من منهج الأئمة الأعلام
في أصول التلقي في الإسلام (3)
مختصر
حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة
بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين
بقلم :د.عصام بن عبد الله السناني
أستاذ السنة بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم
وعضو مجلس الإدارة بالجمعية العلمية السعودية للسنة النبوية
قرأه وقدم له
معالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة والإفتاء
(عام 1426).
أولاً : خطورة باب الولاء والبراء :
إن عقيدة الولاء والبراء من أخطر أبواب المعتقد ، لأنّها أحد أبواب التكفير التي ولج منها الخوارج قديمًا ومن سار على طريقتهم ممن جاء بعدهم لتكفير المجتمعات وتدمير الممتلكات بشبهٍ واهيةٍ كعش العنكبوت ، وقد قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين الذي هو من أكثر من جالس الشباب وصبر لهم صبرًا قلمّا صبره أحد ، وهو يتكلم عن الموالاة والمعاداة ودخول خزاعة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كفار في صلح الحديبية لأنهم أهل نصح(الباب المفتوح:3/466- سؤال1507): "وهذه المسألة من أدقّ المسائل وأخطرها ولا سيما عند الشباب ، لأن بعض الشباب يظن أنّ أي شيء يكون فيه اتصال مع الكفار فهو موالاة لهم ؛ وليس كذلك"أ.هـ. وقد رأيت ذلك بنفسي عيانًا في بعض الشباب الذين دخل عليهم بعض التشويش من جهة عدم فهمهم لحقيقة الولاء والبراء عند أهل السنة والجماعة ، بل صرح أكثرهم ـ إن لم أقل كلهم ـ أنهم لم يكونوا على علم بكثير مما سمعوه من أحكام الولاء والبراء ، وأن موالاة الكفار أقسام ، لكل منها حكم يختلف عن غيره ، ولننقل هنا نصوصًا لعلماء في أزمان مختلفة توضح خطورة الانحراف في فهم هذا الباب والتهاون في علاجه في تأريخ المسلمين ؛ لأنّ الأمر فيه لا يقف على تكفير ولاة الأمر ، بل قد يصل بهم إلى تكفير أهل العلم والمجتمعات :(1/1)
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية (السياسة الشرعية:1/218) وذكر مشروعية بذل ولاة الأمور الأموال لمن يرجى نفعه أو دفع ضرره من الكفار ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى يوم حنين المؤلفة قلوبهم كافرهم ومسلمهم : "وهذا النوع من العطاء ، وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك ؛ فالأعمال بالنيات ، فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ، وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد كان من جنس عطاء فرعون ، وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال فيه ما قال ، وكذلك حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه ، وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم ، وهؤلاء أَمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ؛ لأن معهم دينا فاسداً لا يصلح به دنيا ولا آخرة"أ.هـ.(1/2)
- وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله لما ابتلي علماء الدعوة السلفية في وقته بأقوام يتكلمون في باب الولاء والبراء بنصوص لم يفهموها (الدرر السنية:1/468) : "وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين ، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين ، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ، والحور بعد الكور. وقد بلغنا : عنكم نحو من هذا ، وخضتم في مسائل من هذا الباب ـ كالكلام في الموالاة والمعاداة ، والمصالحة والمكاتبات ، وبذل الأموال والهدايا ، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات ، والحكم بغير ما أنزل الله ـ عند البوادي ونحوهم من الجفاة ، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ، ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب ... وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام ، فهذا : مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة ، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام ، فأنكرت الخوارج عليه ذلك ، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة ، وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله ، وواليت معاوية وعمراً وتوليتهما ، وقد قال الله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } "أ.هـ.(1/3)
- وقال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان عمّن يطعن في العلماء ويفسقهم أو يكفرهم لضعفٍ فيهم في الولاء والبراء (الفتاوى الشرعية :102) : "قال تعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33] ، فلا يجوز للجاهل أن يتكلم في مسائل العلم ، ولا سيما المسائل الكبار مثل التكفير والجهاد والولاء والبراء. وأما النميمة والغيبة والوقيعة في أعراض ولاة الأمر ، والوقيعة في أعراض العلماء فهذه أشد أنواع الغيبة ، وهذا أمر لا يجوز. وأما مسألة الأحداث التي حدثت والتي تحدث وأمثالها ، فهي من شؤون أهل الحل والعقد هم الذين يتباحثون فيها ويتشاورون فيها ، ومن شأن العلماء أن يبينوا حكمها الشرعي ، وأما عامة الناس والعوام ، وأما الطلبة المبتدؤن ليس هذا من شؤونهم قال الله عز وجل { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء:83]"أ.هـ.(1/4)
- وسئل معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ عمن يكفر بحجة مظاهرة المشركين ، فذكر من اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قسمة للمال بعدم العدل ، ومن خرج على عثمان وعليٍّ - رضي الله عنهم - واتهمهما بالكفر ، وخطورة باب التكفير ، ثم قال (فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة :249) : "والتكفير معناه : الحكم بالخروج من الدين ، الحكم بالردة. والحكم بالردة على مسلم ثبت إسلامه لا يجوز إلا بدليل شرعي يقيني بمثل اليقين الذي حصل بدخوله في الإيمان ، والأصل في ذلك قول الله جل وعلا في سورة براءة في ذكر المنافقين { وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِم } [التوبة:74] ، وفي آية أخرى { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة:66] ، وفي آية سورة آل عمران قال الله جل وعلا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً } [آل عمران:90] ، ونحو ذلك في أن المؤمن أو من أسلم أو آمن قد يخرج من الدين ، ولكن ضبطها أهل السنة والجماعة بضوابط كثيرة معلومة ، ثم إن أهل السنة يفرقون بين الكلام على الفعل والقول والعمل بأنه كفر ، وقيام هذا العمل بمكلّف هل هو يخرج به من الدين أم لا ؟ لأن المكلف قد يكون جاهلاً ببعض المسائل، وقد يكون متأولاً ، وقد يكون لم تبلغه الحجة التي يصير بها قد قامت عليه الحجة ، وقد يكون معذوراً وقد لا يكون ، وهذه تحتاج إلى إقامة شروط وانتفاء موانع. فأهل السنة وسطٌ في هذا الباب بين الخوارج الذين يكفرون بالذنب ، ويكفرون بمطلق الحكم بغير ما أنزل الله ، وبمطلق الموالاة للكفار ونحو ذلك وأشباهه. وما بين المرجئة الذين لا يرون من ثبت إيمانه أنه يخرج من الإيمان بفعل أو بقول أو باعتقاد"أ.هـ.
ثانياً : تعريف الولاء والبراء :(1/5)
- الولاء : في اللغة هو القرب ، عن أبى معاذ النحوي يقال : تولاه اتبعه ورضي به ، ومنه قوله تعالى { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51]"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:11/160) : "والولاية ضد العداوة ، وأصل الولاية : المحبة والقرب، وأصل العداوة : البغض والبعد. وقد قيل : إن الوليَّ سمي ولياً من موالاته للطاعات ، أي متابعته لها ، والأول أصح ، والوَلِيُّ القريب ، فيقال : هذا يلي هذا أي يقرب منه"أ.هـ.
- وأما البَرَاءُ : فقال ابنُ الأَعرابي (لسان العرب:1/356) : "بَرِئَ إِذا تخَلَّصَ ، وبَرِئَ إِذا تَنَزَّهَ وتباعَدَ"أ.هـ. فالبراءة هنا التباعد من الشيء ، قال شيخ الإسلام (الفتاوى:10/465): "والبراءة ضد الولاية ، وأصل البراءة البغض ، وأصل الولاية الحب"أ.هـ.
- أما تعريف الولاء والبراء في الاصطلاح : فيرجع إلى معنى المحبة في الموالاة التي ينشأُ عنها الموافقةُ والنُّصرةُ ، وإلى معنى البغض في البراء الذي ينشأُ عنه المعاداة :
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية(قاعدة المحبة: 198): "أصل الموالاة هي المحبة ، كما أن أصل المعادة البغض. فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق ، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف"أ.هـ.
- وقال أيضاً (تيسير الكريم الرحمن:446) في قوله تعالى { لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء } [التوبة:23] : "وأصل الولاية : المحبة والنصرةُ ، وذلك أن اتخاذهم أولياء موجب لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه ، ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله"أ.هـ.(1/6)
- وعلى هذا فالولاء والبراء في الاصطلاح الشرعي مستمد من أصله اللغوي هو ـ كما أشار لذلك المحققون ـ : محبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصرة دينه بتحقيق التوحيد وإفراده بالعبودية ، مع بغض ومعاداة كل ما يعبد من دون الله من الطواغيت والآلهة والأنداد والأهواء. قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (الدرر السنية :2/22) : "أصل دين الإسلام وقاعدته : أمران ؛ الأول : الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والتحريض على ذلك ، والموالاة فيه ، وتكفير من تركه. الثاني : الإنذار عن الشرك في عبادة الله ، والتغليظ في ذلك ، والمعاداة فيه ، وتكفير من فعله"أ.هـ. ويتفرع من هذا الولاء والبراء العبودية الكاملة بموافقة العبد ربه فيما يحبه ويرضاه أو يسخطه ويكرهه ولا يرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات والذوات والعمل بمقتضى ذلك.
- وبذلك يعلم أن الولاء والبراء هما من أعمال القلوب ؛ فيراد به المودة القلبية الخالصة للإسلام وأهله ومحبة انتصاره ، والبغض القلبي للكفر وأهله ومحبة اندحاره ، ويجب أن يظهر على الجوارح لوازم هذا المعتقد من الجهاد والنصرة والموافقة والأنس والمعاونة والمصافاة ونحو ذلك، فإن تخلفت بغير عذر دل ذلك على انتفاء الإيمان أو ضعفه:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم: 1/183) مقرراً أن التشبه ظاهراً بالمشركين من آثار الولاء والبراء : "والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب ، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم" أ.هـ . ويقول رحمه الله (الفتاوى:7/17): في قوله تعالى { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } : "فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب".(1/7)
- وقال الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن (الدرر السنية:2/325) : "أصل الموالاة الحب وأصل المعاداة البغض ، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة ، كالنصرة والأنس والمعاونة ، والجهاد والهجرة ونحو ذلك "أ.هـ.
- وبهذا يتبين أن مناط التكفير في باب الولاء والبراء هو على عمل القلب لا على آثاره وثمراته ، فإذا اجتماعا حكم به ، وإذا اختلفا فالحكم لعمل القلب دون عمل الجوارح ؛ لأنه قد يظهر من المسلم نوع ولاء ظاهر للكافرين أو ترك ولاء ظاهر للمسلمين فيكون بذلك عاصياً لا كافراً إذا لم يكن فعله صادراً عن ولاء قلبي كما في قصة حاطب - رضي الله عنه - وغيرها.
- قال ابن العربي (أحكام القرآن:4/1783) : "قوله تعالى : { تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة:1] يعني في الظاهر ؛ لأن قلب حاطبٍ كان سليماً بالتوحيد ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : (أما صاحبكم فقد صدق) ، وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده"أ.هـ.
- وقال ابن عطية (المحرر الوجيز:5/127) عند قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51] : "ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه"أ.هـ.(1/8)
- وقال الشيخ الطاهر بن عاشور (التحرير والتنوير:4/230) عند نفس الآية : "ولما كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتبع الرسول ولم ينافق كان مسلماً لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل. وقد تأولها المفسرون بأحد تأويلين : إما بحمل الولاية في قوله { وَمَن يَتَوَلَّهُم } على الولاية الكاملة التي هي الرضى بدينهم والطعن في دين الإسلام ... وإما بتأويل قوله { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } على التشبيه البليغ أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب ... وقد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية ، ولكنه ضلال عظيم وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة"أ.هـ.
- وقال الشيخ محمود الألوسي(روح المعاني:6/157) : "قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51]، أي من جملتهم ، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله ، وهو خرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر ؛ لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرًا ، وليس بمقصود. وقيل: المراد { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ } فإنه كافر مثلهم حقيقة ، وحكى عن ابن عباس - رضي الله عنهم - ، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودًا أو نصارى"أ.هـ.
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري مبيناً مناط لتكفير في الموالاة(الدرر السنية:9/158) "فإن المراد به : موافقة الكفار على كفرهم ، وإظهار مودتهم ، ومعاونتهم على المسلمين ، وتحسين أفعالهم ، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم"أ.هـ.(1/9)
- قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في (القواعد الحسان :24) في قوله تعالى : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } الآية [الممتحنة:8-9] : "فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين ، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة ، أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان"أ.هـ.
ثالثاً : الأدلة الدالة على وجوب الولاء والبراء :
من أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم يدين بكلمة التوحيد أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها ؛ فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم ، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم :
- وذلك من ملة إبراهيم والذين معه الذين أمرنا بالاقتداء بهم ، حيث يقول سبحانه وتعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } [الممتحنة:4].
- وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51] ، وهذه في تحريم موالاة أهل الكتاب خصوصاً. وقال - عز وجل - في تحريم موالاة الكفار عموماً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [الممتحنة:1].(1/10)
- بل لقد حرم على المؤمن موالاة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس إليه نسباً كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [التوبة:23] ، وقال تعالى : { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة:22].
- وكما أن الله سبحانه حرَّم موالاة الكفار أعداء العقيدة الإسلامية فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين أنصار العقيدة ومحبتهم كما قال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55]. وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات:10]. فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر:10]. فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابون يقتدي آخرهم بأولهم ويدعو بعضهم لبعض ويستغفر بعضهم لبعض.
رابعاً : مكانة عقيدة الولاء والبراء :(1/11)
- الأول : أنها من معنى الشهادة "لا إله إلا الله" : فإن من معناها البراءة من كل ما يُعبد من دون الله من الآلهة والطواغيت ودعاتها ، والولاء لهذه الكلمة بأن يكون الحب والبغض لله وفي الله وبالله ، قال تعالى مبيناً ذلك { مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:25] ، والطاغوت كل ما عبد من دون لله :
- قال ابن القيم (مدارج السالكين:1/167) وذكر تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علمًا ومعرفة وعملاً وحالاً وقصدًا : "وحقيقته أيضا البراء والولاء : البراء من عبادة غير الله والولاء لله كما قال تعالى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة:4] ، وقال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون*إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف:26] ، وقال أيضا { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً } [الأنعام:78-79] ، وقال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون:1-2] ، إلى آخرها ، وهذه براءة منهم ومن معبودهم ، وسماها براءة من الشرك"أ.هـ.(1/12)
- ومن العجب أن تجد كثيراً من الدعوات الحركية الدينية المعاصرة اليوم لا تأبه للولاء والبراء على عقيدة التوحيد بل الولاء والبراء على الجماعة أو الدعوة الحزبية فيجتمع السني والقبوري الصوفي والرافضي لأن رابطة العصبية أقوى عندهم من رابطة التوحيد ، بل يصرح كبارهم بأن اليهود والنصارى إخوة لهم لأن العدواة التي بينهم وبين اليهود والنصارى ليست دينية بل عداوة على الأرض فحسب. كذلك تجد من يوالي عباد القبور والأضرحة باسم الجهاد وتحت مظلة يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ونعمل فيما اتفقنا عليه ، في الوقت الذي يتبرأ من أهل التوحيد السلفيين باسم إنكار المنكرات. مع أن الله تعالى يقول { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [النساء:48].(1/13)
ويقول - صلى الله عليه وسلم - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان : "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ" ، ثم انظر إلى موقف أهل الحق حينما قال سماحة الشيخ ابن باز مبيناً رحمه الله موقف كل موحد من هذه الدولة (شريط فتاوى العلماء في الجماعات وأثرها على بلاد الحرمين): "فالعداء لهذه الدولة عداء للحق ، عداء للتوحيد ، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن من حولنا : مصر ، الشام ، العراق ، من يدعو إلى التوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله مَنْ ؟ أين هم ؟ أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة ؟ غير هذه الدولة ، أسال الله لنا ولها الهداية والتوفيق والصلاح ونسأل الله أن يعينها على كل خير ، ونسأل الله أن يوفقها لإزالة كل شر وكل نقص ، علينا أن ندعو الله لها بالتوفيق والإعانة والتسديد والنصح لها في كل حال"أ.هـ. أقول : لقد أخذ الشيخ رحمه الله هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان : "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ"(1) ، لأن كل من نصر الله به التوحيد فحبه إيمان وبغضه نفاق ولو أخطأ ؛ لأن الأنصار ليسوا بمعصومين ، بل صدر من بعضهم ألفاظ خطيرة.(1/14)
- الثاني : أنَّ الولاء والبراء شرط في الإيمان : كما قال تعالى { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُون } [المائدة:80،81] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى:7/17) عن هذه الآية : "فدل ذلك على : أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب"أ.هـ. وهذه ليست في أهل الكتاب فقط كما ينزله بعض النَّاس ، بل شاملة لجميع أهل الكفر الأصليين كاليهود والنصارى ، أو المنتسبين للإسلام ممن يعبدون الطواغيت ويدعون الأولياء ويذبحون للقبور ويسألون أهلها المدد ، ومع ذلك يواليهم كثير من الناس وينصرونهم ربما على أهل التوحيد ويدافعون عنهم { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ } [القمر:43].
