزل في ما ذكر من أمر عيسى بن مريم عليه السلام أنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى فقال {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} إلى قوله {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي ما وضعت على يديه من الآيات ومن إحياء الموتى وإبراء الأسقام، وكفى به دليلا على علم الساعة فلا تمترن بها واتبعون.
قال ابن إسحاق: وقال الوليد بن المغيرة: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف؟ فنحن(1/146)
عظيما مكة والطائف القريتين، فأنزل الله فيما بلغني {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الآية. قال ابن إسحاق: وأبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وعقبة بن أبي معيط وكانا متصافيين حسنا ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ أبيا، فأتى عقبة فقال له: ألم يبلغني عنك أنك جالست محمدا وسمعت منه؟ ثم قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلمك –واستغلظ من اليمين- إن أنت جالست محمدا وسمعت منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة، فأنزل الله فيهما {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} إلى قوله {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}. ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله بعظم بال قد أرفت فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى؟ ثم فته في يده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أقول لك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار"، فأنزل الله فيه {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآيات.
قال ابن إسحاق: واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة فيما بلغني الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبي بن خلف والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنانهم في قومهم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله فيهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها.
قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا. قال: عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما. فأنزل الله فيه {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} أي ليس كما يقول. وأنزل فيه {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ} الآية.(1/147)
ذكر نزول سورة عبس
قال ابن إسحاق: "ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع في إسلامه. فبينما هو في ذلك إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه، فأنزل الله عز وجل {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} إلى قوله {مُطَهَّرَةٍ} أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا ولم أختص بك أحدا دون أحد، فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن يريده. وابن أم مكتوم أحد بني عامر بن لؤي، واسمه عبد الله" انتهى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه، وإذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي. ويقول: هل لك من حاجة؟ ويستخلفه على المدينة إذا غزا. قال أنس ابن مالك فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء.
قال ابن إسحاق: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة ويسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق؟ لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء به وما خصهم الله به" انتهى. قلت: روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ فنزل القرآن {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} إلى قوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} رواه ابن جرير، وفيه: فقالوا: يا محمد، أرضيت هؤلاء من قومك، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم، فذاك أحرى إن طردتهم أن تبعك. فنزل {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآيتين قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني خير عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما(1/148)
يأتي به إلا خير النصراني غلام بني الحضرمي، فأنزل الله في ذلك {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} يلحدون: يميلون، الإلحاد: الميل.(1/149)
ذكر نزول سورة الكوثر
قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السهمي فيما بلغني إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه. فأنزل الله في ذلك من قوله {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ما هو خير من الدنيا وما فيها،والكوثر العظيم. وحدثني جعفر بن عمرو عن عبد الله بن مسلم، أخي محمد بن مسلم بن شهاب عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: يا رسول الله ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال: نهر كما بين صنعاء إلى أيلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل" . قال يقول عمر ابن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة؟ قال: "آكلها أنعم منها" . وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره "من شرب منه لم يظمأ أبدا" قلت: روى البخاري عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير إن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، قال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله. انتهى. والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في القدر كوثرا. ثم قال تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ} قال ابن عباس: عدوك، {هُوَ الْأَبْتَرُ} أي الأقل والأرذل المنقطع من كل خير.
قال ابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش، فخلا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك تعلم ما أقول حق؟ قال: فهلم حتى أصارعك. قال فقام إليه ركانة يصارعه، فلما بطش به رسول الله أضجعه لا يملك من(1/149)
نفسه، ثم قال: عد يا محمد. فأعاد فصرعه. قال قال: والله يا محمد إن هذا للعجب، أتصرعني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأعجب من إن شئت أريكه إن اتقيت أدالله واتبعت أمري. قال: وما هو؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني، قال: ادعها. فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فقال لها: ارجعي إلى مكانك. فرجعت إلى مكانها. قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فوالله ما رأيت أسحر منه قط. ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبي ابن خلف والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك. فأنزل الله في ذلك من قولهم {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} إلى قوله {مَا يَلْبِسُونَ} قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام، فغمزوه واستهزءوا به، فغاظه، فأنزل الله عليه في ذلك من أمرهم {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .(1/150)
فصل من قامت عليه حجة بحق كان تعنتا إذا طلب غيرها
قال الشيخ أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتاب الرد على النصارى في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالأدلة العقلية والنقلية1: "ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا أرسل نبيا وأتى بآية دالة على صدقه قامت بها الحجة وظهرت بها المحجة. فمن طالبه بثانية [لم تجب إجابته إلى ذلك، بل وقد لا ينبغي ذلك، لأنه إذا جاء بآية ثانية طولب2] بثالثة، وإذا جاء بثالثة طولب بأربعة، فإن طلب المتعنتين
ـــــــ
1 الجواب الصحيح ج4 ص275 طبعة سنة 1323
2 سقط من الأصل، وأكمل من الجواب الصحيح(1/150)
لا أمد له. ومعلوم أنه من قامت عليه الحجة في مسألة علم أو حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها أو قال أنا لا أقبل حجة حتى تقوم عليه حجة ثانية وثالثة كان ظالما متعديا ولا يمكن الحكام الخصوم من ذلك. فحق الله الذي أوجب على عباده من توحيده والإيمان به وبرسله أولى إذا قامت بينة أوجبت على الخلق الإيمان برسله أن لا يجب إجابة إلى ثانية وثالثة. ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة فيتابع الله سبحانه بين الآيات، فإن الأدلة كلما كثرت وتواردت على مدلول واحد كان أوكد وأظهر وأيسر لمعرفة الحق، فقد يعرف دلالة أحد الأدلة من لا يعرف دلالة الآخر وقد يبلغ هذا ما لا يبلغ هذا، كما فعل بآيات موسى ومحمد صلى الله عليهما وكما صد المكذبين عن الإيمان بمحمد حتى يمانعوه ويسعوا في معارضته والقدح في آياته فيظهر بذلك عجزهم عن معارضة القرآن وغيره من آياته فيكون ذلك من تمام ظهور آياته وبراهينه، بخلاف ما لو اتبعوا ابتداء بدون ذلك فإنه قد كان يظن أنهم قادرون على معارضته، وكذلك أيضا يكون في ذلك من يقينه وصبره وجهاده ويقين من آمن به وصبرهم وجهادهم ما ينالون به عظيم الدرجات في الدنيا والآخرة. وقد تقتضي الحكمة أن لا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال كما ذكره الله في كتابه من أن الكفار كانوا يقترحون على الأنبياء آيات غير الآيات التي جاءوا بها. فتارة يجيبهم الله إلى ذلك لما فيه من الحكمة والمصلحة، وتارة لا يجيبهم لما في ذلك من المضرة والمفسدة. وقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ربما طلب تلك الآيات رغبة منه في إيمانهم فيجاب تلك الآيات لا تستلزم الهدى، بل تستلزم إقامة الحجة وتوجب عذاب الاستئصال [لمن كذب بها] والله تعالى قد يظهر الآيات الكثيرة مع طبعه على قلب الكافر كفرعون وأبي لهب وغيرهما لما في ذلك من الحكمة العظيمة كما دل على ذلك القرآن والتوراة وغيرهما. وقد تبين أنه لا يظهرها لانتفاء الحكمة فيها أو لوجود المفسدة، قال تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} الآيتين بعدها وقال {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية، بين سبحانه أنه ما منعه أن يرسل بالآيات إلا تكذيب الأولين بها الذي استحقوا به الهلاك، فإذا(1/151)
كذب هؤلاء استحقوا ما استحقه أولئك من عذاب الاستئصال.
وهذا المعنى مذكور في كتب التفسير والحديث وغيرها من كتب المسلمين، وهو معروف بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فقد ذكر أهل التفسير ما رواه الأعمش عن جعفر بن أياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال حتى يزرعوا، قال فقيل له: إن شئت تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما هلكت الأمم من قبلهم. قال: بل أستأني بهم، فأنزل الله هذه الآية {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} وروى ابن أبي حاتم وغيره عن مالك بن دينار قال: سمعت الحسن البصري في قوله {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} قال: رحمة الله لكم أيتها الأمة أنا لو أرسلنا الآيات فكذبتم بها أصابكم ما أصاب من قبلكم، وقد كانت الآيات يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم آية بعد آية فلا يؤمنون بها قال تعالى {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} إلى قوله {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إلى قوله {ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أخبر سبحانه بأن الآيات تأتيهم، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} وأنهم بتكذيبهم الحق سوف يرون صدق ما جاء به الرسول كما أهلك من قبلهم بذنوبهم التي هي تكذيب الرسل، فإن الله يقول {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} الآية،وأخبر بشدة كفرهم بأنه لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا لسحر مبين ...الآيات. بين سبحانه أنه جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل، إذ كانوا لا يستطيعون أن يروا الملائكة في صورهم، وحينئذ فكان يقع اللبس لظنهم الرسول بشرا لا ملكا. وقال تعالى {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}. وهذه الآيات التي اقترحوها لو أجيبوا بها ثم لم يؤمنوا أتاهم عذاب الاستئصال كما تقدم. وأيضا هي مما لا يصلح الإتيان به، فإن قولهم {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} يقتضي(1/152)
تفجير الينبوع بمكة فيصير واديا ذا زرع، والله من حكمته جعل بيته بواد غير ذي زرع لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا فيكون حجهم للدنيا لا لله، وإذا كان له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا كان في هذا من التوسع من الدنيا ما يقتضي نقص درجته وانخفاض منزلته، وكذلك إذا كان له بيت من زخرف، والزخرف الذهب. وأما إسقاط السماء كسفا فهذا لا يكون إلا يوم القيامة، وهو لم يخبرهم أن هذا لا يكون إلا يوم القيامة، فقولهم: "كما زعمت" كذب عليه، إلا أن يريدوا التمثيل فيكون القياس فاسدا .. وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا فهذا لما سأل قوم موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة، قال تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الآيتين.
وأما إنزال الكتاب فقال تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} الآية. بين سبحانه أن أهل الكتاب سألوا إنزال كتاب من السماء وأن المشركين سألوا ذلك، وبين سبحانه أن الطائفتين لا يؤمنون إذا جاءهم ذلك، وإنما سألوه تعنتا. فقال عن المشركين {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} وذكر عن أهل الكتاب أنهم سألوا موسى أكبر من ذلك وهو رؤية الله جهرة، فهم مع هذا نقضوا الميثاق وكفروا بآيات الله وقتلوا النبيين بغير حق إلى أمثال ذلك، وأنه بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم. فكان في هذا من الاعتبار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة المكذبة الذين لا يهتدون إذا جاءتهم الآيات المقترحة التي اقترحوها لم يكن في مجيئها منفعة لهم، بل فيها ما يوجب عقوبة الاستئصال إذا جاءتهم فلم يؤمنوا بها وتغليظ الأمر عليهم، فكان أن لا ينزل مثل هذه الآيات الموجبة عذاب الاستئصال أعظم رحمة وحكمة، وقد عرض الله على محمد صلى الله عليه وسلم أن يهلك قومه لما كذبوه فقال: بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا، كما في الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟" فقال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة،(1/153)
إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلاب فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت على وجهي وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعثني إليك لتأمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين، فقال: أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده الله لا يشرك به شيئا" أخرجاه. ولما طلب من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا لم يعذبه أحد من العالمين، فقال تعالى {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}. وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح، وكما أهلك عادا وثمود وأهل مدين وقوم لوط، وكما أهلك قوم فرعون وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى أبقى ذكرها وخبرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك لله أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى}، بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقى بعضهم إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض من بني إسرائيل أمة باقية، قال تعالى لما ذكر بني إسرائيل {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} الآية. وقال {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} الآيات.
وكان من حكمته ورحمته سبحانه لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بدون ذلك من أنواع العذاب كما عذب طائفة ممن كذبه بأنواع من العذاب كالمستهزئين الذين قال الله فيهم {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} فعذب كل واحد بعذاب معروف، كالذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلط عليه كلبا من كلابه فكان يحترس بقومه فجاء الأسد فأخذه من بينهم، وهو من المشهور عند أهل السير وغيرهم، وهو عتيبة ابن أبي لهب. وكان أبو لهب لما عادى النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنيه(1/154)
أن يطلقا ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل الدخول،وقال عتيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك. ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد علي، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام. فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه. وفي رواية هشام ابن عروة عن أبيه قال: لما طاف الأسد بهم تلك الليلة انصرف عنهم وجعلوا عتيبة في وسطهم، فأقبل الأسد يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه. قال تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} فأخبر أنه يعذب الكفار تارة من عنده، وتارة بأيدي المؤمنين بالجهاد وإقامة الحدود، وتارة بعذاب غير ذلك. فكان تعذيبهم بمثل هذه الأسباب مما يوجب إيمان أكثرهم، كما جرى لقريش وغيرهم فإنهم لما كذبوه لو أهلكهم كما أهلك قوم فرعون ومن قبلهم لبادوا وانقطعت المنفعة به عنهم ولم يبق لهم ذرية تؤمن، بخلاف ما إذا عذب بعضهم بأنواع من العذاب ولو بالهزيمة والأسر وقتل بعضهم كما عذبوا يوم بدر فإن في هذا من إذلالهم وقهرهم ما يوجب عجزهم مع بقائهم، والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها لا تكاد تنصرف عنها، بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها فإن ذلك مما يدعو إلى التوبة. كما يقال: من العصمة ألا تقدر. فكان ما وقع بهم تعجيزا وزاجرا وداعيا إلى التوبة ولهذا آمن عامتهم بعد ذلك ولم يقتل منهم إلا قليل وهم صناديد الكفر الذين كان أحدهم في هذه الأمة كفرعون في تلك الأمة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن أبي جهل "هذا فرعون هذه الأمة" وقد ذكر الله لموسى في التوراة: إني أقسي قلب فرعون فلا يؤمن بك لتظهر آياتي وعجائبي. بين أن في ذلك من الحكمة انتشار آياته على صدق أنبيائه في الأرض. إذ كان موسى قد أخبر بتكليم الله له وبكتابة التوراة له، فأظهر الله من الآيات ما يبقى ذكره في الأرض، وكان في ضمن ذلك من تقسية قلب فرعون ما أوجب إهلاكه وقومه أجمعين. وفرعون كان جاحدا للصانع منكرا لربوبيته لا يقر به، فلذلك أتى من(1/155)
الآيات ما يناسب حاله. وأما بنو إسرائيل مع المسيح فكانوا مقرين بالكتاب الأول فلا يحتاجون إلى مثل ما احتاج إليه موسى، ومحمد لم يكن محتاجا إلى تقرير جنس النبوة إذ كانت الرسل قبله جاءت بما يثبت ذلك، وقومه كانوا مقرين بالصانع، وإنما كانت الحاجة داعية إلى إثبات النبوة له، ومع هذا فأظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم، ومع هذا فلم يأت بآيات الاستئصال التي يستحق مكذبها العذاب العام العاجل كما استحقه قوم فرعون وهود وصالح وشعيب وغيرهم، فلهذا بين الله في القرآن، أن هذه الآيات إذا جاءت لا تنفعهم إذ كانوا لا يؤمنون بها، ولكن تضرهم إذ كانوا يستحقون عذاب الاستئصال إذا كذبوا حينئذ، ومع وجود المانع وعدم المقتضي لا يصلح الفعل على قول الجمهور القائلين بالحكمة، ولمن لم يعلل فلا يطلبها سببا ولا حكمة بل يرد الأمر إلى محض المشيئة، قال تعالى {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} وهو يعلم أن قلوب هؤلاء كقلوب أولئك الأولين فيكذبون بها فيستحقون ما استحقه أولئك كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم قال تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ} وقال تعالى {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وقال عن أهل الكتاب {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} الآية، وقال تعالى {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ذكر هذا في سورة اقتربت، التي ذكر فيها انشقاق القمر وإعراضهم عن الآيات وقولهم {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} وتكذيبهم واتباعهم أهواءهم، وقال تعالى {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي من أنباء الغيب وما أخبر به ما فيه مزدجر أي ما يزجرهم عن الكفر، إذ كان في تلك الآيات بيان صدق الرسول والإنذار لمن كذبه بالعذاب كما عذب المتقدمون، ولهذا يقول عقيب القصة {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كيف كان عذابي لمن كذب رسلي، وكيف كان إنذاري بذلك قبل مجيئه؟ يبين صدق قوله الذي أخبرت به الرسل، وعقوبته لمن كذب. ثم ذكر قصة المكذبين لنوح وهود وصالح ولوط، إلى قوله {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} فإن قوم(1/156)
فرعون كذبوا بجميع آيات موسى وجميع آيات الأنبياء، وكذبوا بجميع الآيات الدالة على وجود الرب وقدرته ومشيئته، إذ كانوا جاحدين للخالق منكرين له فكذبوا بآياته كلها. ثم قال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} أي كفاركم أيتها الأمة التي أرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم خير من أولئكم الذين كذبوا نوحا وهودا وصالحا ولوطا وموسى {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} وذلك أن كونكم لا تعذبون مثل ما عذبوا إذا كذبتم إما أن يكون لكونكم خيرا منهم لا تستحقون مثل ما استحقوا، أو لكون الله أخبر أنه لا يعذبكم فيكون لكم براءة في الزبر، فتعلمون ذلك بخبره فإن ما يفعله الله تارة يعلم بخبره وتارة لمشيئته وحكمته وعدله، فإما أن تكونوا علمتم هذا من هذا الوجه أو من هذا الوجه، هذا إن نظر إلى فعل الله الذي لا طاقة للبشر به، وإن نظر إلى قوة الرسول وأتباعه فيقولون {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فإنهم أكثر وأقوى، كقوله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} أي أموالا ومنظرا. فقال تعالى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أخبر بهزيمتهم وهو بمكة في قلة من الأتباع وضعف منهم، ولا يظن آخذ بالعادة المعروفة أن أمره يظهر ويعلو قبل أن يقاتلهم، وكان كما أخبر فإنهم يوم بدر وغيره هزم جمعهم وولوا الدبر، وتلك سنة الله في الأولين والآخرين. وقال تعالى {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ} الآية. وحيث ظهر الكفار فإنما ذلك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا فكمل إيمانهم نصرهم. كما قال تعالى {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة ألا يهلكهم هلاك الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم كما قال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} كان أن لا يأتي بموجب عذاب الاستئصال مع إتيانه سبحانه بما يقيم الحجة ويوضح المحجة أكمل في الحكمة والرحمة، إذ كان ما أتى به من الآيات حصل به كمال الخير والمنفعة والهدى وبيان الحجة على من كفر، وما امتنع به دفع به من عذاب الاستئصال والهلاك(1/157)
والعذاب العام ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يؤمنوا أو يتوبوا أو يهتدوا، وكان في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الرسل من الحكمة البالغة والمنن السابغة ما لم يكن في رسالة رسول قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(1/158)
فصل قدوم وفد من الحبشة عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع. ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوا وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم وتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. ويقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان. فيقال والله أعلم: فيهم نزلت هذه الآيات {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.
قال ابن إسحاق:وقد سألت الزهري عن هؤلاء الآيات فيمن نزلت؟ فقال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه، والآيات نزلت في سورة المائدة يقول الله {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} إلى قوله {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}.(1/158)
دالية الأعشى ميمون في الإسلام
قال ابن هشام: وحدثني خالد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل، واسم الأعشى ميمون بن قيس، خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
كهولا وشبانا فقدت وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيش المراقيل تعتلي ... مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيها ذا السائل أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسألي عني فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت ... يداها خنافا لينا غير أحردا(1/159)
وفيها إذا ما هجرت عجرفية ... إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
وأما إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين جديا ما يغيب وفرقدا
وآليت لا آوي لها من كلالة ... ولا من حفي حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندى
نبي يرى ما لا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حيث أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فتوصد للأمر الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن جارة كان سرها ... عليك حراما فانكحن أو تأبدا(1/160)
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبة واصدق وفك المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرورة ... ولا تحسبن المال لمرء مخلدا
فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم، فقال له: يا أبا بصير أنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب.فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر. فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا. ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات من عامه ذلك،ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/161)
فصل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف للدعوة
ولما اشتد البلاء من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه أبي طالب من سفهاء قومه وتجرؤوا عليه وكاشفوه بالأذى كما تقدم خرج إلى الطائف، ورجا أن يؤووه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم. ودعاهم إلى الله، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا، ونالوه مع ذلك بأشد الأذى ونالوا منه ما لم ينل قومه. وكان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم. قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء. زاد غيره: وكان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذونه بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى رجموه وهو يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجا، فانصرف راجعا من الطائف إلى مكة محزونا، وفي مرجعه ذلك دعا(1/161)
بالدعاء المشهور "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على لناس. أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" أورده ابن إسحاق، وذكر أنه دعا به حين أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه, ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فلما اطمأن دعا بهذا الدعاء.ورواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا إلى الطائف، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: "اللهم أشكو إليك" فذكره. وقوله: "يتجهمني" بتقديم الجيم على الهاء أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه. فأرسل إليه ربه ملك الجبال يستأمره أن يطبق عليه الأخشبين على أهل مكة، وهما الجبلان اللذان هي بينهما، فقال "بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا" أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة.
قال ابن إسحاق في روايته: فلما رآه ابنا ربيعة ورأيا ما لقي من ثقيف تحركت له رحمهما، فبعثا إليه مع غلامهما عداس النصراني قطف عنب،فلما وضع صلى الله عليه وسلم يده في القطف قال: بسم الله ثم أكل، ثم نظر عداس إلى وجهه وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت، وما دينك؟ قال: نصراني من أهل نينوى قال: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال عداس: وما يدريك؟ قال: ذاك أخي، وهو نبي مثلي، فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلهما. قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، فقد أخبرني ما لا يعلمه إلا نبي. قالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.(1/162)
فلما نزل بنخلة في مرجعه قام يصلي في جوف الليل، فصرف اله إليه نفرا من الجن فاستمعوا قراءته، وكانوا من أهل نصيبين، فاستمعوا له ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص اله خبرهم عليه فقال تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآيات. قال الحافظ ابن كثير: "وقد ذكر ابن إسحاق خبر خروجه عليه السلام إلى أهل الطائف ودعائه إياهم وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين. قال وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، ويدل عليه حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون للوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا فيكون ما سمعوه حقا وما زاده باطلا. وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبث جنوده، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. رواه النسائي. قال وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد موت عمه.
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوا قالوا أنصتوا، فأنزل الله {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآيات. فهذا، مع رواية ابن عباس، يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم وفوجا بعد فوج". انتهى.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشا. فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر دينه. ثم انتهى إلى مكة، فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم. ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا.فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم(1/163)
بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدا، فلا يهيجه منكم أحد. فانتهى رسول الله إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته والمطعم ابن عدي وولده محدقون بن بالسلاح حتى دخل بيته.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل مكة بعد رجوعه من الطائف أرسل إلى الأخنس بن شريق: أدخل في جوارك؟ فقال: إني حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم فأجابه إلى ذلك انتهى.(1/164)
فصل إسلام الطفيل الدوسي
قال العلماء: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، فأسلم الطفيل بن عمرو الدوسي ودعا قومه إلى الإسلام، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له آية فجعل الله في وجهه نورا، فقال: يا رسول الله أخشى أن يقولوا هذه مثلة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار النور في سوطه، فهو يعرف بذي النور، فأسلم بعض قومه. فأقام الطفيل في بلاده إلى أن هاجر بعد الخندق ما بين السبعين والثمانين بيتا من قومه، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر. ذكر محمد بن إسحاق أنه أسهم لهم، وأنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى قبض الله رسوله، فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة الأسدي ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، إني رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا، ثم رأيته حبس عني. قالوا: خيرا. قال: أما أنا فقد أولتها.قالوا: ماذا؟ قال: فأما حلق رأسي فوضعه، وأما الطير الذي خرج من فمي فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني. فقتل(1/164)
رحمه الله شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبسل فيها ثم قتل عام اليرموك شهيدا في زمن عمر رضي اله عنهما.(1/165)
فصل حادث الإسراء
ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته. وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن شماله. ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحي ابن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف الصديق، فسلم ورحب به. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به. ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فلقي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى، فقيل ما يبكيك؟ قال: إن غلاما بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما دخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم رفع إلى سدرة المنتهى. ثم رفع له البيت المعمور. ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة. فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت ؟ قال: بخمسين صلاة فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأن يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئت. فعلا جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه. "هذا لفظ البخاري في صحيحه في بعض الطرق؟ فوضع عنه عشرا. ثم(1/165)
نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه تعالى حتى جعلها خمسا. فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم. فلما نفذ نادى مناد: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.
واختلف الصحابة رضي الله عنهم: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه. وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده. وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا: إن قوله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} إنما هو جبريل. وصح عن أبي ذر أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه؟ " أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما في اللفظ الآخر "رأيت نورا". وعند ابن خزيمة عن أبي ذر قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه. وبهذا يتبين مراده في حديث أبي ذر بذكر النور، أي أن النور حال بينه وبين رؤيته له ببصره. ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره. وروى ابن خزيمة عن أنس قال: رأى محمد ربه. وإسناده قوي. وروى يونس عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: سأل مروان أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم. وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن النصري، وذكر إنكار عائشة أنه رآه، قال الزهري: ليست عندنا أعلم من ابن عباس. وفي تفسير ابن سلام عن عروة، أنه كان إذا ذكر إنكار عائشة لرؤية يشتد عليه. وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد بن حنبل، فروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي: قلت لأحمد إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية، فبأي معنى تدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي" قول النبي أكبر من قولها. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده.
وقد صح عنه أنه قال: " رأيت ربي تبارك وتعالى" ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان بالمدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ثم أخبرهم عن(1/166)
رؤية ربه تلك الليلة. وعلى هذا بنى الإمام أحمد فقال: نعم رآه، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد. ولكن لم يقل أحمد إنه رآه يقظة. ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه.ولكن مرة قال: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده. فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه –يعني بعيني رأسه- وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك. ومن العلماء من جمع بين حديثي عائشة وابن عباس وقال: إن عائشة أنكرت رؤية العين، واحتجت بقوله {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وابن عباس ذكر رؤية الفؤاد،ولا منافاة بينهما. ومنهم من جعلهما قولين مختلفين.
وأكثر أهل السنة يرجحون قول ابن عباس لما فيه من الإثبات، ومن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه بعينه في الدنيا فهو أيضا غالط قائل قولا لم يقله أحد من الصحابة ولا الأئمة. والمنقول في رؤية العين في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم كله كذب موضوع باتفاق أهل العلم، وكذلك عن أحمد فإنه لم يقل قط أنه رآه بعينه. وأما أحاديث المعراج فليس في شيء منها ذكر رؤيته البتة أصلا، فالواجب اتباع الآثار الثابتة في ذلك. وما كان عليه السلف والأئمة هو إثبات مطلق الرؤية بالفؤاد". انتهى كلامه.(1/167)
فصل إخباره صلى الله عليه وسلم قريشا بالإسراء
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، ومر به أبو جهل عدو الله فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال:نعم. قال: وما هو؟ قال أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. قال: فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه. قال: إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني به؟ قال: نعم. قال: يا معشر بني كعب بن لؤي. فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما. فقال: حدث(1/167)
قومك بما حدثتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس؟ قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فمن بين مصعق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا. فقال المطعم بن عدي: كل أمرك قبل تماما غير ذلك [هذا]. أنا أشهد أنا كاذب. نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا ومنحدرا شهرا، تزعم أنك أتيته في ليلة! واللات والعزى لا أصدقك. فقال أبو بكر: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته. أنا أشهد أنه صادق. فقالوا: يا محمد، صف لنا بيت المقدس كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من سافر إليه. فذهب ينعت لهم: بناؤه كذا. هيئته كذا. وقربه من الجبل كذا. فما زال ينعت لهم حتى التبس عليه النعت، فكرب كربا ما كرب مثله، فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال. فقالوا: فكم للمسجد [من باب]؟ ولم يكن عدها. فجعل ينظر إليه ويعدها بابا بابا ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله. فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب. فقالوا لأبي بكر: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة وروحة. فبذلك سمي أبو بكر "الصديق". ثم قالوا: يا محمد، أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم عنها في مسراه ورجوعه،وأخبرهم عن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها. وكان الأمر كما قال. فرموه بالسحر وقالوا: صدق الوليد.ولم يزدهم ذلك إلا ثبورا، وأبى الظالمون إلا كفورا.(1/168)
فصل متى كان الإسراء؟
عن الزهري قال: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وكذا قال عروة. وقال السدي بستة عشر شهرا، وقال ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. والصحيح أن الإسراء مرة واحدة، وقيل مرتان:مرة يقظة ومرة مناما، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله "ثم(1/168)
استيقظت" وبين سائر الروايات. ومنهم من قال مرتين قبل الوحي لقوله في حديث شريك:وذلك قبل أن يوحى إليه. ومرة بعد الوحي كما دلت عليها سائر الأحاديث. وقد صرح بعض المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء، ومن ظفر بهذا المسلك فإنه ظفر بشيء تخلص به كثير من الإشكالات. فهذا بعيد جدا ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، قاله ابن كثير في التفسير. وقال صاحب الهدى رحمه الله: "والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا كيف ساغ لهم أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين, ثم يتردد بين ربه موسى حتى تصير خمسا فيقول: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي. ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا.وقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، وأجاد رحمه الله". انتهى. وحكى القاضي عياض عن الزهري أنه كان بعد المبعث بخمس سنين، ورجحه القرطبي والنووي واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة رضي الله عنها صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.وتعقب بأن موت خديجة بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد. وأما تردده في سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر. وقيل إن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، قاله ابن حزم وادعى فيه الإجماع. وذكر النووي في فتاواه أنه كان في ثالث عشر ربيع الآخر، وقال في شرح مسلم: في ربيع الأول، وقيل كان ليلة السابع والعشرين من رجب واختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي. والله أعلم.(1/169)
فصل في مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله
قال الترمذي: "حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمرو بن قتادة ويزيد ابن رومان وغيرهما قالوا: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي الموسم كل عام يتبع الناس في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلم يجد أحدا ينصره ولا يجيبه، حتى ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابيء كذاب. فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويؤذونه ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، وهو يدعوهم إلى الله ويقول: اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا. قال: وكان ممن سمي لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن خصفة وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نصر وبنو البكاء وكندة وكلب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة. فلم يستجب منهم أحد" انتهى.
وذكر بعض أهل السير عن ابن عباس قال: حدثني علي بن أبي طالب قال: "لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبائل العرب خرج هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأنا معه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر إليهم وكان رجلا نسابة فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال: من القوم؟ قالوا من ربيعة. فقال: من هامتها أو لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، قال وأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر. قال: فمنكم عوف الذي يقال فيه "لا حر بوادي عوف"؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللوا ومنتهى الأحيا؟ قالوا:(1/170)
لا. قال: فمنكم جساس ابن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم ذهل الأكبر. أنتم ذهل الأصغر. فقام إليهم غلام بني شيبان قد بقل وجهه يقال له دغفل فقال له: يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكذبك شيئا، فممن الرجل؟ قال أبو بكر: من قريش. فقال:بخ بخ أهل الشرف والرئاسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة؟ أمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى في قريش مجمعا؟ قال: لا؟ قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء، الذي كان كالقمر يضيء في الليلة الداجنة الظلماء؟ قال: لا. قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. فاجتذب أبو بكر زمام ناقته راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام:
صادف در السيل درا يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصدعه
والله لو شئت أخبرتك من أي قريش أنت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي: يا أبا بكر، وقعت من الأعرابي على باقعة. فقال: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
قال السهيلي: وزاد قاسم بن ثابت تكملة للحديث قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم. قال علي: وكان أبو بكر في كل خير مقدما، فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي، هؤلاء غرر في قومهم،(1/171)
وفيهم مفروق ابن عمرو وهانيء بن قبيصة ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. ومفروق قد غلبهم جمالا ولسانا، وكان له غديرتان تسقطان على تريبتيه، فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف. كيف المنعة فيكم؟ ولن تغلب الألف من قلة. فقال مفروق: علينا الجد والجهد ولكل قوم حد. فقال أبو بكر: وكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا مرة أخرى.لعلك أخو قريش. فقال أبو بكر: أو قد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعون إليه يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد. فقال مفروق: وإلام تدعو إليه أيضا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} الآية فقال مفروق: وإلام تدعو إليه أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} الآية فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أراد أن يشرك في الكلام هانيء بن قبيصة فقال: وهذا هانيء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانيء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشرك في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا. فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانيء بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك في مجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريان اليمامة والسماوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/172)
ما هذان الصريان؟ فقال أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا. وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم في الصدق، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} ثم نهض النبي فأخذ بيدي أبي بكر فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم. قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا صدقا صبرا. انتهى.(1/173)
فصل عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على الأنصار في الموسم
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله سبحانه إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعده له، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، قال فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلىالله عليه وسلم قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهودا كانوا معهم في بلادهم كانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم(1/173)
ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى الله أن يجمعهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.
قال ابن إسحاق: "وهم فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج، منهم من بني النجار أسعد بن زرارة وهو أبو أمامة، وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء، ومن بني زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، ومن بني سلمة قطبة بن عامر بن حديدة، ومن بني حرام بن كعب عقبة بن عامر، ومن بني عبيد ابن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان ابن سنان بن عبيد".انتهى. وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام. قلت: قال بعضهم ومن أهل العلم بالسير من يسقط جابر بن رئاب ويجعل فيهم عبادة ابن الصامت. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أتمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي؟ فقالوا: يا رسول الله إنما كانت بعاث عام الهول يوم من أيامنا اقتتلنا به، فإن تقدم ونحن كذا لا يكون عليك اجتماع ، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا لعل الله يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا إليه، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن جمعهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل، وانصرفوا إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا رسول الله، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر، فلقوه بالعقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب. ثم عدهم ابن إسحاق فذكر الستة الأول خلا جابر بن(1/174)
عبد الله بن رئاب فلم يحضرها، والسبعة تتمة الاثني عشر: معاذ بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء أخو المذكور، وذكوان بن عبد قيس الزرقي، وقيل إنه رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فسكنها معه فهو مهاجري أنصاري، قتل يوم أحد. وعبادة بن الصامت ابن قيس. وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوي. والعباس بن عبادة بن نضلة من بني سلمة. فهؤلاء من الخزرج. ومن الأوس رجلان: أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل وعويم بن ساعدة. فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أي وفق بيعتهم التي نزلت بعد ذلك عند فتح مكة. قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلىالله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، والسمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم. قال عليه الصلاة والسلام: "فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه". أخرجه البخاري في صحيحه بأخصر من هذا فيما رأيت. وفي رواية له: قال عبادة إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، "بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نزني ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا ننتهب نهبة ولا نعصي، بالجنة إن فعلنا ذلك، وإن غشينا من ذلك شيئا كان قضاء ذلك إلى الله. انتهى. وفي رواية له: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له وطهور، ومن ستر الله عليه فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" .
وقال ابن الزبير عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ومجنه وعكاظ وفي منازلهم من منى "من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل ليرتحل من مصر واليمن إلى ذوي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به يقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، وحتى لم تبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه فائتمرنا، وأجمعنا وقلنا:(1/175)
حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه بيعة العقبة، فقال له عمه العباس: يا ابن أخي، ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب. فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس إلى وجوهنا قال: هؤلاء القوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث. فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال : "على السمع والطاعة في النشاط والكسل. وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة" فقمنا نبايعه فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإنا إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فأما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذركم عند الله. فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها. فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة. رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، وصححه الحاكم وابن حبان. ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام.(1/176)
إيفاد مصعب بن عمير إلى المدينة إماما ومرشدا
وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم، وكتب الأوس والخزرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير وعمرو بن أبي مكتوم الأعمى، فنزلاعلى أبي أمامة أسعد بن زرارة. وروى عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموا الجمعة. قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه ونذكر الله ونصلي ونشكر الله كما قالوا، فقالوا:(1/176)
يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى، واجعلوا يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين، فصلى بهم الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا من شاة، وذلك لقلتهم، فأنزل في ذلك بعد {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.
قال السهيلي: ومع توفيق الله لهم فيبعد أن يكون ذلك من غير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر ما رواه الدار قطني عن ابن عباس قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بمكة ولا يبدي لهم، فكتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا. فأسلم على يدي مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم في جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد: الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن قيس فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم يومئذ واستشهد، ولم يسجد لله سجدة. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة.
ثم رجع مصعب إلى مكة في العام المقبل، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في ذي الحجة أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا، وهي العقبة الثالثة. وقال ابن سعد: يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان، وقال ابن إسحاق: ثلاثة وسبعون وامرأتان، ووافى في الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور، فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة.(1/177)
بيعة العقبة
وفي حديث كعب بن مالك عند ابن إسحاق قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ(1/177)
على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس قال: يا معشر الخزرج، قال: "وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها" إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، وهو في عز من قومه ومنعة فيبلده،وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال فقلنا له: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. قال فاعترض القوم -والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم. أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. قال ابن هشام: والهدم الحرمة، أي دمي دمكم وحرمتي حرمتكم. قال كعب بن مالك في حديثه: وقد كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا حتى يكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. وهم أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع ابن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر وكان إسلامه تلك الليلة، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبادة بن الصامت. فهؤلاء تسعة من الخزرج. ومن الأوس ثلاثة: أسيد بن الحضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر. وقيل أبو الهيثم بن التيهان مكانه. قال كعب في حديثه: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من راس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب(1/178)
"والجباجب المنازل1" هل لكم في مذمم والصبأة معه، قد اجتمعوا علة حربكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، أتسمع أي عدو الله. والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم. قال فقال له العباس ابن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنملين على أهل منى بأسيافنا. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم. قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا،وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. قال: وصدقوا، لم يعلموا. قال وبعضنا ينظر إلى بعض. قال: وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي وعليه نعلان له جديدتان، قال قلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها في ما قالوا: يا أبا جابر ألا تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بها إلي وقال: والله لتنتعلنهما. قال يقول أبو جابر: مه، أحفظت والله الفتى، فاردد إليه نعليه. قال قلت: والله لا أردهما، فأل صالح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه. انتهى. وجعل عبد الله ابن أبي يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتئتوا علي بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤمروني. فرجعت قريش من عندهم، ثم وجدوا الخبر قد كان، فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم اقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه فيعذبونه بجمته وكان كثير شعر، فجاء جبير بن مطعم ابن عدي بن نوفل والحارث بن حرب أمية فخلصاه من أيديهم، وكان يمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلاده إذا مروا
ـــــــ
1 جمع جبجب "بالضم"، المستوي من الأرض. وهي هنا منازل منى(1/179)
بتجارتهم. وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه،فإذا هو قد طلع عليهم، فرحل القوم جميعا إلى المدينة. وقال ضرار بن الخطاب ابن مرداس:
تداركت سعدا عنوة فأسرته ... وكان شفائي لو تداركت منذرا
ولو نلته طلت دماء جراحه ... وكان حقيقا أن يهان ويهدرا
قال ابن إسحاق فأجابه حسان بن ثابت فيهما فقال:
لست إلى سعد ولا المرء منذر ... إذا مطايا القوم أصبحن ضمرا
فلولا أبو وهب لمرت قصائد ... إلى شرف البرقاء يهوين حسرا
أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد يلبس الأنباط ريطا مقصرا
[فلا تك كالوسنان يحلم أنه ... بقرية كسرى أو بقرية قيصرا]1
ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل ... عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا
ولا تك كالشاة التي كان حتفها ... بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا
ولا تك كالعاوي وأقبل نحره ... ولم يخشه سهم من النبل مضمرا
فأما ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا تمرا إلى أهل خيبرا
ـــــــ
1 سقط من الأصل، وأكملناه من سيرة ابن هشام.(1/180)
فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له "مناة" كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه ويظهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ قال: ثم يعود ويلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه. فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه فعملوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان عليه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله ما [أعلم من] صنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، ثم غدا عليه عمرو فلم يجده في مكانه الذي كان فيه، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب. فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم يرحمه الله وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العماء والضلالة فقال:
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكب وسط بئر في قرن(1/181)
أف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
[بأحمد المهدي النبي المؤتمن]1(1/182)
فصل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة
قال ابن إسحاق: فلما أذن الله ورسوله في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال: "إن الله جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها" . فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة، فكان أول من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد واسمه عبد الله، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا، وحبست عنه امرأته أم سلمة، ثم كان أول مقدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن
ـــــــ
1 سقط من الأصل، وأكمل من السيرة لابن هشام.(1/182)
كعب معه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم ابن دودان بن أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد الله بن جحش وهو أبو أحمد، وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل ابن هشام وهم مصعدون إلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء والحوب1
كل امرئ بلقاء الموت مرتهن ... كأنه غرض للموت منصوب
وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، وقد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالهم ونساؤهم: عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد وعكاشة بن محصن وشجاع وعقبة بن وهب وأربد بن جهبرة ومنقذ بن تبانة وسعيد بن قيس ومحرز بن نضلة ويزيد بن رقيش وقيس بن جابر وعمرو بن محصن ومالك بن عمرو وصفوان بن عمرو وغيرهم، ومن نسائهم زينب بنت جحش أم المؤمنين وأم حبيبة بنت جحش وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف وهي التي كانت تستحاض وحمنة بنت جحش التي كانت تحت مصعب بن عمير وكانت تستحاض أيضا وجذامة بنت جندل وأم قيس بنت محصن وأم حبيب بنت ثمامة وآمنة بنت ثمامة. وقال أبو أحمد بن جحش في ذلك شعرا:
لو حلفت بين الصفا أم أحمد ... ومروتها بالله برت يمينها
ـــــــ
1 الحوب: التوجع، وقيل الحاجة، ويقال الإثم أيضا.(1/183)
لنحن الألى كنا بها ثم لم نزل ... بمكة حتى عاد غثا سمينها
بها خيمت غنم بن دودان وابتنت ... وما أن غدت غنم وخف قطينها
إلى الله تغدو بين مثنى وواحد ... ودين رسول الله بالحق دينها
ونزل عمر بن الخطاب ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر وخنيس بن حذافة السهمي وكان صهره على ابنته حفصة خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وسعيد بن زيد وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم وخولي بن خولي ومالك بن أبي خولي حليفان لهم وبنو بكير. أربعتهم: إياس بن البكير وعاقل وخالد حلفاؤهم من بني سعد نزلوا على رفاعة بن المنذر بقباء ثم تتابع المهاجرون، فنزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان وصهيب بن سنان على خبيب بن أساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح. ويقال بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة أخي بني النجار. قال ابن هشام: وبلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكل مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب، ربح صهيب.
قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز ابن حصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال بل نزلوا على سعد بن خيثمة ويقال بل نزل حمزة على على أسعد بن زرارة أخي بني النجار ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب وأخواه الطفيل والحصين ابنا الحارث ومسطح ابن أثاثة بن عباد بن المطلب وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد قصي وخباب مولى عتبة بن(1/184)
غزوان على عبد الله ابن مسلمة أخي بلعجلان بقباء. ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بلحارث بن الخزرج. ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على منذر بن محمد بن عقبة، ونزل مصعب ابن عمير على سعد بن معاذ أخي بني عبد الأشهل في دار بني عبد الأشهل، ونزل ابو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه وكان سائبة لثبيتة بنت يعار بن زيد، سيبته فانقطع إلى أبي حذيفة بن عتبة فتبناه فقيل سالم مولى أبي حذيفة، ويقال كانت ثبيتة بنت يعار تحت أبي حذيفة فأعتقت سالما سائبة، فقيل سالم مولى أبي حذيفة.ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر أخي بني عبد الأشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار. فلذلك كان حسان يحب عثمان ويبكيه حين قتل.(1/185)
فصل تشاور قريش في دار الندوة
...
فصل نشاور قريش في دار الندوة
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج فعرفوا أن الدار دار منعة، وأن القوم أهل حلقة وبأس وشوكة، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبير عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه بت له، فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا. قالوا: أجل فادخل(1/185)
فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله لا نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا، فأجمعوا في رأيا. قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله: زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي:لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثرونكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. فتشاوروا في أمره ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه،ثم يسير بهم إليكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا. فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل منه فعقلناه لهم. قال يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره. فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم عليه، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.(1/186)
قال إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: اجتمعوا له وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرفون فيها. قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} حتى فرغ من هؤلاء الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمدا، قال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه التراب، وانطلق لحاجته. أفما ترون ما بكم؟ قال فوضع كل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا. وقال غير ابن إسحاق: وهم أبو جهل والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر ابن الحارث وأمية بن خلف وربيعة بن الأسود وطعيمة بن عدي وأبو لهب وأبي بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. وفي رواية ابن أبي حاتم مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.
قال ابن إسحاق: وأنزل في ذلك مما اجتمعوا له ذلك اليوم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الآية. وقوله {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.(1/187)
فصل الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة وخروجه
قال ابن إسحاق: وأذن الله لرسوله عند ذلك في الهجرة إلى المدينة قال ابن عباس بقوله {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} فروى الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله عليه {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} وقال الحسن وقتادة: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} يعني المدينة {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} بعني مكة. وقال قتادة: علم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سلطانا نصيرا لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله ولإقامة دين الله، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا لك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم. وذكر الحاكم أن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وذكر الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. قال: وخرج لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه. قال الحاكم: تواترت الأحاديث أن خروجه يوم الإثنين ودخوله المدينة يوم الإثنين. إلا أن محمدا بن موسى الخوارزمي قال: خرج من مكة يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الإثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الإتنين. وأخبر عليا بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وفي الصحيح عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة. وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال:(1/188)
"نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وقد علف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر، قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فدى له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل. فقال لأبي بكر: أخرج من عندك. فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي يا رسول الله. قال: نعم. قال: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطته بها على فم الجراب، فبذلك سميت "ذات النطاقين". وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر إلى الليل، ثم لحقا بغار ثور في جبل ثور. وروى أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر ليلا إلى الغار، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقف، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيت عندهما يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان دليلهم عبد الله ابن أريقط الليثي هاديا خريتا. "والخريت الماهر بالهداية"، استأجراه وأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعده غار ثور بعد ثلاث، وكان على دين قومه. وذكر الحاكم في مستدركه عن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر إلى الغار، فجعل يمشي مرة عن يمينه ومرة عن يساره ومرة عن أمامه ومرة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من خلقك، قال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن شمالك لا آمن عليك. فقال: يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق. انتهى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تلك الليلة على أطراف قدميه كي يخفي أثره حتى حفيت قدماه، فحمله أبو بكر وهو يشتد به حتى أتى به(1/189)
الغار، فأنزله وقال: يا رسول الله دعني أدخل قبلك، فإن كان فيه حية أو شيء كان بي دونك.فقال: ادخل، فدخل أبو بكر وجعل يلتمس بيده، وكلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال فبقي جحر فوضع عقبه خشية أن يخرج على النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه، وكان فيه حيات وأفاع، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ثوبك يا أبا بكر، فأخبره بالذي صنع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الحنة. فأوحى الله إليه: إن الله قد استجاب لك.
وجدت قريش في طلبهما وخرجوا يقتصون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأخذوا معهم القافة حتى وصلوا إلى الغار, وفي مسند البزار: أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وإن ذلك مما صد المشركين عنه. فلما أتوا الغار طارت الحمامتان ورأوا البيض ونسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لتكسر البيض ولم يكن عليه نسج العناكب فصرفهم الله عز وجل بذلك عنه. ففي الصحيحين عن أنس أن أبا بكر قال: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رأسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا. وروي أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة. فعندها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" يعني بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته وهي أمنة تسكن عندها القلوب على أبي بكر؛ لأنه كان منزعجا، وأيده بجنود لم تروها، يعني الملائكة ليحرسوه في الغار، أو ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود، فهو سبحانه على كل شيء قدير لطيف لما يشاء، إن شاء ربط العالم بخيط عنكبوت، وإن شاء بأسباب غير ذلك. ومكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب.
وفي حديث عائشة فأتاهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة فأخذ بهما الدليل طريق السواحل، وسار الدليل أمامهما وعين الله تكلؤهما وتأييده يصحبهما وإسعاده يرحلهما وينزلهما. ولما(1/190)
يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما، فجد الناس في الطلب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وفي المتفق عليه من حديث البراء عن أبي بكر قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا، حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأتيتها فإذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرشت له فروة، ثم قلت له: اضطجع يا رسول الله. فاضطجع. ثم خرجت أنظر ما حولي هل أرى أحدا من الطلب، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا.فسألته لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: فهل أنت حالب لنا؟ قال: نعم. فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا فضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت. ثم قلت: قد آن الرحيل، فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك المدلجي على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا. فدعا عليه رسول الله فارتطمت به فرسه إلى بطنها، أرى في جلد من الأرض، شك زهير. فقال: إني أراكما قد دعوتما علي، فادعوا الله لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم، ما ههنا. ولا يلقي أحدا إلا رده.
وفي حديث ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره. فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت(1/191)
فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، فأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم، أم لا؟ فخرج الذي أكره. فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي. حتى إذا سمعت رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين.فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان: قفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى حديث الزهري. فقيل: إن الكتاب كان معه إلى يوم فتح مكة، فجاء بالكتاب فوفى له رسول الله وكان يوم وفاء وبر، فكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما.(1/192)
فصل مروره صلى الله عليه وسلم بخيمتي أم معبد
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن معه فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جلدة برزة تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي من مر بها. فسألاها: هل عندها شيء يشترونه؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاء عازب، وكانت سنة شهباء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: هذه شاة خلفها الجهد عن(1/192)
الغنم. فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك.قال: أفتأذنين لي أن أحلبها. قالت: نعم، بأبي وأمي، إن رأيت بها حليبا فاحلبها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك لها في شاتها، فتفاجت فدرت واجترت. فدعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم، فشربوا جميعا عللا بعد نهل، ثم حلب فيه ثانيا حتى ملأ الإناء فغادره عندها، ثم ارتحلوا عنها، فقلما أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لك هذا والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد. فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق لم تعبه ثجلة ويروى نحله بالنون والحاء ولم تزر به صعلة كأن عنقه إبريق فضة، وسيم جسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل. أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة. ذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما به وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، حلو المنطق فصل، لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول ولا تقتحمه من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذ قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا منفد. فقال: هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، وذكر لنا من أمره ما ذكر. ولو كنت أنا وافقته لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قالت أسماء بنت أبي بكر: ولما خفي علينا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدري أين أبي. فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم وجهي لطمة خرج منها قرطي. قالت: ثم انصرفوا، فمضى ثلاث ليال ما ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى رجل من أسفل مكة يغني بأبيات والناس يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات:(1/193)
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي، أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيالقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجازى وسؤدد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السابح المتجرد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها بحالب ... يدر لها في مصدر ثم مورد
قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن إسحاق والطبراني وغيرهما. فلما سمع بذلك حسان بن ثابت قال يجاوب الهاتف:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقد سر من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ...
وحل على قوم بنور مجدد(1/194)
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم، من يتبع الحق يرشد
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
فهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمى، وهداة يهتدون بمهتد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
ويروى أن الشاة التي لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها وحلبها بقيت عند أم معبد حتى كان زمن الرمادة في سنة ثمان عشرة من الهجرة في خلافة عمر رضي الله عنه فهلكت، قالت أم معبد: وكنا نحلبها صبوحا وعبوقا وما في الأرض قليل ولا كثير. أخرجه ابن سعد من طريق الواقدي. ثم إن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت.
ولقي النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق الزبير بن العوام في ركب من المسلمين قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا.(1/195)
فصل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
قال ابن شهاب في حديثه عن عروة: "وبلغ المسلمين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فجعلوا يفدون كل غداة إلى الحرة فينظرون حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى(1/195)
رجل من اليهود على أطم من آطامهم ينظر لأمر يريده، فبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن نادى بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون. فبادر المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة. فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه برادئه، فعرف الناس حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم"انتهى. وكبر المسلمون فرحا بقدومه وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف. وخرج المسلمون للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه، والله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير، فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فنزل على كلثوم بن الهدم، وقيل على سعد بن خيثمة، ونزل أبو بكر بالسنح على حبيب بن أساف أخي بني الحارث بن الخزرج، وقيل على خارجة بن زيد، وأقام علي رضي الله عنه بمكة حتى أدى ودائع كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ثم لحق بالمدينة، ونزل مع النبي صلى الله عليه وسلم بقباء أياما، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له، وفي حديث أنس عند البخاري فأرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدين لسيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر على ردفه وملأ بني النجار حوله. انتهى. فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، ثم ركب ناقته وأرخى زمامها لا يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فلم تزل ناقته سائرة، ولا يمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوه في النزول عليهم ويأخذون بخطام راحلته: هلم إلى العوذ والعدة والسلاح والمنعة. فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها، وذلك في بني النجار أخواله، وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على(1/196)
أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء مع رحله". وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده. وفي رواية أنس عند البخاري: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول، هذه داري، وهذا بابي. قال: فانطلق فهي لنا مقيل قال: قوما على بركة الله. فلما جاء نبي الله جاء عبد الله بن سلام يسأله عن أشياء قال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه. قال أخبرني به جبريل آنفا. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه. قال: أشهد أن إله إلا الله وأنك رسول الله وأنك جئت بحق. وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وعالمهم وابن عالمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ. فأرسل نبي الله إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق، فأسلموا. قالوا: ما نعلمه. قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم تعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق.فقالوا: كذبت. وقالوا: شرنا وابن شرنا ونقصوه. فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن مقدمه صلى الله عليه وسلم أرخ التاريخ في زمن عمر إلى يومنا، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: ما عدوا من مبعث النبي، ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة.(1/197)
وقال البراء: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر ابن الخطاب في عشرين راكبا، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت الناس فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله، قد جاء رسول الله. وقال أنس: شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا، وشهدته يوم مات، فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب حتى بنى مسجده وحجرته، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة بنت زمعة زوجته وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن. وأما زينب فلم يمكنها زوجها أبو العاص ابن الربيع من الخروج. وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر وفيهم عائشة فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان. وفي الصحيح عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير، قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حنكه بتمرة. وفيه عن عائشة قالت: أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.(1/198)
فصل في بناء المسجد النبوي
قال الزهري في حديثه عن عروة: بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجده، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين. وكان مربدا لسهيل وسهل غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: يا رسول الله بل نهبه لك، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله(1/198)
منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا. وفي حديث أنس في الصحيح: ثم أرسل إلى بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني في حائطكم هذا، فقالوا: لا والله ولا نطلب ثمنه إلا الله. قال وكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، قال فصفوا النخل قبلة المسجد. قال وجعلوا عضادتيه حجارة. قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقول:
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة
وفي حديث الزهري عن عروة: وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
فتمثل ببيت شعر رجل من المسلمين لم يسم لي. انتهى. وقال غيره ووضع عليه الصلاة والسلام، فوضع الناس وهو يقولون:
لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وآخرون يقولون:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا(1/199)
وجعلت قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه عليه السلام. وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وجعل عمده الجذوع، وسقفه بالجريد، وجعل عضادتيه الحجارة. وقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: لا عريش كعريش موسى. وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بالجريد والجذوع.
فلما فرغ من البناء بنى بعائشة رصي الله عنها في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد شارعا إلى المسجد، وهو مكان حجرته اليوم، وجعل لسودة بيتا آخر.
وفي الصحيح عن عائشة قالت: "تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعري، فأتتني أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي، فأتيتها ولا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى وقفتني على باب الدار وإني لأنهج، حتى سكن نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن وأصلحن من شأني. فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين".
وفيه عن عروة قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين. قال أبو عمرو وكان نكاحه عليه السلام لها في شوال، وابتنى بها في شوال، وكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها في شوال على أزواجهن، وكانت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وكانت إذا هويت الشيء تابعها عليه، ولم يتزوج بكرا غيرها. وكانت مدة مقامها معه عليه السلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة. وكانت فقيهة عالمة فصيحة، كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.(1/200)
وكان في مؤخرة المسجد موضع مظلل يأوي إليه المساكين يسمى "الصفة"، وكان عليه السلام يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، ويتعشى طائفة منهم معه.(1/201)
فصل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا: نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى وقعة بدر. فلما أنزل الله {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} رد التوارث إلى الرحم دون عقدة الأخوة. وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه، والثابت الأول. فآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو غائب بالحبشة ومعاذ بن جبل. وآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك من بني سالم. وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وآخى بين الزبير بن العوام وبين سلمة بن سلامة بن وقش وقيل كعب بن مالك السلمي، وقيل بل آخى بين طلحة بن عبيد الله وكعب ابن مالك، وآخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت. وآخى بين سعيد بن زيد وبين أبي بن كعب، وآخى بين مصعب بن عمير وبين أبي أيوب. وآخى بين أبي حذيفة ابن عتبة وبين عباد بن بشر الأشهلي. وآخى بين عمار بن ياسر وبين حذيفة ابن اليمان العبسي حليف بني عبد الأشهل. ويقال بل ثابت بن قيس بن الشماس. وآخى بين أبي ذر الغفاري وبين المنذر بن عمرو وهو نقيب بني ساعدة بن كعب بن الخزرج. وآخى بين حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى وبين عويم بن ساعدة أخي بني عمرو بن عوف. وآخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عويمر بن ثعلبة. وآخى بين بلال وبين أبي رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي.وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين. وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين.(1/201)
قال ابن إسحاق: وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى، أخذته الذبحة أو الشهقة، وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم عن يحي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب، يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا. وحدثني عاصم بن عمر ابن قتادة أنه لما مات اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو أمامة نقيبهم فقالوا: يا رسول الله إن هذا الرجل قد كان منا حيث قد علمت، فاجعل لنا رجلا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أخوالي وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض، فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم، والله أعلم.(1/202)
فصل تشريع الأذان للصلاة
قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس للصلاة حين مواقيتها لغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق اليهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة، فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد ابن ثعلبة الأذان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال قلت: ندعو به إلى الصلاة. فقال: أفلا أدلك على خير من هذا؟ قلت: بلى فما هو؟ قال تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله(1/202)
أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك. فلما أذن بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد. قلت: رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله لأن رؤيا غير الأنبياء لا يبنى عليها حكم شرعي. وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذلك الوحي". وفي الصحيح عن أنس قال: لما كثر المسلمون ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعلمونه، فذكروا أن يوروا نارا، أو يضربوا ناقوسا، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة. وفيه عن ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل بوق اليهود، فقال: أولا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا بلال فناد بالصلاة" انتهى.
