الفهرس
1. تبيين الحقائق في قضايا مهمة -1- حكم الاختلاط
2. من قراءاتي عن الشيعة ( 3 ) نسبة " نهج البلاغة " لعلي رضي الله عنه .. باطلة
3. إبطال قصة التحكيم الشهيرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما
4. بحث حمد الجاسر الذي زلزل بقايا الصوفية في الحجاز !!
5. قبور ومشاهد مكذوبة ( 2 ) : مسجد ( الحسين ) بمصر ..!
6. اقتراحات .. لقضية ( التخلف العلمي والتقني ) في العالم الإسلامي
7. مصطلحات سياسية ومعانيها
8. نقل التقنية المتطورة إلى الدول الإسلامية ... ( عوائق وحلول )
9. تعقيب على فتوى الشيخ د. القرضاوي حول عمل المرأة المسلمة في النشاط السياسي
10. إذا تيقن أن أمره ونهيه لايفيد .. فهل يأمر وينهى ؟!
11. دكتور في جامعة الملك سعود يردد أكذوبة شيعية !!
12. محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا
13. دليلٌ للدعاء على الكفار بالأسقام والأمراض !!
14. فوائد من ابن عثيمين - رحمه الله - (1) : العقلانيون أتباع إبليس ..!
15. لماذا خلق الله ( إبليس ) ..... ؟!
16. ذكاء عالم ... ( موقف الشيخ أحمد شاكر من دعاة إفساد المرأة بمصر )
17. ( ملف الابتعاث للخارج ) - دراسات وندوات ومقالات -
18. النصيحة الذهبية للشيعة في السعودية وتذكيرهم بفتاوى علماء الدولة التركية
19. قبور ومشاهد مكذوبة ( 3 ) : مسجد ( السيدة زينب ) بمصر
20. تغيير العطلة الأسبوعية في السعودية ... بين الأمير سلطان .. والشثري
21. كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
22. المسلم المقصر .. هل له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؟ ( مبحث لابن حزم رحمه الله )
23. أدونيس وقبره الذي يحلم به
24. الرد الجميل .. ) كتيب نادر للشيخ حمود التويجري رحمه الله ، يرد فيه على الظاهري
25. مذكرات ( همفر ) في الميزان .. وفتوى ظالمة للبوطي
26. كرامات غمارية .. ( الغماري يتصرف في الكون كله ) !!
27. دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - : بين : ابن سند .. و عدنان زهار
28. من ضلالات عبدالله الغماري في تعليقه على التمهيد .. للأستاذ عمر الأحمد
29. بناء المساجد على القبور: ( الحكم - الشبهات - البداية ) .. للدكتور إبراهيم الغصن
30. كتابان مهمان .. لمن أراد النقاش مع دعاة تغريب المرأة
31. سنية انتقال المصلي من المكان الذي صلى فيه الفريضة للنافلة ( بحث مختصر )
32. هل وافق الشوكاني الشيعة في الوصية بالخلافة لعلي - رضي الله عنه - ؟
33. موقف الصنعاني من الصحابة رضي الله عنهم
34. شبهات الطابور السادس والرد عليها ( المجموعة الأولى )
35. قراءةٌ نقديةٌ لبحث سعود السرحان: «الحكمة المصلوبة : مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»
36. عودة علامة العراق محمود شكري الألوسي إلى السنة .. بقلم / تلميذه
37. ( الليبرالية وتقويض سيادة الإسلام ) .. كتاب أهديه للعقلاء والجهلة !!
38. وصف الشيخ أبوعبدالرحمن ابن عقيل للدولة السعودية (مع تعليق واقتراح مهم)
39. دكتورة لبنانية متحررة تكشف آخر أوراق دعاة التغريب!( مهم لكاتبات الصحافة)
40. ( العَلمانيون والقرآن ) : كتابٌ جديدٌ يهم بعض كتاب الصحافة السعودية ..
41. هذه المرة من ( الكويت ) .. جاء التحذير والرد على ( الكوثري )
42. نصيحة الشيخ محمد سرور .. لسعد الحريري ( هل تصل له ؟ )
43. مقال الأستاذ محب الدين الخطيب - رحمه الله - في تعقب الكوثري
44. ماذا قال الشيخ ابن باز - رحمه الله - عن القصيمي الملحد ؟!
45. ذكاء عالم ( 2 ) : موقف الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - من جامعة الدول العربية !
46. رأي الأستاذ محمود شاكر في الأفغاني ومحمد عبده وأحمد أمين ورأي حسين أمين في العقاد
47. (النصيحة الذهبية للأشاعرة المعاصرين ) .. للشيخ عبدالرحمن الوكيل - رحمه الله -
48. تعليقات الشيخ ابن مانع على مقالات وكتب الكوثري
49. شبهات عصرانية مع أجوبتها
50. فوائد شرعية عن ( صخرة القدس ) - تعريفها - بناؤها- حكم تعظيمها ..
51. رأي اثنين من ( المفكرين العرب ) في مشروع " الجابري " .. وبيان طريقته في " المراوغة "
52. ست منظومات في الرد على الصوفي يوسف النبهاني
53. من قراءاتي عن الشيعة ( 1 ) هل كان المؤرخ ابن الأثير شيعيًا ؟!
54. من قراءاتي عن الشيعة ( 2 ) ابن القيم والخلفاء الراشدون(1/1)
تبيين الحقائق في قضايا مهمة -1-
حكم الاختلاط
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
تعد مسألة (الاختلاط) من المسائل التي تأتي على رأس أولويات التيار التغريبي المنافق في بلاد المسلمين؛ لأنها تسهل له مهمته القائمة على سلخ المجتمع المسلم من دينه وأخلاقه، وجعله مجرد تابع ذليل للغرب يشكلونه كيفما شاؤا ويغرقونه من خلال هذا (الاختلاط) في الشهوات المحرمة التي تزيد من تقييده وتبعيته وانصرافه عن عوالي الأمور.
وهذا الطابور الخامس من أذناب الغرب لدينا قد حقق شيئاً مما يريد في مجتمعات إسلامية كثيرة بعد معارك وصراعات مع أهل الإسلام، ولا زال –أركسه الله- يطمع بالمزيد(1).
وله في سبيل تحقيق هذا الأمر شبهات يُلبس بها على عوام المسلمين؛ لكي يستسيغوا مثل هذا الأمر، ومن ذلك مثلاً:
1-قولهم: بأن الإسلام لم يمنع اختلاط الجنسين!! بل كانوا يختلطون في المساجد والأسواق ومجالس العلم وساحات الجهاد ومجالس التشاور في أمور المسلمين!!.
2-أو قولهم: بأن الإسلام يهدف إلى تطهير العلاقات بين الجنسين عبر التربية لا عن طريق سد الذرائع والحجز بين الجنسين أو حبس النساء في البيوت ... الخ هذيانهم !
3-أو قولهم: بأن خروج المرأة للعمل ومخالطتها للأجانب هو مما تمليه ضرورات التطور!
إلى أمثال هذه الشبهات التي لا تروج –بحمد الله- إلا على الجهلة ومرضى القلوب بالشهوة.
ولكن مع هذا لابد من دمغها وإبطالها، لكي تستبين سبيل المجرمين، ويتنبه الغافل من المسلمين إلى ما يكيده الأعداء له ولمحارمه وعرضه.
وبين يديك –أخي القارئ- مبحث مؤصل وموثق بالأدلة الشرعية في حكم (الاختلاط) بين الجنسين، مع نقض شبهات الداعين إليه؛ خطه يراع الدكتور الفاضل مفرح القوسي –وفقه الله- ضمن رسالة "الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية"(2).
ثم يعقبه عدة رسائل لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في نفس الموضوع.(2/1)
نسأل الله أن ينفع به، ويُبصر به المسلمين بما يكيده الأعداء لهم.
تابع الموضوع على ملف وورد
------------------------------
(1) لمعرفة جهودهم الخبيثة الماكرة للوصول إلى هذا الأمر في مصر: يمكن الرجوع إلى كتاب "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن إسماعيل، وكتاب "إهابة" للكاتبة عزيزة عباس عصفور –رحمها الله-. أما في بلاد الشام فتراجع مطوية "هكذا بدأ الاختلاط" للشيخ علي الطنطاوي –رحمه الله-، إصدار دار القاسم. أما في الكويت فتراجع رسالة "معركة الاختلاط" للدكتور محمد جواد رضا.
(2) طبع دار الفضيلة بالرياض، الطبعة الأولى، 1423هـ. ومبحث الاختلاط يبدأ من ص 330 وينتهي بنهاية ص 374.(2/2)
من قراءاتي عن الشيعة ( 3 ) نسبة " نهج البلاغة " لعلي رضي الله عنه .. باطلة
قال محمد العربي التباني في كتابه " تحذير العبقري من محاضرات الخضري " في بيان كذب الشيعة على علي رضي الله عنه عندما نسبوا له ( كل ) ما في كتاب " نهج البلاغة " الشهير :
نسبة نهج البلاغة لعلي – رضي الله عنه - دعوى باطلة بعشرة أوجه
الأول : عدم نقد العلماء الذين جاؤوا من بعد الشريف المرتضى إلى عصرنا لنهج لا يكون حجة على صحة نسبته لحيدرة رضي الله تعالى عنه عند العقلاء.
الثاني : عدم نقدهم له مفرع عن اطلاعهم كلهم عليه في هذه القرون العديدة وإقرارهم نسبته لعلي رضي الله تعالى عنه ، واطلاعهم كلهم عليه في هذه القرون العديدة وإقرارهم له مستحيل عادة وإن جاز عقلا.
الثالث: اتفاقهم كلهم على صحة نسبته لحيدرة على فرض اطلاعهم عليه ليس بحجة أيضًا ؛ لأنه بلا أسانيد توصل مؤلفه بحيدرة.
الرابع: الخوارج والرافضة والمعتزلة أبعد أهل الإسلام عن الرواية وأجهلهم بها وأعداهم لها ولحملتها، فالخوارج والرافضة لتضييقهم دين الإسلام وحصره فيهم ؛ بتكفير الخوارج لجل الصحابة ما عدا الشيخين وجماعة قليلة والأمة الإسلامية كلها ، والرافضة للصحابة كلهم ما عدا علياً وأولاده والأمة الإسلامية كلها ، والمعتزلة لجعلهم العقل أصلاً والنقل فرعاً تابعاً مؤكداً له، لذلك يزدرون أهل السنة والجماعة ويلقبونهم بالحشوية وعليه :
فالخامس : الشريف المرتضى ليس من أهل الرواية ؛ لأنه رافضي إمامي معتزلي بين وفاته ووفاة علي بن أبي طالب أربعمائة سنة إلا أربعاً.
السادس: على تقدير أنه من أهلها ؛ بينه وبين حيدرة على أقل تقدير سبع طبقات من الرواة وقد حذفهم وقطع كتابه منهم :
وكل مالم يتصل بحال إسناده منقطع الأوصال
فمجرد قوله فيه (من خطبة له عليه السلام ..من كلام له عليه السلام) لا يدل على مطلق نسبته لحيدرة ، ولو نسبة ضعيفة عند أهل الرواية ، فضلاً عن كونها صحيحة.(3/1)
السابع: لو فرض أن لكل ما يتعلق فيه بسبب الصحابة والتعريض بهم سنداً متصلاً بحيدرة لوجب البحث فيه عن أحوال رجاله واحداً واحداً على طريق فن الرواية.
الثامن: إذا قطع النظر عن هذه الأوجه يكفي في بطلانه أمران ظاهران : النيل من أعراض سادات الصحابة ( الخلفاء الراشدين ) تصريحاً وتعريضاً ، والسجع المتكلف الظاهر التوليد الذي تنبو عنه فصاحة الصحابة والهاشميين، ولقد كان من واجب محمد عبده ( المعتني بطبع الكتاب ) عند المتغالين فيه في كل فن وخاصة في اللغة والكتابة ألا يخفى عليه هذا السجع المصطنع الذي يجزم كل من له إلمام بالعربية بأنه بعيد من فصاحة الصحابة السليقية . ولأجله جزم الصفدي والأدباء العصريون الذين عبر عنهم الأستاذ محمد محيي الدين بصيغة الإبهام بأنه من وضع الشريف المرتضى في قوله : " ولكن بعض المعروفين من أدباء عصرنا يميلون إلى أن بعض ما في الكتاب من خطب ورسائل لم يصدر عن غير الشريف المرتضى جامع الكتاب " . وجل الكتاب خطب ورسائل فليست بعضاً كما قال.(3/2)
التاسع: ليس السب تصريحاً وتلويحاً وتعريضاً والهمز واللمز من أخلاق عامة المؤمنين فضلاً عن ساداتهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فضلاً عن سادات الصحابة مثل حيدرة رضي الله تعالى عنه ، فصدور ما في نهج البلاغة من ذلك عنه مستحيل ؛ لأنه منابذ لما وصفه الله به مع جميع الصحابة في كتابه العزيز من الأخلاق العالية، وقد ثبت عنه رضي الله عنه في التاريخ القطعي والظني احترامه لجميع الصحابة وخصوصاً الشيخين، وقد نقلت منه شيئاً كثيراً فيما مضى عن أئمة الرواية ؛ منه قوله : من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد الفرية ، وتفضيلهما مع عثمان على نفسه في خطبة خطبها حضرها جم غفير من المسلمين ، ثبت ذلك عنه من طرق كثيرة عن ابنه محمد بن الحنفية وغيره يجزم من تتبعها بصدور ذلك عنه. قال الحافظ الذهبي : وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسي مملكته وبين الجم الغفير من شيعته .. ثم بسط الأسانيد الصحيحة في ذلك قال ويقال رواه عن علي نيف وثمانون نفساً وعدّد منهم جماعة، والرافضة وأشباههم لما لم يمكنهم إنكار صدور هذا القول منه لظهوره منه بحيث لا ينكره إلا جاهل بالآثار أو مباهت قالوا : إنما قال علي ذلك تقية !! وما أحسن ما أبطل به الباقر هذه التقية المشؤومة لما سئل عن الشيخين فقال : إني أتولاهما ، فقيل له : إنهم يزعمون أن ذلك تقية ؟ فقال : إنما يخُاف الأحياء ولا يخاف الأموات ، فعل الله بهشام بن عبدالملك كذا وكذا ، أخرجه الدارقطني وغيره ،وهشام إذ ذاك خليفة ، فلم يخف منه ، وبعد هذا : فكل مسلم أحكم عقيدته في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالاطلاع على شمائلهم الكريمة الواردة في القرآن الكريم المستفيضة في كتب السنة يجزم بأن أكثر ما في نهج البلاغة أباطيل موضوعة على أمير المؤمنين رضي الله عنه ، هو برئ منها .(3/3)
العاشر: قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال : "علي بن الحسين العلوي الحسيني المتوفى 426 الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، وفيه التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفَس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن أكثره باطل " اهـ، وأيده الحافظ ابن حجر في لسانه ). انتهى كلام محمد التباني .
قلت : وللزيادة انظر كتاب الشيخ مشهور سلمان – وفقه الله – ( كتب حذر منها العلماء ) ( 1/250..)(3/4)
إبطال قصة التحكيم الشهيرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما
قصة تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية – رضي الله عن الجميع – مشهورة ذائعة في كتب الإخباريين وأهل الأدب ، وفيها ما فيها من لمز الصحابة رضي الله عنهم بما ليس من أخلاقهم . وقد فند هذه القصة الباطلة : ابن العربي في العواصم ، والدكتور يحيى اليحيى في " مرويات أبي مخنف " . وقد وجدتُ الشيخ محمد العربي التباني قد أجاد في إبطالها في رده على الخضري المؤرخ ؛ فأحببتُ نشر رده باختصار ليطلع عليه القراء ، وينتشر بينهم ؛ لاسيما وهو في كتاب شبه مفقود .
قال الشيخ التباني :
لا صحة لما اشتهر في التاريخ من خديعة
عمرو بن العاص لأبي موسى في قضية التحكيم
( قال – أي الخضري - في ص 72 : ( فتقدم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع عليه رأيي ورأي عمرو وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر ؛ فيولوا منهم من أحبوا عليهم وأني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رآيتموه لهذا الأمر أهلاً ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن هذا قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه ، فتنابزا، ويروي المسعودي أنهما لم يحصل منهما خطبة وإنما كتبا صحيفة فيها خلع علي ومعاوية وأن المسلمين يولون عليهم من أحبوا ، وهذا القول أقرب في نظرنا إلى المعقول وإن لهج كثير من المؤرخين بذكر الأول اهـ ) .(4/1)
أقول: هذه الأسطورة الموضوعة في خديعة عمرو لأبي موسى في التحكيم شبيهة بالأسطورة الموضوعة على علي وابن عباس والمغيرة بن شعبة في إشارة هذا على أمير المؤمنين بإبقاء عمال عثمان ، فإن المقصود من وضعها الطعن في حيدرة ببعده عن الدهاء والسياسة وتبريز المغيرة وابن عباس فيهما عليه ، وقد تقدم إبطالها ، والمقصود من هذه إظهار بلاهة حكمه وتبريز حكم معاوية عليه فيهما.
فهذه الأسطورة باطلة بثمانية أوجه.
الأول: رواها أبو مخنف المتفق أئمة الرواية على أنه أخباري هالك ليس بثقة.
الثاني: الطعن في أبي موسى بأنه مغفل طعن في النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل.
الثالث: الطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في الفاروق الذي ولاه أميراً على البصرة وقائداً على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب في وصيته لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين وهو مغفل ، فأقره عثمان عليها قليلاً ثم عزله عنها فانتقل إلى الكوفة وسكنها وتفقه به أهلها كما تفقه بها أهل البصرة وقرأوا عليه. ثم ولاه عثمان على الكوفة بطلب أهلها ذلك لما طردوا عاملهم سعيد بن العاص . قال الشعبي : انتهى العلم إلى ستة فذكره فيهم، وقال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت، وقال الحسن البصري فيه : ما أتاها –يعني البصرة- راكب خير لأهلها منه، فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام ورجاله مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل ؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم.(4/2)
الرابع: ذكر ابن جرير في فاتحة هذه الأسطورة أن عمراً قال لأبي موسى ألست تعلم أن معاوية وآله أولياء عثمان ؟ قال : بلى، قال : فإن الله عز وجل قال ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ) وكلاماً كثيراً بعده في استحقاق معاوية للخلافة ، فأجابه أبو موسى عن جله جواباً شافياً ولم يجبه عن احتجاجه بالآية، وكأنه سلمه، والاحتجاج بها على خلافة معاوية فاسد من أوجه كثيرة لا حاجة لذكرها كلها ؛ منها أنه تعالى قال ( فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ) فأي إسراف ونصر حصلا له في جيش أمير المؤمنين وقد قتل من جيشه الطالب بدم عثمان البريء منه خمسة وأربعون ألفاً على أقل تقدير، ومن جيش حيدرة خمسة وعشرون ألفاً ؟ وأي إسراف ونصر حصلا له وقد أشرف على الهزيمة الكبرى ولولا المصاحف لهلك جل جيشه ؟ وجهل فادح ممن يحتج بها على ذلك ،فمحال صدوره من عمرو وهو من علماء الصحابة ومحال تسليمه ولو صدر منه من أبي موسى الأعلم منه.
الخامس: ما نقصت هذه الخديعة لو صحت مما كان لأمير المؤمنين عند أتباعه شيئاً وما أفادت معاوية شيئاً جديداً زائداً عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلاناً داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها ، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به ، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا العبث.(4/3)
السادس: لو صحت هذه الأسطورة لم يلزم منها غفلة أبي موسى ودهاء عمرو ، بل تدل على مدح أبي موسى بالصدق والوفاء بالوعد والعهد وهي من صفات الأخيار من بني آدم فضلاً عن المؤمنين فضلاً عن الصحابة ، ووصم عمرو بالخيانة والكذب والغدر وهي من صفات الأشرار من بني آدم ، وكان العرب في جاهليتهم ينفرون منها أشد النفور ولا قيمة لمن اتصف بواحدة منها عندهم ، وقد ذم ورهب دين الإسلام مرتكبيها، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه وينادى على رؤوس الخلائق هذه غدرة فلان فلان".
السابع: لا يخلو قول عمرو فيما زعموا عليه ( وأثبت صاحبي معاوية ) من أمرين: الأول ثبته في الخلافة كما كان أولاً ، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت ، وهو باطل قطعاً ؛فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبته حَكمه فيها بعده ، ولم يدعها هو لا قبله ولا بعده ، ولم ينازع حيدرة فيها.
الثاني ثبته على إمارة الشام كما كان قبل ، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية ، وهو تحصيل الحاصل ، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل ؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئاً جديداً لم يكن له من قبل ؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟(4/4)
الثامن: قال القاضي أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم: قد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله ، وإذا لحظتموه بعين المروءة دون الديانة رأيتم أنها سخافة حمل على تسطيرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين، ثم قال : وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أن أبا موسى كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعضُ الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات ، وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى ، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر، ثم ذكر الأسطورة باختصار ثم قال : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك ؛ فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع .. ثم ذكر أن الذي رواه الأئمة الثقات الأثبات كخليفة بن خياط والدارقطني أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر عزل عمرو معاوية اهـ ملخصاً ) .
( تحذير العبقري من محاضرات الخضري ، 2 / 86-91 ) .(4/5)
بحث حمد الجاسر الذي زلزل بقايا الصوفية في الحجاز !!
ألقى الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - " علامة الجزيرة في التاريخ " محاضرة في (جامعة أم القرى) بمكة بعد مغرب ليلة الأربعاء 13 جمادى الآخرة سنة 1402هـ ، ثم نشرها كبحث في مجلة العرب ( س 17 ج 3-4) ؛ أحدث هزة وربكة بين أساطين التصوف في الحجاز بسبب نسفه - تاريخيًا - لكثير من خرافاتهم التي يوردونها كحقائق ليُضلوا بها البسطاء ؛ ولذا فقد حاولوا الرد عليه والتهويش ، متناسين شهادة الجميع له بالتفرد والتفوق على أبناء عصره في هذا المجال التاريخي .
وقبل أن أنشر أهم ماجاء في بحثه ؛ لابد من ذكر 3 تنبيهات :
الأول : أن الصوفية في الحجاز شرذمة قليلة حاولت خداع الناس بأنها تمثل أبناء تلك المنطقة ! مستغلة الأحداث السياسية المعروفة في بداية تشكيل المملكة . وهذا أمر مجانب للحقيقة ؛ إذ أن أهل الحجاز - وفقهم الله - هم من أهل السنة - ولله الحمد - ؛ كما يشهد بذلك تاريخهم وعلماؤهم الذين حاول دهاة التصوف إخفاء صوتهم . ومن أراد معرفة هذه الحقيقة المغيبة فليرجع إلى رسالة ( جهود بعض علماء البلد الحرام في تقرير العقيدة السلفية في القرن الرابع عشر الهجري ) للأستاذ عبدالمحسن الحربي . وأبشر الإخوة بطلائع حجازية قادمة تعيد الحق إلى نصابه ، وتسهم في كشف الحقيقة ؛ كما رأينا في رد الشريف حاتم العوني على مي يماني وغيرها من الصوفية ، وكما في ردود الشيخ الموفق سمير مالكي على قريبه محمد علوي مالكي .. وآخرين غيرهم ؛ زادهم الله توفيقًا .(5/1)
الثاني : قد لايعرف كثيرون أن زناد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قد انقدح من الحجاز ، وأن شيوخه الحجازيين ( كابن سيف ومحمد حياة السندي المدني ومحمد البرهاني وغيرهم ) هم أول من لفت نظره إلى أهمية التوحيد ، وأيدوه على دعوته إليه . ( انظر : عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية .. للشيخ صالح العبود، 1/150-169) . وأن أبرز وأكثر من عارضه هم شيوخ نجد ! . فمايسمى بالدعوة ( الوهابية ) حجازية المنشأ ؛ لا كما يحاول الصوفية ترويجه ؛ بغية صد الناس عن الحق .
الثالث : قد يقال : ألا نكتفي بالنصوص وأقوال العلماء الشرعيين في الرد على هؤلاء الصوفية ؟ فأقول : يكفي هذا مع طلاب الحق ، أما الممارون المجادلون كالمتصوفة ؛ فلا يكفيهم أن تورد عليهم الأدلة الشرعية وأقوال العلماء ؛ لأنهم سيتخلصون منها بحيل كثيرة ؛ إما بصرف المعنى ، أو بتعدد الأفهام ، أو .. الخ . أما الرد التاريخي الذي ينسف خرافاتهم من أساسها فلن يستطيعوا له دفعًا ولا تحويلا . والله الموفق .
الآثار الإسلامية في مكة المشرفة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الآثار –أيها الإخوة- في هذه البلدة المشرفة نوعان:
1 - مشاعر العبادة المقدسة، في مكة ومِنَى ومزدلفة وعرفات، ومواقيت الحج المكانية، وقد تكفل الله بصيانتها وحفظها، لارتباطها بما تعبّد عباده بالقيام به من أنواع العبادة.
2 - ونوع آخر من الآثار، له ارتباط بحياة من عاش على تراب هذه البلدة الطاهر، كالمساجد والموالد والقبور والأمكنة، وهذا ما سأحاول حصر الحديث حوله، متوخياً الإيجاز ، مشيراً إلى أمرٍ هام وثيق الصلة به، بل هو أساس يقوم عليه هذا الحديث عن هذا النوع من الآثار :(5/2)
هو أن سلفنا الصالح في القرون الثلاثة المفضلة الأولى ما كانوا يهتمون بالمحافظة على آثارهم، ولا يعتنون بتحديد مواقعها أو أزمانها، بل كانوا في كثير من الأحيان عندما يخشون المبالغة في تعظيمها يسعون لإزالتها، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رأى الناس ينتابون بالزيارة شجرة الرضوان، التي بايع المسلمون المصطفى –عليه الصلاة والسلام- تحتها، وأنزل الله في تلك البيعة قوله عز وجل: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فأمر الفاروق رضي الله عنه بقطعها.
وقد أوفى المحققون من العلماء هذا الأمر إيضاحاً وتحقيقاً، وتحسن الإشارة أيضاً إلى أن لتساهل العلماء في رواية ما يتعلق بفضائل المواضع أثراً كبيراً في حدوث كثير من الآثار، كما أن التنافس بين أهل المدن في بعض الأحيان زاد تلك الفضائل كثرة وشهرة، بوسائل مختلفة.
ولا أريد التوسع في الحديث عن هذا، وحسب القارئ أن يستعرض جوانب منه في تشابه كثير من الآثار في المدينتين الكريمتين، ككثرة المساجد المنسوبة إلى بعض المتقدمين، ونسبة كثير من القبور لبعض المشاهير في مقبرتي المعلاة والبقيع، بل حتى في الآبار، كبئر زمزم –مثلاً-.
الموالد في مكة المكرمة :
لعل أشهر هذه المواضع وأقدمها المكان الذي يرى كثير من متقدمي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد فيه، الواقع في شعب بني هاشم بقرب سوق الليل، وهو مكان لا يزال معروفاً، مع كثرة ما طرأ عليه من التغيير، غير أن نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم محل شك لدى كثير من العلماء.(5/3)
ولعل القائلين بصحة تلك النسبة اعتمدوا على القرائن في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أهل مكة –لا شك في ذلك- وبنوهاشم عشيرته الأقربون كان ربعهم معروفاً في الشِّعب الذي عُرف بهم، ثم بأبي طالب أحدهم، والدار التي يقع فيها المولد كانت في ذاك الشعب، وكانت للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر استولى عليها ابن عمه عقيل بن أبي طالب كما في الحديث الشريف: "وهل ترك لنا عقيل من دار"؟ من هنا قال بعض العلماء ومنهم ابن القيم في كتاب: "زاد المعاد": (لا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم وُلد بجوف مكة).
غير أن ممن تقدم ابن القيم من العلماء من ذكر الخلاف في ذلك، فقد نقل مؤرخ مكة تقي الدين الحسني الفاسي في "شفاء الغرام" وفي مقدمة "العقد الثمين" أن مُغُلطاي العالم الحنفي المصري (689/762) وهو من حفَّاظ الحديث ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد بعُسفان.
ولمغلطاي مؤلف في السيرة في مكتبة الحرم المكي هو كتاب "الإشارة إلى سيرة المصطفى، وتاريخ من بعده من الخلفاء"(1)ورد فيه: (وُلد صلى الله عليه وسلم بمكة، في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ويقال: بالشِّعب، ويقال بالرَّدم، ويقال: بعُسفان).
وعلى القول بأنه –عليه الصلاة والسلام- وُلد في مكة، فهناك اختلاف بين العلماء في تحديد الموضع الذي وُلد فيه، فقد ذكر محمد بن محمد بن سيد الناس (734-671هـ) في كتاب "عيون الأثر في سيرة سيد البشر" ما نصه: (وولد في الدار التي تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل: إنه ولد في شعب بني هاشم) كذا أورد الخبر بصيغة: (قيل) . وقال الإمام السهيلي (581-508) في كتاب "الروض الأنف": (وولد بالشِّعب، وقيل: بالدار التي عند الصفا، وكانت بعد لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدًا، حين حجَّت).(5/4)
وأورد تقي الدين الفاسي هذا القول واستغربه فقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم، بسوق الليل وهو مشهور، وذكر السهيلي في خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ما يُستغرب) ثم أورده وأضاف: (وأغرب منه ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم، ولد في الردم، ردم بني جمح).
ويقصد الردم الذي ردم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 17 لصيانة المسجد الشريف من دخول السيل، موقعه في أعلى المُدَّعا الموضع الذي ذكر بعض العلماء أن المحرم يقف فيه للدعاء، إذ منه كانت تشاهد الكعبة المطهرة.
وهذا الاختلاف في الموضع الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على القول بأن الجزم بأنه الموضع المعروف عند عامة الناس باسم المولد لا يقوم على أساس تاريخي صحيح، وهذا أمر أوضحه الشيخ عبدالله العياشي (1090-1037هـ) في رحلته فقال ما نصه: ( وقد عُلم من كتب السير ما وقع من الاختلاف في مولده صلى الله عليه وسلم هل هو بمكة أو بالأبواء، وعلى أنه بمكة فقيل بالشِّعب وقيل المحصَّب إلى غير ذلك من الأقوال .
ولا أدري من أين أخذ الناس تعيين هذا المحل بالخصوص، اللهم إلا أن يثبت أن تلك دار والده أو جده صلى الله عليه وسلم فيترجح القول بأنه في مكة في قضية عادية، وهي أن ولادة الإنسان في الغالب في منزل والده، وإن أُريد بالشِّعب شِعب أبي طالب الذي انحاز إليه مع بني هاشم وبني المطلب في قضية الصحيفة، فلا يبعد ذلك؛ لأن هذه الدار قريبة من الشعب من أسفله.
والعجب أنهم عيّنوا محلاً من الدار مقدار مضجع، وقالوا له: موضع ولادته صلى الله عليه وسلم !! ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف، لما تقدم من الخلاف في كونه في مكة أو غيرها، وعلى القول بأنه فيها ففي أي شعابها ؟! وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟! وعلى القول بتعيين الدار يبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار، بعد مرور الأزمان والأعصار، وانقطاع الآثار.(5/5)
والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام فقد عُلم من حال الصحابة وتابعيهم ضَعفُ اعتنائهم بالتقييد، بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي، لصرفهم اعتناءهم رضي الله عنهم لما هو أهم : من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام، من مساجده عليه السلام، ومواضع غزواته، ومدافن كثير من أصحابه، مع وقوع ذلك في المشاهد الجليلة، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟! لا سيما مالا يكاد يحضره أحد إلا من وقع له، كمولد علي ، ومولد عمر، ومولد فاطمة –رضي الله عنهم جميعهم- فهذه أماكن مشهورة عند أهل مكة، فيقولون: هذا مولد فلان، هذا مولد فلان، وفي ذلك من البعد أبعد من تعيين مولده صلى الله عليه وسلم، لوقوع كثير من الآيات ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ، فقد يتنّبه بعض الناس لذلك بسبب ما ظهر من الآيات، وإن كانوا أهل جاهلية، وأما مولد غيره ممن ولد في ذلك العصر فتكاد العادة أن تقطع بعدم معرفته، إلا أن يرد خير عن صاحب الواقعة بتنبهه أو أحد من أهل بيته ) . انتهى كلام العياشي ، وهو شامل لجميع الموالد المنسوبة لمن عاش في عهد المصطفى –عليه الصلاة والسلام- فلا داعي للحديث عنها.
المساجد:
وفي مكة مساجد، كانت تُقصد للزيارة، منها: مسجد بأعلى مكة عند الردم - المدَّعا - يدعى مسجد الراية، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وركز رايته حين فتح مكة بقربه.
ومسجد عند المُدَّعا –أيضاً- على يمين الهابط إلى مكة ويسار الصاعد منها، ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى فيه المغرب.
ومسجد المختبا في سوق الليل بقرب ما يُزعم بأنه المولد ، يقال بأن النبيصلى الله عليه وسلمكان يختبئ فيه من الكفار.(5/6)
ومسجد بأسفل مكة بقرب بركة الماجن، ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ،ومسجد الجن، ويسمى مسجد البيعة، ومسجد الحرس، ومسجد الإجابة في شعب بقرب ثنية أذاخر.
وهناك مساجد أخرى، وكلها وردت منسوبة له صلى الله عليه وسلم أو لأحد من أصحابه في أخبار لا تثبت أمام النقد، من حيث صحة نسبتها إلى من نسبت إليه.
وكذا المساجد المذكورة في منى، باستثناء مسجد الخيف، وهذا لا ينافي قدم تاريخ إنشاء تلك المساجد، واعتبارها من الأماكن القديمة ، فيدرس تاريخها على هذا الأساس، ويهتم بها بصفتها أماكن للعبادة.
أماكن أثرية :
ومن أشهر المواضع الأثرية جبلا حِراء وثور –من جبال أم القرى- ففي غار الأول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد، وفيه نزل عليه الوحي.
وفي غار الثاني اختبأ هو وأبو بكر حين هاجرا من مكة، وفيه نزل قوله تعالى: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) .
ومن أشهر المواضع الأثرية قرب مكة وادي حُنين (يدعان) أعلى وادي الشرائع ، الذي حدثت فيه الوقعة المذكورة في القرآن الكريم: ( ويوم حنين إذ أجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ) الآية. وتحسن الإشارة إلى التفريق بين موضعي حُنينٍ وأوطاس، حيث وقع من بعض المؤرخين ما يُفهم منه اعتبارهما موضعاً واحداً، مع تغايرهما ، فأوطاس يقع شرق سلسلة جبال الحجاز، أقرب المواضع المأهولة منه عُشيرة، يقع غرب وادي العقيق، على مقربة من البركة شمالها بميل نحو الغرب .
القبور:
لا شك أن مقبرة المعلاة في مكة المشرفة حوت من رفات الأجسام الطاهرة من المؤمنين ما لم تحوه مقبرة من حيث الفضل، باستثناء مقبرة البقيع.(5/7)
وقد ألف الفيروز آبادي صاحب "القاموس المحيط" رسالة دعاها: "إثارة الحَجون، لزيارة الحَجون" ذكر الصحابة المدفونين في تلك المقبرة، ونظم هذه الرسالة علي بن أبي بكر الصايغ، أحد علماء مكة في صفر سنة 1287 بأرجوزة سماها: "اللؤلؤ المكنون، في ذكر أسماء أهل الحجون" وذكر أن عدد الصحابة المدفونين في مقبرة الحجون ثمانية وثلاثون رجلاً وسبع نسوة، سرد جميع أسمائهم نقلاً عن رسالة الفيروز آبادي، التي تضمنت تراجم أولئك.
ولكن مما تجب ملاحظته:
1- الاختلاف في موقع الحجون الوارد في كتب المتقدمين، فقد ذكر الفاسي أن الحجون جبل على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى منى على ما ذكر الأزرقي والفاكهي، وهما أقدم مؤرخي مكة ممن وصلت إلينا مؤلفاتهم(2).
وإذن فهو مخالف لما عليه الناس من أن الحجون الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة المعلاة.
وأضاف الفاسي: ولعل الحجون على مقتضى كلام الأزرقي والفاكهي والخزاعي هو الجبل الذي يقال: فيه قبر ابن عمر رضي الله عنهما أو الجبل المقابل له، الذي بينهما الشعب المعروف بشعب العفاريت انتهى.
ويرى مؤرخ مكة في عصرنا الأستاذ الشيخ أحمد السباعي أن ثنية الحجون تقع في الجبل المتصل بشعب عامر، وأن إطلاق اسم الحجون على ما هو معروف عند الناس الآن حدث بعد الإسلام(3).
2- ليس كل من مات في مكة قبر في مقبرة الحجون كما يُفهم من رسالة صاحب "القاموس" إذ لمكة عند ظهور الإسلام مقابر غير مقبرة الحجون التي هي مقبرة المعلاة ؛ منها: المقبرة العليا بين المعابدة وثنية الحرمانية –ثنية أذاخر- وكان يدفن فيها في الجاهلية وصدر الإسلام.
ومنها: مقبرة المهاجرين، بالحصحاص، بين فخّ والزاهر (الشهداء).
ومنها: مقبرة الشبيكة، وكانت تعرف بمقبرة الأحلاف، بينما تعرف مقبرة المعلاة بمقبرة المطيبين.
لهذا لا يمكن الجزم بأن من توفي في مكة مقبور بمقبرة المعلاة (الحجون)(5/8)
3- نص المتقدمون من مؤرخي مكة على عدم معرفة قبر أحدٍ من الصحابة إلا قبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في سرف.
قال الفاسي: ولا أعلم في مكة، ولا فيما قرب منها قبر أحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى قبر ميمونة، لأن الخلف يأثره عن السلف، وقال ابن ظهيرة في "الجامع اللطيف": عن مقبرة المعلاة: لما حوته من سادات الصحابة والتابعين، وكبار العلماء والصالحين، وإن لم يعرف قبر أحد من الصحابة تحقيقاً الآن. انتهى
وفي عصرنا –بل قبله بنحو ستة قرون- عُرف قبر أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها ، معرفة قائمة على أساس من الجهل، إن صحَّ أن للجهل أساساً، فشُيِّدت قبة عظيمة تحمل ذلك الاسم الطاهر، ثم أقيم بجوار تلك القبة في أول القرن الحادي عشر قُبَّتان تحمل إحداهما اسم (عبد المطلب) وتعرف الأخرى باسم قبة (أبي طالب) !!
وارتباط هذه الأسماء الثلاثة بحياة المصطفى عليه الصلاة والسلام أضفى عليها هالة من الإجلال، حتى اعتقد كثير من الجهال صحة وجود قبر خديجة وقبر عبدالمطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي طالب عمه، وهو اعتقاد خاطيء كما أشرت إلى ذلك في كلمة لي بعنوان: (خرافة قبة اليهودية) (4) قلت فيها: ( من الأمور التي لا حقيقة لها ما يصبح بمرور الزمان ذا تاريخ تتناقله الأجيال، حتى يُعد بطول الزمن وبتناقل ذكره بين الناس من الأمور الثابتة التي لا يسوغ إنكارها.(5/9)
فقبر أم المؤمنين خديجة –رضي الله عنها- كان مجهولاً لدى مؤرخي مكة حتى القرن الثامن الهجري ، أي طيلة سبعة قرون بل تزيد، ثم أصبح معروفاً محدد المكان، في القرون الخمسة الماضية حتى يومنا هذا، بعد أن رأى أحد العارفين في المنام(5) كأن نوراً ينبعث من شُعبة النور، في مقبرة المعلاة، ولما علم أمير مكة في ذلك العهد بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قبة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازماً ذلك الأمير أن ذلك المكان ما هو سوى قبر خديجة رضي الله عنها(6) !!!
ويورد المرجاني في كتاب "بهجة النفوس والأسرار" الخبر باختصار ويعقب عليه: (ولا كان ينبغي تعيينه على الأمر المجهول).
ويدور الزمان فيصبح المكان وما حوله مقبرة للعظماء من أهل مكة ! ؛ فيقبر فيه في القرن الحادي عشر في سنة 1010هـ عبد المطلب بن حسن بن أبي نُمي، ثم في سنة 1012هـ يموت أحد أمراء مكة ممن عرف بالظلم والجبروت، وهو أبو طالب بن حسن بن أبي نمي، وتُبنى فوقه قبة تعرف بقبة أبي طالب، بجوار قبة خديجة الخرافية وقبة عبدالمطلب، ويدور الزمان فيُجهل أمر صاحبي القبة، فتنشأ خرافة قبة عبدالمطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي مات في زمن الفترة، وقبة أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، الذي مات مشركاً بنص القرآن الكريم.(5/10)
ويُدون التاريخ تلك الخرافات الثلاث باعتبارها حقائق تاريخية، وتتناقلها الأجيال إلى يومنا هذا، بل تزداد رسوخاً وقوة حين تصدى عالم جليل من علماء العصر(7) بكتابة سفر نفيس دعاه "في منزل الوحي" إذ تطغى عاطفة التدين على ذلك العالم حين يشاهد مقبرة مكة (المعلاة) فتنتابه الذكريات عمن ضمَّت من أجساد عظماء الأمة خلال الثلاثة عشر قرناً وما فوقها من السنين، وتنطلي عليه خرافة قبر عبدالمطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام، وقبر أبي طالب عمه، وقبر أم المؤمنين خديجة زوجه، فيتقبل القول على عِلاَّته، ويريح نفسه من عناء البحث والتحقيق، فيجري يراعه السيال بكتابة الصفحات التي يعدد فيها أمجاد السادة الذين ضم تراب تلك المقبرة رفاتهم !!
ويخص بالذكر منهم أولئك الثلاثة، وينحي باللائمة على من أزال تلك القباب الخرافية !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن الباحثين ممن جاؤوا بعد ذلك العالم اتخذوا كتابه مصدراً يُعتمد عليه في آثار مكة وأخبارها، بحيث أن إحدى المجلات(8) الدينية تقوم بنشر كُتيب عن الحج في كل عام منذ بضع سنوات، وتعدد فيه آثار قبور المعلاة الثلاثة القبور الخرافية !
وقل أن كتب عن هذه البلدة الكريمة أحدٌ من غير العارفين من أهلها فلم ينظر إلى هذه الآثار ونحوها نظرة الواثق بصحة ما يقال عنها، لِمُلامستها للعواطف.
أما مثقفو هذه البلاد، وأولوا الرأي فيها ؛ فهم يدركون أنها لا سند لها من التاريخ ، وأن ما يروى عنها غير صحيح(9).
حمد الجاسر
------------------------
الهوامش :
1- رقمها (87) سيرة) في 67 ورقة. مخطوطة سنة 810 مصححة ومقابلة على الأصل المقرؤ على المؤلف تنتهي بخبر قتل المستعصم سنة 656 من قبل التتار.
ولمغلطاي كتاب آخر مطول في السيرة هو "الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم" منه مخطوطة في مكتبة (ليدن) في (هولندا) رقمها في فهرس المخطوطات الشرقية (370).
2- انظر مجلة "العرب" س 16 ص 237.(5/11)
3- محاضرة ألقاها سنة 1388هـ في نادي الوحدة الرياضي بمكة بعنوان: (عبدالله بن الزبير صاحب فكرة في تاريخ مكة) "العرب" س 2 ص 865.
4- " العرب" س 10 ص 278.
5- انظر كتاب "البحر العميق في العمرة والحج إلى بيت الله العتيق" لمحمد بن أحمد بن الضياء القرشي المكي الحنفي ج 1 الورقة (20) مخطوطة مكتبة الحرم المكي. رقم (40) فقه حنفي فقد أشار إلى هذا الخبر، وأورده مفصلاً أحد مؤرخي مكة المتأخرين.
6- ذكر كثير من المؤرخين المتأخرين أن خديجة –رضي الله عنها- قبرت بمقبرة المعلاة، وذكر التجيبي في رحلته أنه شاهد (سنة 696هـ) في طرف مقبرة المعلاة شعباً ذكر أن فيه قبر خديجة وقال: (وليس لها بالشعب المذكور قبر ظاهر، ولكنهم يقولون إنها به والله أعلم) انتهى. ولهذا فإن المحققين من المؤرخين نصوا على أنه لا يعرف في مكة من قبور الصحابة سوى قبر أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، في سرف خارج مكة بقرب التنعيم، وقبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في ثنية أذاخر مما يلي باب المعلى (رحلة التجبي ص339) والله أعلم.
7- هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا –رحمه الله-.
8- هي مجلة "الوعي الإسلامي" التي تصدر في الكويت.
9- "منزل الوحي" ص 204 و 205.(5/12)
قبور ومشاهد مكذوبة ( 2 ) : مسجد ( الحسين ) بمصر ..!
ابتدأ الشيخ عبدالله زقيل - حفظه الله - قبل مدة بسلسلة علمية مهمة بعنوان " قبور ومشاهد مكذوبة " أراد منها التنبيه على بطلان ثبوت كثير من القبور والمشاهد التي يتعلق بها " القبوريون " ، ويستغلونها لترسيخ لشركياتهم وبدعهم في بلاد المسلمين ، واستغلال عواطف السذج والعوام بنهب أموالهم بهذه الأباطيل .
وقد تحدث الشيخ في الحلقة الأولى عن القبر المنسوب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، الموجود في " النجف " ؛ وبين بطلان ثبوته بالأدلة العلمية والتاريخية . والبحث موجود في صفحته بموقع " صيد الفوائد " .
http://saaid.net/Doat/Zugail/270.htm
وقد أحببتُ المساهمة مع أخي عبدالله في هذه السلسلة النافعة المباركة - إن شاء الله - من خلال نقل علمي رصين للدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني - حفظه الله - من رسالته " مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية " بين فيه بطلان المشهد الشهير الموجود في مصر ؛ والمسمى بـ ( مسجد الحسين ) ! ؛ وأثبتَ - بالأدلة العلمية والتاريخية - أنه مجرد أكذوبة رافضية من أيام الدولة العبيدية ؛ ثم صدقها الجهال والمغفلون من المنتسبين لأهل السنة . وقد سبقه إلى هذا العلماء المحققون ؛ وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في رسالته عن " رأس الحسين " - رضي الله عنه - ؛ ولكن الدكتور أجاد في عرض المسألة وتلخيصها .
يقول الدكتور الشيباني : ( إن منشأ الاختلاف في موضع رأس الحسين رضي الله عنه عند عامة الناس إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين –التي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي- وكلها تدعي وجود رأس الحسين!
ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في ادعاء وجود الرأس عندها.
وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة كربلاء.(6/1)
لقد ثبت أن رأس الحسين حمل إلى ابن زياد، فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فقام إليه أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال: "لقد كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم". ( البخاري ) .
ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافاً بيّناً بشأن رأس الحسين رضي الله عنه.
ولكن بعد دراسة الروايات التي ذكرت أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية وجدتُ أن الروايات على النحو التالي:
- هناك روايات ذكرت أن الرأس أرسل إلى يزيد بن معاوية، وأخذ يزيد ينكت بالقضيب في فم الحسين، الأمر الذي حدا بأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن ينكر على يزيد فعلته.
ولكن هذه الرواية التي ذكرت وصول الرأس وتعامل يزيد معه بهذا النحو، ضعيفة . ( الطبراني وغيره بأسانيد منقطعة أو ضعيفة ) .
ولعل هذه الأسانيد هي التي اعتمد عليها شيخ الإسلام في إنكاره أن يكون الرأس قد وصل إلى يزيد أصلاً.
وكان استدلال شيخ الإسلام على ضعف هذه الرواية "بأن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق".
ونحن نشارك شيخ الإسلام ابن تيمية في نقده لمتن هذه الرواية؛ بل ونضيف أمراً آخر يدل على فساد متن هذه الرواية ؛ وهو أنه مخالف لتلك الروايات الصحيحة التي بيّنت حسن معاملة يزيد لآل الحسين وتألمه وبكائه على قتل الحسين رضي الله عنه.
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ورأس الحسين إنما حمل إلى ابن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب كما ثبت في الصحيح".
"وأما حمله إلى عند يزيد فباطل، وإسناده منقطع".
وكان اعتماد شيخ الإسلام على نفس الرواية وعدم ثبوت سندها هو اطلاعه –كما يبدو- على رواية حصين بن عبد الرحمن السلمي التي قال فيها حصين فحدثني مولى ليزيد بن معاوية قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد رأيته يبكي ويقول: "ويلي على ابن مرجانة فعل الله به، أما والله لو كانت بينه وبينه رحم ما فعل هذا".(6/2)
وهذه الرواية ذكرها البلاذري؛ والطبري، والجوزقاني.
وهذه الرواية إذا نظرنا إلى متنها نجد أنها متوافقة مع ما ثبت عن حسن تعامل يزيد مع أبناء الحسين، ومع ما أبداه يزيد من الحسرة والندامة على قتل الحسين.
وأما إسناد هذه الرواية فإن الرجل المبهم فيها هو الذي جعل شيخ الإسلام ينكر صحتها ويقول "في إسناده مجهول".
ولكن هناك رواية حسنة الإسناد في أنساب الأشراف، تفيد بأن ابن زياد قد حمل الرأس إلى يزيد بن معاوية.
ثم إن هناك رواية أخرى ذكرها الطبراني على الرغم من ضعفها إلا أنها تزيد رواية البلاذري قوة، إضافة إلى الروايات الحديثية والتاريخية الأخرى التي ذكرت حمل الرأس إلى يزيد.
وبإعادة النظر في الرواية التي ذكرها البلاذري والطبري والجوزقاني –رواية حصين- نجد أن الرجل المبهم يذكره البلاذري على أنه مولى يزيد بن معاوية.
وفي رواية الطبري والجوزقاني ذكر أنه مولى معاوية بن أبي سفيان، وهذا الاختلاف في نسبة ولائه بين معاوية وبين يزيد بن معاوية لا يضر، وهو الأمر الذي جعلني أميل إلى أنه القاسم بن عبدالرحمن الدمشقي مولى يزيد بن معاوية، وهو صدوق.
والدليل على ذلك أن أبا مخنف روى نفس الرواية مع قليل من الاختلاف، فقال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن القاسم بن عبدالرحمن مولى يزيد بن معاوية قال: لما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد –رأس الحسين وأصحابه- قال:
نفلق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أما والله يا حسين لو كنت صاحبك لما قتلتك".
وهذه الرواية تتفق مع الروايات الصحيحة في نظرة يزيد لمقتل الحسين وتألمه لما حدث له.
الأمر الذي يجعل من البعيد جداً أن يكون أبو مخنف قد حرّف الرواية أو زاد فيها شيئاً من عنده.(6/3)
فإذا ثبت أن المولى هو القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي فعندئذ تكون رواية الطبري والبلاذري والجوزقاني حسنة، ثم إذا أضفنا لها الروايات السابقة تجعلنا نؤكد أن الرأس قد حمل إلى يزيد، ولعل هذه الروايات هي التي جعلت ابن كثير يغيّر رأيه أخيراً بشأن رأس الحسين، فبعد أن كان يميل إلى رأي شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية عندما قال والصحيح "إنه –أي ابن زياد- لم يبعث برأس الحسين إلى الشام". قال في مكان آخر: "وقد اختلف العلماء في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا، على قولين الأظهر منها أنه سيّره إليه، فقد ورد في ذلك أثار كثيرة والله أعلم" وهو ما ذهب إليه أيضاً الذهبي.
====================
وبعد أن ترجح لدينا الآن أن ابن زياد قد بعث برأس الحسين إلى يزيد وأن الرأس وصل إلى دمشق فإنا سنواجه باختلاف كبير حول المكان الذي قبر فيه رأس الحسين رضي الله عنه .
فالأماكن التي ذكر أن رأس الحسين مقبور بها ستة مدن ؛هي:
1- دمشق 2- الرقة 3- عسقلان 4- القاهرة 5- كربلاء 6- المدينة.
ولكي نصل إلى تحديد دقيق بشأن مكان رأس الحسين، فإنا سنعرض إلى كل هذه المدن التي ذكر بأن الرأس موجود بها، ثم نناقش الروايات التي ذكرت ذلك ومن ثم نحدد مكان الرأس بعد النقد والتمحيص لهذه الروايات.
أولاً: دمشق :
ذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ ( بدون سند ! ): أن يزيد أمر بغسل الرأس وجعله في حرير وضرب عليه خيمة ووكل به خمسين رجلاً" .
وقال ابن كثير: "وذكر ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبدالرحمن، عن محمد بن عمر بن صالح –وهما ضعيفان- أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي، فأخذ من خزانته وكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق.
قلت: ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس".
وقد ذكر النعيمي: من مساجد دمشق: "مسجد الرأس ويقال بأن فيه رأس الحسين رضي الله عنه ".(6/4)
وأما ابن عساكر فقد ساق بإسناده عن ريا حاضنة يزيد بن معاوية:" أن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث فجيء به فبقي عظماً فطيبه وكفّنه، فلما وصلت المسودة ( أي العباسيين ) سألوا عن موضع الرأس ونبشوه، فالله أعلم ما صُنع به".
قال الذهبي معقباً على هذه القصة: "وهي قوية الإسناد".
ويبدو أن الذهبي لم يتراجع عن تقويته لإسناد هذه القصة كما نقله عنه تلميذه ابن أبيك الصفدي. ( شرح رسالة ابن زيدون ، ص 205).
ولكن عند النظر في إسناد هذه القصة نجد أن ابن عساكر قد جاء بهذه القصة أثناء ترجمة "ريا" حاضنة يزيد، واعتمد في إسناده على طريق واحد فقط وهو: أحمد بن محمد بن حمزة الحضرمي، عن أبيه، عن جده، عن أبي حمزة ابن يزيد الحضرمي .
وسند ابن عساكر هذا سند ضعيف، ولا أعلم على أي شيء اعتمد الذهبي في تقويته لهذا السند؟! مع أنه سوف يضعف كما سنرى الراوي، فالراوي أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي البتلهي: ضعيف.
قال ابن حبان عن والده محمد بن يحيى : ثقة في نفسه، ويتقى حديثه ما روى عنه أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأخوه عبيد فإنهما يدخلان عليه كل شيء.
وهذه القصة من رواية ابنه أحمد، فهو مما يتقى ويترك.
وقال عنه الذهبي: له مناكير، وقال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر ثم إن جد أبيه بن يزيد الحضرمي لم أعثر له ترجمة.
هذا من جهة السند، وأما بالنسبة للمتن، فإن هذه الرواية يبدو فيها الكذب واضحاً، وفي سياقها نكاره ظاهرة حيث مخالفتها للروايات الصحيحة التي تؤكد حسن معاملة يزيد لأبناء وأسرة الحسين.
ثم إن في المتن نزعة رافضية واضحة حيث ورد في الرواية "ولقد جاء رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له –أي يزيد- لقد أمكنك الله من عدو الله وابن عدو أبيك، فاقتل هذا الغلام أي علي بن الحسين ... فاقطع أصل هذا البيت.. "(6/5)
وأخيراً فإن راوية القصة (ريا ) هذه ذكرها ابن عساكر ولم يذكر فيها جرحاً ولا تعديلاً، وتكون بذلك مجهولة. وبهذا تكون رواية ابن عساكر التي قواها الذهبي رواية ساقطة لا يعتمد عليها بأي حال من الأحوال، وقد أورد الذهبي بإسناده عن أبي كريب قال: كنت فيمن توثب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطاً وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي، وخرجت من باب توما، قال: ففتحه، فإذا فيه رأس مكتوب عليها، هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت فيه بسيفي، فدفنته؟ . وهي رواية ضعيفة جداً، وفي سند هذه الحكاية من لم أعثر لهم على ترجمة، وقد علق المحقق على هذه الحكاية بقوله: "لا يصح فيه من لا يعرف".
ومن ناحية أخرى ما هي فائدة يزيد من احتفاظه برأس الحسين وجعله في خزائن سلاحه ؟!
ثانياً: كربلاء :
لم يقل أحد بأن الرأس في كربلاء إلا الإمامية، فإنهم يقولون: بأن الرأس أعيد إلى كربلاء بعد أربعين يوماً من القتل، ودفن بجانب جسد الحسين رضي الله عنه، وهو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة فيه زيارة الأربعين .
ويكفي أن هذا القول إنما تفرد به الإمامية (الرافضة ) هم أكذب الخلق على الإطلاق، ومن نظر في كتبهم عرف هذه الحقيقة ، وقد أنكر أبو نعيم (الفضل بن دكين ) على من زعم أنه يعرف قبر الحسين رضي الله عنه .
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفى أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه .
ثالثاً: الرقة :
لقد انفرد سبط ابن الجوزي بإيراد خبر يذكر أن الرأس قبر بالرقة وقال: إن الرأس بمسجد الرقة على الفرات، وأنه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: "لأبعثن إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان" وكانوا بالرقة ، فدفنوه في بعض دورهم ، ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سور هناك.(6/6)
وهذا خبر مستبعد ؛ فالرواية ليست مسندة، ولا نعلم أي مصدر اعتمد عليه سبط ابن الجوزي حينما نقل هذا الرأي، ثم إن سبط ابن الجوزي متأخر جداً عن الحدث (ت 654هـ ) ، ثم إضافة إلى ما سبق فإن الخبر فيه نكارة واضحة لمخالفته النصوص الصحيحة التي ثبت فيها حسن معاملة يزيد لأسرة الحسين وتحسرّه وندمه على قتله، ثم إن سبط ابن الجوزي هذا على علو قدره ومكانته قال عنه الذهبي "ورأيت له مصنفاً يدل على تشيعه".
رابعاً: عسقلان :
قال الشبلنجي: "ذهبت طائفة إلى أن يزيد أمر أن يُطاف بالرأس في البلاد فطيف به حتى انتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها". ( نور الأبصار ، ص 121).
ولعل الشبلنجي هو الوحيد الذي قدّم تفسيراً عن كيفية وصول الرأس إلى عسقلان، وأما غيره فقد ذكروا بدون مسببات أن الرأس في عسقلان فقط.
وتعتبر رواية الشبلنجي رواية منكرة، بعيدة عن التصور، فكيف بالواقع المحتم في تلك الفترة بالذات؟!
فهي بالإضافة إلى مخالفتها للروايات الصحيحة التي تفيد أن يزيد تعامل مع أسرة الحسين تعاملاً حسناً، فإن الرواية تعطي تصوراً بعيداً جداً عن واقع المسلمين في ذلك الحين.
فكيف يُعقل أن يُقدم يزيد على هذا العمل من أن يطوف برأس الحسين رضي الله عنه في بلاد المسلمين، والمسلمون لا يتأثرون من هذا الصنيع برأس الحسين رضي الله عنه ؟
ثم أي غرض لهم في دفنه بعسقلان، وكانت إذ ذاك ثغراً يقيم بها المرابطون؟ فإن كان قصدهم تعفيه أثره، فعسقلان تُظهره لكثرة من ينتابها للرباط، وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يُقصد هذا ممن يقول: إنه عدو له –أي يزيد- مستحل لدمه، ساع في قتله".