- الثالث : أنَّ الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان : كما قال - صلى الله عليه وسلم - "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" رواه الشيخان. وقال العلامة ابن القيم (شفاء العليل:1/170) : "وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، وهو إثبات تأله القلب لله ، ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته فلا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه ، حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك"أ.هـ.(1/15)
- كيف لو رأى هؤلاء الأفذاذ أبناء هذا الزمان الذين جعلوا الولاء والبراء على الفكر والتوجه والرمز : فهولاء اللادينيون يحتفون بزنادقة وملاحدة العصر من الأدباء فيدعونهم إلى محافلهم تكريماً لهم ، وينشرون رواياتهم التي تسب الدين وتقدح بالذات الإلاهية تصريحاً باسم الأدب الذي لا علاقة له عندهم بالدين والعقيدة ، وبعض المتدينين يعظمون على الرمز لا على الدين ، تجد من الكتاب من يجمع الطوام من البدع في كتبه المضلة من : إساءة الأدب مع الأنبياء أو سب الصحابة أو تكفير المجتمعات بالعموم أو تقرير العقائد الباطلة في باب الأسماء والصفات وغير ذلك ، ومع ذلك يجعلون كتب هذا وأمثاله أساساً في العلم والتلقي يوصون بها الصغار والكبار ، ويجعلونه قدوة وإماماً وشهيداً مع كل هذه الأباطيل ، فهل عرف هؤلاء وهؤلاء معنى الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله. فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال عن أمثال هؤلاء(الفتاوى:2/132) : "ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم ، أو ذب عنهم ، أو أثنى عليهم ، أو عظم كتبهم ، أو عُرِف بمساعدتهم ومعاونتهم ، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم : بأن هذا الكلام لا يُدرى ما هو ؟ أو من قال إنه صنف هذا الكتاب ؟ وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق ، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ، ولم يعاون على القيام عليهم ، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات ، لأنهم أفسدوا العقول والأديان ، على خلق من المشايخ والعلماء ، والملوك والأمراء ، وهم يسعون في الأرض فساداً"أ.هـ.
خامساً : صور من القرآن في الولاء و البراء في العقيدة :(1/16)
- الأولى : ما ذكره الله - عز وجل - من قصة نوح - عليه السلام - مع ابنه في سورة هود { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [هود:45- 47] ، نقل الطبري (جامع البيان:12/32) عن الضحاك أنه قرأ { ليس من أهلك } ، قال: يقول : ليس هو من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك إنه عمل غير صالح. قال : يقول : كان عمله في شرك"أ.هـ.(1/17)
- الثانية : ما ذكره الله - عز وجل - من قصة إبراهيم - عليه السلام - من الاستغفار لأبيه قال تعالى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة:4] ، قال العلامة عبد الرحمن السعدي عند قوله تعالى في هذه الآية { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } (تيسير الكريم الرحمن:1206) :"فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك ، فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة:11]"أ.هـ.(1/18)
- الثالثة : ما ذكره الله عزوجل من قصة محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة:113] ، ففي الصحيحين عن الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزَن - رضي الله عنه - قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } "[القصص:56]. وقال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية (تيسير الكريم الرحمن:478): "فإن النبي والذين آمنوا معه عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه ، ويوالوا من والاه الله ، ويعادوا من عاداه الله ، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك مناقض له"أ.هـ.
سادساً : أقسام الناس في الولاء و البراء :(1/19)
من المعلوم أن الولاء لكلمة التوحيد يستلزم أن يكون الولاء الخالص لأهلها ، كما يستلزم أن يكون البراء الخالص من أعدائها الذين لم يذعنوا لها ويأتوا بشرائطها من الكفرة و المشركين على اختلاف مللهم ، ولا يعلق الولاء والبراء على غير أمور العقيدة و الدين ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (قاعدة في المحبة:1/133) في بيان وجوب أن يكون الدين كله لله: "فإن الموالاة موجبها التعاون والتناصر ، فلا يفرق بين المؤمنين لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض مثل : الأنساب والبلدان والتحالف على المذاهب والطرائق والمسالك والصداقات وغير ذلك ، بل يعطى كل من ذلك حقه كما أمر الله ورسوله ، ولا يجمع بينهم وبين الكفار الذين قطع الله الموالاة بينهم وبينه"أ.هـ. ولذلك فأهل السنة والجماعة يخالفون فيما يجب للناس من حق الولاء والبراء أهل البدع من الخوارج والمرجئة فيقسمون الناس فيما يجب من الولاء والبراء إلى ثلاثة أقسام :(1/20)
- القسم الأول : من يُحب محبة خالصة لا معاداة معها ، وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم المؤمنون الأمثل فالأمثل قال تعالى : { وََالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، ولهذا الأصل صار شعار أهل السنة والجماعة تعظيم أصحاب رسول الله ومن بعدهم من سلف الأمة ، فلا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان ، وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام ، كالرافضة والخوارج كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ" رواه الشيخان. وتعجب إذا رأيت بعض الذين يسمونهم بالمفكرين من المعاصرين يطعن في بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجعل خلافة عثمان - صلى الله عليه وسلم - فجوة ، ويرى أن الثورة عليه من قبل الخوارج وأمثالهم تمثل روح الإسلام ، ويتهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص - رضي الله عنهم - بالنفاق وشراء الذمم ، ثم ترى من يزعم أنه من الدعاة إلى الله على منهج السلف ، ويزعم أنه من أهل الولاء والبراء والغيرة على الدين يربي الناشئة على كتب أمثال هذا الرجل ، بل يجعله إمام هدى يقرن بشيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب ، فرحم الله الإمام أحمد حين قال للميموني فيمن تكلم في معاوية - رضي الله عنه - (اعتقاد أهل السنة:7/1252) : "ما لهم ولمعاوية ؟ أسأل الله العافية. أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوء فاتهمه على الإسلام".(1/21)
- القسم الثاني : من يُبغض ويُعادي بغضاً ومعاداة خالصين لا محبه ولا موالاة معهما ، وهم الكفار الخلَّص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم ؛ كما قال - عز وجل - : { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة:22]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية(الفتاوى:28/209) : "وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك ؛ فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله : فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه ، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه ، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه"أ.هـ.(1/22)
- القسم الثالث : من يُحب من وجه ويُبغض من وجه ، فيجتمع فيه المحبة والعداوة ، وهم عصاة المؤمنين ؛ يحبون لما فيهم من الإيمان خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يخرجونهم من الإسلام ، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك خلافا للمرجئة الذين يجعلون إيمانهم كاملاً مهما فعلوا من المعاصي وتركوا من الفرائض. ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم ؛ فلا يجوز السكوت على معاصيهم ، بل ينكر عليهم ، ويؤمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم ، لكن لا يُبْغَضون بُغضاً خالصاً ويتبرأ منهم كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك ، ولا يُحبُّون ويوالون حباً وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة ، بل يعتدل في شأنهم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ؛ قال شيخ الإسلام (الفتاوى:28/209) : "وإذا اجتمع في الرجل الواحد : خير وشر ، وفجور وطاعة ، ومعصية وطاعة ، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا ؛ كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج و المعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقاً للثواب فقط ، ولا مستحقاً للعقاب فقط ، وأهل السنة يقولون إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ، ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له"أ.هـ.
سابعاً : ضوابط في فهم الولاء والبراء تتضمن رد شبهات في التكفير :(1/23)
لا شك أن كثيراً من أهل الغلو و الجهل بسبب عدم فهم مناط التكفير في باب الولاء والبراء استخدموا عمومات النصوص في التكفير بالأعمال الظاهرة التي تخالف الكمال أو الواجب في هذا الباب ، ونتج عن هذا الفهم الخاطئ للبراءة من الكفار أعمال محرمة في الإسلام كاستباحة دماء الذِّميين أو المعاهدين أو أموالهم أو الاعتداء عليهم بغير وجه حق ، وقد سبقت الإشارة أن مناط التكفير في (الولاء والبراء) هو عَمَلُ القلب ، فحبُّ الكافر لكفره ، أو تمنِّي انتصار دين الكفار على دين المسلمين ، هذا هو الكفر في باب (الولاء والبراء). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم:1/183) : "والموالاة والموادّة وإن كانت متعلقة بالقلب ، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم"أ.هـ. وقال في (الفتاوى:7/17) عند قوله تعالى { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } : "لا يجتمع الإيمان ، واتخاذهم أولياء في القلب"أ.هـ. ونذكر ضوابط تعين على فهم مناط الكفر من عدمه في هذا الباب.
- الضابط الأول -(1/24)
مع أن الله بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - لمحو الشرك والأصنام و الكفر من الأرض ليكون الدين كله لله كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم : "أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ". ومع ذلك فالإسلام أقر ترك الكفار الأصليين من أهل الذمة و المعاهدين و المستأمنين أن يبقوا على كفرهم فلم يجبر أحداً منهم على الدخول في الإسلام قال الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [البقرة:256] ، وليس ذلك مما ينافي عقيدة الولاء والبراء ، بل إنه كفل حمايتهم والقيام بحقوقهم وعدم ظلمهم إذا كانوا تحت حكم شريعتنا ، كما روى مسلم عن عُرْوَةَ قَالَ : مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه - عَلَى أُنَاسٍ مِنْ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالُوا : حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ هِشَامٌ : أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا" ، قَالَ : وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا"(2). وذكره ابن القيم في (أحكام أهل الذمة:1/34) تحت :"فصل : ولا يحل تكليفهم مالا يقدرون عليه ، ولا تعذيبهم على أدائها ، ولا حبسهم وضربهم"أ.هـ.
- الضابط الثاني -(1/25)
الإسلام أباح معاقدة ومعاهدة الكفار ولو على شروط فيها حيف على المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين كدفع ضرر عنهم خاصة عند الضعف والعجز ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، إذا وفّوا بعهدهم وذمتهم. قال الله تعالى : { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:4] ، ومما يبين معنى الآية السابقة :(1/26)
(1) ما روى البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، ورواه ابن حبان وَبَوَّب عَلِيْه {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ} عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ في قِْصةِ الحُدَيْبِيَةِ فِي حَدِيثٍ طَويْلٍ وفِيْه : "فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ : بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ : "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي: اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".(1/27)
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ" ، فَقَالَ : سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً ، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ. فَقَالَ : سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا. وفي رواية للبخاري في{بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ وَالأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ} :" فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا". أقول : فانظر كيف عجز كبار الصحابة حاشا أبي بكر - صلى الله عليه وسلم - عن تحمل مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ - رضي الله عنه - كما في رواية للشيخين : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَرَدَدْتُهُ". رواه البخاري – وهو في مسلم – في باب {إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ وَقَوْلِ اللَّهِ { الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } }.(1/28)
- قال ابن قدامة (المغني:13/154) : "ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } [التوبة:1] ، وقال سبحانه { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } [الأنفال:61] ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعفٌ فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر لمسلمين ، إما : أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية ، والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ. قال ابن القيم في ذكر أحكام صلح الحديبية (زاد المعاد:3/306) : "ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ.(1/29)
(2) روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رضي الله عنه - قَالَ : مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ ، قَالُوا : إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا ؟ فَقُلْنَا : مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ". قال ابن القيم (زاد المعاد:3/125) : "وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين من غير رضاه أمضاه لهم كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه - صلى الله عليه وسلم - ، فأمضى لهم ذلك وقال لهما : [انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم]"أ.هـ.(1/30)
(3) روى أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم ، وبوّب عليه ابن حبان : {ذكر الإخبار عن نفي جواز حبس الإمام أهل العهد وأصحاب بردهم في دار الإسلام} ، عن أَبِي رَافِعٍ قَالَ : بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ ، وَلَكِنْ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الآنَ فَارْجِعْ. قَالَ : فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمْتُ" : قال ابن القيم (زاد المعاد:3/138) : "وكان هديه أيضاً ألا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه فلا يمنعه من اللحاق بقومه ، بل يرده إليهم كما قال أبو رافع : بعثتني قريش إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أتيته وقع في قلبي الإسلام فقلت : يا رسول الله! لا أرجع إليهم فقال : (إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ، ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع) ، قال أبو داود : وكان هذا في المدة التي شرط لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد إليهم من جاء منهم وإن كان مسلماً"أ.هـ.(1/31)
- ولذا فعلى المسلم أن لا يندفع لمجرد العاطفه ليعترض على المعاهدات التي تكون بين ولاة الأمور والكفار دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية ، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل العلم ، فإنه لا مجال للاستحسانات والتخرصات والأهواء في ما يتعلق بمصالح الأمة الكبرى ، فهذا عمرُ - رضي الله عنه - يعترض على الصلح بالدنية ، وعلي - رضي الله عنه - يمتنع عن محو البسملة والرسالة استعظاماً لذلك ، وسهلٌ - رضي الله عنه - لو كان له من الأمر شيء لرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره ، وهؤلاء الصحابة - رضي الله عنه - يمتنعون عن حلق رؤسهم من شدة غضبهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صابر على أمر الله - عز وجل - ، صابر على صدّ أعدائه عن البيت الحرام وحميتهم الجاهلية ، وصابر على توقف أصحابه - رضي الله عنه - في الاستجابة لأمره - صلى الله عليه وسلم - ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (منهاج السنة النبوية:8/409) : "ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر ، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ، ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها ، لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرعِ على الهوى. فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء ، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع ... والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس ، وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علماً وإيماناً وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار"أ.هـ.(1/32)
ويقول ابن القيم ضمن فوائد أحكام صلح الحديبية(زاد المعاد:3/303) : "فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له ، أجيب إلى ذلك كائناً من كان ، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه ، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس ، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق ، وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالاً بعده"أ.هـ.
- الضابط الثالث -
أن الإسلام الذي جاء بالبراءة من الكفار وأوجب نصرة المسلمين بعضهم لبعض وجعلها من ولايتهم يمنع من نصرة المسلمين على الكفار إذا كان ثم عهد بين المسلمين وبين هؤلاء الكفار ، أو كان المسلمون عاجزين عن نصرة إخوانهم ولا يعد ذلك مما يناقض عقيدة الولاء والبراء :(1/33)
(1) ترك النصرة لأجل العهد : قال - عز وجل - { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الأنفال:72] : قال الطبري في تفسير الآية(10/38) : "إلا أن يستنصرونكم { عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } يعني : عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه"أ.هـ وقال ابن كثير(تفسير القرآن العظيم:2/315) : "فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين ، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق ، أي مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم ، وهذا مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهم - "أ.هـ. وقد ترك حذيفة وأبوه - رضي الله عنهم - نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدر بسبب العهد والميثاق الذي أخذه منهما كفّار قريش أن لا يقاتلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرهما - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في رواية مسلم حين قال : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ".
(2) ترك النصرة لأجل الضعف : وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرة كثير من المستضعفين من أصحابه في مكة لعدم قدرته على نصرتهم ؛ وقال لهم لما استنصروه كما روى البخاري : "وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".(1/34)
(3) ترك النصرة لكون القتال غير ديني : لقوله تعالى : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } ، تقدم قول ابن كثير قريباً(تفسير القرآن العظيم:2/315) : "قوله { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } الآية ، يقول تعالى : وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم"أ.هـ. فقيده بالقتال الديني. وقال العلامة عبد الرحمن السعدي (تيسير الكريم الرحمن:440): " { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ } أي : لأجل قتال من قاتلهم [لأجل دينهم] { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } ، والقتال معهم. وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم"أ.هـ.
- ففي عصرنا هذا قد يكون القتال لمقاصد دنيوية : كقتال الكفار لأجل العصبية القبلية ، أو المطامح السياسية لأهداف الحركة الحزبية دون ارتباط بالقواعد الشرعية ، لا يلتفت هؤلاء وهؤلاء لتحقيقهم التوحيد في أنفسهم ولا في بلادهم ، ولا يعرف أحدهم من التوحيد أكثر مما يعرفه أبو جهل ، بل أبو جهل أعلم منه بذلك ؛ لأن أبا جهل عند الشدائد يدعو الله مخلصاً له الدين ، أما هؤلاء فيدعون الله في الرخاء فإذا أشتد الخطب سألوا المدد من الأولياء والمقبورين ، بل ربما عادوا التوحيد وأهله وسموهم بالوهابية. وربما صرح منظروا بعض الحركات الحزبية أنهم لن يطبقوا الإسلام حتى يختار الشعب ذلك بالتصويت. فهل يقول من يفهم عقيدة الولاء والبراء أن النصرة لهؤلاء واجبة ؟ لقوله تعالى:" { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْر } دون النظر في القيد الذي ذكره الله في الآية إلا من هو أجهل الخلق بالحق.(1/35)
- إذن : فعدم نصر المسلمين بعضهم لبعض بسبب عجزٍ ، أو بسبب عدم إرادة الدين بالقتال ، أو بسبب ميثاق مع الكفار ، أو بسبب اختلاف بينهم في شيء من ذلك ـ كما سيأتي قريبًا ـ لا يعني أن تارك هذه النصرة هنا قد ظاهر الكفار أو تولاهم [كما يقوله المتعالمون اليوم أو المتطرفون](1).
ــــــــ
(1) زيادة بقلم شيخنا صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ.
- الضابط الرابع -
أن الموالاة الواجبة لأهل الإسلام تكون إذا كان أمرهم متفقاً على طاعة الله ورسوله ، أما إذا اختلفوا فليس أحدهم بأولى من الآخر بالموالاة حتى يرد ذلك إلى الدليل. والأمة الإسلامية منذ عصور كثيرة لم تجتمع على إمام واحد ، فصار لكل بلد إمامه وأحكامه وعهوده الخاصة ؛ للضرورة الملجئة لذلك :
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:34/175) : "والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه ، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك ، فكان لها عدة أئمة لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق"أ.هـ.
- وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب(الدرر السنية:9/5) : الأئمة مجمعون من كل مذهب ، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء ، ولولا هذا ما استقامت الدنيا ، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ، ما اجتمعوا على إمام واحد ، ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام ، لا يصح إلا بالإمام الأعظم"أ.هـ.(1/36)
- وذكر العلامة الشوكاني (السيل الجرار:4/504) الحديث الَّذي رواه أحمد والترمذي وحسّنه ، وصحّحه ابن حبان والحاكم من حديث سَفِينَة - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "الْخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثُونَ عَامًا ، ثُمَّ تَصِير مُلْكًا عَضُوضًا" ، ثم قال : "ثم استمر المسلمون على هذه الطريقة حيث كان السلطان واحدًا وأمر الأمة مجتمعاً ، ثم لما اتسعت أقطار الإسلام ووقع الاختلاف بين أهله واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان ؛ اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه ، وهذا معلوم لا يخالف فيه أحدٌ بل هو إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الغاية مما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا"أ.هـ.