قال بعض أهل السير: ولما كان بعد شهر من مقدمه عليه السلام زيد في الحضر ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر. وفي البخاري عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم جاء صلى الله عليه وسلم المدينة ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى.(1/203)
فصل ما جرى بمكة لبيوت المهاجرين منها
قال ابن إسحاق: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب من مكة أهل هجرة بأهليهم وأموالهم إلى الله وإلى رسوله إلا أهل دور يسمون بني مظعون من بني جمح وبنو جحش ابن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عدي بن كعب، فإن دورهم أغلقت بمكة هجرة. ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي، فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أما ترضى يا عبد الله أن الله يعطيك بها دارا في الجنة؟ قال: بلى. قال: فذلك لك. فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله، فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
أبلغ أبا سفيان عن ... أمر عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها ... تقضي بها عنك الغرامه
وحليفكم بالله رب ... الناس مجتهد القسامه
اذهب بها، اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامة
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى مسجده ومساكنه، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما كان من خطمة وواقف ووائل(1/204)
وأمية، وتلك أوس الله وهم حي من الأوس فإنهم أقاموا على شركهم، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وهو صيفي وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام. فلم يزل على ذلك حتى مضى بدر وأحد والخندق. قال ابن عبد البر عن ابن إسحاق: إنه أسلم يوم الفتح بعد أن صار إلى مكة مع قريش وذكر الزبير بن بكار أنه لم يسلم.
قال ابن إسحاق: فلما اطمأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم داره،وأظهر الله بها دينه، قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أخو بني النجار، وهو الذي كان قد ترهب ولبس المسوح وفارق الأوثان كما قدمنا من ذكره، ثم أسلم فحسن إسلامه، وهو شيخ كبير، وكان قوالا بالحق معظما في جاهليته فقال حين أسلم يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله عليهم:
ثوى في قريش بضع عشر حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى ... وكان له عونا من الله باديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا
وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا، ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ...
ونعلم أن الله أفضل هاديا(1/205)
وفي رواية:
ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا أدعوك في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي لنفسك باقيا
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تحفل النخل المقيمة ريها ... إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا(1/206)
فصل الإذن بالقتال
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كما تقدم،وأيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى من أنفسهم. رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. وصاحوا بهم من كل جانب. والله يأمرهم بالصبر والعفو والصفح، حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرض عليهم، فقال تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ(1/206)
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} قال غير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد ابن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة: هذه أول آية نزلت في الجهاد. وفي سنن النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. فأنزل الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية. زاد الإمام أحمد في روايته: وهي أول آية نزلت في القتال.انتهى. وعلل الإذن بأنهم ظلموا، وكانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، فإني لم أؤمر بالقتال. حتى هاجر فأذن له في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
قال ابن إسحاق: أي إني أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس إلا أنهم يعبدون الله، وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أنزل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون الدين لله أي حتى يعبدوا الله لا يعبدوا معه غيره.
وقد قالت طائفة: إن هذا الإذن كان بمكة والسورة مكية، وهذا غلط لوجوه: أحدها: أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة. الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}. الثالث: أنه خاطبهم في آخرها بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} والخطاب بذلك كله مدني، وأما الخطاب بيا أيها الناس فمشترك.
ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة. وكان القتال محرما. ثم مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال. ثم مأمورا به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور، والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع الأربعة. أما(1/207)
الجهاد بالنفس ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان الصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء.(1/208)
فصل آداب الإسلام في القتال
وكان صلى الله عليه وسلم يستحب القتال أول النهار كما يستحب الخروج للسفر أوله، فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى نزول الشمس وتهب الرياح وبنزل النصر. وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفروا، وربما بايعهم على الموت. وبايعهم على الجهاد كما بايعهم على الإسلام،وبايعهم على الهجرة قبل الفتح. وبايعهم على لتوحيد والتزام طاعة الله ورسوله، وبايع نفرا من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا، وكان السوط يسقط من يد أحدهم فينزل فيأخذه ولا يقول لأحد ناولني إياه, وكان يشاور أصحابه في الجهاد ولقاء العدو أو تخير المنازل، وفي المسند عن أبي هريرة: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يتخلف في ساقتهم في المسير فيزجي الضعيف ويردف المنقطع، وكان أرفق الناس بهم في السير. وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، وكان يقول : "الحرب خدعة". وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه، ويطلع الطلائع ويبث الحرس. وكان إذا لقي عدوه وقف ودعا واستنصر وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم.وكان يرتب الجيش والمقاتلة ويجعل في كل جنبة كفئا لها، وكان يبارز بين يديه بأمره. وكان يلبس للحرب عدة، وربما ظاهر بين درعين. وكان له الألوية. وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا ثم قفل. وكان يبيت عدوه وربما فاجأهم نهارا. وكان يحب الخروج بكرة يوم الخميس، وكان يستحب للرجل أن يقاتل تحت راية قومه، وكان إذا لقي العدو يقول: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم. اللهم أنزل نصرك، اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أقاتل" وكان إذا اشتد البأس وحمى الحرب وقصده العدو يعلم بنفسه ويقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" ، وكان البأس إذا اشتد اتقوا به، وكان(1/208)
أقربهم إلى العدو، وكان يجعل لأصحابه شعارا في الحرب يعرفون به إذا تكلموا، وكان يحب الخيلاء في الحرب وقال: "إن منها ما يحب الله، ومنها ما يبغضه، فأما الخيلاء التي يحبها فاختيال الرجل نفسه عند اللقاء واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي والفجور". وقاتل مرة بالمنجنيق نصبه على أهل الطائف.وكان ينهى عن قتل النساء والولدان، وكان ينظر في المقاتلة فمن رآه أنبت قتله ومن لم ينبت استحياه. وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ويقول: "سيروا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا" . وكان ينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو. وكان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة، أو الإسلام دون الهجرة ويكونوا كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب، أو بذل الجزية. فإن أجابوا إليه قبل منهم، وإلا استعان بالله وقاتلهم. وكان إذا ظفر بعدوه أمر مناديا فجمع الغنائم كلها، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمر به من مصالح المسلمين، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش: للفارس ثلاثة أسهم له سهم وسهمان لفرسه، وللراجل سهم. هذا هو الصحيح الثابت عنه، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة، وقيل: بل كان النفل من الخمس، وقيل وهو أضعف الأقوال بل كان من خمس الخمس، وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم لعظم غنائمه في تلك الغزوة. وكان يسوي بين الضعيف وغيره في القسمة ما عدا النفل. وكان إذا أغار في أرض العدو أو بعث سرية بين يديه فما غنمه أخرج خمسه ونفلها ربع الباقي وقسم الباقي بينهم وبين سائر الجيش، وإذا رجع فعل ذلك ونفلها الثلث. ومع ذلك كان يكره النفل ويقول: "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم"، وكان له سهم من الغنيمة يدعى "الصفي" إن شاء عبدا وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس، وقالت عائشة: " وكانت صفية من الصفي"، رواه أبو داود. وكان سيفه ذو الفقار من الصفي. وكان يسهم لمن غاب لمصلحة المسلمين. وكانوا يستأجرون الأجير للغزو على نوعين: أحدهما أن يخرج الرجل ويستأجر من يخدمه في سفره، والثاني أن(1/209)
يستأجر من ماله من يخرج للجهاد، ويسمون ذلك بالجعائل، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي". وكانوا يتشاركون في الغنيمة على نوعين أيضا: أحدهما شركة الأبدان،والثاني: أن يدفع الرجل إلى الرجل بعيره أو فرسه يغزو عليها على النصف مما غنم، حتى ربما اقتسما السهم فأصاب أحدهما قدحه والآخر نصله وريشه. وقال ابن مسعود: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء. وكان يبعث السرية فرسانا تارة ورجالة أخرى. وكان لا يسهم لمن قدم من المدد بعد الفتح، وكان المسلمون يصيبون في مغازيهم العسل والعنب والطعام فيأكلونه ولا يرفعونه في المغانم. قال ابن عمر: "إن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس". رواه أبو داود
فصل
وكان ينهى في مغازيه عن النهبة والمثلة وقال: "من انتهب نهبة فليس منا" ، وأمر بالقدور التي طبخت من النهب فأكفئت.وروى البخاري في صحيحه في باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم عن رافع قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع وأصبنا إبلا وغنما وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فجعلوا فنصبوا القدور، فأمر بالقدور فأكفئت.. الحديث. وذكر أبو داود عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، وإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: "إن النهبة ليس بأحل من الميتة، وإن الميتة ليس بأحل من النهبة". وكان يشدد في الغلول جدا ويقول: "عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة". ولما أصيب غلامه مدعم قال بعض أصحابه: "هنيئا له الجنة" قال: "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم من المقاسم لتشتعل عليه نارا" فلما سمع ذلك المسلمون جاء رجل بشراك أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شراك أو شراكان من نار" وكان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في(1/210)
الناس فيجيئون مغانمهم، فيخمسها ويقسمها. فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: ما منعك أن تجيء به؟ فاعتذر، فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك. وأمر بتحريق متاع الغال وضربه، وأحرقه الخليفتان الراشدان بعده، فقيل هذا منسوخ بسائر الأحاديث التي ذكرت، فإنه لم يجئ التحريق بشيء منها، وقيل وهو الصواب: إن هذا من باب التعزير وهو العقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة بحسب المصلحة، فإنه حرق وترك، وكذلك من بعده. وكان هديه في الأسارى أنه كان يمن على بعضهم ويقتل بعضهم ويفادي بعضهم بالمال وبعضهم بأسرى المسلمين، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة.(1/211)
فصل عداء اليهود للمسلمين وتسمية بعض المنافقين
قال ابن إسحاق: ونصبت أحبار يهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم. قلت: وقد ذكر غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان وادعهم وكتب بينه وبينهم كتابا، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. فحاربته الثلاث، فمن على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة وسبى ذريتهم ونساءهم. ونزلت سورة الحشر في بني النضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة. وبادر حبرهم وعالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام فدخل في الإسلام كما تقدم، وكان من بني قينقاع، وأبى عامتهم إلا الكفر والعناد.
قال ابن إسحاق: وظاهرهم رجال من الأوس والخزرج ممن كان على جاهليته فكانوا أهل نفاق وعلى دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جنة من القتل. وكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل عليه فيما يسألونه، إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام(1/211)
كان المسلمون يسألونه عنها. منهم حيي بن أخطب وأخوه ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب وسلام ابن مشكم وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع الأعور، وهو الذي قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وعمرو بن جحاش وكعب بن الأشرف، وهو من طيء ثم أخو بني نبهان، وأمه من بني النضير. فهؤلاء من بني النضير. وعبد الله بن صوريا الأعور ولم يكن في زمانه بالحجاز أعلم منه بالتوراة وابن صلويا، ومخيريق، وكان خيرهم وكان حبرا عالما وكان غنيا كثير الأموال وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد وكان يوم السبت قال: يا معشر اليهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم. ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت في هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع بها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول: "مخيريق خير يهود". وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها.
وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، ولم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو ابن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين. قالت: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم. وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي: أهو، أهو؟ قال: نعم والله. قال: تعرفه وتثبته؟ قال: نعم، فما في نفسك؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
قال ابن إسحاق: وكان ممن يسمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج زوي ابن الحارث والحارث بن سويد بن الصامت. قال ابن حزم: قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم قودا. وكان أخوه خلاد بن سويد من فضلاء المسلمين. وكان لأخيهما(1/212)
الجلاس ابن سويد نزعة ثم لم ير منه إلا خير وصلاح وإسلام إلى أن مات. قلت: يريد ما ذكره ابن إسحاق أنه قال: لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير. فأنزل الله فيه {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}.
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه تاب فحسنت توبته. ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث" وكان رجلا جسيما أدلم ثائر الرأس أحمر العينين أسفع، ونجاد بن عثمان ابن عامر وأبو حبيبة بن الأزعر وهو أحد أصحاب مسجد الضرار، وعباد بن حنيف وكان أخوه سهل من خيار المسلمين، ونجرح وهو ممن بنى مسجد الضرار، وعمرو ابن خذام وعبد الله بن نبتل وجارية ابن عامر بن العطاف. قال ابن حزم: وقد ذكر ابناه زيد ومجمع ولم يصح عن مجمع إلا الخير والقرآن والإسلام، لكنه كان أبوه قدمه ليصلي بهم في مسجد الضرار، وذكر ابن إسحاق أنه قال لعمر: والله يا أمير المؤمنين ما علمت بشيء من أمرهم. ووديعة بن ثابت وهو ممن بنى مسجد الضرار. قال وهو الذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب. وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره. وبشر ورافع ابنا زيد ومربع بن قيظي وأخوه أوس بن قيظي وحاطب بن أمية بن رافع وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له زيد ابن حاطب. وقزمان حليف لهم فقاتل يوم أحد قتالا شديدا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هو من أهل النار" ، فعجب الناس من ذلك، فلما اشتد به الأمر قتل نفسه.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة، إلا أن الضحاك بن ثابت كان يتهم بذلك. ومن الخزرج ثم من بني النجار رافع بن وديعة وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو. ومن بني سلمة الجد بن قيس وهو الذي قال: يا محمد ائذن لي ولا تفتني. ومن بني عوف بن الخزرج عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وكان ابنه عبد الله من صلحاء المسلمين. وكان قوم من اليهود يتعوذون بالإسلام وهم يبطنون الكفر، ومنهم سعد ابن حنيف وزيد بن اللصيت ونعمان بن أوفى وعثمان بن أوفى، ورافع بن حريملة وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حين مات: "قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين" ، ورفاعة بن زيد بن التابوت(1/213)
وسلسلة بن برهام وكنانة بن صوريا. وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينه، ففي هؤلاء من المنافقين، من أحبار يهود، ومن الأوس والخزرج، نزل صدر سورة البقرة فيما بلغني.
وكان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي نذكره لكم. فأنزل الله في ذلك {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وقال ابن صلويا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله في ذلك من قوله {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} وقال رافع بن حريملة ووهب بن زيد: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك من قولهما {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} الآية. وكان حيي ابن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود حسدا للعرب، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله تعالى { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} الآية.
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك ابن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا وخيرا منا، فأنزل الله في ذلك {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الآية.(1/214)
قال ابن إسحاق: ومر شأس بن قيس وكان شيخا قد عتا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من إلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان ببينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة في هذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من يهود كان معه فقال: اعمد إليهم اجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، فكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك أبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعا. قلت: وفي الصحيح عن عائشة قالت: وكان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملأهم وقتلت سراتهم في دخولهم في الإسلام. قال ابن إسحاق: ففعل الفتى، فتكلم القوم عند ذلك وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث بن الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة، فغضب الفريقان جميعا وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة. والظاهرة الحرة. السلاح السلاح. فخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم؟" فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله. فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} الآية. وأنزل الله في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ(1/215)
تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} الآيات، إلى قوله {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والآيات بعدها.
قال ابن إسحاق: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما حدثني عاصم بن عمر ابن قتادة وسيد أهلها عبد الله بن أبي لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل، من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام غيره. ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر عبد ابن عمرو بن صيفي بن النعمان وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد. وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وكان يقال له الراهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا الراهب، ولكن قولوا الفاسق" ، كما حدثني محمد بن أبي أمامة عن بعض آل حنظلة بن أبي عامر، فشقيا بشرفهما وضرهما، وكان قوم عبد الله قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله برسوله وهو على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا. فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل كارها مصرا على نفاقه وضغنه.
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا، وكان أبو عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة قبل أن يخرج إلى مكة فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: " جئت بالحنيفية دين إبراهيم" . قال: فأنا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها. قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها. قال: "ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية" . قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا. يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي إنك جئت بها كذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل فمن كذب يفعل الله به ذلك". فكان هو ذلك عدو الله، خرج إلى مكة، فلما فتحت خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها.
وأما عبد الله بن أبي فأقام على شبهة في قومه مترددا حتى غلبه الإسلام فدخل فيه كارها.(1/216)
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن أسامة بن زيد قال: "ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته، على حمار عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف. وأردفني رسول الله خلفه، قال فمر بعبد الله بن أبي وهو في ظل "مزاحم" أطمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمم من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم، ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر بالله وحذر وبشر وأنذر، قال وهو زام لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته قال: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا، فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته في مجلسه بما يكره. قال فقال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به وهدانا له" . فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى:
متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل وبصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع
قال ابن هشام: البيت الثاني عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق في حديثه عن الزهري عن عروة عن أسامة قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفي وجهه ما قال عبد الله بن أبي عدو الله، قال: والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا كأنك سمعت شيئا تكرهه. قال: أجل، ثم أخبره بما قال ابن أبي فقال سعد: يا رسول الله أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا.
قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه بنحوه: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرنا عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره.. فذكر الحديث أبسط من رواية ابن إسحاق، وفيه: وأردف أسامة بن زيد وراءه. وفيه:(1/217)
وذلك قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبد الله. وفيه: وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفيه: فلما غشيت القوم عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا. وفيه: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثارون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا. وفيه قال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى. قال الله عز وجل {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وقال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} إلى قوله {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله حتى أذن الله فيهم. فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله صناديد كفار قريش قال ابن أبي ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه.فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا.(1/218)
فصل المهاجرون ووباء المدينة
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم. قالت: فصرف الله ذلك عن نبيه. قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر مع أبي بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم،وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر فقلت له: كيف تجدك يا أبة؟ فقال:(1/218)
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول.
قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه
قالت فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول.
قالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم رفع عقيرته فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما حياض مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم فقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة" ومهيعة الجحفة.(1/219)
فصل صار الكفار بعد الهجرة ثلاثة أقسام
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار ثلاثة أقسام: قسم صالحهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه(1/219)
فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره. ومن هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن.(1/220)
نهيؤه صلى الله عليه وسلم للجهاد بالبعوث والسرايا
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه، وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوهم وقتال من أمره الله به ممن يليه من المشركين، مشركي العرب. فأقام بعد قدومه المدينة بقية شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر والجماديين ورجبا وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ثم خرج غازيا على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة في صفر، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادع فيها ضمرة وعقد ذلك معه سيد بني ضمرة مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية صفر وصدرا من ربيع الأول. وهي أول غزوة غزاها بنفسه. وذكر البخاري في صحيحه عن أبي إسحاق أولها الأبواء، وليس بينهما اختلاف لأن الأبواء أو ودان مكانان متقاربان.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب بنعبد مناف في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم منالأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعا عظيما من قريش فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قدرمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي في سبيل الله، وفر يومئذ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة وعتبة بن غزوان بن جابر المازني وكانا قديمي الإسلام إلا أنهما لم يتمكنا من الوصول إلى المسلمين يومئذ.
قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
وبعث عليه الصلاة والسلام في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من(1/220)
الأنصار أحد، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف القوم بعضهم عن بعض.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبه ذلك على الناس، قلت: وقدم صلحب الهدى بعث حمزة وعبيدة وبعث سعد بن أبي وقاص على غزوة الأبواء. والله أعلم.
غزوة بواط: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر وهو صدر العام الثاني من مقدمه المدينة. واستعمل على المدينة السائب بن مظعون يريد قريشا حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فلبثبها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى.
ثم غزا غزوة العشيرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة على رأس ستة عشرا شهرا، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا سلمة ابن عبد الأسد، وخرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين من المهاجرين ولم يكره أحدا من الخزرج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا بعتقبونها ويتعرضون عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام، وكان قد جاءه الخبر بفصولها من مكة وفيها أموال لقريش فبلغ العشيرة وقيل العشيراء بالمد وقيل العسيرة بالمهملة وهي من ناحية ينبع، فوجد العير قد فاتته بأيام. وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام وهي التي وعده الله إياها، أو ذات الشوكة، ووفى له بوعده، وفيها وادع بني مدلج وحلفاءهم بني ضمرة.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الحرار من أرض الحجاز، فرجع ولم يلق كيدا.
غزوة بدر الأولى: قال ابن إسحاق: فلم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فاستاقه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، واستعمل(1/221)
على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا له سفوان في ناحية بدرففاته كرز، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق حربا.
بعث عبد الله بن جحش: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها جمادى الآخرة ورجبا وشعبان، وبعث عليه الصلاة والسلام في رجب المذكور عبد الله ابن جحش الأسدي إلى نخلة، على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة. في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش. وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فلما فتح الكتاب وجد فيه "إذا نظرت إلى كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة بين مكة والطائف فترصد بها عيرا لقريش وتعلم لنا من أخبارهم" فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع. فمضوا كلهم. فلماكان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، فتخلفا في طلبه، ونفذ عبد الله ومن معه حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولي بني المغيرة. فتشاور المسلمون فيهم وقالوا نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة، دخلوا الحرم. ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم. ثم قدموا بالعير والأسيرين.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله جحش قال لأصحابه: إن لرسول الله مما غنمنا الخمس، فكان ذلك أول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسير في الإسلام. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين. واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم وجدوا مقالا وقالوا: قد استحل محمد وأصحابه(1/222)
الشهر الحرام. وتفاءلت اليهود على رسول الله بذلك فقالوا: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} يقول سبحانه وتعالى: هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرا فما ارتكبتموه أنتم من الكفر والصد عن سبيله وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهله والشرك الذين أنتم عليه والفتنة التي حصلت منكم أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام. وأكثر السلف فسروا الفتنة ههنا بالشرك، وفسرت بتعذيبهم المؤمنين وفتنتهم إياهم عن دينهم، والمقصود أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ولم يبري أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعقوبة والعيب.
قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بذلك فرج الله عن المسلمين،وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، ففادت قريش الأسيرين، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا. فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا في حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا:يا رسول أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله فيهم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} الآية فقال أبو بكر ويقال بل عبد الله بن جحش:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد ...
وكفر به والله راء وشاهد(1/223)
وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غل من القد عاند(1/224)
فصل في تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة
...
فصل تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة
فلما كان في شعبان من هذه السنة حولت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقيل على ثمانية عشر، وقيل على ستة عشر شهرا، ولم يقل أحد أكثر ولا أقل. قال ابن حزم: "وقد روي أن أول من صلى نحو الكعبة سعيد بن المعلى الأنصاري، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بتحويل القبلة فقام فصلى ركعتين". انتهى وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصرف إلى الكعبة، وقال لجبريل: وددت أن أصرف وجهي عن قبلة اليهود، فقال: إنما أنا عبد فادع ربك وسله. فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك، فنزل عليه {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية.
وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان بعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما(1/224)
هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: بينما الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاءهم رجل فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها. وكان وجه الناس إلى الشام فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة، فقال بعض العلماء: وفي هذا دليل أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمروا بالإعادة. قال في الهدى: وكان في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، فأما المسلمين فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا آمنا به كل من عند ربنا، وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم. وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا. وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء. وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل. وكثرت أقاويل السفهاء من الناس. وكانت كما قال الله {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فأنزل الله جواب السفهاء {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي أن الحكم والتصرف والأمر كله لله، فحيثما وجهنا توجهنا، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات عديدة فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه. وأكد سبحانه الأمر بذلك مرة بعد مرة، وأمر حيثما كان رسوله، ومن حيث خرج، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هداهم لهذه القبلة، وأنها هي القبلة التي لهم وهم أهلها لأنهم أوسط الأمم وهي أوسط القبل وأفضلها، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب، وأخرجهم في خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل، وموقفهم في الجنة خير المواقف على تل عال والناس تحتهم، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد(1/225)
من حديث عائشة " إن اليهود لا يحسدوننا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين".
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة، ولكن الظالمين الباغين يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت، ولا تعارض الرسل إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة. أخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم وليهديهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم مالم يكونوا يعلمونه، ثم أمرهم بذكره وشكره، ثم أمره بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به وهو الصبر والصلاة وإنه مع الصابرين.(1/226)
فصل فرض صيام رمضان وزكاة الفطر
قال ابن سعد والواقدي بأسانيدهما عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد الخدري قالوا: نزل فرض شهر رمضان بعدما حولت القبلة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من قدومه عليه الصلاة والسلام، وزكاة الفطر قبل العيد بيومين. أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو مدين بر. انتهى. وقال ابن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بر،" قال الدمياطي: وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال. وقيل إن الزكاة فرضت فيها، وقيل قبل الهجرة والله أعلم. ويدل عليه ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه عن قيس بن سعد قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة،فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله" . قال صاحب الفروع: وإسناده جيد.(1/226)
غزوة بدرالكبرى
وهي أكرم المشاهد، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودفع فيه الشرك وأهله وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو، مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد والعدة الكاملة والخيول المسومة والخيلاء الزائدة. فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وفي الصحيح عن معاذ بن رفاعة الزرقي وكان بدريا، وكان أبوه شهد العقبة قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها. قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة. فكان رافع من أهل العقبة، وكان رافع يقول لابنه: ما يسرني أني شهدت بدرا بالعقبة.
وكان خروجهم يوم السبت اثني عشر خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، وقيل لثمان خلون منه، واستخلف على المدينة أبا لبابة، وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه خبر العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فيها أموال عظيمة لقريش، فندب أصحابه إليهم، وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو. وقال: هذه عير قريش فيها أموال، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها. فخف بعض الناس وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، فأمر من كان حاضرا ظهره بالنهوض، فخرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وكانوا على سبعين بعيرا يعتقبونها. ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرسا للمقداد، وفرسا للزبير ابن العوام. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على بعير. فلما بلغ أبا سفيان مسيره عليه الصلاة والسلام استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري أن يأتي قريشا بمكة فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد اعترض لعيرهم في أصحابه، فنهضوا مسرعين في قريب من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، ولم(1/227)
يتخلف أحد من أشرافهم، إلا أبا لهب وبعث مكانه العاص بن هشام ابن المغيرة كان له دين بذلك. وحشدوا فيمن حولهم من العرب، ولم يتخلف من بطون قريش سوى عدي بن كعب.
وخرجوا من ديارهم كما قال الله تعالى {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن نكون كعير ابن الحضرمي؟
ولما أجمعوا على المسير ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة من الحرب وقالوا: إنا نخشى أن نؤتى من خلفنا، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك وكان من أشرافهم فقال: أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهون.
فخرجوا سراعا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه من أصحابه، واستعمل على الصلاة بالناس عمرو بن أم مكتوم، ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيض، وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان إحداهما مع علي بن أبي طالب والأخرى مع رجل من الأنصار، قيل وكانتا سوداوين، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن من بني النجار، وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فسلك طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش، ثم على تربان، ثم على ملل، ثم على غميس الحمام، ثم على صخرات اليمام، ثم على السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، حتى إذا كان بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة يسارا وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا. فسلك في ناحية منها حتى جزع واديا يقال له رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم علا المضيق ثم انصب به، حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعجة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان وعيره. ثم رحل عليه الصلاة والسلام فأخبر عن جبلي الصفراء أن اسمهما مسلح(1/228)
ومخرى، وسأل عن أهله فقيل: بنو النار وبنو حراق بطنان من غفار، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المرور بينهما وأخذ ذات اليمين على وادي ذفران وجزع، ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني قد أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج إليها لعل الله يغنمناها؟ قلنا: نعم". فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: ما ترون في القوم،فإنهم قد أخبروا بخروجكم. فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكن أردنا العير.ثم قال: ما ترون في قتال القوم، فقلنا مثل ذلك. فقال المقداد... وذكر تمام الحديث.
ثم استشارهم ثالثا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرة إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال له: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك.ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. قال في عيون الأثر: روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك(1/229)
سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ.واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا فلم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي والمدائني وابن الكلبي منهم. انتهى.
ثم ارتحل عليه الصلاة والسلام، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه. قال ابن هشام هو أبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغهم عنهم، فقال: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم. قال: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا المكان الذي به رسول الله وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا المكان الذي به قريش.فلمافرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء. ثم انصرف عنه. قال يقول الشيخ: من ماء؟ أمن ماء العراق؟ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه. فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض بن يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما فسألوهما لمن أنتما؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما حتى إذا لقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه ثم سلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش. قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، والكثيب العقنقل. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم القوم؟" قالا: كثير. قال: "ما عدتهم؟" قالا: ما ندري. قال: "كم تنحرون كل يوم؟" قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين التسعمائة والألف". ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم ابن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر ابن الحارث وزمعة(1/230)
بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها".
وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا وأحرز العير كتب إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم. فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهموا بالرجوع، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم به، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك. وأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع فعصوه. فرجع هو وبني زهرة، فلم يشهد بدرا زهري. فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعا معظما. وكان حليفا لهم. وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل أدنى ماء من مياه بدر، وسبق قريشا إلى بدر، ومنع قريشا من السبق إليه مطر عظيم أرسله الله تعالى مما يليهم ولم يصب منه المسلمين إلا ما لبد لهم دهس الوادي وأعانهم. فنزل عليه الصلاة والسلام على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب، ثم تبنى عليه حوضا فتملؤه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وفعله.
وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ألا تبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أظهرنا الله وأعزنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أن نلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك.(1/231)
فأثنى رسول الله خيرا ودعا له بخير. ثم بني لرسول الله عريش فكان فيه، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الوقعة فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعا مصرعا يقول: "هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان إن شاء الله" قال عمر: فوالذي بعثه بالحق نبيا ما عدا واحد منهم مضجعه الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم في صحيحه.
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حيت أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي قال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادلكوتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحنهم الغداة".
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.
ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احرز لنا أصحاب محمد. فجاء بفرسه حول العسكر فقال: ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصونه. ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمين أو مدد. فضرب في بطن الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا. فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت. قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فأشار عليه أن يرجع الناس ولا يكون حرب. فوافقه عتبة ابن ربيعة. وقام عتبة في الناس خطيبا، فأشار عليهم بالرجوع، فأبى أبو جهل ذلك، وساعده المشركون.
وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جذم شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فلما أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها واصطف الفريقان.(1/232)
قال ابن إسحاق: وقال فتية من قريش وكانوا خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب محمد وكثرة عدوهم قالوا: غر هؤلاء دينهم. قال: وبلغني أن الشيطان معهم أيضا لا يفارقهم. قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه، حتى إذا التقى الجمعان فر عدو الله ونكص على عقبيه فذهب فأوردهم ثم أسلمهم حين رأى الله أيد رسوله والمؤمنين بالملائكة وقال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} الآية. وكان كما قال حسان:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهم بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
وقال إني لكم جار فأوردهم ... شر الموارد فيه الخزي والعار
وخرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة حتى نصلوا من الصف، فخرج إليهم فتية من الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: مالنا بكم حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عببيدة بن الحارث وقم يا حمزة وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال عببيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي. فقالوا: أنتم أكفاء كرام. فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم بمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فجراه إلى أصحابه فمات بالصفراء.
وفي الصحيح عن علي قال: فينا أنزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} وفيه عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما لنزلت هؤلاء الآيات(1/233)
في هؤلاء الرهط الستة يوم بدر. وفيه عن علي قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة.
قال ابن إسحاق: وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: "إذا أكثبوكم1 يعني أكثروكم فارموهم واستبقوا نبلكم".
قال: وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر الصديق وليس معه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وأبو بكر يقول: يا رسول الله يكفيك بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش معه الصديق أخذت رسول الله سنة من النوم، ثم استيقظ مبتسما فقال: "أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وفي رواية فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله قد ألححت على ربك وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وفي رواية ابن إسحاق: فقال رسول الله: "أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع". يريد الغبار. وفي رواية مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني" . وفيه: فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكببيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة. قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من
ـــــــ
1 أكثبوكم: قربوا منكم، والكثب: القرب(1/234)
المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وفي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها.
قال ابن إسحاق: ثم رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل من المسلمين، ثم رمى حارثة بن سراقة أحد بني النجار وهو يشرب من الحوض فأصاب نحره فقتل فكان أول قتيل من الأنصار. ثم حرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على القتال وقال: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الجنة" . فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن: "بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟" ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله.
وذكر ابن سعد وابن إسحاق أن أبا جهل قال لما التقي الناس ودنا بعضهم من بعض: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح على نفسه. وأخرجه النسائي من حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن عبد الله ابن ثعلبة بن صعير. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصى فاستقبل بها قريشا ثم قال: شاهت الوجوه. ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدوا. فكانت الهزيمة، فقتل الله فيها من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر من أشرافهم. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم [يديه] فقال: "يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا" فقال له جبريل: "خذ قبضة من تراب". فأخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.(1/235)
ذكر مقتل عدو الله أبي جهل
روى البخاري في الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إ ذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: ياعم أرني أبا جهل. فقلت: ياابن أخي فما تصنع به؟ قال أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى صرت الأعجل منا. فتعجبت لذلك. قال وغمزني الآخر فقال لي مثلها. فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه. قال فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. قال: هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين قال: كلاكما قتله. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. وفي رواية: فتمنيت أن أكون بين أضلع [واحد] منهما. وفي رواية: فما سرني أني كنت بين رجلين مكانهما. وفي الصحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ينظر ما صنع أبو جهل"؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد. وقال: أأنت أبو جهل؟ وقال أحمد بن يونس: أأنت أبو جهل. فأخذ لحيته وقال: هل فوق رجل قتلمتوه أو رجل قتله قومه. وفي رواية ابن علية: أنت أبا جهل. هكذا قالها أنس.قال وقال أبو مجلز قال أبو جهل: فلو غير أكار قتلني.
وذكر ابن إسحاق في السيرة قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه قال وقدكان ضبث بي1 مرة بمكة فآذاني ولكزني، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، أعمد من رجل قتلتموه. أخبرني لمن الدائرة؟ قال قلت: لله ولرسوله. وزعم رجال من بني
ـــــــ
1 أي قبض علي ولزمني(1/236)
مخزوم أن عبد الله بن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم. قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل. قال فقال: آلله الذي لا إله غيره؟ قال: وكانت يمين رسول الله. قال قلت: نعم والذي لا إله غيره. ثم ألقيت برأسه بين يدي رسول الله، فحمد الله. وفي رواية غير ابن إسحاق فقتله عبد الله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته. فقال: "الله الذي لا إله غيره؟" فرددها ثلاثا. ثم قال: "الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. انطلق بي فأرنيه". فانطلقنا فأريته إياه فقال: "هذا فرعون هذه الأمة".
وأسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وابنه عليا،فأبصره بلال وكان يعذبه أمية بمكة فقال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا. ثم خرج حتى وقف عند مجلس من مجالس الأنصار فقال: يا معشر الأنصار، أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية. فخرج فريق من الأنصار واشتد بهما عبد الرحمن بن عوف يحرزهما منهك فأدركوه، فشغلهم عن أمية بابنه ففرغوا منه، ثم لحقوهما، فقال عبد الرحمن: ابرك، فبرك، فألقى عليه نفسه، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه.وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرحمن بن عوف. وقال أمية قبل ذلك: من الرجل منكم المعلم في صدره بريش النعام؟ فقال: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. وكان مع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، فلما رآه أمية قال له: أنا خير لك من هذه الأدراع. فألقاها وأخذ بيده ويد ابنه وأمية يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ فلما قتلته الأنصار كان يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعي وبأسيري. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بقتله قبل ذلك وأخبره بذلك سعد بن معاذ لما قدم مكة معتمرا ونزل على أمية فكان أمية إذا قدم المدينة نزل على سعد، فرآه أبو جهل يطوف فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد. فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وآويتم محمدا وأصحابه؟ فقال: نعم، فتلاحيا بينهما، فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي. فقال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام. قال فجعل أمية بن خلف يقول لسعد: لا ترفع(1/237)
صوتك، وجعل يمسكه. فغضب سعد فقال: دعنا عنك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك. قال: إياي؟ قال: والله ما يكذب محمد. وفي رواية: فإني سمعت رسول الله يقول: إنهم قاتلوك. قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك أمية فزعا شديدا، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي. قالت: فوالله ما يكذب محمد. فلما جاء الصريخ وخرجوا إلى بدر قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال أخوك اليثربي؟ قال: فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين. فسار معهم حتى قتله الله. رواه البخاري في صحيحه.
وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب فقال: دونك هذا فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل أيام أبي بكر، قتله طليحة الأسدي شهيدا.
وفي الصحيح أن الزبير لقي عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحدق، فحمل عليه الزبير بحربته فطعنه في عينه فمات، فوضع رجله على الحربة ثم تعلى، وكان الجهد أن نزعها وقد انثني طرفها، فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سأله إياه عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها، فلما قبض وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.
قال ابن إسحاق: ولما وضع المسلمون أيديهم في العدو يقتلون ويأسرون، وسعد بن معاذ واقف على باب الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العريش متوشحا في ناس من الأنصار، ورأى رسول الله في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: كأنك تكره ما يصنع الناس؟ فقال: أجل والله، كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين، وكان الإثخان في الحرب أحب إلى من استبقاء الرجال.(1/238)
قال ابن إسحاق: وكان الفتية الذين قتلوا ببدر فنزل فيهم من القرآن فيما ذكر لنا قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية فتية مسمين من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، ومن بني مخزوم أبو قيس الفاكه ابن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف من بني جمح، والعاص بن منبه من بني سهم، وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا جميعا.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم. وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم أحق به، لقد رأينا أن نقتل العدو إذا منحنا الله أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره عن سليمان ابن موسى عن مكحول عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه على السواء. انتهى.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: "بئس عشيرة النبي كنتم لتبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس". ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه. وفي الصحيح عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان بدر في اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه اصحابه وقالوا:(1/239)
ما نرى ينطلق إلا لبعصض حاجته، حتى قام على شفير الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأمساء آبائهم: "يا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قال فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا ونقمة وحسرة وندامة. وفيه عن ابن عباس {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} قال: هم والله كفار قريش. قال عمرو: هم قريش ومحمد نعمة الله {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال: النار يوم بدر.انتهى.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله عليه وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر -حين سوينا على رقية بنت رسول الله التي كانت عند عثمان بن عفان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان- أن زيد بن حارثة قد قدم، قال فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو البختري العاص بن هشام وأمية ابن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، قال قلت: يا أبة أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بني. ثمقفل رسول الله إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين وفيهم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، واحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف من بني النجار، حتى إذا كان بالصفراء قسم الغنائم وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة. ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر رسول الله بقتله: من للصبية يا محمد! قال: النارزفقتله عاصم بن ثابت الأنصاري، ويقال علي بن أبي طالب.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مؤيدا مظفرا منصورا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها، فأسلم كثير من أهل المدينة. وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه الإسلام.(1/240)
قال ابن إسحاق: حدثني ابن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بالأسارى خيرا. قال: فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى، قال فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: شد يدك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديك منه. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من خبز إلا نفحني بها. قال: فأستحي فأردها عليهم فيردها علي ما يمسها. فلما قال أخوه مصعب لأبي اليسر وهو الذي أسره ما قال قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك. فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.
قال بعض العلماء: ولما ولي عمر بن الخطاب وثاق الأسرى وثاق العباس، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار فأطلقوا العباس. فكأن الأنصار فهموا رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء. فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه، فقال: لا تدعون له درهما. وفي حديث ابن عباس عند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس افد نفسك وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر. قال: إني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني. قال: الله أعلم بما تقول إن يكن ما تقول حقا فالله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. قال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: فأين المال الذي دفنته أم الفضل فقلت: إن أصبت فالمال الذي دفنته للفضل وعبد الله وقثم؟ قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي، قال رسول الله: ذاك شيء أعطانا الله منك. ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله فيه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} الآية.(1/241)
فصل الاستشارة في أمر الأسارى
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسارى" ؟ قال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، واستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم ثم ألقهم فيه. قال فسكت رسول الله فلم يرد عليهم شيئا. ثم قام فدخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن شاء الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة. وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى بن مريم قال : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} . وإن مثلك يا عمر مثل موسى قال : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، وإن مثلك يا ابن رواحة كمثل نوح قال {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أنتم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق". قال ابن مسعود: قلت يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء فأنزل اله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيات. رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم. وفيه: فنزل القرآن بقول عمر، وصححه الحاكم. قال ابن عباس قال عمر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت و صاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض على(1/242)
أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة. شجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله {عَذَابٌ عَظِيمٌ} رواه ابن أبي حاتم.
قال ابن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال. فقال رسول الله: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ. وقال سفيان الثوري عن هشام هو ابن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال: خير أصحابك في الأسارى، إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما قابلا مثلهم. قالوا الفداء ويقتل منا. رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه. وفي رواية عن عبيدة مرسلا وفيه: فنادى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فجاءوا أو من جاء منهم فقال: هذا جبريل يخيركم بين أمرين: أن تقدموهم فتقتلوهم وبين أن تفادوهم ويستشهد في قابل منكم بعدتهم، فقالوا بل نفاديهم ونتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون. انتهى.
وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وعن عامر الشعبي قال: أسر رسول الله يوم بدر سبعين أسيرا، وكان يفاديهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه. وممن من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم المطلب بن حنطب وصيفي بن أبي رفاعة وأبو عزة الجمحي، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا وكان محتاجا ذا بنات فقال: يا رسول الله لقد عرفت مالي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن علي، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا، ثم أسره ثانية فقال: يا رسول الله أقلني، فقال: "والله لا تمسح عارضك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير" ، فضرب عنقه. وممن من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو العاص ابن الربيع زوج زينب ابنته بعد أن بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفدائه، وكان رسول الله قد أخذ عليه أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(1/243)
يخلي سبيل زينب، فلما خرج أبو العاص إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال: كونا ببطن ياجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها. فخرجا، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل ابن عمرو وكان الذي أسره مالك بن الدخشم وكان سهيل أعلم من شفته السفلى، وذكر ابن إسحاق أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل فيمثل الله بي وإن كنت نبيا. وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه. وكان عمرو بن أبي سفيان أسيرا في يدي رسول الله، فقيل لأبي سفيان: أفد عمرا ابنك، فقال: يجمع على دمي ومالي، قتلوا حنظلة، وأفدي عمرا، دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم. فبينا هو كذلك إذ خرج سعد بن النعمان أخو بني عمرو بن عوف معتمرا، فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، وقد كان عهد قريش لا يعرضون لأحد جاء حاجا أومعتمرا إلا بخير. ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.(1/244)
فصل وصول خبر بدر إلى مكة
قال ابن إسحاق: وحكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيمسان بن عبد الله الخزاعي فقالوا: ما وراءك؟ قال:قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم ابن هشام وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري ابن هشام. فلما جعل يعد من أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فاسألوه عني. قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال:ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.(1/244)
وفي حدبث أبي رافع: لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبت الله أبا لهب وأخزاه، فقام يجر رجليه بشر حتى جلس. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قدم، قال فقال أبو لهب: هلم إلي، عندك لعمري الخبر. قال فجلس إليه والناس قيام فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا. وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا يقوم لها شيء. قال أبو رافع وكان غلاما للعباس: وكان الإسلام قد دخلنا وسرنا ذلك، تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به في رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده؟ قال: فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة وهي قرحة تتشاءم بها العرب فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله. وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وذكر قاسم بن ثابت في دلائله أن قريشا لما توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة في اليوم الذي وقع به المسلمون وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه:
أراد الحنيفيون بدرا وقيعة ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من قريش وأبرزت ... خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمدا ... لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
فقال قائلهم: من الحنيفيون؟ قالوا: محمد وأصحابه، يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف. ثم لم يلبث أن جاءهم الخبر.
قال ابن إسحاق: فلما انقضى أمر بدر أنزل الله فيها سورة الأنفال بأسرها.(1/245)
وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، من المهاجرين ستة وثمانون، ومن الأوس واحد وستون ومن الخزرج مائة وسبعون. قالوا: وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء أن منازلهم كانت في عوالي المدينة، وجاء النفير بغتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا" فاستأذنه رجال ظهورهم في عوالي المدينة، أيستأني لهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم، وكان عثمان رضي الله عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه من الغنيمة وأجره فهو بدري. وطلحة بن عبيد الله وكان بالشام في تجارة فضرب له رسول الله بسهمه وأجره. وكان سعيد بن زيد أيضا غائبا بالشام، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.(1/246)
فصل في تسمية من شهد بدرا من المسلمين مرتبا على حروف المعجم
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو عبيد وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف.
أ- أبي بن كعب النجاري، أبي بن ثابت، أوس بن ثابت النجاري أخو حسان، أوس بن خولي الخزرجي، أوس بن الصامت، أسعد بن يزيد بن الفاكه الزرقي، أنس بن معاذ النجاري، أنيسة مولى رسول الله، أنس بن قتادة ابن ربيعة الأوسي، الأرقم بن أبي الأرقم، أربد بن جبير، أسيرة وهو أبو سليط ابن عمرو النجاري، إياس بن البكير الليثي حليف بني عدي، إياس بن أوس ابن عتيك الأوسي.
ب- بشير بن البراء بن معرور السلمي، بشير بن سعد بن ثعلبة وهو أبو النعمان، بشير بن عبد المنذر أبو لبابة اشتهر بكنيته، بلال بن رباح المؤذن، بجير بن أبي بجير العبسي حليف لبني عوف، بحاث بن ثعلبة بن خزمة(1/246)
البلوي حليف لبني الخزرج ويقال نحاب بالنون، بسبس بن عمرو الذبياني حليف الخزرج.
ت- تميم بن يعار الخزرجي، تميم مولى بني غنم، تميم مولى خراش بن الصمة.
ث- ثابت بن الجذع، ثعلبة الأنصاري، ثابت ابن خالد بن عمرو بن زيد النجاري، ثابت بن هرم البلوي حليف الأنصار، ثابت ابن خنساء النجاري ذكر الواقدي أنه شهدها، ثابت بن عبيد الأنصاري، ثابت بن هزال الأنصاري، ثعلبة بن غنمة الأنصاري، ثعلبة بن عمرو ابن محصن بن عمرو بن عتيك النجاري، ثعلبة بن حاطب بن عمرو الأنصاري قال ابن عبد البر: "وهو مانع الصدقة فيما قال قتادة وسعيد بن جبير" انتهى. قلت: ذكره أبو محمد بن حزم فيمن شهد بدرا وقال: "قد قال قوم إنه منع الزكاة فنزلت فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآيات، وهذا باطل لأن شهوده بدرا ذلك بلا شك". انتهى.
ج- جابر بن عبد الله بن رئاب، جابر بن خالد بن مسعود النجاري، جابر ابن عتيك ويقال جبر الأوسي، جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ذكر البخاري أنه شهدها وكان ينقل الماء لأصحابه، قال ابن عبد البر ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرا ولا أحدا منعني أبي، جبار بن صخر بن أمية السلمي، جبير بن إياس ابن خالد بن مخلد الزرقي، جبر بن صيتا1 كلهم من الأنصار.
ح- حمزة بن عبد المطلب، الحارث بن أنس بن رافع، الحارث بن أوس بن معاذ بن أخي سعد، الحارث بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس الأوسي، الحارث بن خزمة أبو خزيمة وقيل ابن خزيمة بن عدي الأنصاري الخزرجي، الحارث بن عتيك بن النعمان النجاري، الحارث بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة الخزرجي، الحارث هو أبو الأعور بن ظالم بن عبس بن حرام النجاري، الحارث بن حاطب الأنصاري رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من
ـــــــ
1 كذا(1/247)
الروحاء في شيء أمره به وضرب له بسهمه وأجره، الحارث بن الصمة رده أيضا من الروحاء حين كسر وضرب له بسهمه وأجره، الحارث بن عرفجة الأوسي ذكره فيهم موسى بن عقبة والواقدي ابن عمارة. الحارث بن قيس بن خالد بن مخلد الزرقي، حارثة بن النعمان بن نفيع بن زيد النجاري، حارثة بن سراقة ابن الحارث النجاري واستشهد، حارثة بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، حارثة بن مالك بن غضب بن جشم الزرقي ذكره الواقدي فيهم، حارثة ابن النعمان بن رافع، حريث بن زيدبن ثعلبة الخزرجي، حبيب بن سعد وقيل ابن أسود بن سعد وقيل ابن أسلم مولى للأنصار، الحصين بن الحارث ابن المطلب أخو عبيدة، حاطببن عمرو بن عتيك الأوسي ولم يذكره ابن إسحاق، حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود العماري القرشي ذكره ابن عقبة وابن إسحاق والواقدي، حاطب بن أبي بلتعة اللخمي حليف قريش ويقال إنه من مدحج، حرام بن ملحان بن خالد بن زيد ابن حرام النجاري، حباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام السلمي.
خ- خالد بن زيد بن كليب أبو أيوب النجاري، خالد بن البكير الليثي، خالد ابن قيس بن مالك بن العجلان الزرقي، خلاد بن رافع بن مالك العجلان الزرقي، خلاد بن سويد بن ثعلبة الخزرجي، خلاد بن عمرو بن الجموح ابن زيد بن حرام السلمي، خليدة بن قيس بن النعمان السلمي، خزيمة بن ثابت ابن الفاكه بن ثعلبة الحطمي الأوسي، خزيمة بن أوس بن يزيد بن أصرم ذكره ابن عقبة فيهم، خباب بن الأرت التميمي، خراش بن الصمة ابن عمرو بن الجموح بن حرام السلمي الخزرجي، خباب مولى عتبة بن غزوان، خبيب بن عدي الأوسي، خبيب بن أساف الخزرجي، خارجة بن زيد الخزرجي، خارجة بن حمير الأشجعي حليف الأنصار، خزيم بن فاتك الأسدي صحح البخاري وغيره شهوده، خولي بن أبي خولي العجلي ويقال الجعفي حليف بني عدي بن كعب، خنيس بن حذافة السهمي، خوات بن جبير بن النعمان بن أمية بن امرىء القيس الأوسي وقيل إنه أصاب ساقه حجر في الطريق فرجع فضرب له رسول(1/248)
الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. خليفة بن عدي الزرقي الأنصاري ذكره ابن عقبة وابن إسحاق فيهم.
د- دقة بن إياس بن عمرو الأنصاري.
ذ- ذكوان بن عبد قيس بت خلدة الزرقي، ذو الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو بن غبشان الخزاعي حليف بني زهرة واستشهد.
ر- رافع بن مالك بن العجلان الزرقي ذكره ابن عقبة فيهم وقيل رافع بن المعلى ابن لوذان بن حارثة الخزرجي واستشهد، رافع بن عنجرة وهي أمه وأبوه عبد الحارث الأوسي، رافع بن سهل بن رافع الأنصاري ذكره بعضهم فيهم، رافع بن زيد ويقال ابن يزيد الأوسي، رفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو ابن ثعلبة الخزرجي، رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الزرقي، رفاعة بن عبد المنذر أبو لبابة الأوسي، رفاعة بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد هو أحد بني عفراء ذكره ابن إسحاق فيهم وأنكر الواقدي وغيره شهوده، ربيعة بن أكثم بن سخبرة الأسدي، الربيع بن إياس بن غنم الخزرجي، ربيع ابن رافع بن زيد بن حارثة بن الجد بن العجلان البلوي، رخيلة بالجيم والحاء والخاء ثلاثة أقوال.
ز- زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيد بن سهل ابن الأسود بن حرام أبو طلحة النجاري، زيد بن أسلم بن ثعلبة بن عدي ابن العجلان البلوي حليف بني عمرو، زيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب، زيد بن المزين بن قيس الخزرجي، زيد بن عاصم بن كعب بن منذر النجاري، زيد بن وديعة بن عمرو الخزرجي، الزبير بن العوام، زياد بن لبيد بن ثعلبة الزرقي، زياد بن عمرو ويقال ابن بشر أخو ضمرة حليف الأنصار ومولى لبني ساعدة، زياد بن كعب بن عمرو بن عدي الجهني، زاهر بن حرام الأشجي.
س- سعيد بن زيد بن عمرو ضرب له رسول الله بسهمه وأجره على قول من قال إنه لم يشهدها، سعد بن أبي وقاص الزهري، سعد بن معاذ سيد الأوس، سعد بن خيثمة الأنصاري واستشهد، سعد بن الربيع الخزرجي،(1/249)
سعد ابن مالك بن خالد الخزرجي والد سهل بن سعد الساعدي ذكره الواقدي أنه خرج فمات فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجره وسهمه، سعد بن عبادة ذكره بعضهم ولم يذكره ابن عقبة وابن إسحاق، سعد بن عبيد بن النعمان الأوسي، سعد بن زيد بن الفاكه، سعد بن الخولي حليف لبني عامر بن لؤي، سعد بن خولي مولى حاطب بن أبي بلتعة من مذحج وقيل من الفرس، سعد ابن خولة العامري القرشي عند بعضهم وعند بعضهم حليف لهم، سعد ابن عثمان ابن خلدة الزرقي يكنى أبا عبادة، سعد بن زيد الأوسي ذكره ابن إسحاق فيهم، سهل بن قيس بن أبي كعب السلمي، سهل بن عتيك ابن النعمان النجاري، سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم الأوسي، سهل ابن عدي، سليم بن عمرو بن حديدة ويقال ابن عامر السلمي، سليم بن الحارث ابن ثعلبة النجاري، سليم بن ملحان النجاري، سليم بن قيس بن فهد النجاري، سليم أبو كبشة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، سلمة بن أسلم بن حريش الأوسي، سلمة بن حاطب بن عمرو بن عتيك الأنصاري، سلمة بن سلامة بن وقش الأوسي، سلمة بن ثابت بن وقش الأوسي، سالم بن معقل مولى أبي حذيفة، سماك بن حرشة أبو دجانة الخزرجي، سماك بن سعد أخو بشير ابن سعد الخزرجي، سنان بن أبي سنان الأسدي، سنان بن صيفي بن صخر السلمي، سهيل بن رافع النجاري وهو الذي كان له ولأخيه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مربدا قاله ابن عقبة، سهيل بن عمر بن أبي عمرو، سهل بن بيضاء القرشي الفهري، سليط بن عمرو أخو سهيل بن عمرو العامري ذكره ابن عقبة فيهم، سليط بن قيس بن عمرو النجاري، سراقة بن كعب بن عمرو ابن عبد العزى النجاري، سراقة بن عمرو بن عطية النجاري، سبيع بن قيس الخزرجي، سواد بن زيد ويقال ابن زريق السلمي، سواد بن غزية البلوي أو النجاري، سويبط بن سعد بن حرملة العبدي القرشي، السائب بن مظعون أخو عثمان، السائب بن عثمان بن مظعون، سفيان بن بشر بن زيد.
ش- شريك بن عبد عمرو بن قيظي الأوسي، شماس بن عثمان المخزومي، شجاع ابن أبي وهب الأسدي.(1/250)
ص- صهيب بن سنان الرومي، صفوان بن بيضاء المخزومي واستشهد، صالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له شقران ذكره بعضهم.
ض- الضحاك بن حارثة السلمي، الضحاك بن عبد عمرو بن مسعود النجاري، ضمرة بن عمرو أخو بسبس.
ط- طلحة بن عبيد الله ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، والطفيل ابن مالك بن خنساء السلمي، والطفيل بن النعمان بن مالك بن خنساء. وليس في حرف الظاء أحد.