وهكذا فقد ثبت من الجهة النظرية والعملية استبعاد بل استحالة دفن الرأس بعسقلان.
ولقد أنكر جمع من المحققين هذا الخبر فقال القرطبي: "وما ذكر أنه في عسقلان فشيء باطل".
وأنكر شيخ الإسلام ابن تيمية وجود الرأس بعسقلان، وتابعه على ذلك ابن كثير.
خامساً: القاهرة :(6/7)
يبدو أن اللعبة التي قام بها العبيديون (الفاطميون ) قد انطلت على الكثير من الناس.
فبعد أن عزم الصليبيون الاستيلاء على عسقلان سنة تسع وأربعين وخمسمائة ( 549هـ ) ، خرج الوزير الفاطمي طلائع بن زريك هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف، وكان ذلك في يوم الأحد الثامن من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة .
وقد ذكر الفارقي أن الخليفة الفاطمي نفسه قد خرج وحمل الرأس، وذكر الشبلنجي أن الوزير طلائع افتدى الرأس من الإفرنج، ونجح في ذلك بعد تغلبهم على عسقلان وافتداه بمال جزيل.
ولقد حاول بعض المؤرخين أن يؤكدوا على أن الرأس قد نقل فعلاً من عسقلان إلى مصر، وأن المشهد الحسيني في مصر إنما هو حقيقة مبني على رأس الحسين رضي الله عنه .
والعجيب أن القلقشندي استدل على صحة وجود الرأس بمصر بالحادثة التالية : أن القاضي محب الدين بن عبد الظاهر ذكر في كتابه خطط القاهرة، أن السلطان صلاح الدين الأيوبي حين استولى على قصر الفاطميين أمسك خادماً من خدام القصر، وعذبه بأن حلق رأسه وكفى عليه طاساً، وجعل فيه خنافس فأقام ثلاثة أيام لم يتأثر بذلك، فدعاه السلطان وسأله عن شأنه، هل معه طلسم وقاه ذلك فقال: لا أعلم شيئاً، غير أني حملت رأس الحسين على رأسي حين أتي به إلى المشهد، فخلى سبيله وأحسن إليه"!!
وأما الصوفية فيرون أن رأس الحسين هو بالمشهد القاهري، ويذكرون سمجاً من الخرافة، حيث يرون أن القطب يزوره كل يوم بالمشهد القاهري!
وأما أحد المتأخرين وهو حسين محمد يوسف، فقد أثبت أن الرأس الموجود في المشهد الحسيني هو حقيقة رأس الحسين وخطّأ من يقول بغير ذلك؛(6/8)
وكان الاستدلال الذي جاء به هو : تلك المنامات والكشوفات التي تجلت لبعض المجاذيب (الصوفية ) التي جاء في بعضها أن الرأس هو في الحقيقة رأس الحسين !!
ثم أورد تأييداً لهذا القول باستحداث قاعدة قال فيها "إن الرأس يوجد في القاهرة وذلك بسبب الشك الذي تعارض مع اليقين"، واليقين (هم أصحاب الكشف ) !!
وكما يبدو فإن الوطنية لعبت دوراً كبيراً في هذا التأكيد على أن رأس الحسين موجودة في القاهرة . ( انظر : التحفة اللطيفة ،للسخاوي ، 1/513) .
وهكذا فإن الاستدلال على وجود الرأس في القاهرة كان مبنياً ومستندًا على أن الرأس كان في عسقلان، وقد أثبتنا قبل قليل بطلان وجود الرأس بعسقلان، وبالتالي يكون الرأس الذي حُمل إلى القاهرة، والمشهد المعروف اليوم والمقام عليه المسمى بالمشهد الحسيني كله كذب، وليس له أي علاقة برأس الحسين رضي الله عنه .
وإذا ثبت أن الرأس الذي كان مدفوناً بعسقلان ليس في الحقيقة رأس الحسين، فإذاً متى ادّعي أن رأس الحسين بعسقلان وإلى من يعود ذلك الرأس؟
يقول النويري: إن رجلاً رأى في منامه وهو بعسقلان أن رأس الحسين في مكان بها، عُيّن له في منامه، فنبش ذلك الموضع، وذلك في أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالي، فابتنى له بدر الجمالي مشهداً بعسقلان. ( نهاية الأرب ،20/478) .
وقام الأفضل بعد ذلك بإخراجه وعطّره ووضعه في مكان آخر من عسقلان وابتنى عليه مشهداً كبيراً.
ولعلك تعجب من إسراع العبيديين الرافضة لإقامة المشهد على هذا الرأس، لمجرد رؤية رجل فقط؟ ولكن إذا عرفت تاريخ العبيديين فإن الأمر لا يُستغرب .(6/9)
فإحساسهم بأن الناس لا يصدقون نسبتهم إلى الحسين، جعلهم يلجؤون إلى تغطية هذا الجانب باستحداث وجود رأس الحسين بعسقلان، ويُظهرون من الاهتمام به وبناء المشهد عليه والإنفاق على ترميمه وتحسينه من الأموال الشيء الكثير ؛ حتى يصدقهم الناس، ويقولون: إنه لو لم يكن لهم نسب فيه لما اهتموا به إلى هذا الحد .
ثم إن هناك بعداً سياسياً آخر باستحداث وادعاء وجود رأس الحسين بعسقلان دون غيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، وهو محاولة مجابهة الدول السنية التي قامت في بلاد الشام، ومن المعروف أن حكومة المستنصر بالله العبيدي قد صادفت قيام دولة السلاجقة السنية التي تمكن قائدها طغرلبك السلجوقي من دخول بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
وأيضاً فإن العبيديين يَرْمُون من استحداث قبر الحسين بعسقلان حماية مصر بوضع أقصى خط لها في شمالها، ثم يكون قبر الحسين محفزاً لجنودهم للقتال والدفاع عنه، وذلك إذا انحسر نفوذهم من بلاد الشام وخاصة إذا تعرضوا لهجوم شامل من دولة السلاجقة السنية البالغة القوة في ذلك الحين.
ولما أن غزى الصليبيون بلاد الشام، واستطاعوا اكتساح الدويلات السنية، وسيطروا على فلسطين، واستولوا على القدس خشي العبيديون من استيلاء الصليبيين على عسقلان، فأرادوا أن يجعلوا من القاهرة المكان المناسب لهذا الرأس، وحتى يبدوا أمام الناس بأنهم حريصون على رأس جدّهم مما يدفع الشبهة عنهم أكثر فأكثر.
ومما يدل على أن استحداث وجود الرأس بعسقلان ونقله إلى مصر ما هو إلا خطة عبيدية ؛ أنه لم يرد أن رأس الحسين وجد في عسقلان في أي كتاب قبل ولاية المستنصر الفاطمي. وهذا مما يعزز كذب العبيديين، وتحقيق أغراض خاصة لهم بذلك.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا الرأس المزعوم في مصر ليس في الأصل سوى رأس راهب.(6/10)
وأنكر عمر بن أبي المعالي أن يكون رأس الحسين قد وجد بعسقلان أو مصر وذلك "لأنه لم يوجد في تاريخ من التواريخ أنه –أي الرأس- نقل إلى عسقلان أو إلى مصر، ويقوي ذلك أن الشام ومصر لم يكن فيهما شيعة علوية يُنقل إليهم ...". ( نهاية الأرب للنويري ، 20/481) .
وقد نقل ابن دحية في كتابه "العلم المشهور" الإجماع على كذب وجود الرأس بعسقلان أو بمصر، ونقل الإجماع أيضاً على كذب المشهد الحسيني الموجود في القاهرة وذكر أنه من وضع العبيديين، وأنه لأغراض فاسدة وضعوا ذلك المشهد .
وقد أنكر وجود الرأس في مصر كل من: ابن دقيق العبد، وأبو محمد بن خلف الدمياطي، وأبو محمد بن القسطلاني، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهم.
وقال ابن كثير "وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا مصر قبل سنة أربعمائة إلى سنة ستين وخمسمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية، ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر، الذي يقال له تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة .
وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء في دولتهم، قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاءوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم".(6/11)
وقد كانت هذه المشاهد هي الطريق الموصلة إلى الشرك بالله ؛ ولذا قال شيخ الإسلام: "وما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، ومن فعل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم، وذلك يوجد في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم وأكثر شركاً وبدعاً، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من المساجد ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها إن صلوا إلا أفذاذاً، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد ؛ حتى يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتاباً سماه (مناسك حج المشاهد ) وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطوائف، وإن كان في غيرهم أيضاً نوع من الشرك والكذب والبدع؛ لكنه فيهم أكثر..." .
وبالفعل، فإن الذي يرى أولئك الناس الذين يطوفون بقبر رأس الحسين المزعوم في القاهرة، والذين يرجونه من دون الله ويستغيثون به من دون الله يعلم إلى أي حد بلغ الشرك في ديار المسلمين، ويعلم أيضاً إلى أي حد بلغ تقاعس العلماء عن تبيين الحق وتوضيحه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية "وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيده، ولكم سيد وسيده ، لنا السيد المسيح والسيدة مريم، ولكم السيد الحسين والسيدة نفيسه".
سادساً: المدينة المنورة :
ذكر ابن سعد : أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البلاذري: حدثنا عمر بن شبه، حدثني أبو بكر عيسى بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه قال: إن الرأس بعث به يزيد إلى عمرو بن سعيد والي المدينة .(6/12)
وهذه الرواية عن واحد من أهل البيت، ولا شك أن أحفاد الحسين هم أعلم الناس برأس الحسين رضي الله عنه، وبذلك يكون كلامهم مقدماً على كلام غيرهم بشأن وجود الرأس.
ثم بالنظر إلى حسن تعامل يزيد مع آل الحسين وندمه على قتل الحسين رضي الله عنه يكون من المتمات لما أبداه يزيد تجاه آل الحسين هو احترام رأس أبيهم، فبإرسال رأس الحسين إلى والي المدينة وأمره بأن يدفن بجانب قبر أمه يكون يزيد قد أدى ما يتوجب عليه حيال رأس الحسين وحيال آل الحسين، بل وحيال أقارب الحسين في المدينة وكبار الصحابة والتابعين.
"ثم إن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتل الرجل منهم –لم يكن منهم- سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه". كما أننا لا نجد انتقاداً واحداً انْتُقِد فيه يزيد سواء من آل البيت أو من الصحابة أو من التابعين فيما يتعلق بتعامله مع الرأس، فظني أن يزيد لو أنه تعامل مع الرأس كما تزعم بعض الروايات من الطوفان به بين المدن والتشهير برأسه، لتصرف الصحابة والتابعين تصرفاً آخراً على أثر هذا الفعل، ولما رفض كبارهم الخروج عليه يوم الحرة ولرأيناهم ينضمون مع ابن الزبير المعارض الرئيس ليزيد . ويؤيد هذا الرأي قول الحافظ أبو يعلى الهمداني: "إن الرأس قبر عند أمه فاطمة رضي الله عنها وهو أصح ما قيل في ذلك".
وهو ما ذهب إليه علماء النسب مثل: الزبير بن بكار ومحمد بن الحسن المخزومي.
وذكر عمر بن أبي المعالي أسعد بن عمار في كتابه "الفاصل بين الصدق، والمَيْن في مقر رأس الحسين" أن جمعا من العلماء الثقات كابن أبي الدنيا، وأبي المؤيد الخوارزمي، وأبي الفرج بن الجوزي قد أكدوا أن الرأس مقبور في البقيع بالمدينة " .(6/13)
وتابعهم على ذلك القرطبي . وقال الزرقاني: قال ابن دحية : ولا يصح غيره. وشيخ الإسلام يميل إلى أن الرأس قد بعث به إلى واليه على المدينة عمرو بن سعيد وطلب منه أن يقبره بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها، والذي جعل شيخ الإسلام يرى ذلك هو : "أن الذي ذكر أن الرأس نقل إلى المدينة هم من العلماء والمؤرخين الذين يعتمد عليهم مثل الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي صاحب الطبقات، ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والإطلاع، وهم أعلم بهذا الباب، وأصدق فيما ينقلونه من المجاهيل والكذابين، وبعض أهل التاريخ الذين لا يوثق بعلمهم، وقد يكون الرجل صادقاً، ولكن لا خبرة له بالأسانيد، حتى يميز بين المقبول والمردود، أو يكون سيء الحفظ أو متهماً بالكذب أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الأخباريين والمؤرخين".
وبذلك يكون رأس الحسين مقبوراً بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها، وهو الموافق لما ثبت في الروايات من حسن تعامل يزيد مع آل الحسين، ثم هو الأقرب إلى الواقع الذي يملي على يزيد إرساله إلى المدينة ليقبر بجانب أمه رضي الله عنهما ) اهـ .
( مواقف المعارضة ، ص 306-325 بتصرف يسير وتهذيب ؛ مع ملاحظة حذف الهوامش إلا مالابد منه ؛ ومن أراد المزيد فليرجع لأصل الرسالة ) .(6/14)
اقتراحات .. لقضية ( التخلف العلمي والتقني ) في العالم الإسلامي
هذه مقتطفات مهمة من رسالة الدكتور زغلول النجار – حفظه الله – " قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر " عالج فيها أسباب هذا التخلف العلمي والتقني الذي تمر به أمة الإسلام ؛ مما أدى بها إلى النكوص عن ركب الأمم المتقدمة ( دنيويًا ) ، وهذا بدوره أدى وقوعها في مرحلة الاستضعاف من أعدائها الذين تسلطوا عليها بسبب هذا الضعف ، وحاصروها من جوانب عديدة . ثم ذكر – سلمه الله – بعض المقترحات التي رآها نافعة في انتشال الأمة من هذه الوهدة الحضارية .
يقول الدكتور : ( يمر المسلمون اليوم بفترة من أقسى فترات التحدي الحضاري في تاريخهم الطويل، ويبلغ هذا التحدي مداه في مجال العلوم والتقنية حيث تخلفت الدول الإسلامية تخلفاً ملحوظاً، بينها تقدمت المعارف في هذين المجالين تقدماً مذهلاً خلال القرن الحالي بصفة عامة، وفي النصف الأخير منه بصفة خاصة، مما ميز عصرنا بأنه عصر الصواريخ ورحلات الفضاء، وعصر الذرة والطاقة النووية، وعصر الإلكترونات والحواسيب الإلكترونية، أو بصفة أعم عصر العلوم والتقنية، وهذه مجالات لم تدخلها معظم الدول الإسلامية بعد، أو دخلتها بجهود فردية محدودة لا تكاد تساير تقدم العصر في ذلك، مما تسبب في وجود هوة شاسعة تفصل الدول الإسلامية (في زمرة الدول النامية) عن الدول المتقدمة علمياً وتقنياً، في زمن يتضاعف حجم المعلومات فيه مرة كل عشر سنوات تقريباً، وتتسارع القدرة على تجديد الإمكانات التقنية كل ثلاث سنوات ) . ( ص 21 ) .(7/1)
( كما أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى انقسامه إلى دول متخمة بالثراء إلى حد البطر وأخرى معدمة إلى حد الفاقة، وبسبب انتشار الفقر أهملت عمليات التنمية البشرية والمادية، فقد أهمل التعليم، وبإهماله تفشت الأمية، وأهملت الرعاية الصحية وبذلك تفشت الأمراض وساءت الأحوال الصحية، كما أهملت التنمية الزراعية والصناعية والاجتماعية، وبإهمالها تقلص الاقتصاد، وزادت الديون، وغرقت الأمة في الربا ، ولم يعد هناك مجال للأخذ بأسباب التقدم العلمي أو التقني.
ويرجع السبب الرئيس في فقر الدول الإسلامية إلى هذا التفتيت الذي لم يجعل لأي منها القدرة على القيام بذاتها، فغالبية الدول الإسلامية المعاصرة لا تمثل كيانات حقيقية نمت من خلال التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المدى التاريخي الطويل كما تنمو الدول عادة، ولكنها في غالبيتها كيانات، رسمت حدودها الراهنة القوى الاستعمارية العالمية، وحافظت عليها لتبقى الأمة على هذه الصورة من التفتت الذي لا يُمكن أيًّا منها من تشكيل وحدة اجتماعية، اقتصادية متكاملة أو شبه متكاملة.
وإمعاناً في هذا التفتيت فقد وظفت القوى الاستعمارية –وما تزال- مبررات الفرقة كلها بين هذه الكيانات الممزقة من خلافات حدودية وسياسية وقبلية، وعرقية، ومذهبية وغيرها في الإبقاء على فرقتها وإشعال الحروب الباردة والساخنة بينها.
ويهدف الحيلولة دون قيام أدنى قدر من التعاون بين الأشقاء، ودون تحرك المال الإسلامي بين الدول الإسلامية على شكل استثمارات تعين على تنشيط عملية التنمية، قامت الدول الكبرى بترتيب سلسلة من الانقلابات العسكرية، والانقلابات المضادة لتحدث جواً من عدم الاستقرار السياسي والفوضى الاقتصادية، التي لا تشجع على تحرك أية أموال بينها، حتى لا تجد فوائض الدول الغنية فيها طريقها إلا إلى خزائن وبنوك الدول الكبرى ! ) . ( ص 25 ) .
الأسباب المادية لتخلف مسلمي اليوم علمياً وتقنياً:(7/2)
1- تمزق العالم الإسلامي المعاصر إلى أكثر من خمسين دولة: بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية، تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هذه الدول، واحتلال أجزاء عديدة من أراضي المسلمين ؛ مما أدى إلى تشتيت المقومات المادية والروحية والطاقات البشرية للمسلمين؛ في وقت أخذ العالم فيه الاتجاه إلى التوحد في تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية ولم يعد فيه وجود مستقل، أو إمكانية لمستقبل لأية تجمعات بشرية يقل تعدادها عن مائة إلى مائة وخمسين مليون نسمة.
وقد أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى إفقاره على الرغم من ثرواته البشرية والطبيعية الهائلة ) . ( ص 114-115) .
( ويحزنني أن الكثيرين من أصحاب القرار يفضلون حثالات الغرب والشرق من غير المسلمين على الكفاءات الإسلامية المتميزة إنطلاقاً من مركبات النقص العديدة تجاه أصحاب العيون الزرق بصفة عامة، على الرغم من أن الممارسة قد أثبتت أن الوافدين إلى العالم الإسلامي من خبراء الشمال لا يخرج الكثير منهم عن كونهم عملاء للاستخبارات الأجنبية أو للحملات التنصيرية أو سقط متاع لم يستطع أن يشق طريقة في عالمه المتطور حيث المنافسة على أعلى مستوى ممكن.
كما أثبتت الأيام أن أي مشروع نفذ بأيدٍ غير إسلامية هو فرصة ضيعت على أبناء الإسلام وإلى الأبد، وكان من الأصلح للأمة أن ينفذ بأيدي أبنائها، ولو من قبيل التدريب وزرع الثقة بالنفس، فضلاً عن توفر الإخلاص والحرص على المصلحة العامة، والاحتفاظ بالأسرار وهي من الضروريات التي يفتقر إليها غالبية المنفذين من غير المسلمين، حتى لو كانوا أعلى كفاءة وأكثر خبرة ) . ( ص 116) .
2- تفشي الأمية بين المسلمين البالغين في هذا العصر:(7/3)
تفشت الأمية بين المسلمين البالغين (أكبر من 15 سنة) في هذا العصر بصورة مزعجة تتراوح نسبتها بين 50% و80% (بمتوسط حوالي 58%) بينما تقل نسبة الأمية عن 2% في دول الشمال، ولا تتعدى هذه النسبة 45% في المتوسط في دول العالم الثالث بصفة عامة، وهذا يعني بوضوح أن أعلى نسبة للأمية بين البالغين في العالم هي في الدول الإسلامية المعاصرة، على الرغم من أن القرآن الكريم نزلت أولى آياته أمراً بالقراءة والكتابة، وتعظيماً لأدواتهما: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربُّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم ) .
3- إهمال دراسات العلوم والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر:
في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر أهملت الدراسات العلمية والتقنية بصفة عامة؛ إما بسبب كثرة ما تحتاجه من تجهيزات ومختبرات وأجهزة ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات، أو بسبب انطلاق البحث العلمي عند غير المسلمين من منطلقات مادية بحتة، تنكر أو تتجاهل كل ما وراء المادة، بينما الإيمان بالغيب يشكل لب العقيدة الإسلامية، أو للسببين معاً.
وبإهمال هذه الدراسات ندرت الخبرات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر، وبندرتها تخلفت أمتنا عن ركب التطور العلمي والتقني.
وتبلغ نسبة العلماء والتقنيين إلى مجموع تعداد السكان في الدول الإسلامية رقماً لا يذكر إذا قورن بنسبتهم في دول التقدم العلمي والتقني.
4- قيام مختلف المؤسسات العلمية والتقنية الحديثة في دول العالم الإسلامي كافة على أنماط مستوردة: لا تنبع من عقيدتها وتراثها، ولا من حاجات أفرادها ومجتمعاتها، مما أدى إلى غرابة هذه المؤسسات في بيئاتها، وغرابة خريجيها، وإلى العديد من الحواجز الاجتماعية التي حالت بين هذه المؤسسات وبين تحديد أهداف واضحة لها، وخطط محددة لعملها، كما حالت دون قيام خريجيها بواجباتهم كاملة في مجتمعاتهم.(7/4)
5- استمرار اعتماد المسلمين على جامعات الغرب أو الشرق في تكوين طاقاتهم العلمية المتخصصة، دون محاولات جادة لتأسيس قواعد ذاتية راسخة للبحث العلمي وتطبيقاته في العالم الإسلامي، ومع ما يؤدي إليه ذلك من تقويض للقواعد المحلية التي لم تتمكن بعد من ترسيخ جذورها، فإنه يعرض شباب المسلمين إلى حملات التغريب التي نعاني منها بمرارة اليوم.
6- انعدام التخطيط والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر؛ مما أدى إلى تفتيت الجهود، وتكرارها في خطوط قصيرة متوازية في وقت ندرك فيه أن من عوامل تفوق كل من الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها هو اتحادها، وتحركها كتجمع بشري هائل، فوق مساحات أرضية شاسعة، بتخطيط واحد، وهدف محدد، وندرك أيضاً أن دولاً مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية قد استطاعت أن تحقق قدراً من النجاح في اللحاق بالركب بفضل الكثافة السكانية العالية التي تتحرك ضمن إطار واحد، في تنسيق وتعاون تامين.
7- عدم وجود الحوافز المادية والمعنوية الكافية للمشتغلين بالبحث العلمي والتقني في مختلف دول العالم الإسلامي المعاصر، مما صرف الناس عن هذه التخصصات، وأدى إلى هجرة كثير من العلميين لمراكزهم، واتجاههم إلى النشاطات المالية والإدارية، وذلك لأن الحياة العلمية تحتاج إلى الكثير من المجاهدة والصبر والنزاهة والموضوعية، وليس كل الناس قادرين على ذلك، إذا لم يول الناسُ ما يستحقون من التكريم انصرفوا عن العلم.(7/5)
8- عدم توفر وسائل البحث العلمي والتقني من الأجهزة والمواد والمعدات والقوى الفنية المساندة، والخدمات المكتبية والتوثيقية المتطورة في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من العلماء والفنيين إلى خارج حدود العالم الإسلامي، وهذا في حد ذاته يمثل استنزافاً لأهم طاقات المسلمين ولأعظم إمكاناتهم، وذلك لأن غياب العناصر البشرية المثقفة والمدربة تدريباً علمياً وتقنياً عالياً، والقادرة على تحقيق عمليات التنمية الشاملة لمجتمعاتها المتخلفة، في عملية من النزف المستمر بالهجرة إلى الدول الغنية ابتداءً، أو بالامتناع عن العودة إلى أرض الوطن بعد قضاء فترة الدراسة أو التدريب بالخارج يشكل إهدار للكفاءات العقلية النادرة، وللخبرات العلمية العالية، ولأصحاب المهارات الدقيقة الذين أنفقت المجتمعات النامية على المراحل الأولى من تعليمهم وتدريبهم من ميزانياتها المنضغطة، ثم فقدتهم في وقت هي أحوج ما تكون لعطائهم.
وهذا النزف من الكفاءات البشرية يشكل خطورة كبيرة على المجتمعات النامية بصفة عامة، وعلى المجتمعات الإسلامية منها بصفة خاصة في الحاضر والمستقبل، وتكفي في ذلك الإشارة إلى ما نشرته جريدة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية مؤخراً من أنه منذ بداية الستينيات وحتى منتصف السبعينيات فقدت البلدان النامية قرابة الأربعمائة ألف متخصص رحلوا إلى الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا) وهذا الرقم يمثل تحفظاً شديداً لأن بعض البلدان الصناعية مثل استراليا –وهي من أكبر الدول المستقبلة للعقول المهاجرة- لم تدرج في تلك الإحصائية.(7/6)
9- اعتماد الجامعات والمعاهد الفنية ومراكز البحوث في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر على أعداد كبيرة من الأساتذة والفنيين غير المسلمين الذين يفتقرون –في أغلب الأحيان- إلى الإخلاص المطلوب، والحماس اللازم، والقدرات الضرورية، أو الذين قد يندسون أساساً لأغراض تجسسية، أو تنصيرية، أو سياسية بهدف تقييد عملية التقدم العلمي والتقني والتحكم في مسارها، وتبديد ثروات المسلمين في مشاريع براقة ليس لها من المردود الحقيقي إلا ما هو لهم ولدولهم فقط، وذلك لأن إصرار الدول الكبرى على فرض هيمنتها على الدول النامية بصفة عامة، وعلى الدول الإسلامية منها بصفة خاصة يحول دون الأخذ بيد الدول النامية للحاق بركب التقدم العلمي والتقني.
10- عملية تمييز غير المسلمين في جامعات ومعاهد ومراكز بحوث دول العالم الإسلامي المعاصر، تمييزاً يفقد المسلمين حماسهم، ويطفئ فيهم جذوة الشعور بالأخوة الإسلامية والمصير الواحد.
11- تسليم المراكز القيادية في معظم جامعات العالم الإسلامي ومعاهده ومراكز بحوثه إلى أقل الناس تأهلاً لحمل أمانة المسؤولية والقيام بتبعاتها، وذلك انطلاقاً من العصبيات الضيقة، أو التكتلات الحزبية أو المذهبية .
12- اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها، مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين، واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قبل الدول الموردة بتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة.
الأسباب المعنوية لتخلف مسلمي اليوم علمياً وتقنياً:
1-غياب التطبيق الصحيح للإسلام نظاماً شاملاً للحياة في أغلب الدول الإسلامية .
2-غياب الفهم الصحيح لرسالة الإنسان.
3-غياب الشعور بالمعنى الحقيقي للأخوة الإسلامية وواجباتها.(7/7)
4-الصراع الشديد بين دعاة التغريب - وأغلبهم ممن يرعاهم ويمدهم أعداء الإسلام في العالم الإسلامي المعاصر - ودعاة التأصيل (وهم كثرة ينقصها السلطان ) .
5-الشعور الداخلي عند كثير من المسلمين المعاصرين (قيادة وأفراد) بالانهزام والتخلف والضعف أمام التكتلات العالمية الكبرى.
6-الهوة الساحقة التي تفصل قلة من المثقفين عن السواد الأعظم من الأميين وأشباه المتعلمين.
7-غياب البيئة الصالحة للتقدم العلمي والتقني في ظل الاستبداد السياسي الذي يسود معظم دول العالم الإسلامي اليوم.
مقومات ووسائل التقدم العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر:
1- مقومات بشرية: يفوق تعدادها الألف مليون نسمة.
2- مقومات أرضية: تبلغ مساحة الدول المكونة للعالم الإسلامي أكثر من أربعين مليون كيلومتر مربع، ويمثل ذلك أكثر من ربع مساحة اليابسة.
3- مقومات بحرية: يطل العالم الإسلامي على مسطحات مائية عديدة تخترقها أهم خطوط المواصلات البحرية في العالم، وله موانئ هامة على كل من المحيط الأطلسي والهندي والهادي، وكل من البحر الأبيض والأحمر، والأسود، وبحر قزوين، كما يتحكم في مداخل كل من المحيط الهندي والبحر الأحمر والأبيض والأسود، هذا بالإضافة إلى عدد من المسطحات والقنوات المائية الهامة التي تعتبر إسلامية بأكملها مثل البحر الأحمر، والخليج العربي، وبحر عمان، والبحر العربي، وبحر مرمرة، وقناة السويس.
4- مقومات اقتصادية: وهذه تشمل مقومات زراعية وحيوانية عديدة، ومصادر للطاقة هائلة، وثروات تعدينية لم تقدر تقديراً نهائياً بعد، ومنشآت صناعية مختلفة.(7/8)
5- مقومات تعليمية وتدريبية: تضم دول العالم الإسلامي اليوم أكثر من 224 جامعة، 335 معهداً عالياً من المعاهد المتخصصة، بالإضافة إلى ما يفوق التسعمائة من مراكز البحوث وأكاديميات العلوم والتقنية، وخمسة عشر مركزاً ومؤسسة للطاقة الذرية والنظائر المشعة (يتركز منها خمسة في الباكستان، وثلاثة في تركيا، واثنان في مصر، ومركز واحد في كل من أفغانستان، وإيران، والعراق، والجزائر، وتونس ).
العلاج لهذا التخلف :
بالوسائل المادية التالية :
(أ) المبادرة بالعمل على محو الأمية بين المسلمين في خطة محددة الأجل ؛ لأن الأمة الجاهلة لا يمكن أن يتحقق بها أي تقدم.
(ب) إعادة بناء النظم التعليمية على أسس إسلامية صحيحة وموائمة لاحتياجات مجتمعاتنا .
(ج) إعادة النظر في مهمة الجامعات والمعاهد العليا في العالم الإسلامي، والعمل على تطويرها كماً وكيفاً، وربط ذلك بمتطلبات التنمية الشاملة.
(د) دعوة الدول الإسلامية إلى أن يكون لكل منها أجهزة لتنظيم البحث العلمي وتخطيط برامجه، تلتقي في أجهزة إقليمية وتنتهي إلى جهاز إسلامي عالمي واحد.
(هـ) العمل على إنشاء سلسلة من المؤسسات الإسلامية للعلوم والتقنية يكون من بين مهامها:
(1) الحصر الدقيق للكفاءات المسلمة في مختلف مجالات العلوم والتقنية.
(2) ربط المسلمين المشتغلين بالعلوم والتقنية في مختلف أنحاء العالم في اتحاد عالمي للعلماء والمهندسين المسلمين يضم عدداً من الجمعيات المتخصصة على مستوى العالم، والتي تضم بدورها الجمعيات المحلية والأفراد المنتمين إليها بحيث يصبح كل متخصص من المسلمين عضواً في جمعية إسلامية محلية، وجمعية أخرى عالمية في تخصصه، وعضواً في الاتحاد العالمي للعلماء والمهندسين المسلمين.(7/9)
(3) وضع سياسة علمية وتقنية دقيقة ومستقرة وبعيدة المدى للعالم الإسلامي، والعمل على تنفيذها، وتكون هذه السياسة قائمة على المسح الشامل لكافة إمكانات العالم الإسلامي البشرية والطبيعية، ولاحتياجاته الآنية والمستقبلية، وتكون في نفس الوقت قادرة على وضع سلّم للأوليات في حدود زمنية ملزمة، وفي إطار القدرات المتاحة، وقادرة على تأسيس قواعد علمية وتقنية وإدارية متطورة، وعلى استيعاب المتغيرات الاجتماعية المصاحبة لكل ذلك، وعلى الخروج بحلول واقعية للتعجيل بالنهضة العلمية والتقنية الإسلامية من خلال الاستثمار الأمثل لكل الطاقات والقوى والمصادر المتاحة، وذلك في محاولة لتجاوز الفوارق الهائلة التي تحول بيننا وبين الوصول إلى المستوى العلمي والتقني للدول الناهضة بهما.
(4) التنسيق بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي على أن يتم ذلك في إطار من التكامل وعدم الازدواجية ما أمكن، ويستحسن أن يكون عن طريق أجهزة إقليمية لتنظيم البحث العلمي وتخطيط برامجه، تنتهي إلى جهاز عالمي واحد.
(5) مراجعة خطط البحوث العلمية والتقنية في العالم الإسلامي ووضع الأولويات لها بما يتفق واحتياجات المجتمعات المسلمة وروح رسالتها الإنسانية العالمية، والتخطيط لبرامج بحوث مشتركة بين الهيئات العلمية الإسلامية.
(6) تشجيع البحث العلمي والتقني بين المسلمين ؛ وذلك بعقد المؤتمرات والندوات المتخصصة، ونشر الدوريات العامة والمتعمقة، والتشجيع على التأليف والترجمة والنشر، وتخصيص المنح والجوائز والمكافآت، وغيرها من الحوافز، والتشجيع على تبادل الزيارات والخبرات والمعلومات.(7/10)
(7) مناقشة مشكلات العالم الإسلامي، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، وفي مقدمتها بحث أسباب التخلف الصناعي والزراعي والاقتصادي والإداري والسياسي، وإهمال العديد من الثروات الطبيعية، والصناعات التحويلية والعسكرية الهامة، وهجرة المتخصصين والفنيين المسلمين، والعمل على وقفها، واستعادة من له رغبة في العودة ممن هاجروا، والتخطيط لتكامل اقتصادي صحيح بين كافة الدول الإسلامية، والعمل على ترشيد التجارة الخارجية.
(8) إنشاء مراكز للبحوث العلمية والتقنية المتخصصة، ومراصد فلكية وأرضية ، ومؤسسات للطاقة على أرفع المستويات العالمية في دول العالم الإسلامي في غير تكرار أو ازدواجية عشوائية، ويكون من مهام هذه المراكز استقطاب الطاقات المسلمة المحلية والمنتشرة في العالم على أساس من كفاءاتها العلمية، والتزامها بالإسلام، دون أن يكون لانتماءاتهم العرقية أو صلاتهم الشخصية دخل في الاختيار.
(9) العمل على إعادة كتابة العلوم البحتة والتطبيقية من تصور إسلامي صحيح عن الإنسان والكون وعلاقتهما بالخالق العظيم.
(10) وضع البرامج الزمنية المحددة لترجمة أمهات الكتب العلمية والتقنية المختلفة إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات الرئيسة في العالم الإسلامي والتعليق على ما قد يرد فيها من أخطاء تتعارض مع قضية الإيمان، وذلك كمقدمة لاتخاذ القرار الضروري بجعل التعليم والبحث والنشر العلمي باللغة العربية أو باللغات المحلية في غير العالم العربي، انطلاقاً من أن تأصيل العلم والتفكير العلمي لدى أية أمة يتطلب استعمال لغتها.
(11) العمل على إصدار مؤلفات ودوريات وموسوعات علمية وتقنية إسلامية عامة ومتخصصة باللغة العربية وبغيرها من اللغات المحلية في العالم الإسلامي.
(12) تشجيع عملية النشر العلمي والتقني في العالم الإسلامي وتطوير كل ما يلزم ذلك من عمليات الطباعة والتوزيع، وما يعتمد عليه من صناعات.(7/11)
(13) الاهتمام بإعداد ورعاية الفنيين والمعاونين في شؤون البحث العلمي بقطاعاته المختلفة، في مختلف بقاع العالم الإسلامي.
(14) التعاون في تأسيس قواعد إسلامية لصناعة الأجهزة العلمية والتقنية المتخصصة وصيانتها وتطويرها في مختلف أرجاء العالم الإسلامي حسب إمكانات كل منطقة، في شيء من التخطيط والتكامل.
(15) التعاون في إنشاء مراكز للإعلام والتوثيق العلمي والتقني، والصناعي، ومصارف للمعلومات ولخدمة تجهيز البيانات ، ومكتبات شاملة إقليمية وعامة، ودوريات متخصصة، ونشرات بمستخلصات البحوث، ومرافق لعقد اللقاءات والمؤتمرات العلمية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي يكون من مهامها تعريف الأجهزة العلمية والتقنية والصناعية المحلية بالتطورات والمنجزات العالمية، ونشر المعرفة على أن يقوم التنسيق الدقيق بين المراكز المختلفة، وأن ينتهي ذلك في هيئة مركزية واحدة للعالم الإسلامي تغذي المراكز الإقليمية وتتلقى عنها وتقوم بالتخطيط لمختلف أنشطتها.
(16) التعاون في إنشاء مركز عام ومراكز إقليمية للملكية الصناعية ووثائق براءات الاختراع تقوم بتنسيق تشريعات الملكية الصناعية في العالم الإسلامي، وحماية حقوق المخترعين المسلمين، ودراسة الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، وتبادل تلك الوثائق مع المراكز المشابهة في العالم.
(17) العمل على تطوير تدريس العلوم في مختلف المراحل ليساير التطورات العالمية من حيث المستوى والوسائل والكتب والطرائق والمختبرات وغيرها من وسائل الإيضاح.
(18) المبادرة بالعمل الجاد لتوحيد الأمة الإسلامية على مراحل منطقية عملية، فلم يعد هناك مجال لمجموعة بشرية يقل تعدادها عن 100 إلى 150 مليون أن تعيش بغير تبعية اقتصادية وما يتبع ذلك من رق ثقافي وسياسي وعسكري.
الوسائل المعنوية :(7/12)
(1) العمل على إحياء المفهوم الصحيح للبحث العلمي والتقني في الإسلام، وبلورة النظرية الإسلامية للعلوم والتقنية، ووضع التفاصيل الدقيقة للدستور الأخلاقي الذي يفرضه الإسلام في هذين المجالين، وذلك لأن العلم لا يمكن أن يكون عملية مادية بحتة، خالية من القيم الروحية والأخلاقية، وإلا أصبح وبالاً على أهله وعلى الإنسانية جمعاء.
(2) تعميق قيم البحث العلمي والتقني في نفوس المسلمين من الباحثين، والقائمين على الأجهزة الرسمية، وكافة الأفراد، ووضع الخطط اللازمة لتربية الجماهير المسلمة تربية علمية أصيلة تقوم على الإيمان بأن العلوم التجريبية هي قرآنية المنهج، وأن الأسلوب العلمي في التفكير ودوره في تطوير الحياة هو ضرورة إسلامية، ومن ثم فإنه يتوجب على المسلمين بذل كل ما يملكون في سبيل نهضة الأمة الإسلامية علمياً وتقنياً، مرضاة لله وإعذاراً إليه، وذلك لأن القيام بالبحوث العلمية والتقنية في مختلف المجالات النافعة من فروض الكفاية التي تأثم الأمة كلها بتركها، وإهمالها أو التقصير فيها، وعليه فإنه يجب دعوة كل قادر إليها وتشجيعه عليها انطلاقاً من صميم الدعوة الإسلامية ذاتها.
(3) إبراز إضافات المسلمين للعلوم في مختلف العصور، وتحقيق تراثهم والعمل على نشره وتعليمه، ودراسة الشخصيات البارزة من علماء المسلمين قدامى ومعاصرين، لإعادة الثقة إلى نفوس مسلمي اليوم ودفعهم إلى النهوض بمسؤولياتهم.
(4) إحياء الشعور بالانتماء للأمة الواحدة بين المسلمين حتى يتهيؤوا للوحدة الشاملة ويبدأوا بالعمل الجاد لها، ويقضوا على العصبيات الجاهلية المقيتة التي استخدمت في تفتيتهم وتشتيت إمكاناتهم.
(5) الدعوة إلى الالتزام الدقيق بالإسلام الصحيح على مستوى الأمة أفراداً ومجتمعات، والعمل على تطبيق قيمه وأهدافه حتى يتقلص تأثير عمليات التغريب التي تعرضت لها الأمة الإسلامية طوال القرن الحالي بصفة خاصة.(7/13)
(6) دعوة الناس كافة إلى الإسلام وفي مقدمتهم العلماء والمفكرون وأصحاب الرأي في الكتل العالمية الكبرى وهم الآن مهيَّؤون لتقبل الإسلام بعد أن سئموا الحياة المادية، وعاشوا ويلاتها، وأخذوا يتطلعون بحرص بالغ إلى ما يمكن أن يخلصهم مما هم فيه من بلاء، وبعد أن تبلورت المعطيات الكلية للعلوم في تأكيد واضح على حقيقة الخلق، وضرورة الآخرة، وحتمية الإيمان بالله، وليس أدل على ذلك من ظاهرة المد الإسلامي المعاصر في كافة أرجاء الأرض بين كبار العلماء والمثقفين، كما هي بين المظلومين والمستضعفين والمضطهدين.
(7) إبراز الاستنتاجات الكلية للعلوم خاصة ما يؤكد منها على حقيقة الخلق وابتدائه، وعظمة الكون ووحدة بنائه، وإبداع حركته واتساعه، وإعجاز ظواهره وسننه وقوانينه، وحتمية نهايته وفنائه، وإمكانية الوحي السماوي، بل ضرورته، وحقيقة الموت والبعث والحساب، ولزوم الآخرة بما فيها من ثواب وعقاب، وأغلبها قضايا غيبية استطاع العلم أن يصل إلى أدلة منطقية عليها، وقد سبقه في ذلك وحي السماء بالآلاف المؤلفة من السنين.(7/14)
(8) إبراز الإشارات العلمية في القرآن الكريم، وإثبات سبقها للعلوم البشرية بالآلاف من السنين، وهي - على كثرتها، ودقة دلالاتها- وردت في سياق الدعوة إلى الإيمان بالله والدلالة عليه، لا في سياق عرض علمي مجرد، وذلك لأن القرآن في الأصل كتاب هداية، وليس كتاب علم خاص، وعلى الرغم من ذلك أصبحت هذه الإشارات العلمية سبباً في إقبال الكثيرين من العلماء المعاصرين على الإسلام واقتناعهم به، لإيمانهم بأن هذه الحقائق العلمية –التي لم يتوصل الإنسان إليها إلا مؤخراً- لم تكن بالقطع متوفرة لبشر في حياة سيدنا محمد أو قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، ولا لمئات من السنين من بعده، وهي في هذا الإطار دلالات واضحة على صدق دعوته، وحقيقة رسالته، وعلى تلقيها عن خالق الكون ومبدع الوجود، الذي ( ليس كمثله شيءٌ وهو السميعُ البصير) . انتهى كلام الدكتور .
قلت : هذه الاقتراحات تحتاج قبل كل شيئ إلى أن تتعاون الدول الإسلامية جميعًا ، وتعتصم بدعوة الكتاب والسنة ، وتنبذ البدع والانحرافات بأنواعها ، والتشرذم والشحناء بينها الذي صنعه وأججه العدو ، وتلتقي من جديد حول فكرة ( الجامعة الإسلامية ) التي تزيدها قوة وعزًا ؛ ثم تتآزر فيما بينها للخروج من هذا التخلف ( الدنيوي ) ؛ كلٌ حسب جهده ؛ من بعضها المال ومن البعض الآخر العقول و الأفكار ومن الثالث اليد العاملة .. وهكذا . مع طرد الوساوس التي تجعلها أسيرة للأعداء ؛ تخافهم أشد من خوفها من الله ؛ وتنصاع لأوامرهم مخافة على دنيا زائلة على حساب دينها - للأسف - . أسأل الله أن يهيئ للأمة من يعيد لها قوتها ومكانتها .(7/15)
مصطلحات سياسية ومعانيها
هذه مجموعة من " المصطلحات السياسية " التي تتردد كثيرًا في وسائل الإعلام أو المقالات والمواضيع السياسية أحببتُ نشرها للفائدة . وقد انتقيتها وهذبتها من كتاب " المصطلحات السياسية الشائعة " للأستاذ فهد بن عبدالله الربيعة . ومن أراد التوسع فليرجع إلى :
" موسوعة السياسة " التي يُشرف عليها الدكتور عبدالوهاب الكيالي ، و " القاموس السياسي " لأحمد عطية .
أرستقراطية :
تعني باللغة اليونانية سُلطة خواص الناس، وسياسياً تعني طبقة اجتماعية ذات منزلة عليا تتميز بكونها موضع اعتبار المجتمع ، وتتكون من الأعيان الذين وصلوا إلى مراتبهم ودورهم في المجتمع عن طريق الوراثة ،واستقرت هذه المراتب على أدوار الطبقات الاجتماعية الأخرى، وكانت طبقة الارستقراطية تتمثل في الأشراف الذين كانوا ضد الملكية في القرون الوسطى ،وعندما ثبتت سلطة الملوك بإقامة الدولة الحديثة تقلصت صلاحية هذه الطبقة السياسية واحتفظت بالامتيازات المنفعية، وتتعارض الارستقراطية مع الديمقراطية.
أنثروبولوجيا :
تعني باللغة اليونانية علم الإنسان ، وتدرس الأنثروبولوجيا نشأة الإنسان وتطوره وتميزه عن المجموعات الحيوانية ،كما أنها تقسم الجماعات الإنسانية إلى سلالات وفق أسس بيولوجية، وتدرس ثقافته ونشاطه.
أيديولوجية:
هي ناتج عملية تكوين نسق فكري عام يفسر الطبيعة والمجتمع والفرد، ويحدد موقف فكري معين يربط الأفكار في مختلف الميادين الفكرية والسياسية والأخلاقية والفلسفية.
أوتوقراطية :(8/1)
مصطلح يطلق على الحكومة التي يرأسها شخص واحد، أو جماعة، أو حزب، لا يتقيد بدستور أو قانون، ويتمثل هذا الحكم في الاستبداد في إطلاق سلطات الفرد أو الحزب، وتوجد الأوتوقراطية في الأحزاب الفاشية أو الشبيهة بها، وتعني الكلمة باللاتينية الحكم الإلهي، أي أن وصول الشخص للحكم تم بموافقة إلهية، والاوتوقراطي هو الذي يحكم حكمًا مطلقًا ويقرر السياسة دون أية مساهمة من الجماعة، وتختلف الاوتوقراطية عن الديكتاتورية من حيث أن السلطة في الأوتوقراطية تخضع لولاء الرعية، بينما في الدكتاتورية فإن المحكومين يخضعون للسلطة بدافع الخوف وحده.
براغماتية (ذرائعية) :
براغماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني " براغما " ومعناه العمل، وهي مذهب فلسفي – سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة؛ فالسياسي البراغماتي يدعّي دائماً بأنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره، وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة ، وإنما من خلال النتيجة المتوقعة لعمل . والبراغماتيون لا يعترفون بوجود أنظمة ديمقراطية مثالية إلا أنهم في الواقع ينادون بأيديولوجية مثالية مستترة قائمة على الحرية المطلقة ، ومعاداة كل النظريات الشمولية وأولها الماركسية.
بروسترايكا :
هي عملية إعادة البناء في الاتحاد السوفيتي التي تولاها ميخائيل جورباتشوف وتشمل جميع النواحي في الاتحاد السوفيتي ، وقد سخر الحزب الشيوعي الحاكم لتحقيقها ، وهي تفكير وسياسة جديدة للاتحاد السوفيتي ونظرته للعالم ، وقد أدت تلك السياسة إلى اتخاذ مواقف غير متشددة تجاه بعض القضايا الدولية ، كما أنها اتسمت بالليونة والتخلي عن السياسات المتشددة للحزب الشيوعي السوفيتي .
بروليتاريا :(8/2)
مصطلح سياسي يُطلق على طبقة العمال الأجراء الذين يشتغلون في الإنتاج الصناعي ومصدر دخلهم هو بيع ما يملكون من قوة العمل، وبهذا فهم يبيعون أنفسهم كأي سلعة تجارية.
وهذه الطبقة تعاني من الفقر نتيجة الاستغلال الرأسمالي لها، ولأنها هي التي تتأثر من غيرها بحالات الكساد والأزمات الدورية، وتتحمل هذه الطبقة جميع أعباء المجتمع دون التمتع بمميزات متكافئة لجهودها. وحسب المفهوم الماركسي فإن هذه الطبقة تجد نفسها مضطرة لتوحيد مواقفها ليصبح لها دور أكبر في المجتمع.
بورجوازية :
تعبير فرنسي الأصل كان يُطلق في المدن الكبيرة في العصور الوسطى على طبقة التجار وأصحاب الأعمال الذين كانوا يشغلون مركزاً وسطاً بين طبقة النبلاء من جهة والعمال من جهة أخرى، ومع انهيار المجتمع الإقطاعي قامت البورجوازية باستلام زمام الأمور الاقتصادية والسياسية واستفادت من نشوء العصر الصناعي ؛ حتى أصبحت تملك الثروات الزراعية والصناعية والعقارية، مما أدى إلى قيام الثورات الشعبية ضدها لاستلام السلطة عن طريق مصادرة الثروة الاقتصادية والسلطة السياسية.
والبورجوازية عند الاشتراكيين والشيوعيين تعني الطبقة الرأسمالية المستغلة في الحكومات الديمقراطية الغربية التي تملك وسائل الإنتاج.
بيروقراطية :(8/3)
البيروقراطية تعني نظام الحكم القائم في دولة ما يُشرف عليها ويوجهها ويديرها طبقة من كبار الموظفين الحريصين على استمرار وبقاء نظام الحكم لارتباطه بمصالحهم الشخصية ؛ حتى يصبحوا جزءً منه ويصبح النظام جزءً منهم، ويرافق البيروقراطية جملة من قواعد السلوك ونمط معين من التدابير تتصف في الغالب بالتقيد الحرفي بالقانون والتمسك الشكلي بظواهر التشريعات، فينتج عن ذلك " الروتين " ؛ وبهذا فهي تعتبر نقيضاً للثورية، حيث تنتهي معها روح المبادرة والإبداع وتتلاشى فاعلية الاجتهاد المنتجة ، ويسير كل شيء في عجلة البيروقراطية وفق قوالب جاهزة، تفتقر إلى الحيوية. والعدو الخطير للثورات هي البيروقراطية التي قد تكون نهاية معظم الثورات، كما أن المعنى الحرفي لكلمة بيروقراطية يعني حكم المكاتب.
تعددية :
مذهب ليبرالي يرى أن المجتمع يتكون من روابط سياسية وغير سياسية متعددة، لها مصالح مشروعة متفرقة، وأن هذا التعدد يمنع تمركز الحكم ، ويساعد على تحقيق المشاركة وتوزيع المنافع.
تكنوقراطية :
مصطلح سياسي نشأ مع اتساع الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي، وهو يعني (حكم التكنولوجية) أو حكم العلماء والتقنيين، وقد تزايدت قوة التكنوقراطيين نظراً لازدياد أهمية العلم ودخوله جميع المجالات وخاصة الاقتصادية والعسكرية منها، كما أن لهم السلطة في قرار تخصيص صرف الموارد والتخطيط الاستراتيجي والاقتصادي في الدول التكنوقراطية، وقد بدأت حركة التكنوقراطيين عام 1932 في الولايات المتحدة الأمريكية ،حيث كانت تتكون من المهندسين والعلماء والتي نشأت نتيجة طبيعة التقدم التكنولوجي.
أما المصطلح فقد استحدث عام 1919 على يد وليام هنري سميث الذي طالب بتولي الاختصاصيين العلميين مهام الحكم في المجتمع الفاضل.
ثيوقراطية :(8/4)
نظام يستند إلى أفكار دينية مسيحية ويهودية ، وتعني الحكم بموجب الحق الإلهي ! ، وقد ظهر هذا النظام في العصور الوسطى في أوروبا على هيئة الدول الدينية التي تميزت بالتعصب الديني وكبت الحريات السياسية والاجتماعية ، ونتج عن ذلك مجتمعات متخلفة مستبدة سميت بالعصور المظلمة.
دكتاتورية :
كلمة ذات أصل يوناني رافقت المجتمعات البشرية منذ تأسيسها ، تدل في معناها السياسي حالياً على سياسة تصبح فيها جميع السلطات بيد شخص واحد يمارسها حسب إرادته، دون اشتراط موافقة الشعب على القرارات التي يتخذها.
ديماغوجية :
كلمة يونانية مشتقة من كلمة (ديموس)، وتعني الشعب، و(غوجية) وتعني العمل، أما معناها السياسي فيعني مجموعة الأساليب التي يتبعها السياسيون لخداع الشعب وإغراءه ظاهرياً للوصول للسلطة وخدمة مصالحهم.
ديمقراطية :
مصطلح يوناني مؤلف من لفظين الأول (ديموس) ومعناه الشعب، والآخر (كراتوس) ومعناه سيادة، فمعنى المصطلح إذاً سيادة الشعب أو حكم الشعب . والديمقراطية نظام سياسي اجتماعي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين ويوفر لهم المشاركة الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، والديمقراطية كنظام سياسي تقوم على حكم الشعب لنفسه مباشرة، أو بواسطة ممثلين منتخبين بحرية كاملة ( كما يُزعم ! ) ، وأما أن تكون الديمقراطية اجتماعية أي أنها أسلوب حياة يقوم على المساواة وحرية الرأي والتفكير، وأما أن تكون اقتصادية تنظم الإنتاج وتصون حقوق العمال، وتحقق العدالة الاجتماعية.
إن تشعب مقومات المعنى العام للديمقراطية وتعدد النظريات بشأنها، علاوة على تميز أنواعها وتعدد أنظمتها، والاختلاف حول غاياتها ، ومحاولة تطبيقها في مجتمعات ذات قيم وتكوينات اجتماعية وتاريخية مختلفة، يجعل مسألة تحديد نمط ديمقراطي دقيق وثابت مسألة غير واردة عملياً، إلا أن للنظام الديمقراطي ثلاثة أركان أساسية:
أ حكم الشعب .
ب-المساواة .(8/5)
ج الحرية الفكرية .
ومعلوم استغلال الدول لهذا الشعار البراق الذي لم يجد تطبيقًا حقيقيًا له على أرض الواقع ؛ حتى في أعرق الدول ديمقراطية – كما يقال - . ومعلوم أيضًا تعارض بعض مكونات هذا الشعار البراق الذي افتُتن به البعض مع أحكام الإسلام .
راديكالية (جذرية) :
الراديكالية لغة نسبة إلى كلمة راديكال الفرنسية وتعني الجذر، واصطلاحاً تعني نهج الأحزاب والحركات السياسية الذي يتوجه إلى إحداث إصلاح شامل وعميق في بنية المجتمع، والراديكالية هي على تقاطع مع الليبرالية الإصلاحية التي يكتفي نهجها بالعمل على تحقيق بعض الإصلاحات في واقع المجتمع، والراديكالية نزعة تقدمية تنظر إلى مشاكل المجتمع ومعضلاته ومعوقاته نظرة شاملة تتناول مختلف ميادينه السياسية والدستورية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، بقصد إحداث تغير جذري في بنيته، لنقله من واقع التخلف والجمود إلى واقع التقدم والتطور.
ومصطلح الراديكالية يطلق الآن على الجماعات المتطرفة والمتشددة في مبادئها.
رأسمالية :
الرأسمالية نظام اجتماعي اقتصادي تُطلق فيه حرية الفرد في المجتمع السياسي، للبحث وراء مصالحه الاقتصادية والمالية بهدف تحقيق أكبر ربح شخصي ممكن، وبوسائل مختلفة تتعارض في الغالب مع مصلحة الغالبية الساحقة في المجتمع... وبمعنى آخر : إن الفرد في ظل النظام الرأسمالي يتمتع بقدر وافر من الحرية في اختيار ما يراه مناسباً من الأعمال الاقتصادية الاستثمارية وبالطريقة التي يحددها من أجل تأمين رغباته وإرضاء جشعه، لهذا ارتبط النظام الرأسمالي بالحرية الاقتصادية أو ما يعرف بالنظام الاقتصادي الحر، وأحياناً يخلي الميدان نهائياً لتنافس الأفراد وتكالبهم على جمع الثروات عن طريق سوء استعمال الحرية التي أباحها النظام الرأسمالي.
رجعية :(8/6)
مصطلح سياسي اجتماعي يدل على التيارات المعارضة للمفاهيم التقدمية الحديثة وذلك عن طريق التمسك بالتقاليد الموروثة، ويرتبط هذا المفهوم بالاتجاه اليميني المتعصب المعارض للتطورات الاجتماعية السياسية والاقتصادية إما من مواقع طبقية أو لتمسك موهوم بالتقاليد، وهي حركة تسعى إلى التشبث بالماضي؛ لأنه يمثل مصالح قطاعات خاصة من الشعب على حساب الصالح العام. ( وقد استورد المنافقون هذا المصطلح من الغرب وحاولوا إلصاقه بأهل الإسلام ! الداعين إلى تحكيم الكتاب والسنة ) .
شوفينية :
مصطلح سياسي من أصل فرنسي يرمز إلى التعصب القومي المتطرف، وتطور معنى المصطلح للدلالة على التعصب القومي الأعمى والعداء للأجانب، كما استخدم المصطلح لوصم الأفكار الفاشية والنازية في أوروبا، ويُنسب المصطلح إلى جندي فرنسي اسمه نيقولا شوفان حارب تحت قيادة نابليون وكان يُضرب به المثل لتعصبه لوطنه.
غيفارية :
نظرية سياسية يسارية نشأت في كوبا وانتشرت منها إلى كافة دول أمريكا اللاتينية، مؤسسها هو ارنتسوتشي غيفارا أحد أبرز قادة الثورة الكوبية، وهي نظرية أشد تماسكاً من الشيوعية، وتؤيد العنف الثوري ، وتركز على دور الفرد في مسار التاريخ، وهي تعتبر الإمبريالية الأمريكية العدو الرئيس للشعوب، وترفض الغيفارية استلام السلطة سلمياً وتركز على الكفاح المسلح وتتبنى النظريات الاشتراكية.
فاشية :(8/7)
نظام فكري وأيديولوجي عنصري يقوم على تمجيد الفرد على حساب اضطهاد جماعي للشعوب، والفاشية تتمثل بسيطرة فئة دكتاتورية ضعيفة على مقدرات الأمة ككل، طريقها في ذلك العنف وسفك الدماء والحقد على حركة الشعب وحريته، والطراز الأوروبي يتمثل بنظام هتلر وفرانكو وموسيليني، وهناك عشرات التنظيمات الفاشية التي ما تزال موجودة حتى الآن ، وهي حالياً تجد صداها عند عصابات متعددة في العالم الثالث، واشتق اسم الفاشية من لفظ فاشيو الإيطالي ويعني حزمة من القضبان استخدمت رمزاً رومانياً يعني الوحدة والقوة، كما أنها تعني الجماعة التي انفصلت عن الحزب الاشتراكي الإيطالي بعد الحرب بزعامة موسيليني الذي يعتبر أول من نادى بالفاشية كمذهب سياسي.
فيدرالية :
نظام سياسي يقوم على بناء علاقات تعاون محل علاقات تبعية بين عدة دول يربطها اتحاد مركزي ؛ على أن يكون هذا الاتحاد مبنيًا على أساس الاعتراف بوجود حكومة مركزية لكل الدولة الاتحادية، وحكومات ذاتية للولايات أو المقاطعات التي تنقسم إليها الدولة، ويكون توزيع السلطات مقسماً بين الحكومات الإقليمية والحكومة المركزية.