- وقال العلامة الصنعاني (سبل السلام:1/182) في شرح حديث "مَنْ خَرَجَ عن الطّاعَةِ ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيْتَتُهُ مِيتَةٌ جاهِلِيّةٌ" : "قوله[عن الطاعة] ، أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه ، وكأن المراد خليفة أيِّ قطر من الأقطار إذ لم يُجْمع الناسُ على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية ، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم ، إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته. وقوله : [وفارق الجماعة] ، أي : خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم ، واجتمعت به كلمتهم ، وحاطهم عن عدوّهم"أ.هـ.(1/37)
- وقد استنبط العلماء أصل هذا من السنة فيما روى البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، عنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ ، فذكر صلح الحديبية ، وفيه اشتراط الكفار أنّه لا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين رجلٌ قد أسلم إلاّ رده إليهم ، وهروب أبي بصير بعد تسليمه للكفار ، وفيه : "فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ : وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ؛ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ". فأبو بصير ومن معه من المسلمين - رضي الله عنهم - صاروا في حالهم مع الكفار في حكم غير الحكم الواجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين من وجوب الكف عن الكفار والوفاء لهم بعهدهم :
- قال ابن قدامة (المغني:13/162) في شروط عقد الهدنة و وذكر قصة أبي بصير : "فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ، [ويقتلون] من قدروا عليه من الكفار ، [ويأخذون] أموالهم ، [ولا يدخلون] في الصلح ، وإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار دخلوا في الصلح ، وحرم عليهم قتل الكفار وأموالهم"أ.هـ.(1/38)
- وقال ابن القيم (زاد المعاد:3/308) في ذكر الفوائد المستنبطة من قصة أبي بصير - رضي الله عنه - في صلح الحديبية : "والعهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم ، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد ، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين"أ.هـ.
- وهنا نصل إلى المراد من هذا الضابط بأن النصوص الشرعية المتعلقة بالعهود والمواثيق والسلم والحرب في حال اجتماع المسلمين تحت إمام واحد قد لا تنزل على الحال التي يكونون فيها متفرقين تحت ولايات متعددة كتبت عليهم قدرًا منذ عصور ، وأنهم إذا كانوا تحت ولايات متعددة فاختلفوا في بعض المسائل كالعهود والمواثيق مع الكفار مثلاً بأن يعقدها البعض ويأبى غيرهم من طوائف المسلمين فيقاتل ، فليس أحدهم أولى بالموالاة من الآخر حتى يرد ذلك إلى الدليل ؛ لأن الموالاة الواجبة لأهل الإسلام إذا كان أمرهم متفقاً على طاعة الله ورسوله فمن خالفهم فقد اتبع غير سبيل المؤمنين ، بخلاف ما إذا اختلفوا ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية لمَّا ذكر قوله - جل جلاله - { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ } [المائدة:55]:(منهاج السنة:8/349) : "فجعل موالاتهم كموالاة الله ورسوله ، وموالاة الله ورسوله لا تتم إلا بطاعة أمره ، وكذلك المؤمنون لا تتم موالاتهم إلا بطاعة أمرهم ، وهذا لا يكون إلا إذا كان أمرهم أمراً متفقاً ، فإن أمر بعضهم بشيء وأمر آخر بضده لم يكن موالاة هذا بأولى من موالاة هذا ، فكانت الموالاة في حال النزاع بالرد إلى الله والرسول"أ.هـ.
- الضابط الخامس -(1/39)
أن هذه البلاد المنتسبة للإسلام مختلفة في أحوالها من حيث انطباق أحكام الموالاة والمعادة عليها بسبب عدم جريان أحكام الإسلام أو غالبها في تشريعاتها ، أو بسبب ظهور شرك الألوهية فيها من دعاء المقبورين والطواغيت وجعلهم وسائط بينهم وبين الله من غير نكير من قبل أهلها : عامة أو علماء أو حكام ، بل ربما لو أنكر أهل التوحيد والسنة فيهم نبزوا بالوهابية أو الخوارج أو المذهب الخامس ، كما قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ(الدرر السنية:12/417) وهو يتكلم عن إظهار الدين الصارف عن وجوب الهجرة : "فعلم أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب ، هو : إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة ، في بلد يخفى فيه ، بل يجعل ضده هو الدين ؛ ومن تكلم به هو الوهابي الخارجي ، صاحب المذهب الخامس ، الذي يكفر الأمة"أ.هـ. ولنستعرض بعض أقوال العلماء في أحوال مشابهة في زمنهم :
- سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في زمنه (مجموع الفتاوى:28 /240) : حينما سئل عن بلدة "ماردين" فقال(مجموع عن بلد ماردين : "وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"أ.هـ.(1/40)
- وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (الدرر السنية:12/395) في جوابه عمّن منع الهجرة بمكان ظهر فيه الشرك بحجة أن الدار دار إسلام : "فالسؤال عن حكم الدار ، ليترتب عليه ما زعم المجيز فاسد الاعتبار ، من وجهين : الأول : أن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة ، على وجود الشرك ، والبدع ، والمعاصي ، لمن لا يستطيع إنكارها. ومن المعلوم بالضرورة : أن الشرك بالأموات والغائبين ، والتعلق على الأنبياء والصالحين ، بل : على المجاذيب والمجانين ، قد ظهر في ديارهم شعاره ، وتطاير فيها شراره ، وثار فيها قتامه وغباره ، وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره ، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات ، وأصناف المعاصي التي تشيب اللمم والنواصي. فالسؤال عن الدار : هل هي دار إسلام أم لا ؟ بمعنى أن المقيم فيها ، كالمقيم في بلد سالمة من ذلك ، خطأ ظاهر ; وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم : أنهم يوجبون الهجرة بمشاهدة ما هو دون ذلك ، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع ، كالمعتزلة والخوارج والروافض"أ.هـ.
- وذكر العلامة عبد الرحمن السعدي في زمنه (الفتاوى السعدية: المسألة الثالثة والثلاثون:92) الهجرة عند عدم إظهار الدين فقال : "والمقصود أنه لا بد من إظهار أصول الدين وشرائعه , فإذا نظرنا إلى ما حولنا من الممالك المذكورة في هذه الأوقات , وجدنا أنه يتمكن كل أحد من إظهار دينه ومعتقده لانتشار الحرية , فصار المؤمن والكافر والبر والفاجر كل يعلن بما اعتقده , وإن حصل تقصير أو افتتان فهو من كثرة الشر ... وأما قولك : وما يلزم الإنسان في الولاء والبراء والنطق بتكفير الكافر. فهذه مسألة مبنية على أصل كبير , وهو أن الله تعالى عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم , ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم ممن ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم"أ.هـ.(1/41)
- إذاً فتنزيل نصوص الولاء والبراء لأهل الإيمان والتوحيد الخالص على مثل أحوال هذه البلاد على الإطلاق دون تفصيل في أحوال أهلها أمر فيه مناقضةٌ لأصل الولاء والبراء على التوحيد والإيمان والشريعة ، وإلا فهل يصح عند من عقل أن نطبق أحكام الولاء والبراء وما يترتب عليها من إسلام وردة ـ مع عدم إقرارنا بالظلم وما يخطط له الأعداء ـ على حال حاكم العراق في عصرنا هذا حينما غزته الجيوش النصرانية للإطاحة به ؟ فنجعله من أهل الولاء المطلق ، وعدم نصرته ردة لمجرد أن بعض شعبه من أهل السنة مع أنه يحكم بحكم حزب البعث الطاغوتي ، وطوائف كثيرة من شعبه ليسوا من أهل الإسلام أو السنة ؟!.
- الضابط السادس -(1/42)
أن الإسلام الذي جاء بالبراءة من الكفار لا يمنع عقد الأحلاف مع الكفار أو الدخول تحت حمايتهم إذا كان ذلك في مصلحة الإسلام أو المسلمين أو لدحر عدو ضرره أكبر في حال ضعف المسلمين وعجزهم ؛ قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران:28] . قال أبو بكر بن العربي (أحكام القرآن:1/268) عند قوله تعالى { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } : ".. إلا أن تخافوا منهم ، فإن خِفْتُم منهم فساعدوهم ووالوهم وقولوا ما يصرف عنكم من شرِّهم وأذاهم بظاهرٍ منكم لا باعتقاد ؛ بيَّن ذلك قولُهُ تعالى { إِلاَّ مِنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ } على ما يأتي بيانه إن شاء الله"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(الصارم المسلول:1/226) : "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف ، أو في وقت هو فيه مستضعف ، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"أ.هـ. ويدل على ما ذكرنا :(1/43)
(1) ما تواتر من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة في الهجرة للحبشة وكان ملكها كافراً لكنه كان عادلاً ، ففروا من حكم كفار قريش إلى حكم كفار النصارى : فقد روى محمد بن إسحاق (السيرة:194) بإسناده قال : فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحدٌ عنده ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه). فخرجنا إليها أرسالاً ، حتى اجتمعنا ونزلنا بخير دار إلى خير جار ؛ أمنا على ديننا ، ولم نخش منه ظلمًا". وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : "وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار" ـ حتّى قال ـ : "وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى ، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم"أ.هـ. وقال العلامة عبد الرحمن السعدي (الفتاوى السعدية:94) : "بلاد الكفر نوعان : بلاد حرب واضطهاد , وبلاد عهد وهدنة وأمن , ويدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لأصحابه أن يهاجروا من مكة حيث كانت بلاد كفر واضطهاد وأذية وفتنة للمؤمنين إلى بلاد الحبشة , وهي بلاد كفر , ولكنها بلاد أمن واطمئنان , وهي أخف بكثير من بلاد الفتنة , والشر القليل أهون من الشر الكثير , ولهذا تمكن الصحابة - رضي الله عنهم - من إظهار دينهم فيها"أ.هـ.
(2) دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوار وحماية بعض الكفار :(1/44)
أ- حماية عمه أبي طالب وكفار بني هاشم له : روى البخاري أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضي الله عنه - قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ ، قَالَ : هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ" ، وروى أحمد وابن ماجه وصحّحه ابن حبان والحاكم عَنْ ابْنِ مسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ :"فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ"أ.هـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [آل عمران:75]"أ.هـ. قال الحافظ في شرح الباب(فتح الباري:7/233) : "فلما هلك أبو طالب نالت قريشٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابًا ، فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال : فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته يقول : ما نالتني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"أ.هـ.(1/45)
ب- حماية المطعم بن عدي : روي البخاري عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" : وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:2/314) وذكر الحديث: "يكافئ المطعم بإجارته له بمكة". وقال الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109): "إذا كانت القوة المسلمة لا تكفي لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه ، سواء كان المستعان به يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو غير ذلك ، إذا رأت الدولة الإسلامية أن عنده نجدة ومساعدة لصد عدوان العدو المشترك. وقد وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ، وهذا في مكة استعان بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف"أ.هـ.
(3) دخول أبي بكر - رضي الله عنه - في جوار وحماية رجل كافر : فقد روى البخاري في باب {جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَقْدِهِ} عن عائشة - رضي الله عنه - أن ابْنُ الدَّغِنَةَ قال لقريش : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ".(1/46)
(4) ودخل في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض المشركين كما ذكر ابن إسحاق(سيرة ابن هشام:4/46) عن المسور ومروان وغيرهم من علمائنا قالوا : "فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش كان فيما شرطوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرط لهم : أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول - صلى الله عليه وسلم - وعهده" قال الشيخ رشيد رضا(تفسير المنار:3/420) : "يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم ، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي ، أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام والخاص كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } [المائدة:51] ، يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم ، وإن كان الحلاف أو الاتفاق لمصلحتهم ، وفاتهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان محالفاً لخزاعة وهم على شركهم"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(فتاوى ومقالات:6/186) : "أما أن يستعين المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد ، أو يخشى عدوانه فهذا لا بأس به ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتاله لكفار قريش يوم الفتح"أ.هـ.(1/47)
(5) روى أبو داود فِي {بَابٍ فِي صُلْحِ الْعَدُوِّ} ، وابن ماجة وأحمد بإسناد صحيح عن ذِي مِخْبَرٍ - رضي الله عنه - قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ : غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ". وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (فتاوى ومقالات:6/186) : "وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم) ، فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من ورائنا. والمقصود أن الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم يجوز أن يكون ذلك بقوة مسلمة ، وبمساعدة من نصارى أو غيرهم عن طريق السلاح ، وعن طريق الجيش الذي يعين المسلمين على صد العدوان عنهم ، وعلى حماية بلادهم من شر أعدائهم ومكائدهم."أ.هـ.
(6) موادعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينة لما هاجر على أن عليهم النصرة والنفقة إذا حارب ، وأنّ لهم النصر والأسوة غير مظلومين كما ذكر أصحاب السيرة ، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم. وسيأتي بيان ذلك في الضابط التالي عند الدليل السابع.
- الضابط السابع -(1/48)
وهو متفرع عن الضابط السابق ـ نفرده لأهميته ـ في بيان أن الاستعانة بالكفار لمصلحة حماية بيضة الإسلام والمسلمين جائزٌ شرعاً ، بل قد يكون واجبًا إذا لم يتم ذلك إلا به ، وهذا الموضوع هو من مسائل السياسات الشرعية الدقيقة المنوطة بولاة الأمور وأهل الرسوخ من العلماء ، وقد لا تخضع هذه المسألة لمجرد ظواهر بعض النصوص المحتملة التي يختلف الناس في دلالتها ، بل تخضع لقواعد الدين الكلية ومقاصده التي لا يمكن أن تتبدل أو تتغير أو يختلف عليها كالقاعدة الكلية المجمع عليها : "أن تدرأ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما" ، ولذا تجد أن العلماء يذكرون هذه المسألة في أبواب الفقه لا في أبواب الاعتقاد ، وحتى من اختار من العلماء عدم الاستعانة بالكفار لم يصم القائلين بها بموالاة الكفار أو بالتهوين من شأنها : فهذا ابن المنذر يذكر في كتابه (الأوسط:11/177)" {باب ذكر الاختلاف في المشرك يستعان به على العدو} ، ويختار عدم جواز الاستعانة بهم ، ثم يقول :"فإن استعان بهم إمام أعطوا أقل ما قيل ، وهو أن يرضخ لهم شيئاً ، إذ لا نعلم حجة توجب أن يسهم لهم"أ.هـ. قال سماحة الشيخ ابن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/364) : "ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم ، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استعان بالمطعم بن عدي ، أو بعبد الله بن أريقط ، أو بيهود خيبر مواليا لأهل الشرك ، ولا متخذا لهم بطانة ، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم. وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى ، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين ، وتخفيف الشر عنهم. فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه ، وأن ينزل الأدلة منازلها ، والله سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه"أ.هـ.(1/49)
- الخلاف في استعانة المسلمين بالكفار في القتال -
اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بغير المسلمين في موطنين :
(الموطن الأول) : الاستعانة بهم على قتال أهل الحرب : فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية مشهورة في مذهبهم ـ وهي رواية عن الإمام مالك ـ إلى جواز الاستعانة بغير المسلم عند الحاجة ، واشترط الشافعية والحنابلة أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم. وزاد الشافعي أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة مع كون حكم الإسلام هو الغالب عليهم ، وتكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وأما المالكية فالرواية الأولى ما تقدم عن الإمام مالك بالجواز مطلقاً. والثانية : المنع مطلقاً ، لكن يجوز أن يكونوا في خدمات الجيش. والثالثة : وهي المعتمدة عندهم : منع الاستعانة بالمشرك , لكن لا يمنع إذا خرج من تلقاء نفسه. (الموطن الثاني) : الاستعانة بهم على قتال البغاة : فذهب المالكية والشافعية والحنابلة على تحريم الاستعانة بالكفار في قتال البغاة ; لأن القصد كفهم ، والكفار لا يقصدون إلا قتلهم. فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم جاز بشرط القدرة على كف المستعان بهم عن قتلهم. وأجاز الحنفية الاستعانة بهم على قتال البغاة ولو لم تكن هناك حاجة بشرط أن يكون حكم أهل العدل هو الظاهر ; لأن أهل العدل يقاتلون لإعزاز الدين , والاستعانة على البغاة بهم كالاستعانة عليهم بأدوات القتال. انظر : المغني لابن قدامة(13/98) ، التمهيد(11/123) ، والافصاح لابن هبيرة(2/286) ، والموسوعة الفقهية (مفردة : الجهاد - الاستعانة بغير المسلمين على قتال العدو)
- وأدلة الفريقين في جواز الاستعانة بالكفار ما يلي :(1/50)
- أدلة المانعين : استدل المالكية بحديث رواه مسلم وأصحاب السنن عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمشرك : "فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". وهذا فيه اختلاف مع غرابة في إسناده ، ولعل البخاري اجتنب إخراجه لذلك ، واكتفى الترمذي بالحكم على الحديث بقوله : "حسن غريب" ، وعامة العلماء ـ ومنهم مسلم ـ تلقوه بالقبول لرواية الإمام مالك الحديث كما هي عادة المحدثين في أسانيد أهل المدينة ، وله شاهدان ضعيفان.
- أدلة القائلين بالجواز للحاجة وهي كثيرة :
(الدليل الأول) : دخول قبيلة خزاعة في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهم مشركون ، وقاتلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قريش عام الفتح ، قال سماحة الشيخ ابن باز(فتاوى ومقالات:6/172) :"ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً ، بل واجب محتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة"أ.هـ.(1/51)
(الدليل الثاني) : روى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ" ، ذكره ابن حبان في باب {ذِكْرِ الإِخْبَارِ عَنْ وَصْفِ مُصَالَحَةِ المُسْلِمِيْنَ الرُّوْمَ} ، والمجد في "المنتقى" في باب {ما جاء في الاستعانة بالمشركين} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (فتاوى ومقالات:6/185) مبيناً جواز استعانة المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد : "وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم" فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ.