ع- عبد الله أبو بكر الصديق، عبد الله بن مسعود، عبد الله أبو سلمة ابن عبد الأسد المخزومي، عبد الله بن رواحة الخزرجي، عبد الله بن جحش الأسدي، عبد الله ابن ثعلبة بن خزمة البلوي حليف الخزرج، عبد الله ابن الجد بن قيس السلمي، عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي، عبد الله ابن ربيع بن قيس الخزرجي، عبد الله بن زيد بن ثعلبة الخزرجي، عبد الله ابن طارق البلوي، عبد الله ابن كعب بن عمرو النجاري، عبد الله بن مظعون الجمحي، عبد الله بن عبد الله ابن أبي الخزرجي، عبد الله بن عبد مناف ابن النعمان السلمي، عبد الله ابن عمرو بن حرام والد جابر السلمي، عبد الله بن عنبس ويقال عبيس الخزرجي، عبد الله بن عبس ولم ينسبوه وقالوا هو من حلفاء الخزرج، عبد الله بن قيس بن خلدة النجاري، عبد الله بن قيس ابن صخر السلمي، عبد الله بن سعيد ابن العاص بن أمية، عبد الله ابن سراقة بن المعتمر القرشي العدوي ذكره ابن إسحاق فيهم، عبد الله ابن سهيل بن عمرو العامري، عبد الله بن سلمة البلوي، عبد الله بن سهل الأشهلي، عبد الله بن مخرمة العامري القرشي، عبد الله بن حمير الأشجعي، عبد الله بن عرفطة، عبد الله بن عبيد، عبد الله ابن النعمان ابن بلدمة السلمي، عبد الله بن عمير الخزرجي، عبد الله بن عامر البلوى، عبد الرحمن بن عوف، عبد الرحمن بن كعب أبو ليلى الأنصاري، عبد الرحمن بن جبير بن عمرو الأوسي، عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة البلوي، عبد الرحمن بن سهل الأنصاري قال ابن عبد البر يقال إنه شهدها(1/251)
عبيد بن أوس بن مالك الأوسي يقال له مقرن، عبيد بن أبي عبيد الأوسي، عبيد بن زيد بن عامر بن العجلان، عبد بن قيس بن عامر الزرقي، عبيدة ابن الحارث بن المطلب واستشهد، عبد ياليل بن ثابت الليثي حليف بني عدي ابن كعب، عبد ربه بن حق الأوسي الخزرجي الساعدي، عبادة بن الصامت الخزرجي، عبادة بن قيس بن زيد الخزرجي، عباد بن بشر الأوسي، عباد ابن عبيد بن التيهان الأوسي، عباد بن قيس الزرقي، عباد بن قيس بن عبسة ابن أمية الخزرجي، عباد بن عبادة ابن الخشخاش البلوي، عمر بن الخطاب، عمار بن ياسر، عمير بن الحمام ابن الجموح السلمي واستشهد، عمير بن أبي وقاص أخو سعد واستشهد، عمير والأكثرون يقولون عمرو بن عوف مولى سهيل بن عمرو، عمير ابن عامر بن مالك بن الخنساء النجاري كنيته أبو داود، عمير بن معبد ابن الأزهر الأنصاري ذكره بعضهم، عمير بن حرام ابن عمرو بن الجموح السلمي، عمير بن الحارث ثعلبة بن الحارث السلمي، عمرو بن معاذ أخو سعد، عمرو بن أبي سرح القرشي الفهري، عمرو ابن غزية بن عمرو ابن ثعلبة النجاري، عمرو بن طلق بن زيد السلمي، عمرو ابن قيس ابن زيد النجاري ذكره بعضهم، عمرو بن ثعلبة بن وهب ابن عدي النجاري، عمرو بن الحارث الفهري ذكره ابن عقبة، عمرو بن إياس ابن زيد بن جشم حليف للأنصار، عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرىء القيس ذكره ابن عقبة فيهم، عمرو بن سراقة بن المعتمر القرشي العدوي، عمرو بن الحارث بن نصير بن أبي شداد الفهري ذكره بعضهم، عامر ابن عبد الله بن الجراح أبو عبيدة، عامر بن أبي وقاص أخو سعد، عامر بن البكير الليثي، عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي، عامر بن عبد عمرو أبو جنة الأوسي، عامر بن سلمة البلوي، عامر بن الحارث الفهري ويقال عمرو، عامر ابن ثابت بن أبي الأقلح أخو عاصم، عامر بن أمية بن زيد بن الخشخاش النجاري، عامر بن مخلد بن الحارث النجاري، عويمر بن أشقر بن عوف، عمارة بن حزم أخو عمرو بن حزم النجاري،عمارة بن أبي حسن النجاري، عثمان بن عفان ضرب له بسهمه وأجره، عثمان بن(1/252)
مظعون، علي بن أبي طالب، عقبة بن وهب ويقال أبي وهب الأسدي، عقبة بن وهب بن كلدة الغطفاني حليف الخزرج، عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام السلمي، عقبة بن عثمان بن خلدة بن مخلد الزرقي، عتبة بن غزوان المازني حليف بني نوفل، عتبة بن عبد الله بن صخر بن خنساء السلمي، عتبة بن ربيعة البهراني حليف للأنصار ذكره بعضهم فيمن شهدها، عياض بن زهير الفهري، عوف بن أثاثة المعروف بمسطح المطلبن، عوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء واستشهد، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأوسي، عاصم ويقال عامر بن العكبر حليف للأنصار ذكر ه ابن عقبة فيهم، عاصم بن قيس ابن ثابت بن النعمان الأوسي، عاصم بن عدي البلوي وقيل بل رده رسول الله وضرب له بسهمه وأجره، عصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان الخزرجي، عصمة الأشجعي حليف لهم ذكره ابن عقبة فيمن شهدها، عصيمة الأسدي حليف لبني النجار، عصيمة الأشجعي حليف لهم، عدي ابن الزغباء الجهني، عطية بن نويرة بن عامر الزرقي، عائذ بن ماعص بن قيس الزرقي، عبس بن عامر بن عدي السلمي، عكاشة بن محصن الأسدي، عوذ ابن عفراء، عتبان بن مالك الخزرجي ذكره أكثرهم، عتيك ويقال عبيد ابن التيهان الأوسي، عنترة مولي سليم بن عمرو وقيل هو من بني سليم ابن منصور، عاقل بن البكير الليثي واستشهد، عليفة بن عدي بن عمرو الزرقي كذا قال ابن هشام بالعين وقال ابن إسحاق خليفة بالخاء، عويم بن ساعدة الأوسي.
غ- غنام بن أوس الزرقي.
ف- فروة بن عمرو بن ودقة الزرقي، الفاكه بن بشر بن زيد بن خلدة الزرقي.
ق- قيس بن مخلد بن ثعلبة النجاري، قيس بن محصن بن خالد بن مخلد الزرقي، قيس ابن أبي صعصعة النجاري، قيس بن سكن بن قيس النجاري، قيس بن عمرو ابن قيس ذكره بعضهم، قتادة بن النعمان بن(1/253)
زيد الأوسي، قطبة بن عامر بن حديدة السلمي، قدامة بن مطعون الجمحي.
ك- كعب بن عمرو بن عباد أبو اليسر السلمي، كعب بن زيد النجاري، كعب ابن حمار وقيل جماز وهو أخو سعد الجهني، كثير بن عمرو من بني سليم حليف بني أسد ذكره ابن إسحاق وفي رواية زياد ممن شهدها، كناز ابن الحصين أبو مرثد الغنوي.
ل- لقيط بن عصر البلوي، لبدة بن قيس بن النعمان السلمي ذكره ابن الكلبي فيهم.
م- محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن مسلمة الأوسي، معاذ بن جبل الخزرجي، معاذ بن الحارث هو ابن عفراء، معاذ بن عمرو بن الجموح السلمي، معاذ بن ماعض الزرقي ذكره ابن الكلبي، محمود بن مسلمة أخو محمد ذكره ابن الكلبي فيهم، مالك بن التيهان أبو الهيثم البلوي حليف لبني عبد الأشهل وقيل إنه من أنفسهم، مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار القرشي، مالك بن قدامة بن عرفجة الأوسي، مالك بن رافع بن مالك ابن العجلان، مالك بن عمرو من بني سليم حليف لبني عبد شمس، مالك ابن أبي خولي حليف للأنصار، مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي، مالك ابن أمية بن عمرو من بني سليم حليف بني أسد، مالك بن الدخشم الأوسي، مالك بن بميلة وهي أمه وأبوه ثابت المزني حليف الأوس، مالك ابن مسعود الساعدي، معقل بن المنذر السلمي، مرثد بن أبي مرثد الغنوي، معمر ابن الحارث بن معمر الجمحي، محرز بن نضلة الأسدي، محرز بن عامر النجاري، معوذ بن الحارث وهو ابن عفراء، معوذ بن عمرو بن الجموح السلمي، معن بن عدي أخو عاصم البلوي، مسعود بن عبد سعد الأوسي، مسعود بن الربيع ويقال ابن ربيعة من بني الهون بن خزيمة، مسعود بن سعد ابن قيس بن خلدة الزرقي، مسعود بن خلدة الزرقي، مسعود بن أوس بن زيد النجاري، مسعود أبو محمود، معبد بن قيس بن صخر بن حرام السلمي، معبد بن عباد بن قشير أبو خميصة(1/254)
الخزرجي، معبد بن وهب العبدي، المنذر ابن عمرو بن خنيس الساعدي، المنذر بن محمد بن عقبة الأوسي، المنذر ابن قدامة الأوسي، المنذر بن عرفجة الأوسي، معتب بن حمراء الخزاعي ويقال البلوي. معتب بن بشير ويقال ابن قشير بن مليل الأوسي، مغيث بن عبيد البلوي، مرارة بن ربيع ويقال ابن الربيع الأوسي1، مصعب بن عمير، المقداد بن عمرو الكندي، مبشر بن عبد المنذر الأوسي واستشهد، المجذر ابن زياد البلوي، مليل بن وبرة خالد بن العجلان الخزرجي، مهجع بن صالح العكي مولى عمرو استشهد، مدلاج بن عمرو.
ن- نوفل بن ثعلبة بن عبد الخزرجي، النعمان بن عبد عمرو بن مسعود النجاري، النعمان بن عصر بن الربيع البلوي، نعيمان2 بن عمرو بن رفاعة النجاري، النعمان بن مالك بن ثعلبة الخزرجي، النعمان بن يسار مولى لبني سلمة، النعمان بن ثابت، النعمان بن أبي جذمة، نصر بن الحارث بن عبد الأوسي.
و- وهب بن سرح بن سعد بن ربيعة بن هلال الفهري، وهب بن محصن الأسدي، واقد بن عبد الله التميمي حليف بني عدي، ورقة بن إياس بن عمرو ابن غنم الخزرجي، وديعة بن عمرو الجهني حليف بني النجار.
هـ- هاني بن نيار أبو بردة البلوي، هلال بن المعلى بن لوذان الخزرجي، هلال ابن أبي خولي عمرو بن زهير الجعفي حليف الخطاب بن نفيل ذكره ابن عقبة وابن الكلبي، هبيل بن وبرة الأنصاري ذكر ابن المنذر عن عروة أنه شهدها.
ي- يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك الخزرجي واستشهد، يزيد بن المنذر ابن سرح بن خناس السلمي، يزيد بن رقيش بن رئاب بن يعمر الأسدي، يزيد
ـــــــ
1 كذا ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أن مرارة شهد بدرا، وصحح أبو بكر الأثرم وغيره أنه لم يشهدها وأن قول الزبيري في حديث كعب بن مالك في الصحيحين أنه شهدها غلط من الزبيري كما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله في غزوة تبوك. "عن هامش الأصل"
2 المزاح(1/255)
ابن عامر بن حديدة أبو المنذر السلمي ذكره موسى وغيره، يزيد بن ثابت ابن الضحاك أخو زيد ذكره بعضهم.
وممن يعرف بكنيته ولا يعرف اسمه: أبو كبشة مولى رسول الله، أبو حذيفة ابن عتبة أبو الحمراء مولى الحارث بن رفاعة.
أبو حريمة بن أوس، أبو سبرة، أبو مليل بن الأعز.(1/256)
ما قيل من الشعر في يوم بدر
وقال حمزة بن عبد المطلب في يوم بدر وبعضهم ينكرها لحمزة:
ألم تر أمرا كان من عجب الدهر ... وللحين أسباب مبينة الأمر
وما ذاك إلا أن قوما أفادهم ... فحانوا تواصوا بالعقوق وبالكفر
عشية راحوا نحو بدر بجمعهم ... فحانوا رهونا للركية من بدر
وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها ... فساروا إلينا فالتقينا على قدر
فلما التقينا لم تكن مثنوية ... لنا غير طعن بالمثقفة السمر
وضرب ببيض يختلي الرأس حدها ... مشهرة الألوان بينة الإثر
ونحن تركنا عتبة الغي ثاويا ...
وشيبة في قتلي تجرجم في الجفر(1/256)
وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم ... فشقت جيوب النائحات على عمرو
جيوب نساء من لؤي بن غالب ... كرام تفر عن الذوائب من فهر
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فجاس بهم إن الخبيث إلى غدر
وقال لهم إذ عاين الأمر واضحا ... برئت إليهم ما بي اليوم من صبر
فإني أرى ما لا ترون وإنني ... أخاف عقاب الله والله ذو قسر
فقدمهم للحين حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر
فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا ... ثلاث مئين كالمسدمة الزهر
وفينا جنود الله حين يمدنا ... بهم في مقام ثم مستوضح الذكر
فشد بهم جبريل تحت لوائنا ... لدى مأزق فيه مناياهم تجري
فأجابه الحارث بن هشام بن المغيرة فقال:
ألا يا لقوم للصبابة والهجر ...
وللحزن مني والحرارة في الصدر(1/257)
وللدمع من عيني جودا كأنه ... فريد هوى من سلك ناظمة يجري
على البطل الحلو الشمائل إذ ثوى ... رهين مقام للركية من بدر
فلا تبعدن يا عمرو من ذي قرابة ... ومن ذي ندام كان ذا خلق غمر
فإن يك قوم صادفوا منك دولة ... فلا بد للأيام من دول الدهر
فقد كنت في صرف الزمان الذي مضى ... تريهم هوانا منك ذا سبل وعر
فإلا أمت يا عمرو أتركك ثائرا ... ولا أبق بقيا في إخاء ولا صهر
وأقطع ظهرا من رجال بمعشر ... كرام عليهم مثل ما قطعوا ظهري
أغرهم ما جمعوا من وشيظة1 ... ونحن الصميم في القبائل من فهر
فيال لؤي ذنبوا عن حريمكم ... وآلهة لا تتركوها لذي فخر
توارثها آباؤكم وورثتم ... أواسيها والبيت ذا السقف والستر
فما الحليم قد أراد هلاككم ... فلا تعذروه آل غالب من عذر
ـــــــ
1 الوشيظة: الأتباع(1/258)
وجدوا لمن عاديتم وتوازروا ... وكونوا جميعا في التأسي وفي الصبر
لعلكم أن تثأروا بأخيكم ... ولا شيء إن لم تثأروا بذوي عمرو
بمطردات في الأكف كأنها ... وميض تطير الهام بينة الأثر
كأن مدب الذر فوق متونها ... إذا جردت يوما لأعدائها الخزر
قال ابن هشام: "أبدلنا فيها كلمتين مما روى ابن إسحاق وهما "الفخر" و"فما لحليم" لأنه نال فيها من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ضرار بن الخطاب الفهري:
عجبت لفخر الأوس والحين دائر ... عليهم غدا والدهر فيه بصائر
وفخر بني النجار إن كان معشر ... أصيبوا ببدر كلهم ثم صابر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا ... فإنا رجالا بعدهم سنغادر
وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم ... بني الأوس حتى يشفي النفس ثائر
ووسط بني النجار سوف نكرها ... لها بالقنا والدارعين زوافر
فنترك صرعى تعصب الطير حولهم ... وليس لهم إلا الأماني ناصر
وتبكيهم من أهل يثرب نسوة ...
لهن بها ليل عن النوم ساهر(1/259)
وذلك أنا لا تزال سيوفنا ... بهن دم ممن يحاربن مائر
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون في اللأواء والموت حاضر
يعد أبو بكر وحمزة فيهم ... ويدعى على وسط من أنت ذاكر
أولئك لا من نتجت في ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤي بن غالب ... إذا عدت الأنساب كعب وعامر
هم الطاعنون الخيل في كل معرك ... غداة الهياج الأطيبون الأكابر
فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة:
عجبت لأمر الله والله قادر ... على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا ... بغوا وسبيل البغي بالناس جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم ... من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا ... بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله ...
له معقل منهم عزيز وناصر(1/260)
وجمع بني النجار تحت لوائه ... يمشون في الماذي والنقع ثائر
فلما لقيناهم وكل مجاهد ... لأصحابه مستبسل النفس صابر
شهدنا بأن الله لا رب غيره ... وأن رسول الله بالحق ظاهر
وقد عريت بيض خفاف كأنها ... مقابيس يزهيها لعينك شاهر
بهن أبدنا جمعهم فتبددوا ... وكان يلاقي الحين من هو فاجر
فكب أبو جهل صريعا لوجهه ... وعتبة قد غادرنه وهو عاثر
وشيبة والتيمي غادرن في الوغى ... وما منهما إلا بذي العرش كافر
فأمسوا وقود النار في مستقرها ... وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم وهي قد شب حميها ... بزبر الحديد والحجارة ساجر
وكان رسول الله قد قال أقبلوا ... فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... وليس لأمر حمه الله زاجر
وقال عبد الله بن الزبعرى يبكي قتلى بدر، وتروى للأعشى بن زرارة التميمي:(1/261)
ماذا على بدر وماذا حوله ... من فتية بيض الوجوه كرام
تركوا نبيها بينهم ومنبها ... وابني ربيعة خير خصم فئام
والحارث الفياض وجهه ... كالبدر جلى ليلة الإظلام
والعاصي بن منبه ذا مرة ... رمحا تميما غير ذي أوصام
تنمى به أعراقه وجدوده ... ومآثر الأخوال والأعمام
وإذا بكى باك فأعول شجوه ... فعل الرئيس الماجد ابن هشام
حيا الإله أبا الوليد ورهطه ... رب الأنام وخصه بسلام
فأجابه حسان بن ثابت:
ابك بكت عيناك ثم تبادرت ... بدم تعل غروبها سجام
ماذا بكيت به الذين تتابعوا ... هلا ذكرت مكارم الأقوام
وذكرت منا ماجدا ذا همة ... سمح الخلائق صادق الإقدام
أعني النبي أخا المكارم والندى ... وأبر من يولي على الإقسام
فلمثله ولمثل ما يدعو له ...
كان الممدح ثم غير كهام(1/262)
وقال حسان أيضا:
تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تشفي الضجيع ببارد بسام
كالمسك تخلطه بماء سحابة ... أو عاتق كدم الذبيح مدام
نفج الحقيبة بوصها متنضد ... بلهاء غير وشيكة الأقسام
بنيت على قطن أجم كأنه ... فضلا إذا قعدت مداك رخام1
وتكاد تكسل أن تجيء فراشها ... في جسم خرعبة2 وحسن قوام
أما النهار فلا أفتر ذكرها ... والليل توزعني بها أحلامي
أقسمت أنساها وأترك ذكرها ... حنى تغيب في الضريح عظامي
بل من لعاذلة تلوم سفاهة ... ولقد عصيت على الهوى لوامي
بكرت علي بسحرة بعد الكرى ... وتقارب من حادث الأيام
زعمت بأن المرء يكرب عمره ... عدم لمعتكر من الإصرام
ـــــــ
1 القطن: الساق. المداك: الحجر الذي يسحق عليه الطيب.
2 الخرعبة: اللينة الناعمة.(1/263)
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
تذر العناجيج الجياد بقفرة ... مر الدموك بمحصد ورجام1
ملأت به الفرجين فارمدت به2 ... وثوى أحبته بشر مقام
وبنو أبيه ورهطه في معرك ... نصر الإله به ذوي الإسلام
طحنتهم والله ينفذ أمره ... حرب يشب سعيرها بضرام
لولا الإله وجريها لتركنه ... جزر السباع ودسنه بحوام
من بين مأسور يشد وثاقه ... صقر إذا لا قى الأسنة حام
ومجدل لا يستجيب لدعوة ... حتى تزول شوامخ الأعلام
بالعار والذل المبين إذا رأى ... بيض السيوف تسوق كل همام
بيدي أغر إذا انتمى لن يخزه ... نسب القصار سميدع مقدام
ـــــــ
1 العناجيج: الحسان. الدموك: البكرة فيها الحبل.
2 أرمدت: أسرعت(1/264)
بيض إذا لاقت حديدا صممت ... كالبرق تحت ظلال كل غمام
قال ابن هشام: فأجابه الحارث بن هشام فقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى حبوا مهري بأشقر مزبد
ووجدت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وعرفت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا ينكى عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وكان الأصمعي يقول: هذا أحسن ما قيل في الاعتذار. وقال خلف الأحمرك أحسن ما قيل في ذلك أبيات هبيرة بن أبي وهب المخزومي:
لعمرك ما وليت ظهري محمدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل
ولكنني قبلت أمري فلم أجد ... سيفي مساغا إن ضربت ولا نبلي
وقفت فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت بعود كالهزبر إلى الشبل
وغزا الحارث بن هشام أحدا مع المشركين، ثم أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم، وكان من المؤلفة قلوبهم.
وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب رمضان وأوائل شوال. وفي أول شوال صلى صلاة الفطر.(1/265)
غزوة بني سليم
وفي أوائل شوال، وقيل بعد بدر بسبعة أيام، وقيل في نصف المحرم سنة ثلاث، خرج عليه الصلاة والسلام يريد بني سليم، فبلغ ماء يقال له قرقرة الكدر، وهي أرض ملساء، والكدر طير في لونها كدرة، فأقام يها ثلاث ليال وقيل عشرا فلم يلق حربا، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري وقيل ابن أم مكتوم. وحمل اللواء علي بن أبي طالب، وقيل إنه أصاب لهم نعما يزيد على خمسمائة وغلاما يقال له يسار فأعتقه، ورجع ولم يلق كيدا. وكان بلغه أن بهذا الموضع جمعا من بني سليم وغطفان فسار إليهم فلم يجد في المحال أحدا.(1/266)
غزوة السويق
قال ابن إسحاق: ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق وكان نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه حنى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخاف، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية فحرقوا في أصوار من نخل بها، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين، وندر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدرة، ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وطرحوا كثيرا من أزوادهم يتخففون منها للنجاء، فأخذها المسلمون، قسميت غزوة السويق، فقال المسلمون: يا رسول الله أتطمع أن لنا غزوة1؟ قال: نعم.
ـــــــ
1 أي ثواب الجهاد(1/266)
وفي ذي الحجة من هذه السنة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد وأمر بالأضحية. وفيها مات عثمان بن مظعون. وفيها تزوج علي بفاطمة وبنى بها بعد تزوجها بسبعة أشهر ونصف، وتزجها وهي ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وسنه يومئذ نحو إحدى وعشرين وخمسة أشهر، ولم ينزوج عليها حتى ماتت.(1/267)
غزوة غطفان
وهي غزوة ذي أمر بفتح الهمزة والميم، وسماها الحاكم غزوة أنمار، وهي بناحية نجد. وكانت لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول على رأٍس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. وسببها أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربي، وسماه الخطييب غورث وغيره عورك، وكان شجاعا. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. فلما سمعوا بمهبطه هبطوا في رؤوس الجبال فأصابوا رجلا منهم يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وضمه إلى بلال، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم مطر، فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا واضطجع تحتها وهم ينظرون، فقالوا: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله. فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قومه فدعاهم إلى الإسلام، وأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية. ويقال كان ذلك في ذات الرقاع. ثم رجع صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا. وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.(1/267)
غزوة بحران
وتسمى غزوة بني سليم من ناحية الفرع بفتح الفاء والراء. وسببها أنه بلغه عليه الصلاة والسلام أن بها جمعا كثيرا من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة رجل(1/267)
غزوة بني قينقاع
بطن من يهود لهم شجاعة وصبر.
قال ابن سعد: وكان يوم السبت النصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وكانوا أول من نقض العهد. قال ابن إسحاق: وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: "يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم". قالوا: يا محمد إنك أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس. قال فحدثني مولى لآل زيد بن ثابت ابن سعيد بن جبير أو عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت هذه الآيات إلا فيهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(1/268)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} الآية.
وكان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودي، فراودها على كشف وجهها فأبت، عمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشقت سوأتها فصاحت، فضحكوا منها. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله. فشدت اليهود على المسلم فقتلوه. ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف أبا لبابة بن عبد المنذر فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وكان اللواء بيد حمزة ابن عبد المطلب، وكان أبيض. فقذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له أموالهم وأن لهم النساء والذرية. فأمر عليه السلام المنذر ابن قدامة بتكتيفهم، وكلم عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وألح عليه من أجلهم فقال: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم. وأمر أن يجلوا من المدينة وتركهم من القتل. وتولى ذلك عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذعات، فما كان أقل بقاءهم، وخمست أموالهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم "صفية" الخمس وفض بقية أخماسه على أصحابه، فكان أول ما خمس بعد بدر. ذكرذلك ابن سعد. قال في عيون الأثر: "كذا وقع في رواية "صفية الخمس" والمعروف أن الصفي غير الخمس. وعن الشعبي قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يدعى "الصفي" قبل الخمس. وعن عائشة قالت: كانت صفية من الصفي. فلا أدري أسقطت الواو1 أم كان هذا قبل حكم الصفي". انتهى والله أعلم.
وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم فقال: يا رسول الله أتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله أنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله
ـــــــ
1 فتكون الرواية "صفية والخمس"(1/269)
{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، وكانوا صاغة وتجارا، ولم يكن لهم أرضون.(1/270)
سرية كعب بن الأشرف
ذكر ابن سعد أنها كانت لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين من مهاجره عليه الصلاة والسلام.
قال ابن إسحاق: وكان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب القليب يوم بدر وقدم زيد بن حارثة بشيرا إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية يبشران بالفتح قال كعب –وكان رجلا من طيء ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير-: أحق هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هؤلاء الرجلان؟ فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. فلما أيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. وذكر ابن عائذ عن الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: ثم انبعث عدو الله يهجو رسول الله والمسلمين ويمدح عدوهم ويحرضهم عليه، فلم يرض بذلك حتى ركب إلى قريش فاستعواهم على رسول الله، فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي دينينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلا وأفضل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لنا بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك، ثم قدم أخبث ما كان. ينتظر قريشا تقدم عليه فيقاتلنا". ثم قرأ على المسلمين ما أنزل الله فيه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الآية.
وروى البخاري في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟" فقام محمد بن مسلمة فقال:(1/270)
يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئا. قال: "قل". فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا. قال: وأيضا لتملنه. قال: فإنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال: نعم، ارهنوني. فقالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة –قال سفيان يعني السلاح- فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ قال: إنما هو محمد ابن مسلمة، وأخي ورضيعي أبو نائلة. وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة. إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة برجلين. قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم. قال عمرو: جاء معه برجلين: وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبير والحارث بن أوس وعبادة بن بشر. قال عمرو: فقال إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه. وقال مرة: ثم أشمكم. فنزل إليه متوشحا وهو ينفح ريح الطيب فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي طيب. وقال غير عمرو: قال عندي أعطر نساء العرب، وأكمل العرب قال عمرو فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم. فشمه ثم أشم أصحابه ثم قال: أتأذن لي قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم. فقتلوه. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه. انتهى.
وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد كبروا. وقد قام عليه السلام تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم كبر وعرف أن قد قتلوه. فلما انتهوا إليه قال: "أفلحت الوجوه" قالوا: ووجهك يا رسول. ورموا برأسه بين يديه. فحمد الله على قتله، وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس فجرح ونزف الدم، فتفل عليه الصلاة والسلام على جرحه فلم يؤذه بعد. زاد ابن إسحاق في روايته: فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعد، والله فليس بها يهودي إلا وهو(1/271)
خائف على نفسه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه". فوثب محيصة ابن مسعود على ابن سبيته رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة، فلما قتله جعل حويصة يقول: أي عدو الله أقتلته؟ قال: أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة. قال: أوالله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم والله. قال: فوالله إن دينا بلغ بك هذا العجب. فأسلم حويصة.(1/272)
غزوة أحد
وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها، وسمي بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، ويقال له ذو عينين. قال في القاموس: بكسر العين وبفتحها مثنى، جبل بأحد، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه" ، وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال بالاتفاق يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل لسبع ليال خلون منه وقيل في نصفه، وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة.
وكان سببها كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة وابن سعد قالوا ومن قال معهم: إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة وقد أصيب أصحاب القليب. ورجع أبو سفيان بعيره. قال عبد الله ابن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل في جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه -يعنون عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك منه ثأرا. فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار، وفيهم كما قال ابن إسحاق وغيره أنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} .(1/272)
ولما اجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزل بهم بطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة، وكانوا قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء الأحابيش، وجاءوا معهم بنسائهم لئلا يفروا، وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة.فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله للمسلمين: "إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت في درع حصينة، فأولتها المدينة. فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا بشر مقام فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت". ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر فقالوا: يا رسول الله كنا نتمى هذا اليوم، اخرج إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم. فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم. ففرح الناس بذلك. ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا وحضر من أهل العوالي، ثم دخل عليه السلام بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر فعمماه وألبساه، وصف الناس ينظرون خروجه، فقال لهم سعد ابن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله على الخروج، فردوا الأمر إليه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته -وهي بالهمز وقد يترك تخفيفا الدرع- وتقلد السيف فندموا جميعا على ماصنعوا فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، فقال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي وصححه الحاكم نحو حديث ابن إسحاق.
وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية: لواء بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين بيدعلي بن أبي طالب وقيل بيد مصعب بن عميرن ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة. وفي المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه(1/273)
يعدوان دارعين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد ابن مسلمة، وأدلج عليه السلام في السحر وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم أسامة بن زيد وابن عمرو وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وعرابة بن أوس وعمرو بن حزم. انتهى. هكذا ذكر جماعة من أهل السير منهم ابن إسحاق أن البراء بن عازب ممن رده رسول الله في ذلك اليوم، وحديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم. انتهى. وأجاب من رآه مطيقا، وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، وكان المسلمون ألف رجل ويقال تسعمائة والمشركون ثلاثة آلاف لاجل فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس وثلاثة آلاف بعير، ونزل عليه السلام بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر فيمن تبعه من قومه وقال: يخالفني ويسمع من غيري، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر يوبخهم ويحرضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبهم. وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى، فسلك حرة بني حارثة وقال: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟ فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين وكان أعمى، فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول: لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: لا تقتلوه فهذا أعمى القلب والبصر. ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم" كذا في البخاري من حديث البراء. وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرفوا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا". وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو، وظاهر رسول(1/274)
الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وتعبت قريش فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
وقال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: وما حقه يارسول الله؟ قال: أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله. فأعطاه إياه. وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب. فلما رآه عليه السلام يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن".
فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، فقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وقاتل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله قتالا شديدا حتى قتل أرطاة ابن عبد شرحيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان بن حرب فلما علاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب الليثي فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة". فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي فقالت: خرج وهو جنب. فقال عليه السلام: لذلك غسلته الملائكة. وبذلك تمسك من قال من العلماء إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا اقتداء بالملائكة.
وكان أول من بدر من المشركين يومئذ أبو عامر الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله بالعداوة، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ووعدهم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه، وكان أول من لقي المسلمين يومئذ فنادى قومه وتعرف إليهم فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا. وكان شعار المسلمين: أمت أمت. وأبلى أبو دجانة وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والنضر بن أنس وسعد بن الربيع. وكانت الدولة أول النهار للمسلمين فمسوهم بالسيوف، فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتة انتهوا إلى نسائهم. وفي حديث البراء عند البخاري في الصحيح: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل يرفعن سوقهن قد بدت(1/275)
خلاخيلهن. قال البراء، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين. وفي حديث عائشة عند البخاري أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم، أي احترزوا من ورائكم. فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عبد الله أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله. وذكر غير البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يديه، فقال حذيفة: تصدقت بديته على المسلمين. فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبي صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. وفي رواية غيرهما: ونظرخالد بن الوليد ومن معه إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من النفر الرماة فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير. وعند ابن إسحاق عن الزبير أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه خلوا ظهورنا للخيل فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل! فانكفأنا وانكفأ القوم علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم، ولم يزل اللواء صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب غلام لبني أبي طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعذرت؟ يقول أعذرت. وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو. كان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدق بالحجارة حتى وقع لشقه وأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته السفلى، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص، وسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها(1/276)
فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذاه عبد الله بن قمئة وهو الذي شجه في وجهه. وفي الطبراني أنه هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته فقال: خذها وابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: "أقمأك الله"، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخذ شيئا فجعل ينشف دمه وقال: لو وقع شيء منه على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء. ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وقال نافع ابن جبير: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله ابن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع، فخرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك. وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشج في وجهه وجعل الدم يسيل على وجهه وجعل يمسح الدم ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآية. ورواه مسلم بنحوه. ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن حميد به. وفي الصحيحين عن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما بياض كأشد القتال، وما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية لهما: يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية لهما: رأيت عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله رجلين.. الحديث. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "هذا جبريل أخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب". وفي البخاري من حديث البراء: لم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة". فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا(1/277)
أصحابنا. يروى بفتح الفاء وبإسكانها. انتهى. ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع وهو لا يتحرك، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: " ارم فداك أبي" . أخرجاه في الصحيحين.وفي رواية عن سعد قال: سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال: "ارم فداك أبي وأمي" . وفيهما عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيها غير طلحة بن عبيد الله وسعد. وفي البخاري عن قيس قال: "رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد". وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد انصرف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه، فقلت كن طلحة فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة ابن الجراح، وإذا هو يشتد كالطير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم فقد أوجب" ، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته ورمي في جبهته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في جبهته، فذهبت لأنزعهما فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني. قال فأخذ بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم فندرت ثنية أبي عبيدة، ثم ذهبت آخذ الأخرى فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني. قال فأخذ بفيه فجعل ينضنضه ثم سله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم قد أوجب". قال فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابه بضع عشرة ضربة. وقيل نشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة ابن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثناياه من شدة غوصهما في وجهه. ورواه أبو داودا لطيالسي حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحي بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة. ثم أنشأ يحدث فذكر نحوه، وفيه: أنا أبا عبيدة استخرج الحلقتين، وكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما. وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، فقال صلى الله عليه وسلم: "مجه" ، فقال: والله لا أمجه أبدا. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". فقتل شهيدا.(1/278)
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة وهو يظنه رسول الله، فصاح ابن قمئة: إن محمدا قتل. وأعطى رسول الله اللواء بعده علي بن أبي طالب فقاتل قتالا شديدا. وصرخ الشيطان: إن محمدا قد قتل.فوقع في قلوب كثير من المسلمين. ومر أنس بن النضر بقوم قد ألقوا بأيديهم فقال: يا قوم ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله. فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد. ثم استقبل المشركين وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين. ثم قاتل حتى قتل فما عرفه إلا أخته ببنانه. ووجدوا به سبعين ضربة. أخرجه البخاري من حديث أنس. ووجدوا يومئذ بعبد الرحمن بن عوف نحو عشرين جراحة، بعضها في رجله فعرج منها إلى أن مات. ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. فنزلت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الآية. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، وكان أول من عرفه كعب ابن مالك الشاعر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله. فأشار إليه رسول الله أن اصمت. فلما عرفه المسلمون لاذوا به ونهضوا معه إلى الشعب، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.
قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف على جواد له زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله، فلما اقترب منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فلما أخذها منه انتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير، ثم استقبله عليه السلام فطعنه بها طعنة وقع بها عن فرسه ولم يخرج لها دم، فكسر ضلعا من أضلاعه. فلما رجع إلى قريش قال: قتلني والله محمد، أليس قد قال لي بمكة أنا أقتلك؟ فوالله لو بصق علي لقتلني. فمات عدو الله بسرف. رواه البيهقي وأبو نعيم، ولم يذكر فكسر ضلعا من أضلاعه. وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فاحتمله أصحابه وهو(1/279)
يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك، إنما هو خدش. فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتل أبيا. ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعا. فمات إلى النار. وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن ابن المسيب بنحوه.
قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب ملأ علي بن أبي طالب درقته من المهراس – قيل هو صخرة منقورة تسع كثيرا، وقيل هو اسم ماء بأحد- فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: "اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عثمان الجريري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه وقال: "اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا" ، فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار. وفي الصحيحين عن سهل أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله ومن كان يسكب الماء، كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فاستمسك الدم" .
قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا ينبغي لهم أن يعلونا" ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدن رسول الله وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني يحي بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول: "أوجب طلحة" حين صنع برسول الله ما صنع.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعودا. وانهزم قوم من المسلمين يومئذ فبلغ بعضهم إلى الحلوب دون الأعوص، منهم عثمان بن عفان وعثمان بن عقبة(1/280)
الأنصاري، فغفر ذلك لهم، ونزل القرآن بالعفو عنهم بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية. واشتغل المشركون ونساؤهم بقتلى المسلمين يمثلون بهم ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون. وبقرت هند بنت عتبة عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل.
وفي حديث البراء عند البخاري في صحيحه: فأصيب منا سبعون قتيلا، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: إن هؤلاء قد قتلوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله ما يخزيك. وفي رواية: إن الذين عددت لأحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوءك، فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبونه؟" قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا: " الله أعلى وأجل" . ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبونه؟" قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: "الله مولانا ولا مولى لكم" . انفرد به البخاري. وفي رواية الإمام أحمد عن ابن عباس قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. قال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وفي رواية عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أجابه في ذلك، وأنه قال: لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون. وفيه قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلت شيئا؟ قالوا: لا. قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار.
وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي والحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال: ما نصر الله النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد، فأنكرنا ذلك عليه، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول في يوم أحد {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} يقول ابن عباس: والحس(1/281)
القتل، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} الآية. وإنما عنى بهذا الرماة. ولقد كانت الدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار حتى سقط من أصحاب لواء قريش تسعة أو سبعة الحديث. وفيه أن عمر قال: يا رسول الله ألا أجيبه؟ قال: بلى. فلما قال: اعل هبل. قال عمر: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، وإن الحرب سجال، قال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا وخسرنا. انتهى. قال في الهدى: فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشركه تعظيما للتوحيد وإعلاما بعزة من عبده المسلمون وقوة جانبه وأنه لا يغلب، ونحن جنده وحزبه، ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد، أفيكم ابن أبي قحافة، أفيكم عمر؟ بل قد روى أنه نهاهم عن إجابته لأن كلمهم لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبت يا عدو الله. وكان في هذا الإعلام من الإدلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذيهم بقوة العزم وبسالتهم، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى لهم ما يسوؤهم منهم. وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزنه والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سألهم عنهم واحدا بعد واحد، وكان سؤاله عنهم ونعتهم لقومه آخر سهام العدو وكيده فصبر له النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده ثم انتدب له عمر فرد سهامه عليه، وكان ترك الجواب أولا عليه أحسن، وذكره ثانيا أحسن. وأيضا فإن في ترك إجابته حين سألهم عنهم إهانة له وتصغيرا لشأنه، فلما منته نفسه موتهم فظن أنهم قد قتلوا وحصل له بذلك الكبر والإعجاب ما حصل كان ذلك في جوابه إهانة له وتحقيرا وإذلالا، ولم يكن هذا مخالفا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه؟" فإنه إنما نهى عن إجابته أولا لما سأل: أفيكم محمد، أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته لما قال أما هؤلاء فقد قتلوا. وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولا ولا أحسن من إجابته ثانيا، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم.(1/282)
وأنزل الله عليهم النعاس في غزوة بدر وأحد، والنعاس في الحرب والخوف دليل على الأمن وهو من الله، وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان. ففي الصحيح عن قتادة عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. وفيه عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي مجوب له بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان بالقرب. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما تفرغانه على أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنه ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثا. انتهى.
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدرا العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال: "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم". قال علي: فخرجت في أثرهم أنظر ما يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، وفرغ الناس لقتلاهم وأخذوا ينقلون موتاهم بعد انصراف قريش، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفنوا في مضاجعهم، وأن لا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعينه على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أصح عيني قتادة وأحسنهما.(1/283)
ذكر شهداء أحد
وكان ممن استشهد من المسلمين يوم أحد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، قتله وحشي مولى نوفل، وأعتق لذلك، رماه بحربة فوقعت في ثنيته. ثم إن وحشيا أسلم، وقتل بالحربة بعينها مسيلمة الكذاب يوم اليمامة زمن أبي بكر الصديق. وفي حديث جعفر بن أمية الضمري في الصحيح عن وحشي قال: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن نوفل ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر. قال: فلما خرج الناس عام عينين –وعينين جبل بجبال أحد بينه وبينه واد- فلما أن خرج الناس خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع، فقال: هل من مبارز؟ قال فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع، يا ابن أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله؟ قال: ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب. فكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميت بحربتي فأضعتها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذلك آخر العهد به. فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام. ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا، وقيل إنه لا يهيج الرسل. قال فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله، فلما رآني قال: أنت وحشي؟ قلت: نعم. قال: "أنت قتلت حمزة؟" قلت: قد كان من الأمر ما بلغك. قال: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟" قال: فخرجت. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة. قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان. فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعتها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه. قال: ووثب عليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته. قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: قالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين! قتله العبد الأسود. ورواه ابن إسحاق في السيرة بإسناد الصحيح بأبسط منه. قال فلما خرج وفد الطائف [إلى رسول الله(1/284)
صلى الله عليه وسلم ] ليسلموا تعيت علي المذاهب فقلت ألحق بالشام أو اليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال [لي] رجل: ويحك، إنه [والله] ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وتشهد شهادة الحق. فلما قال [لي] ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: أوحشي؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ قال: فحدثته كما حدثتكما. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيب عني وجهك فلا أرينك. قال: فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يراني حتى قبضه الله. قال ابن هشام: فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. وروى الدار قطني بإسناد على شرط الشيخين عن سعيد بن المسيب قال: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو؟ حتى أنه مات غريقا في الخمر. وروى ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازنه وانتحب حتى نشج من البكاء... الحديث. قيل والنشج الشهيق حتى بلغ الغشي.
وروى البغوي في معجمه أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة. وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم. أخرجه أحمد وأبو داود. فيحمل أمر حمزة على التخصيص. ومن صلى عليه غيره على أنه جرح حال الحرب ولم يمت حتى انقضت الحرب.
ودفن حمزة هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد.
ومنهم مصعب بن عمير قتله ابن قمئة الليثي وشماس بن عثمان المخزومي.
ومن الأوس عمرو بن معاذ أخو سعد بن معاذ، والحارث بن أنيس، وعمارة بن زياد ابن السكن، وسلمة وعمرو ابنا ثابت بن وقش، وصيفي بن قيظي، وحباب ابن قيظي، وعباد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ ابن أخي سعد، واليمان(1/285)
والد حذيفة حليف لهم، وإياس بن أوس، وعبيدة بن عمرو، وعبيد بن التيهان، وحبيب بن زيد بن تيم، ويزيد بن حاطب، وأبو سفيان بن الحارث، وحنظلة الغسيل، وقيس بن يزيد، ومالك بن أمية، وأنيس بن قتادة، وأبو حبة بن عمرو أخو سعد بن خيثمة لأمه، وعبد الله بن جبير أمير الرماة، وأبو خيثمة والد سعد. ومن حلفائهم عبد الله بن سلمة، وسبيع بن حاطب، وعمير بن عدي. ومن الخزرج عمرو بن قيس، وابنه قيس، وثابت بن عمرو، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة ابن الحارث، وعمرو بن مطرف، وأوس بن ثابت أخو حسان، وأنس بن النضر، وقيس بن مخلد، وكيسان مولى لهم، وحارثة بن زيد، وسعد بن الربيع، وأوس ابن الأرقم، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سويد، وعتبة بن منيع، وثقف بن فردة، وعبد الله بن عمرو بن وهب، وذمرة حليف لهم، ونوفل ابن عبد الله، والعباس بن عبادة بن نضلة، والنعمان بن مالك، والمجذر بن زياد البلوي، وعبادة بن الخشخاش، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وعمرو بن الجموح دفنا في قبر واحد وكانا صديقين جدا، وابنه خلاد ابن عمرو، وأبو أيمن مولى عمرو بن الجموح، وسليم بن عمرو، ومولاه عزة، وسهل بن قيس بن أبي ابن كعب، وذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان، فجميعهم خمسة وستون رجلا. وممن ذكر أيضا في شهداء أحد من الأوس: مالك بن نميلة حليف لهم، والحارث بن عدي الخطمي. ومن الخزرج مالك بن إياس، وعمرو بن إياس فيكونون سبعين رجلا رضي الله عنهم. وقتل من الكفار اثنان وعشرون رجلا.(1/286)
غزوة حمراء الأسد
قال أهل المغازي وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة كما تقدم، فلما كان من الغد يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلب للعدو، وعهد رسول الله أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم أحد، فاستأذنه جابر بن عبد الله في أن يفسح له في الخروج معه ففسح له في ذلك، فخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح. وإنما خرج عليه(1/286)
السلام مرهبا للعدو ومتجلدا، فبلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة عيبة نصح1 لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يامحمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك. ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقافيتهم ثم ترجع قبل أن نستأصلهم؟ فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ماوراءك يامعبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ماصنعوا. قال: ويلك ماتقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. فساء ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون. قالوا: نريد المدينة للميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة وأحملكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان. فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وفي الصحيح عن ابن عباس قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا. وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". وفيه عن عائشة { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الأية. قال عروة قالت عائشة: يا ابن أختي كان منهم أبوك الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله ما أصاب فانصرف عنه المشركون وخاف أن يرجعوا فقال : من يذهب في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير. انتهى.
ـــــــ
1 عيبة نصح الرجل: مكمن سره.(1/287)
قالوا: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمسا وظفر عليه السلام بمخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة ابن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه فأمر بضرب عنقه صبرا.
قال الحافظ مغلطاي: وحرمت الخمر في شوال ويقال سنة أربع.(1/288)
بعث الرجيع
وحديث عضل والقارة. والرجيع بفتح الراء وكسر الجيم اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان كانت الوقعة بالقرب منه فسميت به. وعضل بفتح المعجمة بطن من بني الهون بن خزيمة بن مدركة، والقارة بالقاف وتخفيف الراء بطن من الهون أيضا. قال ابن دريد: القارة أكمة سوداء كأنهم نزلوا عندها فسموا بها. قالوا: وقدم على رسول الله في صفر في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة نفر من عضل والقارة، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم أن فيهم إسلاما، ورغبوا أن يبعث معهم نفر من المسلمين يفقهونهم في الدين، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة رجال من أصحابه: مرثد ابن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير اليثي، وعاصم بن ثابت من الأوس ، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة البياضي، وعبد الله بن طارق حليف لبني ظفر. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرثدا، حتى إذا صار بالرجيع غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمر عليهم عاصم ابن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقل لهم بنو لحيان فتتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة. فقالوا: هذا تمر يثرب.فتتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم. فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، واللهم أخبر عنا رسولك. فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا(1/288)
منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه. وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر ابن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعرته، قالت فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت أفعل ذلك إن شاء الله. وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خير من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف العنب وما بمكة يومئذ ثمره وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه الله. فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت. وكان أول من سن الركعتين عند القتل، وقال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا. ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام عقبة بن الحارث فقتله. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان قد قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء، وفي رواية في الصحيح: بعث رسول الله عشرة رهط سرية عينا، واستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، وما أصيبوا. انتهى.
ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة: فلما وضعوا في خبيب السلاح نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه.(1/289)
والدبر بفتح المهملة وسكون الموحدة: الزنابير، وهي ذكور النحل. وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا فكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته.(1/290)
سرية المنذر بن عمرو إلى بئر معونة
وهو موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان، في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد. وكان سببها كما قال ابن إسحاق وغيره أن أبا مالك المعروف بملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال عليه الصلاة والسلام، إني أخشى أهل نجد عليهم. قال أبو براء أنا لهم جار، فابعثهم، فبعث المنذر بن عمرو ومعه الفراء وهم سبعون وقيل أربعون وقيل ثلاثون، وفي رواية قتادة في الصحيح عن أنس أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، وفي رواية ثابت عنه يشترون به الطعام لأهل الصفة ويتدارسون القرآن بالليل، فساروا حتى إذا نزلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، وفي رواية أنس في الصحيح: فلما أنفذه الرمح قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة. انتهى. ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجيبوه وقالوا نحن لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ قبائل من سليم ورعلا وذكوان وعصية فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا. وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبرهم أنه مضر أخذه عامر بن الطفيل وأعتقه عن رقبة زعموا أنها كانت على أمه. وفي الصحيح عن أبي أسامة عن هشام بن عروة فأخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر(1/290)
معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة. قال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم قالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا. فأخبرهم عنهم. وفي الصحيحين عن أنس: " دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم ثلاثين صباحا، يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية عصوا الله ورسوله". قال أنس: فأنزل الله في الذين قتلوا قرآنا قرأناه ثم نسخ بعد، أي نسخت تلاوته" بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنه ورضينا عنه" وروى ابن سعد عن أنس: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة.
وذكر الواقدي أن خبر أصحاب الرجيع وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة، ويدل على قربها منها ما في حديث أنس من تشريك النبي صلى الله عليه وسلم بين بني لحيان وعصية وغيرهم في الدعاء.(1/291)
غزوة بني النضير
قال ابن إسحاق وغيره: وكانت في سنة أربع، وفي البخاري عن عروة قال: كانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وكان سببها كما قال ابن إسحاق وغيره أن عمرو بن أمية الضمري لما أعتقه عامر بن الطفيل كما تقدم خرج عمرو إلى المدينة، فصادف في طريقه رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر فتركهما حتى ناما فقتلهما وظن أنه قد ظفر ببعض ثأر أصحابه، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية ذينك القتلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية للجوار الذي كان عقده لهما، فلما أتاهم عليه السلام يستعينهم قالوا: يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار(1/291)
من بيوتهم. فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت قيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو ابن جحاش فقال: أنا لذلك. قال ابن سعد فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام مظهرا أنه يقضي حاجة وترك أصحابه في مجلسهم ورجع مسرعا إلى المدينة. واستبطأ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقاموا إليه حتى انتهوا إليه فأخبر بما أراد يهود. قال ابن عقبة: وأنزل الله في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } الآية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم، فتحصنوا منه في الحصون، فقطع النخل وحرقها وخرب، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها. قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل الله {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الآية.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله ابن أبي ابن سلول بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا. فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم ينصروهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن أرضهم ويكف عن دمائهم.
وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة،ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث:(1/292)
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه ... ونعلم أي أرضنا تضير
وفي رواية فأنزل الله {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الآية. وفي رواية ابن سعد: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة"، فنزلوا على ذلك، وكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، ثم أجلاهم عن المدينة وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير. قال الحافظ أبو محمد بن حزم وأبو عبد الرحمن رحمهما الله. وحينئذ نزل تحريم الخمر، فاحتملوا بأهليهم إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام. وكان ممن صار إلى خيبر أكابرهم كحيي بن ابن أخطب وسلام بن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين خاصة، إلا أنه عليه السلام أعطى أبا دجانة وسهيل بن حنيف وكانا فقيرين. وفي قصة بني النضير نزلت سورة الحشر، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمرو وأبو أسيد بن وهب أسلما فأحرزا أموالهما. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال ولم يقسم منها لأحد، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قذف الله في قلوبهم الرعب، فقسمها بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار إذ كانوا قد قاسموهم الأموال والديار، وكانت بنو النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء كما في الصحيحين من حديث عمر في قصة اختصام علي وعباس عند عمر فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير، وفيه أن عمر قال: إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحد غيره فقال {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الآية فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري: وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.(1/293)
غزوة ذات الرقاع
واختلف فيها متى كانت؟ فذكر ابن إسحاق أنها بعد بني النضير سنة أربع في شهر ربيع، وعند ابن سعد وابن حبان في المحرم سنة خمس، قال في قتح الباري: قد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر فلا أدري هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من اختلاف الروايات عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار به البيهقي. على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها، قال: والذي ينبغي الجزم به أنها كانت بعد غزوة بني قريظة، لأن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، فدل على تأخرها بعد الخندق.
وسميت ذات "الرقاع" لما روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول اله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه. فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا، فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك قال: ما كنت أصنع بأن أذكره؟ كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه.
وكان من خبر هذه الغزوة كما قاله ابن إسحاق وغيره أنه صلى الله عليه وسلم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بالمثلثة من غطفان، لأنه بلغه أنهم جمعوا الجموع، فخرج في أربعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل عثمان ابن عفان حتى نزل نخلا بالخاء المعجمة، موضع من نجد من أرض غطفان. قال ابن سعد: قلم يجد في محالهم إلا نسوة فأخذهن. وقال ابن إسحاق: فلقي جمعا فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف. قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها.(1/294)
وفي البخاري عن جابر: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم. فنزل رسول الله وتفرق الناس في العضاه1 يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله تحت شجرة فعلق سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين فاخترط سيف رسول الله فقال: أتخافني؟ قال: "لا". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله". قال جابر: فإذا رسول الله يدعونا، فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا2، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس". ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم." وفي رواية: " وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان" . وفي رواية أبي عوانة: "فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني؟" ق ال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قال الأعرابي: أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال فخلى سبيله، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس". وفي هذه القصة فرط شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه على الجهال. وفيها حفظ الله له، وإلا فما الذي أحوج الأعرابي إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله.
وفي انصرافه صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه عليه الصلاة والسلام فانطلق متقدما بين يدي الركاب، ثم قال: "أتبيعنيه؟" فابتاعه منه وقال: "لك ظهره إلى المدينة" فلما وصلها أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل.
ـــــــ
1 العضاه: شجر عظيم له شوك
2 صلتا: مجردا من غمده بمعنى مصلت(1/295)
غزوة بدر الأخيرة
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان، وهو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل. فقال عليه السلام لرجل من أصحابه: قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد. فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس، واستعمل على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان، وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران، ثم بدا له الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.وأقام عليه السلام ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا الدرهم درهمين وأنزل الله في ذلك {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية. والصحيح أن هذه الآية نزلت في شأن حمراء الأسد كما نص عليه العماد بن كثير رحمه الله.(1/296)
غزوة دومة الجندل
وهي مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة أو ست عشرة.
وكان سببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم، فخرج لخمس ليال بقين من ربيع في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة. فلما دنا منهم لم يجد إلا الغنم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل عليه السلام بساحتهم فلم يلق بها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا وفرقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحدا.(1/296)
غزوة المريسيع
بضم الراء وسكون التحتانية بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة. وهو ماء لبني خزاعة، وبينه وبين الفرع يومان، وتسمى "غزوة بني المصطلق" بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء المهملة وكسر اللام بعدها قاف، بطن من خزاعة، وكانت لليتين خلتا من شعبان سنة خمس.
وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه وظعنوا للمسير معه إليه، وخرج عليه السلام في بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قط مثلها، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. وخرجت عائشة وأم سلمة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء" . قيل وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم. وفي الصحيحين من حديث عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فذكرت حديث التيمم.
قال ابن عبد البر في التمهيد: يقال إنه كان في غزوة بني المصطلق. وجزم بذلك في الاستذكار، وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبانز وفي البخاري: وقال النعمان بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع.
قال أبو محمد بن حزم: وكانت غزوة المريسيع في شعبان من السنة السادسة، وأغار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم غارون كما تقدم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم وسبي النساء والذرية. ومن السبي كانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وأعتقها فتزوجها، وكانت امرأة حلوة من رآها أحبها، فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق وقالوا أصهار رسول الله.
وفي رجوع رسول الله من هذه الغزوة قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وذلك لشر وقع بين جهجاه بن مسعود(1/297)
الغفاري أجير عمر بن الخطاب وبين سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى الغفاري: يا للمهاجرين، ونادى الجهني: يا للأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟" وبلغ زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة عبد الله ابن أبي فنزل في ذلك من عند الله سورة المنافقين، وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه، وأتى رسول الله فقال له: يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل، والله لئن شئت لنخرجنه يا رسول الله، ووقف لأبيه قرب المدينة فقال: لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله في الدخول. وقال أيضا: بلغني أنك تريد قتل أبي وأني أخشى إن أمرت بذلك غيري ألا تدعني نفسي أرى قاتل عبد الله يمشي على الأرض فأقتله وأدخل النار إذا قتلت مؤمنا بكافر، وقد علمت الأنصار أني من أبرها لأبيه، ولكن يا رسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأخبره أنه لا يسيء إلى أبيه.
فصل
وفي مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا عنه في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة أم المؤمنين حين قال لها أهل الإفك ما قالوا: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى من بعض قالوا: قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرجت معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه.(1/298)
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ودنونا من المدينة قافلين أذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار1 قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وأهوى حتى أناخ راحلته فوطئ يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول. قالت: فهلك من هلك. وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله ابن أبي بن سلول". قال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث عنه، فيقره ويستوشيه. وقال عروة أيضا: لم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح ابن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله. وكانت عائشة تكره أن يسب حسان وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
ـــــــ
1 الجزع: الخرز. وظفار: مدينة باليمن.(1/299)
قالت عائشة: "فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك يريبني ولا أشعر بالشر. حتى خرجت حين نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصح وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا. قالت: وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح -وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد ابن المطلب- فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه، أولم تسمعي ما قال؟ قالت قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. قالت: فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه مذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها. قالت فقلت: أوقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي. قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حيث استلبت الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: أهلك، ولا تعلم إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.(1/300)
وفي رواية أسامة عند البخاري: " فانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله حتى أسقطوا لها به. فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. وبلغ الأمر إلى ذلك الرجل الذي قيل له، فقال: سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط. قالت عائشة: فقتل بعد ذلك شهيدا في سبيل الله" .
وفي رواية ابن إسحاق: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا يقول: اصدقي رسول الله. وفي رواية ابن حاطب عن علقمة فقالت الجارية الحبشية: والله لعائشة أطيب من الذهب، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله. قال فعجب الناس من فقهها. وزاد عطاء الخراساني عن الزهري: وكانت أم أيوب الأنصارية قالت لأبي أيوب: أما سمعت ما يتحدث الناس؟ فحدثته بقول أهل الإفك، فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وعند ابن إسحاق: أن امرأة أبي أيوب قالت: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى. وذلك والله الكذب. أكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ قالت: لا والله ما كنت فاعلة، قال: فعائشة خير منك. قالت: فلما نزل القرآن قال الله {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أي فقالوا كما قال أبو أيوب.وعند الطبراني بسند صحيح عن عائشة: "لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليبا فأطرح نفسي فيه". وفي رواية ابن إسحاق عنها: فوالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر تلك الأيام والليالي من الهم والغيظ. قال الحافظ ابن حجر: وفي بعض طرق الحديث أن أبا بكر قال: والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية، فكيف أن أعزنا الله بالإسلام؟.
قال البخاري في حديثه قالت عائشة: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر عبد الله بن أبي وهو على المنبر فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت:(1/301)
فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر. قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
وفي رواية أبي أسامة عند البخاري: حتى كاد يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد، وما علمت. فلما كان مساء ذلك اليوم خرجت لبعض حاجتي مع أم مسطح.. فذكر نحو ما تقدم، قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي. قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فيما قال. فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله فيما قال. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت: وأنا امرأة حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا، إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترف لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني. فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن(1/302)
الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان1 من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه. زاد ابن جريج في روايته: قال أبو بكر: فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن ينزل عليه من السماء ما لا مرد له، وأنظر إلى وجه عائشة فإذا هو مفيق فيطمعني ذلك فيها .
وفي رواية ابن إسحاق: فأما أنا فما فزعت، قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فما سري عن رسول الله حتى ظننت أن تخرج أنفسمها فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما يقول الناس. قال فسري عن رسول الله وهو يضحك، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "يا عائشة احمدي الله فقد برأك" . وفي رواية للبخاري: "أما الله عز وجل فقد برأك" . وفي رواية له " أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك" .
قالت: وكنت أشد ما كنت غضبا، فقال لي أبواي قومي إليه، فقلت لا والله ما أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي. لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه. قالت: وأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر الآيات. فلما أنزل الله هذا من براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله ما أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. قال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عنه فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا. قالت
ـــــــ
1 الجمان: حب من فضة يصنع في مثل الدر.(1/303)
وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة محاربة لها فهلكت فيمن هلك.وفي رواية ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك. ثم أمر بمسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم .
وروى الطبراني من طريق أبي حصين عن مجاهد قالت عائشة: لما نزل عذرها قبل أبو بكر رأسها فقلت: ألا عذرتني؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم؟ وعند أصحاب السنن من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حد القذف على الذين تكلموا بالإفك، لكن لم يذكر فيهم عبد الله بن أبي.
وروى ابن جرير عن عائشة أنها قالت: ما سمعت شيئا أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان يعني ابن الحارث ابن عبد المطلب:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
فقيل: يا أم المؤمنين هذا1 قالت: أليس قد أصابه عظيم، أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف حين الضربة التي ضربها إياه صفوان بن المعطل السلمي حين بلغه أنه يتكلم في ذاك.فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله.
ـــــــ
1 بياض بالأصل(1/304)
قال ابن إسحاق: وقال حسان يعتذر إلى عائشة ويمدحها:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلى أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ...
ولكنه قول امرئ بي ماحل(1/305)
فصل في فوائد وشرح ألفاظ تتعلق بحديث الإفك
قال النووي رحمه الله: الإفك بكسر الهمزة وإسكان الفاء. هذا هو المشهور، وحكى القاضي فتحها قال: وهما لغتان كنجس ونجس وهما لغتان وهو الكذب. وقوله "آذن" روي المد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها أي أعلم. قولها "عقد من جزع ظفار"، أما العقد فمعروف نحو القلادة، والجزع بفتح الجيم وإسكان الزاي وهو خرز يماني، ظفار بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء وهي قرية باليمن. قولها: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ضبطوه على أوجه أشهرها ضم الياء وفتح الهاء وتشديد الباء أي يثقلن باللحم والشحم، والثاني(1/305)
يهبلن بفتح الياء والباء بينهما هاء ساكنة، قال أهل اللغة: يقال هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثبر لحمه وشحمه،وفي رواية للبخاري لم يثقلن، وهو بمعناه. والعلقة من الطعام أي القليل. قولها فتيممت منزلي أي قدمته. قوله من وراء الجيش قال ابن حجر وقع في حديث ابن عمر بيان تأخر صفوان ولفظه كان صفوان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله على الساقة، وكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم فمن سقط له شيء أتاه به، ثم ذكر عن أبي هريرة نحوه، ويحتمل أن يكون سبب تأخره ما جرت عادته من غلبة النوم عليه. قولها فاستيقظت باسترجاعه أي انتبهت من نومي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. قولها فخمرت وجهي أي غطيته. قولها موغرين في نحر الظهيرة، الموغر بفتح الغين المعجمة النازل في وقت الوغرة بفتح الواو وإسكان الغين وهي شدة الحر قاله النووي، ونحر الظهيرة وقت القائلة، ونحر كل شيء أوله. وكبره أي معظمه، وهي بكسر الكاف على القراءة المشهورة. قولها يريبني بفتح أوله وضمه يقال رابه وأرابه إذا أوهمه وشككه. واللطف بضم اللام وإسكان الطاء ويقال بفتحهما لغتان وهو البر والرفق. قولها ثم يقول كيف تيكم هي إشارة إلى المؤنثة كذلك في المذكر. ونقهت بفتح القاف وكسرها لغتان حكاهما الجوهري، والفتح أشهر، والناقه هو الذي أفاق من المرض وبرئ منه وهو قريب عهد به لم يتراجع إليه كمال صحته. قولها تعس مسطح بفتح العين وكسرها لغتان ومعناه عثر وقيل هلك وقيل لزمه الشر وقيل بعد وقيل سقط لوجهه خاصة. والمرط بكسر الميم كساء من صوف وقد يكون من غيره، قولها أي هنتاه أي حرف نداء للبعيد، وقد يستعمل للقريب حيث ينزل منزلة البعيد، وهنتاه بفتح الهاء وسكون النون وبعدها مثناة وآخرها هاء ساكنة وقد تضم ومعناها يا هذه، وقيل يا امرأة، وقيل يا بلهاء كأنها نسبت عائشة إلى الغفلة عن معرفة مكايد الناس وشرورهم. والوضيئة مهموزة ممدودة هي الجميلة الحسنة، والوضاءة الحسن. لا يرقأ لي دمع هو بالهمزة، أي لا ينقطع، ولا أكتحل بنوم أي لا أنام.(1/306)
قولها: وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك إلخ أشار عليه تلويحا لا تصريحا لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها وأن لا يلتفت إلى كلام الأعداء، فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه بكلام الناس، لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر فأراد راحة خاطره، وأسامة لما رأى حب رسول الله لها ولأبيها وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ما هو فوق ذلك وأعظم منه، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته من النساء وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها أرباب الإفك، وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة، فمن قويت معرفته بالله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة لما سمعوه: سبحانك هذا بهتان عظيم. وتأمل في تسبيحهم لله وتنزيههم له في هذا المقام من المعرفة به، وتنزيهه عما لا يليق أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا، فمن ظن به سبحانه هذا وقاه الله ظن السوء، وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} ، فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة.
فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار، وهو أعرف بالله ومنزلته عنده وبما يليق به؟ وهلا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم كما قال فضلاء الصحابة؟ فالجواب أن هذا من تمام الحكمة الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها وامتحانا وابتلاء لرسوله ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بها القصة أقواما ويضع بها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا, واقتضى تمام الابتلاء والامتحان أن حبس عن رسوله الوحي شهرا في شأنها لتتم حكمته التي قدرها وقضاها، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده. ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا.وتظهر لرسوله والمؤمنين(1/307)
سرائرهم، ولتتم العبودية من الصديقة وأبويها وتتم نعمة الله عليهم، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النصر والفرج إلا من الله.
قولها: أغمصه بفتح الهمزة وكسر الميم وبالصاد المهملة أي أعيبها به، والداجن الشاة التي تألف البيوت ولا تخرج للمرعى. قولها فاستعذر من عبد الله بن أبي أي طلب من يعذره أي ينصفه، وقيل معناه: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء فعاله، وقيل معنى من يعذرني: من ينصرني، والعذير الناصر، ويؤيده قول سعد أنا أعذرك منه، وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند البخاري ومسلم أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي هو بفتح الباء الموحدة الخفيفة والنون المضمومة، وقد حكى عياض أن في رواية الأصيلي بتشديد الموحدة وهي لغة، ومعناه عابوا أهلي واتهموا، وهو المعتمد لأن الأبن بفتحتين التهمة، ومنه الحديث الذي في الشمائل في مجلسه صلى الله عليه وسلم لا تؤبن فيه الحرم، وحكى عياض أن في رواية عبدوس بتقديم النون الثقيلة الموحدة قال: وهو تصحيف، لأن التأنيب هو اللوم الشديد ولا معنى له ههنا. والبرحاء هي بضم الموحدة وفتح الراء والحاء المهملة والمد وهي الشدة. قولها حتى ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، معنى ليتحدر: ليتصبب، وجمان بضم الجيم وتخفيف الميم هو اللؤلؤ، وقيل حب يعمل من الفضة كاللؤلؤ. وسري عن رسول الله أي كشف وأزيل. قوله كنف بفتح الكاف والنون أي ثوبها الذي يسترها وهو كناية عن عدم جماع النساء جميعهن ومخالطتهن. قولها هي التي كانت تساميني أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مفاعلة من السمو وهو الارتفاع. قولها أحمى سمعي أي أحفظه فلا أقول سمعت فيما لم أسمع. قوله وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه، أي يستخرجه بالبحث والمسألة، ثم يفشيه ويشيعه ويحركه ولا يدعه يخمد. والله أعلم.(1/308)
فوائد وشرح ألفاظ تتعلق به
وفي الحديث من الفوائد جواز رواية الحديث الواحد عن كل واحد قطعة مبهمة. الثانية صحة القرعة بين النساء وفي العتق وغيره. قال أبو عبيد: عمل بها ثلاثة من الأنبياء يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع قال: ولا معنى لقول من يردها. الثالثة وجوب الإقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضها. الرابعة أنه لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات، وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا، وحكم القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح.
الخامسة جواز سفر الرجل بزوجته. السادسة جواز غزوهن وركوبهن في الهوادج. السابعة: جواز خدمة الرجال لهن في ذلك في الأسفار. الثامنة أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير. التاسعة: جواز خروج المرأة لحاجة بغير إذن الزوج، وهذا من الأمور المستثناة.
العاشر : جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر. الحادية عشرة: أن من يركب البعير لا يكلمها إذا لم يكن محرما إلا لحاجة، لأنهم حملوا الهودج ولم يكلموها. الثانية عشرة: فضيلة الاقتصاد في الأكل للنساء وغيرهن وألا يكثرن منه؛ لأن هذا كان حالهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان في زمنه فهو الكامل الفاضل. الثالثة عشرة: جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له في الجيش إذا لم تكن ضرورة إلى الاجتماع. الرابعة عشرة: إغاثة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي الأقدار كما فعل صفوان.
الخامسة عشرة : استحباب الاسترجاع عند المصائب، سواء كانت في الدنيا أو في الدين، وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه. السادسة عشرة: تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره. السابعة عشرة: جواز الحلف من غير استحلاف إذا كان فيه فائدة. الثامنة عشرة: أنه يستحب أن يستر الإنسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا على عائشة(1/309)
هذا الأمر شهرا. التاسعة عشرة: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في ملاطفته أزواجه ومعاشرته لهن بالمعروف.
العشرون : استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة تأسيا به صلى الله عليه وسلم. الحادية والعشرون: أنه إذا عرض عارض بأن سمع عنها شيئا ونحو ذلك يقلل من التلطف ونحوه لتفطن هي أن ذلك لعارض، فتسأل عن سببه فتزيله. الثانية والعشرون: استحباب السؤال عن المريض عند عيادته. الثالثة والعشرون: أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن تكون معها رفيقة لها لتأنس بها ولا يعرض لها أحد. الرابعة والعشرون: كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا آذى أهل الفضل أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه.
الخامسة والعشرون: فضيلة أهل بدر والذب عنهم، كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح. السادسة والعشرون: لا تذهب لبيت أبويها إلا بإذن زوجها. السابعة والعشرون: جواز التعجب بلفظ التسبيح وقد تكرر في هذا الحديث وغيره. الثامنة والعشرون: استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه في ما ينوبه من الأمور. التاسعة والعشرون: جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة لمن له بها تعلق، وأما غيره فهو منهي عنه، وهو تجسس وفضول.
الثلاثون : خطبة الإمام الناس عند نزول أمر مهم. الحادية والثلاثون: اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين ممن يعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره، واعتذاره فيما يريد أن يؤدب به. الثانية والثلاثون: فضائل صفوان بن المعطل بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بما شهد وبأفعاله الجميلة في ركاب عائشة وحسن أدبه في جملة القصة. الثالثة والثلاثون: فضيلة سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. الرابعة والثلاثون: المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب.
الخامسة والثلاثون : قبول التوبة والحث عليها. السادسة والثلاثون: تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف. السابعة والثلاثون: جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز ولا خلاف أنه جائز، قلت بل يستحب. الثامنة(1/310)
والثلاثون: التأسي بالأنبياء والصالحين في البلايا والمصائب وغير ذلك. التاسعة والثلاثون: استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه بلية ظاهرة.
الأربعون : براءة عائشة من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله كان كافرا مرتدا بإجماع المسلمين. قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا إكرام من الله لهم. الحادية والأربعون: تجديد شكر الله عند تجدد النعم. الثانية والأربعون: فضائل أبي بكر في قوله {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. الثالثة والأربعون: استحباب صلة الأرحام وإن كانوا مسيئين. الرابعة والأربعون: استحباب العفو والصفح عن المسيء.
الخامسة والأربعون : استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات. السادسة والأربعون: أن ذلك سبب لمغفرة الله. السابعة والأربعون: أنه يستحب لمن حلف على يمين ورأى خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه كما فعل أبو بكر. الثامنة والأربعون: أن ابن بنت الخالة من ذوي القربى الذين تستحب صلتهم. التاسعة والأربعون: فضيلة زينب أم المؤمنين وورعها.
الخمسون : التثبت في الشهادة. الحادية والخمسون: إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمه أو أطاعه كما فعلت عائشة بمراعاة حسان وإكرامه إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم. الثانية والخمسون: الخطبة تبدأ بحمد الله والثناء والصلاة عليه بما هو أهله. الثالثة والخمسون: أنه يستحب في الخطب بعد حمد الله والثناء والصلاة على النبي والشهادتين أما بعد. الرابعة والخمسون: غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم بدفع ذلك.
الخامسة والخمسون : جواز سب المتعصب للمبطل، كما سب أسيد ابن حضير سعد بن عبادة لتعصبه لمنافق وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين، وأراد إنك تفعل فعل المنافقين. والله أعلم. السادسة والخمسون: أن تعديل النساء بعضهن بعضا مقبول، لأنه عليه الصلاة والسلام سأل الجارية وزينب. السابعة والخمسون: أن الاعتراف بما فشا من الباطل لا يحل. الثامنة والخمسون: أن(1/311)
عاقبة الصبر الجميل فيه الغبطة والعزة في الدارين. التاسعة والخمسون: أن الله قد يبتلي عبده المؤمن بأكره المكروهات عنده وهو خير له لا شر له، كما قال تعالى {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية.
الستون : أن الإنسان قد يفرح بما فيه هلاكه وخزيه في الدنيا والآخرة. الحادية والستون: أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل. الثانية والستون: أن الوحي ما كان يأتيه صلى الله عليه وسلم متى أراد لبقائه شهرا لا يوحى إليه. الثالثة والستون: أنه لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله. الرابعة والستون: وجوب حد القذف على من أفصح بالفاحشة. الخامسة والستون: ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة كما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم حد ابن أبي بن سلول. انتهى ملخصا من شرح النووي لمسلم وغيره. والله أعلم.
فصل
وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد، منهم محمد بن حبيب الأخباري: فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق، واختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا. ومما يدل على تأخر قصة نزول آية التيمم عن قصة الإفك ما روى الطبراني عن عائشة: لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي، وحبس الناس على التماسه، فقال أبو بكر: يا بنية في كل سفرة عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة في التيمم، وفي إسناده من فيه مقال.
وفي البخاري: قال موسى بن عقبة: كانت غزوة المريسيع سنة أربع، وجزم ابن إسحاق وتبعه ابن حزم أنها كانت في شعبان سنة ست، وأن قوله في حديث عائشة فقام سعد بن معاذ وهم، وأن المقاولة كانت بين سعد بن عبادة وأسيد ابن حضير، قال: وهذا هو الصحيح، والوهم لا يسلم منه أحد من بني آدم. قلت: وعلى قول موسى بن عقبة إنها سنة أربع يزول الإشكال جملة. والله أعلم.(1/312)
غزوة الخندق وهي الأحزاب
واختلفوا في تاريخها، فقال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع.
وقال ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي سنة خمس. ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بحديث ابن عمر، قال أبو محمد بن حزم: والصحيح الثابت أنه في الرابعة بلا شك لحديث ابن عمر: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، فصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير عن عروة بن الزبير ومن لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك ومحمد بن كعب القرظي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا كل قد اجتمع حديثه في هذا الحديث عن الخندق وبعضهم يحدث بما لا يحدث بعض، قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن مشكم بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب وهوذة بن قيس في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وإنكم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى قوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}. فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج ذلك النفر حتى أتوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا تابعوهم على ذلك، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن والحارث بن عوف في مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من(1/313)
أشجع. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل فيه المسلمون، فدأب فيه فدأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لا بد منها ذكرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه باللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له، فأنزل الله في أولئك المؤمنين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} الآية، ثم قال في المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} الآية. انتهى.
وكان الذي أشار بالخندق سلمان فقال: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، ولم تكن تعرفه العرب قبل ذلك.
وكانت عدة المشركين فيما ذكر ابن إسحاق عشرة آلاف، وكان المسلمون ثلاثة آلاف قال ابن حزم: وقيل في تسعمائة فقط، وهو الصحيح بلا شك. وجعل المسلمون ظهورهم إلى سلع، فنزلوا هنالك والخندق بينهم وبين المشركين.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر عليه السلام بالنساء والذراري فجعلوا في الآطام. وفي البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا وأكتافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للمهاجرين والأنصار
والأكتاد بالمثناة الفوقية جمع كتد بفتح فكسر وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. وفي بعض نسخ البخاري بالباء الموحدة. وهو موجه على أن يكون المراد به مما يلي الكبد من الجنب. وفي البخاري أيضا عن أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/314)
فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرين
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وفي البخاري أيضا عن البراء: رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنا الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد رغبوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
قال: يمد بها صوته. وفي رواية له أيضا:
إن الأولى قد بغوا علينا ... إن أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أنه صلى الله عليه وسلم حين ضرب في الخندق قال:
بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا(1/315)
حبذا ربا وحبذا دينا
وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته: منها ما في الصحيح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة وهي بضم الكاف القطعة الصلبة فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لانذوق ذواقا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيلا أو أهيما كذا بالشك من الراوي. وعند الإسماعيلي باللام من غير شك والمعنى أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك، وأهيم بمعنى أهيل وقد قيل في قوله تعالى { شُرْبَ الْهِيمِ}: المراد الرمال التي لا يرويها الماء. وقد وقع عند أحمد والنسائي زيادة حسنة بإسناد حسن من حديث البراء قال: " لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني".
ومنها ما ثبت في الصحيح في حديث جابر من تكثير الطعام القليل، وإشباعه لجميع أهل الخندق. وعند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة. وعند الواقدي أربعا وعشرين يوما، وعند ابن القيم في الهدى أقاموا شهرا.
قال ابن إسحاق في حديثه: وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضيري حتى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيي: ويحك يا كعب افتح لي. قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشئوم، وإني عاهدت محمدا، وإنك لست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي(1/316)
أكلمك. فقال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك1 أن آكل منها. فأحفظ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. قال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام2 قد هرق ماؤه، فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء.. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بعث رسول الله سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير وقال: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس". قال: فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول الله وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين".
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى
ـــــــ
1 الجشيشة: طعام يصنع من البر المطحون مع اللحم والتمر.
2 الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.(1/317)
قال بعضهم: قد كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس على إلى المدينة خوفا على الذراري من بني قريظة. وأنزل الله {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} الآيات، وقال رجال معه {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} وقال بعضهم: يا رسول الله إن بيوتنا عروة من العدو، فأذن لنا فنرجع إلى ديارنا خارج المدينة. فأنزل الله {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}.
فلما اشتد البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقم الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك، فبعث رسول الله إلى سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان ولا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم بحكمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذلك". فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة ابن أبي وهب وضرار بن الخطاب أقبلوا على خيلهم حتى وقفوا على الخندق، قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من(1/318)
المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدرحتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟ فقال له علي: أنا. فبرز إليه علي بن أبي طالب فقال له: يا عمرو إنك كنت قد عاهدت الله أن لا يدعوك أحد من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. فقال له: أجل. قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى البراز، فقال له: يا ابن أخي ما أحب أن أقتلك. قال له علي: ولكني والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
ثم إن الله سبحانه وله الحمد صنع أمرا من عنده خذل به العدو، وذلك أن نعيم بن مسعود الأشجعي أسلم وهو يخفي إسلامه، فمشى بين الأحزاب وثبط قوما عن قوم، فاختلفت كلمتهم، وأرسل الله جندا من الريح على المشركين فجعلت تقوض خيامهم ولا تدع لهم قدرا إلا أكفأتها ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار. وجندا من الملائكة يزلزلون بهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وفي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" . وروى أحمد عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله، هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر. قال: "نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" قال فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح. وفي البخاري عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شغلونا عن الصلاة الوسطى.." الحديث. قال ابن(1/319)
دقيق العيد: الحبس انتهى إلى ذلك الوقت ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب. وفي الصحيحين عن جابر ابن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله ما كدت أصلي حتى كادت الشمس تغرب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا والله ما صليتها" .فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها: فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر، وفي الموطأ الظهر والعصر، وفي السنن ومسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا.
قال النووي: "وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها". قال: "وأما تأخيره عليه السلام صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف." انتهى.
ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم فوجدهم قد تهيؤا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فأخبره برحيل القوم. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله قتالهم، وصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وفي البخاري عن سليمان بن صرد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الله الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم".(1/320)
فصل تأديب يهود بني قريظة
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حين انصرف من الخندق يوم الأربعاء هو وأصحابه ووضعوا السلاح جاءه جبريل حين اغتسل وهو ينفض الغبار عن رأسه فقال: وقد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناها. اخرج إليهم. قال: فإلى أين؟ قال: ههنا، وأشار بيده إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث عائشة ومن حديث ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" ، فأدرك بعضهم العصر في(1/320)
الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. انتهى.
وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ثلاثون فرسا، قال: وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة، ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار قريظة، وتلاحق به الناس وقذف الله في قلوبهم الرعب، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب ابن أسد ثلاث خصال: إما الإسلام، وإما قتل ذراريهم ونسائهم ثم القتال حتى يموتوا، وإما تبييت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليلة السبت فإن المسلمين قد أمنوا منهم. فأبوا كل ذلك، فأرسلوا إلى رسول الله أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو ابن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، فأرسله، فلما أتاهم قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح من مكاني هذا يتوب الله علي مما صنعت، وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا، أو لا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال: "أما لو جاءني لاسغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه". فنزلت توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولى رسول الله إطلاقه بيده الكريمة.
فنزلت بنو قريظة على حكم رسول الله، فلما نزلوا على حكمه قال الأوس: يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد فعلت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟" قالوا: بلى. قال: "فذلك سعد بن معاذ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة في المسجد تسكنها رفيدة امرأة(1/321)
صالحة تقوم على المرضى وتداوي الجرحى تحتسب بذلك الأجر ليعوده من قريب، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد ليؤتى به ليحكم في بني قريظة، فأتى به على حمار قد وطىء له بوسادة أدم وأحاط به قومه وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنما ولاك رسول الله ذلك لتحسن فيهم. فقال: لقد أبى الله لسعد إلا أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من معه إلى ديار بني عبد الأشهل ينعي لهم رجال بني قريظة، فلما أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين: قوموا إلى سيدكم. فقام المسلمون فقالوا: يا سعد إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ وأشار بيده إلى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، قال رسول الله: "نعم". قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل معهم يومئذ حيي ابن أخطب والد أم المؤمنين صفية، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وقتل من نسائهم امراة واحدة، وهي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد بن الصامت فقتلته. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت، وترك من لم ينبت، ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا، فاستحياهم منه عبد الرحمن بن الزبير فأسلم وله صحبته، ووهب أيضا رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس من بني النجار وكانت قد صلت إلى القبلتين، فأسلم رفاعة وله صحبة، وكان ممن لم ينبت عطية القرظي فاستحيي، له صحبة. وقسم عليه السلام أموال بني النصير فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما، ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو فلم تزل في ملكه حتى مات.
فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه فمات من جرحه الذي أصابه يوم الخندق، كما في الصحيح عن عائشة(1/322)
قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرفة رماه في الأكحل فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال له: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناها. اخرج إليهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأين؟" فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه فرد الحكم إلى سعد قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم. قال ابن هشام: فأخبرني أبي عن عائشة أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضغت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حر ب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها. فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما، فمات منها رحمه الله.
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ". وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد ابن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة كانت تحمله".
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم عن محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل ابن حسنة قال: قبض إنسان يومئذ من تراب قبره قبضة، فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك، قال فقال رسول الله: "سبحان الله سبحان الله" ، حتى عرف ذلك في وجهه، فقال: "الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها، ضم ضمة ثم فرج الله عنه". وعند ابن إسحاق عن جابر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دفن سعد فسبح رسول الله وسبح معه الناس، ثم كبر وكبر معه الناس، فقالوا: يا رسول الله مم سبحت؟ فقال: "لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه". قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة(1/323)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر ضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ" ولسعد يقول رجل من الأنصار:
وما اهتز عرش الله من فقد هالك ... سمعنا به إلا لموت أبي عمرو
واستشهد من المسلمين يوم الخندق وقريظة سعد بن معاذ وأنس بن أوس وعبد الله بن سهل كلهم من بني عبد الأشهل، والطفيل بن النعمان وثعلبة بن غنمة وكعب بن زيد وخلاد بن سويد طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته، ومات في الحصار أبو سنان بن محصن أخو عكاشة.
قال ابن إسحاق: وأنزل الله في أمر الخندق وأمر بني قريظة من القرآن القصة في سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل من البلاء ويذكر نعمته عليهم وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم بعد مقالة من قال من أهل النفاق من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} الآيتين.(1/324)
بعث عبد الله بن عتيك إلى قتل سلام بن أبي الحقيق
وهو أبو رافع. ولما فتح الله في الكافر كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس كما تقدم، رغبت الخزرج في مثل ذلك تريد من الأجر والثناء في الإسلام، فتذاكروا أن سلام بن أبي الحقيق من العداوة لرسول الله والمسلمين على مثل حال كعب بن الأشرف، فاستأذنوا رسول الله في قتله فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر كلهم من الخزرج، وكلهم من بني سلمة: عبد الله بن عتيك، وعبد الله ابن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن الأسود حليف لهم من أسلم، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك ونهاهم عن قتل النساء والصبيان. فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلا، وكان سلام ساكنا في دار مع جماعة وهو في علية منها، فتسوروا الدار ولم يدعوا بابا من مساكنها إلا(1/324)
استوثقوا منها من خارج، ثم أتوا العلية التي هو فيها فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته: ممن أنتم؟فقالوا: أناس من العرب نطلب الميرة. فقالت لهم: ذاكم صاحبكم. فدخلوا. فلما دخلوا أغلقوا الباب على أنفسهم فأيقنت المرأة بالشر فصاحت، فهموا بقتلها، ثم ذكروا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فأمسكوا عنها، ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه أبيض في سواد الليل كأنه قطنة، ووضع عبد الله بن أنيس سيفه في بطنه حتى أنفذه، وعدو الله يقول: قطني قطني1. ثم نزلوا. وكان عبد الله بن عتيك ضعيف البصر فوقع، فوتيت رجله وتيا شديدا، فحمله أصحابه حتى أتوا منهرا من مناهيرهم فدخلوا فيه واستتروا، وخرج أهل الآطام وأوقدوا النيران في كل وجه، فلما أيسوا رجعوا، فقال المسلمون: كيف لنا أن نعلم أن عدو الله قد مات؟ فرجع أحدهم ودخل بين الناس، ثم رجع إلى أصحابه فذكر لهم أنه وقف مع الجماعة وأنه سمع امرأته تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم قلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم إنها نظرت في وجهه فقالت: فاظ2 وإله يهود. قال: فسررت. وانصرف إلى أصحابه فأخبرهم بهلاكه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وتداعو في قتله فقال عليه السلام: هاتوا أسيافكم، فأتوه بها. فقال عن سيف عبد الله بن أنيس هذا قتله، أي فيه أثر الطعام.
ـــــــ
1 قطني قطني: أي حسبي حسبي.
2 فاظ: مات.(1/325)
غزوة بني لحيان
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد فتح بني قريظة بقية ذي الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وخرج عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى في الشهر السادس من فتح بني قريظة في السنة السادسة من الهجرة. قال ابن حزم: كذا قالوا، والصحيح أنها الخامسة، قاصدا إلى بني لحيان مطالبا بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، وذلك إثر رجوعه عليه السلام(1/325)
من دومة الجندل. وأظهر أنه يريد الشام،واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران واد بين أمج وعسفان، وهي منازل بني لحيان حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة. فترحم عليهم، ودعا لهم، فسمعت به بنو لحيان فهربوا في رؤوس الجبال فلم يقدر منهم على أحد. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأه من غرتهم ما أراد، قالوا: لو أنا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، فبعث عليه السلام رجلين من أصحابه وفارسين حتى أتوا كراع الغميم ثم كروا، ورجع عليه السلام قافلا إلى المدينة ولم يلق كيدا، فكان جابر ابن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعا: "آيبون تائبون، إن شاء الله لربنا حامدون".(1/326)
سرية محمد بن مسلمة
قال في المواهب: إلى بطن من بني بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضرية بالبكرات، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، لعشر ليال خلون من المحرم، بعثه في ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم معه ثمامة بن أثال الحنفي أسيرا، فربط بأمره صلى الله عليه وسلم بسارية من سواري المسجد. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سوراي المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل منه ما شئت. فتركه حتى كان الغد ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة؟" قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد فقال له: "ما عندك يا ثمامة؟" قال: عندي ما قلت. قال: "أطلقوا ثمامة". فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان من دين أبغض(1/326)
إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت. قال: لا ولكن أسلمت مع محمد رسول الله، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرجه مسلم أيضا. وذكر ابن القيم في الهدى زيادة بعد قوله: "حتى يأذن فيها النبي": وكانت اليمامة ريف مكة. فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام، ففعل رسول الله.(1/327)
غزوة الغابة
وتعرف بذي قرد بفتح القاف والراء، وهو ماء على بريد من المدينة في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية، وعند البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، ولمسلم نحوه.
قال القرطبي: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية.
قال الحافظ ابن حجر: الذي في الصحيح أصح مما ذكره أهل السير.
وسببها أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة ترعى بالغابة فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء في أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا الراعي.
قال ابن إسحاق: وكان فيهم رجل من غفار وامرأة، قتلوا الرجل وسبوا المرأة، ونودي: يا خيل الله اركبي. وكان أول ما نودي بها. وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع السلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار فصاح، فأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم فأبلى بلاء حسنا عظيما، ورماهم بالنبل حتى استنقذ ما كان بأيديهم.(1/327)
فلما وقعت الصيحة بالمدينة كان أول من أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن عمرو، ثم عباد بن بشر الأشهلي وأسيد بن حضير أخو بني حارثة وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة الأسدي الأخرم وأبو قتادة الحارث بن ربعي وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت الزرقي. فلما اجتمعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد ابن زيد من بني عبد الأشهل، وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ ابن ماعص أو عائذ بن ماعص، وكان أحكم للفروسية من أبي عياش، فأول من لحق بهم محرز بن نضلة الأخرم فقتل رحمه الله، ولحق أبو قتادة فقتل قاتل الأخرم، وولى المشركون منهزمين، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يقال له ذو قرد، ونحر من لقاحه المسترجعة، وأقام عليه السلام يوما وليلة ثم رجع إلى المدينة، وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة رسول الله، فلما أتت المدينة نذرت أن تنحرها، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نذر لأحد في معصية الله ولا فيما لا يملك، وأخذ عليه السلام ناقته.(1/328)
سرية زيد بن حارثة
قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة في جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه عليه الصلاة والسلام أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاص بن الربيع، وقدم بهم المدينة.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم قال: خرج أبو العاص بن الربيع زوج زينب مرجعه من الشام، وكان رجلا مأمونا، وكانت معه بضائع لقريش، فأقبل قافلا، فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقوا عيره وأفلت، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أصابوا، فقسمه بينهم. وأتى أبو العاص المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله يريد ماله وما كان معه من أموال الناس، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم السرية وقال: " إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا ولغيره، وهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فإن رأيتم أن تردوا(1/328)
عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم" . قالوا: بل نرد عليه يا رسول الله، فردوا عليه والله ما أصابوا، حتى إن الرجل يأتي بالشيء والرجل يأتي بالإداوة والرجل بالحبل، فما تركوا قليلا مما أصابوا ولا كثيرا إلا ردوه عليه. ثم خرج حتى قدم مكة فأدى إلى الناس بضائعهم، حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم مال لم أرده عليه؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرا قد وجدناك وفيا كريما، قال: والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفا أن تظنوا أني ما أسلمت إلا لأذهب بأموالكم، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
وذكر موسى بن عقبة أن أسره كان على يد أبي بصير بعد الحديبية، وأنهم أخذوه فيه في رجال من قريش وأخذوا ما معهم وأسروهم، ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر رسول الله من أبي العاص وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها، فخلوا سبيل أبي العاص، فقدم على امرأته زينب فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا له، فكلمت رسول الله في ذلك، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب فقال: "إنا صاهرنا أناسا وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه. وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا، وإن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟" فقال الناس: نعم. فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده ردوا عليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال، وكتب رسول الله إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لأحد من قريش وعيراتها، وقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بصير وهو في الموت، فمات وهو على صدره، فدفنه أبو جندل، وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمنت عير قريش وذكر باقي الحديث.
قال ابن القيم في الهدى: وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمن الهدنة، وكانت زينب هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبي(1/329)
بالنكاح الأول، قيل بعد سنتين وقيل بعد ست سنين وقيل قبل انقضاء العدة، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ردها عليه بنكاح جديد سنة سبع.(1/330)
سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين
وهم الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل في شوال سنة ست.
قاله الواقدي وابن سعد وابن حبان، أو في ذي القعدة بعد الحديبية وهو المذكور في البخاري.
والعرنيون حي من بجيلة. وفي البخاري من عكل وعرينة. وفي الصحيحين عن أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة. فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود1 وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم. وفي لفظ لمسلم: وسملوا عين الراعي.
وعند البخاري أنهم كانوا مع أهل الصفة قبل أن يخرجوا إلى الذود. وفي البخاري فأمر بمسامير فأحميت فحلهم بها. وفي لفظ فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا، وقال أنس: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الراعي، رواه مسلم.
وفي حديث أبي الزبير عن جابر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم عم عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من" 2 فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا، وذكر
ـــــــ
1 الذود: القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر.
2 بياض في الأصل "واجعلها أضيق من مسك جمل" من زاد المعاد ج3 ص286 ط مؤسسة الرسالة(1/330)
القصة. وفي البخاري: قال أبو قلابة: فهؤلاء قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله. وفي الترمذي عن ابن سيرين إنما فعل رسول الله ذلك قبل أن تنزل الحدود.
وفيها من الفقه جواز شرب أبوال الإبل وطهارة بول مأكول اللحم، والجمع للمحارب إذا أخذ المال وقتل بين قطع يده ورجله1، وأنه يفعل بالجاني كما فعل لأنهم لما سملوا أعين الراعي سمل أعينهم. وقد ظهر بهذا أن القصة محكمة ليست منسوخة، وإن كانت قبل أن تنزل الحدود فالحدود نزلت بتقريرها لا بإبطالها.
ـــــــ
1 في زاد المعاد: وقتله(1/331)
غزوة سيف البحر
قال البخاري عن جابر بن عبد الله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، يتلقون عيرا لقريش فخرجنا فكنا ببعض الطريق، ففني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.
وفي لفظ: فأقمنا بالساحل نصف شهر فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي ذلك الجيش جيش الخبط، فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منه نصف شهر وادهنا من ودكة حتى ثابت إلينا أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه فعمد إلى أطول رجل معه ثم أمر براحلة فرحلت فمر تحته، فقال جابر: وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه.
وفي رواية أنه قيس بن سعد. وفي لفظ: فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم" ، فأتاه بعضهم بعضو فأكله.(1/331)
والصحيح أن هذه الغزوة كانت سنة ست قبل الهدنة كما قاله ابن سعد وصاحب الهدى.(1/332)
غزوة الحديبية
بتخفيف الياء وتشديدها، وهي بئر يسمى المكان بها. قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة. قال صاحب الهدى: وهو الصحيح، وهو قول الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وغيرهم.
قالوا وسبب هذه الغزوة أنه صلى الله عليه وسلم أري في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك، فأخبر أصحابه أنه معتمر، فتجهزوا للسفر، واستنفر العرب و من حوله من البوادي ليخرجوا معه، وهو لا يريد الحرب، ولكنه يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو صدود عن البيت، فأبطأ كثير من الأعراب، فغسل النبي صلى الله عليه وسلم ثيابه وركب ناقته القصواء واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة ومعه زوجته أم سلمة في ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب.
وفي البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعر وأحرم منها بعمرة. وبعث عينا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: "أشيروا علي أيها الناس، أترون أن أميل عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محزونين". قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: "امضوا على(1/332)
اسم الله. حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين" ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل. فألحت فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت به، قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره". فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى1. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال:
ـــــــ
1 كان عروة بن مسعود لسبيعة بنت عبد شمس.(1/333)
فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك1 فقال له أبو بكر الصديق: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال عروة: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ومعه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخرك يدك عن لحية النبي صلى الله عليه وسلم. قال فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، قال والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
قال فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من
ـــــــ
1 يعني أنه يرى في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخلاط من الناس، ويرى في المعسكر الآخر وجوه قريش وأهل المكانة فيها.(1/334)
بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها. فبعثت له، واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سهل الله لكم من أمركم.
وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا". فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما الصلح.
وذكر ابن إسحاق أيضا في روايته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى أهل مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة أحد من بني عدي بن كعب يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لقتال ولا لحرب، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو أقبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أشراف قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها حتى ظن رسول الله والمسلمون عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة(1/335)
الرضوان تحت الشجرة، وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: لم نبايع رسول الله على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. انتهى. قلت: قال بعضهم: معنى القولين واحد. فبايعه جماعة على الموت، أي لا نزال نقاتل بين يديك حتى نموت. وبايعه آخرون وقالوا: لا نفر.
وذكر وكيع بن الجراح عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن أول من بايعه أبو سنان الأسدي، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين ممن حضرها إلا جد ابن قيس أحد بني سلمة، قال جابر بن عبد الله: وكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته مستترا بها عن الناس. انتهى.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى على اليسرى فقال: هذه لعثمان، وكانت يد رسول الله لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم. وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" انتهى.
ولما أبطأ عثمان قال المسلمون: طوبى لعثمان، دخل مكة وسيطوف بالبيت وحده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان ليطوف وحده". ولما تمت البيعة رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت. فقال: بئس ما ظننتم بي، والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف رسول الله، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت. فقال المسلمون: رسول الله كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا. وكان عمر بن الخطاب آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة، وكان تحت الشجرة، وكان معقل بن يسار آخذا بعضها يرفعه عن رسول الله، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات: في أول الناس ووسطهم وآخرهم.
قال ابن إسحاق في حديثه عن الزهري: فلما جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه وطال بينهما الكلام، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها. ثم قال اكتب: هذا ما صالح محمد رسول الله سهيل بن عمرو. قال فقال سهيل: لو(1/336)
شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك وفي رواية البخاري فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" . وفي رواية له ولمسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "امحه". فقال: ما أنا بالذي أمحوه. فقال عليه السلام لعلي: أرني مكانها. فأراه مكانها فمحاه، وكتب محمد بن عبد الله. وفي البخاري قال الزهري: وذلك لقوله "لا يسألوني خطة بعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علي أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به". فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب.
وعند ابن إسحاق في روايته: واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض. وعلى أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليهم. وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد من العرب وفي عهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش من العرب وعهدهم دخل فيه، "فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وثواتب بنو بكر وقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم". وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقروا بها ثلاثا، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها، وفي رواية البخاري قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال: إذا والله لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجره لي. قال: ما أنا بمجيره لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه لك. قال أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى(1/337)
المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
وفي رواية البخاري: فقام سهيل إلى سمرة فأخذ منها غصنا وضرب به وجه أبي جندل ضربا رق عليه المسلمون وبكوا.
وفي رواية ابن إسحاق: فجعل يصرخ بأعلى صوته: أرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ فزاد ذلك الناس على ما بهم. فقال رسول الله: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك عهدا وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم". فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، قال يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه. قال فضن الرجل بأبيه. وفي رواية أنه لما قال سهيل: على من أتاك منا وإن كان على دينك رددته إلينا، قال عمر: يا رسول الله أترضى بهذا؟ فتبسم رسول الله وقال: "من جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن أعرض عنا وذهب إليهم فلسنا منه وليس منا بل هو أولى به".
وفي رواية ابن إسحاق: وأشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين أبا بكر وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله ابن سهيل بن عمرو وسعد بن أبي وقاص ومحمود بن مسلمة ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك وعلي بن أبي طالب وكان هو كاتب الصحيفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل وكان يصلي في الحرم.
وعند البخاري فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: "بلى"، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى" قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري". قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت:(1/338)
ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أن سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى. فأخبرك أنك تأتيه وتطوف به العام؟ قال الزهري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. قال: فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. وطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنزل الله عليه سورة الفتح في مرجعه إلى المدينة كما ثبت في مسلم عن قتادة أن أنسا حدثهم قال: لما نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} إلى قوله {فَوْزاً عَظِيماً} مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية قال لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا. وعند البخاري عن قتادة عن أنس {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا ما لنا؟ فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية. وفيه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ، قال: فقلت لقد خشيت أن ينزل في قرآن. فجئت(1/339)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: "لقد أنزل علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس". ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}. وعن مجمع بن حارثة قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم وقد جمع الناس يقرأ عليهم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآية، فقال رجل: يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: "إي والذي نفسي بيده إنه لفتح". أخرجه أحمد وأبو داود.
وفي هذه الغزوة أصابهم مطر، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب" أخرجه البخاري.
وفي غزوة الحديبية أيضا أنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام أو الصدقة أو النسك في شأن كعب بن عجرة. وفيها دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. وفيها نحروا البدنة عن سبعة. وفيها أيضا عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها، إذ جهش الناس نحوه فقال: "ما لكم؟" فقالوا: يا رسول الله ما عندنا ما نشرب ولا ما نتوضأ به إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه أمثال العيون. أخرجه البخاري عن جابر قال: فشربوا وتوضؤوا وكانوا خمس عشرة مائة، وهذه غير قصة البئر التي تقدمت.
وفي حديث معمر عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان بعد قوله فتزوج إحداهما معاوية والأخرى صفوان بن أمية: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلته لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: أرى سيفك يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. قال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعرا". فلما انتهى(1/340)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش أحد مسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمع منهم عصابة، فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم من أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية حتى بلغ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت. انتهى.
قال ابن إسحاق في روايته: قال {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: ثم قال {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} إلى قوله {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} يعني صلح الحديبية، يقول الزهري: فما فتح في الإسلام قبله فتح أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس والتقوا فتفاوضوا في الحديث فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. انتهى.
قالوا: وفي هذه السنة كسفت الشمس، وفيها ظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة. وفيها استسقى رسول الله في رمضان ومطر الناس. وفيها أيضا حرمت الخمر كما جزم به غير واحد، وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح.(1/341)
غزوة خيبر
وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد من المدينة تمشي ثلاثة أيام إلى جهة الشمال.
قال ابن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع، وقيل كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك وبه جزم ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر: "والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول" انتهى.
وكان الله وعده إياها بالحديبية بقوله {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة فتح خيبر، فخرج صلى الله عليه وسلم مستنجزا ميعاد ربه واثقا بكفايته ونصرته، وكان معه ألف وأربعمائة راجل ومائتا فرس، ومعه أم سلمة زوجته، وأمر ألا يخرج معه إلا من رغب في الجهاد، لا من غرضه عرض الدنيا. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
وفي البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
وفي رواية أحمد زيادة:(1/342)
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟" قالوا: عامر بن الأكوع. قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لولا أن متعتنا به. وفي رواية أحمدك فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير، ينزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال، وكان معلوما عندهم أنه ما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد. انتهى.
وقيل أرسل ابن أبي إلى يهود خيبر أن محمدا قصد قصدكم وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا قليل. فلما علم ذلك أهل خيبر أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، وشرطوا له نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا على المسلمين. ولم تقبل غطفان خوفا من الإسلام. وفي رواية ابن إسحاق قبلوا، فلما نزل المسلمون منزل الرجيع، وكان بينهم وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، تهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حسا ولغطا، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين وكان اسم أحدهما حسيل ليدلاه على الطريق الأحسن حتى يحول بين أهل خيبر وغطفان، فقال: أنا أدلك يا رسول الله، فأقبل حتى انتهى إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد. فأمر بأن يسميها له واحدا واحدا، قال: اسم واحد منها حزن، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه. وقال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضا. وقال: اسم الآخر حاطب، فامتنع منه أيضا. قال حسيل: فما بقي إلا واحد، قال عمر: ما اسمه؟ قال: مرحب. فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر صلى بها وركب وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، وقيل(1/343)
إن النوم غلب عليهم تلك الليلة فلم يقم منهم أحد، حتى أن الديكة لم تصح، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخميس. ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أنس: "الله أكبر خربت خيبر، الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" انتهى.
ولما دنا النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف عليها قال: " قفوا"، فوقف الجيش، فقال: "اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها. وأقدموا بسم الله". وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وقاتلوه أشد القتال. واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وفتحها الله عليه حصنا حصنا، وأخذ كنز آل الحقيق الذي كان في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة.
ولما تيقن صلى الله عليه وسلم أن اليهود تحارب وعظ أصحابه وحرضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب وبشر بأن من صبر فله الظفر والغنيمة.
روي أن خباب بن المنذر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله أم هو الرأي في الحرب؟ قال: "بل هو الرأي". فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدا من حصن نطأة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهو يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا وسهامنا لا تصل إليهم ولا نأمن من بياتهم. وأيضا هذا بين النخلات ومكان غائر وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال من هذه المفاسد نتخذه معسكرا. قال: "الرأي ما أشرت إليه". وقد جرى مثل هذا في غزوة بدر.
وفي البخاري: وكان علي بن أبي طالب تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا فلحق، فلما بتنا الليلة التي فتحت قال صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجلا بحبه الله ورسوله". وفي حديث سهل عند البخاري: "ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه". فبات الناس يدوكون1 ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما
ـــــــ
1 يدوكون: يختلفون ويسألون(1/344)
أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه". فأتى، فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم". وفي حديث سلمة ابن الأكوع عند مسلم: فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال فبرز له عمي عامر فقال:
قد عملت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
قال فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر بسفل له فرجع على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه رحمه الله. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر؟ فقال رسول الله: "من قال ذلك؟" قلت: ناس من أصحابك. قال: "كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين". وفي رواية البخاري ومسلم وجمع بين إصبعيه: "إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله". وفي مسلم: قال سلمة وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ...
شاكي السلاح بطل مجرب(1/345)
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
قال فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه. انتهى. وعند ابن إسحاق: لما دنا من حصنهم اطلع يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو مرحب، فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله يقتل ابني. فقال: "بل ابنك يقتله إن شاء الله". فقتله الزبير رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا الهلاك سألوهم أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ففعل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها الشق والنطاة والكتيبة وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك أنهم قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ويخلوا له الأموال.
وكانت خيبر بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركابز وقال حماد بن سلمة: أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الزرع والأرض والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله الصفراء والبيضاء، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟" فقال: أهبته النفقات والحروب. فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك". فدفعه رسول الله(1/346)
إلى الزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربه ههنا. فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم، بالنكث الذي نكثوا. وأراد أن يجليهم منها فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم. ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وثمر، ما بدا لرسول الله أن يقرهم. انتهى.
قال في الهدى: ولم يقتل رسول الله إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا، وأمر بلالا أن يذهب بصفية إلى رحله، فمر بها بلال على وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله وقال: "أذهبت منك الرحمة يا بلال؟" وعرض عليها رسول الله الإسلام فأسلمت واصطفاها لنفسه، وأعتقها وجعل عتقها صداقها، وبنى بها في الطريق وأولم عليها. ورأى بوجهها خضرة فقال: "ما هذا؟" فقالت: يا رسول الله رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه فسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي فلطم وجهي وقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة؟ وشك الصحابة هل اتخذها سرية أو زوجة، فقالوا: إن حجبها فهي إحدى نسائه، وإلا فهي مما ملكت يمينه. فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها، ثم شد طرفه تحته، فتأخروا عنه في السير، وعلموا أنها إحدى نسائه.
وفي رواية البخاري عن أنس أنها صارت إلى دحية فذكر له جمالها فاصطفاها لنفسه، فجعل عتقها صداقها. وفي رواية: فقال صلى الله عليه وسلم لدحية: خذ جارية من السبي غيرها. وفي رواية لمسلم أنه صلى الله عليه وسلم اشتراها منه بسبعة أرؤس.(1/347)
فصل مقاسم أسهم خيبر
وفي السنن والمسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب المسلمين. هذا لفظ أبي داود. وفي لفظ عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما وهو الشطر لنوائبه وما ينزل الوطيحة والكتيبة وما أجير معها. وعزل النصف الآخر قسمه بين المسلمين. وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أجير معها.
قال في الهدى قال البيهقي: "وهذا لأن خيبر فتح شطرها صلحا، فقسم ما فتح عنوة بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحا لنوائبه وما يحتاج إليه من أمور المسلمين".
قال ابن القيم قلت: "وهذا بناء منه على أصل الشافعي أنه يجب قسم الأرض المفتوحة عنوة كما يقسم سائر الغنائم، فلما لم يجده قسم الشطر من خيبر، قال: إنه فتح صلحا.
ومن تأمل السير والمغازي حق التأمل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استولى على أرضها كلها بالسيف عنوة، ولو فتح شيئا منها صلحا لم يجلهم رسول الله منها، فإنه لما عزم على إخراجهم منها قالوا: نحن أعلم [بالأرض] منكم، دعونا نكون فيها ونعمرها لكم بشطر ما يخرج منها. وهذا صريح جدا في أنها إنما فتحت عنوة. وقد حصل بين المسلمين واليهود بها من الحرب والمبارزة والقتل بين الفريقين ما هو معلوم. ولكم لما ألجئوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح.
والصواب الذي لا شك فيه أنها فتحت عنوة، والإمام مخير في أرض العنوة بين قسمها ووقفها، وقسم بعضها وترك البعض، وقد فعل رسول الله الأنواع الثلاثة: قسم قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر وترك شطرها، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طعمة من الله لأهل(1/348)
الحديبية من شهد منهم ومن غاب. وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة. ولم يغب عن خيبر من أهل الحديبية إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله كسهم من حضرها. وقسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، هذا هو الصحيح الذي لا ريب فيه". انتهى.
قلت: وفي الصحيح عن نافع عن عبد الله بن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها وأن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نقركم بها على ذلك ما شئنا". فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا. وفي رواية له: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو تمر، وكان يعطي أزواجه مائة وسق، منها ثمانون وسق تمرا وعشرون وسق شعيرا. وقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن، فمنهن من اختار الوسق. وكانت عائشة اختارت الوسق.
وفي حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر ورد على من قال فتحت صلحا. قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهم، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.
قال ابن إسحاق: وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق والنطاة والكتيبة، وكانت الشق ونطاة في سهمي المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين، وطعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطعم رجال مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك بالصلح، وفي الصحيح عن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله إخواننا بنو هاشم لا ننكر فضلهم علينا، وأعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن بمنزلة واحدة. فقال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". قال: ولم يقسم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئا.(1/349)
وفي رواية قال ابن إسحاق: عبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم وأمهم عاتكة بنت مرة، وكان ونوفل أخا لأبيهم. انتهى.(1/350)
فصل بعض ما حدث في غزوة خيبر
وفي هذه الغزوة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية كما في البخاري، ولفظه: فلما أمسى الناس مسي اليوم الذي فتحت عليهم يعني خيبر أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله: "ما هذه النيران، على أي شيء توقدون؟" قالوا: على لحم. قال: "أي لحم؟" قالوا: لحم الحمر الإنسية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهرقوها واكسروها". فقال رجل: يا رسول الله أونهريقها ونغسلها. قال: "أو ذاك". وفي رواية نهى يوم خيبر عن أكل الثوم وعن لحوم الحمر الأهلية. وفي رواية: " نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص في الخيل". وفي رواية أنس: جاءه جاء فقال: أكلت الحمر. فسكت. ثم أتى الثانية فقال: أكلت الحمر. فسكت. ثم أتى الثالثة فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديا فنادى في الناس: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس".
وفي هذه الغزوة نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ. وفي رواية ابن إسحاق عن رويفع قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه. ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه".
وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث امرأة سلام ابن مشكم كما في البخاري عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم .. الحديث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود: "هل جعلتم في(1/350)
الشاة سما؟" فقالوا: نعم. قال: "ما حملكم على ذلك؟" فقالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
وفي حديث جابر عند أبي داود أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها وأكل رهط من الصحابة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم"، وأرسل إلى اليهودية فقال: "سممت هذه الشاة؟" فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي" –للذراع- قالت: نعم، قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها ولم يعاقبها . وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة. واحتجم رسول الله على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة.
وفي مغازي سليمان التيمي أنها أسلمت وقالت: الآن عرفت أنك نبي، وأني أشهدك ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وفي رواية أنه قتلها لما مات بشر بن البراء.
قال البيهقي: يحتمل أن يكون تركها أولا، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلي وزاد أنه تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر قصاصا, واختلف هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أو لم يأكل، وأكثر الروايات أنه أكل منها وبقي بعد ثلاث سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، فهذا أوان انقطاع الأبهر مني". قال الزهري: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا.
وفي هذه الغزوة أيضا قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه. معهم الأشعريون عبد الله بن قيس أبو موسى وأصحابه، وكان فيمن قدم معهم أسماء بنت عميس. عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهما، أحدهما أبو رهم والآخر أبو بردة في بضع وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله بعثنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا رسول الله حين فتح خيبر فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح(1/351)
خيبر شيئا إلا من شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم له معهم. وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة. قال: ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها عمر فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس الحبشية. قال: البحرية؟ قالت: أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت وقالت: يا عمر كلا والله، لقد كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء، وذلك في الله وفي رسوله. وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله: "ما قلت له؟" قالت: قلت له كذا وكذا . قال: "ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان". قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم بأفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت أسماء: ولقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
قال أبو بردة عن أبي موسى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم بن حزام إذا لقي الخيل أو قال العدو قال: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم". أخرجه البخاري وهذا لفظه, وروي أن جعفرا لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقبل جبهته وقال: "والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر". ذكره ابن هشام في السيرة عن الشعبي.
ولما جرت المقاسم في أموال خيبر شبع المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا وجدوه قبل حتى قال عمر: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وعن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من الثمر. أخرجه البخاري في صحيحه.
قال موسى بن عقبة: وكانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم ولكم من خيبر كذا(1/352)
وكذا، فأبوا عليه، فلما فتح الله خيبر أتاه من كان ثم من بني فزارة فقالوا: وعدك الذي وعدتنا. فقال: "لكم ذو الرقيبة1". فقالوا: إذا نقاتلك. فقال: "موعدكم كذا". فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا هاربين.
قال الواقدي قال أبو سلم المزني، وكان قد أسلم وحسن إسلامه: لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن رجع بنا عيينة، فلما كان دون خيبر عرسنا من الليل ففزعنا، فقال عيينة: إني أرى الليلة في النوم أنني أعطيت ذو الرقيبة "جبل بخيبر" قد والله أخذت برقبة محمد. فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله قد فتح خيبر فقال: يا محمد أعطني ما غنمت من حلفائي فإني أنصرف عنك وعن قتالك. قال: "كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت نفرك إلى أهلك" قال: أجزني يا محمد، قال: "لك ذو الرقيبة". وقال: وما ذو الرقيبة؟ قال: "الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته". فانصرف عيينة. فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء، والله والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لقد سمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق قال: إنا نحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون وموسى 2 مرسل ويهود لا تطاوعني على هذا. ولنا منه ذبحان: واحد بيثرب وآخر بخيبر.
قال الحارث قلت لسلام: يملك الأرض جميعا؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى، ما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه. انتهى.
وقدم أبو هريرة المدينة مسلما فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح فسمعه يقرأ في الركعة الأولى {كهيعص} وفي الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فقال في صلاته: ويل لأبي فلان، له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص. فلما فرغ من صلاته أتى سباع فزوده حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه سهمانهم.
ـــــــ
1 في معجم البلدان لياقوت: ذو الرقيبة، وهو جبل مطل على خيبر.
2 بياض في الأصل في زاد المعاد "وهو نبي مرسل" ج3 ص334 ط مؤسسة الرسالة.(1/353)
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له مدعم، أهدى له أحد بني الصبب، فبينما هو يحط رحل النبي صلى الله عليه وسلم: إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا". فجاء رجل حين سمع ذلك بشراك أو بشراكين فقال: هذا شيء كنت أصبته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك أو شراكان من نار". انتهى.
قال في الهدى: فعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة ورايته إلى الحباب بن المنذر وراية إلى سهل بن حنيف وراية إلى عباد ابن بشر. ثم دعا اليهود إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير فقتله. ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله. حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كلما قتل منهم دعا من بقي إلى الإسلام، وكانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلي بأصحابه، ثم ينصرف فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله وإلى رسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح وهي بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنمه الله أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا.
وأقام رسول الله بوادي القرى أربعة أيام وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا أموالهم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى 1 إلى المدينة حجازا وما وراء ذلك من الشام. انتهى.
ـــــــ
1 بياض في الأصل في زاد المعاد: "لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجازا." ج3 ص355 ط مؤسسة الرسالة وكذلك في البداية والنهاية المجلد الثاني الجزء الرابع ص219 ط دار الريان.(1/354)
وقال غيره: وذلك أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي توفي فيه: "لا يجتمع بجزيرة العرب دينان" ، ففحص عن ذلك حتى وجد الثبت.(1/355)
فصل رهان قريش على من يظفر بخيبر
قال موسى بن عقبة وغيره: وكان بين قريش رهون عظيمة حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فمنهم من يقول يظهر محمد وأصحابه، ومنهم من يقول يظهر الحليفان ويهود خيبر.(1/355)
خبر الحجاج بن علاط السلمي
وكان الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم وشهد فتح خيبر، وكانت تحته أم شيبة أخت بني عبد الدار بن قصي، وكان الحجاج مكثرا من المال، وكانت له معادن بأرض بني سليم.
فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال الحجاج: إن لي ذهبا عند امرأتي، وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي، فأذن لي أسرع السير وأسبق الخبر، ولأخبرن أخبارا أدرأ بها عن مالي ونفسي. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم مكة قال لامرأته: أخفي علي واجمعي ما كان عندك لي من مال، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم، وإن محمدا قد أسر وتفرق عنه أصحابه، وإن اليهود قد أقسموا ليبعثن به إلى مكة ثم ليقتلنه بقتلاهم بالمدينة. وفشا ذلك في مكة، واشتد على المسلمين وبلغ منهم، وأظهر المشركون الفرح والسرور، وبلغ العباس عم رسول الله زجلة الناس وجلبتهم وإظهار السرور، فأراد أن يقوم ويخرج فما تحرك ظهره ولم يقدر على القيام. فدعا ابنا له يقال له قثم وكان شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يرتجز ويرفع صوته لئلا يشمت به أعداء الله:(1/355)
فصل زواجه صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة مؤيدا منصورا، فلما كان في سبد الصهباء أعرس بصفية بنت حيي، فأقام ثلاثة أيام يبني عليه بصفية، ثم صنع حيسا في نطع صغير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: "آذن من حولك". قال أنس: فدعوت الناس على وليمته على صفية، وما كان فيها خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت، فألقى عليها التمر والأقط والسمن وهو الحيس، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة وطأ له خلفه، ثم جلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته وقد مد الحجاب بينها وبين الناس. قال أنس: فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه". ثم نظر إلى المدينة فقال: "اللهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة. اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم". وفي رواية: فلما أشرف على المدينة قال: "آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون". فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة.
وفي مرجعه إلى المدينة سار ليلة من الليالي، حتى إذا كان من آخر الليل نام هو وأصحابه كما في صحيح مسلم وموطأ مالك عن سعيد ببن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة، حتى إذا أدركه الكرى عرس وقال لبلال: "اكلأ لنا الليل". وصلى ما قدر له. ونام رسول الله وأصحابه. فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله فقال: "أي بلال". فقال بلال: "أخذ بنفسي الذي أخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله بنفسك. فقال: "اقتادوا رواحلكم شيئا". ثم توضأ رسول الله(1/357)
وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}" قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها: للذكرى.
وفي رواية لمسلم فقال: "هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". وفيه: ثم صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة. وفيها من الفقه أن من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها. وفيها أن السنن تقضى كما تقضى الفرائض؛ لأنه قضى سنة الفجر معها وقضى سنة الفجر لما فاتته وحدها.
وكان هديه قضاء السنن الرواتب مع الفرائض. وفيه أن الفائتة يؤذن لها ويقام، فإن في بعض طرق القصة أنه أمر بلالا فنادى بالصلاة. وفي بعضها أمر بلالا فأذن وأقام. ذكره أبو داود. وفيها قضاء الفائتة جماعة، وأن قضاءها على الفور، وإنما أخرها عن مكان معرسهم قليلا لكونه مكانا فيه شيطان. وفيه تنبيه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان كالحمام والحش بطريق الأولى. انتهى.
وفي صحيح مسلم عن ابن شهاب عن أنس قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، وكان المهاجرون لما قدموا من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمر أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤنة، وكانت قد أعطت أم أنس رسول الله عذقا لها. وفي رواية فأمرني أهلي أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ما كان أهله أعطوه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وقالت: والله لا يعطيكهن وقد أعطانيهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أم أيمن اتركيه ولك كذا وكذا" . وتقول: كلا والذي لا إله إلا هو. فجعل يقول: "لك كذا وكذا" حتى أعطاها عشرة أمثاله. وفي رواية أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه.(1/358)
فصل سرايا المجاهدين بعد خيبر
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد مقدمه من خيبر إلى شوال، ويبعث في خلال ذلك السرايا:
فمنها "سرية أبي بكر الصديق" إلى نجد، إلى بني فزارة، ومعه سلمة ابن الأكوع، فوقع في سهمه جارية حسناء فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادى بها أسرى من المسلمين. كانوا بمكة، كما ثبت في صحيح مسلم.
ومنها "سرية عمر بن الخطاب" في شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فخرج معه دليل من بني هلال فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة.
ومنها "سرية بشير بن سعد الأنصاري" إلى بني مرة بفدك، معه ثلاثون رجلا، فقتلوا وقاتل بشير بن سعد حتى ارتث وقيل قد مات. وقدم ابن زيد الحارثي بخبرهم، ثم قدم بعده بشير بن سعد.
ومنها "سرية إلى الحرقات من جهينة" وقيل إن الأمير غالب بن عبد الله الكلبي، فلما دنا منهم بعث الأمير الطلائع فلما رجعوا بخيرهم أقبل حتى إذا دنا منهم ليلا وقد هدؤوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا أمري فإنه لا رأي لمن يطاع. ثم رتبهم فقال يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق كل منكم صاحبه وزميله. وإياكم أن يرجع أحد منكم فأقول أين صاحبك؟ فيقول: لا أدري، فإذا كبرت فكبروا وجردوا السيوف. ثم كبروا فحملوا واحدة وأحاطوا بالقوم وأخذتهم سيوف الله.
وفي البخاري عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم. فلما(1/359)
غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
ومنها "سرية بشير بن سعد الأنصاري" إلى يمن وجبار بفتح الجيم، وهي أرض بغطفان ويقال لفزارة وعذر، وبعث معه ثلاثمائة رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب لهم نعما كثيرة وأسر رجلين فقدم بهما إلى المدينة إلى رسول الله فأسلما.
و بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم "سرية قبل نجد" وفيها ابن عمر، قال: فبلغت أسهامنا اثني عشر بعيرا، ونفلنا بعيرا فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا.
ومنها "سرية عبد الله بن رواحة" في ثلاثين راكبا فيهم عبد الله بن أنيس، إلى يسير بن رزام اليهودي، لأنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم، فأتوه بخيبر فذكروا له أن رسول الله أرسلنا إليك ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل رديف من المسلمين، فلما بلغوا "قرقرة نيار" وهي من خيبر على ستة أميال ندم يسير فأهوى بيده إلى سيف عبد الله ابن أنيس، ففطن له عبد الله فزجر بعيره ثم اقتحم عن بعيره يسوق القوم حتى إذا استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها، فاقتحم يسير وفي يده مخرش1 من شوحط2 فضرب به وجه عبد الله فشجه مأمومة، فانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل من اليهود أعجزهم شدا. ولم يصب من المسلمين أحد، فقدموا على رسول الله فبصق صلى الله عليه وسلم في شجة عبد الله فلم تقح ولم تؤذه حتى مات.
ـــــــ
1 المخرش والمخراش: عصا معوجة الرأس كالصولجان.
2 الشوحط: ضرب من شجر الجبال تتخذ منه القسي.(1/360)
"سرية عبد الله بن حذافة السهمي" ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في عبد الله بن حذافة السهمي، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية.
وفي الصحيحين عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سرية، بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قال فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا. فقال: أوقدوا لي نارا، فأوقدوا. ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله من النار. قال فسكن غضبه، وطفئت النار. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له قال: "لو دخلوها ما خرجوا منها. إنما الطاعة في المعروف" قال في الهدى: وهذا هو عبد الله بن حذافة.(1/361)
عمرة القضاء
قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هل ذو القعدة يعني سنة سبع أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم عنها المشركون بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية. فلم يتخلف عنهم أحد منهم إلا رجالا استشهدوا بخيبر ورجالا ماتوا. وخرج معه عليه السلام من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. وساق عليه السلام ستين بدنة وأحرم لها من ذي الحليفة، ولبى ولبى المسلمون معه. وجعل على هديه ناجية ابن جندب الأسلمي، فلما نزل بمر الظهران وقدم السلاح إلى "بطن ياجج كيسمع" وهو موضع بمكة حيث ينظر إلى أنصاب الحرم وخلف عليه أوس بن حولي الأنصاري في مائتي رجل. ودخلوا بسلاح الراكب، السويف في القرب. وخرجت رؤساء قريش من مكة إلى رؤوس الجبال لئلا يروه، عداوة لله ولرسوله. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه فحبس بذي طوى، وركب صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون. فلما(1/361)
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يكشفوا عن المناكب، وأن يسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع.
وفي البخاري عن ابن عباس قال المشركون: يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. انتهى. وهو أول اضطباع ورمل في الإسلام. فصف المشركون وقوفا ينظرون إليه، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته.
وفي الشمائل للترمذي عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
ورواه عبد الرزاق من وجهين وزاد:
قد أنزل الرحمن في تنزيله ... بأن خير القتل في سبيله
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
وأخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل، وفيه:
يا رب إني مؤمن بقيله
وزاد ابن عقبة بعد قوله "قد أنزل الرحمن في تنزيله":
في صحف تتلى على رسوله ... بأن خير القتل في سبيله
وزاد ابن إسحاق:(1/362)
يا رب إني مؤمن بقيله ... إني رأيت الحق في قبوله
انتهى.
قالوا: ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه، وطاف على راحلته والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم. وفي الشمائل في حديث أنس فقال عمر: يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله تقول شعرا؟ 1 أسرع فيهم من نضح النبل. انتهى.
ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدي عند المروة قال: "هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر". فنحر عند المروة وحلق هناك. وكذلك فعل المسلمون. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم إلى أصحابهم ببطن ياجج فيقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم، ففعلوا. وأقام رسول الله بمكة ثلاثا.
وفي البخاري عن البراء فلما مضى الأجل أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم. فتناولها علي فأخذها بيده وقال لفاطمة: دونك بنت عمك. فحملتها. فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: بنت أخي. فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". وقال له علي: ألا تتزوج بنت حمزة؟ قال: "إنها بنت أخي من الرضاعة". انتهى.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء. وخلف رسول الله أبا رافع ليحمل إليه ميمونة حين يمسي، وأقام بسرف حتى قدمت ميمونة ومن معها وقد لقوا أذى وعناء من سفهاء المشركين وصبيانهم فبنى بها بسرف، ثم أدلج
ـــــــ
1 بياض بالأصل.(1/363)
وسار حتى قدم المدينة. وقدر الله أن يكون قبر ميمونة بسرف حيث بنى بها، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد.
قال ابن عباس: وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال. وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه. قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها رسول الله إلا بعد ما حل. ووهم بكسر الهاء أي غلط. وفي مسلم عن ميمونة تزوجني رسول الله ونحن حلالان بسرف. وقال المنذر: إنها آخر من تزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر من مات من أزواجه. والله أعلم.(1/364)
غزوة مؤتة
قالوا: فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفر وشهري ربيع، وفي صفر من هذه السنة قدم خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وعثمان بن طلحة الحجبي وأسلموا، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رمتكم مكة بأفلاذ كبدها". ذكره في الاستيعاب.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة من السنة الثامنة من الهجرة بعث الأمراء إلا الشام، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة وهي بضم الميم وهي من عمل البلقاء بالشام دون دمشق عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فأمر رسول الله زيد بن حارثة مولاه على ثلاثة آلاف وقال: إن قتل فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن قتل فعبد الله بن رواحة. قالوا وعقد لهم لواء أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم، فبكى ابن رواحة، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} فلست أدري(1/364)
كيف لي بالصدر بعد الورود. فلما ساروا نادى المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم صالحين غانمين.
فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
فلما نزلوا معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مئة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلى مائة ألف، فلما بلغ ذلك المسلمون أقاموا علىمعان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له. فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال: والله يا قوم إن الذي تكرهونه للذي خرجتم له تطلبون الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظفر وإما شهادة.
فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم1 البلقاء لقيتهم الجموع بقرية يقال لها مشارف، فدنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس فتعبأ المسلمون ثن اقتتلوا والراية في يد زيد بن حارثة فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخر صريعا، وأخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ثم قالت، وكان أول من عقر فرسه في الإسلام عند القتال، فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره، فاحتضن الراية حتى قتل وله
ـــــــ
1 التخوم: الحدود الفاصلة بين البلاد.(1/365)
ثلاث وثلاثون سنة، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فتقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد ويقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه
ويقول:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه زيدا وجعفر، ثم قاتل رضي الله عنه حتى قتل ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس.
وذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين والذي في صحيح البخاري أن الهزيمة كانت على الروم.
قال في الهدى: "والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل طائفة انحازت وانحيز عنها". انتهى.
روي عن أبي هريرة قال: لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون، فجعل خالد يدعو أخراهم ويمنعهم عن الفرار وهم لا يسمعون، حتى نادى قطبة بن عامر:(1/366)
أيها الناس لئن يقتل الرجل في حرب الكفار خير من أن يقتل حال الفرار. فلما سمعوا كلام قطبة تراجعوا.
وفي البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صحيفة يمانية.
وفيه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة في الناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم". وفيه عن ابن عمر كتن فيهم تلك الغزوة فألفينا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين بين طعنة ورمية. وفي رواية فعددت به خمسين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره. وللطبراني بسند حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء". وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت جعفر أبن أبي طالب يطير مع الملائكة". أخرجه الترمذي والحاكم. وفي رواية عن ابن عباس أن جعفر يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله عن يديه. وإسناده جيد. وفي البخاري عن ابن عمر كان إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. وفيه عن عائشة: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وابن رواحة وجعفر جلس يعرف فيه الحزن وأنا أنظر من صاير الباب، تعني شق الباب، فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر.. فذكر بكاءهن. قالت: فأمره أن ينهاهن. قالت: فذهب الرجل ثم أتاه فقال: قد نهيتهن. وذكر أنهن لم يطعنه. قال فأمره أيضا فذهب ثم أتاه الثالثة فقال: والله لقد غلبننا. فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاحث في أفواههن من التراب". قالت عائشة: أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل وما تركت رسول الله من العناء، وفي رواية ابن إسحاق قالت: وربما ضر التكلف أهله. قال موسى بن عقبة: قدم يعلى ابن أمية على رسول الله يخبر أهل مؤتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني، وإن شئت أخبرتك". قال: فأخبرني يا رسول الله. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا(1/367)
واحدا لم تذكره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم".
واستشهد يومئذ من المسلمين: الأمراء الثلاثة، ومسعود بن أوس، ووهب ابن سعد بن أبي سرح، وعبادة بن قيس، وحارثة بن النعمان، وسراقة بن عمرو ابن عطية، وأبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد، وعمرو وعاصم ابنا سعد بن الحارث وغيرهم. رضي الله عنهم أجمعين. انتهى.
ولما دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله مقبل مشيع القوم على دابة فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر، فأخذه فحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل، فيقول رسول الله: "ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله". رواه ابن إسحاق في السيرة.(1/368)
غزوة ذات السلاسل
وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل، وهي وراء وادي القرى، وبينها وبين المدينة عشرة أيام، وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان جزم به في الهدى، وقيل كانت سنة سبع جزم به ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ.
قال ابن سعد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا للإغارة على المدينة وأن يدنوا منها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا وأمره أن يستعين بمن مر به من بلى وعذرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواء، وبعث له سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر، وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعا ولا يختلفان. فأراد أبو عبيدة، أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير. فأطاع له بذلك أبو(1/368)
عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس، وسار حتى وطئ بلاد قضاعة، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا، وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم. قال الإمام أحمد حدثنا ابن أبي عدي عن داود عن عامر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش ذات السلاسل فاستعمل أبا عبيدة على المهاجرين واستعمل عمرو بن العاص على الأعراب وقال لهما: تطاوعا. قال: وكانوا أمروا على بكر، فانطلق عمرو وأغار على قضاعة لأن بكرا أخواله، قال فانطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك علينا، وإن فلان قد اتبع أمر العسر فلله معه أمر. قال أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع، فأنا أطيع رسول الله وإن عصاه عمرو.
وفي هذه الغزوة احتلم أمير الجيش عمرو بن العاص، وكانت ليلة باردة فخاف على نفسه من الماء فتيمم وصلى بأصحابه الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟" فأخبره الذي منعه من الاغتسال وقال: إني سمعت الله يقول {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.(1/369)
سرية "أبي قتادة بن ربعي إلى بطن إضم"
فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد من المدينة في أول شهر رمضان سنة ثمان، وذلك أنه عليه السلام لما هم أن يغزو أهل مكة بعث أبا قتادة في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم، ليظن ظان أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية ولأن تذهب بذلك الأخبار، فلقوا عامر بن الأضبط فسلم عليهم بتحية الإسلام فقتله محلم بن جثامة فأنزل الله {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} إلى آخر الآية رواه أحمد. وفي الهدى: وحمل عليه محلم ابن جثامة فقتله لشيء كان ببينه وبينه، وزاد ابن جرير: فجاء محلم بن جثامة في بردين(1/369)
فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له فقال رسول الله: "لا غفر الله لك" فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له ساعة حتى مات فلفظته الأرض، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن يريد الله أن يعظكم" ونسب ابن إسحاق هذه السرية لأبي حدرد.(1/370)
بعث الغابة
وبعث أبا حدرد ومعه رجلان إلى الغابة لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة الجشمي أقبل في عدد كثير حتى نزلوا الغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا شرف، فخرجوا حتى إذا جاءوا قريبا منهم فكمنوا في ناحية العسكر وخرج رفاعة وقد غشيهم الليل يطلب راعيا لهم قد أبطأ عليهم، حتى مر بأبي حدرد فنفحه بسهم فوضعه في فؤاده فاحتز رأسه، ثم شدوا في ناحية العسكر وكبروا، فهرب القوم بكل ما قدروا عليه وما خف من أموالهم ونسائهم وأبنائهم، واستاق أبو حدرد وصاحباه إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجاءوا بها رسول الله، وجاء أبو حدرد برأسه يحمله، فأعطاه من الإبل ثلاثة عشر. هذا معنى ما ذكر ابن إسحاق.(1/370)
غزوة الفتح
قال في زاد المعاد: وهو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا. خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذي وقع بينهم وبين رسول الله بالحديبية كما تقدم، وذلك في رمضان سنة ثمان. وفي البخاري: على رأس ثمان ونصف من مقدمه المدينة.
وكان سبب ذلك على ما ذكره إمام أهل المغازي والأخبار محمد بن إسحاق ابن يسار، أن بني بكر بن عبد مناة كانت بينهم وبين خزاعة حروب(1/370)
فصل صلاة الشكر بمنزل أم هانئ
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أم هانئ بنت أبي طالب فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها وكانت ضحى كما في الصحيحين من حديث أم هانئ. وفي رواية لم أره صلى صلاة قط أخف منها غير أنه أتم الركوع والسجود فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح. وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصنا أو بلدا صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله وفي هذه القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكرا لله عليه فإنها قالت ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها. وأجارت أم هانئ حموين لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك.(1/383)
خطبته صلى الله عليه وسلم بعد الفتح
فلما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه كما في البخاري عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به. إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن الله حرمها ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب.." الحديث.(1/383)
فصل اجتماع الناس للبيعة على الصفا
ثم اجتمع الناس للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا. وفي المدارك: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء هو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا" فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تسرقن" فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح فأنا أصبت من ماله هنات. فقال أبو سفيان ما أصبت فهو لك حلال. فضحك رسول الله وعرفها فقال لها: "وإنك لهند؟" قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: "ولا يزنين" . فقالت: أو تزني الحرة؟!. فقال: "ولا يقتلن أولادهن". فقالت: ربيناهم صغارا وقتلوهم كبارا، فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر. فضحك عمر حتى استلقى. فتبسم رسول الله(1/385)
فقال: "ولا يأتين ببهتان". فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: " ولا يعصينك في معروف". فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها، وتقول: كنا منك في غرور.
وفي الصحيح عن مجاشع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: "ذهب أهل الهجرة بما فيها". فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: "أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد".
قال في الهدى: وأمر رسول الله ابن أسد الخزاعي فحدد أنصاب الحرم1. وبث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها، منها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. ونادى مناديه بمكة: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره".
ـــــــ
1 حجارة تجعل علامات بين الحل والحرم(1/386)
سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة
قال ابن سعد: ولما رجع خالد من هدم العزى ورسول الله مقيم بمكة بعثه إلى بني جذيمة داعيا لهم إلى الإسلام، فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم فلما انتهى خالد إليهم قال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون صبأنا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا وفي صحيح البخاري بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون "صبأنا صبأنا" فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم، ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيرا، فأمر يوما أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين".(1/386)
وفي الهدى: فلما كان في السحر نادى خالد: من كان معه أسير فليضرب عنقه. فأما بنو سليم فقتلوا من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". وبعث عليا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام وشر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته".
قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من سليم سبعمائة وقيل ألف ومن غفار أربعمائة ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف وثلاثة نفر وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته ... فليس لقلبه منها شفاء
كأن خبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء(1/387)
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء
نساء بني أمية صاغرات ... عرتهن المذلة والرداء
تظل جيادنا متطمرات ... تلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد سيرت جندا ...
هم الأنصار عرضتها اللقاء(1/388)
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا ... رسول الله شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
قال ابن هشام: قالها حسان قبل يوم الفتح، وبلغني عن الزهري أنه قال: لما رأى رسول الله النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر. قال في الهدى: كان قد قالها في عمرة الحديبية وذكرها بهذا اللفظ فيه، وذكر أكثرها مسلم في صحيحه.(1/389)
فصل في الإشارة إلى بعض ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضا وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة بإظهار دينه والدعوة إليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، ولهذا سماه الله فتحا.
وفيها أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام صاروا حربا له بذلك، فله أن يبيتهم في ديارهم، ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء، وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة.
وفيها انتقاض عهد جميعه بذلك، ردئهم ومباشرهم، إذا رضوا بذلك وأقروا عليه ولم ينكروه، فإن الذين أعانوا بني بكر بعضهم.
وفيها أن رسول الكفار لا يقتل، فإن أبا سفيان ممن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول الله.
وفيخا جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما لأن عمر سأله قتل حاطب ولم يقل رسول الله لا يحل قتله بل قال: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ..." إلخ.
وفيها استحباب إظهار كثرة المسلمين وشوكتهم لرسل العدو كما أمر بإيقاد النيران، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان حتى عرضت عليه عساكر الإسلام.
وفيها البيان الصريح بأن مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا يعرف في ذلك خلافا إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه، وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله. انتهى ملخصا من الهدى.
وفي هذه الغزوة سرقت امرأة من بني مخزوم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها كما في الصحيح عن عروة أن امرأة سرقت في غزوة الفتح ففزع قومها(1/390)
أسامة ابن زيد بن حارثة يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله فقال: "أتكلمني في حد من حدود الله؟" فقال: استغفر لي يارسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ثم أمر رسول الله بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت: عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم. وفيه فقالوا: من يتجرأ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله.. الحديث. وفي رواية له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده.
ومما وقع في غزوة الفتح إباحته متعة النساء ثم حرمها قبل خروجه من مكة كما ثبت في صحيح مسلم عن بسرة الجهني أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قال: فأقمنا بها خمس عشرة ليلة، ثلاثين بين ليلة ويوم. قال فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء الحديث. وفي رواية فقال: "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا". وقال طائفة من العلماء إنها حرمت يوم خيبر ثم أبيحت ثم حرمت، منهم الشافعي وقال: لا أعلم شيئا أبيح ثم حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة. واحتجوا بما ثبت في الصحيحين عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية. قلت: وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث صحت روايته بلفظين وهذا أحدهما، والثاني الاقتصار على نعي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، هذه رواية ابن عيينة عن الزهري، قال قاسم بن أصبغ قال سفيان بن عيينة يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر لا عن نكاح المتعة، ذكره أبو عمر في التمهيد ثم قال: على هذا أكثر الناس. انتهى.(1/391)
قال في الهدى: فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه: حرم رسول الله المتعة زمن خيبر، فجاء بالغلط البين. فإن قيل فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذ لم يكونا قد وقعا في وقت واحد، وأين المتعة من تحريم الحمر؟ قيل: هذا الحديث رواه علي رضي الله عنه محتجا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين، فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر فناظره علي في المسألتين فقيد تحريم الحمر زمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، فقال: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. والله أعلم.
وفي البخاري عن ابن عباس: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين. قال ابن عباس: ونحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا. وفيه عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم. قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، ما رأيته دعاني إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} حتى ختم السورة؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وقال بعضهم: لا ندري, ولم يقل شيئا بعضهم. فقال لي: يا ابن عباس، أكذلك تقول؟ قلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له إذا جاء نصر الله، والفتح فتح مكة فذاك علامة أجلك، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن. وفي رواية لمسلم سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. قالت: قلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقول؟ قال: "جعلتها علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} والفتح فنح مكة إلى آخر السورة,(1/392)
غزوة حنين
قال في المواهب: وهو واد قرب ذي المجاز، وقيل ما بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف، وتسمى غزوة أوطاس. قال في الهدى: وهما موضعان بين مكة والطائف فسميت الغزوة باسم مكانهما.
قال أهل السير: وسببها أن الله لما فتح على رسوله مكة أطاعت له قبائل العرب كلها وأسلموا، إلا هوازن وثقيف فإنهم كانوا عتاة، فاجتمع أشرافهم فقالوا: إن محمدا قاتله قوم لم يحسنوا القتال ولم يكن لهم علم بالحرب فغلب عليهم، فإنه سيقصدنا، فقبل أن يظهر ذلك منه سيروا إليه. فقصدوا محاربة المسلمين، واجتمعت هوازن وثقيف كلها، وكان على هوازن رئيسهم مالك بن عوف النضري. وعلى ثقيف قائدهم ورئيسهم قارب بن الأسود. واتفق معهما نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل، ولم يشهد من قيس عيلان إلا هؤلاء، واجتمعوا في أربعة آلاف مقاتل، وخرجوا بأموالهم وأولادهم ونسائهم لئلا يفروا، وكان فيهم دريد بن الصمة في بني جشم وكان شيخا كبيرا قد عمي من الكبر وكان له مائة وخمسون سنة، وكان صاحب رأي وتدبير وله معرفة بالحروب، فساروا حتى انتهوا إلى أوطاس، فلما نزلوا بأوطاس اجتمع الناس وفيهم دريد بن الصمة فلما نزل قال: في أي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. قال: مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قيل: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ فدعي له، فقال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب،(1/393)
ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن في نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصبأة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي. قالوا: أطعناك. قال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فوالله ما رده ذلك على وجهه أن مضى على ما يريد.
ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس، فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله فأتاه وأخبره الخبر.
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: "يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا". فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك". قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل.
واستعمل رسول الله على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ومعاذ بن جبل إماما بها ومفقها لمن فيها. قال ابن عبد البر: فأقام بها أميرا على مكة حتى قبض رسول الله وأقره أبو بكر، فلم يزل عليها إلى أن مات.(1/394)
وكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبو بكر وماتا في يوم واحد. قال السهيلي قال أهل التعبير: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أسيد بن أبي العيص واليا على مكة مسلما فمات على الكفر، وكانت الرؤيا لولده عتاب حين أسلم، فولاه رسول الله على مكة وهو ابن إحدى وعشرين سنة.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا إلى حنين معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله عليهم. فكانوا اثني عشرة ألفا.
وذكر أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج من مكة إلى حنين يوم السبت لست خلون من شوال، وخرج معه ناس من المشركين منهم صفوان بن أمية، فلما كان عشية جاء فارس فقال: يا رسول الله إني طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غنيمة للمسلمين غدا إن شاء الله". ثم قال: "من يحرسنا الليلة؟" قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله. قال: "اركب". فركب فرسا له فقال: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه", ففعل. فلما أصبح جاء وقال: طلعت الشعبين كلاهما فلم أر أحدا. فقال له رسول الله: "هل نزلت الليلة". قال: لا إلا مصليا أو قاضي حاجة. فقال رسول الله: "فلا عليك أن تعمل عملا بعد هذا". رواه أبو داود.
وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بالجاهلية، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها "ذات أنواط" يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما. قال فرأينا ونحن نسير معه إلى حنين سدرة خضراء عظيمة فتنادينا من جنبات الطريق: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون. إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم". رواه الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير وابن إسحاق في السيرة وهذا لفظه.(1/395)
قال العلماء في الكلام على هذا الحديث: فأنكر صلى الله عليه وسلم عليهم مجرد مشابهتهم للمشركين في ذلك، فكيف بما هو أعظم من ذلك من الشرك بعينه، فإذا كان العطوف حول هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله، مع أنهم لا يسألونها ولا يعبدونها، فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون؟
قال بعض أصحاب مالك وهو أبو بكر الطرطوشي: "انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فاقطعوها". انتهى.
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال كان قد سبقهم مالك بن عوف فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي وفرقهم في الطرق والمداخل وحرضهم على قتال المسلمين وأمرهم أن يكمنوا لهم ويرشقوهم أول ما طلعوا ويحملوا عليهم حملة واحدة وقال: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة واحدة. فلما كان وقت السحر عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه وعقد ألويته والرايات وفرقها على الناس، ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة.
قال ابن إسحاق: "حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا، وذلك في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: "إلي أيها الناس هلم إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله"، فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس إلا أنه قد بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، منهم أبو بكر وعمر(1/396)
وعلي بن أبي طالب والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه الفضل وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن بن عبيد وقتل يومئذ". انتهى.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقة أصحابه طفق يركض بغلته قبل الكفار، وكان العباس بن عبد المطلب أخذ بركابه الأيمن، وفي رواية: إن العباس أخذ بركابه الأيمن وأبو سفيان بالأيسر يكفآنها إرادة ألا تسرع وهو يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب أنه قال له رجل: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله لم يفر، إن هوازن كانوا قوما رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول الله على بغلته البيضاء فنزل واستنصر وقال: اللهم أنزل نصرك، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته وهو يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وفي رواية لمسلم: ولكنه خرج شبان أصحابه وخفافهم حسرا ليس عليهم سلاح أو كبير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نضر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله على بغلته البيضاء، فنزل واستنصر وقال: "اللهم أنزل نصرك". قال البراء: وكنا إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا الذي يحاذي به. وفي رواية سلمة بن الأكوع عند مسلم وقال عبد الله بن إبراهيم رحمه الله: فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال: "شاهت الوجوه". فلما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين. وفي حديث العباس عند مسلم فقال رسول الله: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة". فقال العباس وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي: يا أصحاب السمرة. قال فوالله لكأن عطفتهم حين(1/397)
سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا هم والكفار، والدعوة في الأنصار وهم يقولون: يا معشر الأنصار. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث ببن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: هذا حين حمي الوطيس. قال: ثم أخذ رسول الله حصيات فرمى بهن في وجوه [القوم] ثم قال: "انهزموا ورب محمد". فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته.
وفي رواية جابر عند ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة" . فأجابوا لبيك لبيك. فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في عنقه ويأخذ السيف وترسه ثم يؤم الصوت، جتى اجتمع إلى رسول الله منهم مائة فاستعرض الناس فاقتتلوا. قال جابر ابن عبد الله: ما رجعت راجعة الناس حتى وجدوا الأسارى مكتفين بين يدي رسول الله، والتفت رسول الله إلى أبي سفيان بن الحارث وكان حسن إسلامه وممن صبر يومئذ معه وهو آخذ بثفر بغلته فقال: "من هذا؟" قال ابن عمك يا رسول الله، وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار وكان أبوه قتل يوم أحد: قلت اليوم أدرك ثأري أقتل محمدا، فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك وعلمت أني ممنوع منه. وفي سيرة ابن هاشم: فعرفت أنه ممنوع مني.
وذكر ابن أبي خيثمة حديث شيبة هذا قال: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ذكرت أبي وعمي قتلهما حمزة قلت اليوم أدرك ثأري في محمد، فجئته عن يمينه فإذا أنا بالعباس قائما عليه درع بيضاء، قلت عمه لن يخذله، فجئت عن يساره فإذا أنا بأبي بسفيان بن الحارث قلت ابن عمه لن يخذله، فجئته من خلفه فدنوت ودنوت حتى لم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف فرفع إلي شواظ من النار كأنه البرق، فنكصت على عقبي القهقرى، فالتفت رسول الله فقال: "يا(1/398)
شيبة ادن" ، فدنوت، فوضع يده على صدري فاستخرج الله الشيطان من قلبي، فرفعت إليه بصري فهو أحب إلى من سمعي وبصري، فقال لي: "يا شيبة هكذا قاتل الكفار" ، فقاتلت معه صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية فمسح صدري وقال: اللهم أعذه من الشيطان"، فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري، وأذهب الله عني ما كان، ثم قال: "ادن فقاتل" ، فتقدمت بين يديه، ولو لقيت تلك الساعة أبي لأوقعت به السيف. فلما تراجع المسلمون كروا كرة رجل واحد، فركب بغلته صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها فخرج في أثرهم فتفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه، فدخلت عليه فقال: "يا شيبة، الذي أراد الله بك خيرا مما أردت لنفسك". ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكن أذكره لأحد قط. قال فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت: استغفر لي يا رسول الله. قال: "غفر الله لك".
قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان ابن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة ابن الحنبل أخو صفوان بن أمية لأمه: ألا بطل السحر اليوم. فقال له صفوان بن أمية: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
ولما انهزمت هوازن استحر القتل في ثقيف من بني مالك فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة وكانت معه راية ثقيف وكانت الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس هرب هو وقومه من الأحلاف فلم يقتل منهم غير رجلين، ثم أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة، وتبعت خيل رسول الله من سلك نخلة من الناس ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع دريد ابن الصمة فأخذ بخطام البعير وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه كان في شجار له فأناخ به فإذا شيخ كبير وإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك. قال: من أنت؟ قال أنا ربيعة بن رفيع السلمي. ثم ضربه(1/399)
بسفيه فلم يغن شيئا. فقال بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك أخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب والله يوم منعت فيه نساءك. فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل إعراء، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا.(1/400)
سرية أبي عامر الأشعري إلى أوطاس
وهو عم أبي موسى الأشعري. قال ابن إسحاق: ابن عمه، والأول أشهر. وأوطاس واد معروف بين حنين والطائف. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين عقد لواء دفعه إلى أبي عامر الأشعري وأمره على جمع من الأصحاب وبعثه في آثار من توجه قبل أوطاس من فرار هوازن، فأدرك بعض المنهزمة فناوشوه القتال، فرمى أبو عامر بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري ففتح الله عليه وهزمهم الله.
وفي الصحيح عن أبي موسى قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريدا وهزم الله أصحابه. قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرمي أبو عامر في ركبته فانتهت إليه فقلت: يا عم من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته فلما رآني ولي فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك. قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء. قال: يا ابن أخي أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ثم مات. فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مرمل وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وأنه قال قل له استغفر لي فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه وقال: "اللهم اغفر(1/400)
لعبدك أبي عامر"، ورأيت بياض إبطيه. ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك ومن الناس". فقلت: ولي فاستغفر، فقال: " اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما". قال أبو بردة إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي والغنائم أن تجمع، فجمع ذلك كله وحبس بالجعرانة إلى أن فرغ من غزة الطائف وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرون ألفا والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة، وكان على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري.
قال ابن هشام وأنزل الله في يوم حنين {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} الآيات.
وروي أن المسلمين أخذوا السبايا يوم حنين وأوطاس، وكانوا يتكرهون نساء السبي إذا كن ذوات أزواج، فاستفتوا في ذلك رسول الله فنزل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يريد ملكت أيمانهم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين والنكاح مرتفع بالسبي، قال أبو سعيد: أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا حنين وأوطاس ألا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. فسألوا عن العزل فقال: "ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء".
وأخذوا في جملة السبي الشيماء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة. قال: " وما علامة ذلك؟" قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه. وفي رواية: ودمعت عيناه، وخيرها وقال: "إن أحببت فأقيمي عندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعتك وترجعي إلى قومك، فعلت" قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي. فأسلمت ومتعها رسول الله وردها إلى قومها. فزعم(1/401)
بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما للآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
وقال في المواهب: جاءته عليه السلام يوم حنين أمه من الرضاعة حليمة السعدية بنت أبي ذئب من هوازن، وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه [فالتفت] إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه. واختلف في إسلامها وإسلام زوجها كما اختلف في إسلام ثويبة.
وفي الصحيح عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع، وأقبل علي وضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما بال الناس؟ قلت: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا. وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". فقمت فقلت من يشهد لي؟ ثم جلست. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. قال ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت فقال: "مالك يا أبا قتادة؟" فقصصت عليه القصة فقال رجل: صدق، وسلبه عندي فأرضه مني فقال أبو بكر: لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه"، فأعطانيه، فابتعت به مخرفا1 في بني سلمة، وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
قالوا: واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة نفر منهم أيمن بن أم أيمن ويزيد ابن زمعة بن الأسود وسراقة بن الحارث رجل من الأنصار وأبو عامر الأشعري. وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا. والله أعلم.
ـــــــ
1 أي حديقة نخل(1/402)
غزوة الطائف
قالوا: ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين صنم من خشب لعمرو بن جمحة ليهدمه ويوافيه بالطائف، فخرج الطفيل سريعا فهدمه وجعل يحشوه النار ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة رجل سراعا فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام وقدموا معهم بالمنجنيق والدبابة بالدال المهملة وتشديد الموحدة آلة تتخذ للحرب تدفع أصل الحصن فينقبونه وهو في جوفه. كذا في القاموس.
قالوا: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين لعشر من شوال في السنة الثامنة من الهجرة سار إلى الطائف يريد جمعا من هوازن وثقيف قد هربوا من معركة حنين وتحصنوا بحصن الطائف، وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، فسلك عليه الصلاة والسلام في طريقه إلى الطائف نخلة اليمانية ثم على قرن ثم على بحرة الرغاء من لية فابتنى فيها مسجدا فصلى فيه. وأقاد فيها يومئذ بدم رجل من هذيل قتله ررجل من بني ليث فقتله به وهو أول دم أقيد به في الإسلام. وأمر في طريقه بحصن مالك بن عوف فهدمه، ثم سلك في طريق فسأل عن اسمها فقيل الضيقة فقال: بل هي اليسرى. ثم خرج منها حتى نزل تحت سدرة قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تخرج وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج فأمر بإخرابه. ثم مضى حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريبا من حصنه فضرب به عسكره، فرموا المسلمين رميا شديدا كأنه رجل جراد حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا فيهم عبد الله بن أبي أمية، ورمي يومئذ عبد الله بن أبي بكر الصديق فجرح فاندمل، ثم انتقض بعد ذلك فمات منه في خلافة أبيه.(1/403)
فارتفع صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم ووضع عسكره هناك، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين ثم صلى بينهما طول حصاره الطائف، فحاصرهم بضع عشرة ليلة وهو الصحيح، وقيل بضعا وعشرين ليلة.
وفي حديث أنس عند مسلم فحاصرناهم أربعين ليلة، ونصب عليهم المنجنيق ورماهم، وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، وأمر صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف وتحريقها فقطعها المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم فقال: "إني أدعها لله وللرحم". ثم نادى مناديه عليه الصلاة والسلام: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا من الحصن فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلا، منهم أبو بكرة واسمه نفيع بن الحارث فتسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة يستقي عليها فكناه رسول الله "أبا بكرة" فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم من نزل منهم، ودفع كل رجل إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، فلما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم في أولئك العبيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك عتقاء الله". ولم يؤذن له في فتح الطائف سنتئذ.
وفي الصحيح عن أم سلمة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يدخلن عليكن" . وفي رواية له: وهو محاصر الطائف يومئذ.
وفي الصحيح أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: لما حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا: "إنا قافلون غدا إن شاء الله". فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال: "اغدوا على القتال"، فغدوا فأصابهم جراح فقال: "إنا قافلون غدا إن شاء الله"، فأعجبهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان مرة: فتبسم. انتهى.
وفقئت عين أبي سفيان بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهي في يده: "أيهما أحب إليك، عين في الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك؟" قال: عين في الجنة. ورمى بها. وشهد اليرموك فقاتل، وفقئت عينه الأخرى يومئذ. ذكره الحافظ زيد الدين العراقي.(1/404)
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". فلما ارتحل قال: "قولوا آيبون عابدون، لربنا حامدون". قال العلماء: فانظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع الصحابة واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع عليه الصلاة والسلام يتعرى من ذلك ويرد الأمر كله لمولاه لا لغيره. وانظر إلى قوله عليه السلام "وهزم الأحزاب وحده" ، فنفى ما تقدم ذكره، وهذا هو التوكل على الله حقا، لأن الإنسان وفعله خلق لربه، فهو الذي خلق ودبر وأعان وأجرى الأمور على أيدي من يشاء ومن أختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل، قال الله تعالى {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} فيثيب الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين.
ولما قيل له صلى الله عليه وسلم: ادع الله على ثقيف قال: "اللهم اهد ثقيفا وائت بهم". وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وهو محاصر ثقيفا: "يا أبا بكر إني رأيت أني أهديت إلي قعبة مملوءة زبدا فنقرها ديك فهرق ما فيها" وكان أبو بكر ماهرا في تعبير الرؤيا مشهورا به بين العرب فقال: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد. فقال رسول الله: "وأنا لأرى ذلك". ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف مارا على دحنا ثم على قرن المنازل ثم على نخلة حتى خرج إلى الجعرانة ونزلها وهي إلى مكة أدنى وبها قسم غنائم حنين. وفي هذا السفر أسلم صفوان بن أمية.
واستأنى صلى الله عليه وسلم بهوازن أي انتظر أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة، ثم بدأ يقسم الأموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم قبل الناس وهم سادات العرب من قريش وغيرهم من وجوه القبائل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل.
روي أن أبا سفيان بن حرب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأموال من نقود وغيره مجموعة عنده فقال: يا رسول الله أنت اليوم أغنى قريش، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: حظنا من هذه الأموالز فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية من الفضة، فقال: حظ ابني يزيد، فأعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية.(1/405)
فقال أبو سفيان: فأين حظ ابني معاوية، فأمر له أيضا بمائة من الإبل وأربعين أوقية حتى أخذ أبو سفيان يومئذ ثلاثمائة من الإبل ومائة وعشرين أوقية من الفضة. فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لأنت كريم في الحرب والسلم، هذا غاية الكرم جزاك الله خيرا. وأعطى صفوان بن أمية من الإبل مائة ثم مائة ثم مائة كذا في الشفاء. وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل فسأله مائة أخرى فأعطاه إياها. وأعطى الحارث بن الحارث ببن كلدة أخا بني عبد الدار وهو أخو النضر بن الحارث عدو الله ورسوله أعطاه مائة من الإبل والحارث بن هشام أخا أبي جهل وعبد الرحمن بن يربوع المخزوميين وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والعلاء بن حارثة الثقفي وعده بعضهم في أهل الخمسين والأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ومالك بن عوف النضري، أعطى كل هؤلاء المسلمين من قريش وغيرهم على مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا من قريش وغيرهم، منهم: مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب وهشام بن عمرو أخو بني عامر ابن لؤي.
قال ابن إسحاق: لا أحفظ ما أعطاهم إلا أنها دون المائة. وأعطى سعيد ابن يربوع المخزومي وعدي بن قيس السهمي وعثمان بن نوفل خمسين خمسين، وأعطى عباس بن مرداس إبلا فسخطها كما في مسلم وقال شعرا:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
قال فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة. زاد ابن إسحاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا عني لسانه". وممن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا دون ذلك طليق بن سفيان بن أمية ابن عبد شمس وخالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو الذي أراد أن يفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأبو السنابل بن(1/406)
بعكك ابن الحارث من بني عبد الدار وزهير بن أبي أمية المخزومي أخو أم المؤمنين أم سلمة وخالد بن هشام بن المغيرة المخزومي وهشام بن الوليد أخو خالد وسفيان بن عبد الأسد بن هلال المخزومي والسائب بن أبي السائب المخزومي ومطيع بن الأسود أخو بني عدي وأبو جهم بن حذيفة العدوي وأحيحة بن عدي بن خلف الجمحي، ونوفل بن معاوية من بني بكر بن عبد مناة وعلقمة بن علاثة بن عوف وخالد ابن هوذة.
وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائل من أصحابه: أعطيت عيينة بن حصن والأقرع ابن حابس مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة، ولكني تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وفي الصحيحين عند عبد الله ولفظه لمسلم قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله. قال فقلت: والله لأخبرن رسول الله، قال فأتيته فأخبرته، فغضب من ذلك غضبا شديدا واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له، ثم قال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله" ثم قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". قال قلت: لا جرم لا أرفع إليه حديثا بعدها.
ولمسلم عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس، فقال: "يا محمد اعدل. فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل". فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية".
وفي رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال: يا محمد قد رأيت(1/407)
ما صنعت في هذا اليوم. فقال: "أجل فكيف رأيت؟" قال: لم أرك عدلت. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ويحك إذا لم أكن العدل عندي فعند من يكون؟" فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ قال: "دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد فيه شيء ثم في القدح فلا يوجد فيه شيء، ثم في الفوق، فلا يوجد سبق القرث والدم".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح حنين قسم الغنائم فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس. وللبخاري: فكأنهم وجدوا إذا لم يصبهم ما أصاب الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي، ومتفرقين فجمعكم الله بي؟" ويقولون: الله ورسوله أمن. فقال: "ألا تجيبوني؟" فقالوا: الله ورسوله أمن. فقال: "أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا وكذا وكان الأمر من كذا وكذا" لأشياء عددها زعم عمرو أنه لا يحفظها فقال: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ الأنصار شعار والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، لو سلك الناس شعبا وواديا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقون على الحوض".
وفي رواية أنس في الصحيحين أن ناسا من الأنصار قالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدثت بذلك رسول الله، فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟" فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، [قال صلى الله عليه وسلم ]: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به"، قالوا: يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض". قالوا: سنصبر. قال أنس: فلم يصبروا.(1/408)
وفي رواية ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟" قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدَقتم ولصُدِقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أما ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله وتفرقوا.(1/409)
فصل وفد هوازن إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقد كان وفد هوازن قد أسلموا وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم أموالهم، وهو أربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله من الرضاعة، فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال.
قال ابن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام رجل من هوازن يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا1
ـــــــ
1 أي أرضعنا(1/409)
للحارث ابن شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.
وفي الصحيح من حديث الزهري أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون، وأحب الحديث إلى أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي. وقد كنت استأنيت بكم" وكان أنظرهم رسول الله بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنها نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإن إخوانكم قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل" فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم". فبرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. هذا الذي بلغنا عن سبي هوازن.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن إسحاق: فقال رسول الله: "أما من تمسك بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه". فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن: "ما فعل مالك". فقالوا هو في الطائف مع ثقيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروا مالكا إن هو أتى مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل". فأتى مالك بذلك، فخرج إليه من الطائف فأدركه بالجعرانة أو بمكة فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، فأسلم وحسن إسلامه. فقال مالك بن عوف النضري المذكور:
ما إن سمعت ولا رأيت بمثله ...
في الناس كلهم كمثل محمد(1/410)
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... وإذا تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد
فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم صرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم.
وعن جبير ببن مطعم قال: بينما أنا مع رسول الله ومعه الناس مقبلا من حنين علقت برسول الله الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا" أخرجه البخاري في الصحيح. وفي سيرة ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة". فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي من وبر، فقال: "أما نصيبي منها فلك". قال: إذا بلغت ذلك فلا حاجة لي بها. ثم طرحها من يده.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يقسم الغنائم أمر زيد بن ثابت حتى أحضر الناس، ثم عد الإبل والغنم وقسمها على الناس، فوقع في سهم كل رجل أربع من الإبل مع أربعين شاة من الغنم، وإن كان فارسا فسهمه اثنا عشر بعيرا مع مائة وعشرين من الغنم.
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا فلما فرغ رسول الله من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة، وكانت عمرته في ذي القعدة، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بقية ذي القعدة أو في أول ذي الحجة، وحجج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة(1/411)
عتاب ابن أسيد الذي استعمله رسول الله على مكة وهو ابن نيف وعشرين سنة وكان في غاية الورع والزهد، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام.
قال ابن حزم: وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغمورا، وكان خيرهم متفاضلين: فيهم الفاضل المجتهد: كالحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام. و فيهم خيار دون هؤلاء كصفوان بن أمية وعمير بن وهب ومطيع بن الأسود ومعاوية بن أبي سفيان وسائرهم لا يظن بهم إلا الخير. وكان ممن أسلم يوم الفتح وبعده من الأشراف نظراء من ذكرنا، ووثق عليه الصلاة والسلام بصحة نياتهم في الإسلام لله فلم يدخلهم فيمن أعطاه، عكرمة بن أبي جهل وعتاب بن أسيد وجبير بن مطعم رضي الله عنهم أجمعين.
وكان مدة غيبته منذ خرج من المدينة إلى فتح مكة وأوقع بهوازن وحارب الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما. انتهى والله أعلم.
وفي هذه السنة أسلم عروة بن مسعود الثقفي وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم ما بين ذي القعدة إلى انصراف رسول الله من غزوة تبوك سنة تسع في رمضان.
قال ابن إسحاق: وكان من حديث ثقيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله: "إنهم قاتلوك"، وعرف رسول الله أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم، فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم ويقال من أبصارهم وكان فيهم كذلك محببا مجابا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام ورجا أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه".(1/412)
ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقدج بايعوا وأسلموا، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله رجلا كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل ابن عمرو بن عمير وكان في سن عروة بن مسعود وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا. فأجمعوا أن يرسلوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة. فبعثوا الحكم بن عمرو بن وهب وشرحبيل بن غيلان ابن سلمة. ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص بن بشر ابن عبد دهمان وأوس ابن عوف ونمير بن خرشة بن ربيعة، فخرج بهم عبد ياليل وهو نائب القوم وصاحب أمرهم. ولم يخرج بهم إلا خشية أن يصنع به مثل ما صنع بعروة لكي يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه، فلما دنوا من المدينة وتركوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رعيتها نوبا عليهم، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين ومر يشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون البيعة والإسلام وأن يشترطوا شروطا ويكتبوا من رسول الله كتابا في قومهم وبلادهم وأموالهم، فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بأن لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، ولما قدموا ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبة عليهم في ناحية مسجده كما يزعمون، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله حتى كتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي يكتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم.(1/413)
وقد كانوا فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى. وإنما يريدون في ذلك فيما يظهر أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونساءهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدمانها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما كسر الأوثان بأيديكم فسنعفيكم منه وأما الصلاة فلا، فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه". فقالوا: يا محمد فسنؤتكها ولو كانت دناءة. فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنا، وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه في الدين وفي الإسلام، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام منهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
قال ابن إسحاق: وحدثني عيسى بن عبد الله بن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي عن بعض وفدهم قال: كان بلال يأتينا حين أسلمنا وصمنا مع رسول الله ما بقي من شهر رمضان بفطورنا وسحورنا من عند رسول الله، فيأتينا بالسحور وإنا لنقول: إنا الفجر قد طلع فيقول: قد تركت رسول الله يتسحر لتأخير السحور، ويأتينا بفطورنا وإنا لنقول ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد، فيقول: ما جئتكم حتى أكل رسول الله، ثم يضع يده في الجفنة فيلت قسمه منها.
قال ابن إسحاق وحدثني سعيد بن أبي هند عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عثمان بن أبي العاص قال: كان من آخر ما عهد إلي رسول الله حين بعثني إلى ثقيف أن قال: "يا عثمان تجاوز في الصلاة، واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة".
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية مع(1/414)
القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم، فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول، وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها، ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك واها لك. فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل أبي سفيان، مجموع حليها مالها من الذهب والجزع.
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توليا من شئتما". قالا: نتولى الله وسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وخالكما أبا سفيان". قالا: وخالنا أبا سفيان بن حرب.
فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل رسول الله أبو المليح بن عروة أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية. فقال له رسول الله: "نعم". فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه فقال رسول الله: "إن الأسود مات مشركا". فقال قارب لرسول الله: لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعني نفسه، إنما الدين علي وإنما أنا الذي أطلب به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية.
فلما جمع المغيرة مالها قال لأبي سفيان: إن رسول الله قد أمرك أن تقضي عن عروة والأسود دينهما، فقضى عنهما. انتهى.(1/415)
الفوائد والحكم في قصة هوازن وثقيف
فهذه قصة هوازن وثقيف من أولها إلى آخرها سقناها كما هي، وإن كان إسلامهم بعد غزوة تبوك لينتظم أولها بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها في موضع واحد فنقول:(1/415)
فيها من الفوائد والحكم ما ذكره ابن القيم وغيره، أن الله سبحانه قد وعد رسوله وهو الصادق الوعد أنه إذا دخل مكة دخل الناس في دينه أفواجا ودانت له العرب بأسرها، فلما أتم الفتح المبين واقتضت حكمة الله أن أمسك قلوب هوازن عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله والمسلمين، ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه ولتكون غنائمهم شكران أهل الفتح، وليظهر الله رسوله وعباده وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، وغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدو للمتوسمين.
واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعدتهم وقوة شوكتهم ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسوله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه يكاد أن يمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته أن أحل له حرمه وبلده ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وليبين الله سبحانه لمن قال لن نغلب اليوم من قلة أن النصر إنما هو من عنده وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له. وأنه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم فإنها لن تغني عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسل إليها خلع الجبر مع بريد: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تخلع على أهل الانكسار {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} الآيتين.
ومنها أن الله سبحانه منع الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها ذهبا ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا، كما روى أبو داود عن وهب بن منبه قال: سألت جابرا هل غنموا يوم الفتح شيئا؟ قال: لا. وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم(1/416)
وشائهم وسبيهم نزلا وضيافة وكرامة لحزبه وجنده، وتمم القدير سبحانه بأن أطمعهم في الظفر، وألاح لهم مبادئ النصر، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبردت الغنائم لأهلها، وجرت فيها سهام الله ورسوله قيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاؤوا مسلمين. فقيل: إن من شكران إسلامكم أن يرد عليكم أبناؤكم ونساؤكم، و {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ومنها أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن بين هاتين الغزوتين بالذكر بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين، وقاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزوتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى وجوه المشركين بالحصباء.
وبهذا يتبين أن بهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية استفرغت قواهم واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله.
ومنها أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم، وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن، وأنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين، ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم. إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله.
وفيها من الفقه أن الإمام ينبغي له أن يبعث العيون ومن يدخل بين
عدوه ليأتيه بخبرهم وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة لا يقعد لينتظرهم بل يسير إليهم كما سار رسول الله إلى هوازن.
وفيها أن الإمام يجوز له أن يستعير سلاح الكفار وعدتهم لقتال عدوه.(1/417)
ومنها أن من تمام التوكل استعمال الأسباب لمسبباتها قدرا وشرعا، فإن رسول الله وأصحابه أكمل الخلق توكلا، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح.
وفيها كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وعفوه عمن هم بقتله، ولم يعاجله بل دعا له ومسح صدره حتى عاد كأنه ولي حميم.
ومنها ما ظهر من معجزات النبوة في هذه الغزوة من إخباره لشيبة بما أضمر في نفسه، ومن ثباته وقد تولى عنه الناس، وهو ينوه بذكره ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقد استقبلته كتائب المشركين وهو على البغلة التي لا تعد للفر والكر.
ومنها إيصال الله قبضته التي رمى بها إلى عيون أعدائه على البعد منه، وبركته في تلك القبضة حتى ملأت أعين القوم، إلى غير ذلك من الآيات، كنزول الملائكة للقتال حتى رآهم العدو جهرة ورآهم بعض المسلمين.
ومنها جواز انتظار الإمام بقسم الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة، فيرد عليهم غنائمهم وسبيهم، وفي هذا دليل لمن يقول إن الغنيمة إنما تملك بالقسمة لا بمجرد الاستيلاء عليها، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء لم يستأن بهم النبي صلى الله عليه وسلم ليردها عليهم، وعلى هذا فلو مات من الغانمين أحد قبل القسمة وإحرازها بدار الإسلام رد نصيبه على بقية الغانمين دون ورثته، وهو مذهب أبي حنيفة.
ومنها جواز التنفيل من أربعة أخماس الغنيمة، وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاء الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم هو من النفل، نفل به رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله واستجلاب عدوه إليه، وهكذا وقع سواء كما قال بعض هؤلاء الذين نفلهم: لقد أعطاني رسول الله وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي.(1/418)
فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله وأذل الكفر وحزبه، واستجلب به قلوب رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضبوا غضب لغضبهم أتباعهم، وإذا رضوا رضوا لرضاهم، فإذا أسلم هؤلاء لم يتخلف أحد من قومهم.
فلله ما أعظم موقع هذا العطاء وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله. ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل.
ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة قال له قائلهم: اعدل فإنك لم تعدل، وقال غيره: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله وبمعرفته بربه وطاعته له وتمام عدله وإعطائه لله ومنعه لله.
ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم، وله أن يسلط عليها نارا من السماء تأكلها، وهو في ذلك كله أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، وما فعل من ذلك عبثا ولا قدره سدى، بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه وعزته ورحمته.
ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله يقودونه إلى ديارهم وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير كما يعطي الصغير ما يناسب عقله ومعرفته. ويعطي العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون، ورسوله منفذ لأمره. والله أعلم.
وفيها أن السلامة من ألسنة الناس غاية لا تدرك كما قال الشافعي، فعليك بما يصلحك عند الله ودع عنك الناس. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فيه ونسب إلى الجور والظلم وهو رسول رب العالمين وأعظم الخلق عدلا وأمانة ومع هذا قيل فيه ما قيل، فكيف يطمع العاقل في السلامة من الناس؟(1/419)
ومنها التأسي بالأنبياء، والصبر كصبرهم، لقوله عليه السلام: "قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".
ومنها هي من علامات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إخباره بخروج الخوارج قبل وقت خروجهم بمدة، فصار الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وفيها أنها تفيدك الخوف العظيم على نفسك ولا تغتر بالهالك ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم.
وفيها معرفة المؤمن أن كل ما خالف هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه فهو باطل مردود على صاحبه، وإن كان قصده رضا الله، لأن الخوارج لم يقصدوا ببدعتهم إلا رضا الله والجنة، ولكن لما كان دينهم ومذهبهم خلاف هدى رسول الله وهدى أصحابه كانوا هم شر الخلق والخليقة.
ولهذا حرض النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم إذا خرجوا وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"، وقال: "هم شر الخلق والخليقة".
وفيها معرفة المؤمن أن المنتسب إلى الإسلام والسنة الزهد والعبادة قد يمرق من الإسلام، فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله حيث قال في كتابه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من قبلكم الغلو".
ومن ذلك الغلو في المخلوق كائنا من كان، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح كالمسيح أو عزير أو علي بن أبي طالب أو عبد القادر أو معروف الكرخي أو غيرهم وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يدعوه مع الله أو يستغيث به في رخاء أو شدة ليفرج كربته أو يجلب إليه منفعته أو ينذر له ليجلب له خيرا أو يدفع عنه شرا، أو يذبح له ذبيحة يتقرب بها إليه أو يقول إذا ذبح شاة "باسم سيدي" أو يعيده بالسجود له أو لقبره.