كونفدرالية :
يُطلق على الكونفدرالية اسم الاتحاد التعاهدي أو الاستقلالي ؛ حيث تُبرم اتفاقيات بين عدة دول تهدف لتنظيم بعض الأهداف المشتركة بينها ؛ كالدفاع وتنسيق الشؤون الاقتصادية والثقافية ، وإقامة هيئة مشتركة تتولى تنسيق هذه الأهداف ، كما تحتفظ كل دولة من هذه الدول بشخصيتها القانونية وسيادتها الخارجية والداخلية ، ولكل منها رئيسها الخاص بها .
ليبرالية (تحررية) :
مذهب رأسمالي اقترن ظهوره بالثورة الصناعية وظهور الطبقة البرجوازية الوسطى في المجتمعات الأوروبية، وتمثل الليبرالية صراع الطبقة الصناعية والتجارية التي ظهرت مع الثورة الصناعية ضد القوى التقليدية الإقطاعية التي كانت تجمع بين الملكية الاستبدادية والكنيسة.(8/8)
وتعني الليبرالية إنشاء حكومة برلمانية يتم فيها حق التمثيل السياسي لجميع المواطنين ، وحرية الكلمة والعبادة ، وإلغاء الامتيازات الطبقية، وحرية التجارة الخارجية ، وعدم تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد إلا إذا كان هذا التدخل يؤمن الحد الأدنى من الحرية الاقتصادية لجميع المواطنين.
( وقد افتُتن مقلدو الغرب لدينا بهذه الفكرة الجاهلية التي تُعارض أحكام الإسلام في كثير مما نادت به ؛ وعلى رأسه : حرية الكفر والضلال والجهر به ؛ والمساواة بين ما فرق الله بينه .. الخ الانحرافات التي ليس هنا مجال ذكرها ) .
مبدأ أيزنهاور:
أعلنه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في الخامس من يناير عام 1957م ضمن رسالة وجهها للكونجرس في سياق خطابه السنوي الذي ركز فيه على أهمية سد الفراغ السياسي الذي نتج في المنطقة العربية بعد انسحاب بريطانيا منها، وطالب الكونجرس بتفويض الإدارة الأمريكية بتقديم مساعدات عسكرية للدول التي تحتاجها للدفاع عن أمنها ضد الأخطار الشيوعية، وهو بذلك يرمي إلى عدم المواجهة المباشرة مع السوفيت وخلق المبررات، بل إناطة مهمة مقاومة النفوذ والتسلل السوفيتي إلى المناطق الحيوية بالنسبة للأمن الغربي بالدول المعنية الصديقة للولايات المتحدة عن طريق تزويدها بأسباب القوة لمقاومة الشيوعية ، وكذلك دعم تلك الدول اقتصادياً حتى لا تؤدي الأوضاع الاقتصادية السيئة إلى تنامي الأفكار الشيوعية.
ولاقى هذا المبدأ معارضة في بعض الدول العربية بدعوى أنه سيؤدي إلى ضرب العالم العربي في النهاية، عن طريق تقسيم الدول العربية إلى فريقين متضاربين : أحدهما مؤيد للشيوعية والآخر خاضع للهيمنة الغربية.
مبدأ ترومان :(8/9)
أعلنه الرئيس الأمريكي هاري ترومان في مارس 1947 م للدفاع عن اليونان وتركيا وشرق البحر الأبيض المتوسط في وجه الأطماع السوفيتية، ودعم الحكومات المعارضة للأيديولوجيات السوفيتية الواقعة في هذه المنطقة، والهدف من هذا المبدأ هو خنق القوة السوفيتية ومنعها من التسرب إلى المناطق ذات الثقل الاستراتيجي والاقتصادي البارز بالنسبة للأمن الغربي.
مبدأ كارتر :
أعلنه الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، أكد فيه تصميم الولايات المتحدة على مقاومة أي خطر يهدد الخليج ؛ بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، وكانت جذور هذا المبدأ هي فكرة إنشاء قوات التدخل السريع للتدخل في المنطقة وحث حلفائها للمشاركة في هذه القوة، وقد أنشئت قيادة عسكرية مستقلة لهذه القوة عرفت (بالسنتكوم).
مبدأ مونرو:
وضعه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823 م وحمل اسمه ؛ وينص على تطبيق سياسة شبه انعزالية في الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها الخارجية، وظل هذا المبدأ سائداً في محدودية الدور الأمريكي في السياسة الدولية حتى الحرب العالمية الثانية في القرن الحالي حين خرجت أمريكا إلى العالم كقوة دنيوية عظمى.
مبدأ نيكسون:
أعلنه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في يوليو عام 1969 م ؛ وينص على أن الولايات المتحدة ستعمل على تشجيع بلدان العالم الثالث على تحمل مسؤوليات أكبر في الدفاع عن نفسها، وأن يقتصر دور أمريكا على تقديم المشورة وتزويد تلك الدول بالخبرة والمساعدة ( ! )
مبدأ ويلسون :
وضعه الرئيس الأمريكي وودر ويلسون عام 1918 م ؛ ويتألف من 14 نقطة، ويركز على مبدأ الاهتمام بصورة أكبر بمستقبل السلم والأمن في الشرق الأوسط ، وكان هذا المبدأ ينص على علنية الاتفاقيات كأساس لمشروعيتها الدولية، وهو ما كان يحمل إدانة صريحة لاتفاقية سايكس بيكو التي سبقت إعلانه بسنتين، ولمبدأ الممارسات الدبلوماسية التآمرية التي مارستها تلك الدول.(8/10)
كما دعا مبدأ ويلسون ضمن بنوده إلى منح القوميات التي كانت تخضع لسلطة الدولة العثمانية كل الضمانات التي تؤكد حقها في الأمن والتقدم والاستقلال، والطلب من حلفائه الأوروبيين التخلي عن سياساتهم الاستعمارية واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها ( ! )
ولما اصطدمت مبادئه بمعارضة حلفائه الأوروبيين في المؤتمر الذي عقد بعد الحرب العالمية الأولى في باريس، أمكن التوفيق بين الموقفين بالعثور على صيغة (الانتداب الدولي) المتمثل في إدارة المناطق بواسطة عصبة الأمم وبإشراف مباشر منها، على أن توكل المهمة لبريطانيا وفرنسا نيابة عن العصبة ( !)
يسار - يمين :
اصطلاحان استخدما في البرلمان البريطاني، حيث كان يجلس المؤيدون للسلطة في اليمين ، والمعارضون في اليسار ؛ فأصبح يُطلق على المعارضين للسلطة لقب اليسار، وتطور الاصطلاحان نظراً لتطور الأوضاع السياسية في دول العالم ؛ حيث أصبح يُطلق اليمين على الداعين للمحافظة على الأوضاع القائمة، ومصطلح اليسار على المطالبين بعمل تغييرات جذرية، ومن ثم تطور مفهوم المصطلحان إلى أن شاع استخدام مصطلح اليسار للدلالة على الاتجاهات الثورية ، واليمين للدلالة على الاتجاهات المحافظة، والاتجاهات التي لها صبغة دينية.(8/11)
نقل التقنية المتطورة إلى الدول الإسلامية ... ( عوائق وحلول )
عملية نقل التقنية ( المتطورة ) إلى العالم الإسلامي تواجه صعوبات عديدة ؛ يأتي على رأسها – في ظني – أمران خطيران :
الأول : أن الدول المتقدمة ( تقنيًا ) وعلى رأسها أمريكا ؛ تحاول جهدها عرقلة هذا النقل ؛ ولو أدى ذلك لاستعمال القوة ؛ كما رأينا قبل سنين عندما دمروا بواسطة اليهود المفاعل النووي العراقي . إضافة إلى أن هذه الدول تُخفي أسرار التقنية العالية ( نووية أو حربية أو إلكترونية ) عن الآخرين – لاسيما المسلمين - ، وإن حدث وتسرب شيئ منها قامت بملاحقته ، وتدميره واغتيال أصحابه. وشواهد هذا كثيرة .
الثاني : أن الاستعمار بعد رحيله قد وضع على البلاد الإسلامية – إلا ما رحم ربي – حكومات عميلة وخائنة خائفة ؛ لا هم لها إلا أن تبقى على كرسي الحكم ، ولو بالامتثال لأمر العدو بترك التقنية وشأنها ! وعدم الاهتمام بها أو بالنابغين فيها من أبنائها ؛ بل تجريمهم وتخويفهم والخوف منهم !! وكم سمعنا عن نابغة مسلم كان مصيره إما القتل أو التعذيب من دولته المسلمة !! أو الهجرة إلى بلاد أعداء أمته وخدمتهم في تخصصه بدلا من خدمة بني قومه . ونعوذ بالله من الذل والخنوع والخيانة الذي وقعت فيه هذه الحكومات الخائبة مع العدو فأصبحت كما قال الأول : واقعد فأنت الطاعم الكاسي ! وصارت إلى ما قاله تعالى ( ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ) ؛ ولسان حالها يقول : لتذهب الأمة إلى الجحيم مادام الغرب راض عنا ؛ وليبق التخلف والذل مادامت الكراسي مضمونة !
هذان الأمران – في نظري – هما من أهم الأسباب لعدم تمكن أمة الإسلام من نقل التقنية . ولذا ينبغي على العقلاء الشرفاء من أبنائها أن يبحثوا عن حلول ناجحة للتخلص منهما .(9/1)
ومن تلك الحلول – من وجهة نظري – للأمر الأول : أن تسعى الدول الإسلامية إلى نقل التقنية من مصادر وجهات متنوعة ؛ شرقًا وغربًا ، وتلعب على مصالح الدول المتقدمة ، وتستفيد من انهيار الاتحاد السوفيتي في الاستفادة من خبرائه السابقين ، وتستخدم المال والنفط الذي تملكه في تيسير هذه الأمور ؛ إضافة إلى لزوم السرية ؛ حتى يفاجأ العدو بجهودها وقد اكتملت . وخذ لذلك مثالا : القنبلة النووية الباكستانية التي تمت بصمت ولم يُعلم بها إلا بعد أن اكتملت .
أما الأمر الثاني : فيُتخلص منه بمناصحة هذه الحكومات المتهالكة بأن الإسلام وطلب ماعند الله والدار الآخرة خير لها وأبقى من متاع زائل وسط ذل دائم ! وأن العدو مهما خُنع له فلا أمان عنده ، وعن قريب يقلب ظهر المجن للخانعين . ( وهاهو العراق شاهد على ذلك ؛ حيث انقلب عليه حلفاؤه الصليبيون بعد أن استهلكوه واستفادوا منه ، ولم تنفعه عمالته لهم . فاعتبروا يا أولي الألباب ) . وأن لاخوف من أبنائها النابغين ؛ مادامت تحكم بشرع الله العادل ؛ فلتستفد منهم وتُسهل أمورهم ، وتدعمهم .
وقبل هذا : نشر الدعوة بين المسلمين ؛ لأنها – أي الدعوة - مع الوقت والانتشار سترفع عنا ما نحن فيه – بإذن الله - .
هذا مالدي على عجل ؛ وأنتظر مشاركات الإخوة .
أما مايلي فهو عبارة عن مقتطفات مهمة من كتب ومقالات تُعالج موضوع نقل التقنية ؛ أحببتُ أن يطلع عليها القراء ؛ لعلها تكون بداية للتفكير في هذا الأمر جديًا ؛ داعيًا بالتوفيق لكل ناصح لأمته ؛ مهما كانت مسؤليته .
1- نقل التقنية بين التبعية والابتكار – أ.د. إبراهيم بن صالح المعتاز ، المجلة العربية ، عدد ذي الحجة 1423هـ :(9/2)
( لقد تم إنفاق مبالغ طائلة على عملية نقل التقنية إذا بلغت العقود المبرمة بين الدول العربية والشركات الأجنبية عام 1978م نحو 400 مليار دولار، وتم استيراد حوالي 600 مشروعاً للمنطقة العربية في مجال الصناعات البترولية والبتروكيمياوية في عقد الستينيات والسبعينيات الميلادية، وكانت خطط التنمية العربية تركز على تصدير المواد الخام إلى الدول الصناعية المتقدمة، واستيراد كميات كبيرة من المعدات وأدوات الإنتاج أو النظم والتقنيات المتقدمة من الدول الصناعية المتقدمة ؛ حتى وصل حجم الاستيراد في مجال المشروعات الصناعية والهندسية حوالي 70-100 بليون دولار سنوياً، بينما لا تزيد المدخلات المحلية في هذه المشاريع عن 15% من التكاليف الإجمالية.
تنمية التقنية وابتكارها :
إن النقل الفاعل للتقنية يتم بملاءمة هذه التقنية المنقولة للبيئة ملاءمة هندسية وفنية مع توافر عوامل الإنتاج ومواءمة الظروف البيئية، وتكون عادة خطوات نقل التقنية مبينة على: (الانتقاء الراشد والتطويع وتطوير التقنية والإبداع) .
وتجد التقنية انتشاراً أفقياً بين الدول وهو انتشار محدود وغير فعال؛ ذلك أن الدول المتقدمة لا يمكن أن تتبرع بما لديها من تقنية للدول النامية دون تحقيق الفوائد المكتسبة وضمان التبعية المستمرة لها، ومجمل قنوات هذا النقل الأفقي للتقنية يكون خلال حقوق تراخيص لإنتاج بعض السلع دون إعطاء التفاصيل الصناعية ، أو خلال مصانع التجميع ، أو بقيام شركات متحدة يحتفظ الشريك الأجنبي بأسرار الخبرة، ويكون النقل الأفقي عن طريق نقل الطرق والأساليب دون إجراء أية تعديلات لملاءمة هذه الطرق والأساليب مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الموجودة في الدولة المنقولة إليها التقنية.(9/3)
يكون النقل الفعال للتقنية أيضاً على المستوى الوطني نقلاً رأسياً ، ليثبت جذور الصناعة ويعلي نماءها في البلاد بين الفئات الفنية المتخصصة، ويعد النقل الرأسي للتقنية هو المؤشر الصادق للتطور التقني النابع من البيئة المحلية، ويكون هذا النقل بشكل أساس فيما بين مراكز البحوث ومعاقل الصناعة، ويستلزم ذلك مراعاة ما يلي:
أولاً: إيجاد قاعدة علمية قادرة على التطوير والابتكار العلمي، وليس فقط مجرد الإضافة للمحصول العلمي الفردي أو الجمالي، وإن كانت عملية مضاعفة المحصول العلمي أمراً لازماً إلا أن التركيز على النوعية والاختيار الأمثل للكادر العلمي أمر أدق وأهم.
ثانياً: إيجاد قاعدة صناعية متميزة تأخذ بأحدث ما وصلت إليه التقنية مع قبولها التطوير المستمر، ولقد كانت مجمل الصناعات المنقولة معتمدة على استنزاف القدرات البشرية والطبيعية والوفاء بمتطلبات الدول الصناعية والاستغلال السيئ لليد العاملة.
ثالثاً: الترابط الوثيق بين القاعدة العلمية والقاعدة الصناعية، لتحويل الإنجازات العلمية إلى واقع صناعي، ويفضل أن يكون هذا الترابط ناشئاً عن مركز بحوث رئيس ملم باحتياجات البلاد وأهدافها التنموية، قادر على الدعم السخي، له صلاحية التنسيق والتنظيم مع وحدات البحث العلمي المختلفة في البلاد والقطاع الصناعي المتطور.
ولعل من الخطوات العملية الممكنة في هذا الجانب أن تبذل الجهود لإيجاد مراكز بحوث علمية في كل قطر عربي، تدير دفة البحث العلمي وترسم سياسة البحث العلمي النابعة من احتياجات ذلك القطر والمتكاملة مع احتياجات باقي الأقطار الأخرى ) .
2- سبل نقل التقنية لدول مجلس التعاون الخليجي والمعوقات أمام ذلك – العقيد المهندس الركن عبد الله بن صالح الموينع ، مجلة الصقور ، العدد ( 48 ) .(9/4)
( العقبات أمام نقل التقنية: قد تواجه دول الخليج وغيرها من الدول النامية عدداً من العقبات قد تحد من نقل التقنية الصناعية المطلوبة، ومن هذه العقبات : 1 - السرية التي تفرضها الدول الصانعة على تقنية منظومات الأسلحة ) .
3- تجربة ماليزيا في نقل التقنية : الوصايا العشر للاستثمار الناجح – جيه جيجا شيزان – الرئيس التنفيذي لشركة الاستشاريين الدوليين بماليزيا : ( ومما يجدر ذكره أن اتفاقات نقل التقنية يجب أن تُغربل للتأكد من أنها لن تكون مضرة بالمصلحة الوطنية، ولن تفرض خطورات وقيوداً غير عادلة وغير مبررة أو معوقات على الطرف المحلي ، وللتأكد من أن دفع الرسوم سيكون متساوياً مع مستوى التقنية المراد نقلها ) .
4 - نقل العلوم والتقنية – د. محمد أحمد طرابزوني – مجلة " العلوم والتقنية " ، العدد ( 41 ) :
( فاليابان مثلاً اعتمدت على نتائج الحرب العالمية الثانية وحصولها على برنامج المساعدات والمعونة الأمريكية؛ مقابل اعترافها بالهزيمة وسماحها لبناء القواعد والمنشآت العسكرية الأمريكية فيها، خصوصاً وأنه تكون لديها قبل الحرب وأثناءها قدرة تقنية استطاعت بها اكتساب وتطويع وتحسين التقنيات التي تستوردها بعد الحرب، كما أرسلت العديد من الطلاب للدارسة في الجامعات الأمريكية لبناء الطاقات البشرية التي استخدمت في فك وتفتيت الآلة طبقاً للمنهج الذي تبنته ؛ والقائل: الآلة الأولى بالاستيراد والثانية بالإنتاج المحلي، وكما استفادت من إصدار الأنظمة واللوائح التي تساعد على تشجيع الاستثمار، وفتحت أسواق المال والبورصة والاقتصاد وركزت على الصناعات البديلة للمواد المستوردة، وصناعات الأجهزة الدقيقة، والبصرية، والإلكترونيات وقامت بتطويرها تطويراً جيداً يتجاوز الوصف كي تحتكر الأسواق المحلية، والإقليمية، والعالمية، وهذا هو الأسلوب الأسلم والأحسن لنقل واكتساب وتطويع التقنية.(9/5)
وأما كوريا وتايوان فقد اختارتا أسلوباً مغايراً للأسلوب الياباني، وذلك باختيار الصناعات القائمة على التقنيات الناضجة واستفادتا من الأيدي العاملة المتوفرة لديهما، واستدرجتا رؤوس الأموال الأجنبية والتقنية المتقدمة، وذلك بعد أن أوجدتا قاعدة تقنية متينة قامت على الصناعات البديلة للمواد المستوردة والصناعات الخفيفة وخصخصتها للتصدير فقط لكي تكسب الأسواق، وأصبحتا تهتمان بفعالية البحوث العلمية الصناعية والتطوير وتنشطهما ).
5- كتاب " الردع النووي في الشرق الأوسط " ، د. خليل إبراهيم الشقاقي :
( إن أية محاولة عربية لاستخدام مواد نووية من محطات الطاقة النووية لأغراض عسكرية ستواجه ثلاث مشاكل على الأقل:
أولاً: إن المنشآت المخطط لها سيتم تشغيلها باستعمال وقود اليورانيوم قليل الإخصاب . تعطي المفاعلات التي تستخدم هذا النوع من اليورانيوم نصف كمية البلوتونيوم التي تعطيها المفاغلات التي تستخدم اليورانيوم الطبيعي .
ثانياً: إن تحويل كمية كبرى من المواد النووية لأغراض عسكرية قد يؤدي إلى توقف الدولة المصدرة عن تزويد الدولة العربية باحتياجاتها من اليورانيوم قليل الإخصاب، وذلك لمنع هذه الدولة العربية من صنع قنابل نووية ، كما قد تتعرض أية محاولة عربية لبناء منشآت لإخصاب اليورانيوم للتأخير نتيجة لفرض الدول المصدرة بيع المعدات الضرورية لتلك المنشآت لشكها في الغرض الذي سُتستعمل من أجله.(9/6)
ثالثاً: إن الغالبية العظمة من البرامج النووية العربية تخطط لبناء محطات طاقة نووية لإنتاج كميات كبيرة من بلوتونيوم – 240 و 242 (وهي شواذ لا تصلح للاستعمال العسكري)، بينما تُنتج كميات قليلة من بلوتونيوم – 239 الصالح للتسليح النووي . تعتبر مواد البلوتونيوم – 240 والبلوتونيوم- 242 مواداً غير مرغوب فيها لأسباب تتعلق بتصميم القنبلة النووية؛ ذلك لأن هذين النوعين من البلوتونيوم يزيدان من الحجم المطلوب لكتلة البلوتونيوم الحرجة، ويقللان من إمكان التنبؤ بقوة القنبلة النووية أو بكفاءة تلك القوة؛ كما أنهما شديدتا الإشعاع، كذلك فإن الانشطار التلقائي لبلوتونيوم – 240 يخلق مشاكل إضافية أخرى لتصميم القنبلة حيث يولد هذا الانشطار حرارة عالية ويتطلب بالتالي توفير وسائل تبريد مناسبة لوقاية القنبلة من الحرارة الشديدة.
على أية حال، إن وجود بلوتونيوم – 240 لا يمنع استعمال البلوتونيوم المستخرج من مفاعلات الطاقة في صناعة قنابل انشطارية نووية قادرة على إحداث انفجارات ذات مدى لا يتعدى عدة كيلوات من الأطنان من المتفجرات، ومن الواضح أنه بالنسبة للدولة المسلحة حديثاً بأسلحة نووية والتي ترغب في استخدام أسلحتها الجديدة لأغراض الردع فقط، فإن امتلاك قنابل نووية بسيطة وبدائية هو العامل الأهم، وليس مهماً مدى تعقيدها أو درجة قوتها.(9/7)
إن المفاعلات النووية غير المكرسة للأغراض العسكرية، مثل مفاعلات الطاقة مثلاً، والتي تستخدم يورانيوم قليل الإخصاب، قادرة على إنتاج ما يعادل كيلوغراماً واحداً من البلوتونيوم سنوياً لكل اثنين من الميغاواطات الكهربائية، وبناء على ذلك فإن مفاعل الطاقة المصري في ضبعة (وهو ذو طاقة الألف ميغاواط) قادر على إنتاج حوالي 500 كلغ من البلوتونيوم سنوياً ؛ بعبارة أخرى ستتمكن محطة ضبعة بعد عام واحد فقط من بدء العمل بكامل طاقتها، من إنتاج بلوتونيوم يكفي (بعد فصله عن الشواذ ومواد أخرى) لصنع حوالي 60 قنبلة نووية بقوة 20 كيلوطن لكل منها، ولو قررت مصر السير قدماً في بناء المفاعلات الثمانية المخطط لها حتى العام 2000 (وهو أمر مستبعد في الوقت الحاضر)، فسيكون بمقدورها أن تنتج سنوياً كمية من البلوتونيوم تكفي لصنع 480 قنبلة بقوة 20 كيلوطن.(9/8)
سيكون لدى عدد من الدول العربية، قبل نهاية هذا القرن، القدرة التقنية والفنية لتصميم وصنع قنابل نووية وبناء منشآت لفصل البلوتونيوم. إن إعادة تصنيع كميات قليلة من الوقود النووي البلوتونيوم (من أجل صنع قنابل صغيرة سنوياً) لا تشكل عقبة تقنية صعبة، كما أوضحنا سابقاً، كذلك فإنه ليس من المتوقع أن يواجه العرض مشكلة ذات بال في تصميم وصناعة القنبلة نفسها، يقول العالم الأمريكي جون فوسترjohn foster (وهو خبير معروف في مجال تقنية الأسلحة النووية، ومدير سابق لمختبرات لورانس الإشعاعيةlawrence radiation laboratories في كاليفورنيا، ومدير سابق لقسم الهندسة والأبحاث الدفاعية في وزارة الدفاع الأمريكية): إن أصعب جزء في صناعة القنبلة النووية الإنشطارية هو تحضير المواد القابلة للإنشطار وتنقيتها، أما تصميم القنبلة نفسها فعملية سهلة نسبياً، يضاف إلى ذلك أنه ليس ضرورياً تجربة القنبلة نفسها لمعرفة خصائصها وفحص أدائها، ومن هنا فبالإمكان المحافظة على سرية العمل نحو التسليح النووي العربي، إن كان ذلك مرغوباً به ! ) .
6- نظرات في مسألة التقدم العلمي والتقني – أ/ عبد الله بن سليمان القفاري ، مجلة العلوم والتقنية ، العدد ( 41 ) :
( أما دول العالم النامية والمتخلفة علمياً وتقنياً وصناعياً -مع الاختلاف النسبي في درجة نموها ودرجة تخلفها والتي منها الدول العربية- فهي تعاني أشد المعاناة من آثار هذا التخلف الذي تزداد درجته افتراقاً يوماً بعد يوم في ظل نمو تقني متسارع وحثيث لا يهدأ ولا يفتر.
ولتقريب التصور حول آثار التخلف العلمي والتقني على الشعوب والمجتمعات والدول يمكن الإشارة إلى مثالين هنا:(9/9)
أولهما: يمس الأمن الغذائي لهذه المجتمعات في ظل طفرات سكانية وأنماط استهلاكية ملحة، فمثلاً هناك قصور كبير في استغلال الأرض الزراعية، ففي إفريقيا على سبيل المثال، هذه القارة التي تزخر بكل الموارد الطبيعية والثروات الهائلة والتي تعاني من مجاعة دائمة وأمراض مستوطنة، هناك مجال للاستغلال الزراعي لأكثر من 600 مليون هكتار قابلة للزراعة، وفي العالم العربي تقدر المساحة المتاحة بـ 198 مليون هكتار لا يستغل منها سوى 40 مليون هكتار تندرج تحت الزراعة المطرية بشكل رئيسي، أما في دولة مثل مصر فإن الأرض القابلة للزراعة لا تزيد عن 6% فقط من مساحتها.
وعلى اعتبار أن هناك العديد من المعوقات التي تعترض طريق التنمية في تلك المناطق ومنها المعوقات الاقتصادية والإدارية والسياسية والاجتماعية، فإن عنصر الاستخدام التقني في العملية الزراعية بشكل مرشد (المكننة الزراعية) يمثل محوراً هاماً يمكن أن يساهم في زيادة مساحة الرقعة الزراعية بطاقات بشرية أقل وبأساليب حديثة تساهم في زيادة المحصول ووفرته، وهذه تعتمد –بالإضافة إلى المكننة الزراعية- على الاستفادة من نتائج البحوث العلمية في عملية الإنتاج الزراعي التي أفاد منها الغرب كثيراً، وجني ثمار التطبيق العملي لنتائج الدراسات العلمية (التطبيق التقني)، لذا فإن الأمن الغذائي لن يتحقق دون الاستثمار الأمثل للأرض، خاصة في ظل شح الموارد المائية وانجراف الأرض الزراعية والتصحر.
إن استجداء الغذاء من الدول المنتجة له سيكون له نتائج وخيمة مستقبلاً، وسيقابله تنازلات وتكاليف اقتصادية متصاعدة ترهق ميزان المدفوعات لتلك الدول، وقد تحملها قروضاً بفوائد متصاعدة تجعلها تدور في حلقات المديونية الدائمة مما يجعلها تراوح مكانها داخل خطوط الفقر التي تحاصرها كما يظهر ذلك الآن.(9/10)
وهناك مثال آخر يبرز سيطرة الشركات العالمية في الدول المتقدمة تقنياً مما يجعل تكاليف نقل التقنية إلى أي دولة نامية مكلف للغاية، نتيجة احتكار سوق التقنية في الدول الصناعية، لأن هذه الشركات بما تملكه من تقنية في الإنتاج والتمويل والمحاسبة والتسويق يمكنها رفع قيمة تكاليف الآلات والمعدات والمصانع التي تصدرها للدول المحتاجة، سواء التكاليف المباشرة أو حتى غير المباشرة مثل (حقوق الإمتيازات – براءات الاختراع- العلامات التجارية...)، وهي كلها غير محددة القيمة وتختلف تكاليفها من دولة إلى أخرى، وهذه التكاليف تمثل من 30 – 50% من التكاليف الكلية للمشروع، مما يجعل الدول المختلفة –من هذه الناحية- أسيرة للدول الصناعية ومرهونة بإرادتها، وبالإضافة إلى التكاليف الباهظة التي تزيد أعباءها واحتياجها المستمر لخبرات تلك الدول، كما أنها قد تحرم من أي تقنيات صناعية ترى الدول المالكة أن امتلاكها من قبل أطراف أخرى قد يهدد مصالحها وامتيازاتها ) .(9/11)
( استمد نظام التربية والتعليم الياباني قوته في روحه وصرامته وتصميمه على الكسب والتحصيل من روح الأمة اليابانية التي تملك هذا الحس الرفيع من حسن التلمذة الدائمة إلى القدر الكبير من الفضول المعرفي الذي يدفعها لاستطلاع ما لدى الآخرين من معارف وتجارب، بالإضافة إلى أن التعليم في اليابان يعتبر خدمة وطنية عامة وواجباً قومياً يتجاوز أي جهد فردي أو فئوي خاص، وإنه في مناهجه ومقدراته وتوجيهاته يمثل عامل التوحيد الأهم لعقل الأمة وضميرها، فمنذ مراحل التعليم الإلزامية الأولى لا يُسمح فيه بتعددية المناهج والفلسفات التربوية، كما أن اليابان لم تؤخذ ببريق الدراسات النظرية الغربية من فلسفات وحقوق وإنسانيات وانصرفت إلى تأسيس قاعدتها العلمية التقنية الصناعية، ولا يزال التعليم المهني مقدماً على النظري، ونقطة القوة الأساسية في النظام التربوي هناك ليس جامعات وإنما معاهد التقنية المتوسطة التي تمثل عموده الفقري (التي مثلت وتمثل في الوقت ذاته نقطة الضعف في النظم التربوية العربية التي بنت أمجادها على كليات الحقوق والآداب كما يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري ) .
( إن النظر في تجارب الأمم التي سبقتنا في مضمار التقدم والرقي المادي الحضاري والاستفادة منها مسألة أساسية في اشتراطات النهضة، وتتأكد هذه المسألة عندما تكون تكل الأمم أو الدول أو الشعوب منذ بضعة عقود في صف الدول النامية أو المتطلعة للنمو، مثل تجارب بعض الدول التي حققت في السنوات الأخيرة قفزات هائلة في مضمار التقدم الصناعي ؛كبعض دول جنوب شرق أسيا كإندونيسيا وماليزيا وغيرها من مجموعة (النمور الآسيوية)، تلك التجارب جديرة بالدراسة والنظر ونعتقد أن فرض الاستفادة منها كبيرة خاصة في ظل تشابه بعض الظروف ووجود روابط ثقافية مشتركة.(9/12)
إن تأسيس مراكز فكرية لهذا النوع من الدراسات الاستراتيجية كفيل بأن يضع المخططين لبرامج العلوم والتقنية أمام فرصة كبيرة لبناء برامج عملية وممكنة وذات فرصة أوسع للنجاح والتحقيق ) .
للمزيد :
7- نقل التقنية – أ.د. علي بن أحمد الرباعي ، مجلة " كلية الملك عبدالعزيز الحربية " ، العدد 41
8- رسالة " التقنية وكيفية نقلها إلى الدول النامية " ؛ للدكتور بهاء بن حسين عزّى .
9- تايوان.. ما بين نقل التقنية والتطور الصناعي – د. محمد بن أحمد الطرابزوني ؛ مجلة الأسواق ، العدد 55
10- نقل التقنية وتوطينها بين الواقع والتطلعات ، مجلة الحرس الوطني ، العدد 174
11- نقل التقانة المفهوم والطموحات والمعاناة – د. داود سليمان رضوان ، مجلة " القافلة " ، عدد ذي القعدة ، 1416هـ .
تنبيه : هل يُشترط للتقنية المأمولة من الدول الإسلامية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين ؟! أو يكفي أن تُحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها ، ويحميه من كيد العدو ؟! لهذا مقال آخر بإذن الله .(9/13)
تعقيب على فتوى الشيخ د. القرضاوي
حول عمل المرأة المسلمة في النشاط السياسي
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
أشير إلى فتوى أَخي الكريم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - هداه الله - ، كما نشرتها مجلة البلاغ الكويتية في عدديها (1638) الأحد 24 صفر 1426هـ الموافق 3 أبريل 2005م للسنة (36) ، والعدد (1639) الأحد 1ربيع الأول 1426هـ الموافق 10 أبريل 2005م ، حول عمل المرأة السياسي وحكم الإسلام في ذلك .
لقد ابتدأ فضيلته كلمته بقوله : " فالإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء . " فهذا حكم عام مطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة ، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة . إِنّ النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة التي أتت بها الفتوى دون أي قيود ، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة ، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة ، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا . ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود ، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين ، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ . نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء ، ولا نساء الخلفاء الراشدين ، ولا نساء العصور التي تلت ، ولا نجد هذه الدعوة التي تطلقها فتوى فضيلته إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين .(10/1)
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية ، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به ، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه ، وأن يستشيرها في ذلك ، وأن يستمع إلى رأيها ، فإن وجد فيه خيراً أخذ به ، وإن لم يجدْ تركه . هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام ، ونتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك ، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي .
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء ، وكذلك سائر النساء لم يعرف عنهن هذه المشاركة المساويةً للرجال في المجتمع المسلم . فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام .
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم قوله ( يا أيها النبيُّ قل لأزواجك إن كنتُنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أُمتعكنّ وأسّرحكنّ سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) ، لم يكن الأمر أن نساء النبي يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية ، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء . لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر ، ولكن حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين ، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات ، لا مستوى الملوك والرؤساء .(10/2)
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك ، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين ، لهن هذه الحرمة العظيمة والمنزلة العظيمة . فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكر المسلمين ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام : نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات . نهجان مختلفان :
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما *** نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على *** نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين هذا التذكير ، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة ، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر . ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء ، الطباع التي فطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف .
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً ، وخلق الرجل ليكون رجلاً ، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها ، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته ، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء .
وعلى ضوء ذلك ، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً ، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً ، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له ، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي ، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً .(10/3)
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة . فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة ، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل .ومن حق المرأة أن تتعلم لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، رجلاً كان أو امرأة ": طلب العلم فريضة على كل مسلم " . ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرسة للنساء ، وطبيبة للنساء ، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا ، دون أن يتشبّهْن بالرجال : فعن ابن عباس رضي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال ، والمتشبّهين من الرجال بالنساء " وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء "
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية ، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام ، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا ، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله عزّ وجلَّ عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ... " إلى آخر الحديث
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم ، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه ، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها ، لا تتركهم للخادمات وغيرهن .(10/4)
وأعجب من حديث أخي الشيخ د . القرضاوي في حديثه وفتواه من أنه لم يشر إلى الأسرة والبيت وواجب المرأة فيه ، وأَثر عمل المرأة السياسي على جو الأسرة وحقوق الأطفال وحق الزوج .
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة ، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً ، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة . فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام ، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض .
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات ، مفتيات موهوبات . ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام ، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة . والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة ، فهي أحرى أن تصبح اكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى :
{.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ... }
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف ، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه ، واجباتها التي ليس لها بديل . فلنستمع إلى ما يقوله :
" ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة ، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال " .
ويتابع فيقول : " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء وفي الإنتاج وفي قطاع الخدمات وحقل العلم والإبداع ، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية ، كإدارة المنزل وتربية الأطفال ، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة . وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب ، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية ، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية ... "(10/5)
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج ، انطلقوا كما نرى ، ولو متأخرين ، من البيت ، من الأسرة ، من دور المرأة في البيت ، الدور الذي لا بديل له . ونحن المسلمين ، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد ، الرجل والمرأة ، ثم البيت والأسرة ، تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة ، أو رئيسة شركة ، ونضع من أَجل ذلك قانونا عاماً مطلقاً دون قيود : " الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية . " ! وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين ، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية ؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها ؟!
لا نقول إِنّ المرأة عامة ، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء . لا نقول هذا . ولكن نقول إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة ، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عصور كثيرة أخرى .
ولقد تعارض حديث د. القرضاوي بين أول كلامه ، و بين ما ورد بعد ذلك في ص34 ، فأول الكلام كان حكماً مطلقاً دون أي ضوابط أو حدود : " مساواة المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية " !! ثم يقول بعد ذلك : " ... وليست كل امرأة صالحة للقيام بعبء النيابة ... " !! ثم يقول : " ولكن المرأة التي لم ترزق الأطفال وعندها فضل قوة وعلم وذكاء ، والمرأة التي بلغت الخمسين أو قاربت ..." ، فأصبح هناك شروط كثيرة تتناقض مع صيغة الحكم العام المطلق الذي ورد في مستهلّ الفتوى . فهل المقصود النساء فوق الخمسين واللواتي لم يرزقن بأولاد ؟!(10/6)
أما قصة عائشة رضي الله عتها وخروجها للمطالبة بالقصاص ، وما يقال من أنها ندمت على ذلك ، فلم يكن ندمها لأن رأيها السياسي كان خطأ فقط . كان ندمها لأنها خالفت نصّ الآية : " وقرن في بيوتكنّ ... " وقد أكدَّ د. القرضاوي أن هذه الآية الكريمة خاصة في نساء النبي . فكان أحرى به أن يرى أن خروجها ذاك كان مخالفاً للنص من ناحية ، وأنّ اشتراكها في فتنة وقتال بين المسلمين لا حق لها به . ثم يعود ويستنتج من الآية نفسها أحكاماً عامة على المرأة المسلمة لا على نساء النبيّصلى الله عليه وسلم ، حين يقول : وقد نسي هؤلاء أنّ بقية الآية الكريمة تدلّ بمفهومها على شرعيّة الخروج للمرأة من بيتها إِذا التزمت ... " .
أما الحديث عن بلقيس ، فلا مانع أن يظهر بين النساء من يملكن مواهب متفرّدة . فبلقيس لم تكن مؤمنة ، ولم تكن تخضع لنهج إيماني ، إلا بعد أن أسلمت والتزمت ، فلا يصحّ الاستدلال بها ، وهي على كفرها ، على حقوق المرأة في الإسلام . وإلا فلنستشهد بكونداليزاريس ، وجولدا مائير !! وغيرهن من النساء غير الملتزمات بالإسلام ، ولا مجتمعاتهنّ ملتزمة بالإسلام . فمثل هذا الاستشهاد أرى أنه لا يصح أصلاً . وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال ، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة ، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات ولا مجتمعاتهن ملتزمة بالإسلام .
وغفر الله لمن قال ، كما نشرته إحدى الصحف : " إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير ، أنديراغاندي ، تاتشر ، ما قال حديثه الشريف : " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " !! فالمؤسف أن من الناس من يعتبر أن هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن . عجباً كل العجب ! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح ! وأين قوله سبحانه وتعالى :(10/7)
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } ؟
نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح . ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين .
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام .
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة " ، فالحديث يرويه البخاري وأحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجة والترمذي . ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص . وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص . ولا يعجز الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص . ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم ، وامرأة نكرة تفيد العموم ، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة ، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل .
ويقول فضيلته : " إذا كانت المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه ، فإنها مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه "! وهذه أيضاً قاعدة عامة لا يجوز أن تؤخذ على إطلاقها .
نَعم ! إن المرأة مطالبة بذلك كالرجل . ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة ، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل . وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد ، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت . والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال ، وليس فرضاً على المرأة ، وجهاد المرأة في بيتها ورعايته ورعاية زوجها :(10/8)
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك ! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال ، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون . ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ، وقليل منكنّ يفعله " .
وعن أنس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى "
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وفيه : " ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم "
وعن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال : نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة "
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق ، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت ، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل ، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة .
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل . نهجان كما ذكرنا مختلفان . ولكن يبدو أن بعض المسلمين اليوم يريدون أن يبيّنوا أن الإسلام ديمقراطي وأنه علماني ، ففي مؤتمر إسلامي في استوكهولم أخذ داعية مسلم يدعو إلى الديمقراطية وأنها من الإسلام ، وفي باريس في مؤتمر إسلامي آخر قال داعية إن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها . وبعض الأحزاب الإسلامية أعلنت : لا تقولوا عنا إسلاميون نحن علمانيون !(10/9)
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح . ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه ، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته . ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة . إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها ، ونعرض الإسلامَ كما هو وكما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين .
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء ، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته . وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام . المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم . أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن . دور بيّنه الله للنساء وللرجال لا نجده في الديمقراطية ولا في العلمانية ، ولا في تاريخ الغرب كله .(10/10)
نعم ! إن أول من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضى الله عنها . ولكنها بتصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته ، فلم تنطلق خديجة رضي الله عنها في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال . وكذلك كانت سمية أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها ، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام . والنساء اللواتي قاتلن في أحد أو حنين ، كان ذلك في لحظات عصيبة لا تمثل القاعدة في الإسلام ، كما بيناها قيل قليل ، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال ، وإنما كنّ أول من التزم حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسوله .
المرأة التي قامت تردّ على عمر رضي الله عنه في المسجد - إن صحت القصة - ، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم . وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم ، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم . وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها ، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة .
ولقد سبق أن علّقتُ على قصة أم سلمة وقصة بلقيس . ولكنَّ هذا العرض الذي تفضل به فضيلة الدكتور القرضاوي يفرض علينا سؤالاً يلحّ علينا ، ذلك السؤال : لماذا نلتقط حادثة فريدة من هنا لم تتكرر ، وحادثة أخرى كذلك لم تتكرر ، حوادث لا تمثّل قاعدة عامة في الإسلام ، وبعضها أو كلها كانت في ظروف خاصة تتقيّد الحادثة بها ، لماذا نلتقط هذه الحوادث ونضع بناء عليها قانوناً عاماً لم يرد في الكتاب ولا السنّة ، ولا في التطبيق في عصر النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين ، العصرين اللذين أُمرِنا أن نتبعهما ، كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه العرباض بن سارية : " ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ... "(10/11)
وأتساءل عن السبب الذي يدعو فضيلته إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية ! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن ، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة ، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها ، وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم ، وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية ؟!
وبصورة عامة ، فإنّ هذا الموضوع : مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم : " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل " ! هكذا في تعميم شامل ، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي ، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه . وكذلك : مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية " ، هذا كله موضوع طرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية ، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية ، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية .
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تدرس وتراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية ، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه . والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط ، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور وإلى التورط في علاقات غير كريمة .
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين ، ففي الرجال عندنا فائض ، والرجال بحاجة إلى أن تدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام .
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة ، فعندما يُطلق هذا ويباح ، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام و بالحجاب و باللباس عامة .(10/12)
إن إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة ، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد ، دون أن ينفى هذا وجود بعض النساء الملتزمات ، إن إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها .
أولى من ذلك : علِّموا الرجل دينه ليؤمن به ويلتزمه ، وعلموا المرأة دينها لتؤمن به وتلتزمه ، فسيعرف الرجل المسلم الملتزم حدوده وميادينه ، وستعرف المرأة المسلمة الملتزمة حدودها وميادينها ، ويستغنون عندئذ عن كثير من الفتاوى .
وإني لأتساءل : لأيّ مجتمع تصدر هذه الفتوى ؟ ! ، لأيّ رجل وأي امرأة ؟! هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي . أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً ، ليطلق فيه مثل هذه الأمور ، وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله .
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن ، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات ، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط ، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة .
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك . وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى ، كما نراها في العالم الغربي .
وأخيراً أقول .. : قبل أن نطلق هذه الآراء اليوم ، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم الملتزم بالكتاب والسنة حيث تكون كلمة الله هي العليا . هذا المجتمع سيكون أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة .
وكذلك أتساءل لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها ، ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه . في عالمنا اليوم فقد كثير من الرجال حقوقهم ، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها ، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل .(10/13)
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل .
فلنبنِ الأمة ، فلنبنِ الرجل والمرأة والبيت المسلم والمجتمع المسلم الملتزم ، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..(10/14)
إذا تيقن أن أمره ونهيه لايفيد .. فهل يأمر وينهى ؟!
هذا ملخص مفيد ذكره الشيخ مشهور – حفظه الله – في تحقيقه لكتاب " الإنجاد في أبواب الجهاد " لابن المناصف ( 1 /15-17) ؛ لمسألة مهمة تتردد بين الحين والآخر ؛ فقال :
( اختلف العلماء فيما إذا كان القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متأكداً من عدم التأثير؛ أو إن أمره ونهيه لا يفيد، ولا يعود بطائل، على قولين:
الأول: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة، وهو قول أبي حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (2/280)، إذ قال –رحمه الله تعالى-: "...أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، ولكنه لا يخاف، فلا تجب عليه الحسبة، لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين"، وهو اختيار عز الدين عبداللطيف بن عبدالعزيز المعروف بابن ملك (ت797هـ) في "مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار" (1/50) حيث قال: "وأما النهي عن المنكر فلوجوبه شرائط منها: أن يغلب على ظنه أن نهيه مؤثر لا عبث"، وإليه مال التفتازاني في "شرح المقاصد" (2/281)، بقوله وهو يتحدث عن شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "منها تجويز التأثير، بأن لا يعلم عدم التأثير قطعاً، لئلا يكون عبثاً واشتغالاً بما لا يعني، فإن قيل: يجب، وإن لم يؤثر، إعزازاً للدين، قلنا: ربما يكون إذلالاً".
الثاني: ويرى بعض العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب في هذه الحالة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وصححه أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وعزاه ابن رجب إلى أكثر العلماء، كما في "لوامع الأنوار البهية" (2/435)، وهو اختيار المصنف.(11/1)
يقول الإمام النووي –رحمه الله تعالى- في "شرح صحيح مسلم" (2/23): "قال العلماء: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال [المائدة:99]".(ما على الرسول إلا البلاغ(الله –عز وجل-:
والذي أراه راجحاً في هذه المسألة القول الثاني؛ لما يلي:
أولاً: إذا جرى الحديث عن تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدم تأثيره، أريد به ظهور المعروف حينما أمر به، وانتفاء المنكر حينما نهى عنه، وبالعكس، ولكن لننظر في الأمر من وجهة نظر أخرى، وهي أن المسلم –ولو لم يؤثر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأثيراً عاجلاً- لابد أن يتأثر في شعوره إلى حد ما، ومن الممكن أن يصير هذا التأثير، سبباً لفعله المعروف، وتركه المنكر فيما بعد، ومن هذه الناحية درس الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "شرح السير الكبير" (3/239-240)، نفسيَّة الأمة المسلمة، مراعاة كاملة، فقال: "وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام، وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه، وأنه لا يتفرق جمعهم بسببه؛ لأن القوم هناك مسلمون، معتقدون لما يأمرهم به، فلابد من أن فعله ينكئ في قلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك".
ثانياً: إذا أهمل السعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة عدم جدواه، تقطعت أسباب الرجاء عن الإصلاح، وهلك المجتمع كله.
ثالثاً: لا يصح بناء الحكم الفقهي على (التأثير) و(عدمه) فنقول: يجب الأمر بالمعروف عند حصول التأثير والإفادة، والعكس بالعكس؛ لأن التأثير وعدمه أمر غير ظاهر وغير منضبط، فكم من مأمور بالمعروف يُرجى فيه الخير ومنهي عن المنكر لا يرجى فيه ذلك، ولا يستجيب الأول ويستجيب الثاني.(11/2)
رابعاً: إن صح القول الأول فيحمل على أن العامة عليهم أن يحافظوا على دينهم وإيمانهم، ولا يصح أن يلقى عليهم أعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الخاصة منهم –أيضاً- إن لم يتقدموا إلى ذلك ظلموا أنفسهم وقدراتهم وإمكاناتهم.
وانظر بسطاً للمسألة في : "أحكام القرآن" (2/797)، و"مختصر الفتاوى المصرية" (58)، و"اقتضاء الصراط المستقيم" (1/148، 149)، و"طبقات الحنابلة" (2/280)، و"الآداب الشرعية" (1/178)، و"نصاب الاحتساب" (313)، و"أضواء البيان" (1/175)، و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص:157 وما بعدها) لجلال العمري، و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواقع المسلمين اليوم" (ص:103 وما بعدها) لصالح الدرويش، و"الأمر بالمعروف" لعبدالرحمن المقيط (ص50)، و"الأمر بالمعروف" (ص386) لخالد السبت، و"الجواب الأبهر لمن سأل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص57-61)، و"أصول الدعوة" (190، 312) لعبدالكريم زيدان. ) .
-------
تنبيه متعلق بالكتاب السابق : ذكر ابن المناصف حالات الجهاد ؛ وأنها لاتخرج عن ثلاث حالات - كما هو التقسيم المشهور - : 1 - أن يكون فرض عين .. 2- فرض كفاية .. 3- نافلة ..
فعلق الشيخ مشهور في الهامش : ( بقيت حالة رابعة ؛ وهي مهمة جدا ، وهي تخص نوازل الجهاد في هذا الزمان ، فقد تقع وستجدّ ( هكذا ولعلها تستجد ) ملابسات ، ماكانت في حسبان فقهائنا الأقدمين ؛ تؤثر على الحكم العيني أو الكفائي .... الخ ماذكر ) . ( 1/42-50) .
ولم يتبين لي مايقصد بهذه الحال الرابعة ؟
وفي ظني أن في تكثير الحالات فتحًا لباب مخالفة النصوص أو الاجماع ؛ دون أن نشعر .
وكان الأولى في نظري أن يبقي الشيخ على تقسيم الفقهاء ولايزيد عليه أحوالا متخيلة ؛ ثم ينبه إلى أن الحكم على كل واقعة منوط بالعلماء ؛ حتى يبينوا أهي من الجهاد العيني أو الكفائي ؟ أفي الجهر والمواجهة مصالح أو تغلب المفاسد ؟ ... الخ(11/3)
هذا - في نظري - أسلم وأحكم .
وفق الله الشيخ مشهورًا ؛ فتحقيقاته وكتاباته - وإن خولف في بعضها - تنبئ عن رجل جادّ محقق ، ولاتخلو من تفرد وتميز .
والله الهادي ..(11/4)
دكتور في جامعة الملك سعود يردد أكذوبة شيعية !!
" سقوط الدولة العباسية ، ودور الشيعة بين الحقيقة والاتهام " كتابٌ للأستاذ الدكتور سعد بن حذيفة الغامدي أحد منسوبي جامعة الملك سعود " قسم التاريخ " ، صدر قريبًا ، وكتب على طرته " دراسة جديدة لفترة حاسمة من تاريخ أمتنا " ، وهذا ما أغراني لاقتنائه ؛ منتظرًا ماسيجود به قلم الدكتور من جديد في هذه القضية. إلا أنني تفاجأت عندما رأيته يردد ما ردده الشيعة الرافضة من تكذيب لأي خيانة لأسلافهم – وهو ما تتابع عليه ثقات المؤرخين - . فهذا الجديد عنده !
عندها تذكرتُ صاحبه في نفس القسم : الدكتور عبدالعزيز الهلابي الذي ألف قبل سنوات كتابًا بعنوان " عبد الله بن سبأ : دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة " ، أوهم فيه أنه قد أتى بفتح جديد في قضية ابن السوداء ؛ فإذا به مجرد ناقل ومقتات من كتاب الرافضي مرتضى العسكري " عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى" ! ثم تابعه تلميذه الزيدي حسن المالكي ، فقلد شيخه الهلابي في سرقة موضوعه عن شخصية القعقاع بن عمرو - الذي أشغل به الباحثين - من كتاب العسكري الآخر عن الصحابة المختلقين – بزعمه - .
فعجبًا لهؤلاء كيف يستغفلون القراء ؟! معتقدين أنهم لن يعرفوا مصادر أفكارهم ، في هذا الزمن الذي قرب فيه البعيد ، واطلع فيه الباحثون على معظم التراث القديم والمعاصر شرقًا وغربًا ؛ ولله الحمد .
=====
يقول الدكتور – محاولا دفع تهمة الخيانة عن الرافضة – ( 331) :
" ومع هذا فإن سؤالاً يتبادر إلى الذهن؛ وهذا السؤال هو: هل كان هولاكو محتاجاً إلى مساعدة المسلمين الشيعة ضد المسلمين السنة، حتى نقبل أنهم كانوا أحد العوامل التي أدت إلى سقوط بغداد ؟ " .(12/1)
" في الحقيقة لم يكن هولاكو محتاجاً إلى مساعدة من أي فرد، شيعياً كان أم سنياً، لذلك فإننا نجد –كما يظهر لنا- أنه من غير المحتمل، أن لم يكن من المستحيل، أن يكون لهذه الطائفة من المسلمين أي دور فعال، سواء من داخل أو من خارج بغداد، في هجوم المغول ضد العاصمة العباسية، بغداد، وخلافتها السنية " ! (332)
قلتُ : إن سلمنا لك أن هولاكو لم يكن محتاجًا لهم ، فهم سيحتاجون له !
وهل ترُد الوقائع الحادثة بمثل هذه الشبهة الساذجة ؟! وسيأتي تناقض الدكتور عندما أثبت احتياج هولاكو لابن العلقمي الرافضي .
يقول الدكتور (333) :
" إن للمرء أن يقول بأن هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة؛ إذ لم تدعم، أو تثبت بأي دليل قاطع، يقوم أساساً على تقرير شاهد عيان معاصر؛ كما أنها لم تظهر هذه الاتهامات، أو الشائعات بمعنى أدق، إلا بعد سنوات طوال من بعد سقوط العاصمة بغداد، وانقراض أسرتها الحاكمة العباسية" !
قلت : سيتناقض الدكتور أيضًا عندما ينقل مايسميه اتهامات عمن أدرك عصرها من المؤرخين ! وهو قوله ( 336-338 ) :
" جاءت هذه الاتهامات التي وجهت ضد أتباع المذاهب الشيعي عامة، ووزير الخليفة المستعصم ابن العلقمي خاصة، في جميع المراجع السنية تقريباً، والتي تسنى لنا الرجوع إليها، والتي كتبها مؤرخونا أولئك الذين جاؤا فيما بعد. إذ نجد أن كل مؤرخ يأخذ عن المؤرخ الذي سبقه؛ ثم يضيف –كما سبقت الإشارة إلى هذه الحقيقة- إلى ما نقله من سلفه، ثم إضافة كلام من عنده، هو إشاعات، أكثر منه حقيقة تاريخية ثابتة، ولكننا نجد أن هذه الاتهامات تظهر أيضاً في مؤلف لمؤرخ غير مسلم، وهذا المؤرخ هو "المكين بن العميد جرجس"، المسيحي الديانة، حيث يقول بتآمر الوزير مع المغول ضد الخلافة العباسية، وقد أخذ بعض مؤرخينا الحديثين رواية "ابن العميد" تلك على أنها دليل قاطع، بلا ريب أو شك عندهم، على أن الوزير مذنب.(12/2)
كان ابن العميد مؤرخاً مسيحياً معاصراً عاش في مصر، وكتب تاريخه باللغة العربية، عن بني أيوب، ولكننا عندما نرجع إلى حقيقة ما قاله "ابن العميد"، في هذا الشأن، فإن المرء سيجد أن هذا المؤرخ لم يكن على علم بما وقع فعلاً؛ وأنه لم يكن يروي في كتابته عن هذه المسألة إلا مجرد شائعات وأقاويل جارية، لم يثبتها تقرير من شاهد عيان، وفي هذا الخصوص يقول "ابن العميد" ما يلي: وقيل أن وزير بغداد كتب إلى هولاؤون (يعني بذلك هولاكو) بأن يصل إلى بغداد ويأخذ البلاد".
أما مؤرخو الشيعة الذين أثبتوا خيانة أسلافهم وافتخروا بها ! فإن الدكتور يجعلها مكتوبة :
" بوازع من التعصب المتطرف الأعمى لإظهار الولاء للمذهب الشيعي بطريقة لا تقوم على أساس علمي باحث عن الحقيقة، فأقدموا على إثبات دور ابن العلقمي التآمري، بدافع من ذلك المنظار الضيق، فجعلوا من هذا الوزير بطلاً أسطورياً مخلصاً لدينه وإخوانه أتباع مذهبه ". ( 340) .
أما مؤرخو السنة فقد كال لهم الاتهامات وشكك في رواياتهم للحادثة الشنيعة بقوله :
" والذي نراه صحيحاً في هذا الشأن –كما يبدو لنا- هو: أن المؤرخين الذين اتهموا الوزير العلقمي، وعلى رأسهم الجوزجاني، كانوا مؤرخين سنيين متطرفين، فقد وجهوا إليه تلك التهم أصلاً بدافع من التعصب المذهبي، تمليه حوافز عدوانية، وعواطف تحاملية، يكنونها تجاه هذا الوزير المسلم الشيعي المذهب، لهذا فإن المرء ليقف عند روايات من هذا القبيل، موقف الشك هذا إذا لم يرفضها رفضاً قاطعاً، وأن ما أورده أولئك المؤرخون في تقاريرهم حول هذا الشأن، لا يقوم على أساس علمي دقيق ومحقق ". ( 341-342).
" إن هذه الاتهامات التي وجهت ضد الوزير لم تكن قد جاءت من مؤرخين عراقيين، معاصرين لتلك الأحداث في بغداد، بل جاءت من مؤرخين من خارج الأراضي العراقية، كالمؤرخ الفارسي الجوزجاني الذي كان يعيش في دهلي بالهند، أيام سقوط العاصمة العباسية بغداد.(12/3)
كما جاءت تلك الاتهامات في كتاب "تراجم رجال القرنين السادس والسابع" أو "الذيل على الروضتين" لأبي شامة الذي كان يعيش في أراضي الشام، ربما كان في دمشق، وفي الحقيقة لا يوجد أي شاهد عيان يثبت أنه رأى ذلك الرسول المزعوم الذي أرسله الوزير ابن العلقمي؛ لمقابلة القائد المغولي هولاكو، كما أننا لم نعثر –في مصادرنا- على أية رواية يستنتج منها أنه ربما يمكن أن يكون هناك وثيقة تتعلق بهذا الأمر قد أخفيت بحيث تضع هذا الوزير العباسي في مركز قد يصبح فيه متهماً ". (344).
" كان المؤرخ السوري أبو شامه الذي عاش في الشام ومات بها سنة 665هـ/1266م، هو أول مؤرخ عربي سني –حسب معلوماتنا- يذكر هذه الادعاءات ضد الوزير وذلك في كتابه المعروف بـ"تراجم رجال القرنين السادس والسابع" أو "الذيل على الروضتين" ويظهر لنا أن أبا شامه لم يكن يعرف عن حقيقة ما كان يجري من أحداث في داخل بلاط الخليفة المستعصم، بل لم يكن مطلعاً على أخبار القطر العراقي في جملته، إذ لم يعرف إلا النزر اليسير عن شؤون الدولة العباسية العامة فقط، ثم إنه لم يكن لديه سوى فكرة عائمة، يشوبها الغموض، والتشويش وعدم الوضوح " . (346).