(الدليل الثالث) : شهود كثير من المشركين غزوة حنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جيش ، كما روى مسلم في "صحيحه" عَنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". قال الحافظ ابن حجر (6/179) وذكر نسخ حكم عدم الاستعانة بالكافر : "وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنيناً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مشرك ، وقصته مشهورة في المغازي"أ.هـ.(1/52)
(الدليل الرابع) : استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدروع صفوان بن أمية - رضي الله عنه - وهو مشرك ، قال الإمام الشافعي (الأم:4/372) : "واستعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "وقال يوم بدر : لا أستعين بمشرك ، ولم يقل لا تستعينوا ، بل قال : لا أستعين لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم ، والحمد لله معه جماعة مسلمون ، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم. وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه"أ.هـ.
(الدليل الخامس) : استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين في غزواته خاصة في يوم أحد والخندق والمصطلق: روى البخاري ومسلم قصة انخذال المنافقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلَتْ { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } ". قال الشيخ السعدي : "لما أمروا بالقتال { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : ذبًا عن دين الله وحماية له وطلباً لمرضاة الله { أَوِ ادْفَعُواْ } عن محارمكم وبلدكم إن لم يكن لكم نية صالحة"أ.هـ. وقال الصنعاني (سبل السلام:1/199): "ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبيّ وأصحابه"أ.هـ.
(الدليل السابع) : استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته بدليل عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كما روى البخاري فِي {بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) مبينًا جواز الاستعانة بغير المسلمين : "واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة"أ.هـ.(1/53)
(الدليل الثامن) : استجارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف أهل مكة فحماه ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك ، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم"أ.هـ.
(الدليل التاسع) : روى البخاري : "إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ـ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } "أ.هـ.
(الدليل العاشر) : اتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عيناً مأموناً ففي صحيح البخاري "وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ" ، قال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) في فوائد قصة الحديبية : "ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ؛ لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"أ.هـ.(1/54)
- فأدلة القائلين بالجواز تدور على قاعدة أن الكفار ليسوا على درجة واحدة في العداوة ، ففيهم المحارب ، وفيهم المعاهد والمستأمن معصوم الدم. وفيهم الخائن الغادر ، وفيهم المأمون صاحب النصح : قال شيخ الإسلام رحمه الله (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكما تجوز معاملتهم على الأرض كما عامل النبي يهود خيبر ، وكما استأجر النبي هو وأبو بكر لما خرجا من مكة مهاجرين ابن أريقط رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً ـ والخريت الماهر بالهداية ـ ، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما ، ووعداه غار ثور صبح ثالثة. وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [آل عمران:75] ، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال ، وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة نص على ذلك الأئمة كأحمد وغيره ، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك ، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة مثل ولايته على المسلمين وعلوه عليهم ونحو ذلك"أ.هـ.(1/55)
- ولذا فالقول الراجح هو قول من جمع بين الأدلة ، وذلك بحمل المنع على غير الحاجة أو الخوف من غدر الكافر ، والجواز على الحاجة وحصول المصلحة المتحققة مع الأمن من غدرهم وغلبتهم ، أو لغير ذلك من أوجه الجمع التي قررها المحققون من الأئمة : قال الإمام الشافعي(الأم:4/261) : "الذي روى مالك كما روى رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركًا أو مشركين في غزاة بدر وأبى أن يستعين إلا بمسلم ، ثم استعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر بسنتين في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء ، واستعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك. فالرد الأول : إن كان لأن له الخيار أن يستعين [بمشرك] أو يرده كما يكون له رد المسلم من معنى يخافه منه أو لشدة به ، فليس واحد من الحديثين مخالفًا للآخر. وإن كان رده لأنه لم ير أن يستعين بمشرك ، فقد نسخه ما بعده من استعانته بمشركين ، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : "وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة : فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر الاستعانة بأفراد منهم ، أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها ؛ عملاً بالأدلة كلها. فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم ، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم ، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية"أ.هـ.
- الضابط الثامن -
الشريعة التي جاءت بالبراءة من الكفار ووجوب بغضهم جاءت بالحرص على حقن دمائهم ما أمكن رجاء هدايتهم ، وتأليف قلوبهم بإكرامهم ببعض الجاه والشرف أو بإعطائهم من أموال المسلمين وإيثارهم بها :(1/56)
(1) حقن الدماء : فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في فَتْحِ مَكَةَ: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ". قال ابن القيم مبيناً المصلحة في مسالمة الكفار بالشروط(أحكام أهل الذمة:117) : "وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه ، أو بلغتهم أخباره ، فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم ، وهذا أحب إلى الله من قتلهم"أ.هـ.
(2) إعطاء المال للتأليف : روى مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَى يَوْمَئِذٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنْ النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً. قَالَ صَفْوَان - رضي الله عنه - : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية (السياسة الشرعية:1/217): " والمؤلفة قلوبهم نوعان : كافر ومسلم ، فالكافر إما أن تُرْجَى بعطيته منفعة كإسلامه ، أو دفع مضرّته إذا لم يندفع إلا بذلك"أ.هـ.(1/57)
(3) إعطاء المال لدفع الشر : روى البزار والطبراني قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصَارِ فِي الخَنْدَقِ : "إِنِّيْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَنَّ الحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوْهُ تَمْرَ المَدِيْنَةِ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا حَتَّى تَنْظُرُوا فِيْ أَمْرِكُمْ بَعْدُ" ، قال الهيثمي(مجمع الزوائد:6/191) :"فيهما محمد بن عمرو ، وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات"أ.هـ. قال القرطبي(الجامع لأحكام القرآن:8/41) : "ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو"أ.هـ فذكر القصة. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قسمة حنين بإعطاء الطلقاء وترك الأنصار فقال(مجموع الفتاوى:28/579) : "وهم قوم لهم عبادة وورع وزهد لكن بغير علم ، فاقتضى ذلك عندهم أن العطاء لا يكون إلا لذوي الحاجات ، وأن إعطاء السادة المطاعين الأغنياء لا يصلح لغير الله بزعمهم ، وهذا من جهلهم فان العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين الله ، فكلما كان لله أطوع ، ولدين الله أنفع ، كان العطاء فيه أولى ، وعطاء احتاج إليه في إقامة الدين وقمع أعدائه وإظهاره وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك ، وإن كان الثاني أحوج"أ.هـ.
- الضابط التاسع -
الإسلام يجيز للموحد المسلم أن يجير عدواً من أعداء الله الكفار فيكون معصوم الدم لا يحل لأي مسلم كائناً من كان أن يتعرض لهذا الكافر و إلا كان متعرضاً لأعظم الوعيد ولم يكن ذلك مناقضاً لعقيدة البراءة من الكافرين وبغضهم ، قال - عز وجل - { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } [التوبة:6] :(1/58)
(1) روى الشيخان عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وذكره البخاري تحت باب {ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجِوَارُهُمْ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ}. قال النووي في (شرح مسلم:9/146) : "المراد بالذمة هنا الأمان ، معناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح ، فإذا أمنه به أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له مادام في أمان المسلم ، وللأمان شروط معروفة"أ.هـ. وذكر فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في خطبة على أثر تفجير الخبر في السعودية بخط يده : الحديث ، وأن سفك دم المعاهد من كبائر الذنوب ، ثم قال : "ومعنى الحديث : أن الإنسان المسلم إذا أمّنَ إنساناً وجعله في عهده فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً ، من أخفرها وغدر بهذا الذي أعطي الأمان من مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله ملائكته ، وإنه لا يقبل منه صرف ولا عدل"أ.هـ.(1/59)
(2) وروى البخاري في باب {أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ} عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنهم - قَالَتْ : ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ : أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ. فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلَيٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ ـ فُلاَنَ ابْنَ هُبَيْرَةَ ـ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ". قال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ
- الضابط العاشر -
الإسلام حرّم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين إذا وفَّوا بذمتهم وعهدهم وأمانهم ، وجعل المسلم الذي يفعل ذلك معرضاً لأعظم الوعيد ، ولم يكن ذلك مناقضاً لعقيدة البراءة من الكافرين وبغضهم :(1/60)
(1) فقد روى البخاري في باب {إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ} ، وباب {إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ} عَنْ عبْدِ اللهِ بْنِ عمْرٍ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري:12/271) : "كذا ترجم بالذمي ، وأورد الخبر في المعاهد ، وترجم في الجزية بلفظ (من قتل معاهدًا) كما هو ظاهر الخبر ، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية ، أو هدنة من سلطان ، أو أمان من مسلم"أ.هـ.
(2) وروى أبو داود في باب {فِي الْوَفَاءِ لِلْمُعَاهِدِ وَحُرْمَةِ ذِمَّتِهِ} , والنسائي في باب {تَعْظِيمُ قَتْلِ الْمُعَاهِدِ} ـ واللفظ له ـ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حِلِّهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا". قال ابن القيم (الجواب الكافي:1/104) : "هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان معاهداً في عهده وأمانه ، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن"أ.هـ.
(3) وروى أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان عَنْ عَمْرُو بْنِ الْحَمِقِ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:1/91) : "ومن المعلوم أن من أظهر لكافر أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر ، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمناً" ، فذكر الحديث.(1/61)
(4) وروى أبو داود في باب {فِي الْعَدُوِّ يُؤْتَى عَلَى غِرَّةٍ} ، وصححه الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ ، لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ". قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وقال ابن عبد البر الاستذكار(14/80) : "والغدر أن يؤَمِّنَ ثم يقتل ، وهذا حرام بإجماع"أ.هـ.
- بل حتَّى الكافر الحربي إذا أمنه المسلمون أو فهم ذلك منهم لا يحل لأحد أن يتعرض له لئلا يدخل في نصوص الوعيد السابقة ، بل قد روى البخاري في {بَاب إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا ، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَسْلَمْنَا} ، وَقَالَ : ابْنُ عُمَرَ فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ). وَقَالَ عُمَرُ : إِذَا قَالَ : مِتَرْسْ فَقَدْ آمَنَهُ ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ كُلَّهَا ، وَقَالَ : تَكَلَّمْ ، لاَ بَأْسَ". قال ابن حجر (فتح الباري:6/274) : "وحاصله أن خالد بن الوليد غزا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً فقالوا : صبأنا ، وأرادوا أسلمنا ، فلم يقبل خالد ذلك منهم ، وقتلهم بناء على ظاهر اللفظ ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فأنكره ، فدل على أنه يكتفى من كل قوم بما يعرف من لغتهم ... ومِتَرْس كلمةٌ فارسية معناها لا تخف ... قوله : (وقال : تكلم لا بأس) : فاعل قال هو عمر وروى بن أبي شيبة ويعقوب بن سفيان في تاريخه من طرق بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال : حاصرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم عمر ، فلما قدم به عليه استعجم ، فقال له عمر : تكلم لا بأس عليك ، وكان ذلك تأميناً من عمر"أ.هـ. وقرّر ذلك أهل العلم :
- نقل أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال(مسائله للإمام أحمد:333) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ.(1/62)
- وقال ابن عبد البر(الاستذكار:14/84) : "وسئل مالك عن الإشارة بالأمان : أهي بمنزلة الكلام ؟ فقال نعم ، وإني أرى أن يتقدم إلى الجيوش : أن لا تقتلوا أحداً أشاروا إليه بالأمان ؛ لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام"أ.هـ.
- وقال ابن قدامة فيمن عُقد له عهد دون إذن الإمام (المغني:13/157) : "وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا ؛ لأنه دخل معتقداً للأمان ، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح"أ.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:3/768) : "الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ ، وكذلك كلُ من يجوز أمانه"أ.هـ. وقال أيضاً(الصارم المسلول:2/33) : "وشبهة الأمان كحقيقته ، فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أماناً كان في حقه أماناً ، وإن لم يقصده المسلم "أ.هـ.
- فبأي وجه وحجة يستحل هؤلاء الضلال قتل المستأمنين في البلاد السعودية ـ عليهم من الله ما يستحقون ـ ألم يرو الشيخان عنه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (الْغَادِر يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ) ، وبوب عليه أبو داود فقال : {بَاب فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ}. ولذا قال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ : نشر في جريدة المسلمون) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية : "ولا يخفى علينا أن الائتمان أو التأمين والإجارة يكون حتّى من واحدٍ من المسلمين ، وإن لم يكن ولي أمرٍ ، حتّى ولو كان امرأة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" ، فكيف إذا كان الأمان من ولاة الأمور ؟! فهذا عين المحادة لله ورسوله ، وعين المشاقّة لله ورسوله"أ.هـ.
- الضابط الحادي عشر -(1/63)
أوجب الإسلام العدل حتى مع الكفار ممن قاتلنا وعادانا ، ولو اقتضى ذلك أن يحكم للكافر على المسلم ، فإن ذلك لا ينافي الولاء للمسلم والبراءة من الكافر ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة:8] :
(1) روى البخاري عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ :"كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ لاَ. قَالَ : فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ : احْلِفْ. قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [آل عمران:77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ" ، بوب عليه أبو داود {بَاب إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذِمِّيًّا أَيَحْلِفُ}. قال البغوي(شرح السنة:10/102): "فيه دليل على أن الكافر يحلف في الخصومات ، كما يحلف المسلم"أ.هـ.
(2) وروى مالك في الموطأ عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ". قال ابن عبد البر(الاستذكار:22/20) : "وفي هذا الحديث من الفقه أن المسلم والكافر والذمي في الحكم بينهما والقضاء كالمسلمين سواء"أ.هـ.(1/64)
(3) وفي مسند أحمد وسنن الدارقطني والبيهقي عَنْ جَابِرِ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لَمَّا بَعَثَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِيَهُودِ خَيْبَرَ فَخَرَصَ عَلَيْهمْ : يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ ؛ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ - عز وجل - وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ". قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى:6/494): "ويجب على المسلم أن يعامل الكفار إذا لم يكونوا حربًا للمسلمين معاملة إسلامية بأداء الأمانة ، وعدم الغش والخيانة والكذب ، وإذا جرى بينه وبينهم نزاع جادلهم بالتي هي أحسن وأنصفهم في الخصومة ، عملاً بقوله تعالى : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } "أ.هـ.
- الضابط الثاني عشر -
أن الإسلام أمر بالإحسان إلى بعض الكفار من أهل الذمة لقرابتهم أو رحمهم ، وصيانة أعراضهم وأموالهم ، والدفاع عنهم :
(1) فقد روى مسلم ، والبيهقي في باب {الوَصَاةُ بأَهْلِ الذِّمَةِ} عن أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا". قال ابن القيم(تحفة المودود:78) : "أن النبي أوصى بالقبط خيراً ، وقال : إن لهم ذمة ورحماً ؛ فإن سرّيتي الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام كانتا منهم ، وهما هاجر ومارية ، فأما هاجر : فهي أم إسماعيل أبي العرب ، فهذا الرحم ، وأما الذمة : فما حصل من تسري النبي عليه السلام بمارية وإيلادها إبراهيم ، وذلك ذمام يجب على المسلمين رعايته ما لم تضيعه القبط"أ.هـ.(1/65)
(2) وروى البخاري في باب {يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ} : قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - : أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِيْ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ" ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الجواب الصحيح:1/312) : "وهذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله ... وهذا امتثال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألا من ظلم معاهداً ، أو انتقصه من حقه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود ، فكان هذا في النصارى الذين أدوا إليه الجزية"أ.هـ.
- الضابط الثالث عشر -
أن الإسلام الذي أمر بالبراءة من الكفار وعدم توليهم ولو كانوا من أقرب الناس كما قال تعالى { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة:22] ، أمر بإسداء المعروف والإحسان إلى الكفار في مواطن ولا تعارض في ذلك عند من رزق الفهم ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي (القواعد الحسان : القاعدة الثانية عشرة:ص24) : "ومن ذلك : النهي في كثيرٍ من الآيات عن موالاة الكافرين وعن مودتهم والاتصال بهم ، وفي بعضها : الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم ومصاحبته بالمعروف كالوالدين ونحوهم ، فهذه الآيات العامات من الطرفين قد وضحها الله غاية التوضيح ... فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين ، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان"أ.هـ. ولذلك جاء الترخيص بذلك من وجهين :(1/66)
(1) أمر بمصاحبة ذوي القربى منهم بالمعروف وصلة رحمهم والهدية لهم مما يدل على أن البراءة منهم تجتمع مع الإحسان والبر والصلة ؛ قال الله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان:15] ، وروى الشيخان عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهم - قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ" ، ذكره البخاري في باب : {الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } }: قال القرطبي (الجامع لأحكام القرآن:14/65) : "قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ".. الآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين ، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق"أ.هـ. وقال القاضي عياض في شرح الحديث(إكمال المعلم:3/523): "فيه جواز صلة المشرك ذي القرابة والحرمة والذمام"أ.هـ.(1/67)
(2) وقال عن عموم الكفار { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة:8] ، روى الشيخان عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ - رضي الله عنه - بحُلَّةٍ سِيَرَاءَ : "فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ". ذكره البخاري كذلك في باب المذكور آنفاً باب : {الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ} ، ولذا عقد ابن القيم (أحكام أهل الذمة:1/301) فصلاً في حكم أوقاف أهل الذمة ووقف المسلم عليهم ، مبينًا أن الصدقة جائزة على مساكين أهل الذمة والوقف ، فذكر الآية ثم قال : "فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء ، وقطع المودة بينهم وبينهم ، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة ، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها ، وأنه لم ينه عن ذلك ، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء ، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة"أ.هـ.