فكل هذا شرك وضلال وغلو في الدين وجعل إله مع رب العالمين، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا.(1/420)
فإن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه آلهة أخرى.
وقد عمت البلوى بهذا الأمر في كثير من البلاد نسأل الله العفو والعافية.
ومنها أنه قال صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" وقاله قبلها في غزوة أخرى، فاختلف الفقهاء هل هذا السلب مستحق بالشرع أو بالشرط، على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما أنه له بالشرع شرطه الإمام أو لم يشرطه وهو قول الشافعي، والثاني أنه لا يستحقه إلا بشرط الإمام وهو مذهب أبي حنيفة، وقال مالك: لا يستحقه إلا بشرط الإمام بعد القتال، فلو نص قبله لم يجز. ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول، فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة، وقد يقوله بمنصب الفتوى كقوله لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" فهذه فتيا لا حكم.
وقد يقوله بمنصب الإمامة فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان على تلك الحال فيلزم من بعده من الأمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا. ومن ههنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه كقوله: "من قتل قتيلا فله سلبه" هل قاله بمنصب الإمامة فيكون حكمه متعلقا بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما؟ وكذلك قوله: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام أو لم يأذن له، أو هو راجع إلى الأئمة فلا تملك بالإيحاء إلا بإذن الإمام؟ على قولين: فالأول للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما، والثاني لأبي حنيفة. وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "له عليه بينة" يدل على مسألتين: إحداهما أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافر لا تقبل، الثانية ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين لحديث أبي قتادة المتقدم في الصحيح في قتل الرجل، وهذا أحد الأقوال في المسألة وهو وجه مذهب أحمد، والثاني أنه لا بد من شاهد ويمين كإحدى(1/421)
الروايتين عن أحمد، والثالث لا بد من شاهدين نص عليه أحمد لأنه دعوى قتل فلا تقبل إلا بشاهدين.
وفي القصة دليل على مسألة أخرى وهي أنه لا يشترط في الشهادة التلفظ بلفظ أشهد.
قال في الهدى: وهذا أصح الروايات عن أحمد في الدليل، قال شيخنا: ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط لفظة الشهادة، وقد قال ابن عباس: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظة أشهد.
وقوله "فله سلبه" دليل على أنه له سلبه غير مخمس، وقد صرح بهذا في قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلا: له سلبه.
وفي المسألة ثلاثة مذاهب: هذا أحدها. والثاني: كالغنيمة، وهذا قول الأوزاعي، وأهل الشام، وهو مذهب ابن عباس لدخوله في آية الغنيمة. والثالث: إن استكثره الإمام خمسه وهو قول إسحاق، وفعله عمر بن الخطاب رواه عنه ستة في مبارزة البراء المرزبان.
قال صاحب الهدى: والأول أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب وقال: هو له أجمع، ومضت على ذلك سنته وسنة الصديق بعده، وما فعله عمر اجتهاد.
وفي الحديث دليل على أنه من أصل الغنيمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به للقاتل ولم ينظر في قيمته وقدره واعتبار خروجه من خمس الخمس.
وفيها جواز نصب المنجنيق على الكفار ورميهم به وإن أفضى إلى قتل من لم يقاتل من النساء والذرية.
وفيها جواز قطع شجر الكفار إذا كان ذلك يضعفهم ويغيظهم وهو أنكى فيهم.
ومنها أن العبد إذا أبق من المشركين إلى المسلمين صار حرا.(1/422)
ومنها استجابة الله دعاء رسوله لثقيف أن يهديهم ويأتي بهم، وقد حاربوه وقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وقتلوا رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كله فدعا لهم ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رحمته ونصيحته.
ومنها كمال محبة الصديق وقصده التقرب إليه بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي فرحه بذلك.
وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح.
وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها بجوار النبي صلى الله عليه وسلم وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال ولا لها البذل. وهل إهداء القرب المجمع على جوازها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بالقرب. فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها وبين أن يعملها ثم يؤثره بثوابها؟
ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة.
وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وأعظم شركا عندها وبها وبالله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد فيها أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا شبرا بشبر وذراعا بذراع.(1/423)
وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ومنها جواز صرف الإمام الأموال التي تصل إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها كلها ويصرفها إلى الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها، وقضى منها دين عروة والأسود، وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بثمنها على مصالح المسلمين، وكذلك الحكم في أوقافها والوقف عليها باطل. وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له ويحج إليه ويعبد من دون الله ويتخذ وثنا من دون الله.
وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم. انتهى ملخصا من الهدى النبوي لابن القيم رحمه الله تعالى. وفيها من الفوائد والفقه أكثر مما ذكر. والله أعلم.(1/424)
ذكر قصة كعب بن زهير مع النبي صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب، وكان بجير قد أسلم وهو أحسن الإسلام يخبره أن رسول الله قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب(1/424)
قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك.
وكان كعب قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه وما تلفى عليه أبا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إما عثرت لعاكا
سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
قال فبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله، فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سقاك بها المأمون، صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون". ولما سمع: "على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه" قال: "أجل، لم يلف عليه أباه ولا أمه". ثم قال بجير لأخيه كعب:
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أجزم
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنج إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم(1/425)
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقالوا: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله ويذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار له إلى رسول الله فقال: هذا رسول، فقم إليه واستأمنه، فذكر لي أنه قام إلى رسول الله حتى جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله لا يعرفه فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير جاء ليستأمنك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله: "نعم". قال أنا يا رسول الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه. فقال رسول الله: "دعه عنك، فقد جاءنا تائبا نازعا" . قال فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية المشهورة يصف فيها محبوبته وناقته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة، عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
تمشي الغواة بجنبيها وقولهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم ...
فكل ما قدر الرحمن مفعول(1/426)
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
حتى وضعت يميني ما أنازعها ... في كف ذي نقمات قوله القيل
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسؤول
من ضيغم من ضراء الأسد مخدره ... في بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم ... يبطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ...
عند اللقاء ولا ميل معازيل(1/427)
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
قال ابن إسحاق قال عاصم بن قتادة: فلما قال كعب "إذا عرد السود التنابيل" وإنما يريد معاشر الأنصار لما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين من قريش بمدحته غضبت عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار ويذكر بلاءهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب1 من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأذرع ... كسوالف الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار
ـــــــ
1 المقنب: جماعة الخيل والمراد به هنا الأنصار على ظهور خيولهم(1/428)
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
دربوا كما دربت ببطن خفية ... غلب الرقاب من الأسود ضواري
وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأعفار
ضربوا عليا1 يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمي كله ... فيهم لصدقني الذين أماري
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقاري
وقال ابن هشام ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشده بانت سعاد: "لولا ذكرت الأنصار بخير، فإن الأنصار لذلك أهل"، فقال كعب هذه الأبيات. وفي رواية أبي بكر بن الأنباري لما وصل إلى قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول
رمى عليه صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه، وإن معاوية بذل له فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله أحدا. فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا وأخذها منهم، قال وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم.
ـــــــ
1 ضربوا عليا: يريد به عليا بن مسعود بن مازن الغساني(1/429)
وكان كعب بن زهير من فحول الشعراء هو وأبوه زهير، وابنه عقبة، وابن ابنه العوام بن عقبة.(1/430)
فصل
قالوا: ولما دخلت سنة تسع بعث صلى الله عليه وسلم المصدقين يأخذون الصدقات من الأعراب، قال ابن سعد: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصدقين. قالوا لما رأى رسول الله هلال المحرم سنة تسع بعث المصدقين يصدقون الأعراب، فبعث عيينة بن حصن إلى بني تميم، وبعث يزيد بن الحصين إلى أسلم وغفار، وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة، وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة، وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب، وبعث بشير بن سفيان إلى بني كعب، وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى بني ذبيان، وأمرهم رسول الله أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم.
قال ابن إسحاق: وبعث المهاجر بن أمية إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت، وبعث عدي بن حاتم إلى طيء وبني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقات بني سعد على رجلين: فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية، وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث عليا إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم.(1/430)
فصل في السرايا والبعوث في سنة تسع
فيمنها سرية عيينة بن حصن الفزراي إلى بني تميم، وذلك في المحرم من هذه السنة في خمسين فارسا ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء وقد سرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع(1/430)
سرية قطبة بن عامر في سنة تسع
قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية تبالة وأمره أن يشن الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة فاعتقبوها فشنوا الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين، وقتل قطبة بن عامر من قتل وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة. وفي القصة أن القوم اجتمعوا وركبوا في آثارهم، فأرسل الله سيلا عظيما حال بينهم وبين المسلمين فساقوا النعم والسبي وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروا إليهم.(1/434)
سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب
في ربيع الأول سنة تسع قالوا بعث رسول الله جيشا إلى بني كلاب وعليهم الضحاك بن سفيان بن عوف ومعهم الأصيد بن سلمة، فلقوهم بالزج زج، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة،(1/434)
سرية علقمة بن محرز المدلجي إلى الحبشة
في ربيع الآخر سنة تسع، وقال الحاكم في صفر. قال ابن سعد: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة بعث إليهم علقمة بن محرز في ثلاثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه.(1/435)
ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طيء ليهدمه
وفي هذه السنة قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفلس وهو صنم طيء ليهدمه، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر فهدموه، وملؤوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم. وكان عدي قد هرب إلى الشام ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع. واستعمل على السبي أبا قتادة، وعلى الماشية والرقة عبد الله بن عتيك، وقسم الغنائم في الطريق، وعزل الصفي لرسول الله، ولم يقسم آل حاتم حتى قدم بهم المدينة.
قال ابن إسحاق قال عدي بن حاتم: ما كان رجل من العرب أشد كراهة لرسول الله مني حين سمعت به، وكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي. فلما سمعت برسول الله كرهته، فقلت لغلام عربي لي وكان راعيا(1/435)
فصل اعتزاله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا
قالوا: وفي هذه السنة هجر رسول الله نساءه وقال: "ما أنا بداخل عليكن شهرا"، فاعتزل في مشربة له، فنزل بعد تسع وعشرين ليلة، فبدأ بعائشة، فقالت له: يا رسول الله كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عدا. فقال: "الشهر تسع وعشرون"، وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين. والقصة في الصحيحين.(1/438)
غزوة تبوك
قالوا: وكانت في رجب من هذه السنة، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم. وتبوك موضع معروف، وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق، وهي غزوة العسرة،(1/438)
فصل صلح صاحب أيلة في غزوة تبوك
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح: بالذال المعجمة والراء والحاء(1/444)
المهملة بلدين بالشام بينهما ثلاثة أيام، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله كتابا. وذكر ابن عائذ في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك في زمان قد قل ماؤها فيه، فاغترف رسول الله بيده غرفة من ماء فمضمض بها ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت، فهي كذلك حتى الساعة.
قلت: في صحيح مسلم عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل وصوله إليها: "إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي". قال فجئنا وقد سبق إليها رجلان والعين تبض بشيء من مائها، فسألهما رسول الله: "هل مسستما من مائها شيئا؟" قالا: نعم. وقال لهما ما شاء أن يقول. ثم غرف من العين قليا قليلا حتى اجتمع الوشل، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويده ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك يا معاذ إن طالت بك الحياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا".
وذكر البيهقي في الدلائل والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فاسترقد رسول الله لما كان منها على ليلة، فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، فقال: "ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر؟" فقال: يا رسول الله ذهب بي النوم الذي ذهب بك. فانتقل رسول الله من ذلك المكان غير بعيد ثم صلى، ثم ذهب بقية يومه وليلته.
ثم أصبح في تبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله. وأوثق العرى كلمة التقوى. وخير الملل ملة إبراهيم. وخير السنن سنة محمد. وأشرف الحديث ذكر الله. وأحسن القصص هذا القرآن. وخير الأمور عوارفها. وشر الأمور محدثاتها. وأحسن الهدى هدى الأنبياء. وأشرف الموت قتل الشهداء. وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى. وخير الأعمال ما نفع. وخير الهدى ما اتبع. وشر العمى عمى القلب. واليد العليا خير من اليد السفلى. وما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وشر المعذرة حين يحضر الموت. وشر الندامة يوم القيامة. ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله إلا هجرا. ومن أعظم(1/445)
الخطايا اللسان الكذوب. وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى. ورأس الحكمة مخافة الله. وخير ما وقر في القلب اليقين. والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية. والغلول من حر جهنم، والسكر كي من النار. والشعر من إبليس. والخمر جما ع الإثم، وشر المآكل مال اليتيم. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه. وإنما يصير أحدكم إلا موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره. وملاك العمل خواتمه وشر الروايا روايا الكذب. وكل ما هو آت قريب، وسباب المسلم فسوق وقتله كفر. وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه. ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله, ومن يصبر على الرزية يعوضه الله. ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يتصبر يغفر الله له. ومن يعص الله يعذبه". ثم استغفر ثلاثا. انتهى.
ولمسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال شعبة فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحد من أمته. وله عن معاذ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا. وأخرجه مالك في الموطأ وزاد: فأخر الصلاتين يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا. وفي رواية أبي داود والترمذي عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، لكن أعل هذه الرواية جماعة من أهل الحديث. وذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخلها على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث. قال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على من قال لا يجمع إلا إذا جد به السير. انتهى.
وبعث رسول الله خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر ابن عبد الملك من كندة، وكان ملكا عليها وكان نصرانيا بدومة الجندل. قال أبو عبيد: دومة الجندل حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيء، ودومة من قريات من وادي القرى، وذكر أن عليها حصنا حصينا يقال له مارد وهو(1/446)
حصن أكيدر الملك، فقال خالد: يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كلب وأنمار، وأنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله: "ستلقاه يصيد الوحش أو قال البقر فتأخذه". فخرج خالد ومن معه فلما بلغ خالد قريبا من حصنه بمنظر العين وكانت ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له في الحصن معه امرأته، فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن، وأشرفت امرأته على باب الحصن فقالت: ما رأتي كالليلة. وفي لفظ: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمت يترك هذه الليلة؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته ومعه أخوه حسان فخرجوا من حصنهم بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان فقاتل حتى قتل، وهرب من كان معه ودخل الحصن، وكان على أكيدر قباء مخوض بالذهب فاستلبه خالد وبعث به إلى رسول الله قبل قدومه به عليه.
وفي الصحيح عن أنس قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا". انتهى.
وقال خالد لأكيدر: هل لك على أن أجيرك من القتل حتى آتي بك رسول الله على أن تفتح دومة الجندل؟ قال: نعم ذلك لك. فلما صالح خالد أكيدرا وأكيدر في وثاق ومضاد أخو أكيدر في الحصن، أبى مضاد أن يفتح باب الحصن لما رأى أخاه في الوثاق، فطلب أكيدر من خالد أن يصالحه على شيء حتى يفتح له باب الحصن وينطلق به وبأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما شاء، فرضي خالد بذلك فصالحه أكيدر على ألفي بعير وثلاثمائة فرس، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، ففعل خالد وخلى سبيله، ففتح له باب الحصن فدخله وحقن دمه ودم أخيه، فانطلق بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد وصل إلى المدينة، فلما قدم بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية وخلى سبيلهما، وكتب لهما كتاب إمارة.(1/447)
قال ابن الأثير: ومات نصرانيا بلا خلاف بين أهل السير، لأنه بعد المصالحة عاد إلى حصنه وبقي فيه فحاصره خالد زمن أبي بكر فقتله مشركا بنقضه العهد.(1/448)
فصل بعض الأحداث في غزوة تبوك
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، وقيل عشرين ليلة يصلي بها ركعتين ركعتين ولم يلق كيدا. وفي مسند أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، فقال النبي: "كذب وهو على نصرانيته". ولأبي عبيد بسند صحيح نحوه ولفظه قال: "كذب عدو الله، ليس بمسلم". وفي المواهب اللدنية كتب رسول الله كتابا من تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام فقارب الإجابة ولم يجب رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس.
وفي المنتقى شاور رسول الله أصحابه في التقدم والمسير إليهم فقال عمر: إن كنت أمرت بالمسير فسر، فقال رسول الله: "لو أمرت ما استشرتكم فيه"، فقال عمر: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت وأفزعهم دنوك، لو رجعت هذه السنة حتى ترى أو يحدث الله لك في ذلك أمرا عظيما. فانصرف رسول الله إلى المدينة، ولم يلق كيدا. وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه"، فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله وقف عليه فلم ير فيه شيئا فقال: "من سبقنا إلى هذا الماء؟" فقيل: يا رسول الله فلان وفلان. فقال: "ألم أنهكم أن تستقوا منه شيئا حتى آتيه؟" ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل ووضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء – كما يقول من سمعه – أما إن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم(1/448)
منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وقد أخصب ما بينه وما خلفه".
وفي مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك هم المنافقون بالفتك به فعصمه الله منهم، وذكر البيهقي في الدلائل من حديث ابن إسحاق عن الأعمش عم عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق الناقة وأنا أسوق وعمار يقوده، حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال فأنبهت رسول الله فصرخ فيهم فولوا مدبرين، فقال رسول الله: "هل عرفتم القوم؟" قلنا: يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكن عرفنا الركاب. قال: "هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة". قال: "هل تدرون ما أرادوا؟" قلنا: لا. قال: "أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيقتلوه بها". قلنا: يا رسول الله ألا تبعث لعشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: "لا، أكره أن تتحدث العرب أن محمدا قاتل بالقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم. اللهم ارمهم بالدبيلة". قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: "شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك". ولأحمد عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فعقبوا عمارا وهو يسوق برسول الله، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قد"، حتى هبط رسول الله من الوادي، فلما هبط ونزل رجع عمار فقال: "يا عمار هل عرفت القوم؟" فقال: عرفت الرواحل والقوم متلثمون. قال: "وهل تدري ما أرادوا؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أرادوا أن ينفروا برسول الله ويطرحوه". قال فسار عمار رجلا من أصحاب النبي فقال: نشدتك بالله هل تعلم كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشرة رجلا. قال إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فتعذر لرسول الله منهم ثلاثة وقالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. انتهى.(1/449)
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم وما هموا به وأمرهما أن يكتما عليهم، وكان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره. قال الضحاك في قوله تعالى {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} الآية: إنها نزلت في أهل العقبة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله ابن مسعود يحدث قال: قمت من جوف الليل في غزوة تبوك، قال فرأيت شعلة من نار ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول الله في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: "أدليا لي أخاكما"، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: "اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارض عنه". قال يقول عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: إنما سمي ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ. فهرب منهم إلى رسول الله، فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنتين فاتزر بواحدة واشتمل بالأخرى، ثم أتى رسول الله فقيل له ذا البجادين.(1/450)
خبر مسجد الضرار
قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين نزل بذي أوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، جاءه خبر مسجد الضرار من السماء، وذكر غيره أن بني عمرو بن عوف لما اتخذوا مسجد قباء فبعثوا إلى رسول الله أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدتهم إخوتهم بنو غنم وكانوا من منافقي الأنصار فقالوا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله فيصلي فيه كما صلى في مسجد إخواننا ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام.
وروى عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس في قوله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً} هم ناس من الأنصار ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه. فلما فرغوا من(1/450)
مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعوا بالبركة، فأنزل الله {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} يعني مسجد قباء إلى قوله {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} يعني قواعده { لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} من الشك {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعني بالموت. انتهى.
قال ابن إسحاق: وقد كان أهل مسجد الضرار، أتوا رسول الله وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فقال رسول الله: "إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتينا فصلينا لكم فيه". فلما انصرف رسول الله من تبوك ونزل بذي أوان أتاه المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبرهم وما هموا به، فدعا رسول الله مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن فقال لهم: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه." فخرجوا سراعا حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي. فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد فحرقوه وهدموه وتفرق أهله عنه. ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
قال في الهدى: وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه من مكة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام. فلما أشرف على المدينة قال: "هذه طابة وهذا جبل أحد يحبنا ونحبه". وفي البخاري لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال: "إن بالمدينة رجالا(1/451)
ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، جبسكم العذر". قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة".(1/452)
فصل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من تبوك
ولما دخل المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين كما في حديث كعب ابن مالك في الصحيحين ثم جلس للناس، فجاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل رسول الله منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله, وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من غير شك ولا نفاق: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وأمر رسول الله أصحابه أن لا يكلموا هؤلاء الثلاثة.(1/452)
حديث كعب بن مالك حتى تاب الله عليه
وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن كعب بن مالك قال: ما تخلفت عن رسول الله في غزوة غزاها قط، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر، وكان غزوة بدر لم يعاتب أحد تخلف عنها، وذلك أن رسول الله إنما خرج يريد عير قريش، فجمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلفت عنه في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه تلك الغزوة، والله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة، وكان رسول الله قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته. وأخبرهم بوجهه الذي يريده، والمسلمون مع رسول(1/452)
فصل الأحداث بعد العودة من تبوك
قالوا: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وجد عويمر العجلاني امرأته حبلى فلاعن عليه السلام بينهما كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما.
وفيها رجم رسول الله المرأة الغامدية وذلك أنها جاءته فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت وأنا أريد أن تطهرني، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجعي". ثم أتته الغد فقالت أيضا، وبعد الغد أيضا وقالت: يا رسول الله طهرني، فلعلك تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إني لحبلى من الزنا، فقال لها: "ارجعي حتى تلدي". فلما ولدت جاءت بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: يا نبي الله، هذا فطمته. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها حفرة فجعلت فيها إلى صدرها ثم أمر الناس أن يرجموها. فأتى خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد بن الوليد فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال: "مهلا يا خالد، لا تسبها، فوالذي نفس محمد بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له". فأمر بها فصلى عليها ودفنت.(1/457)
قالوا وفي هذه السنة توفي النجاشي ملك الحبشة في المغرب واسمه أصحمة وهو الذي هاجر إليه المسلمون، فنعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى المصلى وصف أصحابه خلفه وكبر عليه أربع تكبيرات كما ثبت ذلك في الصحيحين، وتقدم ذلك عند ذكر هجرة الحبشة.
وفيها توفيت أم كلثوم بنت رسول الله تحت عثمان بن عفان، فحزن عليها حزنا شديدا فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها يا عثمان". وجلس عليه الصلاة والسلام على قبرها وعيناه تدمعان وقال: "هل منكم أحد لم يقارف الليلة أهله؟" فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. فقال: "انزل"، فنزل في قبرها أبو طلحة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري.
وفيها مات عبد الله بن أبي رأس المنافقين، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فشهده وصلى عليه وألبسه قميصه. ولما قام صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه وثب إليه عمر فقال: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال كذا يوم كذا وعدد قوله، فتبسم رسول الله وقال: "أخر عني يا عمر". فلما أكثر عليه قال: "إني خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها". فصلى عليه رسول الله ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} الآيتان.
قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله يومئذ، والله ورسوله أعلم وعن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله عبد الله بن أبي عندما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضع على ركبتيه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه، وكان كسا عباسا قميصا لما أتي به يوم بدر ولم يكن عليه ثوب، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه كساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك ألبسه عليه الصلاة والسلام قميصه.
قال ابن عيينة كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه.
وفي هذه السنة قدم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك سنة تسع، وهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان بن قيل ذي رعين وهمدان ومعافر ورسولهم إليه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرهاوي.(1/458)
قال الواقدي: بعث زرعة ذو يزن إلى رسول الله مالك بن مرة بإسلام ملوك حمير ومفارقتهم الشرك وأهله، وقد كان رسول الله في مسيره إلى تبوك يقول: "إني بشرت الكنزين فارس والروم، وأمددت بالملوك ملوك حمير يأكلون في الله ويجاهدون في سبيل الله", فلما قدم مالك بن مرة بإسلامهم كتب إليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله النبي، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان بن قيل ذي رعين ومعاذ وهمدان.
أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قلتم وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين وأن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبي وصفيه وما كتب على المؤمنين من الصدقة" – وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم – ثم قال: "فمن زاد فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا، من أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله
أما بعد فإن محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبدة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم، وإن جمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم فأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبن إلا راضيا.
أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله. ثم إن مالك ابن مرة الرهاوي قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم. وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هي زكاة يزكي بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ(1/459)
الغيب وآمركم به خيرا، وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي، وأولى دينهم وأولى عملهم، وآمركم بهم خيرا فإنه منظور إليهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
فهذا ما ذكره ابن إسحاق من شأن ملوك حمير وما كتبوا به وما كتب إليهم.
وفي هذه السنة في ذي القعدة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد ووافقه عكرمة بن خالد.
وقال قوم: في ذي القعدة، وبه قال الداودي والماوردي ومحمد بن سعد، ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر على الحج، فيكون حجه في ذي الحجة. والله أعلم.
ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة وذلك حين قال رسول الله في حجته تلك "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" وذلك أن العرب كانوا يستعملون النسيء فيؤخرون المحرم إلى صفر ثم كذلك حتى تتدافع الشهور فيستدير التحريم على السنة كلها، روي نحو هذا عن مجاهد.
قال ابن كثير في تفسيره: "وقول مجاهد فيه نظر. وأيضا كيف تصح حجة في ذي القعدة وأنى هذا؟ وقد قال الله {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} الآية. وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر، فلو لم يكن في ذي الحجة لما قال الله {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ولا يلزم من فعلهم النسيء الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل عام شهرا، فإن النسيء حاصل بدون هذا، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما عوضوا صفرا وبعده ربيعا وربيعا الآخر والسنة حالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها، ثم العام في القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفرا وربيعا وربيعا الآخر إلى آخرها، فيحلونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله أي في(1/460)
تحريمه أربعة أشهر من السنة، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته" إلى آخره، فهو تقدير منه وتثبيت للناس على ما جعله الله لهم في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ولا نقص ولا نسيء ولا تبديل، كما قال في تحريم مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة".
وهكذا قال ههنا "إن الزمان قد استدار" إلخ، أي الأمر شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض". انتهى كلامه.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين.
قال في المواهب: وكان معه ثلاثمائة رجل من المدينة وعشرون بدنة.
قال ابن إسحاق: ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه: أن لا يصدوا عن البيت أحدا جاءه ولا يخلف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهدا علما بين وبين أهل الشرك، وكانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون منهم من سمى لنا ومنهم من لم يسم لنا.
قال ابن إسحاق: وكانت براءة تسمى في زمان رسول الله وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس.
قال وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد ابن علي أنه لما نزلت براءة على رسول الله قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي"، فدعا علي بن أبي طالب فقال: "اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا(1/461)
بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك. ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له مدته". فخرج علي على ناقة رسول الله العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور. فأقام أبو بكر للناس الحج.
وللنسائي عن جبار قال كنا مع أبي بكر في حجته، فلما كان بالعرج ثوب بالصبح، فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره، فوقف عن التكبير فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله الجدعاء، لقد بدا لرسول الله في الحج، فلعله أن يكون رسول الله فنصلي معه، فإذا هو علي عليها، فقال أبو بكر: أمير أم رسول؟ فقال: لا بل رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج. فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا. فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون، يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه رسول الله حجة الوداع مشرك.
فأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية. وفي رواية البخاري: فكان حميد بن عبد الرحمن يقول بوم النحر يوم الحج الأكبر، من أحل حديث أبي هريرة.(1/462)
وقال الحميدي: حدثنا سفيان حدثني أبو إسحاق الهمداني عن زيد بن يثيع قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحج؟ قال: "بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع كافر ومؤمن في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهدته إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر".
قال في الهدى: "واختلف في حجة الصديق هل هي التي أسقطت الفرض، أو المسقطة هي حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ على قولين أصحهما الثاني والقولان مبنيان على أصلين: أحدهما هل كانت حجة الصديق في ذي الحجة أو وقعت في ذي القعدة من أجل النسيء الذي كان أهل الجاهلية يؤخرون له الأشهر؟ والثاني قول مجاهد وغيره.
وعلى هذا فلم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج بعد فرضه عاما واحدا، بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه، وهذا هو الأليق بهديه وحاله، وليس بيد من ادعى تقدم فرض الحج سنة ست أو سبع أو ثمان دليل واحد، وغاية ما احتجوا به قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهي نزلت بالحديبية سنة ست، وهذا ليس فيه ابتداء فرض الحج، إنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه، وآية فرض الحج هي قوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية وهي نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع". انتهى والله أعلم.(1/463)
فصل في قدوم وفود العرب وغيرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد كان ابتداء الوفود بعد رجوعه عليه السلام من الجعرانة آخر سنة ثمان وما بعدها. وقال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.(1/463)
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى "سنة الوفود". قال ابن إسحاق: وإنما مانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت قريش عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا في دين الله كما قال الله عز وجل {أَفْوَاجاً} فقدم عليه وفد هوازن وهو بالجعرانة كما تقدم، وقدم عليه وفد ثقيف وتقدم ذلك أيضا. وقدم عليه وفد بني تميم وتقدم ذلك أيضا، وقدم عليه وفد بني عامر بن صعصعة وفيهم عامر بن الطفيل عدو الله وأربد بن قيس أخو لبيد الشاعر لأمه وخالد بن جعفر وجبار بن أسلم بن مالك، وكان هؤلاء النفر الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم، فأقبل عدو الله عامر وأربد يريدان أن يغدرا برسول الله، فقيل يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه إن يرد الله به خيرا يهده". فأقبل حتى قام عليه فاستشرف الناس لجمال عامر، وكان من أجمل الناس، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم". فقال: تجعل الأمر لي بعدك؟ قال: "ليس ذلك إلي، إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء". قال: فاجعلني على الوبر وأنت على المدر. قال: "لا". قال: فماذا تجعل لي؟ قال: "أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها". قال وليس ذلك إلي اليوم؟ وكان عامر قال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فأنا شاغل عنك وجهه فإذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فدار أربد ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبس الله يده فلم يقدر على سله فعصم الله نبيه، فالتفت رسول الله فرأى أربد ما يصنع بسيفه فقال: "اللهم اكفنيهما بما شئت". فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد: أين ما أمرتك به؟ قال: ويحك والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا وحلت بيني وبينه، أفأضربك بالسيف؟ فأرسل الله على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وكان أربد أخا لبيد لأمه، فبكاه ورثاه، ومما قال:(1/464)
أخشى على أرب الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد
ما إن تعرى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
فجعني الرعد والصواعق بالفـ ... ـارس يوم الكريهة النجد
يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
وقال:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
لا ينفعون ولا يرجى خيرهم ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
إن الرزية لا رزية مثلها ... فقدان كل أخ كضوء الكوكب
قال ابن عبد البر: ومما يستجاد قوله في قصيدة يرثي بها أخاه:
أعاذل ما يدريك إلا تظننا ... إذا رحل السفار من هو راجع
أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى ... وأين كريم لم تصبه القوارع
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه ...
يعود رمادا بعد إذ هو ساطع(1/465)
وما البر إلا مضمرات من التقى ... وما المال إلا معمرات ودائع
قال ابن إسحاق: وأنزل الله عز وجل {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} وفي رواية قال عامر: والله لأربطن بكل نخلة فرسا. فقال رسول الله: "يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة". يعني الأوس والخزرج: في صحيح البخاري: أن عامرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخيرك بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء. فطعن في بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البعير في بيت امرأة من بني فلان؟ ائتوني بفرسي، فركب، فمات على ظهر فرسه.
وقدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي قبيلة كبيرة ينسبون إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وفي الصحيحين عن ابن عباس أن وفد عبد القيس قدموا، فقال رسول الله: "ممن القوم؟" قالوا: من ربيعة. قال: "مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى". فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة. فقال: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس. وأنهاكم عن أربع: الدباء والحنتم والنقير والمزفت. فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم " زاد مسلم قالوا: يا رسول الله ما علمك بالنقير؟ قال: "بلى، جذع تنقرونه ثم تلقون فيه من التمر ثم تصبون عليه الماء حتى يغلي، فإذا سكن شربتموه، فعسى أحدكم أن يضرب ابن عمه بالسيف". وفي القوم رجل به ضربة لذلك. قال: وكنت أخبؤها حياء من رسول الله. قالوا: ففيم نشرب يا رسول الله؟ قال: "اشربوا في أسقية الأدم التي تلاث على أفواهها". قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان لا تبقي بها أسقية الأدم. قال: "وإن أكلتها الجرذان"(1/466)
مرتين أو ثلاثا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
قال في الهدى: وفي هذه القصة أن الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول والعمل كما على ذلك أصحاب رسول الله والتابعون وتابعوهم كلهم. ذكره الشافعي في المبسوط. وفيها أنه لم يعد الحج من هذه الخصال وكان قدومهم في سنة تسع، وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد، وأنه إنما فرض في العاشرة.
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة الكذاب.
قال ابن إسحاق عن شيخ من أهل اليمامة: إن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا له مكانه فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وركابنا. فأمر له رسول الله بما أمر به للقوم وقال: "أما أنه ليس بشركم مكانا"، يعني حفظه ضيعة أصحابه. ثم انصرفوا وجاؤوه بالذي أعطاه، فلما قدم اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وقال: إني أشركت في الأمر معه، ألم يقل لكم حين ذكرتموني: "إنه ليس بشركم مكانا". ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن "لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق1 وحشا" ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله أنه نبي. فأصفقت2 بنو حنيفة على ذلك.
وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر، وليس قريش قوما يعدلون. فقدم عليه رسوله بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة
ـــــــ
1 الصفاق: مارق من البطن
2 أصفقت: اجتمعت معه(1/467)
الكذاب، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". فكان في آخر سنة عشر.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: لما قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: "إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني أراك الذي رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني". ثم انصرف. قال ابن عباس فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن أراك الذي رأيت فيه ما رأيت"، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحى إلي في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي: أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر صاحب اليمامة". وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم.
وقدم وفد طيء على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلمهم وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه"، ثم سماه "زيد الخير" وأقطعه فيدا وأرضين معه وكتب له بذلك. وخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: "إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه..." فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له فردة أصابته الحمى فمات. كذا ذكر ابن إسحاق.
قال ابن عبد البر: وقيل مات في آخر خلافة عمر. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "يا زيد تقتلك أم ملدم" يعني الحمى، فلما رجع إلى أهله حم ومات. وله ابنان حريث ومكنف أسلما وصحبا رسول الله وشهدا قتال أهل الردة.
وقدم وفد كندة سنة عشر.(1/468)
قال ابن إسحاق حدثني ابن شهاب أنهم قدموا في ثمانين أو ستين راكبا من كندة فيهم الأشعث بن قيس، فدخلوا عليه مسجده وقد رجلوا جممهم وتكحلوا وعليهم الحبرات مكفوفة بالحرير، فلما دخلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولم تسلموا؟" قالوا: بلى. قال: "فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟" فشقوه ونزعوه فألقوه. وفي المسند عن الأشعث بن قيس قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد كندة ولا يرون إلا أني أفضلهم، قلت: يا رسول الله ألستم منا؟ قال: لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا". فكان الأشعث يقول: لا أوتى برجل نفى رجلا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.
قال في الهدى: وفيه من الفقه أن من كان من ولد النضر فهو من قريش. وفيه جواز إتلاف المال المحرم استعماله كثياب الحرير على الرجال، وأن ذلك ليس إضاعة وللنبي صلى الله عليه وسلم جدة من كندة مذكورة وهي أم كلاب بن مرة وإياها أراد الأشعث. وفيه أن من انتسب إلى غير أبيه فقد انتفى من أبيه، وقفا أمه أي رماها بالفجور. وفيه أن كندة ليسوا من ولد النضر بن كنانة. وفيه أن من أخرج رجلا من نسبه المعروف جلد حد القذف.
قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي مفارقا لملوك كندة ومباعدا لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: "هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم؟" فقال: من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسوؤه ذلك؟ فقال له رسول الله: "أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا". واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها. وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله.
وقد كان بين مراد وهمدان وقعة قبل الإسلام أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له يوم الردم، وفي ذلك يقول ابن مسيك:
مررن على لفات وهن خوض ...
ينازعن الأعنة ينتحينا(1/469)
فإن نغلب فغلابون قدما ... وإن نغلب فغير مغلبينا
وما إن طبنا جبن ولكنا ... منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حينا فحينا
فبينا ما نسر به ويرضى ... ولو لبست غضارته سنينا
إذ انقلبت به كرات دهر ... وألفيت الألى غبطوا طحينا
فمن يغبط بريب الدهر منهم ... يجد ريب الزمان له خؤنا
فلو خلد الملوك إذا خلدنا ... ولو بقي الكرام إذا بقينا
فأفنى ذلكم سروات قومي ... كما أفنى القرون الأولينا
وقد عمرو بن معدي كرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من زبيد فأسلم، ثم رجع إلى قومه فأقام فيهم وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معدي كرب ثم رجع إلى الإسلام وقتل في قتال العجم زمن عمر رضي الله عنه.
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعريون وأهل اليمن، روى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا" ، فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون:
غدا نلقى الأحبة ...
محمدا وحزبه(1/470)
ولمسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا. والإيمان يمان والحكمة يمانية, والسكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر قبل مطلع الشمس". وفي البخاري عن عمران أن نفرا من بني تميم جاؤوا إلى رسول الله فقال: "أبشروا يا بني تميم" فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه نفر من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرة إذ لم يقبلها بنو تميم". قالوا: قد قبلنا. ثم قالوا: يا رسول جئنا لنتفقه في الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء". انتهى. وليس أراد اجتماع الأشعريين وأهل اليمن في الوفادة، فإن الأشعريين قد قدموا مع أبي موسى سنة سبع في فتح خيبر، وقدوم هؤلاء كان سنة الوفود سنة تسع، ولهذا اجتمعوا مع تميم.
وقدم على رسول الله صرد بن عبد الله الأزدي فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج يسير بأمر رسول الله حتى نزل بجرش وهي يومئذ مدينة مغلقة وبها قبائل من قبائل العرب.
قال: وقد ضوت إليهم خثعم فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم فحاصروهم فيها قريبا من شهر وامتنعوا فيها فرجع عنهم قافلا حتى إذا كان في جبل لهم يقال له: شكر ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلا شديدا.
وقد كان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين منهم يرتادان وينظران، فبينما هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد العصر إذ قال رسول الله: "بأي بلاد الله شكر؟" فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك يسميه أهل جرش. فقال: "إنه ليس بكشر ولكنه شكر". قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: "إن بدن الله لتنحر عنده الآن". قال: فجلس الرجلان إلى أبي بكر أو إلى عثمان فقال لهما: ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينعى لكما قومكما، فقوما فاسألاه أن يرفع الله عن قومكما. فقاما إليه فسألاه(1/471)
ذلك فقال: "اللهم ارفع عنهم". فخرجا من عند رسول الله راجعين إلى قومهما فوجدا قومهما قد أصيبوا في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر، فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حمى حول قريتهم. ذكره ابن إسحاق في السيرة.
وقدم وفد بني الحارث بن كعب.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا. فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه. قال فقام خالد بن الوليد يعلمهم الإسلام، وكتب إلى رسول الله بذلك، فكتب له رسول الله أن أقبل ويقبل معك وفدهم. فأقبل وأقبل معه وفدهم، فيهم قيس بن الحصين ذي الغصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل وعبد الله بن قراد و شداد بن عبد الله، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بم كنتم تغلبون من قاتلتم في الجاهلية؟" قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحدا بظلم. قال: "صدقتم". وأمر عليهم قيس بن الحصين فرجعوا إلى قومهم فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقدم عليه وفد همدان، منهم مالك بن النمط ومالك بن أيفع وضمام ابن مالك وعمرو بن مالك فلقوا رسول الله مرجعه من تبوك وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية على الرواحل المهرية ومالك بن النمط يرتجز بين يدي رسول الله يقول:
همدان خير سوقة وأقيال ... ليس لها في العالمين أمثال
محلها الهضب ومنها الأبطال ... لها إطابات بها وأكال
ويقول الآخر:(1/472)
إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف
مخطمات بحبال الليف
وذكروا له كلاما كثيرا حسنا فصيحا، فكتب لهم رسول الله كتابا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، وقال مالك بن النمط شعرا:
ذكرت رسول الله في فحمة الدجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهن بنا خوض طلائح تعتلى ... بركبانها في لاحب متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة ... تمر بنا مر الهجف الحفيدد
حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادر بالركبان من هضب قردد
بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حمل من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بجد المشرفي المهند
وروى البيهقي بسند صحيح عن أبي إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالدا إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام، قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب فأمره أن يقفل خالدا إلا رجلا كان ممن مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه، قال البراء: فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم(1/473)
خرجوا إلينا فصلى بنا علي ثم صفنا صفا واحدا ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه وقال: "السلام على همدان، السلام على همدان" . وأصل الحديث في صحيح البخاري. ولأحمد وأبي داود والترمذي عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث سن لا أبصر القضاء، قال فوضع يده على صدري وقال: "اللهم ثبت لسانه واهد قلبه". وقال: "يا علي إذا جلس إليك الخصمان لا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر..." ا لحديث. انتهى.
وقدم وفد مزينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى البيهقي عن النعمان بن مقرن قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة رجل من مزينة، فلما أردنا أن ننصرف قال: "يا عمر زود القوم". فقال: ما عندي إلا شيء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعا. قال: "انطلق فزودهم". قال: فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله ثم أصعدهم إلى علية، فلما دخلنا إذا فيه من التمر مثل الجمل الأورق، فأخذ القوم منه حاجتهم. قال النعمان: وكنت في آخر من خرج، فنظرت وما أفقد موضع تمرة من مكانها.
وقدم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم سنة عشر.
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران بالمدينة، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله: "دعوهم". فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. قال وحدثني يزيد بن سفيان عن ابن البيلماني عن كرز بن علقمة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبد المسيح، والسيد: ثمالهم، وصاحب رجلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر ابن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب(1/474)
مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه المكرمات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما توجهوا إلى رسول الله من نجران جلس أبو جارثة على بغلة له متوجها إلى رسول الله، وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز: تعس الأبعد يريد رسول الله فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست، فقال: ولم يا أخي؟ قال: والله إنه للنبي الأمي الذي ينتظرونه. فقال له كرز: فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا فتنازعوا فأنزل الله فيهم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فقال رجل من الأحبار أتريدنا يا محمد أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقال رجل من النصارى: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، وما بذلك بعثني ولا أمرني". فأنزل الله في ذلك من قولهما {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إلى قوله {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه وإقرارهم به على أنفسهم فقال {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الآية. وحدثني محمد بن سهل ابن أبي أمامة قال: لما قدم وفد نجران على رسول الله يسألونه عن عيسى بن مريم نزل فيهم فاتحة آل عمران الثمانين منها. انتهى
قال ابن إسحاق: وكانوا مختلفين في أمرهم يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة. وكذلك قولهم في النصرانية فهم يحتجون(1/475)
في قولهم هو الله بأنه كان يحي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، وذلك كله بأمر الله وليجعله آية للناس. ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنهم يقولون لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، شيء لم يصنعه أحد من ولد قبله، ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة بقول الله: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا. فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي ذلك من قولهم نزل القرآن. فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله: أسلما". قالا: قد أسلمنا. قال: "إنكما لم تسلما فأسلما". قالا: بل قد أسلمنا قبلك. قال: "كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير" . قالا: فمن أبوه؟ فصمت رسول الله عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فقال {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فاستفتح السورة في تنزيه نفسه عما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر والإلهية، ردا عليهم ما ابتدعوه من الكفر، {الْحَيُّ} الذي لا يموت وقد مات عيسى وصلب في قولهم، {الْقَيُّومُ} القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى وصلب في قولهم عن مكانه الذي كان به وذهب عنه إلى غيره إلى قوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}.
أي قد كان عيسى ممن صور في الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه كما صور غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل؟ ثم قال تنزيها لنفسه وتوحيدا لها مما جعلوا معه {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في حجته وعذره إلى عباده {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} حجة للرب وعصمة للعباد ودفع للخصوم والباطل ليس لهن تصريف ولا تأويل {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.
ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ولا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق، يقول الله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الهدى {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}(1/476)
أي لتكون له الحجة فيما ابتدعوا وأحدثوا، ولهم على ما قالوا شبهة {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي اللبس {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ذلك أي على ما ركبوا من الضلالة {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أي الذي أراده { إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد من رب واحد؟ ثم ردوا تأويل المتشابهة على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، واتفق بقول الكتاب وصدق بعضه بعضا فنفذت به الحجة وظهر به العذر وزاح الباطل ودمغ به الكفر، يقول الله {وَمَا يَذَّكَّرُ} في مثل هذا {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، إلى قوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فيما جاءك من الخبر عن عيسى {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمترين فيه، وإن قالوا خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}
أي من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيف كان أمره {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
قال ابن هشام قال أبو عبيدة: نبتهل ندعو باللعنة. وقال غيره: أي نجتهد في الدعاء.
قال ابن إسحاق: {إِنَّ هَذَا} الخبر الذي جئت به عن عيسى {الْقَصَصُ الْحَقُّ} من أمر الله {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فدعاهم إلى النصف، وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله الخبر عن الله عنه والفصل من القضاء بينهم وبينه وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك.(1/477)
وروى الحاكم بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران: "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم على عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام".
فلما أتى إلى الأسقف الكتاب فقرأه وقطع به وذعر ذعرا شديدا، فبعث به على رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة وكان من أهل همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله، لا الأيهم ولا العاقب. فدفع إليه الأسقف كتاب رسول الله فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، رأيي لو كان من أمر الدنيا أشرت عليك فيه برأي وجهدت لك فيه. فقال الأسقف: تنح فاجلس، ثم دعا الأسقف رجلا آخر منهم [يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح1] فقال مثل قول شرحبيل. فبعث إلى آخر [يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب] فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله. فلما اجتمع الرأي على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا نزل أمر بالنهار، وإذا فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض الحارثي فيأتونهم بخبر رسول الله، فذكر مجيئهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤالهم له عن عيسى عليه السلام، فأصبح الغد وقد أنزل الله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} إلى قوله {لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله الغد بعد ما أخبرهم
ـــــــ
1 عن البداية والنهاية لابن كثير 5/53(1/478)
الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للمباهلة وله يومئذ عدة نسوة.
فقال شرحبيل إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك. فقال له صاحباه: فما الرأي؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع، فهات رأيك. فقال: رأيي أن أحكمه، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا. فقال له: أنت وذاك. فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال: "وما هو؟" قال شرحبيل: أحكمك، فمهما حكمت فينا فهو جائز. فرجع رسول الله ولم يلاعنهم، حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لنجران، إذا كان عليهم حكمه: في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة، في كل رجب ألف حلة، وكل صفر ألف حلة، ولك حلة أوقية ما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب وعلى نجران مثواة رسلي ومنعهم من عشرين فدونه، ولا يحبس رسول فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومغدرة، وما هلك مما أعاروا رسولي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسولي حتى يؤديه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة النبي على أنفسهم وسكنهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وأن لا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغيروا حقا من حقوقهم ولا ملتهم. ولا يغير أسقف من أساقفتهم ولا راهب من رهبانهم ولا وقه من وقهيته وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. وليس عليهم دية ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل فيهم فيسهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر. وعلى ما في هذه الصحيفة بجوار الله وذمة محمد رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما(1/479)
نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مبتلين بظلم. شهد أبو سفيان وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة وكتب.
حتى إذا قبضوا كتابهم وانصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له بشر ابن معاوية وكنيته أبو علقمة. فدفع الوفد كتاب رسول الله إلى الأسقف، فبينما هو يقرؤه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكنى عن رسول الله فقال له الأسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا ومرسلا. فقال بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتيه، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له: افهم عني، إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا إنا أخذنا حمقة، أو نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجح به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم دارا. فقال له بشر: لا والله لا أقيلك ما خرج من رأسك، فضرب بشر ناقته وهو مول ظهره للأسقف وهو يقول:
إليك تغدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ولم يزل مع رسول الله حتى أستشهد أبو علقمة بعد ذلك. ودخل الوفد نجران. وروى البخاري عن حذيقة قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لن نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة.
وله أيضا عن ابن عباس قال أبو جهل: إن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عيانا. ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا. انتهى.(1/480)
وفي ذلك من الفقه: مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة. ووقع ذلك لجماعة من العلماء ودعوا إليها سلفا وخلفا. ومما عرف بالتجربة أن من باهل لو كان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة.
وفي القصة أيضا أن من عظم مخلوقا فوق منزلته التي يستحقها بحيث أخرجه عن منزلة العبودية المحضة فقد أشرك وعبد مع الله غيره. وذلك مخالف لجميع دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم1.
وقول ابن إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم فقد يظن أنه كلام متناقض لأن الصدقة والجزية لا يجتمعان، وأشكل منه ما ذكره هو وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد ابن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بن نجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا قبل أن يقاتلهم.
وقد تقدمت القصة عند ذكر وفد بني الحارث بن كعب، وتقدم في قصة أهل نجران أنهم وفدوا وصالحوه على ألفي حلة. وجواب هذا أن أهل نجران كانوا صنفين نصارى وأميين، فصالح النصارى على ما تقدم، وأما الأميون منهم فبعث إليهم خالدا فأسلموا، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفدهم، وهم الذين قال لهم رسول الله: بم كنتم تغلبون من قاتلكم الخ...فقوله بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم أراد به الطائفتين من أهل نجران صدقات من أسلم منهم وجزية النصارى.
وقدم وفد دوس وكان قدومهم عليه بخيبر.
وقدم وفد فروة بن عمرو الجذامي وكان عاملا للروم. قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه وأهدى إليه بغلة بيضاء وكان عاملا للروم على ما يليهم من العرب، وكان منزله معان، فلما
ـــــــ
1 بعد هذا بياض بالأصل قدر خمسة أسطر.(1/481)
بلغ الروم ذلك طلبوه حتى أخذوه فحبسوه ثم صلبوه وقتلوه، وزعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقامي
وقدم وافد بني سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: يا بن عبد المطلب. فقال له النبي: "قد أجبتك". قال الرجل: إني سائلك ومشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك. فقال: "سل عما بدا لك". قال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم". فقال: نشدتك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم". قال: نشدتك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا وتقسمها على فقرائنا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن الوليد عن كريب عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله، فذكر نحو ما تقدم، وزاد: قال فإني أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم". ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الصلاة والزكاة والصيام والحج وفرائض الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة كما ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف راجعا إلى بعيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى: "إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة"، وكان ضمام رجلا جلدا أشقر ذا غديرتين. ثم أتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج، حتى قدم على قومه فاجتمعوا(1/482)
إليه، وكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه يا ضمام؟ اتق البرص والجنون والجذام. فقال: ويلكم إنهما ما يضران ولا ينفعان. وإن الله قد بعث رسولا وقد أنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه. وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة.
وذكره الحج في هذه القصة يدل على أن قدوم ضمام كان بعد فرض الحج، وهذا بعيد، فالظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة. والله أعلم.
وقدم وفد طارق بن عبد الله وقومه، وفي رواية ابن إسحاق قال طارق: ثم دخلنا المدينة فدخلنا المسجد، فإذا هو قائم على المنبر يخطب، فأدركنا من خطبته هو يقول: "تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى، أمك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك" إذ أقبل رجل من بني يربوع أو قال من الأنصار فقال: يا رسول الله لنا في هؤلاء دماء في الجاهلية، فقال: "إن أما لا تجني على ولد " ثلاث مرات.
وقدم وفد تجيب سنة تسع وهم من السكون ثلاثة عشر رجلا قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فقال رسول الله: "ردوها فاقسموها على فقرائكم". فقالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا, فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما وفد العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الهدى بيد الله، فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان". وسألوا رسول الله فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن. فازداد رسول الله فيهم رغبة. وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، فلما أرادوا أن ينصرفوا أمر بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. قال: "هل بقي منكم أحد؟" قالوا: غلام خلفناه على رحالنا. قال: "أرسلوه إلينا". فجاء الغلام فقال: يا رسول الله، إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، إني والله ما حملني من بلادي إلا أن تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي. قال(1/483)
رسول الله: "اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه". ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم. ووافوا رسول الله في الموسم بمنى سنة عشر فقالوا: نحن بنو أبذى. فقال: " ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟" قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها. فقال: "الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا". فقال رجل منهم: أو ليس الرجل يموت جميعا يا رسول الله؟ فقال رسول الله: "تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله في أيها هلك" قالوا : فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق. فلما توفي رسول الله ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام في قومه فذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد. وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حين بلغه حاله وما قام به، فكتب إلى زياد بن أسد يوصيه به خيرا.
وقدم وفد بني سعد هذيم بن قضاعة في سنة تسع وهم من أهل اليمن، وقدم وفد بني فزارة سنة تسع، قال أبو الربيع بن سالم في كتاب الاكتفاء: ولما رجع رسول الله من تبوك قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة ابن الحصن والحر بن قيس بن أخي عيينة بن حصن وهو أصغرهم فنزلوا في دار بنت الحارث، وجاؤوا رسول الله مقرين بالإسلام وهم مسنتون على ركاب عجاف، فسألهم رسول الله عن بلادهم فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا وجدبت جناننا وغرث عيالنا، فادع لنا ربك يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك وليشفع ربك إليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، ويلكم إنما شفعت إلى ربي عز وجل فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، فهي تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليضحك من شفقتكم وأزلكم وقرب غياثكم". فقال الأعرابي: يا رسول الله ويضحك ربنا؟ قال: "نعم". فقال الأعرابي: لن نعدمك من رب يضحك خيرا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من قوله. وصعد المنبر فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه في شيء من(1/484)
الدعاء إلا رفع في الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: "اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريحا مريعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق. اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء".
وقدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد وطليحة بن خويلد، ورسول الله جالس في المسجد مع أصحابه فتكلموا، فقال متكلمهم: يا رسول الله إنا شهدنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا. قال محمد ابن كعب القرظي: فأنزل الله على رسوله {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} الآية. وكان مما سألوا رسول الله عنه يومئذ العيافة والكهانة وضرب الحصى، فنهاهم عن ذلك كله. قالوا: أرأيت خصلة واحدة بقيت قال: "وما هي؟" قالوا: الخط. قال: "علمه نبي من الأنبياء، فمن صادف مثل علمه علم".
وقدم وفد بهراء من اليمن سنة تسع، وكانوا ثلاثة عشر رجلا، ونزلوا على المقداد بن عمرو وأقاموا أياما وتعلموا الفرائض، ثم ودعوا رسول الله وأمر لهم بالجوائز وانصرفوا إلى بلادهم.
وقدم وفد عذرة في سنة تسع، وكانوا اثني عشر رجلا، منهم حمزة ابن النعمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من القوم؟" فقال متكلمهم: ممن لا تنكره، نحن بنو عذرة إخوة قصي لأمه، ونحن الذين عضدوا قصيا وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام. فقال رسول الله: "مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفني بكم". فأسلموا وبشرهم رسول الله بفتح الشام وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده. ونهاهم عن سؤال الكاهنة وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية. ثم انصرفوا إلى بلادهم وقد أجيزوا.
وقدم وفد بلي في ربيع الأول سنة تسع، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي، فقال رسول الله: "الحمد لله الذي هداكم إلى الإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار". ثم ودعوا رسول الله بعد أن أجازهم. وقال له(1/485)
أبو الضبيب شيخ الوفد: يا رسول الله إني رجل في رغبة من الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: "نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة". قال: يا رسول الله كم وقت الضيافة؟ قال: "ثلاثة أيام. ما كان بعد ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك حتى يحرجك".
وقدم وفد ذي مرة، وكانوا ثلاثة عشر، ورئيسهم الحارث بن عوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف البلاد؟" فقالوا: والله إنا لمسنتون فادع الله لنا. فقال: "اللهم اسقهم الغيث". ثم أقاموا أياما ورجعوا بالجائزة، ووجدوا بلادهم قد أمطرت في ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقدم وفد خولان في شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة مسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما فعل صنم خولان الذي كانوا يعبدونه؟" قالوا: أبدلنا الله ما جئت به، إلا عجوزا وشيخا كبيرا يتمسكان به، وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله. ثم أعلمهم فرائض الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد والأمانة وحسن الجوار وأن لا يظلموا، ثم أجازهم ورجعوا إلى قومهم وهدموا الصنم.
وفد محارب عام حجة الوداع، وكانوا أفظ العرب وأغلظهم عليه أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاءه منهم عشرة فأسلموا ثم انصرفوا إلى أهليهم.
وقدم وفد صداء في سنة ثمان فأسلموا، وهم خمسة عشر رجلا، فبايعوه على الإسلام ورجعوا إلى قومهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله منهم مائة رجل في حجة الوداع، ذكره الواقدي.
وقدم وفد غسان في شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر، فأسلموا وأجازهم رسول الله وانصرفوا راجعين وقالوا: لا ندري أيتبعنا قومنا أم لا. وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث منهم عمر ابن الخطاب عام اليرموك فلقي أبا عبيدة فخبره بإسلامه فكان يكرمه.(1/486)
وقدم وفد سلامان في شوال سنة عشر كما قال الواقدي، وهم ستة عشر نفرا فأسلموا، وشكوا إليه جدب بلادهم فدعا لهم، ثم ودعوه وأمر لهم بالجوائز فرجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه تلك الساعة.
وقدم وفد بني عبس فقالوا: يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا. فقال عليه السلام: "اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم من أعمالكم شيئا". وسألهم رسول الله عن خالد بن سنان هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له، كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول الله يحدث أصحابه عن خالد بن سنان فقال: "نبي ضيعه قومه".
وقدم وفد غامد كما قال الواقدي، وكانوا عشرة فأقروا بالإسلام، وكتب لهم كتابا فيه شرائع الإسلام. وأمر أبي بن كعب فعلمهم قرآنا وأجازهم عليه السلام وانصرفوا.