" إن حقيقة كون هولاكو أبقى على الوزير ابن العلقمي حياً وعينه كواحد من كبار موظفي المغول، تبدو لنا أن المؤرخين المتهمين للوزير قد أوَّلُوها على أنها برهان قاطع على تآمره مع العدو، ضد الدولة العباسية التي يحتل منها مكانة عليا.
والذي يظهر لنا هو أن القائد المغولي قام بتعيين ابن العلقمي ليخدم في إدارة شؤون حكومة بغداد، تحت نفوذ السلطة المغولية، لا لأنه كان قد سبق له وتعاون معهم؛ أو لأنه حثهم على القدوم إلى بغداد وأخذها ومن ثم القضاء النهائي على حكومة العباسيين فيها " . (350-351).
هذا ماأتى به الدكتور من جديد في كتابه الجديد ! وماهو – عند باحثي أهل السنة – بجديد !(12/4)
وتوضيحه والرد عليه من كتاب " مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة " للدكتور ناصر القفاري ( 262-264) .
نقل الدكتور ناصر قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرافضة : "وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين ، ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق وقتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على المسلمين ، وكذلك الذين كانوا بالشام وحلب وغيرهما من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلوا المسلمين بالشام كانت الرافضة من أعظم المعاونين لهم، فهم دائماً يوالون الكفار من المشركين والنصارى ويعاونوهم على قتال المسلمين ومعاداتهم" . اهـ ، ثم قال الدكتور : " ويكفي في تأكيد ذلك مؤامرة مؤيد الدين بن العلقمي الرافضي مع التتار لإسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد ، مع أن هذا الرافضي كان وزيراً للمستعصم أربع عشرة سنة ، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة مالم يحصل لغيره من الوزراء ، فلم يُجد هذا التسامح والتقدير له في إزالة الحقد والغل الذي يحمله لأهل السنة " .
ثم قال : " انظر قصة تآمره في : ابن شاكر الكتبي: "فوات الوفيات": (2/313)، ابن كثير: "البداية والنهاية": (13/200)، الذهبي: "العبر": (5/225)، السبكي: "طبقات الشافعية": (8/262، 263) وغيرها.
ومن الغريب أنه نبتت نابتة في هذا العصر من الروافض وحاول توهين القصة ، وحجته أن الذين ذكروا الحادثة غير معاصرين للواقعة، وحينما جاء على من ذكر الحادثة من معاصريها مثل أبي شامة شهاب الدين عبدالرحمن بن إسماعيل ت665هـ كان جوابه عن ذلك بأنه وإن عاصر الحادثة معاصرة زمانية لكنه من دمشق فلم تتوفر فيه المعاصر المكانية! ، انظر: محمد الشيخ حسين الساعدي: "مؤيد الدين بن العلقمي وأسرار سقوط الدولة العباسية" وقد ساعدت جامعة بغداد على نشر الكتاب.(12/5)
ثم بحثتُ ذلك في كتب التاريخ فوجدت شهادة هامة لأحد كبار المؤرخين تتوفر فيه ثلاث صفات:
1-أن الشيعة يعتبرونه من رجالهم.
2-أنه من بغداد.
3-أنه متوفى سنة 674هـ.
فهو شيعي بغدادي معاصر للحادثة ، ذلك هوالفقيه علي بن أنجب المعروف بابن الساعي الذي قال: ".. وفي أيامه –يعني المستعصم- استولت التتار على بغداد وقتلوا الخليفة ، وبه انقضت الدولة العباسية من أرض العراق وسببه أن وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي كان رافضياً.. الخ" "مختصر أخبار الخلفاء": (ص136-137) وابن الساعي ذكره محسن الأمين في أعيان الشيعة من رجال الشيعة وقال: (علي بن أنجب البغدادي المعروف بابن الساعي له أخبار الخلفاء ت 674هـ) "أعيان الشيعة": (1/305)". اهـ كلام الدكتور القفاري – سلمه الله - .
وبه يتبين من أين أتى الدكتور الغامدي – هداه الله – بجديده الذي نافح به عن الرافضة الخونة – أخزاهم الله - ؛ ممن لم تعد تخفى عمالتهم وخستهم على عاقل ، غير غاش لأمته .. وما أحداث العراق عنا ببعيد ..!
ثم هل يتراجع الدكتور عن إنكاره خيانة القوم - بعد أن ثبتت له بشروطه ؟!
آمل ذلك ..(12/6)
محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا
د / محمد بن خالد الفاضل
اختيار سليمان بن صالح الخراشي
( عجبت من الكاتب حسن المصطفى حديثه باسم الشعراء ومحبي الشعر في السعودية، ونيابته عنهم في الترحيب بمحمود درويش والتلهف على تشريفه لنا، ومبالغته عندما قال: "قد يكون أحد أحلام الشعراء وجمهور الشعر في السعودية أن يحل الشاعر العربي محمود درويش ضيفاً عليهم ولو لمرة واحدة في العمر، قارئاً ما تيسر من شعره وسط أناس طالما ظلوا يحسدون من حولهم على نعمة وجود هذا الشاعر بينهم، خصوصاً أن يوم الشعر العالمي مر عليهم وكأنهم أيتام ثكلوا أمهم وأباهم" !! (صحيفة "الاقتصادية" الثلاثاء 2/2/1425)، إلى آخر ما دبجه الكاتب في مقاله من عبارات الوجد والشوق والهيام، التي يخيل إليك عند قراءتها أنها قيلت في رجل سيكون خلاص الأمة من ضعفها وهوانها وتأخرها على يديه، مع أن الحقيقة أن هذا الشاعر وأمثاله سبب رئيس من أسباب تأخر الأمة وهزائمها في كل الميادين.
وما دام الكاتب الكريم قد سمح لنفسه أن يتكلم باسم شعراء المملكة ومثقفيها ومحبي الشعر فيها، فليسمح لي أن أتكلم أيضاً باسمهم جميعاً، وعندي مستند قوي للحديث باسمهم، وليس عنده ذلك المستند، فأقول: أجزم أن الكاتب الكريم يتفق معي في أن شعب المملكة شعب مسلم بكل فئاته من مثقفين وعامة، وأن المسلم مهما كانت درجة التزامه وتدينه لا يرضى أن يسب أحد دينه أمامه أو خلفه، ولا يسمح بأن يتطاول أحد على ربه أو نبيه أو قرآنه حتى ولو كان بعيدا عنه، فكيف سيحلم بأن يحتفي به أو يستضيفه ؟!(13/1)
كما أن المسلم كيفما كان وحيثما كان لن يفتح صدره وقلبه وبيته لشخص قد وضع يده في يد عدوه، وكيف يجرؤ على ذلك والله سبحانه يقول في آية صريحة واضحة محكمة: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه...) فانظر أخي حسن في هذه الآية الواضحة واعرض نفسك عليها وكل من يحلم معك بالتشرف بالجلوس تحت منصة يسخر فيها من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأذكرك ونفسي والقراء بأن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ؛كما قال الحسن، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإسلام –وفي رواية الإيمان- الحب في الله والبغض في الله" رواه أحمد والطبراني وغيرهما وصححه الألباني.
فهل بعد هذه النصوص وغيرها كثير يهون علينا ديننا وربنا ونبينا وقرآننا، فنجلب بأموالنا من يسب ذلك كله في ديارنا ؟! ووالله إننا لا نحسد من حولنا على استضافة هذا الرجل وأمثاله كأدونيس وغيره، وإنما نشفق عليهم ونرثي لحال شبابهم الذين سيتربون على شعر الإلحاد والزندقة الذي خدر الأمة وضيعها، واحتفى به أعداؤها الصهاينة، ولعلك قد قرأت كما قرأ غيرك أن وزير التربية الإسرائيلي قد كافأ محمود درويش على نضاله وكفاحه بتضمين المناهج الإسرائيلية نصوصاً من شعره في المقاومة! ولا أدري أي مقاومة كافأه عليها اليهود؟! هل هي مقاومة الاحتلال، أو مقاومة الانتفاضة؟!(13/2)
ولعلك قد قرأت أيضاً أن السفير الإسرائيلي في باريس قد سلم قبل عامين تقريباً محمود درويش وأدونيس وبعض زملائهما خطاب شكر على البيان الذي وقعوه ونشرته صحيفة اللوموند الفرنسية يستنكرون فيه المؤتمر الذي كان سيعقد في بيروت لفضح الصهيونية (الهولوكست)، وأحيلك على تفصيل القضية في المقال الذي كتبه الأستاذ محمد رضا نصر الله في جريدة "الرياض" 14/1/1422هـ وعلى مقال قبله للأستاذ نصر الله في الصحيفة نفسها 30/12/1421هـ، كشف فيه حقيقة الشاعر سميح القاسم –زميل درويش في النضال- ورد عليه سخريته بالمملكة ودول الخليج في ندوة عقدها نادي الصحافة العربية في باريس.
وإن العجب لا ينقضي منا نحن أهل الخليج، فما رأيت شعباً يحتفي بمن يحتقره ويزدريه ويسبه في أقدس ما لديه ويراه ما زال بدوياً متخلفاً لا يحسن التصرف في هذه الثروة التي هبطت عليه فجأة : مثلنا؟
متى سنصحو ونعرف الصديق من العدو؟
متى سنميز الشريف من الخائن؟
متى سنفرق بين المناضل والعميل؟
لا أدري : هل أخي حسن قد قرأ ما كتبه الأديب رجاء النقاش في كتابه (محمود درويش شاعر الأرض المحتلة) -وهو غير متهم بالتجني عليه لأنه من المعجبين به- فقد ذكر في صفحة 133: أن محمود درويش قد عمل في جريدة الاتحاد، ومجلة الجديد، وهما من صحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وعلاقة درويش بهذا الحزب وعضويته فيه ثابتة لا شك فيها، وقد أفاض فيها النقاش في كتابه المذكور، وأكدها حسين مروة في كتابه: "دراسات نقدية" حينما قال على لسان درويش: "وصرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي أشعلتنا حماساً وأملاً، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعاً عن الحقوق القومية"؟ ثم أسأله أين الحقوق القومية عند شاعر يحتفي اليهود بشعره في مناهجهم وتأتيه رسائل الشكر من سفرائهم على مواقفه القومية؟!(13/3)
وإن أردت شواهد على سخرية الرجل بديننا ومقدساتنا، فاقرأ قوله: "رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم واستأجرتني آية الكرسي دهراً ثم صرت بطاقة للتهنئات" !!
وقوله: "وتناسل فينا الغزاة تكاثر فينا الطغاة، دم كالمياه وليس تجففه غير سورة عم وقبعة الشرطي وخادمه الآسيوي" !!
وقوله: "ونمت على وتر المعجزات ارتدتني يداك نشيداً إذا أنزلوه على جبل كان سورة ينتصرون" !! وهي مقاطع من ديوانه.
ثم اقرأ قوله عن أخته: "أبي من أجلها صلى وصام وجاب أرض الهند والإغريق إلها راكعاً لغبار رجليها، وجاع لأجلها في البيد أجيالاً يشد النوق، أقسم تحت عينيها قناعة الخالق بالمخلوق، تنام فتحلم اليقظة في عيني مع السهر فدائي الربيع أنا وعبد نعاس عينيها وصوفي الحصى والرمل والحجر فاعبدهم لتلعب كالملاك وظل رجليها على الدنيا صلاة الأرض للمطر"!!
وإني بعد هذه النصوص القليلة جداً من شعر هذا الرجل لأسأل أخي حسن: هل يعجبك هذا الاستهزاء بآية الكرسي وسورة عمَّ وسورة ينصرون؟ وابتذال ألفاظ الصلاة والصيام والعبادة والإله بهذه الصورة الساقطة المهينة، وتحويل الإله من معبود يسجد له الناس ويركعون إلى عبد حقير يركع لغبار رجليها؟
تعالى الله علواً كبيراً عما يقول الظالمون الجاحدون.(13/4)
ثم لو حاولنا أن نصرف النظر جانباً عن المضامين الإلحادية التي في شعر هذا الرجل، وحاولنا أن نمعن النظر فيه من الناحية الفنية والبيانية والصور الشعرية الجميلة، لما وجدنا فيه شيئاً يفهم، ولرأيناه أقرب إلى سجع الكهان وهلوسة المجانين منه إلى أخيلة الشعر وصوره الجميلة، إلا إن كان يقرأ أو يُفهم بلغة غير اللغة العربية التي درسناها وعشنا معها العمر كله وحصلنا فيها على أعلى الدرجات العلمية، وهذا ليس شعوري وحدي بل شعور كل زملاء التخصص في جامعات المملكة، الذين لم تسحرهم الآلة الإعلامية الضخمة المشبوهة التي تروج لهذا الأدب المشبوه، وليس أهل الحداثة وجمهورها بأكثر علماً وفهماً من فحول أساتذة اللغة العربية، وإنما هم تحت تأثير مخدر لعبت فيه الحزبية والشللية دورها، وقد بدأ الأمر ينكشف عندما انفض سامرها وبطل سحرها، وصرنا نقرأ هذه الأيام في الصحف تراشقاً بين أبطالها واتهامات وهجوماً عليها وعلى قصيدة النثر ورموزها، وكل هذا من بركات كتاب "حكاية الحداثة" وصاحبه، وليست هذه أولى بركاته، فمن بركاته التي كشفت الموضوع للمبصرين في وقت مبكر إشادته البالغة بكلمة (تَمّتْ) التي خُتمت بها إحدى القصائد، وجعلها بيت القصيد في هذه القصيدة العظيمة، ثم يتبين أنها ليست من القصيدة وإنما زيادة من الناسخ الباكستاني الذي طبع القصيدة !! فأي فهم هذا، وأي عبقرية هذه؟ ) .
----------
* رسالة وصلتني من الدكتور محمد بن خالد الفاضل ..(13/5)
دليلٌ للدعاء على الكفار بالأسقام والأمراض !!
قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد ، وصححها لنا ، وبارك لنا في صاعها ومُدها ، وانقل حُمّاها فاجعلها بالجُحفة ) . متفق عليه .
قال الخطابي : ( كان ساكنو الجحفة يهودًا في ذلك الوقت ، ففيه دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك ، وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها، وكشف الضر والشدائد عنهم ، وهذا مذهب العلماء كافة ) .
وانظر : صحيح الترغيب للألباني رحمه الله .
وللشيخ عبدالسلام آل عبدالكريم - رحمه الله - مذكرة صغيرة في هذا الموضوع .(14/1)
فوائد من ابن عثيمين - رحمه الله - (1) : العقلانيون أتباع إبليس ..!
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – معددًا فوائد قوله تعالى ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديّ أستكبرت أم كنت من العالين . قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) :
( ومن الفوائد : أن من قدم العقل على السمع فإنما هو متبع لخطوات الشيطان ،لأن الشيطان قدم ما يدعي أنه عقل على السمع فأخطأ في ذلك ، فهكذا كل من قدم العقل على السمع ؛ سواء في العلميات وهي علم العقائد ، أو في العمليات ؛ فإنه مشابه لإبليس ، متبع لخطواته ، واعلم أن كل بليه تقع من تحريف الكلم عن مواضعه ، والاستكبار عن عبادة الله ، وغير ذلك؛ فأصلها من إبليس ) . ( تفسير سورة ص ، ص 248) .(15/1)
لماذا خلق الله ( إبليس ) ..... ؟!
قولهم : أي حكمةٍ في خلق إبليس وجنوده؟!
ففي ذلك من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله :
فمنها : أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه واللجأ إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه.
ومنها : خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه. وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم. ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى، وخضوعٌ آخر، وخوفٌ آخر، كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذ رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها أنه سبحانه جعله عبرةً لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرةً لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرةً لمن أصرّ وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه. فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة.(16/1)
ومنها أنها محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم. فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن، والطيب والخبيث، فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم، كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعاً "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن". وغير ذلك فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها. فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره. فلا بد إذاً من سبب يُظهر ذلك. وكان إبليس محكاً يميز به الطيب من الخبيث، كما جعل أنبياءه ورسله محكاً لذلك التمييز. قال تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) فأرسل رسله إلى المكلفين وفيهم الطيبُ والخبيث، فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث. واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان . فإذا صاروا إلى دار القرار ميز بينهم وجعل لهؤلاء داراً على حدة ولهؤلاء داراً على حدة. حكمةٌ بالغة وقدرة قاهرة.
ومنها أن يظهر كمالُ قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين. وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه. فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث.
ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده. فإن الضد إنما يظهر حُسنه بضده. فولا القبيح لم تُعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يُعرف قدر الغنى .
ومنها : أنه سبحانه يحب أن يُشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.(16/2)
ومنها : أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه، فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يُحصي حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها أن في خلق من يُضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه، كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار ، وأضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته، فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم.
ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد، وفيها الإشراق والإضاءة والنور، فأخرج منها سبحانه هذا وهذا، كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض، فأخرج منها ذلك كله حكمةً باهرة، وقدرةً قاهرة، وآية دالة على أنه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ومنها أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم. وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها إحكامها كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها. ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه.
ومنها : أنه سبحانه الملك التام المُلك، ومن تمام ملكه عموم تصرفه، وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال. فلا بد من وجود من يتعلق به أحدُ النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.(16/3)
ومنها : أن من أسمائه الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه، وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه، فاقتضت خلق المتضادات وتخصيص كل واحد منها لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص. وهل تتم الحكمة إلا بذلك ؟ فوجود هذا النوع من تمام الحكمة، كما أنه من كمال القدرة.
ومنها أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمودٌ على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمودٌ على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه ملائكته ورسله وأولياؤه، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه ، فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة ، كما له عليه الحمد التام ، فلا يجوز تعطيل حمده ، كما لا يجوز تعطيل حكمته.(16/4)
ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده، فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه، بل يسبه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم، ويجيب الدعاء، ويكشف عنه السوء، ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمةٍ وحمد، ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم"، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤاً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني" وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته، وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب، ويعافيه، ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله، ويأمرهم بأن يُلينوا له القول ويرفقوا به، قال الفضيل بن عياض: "ما من ليلةٍ يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله: "من أعظم مني جوداً، الخلائق لي عاصون وأنا أكلأهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيء. من ذا الذي دعاني فلم ألبِّه، ومن ذا الذي سألني فلم أعطه، أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني يهربُ الخلق ؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون ؟". وفي أثر إلهي: "إني والإنس والجن في نبأ عظيم.(16/5)
أخلق ويُعبد غيري. وأرزق ويُشكر سواي". وفي أثر حسن "ابن آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل وشرك إليَّ صاعد. كم أتحبَّب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وكم تتبغض إليّ بالمعاصي وأنت فقير إلي. ولا يزال الملك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح". وفي الحديث الصحيح "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمدهُ وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر فيهم أحكامها وأثارها. فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه. ولمحبته للمغفرة خلق من يُغفرُ له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله، بل يكون يحب أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يُظهر فيهم عدله وحكمته. ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان. فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها.(16/6)
فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة. الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمةٌ باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منها قطرة من بحر . وإلا فعقول البشر أضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه. فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه. والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يُحصِّل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقاً إلى حصول ذلك المحبوب. ووجود الملزوم بدون لازمه محالٌ. فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل ؛ فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له. وتحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته. وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته.
من أجلك قد جعلت خدي أرضا
للشامت والحسود حتى ترضى(16/7)
فإن أغضب هذا المخلوق ربه ؛ فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه. وذلك الرضا أعظم من ذلك الغضب. وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحاً بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات. وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سرّه وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه. وهذا الرضا أعظم عنده وأبرُّ لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب، وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له. وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج فقد أرضاه أعظم الرضا دخوله إليها ذلك الدخول. وإن أسخطه قتلهم أولياءه وأحباءه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذَّ في قربه وجواره. وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبرّه وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك وحمده وتمجيده بهذه الأوصاف التي حمده بها والثناء عليه بها أحب إليه وأرضى له من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات. واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله. فهو عقد نظام الخلق والأمر، والرب تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه. فما خلق شيئاً ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد. فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره ، حمداً حقيقياً يتضمن محبته والرضا به وعنه والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به. فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده ، فكما أنه لا يكون إلا حميداً فلا يكون إلا حكيماً، فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته. ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها، فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبرياءه وعظمته.(16/8)
( المرجع " شفاء العليل " لابن القيم - رحمه الله - )(16/9)
ذكاء عالم ... ( موقف الشيخ أحمد شاكر من دعاة إفساد المرأة بمصر )
يُعد الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - من أبرز علماء هذا العصر الثقات ؛ ممن وفقهم الله تعالى للجمع بين العلم الشرعي ونشره ( لاسيما علم الحديث ) ، مع المشاركة النافعة النابهة في قضايا المسلمين الحادثة . ومثل هذا الجمع لانكاد نجده إلا في قليل ، وهو ما تحتاجه أمة الإسلام في كل زمان ؛ لكي لاينحرف مسيرها بين عالم أو طالب علم منزوٍ عن هموم الأمة ، أومتصدرٍ جهول بشرع الله .
ومما تميز به الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - كذلك : ذكاؤه المشهود في مواجهة أهل الفساد والانحراف ، ومعرفته بطرقهم وأساليبهم الملتوية ، ومن طالع مؤلفاته أو تعليقاته على الكتب ( لاسيما تعليقاته على مسند الإمام أحمد ) عرف هذا ؛ فهو جدير بكلمة عمر - رضي الله عنه " : " لستُ بالخب ولا الخب يخدعني " . وقد اخترت من " جمهرة مقالاته " التي طُبعت في مجلدين هذا العام : موقفًا مفيدًا يشهد لهذا الأمر ؛ واجه به دعاة إفساد المرأة المسلمة ؛ ممن كانت تعج بهم بلاد مصر ذاك الحين .
يقول الشيخ - رحمه الله - :
( لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء !
والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدم إليها بعض ( البنات ) اللائي أعطين شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلاً لأن يكنَّ في مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضاء! فرأت الوزارة إن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين.(17/1)
وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء !! ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمن ذاكرٍ مذاهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يُجوز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقاً، في الأموال وغير الأموال.
ومن أعجب المضحكات في هذا الجدال الغريب: أن تقوم امرأة فتكتب رداً على من استدل من العلماء بالحديث الصحيح الثابت: "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة". فتكون طريفة كل الطرافة، وتدل على أنها تكتب بعقل المرأة حقاً، فتستدل على بطلان هذا الحديث؛ بأنه لا يُعقل أن يقوله رسوله الله الذي يقول: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحُميراء"!! وهي لا تعرف هذا الحديث ولا ذاك الحديث، ولا تعرف أين يوجدان أو يوجد أحدهما، من كتب السنة أو كتب الشريعة أو غيرها؛ لأن كتابتها تدل على أنها مثقفة ثقافة إفرنجية خالصة! ليس لها من الثقافة العربية أو الإسلامية نصيب!
ووجه العجب المضحك في استدلالها هذا الطريف : أن الحديث الذي استدلت به حديث لا أصل له أبداً، أي هو حديث مكذوب لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ولستُ أزعم أنها هي التي اخترعته، فإني لا أظنها تصل إلى هذه الدرجة. ولكنه حديث ذُكر في بعض المصنفات القديمة، ونصَّ حفّاظ الحديث ونقدتُه العارفون العالمون على أنه حديث منكر، لم يجد له العلماء الحفاظ إسناداً قط، بل قال ابن القيم الإمام : ( كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق ) .
فاعجبوا –في بلد العجائب- أن تقوم امرأة لا تعرف عن الشريعة شيئاً، إلا أن يكون ما يعرفه العوام، على شك في هذا أيضاً، فتردّ على العلماء الرسميين، وتجزم بتكذيب حديث صحيح ثابت، استناداً إلى حديث مختلق مكذوب ) !!
إلى أن يقول :(17/2)
( سألت وزارة العدل العلماء فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر أو كادوا ؟!
ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنيتُ عليها الجواب عن الفرع أو الفروع.
فإن ولاية المرأة القضاء في بلدنا هذا، في عصرنا هذا –يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً :
أولاً: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها ؟!
إن المسلمين لم يبلوا بهذا قط، فيما نعلم من تاريخهم، إلا في عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، في عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره؛ ولذلك لا نجد له في التاريخ الإسلامي –فيما أعلم أنا- أثراً مفصلاً واضحاً إلا إشارةً عالية محكمةً دقيقة، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774) .
ثم ذكر تعليق ابن كثير على حكم التتار بقانونهم الوضعي الذي سموه " الياسق " ، ثم قال :(17/3)
( أرأيتم هذا الوصف القوي من ابن كثير في القرن الثامن ؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت؟ ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً منهم؛ لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بالياسق الذي اصطنعه جنكيز خان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً، ثم يجعلون مردَّ أمرهم إلى معتنقي هذا ( الياسق العصري ) ويشجبون من عارضهم في ذلك، حتى لقد أدخلوا أيديهم في التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى ( ياسقهم الجديد ) بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخُدَع تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطان في الدولة تارات.
ويصرحون –ولا يستحيون- أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!! وأنتم ترون ذلك وتعلمون.
أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد؟ أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، ذكراً كان الابن أو أنثى، عالما كان الأب أو جاهلاً ؟!
هذه أسئلة في صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنه إثباتاً ونفياً أولاً، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة، التي لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك –بالضرورة- سؤالاً محدداً واضحاً: أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا (الياسق العصري ) وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة ؟!(17/4)
ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملةً وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجال القضاء في هذا الحال باطلةٌ بطلاناً أصلياً لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة !!
ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذه القضاء من تلقاء نفسه.
وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره، سواء مما يجوز تعلمه ومما لا يجوز؟ وأن يختلط الفتيان والفتيان هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله.
أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعبَّاد الشهوات؟!
يجب أن نجيب عن هذا أولاً، ثم نبحث بعدُ فيما وراءه.
ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه.
ألا فليجب العلماء وليقولوا ما يعرفون، وليبلّغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين.
سيقول عني عبيد ( النسوان ) الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يوماً ما بما يقال عنّي، ولكني قلت ما يجب أن أقول ) . انتهى كلامه - رحمه الله - ( جمهرة مقالات الشيخ أحمد شاكر ، جمع الأستاذ عبدالرحمن العقل ، 598-591/2 ) .
تعليق(17/5)
رحم الله الشيخ أحمد شاكر الذي تنبه إلى مكر أهل النفاق وتلبيسهم ؛ عندما يتظاهرون بتعظيم الشرع ومرجعيته في بعض الفروع ، وهم ينقضون أصوله ؛ ثم يأتي بعض السُذج - مهما بلغ علمه - فيُصدقهم ويتجاوب معهم ؛ ولم يدرِ المسكين أنه يعينهم على هدم الشريعة والأخلاق . وخذ مثلا لهذا : خوض هؤلاء المنافقين في قضية كشف الوجه ، وأن فيها قولين ، وأنهم كأهل الإيمان يبحثون عن القول الراجح !! فيصدقهم بعض المتصدرين للفتوى ، ويذكرون الخلاف والأدلة ..الخ ؛ وما علم هذا المتصدر وأمثاله أن القوم لا يعبأون بأقواله ولا بشرعه ! وأنهم إنما يجعلونه سُلمًا وخطوة أولى لإفسادهم .
وأذكر أن امرأة تعمل في إخراج الأفلام ! لاتظهر في الصحف والقنوات إلا متبرجة قد أبدت شعرها ونحرها وذراعيها وساقيها ، صرحت لإحدى الصحف بأن كشف الوجه فيه قولان ! وأنها قد سألت الشيخ الفلاني عن هذا !!
اللهم هيئ لأمة الإسلام علماء أفذاذ من أمثال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - ، ممن جمعت لهم بين العلم والذكاء ، وجنبهم كل مغفل ساذج . والله الموفق ..(17/6)
( ملف الابتعاث للخارج ) - دراسات وندوات ومقالات -
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرًا لفتح باب " الابتعاث " إلى الخارج - من جديد - ؛ فقد أحببتُ أن أشير إلى شيئ مما قاله الباحثون الذين تأملوا جميع جوانبه - ذاكرين إيجابياته وسلبياته وضوابطه - ؛ لعله - وقد جاء عن اطلاع وخبرة - يكون نافعًا لأهل هذه البلاد - وغيرها من بلاد المسلمين - ، رعاة ورعية ، وذلك بأخذ النافع منه عند الحاجة ، وتجنب أضراره . وقد ذكر الشيخ الصباغ - كما سيأتي إن شاء الله - ضوابط ذلك ، ويُضاف لها : عدم اقتصار الابتعاث على دول الغرب - لا سيما أمريكا - ، بل التنويع شرقًا وغربًا - عند الحاجة كما سبق - ، واستعمال الذكاء والحكمة في الوصول للهدف ، دون الوقوع في المصيدة ! - واللبيب يفهم - ، والله الهادي والموفق .
1- : الابتعاث إلى الخارج وقضايا الانتماء والاغتراب الحضاري
كتاب للدكتور إبراهيم القعيّد
جاء فيه ( ص 30 - 31 ) : ( قام د. عبدالله البنيان بدراسة الجانب الثقافي من الرحلة العلمية للطلبة السعوديين في الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقته بتغير اتجاهاتهم وميولهم النفسية والفكرية، وقد استهدفت دراسة البنيان كل الطلبة السعوديين في وقت من الأوقات، وبالتحديد في عام 1972م، حيث أرسل الباحث استبيانا لكل طالب سعودي عن طريق الملحقية الثقافية السعودية في أمريكا، وقد استجاب للاستبيان 117 (17%) طالب من أصل 700 طالب سعودي يتلقون تعليمهم في الجامعات الأمريكية في ذلك الوقت، وإليك أهم نتائج هذه الدراسة:(18/1)
1- تبين أن لطول الفترة التي قضاها الطلبة السعوديين في البيئة الأمريكية علاقة قوية بتغير اتجاهاتهم النفسية والفكرية، وقد اتضح هذا التغيير فيما يتعلق بالوضع التقليدي للمرأة في المجتمع السعودي، حيث أدت الفترة الزمنية الطويلة التي قضاها الطلبة في أمريكا إلى تطور ما أسماه الباحث ببعض الاتجاهات نحو تحرير المرأة، وهذا يعني رفض القيم التقليدية والعادات المتعلقة بنظام الحجاب ورفض الحدود المفروضة على اختلاط الرجل بالمرأة في التعليم والوظيفة.
2- تبين أن الطلبة الذين أمضوا في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من سنتين عبروا عن عدم موافقتهم على القيم التقليدية التي تحكم العلاقات العائلية في بلادهم أكثر مما عبر عنه الطلبة الذين أمضوا أقل من سنتين وهذا يعني "أن القيم التقليدية التي تحكم العلاقات العائلية في المملكة تميل إلى فقدان أهميتها عند الطلبة مما يفسح المجال لظهور القيم الأمريكية مع طول فترة الحياة في أمريكا".
وتتفق كل من نتائج دراسات د. إبراهيم عبدالله ناصر ود. إبراهيم العبيدي حول مشاكل تكيف الطلاب السعوديين في الولايات المتحدة الأمريكية مع ما توصل إليه د. عبدالله البنيان من أن بقاء الطالب السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية فترة طويلة من الزمن يجعله أكثر عرضة للتأثر الاجتماعي من قبل المجتمع الأمريكي.(18/2)
وتفيد النتائج المأخوذة من الدراسات سالفة الذكر، دراسات افرنورمبل، وغدير الغدير، وعبدالله البنيان، وعبدالله ناصر، وإبراهيم العبيدي أن هناك تأثيراً للفترة الزمنية التي يقضيها الطالب في بلد الدراسة على شخصيته، فيؤدي طول هذه الفترة إلى التخفيف التدريجي للمشاكل الاجتماعية والنفسية التي يتعرض لها الطالب منذ بداية قدومه، ويؤدي إلى تحسن عمليات التكيف، وهذا يعني الألفة لأسلوب الحياة الجديدة والتعود على الممارسات الاجتماعية وعدم استغراب المسلمات الثقافية لهذه الثقافة الجديدة، كما قد تؤدي هذه الفترة الزمنية التي يقضيها الطالب في بلد الدراسة إلى تحولات في الاتجاهات والميول النفسية والفكرية ) .
وقال في نتائج دراسته ( ص 75 - 87 ) :(18/3)
( 1-إن حياة الطالب المسلم في بلاد الغرب لأهداف الدراسة، لا يجب أن يُنظر إليها من وجهة نظر الانتقال من مجتمع إلى مجتمع، أو دولة إلى دولة، أو كونها رحلة لطلب العلم فقط، بل يجب أن ينظر إلى هذه الحياة بطريقة أشمل وأعم، على اعتبار أنها اتصال حضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وتبعاً لذلك، يجب ألا يغيب عن الأذهان المكانة السياسية والاقتصادية والعلمية المعاصرة لكل من الحضارتين ، والمبررات التي دعت إلى الابتعاث للخارج، وهذا يعني بالضرورة، أن كفة ميزان المعادلة الحضارية ترجح لصالح الحضارة الغربية، التي يذهب إليها أبناء المسلمين لإكمال دراستهم الأكاديمية والمهنية، وهذا يعني أيضاً، أن الطالب الذي يذهب إلى هناك يكون في موقف المتلقي والمتعلم، وقد تتدعم لديه افتراضات تعتبرها الحضارة الغربية من المسلمات لديها، وهي مسلمات مفادها بأن الحضارة الغربية ومنجزاتها في ميادين العلم والفن والأدب والحياة الاجتماعية وما نتج عن ذلك من مظاهر في الفكر والسلوك والأنماط الثقافية الأخرى، تمثل بمجملها أفضل إنجاز للعقل البشري، ومن ثم فهي تعكس التحضر والتقدم وتتربع على قمة الحضارة الإنسانية، وتبعاً لذلك فالحضارة الغربية هي المثال الذي يجب أن يحتذى والمعيار الذي في الإمكان اتخاذه للحكم على الثقافات والحضارات الأخرى.
وإذا كانت هذه الفرضية الداعية إلى تمجيد الحضارة الغربية واتخاذها نموذجاً في التقدم والتنمية تتمتع بالدعم والنماء والانتشار في بلاد المسلمين وتجد لها الدعاة والمساحات الكبيرة في ميادين الفكر والحياة الاجتماعية فإن الابتعاث للخارج قد يكون رافداً مؤثراً من روافد هذا الاتجاه إذا لم تتخذ الضمانات الملائمة لترشيده ) .
أما توصيات الدكتور القعيّد فقد لخصها في التالي :(18/4)
( أولا : إن أهم قضية في هذا المجال هي الإجابة على السؤال التالي: كيف يستطيع الطالب المسلم الحياة والدراسة في بلاد الغرب مع تجنب الآثار السلبية الناتجة عن ذلك؟
والإجابة على هذا السؤال تجعلنا أمام قضية جوهرية، وهي أن الطالب المسلم الدارس في بلاد الغرب فرد ينتمي إلى عقيدة تختلف بمصادرها وأسسها وقيمها ومظاهر سلوكها الاجتماعي عن الحضارة الغربية، ولكي يتجنب الآثار السلبية الناتجة عن الحياة في بلاد الغرب، عليه أن يلتزم بإسلامه، ويعتز بانتمائه الحضاري، ويبحث عن السبل التي تكفل له هذا الالتزام، وتدعم في شخصيته الانتماء المذكور.
ولا شك أن الطلبة المسلمين يختلفون في الاستجابة لضغوط الحياة في الثقافة الأمريكية ويتأثرون بها بطرق مختلفة، ولكن العنصر الأساس في هذه المعادلة هو مستوى التحصين العقائدي والفكري لدى الطالب المسلم، فكلما ارتفع هذا المستوى من التحصين، كلما كان التأثير إيجابياً وموجهاً نحو الوجهة السليمة، وكلما قل هذا المستوى من التحصين، كلما كان التأثر سلبياً ونحو الوجهة الخاطئة، بمعنى أن الطالب المسلم الذي يفد إلى الغرب للدراسة وهو مزود بالتحصين المناسب أو توفرت له الفرصة للحصول على هذا التحصين في بلاد الغربة يستفيد أكثر من غيره من هذه التجربة الحضارية بأبعادها العلمية والإنسانية.
فمن ناحية علمية، تكون حوافزه للتعلم أقوى، وإنجازه أفضل، لشعوره بالمسئولية تجاه وطنه وأمته الإسلامية، ومن ناحية إنسانية، يتعامل تعاملاً مباشراً مع الحضارة الغربية، ويتعرف عن كثب على مشكلاتها وانحرافاتها، ويستفيد من بعض جوانبها الإيجابية التي وفرت التميز والريادة للمجتمعات الغربية، ومن أجل ذلك، نستطيع القول بأن مثل هذا الطالب قد استثمر هذه التجربة الحضارية " الدراسة والحياة في الغرب " استثماراً علمياً واعياً على مستوى شخصه ومستوى الأمة التي ينتمي إليها.(18/5)
وعلى النقيض من ذلك، الطالب الذي لا يتوفر لديه التحصين العقائدي والفكري المناسب، أو كان متوفراً لديه ولكنه لم يستطع المحافظة عليه في فترة الاغتراب تحت تأثير الاحتكاك المباشر مع المجتمع الغربي، أو لأي سبب من الأسباب، فإن مثل هذا الطالب تسيطر على عقليته مظاهر الانبهار والتقليد والتأثر سلباً بفكر وسلوك المجتمع الغربي، وعند الرجوع إلى أرض الوطن يكون مثل هذا الطالب سفيراً لتوجهات فكرية وسلوكية تنتمي إلى حضارة أجنبية، الأمر الذي يدعم توجهات التبعية والاتكالية الحضارية ويطيل أمد الضياع والتخبط في متاهات الاغتراب الحضاري.
ثانياً: يجب أن تتحمل المؤسسات والأجهزة الحكومية المسئولة عن الابتعاث في الدول الإسلامية مسئولية كبيرة في دراسة الابتعاث للخارج وآثاره الفكرية والسلوكية، والنظر إليه على اعتبار أنه اتصال حضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وليس فقط رحلة لطلب العلم، ومن ثم وضع العامل الحضاري في الاعتبار عند وضع خطط الابتعاث واختيار التخصصات واختيار المبتعثين، وعند ابتعاث الطالب للخارج يجب الاهتمام اهتماماً مستمراً بمتابعته وتوفير الحلول لمشكلاته في بلاد الغربة، ومن جوانب هذا الاهتمام، اختيار الجامعة المناسبة والمشهورة بمستواها العلمي الرفيع، وتشجيع الطالب على الدراسة في الجامعات التي تضم أعداداً من الطلبة العرب والمسلمين، بحيث يرتبط اغترابه الحضاري مع وجود من يشترك معه في القيم، وبحيث لا يواجه ضغوط الحضارة الغربية معزولاً بمفرده، ومن جوانب هذا الاهتمام أيضاً، تدعيم انتماء المبتعث لدينه وأمته وذلك عن طريق تشجيع الأنشطة التي تخدم هذا الغرض في بلاد الغربة من محاضرات وندوات ومخيمات ومؤتمرات.(18/6)
ثالثاً: يجب على الجامعات والمؤسسات التعليمية والثقافية العليا في الدول الإسلامية أن تسهم إسهاماً فعالاً في ترشيد الابتعاث خارج البلاد الإسلامية، وجعله في أضيق الحدود، بل والعمل تدريجياً على إلغاء مبرراته، ولا شك أن هناك أساليب كثيرة لتحقيق هذه الأهداف، منها على سبيل المثال : توفير التخصصات اللازمة ودعم البحث العلمي وتوثيق العلاقات الأكاديمية والعلمية وتنشيطها بين جامعات الدول الإسلامية وتسهيل الابتعاث والفرص التعليمية بين الجامعات المعنية.
رابعاً: طالما أن الابتعاث للخارج لا يزال يجد بعض المبررات فإن على الجامعات على وجه الخصوص مسئولية عمل دورات وبرامج توجيهيه للمبتعثين للخارج، يتم فيها تعريف المبتعث على الأنظمة والتقاليد الجامعية والثقافية الغربية وأنماط السلوك التي قد يواجهها، ويتم عن طريق هذه البرامج تحصين الطلبة فكرياً وجعل البديل الحضاري الإسلامي واضح أمام الجميع، وقد خطت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض خطوات مباركة في هذا السبيل، ونظمت برنامجاً توجيهياً منذ عدة سنوات ينضم إليه كل مبتعث من المملكة العربية السعودية، ويعتبر برنامجاً رائداً في مجاله.(18/7)
خامساً: يوصي الطالب المبتعث، على اعتبار أنه المسئول أولاً وأخيراً عن أسلوب التكيف الذي يختاره لنفسه ويعيش به في بلاد الغربة، أن يحاول ما استطاع فهم الأبعاد النفسية والثقافية للابتعاث للخارج، ويتعرف على مدى أهمية مثل هذه الأبعاد في صياغة أنماط فكرية وسلوكية في شخصيته، وأثر ذلك عليه شخصياً وعلى الأمة التي ينتمي إليها، وفي ضوء هذه الرؤية، عليه أن يتعامل مع البيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة بطريقة تضمن له الاحتفاظ بتميزه الفكري والسلوكي الإسلامي وفي الوقت نفسه تمكنه من معرفة أصول ومظاهر الثقافة الغربية بأفكارها ومسلماتها واتجاهاتها، وهذا ما أشرنا إليه في دراستنا بالتكيف الراشد والذي يعتبر الموقف الفكري والسلوكي الوسطي في المعادلة الحضارية بين الاندماج والرفض.
سادساً: يوصي المبتعث بألا يخلد –بفعل العادة والألفة- إلى الاستسلام للأفكار والمسلمات والاتجاهات الغربية في الفكر والسلوك، بل يكون دائم التقويم لها وتطوير الحس المقارن بينها وبين الإسلام، بحيث لا تسيطر عليه مظاهر الانبهار والإعجاب بها.(18/8)
سابعاً: يوصي المبتعث ببذل الجهود في السنة الأولى من الابتعاث في تعلم اللغة، بسبب ما تفرضه مرحلتا الصدمة الثقافية والتكيف الجزئي من ضغوط للتعلم اللغوي، والتي يكون الطالب فيها –عادة- مهيأ نفسياً لاكتساب المهارات اللغوية، وخاصة مهارة الحديث، وذلك لأنه بانتهاء مرحلة التكيف الجزئي تبدأ الضغوط بالزوال ومن ثم تبدأ حوافز التعلم اللغوي بفقدان قوتها وتأثيرها، وهذا بالطبع لا يعني أن يتخلى المبتعث عن التعلم اللغوي بعد السنة الأولى، بل يجب استثمار كل سنوات الابتعاث في التعلم اللغوي وتدعيمه لإتقان اللغة الأجنبية قدر المستطاع، ولكن أهمية السنة الأولى يجب ألا تغفل عن البال لما لها من تأثير قوي في تهيئة الظروف النفسية للتعلم اللغوي، فمستقبل الطالب من الناحية الأكاديمية، وفهمه للثقافة الغربية، بل وصحته النفسية أيضاً، تعتمد اعتماداً كبيراً، كما أوضحنا في دراستنا، على ما يبذله المبتعث من جهود في تعلم اللغة في السنة الأولى من ابتعاثه للخارج.
ثامناً: توصى المؤسسات والمراكز الإسلامية في الغرب بتحمل مسئوليتها الكبيرة تجاه الطلبة المسلمين، خاصة في السنة الأولى من الابتعاث التي غالباً ما يمر بها المبتعث بمراحل تكيفه في البيئة الثقافية الاجتماعية الجديدة، فالطالب في هذه السنة، وخاصة في مرحلة الصدمة الثقافية، في حاجة للمساعدة في فهم المظاهر الفكرية والسلوكية للثقافية الغربية ومؤشرات الاختلاف بينها وبين الإسلام، وهو أيضاً في حاجة للمساعدة الشخصية والتشجيع والمواساة وتبديد مشاعر الغربة وتهيئة الظروف له لتدعيم انتمائه للعقيدة والحضارة التي يحملها، ويجب أن يترجم هذا الاهتمام من المؤسسات المذكورة إلى برامج توجيهية وتعليمية واجتماعية وترفيهية تقدم للرجال والنساء والأطفال.(18/9)
تاسعاً: توصي المؤسسات والمراكز الإسلامية في الغرب بإقامة العلاقات الجيدة مع الجامعات ومعاهد تعليم اللغة والمؤسسات العلمية الأخرى التي يفد إليها الطلبة المسلمون، واستثمار مثل هذه العلاقات في مساعدة الطلبة المسلمين وتخفيف الضغوط الاجتماعية والثقافية والأكاديمية عنهم، والتعبير عن آمالهم وقضاياهم في بلاد الغربة ) .
2- ظاهرة الابتعاث في البلاد العربية وآثارها الثقافية
دراسة نقدية في ضوء الإسلام
رسالة ماجستير ( لم تُطبع ) في جامعة الإمام
للأستاذ ضياء الدين الأنصاري
1419هـ
قال في مقدمتها ( ص 3 ) : " فإن لموضوع الابتعاث أهمية عظمى، وخطورة بالغة، ذلك أن هذه البعثات يكون من أفرادها رجال المستقبل، وحكام البلاد، والقيادات الفكرية فيها. وتزداد الأهمية والخطورة إذا عرفنا أن البيئات التي يُبتعث إليها تختلف عن بيئة المبتعث في مختلف جوانب الحياة: الدينية، والفكرية، والاجتماعية، بالإضافة إلى ما تقوم به مختلف الدوائر المعادية للإسلام في تلك البيئات من صهيونية وصليبية وعلمانية وماركسية ونحوها، وما تتمتع به هذه الدوائر من صلاحيات وإمكانات تجندها جميعاً في تحقيق أهدافها، وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسات الإعلامية ذات الأهداف السابقة، وما قد يقوم بين تلك الدوائر والمؤسسات المعادية للإسلام؛ سواء كانت تعليمية أو اجتماعية من علاقات تعاون في سبيل تحقيق أهدافها تجاه الإسلام والمسلمين من خلال المبتعثين، مستخدمين في ذلك عدداً من الوسائل المختلفة والمتنوعة، وتزداد الخطورة أكثر عندما نعرف بأن استخدامهم لكل تلك الوسائل لا يتم بصورة عشوائية؛ بل وفق دراسة علمية دقيقة لنفسية وتوجهات ورغبات وميول المبتعث، فيتم استخدام الوسيلة المناسبة في الوقت المناسب بعد التأكد من مدى مناسبتها وانسجامها مع طبيعة المبتعث من مختلف الجوانب ، وبذلك يسهل تحقيق الأهداف التي قد رسمت وحددت مسبقاً .. " .(18/10)
ثم ذكر نبذة تاريخية عن فكرة إنشاء الدورات التي تُقام للمبتعثين قبل سفرهم :
فقال : " انطلاقاً من المبادئ الثابتة التي قامت عليها المملكة العربية السعودية من التزامها بالمنهج الإسلامي الراشد، وتربيتها للأجيال عليه ، ونظراً لما تتطلبه ظروف الاستفادة من معطيات المدنية المعاصرة لتكون رافداً من روافد التنمية الشاملة لشباب المملكة، وحرصاً على تحقيق الإفادة من الابتعاث ، وربط ذلك بمقومات الشخصية الإسلامية السوية والمتميزة للشباب السعودي فقد صدرت الموافقة السامية ذات الرقم 7/م/8891 والتاريخ 21/4/1401هـ على قرار اللجنة العليا للإصلاح الإداري ذي الرقم 91 والتاريخ 20/8/1399هـ القاضي بأن يتولى المعهد العالي للدعوة الإسلامية ( كلية الدعوة والإعلام حالياً ) التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مهمة التوجيه والتوعية للطلاب المراد ابتعاثهم للدراسة في الخارج، وبناءً عليه فقد قامت الجامعة بإعداد دراسات وتصورات عامة عن كيفية تنفيذ الموافقة السامية ثم عرضها ومناقشتها مع الجهات المعنية بالابتعاث.
أهداف دورات المبتعثين:
تهدف الدورات إلى إعانة الطالب السعودي المبتعث إلى الخارج على تحقيق الغاية من ابتعاثه وذلك من خلال التالي:
1- العلم الشرعي الذي يعينه على تحصين نفسه وأسرته من مزالق الانحراف في التصور والسلوك والإدراك.
2- الثقافة العامة التي تبصره بأنجح الوسائل والأساليب للمحافظة على دينه ونفسه وعرضه وماله وتجنب ما يُسيء إلى أي منها.
3- الاطلاع على ظروف الحياة وطبيعتها والخلفيات الفكرية والاجتماعية للبلاد التي يوفد إليها.
4- التأكيد على أهمية التفوق العلمي والإفادة القصوى مما تتيحه فرصة الدراسة في الخارج من الاطلاع والبحث فيما يخدم التخصص العلمي الذي يوفد للدراسة فيه.(18/11)
5- تعميق روح الوعي بالقضايا الإسلامية وضرورة التفاعل معها والإسهام في حلها بقدر المستطاع ، والتذكير بالدور الرائد للمسلم في الدعوة إلى الله على هدىً وبصيرة.
6- التذكير بما وصلت إليه المملكة العربية السعودية من تقدم علمي وإنجاز حضاري يسعى إلى تنميته وإبرازه والمحافظة عليه.
انعقاد أول دورة:
عُقدت أول دورة في مدينة الرياض بتاريخ 26/4/1402هـ، ولمدة أربعة أسابيع، وحضرها 73 مبتعثاً. ( ص 522-523) .
متى بدأ الابتعاث في المملكة :
" بدأ الابتعاث في المملكة العربية السعودية في عام 1346هـ الموافق 1927م وذلك قبل أن يتم توحيد المملكة العربية السعودية على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله. وكانت جهة الابتعاث للبعثة الأولى مصر، حيث صدر قرار مجلس الشورى رقم 33 في جمادى الأولى عام 1346هـ - 1927م المعطوف على أمر سمو النائب العام للملك رقم 1992 في 3 جمادى الأولى عام 1346هـ - 1927م بإرسال أربعة عشر تلميذاً من الحجاز للتعليم في الخارج ستة منهم من مكة، وثلاثة من المدينة، وثلاثة من جدة، واثنان من الطائف .
أما الابتعاث خارج البلاد العربية فقد أرسلت أول بعثة إلى سويسرا في عام 1355هـ، وهي مكونة من طالبين، لدراسة الحقوق والعلوم السياسية، كما تم في نفس السنة ابتعاث طالب واحد فقط إلى استنبول لدراسة الهندسة .
ثم توالي إرسال البعثات إلى أوروبا وأمريكا خصوصاً بعد أن تفجر النفط في المملكة، وازدادت مواردها على أثر ذلك " .
3- الابتعاث ومخاطره
رسالة صغيرة من تأليف : الشيخ محمد بن لطفي الصباغ
كانت في الأصل بحثًا كتب للمؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة , الذي عقد في المدينة المنورة في 24|2|1379هـ الموافق12|2|1977م ، قال في مقدمته :(18/12)
" فقد آثرت أن أبحث في موضوع الابتعاث لما أرى له من الأهمية العظمى والخطورة البالغة , ذلك أن مستقبل بلاد العالم الإسلامي – يتوقف إلى حد بعيد – على هذه البعثات التي سيكون من أفرادها رجال المستقبل , وحكام هاتيك البلاد , والقيادات الفكرية فيها .
وإنني أشكر للقائمين على هذا المؤتمر إدراجهم هذا الموضوع في جملة الموضوعات التي يعالجها المؤتمر , فذلك يدل على تنبه بخطر هذه الظاهرة التي لا يستطيع الدعاة تجاهلها , لأن ما يبنيه الداعية في مجال , يهدمه المنحرفون من المبتعثين , لاسيما إن كانت في أيديهم السلطة والصلاحيات " .
ثم ذكر شروطًا مهمة للابتعاث - عند الحاجة إليه - :
قال : ( وأهم هذه الشروط هي :
1- أن نأخذ في رحلتنا ما تحتاج إليه أمتنا ... أن نأخذ العلم التجريبي وتطبيقاته . فالعلم بحقائقه المجردة لا جنسية له ولا لون , والمخترعات لا تلتزم بدين ولا تعبر عن تصور .
2- أن نأخذ ما نأخذ ونحن محافظون على ذاتنا وكياننا وأنفسنا , معتزون بما أكرمنا الله به من الدين , لأن مثل هذا الإعتزاز يسهل علينا معرفة ما نأخذ وما ندع , ومعرفة مصلحتنا وتحديدها , ولنا الأسوة الحسنة في صنيع أجدادنا , عندما اقتبسوا بعض العلوم النافعة التي كانت عند الأقوام الأجنبية الأخرى .
فلقد أقبل أولئك الأجداد في العصر الذهبي للثقافة والتدوين والتبحر العلمي , أقبلوا على الترجمة والابتكار والإبداع , فترجموا كثيراً من الكتب وأبدعوا وابتكروا ... وكان لهم أدب راق يحمل الأصالة العربية في البيان , والوجه الإسلامي إذ جعل وجهته القرآن , وكان لهم طب يتسم بهذه السمة , ورياضيات , وفلسفة , وجغرافيا , وفيزياء , وكيمياء , وكانت هذه العلوم المختلفة مصطبغة بالروح الإسلامية .
3- أن يكون هناك اختيار لمن يذهب , فيختار لهذه المهمة من كان صلب الدين , قوي الإرادة , متقدم السن , محصناً من التأثر .(18/13)
4- أن يحاط المبعوث هناك بالجو الإسلامي النظيف الذي يذكره إن غفل , ويعينه إن ذكر .
5- أن تكون مناهجنا التعليمية تجعل ممن يذهب لتلك البلاد , واعياً مؤثراً غير متأثر
وسيمر بنا تفصيل لهذه الشروط في ثنايا البحث " . والرسالة موجودة في ( مكتبة صيد الفوائد الاسلامية ) .
4- الابتعاث من غير ضرورة : سياسة خطيرة
مقال نُشر في مجلة المجتمع ( العدد 265 )
جاء في آخره : " إلى متى نبقى عالة على موائد الأمم الكافرة التي تحاربنا وتتآمر علينا، وترضى لنا كل شيء إلا أن نعود خير أمة.
تحدث أستاذ التاريخ في الجامعات الغربية –برنارد لويس- في كتابه "الغرب والشرق الأوسط" عن أسباب ابتعاد المسلمين عن دينهم وقبولهم معتقدات الغرب، وأثبت بالأدلة والبراهين بأن دعاة التغيير وطلائع الذين حاربوا الإسلام وحملته هم من الطلاب الذين عادوا من ديار الغرب مبهورين بالاختلاط والسفور والتبرج والديمقراطية المطلقة التي لا يحدها خلق ولا يضبطها دين .
ومالنا وكلام برناردلويس : فأتاتورك تلميذ من تلامذة الغرب .. وانظروا ماذا فعل بالإسلام والمسلمين!!
وميشال عفلق وانطون سعادة وطه حسين وقاسم أمين والحبيب بورقيبة عاشوا جزءاً من حياتهم في ديار الغرب، ونقلوا لبلادنا وثنية القومية والوطنية، وبدعة الاشتراكية والرأسمالية، وأكثر الزعماء تغذوا الحقد والكراهية من مدارس لندن وباريس وواشنطن ، ومما لا شك فيه أن الله قيض دعاة في بلاد الغرب استقام على أيديهم المنحرفون، وهذا لا يقلل من خطورة الابتعاث.
والذين يفتحون باب الابتعاث على مصراعيه بدون ضرورة ملحة هم مهددون في حياتهم ومصالحهم وأنظمتهم فليخشوا على أنفسهم بعد أن فقدنا غيرتهم على عقيدة أمتهم " .
5- قصة نشوء الابتعاث إلى الخارج
ندوة عُقدت بمجلة المنهل ( م 11 ع 7 )(18/14)
شارك فيها كلٌ من : الأستاذ محمد حسين زيدان ، علي حسن فدعق ، محسن باروم ، حسين عرب ، أحمد رفاعي حسنين ، عبدالقدوس الأنصاري . وجاء فيها :
- أن : عبدالوهاب آشي ، محمد سعيد العامودي ، محمد بياري : هم من اقترح على الملك عبدالعزيز - رحمه الله - البعثات ؛ فشكل لجنة لذلك . ( كانت البعثات حينذاك بعد الثانوية إلى مصر ) .
- جاء في خاتمة الندوة : " وهكذا انعقد الإجماع من المنتديين على عدم ابتعاث الطلاب الثانويين إلى الخارج ، وقرروا جميعًا نصر دراستهم الثانوية في داخل البلاد ؛ حفظًا لدينهم ولآدابهم وأخلاقهم وتاريخهم . وهو قرار حكيم " .