- الضابط الرابع عشر -
الإسلام الذي جاء بوجوب بغض الكفار وتحريم مودتهم كما قال تعالى : { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة:22] ، لا يحكم بخروج المسلم من الإسلام إذا وجِدَ في قلبه شيءٌ من المودة أو الرحمة تجاه أحد الكفار إذا كان ذلك لغير عقيدتهم ودينهم ، وقد يكون محرماً ، وقد يكون معفواً عنها :(1/68)
(1) فالمحرم : مثل قصة حاطب - رضي الله عنه - التي روى الشيخان حين كاتب كفار قريش بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقصة انتصار سعد بن عبادة - رضي الله عنه - للمنافق ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(الفتاوى:7/523) : "وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة ، فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ، ولا يكون به كافراً ، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل الله فيه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة:1] ، وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أُبَي في قصة الإفك ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، والله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله. قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحمية ، ولهذه الشبهة سمَّى عمر حاطباً منافقاً"أ.هـ. وقال ابن العربي (أحكام القرآن: (أحكام القرآن:4/1783) : "قوله تعالى : { تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة:1] : يعني في الظاهر ؛ لأن قلب حاطب كان سليماً بالتوحيد ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : (أما صاحبكم فقد صدق) ، وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده"أ.هـ.(1/69)
(2) والطبيعي : وهو ما يوجد في قلب المسلم من الميل الجبلي دون الديني لكافر بسبب قرابة أو رحم فيكون ذلك مع بغض دينه مباحاً ، كما لو تزوج مسلم بكتابية فأحبها المحبة الجبلية التي بين الزوج وزوجته ، ولذا قال ابن كثير (تفسير القرآن العظيم:2/263) عند قوله - عز وجل - في سورة الأعراف { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف:189] : "أي ليألفها ويسكن بها كقوله تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم:21] فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين ، ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه"أ.هـ.(1/70)
(3) والمعفو عنه : وهو الشفقة على الكافر لقرابته أو لإحسانه ، وهي لا تنافي الإيمان كما لم تناف النبوة حين وقعت من عِليَة الأنبياء لكونهم بشراً ، فنوح - عليه السلام - قال : { إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } [هود:45] ، وإبراهيم - عليه السلام - يقول لله يوم القيامة كما روى البخاري : "يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ" ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم : "زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ، فَقَالَ : اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي" ، وزاد أحمد "فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنْ النَّارِ" ، فَنُهِيَ - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار ولم ينه عن البكاء ، والبكاء والشفقة لا يكونان إلا من ميل قلبيٍّ جبليٍّ لا يؤاخذ عليه الإنسان ، قال الطبري (تفسيره:10/58) : "إنك يا محمد { لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } " هدايته { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } " أن يهديه من خلقه ، بتوفيقه للإيمان بالله وبرسوله. ولو قيل : معناه : إنك لا تهدي من أحببته ؛ لقرابته منك ، ولكن الله يهدي من يشاء ، كان مذهبًا"أ.هـ.
ثامناً : أسباب الانحراف في فهم عقيدة الولاء والبراء :(1/71)
لا شك أن عقيدة الولاء والبراء كسائر عقائد الإسلام كالقدر والإيمان والأسماء والصفات والصحابة ، أهل السنة فيها بين الغالي والجافي ، ولا عجب أن يكون عدم فهم النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة فيها مع التعجل أو وجود الهوى أحد الأبواب التي ولج منها الخوارج قديماً ومن وافقهم حديثاً في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم بحجة موالاة الكفار ، ولم يفرقوا بين ما يكون من الأعمال كفراً أو فسقاً أو مباحاً. وإنما جاء ضلال هؤلاء الواقعين بالتكفير الباطل من طريقين كلٌ منهما ضلالة :
- الطريق الأول : الأخذ بإطلاقات بعض النصوص الشرعية دون فهم المراد بها كما فعلت الخوارج ، ويكفي أن نتناول حادثة واحدة وقعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حنين حين انهزم المشركون ، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم كثيرة فقسم في الطلقاء وفيهم كفارٌ ، ولم يعط الأنصار شيئاً ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ" ، فانقسم الناس في هذا العطاء إلى ثلاثة أقسام مع أن المُعطي هو المؤتمن الأمين على الوحي المبين - صلى الله عليه وسلم - :
- أما القسم الأول : من رسخ إيمانهم ورشدت عقولهم فسلموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لمعرفتهم بأنه أمين الوحي الذي يأتيه خبر السماء ، فهؤلاء لما سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟ قَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ : أَمَّا ذَوُو آرَائِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا". قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:2/360) وذكر المهاجرين والأنصار: "وذوو الرأي من القبيلتين ـ وهم الجمهور ـ لم يتكلموا بشيء أصلاً ، بل قد رضوا ما آتاهم الله و رسوله وقالوا : حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله"أ.هـ.(1/72)
- القسم الثاني : فهم أهل صدق لكن لحداثة سنهم تعجلوا في الأحكام ، وأطلقوا العبارات ، ولولا سابقتهم لهلكوا ، فهم كما وصفهم أهل الفقه والرأي لما جمعهم - صلى الله عليه وسلم - بقولهم : "وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ ، فَقَالُوا : يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُ الأَنْصَارَ ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. وفي رواية قالوا : "إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا". وَعَذَرَهُم - صلى الله عليه وسلم - فقال : "فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ". وإنّما عذرهم - صلى الله عليه وسلم - لأمرين : (الأول) : أنهم لم يقولوا ذلك شكاً بعدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما ظناً بأن ما فعله كان من باب الاجتهاد الذي يمكن أن يراجع فيه ، كما أشار لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية(الصارم المسلول:2/359). (الثاني) : لسابقتهم وجهادهم ونصرتهم لهذا الدين ، نظير ما قيل لأهل بدرٍ : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". قال ابن القيم (مدارج السالكين:1/328) :"فإنه يعفى للمُحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ، ويسامح بما لا يسامح به غيره"أ.هـ.(1/73)
- أما القسم الثالث : فهم أهل جفاء وقلة فقه طعنوا في عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - عند الشيخين حين قال ذُو الْخُوَيْصِرَةِ : "إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ" ـ. فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ َلاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ" ، في رواية "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية (السياسة الشرعية:1/218) عن مثل هذا العطاء للتأليف على الإسلام :"وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال فيه ما قال ، وكذلك حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه ، وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم ، وهؤلاء أَمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم لأن معهم دينا فاسداً لا يصلح به دنيا ولا آخرة"أ.هـ. وقال الآجري(الشريعة:1/137) : "والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس ، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين"أ.هـ.
- فكان الواجب أن لا يخوض في هذا الباب إلا الراسخون في العلم الذين يردون المتشابه إلى المحكم والعام إلى الخاص والمطلق إلى المقيد :(1/74)
- قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ مخاطباً أشباه هؤلاء الغلاة ممن ظهروا في عصره (الدرر السنية:1/466): "... وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين ، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين ، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور. وقد بلغنا : عنكم نحو من هذا ، وخضتم في مسائل من هذا الباب ـ كالكلام في الموالاة والمعاداة ، والمصالحة والمكاتبات ، وبذل الأموال والهدايا ، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات ، والحكم بغير ما أنزل الله ـ عند البوادي ونحوهم من الجفاة ، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ، ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في هذا : يتوقف على معرفة ما قدمنا ، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها. فإن الإجمال والإطلاق ، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله ، يحصل به من اللبس و الخطأ ، وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان ويشتت الأذهان ، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن ... وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة ، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام ، فأنكرت الخوارج عليه ذلك ، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة ، وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله ، وواليت معاوية وعمراً وتوليتهما ، وقد قال الله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } "أ.هـ.(1/75)
- وقال الشيخ أيضاً(الدرر السنية:1/474) : "وأصل الموالاة هو : الحب والنصرة والصداقة ، ودون ذلك مراتب متعددة ، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم ، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفي غيره ، وإنما أشكل الأمر وخفيت المعاني والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن ، ولهذا قال الحسن - رضي الله عنه - : من العجمة أتوا ، وقال [أبو] عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار ، واحتج ابن عبيد : هذا وعد ، والله لا يخلف وعده. يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود ، فقال له ابن العلاء : من العجمة أتيت ؛ هذا وعيد لا وعد ، وأنشد قول الشاعر : {وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدي}.
وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره : إن من سعادة الأعجمي والعربي إذا أسلما : أن يوفقا لصاحب سنة ، وإن من شقاوتهما : أن يمتحنا وييسرا لصاحب هوى وبدعة "أ.هـ.
- الطريق الثاني : ربما تَتَبَّع الغلاة عباراتٍ مجملةٍ لبعض أئمة الدعوة السلفية النجدية ، أطلقوا فيها ـ بعد قيام الحجة ـ كفر من تولى عُبَّاد القبور والطواغيت الذين قاتلوا أهل التوحيد ، فأعانوهم بالنفس أو المال أو الكلمة محبة لظهور دينهم ، فنزّلها الغلاة على غير مراد هؤلاء الأئمة ، بل أنكروها أشد الإنكار ، لأنهم كفروا بها حكام المسلمين ، بل ربما كفروا من خالطهم من علماء الدعوة ، ومن هذه التفسيرات البيّنة التي يجب مراعاتها عند قراءة مجمل كلام العلماء :(1/76)
- قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في رده على أحد الغلاة(الدرر السنية:1/466) : "فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها وما قصدته من الاعتذار ، ولكن أسأت في قولك : إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم ، وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا ، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور ، وأنت تعرف : أنهم يذكرون هذا غالباً على سبيل القدح في العقيدة والطعن في الطريقة ، وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى ، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى. وقد رأيت : سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين ، وحجتهم من جنس حجتكم ؛ يقولون : أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت ، ولم يصرح بتكفير جده الذي ردّ دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها. قالا : ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت ، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام ، حتى تركوا رد السلام فرفع إلي أمرهم فأحضرتهم وتهددتم ، وأغلظت لهم القول فزعموا : أولاً : أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأن رسائله عندهم ، فكشفت شبهتهم ، وأدحضت ضلالتهم بما حضرني في المجلس ، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب ، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر ، والكفر بآيات الله ورسله ، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر ، كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه ، من العبادات والإلهية. وهذا مُجْمِعٌ عليه أهل العلم والإيمان"أ.هـ.(1/77)
- وقال الشيخان محمد بن عبد اللطيف وعبد الله العنقري(الدرر السنية:9/133): "فواجب على كل مكلف ، أخذ الدين عن أهله ، كما قال بعض السلف : إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين ، ولم يعرضها على العلماء ، بل يعتمد على فهمه ، وربما قال : حجتنا مجموعة التوحيد ، أو كلام العالم الفلاني ، وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام ، فإن هذا جهل وضلال. ومن المعلوم : أن أعظم الكلام وأصحه ، كلام الله العزيز ؛ فلو قال إنسان : ما نقبل إلا القرآن ، وتعلق بظاهر لفظ لا يعرف معناه ، أو أوله على غير تأويله فقد ضاهى الخوارج المارقين ، فإذا كان هذا حال من اكتفى بالقرآن عن السنة ، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب ، وهو لا يعرف معناها ، ولا ما يراد بألفاظها ؟! والكتب أيضا فيها من الأحاديث : الصحيح والضعيف ، والمطلق والمقيد ، والعام والخاص ، والناسخ والمنسوخ ، فإذا لم يأخذ العامي عن العلماء النقاد ، الذين هم للحديث بمنْزلة الصيارفة للذهب والفضة ، خبط خبط عشواء ، وتاه في وادي جهالة عمياء ... إذا عرف هذا تبين أن الذي يدعي أنه يستغني بمجموعة التوحيد ، عن الأخذ عن علماء المسلمين مخطئ ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن سبب قبض العلم موت العلماء ، فإذا ذهب العلماء واتخذ الناس رؤساء جهالاً ، وسألوهم وأخذوا بفتواهم ، ضلوا وأضلوا، عياذا بالله"أ.هـ.(1/78)
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمه الله لبعض من تتبع عبارات بعض أئمة الدعوة دون النظر في سياقها وفيمن قيلت(الدرر السنية:9/157) : "وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم : أن مُجرد مُخالطة الكفار ومعاملتهم بمصالحة ونحوها ، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك ، أنَّها هي موالاة المشركين المنهي عنها في الآيات والأحاديث ، وربَّما فهمتم ذلك من "الدلائل" التِّي صنف الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ ، ومن "سبيل النجاة" للشيخ حمد بن عتيق : فأولاً : نبين لكم سبب تصنيف "الدلائل" ، فإن الشيخ سليمان صنفها لمَّا هجمت العساكر التركية على نجد في وقته ، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله ، وساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة ، وأحبوا ظهورهم. وكذلك : سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل النجاة" هو : لمَّا هَجَمت العساكر التركية على بلاد المسلمين ، وساعدهم من ساعدهم حتَّى استولوا على كثير من بلاد نجد ، فمعرفة سبب التصنيف مِمَّا يعين على فهم كلام العلماء ، فإنه ـ بحمد الله ـ ظاهر المعنى ، فإن المراد به : موافقة الكفار على كفرهم ، وإظهار مودتهم ، ومعاونتهم على المسلمين ، وتحسين أفعالهم ، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم. والإمام ـ وفقه الله ـ لم يقع في شيء مِمَّا ذكر ، فإنه إمام المسلمين ، والناظر في مصالحهم ، ولا بدَّ له من التحفظ على رعاياه وولايته من الدول الأجانب. والمشايخ رحمهم الله كالشيخ سليمان بن عبد الله ، والشيخ عبد اللطيف ، والشيخ حمد بن عتيق ، إذا ذكروا موالاة المشركين فسَّروها بالموافقة والنصرة والمعاونة ، والرضا بأفعالهم ، فأنتم ـ وفقكم الله ـ راجعوا كلامهم تجدوا ذلك كما ذكرنا.(1/79)
قال الشيخ حمد بن عتيق ـ فيما نقله عن الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ـ رحمهم الله ـ: وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) على ظاهره ، وهو : أن الذي يدّعي الإسلام ، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل ؛ بحيث يعدّه المشركون منهم ، فهو كافر مثلهم وإن ادّعى الإسلام ، إلا أن يكون يُظهر دينه ولا يتولّى المشركين. انتهى. فانظر ـ وفقك الله ـ إلى قوله في هذه العبارة (وكون المشركين يعدونه منهم) يتبين لك أن هذا هو الذي أوجب كفره ، وأمَّا مجرد الاجتماع معهم في المنزل ، فإن ذلك بدون إظهار الدين معصية. وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:144] : (يعني : معهم في الحقيقة ؛ يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنا معكم. فهذا هو الذي أوجب كفرهم لا مجرد المخالطة). فأنتم ـ وفقكم الله ـ الواجب عليكم التبصر وأخذ العلم عن أهله ، وأمَّا أخذكم العلم من مُجرد أفهامكم أو من الكتب ، فهذا غير نافع ، ولأن العلم لا يُتلقى إلا من مظانه وأهله ، قال تعالى { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل:43] ، وقال تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ، وقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء:59،83]"أ.هـ.(1/80)
- وقال العلامة ابن سحمان في رده على غلاة نزلوا كلاماً لإمام الدعوة قاله في قوم مشركين ليس معهم من الإسلام شيء على أعراب ملتزمين بشعائر الإسلام الظاهرة لا يمكن لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعمهم جميعهم بالكفر لأجل ما غلب على بعضهم من المكفرات , والتلوث بكثير من المنكرات (منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع:20): "فيقال لهؤلاء الجهلة الصعافقة الحمقى, الذين لا علم لهم ولا معرفة لديهم بحقائق الأمور ومدارك الأحكام , الذين يقرؤون على الناس كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب , وهم لا يفهمون مواقع الخطاب وتوقيع الأمور على ما هي عليه , حيث يقول قائلهم : نعم , هذا قول الشيخ في البدو , والمشايخ اليوم يقولون ويقولون. فيقال لهم : إن كلام الشيخ الذي تقرؤونه على الناس في قوم كفار ليس معهم من الإسلام شيء , وذلك قبل أن يدخلوا في الإسلام , ويلتزموا شرائعه , وينقادوا لأوامره, وينزجروا عن زواجره ونواهيه , وأما بعد دخولهم في الإسلام فلا يقول ذلك فيهم إلا من هو أضل من حمار أهله وأقلهم ديناً وورعاً , ومقالته هذه أخبث من مقالة الخوارج الذين يكفرون بالذنوب , وهؤلاء يكفرونهم بمحض الإسلام. أما علم هؤلاء المساكين أن الإسلام يجب ما قبله , وأن الهجرة تهدم ما قبلها , بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما قوله : والمشايخ اليوم يقولون ويقولون , فالجواب أن نقول : نعم المشايخ اليوم يقولون : لا نكفر من ظاهره الإسلام , ولا يطلقون الكفر على جميع أهل البادية الذين هم بين أظهر أهل الإسلام , وإنما يقولون : من قام به وصف الكفر منهم فهو كافر ؛ كمن يعبد غير الله , ويشرك به أحداً من المخلوقين , أو يتحاكم إلى الطواغيت , ويرى أن حكمهم أحسن وأفضل من حكم الله ورسوله , أو يستهزئ بدين الله ورسوله , أو ينكر البعث.(1/81)
فمن قام به هذا الوصف الذي ذكرنا من المكفرات وغيرها مما يخرج من الملة في بادية أو حاضرة : فهو كافر. كما ذكر ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ وهذا هو الذي ندين الله به في أي بادية كانت أو حاضرة"أ.هـ.
- وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (الدرر السنية:8/369) مؤكداً على عدم التعلق ببعض الألفاظ المطلقة للعلماء ، ومعرفة مواقع الخطاب التي قالوه فيها : "وبلغني عن الشيخ حمد أنه أنكر واشتد نكيره ، ورأيت له خطاً أرسله إلى بعض الإخوان : بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة ، وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب واعترض على ابن عتيق ، وصرح بجهله ونال من عرضه ، وتعاظم هذه العبارة ، [ورغم](1) أنه غلا وتجاوز الحد ، فحصل ـــــــــ
(1) هكذا في المطبوع ، ولعلها : (وزعم) ، أو تكون الواو زائدة فيكون مراده : "وتعاظم هذه العبارة رغم أنه غلا وتجاوز الحد".
بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى. والرجل وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير ، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وذب عن دينه ، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين ، على من تهاون أو رخص وأباح بعض شعبه ... وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا ، ليست في الاستعانة خاصة ، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين ، وظهور عبادة الأصنام والأوثان. ومن المعلوم : أن من تصور هذا الواقع ورضي به ، وصوب فاعله وذب عنه ، وقال بحله ، فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان ، إذا قام الدليل عليه. وأما من أخطأ في عدم الفرق ، ولم يدر الحقيقة ، واغتر بمسألة خلافية ، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطأ ، إذا اتقى الله ما استطاع ، ولم يغلب جانب الهوى"أ.هـ.(1/82)
- وقال الشيخ عبد اللطيف أيضاً رداً على من سلك مسلك الخوارج فنزّل آيات نزلت في الكفار على أهل الإسلام(الدرر:1/476) : "وقد بلغني : أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ } [محمد:26] على بعض ما يجرى من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين والملوك المشركين ، ولم تنظروا لأول الآية ، وهى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [محمد:25] ، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة ولا المراد من الأمر المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة ، وفي قصة : صلح الحديبية ، وما طلب المشركون واشترطوه ، وأجابهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم"أ.هـ.
تاسعاً : أقسام مولاة الكفار وأنها ليست على درجة واحدة(1/83)
قسم أهل العلم الراسخون موالاة الكفار إلى أقسام كل منها يختلف عن الآخر في الحكم وتنزيله ، وأصل هذا الحكم الشرعي يستند إلى قاعدة كلية خالف فيها أهل السنة طائفة الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم ، وهي أنه لا يلزم من قيام شعبةٍ من شعب الكفر في مسلم أن يُسمى كافراً ، قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالة لمن اشتبه عليه هذا الأمر(الدرر السنية:1/478) ـ: "الكفر أيضاً : ذو أصل وشعب ، فكما أن شعب الإيمان : إيمان ، فشعب الكفر : كفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر ، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله أو استهان بالمصحف ، وبين من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب ، أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب ، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام ، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك ، فهو مخالف للكتاب والسنة ، خارج عن سبيل سلف الأمة ، داخلٌ في عموم أهل البدع والأهواء"أ.هـ. ولننقل شيئاً من النصوص التي قرر فيها الأئمة تفاوت أنواع الموالاة من حيث الحكم الشرعي عليها :
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى:28/201) : "فمن كان من الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها ، مثل : إتيانه أهل الباطل واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك".
- وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ(الدرر السنية:8/342) : "مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ، منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات"أ.هـ.(1/84)
- وقال رحمه الله راداً على المكفر بكل موالاة (الدرر السنية:1/474) : "وأصل الموالاة هو : الحب والنصرة والصداقة ، ودون ذلك مراتب متعددة ، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم ، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفي غيره"أ.هـ.
- وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي بعد ذكر الموالاة المخرجة عن الإسلام(تيسير الكريم الرحمن:1207) : "وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ ، وما هو دونه"أ.هـ.
- وقال الشيخ الطاهر بن عاشور(التحرير والتنوير:4/230) عند قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51]: "وقد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية ، ولكنه ضلال عظيم ، وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة"أ.هـ.
- وعلى هذا فالموالاة ثلاثة أقسام : كفرية ، وفسقية ، ومعفوٌ عنها :
- القسم الأول : هي الموالاة العامة المطلقة التامة المرتبطة بالعقيدة والدين ، أو ما يعبر عنه بعض أهل العلم بالتولي الذي يكون فاعله كافراً مرتداً خارجاً عن الإسلام :
- قال ابن عطية (المحرر الوجيز:5/127) عند قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51] : "ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان ، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه"أ.هـ.(1/85)
- قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ(الدرر السنية:1/474) : "وأما قوله تعالى { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51] ، وقوله { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المجادلة:22] ، وقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة:57] ، فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالمولاة المطلقة العامة"أ.هـ.
- وقال الطاهر بن عاشور(التحرير والتنوير:4/230) عند قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51]: "ولما كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتبع الرسول ولم ينافق كان مسلماً لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل ؛ وقد تأولها المفسرون بأحد تأويلين : إما بحمل الولاية في قوله { وَمَن يَتَوَلَّهُم } على الولاية الكاملة التي هي الرضى بدينهم والطعن في دين الإسلام .. وإما بتأويل قوله { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } على التشبيه البليغ ، أي : فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب"أ.هـ.
- وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند قوله تعالى { وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة:9] (تيسير الكريم الرحمن:1207) : "وذلك الظلم يكون بحسب التولّي ، فإن كان تولياً تاماً كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام ، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه "أ.هـ.(1/86)
- وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مفرقاً بين الموالاة العامة المكفرة وما دونها(الدرر السنية:8/159) : "وإن كان موالاتهم لأجل دنياهم ، يجب عليه من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله ، وإن كانت الموالاة لأجل دينهم فهو مثلهم ، ومن أحب قوماً حشر معهم"أ.هـ.
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري مقرراً اعتقاد علماء الدعوة في التفريق بين الموالاة التامة عمّا دونها(الدرر السنية:9/158) "فإن المراد به : موافقة الكفار على كفرهم ، وإظهار مودتهم ، ومعاونتهم على المسلمين ، وتحسين أفعالهم ، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم"أ.هـ.
- وقسّم الشيخ صالح بن فوزان الفوزان الموالاة إلى أقسام خمسة مختلفة في الأحكام ، فقال (شرح نواقض الإسلام:156) : "(القسم الأول) : مظاهرتهم ومعاونتهم على المسلمين مع محبة ما هم عليه من الكفر والشرك والضلال ، فهذا القسم لا شك أنه كفر أكبر مخرج من الملة ، فمن ظاهرهم وأعانهم وساعدهم على المسلمين مع محبة دينهم ، [وما هم عليه] والرضا عنهم ، وهو مختار ، فإنه يكون كفراً أكبر مخرجاً من الملة على ظاهر قوله تعالى { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51]"أ.هـ.
- القسم الثاني : هي الموالاة المقيدة أو الخاصة التي لا يكفر مرتكبها ، وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد وبغض الكفر وأهله ، أو إعانتهم ويكون الحامل له على ذلك مصلحة شخصية أو خوف أو عداوة دنيوية بينه وبين من يقاتله الكفار من المسلمين ، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب لا تُخرج صاحبها من الإسلام ؛ لأن مجرد النصرة العملية للكفار على المسلمين دون عقيدة القلب لا يُكَفَّرُ بها ؛ لاحتمال أن يكون ذلك عن ضعف إيمان وعدم محبة الكفر :(1/87)
- قال ابن عطية(المحرر الوجيز:5/127) عند قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } : "ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان ، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه"أ.هـ.
- وقال الطاهر بن عاشور (التحرير والتنوير:3/217) : "والموالاة تكون بالظاهر والباطن ، وبالظاهر فقط ، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام ، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال" ـ فذكرها ثم قال ـ : "الحالة الثانية : الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم في وقت يكون فيه الكفار متجاهرين بعداوة المسلمين والاستهزاء بهم وأذاهم كما كان معظم أحوال الكفار عند ظهور الإسلام ، مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين ، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها ، إلا أن ارتكابها إثم عظيم ؛ لأن صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام على أنه من الواجب إظهار الحمية للإسلام والغيرة"أ.هـ.
- وقال شيخنا محمد العثيمين في تفسير قوله تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51] (بواسطة وجادلهم بالتي هي أحسن:87) : "هو منهم في الظاهر بلا شك ؛ بسبب المعاونة والمناصرة. لكن : هل يكون منهم في الباطن ؟ نقول : يمكن ، قد تكون هذه المناصرة والمعاونة تؤدي إلى المحبة ثم إلى اتِّباع الملِّةِ"أ.هـ.
- وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان(شرح نواقض الإسلام:168): "التولي على قسمين : (الأول): توليهم من أجل دينهم ، وهذا كفر مخرج من الملة. (الثاني) : توليهم من أجل طمع الدنيا مع بغض دينهم ، وهذا محرم وليس بكفر"أ.هـ.(1/88)
- ولهذا فرق بعض المحققين من أهل العلم بين هذه الصورة والتي قبلها ، فأطلقوا على الموالاة المطلقة العامة "التولي" ، وأطلقوا على الموالاة المقيدة "الموالاة" ، وقالوا : الموالاة كبيرة لأن الله تعالى خاطب بعض الصحابة الذين حصل منهم نوع موالاة للكفار بنداء الإيمان فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [الممتحنة:1]. وأما التولي فهو كفر لقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51] أي الولاية العامة ، فمن هؤلاء :
- الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ لمّا سئل رحمه الله : عن الفرق بين الموالاة التولي ، فقال (الدرر السنية:8/422) : "التولي كفر يخرج من الملة ، وهو كالذب عنهم ، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي(1) ، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب ، كبل الدواة ، أو بري القلم ، أو التبشش لهم ، لو رفع السوط لهم"أ.هـ.
- وقال الشيخ سليمان بن سحمان (عقود الجواهر المنضدة الحسان:146) نظماً في الفرق بين الموالاة والتولي : وأصلُ بلاءِ القوم حيث تورّطوا .... هو الجهلُ في حكم الموالاةِ عن زللْ
ما فرّقوا بين التولي وحكمِه .... وبين الموالاةِ التي هي في العملْ
أخفّ ، ومنها ما يكفّر فعلُه.... ومنها يكون دونَ ذلك في الخللْ"أ.هـ.
ــــــــــ(1/89)
(1) يصدر كثيرٌ من الكتاب اليوم بهذا النقل عن الشيخ مؤلفاتهم ليستدلوا به على التكفير بمطلق إعانة الكفار لتنزيلها على الواقع ، ويتجاهلون أنه يجب أن يحمل هذا على من أعانهم حباً لهم وانتصاراً لدينهم حتى تأتلف عبارات العلماء ولا تختلف ؛ ولأن هذا هو الذي ردّه على من كفر بمطلق الموالاة أخذاً بالإجمال وعدم معرفة مواقع الخطاب حين ذكر(الدرر السنية:1/466) أن التكفير بهذه الأمور التي ظنها الغلاة من مكفرات أهل الإسلام هو مذهب الحرورية المارقين حين قالوا لعلي - رضي الله عنه - : حكّمت الرجال في دين الله ، وواليت معاوية وعمراً وتوليتهما. وحين قال واصفاً منهج أهل البدع الخارجين عن سبيل سلف الأمة (الدرر السنية:1/478) : "وفرق بين من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله أو استهان بالمصحف ، وبين من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب ، أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب"أ.هـ. بل هذا الذي اضطر الشيخ عبد الله العنقري رحمه الله أن يفسرها لمن فهم هذا الفهم بقوله(الدرر السنية:9/157) : "والمشايخ رحمهم الله .. إذا ذكروا موالاة المشركين فسَّروها بالموافقة والنصرة والمعاونة والرضا بأفعالهم"أ.هـ. ولكن هؤلاء لا يعقلون ، وسيأتي مزيد بيان لهذا المنهج وتفصيل في الفصل العاشر.(1/90)
- وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في ذكر أنواع الموالاة(الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن :50) : "عندنا في الشرع ، وعند أئمة التوحيد ، لفظان لهما معنيان يلتبس أحدهما بالآخر عند كثيرين : الأول التولي ، الثاني : الموالاة. التولي : مكفر ، الموالاة غير جائزة ، والثالث : الاستعانة بالكافر واستئجاره جائزة بشروطها. فهذه ثلاث مسائل : أما التولي : فهو الذي نزل فيه قول الله جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51]، وضابط التولي : هو نصرة الكافر على المسلم وقت حرب المسلم والكافر ، قاصداً ظهور الكفار على المسلمين. فأصل التولي : المحبة التامة ، أو النصرة للكافر على المسلم ، فمن أحب الكافر لدينه فهذا قد تولاه تولياً ، وهذا كفر. وأما موالاة الكفار : فهي مودتهم ومحبتهم لدنياهم وتقديمهم ورفعهم ، وهي فسق وليست كفراً. قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [الممتحنة:1]. قال أهل العلم : ناداهم باسم الإيمان ، وقد دخل في النداء من ألقى المودة للكفار ، فدل على أن فعله ليس كفراً ، بل ضلال عن سواء السبيل"أ.هـ.
- الأدلة على الفرق بين الموالاة المخرجة عن الدين وبين التي هي نقص فيه :(1/91)
- الدليل الأول : ما رواه الشيخان في قصة حاطب - رضي الله عنه - الذي بوب البخاري عليها فقال [بَاب الْجَاسُوسِ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } ] [الممتحنة:1] ، وذلك أنه - رضي الله عنه - أرسل لكفار مكة سرًّا كتاباً مع امرأة وضعته في عقاص شعرها يخبرهم بعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتم ذلك ليبغت قريشاً ، فأعلم الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك فسأله فأخبر أنه أراد حماية أهله بمكة : "فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ ـ وفي رواية "وَلاَ ازْدَدْتُ لِلإِسْلامِ إِلاَّ حُبًّا" ـ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ صَدَقَكُمْ .. فأنزل الله السورة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [الممتحنة:1].(1/92)
فدَّل هذا الحديث على بيان ضابط الكفرِ في إعانةِ الكفار ، وذلك في قوله - رضي الله عنه - : "وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ" ، "وَلاَ ازْدَدْتُ لِلإِسْلامِ إِلاَّ حُبًّا" ، فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا ، مما يدلَّ على أن بعض الموالاة كالنصرة العملية إذا لم تكن حباً بدين الكفار أو بغضاً في الإسلام ذنب من الذنوب وليست كفراً ، ودلَّ سؤال النبي لحاطب "يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟" على وجوب الاستفصال من الفاعل عن الدافع الذي حمله على ذلك ، قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن(الدرر السنية:1/473) : "فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به ، وتناوله النهي بعمومه ، وله خصوص السبب الدال على إرادته ، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة ، وأنه أبلغ إليهم بالمودة ، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل. لكن قوله : (صدقكم ، خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاكٍ ولا مرتاب ، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ، ولو كفر لما قال : (خلوا سبيله) . ولا يقال : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره ؛ لأنا نقول : لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه ، فإن الكفر : يهدم ما قبله ، لقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة:5] ، وقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام:88]. والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع ، فلا يظن هذا"أ.هـ.(1/93)
- وهذا الذي قرره الشيخ هو الذي فهمه عامة أئمة الإسلام دون من قلَّ فهمُه ونصيبه من المنتسبين للعلم من المعاصرين مع الأسف حين نشروا بين الشباب تضليلاً واعتماداً على متشابه الأدلة وأقوال العلماء : أن حاطباً فعل كفراً مخرجاً عن الملة ـ سبحانك هذا بهتان عظيم ـ وإنما منعه من الكفر شهوده لبدر ، أو كونه متأولاً ، أو أن هذا حكم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بصدق حاطب - رضي الله عنه - ، ولذا فأسوق أقوال الأئمة المعتبرين الذين نصوا على أن مثل هذا الفعل ، وإن كان محرماً ، فليس هو بكفر أكبر مع اطمئنان القلب بالإيمان وبغض الكفر وأهله :
- سئل الإمام الشافعي (الأم:4/249) : "أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم أو بالعورة من عوراتهم ، هل يحل ذلك دمه ؟ ويكون في ذلك دلالة على ممالأة المشركين ؟ قال الشافعي رحمه الله تعالى : لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام ، إلا أن يقتل أو يزني بعد إحصان ، أو يكفر كفراً بيناً بعد إيمان ، ثم يثبت على الكفر. وليس الدلالة على عورة مسلم ، ولا تأييد كافر بأن يُحذّر أن المسلمين يريدون منه غرةً ليحذرها ، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكُفْر بَيِّنٍ ... قلتُه بما لا يسع مسلماً علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب"أ.هـ. ثم ذكر حديث حاطب - رضي الله عنه - .
- وقال ابن العربي(أحكام القرآن:3/1783) "من كثر تطلعه على عورات المسلمين ، ويُنبِّه عليهم ، ويُعرِّف عدوهم بأخبارهم ، لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله لغرض دنيوي ، واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين"أ.هـ.(1/94)
- وقال النووي(شرح مسلم:16/273) : "فيه أن الجاسوس وغيره من أصحاب الذنوب الكبائر لا يكفرون بذلك ، وهذا الجنس كبيرة قطعاً لأنه يتضمن إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو كبيرة بلا شك لقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } [الأحزاب:57]"أ.هـ.
- وقال أبو العباس القرطبي (المفهم:6/443) عند شرح حديث حاطب - رضي الله عنه - : "ومن جملة ما فيه من الفقه : أن ارتكاب الكبيرة لا يكون كفراً"أ.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى:7/523) : "وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة ، فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ، ولا يكون به كافراً ، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - "أ.هـ.
- وقال ابن القيم (زاد المعاد:3/423) : "وفيها : أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تُكفَّرُ بالحسنة الكبيرة الماحية ، كما وقع الجَسُّ من حاطب مُكَفَّراً بشهوده بدراً"أ.هـ.