وقدم وفد الأزد سنة عشر، ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث قال: وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلمناه وأعجبه ما رأى من سمتنا وزينا فقال: "من أنتم؟" قلنا: مؤمنون. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم وإيمانكم"؟ قلنا: خمس عشرة خصلة: خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها الآن إلا أن تكره منها شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها"؟ قالوا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت. قال: " والخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها؟" قلنا: أمرتنا أن نقول لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤدي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال: "وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية؟" قالوا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمر القضاء، والصدق في مواطن(1/487)
اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء" . ثم قال: "وأنا أزيدكم خمسا فتتم لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا زائلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون". فانصرف القوم من عند رسول الله وقد حفظوا وصيته وعملوا بها.
وقدم على رسول الله وفد بني المنتفق
روى الإمام عبد الله بن أحمد في مسند أبيه قال: كتب إلى إبراهيم بن محمد ابن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك، فحدث به عني. قال: حدثني عبد الرحمن ابن المغيرة الحزامي حدثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري عن دلهم بن الأسود ابن عبد الله بن حاطب بن عامر المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر. قال دلهم: وحدثنيه أبي الأسود بن عبد الله عن عاصم بن لقيط، أن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك ابن المنتفق، قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال: "يا أيها الناس، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتستمعوا اليوم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه فقالوا له: اعلم لنا ما يقول رسول الله؟ ألا ثم رجل لعله يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال. ألا وإني مسؤول، هل بلغت؟ ألا اسمعوا تعيشوا, ألا اجلسوا". فجلس الناس. وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده ونظره قلت: يا رسول الله ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعمر الله وعلم أني أبتغي السقطة فقال: "ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب، لا يعلمها إلا الله" وأشار بيده فقلت: ما هن يا رسول؟ فقال: "علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه. وعلم المني حين يكون في الرحم، قد علمه ولا تعلمونه. وعلم ما في غد، قد علم ما أنت صانع ولا تعلمه. وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك وقد علم أن غوثكم إلى قريب". قال(1/488)
لقيط فقلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله. قال: "وعلم الساعة". قلت: يا رسول الله علمنا مما تعلم الناس وتعلم، فأنا من قبيل لا يصدق تصديقنا أحد من مذحج التي تربو علينا وخثعم التي توالينا وعشيرتنا. قال: "تلبثون فيها ما لبثتم ثم توفي نبيكم ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئا إلا مات، والملائكة الذين مع ربك عز وجل، فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض وخلت البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه عند رأسه فيستوي جالسا، فيقول ربك: مهيم لما كان فيه. فيقول: يا رب أمس اليوم. لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله". فقلت: يا رسول الله، فكيف يجمعنا بعد تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية. فقلت لا تحيا أبدا، ثم أرسل الله عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء من مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم". قال قلت: يا رسول الله كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إليه وننظر إليه؟
قال: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ولا تضارون في رؤيتهما". قلت: يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: "تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه خافية، فيأخذ ربك بيده غرفة من ماء فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه أحد منهم قطرة.
فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء.
وأما الكافر فتخطمه بمثل الحميم الأسود. ثم ينصرف نبيكم ويتفرق على أثره الصالحون، فيسلكون جسرا من النار يطأ أحدهم الجمرة يقول: حس، يقول ربك عز وجل: أو أنه. فتطلعون على حوض نبيكم على أظمأ - والله – ناهلة عليها قط ما رأيتها، فعمر إلهك ما يبسط أحدكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى. وتخنس الشمس والقمر فلا ترون منهما(1/489)
واحدا". قلت: يا رسول الله فبم نبصر؟ قال: "بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقت الأرض وواجهت به الجبار". قال قلت: يا رسول الله فبم نجزي من حسناتنا وسيئاتنا؟ قال: "الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، إلا أن يعفو الله". قال قلت: يا رسول الله ما الجنة؟ ما النار؟ قال: "لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما، وإن للجنة ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما". قال قلت: يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مصفى. وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن. وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة". قلت: يا رسول الله أولنا فيها أزواج ومنهن مصلحات؟ قال: "المصلحات للمصلحين"، وفي لفظ "الصالحات للصالحين، تلذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا، غير أن لا توالد". قال لقيط فقلت: يا رسول الله أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ قال: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر1" قلت: يا رسول الله علام أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال: "على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال الشرك وأن لا تشرك بالله إلها غيره". قال قلت: يا رسول الله وأن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وظن أني مشترط ما لا يعطينيه. قال قلت: نحل منها حيث شئنا، وأن لا يجني على امرئ إلا نفسه. فبسط يده وقال: "لك ذلك، تحل حيث شئت، ولا يجني عليك إلا نفسك". قال فانصرفنا عنه. ثم قال: "ها إن ذين، ها إن ذين مرتين. من أتقى الناس في الأولى والآخرة". فقال له كعب بن الخدارية أحد بني بكر بن كلاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "بنو المنتفق بنو المنتفق، أهل ذلك منهم" . قال: فانصرفنا. وأقبلت عليه فقلت: يا رسول الله، هل لأحد ممن مضى من خير في الجاهلية؟ فقال رجل من عرض قريش: إن أباك المنتفق لفي النار. قال فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول:
ـــــــ
1 قال في الأصل وجدت في نسخة أخرى ما صورته: فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم.(1/490)
وأبوك يا رسول الله؟ ثم إذا الأخرى أجمل فقلت: يا رسول الله وأهلك؟ قال: "وأهلي لعمر الله. حيثما أتيت عليه من قبر كافر، عامري أو قرشي أو دوسي قل: أرسلني إليك محمد، فأبشر بما يسوؤك، تجر على وجهك وبطنك في النار". قال قلت: يا رسول الله وما فعل بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيا. فمن عصى نبيه كان الضالين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين".
قال ابن القيم رحمه الله: هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة، لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن المديني، رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه، ولا في أحد من رواته.
قال أبو عبد الله بن منده: وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة، منهم أبو زرعة الرازي وأبو حاتم وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة. هذا كلام ابن منده رحمه الله.
وقوله "تهضب" أي تمطر و"الأصواء" القبور، و"الشربة" بفتح الراء الحوض الذي يجتمع فيه الماء وبالسكون الحنطة، يريد أن الماء قد كثر فمن حيث شئت شربت، وعلى رواية السكون يكون قد شبه الأرض بخضرتها بالنبات بخضرة الحنطة واستوائها. وقوله "حس" هي كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما يحرقه على غفلة أو يؤلمه، قال الأصمعي: وهي مثل أوه. وقوله "يقول ربك أو أنه" قال ابن قتيبة: فيه قولان أن يكون "أنه" بمعنى نعم، والآخر أن يكون الخبر محذوفا كأنه قال أنتم كذلك، أو أنه على ما يقول. "والطوف" الغائط. وفي الحديث: "لا يصلي أحدكم وهو يدافع الطوف والبول" . و"الجسر"(1/491)
الصراط. وقوله "مهيم" أي ما شأنك وما أمرك وفيم كنت؟ وقوله "أزلين" الأزل بسكون الزاي: الشدة، والأزل على وزن كتف هو الذي أصابه الأزل واشتد به حتى كاد يقنط. وقوله "فيظل يضحك" هو من صفات أفعاله سبحانه التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته. وقوله "حتى يخلفه من عند رأسه" هو من أخلف الزرع إذا نبت بعد حصاده، شبه النشأة بعد الموت بإخلاف الزرع بعد ما حصد، وتلك الخلفة من عند رأسه كما ينبت الزرع. وقوله "يقول يا رب أمس اليوم" استقلالا لمدة لبثه في الأرض، وكأنه لبث فيها يوما فقال: أمس، أو بعض يوم فقال: اليوم، يحسب أنه حديث عهد بأهله وإنما فارقهم أمس أو اليوم. وقوله "على أظمأ والله ناهلة قط" الناهلة العطاش الواردون للماء، أي يردونه أظمأ ما هم عليه. وقوله "تخنس الشمس والقمر" أي يختفيان وينخنسان ولا يريان، الانخناس التواري والاختفاء، وقوله "ما بين البابين مسيرة سبعين عاما" يحتمل أن يريد به أن بعد ما بين الباب والباب هذا المقدار، ويحتمل أن يريد بالبابين المصراعين، ولا يناقض هذا ما جاء من تقديره بأربعين عاما لوجهين: أحدهما أنه لم يصرح به راويه بالرفع بل قال ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين أربعين عاما، والثاني أن المسافة تختلف باختلاف سرعة السير وبطئه. وقوله "أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه" لا جواب لهذه المسألة، لأنه إن أراد أن أقصى مدة الدنيا وانتهائها فلا يعلمه إلا الله، وإن أراد أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنة والنار فلا تعلم نفس أقصى ما تنتهي إليه من ذلك، وإن كان الانتهاء إلى نعيم أو جحيم، ولهذا لم يجبه صلى الله عليه وسلم. وقوله في عقد البيعة "وزيال الشرك" أي مفارقته ومعاداته فلا يجاوره ولا يواليه كما في الحديث الذي في السنن "لا تراءى ناراهما" يعني المسلمين والمشركين. وقوله "حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد" هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغ أمر ونهي، وفيه دليل على سماع أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم، ودليل على أن من مات مشركا فهو في النار وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام واستبدلوا به الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به. وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين.(1/492)
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد النخع، وهم آخر الوفود قدوما عليه، في نصف المحرم سنة إحدى عشرة في مائتي رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاؤوا رسول الله مقرين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث معاذا إلى اليمن قبل ذلك هو وأبا موسى الأشعري كل واحد منهما على مخلاف، قالوا: واليمن مخلافان ثم قال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تخالفا". وقال لمعاذ: " إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن ألو ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عباس والمخلاف بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء بلغة أهلي اليمن الكورة والإقليم.
وروي أنه قال له: "يا معاذ إنك تقدم على قوم أهل كتاب، وإنهم سائلوك عن مفاتيح الجنة، فأخبرهم أن مفاتيح الجنة لا إله إلا الله وأنها تخرق كل شيء حتى تنتهي إلى الله ولا تحجب دونه، من جاء به يوم القيامة مخلصا رجحت بكل ذنب ". فقال معاذ: أرأيت ما سئلت عنه واختصم إلي فيه مما ليس في كتاب الله ولم أسمع منك سنة الله؟ فقال: "تواضع يرفعك الله، ولا تقضين إلا بعلم، فإن أشكل عليك أمر فسل ولا تستحي، واستشر ثم اجتهد، فإن الله إن علم من قلبك الصدق يوفقك. فإن التبس عليك فقف حتى تتنبه أو تكتب إلي فيه. واحذر الهوى فإنه قائد الأشقياء إلى النار. وعليك بالرفق"
وفي رواية أنه قال له لما بعثه إلى اليمن "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟" قال: اجتهد رأيي ولا آلو. قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: "الحمد لله الذي سدد رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " رواه الترمذي وأبو داود والدارمي.(1/493)
وللبخاري أن أبا موسى قال: يا رسول الله إن أرضنا بها شراب من الشعير المزر وشراب من العسل البتع، فقال: "كل مسكر حرام". فانطلقا. فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما وقاعدا وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقا. قال: أما أنا فأقوم وأنام وأحتسب نومتي كما احتسب قومتي. فضرب فسطاطا فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم، ثم ارتد. فقال معاذ: لأضربن عنقه. انتهى.
رجعنا إلى حديث الوفد. فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو: يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا. قال: "وما رأيت؟" قال: رأيت أتانا تركتها في الحي كأنها ولدت جديا أسفع أحوى. فقال له رسول الله: "هل تركت أمة لك مصرة على حمل؟" قال: نعم. قال: "فإنها ولدت لك غلاما وهو ابنك". قال يا رسول الله ما باله أسفع أحوى؟ قال: "ادن مني". فدنا منه، فقال: "هل بك من برص تكتمه؟" قال: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك. قال: يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدملجان ومسكتان. قال: "ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته". قال: يا رسول الله ورأيت عجوزا شمطاء خرجت من الأرض. قال: "تلك بقية الدنيا". قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فجالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو وهي تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعموني أكلكم وأهلكم ومالكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان". قال: يا رسول الله وما الفتنة؟ قال: "يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس" وخالف رسول الله بين أصابعه "يحسب المسيء فيها أنه محسن، يكون دم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أدركها ابنك". قال: يا رسول الله ادع الله أن لا أدركها. فقال له رسول الله: "اللهم لا يدركها". فمات وبقي ابنه، وكان ممن خلع عثمان. والله أعلم.(1/494)
فصل
قالوا وفي هذه السنة سنة تسع بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى تخريب ذي الخلصة وقد تقدم ذلك في ذكر أصنام العرب في أول الكتاب1. قالوا: وفيها بعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع فأسلم وأسلمت امرأته خزيمة بنت أبرهة ابن الصباح، واسم ذي الكلاع سميفع، وكان قبل ذلك قد استعلى أمرهحتى ادعى الربوبية فأطيع، ووفد ذي الكلاع في خلافة عمر ومعه ثمانية عشر ألف عبد، وأعتق من عبيده أربعة آلاف، قال: يا أمير المؤمنين لي ذنب ما أظن أن الله يغفره. قال: وما هو؟ قال: تواريت يوما ممن يتعبدني، ثم أشرفت عليهم من مكان عال فسجد لي زهاء ألف إنسان. فقال عمر: التوبة بإخلاص والإنابة بإقلاع يرجى بهما مع رأفة الله الغفران. وفي رواية أعتق ذو الكلاع اثني عشر ألف بيت، وقتل بصفين.
وفيها في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول توفي إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو ابن ثمانية عشر شهرا، ودفن بالبقيع، ورش قبره وعلم بعلامة. قال الزبير: وهو أول قبر رش، وقيل صلى عليه بالبقيع، وقيل لم يصل عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "القلب يحزن والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وفيها انكسفت الشمس يوم موت إبراهيم، فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته". رواه الشيخان. قيل الغالب الكسوف في الثامن والعشرين فكسفت يوم مات إبراهيم في العاشر فلذلك قالوا كسفت لموته.
قالوا: وفيها طلع جبريل على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر وطيب الرائحة وحسن الوجه، رآه حضار المجلس لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 في الصفحة 33(1/495)
وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والقيامة وأماراتها، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن غير القيامة وقال فيها: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". فخرج جبريل من المجلس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلبوه فما وجدوه، قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من السائل؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". أخرجه مسلم من حديث ابن عمر، والبخاري من حديث أبي هريرة.
وفيها قدم فيروز الديلمي المدينة فأسلم، وهو الذي قتل الأسود العنسي الكذاب المتنبي قتله في الحادية عشرة من الهجرة.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما وطئ الإسلام، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي وهو بها. وبعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها. وبعث عدي بن حاتم على كل طيء وصدقاتها وعلى بني أسد. وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة. وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية. وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين. وبعث علي بن أبي طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم.(1/496)
حجة الوداع وتسمى حجة الإسلام وحجة التمام
قال ابن إسحاق: فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر ذي القعدة تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له. انتهى. وذلك سنة عشر، فأجمع الخروج إلى الحج. وفي البخاري عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة حجة الوداع ولم يحج بعدها، وأخرج الترمذي عن جابر ابن عبد الله: حج رسول الله ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة. هذا لفظه وصححه الحاكم(1/496)
قال ابن حزم: حج رسول الله واعتمر قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججا وعمرا لا يعرف عددها، ولم يحج عليه السلام بعد أن هاجر إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع سنة عشر، واعتمر بعد أن هاجر إلى المدينة أربع عمر: عمرتين مفردتين قصد بهما في ذي القعدة وأتمهما، إحداهما عمرة القضية سنة سبع، والأخرى عمرته من الجعرانة عام ثمان إثر وقعة حنين في ذي القعدة أيضا، واعتمر عمرة ثالثة قرنها مع حجة الوداع، والرابعة عمرته التي صده عنها المشركون سنة ست في ذي القعدة عام الحديبية. فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما صلى الظهر بها أربعا ثم ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها وجوه الإحرام وواجباته وسننه، يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة.
ثبت في الصحيحين: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. ولمسلم عن جابر: أذن رسول الله في الناس في العاشرة وأعلم الناس أنه حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله ويعمل بمثل عمله. انتهى. وخرج معه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا ويقال مائة وأربعة عشر ألفا ويقال أكثر كما حكاه البيهقي. وكان أول ذي الحجة يوم الخميس، وخروجه من المدينة يوم السبت كما تقدم، ودخوله مكة صبح رابعة ذي الحجة كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، فيكون المكث في الطريق ثمان ليال وهي المسافة الوسطى، وكانت الوقفة يوم الجمعة.وأخرج صلى الله عليه وسلم معه نساءه كلهن في الهوادج، وساق معه الهدي هو وأبو بكر وعمر وذوو اليسار من أصحابه، فقلده وأشعره، وبات بذي الحليفة وقال: "أتاني الليلة آت من ربي وقال: صلى الله عليه وسلم بهذا الوادي المبارك، وقل: عمرة وحجة". رواه البخاري عن عمر، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، فصلى خمس صلوات وطاف على نسائه كلهن تلك الليلة. فلما أراد الإحرام اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه غير غسل الجماع الأول ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمر في(1/497)
مصلاه وقرن بينهما. ولم ينقل أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، وكان قارنا بين الحج والعمرة لبضعة وعشرين دليلا ذكرها في الهدى. ولمسلم عن جابر: ثم ركب القصواء حتى إذا استوت ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه بمثل ذلك وعن شماله بمثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: "لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله شيئا منه. ولزم رسول الله تلبيته. قال جابر: لسنا نرى إلا الحج لسنا نعرف العمرة.
وفي الصحيحين عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله بالحج. فأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلق حتى كان يوم النحر. انتهى.
وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين الأحاديث المختلفة في صفة حجه صلى الله عليه وسلم بأن قال: والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة ليست بمختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القرآن، والذين روي عنهم أنه أفرد روي عنهم أنه تمتع كما في الصحيحين عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه.
وفي رواية عنه تمتع نبي الله وتمتعنا معه، فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين أخبر أنه تمتع، وأنه جمع بين الحج والعمرة. والقارن عند الصحابة متمتع، ولهذا أوجبوا عليه الهدي، ودخل في قوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}، وما ذكره بكر بن عبد الله المزني أنه لبى بالحج وحده فجوابه أن الثقات الذين هم أثبت في ابن عمر مثل سالم ابنه ونافع رووا عنه أنه قال: تمتع رسول الله بالعمرة إلى الحج. فتغليط بكر أولى من تغليط سالم. ويشبه أن ابن عمر قال له "أفرد الحج" فظن أنه قال لبى بالحج. فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه(1/498)
ويريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك رد منهم على من قال إنه قرن قرانا طاف فيه طوافين وسعى فيه سعيين، وعلى من يقول إنه حل من إحرامه. فرواية من روى من الصحابة أنه أفرد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر. والثلاثة نقل عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة والحج أصح من حديثهما عنه أ،ه أفرد الحج، وما صح من ذلك عنهما فمعناه إفراد أعمال الحج أو أن يكون وقع فيه غلط كنظائره.
فإن أحاديث التمتع متواترة رواها أكابر الصحابة كعمر وعلي وعثمان وعمران ابن الحصين، بل رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة والله أعلم. قلت: وهذا الكلام من أحسن ما يجمع لك بين الأحاديث في هذا الباب، وبه يتفق معناه.
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم. ولبد رسول الله رأسه بالغسل، وهو بالغين المعجمة على وزن كفل، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه يلبد به الرأس حتى لا ينتشر، وأهل في مصلاه، ثم ركب على ناقته فأهل أيضا، ثم أهل لما استقلت به على البيداء. قال ابن عباس: وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا شرف البيداء. وكان يهل بالحج والعمرة تارة، وبالحج تارة، لأن العمرة جزء منه، فمن ثم قرن وقيل تمتع، وقيل أفرد. ثم لبى وأمر الصحابة بأمر الله أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية. وكان حجه على رحل، لا في محمل ولا هودج ولا عمارية.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم خير أصحابه عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة: القران، والتمتع الخاص، والإفراد. ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي، ثم حتم عليهم عند المروة.
وولدت أسماء بنت عميس بذي الحليفة محمد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم وتهل، ففي هذه ثلاث سنن: غسل المحرم، وأن الحائض تغتسل لإحرامها، وأن الإحرام يصح من الحائض. ثم سار رسول الله ولزم تلبيته والناس يزيدون فيها وينقصون منها وهو يقرهم ولا ينكر عليهم، فلما كان بالروحاء رأى حمار وحش عقيرا فقال: "دعوه فإنه يوشك أن(1/499)
يأتي صاحبه"، فجاء صاحبه فقال: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار. فأمر رسول الله أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله، وأن الهبة لا تفتقر إلى لفظ وهبت، وجواز قسمة اللحم مع عظامه بالتحري، وأن الصيد يملك بالإثبات، وعلى أكل الحمار الوحش، وعلى التوكل في القسمة، وعلى كون القاسم واحدا.
ثم مضى حتى إذا كان بالإثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم، فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس. والفرق بين هذا والذي قبله أن الذي صاد الحمار كان حلالا فلم يمنع من أكله، وهذا لم يعلم أنه حلال فلم يأذن في أكله للمحرم. وفيه دليل على أن قتل المحرم للصيد يجعله بمنزلة الميتة في عدم الحل، إذ لو كان حلالا لم يضيع ماليته. ثم سار حتى نزل بالعرج وكانت زاملته وزاملة أبي بكر واحدة، وكانت مع غلام لأبي بكر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه وعائشة إلى جانبه الآخر وأسماء زوجته إلى جانبه وأبو بكر ينتظر الغلام والزاملة إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. فقال: بعير واحد تضله! قال: فطفق يضربه ورسول الله يبتسم ويقول: انظروا إلى المحرم ما يصنع؟ وما يزيد رسول الله أن يقول ذلك ويبتسم. ومن تراجم أبي داود على هذه القصة "باب المحرم يؤدب غلامه".
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالأبواء أهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار وحشي، فرده عليه وقال: "إنا لم نرده إلا أنا حرم". أخرجاه في الصحيحين. وإذا حمل حديث أبي قتادة على أنه لم يصده لأجله وحديث الصعب على أنه صيد لأجله زال الإشكال، ويشهد له حديث جابر المرفوع "صيد البر حلال ما لم تصيدوه ويصاد لكم". فلما مر بوادي عسفان قال: "يا أبا بكر أي واد هذا؟" قال: وادي عسفان. قال: "لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطمهما الليف، وأزرهم العباء، وأرديتهم النمار يلبون، يحجون البيت العتيق". ذكره الإمام أحمد في مسنده.(1/500)
فلما كان بسرف حاضت عائشة، وقد كانت أهلت بعمرة، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك؟ لعلك نفست". قالت: نعم. قال: "هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". أخرجاه في الصحيحين. وفيهما عن عروة عنها: خرجنا مع رسول الله قالت: أهللنا بعمرة، فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة". قالت: ففعلت. فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله مع أخي عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت منه، فقال: "هذه مكان عمرتك". فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم رحلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم. وأما الذي كانوا يجمعون الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا. انتهى.
فلما كان بسرف قال لأصحابه: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا". وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الإحرام، فلما كان بمكة أمر أمرا حتما من لا هدي معه أن يجعلها عمرة من إحرامه، ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه، ولم ينسخ من ذلك شيء البتة، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها هل هي لعامهم ذلك أم للأبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة".
ففي الصحيحين عن ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: "حل كله". وفي لفظ: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي.(1/501)
وفي الصحيحين عن جابر: أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة. وقدم علي رصي الله عنه من اليمن ومعه هدي. فقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. فأمر النبي أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ويقصروا، إلا من كان معه الهدي. قالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت". وفي لفظ فقام فقال: "لقد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا". فحللنا وسمعنا وأطعنا. ولمسلم عن عائشة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار؟ قال: "أو ما شعرت؟ أني أمر الناس بأمر فإذا هم يترددون..." الحديث.
قال في الهدى: ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله واتباعا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة بن مالك أن سأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد قد غضب رسول الله على من خالفه.
ولله در الإمام أحمد إذ يقول لسلمة بن شبيب، وقد قال له: يا أبا عبد الله كل أمرك عندي حسن إلا خلة واحدة. قال: وما هي؟ قال تقول بفسخ الحج إلى العمرة. فقال: يا سلمة كنت أرى لك عقلا، عندي في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا عن رسول الله أأتركها بقولك؟.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رجلا قال له: ما هذه الفتيا التي قد فشت بالناس أن من طاف فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن زعمتم. وصدق ابن عباس: كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد وقارن أو متمتع فقد حل إما وجوبا وإما حكما.(1/502)
هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع. وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصير إلى عمرة شاء أم أبى. قلت: إن الناس ينكرون ذلك عليك. قال: وهذه سنة نبيهم وإن زعموا. وهذا مذهب أهل بيت رسول الله ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه ومذهب إمام أهل السنة وأتباعه أحمد بن حنبل وأهل الحديث معه ومذهب أهل الظاهر. وأما قول عروة وغيره: نهى عنها أبو بكر وعمر فقد أجابه ابن عباس فأحسن جوابه، فروى الأعمش عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس: تمتع رسول الله، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول رسول الله وتقول قال أبو بكر وعمر؟ وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة أن عروة بن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله يأمر الناس بالعمرة في هذا العشر وليس فيها عمرة فقال: أولا تسأل أمك عن ذلك؟ فقال عروة: فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك. قال الرجل: من ههنا هلكتم. ما أرى الله إلا سيعذبكم، إني أحدثكم عن رسول الله وتخبروني بأبي وعمر. قال عروة: إنهما والله كانا أعلم بسنة رسول الله منك. فسكت الرجل.
قال أبو محمد بن حزم: نحن نقول لعروة: ابن عباس أعلم بسنة رسول الله منك وبأبي بكر وعمر منك وخير منك وأولى بهم ثلاثتهم منك، لا يشك في ذلك مسلم، مع أنهما قد ورد عنهما خلاف ما قال عروة ومن هو خير من عروة وأفضل وأعلم وأوثق. ثم روى من طريق ابن عباس: تمتع رسول الله حتى مات وأبو بكر حتى مات، وعمر حتى مات، وعثمان كذلك. وأول من نهى عنها معاوية وقد رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. وقال عبد اله بن عمر لمن سأله عنه فقال له السائل إن أباك نهى عنها قال: أفرسول الله أحق أن يتبع أو أبي؟.
وأجاب الشيخ تقي الدين رحمه الله عن ذلك بأن قال: إن عمر لم ينه عن المتعة البتة، وإنما قال: إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما، فاختار لهم عمر أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى(1/503)
وقد نص على ذلك الإمام أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر، وكان عمر يختاره للناس وكذلك علي، وقال عمر وعلي في قوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها: "أجرك على قدر نصبك".
قال في الهدى: فهذا الذي اختاره عمر للناس، فظن من غلط منهم أنه نهى عن المتعة. ومن الناس من جعل عنه فيها روايتين، ومنهم من جعل النهي عنه قولا قديما رجع عنه كما فعل أبو محمد بن حزم.
عدنا إلى سياق حجه صلى الله عليه وسلم: ثم نهض صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طوى، وهي المعروفة اليوم بآبار الزاهر ذكره في الهدى، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصل بها الصبح ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة فدخلها نهارا من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون، وكان في العمرة يدخل من أسفلها، وفي الحج دخل من أعلاها وخرج من أسفلها. ثم سار حتى دخل المسجد، وذلك ضحى، وذكر الطبراني أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة". وروي عنه أنه كان يرفع يديه ويكبر ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام. اللهم زد". إلخ. وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب يقوله. فلما دخل المسجد عمد إلى البيت ولم يركع تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف. فلما حاذى الحجر استلمه. ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره، ولم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكر ا معينا، لا بفعله ولا بتعليمه، بل حفظ عنه بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، ورمل في طوافه هذه الثلاثة الأشواط الأول، يسرع في مشيه ويقارب بين خطاه، واضطبع برادئه فجعله على إحدى كتفيه وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه واستلمه بمحجنه وقبل المحجن، والمحجن عصا مخية الرأس.
وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني ول يثبت عنه أنه قبله ولا قبل يده عند استلامه.(1/504)
وثبت عنه أنه قبل الحجر الأسود وأنه استلمه بيده ووضع يده عليه ثم قبلها.
وثبت أنه استلمه بمحجن فهذه ثلاث صفات ولو يستلم ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط. فلما فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما بعد الفاتحة سورتي الإخلاص1 فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله فلما دنا منه قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به، وفي رواية النسائي ابدؤوا على الأمر، ثم رقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ووحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة يمشي فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وأصعد مشى. وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى.
هكذا في حديث جابر قال: حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، فلما أكمل سعيه عند المروة أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما ولا بد قارنا كان أو مفردا الحل كله من وطء النساء والطيب والمخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية، ولم يحل هو من هديه. وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا وللمقصرين مرة، وهناك سأله سراقة بن مالك عقيب أمره لهم بالفسخ والإهلال: هل ذلك لعامهم خاصة أو للأبد. ولم يحل أبو بكر ولا عمر ولا طلحة ولا الزبير من أجل الهدي. وأما نساؤه فأحللن إلا عائشة فإنها لم تحل من أحل تعذر الحل عليها بحيضها. وأمر من أهل بإهلال كإهلاله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي، وكان يصلي مدة قيامه إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه
ـــــــ
1 عند النسائي والترمذي: {قل هو الله أحد}، و {قل يا أيها الكافرون}.(1/505)
من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم، ولم يدخلوا إلى المسجد، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم.
وفي حديث جابر: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر والعصر وبات بها ليلة الجمعة حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر تضرب بنمرة، فسار رسول الله ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله حتى أتى عرنة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دمائكم وأموالكم" وفي رواية غيره "وأعراضكم" "حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث – كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل -، وربا الجاهلية موضوعة وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكسها إلى الناس: "اللهم اشهد اللهم اشهد" ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر لو يصل بينهما شيئا. وقال في الهدى: وذلك يوم الجمعة، فدل على أن المسافر لا يصلي الجمعة، ومعه أهل مكة فصلوا بصلاته قصروا جميعا بلا ريب ولم يأمرهم بالإتمام وإنما قال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" في غزاة الفتح بجوف مكة حيث كانوا في ديارهم مقيمين.(1/506)
ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يحدد بمسافة معلومة ولا أيام، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة.
وقال جابر: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة ولم يزل واقفا حتى غربت الشمس. قال في الهدى: وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك بل قال: وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها فإنها من إرث أبيهم إبراهيم. وهناك أقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال: "الحج عرفة، من أدرك قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة أيام التشريق، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه". وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبر أن خير الدعاء الدعاء في عرفة، وهناك نزلت عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفن في ثوبيه ولا يمس بطيب وأن يغسل بماء وسدر ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي، فلما غربت الشمس واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه وأفاض بسكينة وضم إليه بزمام ناقته حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله. وفي حديث جابر: ويقول بيده اليمنى "أيها الناس عليكم بالسكينة". وكلما أتى جبلا من الجبال أرخى له قليلا حتى تصعد. انتهى.
وأفاض من طريق المأزمين ودخل عرفة من طريق ضب، وهكذا كانت عادته عليه السلام في الأعياد أن يخالف الطريق ثم جعل يسير العنق، وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء،فإذا وجد فجوة وهو المتسع نص سيره أي رفعه فوق ذلك. وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أمر بالأذان فأذن ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت(1/507)
الصلاة ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ولم يصل بينهما شيئا، ثم نام حتى أصبح وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر وذلك عند غيوب القمر، وأمرهم أن لا يرموا حتى تطلع الشمس. حديث صحيح صححه الترمذي.
والذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق عليه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت لا قبله قطعا بأذان وإقامة يوم النحر، وهو يوم العيد وهو يوم الحج الأكبر.
ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، ووقف وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف، ثم سار من مزدلفة مردفا للفضل بن عباس وهو يلبي في سيره، وكان الفضل رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. وفي طريقه ذلك أمر أبن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما فعل من لا علم عنده، ولا التقطها بالليل، فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل ينفضه في كفه ويقول: "بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير، وهذا كان عادته في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه، فإن هناك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله عليه، وسمي محسرا لأن الفيل حسر فيه أي أعيا وانقطع عن الذهاب. وقال جابر في حديثه: ثم سلك الكريق التي تخرج على الجمرة، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة منها من بطن الوادي. انتهى. وكان رميه إياها راكبا بعد طلوع الشمس واحدة بعد واحدة، وحينئذ قطع التلبية ورمى، وبلال وأسامة معه(1/508)
أحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر يظله بثوب من الحر، وفيه دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه إن كانت هذه القصة يوم النحر، وإن كانت أيام منى فلا حجة فيها.
ثم رجع إلى منى فخطب الناس خطبة بليغة أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه وقال: "لعلي لا أحج بعد عامي هذا" ، وعلمهم مناسكهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه، وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع، وقال في خطبته: "لا يجني جان إلا على نفسه"، وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة والأنصار عن يسارها والناس حولهم، وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعه أهل منى في منازلهم، وقال في خطبته تلك: "اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم". وودع حينئذ الناس فقالوا "حجة الوداع".
ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، وكان عدد ما نحر عدد سني عمره، ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمر عليا أن يتصدق بجلالها وجلودها ولحومها في المساكين، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئا منها وقال: "نحن نعطيه من عندنا". وقال: "من شاء اقتطع", ونحر صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى وأعلمهم أن منى كلها منحر وأن فجاج مكة طريق ومنحر.
وفي هذا دليل على أن النحر لا يختص بمنى بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه. وسئل صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بمنى مظلة من الحر فقال: "لا، منى مناخ من سبق".
فلما أكمل صلى الله عليه وسلم نحره استدعى بالحلاق فقال للحلاق وهو معمر بن عبد الله وهو قائم على رأسه بالموسى ونظر في وجهه وقال: "يا معمر أمكنك رسول الله من شحمة أذنه وفي يدك الموسى". قال معمر: فقلت: أما والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله علي". قال: "أجل". ذكره أحمد. وقال للحلاق: "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن. فلما فرغ قسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى(1/509)
الحلاق فحلق جانبه الأيسر قال: "ههنا أبو طلحة؟" فدفعه إليه. هكذا وقع في صحيح مسلم. قيل أصاب خالد بن الوليد شعرات من ناصيته فجعلها في قلنسوته فلم يشهد بها قتالا إلا رزق النصر.
قال جابر في حديثه: وأشرك صلى الله عليه وسلم عليا في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببعضه فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، وصلى بمكة الظهر، فأتى بنو عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم". فناولوه دلوا فشرب منه.
وطاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليسألوه. ثم رجع إلى منى واختلف أين صلى الظهر يومئذ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر فصلى الظهر بمنى. وفي مسلم عن جابر أنه صلى الظهر بمكة.وكذلك قالت عائشة. وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها وهي شاكية، وكانت استأذنت رسول الله، وطافت عائشة في ذلك اليوم طوافا واحدا وسعت سعيا واحدا أجزأها عن حجها وعمرتها. وطافت صفية ذلك اليوم ثم حاضت فأجزأها طوافها ذلك عن طواف الوداع فلم تودع، فاستقرت سنته صلى الله عليه وسلم في المرأة الطاهر إذا حاضت قبل الطواف أن تقرن وتكتفي بطواف واحد وسعي واحد، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأت به عن طواف الوداع.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات: واحدة بعد واحدة، يقول مع كل حصاة: "الله أكبر". ثم تقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلا بقدر سورة البقرة، ثم أتى الجمرة الوسطى فرماها كذلك، ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول. ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه.(1/510)
فرماها بسبع حصيات كذلك ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال، ولا جعلها عن يمينه، واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء، فلما أكمل الرمي رجع من فوره ولم يقف عندها، فقيل لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو أصح إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة أفضل من بعد الفراغ منها، وهذه كانت سنته في دعائه في الصلاة وذكر الإمام أحمد أنه كان يرمي يوم النحر راكبا وأيام منى ماشيا في ذهابه ورجوعه. فقد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء الأولى على الصفا، والثانية على المروة والثالثة بعرفة، والرابعة بمزدلفة، والخامسة عند الجمرة الأولى، والسادسة عند الجمرة الثانية.
واستأذنه العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية فأذن له، واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى عند الإبل فأرخص لهم أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما. قال مالك: ظننت أنه قال في أول يوم منهما ثم يرمون يوم النفر، وقال ابن عيينة في هذا الحديث: رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما، فيجوز للطائفتين بالسنة ترك المبيت بمنى. وأما الرمي فلا يتركونه، بل لهم أن يؤخروه إلى الليل فيرمون فيه، ولهم أن يجمعوا رمي يومين في يوم، وكذلك من له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضا لا يمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء. والله أعلم.
ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب وهو الأبطح وهو خيف بني كنانة فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، توفيقا من الله دون أن يأمره صلى الله عليه وسلم، فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة. ثم نهض إلى مكة فطاف طواف الوداع ليلا سحرا، ولم يرمل في هذا الطواف. ورغبت إليه عائشة أن تعمر عمرة مفردة فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزآ عن حجها وعمرتها. فقالت: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة؟ قال: "أوما طفت ليالي قدمنا مكة؟" قالت: لا. قال: "فاذهبي مع أخيك(1/511)
إلى التنعيم فأهلي بعمرة، ثم موعدك كذا وكذا"، ففرغت من عمرتها ليلا ثم وافت المحصب مع أخيها في جوف الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغتما؟" قالت: نعم. فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس. ثم طاف بالبيت قبل صلاة الصبح، هكذا عند البخاري في حديث القاسم عنها.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال حين أراد أن ينفر من منى: "نحن نازلون إن شاء الله غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب لا يناكحوهم ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله". انتهى. فقصد النبي إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والشرك، وكان ابن عمر يرى نزوله سنة، وذهب ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس بسنة، وإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه.
قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفرا، وضرب على الناس بعثا إلى الشام، وأمر عليهم أسامة بن زيد مولاه وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. انتهى. وهي آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم وأول شيء جهزه أبو بكر.
فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله وجعه، فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمي فسكن بالجرف، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين! فغضب من ذلك غضبا شديدا، ففي الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بلغني أنكم قلتم في أسامة وإنه أحب الناس إلي". وفي لفظ: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه، وايم الله إنه كان خليقا لإمارته، وإنه كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي من بعده". قال ابن إسحاق: وانكمش الناس في جهازهم، فخرج أسامة بجيشه حتى نزلوا الجرف، وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله، فأقام أسامة والناس معه لينظروا ما الله قاض في رسوله، وعن محمد بن أسامة عن أبيه قال: لما ثقل رسول الله هبطت(1/512)
وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد صمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، أعرف أنه يدعو لي.
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثلاث سنين صلاته على الميت كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها".
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير، فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبو بكر".
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن عمر عن عبيد بن جبير مولى الحكم ابن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبة مولى رسول الله قال: بعثني رسول الله من جوف الليل فقال: "يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي" فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: "السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى"، ثم أقبل علي فقال: "يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة". قال فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة. قال: "لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة". ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف. فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه.(1/513)
قال: وحدثني يعقوب بن عتبة عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع. فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه. فقال: "بل أنا والله يا عائشة وارأساه" . ثم قال: "وما ضرك لو مت قبلي فقمت إليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك". قالت: قلت والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك". قالت: فتبسم رسول الله. وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعز به وهو في بيت ميمونة. فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له. قالت: فخرج رسول الله يمشي بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن عباس ورجل آخر، عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتي. قال عبيد الله: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عباس فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟ قال قلت: لا. قال: علي بن أبي طالب. ثم غمي رسول الله واشتد به وجعه. فقال: " اهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم". قالت: وأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: "حسبكم حسبكم". انتهى. وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري من طريق الزهري عن عبيد الله عن عائشة. زاد البخاري في هذه الرواية: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
وله عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله قال في مرضه الذي مات فيه: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". قالت عائشة قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس1، قالت عائشة فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس" . فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا. وفي رواية لمسلم: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس،
ـــــــ
1 في الكتب الأخرى أن عائشة كررت له هذا القول، وكرر صلى الله عليه وسلم الإحابة(1/514)
فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر، وكذا في رواية الأسود عن عائشة، وكذا في رواية عروة عنها. وله في رواية أبي موسى في هذه القصة فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وللبخاري عن عائشة في حديث عبيد الله قالت عائشة: لقد راجعت رسول الله في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس رجلا قام مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل رسول الله عن أبي بكر.
قال الزهري: وأخبرنا عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا. وفي رواية أحمد " قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحرم ذلك على أمته. وفي رواية للبخاري قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
وله عن ابن عباس أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث بعد العصا، وإني والله لأرى رسول الله سوف يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله في من هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. قال علي: إنا لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله. وللبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ما زال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم".
قال ابن إسحاق: فكان المسلمون يرون أن رسول الله مات شهيدا، مع ما أكرمه الله به من النبوة. وقالت عائشة: لددنا [رسول الله] في مرضه، فجعل(1/515)
يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال: "ألم أنهاكم أن تلدوني؟" قلنا كراهية المريض للدواء. فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم". انتهى. واللد شيء تصنعه العرب دواء يصب في أحد شقي الفم، فأمر بلدهم اقتصاصا.
فلما كان يوم الخميس قبل موته بأربع ليالي اجتمع عنده ناس من أصحابه فقال عليه السلام: "ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا". وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله وجعه فقال: "ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا". فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك. وفي رواية فقالوا: ما له أهجر، استفهموه، فذهبوا يردون عليه فقال: " دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه" وأوصاهم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها. وفي رواية: فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال: "قوموا عني". قال عبد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم". انتهى.
ولا شك أنه لو كان من واجبات الشريعة لم يغيره عليه السلام كلام عمر ولا غيره. وكان قال لعائشة في تلك المرضة: " لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب كتابا وأعهد عهدا لئلا يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". رواه البخاري.
فلم يكن والله أعلم الكتاب الذي أراد أن يكتب إلا في استخلاف أبي بكر، ولقد ظهرت رزية ذلك وكاد الناس أن يهلكوا في الاختلاف فيمن يلي أمر المسلمين بعده، ولقد هلكت الشيعة في ذلك وتمادى ضلالهم إلى اليوم نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفس على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي مات فيه(1/516)
طفقت أنفس عنه بالمعوذات التي كان ينفس، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه لبركتها. رواه البخاري.
ولهما عن أنس قال: لما كان يوم الإثنين والناس في صلاة الفجر وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله يكشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهو صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم الناس أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
زاد ابن إسحاق في روايته عن الزهري عن أنس: وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح. وعن عائشة أنها كانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه، ودخل علي عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله إلى صدري فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه. وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته بأمره فاستن به وهو مستند إلى صدري، وبين يديه ركوة أو عليه - يشك عمر – فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخير". فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى". وفي رواية: "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين". وفي رواية فقلت: إذا لا يختارنا. وعرفت أنه الحديث الذي يحدثنا به وهو صحيح. قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى".
زاد ابن إسحاق قالت عائشة: فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في حجري ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب(1/517)
وجهي. وفي رواية للبخاري: فلا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وعن الأسود قال: ذكر عند عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي فقال: من قاله؟ لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وإني لمسندته إلى صدري، فدعا بالطست فانحنث فمات وما شعرت، فكيف أوصى إلى علي؟ وعن طلحة قال: سألت ابن أبي أوفى: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا, فقلت: كيف كتب على الناس الوصية وأمر بها؟ فقال: أوصى بكتاب الله. رواهن البخاري. وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول وهو يجود بنفسه: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" حتى ما يغيض بها لسانه.
وعن عمرو بن الحارث قال: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة. وعن عائشة: توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير. رواهما البخاري.
وعن أنس بن مالك قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه. فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم". فلما مات قالت: يا أبتاه أحاب ربا دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ وعن عائشة قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه التي قبض فيها فسارها فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته يتبعه فضحكت. رواهما البخاري.
ويذكر أنه لما توفي جاءت التعزية يسمعون الصوت والحس ولا يرون الشخص: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته. كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت، فبالله ثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(1/518)
وتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين نصف النهار لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة . وللبخاري عن أنس قال: مر أبوبكر والعباس يمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال: فصعد المنبر ولم يصعد بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم ابلأنصار خيرا فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". و له عن ابن عباس قال :خرج النبي صلى الله عليه وسلم ملحفة منعطفا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح للطعام فمن من ولي منكم أمرا يضر به أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم" .
وله عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -قال إسماعيل يعني بالعالية- فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله . قالت : وقال عمر: والله ما كان في نفسي إلا ذلك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم . فجاء أبو بكر على فرس من منزله بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم ؤسول الله وهو مغشي بثوب حبره فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذب نفسي بيده لايذيقك الله الموتتين أبدا . ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال : اجلس ياعمر ، فأبى عمر أن يجلس ، وفي رواية قال: أيها الحالف على رسلك . فأقبل إليه الناس وتركوا عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت وقال عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } قال : فنشج الناس يبكون . قال ابن عباس والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا(1/519)
من الناس إلا يتلوها. قال ابن المسيب قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن رسول الله قد مات. وعن ابن عباس قال: أنزل على النبي وهو ابن أربعين سنة، فقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. رواه البخاري.
ولما عرفوا أنه مات دهش الناس وطاشت عقولهم، فمنهم من خبل ومنهم من أصمت، ولم يكن أثبت وأحزم من أبي بكر والعباس.(1/520)
ذكر أمر سقيفة بني ساعدة
وفي البخاري في حديث عائشة قالت: اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، فتلكم أبو بكر أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حباب ابن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء. [إن قريشا] هم أوسط العرب دارا وأعزهم أحسابا، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل أبايعك، فأنت خيرنا وأحبنا إلى رسول الله. فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: بل قتله الله. قال القاسم في حديثه: فما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا، فردم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم، فخرجوا يتلون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية.
وقال ابن إسحاق: ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر وانحاز(1/520)
معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل. فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس من حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم – ورسول الله في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله – قال عمر: قلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. فانطلقا يؤمانهم، فلقيهما رجلان صالحان: عويم بن ساعدة ومعن بن عدي فذكرا لهما ما تمالأ عليه القوم وقالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال عمر: والله لنأتينهم. فانطلقا حتى أتياهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقال عمر: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. قال: ما له؟ قالوا: وجع. قال فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة من قومكم فإذا هو يريدون أن يجتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر. قال عمر: فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت مقالة قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الجد، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه، فتلكم. وهو كان أعلم مني وأبلغ، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته ومثلها أو أفضل حتى سكت. قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة وهو جالس بيننا، ولم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي – ولا يقربني ذلك إلى إثم – أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
قال فقال قائل من الأنصار الحباب بن المنذر أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال عمر: فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون والأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. قلت: قتل الله سعد بن عبادة.(1/521)
وعن عبد الله بن مسعود قال: كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة بكلام قاله عمر قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله؟ قالوا: كلنا لا تطيب أنفسنا. نستغفر الله. فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فقعد على المنبر فبايعه الناس حتى أمسى، وشغلوا عن دفن جهاز رسول الله، حتى كان آخر الليل. ليلة الثلاثاء مع الصبح.
قال ابن إسحاق: حدثني الزهري قال حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتلكم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال: يا أيها الناس، إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدته في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، وكنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا – يقول يكون آخرنا – وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أبها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. انتهى.
وتخلف عن بيعته علي بن أبي طالب وبنو هاشم والزبير بن العوام وخالد ابن سعيد بن العاص وسعد بن عبادة الأنصاري، ثم إن الجميع بايعوا بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سعد بن عبادة فإنه لم يبايع أحدا إلى أن مات.(1/522)
وكانت بيعتهم بعد ستة أشهر. وذكر موسى بن عقبة أن رجالا من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر، منهم علي والزبير، فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح، فجاءهما عمر في عصابة من المهاجرين والأنصار، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن وقش وثابت ابن قيس فكلموهما، حتى أخذ أحد القوم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره، ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة، ولا سألتها الله قط سرا ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم. فقبل المهاجرون منه، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا أن أخرنا عن المشورة، وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لنعرف له شرفه ومنه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة وهو حي. وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر قام في الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم من بيعته ويستقيلهم مما تحمله من أمرهم، كل ذلك يقولون له: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. وروي عن الحسن البصري عن علي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فصلى بالناس، وإني شاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني. فرضينا لدنيانا من رضي الله ورسوله لديننا.
وفي الصحيحين عن عائشة أن فاطمة بنت رسول الله أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال" وإني لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا. فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، فصلى عليها علي. وكان لعلي من الناس وجهة حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع(1/523)
تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتينا معك أحد، كراهية محضر عمر بن الخطاب، فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي؟ إني والله لآتينهم. فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا يا أبا بكر قد عرفنا فضيلتك وما أعطاك الله، ولم ننفس خيرا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نرى لنا حقا لقرابتنا من رسول الله. فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر وتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره الذي اعتذر إليه ثم استغفر. وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر، وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكار للذي فضله الله به، ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به، فوجدنا في أنفسنا. فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت. وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر المعروف.(1/524)
ذكر غسله صلى الله عليه وسلم وتكفينه ودفنه
ولما فرغ الناس من بيعة أبي بكر وجمعهم الله عليه وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر وحسين بن عبد الله وغيرهما أن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله وأسامة بن زيد هم الذين ولوا غسله وأن أوس بن خولي وكان بدريا دخل معهم وحضر غسل رسول الله وأسنده إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي(1/524)
بيده إلى رسول الله، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله ما يرى من الميت. حدثني يحي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكون والقميص دون أيديهم، فلما فرغ من غسله كفن في ثلاثة أثواب: صحاريين وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا.
وحدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرخ كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهيل هو الذي كان بحفر لأهل المدينة وكان يلحد، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب لأبي عبيدة وللآخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خره لرسول الله. فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله، فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض" ، فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله أحد. قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء، وكان الذين نزلوا في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران مولاه وأوس بن خولي، وجعل تحته صلى الله عليه وسلم قطيفة كان يلبسها ويفترشها. وقال علي: آخر الناس عهدا به قثم بن عباس.(1/525)
ذكر الردة
قال ابن إسحاق: ولما توفي رسول الله عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغني تقول: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم، حتى جمعهم الله على أبي بكر.
قال ابن هشام حدثني أبو عبيدة وغيره أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله هموا بالرجوع عن الإسلام، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى، فقام سهيل ابن عمرو فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه. فتراجع الناس، وكفوا. وكان هذا هو المقام الذي أراده رسول الله حيث قال لعمر وقد قال له: انزع ثنيتي سهيل يلدغ بلسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عسى يقوم مقاما يسرك".
وفي معالم التنزيل: لما قبض رسول الله ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس. انتهى. وممن تمسك بالإسلام ما بين المسجدين أسلم وغفار وجهينة ومزينة وكعب وثقيف، قام فيهم عثمان بن أبي العاص، وأقامت طيء كلها على الإسلام، قام فيهم عدي بن حاتم، وهذيل وأهل السراة وبجيلة وخثعم ومن قارب تهامة من هوازن نضر وجشم وسعد بن بكر وعبد القيس قام الجارود وعبس وبعض أشجع ودوس وتجيب وهمدان. وارتد عامة بني تميم وأسد وغطفان وطوائف من سليم وأهل اليمامة كلهم وبكر بن وائل وأهل البحرين وأهل دبا وأزد عمان والنمر بن قاسط وكلب ومن قاربهم من قضاعة وفزارة وبني عامر بن صعصعة، وقيل تربصوا ينتظرون لمن تكون الدائرة.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها(1/526)
لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقها وحسابه على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. قال عمر: والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعا في قتال أهل الردة. وروى رزين عن عمر قال قلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال لي: أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟ قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقض وأنا حي؟
وفي كتاب الواقدي من قول عمر لأبي بكر: وإنما شحت العرب على أموالها، وأنت لا تصنع بتفريق العرب عنك شيئا، فلو تركت للناس صدقة هذه السنة. وذكر يعقوب بن محمد الزهري عن جماعة من شيوخه قال: كان أبو بكر أمير الشاكرين الذين ثبتوا على دينهم، وأمير الصابرين الذين صبروا على جهاد عدوهم وهم أهل الردة، وبرأي أبي بكر أجمعوا على قتالهم. وذلك أن العرب افترقت في ردتها فقالت فرقة: لو كان نبيا ما مات. وقال بعضهم: انقضت النبوة بموته فلا نطيع أحدا من بعده، وفي ذلك يقول قائلهم وهو الحطيئة:
أطعنا رسول الله ما عاش بيننا ... فيالعباد لله ما لأبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وقال بعضهم نؤمن بالله ونشهد أن محمدا رسول الله ونصلي، ولكن لا نطيعهم في أموالنا. قلت: وفي هؤلاء وقعت الشبهة والمراجعة بين أبي بكر وعمر وغيره حتى ناظرهم أبو بكر فرجعوا إلى قوله، وتبين لهم صوابه في قتالهم. انتهى. وجادل أبا بكر أصحابه في جهادهم، وكان من أشدهم عليه عمر وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، فقالوا: احبس جيش أسامة يكون عمارة وأمانا بالمدينة، وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر فإن هذا الأمر شديد غوره، فلو أن طائفة من العرب ارتدت قلنا قاتل بمن معك من ارتد، وقد اتفقت العرب على(1/527)
الارتداد، فهم بين مرتد مانع للصدقة مثل مرتد، وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوك، قدم رجلا وأخر رجلا. فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده لو علمت أن السباع تأكلني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر رسول الله بإنفاذه، ولا أحل لواء عقده رسول الله بيده. ثم قال لأسامة إن رأيت أن تخلف معي عمر فافعل... وأمره بالانتهاء إلى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيعه ماشيا وأسامة راكب، لأنه أقسم عليه ألا ينزل. ومضى أسامة فجعل لا يمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم. فهزموهم ورجعوا سالمين.
وجد بأبي بكر الجد في قتال أهل الردة، وأراد الله رشده فيهم، وعزم على الخروج بنفسه إليهم، وأمر الناس بالجهاز، وخرج هو في مائة من المهاجرين والأنصار وخالد بن الوليد يحمل اللواء حتى نزلنا بقعا يريد أن يتلاحق الناس ويكون أسر لخروجهم، ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم، وأشار عليه عمر وغيره بالرجوع وقالوا: ارجع يا خليفة رسول الله تكن للمسلمين فئة وردءا فإنك إن تقتل يرتد الناس ويعلو الباطل الحق، وأبو بكر مظهر المسير بنفسه، وسألهم بمن نبدأ من أهل الردة؟ فاختلفوا عليه، قال أبو بكر: نعمد لهذا الكذاب على الله وعلى رسوله طليحة. ولما ألحوا على أبي بكر بالرجوع وعزم هو عليه استعمل عليهم خالد بن الوليد وقال: يا خالد، عليك بتقوى الله وإيثاره على من سواه والجهاد في سبيله، فقد وليتك على من ترى من أهل بدر من المهاجرين والأنصار. ورجع أبو بكر ومن معه، وسار خالد حتى نزل على طيء في جبليهم سلمى وأجأ، وانضم إليه عدي بن حاتم ومن كان معه من المسلمين في تلك القبائل.
وسار إلى طليحة وهو على ماء من مياه أسد فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم طليحة وانهزم الناس، ثم لحق بالشام، ثم جاء طليحة بعد ذلك فأسلم وحسن إسلامه وقتل بنهاوند شهيدا، فدخلت القبائل في الإسلام: بنو حنظلة وأسد وفزارة وغطفان وبنو عامر وبنو سليم وغيرهم وبايعوه على الإسلام، وأخذ كل ما ظهر من سلاحهم، واستحلفهم على ما غيبوا منه، فإن حلفوا تركهم، وإن أبوا(1/528)
شدهم أسرى حتى أتوا بما عندهم، فأخذ سلاحا كثيرا فأعطاه أقواما يحتجون إليه في قتال عدوهم، وكتبه عليهم، ثم رده بعد فقدم به على أبي بكر.
وعن ابن عمر قال: شهدت بزاخة مع خالد، فأظفرنا الله على طليحة، وكنا كلما أنجزنا على قوم سبينا الذراري واقتسمنا الأموال. وعن يزيد بن شريك الفزاري قال: قدمت مع أسد وغطفان على أبي بكر وافدا حين فرغ خالد من بزاخة، وجعلت أسد وغطفان تسلل فاجتمعوا عند أبي بكر، فمنهم من بايع خالد ومنهم من لم يبايعه وجاؤوا إلى أبي بكر. فقال: اختاروا بين خصلتين: حرب مجلية أو سلم مخزية. قال خارجة بن حصن: الحرب المجلية قد عرفتها فما السلم المخزية؟ قال: تقرون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وأن تردوا علينا ما أخذتم منا ولا نرد مما أخذنا منكم شيئا، وأن تدوا قتلانا دية كل قتيل مائة بعير أربعون في بطونها أولادها ولا ندي قتلاكم، ونأخذ منكم الحلقة والكراع وتلحقون بأذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمؤمنين ما شاء فيكم، أو يرى منكم إقبالا على ما خرجتم منه. فقال خارجة: نعم يا خليفة رسول الله. قال أبو بكر: عليكم عهد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء الليل وآناء النهار، وتعلموه أولادكم ونساءكم، ولا تمنعوا فرائض الله في أموالكم، قالوا: نعم. قال عمر: يا خليفة رسول الله كل ما قلت كما قلت إلا أن يدوا من قتل منا فإنهم قوم قتلوا في سبيل الله، فتتابع الناس على قول عمر. وقبض أبو بكر كل ما قدر عليه من الحلقة والكراع. فلما توفي أبو بكر رأى عمر أن الإسلام قد ضرب بجرانه فدفعه إلى أهله أو إلى عصبة من مات منهم. وأصله في صحيح البخاري من حديث طارق بن شهاب بنحوه مختصرا.