6- مجلة منبر الإسلام تفتح ملف الابتعاث إلى الغرب
عدد شوال 1410هـ
7- دليل أحكام ولوائح الابتعاث
من إصدار وزارة التعليم العالي
جاء فيه : " - منع ابتعاث الفتيات للدراسة بالخارج ولو على حساب أولياء أمورهن:
بموجب خطابات رئيس مجلس الوزراء رقم 3/ح/22167 في 23/9/1398هـ ورقم 3/م/8352 في 4/4/1400هـ ورقم 1106 في 11/2/1400هـ ورقم 7/2375/م في 22/7/1404هـ ورقم 7/ف/21145 في 8/9/1403هـ التي تقضى بمنع ابتعاث الفتيات للدراسة بالخارج ولو على حساب أولياء أمورهن "(18/15)
النصيحة الذهبية للشيعة في السعودية وتذكيرهم بفتاوى علماء الدولة التركية
- لم يكن للشيعة دور يُذكر في الأحداث التي مرت بشرق الجزيرة العربية ؛ سواء زمن الدولة السعودية أو غيرها (الأتراك - بني خالد)، حيث كانوا منغلقين على أنفسهم بسبب عقيدتهم التي تقول: " كل راية تُرفع قبل قيام القائم عليه السلام صاحبها طاغوت " ( الغيبة للنعماني ص 72 ) ، فهم لا يرون الجهاد قبل ظهور مهديهم . فكانوا - لأجل هذا - يُعطون ولاءهم السياسي لمن يحقق لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم منذ الدولة السعودية الأولى . ولذا ترى رؤساءهم مؤخرًا يسارعون إلى الترحيب بالملك عبدالعزيز –رحمه الله- عندما استرد الأحساء من الأتراك. يقول الكاتب الشيعي محمد سعيد المسلم في كتابه " ساحل الذهب الأسود " ( ص 194) إن الملك عبدالعزيز بعد فتح الأحساء : " بعث سرية صغيرة بقيادة عبدالرحمن السويلم ، حيث نزلت بالمريقيب بالقرب من سيهات ، حيث جرت مفاوضات مع زعماء القطيف الذين رحبوا بالحكم الجديد تخلصًا من الفوضى الضاربة في عهد الحكم التركي ". ( وينظر أيضًا كتاب تاريخ هجر ، للأستاذ عبدالرحمن آل ملا ، أحد أفراد الأسرة الأحسائية التي استقبلت الملك ، ص 780 ، وكتاب صفحات من تاريخ الأحساء ، للأستاذ عبدالله الشباط ، ص 266 ) .(19/1)
- بعد توحيد المملكة العربية السعودية عاش الشيعة آمنين ما داموا ملتزمين بالولاء السياسي، فلم يجبرهم أحد على ترك معتقداتهم أو يستبح دماءهم أو أموالهم أو نساءهم لأجلها ، وإنما مُنعوا من إظهار شركياتهم وبدعهم. يقول العلماء في خطابهم للملك عبدالعزيز : " أما الرافضة ؛ فأفتينا الإمام أن يُلزموا بالبيعة على الإسلام ، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل ، وعلى الإمام أن يأمر نائبه على الأحساء يُحضرهم عند الشيخ ابن بشر ، ويبايعونه على دين الله ورسوله ، وترك الشرك ؛ من دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم ، وعلى ترك سائر البدع ؛ من اجتماعهم على مآتمهم وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل ، ويُمنعون من زيارة المشاهد . وكذلك يُلزمون بالاجتماع للصلوات الخمس هم وغيرهم في المساجد ، ويُرتب فيهم أئمة ومؤذنين ونوابًا من أهل السنة ، ويُلزمون تعلم ثلاثة الأصول ، وكذلك إن كان لهم محال بُنيت لإقامة البدع فيها فتُهدم ، ويُمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها ، ومن أبى قبول ماذكر فيُنفى عن بلاد المسلمين . وأما الرافضة من أهل القطيف ؛ فيأمر الإمام أيده الله الشيخ أن يُسافر إليهم ، ويُلزمهم ما ذكرنا ". ( الدرر السنية 9/316-317) . ( ونقلها حافظ وهبة في كتابه : جزيرة العرب في القرن العشرين ، ص 391-393) . ولاحظ قولهم " فيُنفى عن بلاد المسلمين " ، ولم يقولوا " تُستباح دماءهم " كما فعل علماء الدولة التركية معهم - كما سيأتي - ، رغم أن الدولة السعودية كانت في وضع يسمح لها بتصفيتهم ، ولكن العدل مطلوب حتى مع المخالف .(19/2)
- بعد قيام ثورة الخميني في إيران وتبنيه لفكرة ولاية الفقيه وتصدير مذهبه تأثر به قلة من الشيعة في السعودية -وغيرها- مغترين بزخارفه الفارسية التي أوهمتهم أن اتباعهم لدعوته، وشقهم ولاء الطاعة في بلدانهم يحقق لهم السعادة. غير آبهين بتحذيرات "عقلاء الشيعية" ممن يقدرون ما هم فيه من نعمة واطمئنان، متناسين أن الشيعة الفرس ينظرون لشيعة العرب نظرة ازدراء، ويعدونهم "طبقة دنيا" ، يقول الكاتب الشيعي محمد الطالقاني عن الشيعة الفرس بأنهم" ينظرون إلى العرب نظرة ازدراء واحتقار ، ويعتقدون بتخلفهم الذهني " ! ( الشيخية ، ص 95 ، ويُنظر كتاب الأستاذ شكيب أرسلان "حاضر العالم الإسلامي " 1 /162-163 ، فقد بين تعصب شيعة الفرس ضد العرب من خلال مشاهداته وحواراته ) .
- ولكن هؤلاء القلة لم يبالوا بهذا كله، وقاموا بأعمال غوغائية عام 1400هـ تعاملت لأجلها الدولة معهم بحزم، كما تعاملت مع غيرهم من دعاة الفوضى، وقد تراجع كثير منهم بعد ذلك وبعد الأحداث التي أعقبته بعد أن تبينت له مفسدته على دنياه وأمنه، ولم يبق إلا فئة متمردة.
فكانت النصيحة الذهبية التي تُهدى لهم:
1- التوبة من معتقداتهم الشركية أو البدعية ولزوم دعوة التوحيد والسنة التي فيها فلاحهم، وأن يعلموا أن حب آل البيت لا يتعارض مع حب الصحابة –رضي الله عنهم- أو توحيد رب العالمين . وأنصحهم بهذا الموقع ( مهتدون ) ، وقراءة هذا الكتاب ( أسئلة قادت شباب الشيعة إلى الحق )
2-إن اختاروا البقاء على معتقداتهم فليطيعوا "عقلاءهم" وليحمدوا الله على ماهم فيه من أمن ( على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ) وهذه نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من فقدها، وليحذروا دعاة الفتنة بينهم ممن يقول الله عن أمثالهم: ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ) .(19/3)
3- أن يعلموا أنه لا لوم على الدولة السعودية إذا احتاطت لأمنها بعدم قبولهم في بعض القطاعات والمناصب الحساسة ؛ لأن كل دول العالم تفعل الشيئ نفسه حرصًا على أمنها الوطني ؛ من الولايات المتحدة إلى إيران الشيعية نفسها . فالجميع يحتاط ، ولكلٍ حساباته وترتيباته .
مغالطات المعارض الشيعي حمزة الحسن
- ألف الشيعي السعودي المعارض "حمزة الحسن" كتاباً في مجلدين بعنوان: "الشيعة في المملكة العربية السعودية" حاول فيه جهده بطريقة مفتعلة أن يخترع للشيعة دوراً في أحداث المنطقة ( وليس لهم دور يُذكر كما سبق باتفاق من يعرف التاريخ ) ، ولعلمه بضحالة المادة التي تسعفه في هذا لجأ إلى الاستطراد والتشريق والتغريب والتكرار في أمور لا علاقة لها بعنوان كتابه الذي كان القارئ ينتظر منه أن ينقل له مايفيد من داخل المجتمع الشيعي في السعودية .
- ومع هذا فقد صاغ كتابه بلغة حاقدة حانقة على هذه البلاد (دعوة وحكومة) مهدداً في مقدمته الدولة بقوله عن الشيعة "إن النزعة الانفصالية ضعيفة ولكنها موجودة" ! متكلفاً في ادعاء الاضطهاد الذي يتعرض له الشيعة ، مدعياً أن "العلماء الكبار والشعراء والمثقفين وأساتذة الحوزات العلمية وهم كثرة كثيرة يغادرون بلادهم بفعل الاضطهاد السياسي والمذهبي السعودي"!! ( 1/9 )(19/4)
- ثم ( وهو المهم ) تحسر وتباكى على حال الشيعة زمن حكم الأتراك نكاية بالدولة السعودية ، كقوله (1/119) : "إن من أسباب قبول الأهالي للحكم التركي هو تسامحه" ! وقوله (1/228) : " أما أن الأتراك كانوا على خلاف مع الشيعة فليس من شاهد واحد يدعم هذا الرأي " ! أو قوله (1/229) : "لم يمر في التاريخ الحديث حقبة ذهبية مثل الحقبة التركية" ! ونحو هذه العبارات أو المغالطات التي يحاول من خلالها إيهام القارئ أن الشيعة عاشوا عيشة هنيئة في ظل الدولة العثمانية . وهذا من الكذب الذي يعرفه كل قارئ للتاريخ ، يتذكر الصراع الدامي بين الدولة التركية " العثمانية " والدولة الصفوية الشيعية التي يدين لها الحسن وغيره من الشيعة بالولاء أو التمجيد ، حيث كان الصفويون الشيعة خنجرًا في ظهر الدولة العثمانية " السنية " ، وعائقًا لتقدمها في أوروبا ، مما اضطر الدولة العثمانية أن تقاتل على جبهتين : جبهة الكفار ، وجبهة الشيعة الخونة الذين آذوها وشعبها بالتقتيل والتشريد ؛ مما اضطرها للانتقام الشرس منهم . يقول الأستاذ محمد فريد بك المحامي : " أمر السلطان سليم بحصر عدد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بطريقة سرية ، ثم أمر بقتلهم جميعًا ، ويُقال إن عددهم كان يبلغ نحو الأربعين ألفًا " . ( تاريخ الدولة العلية العثمانية ، ص 189 ) . ويقول الأستاذ عبدالمنعم الهاشمي : " أقدم السلطان سليم في خطوة مبكرة على تطهير بلاد الأناضول من المنتمين إلى المذهب الشيعي ، ودبر لهم في عام 1514م مذبحة مروعة ، وألقى كثيرًا منهم في السجن " . ( الخلافة العثمانية ، ص 253) . أما فتاوى العلماء الأتراك في الشيعة فلا بأس أن نُذكر الحسن وإخوانه بها لعلهم يُقدرون ماهم فيه من نعمة ! ولعلهم يترحمون بعدها على فتاوى علمائنا ؛ الشيخ ابن جبرين وإخوانه - حفظهم الله - !
فتوى كمال باشا ، الملقب بشيخ الإسلام في الدولة العثمانية(19/5)
بتكفير الشيعة واستحلال دمائهم وأن أولادهم أولاد زنا !!
قال في فتواه : ( الحمد لله العلي العظيم القوي الكريم والصلاة على محمد الهادي إلى صراط مستقيم وعلى آله الذين اتبعوه في دينه القويم وبعد : فقد تواترت الأخبار والآثار في بلاد المسلمين والمؤمنين أن طائفة من الشيعة قد غلبوا على بلاد كثيرة من بلاد المسلمين حتى أظهروا مذاهبهم الباطلة ؛ فأظهروا سب الإمام أبي بكر والإمام عمر والإمام عثمان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وأنهم يستحقرون الشريعة وأهلها ويسبون المجتهدين زعما منهم أن سلوك مذهب هؤلاء المجتهدين لا يخلو عن مشقة ، بخلاف سلوك طريق رأسهم ورئيسهم الذي سموه بشاه إسماعيل ، فإنهم يزعمون أن سلوك طريقه في غاية السهولة ونهاية المنفعة ، و يزعمون أن ما أحله شاه فهو حلال وما حرمه فهو حرام ، وقد أحل شاه الخمر فيكون الخمر حلالا ، وبالجملة إن أنواع كفرهم المنقولة إلينا بالتواتر مما لا يُعد ولا يُحصى ؛ فنحن لا نشك في كفرهم وارتدادهم ، وأن ديارهم دار حرب وأن نكاح ذكورهم وإناثهم باطل بالاتفاق ، فكل واحد من أولادهم يصير ولد زنا لا محالة وما ذبحه واحد منهم يصير ميتة، وإن من لبس قلنسوتهم الحمراء المخصوصة بهم من غير ضرورة كان خوف الكفر عليه غالباً؛ فإن ذلك من أمارات الكفر والإلحاد ظاهراً، ثم إن أحكامهم كانت من أحكام المرتدين حتى إنهم لو غلبوا على مدائنهم صارت هي دار الحرب فيحل للمسلمين أموالهم ونساؤهم وأولادهم. وأما رجالهم: فواجب قتلهم إلا إذا أسلموا، فحينئذ يكونون أحراراً كسائر أحرار المسلمين، بخلاف من أظهر كونه زنديقاً فإنه يجب قتله البتة. ولو ترك واحد من الناس دار الإسلام واختار دينهم الباطل فلحق بدارهم؛ فللقاضي أن يحكم بموته ويقسِّم ماله بين الورثة، وينكح زوجته لزوج آخر. ويجب أن يُعلم أيضاً أن الجهاد عليهم كان فرض عين على جميع أهل الإسلام الذين كانوا قادرين على قتالهم.(19/6)
وسننقل من المسائل الشرعية ما يصحح الأحكام التي ذكرنا آنفاً. فنقول وبالله التوفيق:
قد ذكر في البزازية، أن من أنكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه فهو كافر في الصحيح، وأن من أنكر خلافة عمر رضي الله عنه فهو كافر في الأصح.. وذكر في التتارخانية: أن من أنكر خلافة أبي بكر فالصحيح أنه كافر؛ وكذا خلافة عمر رضي الله عنه وهو أصح الأقوال. وكذا سبُّ الشيخين كفرٌ.. وذكر في البزازية: أن أحكام هؤلاء أحكام المرتدين... "
إلى آخر نقولاته عن بعض فتاوى علماء المذهب الحنفي في كفرهم - . ( تُنظر فتواه في مجموع رسائله الذي طبعه الدكتور سيد باغجوان مؤخرًا بعنوان " خمس رسائل في الفرق والمذاهب " ص 195-201) .
فتوى الشيخ نوح الحنفي بتكفير الشيعة ووجوب قتالهم
وعدم قبول توبتهم !!
سئل - رحمه الله - : " ما قولكم دام فضلكم ورضي الله عنكم ونفع المسلمين بعلومكم في سبب وجوب مقاتلة الروافض وجواز قتلهم : هو البغي على السلطان أو الكفر ؟ وإذا قلتم بالثاني فما سبب كفرهم ؟ وإذا أثبتم سبب كفرهم فهل تُقبل توبتهم وإسلامهم كالمرتد أولا تقبل كسب النبي صلى الله عليه وسلم بل لابدّ من قتلهم ؟ وإذا قلتم بالثاني فهل يُقتلون حداً أو كفراً ؟ وهل يجوز تركهم على ما هم عليه بإعطاء الجزية أو بالأمان المؤقت أو بالأمان المؤبد أم لا ؟ وهل يجوز استرقاق نسائهم وذراريهم ؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى الجنة " .(19/7)
فأجاب : " الحمد لله رب العالمين : اعلم أسعدك الله أن هؤلاء الكفرة والبغاة الفجرة جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد ، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم ، وسبب وجوب مقاتلتهم وجواز قتلهم البغي والكفر معاً ؛ أما البغي فإنهم خرجوا على طاعة الإمام خلد الله تعالى ملكه إلى يوم القيام ، وقد قال الله تعالى ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) والأمر للوجوب فينبغي للمسلمين إذا دعاهم الإمام إلى قتال هؤلاء الباغين الملعونين على لسان سيد المرسلين أن لا يتأخروا عنه بل يجب عليهم أن يعينوه ويقاتلوهم معه .(19/8)
وأما الكفر فمن وجوه ؛ منها : أنهم يستخفون بالدين ويستهزئون بالشرع المبين ، ومنها أنهم يهينون العلم والعلماء ، مع أن العلماء ورثة الأنبياء ، وقد قال الله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، ومنها أنهم يستحلون المحرمات ويهتكون الحرمات ، ومنها أنهم ينكرون خلافة الشيخين ويريدون أن يوقعوا في الدين الشين ، ومنها أنهم يطوّلون ألسنتهم على عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها ويتكلمون في حقها ما لا يليق بشأنها ، مع أن الله تعالى أنزل عدة آيات في براءتها ونزاهتها ، فهم كافرون بتكذيب القرآن العظيم ، وسابون النبي صلى الله عليه وسلم ضمناً بنسبتهم إلى أهل بيته هذا الأمر العظيم ، ومنها أنهم يسبون الشيخين ، وقال السيوطي من أئمة الشافعية : من كفّر الصحابة أو قال إن أبا بكر لم يكن منهم كفر ، ونقلوا وجهين عن تعليق القاضي حسين فيمن سب الشيخين هل يفسق أو يكفر والأصح عندي التكفير ، وبه جزم المحاملي في اللباب اهـ وثبت بالتواتر قطعاً عند الخواص والعوام من المسلمين أن هذه القبائح مجتمعة في هؤلاء الضالين المضلين ، فمن اتصف بواحد من هذه الأمور فهو كافر يجب قتله باتفاق الأمة ولا تقبل توبته وإسلامه في إسقاط القتل سواء تاب بعد القدرة عليه والشهادة على قوله أو جاء تائباً من قبل نفسه ؛ لأنه حدّ وجب ولا تسقطه التوبة كسائر الحدود ، وليس سبه صلى الله عليه وسلم كالارتداد المقبول فيه التوبة ؛ لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد لا حق فيه لغيره من الآدميين فقبلت توبته ، ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فإنه يكفر ويجب قتله ، ثم إن ثبت على كفره ولم يتب ولم يسلم يُقتل كفراً في الصورتين ، وأما سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما فإنه كسب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الصدر الشهيد : من سب الشيخين أو لعنهما يكفر ويجب قتله ولا تقبل توبته وإسلامه أي في إسقاط القتل .(19/9)
وقال ابن نجيم في البحر : حيث لم تقبل توبته عُلم أن سب الشيخين كسب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يفيد الإنكار مع البينة . قال الصدر الشهيد : من سب الشيخين أو لعنهما يكفر ويجب قتله ولا تقبل توبته وإسلامه في إسقاط القتل لأنا نجعل إنكار الردة توبة إن كانت مقبولة كما لا يخفى ، وقال في الأشباه : كل كافر تاب فتوبته مقبولة في الدنيا والآخرة إلا الكافر بسب نبي أو بسب الشيخين أو أحدهما أو بالسحر ولو امرأة وبالزندقة إذا أخذ قبل توبته اهـ .(19/10)
فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار تابوا أو لم يتوبوا ؛ لأنهم إن تابوا وأسلموا قُتلوا حداً على المشهور وأجري عليهم بعد القتل أحكام المسلمين ، وإن بقوا على كفرهم وعنادهم قُتلوا كفرا وأجري عليهم بعد القتل أحكام المشركين ، ولا يجوز تركهم عليه بإعطاء الجزية ولا بأمان مؤقت ولا بأمان مؤبد نص عليه قاضيخان في فتاويه ، ويجوز استرقاق نسائهم لأن استرقاق المرتدة بعدما لحقت بدار الحرب جائز ، وكل موضع خرج عن ولاية الإمام الحق فهو بمنزلة دار الحرب ، ويجوز استرقاق ذراريهم تبعاً لأمهاتهم لأن الولد يتبع الأم في الاسترقاق ، والله تعالى أعلم ، كتبه أحقر الورى نوح الحنفي عفا الله عنه والمسلمين أجمعين اهـ " . قال الشيخ ابن عابدين الحنفي – معلقًا - : " أقول وقد أكثر مشايخ الإسلام من علماء الدولة العثمانية لازالت مؤيدة بالنصرة العلية في الإفتاء في شأن الشيعة المذكورين وقد أشبع الكلام في ذلك كثير منهم وألفوا فيه الرسائل ،وممن أفتى بنحو ذلك فيهم المحقق المفسر أبو السعود أفندي العمادي ونقل عبارته العلامة الكواكبي الحلبي في شرحه على منظومته الفقهية المسماة الفرائد السنية ، ومن جملة ما نقله عن أبي السعود بعد ذكر قبائحهم على نحو ما مر : فلذا أجمع علماء الأعصار على إباحة قتلهم وأن من شك في كفرهم كان كافرًا .. الخ تعليقه ) . " تُنظر : العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية ، لابن عابدين ، 1/94-96 " .
قلت : هذه بعض فتاوى علماء الدولة العثمانية في الشيعة ، ومن أراد المزيد فعليه برسالة " الحجج الباهرة " للدواني ، ورسالة " اليمانيات المسلولة على الرافضة المخذولة " للكوراني .
وأختم بقول الدكتور محمد خليل هراس - رحمه الله - : " نحن لا نعرف للحركة الوهابية موقفًا خاصًا من الشيعة غير موقف أهل السنة كلهم " . " الحركة الوهابية ، ص 44 " .(19/11)
أسأل الله أن يهدي الشيعة إلى الحق ، ويوفقهم لترك ما هم فيه من شركيات وبدع وغلو وضغينة على الصالحين من عباد الله ، وعلى رأسهم صحابة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقر عيوننا بهدايتهم . والله الموفق .(19/12)
قبور ومشاهد مكذوبة ( 3 ) : مسجد ( السيدة زينب ) بمصر
يجد القارئ الكريم الحلقتين السابقتين تحت هذين الرابطين :
بطلانِ نسبةِ القبرِ في النجفِ إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ
قبور ومشاهد مكذوبة ( 2 ) : مسجد ( الحسين ) بمصر ..!
أما هذه الحلقة فستكون عن ما يسمى قبر السيدة زينب بنت علي - رضي الله عنهما - المزعوم وجوده في مصر ، وهو من القبور التي يُعظمها دعاة الخرافة ، ويصرفون من خلالها وماينسجونه عنها بعضَ جهلة المسلمين عن توحيد ربهم إلى الوقوع في البدع والشركيات ، اتباعًا للهوى ، أو طلبًا للاسترزاق المحرم .
حتى قال قائلهم - وهو الصوفي أحمد فهمي ، صاحب كتاب " العقيلة الطاهرة السيدة زينب " في كتابه ص 61 - : " كم من مكروب نفّس الله كربته بنفحتها ، وكم من مريض عميد توالت عليه الأوصاب ، وتواترت عليه الأسقام ، وترادفت عليه الأوجاع ، فتقمص بزيارتها ثوب العافية .. " !
وقال عن " حرمها " ! ص 71 : " مازال هذا الحرم قبلة العارفين ، وأمن الخائفين ، بركاته مشاهدة مرئية ، ونفحاته عائدة على زائريه بلا مرية ... " ! وبمثل هذا الخداع وقعت أمة التوحيد فيما حُذرت عنه . "
وقد كفانا الشيخ محمود المراكبي - وفقه الله - مؤنة إبطال هذا القبر المكذوب وغيره في كتابه الصادر حديثًا بعنوان : " القول الصريح عن حقيقة الضريح " ، وألخص منه هنا مايتعلق بقبر السيدة زينب ، مع قليل من الإضافات .
لم يرد ذكر قبر السيدة زينب الكبرى في العديد من روايات شهود العيان من الرحالة الذين رحلوا إلى مصر، وكتبوا عن آثارها، وتحدثوا عن مزاراتها، وبالطبع أهمها مشاهد تخص آل البيت، ومن أبرز هؤلاء الرحالة : ابن جبير ، والهروي ، وياقوت الحموي ، و ابن بطوطة ، وابن دقماق المصري ، وخليل بن شاهين الزاهري ، وغيرهم .
فلا نجد عند كل هؤلاء أي ذكر لقبر يُنسب إلى زينب بنت علي بن أبي طالب، فمن أين جاء هذا القبر؟(20/1)
لقد جاء ممن يسمى الرحالة الكوهيني الذي دخل القاهرة في 14 محرم 369هـ في فترة حكم المعز العبيدي ( أثناء استيلاء الدولة العبيدية الرافضية على مصر ) ، حيث زار عدة مشاهد ، وقال: " دخلنا مشهد زينب بنت علي فوجدناه داخل دار كبيرة، وهو في طرفها البحري ليشرف على الخليج، فنزلنا إليه بدرج، وعاينا الضريح، فوجدنا عليه دربوزا،... ومكتوب على باب الحجرة هذا ما أمر به عبدالله ووليه أبو تميم أمير المؤمنين الإمام العزيز بالله صلوات الله عليه وعليه آبائه الطاهرين وأبنائه المكرمين بعمارة هذا المشهد على مقام السيدة الطاهرة بنت الزهراء البتول زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وعلى آبائها الطاهرين وأبنائها المكرمين " .
وقد أنكر العلماء ما ورد على لسان الرحالة الكوهيني لسبب يبرزه لنا البحاثة السابقي في كتابه " مرقد العقيلة ، ص 58 " بقوله: "إن هذا المشهد ليس للسيدة زينب ؛ إذ لو كان لها مشهد بمصر بهذه الأبهة والفخامة التي يذكرها، فلماذا اختفى عن بقية الرحالين والمؤرخين ؟ ولماذا اختفى أمره على معاصر الكوهيني : المؤرخ الكبير الذي صرف همه في تحرير حوادث مصر خاصة، وهو ابن زولاق المتوفى 388هـ، الذي كان حيا في مصر وقت زيارة الكوهيني، بينما ينكر دخول أي ولد لعلي لصلبه في مصر، ويقول إن أول من دخلها سكينة بن علي بن الحسين ؟ فالظاهر أن ما رآه الكوهيني هو مشهد زينب بنت يحيى المتوج بن الحسن الأنور ابن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب، وبه قال شيخ الأزهر الشيخ محمد بخيت المطيعي".(20/2)
وتعليقًا على هذا التحليل : إن ما رآه الكوهيني يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك التزوير المتعمد الذي تخطط وتنفذ له الدولة العبيدية الرافضية كي تروج لدى الشعب المصري زيارة الأضرحة ، وهي تعلم يقيناً كذب دعواها ؛ أي أن الكوهيني اطلع على لوحة كتبها الحاكم نزار بن المعز العبيدي للترويج لحب آل البيت، كما فعل الوزير طلائع بن زريك بعد ذلك بمائتي سنة في مشهد رأس الحسين، والخطأ الذي وقع فيه الكوهيني هو تصديقه لهذه الخدعة، وترديده لها دون أن يتأملها، أو يراجعها مع علماء عصره.
لقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن السيدة زينب بنت علي لم تدخل مصر، وبالتالي لم تدفن فيها، ومن هؤلاء ابن ميسر [677هـ] ، وابن تغري بردي [704هـ] ، وابن الزيات المصري [814هـ] الذي ذكر جميع المسميات بزينب المدفونات بمصر في قائمة تضم [11] ممن أسمهن زينب، وليس فيهن زينب بنت علي بن أبي طالب، وكذا تلميذه نور الدين السخاوي [814هـ] ترجم للمدفونات بمصر، وذكر منهن [4] اسمهن زينب، وليست منهن زينب الكبرى، وكذلك ابن ظهيرة المصري [891هـ]، والحافظ السخاوي [902هـ] ، وله تأليف منفرد عن السيدة زينب الكبرى، ولم يذكر أنها دفنت في مصر، والحافظ السيوطي [911هـ] له رسالة " العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية " لم يشر فيها إلى سفر زينب الكبرى إلى مصر، ودفنها في أراضيها .
ولقد ذكر المقريزي [845هـ] مشهد زين العابدين يعني مشهد رأس زيد بن علي، ومشهد أم كلثوم بنت محمد بن جعفر الصادق، ومشهد السيدة نفيسة، وقال في موضع آخر: "وفي خارج باب النصر في أوائل المقابر قبر السيدة زينب بنت أحمد بن جعفر بن محمد بن الحنفية .. وتسميه العامة مشهد السيدة زينب"، وهذا التصريح منه يكشف منشأ خطأ العامة وانتشار هذا الوهم.
ولقد تأسس بناء المشهد المنسوب لزينب بعد ذلك بناء على رؤيا رآها الصوفي علي الخواص شيخ الصوفي الشهير عبدالوهاب الشعراني في القرن العاشر الهجري !(20/3)
قال الشعراني: "أخبرني علي الخواص أن السيدة زينب المدفونة بقناطر السباع ابنة الإمام علي رضي الله عنه ، وأنها في هذا المكان بلا شك" !! ثم تابعه الصوفية الخرافيون على هذا الكذب والكشف الشيطاني .
لقد اعتمد المثبتون لرواية دخول السيدة زينب القاهرة على ما روي عن الرحالة الكوهيني – كما سبق - ، و على رسالة منسوبة للمؤرخ العبيدلي مكذوبة عليه .
ومضمون هذا : أن زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنها، لما قدمت إلى المدينة عائدة من دمشق، جعلت تخطب في الناس وتؤلبهم على خلع يزيد والأخذ بثأر الحسين، فكتب والي المدينة عمرو بن سعيد بن العاص – الأشدق - إلى يزيد يعلمه الخبر، فرد عليه أن فرّق بينها وبينهم، فأمرها بالخروج فاختارت مصر، ودخلتها في شعبان سنة [61هـ] ، ومعها فاطمة، وسكينة، وعلي أبناء الحسين، واستقبلها الناس في بلبيس، وتقدم إليها واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، واستضافها في داره الحمراء، فأقامت به أحد عشر شهراً وخمسة عشرة يوماً، وتوفيت يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من رجب سنة [62هـ] ، وصلى عليها مسلمة بن مخلد ورجع بها فدفنوها بالحمراء بمخدعها من الدار حسب وصيتها " .
وجوابًا عن هذا يُقال :
1- استبعاد تصدي السيدة زينب رضوان الله عليها للخطابة في الناس ، وهي التي لم يرَ أحد من الأجانب شخصها في نور النهار، وأيضاً في وجود زوجها عبدالله بن جعفر وابن أخيها علي بن الحسين، وهو الولي الوحيد لدم أبيه، وأحق الناس به.
2- انشغال المدينة وأهلها بأحداث عبدالله بن الزبير عن المطالبة بثأر الحسين.
3- أن مصر في ذلك الوقت كان بها مسلمة بن مخلد ومعاوية بن خديج على وجه الخصوص، وقد كانا رأس المطالبين بدم عثمان، ولم يبايعا علياً ولم يأتمرا بأمر نوابه بمصر؛ ولذلك تعدهما الشيعة من ألد أعداء علي ومن أخلص أحباء معاوية، فكيف طابت مصر لزينب أن تتخذها مسكناً لها، ثم تنزل في داره، وتموت عنده، بل ويصلي عليها !!(20/4)
4- لم يذكر أي مصدر أن زوجها عبدالله بن جعفر الطيار سافر معها، أو أذن لها بالسفر، أو زارها بعد بعد استقرارها في مصر، ولا أن أحداً من بني هاشم زارها في حياتها، ولا بعد مماتها.
5- أن كتب العبيدلي الأخرى ؛ مثل أخبار المدينة، وكتاب النسب لم تشر لما نسب إليه في وريقات رسالته " أخبار الزينبيات " ، وكثير من المؤلفين نقلوا عن كتبه كثيراً كأبي الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين، وشيخ الشرف العبيدلي في تهذيب الأنساب، وابن طقطقي في النسب الأصيلي، والنسابة العمري في المجدي، وأكثرهم تعرض لترجمة زينب الكبرى ولكن لم ينقل أحد عنه أنها ذهبت إلى مصر وماتت بها.(20/5)
6- أقوال كبار المؤرخين لم تُثبت دخول زينب الكبرى مصر، ومنهم: عبدالرحمن بن الحكم ، المعاصر للعبيدلي، والمتوفى سنة 257هـ الذي ألف عدة كتب في أخبار مصر وذكر جملة من الصحابة الذين دخلوا مصر، وليس فيهم ذكر زينب الكبرى ورحلتها إلى مصر، ومعاصرة، محمد ابن الربيع الجيزي ترجم للصحابة والصحابيات الذين دخلوا مصر، وكذا القضاعي [ت:453] ، وله تأليف في مزارات مصر سماه أنس الزائرين، وابن جبير الأندلسي أثناء رحلته إلى القاهرة عام 578هـ، وهكذا ابن أسعد الجواني [ ت:600] ، وله مزارات الأشراف، وابن ميسر المصري [ت:677] ، وله كتاب في تاريخ مصر، وابن تغري بردي [ت:704] ، وكتابه النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة، وابن دقماق [ت:792] ، وله في أخبار مصر وخططها كتاب الانتصار لواسطة عقد الأمصار، وابن الناسخ المصري [ت:800] وكتابه مصابيح الدياجي وغوث الراجي، وهو مخطوط لم يطبع بعد، وابن الزيات الأنصاري [ت:814] ، وكتابه الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة، ونور الدين السخاوي [ت:814] ، وله كتاب تحفة الأحباب، والمقريزي [ت:845] ، وكتبه الخطط وإتعاظ الحنفاء ، والقاضي ابن ظهيرة [ت:891]، وكتابه الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة، والحافظ السخاوي [ت:902] ، وله كتاب مفرد في ترجمة زينب الكبرى، والسيوطي [ت:911] ، وله كتاب حسن المحاضرة،وكتاب در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة ، ترجم فيه مئات الصحابة، وسبع صحابيات ليس فيهن زينب الكبرى، وأحمد بن محمد السلفي [ت576] يصرح بأنه لم يمت لعلي بن أبي طالب ولد لصلبه في مصر.
قلت: وقد أقر بهذا الشيعي حسن الصفار في كتابه " المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب " ص 295وبيّن " ضعف مستند القائلين بسفر السيدة زينب الكبرى إلى مصر ، وموتها فيها " .(20/6)
وقال ص 298 : " المصدر الأساس لدعوى هجرة السيدة زينب الكبرى إلى مصر وموتها ودفنها فيها : رسالة " أخبار الزينبيات " للنسابة العبيدلي ، وحول هذه الرسالة ومؤلفها ورواتها ، وبالخصوص الرواية المتعلقة بهذا الموضوع ، حولها كلام عند أهل التحقيق سندًا ومتنًا " . ويُنظر كتاب " مجموعة وفيات الأئمة " لمجموعة من علماء الشيعة ، ص 468-469 اعترافهم - أيضًا - ببطلان دفنها في مصر .
أخيرًا : قال الشيخ محمد بخيت المطيعي – مفتي مصر في عصره - : " جزم كلٌ من ابن الأثير في تاريخه 4/48والطبري 6/264ومابعدها – بأن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنه وأخت الحسين رضي الله عنه قد عادت مع نساء الحسين أخيها ، ومع أخوات الحسين بعد مقتله إلى المدينة .. ولا عبرة بمن يشذ عنهما – أي الطبري وابن الأثير - .. وعليه : فلا مدفن لها في مصر ، ولا جامع ، ولا مشهد " . ( مجلة الفتح ) .
يحسن بالمسلم أن يطلع على هذه الكتب :
1- عبرات تُسكب على التوحيد .. للشيخ ممدوح الحربي : لمعرفة أثر القبورية السيئ على الأمة الإسلامية .
2- القبورية .. للشيخ أحمد المعلم : لمعرفة دور الرافضة والصوفية في نشر القبورية بين المسلمين .
3- اركب معنا .. للدكتور محمد العريفي : لمعرفة أهمية التوحيد وخطر الشرك .
4- المسالك والحلول .. للدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف : لمعرفة كيفية علاج القبورية .(20/7)
تغيير العطلة الأسبوعية في السعودية ... بين الأمير سلطان .. والشثري
تسارعت الدول الخليجية إلى تغيير عطلتها الأسبوعية استجابة للقوى الاقتصادية الغربية ، متذرعين بأن عدم الاستجابة سيوقعهم في خسائر اقتصادية ! وكأن هذه الدول المتسارعة لا تملك قوة اقتصادية تستطيع بها أن لاتكون مجرد تابع للغرب وقراراته .
أما في السعودية التي ميزها الله بخصائص على غيرها من البلاد ، من أراد معرفتها فليقرأ كتاب الشيخ بكر أبوزيد - سلمه الله - " خصائص جزيرة العرب " على ( هذا الرابط ) - والبعض تزعجهم كلمة ( خصوصية السعودية ) ؛ لأنها تمنعهم من ممارسة أهوائهم - فقد بدأ كتاب الصحافة فيها بطرح هذا الموضوع راضين لأنفسهم بالتبعية ، متذرعين بنفس الشبهة التي تذرع بها إخوانهم في دول الخليج : ( الأضرار الاقتصادية ) ! ولا أدري أين هي الأضرار الاقتصادية .. والسعودية تشهد أضخم ميزانية في تاريخها ! ولاأدري أين هذه الأضرار الاقتصادية والسعودية بقوتها الدينية والاقتصادية تستطيع - بحول الله - أن تكون متبوعة لا تابعة ، كما فعلت في قضايا كثيرة .
وتنزلا مع أصحاب الأضرار الاقتصادية ، يقال : من الذي منع القطاعات التي ستتضرر حسب قولكم - وهي قليلة - أن تداوم يوم الخميس ؟ أو حتى يوم الجمعة بعد الصلاة ؟ ولماذا تُجر الأمة كلها إلى متابعة اليهود والنصارى ، وهي لاعلاقة لها بذلك ؟
والمضحك أنك ترى بعض المطالبين بالتغيير سواء هنا أو في الإعلام ، لا هم في العير ولا النفير !! سمعوا الناس يقولون شيئًا فرددوه ، وإلا فإنه لا علاقة له بالموضوع كله ؛ لأنه يعيش على راتبه بالكاد ، وكأن مطالبته تلك ستضاعف راتبه !
وقد سئل ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز - وفقه الله - عن موضوع تغيير العطلة الأسبوعية فقال : ( مثل هذا الموضوع لم يُبحث إطلاقًا ) .(21/1)
وقال الشيخ صالح الفوزان - وفقه الله - عن أصحاب الفتاوى السريعة ! ممن قد يفتون بالجواز : ( هدى الله من يريد تبرير هذا المزلق الخطير ) .
كل هذا تجدونه في رسالة الشيخ عبدالرحمن الشثري - وفقه الله - القادمة :
لتحميل الكتاب اضغط هنا(21/2)
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
البحث منقول بتصرف يسير من كتاب
" الفكر الاجتماعي في مصر " للدكتور بسام البطوش
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحثٌ موجز مُيسر يبين للقارئ بداية تسلل الفكر الليبرالي العلماني إلى البلاد الإسلامية ، ويكشف أبرز الشخصيات التي اعتنقته ، وساهمت في نشره ، وهو يقتصر على البلاد المصرية بسبب أنها البوابة التي تنتقل منها الأفكار والتجارب الغربية إلى بقية دول العالم الإسلامي ؛ كما في التمثيل ، والمسرح ، والصحافة .. الخ . وهذا المبحث منقول بتصرف يسير من كتاب الدكتور بسام البطوش " الفكر الاجتماعي في مصر " ( ص 93-184) ؛ أنقله هنا ليعرف من خلاله القارئ كيفية التسلل الليبرالي ، وسيكتشف عند قراءته أن الأساليب التي استخدمها أتباع الغرب من الليبراليين المصريين هي نفسها ما يستخدمه الآن أشباههم في بلاد أخرى ؛ ومنها " المملكة العربية السعودية " حرسها الله ، وأدام عليها نعمة الإيمان والأمن ، والله الهادي .
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
1-مفهوم الليبرالية:
مصطلح الليبرالية مذهب ينادي بالحرية الكاملة، وفي ميادين الحياة المختلفة، لاتقيدها أحكام الدين . والليبرالية كغيرها من المذاهب السياسية والاجتماعية تعدّ نمطاً فكرياً عاماً، ومنظومة متشابكة من المعتقدات والقيم، تشكلت عبر قرون عدة، منذ القرن السابع عشر[1].
وقد ساهم عدد كبير من المفكرين في صياغة الفلسفة الليبرالية كان من أبرزهم، جون لوك (1632-1704م)، وآدم سميث (1723-1790م) وجيرمي بنثام (1748-1832م)، وجون ستيوارت مل (1806-1873م)، وجان فرانسوا فولتير (1694-1778م)، وجان جاك روسو (1712-1778م) وأليكسيس دي توكفيل (1805-1859م) وغيرهم.(22/1)
وفكرة الليبرالية الأساسية في الاقتصاد هي الحرية الاقتصادية، بمعنى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، أو أن يكون تدخلاً محدوداً وعلى أضيق نطاق، فواجبات الدولة محدودة، يجب أن لا تتجاوزه[2].
والطبيعة – كما يقولون - تحترم الحرية، فمن الطبيعي أن يتمتع الإنسان بحريته الكاملة في النشاط الاقتصادي، وفقاً لما سُمي "المذهب الطبيعي"؛ فسعادة البشر وفق هذا المذهب تتحقق من خلال سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الذاتية. وتم التعبير عن هذا المضمون بشعار "دعه يعمل، دعه يمر" وقد نظر آدم سميث بوضوح لهذه الفكرة في كتابه "ثروة الأمم" الصادر (1776م).
كما تصدى دافيد ريكاردو لشرحها في كتابه "الاقتصاد السياسي" الصادر (1817م) [3].
وتعود جذورالليبرالية – أيضًا - إلى أفكار جون لوك، الذي يؤكد على فكرة "القانون الطبيعي"، ووفقاً لهذه الفكرة فإن للأفراد بحكم كونهم بشراً حقوقاً طبيعية غير قابلة للتصرف فيها، كحرية الفكر وحرية التعبير، والاجتماع، والملكية[4].
وقد شكلت هذه الفكرة إلهاماً للثورات الكبرى في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كالثورة الإنجليزية (1688م)، والأمريكية (1773م)، والفرنسية (1789م)، وما نتج عنها من نظم سياسية ليبرالية تبلورت معالمها في القرن التاسع عشر بوضوح أكبر[5].
وتعد أفكار المدرسة النفعية، وعلى وجه الخصوص أفكار جيرمي بنتام (1748-1832م) مصدرًا رئيسًا للفكر الليبرالي، وقد عبر عنها بوضوح في كتابه "نبذة عن الحكم" الصادر (1776م)، والفكرة النفعية ترسي قواعد القانون والدولة والحرية على أساس نفعي؛ فالحياة يسودها "سيدان" هما الألم واللذة؛ فهما وحدهما اللذان يحددان ما يتعين فعله أو عدم فعله، فليترك الفرد حراً في تقرير مصلحته بداع من أنانيته، وسعياً وراء اللذة، واجتناباً للألم.
والمحصلة هي حياة اجتماعية أكثر سعادة[6]، وفقاً لمبدأ "أعظم سعادة لأكبر عدد"، كمبدأ أخلاقي جديد للتمييز بين الخير والشر[7].(22/2)
وتؤمن الليبرالية بجملة قيم أسياسية، تأتي "الحرية" في مقدمتها، حتى أنها اكتسبت اسمها من هذه القيمة، وحتى أن البعض رأى "أن الموقف الليبرالي هو التعبير الطبيعي عن الإيمان بالحرية[8]؛ فالهدف الأساس للمذهب الليبرالي هو ضمان الحرية أو التحرر، وغياب القيود والموانع المعيقة لحركة الإنسان ونشاطه، على أساس أنها تتعلق بممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية[9].
وآمن المذهب الليبرالي بقيمة هامة وأساسية بالنسبة لبنائه الفكري، وهي الفردية، فالفرد –هنا- هو الأساس، وواجب الدولة والمجتمع حماية استقلاله، وتسهيل سعيه لتحقيق ذاته، وإتاحة المجال أمامه للاختيار الحر[10].
وأعلت الليبرالية كثيراً من قيمة الملكية كأحد الحقوق الطبيعية للفرد، يتوجب صونها من كل تعدٍ أو جور[11]، وتحدثت الليبرالية عن المساواة بأشكالها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الحراك الاجتماعي[12].
أما فيما يتعلق بالصلة بين الليبرالية والديمقراطية، فإنه يمكن القول بأن الليبرالية تمثل الفلسفة الاجتماعية أو منهج التفكير أو النسق الفكري العام.
في حين أن الديمقراطية أنسب ما تكون لوصف نظام الحكم أو طريقة ممارسة السلطة السياسية. وقد بدأت الليبرالية أرستقراطية ثم أصبحت ذات صيغة شعبية بفعل كفاح الشعوب تعترف للجميع بالحقوق نفسه[13].
2-منافذ الفكر الليبرالي إلى مصر:
أ-الحملة الفرنسية على مصر 1789-1801م:
شكلت الحملة الفرنسية على مصر صدمة ثقافية وفكرية لمصر، وفتحت عيون المصريين على عالم جديد، وساهمت في تعريفهم بالفارق الحضاري الذي يفصلهم عن أوروبا.(22/3)
فقد رافق نابليون في حملته هذه جمع من العلماء في تخصصات مختلفة. كما أدخل معه مطبعتين إحداهما عربية والأخرى فرنسية، وأنشأ الدواوين، وأنشأ مرصداً ومتحفاً ومختبراً ومسرحاً ومجمعاً علمياً. غير أن قصر الفترة التي مكثها الفرنسيون في مصر، إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع لهم كما يشتهون، إلى جانب عدم الاندماج الفاعل بينهم وبين الشعب المصري. كل ذلك قلل من حجم الاستفادة المصرية من ثمرات التقدم الأوروبي التي جلبتها الحملة معه[14].
وقد دار جدل واسع بين الباحثين حول تقويم أثر الحملة الفرنسية التنويري، ومحصلة هذا الجدل كانت حول حجم ومدى التحولات الناجمة عن الحملة، لا حول وجودها من عدمه[15].
وفي كل الأحوال لابد من الحذر من الانسياق خلف مقولات تخدم الادعاءات حول دور تنويري للاحتلال الأجنبي.
ب-الخبراء الأجانب في مصر، والبعثات العلمية إلى أوروبا:
وتوثقت صلات مصر بأوروبا في عهد محمد علي، إذ اعتمد في تجربته الرائدة في بناء دولة مصرية حديثة على عدد من الخبراء الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين.
كما اعتمد سياسة إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فكانت هذه البعثات من العوامل الهامة في الانفتاح على الغرب وثقافته.
وقد بدأت حركة الابتعاث عام 1813م، بإرسال مجموعة من الطلبة المصريين إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن، وتعلم الهندسة، ومنذ العام 1826م، بدأت حركة الابتعاث إلى فرنسا، وخلال الفترة 1813-1847م، تم إيفاد 339 مبعوثاً إلى أوروبا، وتواصلت سياسة الابتعاث طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين[16].
وبعد عودتهم عملوا في حقول التعليم والجيش والأعمال الهندسية والطب والترجمة. وكان دورهم واضحاً في تشكيل البيئة المناسبة لغرس أفكار التحديث الأوروبية[17].
ج-حركة الترجمة:(22/4)
وشكلت حركة الترجمة أحد أهم منافذ الفكر الأوروبي إلى مصر، وقد بدأت في عهد محمد علي الذي أولاها رعاية خاصة، اقتناعاً منه بضرورتها للإطلاع على منجزات العلم الأوروبي، وكان تركيزه منصباً على الكتب العلمية، واعتمد في البداية على عدد من المترجمين الأوروبيين، ثم على الطلبة المصريين العائدين من البعثات العلمية.
ثم أنشأ دار الألسن عام 1835م لإعداد المترجمين، وتوسّعت حركة الترجمة لتشمل ميادين ثقافية وعلمية مختلفة، كالعلوم الرياضية، والعلوم الطبية، والطبيعية، والمواد الاجتماعية، والأدبية، والقوانين الفرنسية[18].
وبرز في ميدان الترجمة إضافة إلى رفاعه الطهطاوي (1801-1873م)، كل من أحمد عثمان (1829-1898م) الذي قدّم إلى المكتبة العربية عدة ترجمات لكتابات أدبية فرنسية، وأحمد فتحي زغلول[19] (1863-1914م)، وقد اهتم بترجمة كتابات سياسية واجتماعية أوروبية ذات توجهات ليبرالية واضحة، لا شك أنها قد أسهمت في تعريف المصريين بالفكر الليبرالي الغربي.
وكان يقدم لها بمقدمة يوضح فيها تعاطفه مع المبادئ والأفكار الليبرالية المبثوثة فيها، ويدعو القراء للإفادة منها، وكان من أبرزها "أصول الشرائع" لبنتام ونشرت الترجمة عام 1892م، وكتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين"[20] لصاحبه إدمون ديمولان ونشرت الترجمة عام 1899م، وكتاب "روح الاجتماع" لجوستاف لوبون ونُشرت الترجمة عام 1909م، وكتاب "سر تطور الأمم" لجوستاف لوبون أيضاً، ونُشرت الترجمة عام 1913م. وكتاب روسو "العقد الاجتماعي"[21].
وتواصلت حركة الترجمة في مصر لتشكل نافذة تطل منها مصر ومعها العالم العربي على الغرب وثقافته وتياراته الفكرية على تنوعه[22]، واتخذت مكانة هامة في نظر دعاة الليبرالية كمرحلة لابد منها لخلق بيئة ثقافية وفكرية مناسبة تمهد لولوج مرحلة التأليف تالياً.(22/5)
وقد دافع أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسين هيكل، وغير واحد من رموز التيار الليبرالي، عن أن هذا العصر عصر ترجمة لا عصر تأليف بالنسبة لمصر[23].
د-الطباعة والصحافة:
ولا شك أن تطور الطباعة[24] في مصر كان حجر الزاوية في النشاط الثقافي وخاصة في ميدان الترجمة والنشر، وفي ميدان هام آخر هو ميدان الصحافة.
أما فيما يتعلق بالصحافة، فقد عرفت مصر نشاطاً صحفياً مميزاً منذ صدور "الوقائع المصرية" 1828م، فقد صدر عدد كبير من الصحف والمجلات طوال القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وصولاً إلى فترة الدراسة[25].
ولا شك أن بعض الصحف والمجلات أدت دوراً بارزاً في التعريف بالفكر الأوروبي، كان في مقدمتها مجلة "المقتطف"[26]، ومجلة "الهلال"[27]، ومجلة "الجامعة العثمانية"[28].
ساهمت هذه المجلات في التعريف بالمذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية، وسائر ضروب الثقافة الغربية[29]، وعدّها إسماعيل مظهر صاحبة الفضل الأكبر في تطور الفكر العلمي في مصر، بل وعدّها نقطة التحول الأساسية في الفكر المصري الحديث[30].
وتبرز جريدة "الجريدة" الصادرة عام 1907م، بوصفها حاملة لراية الدعوة للفكر الليبرالي. وهي لسان حال حزب الأمة ذي التوجهات الليبرالية المعروفة، وترأس تحريرها أحمد لطفي السيد "فيلسوف" التيار الليبرالي المصري ومنظّره. وعلى صفحاتها برزت أسماء عدد من أكبر رموز التيار الليبرالي كطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، ومحمود عزمي، ومحمد عبدالقادر المازني، والشيخ مصطفى عبدالرازق[31].
ثم حملت الراية جريدة "السفور" الصادرة عام 1915م، وقد شكّلت حلقة وصل بين "الجريدة، و"السياسة" الصادرة عام 1922م لسان حال لحزب الأحرار الدستوريين، ورصيفتها "السياسة الأسبوعية" الصادرة عام 1926م، وتولى رئاسة تحريرها د. محمد حسنين هيكل.
3-أبرز مفكري التيار الليبرالي في مصر:(22/6)
ساهمت جهود مشتركة وعبر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في تهيئة البيئة المناسبة لتشكيل تيار فكري يتبنى الدعوة للفكر الليبرالي، وتوطينه في البيئة الفكرية المصرية.
- وتبرز جهود الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي[32] (1801-1873م)، ذات أهمية في المساهمة في تعريف القارئ المصري على اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في فرنسا، فقد نشر عدداً من الكتب، كان من أبرزها "تخليص الأبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريز" عام 1834م، قدّم فيه فكرة عن الحياة في باريس، وعن الثقافة والعادات والتقاليد والقيم الفرنسية، واعتبره البعض بمثابة حجر الأساس في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري، خلال القرن التاسع عشر[33]، كما أصدر في أواخر حياته كتاباً هاماً يمثل النضوج الفكري للطهطاوي، وهو "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" عام 1869، كما ترجم الدستور الفرنسي الذي سماه الشرطة الصادر عام 1814م، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو، وغيرها من الكتب، التي تبشر بالقيم والمبادئ الليبرالية[34].
كما قدم لقرائه فكرة عن الدولة العلمانية، ومفهوم الدستور والقانون، وأنماط الحياة الاجتماعية، ومكانة المرأة في المجتمع الفرنسي، وأبدى إعجاباً بالمبادئ الدستورية، ومبادئ حقوق الإنسان، وفقاً للمنظور الغربي، والرابطة الوطنية والتسامح الديني، فقد اجتهد في تقريب صورة الغرب الأوروبي للعقل المصري، ومما لا شك فيه أنه قد شق الطريق أمام بروز التيار الليبرالي في الفكر المصري الحديث[35]، فقد عده بعضهم مؤسس الليبرالية المصرية[36].
- وقد واصل علي مبارك[37] (1823-1893م) متابعة جهود الطهطاوي في حقول الترجمة والتعليم.(22/7)
وقد ساهم في بروز ما عُرف بالتعليم العلماني أو المدني الحديث الموازي للتعليم الديني الأزهري[38]، وقد أسهم في تعريف المصريين على جوانب جديدة من الحياة في الغرب في روايته "علم الدين"[39]، التي كتبها حوالي سنة 1858م.
- وبعيداً عن التصنيفات القطعية في تحديد الهوية الفكرية لهذا المفكر أو ذاك، فإن جمال الدين الأفغاني[40] (1839-1897م) قام بدور ليبرالي هام خلال فترة مكوثه في القاهرة (1871-1879).
ولا شك أنه ساهم في تهيئة المناخ الفكري الملائم للأفكار التحررية، فقد تبنى الدعوة إلى الحرية، والأفكار الدستورية، والإفادة من منجزات الغرب والتواصل معه، ومكافحة الاستعمار والاستبداد والظلم[41].
وتشكل من حوله جيل من التلامذة والمعجبين[42]، قادوا الحركة الفكرية في مصر، وتزعموا مايسمونه حركة الإصلاح هم وتلامذتهم من بعدهم.
- والشيخ محمد عبده[43] (1849-1905م) يأتي في مقدمة تلامذة الأفغاني وتأتي أهميته في سياق الحديث عن الفكر الليبرالي في مصر، من كونه يمثل مدرسة عصرانية تدعو – كما تزعم - إلى التوفيق بين الإسلام وبين حركة المدنية الحديثة[44]، فكان دوره حاسماً في حركة الثقافة المنفتحة على الغرب وعلومه، ، وهو رائد المنهج العصراني[45] .
لكنه لا يحبذ – مؤقتًا - ترك المجال للاتجاهات العلمانية الصرفة لتسود كل شيء[46].
لكن غالب تلامذته اتجهوا نحو ليبرالية علمانية وفق تطور تدريجي في أعقاب وفاة شيخهم[47]، وشرعت هذه الفئة في نشر مبادئ مجتمع علماني يدعي احترام الإسلام، لكن دون أن يجعله أساساً للحياة الاجتماعية[48] !!(22/8)
- وقبل مواصلة الحديث عن تلامذة محمد عبده الذين ساروا في الخط الليبرالي، لابد من الإشارة إلى الدور الهام الذي قام به عبدالرحمن الكواكبي[49] (1848-1902م) في صياغة الفكر العربي الحديث، وإسهامه بالذات في محاربة الاستبداد، وكشف مخاطره وعواقبه، واعتباره السبب الرئيس المسؤول عن واقع التخلف الذي تعانيه الأمة.
وقد دافع عن الحرية، والعدالة والمساواة، من منظورمنفتح على التجربة الإنسانية، ولا شك أن هذه الأفكار تشكل جذراً أساسياً في دعم الفكر التحرري الليبرالي.
- ويُعد قاسم أمين[50] أحد أبرز تلامذة محمد عبده الذين جنحوا تدريجياً في مجاراة تيار التغريب، وإن كان اسمه قد اقترن بالدعوة إلى "تحرير المرأة"، فإن جهده الفكري قد اعتبر أحد الروافد الهامة التي صبت في التيار الليبرالي العام.
- ويأتي أحمد لطفي السيد[51] (1872-1963م) لينطلق بعيداً بالفكر الليبرالي في مصر عن النهج التوفيقي لمحمد عبده.
فقد استبعد الإسلام كتشريع وكمرجعية من مشروعه الفكري، وأخذ به كجانب خُلقي وكمرحلة تاريخية من مراحل تكوين الشخصية المصرية[52]، وأبدى إعجاباً شديداً بالفلسفة اليونانية، فعمد إلى ترجمة بعض مؤلفات أرسطو الذي كان من فرط إعجابه به يدعوه "سيدنا أرسطو رضي الله عنه"[53] !!
واعتبره جيل من الشباب المثقف، أستاذاً لهم، فأسموه "أستاذ الجيل"، ذاك الجيل الذي تتلمذ على يديه في "الجريدة" وفي "الجامعة المصرية"[54]، وتلقفوا أفكاره الليبرالية بكثير من الإعجاب والمتابعة[55].
ويكفي أن نعرف أن لطفي السيد هو الذي اشتق التسمية المناسبة برأيه للدلالة على "الليبرالية"، فأطلق عليها اسم "مذهب الحريين" وفضلها على تسميتها بمذهب "الحرية" أو مذهب "الأحرار"، وكان يسميه مذهب "اللبراليزم" أي مذهب أهل السماح. ونادى بجعل هذا المذهب أساساً للنظام السياسي والاجتماعي، ولكل علاقة بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والحكومة[56].(22/9)
كما اقترح تسمية حزب الأحرار الدستوريين عند تأسيسه باسم حزب "الحريين الدستوريين"[57].
وإذا كان الإمام محمد عبده يدعم نهجه الإصلاحي التوفيقي بـ"الفكرة" و "الموقف"، من خلال العمل في المؤسسات، فإن لطفي السيد ومعه جيل جديد من الليبراليين مارسوا تعزيز النهج التحديثي الليبرالي، عبر "الفكرة" بالجهد الفكري والثقافي، وعبر "الموقف" بالمشاركة في أجهزة الدولة، كتولي الوزارة، ورئاسة الجامعة وغيرها من مؤسسات التوجيه.
- ويظهر د. منصور فهمي (1886-1958م) [58]؛ كأحد أبرز رموز التيار الليبرالي. تلقى تعليمه العالي في باريس، وناقش في عام 1913م أطروحة الدكتوراه بعنوان "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها"، وهي أول رسالة قدمها مصري في علم الاجتماع.
وقد أشرف عليها المستشرق اليهودي ليفي بريل[59] (1857-1939م)، وتضمنت نقداً لاذعاً لأحوال المرأة في المجتمع الإسلامي، بل ولموقف الإسلام من المرأة، ونهج فيها منهج النقد التاريخي، المتحرر من الالتزام بقدسية الوحي، ومفسراً نصوص القرآن الكريم، والحديث الشريف، وسلوك الرسول عليه السلام وفقاً لمناهج المستشرقين.
وعندما عاد إلى مصر، عمل مدرساً في الجامعة المصرية، لكنه أُخرج منها عندما نشرت الصحف مقتطفات من أطروحته التي كتبها بالفرنسية، ولم يحاول إطلاقاً إعادة نشرها بالعربية، وكان عضواً في "جماعة السفور"، وفي الحزب الديمقراطي المصري، وأحد أبرز كتّاب "السياسة".
لكن منصور فهمي أعاد النظر في كثير من قناعاته الفكرية، فعاد ليبدي تفهماً لحقائق الإسلام بعيداً عن المفاهيم الاستشراقية التي خيمت على فكره في بواكير الشباب، وراح يعبر عن هذا الموقف منذ نهاية عقد العشرينيات، عبر مقالاته الصحفية، ونشاطه الفكري العام[60].(22/10)
- ولا يمكن استكمال صورة الفكر الليبرالي في مصر دون التوقف مطولاً مع تجربة د. محمد حسين هيكل[61] (1888-1956م)، فقد تتلمذ في السياسة والفكر على لطفي السيد، وفي باريس انفتح على الثقافة الأوروبية بكل تجلياتها، وأبدى إعجاباً بها وحماساً كبيراً نحوه[62]، وساهم في صياغة الفكر الليبرالي في مصر عبر ترجماته المتعددة في الأدب الفرنسي خاصة لأناتول فرانس[63]، وعبر مؤلفاته، وكان من أهمها "جان جاك روسو: حياته وأدبه" (1921-1923م). وإن كان جهده الفكري والثقافي الأبرز في رئاسة تحرير "السياسة"، أبرز منابر الفكر الليبرالي في مصر خلال هذه المرحلة[64].