- وقال الحافظ ابن حجر(فتح الباري:12/324): "وفيه الرد على من كفر المسلم بارتكاب الذنب ، وعلى من جزم بتخليده في النار".(1/95)
- الدليل الثاني : حديث سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ - رضي الله عنه - الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأَسَارَى ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ ؛ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِسْلاَمَ. قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ : حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " إِلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ الْبَيْضَاءِ". قَالَ الترمذي : "هذا حديث حسن ، وأبو عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه"أ.هـ. قلت : حسَّنه مع كون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه كما جرى عمل حذاق المحدثين من قبول حديثه عن أبيه لكونه كان عالماً به ، ولذا قال الحاكم لما أخرجه أيضاً : "هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه". فهذا الحديث يدل على أن موافقة الكفار في النصرة الظاهرة مع كونه صحيح الاعتقاد لا يخرجه عن دينه ، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية(منهاج السنة النبوية:5/121) عن الكفار: "وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه ، يشهد القتال معهم ، ولا يمكنه الهجرة ، وهو مكره على القتال ، ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"يغزو جيش هذا البيت ، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم ، فقيل : يا رسول الله ، وفيهم المكره ؟ فقال :"يبعثون على نياتهم".(1/96)
- الدليل الثالث : ما جاء في قصة الإفك حين انتصر سعد بن عبادة - رضي الله عنه - للمنافق ابن أبي سلول كما روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - حين اسْتعْذَر - صلى الله عليه وسلم - من ابن أبي سلول فَقالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ ، إِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ـ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ـ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ! لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، فَقَالَ : كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية(الفتاوي:7/523) عن الكفار : "وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة ، فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ، ولا يكون به كافراً ... كما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أُبَي في قصة الإفك ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، والله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله. قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحمية "أ.هـ.(1/97)
- الدليل الرابع : روى الشيخان عن عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - حين قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَقُلْ ذَلِكَ ، أَلاَ تَرَاهُ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : قُلْنَا : فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ ، فَقَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ ": لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ". فهذا الصحابي كان وجهه ونصيحته للمنافقين واتخذهم بطانة ، ومع ذلك برأه النبي - صلى الله عليه وسلم - من النفاق. قال شيخ الإسلام فيمن كان متأولاً برمي غيره بالنفاق لشبهة(مجموع الفتاوى:7/522) : "وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم منافق ، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين"أ.هـ. وقال العلامة الطاهر بن عاشور عند قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء:148] وذكر قصة عتبان - رضي الله عنه - (التحرير والتنوير:4/5): "فظن هذا القائل بمالك أنه منافق لملازمته للمنافقين ، فوصفه بأنه منافق لا يحب الله ورسوله. فلعل هذه الآية نزلت للصدِّ عن المجازفة بظن النفاق بمن ليس منافقاً"أ.هـ.(1/98)
- الدليل الخامس : إجماع أهل العلم على عدم تكفير الجاسوس المسلم بمجرد التجسس ، وتقدم ما ذكره الإمام الشافعي في كتابه (الأم:4/249) في {باب المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين} فقال رحمه الله تعالى : "وليس الدلالة على عورة مسلم ، ولا تأييد كافر بأن يحذرَ أن المسلمين يريدون منه غرةً ليحذرها ، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكُفْرٍ بَيِّنٍ"أ.هـ. لكن العلماء اختلفوا في قتله فأجازه المالكية ومنعه الجمهور ، وحكى الطحاوي الإجماع على المنع : قال الحافظ ابن حجر في {بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُتَأَوِّلِينَ} عند شرح حديث حاطب - رضي الله عنه - (فتح الباري:12/324): "والمعروف عن مالك : يجتهد فيه الإمام. وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه ، وقال الشافعية والأكثر : يعزر ، وإن كان من أهل الهيئات يعفى عنه ، وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة : يوجع عقوبة ويطال حبسه"أ.هـ. قلت : وفي هذا أوضح الدلالة على عدم ردته عندهم لأنه مما جاء به النص والإجماع وجوب قتل التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين ، ولو كان مرتداً لوجب قتله بلا خلاف.
- القسم الثالث : الموالاة التي يعفى عنها في الظاهر للضرورة ، مع بغضهم وبغض دينهم في الباطن واعتقاد بطلان ما هم عليه ، فهذه جاء النص القرآني باستثنائها من النهي في مواطن :(1/99)
(1) مع إظهار الإسلام كما قال - عز وجل - : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران:28] : قال ابن كثير : (تفسير القرآن العظيم:1/373) :" وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته"أ.هـ. وقال أبو بكر بن العربي في (أحكام القرآن:1/268) عند قوله تعالى { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } : ".. إلا أن تخافوا منهم ، فإن خِفْتُم منهم فساعدوهم ووالوهم ، وقولوا ما يصرف عنكم من شرِّهم وأذاهم بظاهرٍ منكم لا باعتقاد ؛ بيَّن ذلك قولُهُ تعالى { إِلاَّ مِنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ } [النحل:106]"أ.هـ.وقال شيخنا صالح الفوزان(شرح نواقض الإسلام:163) :" { إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران:28] : وهي المداراة إذا خشي على المسلم من شرهم ، وليس هذا من الموالاة بل هو من دفع الضرر عن المسلمين { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران:28] ، فنحن نداريهم بأن ندفع شرهم بأن نعطيهم من المال دفعاً لشرهم ، أو ما يريدون من أمور الدنيا ، وليس هذا من الموالاة ، وإنما هو من المداراة لدرء شرهم"أ.هـ.(1/100)
(2) مع كتم الإسلام كما قال - عز وجل - : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح:25] : قال ابن كثير(تفسير القرآن العظيم:4/196) : " { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } ، أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم ، لكنّا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل ، ولهذا قال تعالى : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } : أي إثم وغرامة"أ.هـ. وذكر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن ثلاث حالات تختفي فيها البراءة ، فقال(الدرر السنية:8/305) : "وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر ، وإنما النزاع في إظهار العداوة ، فإنها قد تخفى لسبب شرعي ، وهو الإكراه مع الاطمئنان ، وقد تخفى العداوة من مستضعَف معذور ، عذَرَه القرآن ، وقد تخفى لغرض دنيويّ ، وهو الغالب على أكثر الخلق ، هذا إن لم يظهر منه موافقة"أ.هـ.(1/101)
(3) بل ربما يشهد بعض المسلمين القتال مع الكفار مكرهاً تقية في العمل كما تقدم فيما روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه في أُسَارى بدرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ ؛ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِسْلاَمَ. فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :"إِلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ الْبَيْضَاءِ" ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (منهاج السنة النبوية:5/121) عن الكفار : "وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه ، يشهد القتال معهم ، ولا يمكنه الهجرة ، وهو مكره على القتال ، ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا ؟ قَالَ : يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ"أ.هـ. فهذه أقسام الموالاة الكفرية والمحرمة والمعفو عنها ، ولا يدخل في شيءٍ منها ما ذكرناه في الضوابط الثلاثة عشر السابقة كما يعتقد من لا فقه عنده.
عاشراً: الضابط في الموالاة المخرجة من الدين وبيان سبب الخلط(1/102)
من أهم ما أوقع في التكفير الباطل في باب الولاء والبراء ـ إضافة للأهواء المستحكمة ـ هو عدم فهم منهج أهل السنة والجماعة وعدم ضبط القواعد الشرعية ، فيضع من جهل معتقد أهل السنة والجماعة بعض النصوص المجملة لبعض أهل العلم ، أو التي أطلقوها على سبيل التغليط ، أو أخطأوا فيها : أصلاً يبنى عليها المعتقد في هذا الباب ، ولو خالف النص الصريح والمنهج المتوارث الصحيح ، بخلاف طريق الراسخين في العلم السالمين من الأهواء فهم يحملون ما أشكل من كلام أهل العلم على قواعد أهل السنة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الجواب الصحيح:4/44) : "إنه يجب أن يُفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا ، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به ، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر ، فإذا عُرف عُرفُه وعادته في معانيه وألفاظه ، كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده ، وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه ، وتَرَك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه ، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضاً ، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه ، كان ذلك تحريفاً لكلامه عن موضعه وتبديلاً لمقاصده وكذباً عليه"أ.هـ. وقد تقدم في فصل أسباب الانحراف في فهم باب الولاء والبراء الآنف تحديد أئمة الدعوة النجدية أسباب انحراف الموافقين لهم في الاسم المخالفين لهم في المنهج والرسم في أربعة أمور يدور كلامهم حولها : (الأول) : أنهم جهال في الأصول العامة الكلية التي هي مدارك الأحكام. (الثاني) : أنهم لم يرجعوا إلى العلماء ليبينوا لهم ما جهلوا من القواعد الشرعية ومواقع الخطاب. (الثالث) : إنهم أخذوا العلم من مجرد أفهامهم. (الثالث) : عدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله.(1/103)
ولنأخذ أمثلة يتبين من خلالها خلط بعض الكتّاب في هذه الأيام في فهم كلام أهل العلم ممن يعتبرون امتداداً لمن رد عليهم علماء الدعوة سابقاً في تحريفهم لكلام أئمة الدعوة على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية آنفاً :
- المثال الأول -
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في رسالته "نواقض الإسلام"(بشرحها للشيخ صالح الفوزان:155) : "الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قول الله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51]"أ.هـ. ثم تجد أنه يشتهر بين الذين يتكلمون في هذه المسألة ممن ليسوا من العلماء : أن المسلم يخرج من الإسلام بأي نوع من أنواع الإعانة للكفار دون تفصيل ، ليتوصلوا بذلك إلى تكفير الحكام الذين لهم علاقات جائزة أم محرمة مع هؤلاء الكفار بحجة أنهم ارتكبوا ناقضاً من نواقض الإسلام ، وهذا حملٌ فاسد من ثلاثة أوجه :(1/104)
*(الوجه الأول) : أنَّ المظاهرة عند علماء اللغة والشرع هي بمعنى الإعانة والمعاونة لا فرق : فقد جاء في(لسان العرب:8/277) : "(التَّظاهُرُ) : التعاوُن". وقال البغوي(معالم التنزيل:3/459): " { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ } [ القصص:86] ، أي : معيناً لهم على دينهم"أ.هـ. وجاء إطلاق المظاهرة في القرآن الكريم على مظاهرة المسلم على المسلم في قوله تعالى : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } [التحريم:4]. وشيخ الإسلام لمّا ذكر المظاهرة في "النواقض" قرنها بالمعاونة ؛ لأن حكمهما واحدٌ ؛ وهي مراتب منها : ما هو كفر إذا كانت لأجل الدين ، ومنها ما هو فسق وظلم إذا كانت لأجل الدنيا والقرابة ونحوها ، كما قال الطاهر بن عاشور عند تفسير قوله تعالى : { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ } [ القصص:86] (التحرير والتنوير:10/195): "والظهير : المعين ، والمظاهرة : المعاونة ، وهي مراتب أعلاها النصرة ، وأدناها المصانعة والتسامح"أ.هـ. وشيخ الإسلام محمداً ـ رحمه الله ـ أراد بالمظاهرة التي عدّها من نواقض الإسلام هنا ما أراده بها علماء الإسلام ، وهي الموالاة المطلقة التامة التي على الدين ، والتي ذكرناها في القسم الأول من أقسام الموالاة ، والتي يعبر عنها بعض المحققين بالتولي العام ، قال البغوي(معالم التنزيل:3/459) : " { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ } [ القصص:86] ، أي : معيناً لهم على دينهم ، قال مقاتل : وذلك حين دُعي إلى دين آبائه ، فذكر الله نعمه ، ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه"أ.هـ.(1/105)
*(الوجه الثاني) : قد بيّن الشيخ بالمثال أن الموالاة والمظاهرة التي يكفر بها هي مظاهرة المشركين لأجل ظهور شركهم ودينهم الباطل ، أو الاستعانة بهم مع إظهار الموافقة على دينهم الفاسد ، حين قال (الدرر السنية:10/116) : "وتذكرون : أني أكفّرهم بالموالاة ، وحاشا وكلا ; ولكن أقطع : أن كفر من عبد قبة أبي طالب ، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله ، كما قال تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } الآيتين[الممتحنة:8-9]. وأنا أمثل لك مثالاً لعل الله أن ينفعك به ، لعلمي أن الفتنة كبيرة ، وأنهم يحتجون بما تعرفون ، منها : ما ذكروا في الأوراق ، أنهم لم يقصدوا بحربكم رد التوحيد ، وإحياء الشرك ، وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم ، خوف البغي عليهم. فنقول : لو نُقدِّر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلماً عظيماً في أموالهم وبلادهم ، ومع هذا خافوا استيلاءهم على بلادهم ظلماً وعدواناً ، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج ، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم ، إلا أن يقولوا نحن معكم على دينكم ودنياكم ، ودينكم هو الحق ، ودين السلطان هو الباطل ، وتظاهروا بذلك ليلاً ونهاراً ، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج ، ولم يتركوا الإسلام بالفعل ، لكن لما تظاهروا بما ذكرنا ، ومرادهم دفع الظلم عنهم ، هل يشك أحد أنهم مرتدون ، في أكبر ما يكون من الكفر والردة ؟ إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل ، مع علمهم أنه حق ، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب"أ.هـ. فصرّح الشيخ هنا أنه لا يكفر بمطلق الإعانة والاستعانة حتّى تتضمن التصريح بتصحيح دين المشركين والتصريح ببطلان التوحيد.(1/106)
*(الوجه الثالث) : أن علماء الدعوة بينوا منهج الشيخ رحمه الله بما لا يدع مجالاً لغال أو ملبّس ، فتقدم لنا قول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن لمن كفّر بمطلق الموالاة والمظاهرة ، ونسب ذلك لإمام الدعوة(الدرر السنية:1/467) : "أخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب ، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر ، والكفر بآيات الله ورسله ، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر ، كتكفير من عبد الصالحين ، ودعاهم مع الله ، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية"أ.هـ. وبيّن شيخنا صالح بن فوزان الفوزان الذي هو أحد كبار علماء الدعوة المعاصرين معنى كلام إمام الدعوة بأن المظاهرة لا تكون كفراً إلا مع محبة الكفار لدينهم وإظهار الرضا بأفعالهم ، وذلك حين قسّم المظاهرة إلى أقسام ، فقال(شرح نواقض الإسلام:156) : "(القسم الأول) : مظاهرتهم ومعاونتهم على المسلمين مع محبة ما هم عليه من الكفر والشرك والضلال ، فهذا القسم لا شك أنه كفر أكبر مخرج من الملة ... (القسم الثاني) : أن يعاونهم على المسلمين لا مختاراً بل يكرهونه على ذلك بسبب إقامته بينهم ، فهذا عليه وعيد شديد ، ويخشى عليه من الكفر المخرج من الملة... (القسم الثالث) : من يعين الكفار على المسلمين وهو مختار غير مكره مع بغضه لدين الكفار ، وعدم الرضا عنه ، فهذا لا شك أنه فاعل لكبيرة من كبائر الذنوب ، ويخشى عليه من الكفر ، ولولا أنه يبغض دينهم ولا يحبهم لحكم عليه بالكفر ، فهو على خطر شديد"أ.هـ.
- المثال الثاني -(1/107)
قول الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ : عن الفرق بين الموالاة التولي(الدرر السنية:8/422) : "التولي كفر يخرج من الملة ، وهو كالذب عنهم ، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب ، كبل الدواة ، أو بري القلم ، أو التبشش لهم ، لو رفع السوط لهم"أ.هـ. ويستدل القائلون بالتكفير بمطلق إعانة الكفار بهذا النص ليتوصلوا به إلى تكفير من تعامل مع الدول النصرانية في زمننا ، ويتجاهلون موقف الشيخ الصريح في ردَّ ما عليه أسلافهم من هذا المذهب المردي ؛ لأن الشيخ رحمه الله كان من أوضح علماء الدعوة في تبيين أقسام موالاة الكفار لكثرة الغلاة في عصره من المنتسبين لدعوة شيخ الإسلام الإمام محمد ممن لا يفهمون قواعد الشرع ومواقع الخطاب ، وبيان ذلك من أوجه :(1/108)
*(الوجه الأول) : أن الشيخ بيّن بشكل واضح لا لبس فيه قواعد التكفير في باب الولاء والبراء التي صرّح أنها مضلة أفهام ومزلة أقدام ، منها : قوله عند بيان أن الكفر ذو أصل وشعب (الدرر السنية:1/478) : "ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله أو استهان بالمصحف ، وبين من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب ، أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب ، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام ، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك ، فهو مخالف للكتاب والسنة ، خارج عن سبيل سلف الأمة ، داخلٌ في عموم أهل البدع والأهواء". ثم تقريره الصريح أن ما وقع لحاطب - رضي الله عنه - هو من موالاة الكفار بالإعانة والجسٍّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنها ليست من الإعانة المكفرة حين قال (الدرر السنية:1/473) : "فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به ، وتناوله النهي بعمومه ، وله خصوص السبب الدال على إرادته ، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر : أن فعل حاطب نوع موالاة ، وأنه أبلغ إليهم بالمودة ، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل. لكن قوله : (صدقكم ، خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاكٍ ولا مرتاب ، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ، ولو كفر لما قال: (خلوا سبيله). ولا يقال : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره ؛ لأنا نقول : لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه ، فإن الكفر: يهدم ما قبله"أ.هـ.(1/109)
*(الوجه الثاني) : أن الشيخ ـ رحمه الله ـ بيّن هذه القواعد عن طريق الأمثلة الواقعة في عصره : بأن إعانة الكفار بالمال والبدن والرأي والذب عنهم المخرج من الملة هي المرتبطة بإعانتهم والذب عنهم لأجل دينهم ، حين وقف رحمه الله موقف الطود الشامخ لدعاة التكفير وورّاث الخوارج الذين أرادوا نسبة ما قرروه من التكفير بمطلق الموالاة والإعانة لإمام الدعوة ، فمن ذلك قوله لمن كفر مُجالِس ابن فيروز لأنه لم يكفر جدّه الذي ردّ دعوة الشيخ بحجة أنه لم يكفر بالطاغوت ، وكذلك قوله لمن كفر أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين ، بل كفر من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين(الدرر السنية:1/467) : "وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة ، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام ، فأنكرت الخوارج عليه ذلك ، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة ، وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله ، وواليت معاوية وعمراً وتوليتهما ، وقد قال الله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } "أ.هـ.(1/110)
وقول الشيخ(الدرر السنية:1/476): "وقد بلغني : أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ } [محمد:26] على بعض ما يجرى من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين والملوك المشركين ، ولم تنظروا لأول الآية ، وهى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [محمد:25] ، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة ، ولا المراد من الأمر المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة ، وفي قصة صلح الحديبية ، وما طلب المشركون واشترطوه ، وأجابهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم"أ.هـ.