ثم توجه خالد إلى اليمامة لحرب مسيلمة الكذاب، وكان خالد في بضعة عشر ألفا ومع مسيلمة أربعون ألفا، فقتل الله مسيلمة وقتل من أصحابه عشرة آلاف. وكانت الهزيمة أولا على المسلمين حتى دخل أصحاب مسيلمة فسطاط خالد فرعبلوا الفسطاط بالسيف ثم حمل عليهم المسلمين وقاتلوهم قتالا شديدا حتى قتل الله محكم بن الطفيل وفتح الله على المسلمين، واشترك في قتل مسيلمة وحشي بن حرب قاتل حمزة ورجل من الأنصار، وكان وحشي(1/529)
يقول: ربك أعلم أينا قتله. وقتل من خيار المسلمين ألف رجل، منهم زيد بن الخطاب وثابت ابن قيس وأبو دجانة وعباد بن بشر وسالم مولى أبي حذيفة. ثم صالح مجاعة خالدا على من في الحصون من قومه، بعد أن خدع خالدا وبعث إلى قومه وأمرهم أن يلبسوا النساء السلاح وأن يشرفوهن والذراري على رؤوس الحصون، وقال له: انظروا إلى المقاتلة والسلاح، وكان المسلمون يرون أنه لم يبق في مقاتلتهم أحد، فلما رأوا ذلك ظنوا صدق ما قال، فصالحه خالد على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع ونصف السبي، وكان أبو بكر يتروح الخبر عن اليمامة، وكان رأى في النوم كأنه أتى بتمر من هجر فأكل منه تمرة واحدة وجدها نواة خلقة تمرة، فلاكها ساعة ثم رمى بها، فتأولها فقال: ليلقين خالد من أ÷ل اليمامة شدة، وليفتحن الله على يده. فأرسل خالد أبا خيثمة بشيرا إلى أبي بكر فلما رآه قال: ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال: خير يا خليفة رسول الله، قد فتح الله علينا اليمامة، فسجد أبو بكر.
وقال زيد بن طلحة: قتل يوم اليمامة من قريش سبعون، ومن الأنصار سبعون، ومن سائر الناس خمسمائة. وفي البخاري عن قتادة قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا وأعز يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: حدثنا أنس أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، وزاد غيره: وفي جسر أبي عبيد سبعون.(1/530)
ذكر مسيرة خالد إلى العراق
ولما فرغ خالد من قتال أهل اليمامة وأهل الردة انصرف راجعا إلى المدينة. وقيل لما دخلت السنة الثانية من خلافة أبي بكر كتب إلى خالد: إذا فرغت من اليمامة فسر إلى العراق، فقد وليتك حرب فارس والحيرة، فسار خالد إلى العراق في بضعة وثلاثين ألفا فصالح أهل السواد، ثم أقبل حتى نزل الحيرة وكان عليها قبيصة بن إياس الطائي أميرا لكسرى، فصالح خالدا أيضا على تسعين ألف درهم كل سنة. فكانت أول جزية وقعت بالعراق. ثم سار إلى الأبلة وخرج له هرمز في مائة وعشرين ألفا فالتقى مع خالد واقترنوا في السلاسل،(1/530)
فقيل لهم: قيدتم أنفسكم لعدوكم فلا تفعلوا، فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم: أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب، ثم زحف إليهم فاقتتلوا فانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، فقتل الله من المشركين سبعين ألفا، وقتل خالد هرمز، ونفله أبو بكر قلنسوته وكانت تساوي مائة ألف، وسميت هذه الوقعة ذات السلاسل.
وكتب خالد إلى كسرى:
بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد إلى الملك كسرى والملوك. أما بعد فالحمد لله الذي فرق كلمتكم وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا، وإلا فأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فلما قرأوا كتابه أخذوا يتعجبون، فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا في كل سنة.
ثم قصد خالد الروم وكان أبو بكر كتب إليه بذلك. انتهى. وارتدت ربيعة بالبحرين كما تقدم إلا الجارود بن عمرو فإنه ثبت على الإسلام فيمن تبعه من قومه عبد القيس، وعلى البحرين يومئذ العلاء بن الحضرمي. وكان بعثه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم المشركون بجواثا حصن بالبحرين، وأصاب المسلمين جهد شديد من جوع حتى كادوا أن يهلكوا، فخرج عبد الله بن حذافة ليلة من الليالي ليتجسس أخبارهم فوجدهم سكارى، فأخبر المسلمين بذلك فبيتهم العلاء ومن معهم من المسلمين فقتل من قتل منهم وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم عند العلاء في جواثا. ثم سار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا، وهزمهم الله حتى لحقوا إلى باب المدينة فتحصنوا بها، فضيقوا عليهم، فطلبوا الصلح والأمان، فصالحوهم على ثلث ما بالمدينة بأيديهم من أموالهم، وما كان من شيء خارج عنها فهو له، فبعث العلاء بمال كثير إلى المدينة. فلما ظهر العلاء على أهل الردة من أهل البحرين بعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبي بكر فنزلوا على طلحة والزبير، فدخلوا على أبي بكر وأخبروه بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم في أهل الردة، ثم دخل القوم على أبي بكر وعندن طلحة والزبير فسألوه أن يعطيهم أرضا من البحرين(1/531)
وطواحين فأسعف أبو بكر وقال: إني فعلت وأعطيتهم كل ما سألوني، وعرفت لهم قدر إسلامهم، وكتب لهم بذلك كتابا. فلما خرجوا من عنده أقرءوا عمر الكتاب، فلما قرأه تفل فيه، فرجعوا إلى أبي بكر فأخبروه، ودخل طلحة والزبير فقالا: والله لا ندري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: وما ذاك؟ فأخبروه. فقال أبو بكر: لئن كان عمر كره من ذلك شيئا فإني لا أفعله، فبينما هم على ذلك إذ أقبل عمر، فقال له أبو بكر: ما كرهت من هذا الكتاب؟ فقال: كرهت أن تعطي خاصة دون عامة، ولكن اجعل أمر الناس عندك واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطي هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون الناس، فقال أبو بكر: وفقك الله وجزاك خيرا. فهذا هو الحق.
وفي أيام أبي بكر رضي الله عنه تنبأت سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية واتبعها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من بني ربيعة، وقصدت مسيلمة فأرسل إليها: هل لك أن أتزوجك فيقال نبي تزوج نبية؟ قالت: نعم. فأقامت عنده ثلاثا، ثم انصرفت إلى قومها، ثم أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها.(1/532)
ذكر خبر الأسود العنسي وقتله
وفي مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل الأسود العنسي، واسمه عبهلة، وكان يشعبذ ويري الجهال الأعاجيب، ادعى النبوة، وكاتبه أهل نجران، وسار الأسود من نجران إلى صنعاء فملكها، وصفا له الملك باليمن، واجتمع جماعة من المسلمين في قتله واجتمعوا بامرأته وكان الأسود قد قتل أباها فقالت: والله إنه أبغض الناس إلي، ولكن الحرس محيطون بقصره، فانقبوا عليه البيت، فواعدوها على ذلك ونقبوا عليه، فدخل فيروز الديلمي فقتله واحتز رأسه، فخار خوار الثور، فابتدر الحرس الباب، فقالت زوجته: هذا النبي يوحى إليه. فلما طلع الفجر أمروا المؤذن فقال: أشهد أن محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذاب.(1/532)
وكتب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه بذلك، فورد الخبر من السماء إلى النبي وأعلم أصحابه بقتل الأسود، ووصل الكتاب بقتله في خلافة أبي بكر فكان كما أخبر.
وفي الصحيح قال عبيد الله بن عبد الله: سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله فقال ابن عباس: ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان. قال عبيد الله: أحدهما العنسي الذي قتله فيروز، والآخر مسيلمة الكذاب.
وفي هذه السنة وهي الأولى من خلافة أبي بكر ماتت فاطمة رضي الله عنها، وهي بنت تسع وعشرين سنة.
وفيها أمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن لما رأى كثرة من قتل من القراء يوم اليمامة. كما في البخاري عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر جالس عنده، فقال أبو بكر: إن عمر جاءني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى إن استحر بالقراء في المواطن فيذهب كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قال زيد فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: قلت كيف تفعلان شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني وفي رواية فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة أو أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
زاد ابن شهاب عن أنس أن حذيفة قدم على عثمان أي في خلافته وكان يغازي أهل الشام مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في(1/533)
المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه، فأمر بنسخها وأرسل إلى كل أفق بمصحف، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. انتهى.
ولما دخل شهر ذي الحجة أمر أبو بكر عمر على الحج، فخرج بالناس سنة إحدى عشرة فحج بالناس، واشترى في حجته تلك مولاه أسلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة فبعث أبو بكر الجنود إلى الشام، بعث عمرو ابن العاص إلى فلسطين، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل ابن حسنة رضي الله عنهم إلى الشام، وأمرهم أن يأخذوا طريق الشام من أعلى الشام، وخرج أبو بكر مع يزيد يوصيه، ويزيد راكب وأبو بكر يمشي، فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنا براكب ولا أنت بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. ثم مضوا ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلطسين في سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل، فكتب عمرو بن العاص إلى أبي بكر يخبره ويستمده، فكتب أبو بكر إلى خالد وهو بالحيرة يأمره أن يمد أهل الشام بمن معه من أهل القوة، ويستخلف على ضعفة الناس رجلا منهم، وقال له: إذا التقيتم فأنت أمير الجماعة. فسار خالد بأهل القوة، ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة، واستخلف على من أسلم بالعراق من العرب وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني.
ثم سار خالد حتى أغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد، فصالح أهل بصرى حين رأوا كثرة العسكر على الجزية، وفتحها الله للمسلمين، وكانت أول مدينة فتحت من مدائن الشام.
ثم ساروا جميعا مددا لعمرو بن العاص إلى فلسطين، فسمع الروم باجتماع المسلمين، فانكشفوا إلى أجنادين، فسار المسلمون إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله المشركين، وقتل المسلمون منهم في المعركة ثلاثة آلاف، واتبعوهم يأسرون ويقتلون، فخرج فل الروم إلى إيلياء وقيسارية ودمشق. وكانت وقعة(1/534)
أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام وكانت في جمادى الأولى قبل وفاة أبي بكر بأربع وعشرين ليلة.
ثم ساروا إلى دمشق فحاصروها، فبينما هم كذلك أتاهم آت فأخبرهم أن هذا الجيش قد جاءكم من قبل ملك الروم، فنهض خالد بالناس على تعبئة حتى لقوهم، فهزمهم الله، ورجع الناس وقد ظفروا، ويقال لهذه الوقعة "يوم مرج الصفر"، ثم رجعوا إلى دمشق فحاصروها وضيقوا عليها، فكان المسلمون يغيرون، فكلما أصاب رجل منهم شيئا جاء به يلقيه في القبض، لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا، فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم فوصفهم له بهذه الصفة في الأمانة، ووصفهم بالصلاة في الليل وطول القيام، فقال: هؤلاء رهبان الليل أسود النهار، لا والله مالي بهؤلاء طاقة، ومالي في قتالهم خير، فراود المسلمين على الصلح.
وفي هذه السنة مات الصديق رضي الله عنه مسي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة بين المغرب والعشاء. وفي سبب موته قولان: أحدهما أن اليهود سمته، والثاني: أنه اغتسل في يوم بارد فحم، فأمر عمر أن يصلي بالناس. وقيل له في مرضه: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني. فقالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.
ولما أيس من الحياة دعا عثمان وأملى عليه كتاب العهد لعمر فقال:
اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، وحين يؤمن الكافر ويوقن الفاجر، إني استخلفت ...
ولما انتهى إلى هذا الموضع غشي عليه، فكتب عثمان "عمر بن الخطاب" فأمسك حتى أفاق أبو بكر قال: أكتبت شيئا؟ قال: كتبت عمر بن الخطاب، فقال: جزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا. ثم رفع أبو بكر يديه وقال: اللهم وليتهم خيرهم، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم، وقد حضرني من أمرك ما قد حضر، فاجتهدت لهم الرأي، ووليت عليهم خيرهم لهم وأحرصهم على رشدهم، ولم أرد محاباة عمر وأنا خارج من(1/535)
الدنيا إلى الآخرة. فاخلفني فيهم، فمه عبادك ونواصيهم بيدك، أصلح لهم وإليهم عمر، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع نبيه نبي الرحمة وهدى الصالحين بعده، وأصلح له أمر رعيته.
وكتب بهذا العهد إلى أمراء الأجناد: إني قد وليت عليكم خيركم ولم آل نفسي ولا المسلمين خيرا. ثم دعا عمر رضي الله عنهما فقال: إني مستخلفك على أصحاب رسول الله، يا عمر إن لله حقا في الليل لا يقبله بالنهار، وحقا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غير الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غير الباطل أن يكون خفيفا. إنما نزلت آية الرجاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرجاء ليكون المؤمن راغبا راهبا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله فيها ما ليس لك، ولا ترهب فيها رهبة تلقى فيها ما بيدك.
إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن، فإذا ذكرتهم قلت إني لأخشى أن أكون من هؤلاء.
وإنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيء، فإذا ذكرتهم قلت: أي من أعمالهم أعمل؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه.
وبلغ أبا قحافة وهو بمكة موت ابنه، سمع الهائعة فقال: ما هذا؟ فقيل: مات ابنك. فقال: رزء جل. قال: فإلى من عهد؟ قالوا: إلى عمر. قال: صاحبه.
ومات بمكة عتاب بن أسيد يوم مات الصديق، وكانا قد سما جميعا.
وكان عمر أبي بكر ثلاثا وستين سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس.
ولما توفي ارتجت المدينة بالبكاء، وصلى عليه في مسجد رسول الله، ونزل في قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن. وكان له من الولد ستة، ثلاثة(1/536)
بنين: عبد الله وهو أكبرهم وعبد الرحمن وهو شقيق عائشة ومحمد، وثلاث بنات: عائشة وأسماء وهي أكبرهن وأم كلثوم، ماتت وهي في بطن أمها.
وعن عائشة قالت: لما مرض أبو بكر قال انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي. فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر وقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا. وعنها قالت: ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما ضرب الله سكته.(1/537)
ذكر خلافة عمر بن الخطاب
بويع له بالخلافة يوم مات أبو بكر، وكان أول كلام تكلم به حين صعد المنبر أن قال: اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني. أيها الناس، القوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق، والضعيف عندي قوي حتى آخذ له الحق. وهو أول خليفة دعي بأمير المؤمنين، وأول من وضع التاريخ بعام الهجرة: وضعه في السنة السابعة عشرة، وهو أول من جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان، وأول من حمل الدرة لتأديب الناس، وكان نقش خاتمه "كفى بالموت واعظا يا عمر" وحج بالناس عشر حجج متواليات، وحج بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها.
وكان في أيامه فتوح الأمصار، منها دمشق فتحت صلحا على يد أبي عبيدة وخالد، وكان عمر قد عزل خالدا واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس، وكان قد قدم على أبي عبيدة كتاب عمر بعزل خالد وتوليته، فاستحيا أبو عبيدة أن يقرئه الكتاب، فلما فتحت أظهر أبو عبيدة ذلك.
ثم فتح الله الروم وطبرية وقيسارية وفلسطين وعسقلان، وسار عمر بنفسه ففتح بيت المقدس صلحا، وفتحت أيضا بعلبك وحمص وحلب وقنسرين(1/537)
وأنطاكية وجلولاء والرقة وحران والموصل والجزيرة ونصيبين وآمد والرها، وفتحت القادسية والمدائن على يدي سعد بن أبي وقاص.
وزال ملك الفرس وانهزم يزدجر ملك الفرس ولجأ إلى فرغانة والترك. وفتحت أيضا كورة الأبله على يد عتبة بن غزوان، وفتحت كور الأهواز والجابية على يد أبي موسى، وفتحت نهاوند واصطخر وأصبهان وبلد فارس وتستر وسوس وهمذان والنوبة والبربر، وفتحت أذربيجان وبعض أعمال خراسان، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص غرة محرم سنة عشرين، وفتح عمرو أيضا الأسكندرية وطرابلس الغرب وما يليها من الساحل. وفي حياة الحيوان: وعدوا مما فتح رأس العين والخابور وبيسان واليرموك والري وما بينهما.
وفي أيام عمر مصرت البصرة سنة سبع عشرة ، والكوفة ونزلها سعد بن أبي وقاص.
وفي سنة ثمان عشرة كان عام الرمادة، واستسقى عمر بالعباس فسقي، وفيها كان طاعون عمواس مات خمسون ألفا منهم أبو عبيدة ومعاذ وغيرهم من الصحابة.
وعن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام لقيه الجنود وعليه عمامة وقد خلع خفيه وهو يخوض الماء آخذا بزمام راحلته، وخفاه تحت إبطه. فقالوا له: يا أمير المؤمنين الآن تلقاك الأمراء وبطارقة الشام وأنت هكذا؟ فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
وعن معاوية أنه قال: أما أبو بكر فإنه لم يرد الدنيا ولم ترده. وأما عمر فأرادته ولم يردها، وأما عثمان فأصاب منها. وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن.
قيل: كان في خدي عمر خطان أسودان من البكاء.
وكثر المال في دولته إلى الغاية حتى عمل بيت المال، ووضع الديوان، وفضل أهل السابقة على غيرهم، ورتب لرعيته ما يكفيهم، وفرض للأجناد.
ولما استخلفه أبو بكر كره بعضهم إمارته، وقال له طلحة: تولي علينا فظا غليظا، ما تقول لربك إذا لقيته؟ فقال أبو بكر: ساندوني. فأجلسوه، فقال: أبالله(1/538)
تخوفوني؟ أقول: استخلف عليهم خير أهلك. وحلفت بالله ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر، وستعملون إذا قارفتموها وتنافستموها.
وقال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: صاحب مصر حين قال: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وابنة شعيب حين قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر حين استخلف عمر.(1/539)
ذكر مقتل عمر
كان رضي الله عنه ملازما للحج في سني خلافته، وكان من سيرته أن يأخذ عماله بموافاته كل سنة في موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية ويحجز عنهم الظلم ويتعرف أحوالهم عن قرب، وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم.
وقال سعيد بن المسيب: لما صدر عمر من منى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء ثم قال: اللهم كبر سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. ثم قدم المدينة فخطب الناس، فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل.
روي أن عمر لما انصرف من حجته التي لم يحج بعدها أتى ضجنان ووقف فقال: الحمد لله ولا إله إلا الله، يعطي من يشاء ما يشاء. لقد كنت بهذا الوادي أرعى إبلا للخطاب، كان فظا غليظا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت.
وقد أصبحت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. ثم تثمل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى تبقي بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ...
والجن والإنس فيما بينها ترد(1/539)
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
وعن حفصة بنت عمر وأسلم مولاه عن عمر أنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. قالت حفصة فقلت: أنى يكون هذا؟ قال: يأتيني به الله إذا شاء رواه البخاري.
وفي الصحيحين ولفظه لمسلم عن معدان بن طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله، وذكر أبا بكر، ثم قال: إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا لحضور أجلي. وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف عليكم، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم. فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض. وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام. فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال. ثم إني لا أدع بعد شيئا أهم عندي من الكلالة1،وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ فيها حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: "يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء"، وإن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأه. ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا، وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا فيئهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم. ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين البصل والثوم، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. فما كانت إلا الجمعة الأخرى حتى طعن عمر. انتهى.
ـــــــ
1 الكلالة: أن يموت الميت وليس له وارث من والد أو ولد.(1/540)
وروي أن عمر خرج يوما يطوف بالسوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة ابن شعبة، وكان نصرانيا أو مجوسيا، فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة أثقل على غلتي، فكلمه يخفف عني. قال: فما صناعتك؟ قال: نجار حداد نقاش. قال: ما أرى خراجك كثيرا. قال: بلغني أنك تقول لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح لفعلت. قال: نعم. قال: فاعمل لي رحى. فقال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب. ثم انصرف عنه فقال عمر: لقد توعدني العلج آنفا. وفي حديث عمرو بن ميمون في البخاري: فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة، وكان إذا مر بين الصفين قام بينهما فإذا رأى خللا قال استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، قال وربما قرأ سورة يوسف أو النحل ونحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس. فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يمينا أو شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، فمات منهم تسعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، فتناول عمر عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما من كان يلي عمر فقد رأى الذي رأيت، وأما نواحي المسجد فإنهم ما يدرون ما الأمر، غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني. فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة ابن شعبة. فقال: الصنع؟ قال: قاتله الله لقد كنت أمرت به معروفا ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل مسلم، قد كنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة.
ثم احتمل إلى بيته فانطلقنا معه، قال فكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأتى بنبيذ فشرب منه فخرج من جوفه، ثم أتى بلبن فشرب منه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت. وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله، قد كان لك من صحبة رسول الله وقدم الإسلام، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. فقال: وددت أن ذلك كفافا لا لي ولا علي. فلما أدبر الرجل إذا إزاره يمس الأرض فقال: يا ابن أخي ارفع ثوبم، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.(1/541)
يا عبد الله انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه فقال: إن وفى مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم يف فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، وأد عني هذا المال. انطلق إلى أم المؤمنين عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام. ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. قال: فسلم ثم استأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام. ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله قد جاء. قال ارفعوني. فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم من ذلك إلي، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر، فإن أذنت فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف. قال: ما أرى أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذي توفي رسول الله وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء – كهيئة التعزية له – فإن أصابت الإمارة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلتهم عن رضا منهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم أو يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.
قال سعد بن أبي وقاص: طعن عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. انتهى. ودفن يوم الأحد صبيحة هلال المحرم، ونزل في قبره عثمان بن عفان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان عمره يوم توفي(1/542)
ثلاثا وستين، وصلى عليه صهيب الرومي. فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال. وكان له من الولد ثلاثة عشر: تسعة بنين، وأربع بنات.(1/543)
خلافة عثمان بن عفان
قال أبو عمر: بويع لعثمان رضي الله عنه يوم السبت غرة المحرم سنة أربع وعشرين، بعد دفن عمر بثلاثة أيام باجتماع الناس. وفي البخاري في حديث المسور: إن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا فجلعوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما صلى الناس الصبح احتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل عبد الرحمن إلى من كان خارجا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا قد وفوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن وقال: أما بعد يا علي فإني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل لي على نفسك سبيلا. فأخذ بيد عثمان وقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون، وهو أقرب العشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد علي نسبا وفضائله كثيرة، وافتتح في خلافته الأسكندرية ثم نيسابور، ثم طبرستان وسجستان وكرمان ثم الأساورة في البحر ثم إفريقية ثم حصون قبرس ثم ساحل الأردن ثم مرو. وفي أيامه قتل يزدجر ملك فارس في مرو، وغزا معاوية القسطنطينية، وفتحت أرمينية.
وفي أيامه ركب معاوية نائب الشام البحر بالجيوش فافتتح قبرص وسار نائبه على مصر عبد الله بن أبي سرح بالجيوش إلى إفريقية والتقى هو والعدو فنصر الله المسلمين، وكانت وقعة عظيمة هائلة بحيث طلع سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار من الغنيمة.
وامتد ملك المسلمين حتى بلغ المحيط، وافتتح عبد الله بن عامر بم كريز عامله على البصرة من أرض فارس مدينة جور وغيرها، وافتتح المسلمون في أشهر معدودة نحوا من عشرين مدينة. ثم خرج ابن كريز من نيسابور محرما(1/543)
بالحج من بقعته شكرا لله لما فتح الله عليه من هذه المدائن الكبار، واستناب على خراسان الأحنف بن قيس.
وسار حتى دخل مكة وطاف وسعى وحل، ثم أتى وافدا على أمير المؤمنين عثمان بالمدينة، وقدم ابن كريز إلى البصرة فاستقر بها، ونوابه على خراسان وسجستان والجبال، وكثر المال والخراج على عثمان، وأتاه الخراج من النواحي.
واتخذ الخزائن العظيمة بالمدينة. وكان يقسم بين الناس فيأمر للرجل بمائة ألف درهم. واتسعت الدنيا وكثرت الأموال حتى كانت الفرس تشترى بمائة ألف، وكان البستان يباع بالمدينة بأربع مائة ألف، وكانت المدينة عامرة كثيرة الأموال والخيرات والناس، ويجبى إليها خراجح الممالك، وهي دار الأمان وقبة الإسلام، فبطر الناس بكثرة الأموال والنعم، وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا، فأخذوا ينقمون على خليفتهم لكونه يعطي المال أقاربه ويوليهم الولايات الجليلة، فتكلموا فيه وكان قد صار له أموال عظيمة وله ألف مملوك، فآل الأمر إلى أن قالوا: هذا لا يصلح للخلافة، وهموا بعزله وجرت أمور طويلة نسأل العافية. وروى الإمام أحمد في مسنده حدثنا معاوية بن عمر حدثنا زيد عن عاصم عن شقيق قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال الوليد: أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم عينين1، قال عاصم يقول: يوم أحد، ولم أتخلف يوم بدر، ولم أترك سنة عمر. قال: فنطلق الوليد فخبر بذلك عثمان، قال فقال: أما قوله إني لم أفر يوم عينين، فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عنه فقال {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وأما قوله إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله بسهم فقد شهد، وأما قوله إني لم أترك سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فأتاه فحدثه بذلك. انتهى.
ـــــــ
1 عينان اسم الجبل الذي أقام عليه الرماة يوم أحد، فسمي به يوم أحد.(1/544)
ثم اجتمع المنحرفون عن عثمان وحاصروه في داره بالمدينة، وعلى الكوفيين الأشتر النخعي، وعلى المصريين ابن عديس وعمرو بن الحمق، وعلى البصريين حكيم بن جبلة، فسير إليهم عثمان رضي الله عنه المغيرة بن شعبة وعمرو ابن العاص ليدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فردوهما أقبح رد ولم يسمعوا كلامهما، فبعث إليهم عليا فضمن لهم ما يعدهم به عثمان، وكتبوا على عثمان كتابا بإزاحة علتهم والسير فيهم بكتاب الله وسنة نبيه، وأخذوا عليه عهدا بذلك ثم نقضوا العهد بعد ذلك. ذكر ابن الجوزي في شرح الصحيحين أنهم هجموا على المدينة وكان عثمان يخرج فيصلي بالناس وهم يصلون خلفه شهرا، ثم خرج من آخر جمعة خرج فيها فحصبوه حتى وقع على المنبر ولم يقدر أن يصلي بهم، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة بن سهل بن حنيف، ثم حصروه ومنعوه الصلاة في المسجد، وكان يصلي بهم ابن عديس تارة وكنانة بن بشر أخرى وهما من الخوارج على عثمان. وفي مسند أحمد أن عثمان قال يوم الدار حين حصر: إن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه، فكانوا يرونه ذلك اليوم. وروى عبد الله بن أحمد في زيادة المسند أن عثمان رضي الله عنه أعتق عشرين مملوكا، ودعا بسروايل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام ورأيت أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما وأنهم قالوا: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة. ثم دعا بمصحف فنشر بين يديه فقتل وهو بين يديه. انتهى. ويذكر أن الدم نضح على هذه الآية {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال وإنها في المصحف ما حكت. وفي حديث أبي سعيد عند أبي حاتم: فأخذت نائلة بنت القرافصة حليها فوضعته في حجرها وذلك قبل أن يقتل، وتفاجت عليه، فقال بعضهم: قاتلها الله ما أعظم عجيزتها فعلم أن أعداء الله لم يريدوا إلا الدنيا. انتهى. وأرسل علي ابنيه الحسن والحسين ومواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوا عنه، وبعث الزبير ابنه عبد الله، وبعث طلحة ابنه محمدا، وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بمن ذكرنا، فصدوهم عن الدار، فرمي من وصفنا بالسهام، واستبك القوم وجرح الحسن وشج قنبر وجرح محمد بن طلحة. وكان معه في الدار جماعة يريدون الدفع عنه، منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن سلام(1/545)
وعبد الله بن الزبير والحسن وأبو هريرة ومحمد بن حاطب والمغيرة بن الأخنس، ويومئذ قتل المغيرة قبل عثمان. وفي الاستيعاب: روى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: إني لمحصور مع عثمان في الدار قال فرمي رجل منا، فقلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضرب، قتلوا منا رجلا، فقال عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة لما رميت نفسك، فإنما يراد نفسي، وسأقي المؤمنين بنفسي. قال أبو هريرة: فرميت بسيفي فلا أدري أين هو الساعة.
وحج بالناس تلك السنة عبد الله بن عباس وعثمان محصور بأمر عثمان، وخرجت عائشة للحج هاربة.
وعن ابن شهاب قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف قتل عثمان؟ وما كان من شأن الناس وشأنه؟ ولم خذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: قتل عثمان مظلوما، ومن قتله كان ظالما، ومن خذله كان معذورا. قلت: وكيف كان ذلك؟ فذكر السبب في ذلك إلى أن قال: فتسوروا من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان وما يعلم أحد ممن كان معه، لأن من كان معه كان فوق البيت، ولم يكن معه إلا امرأته، وقتلوه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا. وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها من الجلبة قصعدت إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قتل، فدخل عليه الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوه مذبوحا، فانكبوا عليه يبكون، ودخل الناس فوجدوا عثمان مقتولا، فبلغ عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا وقال علي لابنه كيف قتل أمير المؤمنين، وأنتم على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، وشتم عبد الله بن الزبير.
وخرج علي فأتى منزله وجاء الناس كلهم إلى علي ليبايعوه، فقال لهم: ليس هذا إليكم، إنما هو إلى أهل بدر، فمن رضي أهل بدر فهو الخليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلا قال: ما نرى أحق بها منك. وقتل عثمان رضي الله شهيدا في ذي الحجة.(1/546)
قال الواقدي: يوم الجمعة لثمان أو سبع خلت من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس وثلاثين.
قال ابن إسحاق: قتل عثمان على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما من مقتل عمر بن الخطاب. انتهى.
وهي أول مصائب الإسلام وخرومه، لأن المسلمين استضيموا في قتله جهرة، وبقتله فتح باب الفتنة إلى يوم القيامة. قال حسان بن ثابت:
من سره الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأسدة في دار عثمانا
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
صبرا فداء لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
لتسمعن وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
وقال حسان أيضا، وقيل هي لكعب، وقيل هي للوليد بن عقبة:
فكف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل
وكيف رأيت الله ألقى عليـ ... ـهم العداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ...
عن الناس إدبار السحاب الحوامل(1/547)
وعن سعيد بن زيد قال: لو أن رجلا انقض لما فعل بعثمان لما كان حقيقا أن ينقض وقال ابن عباس: لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط.
قال ابن إسحاق: قتل وهو ابن ثمانين سنة. وقال قتادة: ابن ست وثمانين، ودفن ليلا بموضع يقال له حش كوكب، وكوكب: رجل من الأنصار، والحش البستان. وتفرقت الكلمة بعد قتله. وماج الناس واقتتلوا للأخذ بثأره حتى قتل من المسلمين تسعون ألفا. وفضائله وسبقه إلى الإسلام معروف رضي الله عنه.(1/548)
ذكر خلافة علي بن أبي طالب
روى أحمد في المناقب عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر ولا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله منك. اقل: لا تفعلوا، فإني أكون وزيرا خير من أكون أميرا. قالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا عن رضى المسلمين. فدخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعن الناس. وقيل أول من بايعه طلحة وكانت يده شلاء فقيل: يد شلاء وأمر لا يتم.
وقال الزهري: أرسل إلى طلحة والزبير فدعاهما إلى البيعة، فتلكأ طلحة، فقال الأشتر وسل سيفه: والله لتبايعن أو لأضربن به بين عينيك. فبايعه، وبايعه الزبير. وذهب قوم إلى الشام فلم يبايعوه، ولم يبايعه قدامة بن مظعون وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: لم يبايعه سعد وابن عمر وصهيب وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وسلمة بن سلامة بن قش وأسامة بن زيد.(1/548)
وطارت الأخبار بقتل الشهيد عثمان، فحرزن عليه المسلمون، ولاسيما أهل دمشق، وأتى البريد بثوبه بالدم فنصب على منبر دمشق، ونعاه معاوية إلى أهلها فبكوا، وتعاقدوا على الطلب بدمه وكانوا شتين ألفا. وآلى رجال منهم لا يأتون النساء ولا يغتسلون من جنابة إلا من احتلام حتى يقتلوا قتلته ومن عرض دونهم. وتخلف عن بيعة علي معاوية في أهل الشام وأظهروا له الخلاف ونسبوه إلى الإعانة على قتل عثمان والرضى بها، وقد برأه الله من ذلك. واجتمع ناس إلى علي فقالوا: إن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم، فقال لهم: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعا للقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا والله. وقال طلحة لعلي" دعني آتي البصرة ولا يفجأك إلا وأنا في خيل، وقال الزبير: دعني آتي الكوفة ولا يفجأك إلا وأنا في خيل. فقال: حتى أنظر في ذلك. ودخل عليه المغيرة بن شعبة فقال له: إن لك حق الطاعة والنصيحة.
أقرر معاوية على عمله وابن عامر والعمال على أعمالهم حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت. قال: حتى أنظر. وخرج من عنده ثم أتاه من الغد فقال: إني أشرت عليك أمس، وإن الرأي أن تعاجلهم فتعرف السامع من غيره. فتلقاه ابن عباس وقد أتى من الحج وهو خارج من عند علي، فدخل على علي، فلما انتهى إليه قال: رأيت المغيرة خرج من عندك. قال: جاءني أمس بكذا واليوم بكذا. فقال: أما أمس فقد نصحك، وأما اليوم فقد غشك. قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي قبل اليوم أن تخرج حين قتل الرجل أو قبله فتأتي مكة فتدخل دارك وتغلق بابك، فكانت العرب محايلة ومضطربة في أثرك لا تجد غيرك، فأما اليوم فإن بني أمية يستحثون الطلب وأن يلزموك شقة من هذا الأمر.
وفي رواية وإني أخشى أن ينتقض عليك الشام، مع أني لا آمن طلحة ولا الزبير أن يخرجا عليك. وإني أشير عليك أن تقر معاوية، فإن بايع لك فعلى أن أقتلعه من منزله متى شئت، فقال علي: والله لا أعطيه إلا السيف. ثم تمثل:(1/549)
وما ميتة إن منها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها
فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع، ولست صاحب رأي، فقال: إذا عصيتك فأطعني. قال ابن عباس: أيسر مالك عندي الطاعة.
وكانت عائشة مقيمة بمكة تريد عمرة المحرم، فلما قضت عمرتها وخرجت إلى المدينة سمعت بما جرى، فانصرفت راجعة إلى مكة، فأتاها عبد الله بن عامر والي مكة من قبل عثمان فقال: يا أم المؤمنين ما ردك؟ قالت: ردى أن عثمان قتل مظلوما.
وإن هذا الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، وإنهم بادروا بالعدوان، وسفكوا الدم الحرام، وأخذوا المال الحرام، وإن هذا حدث عظيم وأمر منكر، فاطلبوا دم عثمان. فكان أول من أجابها عبد الله بن عامر، وذلك أول ما تكلمت به بنو أمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم. ثم إن طلحة والزبير رضي الله عنهما ندما وعظم عليهما قتله، فخرجا هاربين إلى مكة من غير أمر علي، فاجتمعا بعائشة ومن معها من بني أمية، وجمعوا جمعا عظيما، واتفق رأيهم على المضي إلى البصرة وقالوا: معاوية بالشام قد كفانا أمرها. وكان عبد الله بن عمر قد قدم مكة فدعوه إلى المسير معهم فامتنع، وأرادت حفصة المسير معهم فردها أخوها عبد الله، وأحب أهل المدينة أن يعلموا ما رأي علي في قتال أهل القبلة وقد بلغهم أن الحسن دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس. فدسوا زياد بن حنظلة التميمي فدخل فجلس إليه ساعة ثم قال: يا زياد تسير؟ قال: لأي شيء؟ قال: لغزو الشام. فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
فتمثل علي:
متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم(1/550)
فخرج على الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: السيف يا قوم. فلما بلغه خبر الزبير وطلحة وأم المؤمنين وأنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح بينهم فتعبأ للخروج نحوهم، واشتد على أهل المدينة الأمر وتثاقلوا، فسار على نحوهم في أربعة آلاف من أهل المدينة فيهم أربعمائة ممن بايع تحت الشجرة فالتقى هو وطلحة والزبير ومن معهما عند البصرة فجرت وقعة الجمل المشهورة بلا علم ولا قصد1 والتحم القتال من الغوغاء وخرج الأمر عن علي وطلحة والزبير، وقتل من الفريقين نحو عشرين ألفا، وقتل طلحة وانهزم الزبير فلحقه عمرو بن جرموز بوادي السباع فقتله.
وكانت عائشة راكبة الجمل وهي في هودج وقد صار كالقنفذ من النشاب، وتمت الهزيمة على أصحاب عائشة. ولما كثرت القتلى عند الجمل وقطع على خطامه أيد كثيرة قال علي: اعقروا الجمل، فعقر فسقط. فبقيت عائشة في هودجها إلى الليل، وأدخلها محمد إلى البصرة ثم أمر على عائشة بالرجوع إلى المدينة وأن تقر في بيتها، فسارت وشيعها الناس، وجهزها علي بما احتاجت إليه، وكانت بعد ذلك إذا ذكرت مسيرها هذا بكت حتى تبل دموعها خمارها وتقول: يا ليتني كنت نسيا منسيا، ولوددت أني مت قبل ذلك بعشرين سنة.
واستعمل علي على البصرة عبد الله بن عباس، وسار علي إلى الكوفة فنزلها، واستحكم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان، ولم يبق خارجا عنه إلا الشام، وأرسل علي جرير بن عبد الله إلى معاوية يطلب منه البيعة ويدخل فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار، فماطله معاوية وامتنع من مبايعته، فسار علي إلى الشام في سبعين ألفا من أهل العراق، وسار إليه معاوية وعمرو بن العاص في أهل الشام ستين ألفا وقيل مائة وعشرين ألفا فالتقوا بصفين بناحية الفرات.
ـــــــ
1 لأن الفريقين باتا على صلح وسلام، فاندس قتلة عثمان في المعسكرين وأنشبوا الحرب بينهما فجأة في الصباح، فكل معسكر ظن أن الغدر جاء من المعسكر الآخر.(1/551)
ودخلت سنة سبع وثلاثين والجيشان بصفين، ومضى المحرم ولم يكن بينهم قتال، وأرسل علي إلى معاوية رسلا يدعونه إلى الله وإلى الطاعة فأتوه فقالوا له: إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله جازيك بما قدمت يداك، وإنا ننشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة أو تسفك دماءها بينها. فقال للمتكلم: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال: إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر بالفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول الله. فقال له معاوية: ويطل دم عثمان؟ لا والله، لا أفعل ذلك أبدا. فلما دخل شهر صفر تنابذوا، وبات علي يعبئ الكتائب ويقول: لا تقاتلوهم إلا أن يبدؤوكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم لا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تأخذوا شيئا من أموالهم. فاقتتلوا أياما، وكانت بينهم وقعات كثيرة قيل كانت تسعين وقعة، وقتل من الفريقين أكثر من سبعين ألفا، وقتل من جند علي عمار بن ياسر من السابقين الأولين البدريين من نجباء الصحابة.
قال أبو عمر في ترجمته: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمار تقتلك الفئة الباغية، ولما قتل عمار أمسك عمرو بن العاص عن القتال وتابعه على ذلك خلق كثير، فقال له معاوية: لم لا تقاتل؟ قال: قتلنا هذا الرجل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية، فدل على أنا نحن البغاة. فقال له معاوية: اسكت، فوالله ما تزال تدحض في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه جاؤوا به حتى ألقوه بيننا، وإنما دفعنا عن أنفسنا فقتل. فبلغ ذلك عليا فقال: إن كنت أنا قتلته فالنبي صلى الله عليه وسلم قتل حمزة حين أرسله إلى قتال الكفار. ولما قتل عمار حمل علي في اثني عشر ألفا، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض.
وتخلف جماعة من سادات الصحابة عن القتال في الفتنة، منهم سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو اليسر وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد وصهيب الرومي وأبو موسى الأشعري ورأوا أن السلامة في العزلة وقالوا: إذا كان غزو الكفار قاتلنا.
ولما سئم الفريقان تداعوا إلى الخصومة، ورفع أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فرشي الفريقان، فحكم علي(1/552)
وأهل الكوفة أبا موسى، وحكم معاوية عمرو بن العاص، ورجع علي ومن معه إلى العراق، ومعاوية ومن معه إلى الشام. ثم اجتمع الحكمان بدومة الجندل واتفقا على أن يخلعاهما معا ويختار المسلمون خليفة يرضون به، وقد عينوا يومئذ عبد الله بن عمر بن الخطاب. ثم اجتمعا بالناس فبدأ أبو موسى فخلع عليا ثم قام عمرو وقال: قد خلعت عليا كما خلعه وأثبت خلافة معاوية1 فرضي أهل الشام بذلك ورجعوا فبايعوا معاوية. ولما جرى التحكيم غضب خلق أزيد من عشرة آلاف من جيش علي وقالوا: لا حكم إلا لله، وكفروه واعتزلوه، وهم الخوارج. وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس، قال ابن عباس: فدخلت عليهم فلم أرى قط قوما أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود، وأيديهم كأنها ثفن الإبل، وعليهم قمص مرحضة مشمرين مسهمة وجوههم من السهر، فسلمت عليهم فقالوا مرحبا يا ابن عباس ما جاء بك؟ قلت: أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ممن عند صهر رسول الله وعليهم أنزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، فقالت طائفة منهم: لا تخاصموا قريشا فإن الله عز وجل يقول {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. فقال اثنان أو ثلاثة لنكلمنه فقلت: هاتوا ما نقمتم، فقالوا: ثلاثا إحداهن أنه حكم الرجال في أمر الله وقد قال الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وأنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فإن كانوا مؤمنين ما حل لنا قتالهم وسبيهم، وإن كانوا كفارا حل لنا قتالهم وسبيهم. ومحا عن نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه لأمير الكافرين، فقلت: أما قولكم حكم الرجال في دين الله فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض قولكم، إن الله صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب، وتلا قوله {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} وفي المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فنشدتكم الله هل
ـــــــ
1 الحكمان تركا أمر الإمامة لكبار الصحابة، ولم يقل عمرو إلا ما قاله أبو موسى والصحيح في أمر التحكيم ما رواه الدار قطني وخليفة بن خياط من شيوخ البخاري، وانظره في العواصم من القواصم ص172-176(1/553)
تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وحقت دمائهم أفضل أم حكمهم في ثمن أرنب وبضع امرأة؟ قالوا: بل هذه. قلت: خرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما قاتل ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة؟ فوالله إن قلتم ليست أمنا لقد خرجتم عن الإسلام، وإن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها فقد خرجتم عن الإسلام، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت وأن قولكم محا نفسه عن إمرة المؤمنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب سهيل ابن عمرو، فقال: يا علي اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا ما نعلم أنك رسول الله، ولو نلعم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال: امح يا علي واكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فوالله لرسول الله خير من علي. فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم، فخرج علي بمن معه عليهم ورام رجعتهم فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان فقتلهم، ولم ينج منهم إلا القليل.
وتواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفهم وذمهم والتحريض على قتالهم، ففي الصحيحين عن سويد بن غفلة قال قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لئن أخر من السماء أحب إلي من أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" وفيهما عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر الرامي سهمه فيتمارى إلى نصله وإلى رصافه فيتمارى في فوقه هل علق بها من الدم شيء" وفي رواية لهما عنه "آيتهم رجل إحدى يديه أو إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو قال البضعة تدردر، يخرجون على خير فرقة من الناس". قال أبو سعيد لسمعت هذا رسول الله(1/554)
وأشهد أن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
ولمسلم عن علي رضي الله عنه: لو يعلم الجيش الذي يقاتلونهم ماذا قضي لهم على لسان نبيهم لا تكلوا عن العمل. انتهى.
وفي أيامه أيضا خرجت الغالية وادعوا في علي الإلهية، قال الحافظ ابن حجر: وروينا من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم إنما أنا مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلما كان من الغد غدوا عليه فجاءه قنبر: فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، قال: أدخلهم. فقالوا: كذلك، فلما كان اليوم الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث القتلة فأبوا إلا ذلك. فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخد لهم أخدودا بين المسجد والقصر وقال لهم: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبوا أن يرجعوا. فقذف بهم فيها حتى احترقوا وقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وإسناده حسن. وفي الصحيح أن ابن عباس لما بلغه تحريقهم قال: لو كنت أنا لم أحرقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ عليا قول ابن عباس فقال: صدق ابن عباس.(1/555)
ذكر مقتل علي رضي الله عنه
ذكر الزبير بن بكار وغيره: اجتمع ثلاثة نفر بمكة من بقايا الخوارج، عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي وعمرو بن بكر التميمي، فاجتمعوا بمكة وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة ويريحوا العباد منهم، فقال ابن ملجم: أنا لكم بعلي، وقال بر: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فاتعدوا بينهم ليلة سبع عشرة من رمضان سنة أربعين، ثم توجه كل رجل منهم إلى المصر الذي يريده، فقدم عبد الرحمن بن ملجم الكوفة عازما على قتل علي، واشترى سيفا لذلك بألف، وسقاه السم.
وروى أبو عمر أن عبد الرحمن جاء إلى علي يستحمله فحمله، ثم قال: إن هذا قاتلي. قيل فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد. ولعبد الرزاق عن عبيدة قال: كان علي إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وكان علي كثيرا مل يقول: مل يمنع أشقاها؟ أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذه؟ ويقول: والله لتخضبن هذه من دم هذا ويشير إلى لحيته ورأسه خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير. وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن الحسن أنه سمع أباه في ذلك السحر الذي ضرب فيه يقول: يا بني إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم الليلة في نومي فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من اللأواء واللدد. فقال: ادع الله عليهم. فقلت: اللهم أبدلني خيرا منهم وأبدلهم بي من هو شر مني. ثم انتبه وجاءه مؤذنه للصلاة فخرج، فاعتور الرجلان ابن ملجم وشبيب بن بجرة الأشجعي فأما شبيب فوقعت ضربته في النطاق وأما ابن ملجم فضربه في رأسه، وذلك صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة من رمضان، وفي رواية فلما ضربه ابن ملجم قال: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك. قال علي: فزت ورب الكعبة، لا يفوتنكم الكلب، فشد الناس عليه من كل(1/556)
جانب فأخذوه فلما أخذ قال علي: احبسوه، فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا له، وإن لم أمت فالأمر إلى في العفو أو القصاص. وقبر أول ليلة العشر الأواخر من رمضان. واختلف في موضع قبره فقيل دفن في قصر الإمارة بالكوفة، وقيل دفن في رحبة الكوفة، وقبل دفن في نجف الحسين موضع بطريق الحيرة، واختلف في سنه يوم مات فقيل: سبع وخمسون وقيل ثلاث وستون قاله أبو نعيم وغيره.
ولما بلغ عائشة قتل علي قالت: لتصنع العرب ما شاءت، فليس أحد ينهاها.
وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وستة أيام. وقيل أربعة عشر يوما.
وكان رضي الله عنه يسير في الفيء بسيرة أبي بكر الصديق، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه مالا إلا قسمه، ولا يترك في بيت المال إلا ما يعجز عن قسمه في يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غري غيري. ولم يستأثر من الفيء بشيء ولا يخص قريبا بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات. وإذا بلغته عن أحدهم خيانة كتب إليه ويا قوم {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك. ثم يرفع طرفه إلى السماء ثم يقول: اللهم إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك.
قال أبو عمر: وثبت عن الحسين بن علي من وجوه أنه قال: لم يترك أبي إلا ثمانمائة درهم فضلت من عطائه كان يعدها لخادم يشتريها لأهله. وأما تقشفه في لباسه ومطعمه فأشهر من أن يذكر، وأما فضله وسابقته وجهاده الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهر من ذلك.
قال أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي: لم يرو في فضائل أحد من الصحابة ما روي في فضائل علي بن أبي طالب.
وقيل له ألا تستخلف؟ فقال: لا، أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: إن نحن فقدناك ولا نفقدك بايع الناس الحسن، فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. ثم دعا الحسن والحسين فقال: أوصيكما بتقوى الله وحده(1/557)
ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها قولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضعيف وكونا خصما وللمظلوم عونا ولا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم نظر إلى ابن الحنفية فقال: هل سمعت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم. قال أوصيك بتوقير أخويك، ولا تقطعن أمرا دونهما. ثم قال: أوصيكما به فإنه أخوكما وابن أبيكما فاعرفا حقه وأكرماه.
قال أبو عمر بن عبد البر: وقف جماعة من أئمة أهل السنة في علي وعثمان فلم يفضلوا واحدا منهما على صاحبه، منهم مالك ويحي بن سعيد القطان. وأهل السنة على تقديم أبي بكر في الفضل على عمر وتقديم عمر على عثمان وتقديم عثمان على علي رضي الله عنهم.
وفي الصحيح عن ابن الحنفية قلت لأبي: من خير الناس بعد رسول الله؟ قال أبو بكر. قلت ثم من قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول ثم عثمان فقلت ثم أنت؟ قال إنما أنا رجل من المسلمين. وتواتر عنه أنه قال وهو على المنبر في خلافته: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر. ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر عمر. وفي مسند أحمد عنه قال: سبق رسول الله، وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خطبتنا فتنة يعفو الله فيها عمن يشاء. وقد كان بنو أمية ينالون منه وينقصونه فما زاده ذلك إلا سموا ورفعة ومحبة عند العلماء. قال عمر بن عبد الله بن الزبير: إن بني مروان ستموه ستين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، وإن الدين بنى شيئا فهدمته الدنيا، ولم تبن الدنيا شيئا إلا عادت على ما بنت فهدمته. انتهى.
وهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم كما في حديث العرباض بن سارية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة".
وفي السنن وصحيح ابن حبان عن سفينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا. قال: أمسك قال بعضهم خلافة أبي بكر(1/558)
سنتان وخلافة عمر عشر وخلافة عثمان اثنا عشر وخلافة علي ست. قال علي بن الجعد قلت لحماد: أسفينة القائل أمسك؟ قال: نعم. خرجه أبو حاتم.
وهذا مغاير لما ذكره أهل التاريخ في خلافة علي وأنها أربع سنين وثمانية أشهر، قال الطبري: الصحيح في ولاية الأربعة أنها تسع وعشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام: أبو بكر سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام وعمر أربع عشر سنين وستة أشهر وخمسة أيام، وعثمان اثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوما وعلي أربع سنين وثمانية أشهر انتهى، فإما أن يكون أطلق الحديث على ذلك الثلاثين لقربه منها أو تكون ولاية الحسن بن علي محسوبة منها وهي تكملتها.
وهؤلاء الخلفاء الأربعة هم أفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدهم بقية العشرة أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين. وأما مراتبهم على الإجمال: فالمهاجرون أفضل من الأنصار، وأما على التفصيل فسباق الأنصار أفصل من متأخري المهاجرين.
وقد رتب أهل التواريخ الصحابة على طبقات: الطبقة الأولى: أول الناس إسلاما كخديجة وعلي وزيد وأبي بكر ومن تلاهم ولم يتأخر إلى دار الأرقم. الطبقة الثانية: أصحاب دار الأرقم وفيها أسلم عمر. والطبقة الثالثة: المهاجرون إلى الحبشة. والطبقة الرابعة: أصحاب العقبة الأولى وهم سباق الأنصار. والطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية. والطبقة السادسة: أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين. والطبقة السابعة: أهل بدر الكبرى. والثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية.والطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان1. الحادية عشرة: الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح. الثانية عشرة: الذين أسلموا يوم الفتح. وبعده الثالثة عشرة: صبيان أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه.
وكان سعيد لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وغزا معه. وقال بعضهم كل من أدركه الحلم وأسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي ولو
ـــــــ
1 لم يذكر العاشرة(1/559)
أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا ساعة واحدة، وهذا هو الأكثر والله أعلم. وذكر عن أبي زرعة أنه قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا كلهم رآه أو روى عنه.
ذكره غير واحد منهم القطان في مراتب الصحابة وابن الأثير في جامع الأصول. والله أعلم.(1/560)
ذكر خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه
لما مات علي بايع الناس الحسن، قال أبو عمر: بايع الحسن أكثر من أربعين ألفا كلهم قد بايع أباه قبله على الموت، وكانوا أجطوع للحسن وأحب فيهم من أبيه. ثم سار إلى معاوية، وسار معاوية بجيش الشام لصده، ولما تقارب الجمعان علم الحسن أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثرهما، ورأى أن الصالح في جمع الكلمة وترك القتال، فكتب إلى معاوية يراسله أنه يصير الأمر إليه، واشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه وأن يكون ولي العهد من بعده وأن يمكنه من بيت المال ليأخذ منه حاجته، ففرح معاوية وأحاب إلى ذلك وبعث إليه برق فقال: اكتب ما شئت فيه فألتزمه، والتزم معاوية كل ما كتب واشترط، وخلع الحسن نفسه وسلم الأمر إلى معاوية. فلما اصطلحا دخل معاوية الكوفة وسمي ذلك العام عام الجماعة، ووقع مصداق ما أخبر بن الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم بقوله في الحسن: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به ببين فئتين عظيمتين من المسلمين" وغضب من فعله ذلك شيعته، وقال بعضهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: لا تقل ذلك فإني لم أذل المؤمنين وكرهت أن أقتلكم في طلب الملك، وعنه أنه قال: كانت جماجم العرب بيدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت، وتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء المسلمين.
وعن الشعبي قال: لما جرى الصلح بين الحسن ومعاوية قال له معاوية: قم فاخطب الناس واذكر ما كنت فيه. فقام الحسن فخطب فقال: الحمد لله الذي(1/560)
هدى بنا أولكم، وحقن بنا دماء آخركم. ألا إن أكسي الكيس التقي، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما أن يكون كان أحق به مني أو يكون حقي تركته لله وإصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم. ثم التقت إلى معاوية فقال: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم نزل. قال عمرو بن العاص: ما أردت إلا هذا.
ثم سار الحسن إلى المدينة بأهله وحشمه فأقام بها حتى مات رضي الله عنه.
وقد أحببت أن أقتصر على هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، فإن فيهم كفاية إن شاء الله.
ولنختتم كتابنا هذا بشيء من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم الوجيزة القليلة اللفظ الكثيرة المعاني الحامعة للأحكام والحكم، وقد جمع العلماء من ذلك كثيرا، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، "المرء مع من أحب". "أسلم تسلم". "الحرب خدعة". "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". "أي داء أدوى من البخل". "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"، "إن من البيان لسحرا"، "إن من الشعر لحكمة". "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ". "من غشنا فليس منا". "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". "لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث". "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه". "اليد العليا خير من اليد السفلى". "ترك الشر صدقة". "الحياء خير كله". "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". "الغني غنى النفس", "أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل". "تنكح المرأة لجمالها ومالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك". "كل مسكر حرام". "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر"، "الولد للفراش وللعاهر الحجر". "السلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان(1/561)
مائة شرط". "اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة". "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه". "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع". "ابدأ بمن تعول"، "كل معروف صدقة، الكلمة الطيبة صدقة". "الدنيا حلوة خضرة، إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
وكل ما ذكرنا مما تقدم في الصحيحين أو أحدهما، ومما ذكر في غيرهما قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع". وقوله: "عدة المؤمن كالأخذ باليد". "بورك لأمتي في بكورها". "لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا الأمانة مغنما والزكاة مغرما". "احثوا التراب في وجوه المداحين". "رأس الحكمة معرفة الله". "يا خيل الله اركببي وأبشري بالجنة". "الآن حمي الوطيس". "لا ينتطح فيها عنزان". "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". " لا يجني على المرء إلا يده". "ليس الخبر كالمعاينة". "ساقي القوم آخرهم شربا". "المجالس بالأمانة". "لو بغى حبل على جبل لذل الباغي منهما". "قيدوا العلم بالكتابة". "خير المال عين ساهرة لعين نائمة". "خير المال سكة مأبورة أو مهر مأمورة". "المسلم مرآة المسلم". "رحم الله من قال خيرا فغنم أو سكت فسلم". "السعيد من وعظ بغيره". "عفو الملوك بقاء الملك". "ارحم من الأرض يرحمك من في السماء". "المكر والخدعة في النار". "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا". "المستشار مؤتمن". "الدال على الخير كفاعله". "الندم توبة". "لا يشكر الله من لا يشكر الناس". "حبك الشيء يعمي ويصم". "السفر قطعة من العذاب". "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا". "الرجل أحق بصدر مجلسه وصدر دابته". "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة". "تمام التحية المصافحة". "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها". "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". "الشاهد يرى ما لا يرى الغائب". "أعط الأجير حقه قبل أن يجف رشحه". "ليس بمؤمن من خاف جاره بوائقه". "اتقوا النار ول بشق تمرة". "لا خير لك بصحبة من لا يرى لك ما يرى(1/562)
لنفسه". "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". "الدعاء سلاح المؤمن". "خير الأمور أوساطها". "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه". "اشفعوا تؤجروا وتحمدوا". "ما هلك امرؤ عن مشورة". "ما عال من اقتصد". "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى". "شر الندامة يوم القيامة". "شر المعذرة عند الموت". "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم". "إياكم وخضراء الدمن، قيل يا رسول الله من؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء". "البلاء موكل بالمنطق". "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع". "لا يدخل الجنة نمام، لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود". "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم". "زر غبا يزدد حبا". "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني". "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". "الدين النصيحة". "صنائع المعروف تقي مصارع السوء". "صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر". "لا تظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك". "اليوم الرهان وغدا السباق والغاية الجنة والهالك من دخل النار". "ما ملأ ابن آدم شرا من بطن". "أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به". "كل الصيد في جوف الفرا". "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". قل الحق ولو كان مرا". "أحب المسلمين ما تحب لنفسك". "اتق الله حيث ما كنتم وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخاق الناس بخلق حسن". "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس". "الصدق يهدي إلى البر، والكذب يهدي إلى الفجور". "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أجذم". "البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي". "الأعمال بخواتيمها".
وهذه الأحاديث منها ما هو في الصحاح أيضا، ومنها ما هو في السنن والمسانيد وهو في مرتبة الصحة ومنها ما هو في مرتبة الحسن، ومنها ما هو ضعيف رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح أو حسن أو موقوف على الصحابي. والله أعلم.
في آخر المخطوطة التي اعتمدنا عليها في الطبع ما نصه:(1/563)
وقد وقع الفراغ من هذا الكتاب الجليل القدر، المحتوي على سيرة سيد البشير محمد صلى الله عليه وسلم وشيء من أحواله وأعماله وأخلاقه ومغازيه وقتاله. وسيرة خلفائه الراشدين المهديين صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى بقية أصحابه أجمعين، على يد أفقر العباد إلى رحمة ربه "مبارك بن عبد الله بن مبارك" غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، بتاريخ سبع عشرة ليلة مضت من أحد شهور سنة ثلاث عشرة بعد المائتين والألف من مهاجره صلى الله عليه وسلم تمت بحمد الله وعونه.(1/564)