وإذا كان د. هيكل من أجرأ من عبّر عن أفكاره التحديثية الليبرالية، فإنه أيضاً تمتع بقدر عالٍ من الجرأة في التعبير عن مراجعات فكرية عميقة وجذرية إلى حد ما، في مرحلة العودة إلى الإسلام أو إلى "التوفيقية"[65] في عقد الثلاثينيات، لقد استفزته الهجمة التبشرية على مصر[66]، فتصدى له[67].
وبدأت المقالات الإسلامية تجد سبيلها للنشر على صفحات "السياسة"[68]، وانطلق يؤلف في الدراسات الإسلامية، فأصدر "حياة محمد" (1932-1935م)، و"في منزل الوحي" 1936م، كما عبر بصراحة عن خيبة أمل عميقة بالحضارة الغربية، وبسياسات الغرب، وبفرص نجاح الثقافة الغربية في البيئة المصرية والعربية[69].
- ويعد د. طه حسين (1889-1973م) [70]، من أبرز دعاة الليبرالية والتحديث في هذه المرحلة، فبعد أن درس في الأزهر (1902-1908م)، غادره إلى الجامعة المصرية، فغادر بذلك ثقافة الأزهر ليتجه في طريق الثقافة الغربية المسيطرة في الجامعة المصرية، ولما انتقل للدراسة في باريس تعمّق التوجه نحو الغرب الثقافي في وجدان طه حسين وعقله.(22/11)
أبدى اهتماماً بالفكر الاجتماعي منذ أن أعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة السوربون عام 1918م، بعنوان "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" بإشراف عالم الاجتماع اليهودي إميل دور كهايم[71] (1858-1917م)، كما أبدى اهتماماً بالفلسفة اليونانية، والفلسفة والفكر الأوروبيين الحديثين. وارتبط بصداقة فكرية وسياسية حميمة مع أحمد لطفي السيد، كما ارتبط بحزب الأحرار الدستوريين، ثم تحول في مطلع الثلاثينيات نحو الوفد[72].
سخّر طه حسين كل جهوده الفكرية والأدبية والأكاديمية والسياسية، لخدمة الفكر الليبرالي الغربي الذي آمن به، ووقف حياته للدعوة للمفاهيم والقيم الليبرالية، وانخرط طويلاً في معركة "القديم والجديد"[73].
وكثيراً ما لجأ إلى الاستفزاز والإثارة، عندما كان يعمد إلى مصادمة الناس في معتقداتهم الدينية، كما فعل في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وظلت تطارده تهمة تقديم "دراسات إلحادية" لطلبته في الجامعة، وتسببت في إخراجه من الجامعة عام 1931م[74]، لكنه ساهم في الحملة على النشاط التبشيري في مصر[75].
وأصدر في ديسمبر 1033م كتابه على "هامش السيرة"، وقد أتى متزامناً مع دراسات هيكل في السيرة.
لكن طه حسين لم يظهر شيئاً من المراجعة الفكرية كهيكل، ويصرح بأن هذه الدراسة تأتي في إطار تقديم الدراسات الأدبية الترفيهية، التي تقرّب صورة الأدب العربي القديم للشباب، وتقدم ترفيهاً للنفوس المتعبة؛ فيقول:(22/12)
"وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم خيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخبر، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش"[76].
كما أنه نشر في الفترة نفسها كتابة "من بعيد" وهو عبارة عن مجموعة مقالات كتبها خلال أعوام (1923-1930م)، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1935م، وهو لا يشير إلى أي تحول فكري عن الخط السابق.
ثم أصدر كتابه الأخطر وهو "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1937م، وهو أوضح تعبير عن مشروع طه حسين الفكري القائم على التغريب، والعلمانية الصرفة[77].
- أما عباس محمود العقاد (1889-1964م) [78]، فقد أسهم بجهد فكري معتبر في دعم الفكر الليبرالي، وفي الدفاع عن توجهات الوفد الفكرية والسياسية، فقد بقي طيلة الفترة (1923-1935م)، يكتب المقال الافتتاحي في الصحافة الوفدية.
فقد آمن العقاد بالديمقراطية الليبرالية، ودافع عن الحرية، وتصدى في هذه المرحلة للفكر الاشتراكي وللشيوعية، ودافع بحرارة عن موقف الوفد الرافض لفكرة الخلافة، ولعقد مؤتمر الخلافة، ولتطلعات الملك فؤاد في هذا الشأن.
كما دافع بقوة عن التوجهات العلمانية للوفد، لكنه اختلف مع الوفد وخرج عليه شعوراً منه بأنه الوفد يساوم على مبادئ الديمقراطية الليبرالية[79]، كما أنه لم يكن من دعاة التغريب.(22/13)
- ولعله ليس من الممكن ونحن نتحدث عن رموز التيار الليبرالي في مصر تجاهل إسماعيل مظهر (1891-19629) [80]، وهو صاحب فكرة إنشاء "حزب الفلاح" عام 1929م. وهو برنامج ليبرالي بمسوح اجتماعية أو اشتراكية مبهمة، يهدف إلى حل مشاكل الفلاح المصري، تقدم بهذه الفكرة للنحاس باشا "زعيم الأمة"، زعيم الوفد للنهوض بها وتنفيذها، لكن الوفد تجاهل الفكرة[81].
4-أبرز الأحزاب الليبرالية في مصر:
يمكن القول بأن مصر عرفت ثلاثة أحزاب ليبرالية خلال فترة الدراسة، هي الحزب الديمقراطي المصري (1919-1922م)، وقد أُشير في الفصل الأول إلى هذا الحزب وجذوره وكيف انتهى إلى الانخراط في حزب الأحرار الدستوريين.
أما الحزبان الآخران فهما حزب الأحرار الدستوريين (1922-1953م)، وحزب الوفد، وكنا قد تحدثنا عن دورهما في العملية السياسية في مصر أثناء فترة ما بين الحربين، وهنا نلقي ضوءاً على هويتهما الفكرية.
انتهج الحزبان الأيديولوجية الليبرالية نفسها، واختلفا في الشكل دون المضمون، وهو اختلاف قائم على صراعات شخصية، وعلى صراع سياسي، وتنافس حزبي ليس أكثر.
وكان الحزبان قد انطلقا من جذر فكري واحد هو مدرسة محمد عبده. ثم تبلورت الاتجاهات الليبرالية لديهما بمرور الوقت طيلة العقدين الأولين من القرن العشرين، في إطار حزب الأمة، ومدرسة "الجريدة"، ثم في "جماعة السفور" و"الحزب الديمقراطي المصري" وفي "الوفد المصري".
وتعمق الاتجاه العلماني في وجدان هؤلاء وخطابهم، في مطلع العشرينيات، بزيادة حدة الموجة العلمانية التغريبية التي اجتاحت مناحي الحياة المختلفة، وراحت تطيح بكثير مما تعارف عليه المجتمع من قيم وأفكار.
وقد استظلت هذه الموجة بغطاء الهيمنة الاستعمارية، التي فرضت نفسها على مصر والمنطقة من حوله[82]، كما استوحت الليبرالية المصرية الكثير من النموذج التغريبي الجاري على قدم وساق –آنذاك- في تركي[83].(22/14)
لقد نظر الليبراليون في مصر بانبهار وإعجاب إلى التجربة العلمانية في تركيا، وظهر جدل فكري هام بين التيارات المختلفة تعقيباً على ما يجري في تركيا.
وظهر في الصحافة المصرية آلاف المقالات والتحقيقات حول التجربة الكمالية إعجاباً وتأييداً، أو انتقاداً وتحذيراً، لكن التيار الليبرالي أبدى إعجاباً شديداً بهذه التجربة[84].
وراح الليبراليون يثيرون في مصر نفس القضايا التي كانت تُثار في تركيا، كالخلافة، وتغريب التعليم، والتشريع والثقافة والأدب، والأزياء، والحروف اللاتينية والمطالبة بإلغاء الوقف، وإلغاء الإفتاء، والأخذ بالزواج المدني[85].
- وظهر حزب الأحرار الدستوريين كحزب للصفوة الاجتماعية والثقافية وكمدافع عن مبادئ الحرية والدستورية –كما يوحي بذلك اسمه-وكمؤمن بمبادئ العلمانية الشاملة، واعتبرت "السياسة" لسان حاله منبراً للفكر الليبرالي.
ويمكن تحديد ملامح الرؤية الفكرية للحزب بقراءة العناوين البارزة لقانون الحزب الصادر عند تأسيسه في الثلاثين من تشرين أول 1922م، حيث وضع الحزب لنفسه مبادئ يسعى لتحقيقها، وهي تتعلق بتأييد النظام الدستوري، وتطوير الحياة النيابية، والحكم المحلي، والدفاع عن حقوق الفرد وحريته، ومحاربة الأمية ونشر التعليم، وتطوير اقتصاد البلاد، وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأهلي، وتوزيع الضرائب توزيعاً عادلاً وحماية الصناعة المصرية، وترقية الزراعة وإصلاح وسائل الري والصرف والسعي إلى تخلي الحكومة عما تحت يدها من الأطيان للأفراد (ولا يحدد من هم؟ هل هم الأغنياء أم الفقراء؟)، وتنظيم العلاقات في المصانع والمتاجر بين العمال وأرباب العمل على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة من تحكم أحد الفريقين.
والمقصود هنا التحذير من تفشي الاشتراكية[86]؟(22/15)
لكن البون كان شاسعاً بين الفكر والممارسة، كما اتضح من دوره في العملية السياسية، وقد عبر عدد من المفكرين عن الرؤية الفكرية للحزب، كان في مقدمتهم أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسنين هيكل، ود. طه حسين، ود. محمود عزمي[87]، ود. منصور فهمي، وناصرهم الشيخان، مصطفى عبدالرازق وعلي عبدالرازق، ونفر من المفكرين والكتاب[88].
- أما حزب الوفد فقد آمن بالوطنية العلمانية، واستندت أيديولوجية إلى جملة مبادئ أساسية في تحقيق الاستقلال، وصون الوحدة الوطنية، والحكم الدستوري الذي يصون الحريات الفردية والعامة[89]، وحرص الوفد على المحافظة على صفته التمثيلية العامة للشعب، وعلى صورته كحزب جماهيري، مدافع عن الدستور وعن الشعب. ويمكن القول أنه في هذا المجال تفوق على خصمه السياسي الأبرز حزب الأحرار الدستوريين[90].
ومع حرصه على النهج العلماني الخالص في شؤون الحكم والسياسة، فإنه لم يلجأ إلى مصادمة الناس في عقائدهم الدينية، وما تعارفوا عليه من قيم وأنماط سلوك.
وفي نهاية فترة الدراسة، نجد الخطاب الوفدي يتطرف لجهة العلمانية في مواجهة صعود الاتجاه الإسلامي، في الوقت الذي كان فيه منظّرو حزب الأحرار الدستوريين يميلون نحو الاعتدال النسبي[91]، واقترن ذلك بهجوم كاسح على الفكر الاشتراكي، ومنظمات اليسار المختلفة.
وهكذا يتطرف الوفد علمانياً وليبرالياً ليتصدى للتيار الإسلامي المتنامي وللفكر الاشتراكي محدود الانتشار[92].
وقد دافع لفيف من ألمع كتّاب المرحلة، عن هذه الرؤية الفكرية للوفد، كأحمد أمين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وعبدالقادر المازني، ثم التحق بهم طه حسين بعد اختلافه مع الأحرار الدستوريين عام 1932م[93].
أما سعد زغلول (1857-1927م) فقد كان زعيماً سياسياً ورجل دولة، أكثر منه مفكراً .
البحث في أسباب التخلف وأسس التقدم :(22/16)
انشغل الفكر العربي الحديث كثيراً في البحث في أسباب تخلّف المجتمع العربي، وأسس تقدمه ونهوضه، منذ الطهطاوي، والأفغاني وعبده، والكواكبي وغيرهم، وتعددت الاجتهادات والرؤى في الإجابة على السؤال الكبير؛ "لماذا تأخرنا؟ ولماذا تقدم غيرنا؟" [94].
وبذلت جهود كبيرة في الإجابة على هذا السؤال، ويرى د. علي محافظة "أن المفكرين العرب في عصر النهضة انقسموا إلى فريقين في تحليلهم أسباب تخلف أمتهم، فريق السلفيين الذين أرجعوا هذه التخلف إلى ابتعاد المسلمين عن الدين القويم، وفريق الليبراليين الذين حاولوا الغوص في تراث الماضي وأوضاع الحاضر، وتحري التطورات السياسية والقيم الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى هذا التخلف"[95].
وإذا كان من الصعب الإضافة إلى الجهود السابقة التي استعرضت وحلّلت مواقف المفكرين العرب في عصر النهضة من هذه المسألة[96]، فإن المهم هنا هو التركيز على أبرز ما قدّمه التيار الليبرالي من معالجات في هذه المسألة وخلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين.
مع ضرورة الإشارة إلى أن رؤية الليبراليين المصريين لأسباب التخلف، تظهر بشكل أوضح من خلال عرض رؤيتهم لأسس التقدم وتحليلها.
كما تظهر أيضاً في معالجتهم لمسائل الحرية والعلمانية ودور الدين في المجتمع، وسلطة العقل والعلم، والعلاقة مع الغرب، وقضية المرأة، والعدالة الاجتماعية، والآفات والأمراض الاجتماعية، ولكننا سنعرض هنا لرؤيتهم لأسس التقدم وعلى النحو الآتي:
1-الدعوة إلى الحرية:
كان من الطبيعي أن يهتم الليبراليون بالدعوة إلى الحرية، والإعلاء من أهمية هذه القيمة، والدفاع عنها، واعتبار غيابها والاعتداء عليها أحد أركان التخلف، واعتبار التمسك بها أسّ التقدم والنهوض[97]، ليس من الغريب كل هذا ، فهي جوهر فكرهم، بل واتخذوا منها اسماً عليهم.(22/17)
وهذا أحمد لطفي السيد يجعل فقدان الحرية أسباب التخلف، كما أن الاستبداد أصل الرذائل، معيداً جميع ما تعانيه مصر من "سوء الحال" إلى "نقص الحرية" مؤكداً "فنحن المصريين أحوج ما تكون لتوسيع ميدان العمل لحرية الفرد، حتى يسترجع ما فقد من الصفات الضرورية للرقي المدني"[98]. وإذا كان السيد هو فيلسوف التيار الليبرالي المصري ولديه هذا الإيمان بقداسة الحرية الفردية، فمن المنتظر أن يعبر تلامذته عن إيمانهم بالحرية الفردية واحترامها، والدافع عن الحريات العامة والدستور والحكومة النيابية، وسلطة الأمة، والحد من سلطة الدولة[99].
اهتم الليبراليون بالدفاع عن الحرية الفكرية[100]، فهذا مصطفى عبدالرازق يؤكد بأن الدين "قد كفل للإنسان أمرين عظيمين طالما حُرم منهما، وهما استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر "كما أكد" أن الذين يخدمون الحرية الفكرية، هم خُدّام الحق وأنصاره"، جاء هذا في إطار دفاعه عن السياسة وما يُنشر فيها من مقالات، قادت البعض إلى اعتبارها ترويجاً للإلحاد، في حين اعتبرها هو دفاعاً عن حرية الفكر، وهذا ما لا يخالف الدين برأيه[101].
لكن د. محمود عزمي أحد أبرز الكتّاب الليبراليين في الصحافة المصرية آنذاك وهو يدافع عن حرية الرأي والعقيدة، راح يؤكد على صفحات الهلال "أن الدستور المصري قد أطلق حرية الاعتقاد، وكفل الجهر به وأباح الإلحاد لمن يشاء"[102] !!
مما يعني أن الدستور قد كفل حرية الرأي والتعبير والاعتقاد؛ فلا يجوز مخالفته.(22/18)
ودافع علي عبدالرازق عن التفكير الحر، وحرية التعبير، مبيناً أن المعضلة في مصر ليست في إنتاج الفكر، ولكن في توفر الشجاعة لدى المفكرين للتعبير الحر عن أفكارهم، مؤكداً أن نظام الحياة الاجتماعية في مصر "من أكبر العوائق، دون أن يصل المصريون إلى التفكير الحر، في أي نوع من أنواع الحياة،"، كما أن من أكبر أسباب عيوب الشخصية المصرية "فقدان الحرية، حرية التفكير وحرية العمل"، فهو يعتقد "أن ظلم الحرية في مصر واضطهادها، وحدهما أساس ما في الخُلق المصري من ضعف وانحلال، وأنه لا سبيل لإصلاح الخلق المصري إلا أن يعيش المصريون أحراراً.
وهو يطالب بالإصلاح السياسي المفضي إلى الإصلاح الخلقي "إذ أن الحكومة الحرة العادلة هي التي تربي حرية الفكر، وهي التي تربي الخلق المصري، وهي التي تنهض بالأمة المصرية"[103].
- وإذا كان إسماعيل مظهر يعتقد بأن الشعب اليوناني القديم هو أرقى شعب أقلّته الأرض من حيث النضوج الفكري، وأن "الإنسان لم يرتق منذ العصر اليوناني الأول حتى اليوم في الكفاءات العقلية" فإنه يُرجع كل هذا التفوق الذي أسبغه على اليونان وحضارتهم، إلى "بروز الذاتية الفردية واستقلالها فكراً وعملاً وبعدها عن التأثر بحياة الجماهير، لذلك فإنه لا يطمئن لمستقبل الإنسان "إلا إذا تبدلت جماعات المدنية الحديثة في نظامها الحاضر السائدة فيه روح الجماهير بنظام يكفل حرية الفرد وينمي كفاياته ومواهبه"[104].
- أما العقاد، فيرى بأن حرية الفكر هي حرية التعبير عن "الشخصية الإنسانية" بكل ما تشمل من حس وإدارك وخلق ومزاج ومجهود، وهي –عنده- تساوي حرية الحياة، "فسيان أن تمنع الإنسان أن يحيا، وأن تمنعه أن يفكر ويستوفي جوانب الشخصية التي تبلغ تمام مظاهرها في التمييز والتفكير، وهو يعتقد بأن حماية الحرية الفكرية هي حماية من غوائل الذل والنفاق والغباء[105].(22/19)
لكن العقاد وهو ينادي بحرية الفكر كان قد طالب فيما مضى بتوضيح مفهوم حرية الفكر "إننا نريد أن نكون أحراراً في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون. فمن تلك الحرية التي نريدها أن نعرف حدود حرية الفكر نفسها. وهو يرفض أن تكون "حرية الفكر" مجرد مجاراة لكل جديد، فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود لا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على المقلدين" ويأتي كلامه هذا في سياق تعليقه على كتاب سلامة موسى "حرية الفكر"، وكأنه به يعرّض بنهج سلامة موسى القائم على الدعوة لكل "صرعة فكرية تظهر في الغرب بحجة حرية الفكر؛ فيقول العقاد: "ولسنا أحراراً حين تدور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج وكل خاطرة تعنّ في الأذهان"[106].
- ومن المؤكد أن التيار الليبرالي يؤيد فكرة الديمقراطية، والنظام النيابي الديمقراطي، ويجعلها محور النظام السياسي الذي يرتجيه، فهذا د. هيكل يعتقد بأن الديمقراطية ملائمة للمزاج المصري، وأنها أفضل أنظمة الحكم بالنسبة للبيئة المصرية، وذلك –في نظره- لأنها تدعو إلى ما دعت إليه تعاليم الإسلام "من حقوق الأفراد في حرية الفكر وفي التعليم وفي السعي والعمل" كما أن "طبيعة هذه البلاد تتفق مع هذه التعاليم وتعاون عليها" وعليه "فلا مفر من أن تكون ثقافتنا الثقافة الديمقراطية"[107].
- والديمقراطية عند طه حسين، هي "التي يتحقق فيها التوازن على نحو ما بين الفرد والجماعة، والتي ترعى حقوق الفرد، وما بين الشخصية الفردية، والشخصية الجماعية"[108]، وتصدى على عبدالرازق للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام[109].(22/20)
- لكن الفكرة الديمقراطية النيابية، لم تكن بمعزل عن النقد في الفكر الليبرالي المصري، ففي ظل الاعتداء على أصول قواعد النظام الديمقراطي النيابي، من قبل حزب الأحرار الدستوريين، نجد أحد أبرز كتابه، وهو د. محمود عزمي، يطعن في هذا النظام وكأنه يبرر اعتداء الحزب عليه، فهو بالرغم من إقراره بأن الديمقراطية هي النظام الأصلح للحكم، فإنه يعتقد بأن الديمقراطية الحقة هي "حكم الأمة بالأمة"، لا حكمها بطائفة معينة من أبنائها، مهما كان عددهم، ولأن حزب الأحرار كان يشكك في وعي الناخبين الذين يمنحون الوفد الأغلبية المطلقة في كل انتخابات نيابية نزيهة، نجد د. عزمي ينادي بفكرة "الأرستقراطية العقلية" بحيث يكون وزن أصوات الناخبين متفاوت بمقدار ثقافتهم، وبمقدار ما يملكون من "أملاك مادية منتجة"، وهذا –في نظره- يخلّص النظام السياسي من أرستقراطية المال والجاه الموروث وحده[110]، فتكون بذلك أرستقراطية مبنية على الثقافة والمال. وهكذا فالمطلوب هو الديمقراطية الأرستقراطية في مواجهة ما تعانيه مصر من الديمقراطية الشعبية الوفدية، على حد رأي الأحرار الدستوريين.
أما إميل زيدان، رئيس تحرير "الهلال" فيطالب بإعادة النظر في الديمقراطية "فميراث الثورة الفرنسية قد أصبح رثاً، وكلمات الحرية والإخاء والمساواة قد بُليت، بل كادت تصبح جوفاء لا يتفق وقعها ونغمات هذا الزمان الصاخب العنيف"، ويرى أن النظام الدستوري المصري المقتبس عن الغرب، لم يعد ملائماً "لبيئتنا وعقليتنا وأحوالنا الخاصة"، فما هو المطلوب؟ المطلوب عند زيدان، هو أن تتجه مصر في نظامها الدستوري "يساراً"، نحو تغليب نزعة الحكم لمصلحة سواد المحكومين لا لمصلحة طائفة منهم[111]، إذاً المطلوب هو الديمقراطية الاجتماعية، التي تراعي مصالح الفئات المسحوقة.
- أما الموقف الليبرالي من الحرية الاقتصادية فسيظهر حين الحديث عن العدالة الاجتماعية.
2-الدعوة إلى العلمانية والعقلانية:(22/21)
وفي تحليلهم لأسباب تخلف المجتمع المصري، يعبر الليبراليون من طرف خفي أحياناً، أو بصراحة ووضوح عن اعتقادهم بأن الدين أو على الأقل أسلوب فهمه وتطبيقه، كان من الأسباب الهامة التي تقف وراء هذا التخلف!!
وفي وجدانهم الكثير من الإعجاب بالتجربة الأوروبية، في الفصل بين الدين والحياة، ويتطلعون إلى تقليد هذه التجربة، كما تستفزهم التجربة العلمانية في تركيا، وتشغفهم إعجاباً وإلهام[112].
ولعل المعركة الفكرية التي شهدتها مصر، بعد إلغاء الخلافة العثمانية في آذار عام 1924م، وما أثير من مواقف واجتهادات حول إحياء الخلافة، والدعوة لعقد مؤتمر الخلافة، وصدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق عام 1925م[113]، هي في الحقيقة تعبير عن طبيعة نظرة هذا الطرف أو ذاك، للعلاقة بين الدين والحياة، ولدرجة سلطة الدين على الدولة والمجتمع والفرد.
إن جوهر الفكرة التي دافع عنها علي عبدالرازق في كتابه، هي الفصل بين الدين والدولة، وأن الإسلام دين لا دولة، وأن نظام الخلافة لا صلة له بالإسلام، وهذا تنظير للعلمانية، وتوطين لها في البيئة الإسلامية، ومن خلال تأصيل إسلامي مزعوم، لكنه صادف رأياً عاماً رافضاً وساخطاً، نظراً لطبيعة الظرف التاريخي الذي جاء فيه الكتاب.
أما التيار الليبرالي فقد رحّب بالكتاب ودافع رموزه عن الكاتب والكتاب بحرارة، على اعتبار أن القضية تمس حرية التفكير والتعبير، وإن كان سعد زغلول قد تحفّظ على آراء الكاتب بل عارضه فيما ذهب إليه من آراء[114].
لكن هذا لا يعني أن "الوفد" قد تخلّى عن "ليبراليته"، وأصبح من دعاة "الخلافة الإسلامية"، فقد كان كما هو متوقع ضد فكرة المؤتمر، وضد سعي فؤاد للخلافة، وضد إضفاء أية صبغة "دينية" إسلامية على نظام الحكم في مصر، ومع المحافظة على طابعه الدستوري الليبرالي.(22/22)
وقد كتب عدد كبير من الوفدين في تأييد أفكار الكتاب، وفي مساندة حرية الرأي والتعبير، ونادى أحمد حافظ عوض رئيس تحرير "كوكب الشرق" الوفدية بتآزر الأحرار أمام الأفكار الرجعية، التي تمسّ الدستور وما كفله من الحريات العامة.
وكتب بعضهم في جريدة السياسة يثنون على موقفها من القضية[115]، لكن حزب الأحرار الدستوريين ومفكريه وصحافته وقفوا موقفاً أكثر حماساً في الدفاع عن الكاتب والفكرة[116]، وعن قضية حرية الرأي، وقد تسبب هذا الموقف في أزمة وزارية أدت إلى خروج وزراء الحزب من وزارة زيور الثانية[117].
وعمدت "السياسة" في دفاعها عن الآراء الواردة في الكتاب، إلى ربطها بآراء الأستاذ محمد عبده، حول الخلافة، لإظهارها كامتداد طبيعي لأفكار الأستاذ [118]، وبرز رئيس تحريرها د. هيكل في مقدمة المنافحين عن آراء علي عبدالرازق وحريته في التعبير عنها، وكتب عدداً من المقالات في هذا الصدد، وسانده كل من طه حسين، ومنصور فهمي، ومحمود عزمي، وعبد القادر المازني، وجوهر دفاعهم تركز على مسألة حرية إبداء الرأي والتعبير عنه[119].
لربما يمكننا القول بأن قضية كتاب علي عبدالرازق، كشفت الكثير من توجهات التيار الليبرالي حول دور الدين في الحياة، وحول موقفهم من علمانية الدولة والمجتمع، وهذه التوجهات ظل رموز هذا التيار يعبرون عنها، بدرجات متفاوتة من الصراحة والحدة.
- وقبل أن تخمد نيران هذه المعركة، نشبت معركة فكرية جديدة، بطلها هذه المرة د. طه حسين، فقد أصدر في العام 1926م كتاب المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"[120].(22/23)
إن الرؤية الفكرية التي وقفت خلف إصدار هذا الكتاب، تتمثل في سعيه إلى ترسيخ المنهج العلماني في الفكر والبحث والسياسة والاجتماع، فقد حاول طه حسين تطبيق منهج الشك الديكارتي، على الموروث الحضاري برمته، وهو يدعو إلى الإطاحة بكل المقدسات، وإخضاع كل شيء لهذا المنهج، وحتى النص القرآني فقد شكك في صحة قصة إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل وبنائهما الكعبة المشرفة[121]، إذ يقول: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودها التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها"[122].
لقد انقسم التيار الليبرالي على نفسه، في هذه القضية أيضاً، كما حدث في القضية السابقة، فقد وقف حزب الأحرار الدستوريين وصحافته ورموزه الفكرية، إلى جانب المؤلف وحريته في البحث والتفكير والتعبير.
أما حزب الوفد فقد وقف رسمياً ضد الأفكار الواردة في الكتاب، ورفض المسّ بمعتقدات المصريين ومقدساتهم تحت أية حجة أو ذريعة، واحتفت صحافة الوفد بمحاكمة طه حسين ومصادرة كتابه وإخراجه من الجامعة[123]، واتهمت المدافعين عن الكاتب والكتاب بالإلحاد[124].
دافع د. طه حسين عن الرؤية الفكرية التي وقفت خلف الكتابين، "الإسلام وأصول الحكم" و"في الشعر الجاهلي" وأبدى إصراراً على مساندة تلك الرؤية، وعدم التراجع عنها، وجعل ما أثير حول الكتابين مظهراً من مظاهر الصراع بين الدين والعلم، مؤكداً انتفاء الأمل في تفاهمهما، ومؤمِّلاً في أن ينصرف كل منهما إلى ميدانه الخاص به تاركاً المماحكة بالآخر، ومؤملاً خروج "السياسة" من إطار الخصومة بين الدين والعلم، متهماً السياسة بسعيها إلى استغلال هذا الصراع، وتوجيهه لخدمة غاياتها.(22/24)
وقدّم طه حسين مرافعة طويلة لإسناد ما ذهب إليه من أبدية الصراع بين الدين والعلم[125]، ودافع عن علمانية الدولة الحديثة، وأنها دولة وطنية لا شأن لها بالدين، وهذا ما يجب أن تحرص عليه الدولة المصرية لتكون "حديثة"، ومن هنا فهو يعترض على ما نص عليه الدستور المصري 1923م، من أن الإسلام دين الدولة الرسمي، واعتبره نصاً غير ضروري، وغير ذي فائدة أو غرض، وأنه أصبح "مصدر فرقة لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه، ولم ترَ فيه على نفسها مضاضة أو خطراً، وإنما نقول أنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد، ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه" !! وهو يقصد الخلاف بين فريقين "أحدهما المستنيرون المدنيون، والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين"[126].
وفي هذا السياق نادى بضرورة تحجيم دور الأزهر في الحياة السياسية، والنظر إليه كمعهد من معاهد التعليم، لا أكثر ولا أقل.. [127]
ويجتهد الليبراليون في ترسيخ النهج العلماني، ومحاربة "التفكير الديني" -بزعمهم- واتهام الفكر الإسلامي بأنه فكر غيبي لا يصلح لهذه الحياة !!
فهذا إسماعيل مظهر، يرى بأن الإنجاز الأهم في سبيل تحقيق التقدم هو "نقض العقلية الغيبية"، ويسميها أيضاً "العقلية الشرقية"، فهي سبب التخلف، ذلك أنها "لا تلائم مزاج هذه الحياة"، كما أنها "لا تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا"، وهي "تلائم من كل نواحيها الحياة الأخرى، نكران لكل مطالب الحياة، وتواكل على القضاء والقدر، واستسلام صرف لما سوف يأتي بها الغد، وإغفال محض لمواعظ الماضي وعظاته"[128].(22/25)
ولم يفتأ ينادي بالمصريين أن يتخلصوا من "الأسلوب الغيبي" في التفكير، وأن ينتقلوا إلى "الأسلوب اليقيني"، بل إن مصر –برأيه- خطت في سبيل الخروج من ظلمات الأسلوب الغيبي إلى وضح الأسلوب اليقيني، وهذه الخطوة "سوف تقودنا سعياً إلى ميدان يتصادم فيها الأسلوبان تصادماً يثير في جو الفكر عجاجة ينكشف غبارها عن الأسلوب الغيبي وقد تحطّمت جوانبه واندكت قوائمه، وتترك الأسلوب اليقيني قائماً بهامة الجبار القوي الأصلاب مشرقاً على الشرق، وقد هبّ من رقاد القرون ليسير في الدرب الذي مهدت سبله للأنام نواميس النشوء والارتقاء"[129].
ووقف إسماعيل مظهر حياته للترويج للنظرية التطور الدارونية، منذ أن أصدر كتابه "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء" كما سخّر مجلة "العصور"، للدعوة للفكر الإلحادي، وتقديمه للقارئ في إطار الدافع عن حرية الفكر والعقيدة وحرية الرأي والتعبير.
وحدد إسماعيل مظهر وجهة "العصور" في افتتاحية العدد الأول، بأنها مكرّسة للدفاع عن الفكر الحر، متحررة من جميع الآراء والنظريات المسبقة، التي طالما قيّدت الكتّاب ومنعتهم عن قول الحقيقة بحرية، وأن هدفها النهائي التنديد بأنماط الفكر الدينية والتقليدية[130].
ويؤكد د. طه حسين على ضرورة اقتباس "العقلية" ويعني بها طريقة التفكير عند الغرب[131]، والإعلاء من شأن العقل وسلطته، في مواجهة أية سلطة أخرى، والنظر إلى كل الأمور نظرة عقلية.
وقد أكد د. هيكل على هذا المضمون بتأكيده أن "العقل والعلم"، هما السبيل لتحقيق السعادة التي تنشدها الإنسانية عموماً، ولذلك فإن كل الشؤون الروحية والأخلاقية والاجتماعية يجب أن تخضع لسلطة العقل والعلم، واعتبارها المرجعية الحاكمة لكل تصرفاتن[132]، مبعداً أي دور للدين في صياغة هذه المرجعية.(22/26)
ويتفق محمد زكي عبدالقادر مع هذه الدعوة، فينبّه إلى "أن نهضتنا ينقصها الروح العلمي، وما دامت كذلك فهي نهضة عرجاء فقدت الجانب المنتج، وبقيت لها المظاهر التي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً"، ويشير إلى أوروبا –رمز الإلهام- واحترامها للعلم والعلماء، إذ نجد أن "الروح العلمي متغلغلاً عميقاً لا بين طبقة معينة أو في بيئة خاصة، ولكن بين جميع الطبقات، وفي كل البيئات" وهذا –عنده- يقف وراء "نهضة حقّة تقوم على دعائم ثابتة"[133].
أما إسماعيل مظهر داعية نظرية التطور؛ فإنه يدعو إلى جعل العلم أساساً للنهضة، لأن "العلم حر مطلق من القيود، لا يؤمن إلا بعد شك، فإذا آمن كان إيمانه راسخاً وطيداً، هذا خلق العلم، وهذا هو الخلق الذي يغرسه الإيمان الثابت بكل ما ينزل من العقل منزلة الاحترام والتقديس".
كما أنه مؤمن بأن "من شأن العلم أن ينظم العقل وينظم الشهوات وينظم المطامع. ذلك بأن العلم يقوم على حقيقة أساسية هي تنظيم الصلات القائمة بين الحقائق تنظيماً يحدد لكل حقيقة منها موضعها الخاص الذي تشغله في نظام الأشياء" وهو يتخذ من شعار "العلم" سبيلاً للدعوة لاتخاذ نظرية التطور منهجاً للإصلاح الاجتماعي، إذ يقول "على أن الشرق إن أراد أن يخطو إلى الأمام خطوات واسعة إلى الأمام في سبيل الارتقاء الحقيقي وأن يضرب في معارج التطور الثابت نحو حالات أسعد وأفضل، فإن من واجبه أن يجعل السياسة تابعة للعلم الاجتماعي، القائم على حقائق العلم الطبيعي" وتوضيح ذلك، قوله: "فلا بد إذن من أن نربط بين السياسة وبين العلم، وأن نحكم الصلة بين السياسة وبين منهج اجتماعي نتخذه إماماً تأتمّ به السياسة في الإصلاح المدني" ولمزيد من التوضيح "فإن الجماعات الإنسانية باعتبارها كائنات حية من ناحية، وباعتبارها كائنات ذات نظام اجتماعي من ناحية أخرى، قد تصدق عليها حقائق علوم الأحياء مطبقة عليها تطبيقاً خاصاً، كما تصدق على بقية الأحياء الأخرى.(22/27)
ولا أخال أن مفكراً متزن التقدير يُنكر أن اتخاذ أسباب العلم وسيلة للإصلاح الاجتماعي، هو السبيل التي تؤدي بأمم الشرق إلى وضع قواعد ثابتة تنتحيها في التدرج نحو مثلها العليا.
والمحصل أن الإصلاح الاجتماعي في أمم الشرق، ينبغي أن يُعهد به إلى علماء اتصلوا بعلوم الأحياء وعلوم الاجتماع"[134].
لكن د.هيكل وضمن سياق المراجعات الفكرية الذي اختطه لنفسه منذ نهاية العشرينيات، يعود إلى الاعتذار عن الأسلوب الإقصائي الذي انتهجه حيال دور الدين في صياغة المجتمع المنشود، إذ يصرح "أشعر اليوم بأن ما تخيَّلته في زمن من الأزمان عن العلم التجريبي واقتداره المطلق على حل كل ألغاز الكون، والحلول بذلك في نفس الجماعات، محل الإيمان ، ليس يبلغ من نفسي إلى مكان العقيدة واليقين، بمقدار ما كان يبلغ في صدر شبابي "لذلك فهو يدعو إلى إعادة الاعتبار إلى الإيمان، وإلى "الجانب الروحي" في تكوين الفرد والجماعة، ويطالب بوجوب "أن نبحث الإيمان على أنه واقعة اجتماعية لا حياة للجماعات بدونها"، فالمطلوب إذاً هو التوفيق بين "العقل والروح"، لكن ما هو دور الروح في هذه التوفيقية؟ دور الدين هو تحقيق الراحة النفسية للإنسان من أعباء الحياة وهمومها ليس أكثر، "لابد إذاً من مَثَل أعلى تؤمن به الجماعة وتجد من تطلعها إليه وهيامها به ما يُنسيها ما في الحياة من هم وبأساء"[135].
وهذا ما عبّر عنه في وقت لاحق أحمد أمين، وهو يكشف "أكاذيب المدنية الحديثة"، مؤكداً أن أخطرها كان الفصل بين "الجانب المادي، و"الجانب الروحي" ولذلك لابد من إقامة التوازن بينهم[136].
وتحدّث د. هيكل عن ما يُعانيه الغرب من أزمة روحية، وقلق نفسي، جراء شيوع المادية وثقافة الإلحاد، وتعاطف مع مشكلة الفراغ الروحي لدى الغرب، وتمنى لها نهاية سريعة، ولعل الشرق بميراثه الروحي العظيم يُسهم في ذلك[137].
3-الدعوة إلى التغريب:(22/28)
آمن الليبراليون المصريون بضرورة أتباع نهج الحداثة الغربية، كسبيل لصنع التقدم، وتحقيق النهضة المنشودة، وقد أجمع هؤلاء على اعتبار النموذج الغربي نموذجاً جديراً بالمحاكاة[138].
والحقيقة أن الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر، تقبّل فكرة "أوروبا النموذج"، واعتبر الغرب مصدر الخطر ومصدر الإلهام معاً، يثير الإعجاب كما يثير الغضب، ويثير الكره كما يثير الحب[139].
فالإجماع منعقد على ضرورة الإفادة من تجربة الغرب الحضارية، وأن ليس هناك ما يمنع من الاقتباس عنها، فعلومها هي في الأصل علوم إسلامية[140]، وهي بضاعتنا رُدّت إلينا، فالغرب أفاد من حضارتنا، ولا ضير من أن نفيد من حضارته، وحضارته لا تخصه وحده، بل هي جزء من الإرث البشري أو أحد نتاجاته[141].
عبّر طه حسين في فترة مبكرة عن إيمانه بضرورة الاقتباس عن أوروبا بحكم الضرورة والحاجة للمنافع المتحققة عن ذلك. ولكن هذا الاقتباس، يجب أن يتفاوت قلّة وكثرة، يُحبّذه في النظم السياسية الدستورية، وفي المنهج العلمي الغربي، لكنه لا يحبذه "في الفن والأدب والحياة الاجتماعية، فلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء، وألا نقتبس من أدب الغرب وفنه ونظامه الاجتماعي إلا ما يمكّن شخصيتنا من أن تنمو وتتطور، وتحتفظ بما بينها وبين العالم المتحضر من الاتصال"[142]، لكن طه حسين سوف يتخلى عن هذا الموقف المعتدل.
إذ إنه ينادي –بما نادى به الخديوي إسماعيل- بجعل مصر جزءاً من أوروبا، وتبرير الدعوة إلى التغريب هو "الاضطرار" لننال إكبار الأمم لنا !!
ولنظفر باستقلالنا عن انجلترا وفرنسا، وشرط ذلك أن نعيش عيشتهما ليطمئنا إلى ما نطلب من استقلال، ونحن مضطرون لذلك للتخلص من الامتيازات الأجنبية، فيجب أن نعيش عيشة الأجانب ليطمئنوا إلى إلغاء الامتيازات ! ونحن مضطرون لاتخاذ أسباب الحياة الحديثة أيض[143].(22/29)
وقد تبنى د. منصور فهمي الدفاع عن "مشخِّصات الشرق" ويقصد بها عناصر هويته، وقيمه وعاداته وتقاليده، وينادي بالصمود في مواجهة الاجتياح الثقافي الغربي، ويحذر "الشرقيين" من أن يطغى سيل الغرب "على ما لهم من بعض مشخصات، لا تعطل في شيء سير الترقي والتقدم"[144].
وينادي د. منصور فهمي بضرورة الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية، وهو لا يتفق مع نزعة أولئك "الذين يريدون أن تكون الإنسانية كتلة متشابهة في أساليبها وتفكيراتها وعواطفها"[145].
وهذا تحذير مبكر من مخاطر "العولمة الثقافية، التي تستهدف سحق كل الخصوصيات الثقافية للشعوب لصالح سيادة الثقافة الغربية.
ويوضح مصطفى عبدالرازق رؤيته لمفهوم الاقتباس وغاياته، معلناً أن دعوته للاقتباس لا تستهدف جعل مصر قطعة من أوروبا، بل أن تظل مصر قطعة من إفريقية، متصلة بآسيا على أن تزاحم الغرب بالمناكب، في كل ما وصل إليه الغرب من علم ومدنية ورقي، ويريد من مصر "أن تقتبس أصول المدنية الغربية وتتشربها تشرباً، لا أن تلبسها ثوباً معاراً"، وأن تحافظ على "جوهر مشخصاتها"، وهي عنده اللغة والدين شريطة "أن يخضعا لسنة الله، في هذا العالم، وسنة الله في هذا العالم أن يتحرك كل شيء وأن يتطور"[146]!!
ويرفض د. منصور فهمي اقتباس "مظاهر المدنية التي ليست وليدة العقل والعلم"[147]، ويؤكد على رفض ما ينادي به التغريبيون باتخاذ "الغرب إماماً يأتمون به في كل أمر، ويصطنعوا كل مظاهر حضارته من غير تحفظ"[148].(22/30)
ود. منصور فهمي يعالج مسألة في غاية الأهمية، عندما يرفض الانغلاق، وينادي بالاقتباس الواعي، وفي نفس الوقت يرفض اتخاذ "الغرب إماماً"، وملخص موقفه هو التأكيد على أهمية معرفة ماذا نأخذ؟ وماذا ندع؟ من حضارة الغرب، لكنه يشكك في مقدرتنا على الاختيار في عملية التفاعل الحضاري، فهي –عنده- عملية معقدة، تخضع لمحدودية الإرادة البشرية، وتحتكم لأثر البيئة وعدد من العوامل النفسية والاجتماعية، فهي ذات "أثر لا يُقاوم في تكييف الحضارات واصطناعها وفي تصوير الثقافات"، ولذلك كله "لا قدرة لشعب أن يكون كشعب آخر في كل حضارته، وكل ثقافته"[149].
لكن الساحة الليبرالية عرفت أصواتاً متطرفة، تدعو إلى رفض الانتقاء في عملية التواصل الحضاري مع الغرب، بل وإلى رفض فكرة التوفيق بين ما لدينا وما عندهم، فهذا محمود عزمي يقول: "أنا من الذين ينادون بملء فيهم بضرورة الأخذ من المدنية العصرية، وهي الحضارة الغالبة وبأن الخير كل الخير في شخوص الكتلة الشرقية المتكلمة لغة عربية[150]، إلى شواطئ البحر المتوسط الشمالية الغربية، وبأن كل نظرة إلى رمال التيه والبادية إنما تكون نكوصاً على الأعقاب في ميدان الجهاد، الذي يسير فيه العالم سيراً هائل السرعة إلى الأمام"[151] !!
هذه الدعوة إلى القطيعة مع الذات، والفناء في الآخر، يتبناها "عميد الأدب العربي ! " في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1937م، فقد حدد هوية مصر الثقافية على أنها جزء من ثقافة البحر المتوسط، وأنها جزء من "الغرب الثقافي"، وليست من "الشرق الثقافي"[152]، وأن العقل المصري جزء من أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم[153].
والخلاصة –عنده- "إنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها"[154].(22/31)
وهذا "التغريب" يجري تسويقه من قبل د. طه حسين، بالقول أنه وسيلة وليس غاية، وسيلة للنهوض ولتحقيق الحرية والاستقلال، باتباع الوسائل التي أوصلت الغربيين لتحقيق الاستقلال والكرامة[155]، كما يجري تسويقه بتلميع حضارة الغرب، والتأكيد على تفوقها "ودليل ذلك أنها ترتقي"[156]، كما يسعى إلى بث الطمأنينة في النفوس المتخوفة من مخاطر الاغتراب الثقافي والاقتلاع من الجذور، فيشير إلى "التجربة اليابانية". وعليه فلا خوف على "الشخصية المصرية" إذ لم يكن على الشخصية اليابانية خطر من الحضارة الحديثة"[157].
إذاً ما هو المطلوب؟ المطلوب "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرّها، وما يحب منها وما يكره وما يُحمد وما يُعاب"[158] فالمطلوب هو التبعية على أساس الندّية!!، لكنه لا يوضح لنا كيف تكون التبعية طريقاً للندية؟ أو كيف تؤسس الندية على ركام التبعية؟ مع أنه يقول صراحة: "نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً"[159].(22/32)
وكان قد جرى "تسويق" التغريب، بأنه يعفينا من الصدام الحضاري مع الغرب، يقول أحدهم على صفحات "المقتطف"؛ "نحن من الذين يعتقدون أن الحضارة الغربية خير الحضارات التي يتعين علينا اقتباسها، كما أننا من الذين ينظرون إلى الأمر الواقع فيرون أنها هي الحضارة السائدة في العالم، ونحن من الذين يعتقدون أن طريق نجاتنا في مسالمة هذه الحضارة وتكييف حضارتنا عليها تكييفاً لا يناقضها بل يماشيها.. ذلك أن التاريخ يقص علينا قصص اصطدام الشرق بالغرب منذ العصور الأولى حتى الساعة ، فما قص إلا حديث اصطدام كانت نهايته انهزام الشرق أمام الغرب، فالعاقل من اعتبر وعرف أن يتلمس طريقاً غير طريق جربه فقاده إلى مواطن الخطر"[160]!! وبعيداً عن سعيه للتبرير التاريخي للتغريب، فإن الدعوة إلى تجنب الصدام الحضاري هي دعوة ليست إلى الحوار الحضاري الذي لا يرفضه عاقل، لكنها دعوة إلى حوار التبعية وليس الندّية.
وفي عقد الثلاثينيات ظهرت في مصر موجة من المراجعات الفكرية في صفوف التيار الليبرالي، طالت عدداً من أبرز رموزه، كان من مظاهرها توجيه نقد لاذع لحضارة الغرب ولحركة التغريب.
وفي طليعة "المراجعين" هؤلاء كان د. هيكل، الذي عبّر عن قناعته بأن الغرب غير مخلص لقضية "الحرية"، وأن قضيته هي "الاستعمار"، ويشير إلى سياسات التعليم التي اتبعتها بريطانيا في مصر كمؤشر على حقيقة نوايا الغرب، فلم تهدف إلى شيء سوى تخريج مواطنين مطواعين، كما أنها وقفت حائلاً دون سرعة انتشار العلم الصحيح.
ويشير إلى أن أوروبا لم تتخلّص من التعصّب الديني ؛ فهي ما زالت تذكر الحروب الصليبية، وهي تحمي الجماعات التبشيرية، كما يعجب لتعزز الروح الصليبية في الغرب، "وأن الأمر لم يقف عند الكنيسة بل تعداها إلى كتّاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا.. في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق"[161].(22/33)
ويعيب د. هيكل على الغرب ماديّته، كما يعيب على الشرقيين تقليده في هذه المادية[162]، وقد عبّر العقاد، ود. منصور فهمي عن قناعات مماثلة[163].
- وقد شارك توفيق الحكيم في التعبير عن خيبة أمل مثيلة، بفشل التغريب في مصر، ففي روايته "يوميات نائب في الأرياف" الصادرة عام 1937م، تعبير عن ضرورة إعادة النظر في جدوى التغريب، ومدى صلاحيته لتحضير الجماهير الريفية في قرى مصر، وتساؤل عن مدى صلاحية "تشريع بونابرت" للتطبيق في أرياف مصر، فهو يقف موقف النقد العنيف.. وربما السخرية من هذه القوانين، التي يسعى الآخرون لتطبيقها في مصر ؛ حيث يسكن في القاهرة طبقة (علمانية) ومثالية تحاول الأخذ بحضارة الغرب بينما يسكن في مصر الريف طبقات "واقعية" وفلاحين تحاول الارتباط أكثر بالتراث[164]، لكن "البوح" أو "الاعترافات" التي قدمها د. هيكل في عام 1936م. تختصر الكثير من الكلام في تصوير درجة خيبة الأمل التي جناها دعاة التغريب، إذ يقول:
"وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذها جميعاً هدىً ونبراساً، ولكني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلاً لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن، وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذراً لنهضة جديدة، فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويُثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو"[165].(22/34)
والدكتور هيكل ضمن سلسلة اعتذاراته الروحية والفكرية، كان قد حلل ظاهرة عزوف الشباب المسلم المتعلم عن الدين، فيعيد السبب إلى ظاهرة الطعن فيمن يسميهم المصلحين والعلماء المسلمين الذين حاولوا النهوض بالأمة!! والرد على مزاعم الغرب وتخرصاته ضد الإسلام، فكان مصير أولئك العلماء وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده أن "اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام !!
ولقد كان اتهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين، شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود، لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرعون كتب الغرب يتلمّسون فيها الحقيقة، اقتناعاً منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصاً منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتصار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالاً يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية"[166].
قضية المرأة:
انشغل الفكر الليبرالي في مصر بقضية المرأة، كأحد المحاور الرئيسية في مشروعه من أجل التنوير والنهضة والتقدم، والمرجعية الفكرية هي الثقافة الأوروبية، أما النموذج فهي المرأة الأوروبية. وهناك محاولة للإفادة من جهود السابقين والبناء عليه[167]، خاصة جهود قاسم أمين[168].
لقد أبدى الليبراليون طوال فترة الدراسة احتراماً وإجلالاً لجهود قاسم أمين، ليس كمدافع عن المرأة فقط، بل كمصلح اجتماعي وقف حياته للدفاع عن "حرية الفكر ، وحرية المرأة !! " بإسهامه في تأسيس الجماعة 1908م، وفي دفاعه عن قضية المرأة[169].(22/35)
وتابع الليبراليون السير على خطى قاسم أمين في موقفهم من قضية المرأة، وساهمت الصحافة الليبرالية في دعم قضية المرأة[170]، وفي دعم الحركة النسائية، وفي تثقيف المرأة بما ينبغي أن تطالب به من حقوق، وبما ينبغي أن تفعله لتحصيل هذه الحقوق، وفقاً للمرجعية الأوروبية، واقتفاء لنموذج المرأة الأوروبية[171].
واهتمت الصحافة بنشر المقالات والصور التي تخدم فكرة وجوب تقليد المرأة المصرية للمرأة الغربية في السلوك، والعادات، والأزياء، ومسابقات الجمال، والرياضة النسائية، وتولّت الصحافة النسائية جانباً هاماً من هذا الجهد.
وبرزت الحركة النسائية، وتعاظم دورها في المطالبة بحقوق المرأة المصرية، ووضعت قضية المرأة المصرية في إطار قضية المرأة في العالم، وحاولت الحركة النسائية المصرية أن تصبح جزءاً من الحركة النسائية العالمية، وتتبنى المفاهيم والمعايير الأوروبية في معالجة قضايا المرأة، وإن كان هذا التبني يجري بأسلوب تدريجي بطيء[172].
وبرزت في هذا المجال أسماء نسائية شهيرة مثل، ملك حفني ناصف (باحثة البادية) وصفية زغلول، وهدى شعراوي، وسيزا نبراوي، ومنيرة ثابت، وميّ زيادة، ونبوية موسى، ولبيبة أحمد (انضمت فيما بعد لجماعة الإخوان المسلمين) [173].
ويحرص الليبراليون في هذه المرحلة على مراقبة الحركة النسائية في تركيا، ومتابعة التجربة التركية في هذا الميدان إعجاباً وتقديراً وتطلعاً للتقليد[174].
1-الدعوة إلى "السفور" ومقاومة "الحجاب":
شغلت الدعوة إلى السفور وخلّع الحجاب، الجزء الأكبر من اهتمام التيار الليبرالي بقضية المرأة، منذ كتب الطهطاوي بكثير من التسامح عن السفور والاختلاط، الذي تتمتع به المرأة الباريسية، وباعتبار السفور والاختلاط ليس نقيضاً لعفة النساء[175].(22/36)
- وقد أبرز علي مبارك في روايته "علم الدين" هذه المسألة بأسلوب حواري بين المستشرق المدافع عن السفور وبين الشيخ الأزهري المدافع عن الحجاب، ويرى د. محمد عمارة "أن صورة المرأة الأوروبية المتحررة كما عرضها، كانت مشرقة، بقدر ما كانت "حجج" الشيخ علم الدين باعثة على النفور!" [176].
- وتابعه قاسم أمين في اعتبار التربية وليس الحجاب هي التي يُعوّل عليها في الأخلاق والعفة، إذ أن "العفَّة ملكة في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم"[177]، ومع ذلك فهو لم يتجاوز – مؤقتًا - المطالبة بكشف الوجه واليدين[178]، مع إبطال ارتداء النساء النقاب أو البرقع !
وقد أطنب في تعداد مساوئ "الحجاب" ، وشرح أضراره[179]، مؤكداً أنه لا يمنع الفساد[180]، وأنه من بقايا "هيئتنا الاجتماعية الماضية"، ولأنه ضار فلا يمكن أن يكون شرعي[181]، كما عده منافياً للحرية الإنسانية، لأنه يعيق المرأة عن ممارسة حقوقه[182]، ونادى بالاختلاط دون خلوة[183].
هذه هي القاعدة التي تأسس عليها الخطاب الليبرالي في مسألة السفور والحجاب، ووقف عندها إلى حين[184].
وظل "الخطاب السفوري" –إن جاز التعبير- يتطور بشكل تدريجي لجهة التغريب، وتبني المعايير الأوروبية في هذا الميدان. لقد قدّم "عبدالحميد حمدي" رئيس تحرير مجلة "السفور"، رؤية جماعة السفور، أو أيديولوجيا السفور بحسب ما تفهمه فئة هامة في التيار الليبرالي، ولم يخرج فيها عن الحديث عن احترام أحكام الدين !! وأن المطلوب إنما هو الانتفاع "بأحكام الدين الخالصة في تحرير المرأة من ربقة العادات الفاسدة" !!
إذاً المطلوب هو إعادة نظر وإعادة تفسير وصولاً إلى فهم جديد لأحكام الدين، كما يُقدّم رؤيته لمفهوم "السفور" اجتماعياً، فهو يعني "ظهور المرأة في مكانتها اللائقة في الحياة باعتبارها مخلوقة لها حقوق طبيعية يجب أن تحصل عليها ولها وظيفة كبيرة يجب أن تؤديها"[185].(22/37)
ويجري التركيز في "الخطاب السفوري" على إبراز مثالب الحجاب، وفضائل السفور، ودعوة النساء للثورة على الحجاب ، فهو يولد سوء الظن بين الرجل والمرأة[186]، وهو يجني على الأدب والفن، لأن الشاعر والفنان "لا يجد الكائن الجميل الذي يصوّره، أو هو لا يشعر به في الناحية الاجتماعية"[187]، وهناك دعوة يوجهها علي عبدالرازق إلى المبادرة العملية، ومن خلال الممارسة للتخلص من الحجاب، "فلقد علّمتنا التجربة في مصر أن السفور كبعض مسائل الحياة الأخرى، إنما يكون حلّه عن طريق العمل لا من طريق البحث والجدل"، فهو يدعو إلى العمل وعدم الاكتفاء بالجدل، "إننا قد أصبحنا نعتقد أن من الواجب علينا أن نحول بين الجدل وخصوصاً الديني، وبين شؤون الحياة الاجتماعية العملية، بقدر ما يجب أن نحول بين حركة النهوض في الشرق، وبين كل ما يعوق ذلك النهوض"، وهو يعتقد بأن مصر اجتازت طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، لكن المشكلة –في نظره- التي تواجه المصريين اليوم "إنما هي الوسيلة التي يتدرجون بها إلى السفور الفعلي، تدرجاً لا يكون فيه منافرة بين ذوق الحجاب القديم، وذوق السفور الجديد"[188] !!
وإذا كان "الخطاب السفوري" يقدم صورة منفّرة للحجاب ولوضع المرأة "المحجبة"؛ فإنه أفرد صفحات واسعة من الصحافة الليبرالية، لتعريف المرأة المصرية بأنماط جديدة من السفور التغريبي، في الأزياء، والسلوك ، والعادات[189].
وفي هذه البيئة الفكرية تنامت الدعوة إلى تحطيم كل الحواجز والحجب أمام الاندماج الكامل للمرأة في الحياة الاجتماعية، لكننا لا نعدم أصواتاً تنادي برأي أخف في هذه المسألة[190].(22/38)
وهناك من ينادي بضرورة الاستفادة من تجربة الاختلاط في الغرب، ويزعم أنها لم تهدد الأخلاق العامة، بل إنها زادت في متانة أخلاق الشباب، وقلّلت من النظر إلى المرأة بوصفها جسداً !! ومن باب "موضوعة الجنس" فقط، بل إن الفصل بين الجنسين هو ادعى إلى إثارة الشهوات، وفيه الكثير من سوء الظن بأخلاق المرأة والرجل[191] !!
ويخرج د. محمود عزمي على الناس ليعلن أن "الاختلاط الصريح" بين الجنسين له من الأهمية ما لتحقيق "التعادل الفكري" بين الرجال والنساء من أهمية، لذلك فإنه لا إمكانية "لإصلاح صحيح للجماعة الشرقية إلا إذا توافر فيها هذان العاملان توافراً شاملاً جريئاً"[192]!!
لقد أصبح "السفور" مجرد وسيلة للوصول إلى نشوء المجتمع المختلط "الذي يُقرّب مسافة الخلف بين الجنسين، ويُقيم علاقات بين الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري والعاطفي"، لذلك يأسف البعض على "أننا لم نخطُ بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا"[193].
من الواضح أن الخطاب الليبرالي في هذه المسألة قد تابع قاسم أمين في أفكاره، فضمّ أصواتاً "توفيقية"، لكنه بدأ يعرف أصواتاً تنادي بالاختلاط الصريح والكامل.
ويظهر أن البعض بدأ يعوّل على "الموقف" العملي وليس مجرد "التنظير" الفكري للمسألة، والمناخ العام أصبح في صالح السلوك السفوري، واستمر الهجوم على الحجاب والحجب، كما جرى الربط بين السفور، والتقدم، واعتبار الحجاب سلوكاً متخلفاً يتنافى مع التقدم والمدينة، ويعطّل قدرات المرأة، وفي موازاة ذلك هناك جهود إعلامية كبيرة لإشاعة ثقافة السفور على الطريقة الغربية الخالصة.