*(الوجه الثالث) : أن علماء الدعوة دفعوا عن الشيخ رحمه الله هذا الفهم الفاسد لمن تعلق ببعض مطلق كلامه لهوى في نفسه كما دافع هو عمّن قبله : كالشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري حين قال(الدرر السنية:9/158) "والمشايخ رحمهم الله كالشيخ سليمان بن عبد الله ، والشيخ عبد اللطيف ، والشيخ حمد بن عتيق ، إذا ذكروا موالاة المشركين فسَّروها بالموافقة والنصرة والمعاونة والرضا بأفعالهم .. هذا هو الذي أوجب كفره ، وأمَّا مجرد الاجتماع معهم في المنزل ، فإن ذلك بدون إظهار الدين معصية ، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:144] : (يعني : معهم في الحقيقة ؛ يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنا معكم) ، فهذا هو الذي أوجب كفرهم لا مجرد المخالطة"أ.هـ.
- (المثال الثالث) -(1/111)
قول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله – (مجموع الفتاوى:1/269) : "وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين ، وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم"أ.هـ. فأخذ بعض الناس تكفير كل من تعاون مع الكفار ، أو دفع لهم مالاً ، أو قاتل معهم عدواً شره أكبر من شرِّ هذا المُقاتل ، ليتوصلوا بذلك كذلك إلى تكفير الحكام المسلمين خصوصاً حكام البلاد السعودية السلفية ، وهؤلاء كأنهم لا يعرفون من كلام الشيخ في باب التعامل مع الكفار إلا هذا النص ، وتناسوا أو تجاهلوا أن الشيخ هو الذي تقلد استنصار الدولة السعودية بالقوات النصرانية على حاكم العراق ، فاستدلوا بنص الشيخ المجمل على تكفير الفعل الذي صرح الشيخ بجوازه ، بل جعله من الواجبات ، مما يدل على أن المسألة عندهم مسألة أهواء وانتصار للباطل ، وبيان هذا من وجهين :(1/112)
*(الوجه الأول) : أن كلام الشيخ كان في سياق بيان حكم كفري لا يشك مسلم بردة فاعله ، حيث سئل الشيخ : ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية ، ويحاربون حكم الإسلام ، وما حكم الذين يساعدونهم في هذا المطلب ، ويذمون من يطالب بحكم الإسلام ويلمزونهم ويفترون عليهم ، وهل يجوز اتخاذ هؤلاء أئمة وخطباء في مساجد المسلمين ؟ فكان من جواب الشيخ قبل هذه العبارة التي جردوها من سياقها : "الذين يدعون إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام كفار ضلال ، أكفر من اليهود والنصارى ؛ لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيباً وإماماً في مسجد من مساجد المسلمين ، ولا تصح الصلاة خلفهم ، وكل من ساعدهم على ضلالهم ، وحسن ما يدعون إليه ، وذم دعاة الإسلام ولمزهم ، فهو كافر ضال ، حكمه حكم الطائفة الملحدة التي سار في ركابها وأيدها في طلبها ، وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم".هـ. فكان الكلام فيمن ساعد من يفضلون حكم الطاغوت ويذمون حكم الله ، وهي موالاة كفرية بلا شك ولا مرية ، لا عن الإعانة والموالاة المحرمة التي يذهب هؤلاء المفتونون إليها.(1/113)
*(الوجه الثاني) : أن الشيخ ابن باز رحمه الله لما استعانت الدولة السعودية بقوات نصرانية وغيرها على قتال حاكم العراق آنذاك ، تقلد هذا العمل ونصره ، في الوقت الذي يستدل هؤلاء المفتونون بكلامه الآنف المجمل على تكفير الدولة السعودية به ، فمما قاله الشيخ في بيان حكم الاستعانة بالكفار : (مجموع فتاوى ومقالات:7/364) : "ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم ، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استعان بالمطعم بن عدي ، أو بعبد الله بن أريقط ، أو بيهود خيبر موالياً لأهل الشرك ، ولا متخذاً لهم بطانة"أ.هـ. وقرر أنه يجوز الاستعانة بكافر على قتال مسلم معتد لا يندفع شرّه إلا بذلك ، فقال (فتاوى ومقالات:6/186) : "أما أن يستعين المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر ، أو مسلم معتد ، أو يخشى عدوانه ، فهذا لا بأس به وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - (استعان بدروع أخذها من صفوان بن أمية استعارها منه) - وكان صفوان كافراً ذلك الوقت- في قتاله لثقيف يوم حنين ، وكانت خزاعة مسلمها وكافرها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتاله لكفار قريش يوم الفتح ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ، ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم) ، فهذا معناه : الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من ورائنا"أ.هـ.(1/114)
بل جعل ذلك من الواجبات حماية للبيضة ، فقال عن استعانة السعودية بالنصارى(فتاوى ومقالات:6/172) : "فهو إجراء مسدد وموفق وجائز شرعاً ، وقد صدر من مجلس هيئة كبار العلماء - وأنا واحد منهم- بيان بتأييد ما اتخذته الحكومة السعودية في ذلك ، وأنها قد أصابت فيما فعلته ؛ عملاً بقوله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } [النساء:71] وقوله سبحانه : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال:60] ، ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً ، بل واجب محتم عند الضرورة إلى ذلك ، لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم ، وصد العدوان عنهم الواقع والمتوقع"أ.هـ.
- (المثال الرابع) -(1/115)
قول ابن حزم (المحلى:11/138) : "صح أن قوله تعالى { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة:51] ، إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط ، وهذا حقٌ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين"أ.هـ. فغرر بعض الكتاب بكثير من شباب المسلمين ليوقعوهم بتكفير من تعامل مع الكفار ، ولو كان فيما دلت عليه السياسة الشرعية التي قررها العلماء من خلال الأدلة الشرعية ، وكان الواجب عليهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن يُفسروا كلام المتكلم بعضه ببعض لئلا يكون ذلك تحريفاً لكلامه عن موضعه وتبديلاً لمقاصده وكذباً عليه ، ولذا فالمتعين حمل مراد ابن حزم هنا على الموالاة المطلقة التامة الدينية المجمع على كفر فاعلها كما تحمل جميع عبارات الأئمة المطلقة الموهمة ؛ لأن ابن حزم الذي نقل هذه الإجماع هو الذي قال(المحلى:11/200): "وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين ، وأطلق أيديهم على قتل من خافه من المسلمين ، أو على أخذ أموالهم أو سبيهم : فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق ، ولا يكون بذلك كافراً لأنه لم يأت شيئاً أوجب به عليه كفراً قرآن أو إجماع"أ.هـ. بل قال ابن حزم (المحلى:12/502) نفسه :"يباح الاستعانة على أهل الحرب بأمثالهم"أ.هـ. وهم قطعاً لا يوافقونه على ما قال هنا ، بل يرون هذا الفعل كفراً مطلقاً احتجاجاً بقوله المطلق ؛ لأنَّه هنا فسر ما يريد به ؛ حين نصّ على أنه لا يرى كفر من استعان بالكفار الحربيين فأطلق أيديهم في قتل المسلمين وأخذ أموالهم وسبى نساءهم إذالم يتضمن ذلك ظهور الكفر حيث كانت يده هي الغالبة ، مما يدل على وجوب حمل ما نقله من الإجماع على الموالاة العامة المطلقة التي فيها إرادة ظهور الكفار ودينهم ، أما مجرد الاستعانة بهم على ظهوره ، فهو من الفسوق والإجرام ، ولو تضمن تمكينهم من قتل المسلمين وسبيهم.(1/116)
- وختاماً : يتبين من هذا كله أن ضابط هذه الموالاة المخرجة عن الدين بأن يتولاهم رضاً بدينهم ، أو يعينهم بأي إعانة محبة لظهور دينهم على المسلمين ، أو يصحح مذهبهم أو يشك في كفرهم : فكلُّ ما أشكل على طالب الحق من أقوال العلماء وغيرها فعليه أن يرجعها إلى الضابط الكلي المتفق عليه عند أهل السنة والجماعة ، وهو أن المخرج من الملة في موالاة الكفار هي الموالاة الدينية التي فيها موافقتهم على دينهم أو الرضا به وبأفعالهم ، ونختم هنا بنقلين يحتج بهما كذلك البعض بمطلق الإعانة والموالاة جهلاً أو تلبيساً :
الأول : عن الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ حين قال(الدرر السنية:8/121): "اعلم ـ رحمك الله ـ أنّ الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفاً منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرّهم ؛ فإنّه كافر مثلهم ، وإن كان يكره دينَهم ويبغضهم ، ويحبّ الإسلام والمسلمين ، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك ، فكيف إذا كان في دار منَعَة واستعدى بهم ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل ، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم ، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين ، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها ، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله ، فإنّ هذا لا يشكّ مسلم أنّه كافر من أشدّ الناس عداوة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يستثنى من ذلك إلا المكرَه ، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له : اكفر أو افعل كذا ، وإلا فعلنا بك وقتلناك ، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم ، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان ، وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً أنه يكفر ، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا"أ.هـ.(1/117)
الثاني : قول الشيخ حمد بن عتيق (سبيل النجاة والفكاك:88) : "المسألة الثالثة : وهي ما يعذر الرجل به على موافقة المشركين ، وإظهار الطاعة لهم ، فاعلم أن إظهار الموافقة للمشركين له ثلاث حالات : الحالة الأولى : أن يوافقهم في الظاهر والباطن ، فينقاد لهم بظاهره ويميل إليهم ويوادهم بباطنه ، فهذا كافر خارج من الإسلام ، سواءٌ أكان مكرهاً على ذلك أو لم يكن ، وهو ممن قال الله فيه : { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1)[النحل:106]. الحالة الثانية : أن يوافقهم ويميل إليهم في الباطن مع مخالفته لهم في الظاهر ، فهذا كافر أيضاً ، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهراً عصم ماله ودمه وهو منافق. الحالة الثالثة : أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن ، وهو على وجهين : أحدهما : أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم مع ضربهم ، أو تقييدهم له ، أو يتهددونه بالقتل ؛ فيقولون له : إما أن توافقنا وتظهر الانقياد لنا ، وإلا قتلناك ، فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان ، كما جرى لعمار حين أنزل الله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيْمَانِ } [النحل:106] ، وكما قال تعالى { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران:28] ، فإن الآيتين متفقتان ، كما نَبَّه على ذلك ابن كثير في تفسير آية آل عمران.(1/118)
الوجه الثاني : أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن ، وهو ليس في سلطانهم ، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال ، أو مشحة بوطن أو عيالٍ ، أو خوف مما يحدث في المآل ، فإنه في هذه الحال يكون مرتداً ولا تنفعه كراهيته لهم في الباطن ، وهو ممن قال الله فيهم : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [النحل:107] ، فأخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل بالحق أو بغضه ، ولا محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظاً من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين ، هذا معنى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وعفا عنه"أ.هـ.(1/119)
- فما أكثر ما يحتج المكفرون لأهل الإسلام وحماة التوحيد الذين غرروا بشبابنا بهذين النقلين عن الشيخ سليمان والشيخ حمد رحمهما الله ، ولو أنصفوا لعلموا أن كلامهما كان صريحاً في موافقة الكفار على دينهم ، كما قال الشيخ سليمان : "وأظهر الموافقة على دينهم الباطل" ، وقوله : "فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا"أ.هـ. وأما الشيخ حمد فيكفي استدلاله بالآيات التي يفهم عوام المسلمين قبل فهمائهم أنها نزلت فيمن نطق بكلمة الكفر وجرت على لسانه كما فعل عمار - رضي الله عنه - . ولذا اضطر الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري أن يبين ذلك كما مرَّ كثيراً ليرسخ في الأذهان حين قال(الدرر السنية:9/158) : "وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم : أن مُجرد مُخالطة الكفار ومعاملتهم بمصالحة ونحوها ، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك ، أنَّها هي موالاة المشركين المنهي عنها في الآيات والأحاديث ، وربَّما فهمتم ذلك من "الدلائل" التِّي صنف الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ ، ومن "سبيل النجاة" للشيخ حمد بن عتيق ... فإنه ـ بحمد الله ـ ظاهر المعنى ، فإن المراد به : موافقة الكفار على كفرهم ، وإظهار مودتهم ، ومعاونتهم على المسلمين ، وتحسين أفعالهم ، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم .. والمشايخ رحمهم الله كالشيخ سليمان بن عبد الله ، والشيخ عبد اللطيف ، والشيخ حمد بن عتيق ، إذا ذكروا موالاة المشركين فسَّروها بالموافقة والنصرة والمعاونة والرضا بأفعالهم ..(1/120)
هذا هو الذي أوجب كفره ، وأمَّا مجرد الاجتماع معهم في المنزل ، فإن ذلك بدون إظهار الدين معصية ، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:144] : (يعني : معهم في الحقيقة : يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنا معكم) ، فهذا هو الذي أوجب كفرهم لا مجرد المخالطة"أ.هـ.
تمت
(تم اختصاره من الأصل في محافظة عنيزه حرسها الله بتأريخ الخامس والعشرين من شهر شوال عام ثمان وعشرين وأربعمائة وألف)
الفهرس العام :
تقديم الشيخ صالح الفوزان ................................................... 2
أولاً : خطورة باب الولاء والبراء ............................................ 3
ثانياً : تعريف الولاء والبراء ................................................... 6
ثالثاً : الأدلة الدالة على وجوب الولاء والبراء ................................... 9
رابعاً : مكانة عقيدة الولاء والبراء ............................................ 10
خامساً : صور من القرآن في الولاء و البراء في العقيدة ..........................13
سادساً : أقسام الناس في الولاء و البراء ........................................14
سابعاً : ضوابط تتضمن رد شبهات في التكفير ................................. 16
الضابط الأول : أقرار الكفار الأصليين أن يبقوا على كفرهم ............... 16
الضابط الثاني : إباحة معاقدة ومعاهدة الكفار ............................ 16
الضابط الثالث : عدم نصرة المسلمين على الكفار لعهد أو لعجز ........... 19
الضابط الرابع : الموالاة الواجبة إذا كان أمر المسلمين متفق على طاعة الله ... 21
الضابط الخامس : البلاد المنتسبة للإسلام مختلفة في أحكام الموالاة .......... 23(1/121)
الضابط السادس : إباحة الحلف مع الكفار و الدخول تحت حمايتهم ......... 24
الضابط السابع : الاستعانة بالكفار لمصلحة المسلمين جائزٌ شرعاً ............ 27
الضابط الثامن : الحرص على حقن دماء الكفار رجاء هدايتهم ............. 32
الضابط التاسع : للمسلم أن يجير كافراً فيكون معصوم الدم ............... 33
الضابط العاشر : تحريم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين ..........33
الضابط الحادي عشر : وجوب العدل مع الكفار .......................... 35
الضابط الثاني عشر : الإحسان إلى بعض الكفار لقرابتهم ................... 36
الضابط الثالث عشر : الإحسان إلى عموم الكفار في مواطن ................ 37
الضابط الرابع عشر : لا يكفر من وجِدَ في قلبه شيءٌ من مودة كافر ........ 38
ثامناً : أسباب الانحراف في فهم عقيدة الولاء والبراء ........................ 40
تاسعاً : أقسام موالاة الكفار وأنها ليست على درجة واحدة ................... 47
عاشراً : ضابط الموالاة المكفّرة ورد شبهات تبين سبب الخلط ................. 57
المثال الأول : احتجاجهم بنقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب........... 57
المثال الثاني : احتجاجهم بنقل عن الشيخ عبدالله بن عبد اللطيف.......... 59
المثال الثالث : احتجاجهم بنقل عن الشيخ عبد العزيز بن باز .............. 61
المثال الرابع : احتجاجهم بنقل عن الحافظ ابن حزم....................... 63
الخاتمة : ..................................................................63
اسئلة يكون حولها اختبار مادة الولاء والبراء
س1: عرف الولاء والبراء في الاصطلاح الشرعي ، وهل هو من أعمال الجوارح أم القلوب ؟ وعلى أيهما يعلق مناط التكفير. (ص:44-47)
س2 : اذكر أقسام الناس الثلاثة في الولاء والبراء ، وأي الأقسام الذي خالف فيه الخوارج والمرجئة أهل السنة والجماعة ؟ مع التوضيح. (ص:86-96)(1/122)
س3: اذكر دليلاً على الضابط الثالث في أن عدم نصرة المسلمين في حربهم مع الكفار لا تنافي الولاء لهم ، مع ذكر مثال على هذه الصورة من السنة.
س4: اذكر دليلاً على الضابط السادس في إباحة الحلف مع الكفار و الدخول تحت حمايتهم لمصلحة الإسلام ، مع ذكر مثال على هذه الصورة من السنة
س5: اذكر دليلاً على الضابط السابع في جواز الاستعانة بالكفار لمصلحة المسلمين ، مع ذكر مثال على هذه الصورة من السنة.
س6: اذكر دليلاً على الضابط الثامن في حرص الإسلام على حقن دماء الكفار رجاء هدايتهم ، مع ذكر مثال على هذه الصورة من السنة.
س7: اذكر دليلاً على الضابط التاسع في إباحة أن يجير المسلم كافراً فيكون معصوم الدم ، مع ذكر مثال على هذه الصورة من السنة.
س8: اذكر دليلاً على الضابط العاشر في تحريم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين ، مع ذكر رأيك في حكم من قتل المعاهدين المستأمنين في المملكة العربية السعودية.
س9: اذكر دليلاً على الضابط الرابع عشر في أنه لا يحكم بخروج المسلم من الإسلام إذا وجِدَ في قلبه شيءٌ من المودة أو الرحمة تجاه أحد الكفار ، مع ذكر مثال على هذه الصورة من السنة.
س10: للانحراف في فهم عقيدة الولاء والبراء سببان اذكرهما ، مع ذكر مثال من الواقع أو دليل من السنة على كل منهما. (ص:241-244)
س11: اذكر أقسام موالاة الكفار الثلاثة ، مع ذكر دليل على كل قسم من القرآن أو السنة وما هو الضابط في الموالاة المكفرة. (ص:268-297)
س12: استدل بعض الجهال بقول شيخ الإسلام في النواقض : "مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين" على التكفير بأي نوع من أنواع الإعانة للكفار ، فبين مراد الشيخ في المظاهرة المخرجة من الإسلام هنا من كلام الشيخ نفسه وكلام علماء الدعوة بعده. (ص:302-307)(1/123)