2-الدعوة إلى التعليم والعمل والحقوق السياسية للمرأة:(22/39)
لم تكن مسألة حق المرأة في التعليم موطن جدل كبير في الفكر العربي الحديث، فقد كان هناك شبه إجماع على حقها في التعليم من حيث المبدأ، أما الخلاف الذي ظهر فهو حول المستوى والنوعية، وجاء هذا الاختلاف مرتبطاً بطبيعة الموقف من مشاركة المرأة في الحياة العامة، ودرجات هذه المشاركة ونوعيتها.
لقد دافع الطهطاوي عن حقها في التعليم، وخصص كتاباً للدعوة لتعليم البنات والبنين[194]، وتابعه علي مبارك "أبو التعليم" في مصر، بالتأكيد على إيمانه بقدرات المرأة العقلية والفكرية، هذا من الناحية الفكرية المجردة.
أما من الناحية العملية فقد عبّر عن هذه الرؤية من خلال الممارسة عندما تولى نظارة المعارف[195].
أما قاسم أمين فقد تدّرج في موقفه من مسألة تعليم المرأة، ففي "تحرير المرأة" طالب بحقها في الحصول على "التعليم الابتدائي على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم"[196]، مؤكداً على أنه ليس ممن يطلبون "المساواة بين المرأة والرجل في التعليم، فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن ولا أتردد في الطلب أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل"[197]، إذاً هو يكتفي الآن بالتعليم الابتدائي، لذلك نجده يطوّر موقفه هذا في كتابه "المرأة الجديدة" ليطالب بالمساواة التامة في التعليم، فيقول: "لا نجد من الصواب أن تنقص تربية المراة عن تربية الرجل" سواءً التربية الجسمية أو الأدبية أو العقلية[198]، بل وينادي بمنحها الحق في التعليم المستمر عبر الانخراط في الحياة العامة[199].
لقد بلغ قاسم أمين الذروة في مطالبه، فلم يدع لمن يأتون بعده شيئاً يطالبون به في مستوى التعليم المنشود للمرأة، فبقي التيار الليبرالي يؤكد على فكرة المساواة التامة في التعليم بين المرأة والرجل، وراح يمارس تأكيد هذه الرؤية عبر الفكر والممارسة.(22/40)
ومن المعلوم درجة ما تمتع به الليبراليون من قدرة على صنع القرار، وتنفيذه عبر وجودهم القوي في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وقد عوّل الليبراليون كثيراً على التربية والتعليم كوسيلة للنهوض بالمرأة، فهذا صوت نسائي عبر مجلة "السفور" يؤكد أن "التعويل ينصب على التربية والتعليم أولاً، إذ هي الوسيلة الفعّالة للنهوض بالمرأة وتصحيح أحوالها"[200]، والحركة النسائية المصرية أكّدت عبر مسيرتها على مطلب التعليم، فبرنامج الاتحاد النسائي يطالب بـ"مساواة الجنسين في التعليم"، ويطالب بـ"فتح أبواب التعليم العالي للفتيات، والإكثار من المدارس الثانوية للبنات"[201].
لكن التيار الليبرالي وفقاً لمرجعيته الفكرية، ورؤيته لدور المرأة في المجتمع، تبنى الدعوة للتعليم المختلط، واجتهد رموزه في الترويج له، وإبراز فضائله وإيجابياته.(22/41)
والأصوات الليبرالية المعتدلة، تنأى بنفسها عن حملة الترويج للاختلاط الكامل في جميع مراحل التعليم، وفي مقدمة هؤلاء يبرز د. منصور فهمي، الذي يخلص إلى تأييد وجهة النظر القائلة بتخصيص بعض أنواع التعليم للإناث، وبعضها الآخر للذكور، بما يتوافق مع طبيعة كل جنس واحتياجاته، ورفض ما كان يروّج له البعض من أن الاختلاط يضعف الميول الجنسية لدى الجنسين، فيقول: "إن ضرر الإفراط في عزل الجنسين لا يبرر الإفراط في نقيضه من المبالغة في جمع الجنسين في جميع أدوار التعليم، وكما أن الإفراط في العزل والتضييق في وسائل الخُلطة قد يترتب عنهما انحراف، فقد يترتب كذلك أسلوب من الانحراف عند الغلو في توفير الخُلطة"، ومن هنا فهو لا يمانع في أن يكون التعليم الأولي مختلطاً، لكنه يعارض الاختلاط في التعليم الابتدائي العالي والثانوي، ويبرر ذلك بطبيعة المرحلة العمرية، وما ينجم عن الاختلاط بين الجنسين خلالها من أضرار خُلُقية ونفسية وعلمية، وهو لا يمانع في الاختلاط في التعليم العالي في المعاهد والجامعات معتمداً على مشاهداته في أوروبا وفي مصر، إذ أن "الطالب أو الطالبة في دور العلم العالية يقدرون ما يترتب على كل عمل من أعمالهم من التبعات الخلقية ويعلمون طريق الخير وطريق الشر، ويفهمون معنى الفضيلة، ومعنى الرذيلة، ولهم من حُسن تربيتهم فيما مضى، ومن سلطانهم على أنفسهم، وحسن أخلاقهم، ما يُزيل أي سوء للخلطة ويجرّ إلى خيرها"[202] !!(22/42)
لكن التيار الليبرالي ظل مؤمناً بأهمية الاختلاط ومحاسنه[203]، وتبنى بعض المحسوبين عليه، الدعوة إلى المفاهيم الغربية في ميدان التربية والتعليم تبنياً كاملاً غير منقوص، فهذا د. أمير بُقْطر[204] يدافع عن الاختلاط الكامل وفي جميع المراحل الدراسية، ويهوّن من المخاطر المفترضة، ويتمنى أن تسير مصر في هذا، كما سارت أوروبا "إننا في حركتنا الأخيرة، وما اقتبسناه من أساليب المدنية الغربية نقطع عين المراحل التي قطعها سوانا، واحدة واحدة، ونواجه عين العقبات، واحدة واحدة"[205]، ويطالب بالانفتاح على التجارب الحديثة في مجال التربية والتعليم في أوروبا وأمريكا، ويعرض نماذج من التعليم في الغرب، تؤكد على محاسن التعليم المختلط وثبوت انعدام مخاطره حتى في بعض الحالات التي طبق فيها الاختلاط حتى في الأقسام الداخلية، وفي غرف النوم من سن الثانية إلى سن الثامنة عشرة[206]!!
ولما كان التيار الليبرالي قد اعتنى بالحديث عن حق المرأة في التعليم، فإنه بتطور الحياة، وانتشار التعليم، وتزايد أعداد الخريجات، بدأ الحديث عن حق المرأة في العمل، يأخذ بعداً أوضح في الخطاب الليبرالي.
هذا ولم يكن الالتفات إلى حق المرأة في العمل وليد هذه المرحلة، بل كان الطهطاوي[207]، وقاسم أمين[208] وغيرهم كثير من المفكرين قد أشاروا لهذه المسألة، من باب إقرار مبدأ حقها في العمل خارج المنزل.
وإذا كان العقاد يؤكد على ضرورة إعفاء المرأة من العمل خارج المنزل، وأن هذا حق من حقوقها على المجتمع، لتتفرغ لمهمتها الأساسية، وهي تربية الجيل القادم، فإنه يستند في ذلك إلى أن الرجل أقدر من المرأة على تحمّل أعباء الحياة ومشاقها، فهو أقوى منها جسداً وعقل[209].(22/43)
والعقاد يعتقد بأن من الظلم للمرأة مساواتها التامة بالرجل، لأن ذلك يحملها ما لا طاقة لها به، وما لا ترجوه في قرارة نفسها، مؤكداً عدم رضاه عما ترفعه "الحركة النسائية" من شعارات المطالبة بالمساواة وحقوق الانتخاب، ويوضح موقفه بالقول: "نعم هذه هي الحقيقة التي أؤمن بها ولا يغرني فيها أن المراة اليوم أوفر علماً وألهج بكلمات الحرية والمساواة مما كانت قبل أن يخترع الرجال هاتين الكلمتين في عالم السياسة والاجتماع، فلولا الرجال الذين يروقهم أن يروا المرأة حرة طليقة تعبث بالحياء وتحطم قيود العرف والدين لما وجدت أنثى تجسر على النداء بالحرية ويطيب لها هذا النداء"[210].
ومسألة قدرات المرأة والمفاضلة بين الرجل والمرأة في القدرات العقلية والجسدية، أخذت حيزاً كبيراً من الجدل الذي دار بين مؤيدي عمل المرأة ومعارضيه[211]، ليفضِ ذلك إلى اختلاف في مواقف هذه الأطراف في تحديد العمل الملائم لطبيعة المرأة، ولعل د. منصور فهمي يوضّح جانباً من هذا الجدل "الطبيعة (!) وحدها هي أعدل حكم في الأمر، ولا تعبأ بقول أحد ولا تخضع لنزعات أحد، ولكنها تسير كل جنس بل وكل فرد في سبيله اللائق لوجوده على أحسن حال تضعه فيه قدرته في الكفاح الحيوي والحياة الاجتماعية"[212].
أما توفيق الحكيم فيرى "أن أكبر جناية يجنيها الرجل في مصر الآن على مصر وأبناء مصر هي الحدّ من حرية المرأة المصرية ، والعمل على وضعها في داخل قفص من حديد، بحجة تكريسها لحياة البيت وتربية الأولاد، إذاً ما من شيء ألزم لهذه المهمة السامية من الحرية نفسها، إذا أردنا أن لا تُنشئ المرأة جيلاً من العبيد الأذلاء مفقودي الهمة والشخصية"[213].(22/44)
وفي سياق اهتمام الليبراليين بالدفاع عن حق المرأة في التعليم والعمل يأتي الحديث عن حقوقها السياسية، وعملها في المناصب السياسية، لكن الشعور العام لديهم كان بأن البيئة المصرية لم تصبح مواتية بما فيه الكفاية لجعلها مسألة محورية في الخطاب الليبرالي في قضية المرأة[214].
لقد تولت الصحافة الليبرالية مهمة الدفاع عن الحقوق السياسية للمرأة، والتثقيف في هذا المجال، ونشر الوعي حول هذه الحقوق، والإشادة بالتجارب العالمية في هذا المجال[215].
وعندما انشغلت مصر بصياغة الدستور الصادر عام 1923م، ظهرت أصوات القوى الليبرالية تطالب بمنح المرأة الحق في الانتخاب والترشيح أسوة بالرجل، لكن الدستور لم ينص على هذا الحق[216].
ومن هنا فقد أصبح من مهام الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعراوي المطالبة بمنح المرأة حق الانتخاب أسوة بالرجل[217].
وكتبت قيادات الحركة النسائية كثيراً في الصحافة للمطالبة بهذا الحق[218]، كما أن أكثر الأصوات ليبرالية بقي في دائرة المناداة بإشراكها جدياً في الشؤون الاجتماعية العامة، وإذا دعت الحال، في المسائل الاقتصادية والتشريعية والسياسية[219].
ومن الملاحظ أن مسألة الحقوق السياسية للمرأة لم تكن مسألة ملحة في هذه المرحلة، ولم تأخذ حيزاً كبيراً في الخطاب الليبرالي، إداركاً من الليبراليين وغيرهم بأن المرأة المصرية لم تتهيأ بعد لممارسة هذه الحقوق، في الوقت الذي ما زال فيه أكثر من 90% من النساء المصريات يعانين من مشكلة أمية الحرف.
3-الدعوة إلى مدنية الأحوال الشخصية:(22/45)
وفقاً للمرجعية الفكرية التي يؤمن بها هذا التيار، ونزولاً عند منهجه في التقليد لكل ما هو غربي، فمن الطبيعي أن تصدر عنه أصوات منفصلة عن الواقع لتطالب بتطبيق النظام المدني في مسائل الأحوال الشخصية، كالزواج والطلاق والميراث، بمعنى العدول عن أحكام الشريعة في هذه المسائل إلى الالتزام بالقوانين الغربية، وتحرير شؤون الزواج من هيمنة الشرع ومحاكمه ورجاله.
وهذه الدعوة لم يعرفها الفكر المصري إلا في هذه المرحلة التي ندرسها، فلم يتحدث أي من مفكري القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، عن هذه الخطوة التغريبية المتطرفة[220].
كان د. محمود عزمي من أوائل الذين نادوا بفكرة الزواج المدني في مصر، وبما في ذلك منع التعدد، ومنع الطلاق، وإباحة زواج المسلمة بغير المسلم، وأن لا يكون الدين عائقاً أمام الرغبة في الزواج بين رجل وامرأة، ففي عام 1918م وخلال المداولات لتأسيس الحزب الديمقراطي المصري، طالب بتوحيد التشريعات المصرية، وبما يشمل قانون الأحوال الشخصية "بمعنى أن يكون للمصريين كلهم أحكام زواج وطلاق واحدة.. وبمعنى أنه إذا رغبت مسلمة ولتكن إحدى أخواتنا مثلاً أن تتزوج من قبطي.. فلا يكون هناك مانع ولا اعتراض"[221]!!
وحبّذت الصحافة الليبرالية فكرة "القانون المدني" المراعي للحرية التامة، الذي هو اتجاه الثقافة الحاضرة في أوروبا ونحو الحرية، ويذكر "محرر الهلال" مقولة يتبناها –في الدعوة إلى الإباحية المبطنة- لكاتبة أمريكية مشهورة "إلين كي" تقول: "إن الحب بلا زواج لا يخالف الآداب، ولكن الزواج بلا حب هو الذي يُخالف الآداب"[222].(22/46)
وتبدي القوى الليبرالية إعجاباً بتطبيق تركيا لقانون الزواج المدني اعتباراً من الرابع من تشرين أول 1926م، وتنشر "السياسة" نصوص القانون المدني التركي، وتعلّق عليه مبدية إعجابها بما حققه من مساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وتعده انقلاباً كبيراً إذا أحسنت المرأة التركية الاستفادة من الحقوق التي تضمّنها له[223]، وتحدث ليبراليون عن "ألشريعة الكمالية" التي حرّرت المرأة التركية[224]، بل إن "السياسة الأسبوعية" جعلت من تطبيق القانون المدني في الأحوال الشخصية معياراً للتمييز بين دول متقدمة وأخرى متخلفة، أو بين شرق وغرب[225]، واقترح بعضهم إعطاء المواطن حرية الاحتكام إلى القانون المدني للأحوال الشخصية أو الذهاب إلى المحاكم الدينية، وأن يُنزع أمر الزواج من قبضة رجال الدين على كل الأحوال[226].
وتكتب إحدى المجلات المعبّرة عن آراء التيار الليبرالي، منادية بالزواج المدني، وبأن يحتفظ كل من الزوجين بديانته، على أن يترك للأولاد اختيار الديانة التي تروق لكل منهم عند بلوغهم سن الرشد، "وعلى هذا تجمع بين الأولاد صلات الدم والوطنية والتربية المشتركة، ويعتبر الدين من المسائل الوجدانية البحتة التي تربط بين الإنسان والله سبحانه وتعالى"[227].
وهذا الجنوح الخيالي المفرط في الانفصال عن الواقع المصري يقود الكاتب الذي لا يجرؤ على ذكر اسمه، إلى القول بأنه "إذا كان في هذا الحل ما يخالف التقليد الإسلامي، فما هو بأول مخالفة احتملتها سماحة الإسلام ومرونته الاجتماعية، كما احتملتها أديان أخرى لا ترضى عن الزواج المختلط، وهي أهون ألف مرة من احتمال التصريح الرسمي بالمواخير والحانات والربا في بلاد إسلامية، والزواج المدني على كل حال قانون اجتماعي لا غنى عنه في أية أمة عصرية"[228]!!(22/47)
وعندما كان العمل جارياً لإعداد قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1929م، طالب الاتحاد النسائي المصري في مذكرة مقدمة لرئيس الوزراء وزير الحقّانية ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب بتاريخ الحادي والعشرين من تشرين ثاني 1926م بصون المرأة من الظلم الواقع عليها من تعدد الزوجات بدون مبرر، ومن الإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري، وهكذا فالاتحاد لا يطالب بالمنع ولكن يرمي إلى مزيد من القيود في شؤون التعدد والطلاق[229].
وحشد التيار الليبرالي كل ما لديه من قوى للدفع باتجاه تضمين قانون الأحوال الشخصية الجديد ما يمنع تعدد الزوجات.
وراحت الصحافة الليبرالية تخوض حرباً إعلامية لصنع رأي عام مؤيد لهذا المطلب، فهذه "السياسة الأسبوعية" تستعين بآراء اللورد كرومر، فتعود لنشر مقتطفات من كتابه "مصر الحديثة" للتدليل على عدم ملاءمة "التعدد" لروح العصر، ولتنفير المصريين منه، على اعتبار أن اللورد رأى بأن ما يحتاجه الرجل المصري من "احترام الذات" لن يتحقق إلا إذا "صار مثل الأوروبي متزوجاً من امرأة واحدة"[230]، وظل التيار الليبرالي يدعو إلى تقييد أو منع تعدد الزوجات[231].
وكما في مسألة "تعدد الزوجات" فإن الصوت الغالب في التيار الليبرالي ظل يتابع قاسم أمين في موقفه الداعي لحصر الطلاق بموافقة القاضي أو المأذون، ومنح المرأة الحق في تطليق نفسه[232]، فقد تبنى التيار الليبرالي هذه الرؤية، وجعلها الاتحاد النسائي المصري جزءاً من برنامجه الصادر عام 1923م[233].
وعبّرت الصحافة الليبرالية عن مساندتها لهذه الرؤية، وقدَّمت جريدة "كوكب الشرق" الوفدية جهداً واضحاً في هذا الإطار[234].
لكن التيار الليبرالي لم يخلُ من الأصوات المتطرفة أكثر التي عرفنا مناداتها بالقانون المدني للأحوال الشخصية، والتي طالبت بمنع الطلاق نهائي[235].(22/48)
وعلى صعيد متصل فإن التيار الليبرالي كان يسعى لمواجهة المشكلات المتعلقة بمسائل الزواج، وفقاً لمرجعيته الخاصة به، فعندما يواجه المجتمع المصري ما سُمي "أزمة الزواج" الناجمة عن إقبال الشباب المصري على الزواج من الأجنبيات، فإن الليبراليين يقدّمون الحل وفقاً لمرجعيتهم، وهو ضرورة إباحة الاختلاط ليحصل التعارف ثم الحب ثم الزواج بين المصري والمصرية، فالمشكل "إنما يرجع إلى عدم اختلاط الجنسين اختلاطاً يهيئ للطرفين منهما فرص التعارف، وفرصة التواد والحب"[236]!!
أما بخصوص مساواة المرأة مع الرجل في الميراث، فإن الحديث حولها كان يأتي في إطار مدنية الأحوال الشخصية، ولما تصدّى سلامة موسى –وهو من أبرز دعاة التغريب في مصر وأكثرهم تطرفاً- للمناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، سارعت بعض الأوساط الليبرالية للترحيب بهذه الدعوة، وكانت السياسة الأسبوعية أول صحيفة تروج له[237].
لكن التيار الليبرالي لم يُجمع حول هذه الفكرة بل وجدت الفكرة من يقاومها ويقلل من شأنه[238].
فقد انتقد د. منصور فهمي ما لجأ إليه سلامة موسى من تضخيم للمسألة وجعلها أساس التقدم وبناء الحضارة، وطالب بوضع المسألة في مكانها، وإعطائها حجمها الصحيح، مؤكداً أنه لا بد من الانتباه إلى اختلاف أنظمة الثوريث في العالم، رافضاً هذه الدعوة، ومعترضاً على اتخاذ نظام التوريث الغربي معياراً للعدالة[239].(22/49)
كما رفضت هدى شعراوي تبني هذه الدعوة من قبل الاتحاد النسائي، عندما اقترح عليها سلامة موسى جعلها أحد مطالب الحركة النسائية، وعلّلت موقفها هذا بقولها: "ولست أعتقد مثله أن على الحركة النسائية في مصر، بسبب من تأثرها بالحركة النسائية في أوروبا، أن تتابعها في كل مظهر من مظاهر تطورها، فلكل بلد تشريعه وتقاليده الخاصة به، وما قد يلائم هذا البلد لا يلائم بالضرورة بلداناً أخرى[240]، وتشير إلى مسألة هامة، لم يتوقف الكثيرون عندها في خضم الالتفات للجدل النظري فقط، وهي أن المشكلة الحقيقية – كما تزعم - ليست في مقدار ما منحه الشرع للمرأة من حق في الميراث، بل إن المشكلة تكمن في عدم التزام المجتمع في منحها هذا الحق الشرعي[241]!!
العدالة الاجتماعية [242]
انشغل التيار الليبرالي بالمفاوضات مع الإنجليز، ومقارعة القصر، والصراع الحزبي، كما اهتم بالتركيز على الحريات السياسية لخدمة الأغراض الحزبية، فأهمل الاشتغال بمعالجة الهموم الاجتماعية الحقيقية، كالفقر والبطالة ومشاكل الفلاحين والعمال والفئات الفقيرة أو المسحوقة، وعدّها الليبراليون هموماً مؤجلة لحين تحقيق الإصلاح السياسي[243].
وتوقف التيار الليبرالي المصري عند المفهوم الكلاسيكي الليبرالية، الذي يحصر دور الدولة في أضيق نطاق، ويؤمن بمبادئ الاقتصاد الحر القائم على إطلاق حرية السوق والمنافسة، والعمل، والملكية الخاصة، واحترام الاختلافات الفطرية بين الناس، فكل فرد يأخذ فرصته لكن وفقاً للإمكانيات المختلفة عند الأفراد، من مهارة وبراعة وحُسن توقّع، أو بُعد نظر، وبذلك فإن الليبرالية الكلاسيكية تُبرز عدم المساواة وتؤمن بضرورتها، ولا تسعى إلى إزالتها بل للتخفيف –في أحسن الأحوال- من نتائجها وانعكاساته[244].
ولم تأبه الليبرالية المصرية بما طرأ على الليبرالية الغربية من تحولات بالاتجاه نحو ليبرالية الرفاه، أو الليبرالية الاجتماعية[245].(22/50)
ولم تقدم برامج الأحزاب الليبرالية أية معالجات جادة لتحقيق شيء من العدالة الاجتماعية، لمجتمع يئن تحت وطأت مشكلات اجتماعية واقتصادية معقدة.
فالحزب الديمقراطي المصري يتحدث عن تعليم ابتدائي إجباري مجاني، وعن ترقية للطبقات العاملة، وإغاثة غير القادرين على العمل[246]، أما حزب الوفد فلم يُقدم أي برنامج محدد، على اعتبار أنه ليس مجرد حزب، بل هو ممثل الأمة كلها، لكنه كان يقف موقفاً رافضاً للاشتراكية.
كما أنه رفض أي حديث عن توزيع الثروة أو الإصلاح الزراعي، كما كان موقفه من مشاكل العمال ليبرالياً إلى أبعد الحدود، برغم ما أبداه من رغبة في السيطرة على الحركة العمالية، لإقصاء الشيوعيين والإسلاميين عن هذه الساحة، كما رفض فكرة تأسيس حزب للفلاحين أو للعمال[247].
لكن الوفد –وتحت ضغط الواقع- أخذ يُبدي اهتماماً بالشؤون الاجتماعية منذ مؤتمره العام الأول الذي انعقد في يناير (كانون ثاني) 1935م، فقد قُدّمت فيه مجموعة أوراق ذات مضامين اجتماعية تؤشّر على اهتمامات اجتماعية واضحة، وعرف الوفد نمواً للتيار الاجتماعي في داخله، ليتبلور بعد الحرب العالمية الثانية ما سُمي "الطليعة الوفدية"، وهي تحاول إضفاء مسوح اشتراكية على البرنامج الاجتماعي للوفد[248].
وتحدث برنامج حزب الأحرار الدستوريين الصادر في تشرين أول 1922م، عن دعم الحزب للتعليم الأولي الإجباري والمجاني، وتحسين الحالة الصحية، والضرائب العادلة، وترقية الزراعة، والسعي إلى تخلي الحكومة عما تحت يدها من الأطيان، ودعم التعاون، وتنظيم العلاقات بين العمال وأصحاب العمل "على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة من تحكم أحد الفريقين"[249].(22/51)
آمن الليبراليون بأن التفاوت الاجتماعي أمر طبيعي ومن طبائع الحياة، ولا يمكن إلغاؤه، فهو الأصل، وهو مفيد لانتظام الحياة البشرية، واهتمت الصحافة الليبرالية بالترويج لهذه الفكرة في سياق مواجهة الفكر الاشتراكي، وفي كثير من الأحيان تعمد إلى نشر هذه الأفكار (بدون توقيع)، لكونها تصادم مشاعر عامة المصريين الذين يعانون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة، ويتطلعون إلى شيء من العدل والإنصاف، فهذه "الهلال" تنشر مقالاً (بدون توقيع) يقول كاتبه: "وفي الواقع إن التفاوت بين أفراد الناس وطبقاتهم، قد فرض عليهم فرضاً، وهو لخيرهم ومصلحتهم بوجه الإجمال، وإن لم يكن في مصلحة بعض الأفراد"[250]، ويخلص إلى التبشير بفشل الفكرة الاشتراكية المنادية بالمساواة، ويؤكد "أن ضمان المساواة بين طبقات البشر ضرب من المحال، فضلاً عن كونه لا يتفق مع مصلحة الاجتماع"[251].
وتعود "الهلال" عبر كاتبها المجهول للتأكيد على نفس المعاني، ولتبرير شريعة الغاب في الحياة الاجتماعية، أو لما أسماه البعض "الليبرالية المتوحشة"، وبأبشع صورها، منطلقاً من نظرية "تنازع البقاء"، وأن البقاء للإصلاح "وأن الأفراد غير متساوين في صلاحهم للبقاء، لأن بعضهم ضعفاء غير نافعين للاجتماع –وهؤلاء يجب أن ينقرضوا ويُفسحوا في المجال لغيرهم !! - والبعض أقوياء نافعون فيجب أن نطلق لهم الحرية، ليفتكوا بمن هم أضعف منهم من أفراد نوعهم أو من أفراد أي نوع آخر"[252].(22/52)
لكن د. محمد حسين هيكل تصدى لهذه الأفكار، بتركيزه على رفض "المادية" المستقاة من حضارة الغرب، التي أسماها "حضارة المال والاستعمار في سبيل المال"، لذلك فلا يمكن أن يُرتجى منها أن تعاون على تحقيق البر والرحمة، أو أن تخفف من ويلات من تقسو الأقدار عليهم، بل هي على العكس ترى هؤلاء الذين قست عليهم الأقدار غير صالحين للبقاء، وتقضي عليهم لذلك بأن يفنوا تحت عبء أرزائهم وهمومهم"[253]، وهو يعرّض بدعاة الدارونية، وأفكارها التي استغلت لتبرير "الليبرالية المتوحشة"[254]، أو الرأسمالية في أبشع صورها، والبديل هو حضارة الإسلام، وما يدعو إليه الإسلام من البر والتقوى، وما يفرضه على الناس من الزكاة والصدقة، وما يوصي باليتيم والبائس، والمحروم[255].
واهتمت الصحافة الليبرالية بالتنبيه إلى ظاهرة الفقر التي تجتاح مصر، وإلى مخاطرها. وقدمت رؤيتها للعلاج ضمن المفاهيم الليبرالية[256]، التي تتحدث عن ضرورة تطوير الفقير لقدراته، وتغيير قيمه وسلوكه، مع التأكيد على أن مصر فقيرة بقدراتها.
وأن المشكلة ليست في سوء توزيع الثروة، بل هي في قلّة الإنتاج. "إن الداء ليس في التوزيع، بل إنه نشأ عن النقص الأساسي في الاقتصاد الوطني"[257].
وفي المسائل المتصلة بالعمل والعمال، كان الفكر الليبرالي يؤمن بأن العمل هو سلعة لها ثمن يحدده صاحب العمل، بحسب التعاقد بينه وبين العامل، ووفقاً لقاعدة "العقد شريعة المتعاقدين"[258]، وبطبيعة الحال فإن الموقف الليبرالي ميَّال بطبعه لجانب صاحب رأس المال[259]، أما التعاطف مع العامل فينحصر في الاعتراف بحقه بتوفر شروط العمل الصحية، ومنحه الأجر المناسب، وساعات العمل المناسبة[260].(22/53)
أما تدخل الدولة في حل هذه المشكلات، ومنها –مثلاً- مشكلة البطالة، فهذا مرفوض وفقاً للمنطق الليبرالي !! فنجد أحمد لطفي السيد، يرفض تدخل الدولة بالتشريع لحل أزمة البطالة بين المتعلمين، ويقول: "وأنا لا أنظر بعين الارتياح إلى تدخل الحكومة إذ أنني أرى أن التشريع فيما لا تقضي به الضرورة القصوى تُشتم منه رائحة الاشتراكية، ويكون من الخير أن يترك ميدان الأعمال العامة بين المتعلمين لتختار الحياة الاجتماعية الأصلح منهم بعد التنافس"[261].
وإيماناً منه بأن مذهب "اللبراليزم" الذي يؤمن به "يحدُّ حرية الحكومة لا في التشريع فحسب بل في المداخلة في الأعمال العامة، هذا المذهب قد يقتضي مثاله الأعلى أن تقتصر الحكومة على مرافق ثلاثة من مرافق البلاد:
1- الدفاع عن البلاد في الخارج بالجيش.
2- القيام على الأمن العام بالشرطة.
3- وإقامة العدل بين الناس بالقضاء.
وما عدا ذلك من مرافق الدولة كالتعليم العام، والصحة العامة والأشغال "العمومية"، كل ذلك ينبغي أن يكون من عمل الأفراد والشركات والجمعيات الحرة. " وكنت أعتبر ولا أزال، أن تدخل الحكومة فيه، سببه الضرورة ، أي عدم وجود من يقوم به"[262].(22/54)
وعندما طالب أحدهم على صفحات "الأهرام" بضرورة أن تتصدى الحكومة للقيام بواجباتها، فتلتزم بتوفير عمل لكل فرد، باعتبار أنه شكل من أشكال التضامن، وأن عليها أن توزع كمية العمل الموجودة فعلاً على جميع الأفراد، فلا يُحرم بعضهم من العمل لكي يظفر آخرون بنصيب الأسد، وأنه من واجبها أن تنشئ وظائف جديدة تمنح مرتباتها من المال المتوفر بعد تخفيض المرتبات الكبيرة، وإلزام أصحاب الأعمال بزيادة عدد عمالهم. نجد "الأهرام" تعلّق على هذه الاقتراحات للتخفيف من مشكلة البطالة، بالقول: "إن تقرير هذه القواعد معناه قلب المبادئ الاقتصادية كما وضعها آدم سميث.. ومن تابعهم من علماء المدرسة الكلاسيكية في القرن الثامن عشر ، وأساسها الحرية الاقتصادية والمنافسة التي لا يحدها حدّ.. وقد أعطت نظرية الحرية الاقتصادية العالم نهضة عظيمة ورخاء مادياً كبيراً، ولكن بينما منحتنا نظرية الحرية الاقتصادية هذا كله –وهو فضل عظيم لا ينبغي أن نجحده- اقتضتنا تضحيات كبيرة كان بعضها هؤلاء العمال كانت التضحية ضرورية في سبيل تقدم البشرية، تحمّلها الضعيف، وتلك هي السنة الخالدة.. ولكن ينبغي ألا نبالغ في الغض من النشاط الفردي وتقييد حريته فكل تدخل من الدولة مكروه، ولذلك يجب أن يقتصر بقدر الإمكان على ما يكفل منع الشرور الواضحة وتخليص الحضارة التي نعيشها من القسوة التي تُفسد جمالها وتجعلها تبدو وكأن لا قلب لها"[263].(22/55)
وعندما طرح البعض –ومنهم أحمد لطفي السيد رئيس الجماعة آنذاك- تقليص التعليم العالي لحل أزمة البطالة[264]، وأيد البعض هذا الاقتراح من باب أن التعليم العالي يُفسد الفلاح، ويفصله عن العمل في الأرض[265]، نجد أن د. طه حسين، يعترض على هذا الاقتراح، ويؤكد أنه "لن تعالج البطالة بإكراه الشعب على الجهل، وإنما تُعالج بفتح أبواب التعليم على مصاريعها، وبالإسراع في ذلك حتى يرشد الشعب"[266]، وفي المقابل نادى بضرورة تعميم التعليم الأولي من سن السابعة إلى الثامنة عشرة، على اعتبار أن ذلك يأتي في إطار حق المصريين جميعاً في الحصول على التعليم العام[267]، وساندته ميّ زيادة في موقفه هذا، ورفضت تقليص التعليم الجامعي، وطالبت بإطلاقه أمام الجميع[268].
وانتقد محمد زكي عبدالقادر الطبقية في مصر، والضرائب الموجهة لمصلحة الأغنياء، متهماً بأن سياسة الضرائب والتسويات تنتهي إلى تركيز الثروة في طبقة معينة، كما أن سياسات التوظيف تنتهي إلى تركيز الجاه والنفوذ في الطبقة نفسه[269].
أما فيما يخص الفلاح ومشاكله، فقد تكلف الليبراليون التعاطف مع معاناته من الفقر والمرض والجهل[270]، وقدموا حديثاً عاطفياً عن الفلاح وأهميته، ودوره في الإنتاج، وعن ضرورة تهيئة أسباب الحياة الإنسانية له[271]، ولم يكن هذا الاهتمام بعيداً عن الغرض السياسي، فعندما يكون الحزب خارج السلطة، تبدي صحافته اهتماماً مفاجئاً ومبالغاً فيه بهموم الفقراء والفلاحين والعمال، ومعاناة الشعب، لمجرد إحراج الحزب الجالس في مقاعد الوزارة[272] !!
ولم تكن المصالح الشخصية بعيدة عن الوقوف وراء تسليط الأضواء على هذه القضية، أو إهمال تلك والتعتيم عليها، وهناك اتهام دائم للفلاح بسوء التدبير وعدم القدرة على ضبط نفقاته، وهذا –في نظرهم- هو سبب فقره، وعجزه عن سداد ديونه[273].(22/56)
وهناك إصرار على عدم الاستماع لأي صوت يتحدث عن تحديد الملكية العقارية، ففي العُرف الليبرالي لا مجال لهذه الفكرة في بلاد ديمقراطية تحترم حرية الفرد، ومجال نشاطه وتفكيره، وثمرات جدّه كمصر!! [274].
وتحدثت أصوات ليبرالية عن تحسين أحوال الفلاح بتيسير أسباب المعيشة العامة (رفع مستوى معيشته)، وإصلاح نظام الضرائب ليصبح تصاعدياً، بزيادتها على الأغنياء، وتخفيفها على الفقراء، وتوفير الأمن في الريف والحد من الجرائم، وجرى تبرير الدعوة إلى توفير الأمن، لأن ذلك سيسمح للفلاح ببناء بيت ذي نوافذ، ولأن يأمن على ما لديه من دواب فلا ينام وإياها في نفس المكان لحمايتها، ولأهل القرية ببناء منازل متباعدة! والدعوة إلى العناية بالصحة العامة، وفرض التعليم الإجباري ومحاربة الأمية، وتطوير الصناعة المصرية ودعمه[275].
إن هذا البرنامج الواقعي للإصلاح في الريف، يشير إلى حجم معاناة الفلاح، وحقيقة ما يعانيه من مشكلات، كانت النخب الفكرية والسياسية تحلّق عالياً وبعيداً عنها.(22/57)
والدكتور هيكل في "حديث اليوم" الذي يفتتح به أعداد "السياسة" يحذر من مغبة تسرب الشيوعية إلى الريف وبين الفلاحين "أكثر طوائف هذه الأمة سكينة وأبعدهم عن هذه الأفكار الشيوعية التي لم تعرف لها منبتاً في غير البلاد الصناعية.. فلو أن بيئة تأبى الشيوعية بطبعها فتلك هي البيئة المصرية، وحياتنا الاقتصادية القائم أساسها إلى اليوم على الملكية الزراعية، لا يمكن أن تقبل هذه المبادئ الضارة.. فليست طوائفنا العاملة في الأرياف، متأثرة بالهوس الاجتماعي الذي تتأثر به بعض بيئات العمال في أوروبا، وهي في إيمانها بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ترى في هؤلاء الدعاة الشيوعيين أكثر من ثائر على الدين، وعلى الحكومة، وأكثر من مخادعين يريدون من دعوتهم تسخير هذه الطوائف الآمنة الوادعة لمصالحهم الخاصة، وهي على أتم الاستعداد لأن تعاون الحكومة في تعقب هؤلاء الخوارج الذين يريدون أن يفسدوا نظاماً قائماً على الحق والشرع"[276] !!
وهذه الرؤية تأتي متوافقة مع الخطاب الليبرالي الرافض للشيوعية والمفاهيم الاشتراكية عموماً، وهو خطاب يتنكر لمعاناة الفلاح، كما أنه برغم علمانيته المفرطة نجده يتوسل بالمفاهيم الدينية حول الرزق المقدّر، لاستثارة الفلاحين المتدينين "الوادعين" ضد دعاة الاشتراكية "الخوارج"، ولإخماد أية بوادر شكوى ضد هذه الأوضاع المقدَّرة!
الأخلاق والآفات الاجتماعية :
يؤمن الليبراليون بأن المجتمع مكلّف بحماية الحقوق الفردية، ولا ينبغي له الاعتداء عليها، ولهذا فهم ينفرون من كل ما يضع قيداً على حرية الفرد، ويرفضون فرض أية غايات أو أهداف خارجية على الفرد، ويرون لزوم تركه حراً يفعل ما يشاء، وأن من حقه على المجتمع أن يعيش حراً مستقلاً ساعياً وراء غاياته التي يختارها بمحض حريته وإرادته.(22/58)
وهذا يأتي –طبعاً- في إطار امتناع الفرد عن فعل كل ما من شأنه أن يشكل إضراراً، أو تدخلاً غير مشروع في حرية الآخرين للسعي من أجل تحقيق غاياتهم الخاصة[277].
وهكذا فإن الليبرالية تكفل الحرية الشخصية، والحريات العامة والاجتماعية، والمعيار في الحكم على الفعل والسلوك هو معيار علماني لا صلة له بالدين.
والليبراليون المصريون جعلوا من التقليد للنموذج الغربي معياراً، أو هدفاً، وفي أحسن الأحوال وسيلة للنهوض، ولذلك فهم ينظرون بعيون غربية للواقع المصري، ويعالجون مسائل الأخلاق وفقاً للمعايير الأوروبية.
ومن هنا جاءت دعوة بعض الرموز الليبرالية إلى علمانية الأخلاق، وعلمانية التربية والتعليم كأحد أدوات المجتمع للتوجيه الخلقي، وتسخير التربية والتعليم وأجهزة التوجيه لتعزيز اتجاهات الحياة الحديثة –على حد رأي د. طه حسين- وإنقاذ الأطفال والصبيان من أن "يُصاغوا صيغة قديمة، ويُكوّنوا تكويناً قديماً"[278].
أما المهمة الأساسية للعملية التربوية التعليمية، فهي تعليم الفضائل المدنية، وخلق الأوضاع، التي يمكن للحاكم الديمقراطي أن ينمو في ظله[279]، ومحاصرة "الثقافة الأزهرية" لصالح "الثقافة الحديثة"[280].
وفي هذا الإطار تأتي المناداة بعلمانية الأخلاق وتغريبها، فلا تقتصر على المعنى الروحي الديني، كالتقوى والصدق والأمانة والعفة.." بل تمتد لتشمل بعض "الصفات السامية النبيلة" كالدقة، المثابرة، الصبر، الاحتمال، الإقدام، الشجاعة، قوة الابتكار، التعاون، خدمة الغير، مراعاة شعور الآخرين، الإعجاب بكل حسن وجميل، الذوق السليم، الإتقان، المرونة.." [281].(22/59)
وفي إطار التثقيف بالمفاهيم الأخلاقية الغربية، تعرض "السياسة" لقضية "تطور الحياء" وتنشر ترجمة لمقال بعنوان "تطور الحياء وعلاقة الحياء بالأزياء" لكاتب فرنسي، مفاده أن مفهوم الحياء مفهوم متغيّر، مع تطور الزمن، وأن الأزياء لا علاقة لها بالحياء، فهي ليست من الخلق الشخصي بل من الخلال الاجتماعية، لذلك "فمن المبالغة في التشاؤم إذن أن يعتبر البعض الخروج في الملبس خطراً اجتماعياً أخلاقياً.. ففي وسعنا أن نتوقع أنه لن يمضي سوى قليل حتى يصبح الحياء على النقيض مما كان عليه بالأمس؛ أعني أن الثياب وليس العراء هي التي قد تؤذي الشعور"[282] !!
وفي مجال تنمية "الشخصية"، وبناء الاتجاهات عبر الحوار لدى الجيل الجديد، يعرض د. أمير بُقْطر، جملة مواضيع للحوار مع الشباب، من خلال الإجابة على عدد من الأسئلة، منتقاة بعناية، وتسعى إلى نهاية منطقية مبتغاة تؤكد على القيم والاتجاهات وأنماط السلوك الليبرالية الغربية وتعزيزه[283].
والليبراليون عندما يتصدون لمعالجة الآفات الاجتماعية، فهم ينطلقون في مواقفهم من المرجعية الفكرية، التي يؤمنون بها، ويحتكمون للمعايير الغربية في الحكم على الأشياء.
فعندما كان المصلحون يطالبون بإلغاء البغاء الرسمي. كان الليبراليون يرفضون هذه الدعوة !! فقد عدّها د. محمد حسين هيكل، بمثابة دعوة إلى "إلغاء الرقابة الصحية" ليس إلا، ونفى قدرة أي قانون على إلغاء البغاء من الوجود، وإلا لاستطاعت الشريعة الإسلامية تحقيق ذلك[284]، ولجأ إلى التهكم والتشكيك والتجريح في رده على دعوة الشيخ محمود أبو العيون لإلغاء البغاء، وكل ذلك دفاعاً منه عن حكومة عدلي يكن، فكان الدافع السياسي كالعادة يتدخل في أسلوب معالجة المثقف أو المفكر للقضية أية قضية.(22/60)
لكن "السياسة" عادت بعد عقد من الزمان وفي إحدى افتتاحياته[285]، التي عادة ما يكتبها د. هيكل رئيس التحرير، إلى الشكوى من "حي البغاء" في القاهرة وما يحويه من جرائم، وطالب بإلغائه أو ترحيله على الأقل، فهو يُسيء إلى صورة مصر، ويُساهم في زيادة الجرائم، وينشر الرذيلة فيما حوله من شوارع وأحياء.
والمنهج الذي يحكم الموقف، هو منهج علماني، يحترم الحرية الشخصية حتى في مجال "حرية الرذيلة"، لكن على أن لا تشكل اعتداءً على حرية الآخرين !!
وعندما يتصدى الليبراليون لمعالجة بعض الآفات الاجتماعية، فلا تجد نهجاً واضحاً، أو معياراً منطقياً، أو اتساقاً في الرؤية، بل تجد نوعاً من التضارب.
هذه جريدة "السياسة" لسان حال الأحرار الدستوريين، تحمل على وزارة أحمد زيور لسماحها بافتتاح "كازينو" للقمار في حلوان، وتقول في افتتاحيتها "ما بالك ومصر دولة يقرر دستورها أن الإسلام دينها، وينص القرآن (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)، فهل تُقر حكومة إسلامية في بلاد مسلمة رجساً من عمل الشيطان[286].
لكن "السياسة" وهي تستشهد بالآية الكريمة التي تقرن القمار بالخمر، لا تتورع عن نشر دعاية للخمور في الصفحة السابقة[287]!!
ولا يخلو عدد من أعدادها من دعاية لأحد أنواع الخمور[288].
واهتمت الصحافة الليبرالية في أغلب الأحيان بالتثقيف التغريبي للشباب في العادات والسلوك والأزياء، بالتركيز على استثارة الغرائز، عبر الصورة والقصة والتعليق، وبالتركيز على إبراز نموذج الحياة الغربية كمثال يجب أن يُحتذى، وأن فيه كل السعادة والعصرية والحرية[289].
وفي المجمل، فإن التيار الليبرالي لم يولِ المسائل الأخلاقية ما تستحقه من عناية، ويمكن القول بأنه كان يعاني من اللامبالاة الأخلاقية، والنظر إلى أن الأخلاق مجرد شأن خاص، تكفله الحرية الشخصية.(22/61)
واللامبالاة هذه امتدت لتطال التفكير بالصالح العام الذي بدا متوارياً عن الخطاب الليبرالي، في سياق الادعاء بالمحافظة على القيم الليبرالية وفي طليعتها الحرية الفردية.
--------------------------------------------
الهوامش :
[1] محمد ربيع، الفكر السياسي الغربي، فلسفاته ومناهجه من أفلاطون إلى ماركس، جامعة الكويت، 1994، ص 399-400.
رجاء بهلول، المرأة وأسس الديمقراطية في الفكر النسوي الليبرالي،–المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله، ط1،1998، ص 23-24.
[2] هذا بالنسبة لموقف الليبرالية الكلاسيكية من دور الدولة، لكن الليبرالية تعرضت لتغيرات هامة منذ منتصف القرن التاسع عشر، تحت ضغط الواقع ومرارة التجارب، وبسبب بروز الحركة الاشتراكية، وضغط الحركات العمالية، والثورات التي شهدتها أوروبا 1830و 1848، فظهرت الليبرالية الجديدة، أو ليبرالية الرفاه أو المساواة التي سمحت بتدخل أكبر في الحياة الاقتصادية، لضمان درجة معقولة من العدالة الاجتماعية. بهلول، المرأة وأسس الديمقراطية، ص36. مجموعة من المختصين، قاموس الفكر السياسي، ترجمة د. أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1994، ج2، ص178. ربيع، الفكر السياسي، ص 402.
[3] ربيع، الفكر السياسي، ص401. حسين معلوم، الليبرالية في الفكر العربي، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، ط1، 1992، ص11. د. إكرام بدر الدين، (مفهوم الديمقراطية الليبرالية) في؛ التطور الديمقراطي في مصر، قضايا ومناقشات، د. علي الدين هلال (محرراً)، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة، 1986، ص190.
[4] بدر الدين، مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ص 190-191. سامي خشبة، مصطلحات فكرية، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1994، ص 131. مجموعة من المختصين، قاموس الفكر السياسي، ج2، ص176-177.
[5] بدر الدين، مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ص191.(22/62)
[6] م.ن، مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ص 192.
[7] ربيع، الفكر السياسي، ص 401.
[8] ثيودور ما يرغرين، الليرالية واالموقف الليبرالي، تعريب جورج زيناتي وفوزي قبلاوي، المؤسسة الشرقية للترجمة والنشر (القاهرة)، د. ت، ص 36.
[9] بدر الدين، مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ص197-198. خشبة، مصطلحات فكرية، ص131.
[10] نخبة من الأساتذة المصريين والعرب المختصين (إعداد)، معجم العلوم الاجتماعية، تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص449. بدر الدين، مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ص192.
[11] بدر الدين، مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ص 193- 194.
[12] م.ن، ص 196.
[13] بهلول، المرأة وأسس الديمقراطية، ص26. جون ستيورات مل، أسس الليبرالية السياسية، ترجمة وتقديم وتعليق أ.د إمام عبد الفتاح إمام، أ.د ميشيل متياس، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص8.
[14] محافظة الاتجاهات، ص 23-24.(22/63)
[15] ومن أبرز الباحثين الذين أعلوا من شأن التأثير الثقافي للحملة، كل من، رئيف خوري، الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية في توجهه السياسي والاجتماعي، دار المكشوف، بيروت، ط2، 1973، ص 85-86. لويس عوض، الفكر المصري الحديث، من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط4، 1987 (جزءان في مجلد واحد) ج1، ص9-11. غالي شكري، النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، الدار العربية للكتاب، طبعة جديدة، 1983، ص133-134. وهناك من يؤمن بمحدودية تأثير الحملة في النهضة المصرين الحديثة، إسماعيل مظهر، "أسلوب الفكر العلمي، نشؤه وتطوره في مصر خلال نصف قرن"، المقتطف (القاهرة)، م68، جـ2، 1 فبراير (شباط) 1926م، (ص.ص، 137-145) ص139. د. أحمد عبدالرحيم مصطفى، تطور الفكر السياسي في مصر الحديثة، ص 14. وهناك من يدافع عن فكرة الاستفاقة الذاتية داخل الأزهر الشريف، محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط1، 1996، ص 46-47، وسيشار إليه فيما بعد الأنصاري، الفكر العربي. أنور الجندي، الفكر العربي المعاصر، ص 333-335. وحول حركة الإحياء في الأزهر قبل الحملة، وحول أبرز رموزها الشيخ حسن العطار، انظر، علي الدين هلال، التجديد في الفكر السياسي المصري الحديث، (أصول الفكرة الاشتراكية 1882-1922)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975. ص 14-15، وسيشار إليه فيما بعد، هلال، التجديد.
[16] سامي سليمان السهمي، التعليم والتغيير الاجتماعي في مصر في القرن التاسع عشر، الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة)، 2000، ص 72-75، ص 290-296.(22/64)
[17] أنور عبدالملك، نهضة مصر، ص 198-199. البرت حوراتي، الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، بيروت، د. ط، د.ت، ص 170. هاملتون حب، دراسات في حضارة الإسلام، تحرير ستانفورد شو، وليم يولك، ترجمة إحسان عباس، د. محمد يوسف نجم، د. محمود زايد، دار العلم للميلايين، بيروت، ط2، 1974. ص 321.. هنري لورنس، المملكة المستحيلة، فرنسا وتكوين العالم العربي الحديث، ترجمة بشير السباعي، القاهرة، بيروت، 1997، ط1، ص69-70. عبدالعزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية دراسة في الهوية والوعي، دار المستقبل العربي، القاهرة، ط2، 1985، ص 142.
[18] السهمي، التعليم والتغيير الاجتماعي، ص 280-290. عبداللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، (ثلاثة أجزاء في مجلد واحد) ج2، ص242.
[19] الشقيق الأكبر للزعيم المصري سعد زغلول، تعلم في مصر ودرس الحقوق في فرنسا، وبعد عودته إلى القاهرة عمل في سلك القضاء، وتولى منصب وكيل نظارة الحقانةي. خير الدين الزركلي، الإعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1992، م1، ص194.
[20] لقد أثار هذا الكتاب اهتمام المثقفين ورجال الإصلاح العرب. وتم فيه تقديم انجلترا كنموذج للتطور الاجتماعي – الاقتصادي. الذي يثير الدهشة والإعجاب، ز.أ. ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام، ترجمة بشير السباعي، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط2، 1997، القاهرة، ص 162-163، وسيشار إليه فيما بعد، ليفين، الفكر الاجتماعي. ونظراً لشهرة هذا الكتاب، وأهميته في نظر مسؤولي وزارة المعارف المصرية، فقد قررت الوزارة توزيعه مجاناً على طلبة المرحلة الثانوية. في العشرينات والثلاثينات. إدمون ديمولاس، سر تقدم الانكليز السكسونيين، تعريب، أحمد فتحي زغلول، القاهرة، 1922، ص1-32. عوض، أوراق العمر، ص 262. جب، دراسات، ص 332.(22/65)
[21] د. أحمد زكريا الشلق، رؤية في تحديث الفكر المصري، أحمد فتحي زغلول وقضية التغريب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص 31-32.
[22] محافظة، الاتجاهات، ص 31.
[23] أحمد مصطفى السيد، "هل نؤلف أم نترجم؟ ما هي حاجة الأقطار العربية اليوم؟"، الهلال، م33. ج4، أول ديسمبر (كانون أول) 1924، ص 234. محمد حسين هيكل، "عصر ترجمة أم عصر تأليف"، السياسة الأسبوعية، ع11، 14 نيسان (إبريل)، 1928، ص10-11. وكان لسلامة موسى، وهو أبرز مفكر اشتراكي خلال مرحلة الدراسة موقف مماثل من الترجمة.
[24] عرفت مصر الطباعة لأول مرة مع قدوم الحملة الفرنسية، ثم قدر لمحمد علي أن ينشئ مطبعة في بولاق عام 1821، أسماها "المطبعة الأهلية" وبعدها أنشأت البطريركية الأرثوذكسية للأقباط "المطبعة الأهلية القبطية" عام 1860، وأنشأ عبدالله أبو السعود "مطبعة وادي النيل" في عام 1866، ثم تواصلت عملية التقدم في ميدان الطباعة، مما حقق انتشاراً أوسع للصحافة وللكتاب. على محافظة، الاتجاهات، ص 28.
[25] ومن أهم ما صدر في مصر من صحف ومجلات، "وادي النيل" 1866، "نزهة الأفكار" 1869، "الوطن" القبطية 1877، "مصر"، القبطية 1895، وصحف أبو نظاره المختلفة لصاحبها اليهودي يعقوب صنوع، وصحافة عبدالله النديم مثل "التنكيت والتبكيت" والأستاذ، كما صدرت "الأهرام" 1876 والمقطم (1889). محافظة، الاتجاهات، ص 28-29. عواطف عبدالرحمن، الموسوعة الصحفية، ص 118. تيسير أبو عرجة، المقطم جريدة الاحتلال البريطاني في مصر (1889-1852)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997. وسيشار إليه، أبو عرجة، المقطم، جريدة الاحتلال.(22/66)
[26] أصدرها يعقوب صروف (1852-1927)، وفارس نمر (1854-1951)، في بيروت 1776، ثم في القاهرة 1885 واهتمت بنشر الثقافة الأوروبية وخاصة في الميدان العلمي. وكان أبرز جهودها في نظر سلامة موسى هو الترويج لنظرية التطور "كان المقتطف يلقي في أذهان القراء نظرية التطور ويبدي ويعيد فيها شهراً بعد شهر حتى أشربت عقول طائفة كبيرة منهم بهذه النظرية فتجرأ الناس بذلك على نقد الأساطير" يقصد الدين. سلامة موسى، حرية الفكر وأبطالها في التاريخ دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1961، ص 218. وحول حياة صروف وفكرة يمكن مراجعة: حياة يعقوب صرّوف (الكوكب الأقل والشهاب القافل) الفيلسوف الشرقي الوحيد، مجلة السيدات والرجال، ع8، 31 يوليو 1927، ص 540-546.
فارس نمر، "بعد ستين سنة، ذكريات في عهد الصبا، لأحد منشئي المقتطف"، المقتطف (القاهرة)، م88، جـ5، 1مايو (أيار) 1936، القعدة 1936 10 صفر 135هـ، ص 561-570.
د. محمد حسين هيكل، "المقتطف والحرية الفكرية والاجتماعية في الشرق" المقتطف، م68، جـ6، 1 يونيو (حزيران) 1926/20 ذي القعدة 1344هـ ص 611-614.
[27] أصدرها جورجي زيدان (1861-1914) في القاهرة 1892م، وكانت اهتماماتها ليبرالية واحضة، أولت الكتابات الاجتماعية والفلسفية والأدبية ذات النزعة الليبرالية اهتماماً مميزاً.
[28] أصدرها فرج أنطون (1874-1922) في بيروت 1896، ونشرها في مصر 1899-1905، ورحل بها إلى نيويورك 1906-1908، ثم عاد بها إلى القاهرة. وقد ركزت على نشر الفكر الفرنسي وبالذات الأفكار العقلانية والثورة الفرنسية والأيديولوجيات العلمانية الليبرالية. حوراني، الفكر العربي، ص 306. هلال، التجديد، ص46.
[29] حوراني، الفكر العربي، ص 293-295. أبو عرجة، المقطم، جريدة الاحتلال، ص154-155.(22/67)
[30] يقول إسماعيل مظهر: "المجلات وحدها هي التي أخذت بيدنا وأفسحت أمامنا سبيل الخوض في عُباب الأسلوب اليقيني الحديث، وهي التي قادت دقة الفكر في مصر، وهو يجتاز بحر الأسلوب الغيبي العميق لتتكيف "النهضة" على صورة بدّدت سحب الحياة القديمة بما فيها من ظلمات الفكرة المجردة، لتكشف لنا عن شمس الأسلوب اليقيني الذي لم يصل إلينا من أشعتها إلا قدر ضئيل". إسماعيل مظهر "أسلوب الفكر العلمي نشؤه وتطوره في مصر خلال نصف قرن"، المقتطف (القاهرة)، م68، جـ2، 1 فبراير (شباط) 1926، ص 145.
[31] جب، دراسات، ص 350-351. عبدالعزيز شرف، طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، ص 95-96. مصطفى عبدالرازق، "عيد السياسة الأسبوعية يدخولها عامها الثاني الجديد" نشرت في السياسة بتاريخ 20 مارس 1927، عبدالرازق، آثار، ص 500-502. محمود عزمي، خبايا سياسية، ص 40.
[32] ولد في طهطا، تلقى تعليمه في الأزهر، وتتلمذ على يد الشيخ حسن العطار، وقد انتدب لمرافقة أول بعثة علمية مصرية إلى فرنسا، كإمام لها، وهناك انكب على تعلم اللغة الفرنسية، والاطلاع على الثقافة الأوروبية، وبعد عودته إلى مصر أصدر عدداً من الكتب الهامة، وساهم في حركة الترجمة، وتولى إدارة مدرسة الألسن 1835. وأشرف على تحرير "الوقائع المصرية" 1842، وظل يعمل في حقول التعليم والترجمة، والتأليف لحين وفاته 1873. الزركلي، الأعلام. م3، ص29. ولمزيد من المعلومات يمكن مراجعة، الطهطاوي، الأعمال الكاملة، (المقدمة) بقلم محمد عمارة.
[33] عوض، الفكر المصري الحديث، ج2، ص250-288.
[34] شكري، النهضة والسقوط، ص 152.
[35] مصطفى، تطور الفكر السياسي، ص 23-27. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، ص 401. حسن حنفي، هموم الفكر والوطن، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ج2، ص51.(22/68)
[36] رفاعة الطهطاوي، الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، محمد عمارة (دراسة وتحقيق)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1973، (جزءان) ج1، ص152.
[37] ولد في قرية برنبال في الدقلهية، سافر في بعثة علمية إلى باريس في الفنون العسكرية، وعاد ليعمل في الوظائف العسكرية، وتولى نظارة الأوقاف المصرية، ثم المعارف، وساهم في توسيع التعليم، وأنشأ دار الكتب المصرية، ثم تولى نظارة الأشغال العامة، ثم عاد ليتول نظارة المعارف، وقد ترك عدداً من المؤلفات من أبرزها "الخطط التوفيقية" في عشرين جزءاً، ورواية "علم الدين" وغيرها. توفي في القاهرة 1893. الزركلي، الإعلام، ج4، ص 322. ولمزيد من المعلومات يمكن مراجعة، علي مبارك، الأعمال الكاملة لعلي مبارك، (المقدمة)، بقلم محمد عمارة.
[38] علي مبارك، الأعمال الكاملة لعلي مبارك، د. محمد عمارة (دراسة وتحقيق)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1979. م1، ص105، ص186.
[39] وهي رواية تعليمية موسوعية عرضت الأفكار والمعلومات بأسلوب روائي. ومن خلال السياحة في الزمان والمكان والحضارات. وهي تتحدث عن بطل الرواية الشيخ الأزهري "علم الدين" الذي سافر إلى فرنسا بصحبة المستشرق الإنجليزي، وصحبهما ابنه "برهان الدين".(22/69)
[40] ولد في قرية أسد أباد في أفغانستان عام 1839، وتلقى تعليمه في كابل حيث تعلم اللغة العربية والعلوم الدينية والعقلية، وفي الهند تعلم اللغة الإنجليزية، ورحل حاجاً إلى مكة المكرمة 1857م، وتولى رئاسة وزارة أفغانستان في عهد الأمير محمد أعظم، وبعد عزله انتقل إلى الهند ثم مصر ومكث فيها خلال الفترة 1871-1879، ونفاه الخديوي توفيق عن مصر، فعاد إلى الهند ليقيم فيها ثلاث سنوات، ثم رحل إلى باريس وفيها أصدر مجلة "العروة الوثقى" مع تلميذه محمد عبده، وعاد إلى إيران عام 1889 بناء على دعوة من الشاه ناصر الدين وتولى وزارة الحربية الإيرانية، ثم غادرها بعد أن اختلف مع الشاه، فتنقل في روسيا، ثم عاد إلى فرنسا، ثم رجع إلى إيران، لكن الشاه نفاه إلى العراق، ومنها انتقل إلى انجلترا وفيها أصدر مجلة "ضياء الخافقين" باللغتين العربية والإنجليزية، وانتهى به المطاف في الأستانة ليعيش في كنف السلطان عبد الحميد الثاني في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، توفي فيها عام 1896م، أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1948، ص59-120. ويمكن مراجعة، الأفغاني، الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، المقدمة بقلم محمد عمارة.
[41] هناك من يقلل من شأن جهود الأفغاني في تحقيق ما سبق الإشارة إليه، إذ يرى إسماعيل مظهر أن الأفغاني لم يحقق شيئاً سوى تدعيم "الأسلوب الغيبي" في مواجهة "الأسلوب اليقيني" في التفكير!، إسماعيل مظهر "أسلوب الفكر العلمي نشؤه وتطوره في مصر خلال نصف قرن"، المقتطف (القاهرة)، م 68، جـ2، 1فبراير (شباط) 1926، ص 142.
[42] كان من أبرز تلامذته، الشيخ محمد عبده، عبدالله النديم، أديب اسحق، يعقوب صنوع، سعد زغلول، وغيرهم كثير. محمد عمارة، موقع الفكر الإسلامي الحديث من الاتجاه الليبرالي، الطليعة، السنة الثامنة، 88، أغسطس (آب) 1972، ص 25-35.(22/70)
[43] ولد محمد عبده عام 1266هـ/ 1849 في قرية "مجلة نصر". تلقى تعليمه في كتّاب القرية، ثم في المسجد الأحمدي، ثم في الأزهر عام 1294/1877م، وعمل مدرساً في دار العلوم، كتب في "الأهرام"، وتولى تحرير "الوقائع المصرية" وقد ساعده سعد زغلول في عمله هذا، اشترك في ثورة عرابي 1882، فسجن ثلاثة أشهر، ونفي ثلاث سنوات قضى منها عاماً في بيروت. التحق بالأفغاني في بايس، وساهم معه في إصدار مجلة "العروة الوثقى"، وعاد إلى بيروت ثانية، وفي عام 1888 عاد إلى القاهرة، فراح يعمل في ميادين الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي، وإصلاح الأزهر والقضاء الشرعي، ثم عين عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وتولى الإفتاء في مصر عام 1899، ثم أختير عضواً في مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف والجمعية الخيرة الإسلامية، وتوفي عام 1905م. أحمد أمين، زعماء الإصلاح، ص 280-237. ولمزيد من المعلومات يمكن مراجعة محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، الجزء الأول، وانظر، الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة، المقدمة، بقلم محمد عمارة.
[44] حوارني، الفكر العربي، ص198.
[45] حول مصطلح "التوفيقية"، الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد ص97-106.
[46] مصطفى، تطور الفكر السياسي، ص 36-37.
[47] د. هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، دار النهار للنشر، بيروت، ط2، 1978، ص 95-96.
[48] مجيد خدوري، الاتجاهات السياسية، ص 78.(22/71)
[49] ولد عبد الرحمن الكواكبي في حلب، في بيت عريق وأسرة تتولى نثابة الأشراف. ولها مدرسة تسمى المدرسة الكواكبية، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها. تلقى تعليمه في "المدرسة "الكواكبية" على الطريقة الأزهرية، وتعلم فيما بعد الفارسية والتركية، واعتمد على المطالعة الذاتية في تثقيف ذاته، عمل في الصحافة، فأنشأ جريدة "الشهباء" في حلب، وعمل في القضاء الشرعي، ودواوين الحكومة، تصدى لمظالم الإدارة الحكومية، وتعرض للمحاكمة بسبب مواقفه، واضطر إلى الهجرة إلى مصر، وفيها نشر كتابيه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ثم "أم القرى" وتوفي فيها 1902. أحمد أمين، زعماء الإصلاح، ص249-279. ولمزيد من المعلومات يمكن مراجعة، المقدمة التي كتبها محمد جمال الطحان في مقدمة الأعمال الكاملة للكواكبي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1،1995، ص 37-94.
[50] ولد ببلدة "قرة" بمصر، في عائلة من أصل كردي، نشأ وتعلم في الإسكندرية ثم في القاهرة، ودرس الحقوق في مونبليه بفرنسا، وعمل في سلك القضاء، نال شهرة واسعة بكتابيه "تحرير المرأة" 1899، و"المرأة الجديدة" 1900، وقد ساهم في تأسيس الجامعة عام 1908، وتوفي في القاهرة 1908. الزركلي، الإعلام، م5، ص 184.
[51] ولد في قرية "برقين" التابعة لمركز "السنلاوين" بمصر، وتخرج من مدرسة الحقوق في القاهرة 1889، وعمل في سلك المحاماة وشارك في تأليف حزب "الأمة" 1908، فكان سكرتيره، وحرر صحيفته "الجريدة" حتى 1922، وكان أحد أعضاء "الوفد المصري" وساهم في تأسيس حزب "الأحرار الدستوريون" 1922، وعمل مديراً لدار الكتب المصرية فمديراً للجامعة المصرية عدة مرات، ثم وزيراً للمعارف، والداخلية والخارجية، ثم عضواً في مجلس الشيوخ، ثم رئيساً لمجمع اللغة العربية منذ 1945 حتى وفاته بالقاهرة 1963. الزركلي، الإعلام، م1، ص200.(22/72)
[52] د. حسن حنفي، هموم الفكر والوطن، ص 148. شكري، النهضة والسقوط، ص 237-238.
[53] د. حسين فوزي النجار، أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1975، ص208 .
[54] د. حسين فوزي النجار، لطفي السيد والشخصية المصرية الحديثة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1963، ص198. عفاف لطفي السيد، التجربة الليبرالية، ص336.
[55] وحول أبرز ما قدمه من أفكار ليبرالية، انظر، لطفي السيد، صفحات مطوية، ص 43-44، ص 53-56. النجار، أستاذ الجيل، ص204. وحول موقفه من المبادئ الدستورية والديمقراطية، "خطاب الأستاذ لطفي السيد بدار الحزب الديمقراطي"، السفور، ع238، 3 يونيو (حزيران) 1921، ص4-6.
[56] أحمد لطفي السيد، "تطور حياتنا العقلية"، المقتطف (القاهرة، م88، جـ5، 1 مايو (أيار) 1936م، 10 صفر 1355هـ، ص588-589. النجار، أستاذ الجيل، ص 204-205، النجار، لطفي السيد، ص 138-139. أحمد، لطفي السيد، الحرية ومذاهب الحكم الجديدة، الجريدة، ع 2058، 20 ديسمبر (كانون أول) 1913، ص1. عبداللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية في مصر، (أحمد لطفي السيد في الجريدة)، دار الفكر العربي، ط2، 1961، ج6، ص 24-31.
[57] شرف، طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، ص203.
[58] ولد في قرية (شر نقاش) مديرية الدقهلية عام 1886، حصل على بعثة لدراسة الفلسفة في جامعة باريس عام 1908، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه عام 1913، عاد ليعمل لمدة ستة أشهر أستاذاً في الجامعة، وبعدها فصل من الجامعة لمدة ست سنوات، ليعود إليها عام 1920، تولى عمادة كلية الآداب في الجامعة المصرية، واختير مديراً لدار الكتب، ثم مديراً لجامعة الاسكندرية، وأحيل على التقاعد عام 1946، وتوفي في القاهرة عام 1958، د. منصور فهمي، أبحاث وخطرات، الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة)، 1973، ص20-21.(22/73)
[59] حول حياته ونتاجه الفكري، يمكن مراجعة؛ د. كميل الحاج، الموسوعة الميسّرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي (عربي-إنجليزي)، مكتبة لبنان، بيروت، ط1، 2000م، ص 507-508.
[60] د. منصور فهمي، أبحاث وخطرات، (المقدمات) ص 7-33. محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970، عالم المعرفة (35)، الكويت، نوفمبر (تشرين ثاني) 1980، ص21. الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 58. د. أحمد عبدالحليم عطية "الأخلاق الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر"، شؤون عربية (القاهرة)، ع 69، آذار/مارس، 1992، ص 182. عوض، أوراق العمر، ص 613.
[61] ولد في عام 1888 في قرية "كفر غانم" بالدقهلية في أسرة ذات ثراء، أتم دراسته الابتدائية عام 1901، وحصل على البكالوريوس عام 1905، درس الحقوق في مدرسة الحقوق بالقاهرة، ثم سافر إلى باريس، وحصل من السوربون على درجة الدكتوراه في القانون عام 1912، وبعد عودته إلى مصر، درس في الجامعة لفترة قصيرة، ثم مارس المحاماة، ونشط في ميادين الصحافة والسياسة، فقد كتب في "الجريدة" منذ بواكير الشباب، كما كتب في "السفور" وترأس تحرير "السياسة" طيلة فترة صدورها، كان عضواً في "جماعة السفور"، ثم في "الحزب الديمقراطي المصري" الذي انبثق عنها، ثم عضواً مؤسساً في حزب الأحررا الدستوريين، وتولى رئاسته عام 1942، وقد تقلّد عدداً من المناصب الوزارية كالمعارف، والشؤون الاجتماعية، وتولى رئاسة مجلس الشيوخ 1945-1950 وتوفي في القاهرة 1956. د. حسين فوزي النجار، د. هيكل وتاريخ جيل 1888-1956، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988. ص 9-43، ص 319، ص353.
[62] م. ن، ص 31-33، ص 77-78.(22/74)
[63] حول شخصية الكاتب الفرنسي أناتول فرانس 1844-1924 وأدبه، يمكن مراجعة، علي كامل، أناتول فرانس بعد عشرة أعوام من وفاته. المقتطف، م85، جـ4، أول ديسمبر (كانون أول) 1934، ص422-432. عباس محمود العقاد، مطالعات في الكتب والحياة، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت، ص 243-253.
[64] الشلق، العلمانية والفكر المصري، المجلة التاريخية المصرية (القاهرة)، م 30-31/1983-1984، ص450. جب، دراسات، ص 355.
[65] حول مصطلح "التوفيقية" ومظاهر العودة إلى "التوفيقية"، الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 97-106.
[66] وتصدى مجلس النواب لمناقشة خطر التبشير في مرات عديدة، الدولة المصرية، مجلس النواب، مجموعة محاضر الانعقاد الثالث، م3، محاضر الجلسات 56-74، (7 مايو (أيار) 1933-27 يونيو (حزيران) 1933) جلسة يوم 14 يونيو 1933، المطبعة الأميرية، 1933، ص 1736-1737.
[67] هيكل، مذكرات، ج1، ص272-273. د. هيكل، "الاعتداء المنظم على الإسلام، وواجب الحكومة في المبادرة إلى قمعه"، السياسة، ع2316، 14 إبريل (نيسان) 1930، ص3. د. هيكل، "أيها المبشرون، أرض الله واسعة، فإليكم عن بلاد المسلمين، "السياسة"، القاهرة، ع4162، 31 ديسمبر 1936. ص1-2.
[68] محب الدين الخطيب، "هل كان المعز لدين الله فاتحاً أجنبياً، "السياسة"، (القاهرة)، ع4125، 6 أكتوبر (تشرين أول)، 1936، ص1. الشيخ محمود شلتوت "الإسراء تثبيت وتكريم"، السياسة، القاهرة، ع 4126، 7 أكتوبر (تشرين أول) 1936، ص 1. عبدالمنعم حسين علي "الإصلاح الديني وحاجة الأمة إليه"، السياسة القاهرة، ع 4133، 16 أكتوبر (تشرين أول) 1936، ص 1-2.
[69] محمد حسين هيكل، حياة محمد، مكتبة النهضة المصرية (القاهرة)، ط8، 1963، (المقدمة)، ص2-3.(22/75)
[70] ولد في العام 1889 في قرية مغاغة بمحافظة المنيا، كُف بصره في السادسة من عمره، درس في الأزهر، ثم التحق عام 1908 بالجامعة المصرية، وحصل على درجة الدكتوراه فيها عام 1914، ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى فرنسا، وحصل على درجة الدكتوراه في السوربون عام 1918، وعاد ليعمل أستاذاً للتاريخ القديم بالجامعة المصرية. وفي عام 1928 عين عميداً لكلية الآداب، ولما أبعد عن الجامعة عام 1932 أطلقت عليه الصحافة "عميد الأدب العربي"، ثم عاد إلى الجامعة بعد عامين، وتولى عمادة كلية الآداب 1936-1939. ثم نقل إلى وزارة المعارف عام 1939، وفي العام 1942 أنتدب مديراً لجامعة الإسكندرية عند تأسيسها، وفي العام 1950 عين وزيراً للمعارف، وفي 28 أكتوبر (تشرين أول) 1973توفي في القاهرة. طه حسين ببلوغرافيا 1889-1973، "القاهرة"، القاهرة، ع132 نوفمبر (تشرين ثاني) 1993، ص 120-122.
[71] حول شخصيته وحياته ونتاجه الفكري، يمكن مراجعة؛ الحاج، الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي، ص 226-229.
[72] م.ن، 120-122.
[73] طه حسين، حديث الأربعاء، دار المعارف، القاهرة، ط10، د.ت، (ثلاثة أجزاء) ج3، ص375. عبر طه حسين عن موقفه من هذه المسألة في عدة مقالات جمعت في "حديث الأربعاء"، أما خصمه في هذه المعركة فقد كان مصطفى صادق الرافعي، انظر مصطفى صادق الرافعي، تحت راية القرآن، المعركة بين القديم والجديد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط8، 1983.
[74] عبدالعزيز شرف، طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، ص 169-170. أنور الجندي، الصحافة والسياسة. في مصر منذ نشأتها إلى الحرب العالمية الثانية، مطبعة الرسالة، القاهرة، د.ت، ص402-403.(22/76)
[75] يمكن تكوين فكرة أوضح حول موقفه من التبشير بمراجعة أهم مقالاته في هذه المسألة، وهي: "عوجاء" نُشر بتاريخ 8/8/1933، انظره في، د.طه حسين، تجديد، تحقيق وتقديم محمد سيد كيلاني، دار الفرحاني، القاهرة 1984، ص26-31. "نجدة" نشر بتاريخ 29/8/1933، انظره في، طه حسين، تجديد، ص 132-137. "نداء" نشر بتاريخ 21/9/1933، انظره في، طه حسين، تجديد، ص 253-258. وهي من ألفها إلى يائها تندرج في سياق الحملة على وزارة إسماعيل صدقي، وتقصد إحراجها، وإظهارها في ثوب الحامي للتبشير أو العاجز عن مقاومته.
[76] طه حسين، على هامش السيرة، دار المعارف، القاهرة، 1987، ط31، ص، ي-ك.
[77] قدم في كتابه "من بعيد" رؤية علمانية للعلاقة بين ثالوث الدين والعلم والسياسة، وأكد فيه على علمانية الدولة المصرية. طه حسين، من بعيد، دار العلم للميلايي، بيروت، ط4،1967، ص206-254. أما كتابه "مستقبل الثقافة" فهو يمثل خلاصة فكر طه حسين خلال فترة الدراسة، وهو وإن كان برنامجاً لمستقبل الثقافة والتعليم في مصر بعد معاهدة 1936، فإنه يعبر عن الرؤية الفكرية العامة لطه حسين في ميادين الحياة المختلفة، ويمكن اعتباره آخر مرافعة فكرية لطه حسين خلال فترة ما بين الحربين العالميتين.
[78] ولد في أسوان 1889 لأسرة متواضعة الحال، والده مصري وأمه كردية، درس الابتدائية في أسوان، شغف بالمطالعة، وعمل موظفاً بالسكة الحديدية، وبوزارة الأوقاف بالقاهرة ثم عمل في الصحف والكتابة والتأليف. صلاح زكي أحمد، أعلام النهضة العربية الإسلامية في العصر الحديث، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2001، ص168-175.
[79] "بصمات العقاد الفكرية والأدبية والسياسية على الواقع العربي" الطليعة (القاهرة)، ص2،ع3، مارس (آذار)، 1966، ص129-149.(22/77)
[80] ولد في القاهرة 1891، وتلقى تعليمه في مدارسها، ثم سافر إلى انجلترا، ودرس في جامعة لندن وجامعة أكسفورد خلال افترة 1908-1914، انضم في شبابه للحزب الوطني وكتب في صحافته، ثم أصدر مجلة العصور خلال الفترة 1927-1931، وفيما بعد ترأس تحرير مجلة المقتطف 1945-1948. وتوفي بالقاهرة عام 1964. الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، ط10، 1994، ص 327. ولمزيد من المعلومات حول إسماعيل مظهر وتوجهاته الفكرية، يمكن مراجعة، حنان الخريسات، إسماعيل مظهر مفكراً، رسالة ماجستير في الفلسفة، الجامعة الأردنية، 1984، بإشراف د. أحمد ماضي.
[81] برنامج حزب الفلاح، الطليعة (القاهرة) ع3، مارس (آذار) 1965، ص146-152.
[82] الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة، ص 112-117. أحمد زكريا الشلق، العلمانية في الفكر المصري الحديث. المجلة التاريخية المصرية (القاهرة)، م30، 31 (1983/1984) ص433-478، ص 447-448.
[83] هلال، التجديد، ص 45. شكري، النهضة والسقوط، ص 171-172.
[84] هيلك، "النهضة التركية"، السياسة الأسبوعية، ع83-18 أكتوبر (تشرين أول) 1927، ص1. "تركيا الجديدة والغازي، مشاهدات وآراء كاتب خبير"، كوكب الشرق، ع 650، 13 أكتوبر 1926، ص1. "النساء التركيات والمدنية الغربية"، البلاغ، ع 1251، 23 أبريل (نيسان) 1927، ص1. واهتمت "الهلال" بإجراء استفتاء لمعرفة آراء بعض المثقفين حول موقفهم مما يجري في تركيا.
"هل نقتدي بتركيا، وإلى أي حد؟ "الهلال، م3، ج9، أول يوليه (تموز)، 1935، ص1009-1011. وعند وفاة "أتاتورك" احتفت به الصحافة الليبرالية، ورثته رثاءً مراً "مات أتاتورك"، الأهرام، ع19457، 11/11/1938، ص 1 و3. وفيه ثناء وإطراء وأسف، وإعجاب بإصلاحاته وقراراته السياسية والاجتماعية والعسكرية. "نهضة تركيا ونهضة مصر بمناسبة فقد بطل الترك وذكرى الجهاد الوطني في مصر"، الأهرام، ع(19461) 15/11/1938، ص1-2 والمقارنة كانت لصالح النهضة التركية طبعاً.(22/78)
[85] أنور الجندي، الفكر العربي المعاصر، ص 7، ص14، ص 1570158. رمضان، تطور الحركة الوطنية، ص 281-282.
[86] "مبادئ حزب الأحرار الدستوريين"، الطليعة، ع3، مارس (آذارا)، 1965، ص144-145.
[87] ولد محمود عزمي 1889 بمنيا القمح في محافظة الشرقية، تعلّم في مصر، وحصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من فرنسا، وعمل في الصحافة المصري، وتولى عمادة كلية الحقوق في بغداد عام 1936، ثم عُيّن رئيساً لوفد مصر في الأمم المتحدة، وتُوفي عام 1954 أثناء عمله في نيويورك. الزركلي، الأعلام، م7، ص 177.
[88] الشلق، حزب الأحرار الدستوريين، ص 483، ص518-519.
[89] حوراني، الفكر العربي، ص 386-387. د. ديب، السياسة الحزبية، ص10، ص186.
[90] الرافعي في أعقاب الثورة، ج1، ص181. رمضان، تطور الحركات الوطنية، ص 423.
[91] ديب، السياسة الحزبية، ص 237.
[92] هلال، السياسة والحكم، ص 135-136.
[93] حوراني، الفكر العربي، ص 388. وحول ظروف تحول طه حسين عن الأحرار الدستوريين إلى الوفد. انظر، عوض، أوراق العمر، ص 610.
[94] د. رضوان السيد، "عصر النهضة العربية، الأسئلة الكبيرة والإجابات الحائرة، مجلة الفكر العربي، (بيروت)، ع 39-40، حزيران (يونيو) – تشرين الأول (أكتوبر) 1985، ص4-8.
[95] محافظة، الاتجاهات، ص 171.
[96] م.ن، ص 161-171.(22/79)
[97] سبق للطهطاوي، أن جعل أول حقوق المواطنة التلذذ في الحرية، التي من شأنها أن تخلق مجتمع العدل والكرامة، وجعل من أول واجبات الدولة العدل والحرية، وسيادة القانون. الطهطاوي، مناهج الألباب، الأعمال الكاملة، ج1، ص519، ومجد حرية الصحافة في فرنسا وأبدى إعجابه بها. الطهطاوي، تخليص الأبريز، الأعمال الكاملة، ج2، ص171-172. وجعلها "أقوى شيء في حفظ البلاد، وراحة العباد، وتوسيع دائرة المنافع العمومية، وتأسيس قواعد تمدن الوطنية "ألطهطاوي، مناهج الألباب، الأعمال الكاملة، ج1، ص399. يمكن أن نسوق هذا كمؤشر على اهتمام كبير في الفكر العربي الحديث بهذه المسألة. ولا يمكن إغفال ما قدمه الكواكبي مثلاً في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". وغيره من المفكرين، ولمزيد من المعلومات حول صورة إجمالية لموقف الفكر العربي في عصر النهضة من مسألة الحرية، انظر، محافظة، الاتجاهات، ص 171-177.
[98] أحمد لطفي السيد، "الحرية ومذاهب الحكم"، الجريدة (القاهرة) ع2058، 20 ديسمبر (كانون أول) 1913، ص 3. النجار، أستاذ الجيل، ص204-205، ص 208.
[99] أحمد لطفي السيد، صفحات مطوية، ص 43-44، ص53، ص187. وحول موقف لطفي السيد من الحرية انظر، البرت حوراني، الفكر العربي، ص 212-214. د. أمير بقطر، "الحرية مالها وما عليها"، الهلال، م45، ج1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1936، ص 80.
[100] سنتحدث عن رؤية التيار الليبرالي لبعض جوانب الحرية، كحرية المرأة، والحريات الاقتصادية، والاجتماعية، في المكان الملائم فيما بعد.
[101] مصطفى عبدالرازق، "الجمود العقلي والجمود الديني"، مصطفى عبدالرازق، آثار، ص500-502. وكانت المقالة قد نشرت في "ألسياسة" 20 مارس (آذار) 1927.
[102] د. محمود عزمي، "لماذا لبست القبعة؟"، "الهلال"، م36، ج1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1927، ص 52-56.
[103] علي عبدالرازق، "حرية الفكر"، الهلال/ م40، ج1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1931، ص19-20.(22/80)
[104] إسماعيل مظهر، "طبائع المدنية الحديثة، مدينة الفرد ومدنية الجماهير"، المقتطف (القاهرة)، م68، جـ3، 1 مارس (آذار) 1926، ص.ص، 274-279.
[105] العقاد، "حرية الفكر هي حرية الحياة"، الهلال م45، ج1، (أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1936). ص 22-25.
[106] عباس محمود العقاد، ساعات بين الكتب، مطبعة المقتطف والمقطم (القاهرة)، 1929، جـ1، ص92.
[107] د. هيكل، "ثقافتنا الديمقراطية" السياسة الأسبوعية، س6، ع5، 13 فبراير (شباط) 1937. ص 12-13.
[108] د. طه حسين، "بعض وجهات التفكير الحديث"، الهلال، م45، ج4، أول فبراير (شباط) 1937، ص 361-366.
[109] علي عبدالرازق، "الديمقراطية والدين"، الهلال، م 43، ج7، أول مايو (أيار) 1935، ص 777-783.
[110] محمود عزمي، "الديمقراطية الحديثة قواعد علم الاجتماع وتطبيقها على الأنظمة العامة"، الهلال، م37، ج8، (أول يونيو (حزيران) 1929)، ص 933-936.
[111] أميل زيدان، "تبعات الاستقلال"، الهلال، م45، 45، ج1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1936، ص5.
[112] غصّت الصحافة المصرية بالدعوات للتأسي بتركيا الجديدة، والتنويه بمنجزات كما أتاتورك. انظر مثلاً، "الأحوال في تركيا الحاضرة"، المقتطف، م68، جـ4، 11 إبريل (نيسان) 1926، ص410-413.
[113] لمزيد من المعلومات حول هذه القضية، انظر علي عبدالرازق، الإسلام وأصول الحكم، (دراسة ووثائق) بقلم، محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1977.(22/81)
[114] يقول سعد زغلول: "وقد قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت في من طعن منهم في الإسلام حدة كهذه الحدة في التعبير على نحو ما كتب الشيخ علي عبدالرازق، لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعي إن الإسلام ليس مدنياً، وولا هو بنظام يصلح للحكم؟؟ فأية ناحية مدنية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟ هل البيع أو الإجارة أو الهبة، أو أي نوع آخر من المعاملات؟ ألم يدرس شيئاً من هذا في الأزهر؟ أو لم يقرأ أن أمماً كثيرة حكمت بقواعد الإسلام فقط عهوداً طويلة كانت انظر العصور؟ وأن أمما لا تزال تحكم بهذه القواعد، وهي آمنة مطمئة؟ فكيف لا يكون إلاسلام مدنياً ودين حكم؟؟" م.ن، ص109.
[115] علي عبدالرازق، الإسلام وأصول الحكم (دراسة ووثائق) بقلم محمد عمارة، ص26-27.
[116] كان حزب الأحرار الدستوريين على صلة وثيقة بأسرة "عبدالرازق"، كما كان علي عبدالرازق أحمد مناصري الحزب، هيكل، مذكرات، ح1، ص 196.
[117] أقيل رئيس الحزب عبدالعزيز فهمي من منصبه كوزير للحقانية لرفضه فصل علي عبدالرازق من القضاء، مما دفع عضوي الوزراة من الأحرار الدستوريين، وهما محمد علي علوبة، وتوفيق دوس إلى الاستقالة احتجاجاً على إقالة زميلهم. الرافعي، في أعقاب الثورة، ج1، ص226-227. هيكل، مذكرات، ج1، ص194-203.
كما قررتهيئة كبار العلماء، إخراج الشيخ علي عبدالرازق من زمرة علماء الأزهر ومن القضاء الشرعي. ثم عاد فيما بعد إلى زمرة العلماء، كما عين وزير للأوقاف في عام 1949. محمد عمارة، "دراسة ووثائق" الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، ص 72-91. يونان، الوزارات، ص489.
[118] محمد عمارة "دراسة ووثائق"، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، ص 31-34.
[119] م. ن، ص 34-35.
[120] النص الكامل لكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، القاهرة، (القاهرة) ع149، إبريل (نيسان) 1995- ص21-81.(22/82)
[121] لمعرفة أهم الانتقادات التي وجهت للكتاب، يمكن مراجعة النص الكامل لقرار النيابة في قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" القاهرة (القاهرة)، ع 149، إبريل (نيسان) 1995، ص 82-94. محمد فريد وجدي، نقد كتاب في الشعر الجاهلي، القاهرة، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين، 1926.
[122] النص الكامل لكتاب "في الشعر الجاهلي"، لطه حسين، القاهرة (القاهرة)، ع149، إبريل (نيسان) 1995، ص 31.
[123] محمد فريد وجدي، "نقد كتاب في الشعر الجاهلي"، كوكب الشرق، القاهرة، ع647. 19 أكتوبر (تشرين أول) 1926، ص1. كوكب الشرق، ع648، 11 أكتوبر (تشرين أول) 1926، ص1. وحول التحقيق مع طه حسين، كوكب الشرق، ع663، 28 أكتوبر (تشرين أول) 1926، ص4-5. وحول موقف الوفد من هذه الأزمة، غالي شكري، النهضة والسقوط، ص 255. أنور الجندي، المعارك الأدبية، في مصر منذ 1914/1939، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1983، ص 346-378.
[124] العصبة الدستورية اللادينية، إلحادهم ودين سعد"، كوكب الشرق، (القاهرة)، ع208، 22 مايو (أيار) 1925، ص5. وحول البعد السياسي في موقف الوفد، شكري، النهضة والسقوط، ص 255.
[125] د. طه حسين، من بعيد، ص 206-238.
[126] م.ن، ص 239 – 251.
[127] د. طه حسين، تجديد، تحقيق وتقديم محمد سيد كيلاني، دار الفرجاني، القاهرة، 1984، ص 24-25.
[128] إسماعيل مظهر، "وثبة الشرق"، العصور، (القاهرة)، م6، ع29، يناير (كانون ثاني)، 1930، ص 115.
[129] إسماعيل مظهر، "أسلوب الفكر العلمي، نشوزه وتطوره في مصر خلال نصف قرن" المقتطف (القاهرة) م68، جـ2، 1 فبراير (شباط) 1926، ص 145.(22/83)
[130] العصور، م1،ع1، أيلول 1927، ص 1-16. ونشرت "العصور" العديد من المقالات التي تروج للإلحاد وتدعو له؛ حسين محمود "لما أنا ملحد؟" الصعور، م1، ع4، ديسمبر (كانون أول) 1927، ص318-327. إسماعيل مظهر، "علاقة الإنسان بالله، العصور، م2، ع9، مايو (أيار) 1928، ص 913-924. إسماعيل مظهر، "حرية الفكر"، العصور، م2، ع11، يوليه (تموز) 1928، ص 1169-1180.
[131] طه حسين، "فرعونية، أم عربية، أم غربية"، الهلال، م39، ع6، أول إبريل (نيسان)، 1931، ص822.
[132] د. هيكل، "في سبيل حياة جديدة، المعرفة أساس إيمان المستقبل" السياسة الأسبوعية، ع73، 30 يوليو (تموز) 1927، ص 10-11.
[133] محمد زكي عبدالقادر، "نصيبنا من النهضة الغربية، إنما نُعنى بالعرض ونترك الجوهر"، الساسة الأسبوعية، ع 191، 2 نوفمبر (تشرين ثاني) 1929، ص 10.
[134] إسماعيل مظهر، "العلم والاجتماع" المقتطف (القاهرة)، م88، جـ5، 1 مايو (أيار) 1936م، ص.ص 602 -607.
[135] د. محمد حسين هيكل، "العقل والروح، وجوب تعاونهما لإقامة الحضارة،"، السياسة الأسبوعية، ع167، 18 مايو (أيار)، 1929، ص1.
[136] أحمد أمين، "أكاذيب المدنية"، الهلال، م45، ع7، أول مايو (أيار)، 1937. ص 729-733.
[137] د. محمد حسين هيكل، "النور الجديد أياً يكون مطلعه؟"، الهلال (القاهرة)، م36، جـ4، أول فبراير (شباط) 1928، ص399-403.
[138] معن زيادة، المجتمع المدني والدولة في فكر النهضة العربية الحديثة"، في المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية (ندوة)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، ص155. د. محمد عابد الجابري، "إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، صراع طبقي أم مشكل ثقافي؟"، المستقبل العربي، س7، ع69، تشرين ثاني (نوفمبر)، 1984، ص56.(22/84)
[139] محمد بدوي، "ملاحظات حول الفكر والأيديلوجيا في مصر الحديثة، الاجتهاد"، س3، ع10، 11، 1991/ 1412هـ، ص(143-172)، ص 161.
[140] رفاعة الطهطاوي، مناهج الألباب، الأعمال الكاملة، ج1، ص534.
[141] معن زيادة، "المجتمع المدين والدولة في فكر النهضة العربية الحديثة، ص 171. حوراني، الفكر العربي، ص 106.
[142] طه حسين، إجابة في استفتاء أجرته مجلة الهلال، الهلال، م31، ج2، أول نوفمبر (تشرين الثاني)، 1922، ص347.
[143] طه حسين، من بعيد، ص 253.
[144] منصور فهمي، "مشخصات الشرق"، الرابطة الشرقية، القاهرة، ع1، 145، نوفمبر 1929، ص29-30، ص 29.
[145] م.ن، ص 30.
[146] مصطفى عبدالرازق، "مصر كما أريدها" استفتاء أجرته مجلة الهلال، م39، جـ1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1930، ص23.
[147] د. منصور فهمي، "موقف الشرق من حضارة الغرب"، الهلال، م40، ع1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1931 ص 49-59، ص 53.
[148] م.ن، ص56.
[149] م.ن، ص 58-59.
[150] يتكلم عن مجرد كتلة شرقية تتكلم لغة عربية، وليس عن أمة واحدة تجمعها روابط مشتركة فتخلق لها كياناً متميزاً عن غيرها. وهو هنا يعبر عن إيمانه بالقومية المصرية الفرعونية، والصلة بين مصر ومحيطها العربي الإسلامي، هي فقط اللغة العربية التي تتكلمها هذه الشعوب.
[151] د. محمود عزمي "لماذا لبست القبعة؟" الهلال، م 36، ع1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1927، ص52-56.
[152] د. طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، دار المعارف، القاهرة، د. ت، د. ط، ص 18.
[153] م.ن، ص 22.
[154] م.ن، ص 28.
[155] م.ن، ص 41.
[156] م.ن، ص 44.
[157] م. ن، ص 50.
[158] طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، ص39.
[159] م.ن، ص 33.
[160] سامي الجريديني، "النهضة الشرقية الحديثة"، المقتطف (القاهرة)، م70، جـ2، 1 فبراير (شباط) 1927، ص 134-135.
[161] محمد حسين هيكل، حياة محمد، (المقدمة)، ص 2-3، ص17.(22/85)
[162] د. هيكل، "الفنون الرفيعة وأثرها في حياة شرقنا العربي"، الهلال، م42، ع1، أول نوفمبر (تشرين ثاني) 1933. ص 19-21.
[163] د. منصور فهمي، "مشخصات الشرق"، الرابطة الشرقية، س 2، ع1، 15 نوفمبر (تشرين ثاني) 1929، ص 29-30.
د. منصور فهمي، "مصير المدنية وموقف الشرق منها في المآل"، الهلال، م40، ع4، أول فبراير (شباط) 1932، ص 513-520.
[164] لوسي يعقوب، عصفور الشرق، توفيق الحكيم، ص 205. الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة، ص 77. شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر، ص 392.
[165] د. محمد حسين هيكل، في منزل الوحي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1356هـ، ص23.
[166] محمد حسين هيكل، حياة محمد، (المقدمة) ص15.
[167] قدم الطهطاوي في فترة مبكرة، صورة النموذج النسوي المنشود، في حديثه عن المرأة الباريسية، في "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" الصادر عام 1834. ثم قدم دفاعاً عن حقوق المرأة في مؤلفات أخرى منها: "المرشد الأمين" 1873.(22/86)
[168] اتخذ الليبراليون من قاسم أمين رائداً في هذا الميدان، لما قدمه من معالجات فكرية لقضية المرأة، بدأت بإصدار كتاب "المصريون" 1884 باللغة الفرنسية، وهو خطاب دفاعي رداً على الفرنسي "دوق دار كور" في كتابه "مصر والمصريون"، يدافع عن وضع المرأة في الإسلام، والمجتمع الإسلامي، ثم قدم كتابه الهام "تحرير المرأة" 1899، وهو خطاب نقدي لاذع، ينقد وضع المرأة المصرية، معتبراً هذا الوضع أحد أسباب التخلف، ويقال بأن الشيخ محمد عبده يقف خلف الآراء الفقهية الواردة فيه (الشيخ عبدالعزيز البشري، كلمة الشيخ في حفل إحياء ذكرى قاسم أمين، السياسة الأسبوعية، ع114، 15 مايو 1928، ص15) وقد أثار موجة من الردود في الصحافة وفي التأليف، فقد صدر عدد كبير من الكتب للرد على قاسم أمين، (علي محافظة، الاتجاهات الفكرية، ص 195) ثم أصدر قاسم أمين كتابه الأخير للرد على هذه الردود، وهو "المرأة الجديدة" 1900، وقد تطور موقفه ؛ فهو هنا يستبدل آراء مفكري الغرب بالنصوص الشرعية للتدليل على صحة آرائه، قاسم أمين، الأعمال الكاملة لقاسم أمين، د. محمد عمارة (دارسة وتحقيق)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1976، (جزءان في مجلد واحد)، المرأة الجديدة، ج2، ص175-176).
[169] د. محمد حسين هيكل، "الاحتفال بذكرى قاسم لمناسبة انقضاء عشرين عاماً على وفاته"، السياسة الأسبوعية، ع113، 5 مايو (أيار) 1928، ص 3-4.
[170] مثلاً اهتمت مجلة الهلال، بنشر استفتاءات متتالية حول مسائل اجتماعية متنوعة، من أبرزها قضية المرأة، وكانت تعرض ردود أبرز مشاهير الكتاب والمفكرين الذين تختارهم بعناية، ولخدمة توجهات تريدها المجلة، مثلاً "عن زواج الشرقيين بالغربيات"، الهلال، م32، ع12، ديسمبر (كانون أول) 1923، ص253-258.(22/87)
[171] عرفت مصر منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، صحافة نسائية وتشرف على تحريرها نساء كن في أغلبهن من النصرانيات السوريات أو القبطيات (هناك دراسة هامة حول الصحافة النسائية في مصر لما قبل 1919، بث بارون "النهضة النسائية في مصر، الثقافة والمجتمع والصحافة" ترجمة، لميس النقاش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999). وفي فترة الدراسة، كان للصحافة حضور ملموس. فقد صدرت مجلة (المرأة المصرية)، 1920 لصاحبتها بسلم عبدالملك، ومجلة (السيدات) لصاحبتها روزا أنطون حداد، وصحيفة (الرجاء) الأسبوعية التي أصدرتها ليلى عبدالحميد الشريف، عام 1922، ومجلة (السيدات) الشهرية التي أصدرتها لبيبة هاشم، عام 1921، فاروق أبو زيد، الفكر الليبرالي في الصحافة المصرية، عالم الكتب، القاهرة، د.ط، د.ت ص 465.
[172] شارك وفد نسائي مصري مكون من هدى شعراوي، ونبوية موسى، وسيزا نبراوي، ومدام ويصا واصف، وريجينا خياط، في أعمال مؤتمر السيدات العالمي في روما 1923. وفي طريق العودة إلى القاهرة قررن خلع الحجاب (غطاء الوجه) مجرد النزول في محطة القاهرة، كما قررن (إصدار مجلة نسائية ناطقة بالفرنسية لشرح قضية المرأة المصرية، ومخاطبة الأجنبيات، وقد صدرت مجلة المصرية عام 1925-1940. وترأست هدى شعراوي هيئة تحريرها، ثم أصدرت السيدة هدى شعراوي مجلة "المرأة المصرية" باللغة العربية، 1937-1940، (د. جورحيث عطيه إبراهيم، هدى شعراوي، الزمن الريادة، دار عطيه للنشر، ضبية، لبنان، ط1، 1982، جزءان، ج2، ص7-13). لقاء مع سيزا نبراوي، الأسبوع، القاهرة، ع2، 9 مايو 1934، ص6.
[173] د. آمال السبكي، الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين 1919 و 1952، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص 107-109.(22/88)
[174] "المرأة الجديدة في تركيا الجديدة، نحو الحرية والمساواة" (بدون توقيع)، الهلال، م 33، ج1، أول أكتوبر 1924، ص 67-69. "الحركة النسائية في تركيا الجديدة، حديث لرئيسة الاتحاد النسوي التركي، نزهة هانم محي الدين"، السياسة الأسبوعية، ع71، 16 يوليو (تموز)، 1927، ص 8. "المرأة التركية الجديدة نهضتها وآمالها"، المقتطف م85، جـ1، 1 يوليو 1934، ص 101-105. "النساء التركيات والمدنية الغربية"، البلاغ، ع1251، 23 إبريل (نيسان) 1927، ص 1.
[175] يقول الطهطاوي، "إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي في كشفهن أو سترهن بل منشأ ذلك التربية الجيدة والحسنة "الطهطاوي، (تلخيص الإبريز)، الأعمال الكاملة، ج1، ص110.
[176] مبارك، الأعمال الكاملة لعلي مبارك، ج1، ص280.
[177] قاسم أمين، (تحرير المرأة)، الأعمال الكاملة، ج2، ص78.
[178] م.ن، ج2، ص43.
[179] م.ن، ج2، ص45-48، ص52.
[180] م.ن، ج2، ص62.
[181] قاسم أمين، (المرأة الجديدة)، الأعمال الكاملة، ج2، ص153.
[182] م.ن، ص 197.
[183] قاسم أمين (تحرير المرأة)، الأعمال الكاملة، ج2، ص62.
[184] فهذه نبوية موسى، تطالب بكشف الوجه. والحجاب في رأيها لا يعني "دفن النساء في المنازل، ولو كان الأمر كذلك لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بغض أبصارهم، وعمن يغض الرجل نظره إذا كانت المرأة سحينة المنزل" !! نبوية موسى، "السفور والحجاب"، السفور، ع238، 28 مايو (أيار) 1920، ص2.
وهذا الشيخ مصطفى عبدالرازق يتحدث في المسألة في ذات السياق، ويرفض عزل المرأة عن الحياة ويشرح مساوئ وسلبيات التمسك بالحجاب فهو يؤدي بالمرأة إلى "الشعور بالعجز، والحاجة للحماية، وإلى ضعف النفس وضعف الجسم معًا ". مصطفى عبدالرازق، في الإجابة على استفتاء، الهلال، م33، ع5، أول فبراير (شباط) 1925 ص473-474.(22/89)
[185] عبدالحميد حمدي، "حول السفور"، السفور، ع241، 2 يوليو (تموز)، 1920، ص2. وقد كتب أيضاً سلسلة من المقالات بعنوان: "تحرير المرأة" نشرها في السفور، الأعداد، 242-248 الصادرة خلال الفترة 9 يوليو (تموز) 1920، 12 أكتوبر (تشرين أول) 1920. وتحرص "السفور" –توضيحاً لموقفها، ودفعاً للاتهام- على نشر صورة لامرأة تركية ترتدي زياً شرعياً لا يظهر منها سوى الوجه والكفين، على أنه النموذج الذي تطالب به "السفور" كزي وحجاب شرعي !! للمرأة المصرية. فتقول "هذا هو نوع الحجاب الذي ندعو إليه أيها السادة الحجابيون- جئناكم بصورته حتى لا تدعوا علينا أننا نريد لنسائنا الخروج عن حدود الآداب الشرعية، وتخطي أصول الآداب والاحتشام. فما هو حجابكم الذي تدافعون عنه ؟ أهو هذه الملاءات المهلهلة والبراقع الشفافة.. أم لديكم نموذج آخر من الحجاب، نجهله؟" !! "السفور"، ع239، 4 يونيو (حزيران). 192.
[186] نقولا يوسف، "حجاب المصرية، وما جلبه على المجتمع المصري"، السياسة الأسبوعية، ع103، 25 فبراير (شباط) 1928، ص7. يوسف حنا، "نشأتي واحتجاجي، مذكرات فتاة"، السياسة الأسبوعية، ع172، 22 يونيو (حزيران) 1929، ص8.
"لكاتب وأديب وناقد معروف"، "البرقع"، السياسة الأسبوعية، ع37، 20 نوفمبر (تشرين ثاني) 1926، ص 165.
[187] حافظ محمود، "جناية التحجب على الأدب"، السياسة الأسبوعية، ع104، 3مارس (آذار) 1928. ص 7.
[188] علي عبدالرازق، "السفور والحجاب على ذكر كتاب الآنسة نظيرة زين الدين"، الهلال، م36، ع10، أول أغسطس (آب) 1928، ص1190-1192.(22/90)
[189] "صور سيدات بلباس البحر، وجماعة من الشبان والشابات يرقصون على أنغام كلاسيكية، المصور (وفدية)، ع40، 17 يوليو (تموز) 1925، ص13. وانظر صور مماثلة وتعليقات مشابهة، السياسة الأسبوعية، ع156، مارس (آذار) 1929، ص 15. "معرض الصور المصرية في الإسكندرية من ضمنها صور عارية تماماً"، السياسة الأسبوعية، ع144، 8ديسمبر (كانون أول) 1928، ص14. "صور لأزياء الشاطئ في أوروبا"، السياسة الأسبوعية، ع176، 20 يوليو (تموز) 1929، ص14-15. "تطور الأزياء النسائية في العالم"، السياسة الأسبوعية، ع192، 9 نوفمبر (تشرين ثاني) 1929، ص 14-15. "مباريات الجمال للنساء" الأسبوع (وفدية) ع1، 29 نوفمبر 1933، ص 18.
"المودة عيوبها ومحاسنها"، السياسة الأسبوعية، ع52، 5 مارس (آذار)، 1927، ص7. "المودة أيضاً"، السياسة الأسبوعية، ع84، 15 أكتوبر (تشرين أول) 1927، ص 5.
[190] إبراهيم المازني، "اختلاط الجنسين طرفا الغلو"، السياسة الأسبوعية، ع159، 23 مارس (آذار) 1929، ص 1-2.
[191] محمد حسني عبدالحميد "في المنع ضرر وسؤ ظن، الاختلاط بين الجنسين مشروع"، السياسة الأسبوعية، ع73، 30 يوليو (حزيران)، 1927، ص 8.
[192] د. محمود عزمي، "مدى النهضة النسوية في مصر والشرق الأوسط، لا إصلاح من غير اختلاط وتعادل فكري بين الجنسين"، الهلال، م36، ع8، أول يونيو (جزيران) 1928، ص925-928.
[193] إبراهيم المصري (قبطي)، "بعد السفور وجوب تكوين المجتمع المصري المختلط"، الهلال، م46، ع3، أول يناير (كانون ثاني) 1928/ ص 269-272. وحول نفس المعاني، عليه فهمي (خريجة السوربون)، "حقوق المرأة المصرية في الهيئة الاجتماعية"، الأهرام، ع17895، 23/4/1937، ص 1، ص5.
[194] الطهطاوي، المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين، الأعمال الكاملة، م1، ص207-208.
[195] علي مبارك، الأعمال الكاملة، ج1، ص182، ص 276-278.
[196] قاسم أمين، "تحرير المرأة"، الأعمال الكاملة، ح2، ص20.(22/91)
[197] م.ن، ج2، ص 36.
[198] قاسم أمين، "المرأة الجديدة"، الأعمال الكاملة، ج2، ص197-199.
[199] م.ن، ج2, ص203.
[200] "عُليه" (خريجة السوربون) "المرأة المصرية" السفور، ع 204، 5 يونيو (حزيران)، 1919، ص4.
[201] برنامج الاتحاد النسائي المصري، في د. آمال السبكي، الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين 1919 و1952، ص202.
[202] د. منصور فهمي "التربية المشتركة بين الجنسين"، الهلال، م38، ع6، أول إبريل (نيسان)، 1930، ص660-664.
[203] نظمي خليل، "اختلاط الجنسين في التعليم القومي يقوي الخلق ويصلح المجتمع" الهلال، م45، ع7، مايو (أيار)، 1937، ص 733-775.
[204] د. أمير بقطر "قبطي"، كان يعمل أستاذاً للتربية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
[205] د. أمير بقطر، "التعليم المختلط وأثره في توجيه العواطف بين الجنسين"، الهلال، م 47، ع2، أول ديسمبر (كانون أول) 1938 ص 140-143.
[206] د. أمير بقطر "تجارب جديدة في التربية للناس فيما يدرسون مذاهب"، الهلال، م46، ع7، أول مايو (أيار)، 1938، ص 726- 731.
[207] تحدث النطهطاوي عن عمل المرأة عند الحاجة، وفيما يناسبها من الأعمال، وهذا يخرجها من حالة البطالة المذمومة الطهطاوي، المرشد الأمين، الأعمال الكاملة، م1، ص211-212.(22/92)
[208] أكد قاسم أمين على ضرورة أن تتأسى المرأة المصرية بخطوات المرأة الغربية "ولا شيء يمنع المرأة المصرية من أن تشتغل مثل الغربية بالعلوم والآداب والفنون الجملية والتجارة والصناعة إلا جهلها وإهمال تربيتها" قاسم أمين، تحرير المرأة، الأعمال الكاملة، ج2، ص21. وهو ينادي بالتخلص من هذه المعيقات اعتقاداً منه بأن "من عوامل الضعف في كل مجتمع إنساني أن يكون العدد العظيم من أفراده كلاً لا عمل له" لذلك فهو يعارض "حجب" المرأة في داخل البيت. قاسم أمين، تحرير المرأة، الأعمال الكاملة، م1، ص21-23. وفي كتابه "المرأة الجديدة" أصبح يؤكد على ضرورة نبذ فكرة أن تربى الفتاة لتكون زوجة فقط، وأنه لابد من الإقرار بحقها في العمل خارج المنزل عند الضرورة. قاسم أمين، المرأة الجديدة، الأعمال الكاملة، م2، ص170-173.
[209] العقاد "المرأة الشرقية"، الهلال، م33، ج2، أول نوفمبر 1924، ص143-145. وانظر، "صفات المرأة، (نُشر في البلاغ 26 نوفمبر (تشرين ثاني)، 1923)، في عباس محمود العقاد، مطالعات في الكتب والحياة، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 161-173.
[210] عباس محمود العقاد، ساعات بين الكتب، مطبعة المقتطف والمقطم، 1929، جـ1، ص18، ص60، ويمكن قراءة نفس المضامين في هذه المسألة في عباس محمود العقاد، مطالعات في الكتب والحياة، ص 152-160.
[211] علي سعد مراد، "هل تعمل المرأة المتزوجة، السياسة الأسبوعية، ع100، 4 فبراير (شباط) 1928، ص 7. محمد الصباحي، "مملكة المرأة، وثبة المرأة التركية من مقتضيات نهوض الأمة المستيقظة"، السيدات والرجال (القاهرة)، ع9، 31 أغسطس (آب) 1927، ص581-584.
[212] د. منصور فهمي، "عقلية المرأة وعقلية الرجل"، الهلال، م38، ج4، أول فبراير (شباط)، 1930، ص 404-406، ص 406.
[213] توفيق الحكيم، "نهضة المرأة، ولماذا يقاومها بعض المصريين"، المقطم، ع 15486، 12 يوليو (تموز) 1939، ص 3.(22/93)
[214] كان الطهطاوي قد عارض أن تشغل المرأة المناصب السياسية العليا، لمبررات تتعلق بطبيعة المرأة وقدرتها وصفاتها، ولحكمة شرعية تصون المرأة عن متاعب هذه المناصب ومشاقها وما تتطلبه من "الاختلاط" بالرجال. الطهطاوي، الأعمال الكاملة، ج1، ص213. أما قاسم أمين فقد تعامل مع المسألة بعد نصف قرن في ذات السياق من الشعور بأن الاشتغال بها سابق لأوانه فيقول: "إن المرأة المصرية ليست مستعدة اليوم لشيء مطلقاً، ويلزمها أن تقضي أعوامها في تربية علقها بالعلم والتجارب حتى تتهيأ إلى مسابقة الرجال في ميادين الحياة العمومية" قاسم أمين، المرأة الجديدة، الأعمال الكاملة، ج2، ص 161، لكنه يقر حقها في العمل في الإفتاء أو القضاء أو الحكم بين الناس بالعدل. قاسم أمين، المرأة الجديدة، الأعمال الكاملة، ج2، ص122. ومن الطبيعي أن لا يتحدث هنا عن حقوق سياسية كالانتخابات والترشيح. لأنها غير معروفة وغير موجودة بالنسبة للرجل نفسه حتى الآن.
[215] احتفت الصحافة الليبرالية بتعيين خالدة أديب وزيرة للمعارف في تركيا، عبد الحميد حمدي "نهضة المرأة، أول وزيرة في العالم"، السفور، ع128، 28 مايو 1920، ص 2. وكتب (س. بسطا) يؤيد منح المرأة الحق في الانتخابات، مع إقراره بأنها خطوة متقدمة لم يحن موعدها بعد، المقطم، ع 10232، 1نوفمبر (تشرين ثاني) 1922، ص 2.(22/94)
إبراهيم حلمي، "المرأة والانتخابات السياسية، حجج المناصرين والمعارضين"، الهلال، م31، ع8، أول مايو (أيار) 1923، ص821-826. جان كانورد (مترجم)، "لماذا البدء بالحقوق السياسية قبل الاجتماعية والاقتصادية"، السياسة، ع 769، 20 إبريل (نيسان) 1925، ص3. الليدي ببرسن، (مترجم) "المرأة السياسية، هل هي أسعد حالاً من غيرها؟ وهل تحرير المرأة مصلحة اجتماعية"، السياسة الأسبوعية، ع172، 22 يونيو (حزيران) 1922، ص7. "أخبار النساء في أمريكا وأوروبا ونيلهن حقوقاً سياسية في أمريكا"، السياسة الأسبوعية، ع161، 16 إبريل (نيسان)، 1929، ص 6-8. "في بلاد الكواعب، تحرير المرأة الحديثة في إسبانيا آخر معاقل النساء المحافظات في أوروبا"، السياسة الأسبوعية، ع175، 13 يوليو (تموز)، 1929، ص6. "النساء في البرلمان البريطاني، هل حققن الآمال المعقودة عليهن؟ المرأة لا تثق بالمرأة"، السياسة الأسبوعية، ع178، 13 أغسطس (آب)، 1929، ص21. "حقوق المرأة في فرنسا"، السياسة الأسبوعية، ع 194، 23 نوفمبر (تشرين ثاني) 1929، ص 16.
محمد جميل بيهم، "المرأة والحقوق السياسية في التمدن الحديث"، المقتطف، م70، جـ3، 1مارس (آذار) 1927، ص 253-256.
[216] لم يتحقق هذا المطلب إلا في عام 1956. د. مارجو بدران، رائدات الحركة النسوية، ص340.
[217] نصت المادة الخامسة من قانون الاتحاد النسائي على "تعديل قانون الانتخابات باشراك النساء مع الرجال في حق الانتخاب.."، د. آمال السبكي، الحركة النسائية في مصر، ص202.(22/95)
[218] هدى شعراوي، "عشية الانتخابات"، "المصرية"، ع3، نيسان (إبريل) 1925، (مقالات هدى شعراوي في مجلة (المصرية) منشورة في، د. جورجيت عطية إبراهيم، هدى شعراوي الزمن والريادة، جـ2، ص 21-23. منيرة ثابت، "نداء السيدات إلى الشعب المصري"، كوكب الشرق، ع97، 10يناير (كانون ثاني) 1925، ص5. وكأن هدى شعرواي أصبحت أكثر هدوءًا في المطالبة بحق المرأة في الانتخاب والترشيح، فلم تعد في الثلاثينيات تلح على هذا المطللب، ولم تعد تتحدث عنه إلا بطرق غير مباشرة عبر المطالبة بأن يمثل البرلمان، جميع الأمة لا بضعها، وبالمطالبة بالمساواة بين المواطنين أمام القانون. هدى شعراوي، "خطاب مفتوح"، مجلة المرأة المصرية، ع9، 15 حزيران (يونيو) 1937، في د. جورجيت عطية إبراهيم، هدى شعراوي، الزمن والريادة، ص 320-321.
[219] د. أمير بقطر، "البيت المصري، كيف ننهض به وترقيه"، الهلال، م46، ج10، أول أغسطس (آب)، 1938، ص1093-1100، ص1098.(22/96)
[220] لقد تحدث الطهطاوي عن مجرد عدم تحبيذ تعدد الزوجات، منطلقاً من أن الإسلام اشترط العدل بين الزوجات في حال التعدد، وتحقيق العدل أمر في غاية الصعوبة. الطهطاوي، المرشد الأمين، الأعمال الكاملة، ج2، ص489، ص499. أما قاسم أمين، فلم يخرج – كما يزعم - في معالجته لقضايا الأحوال الشخصية على الإطار الشرعي. وتبنى آراء شيخه محمد عبده في هذا الميدان. بالرغم من اعتباره نظام تعدد الزوجات نظاماً قديماً وفيه احتقار شديد للمرأة. وكلما زاد انتشاره زاد حال المرأة انحطاطاً. وتوسّع في شرح مضاره وسلبياته. قاسم أمين، تحرير المرأة، الأعمال الكاملة، ج2، ص89-90. وأكد على أن الأصل هو الإفراد، وأن التعدد هو الاستثناء في حالات معدودة كمرض الزوجة الذي يعيق قيامها بواجباتها، أو إذا كانت عاقراً، وينبه إلى أن التعدد كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهية وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح. م.ن، ص 93.
[221] محمود عزمي، خبايا سياسية، ص 38. وروّج البعض لهذه الفكرة لتحقيق الوحدة الوطنية، "نظم الأحوال الشخصية وأثر إصلاحها في حياة الشرق"، (بدون توقيع)، السياسة الأسبوعية، ع105، 10 مارس (آذار) 1928، ص3.
[222] "الطلاق وأسبابه في الدول الغربية"، (بدون توقيع)، الهلال، م31، ج8، 1 مايو/ أيار 1923، (ص826-829)، ص 829.
[223] "تركيا حاضرها ومستقبلها، الأتراك في مراقصهم ومجتمعاتهم"، المقتطف (القاهرة)، م70، جـ6، 1 يونيو (حزيران) 1927م، ص.ص، 632-634 السياسة، ع1222، 4أكتوبر (تشرين أول) 1926، ص2. الأسبوع، ع1، 29 نوفمبر (تشرين ثاني) 1933، ص19.
[224] محمد الصباحي، "مملكة المرأة وثبة المرأة التركية، من مقتضيات نهوض الأمة المستيقظة"، السيدات والرجال، ع 9، 31 أغسطس (آب) 1927، ص 581-584.(22/97)
[225] "نظم الأحوال الشخصية وأثر إصلاحها في حياة الشرق"، افتتاحية (بدون توقيع)، السياسة الأسبوعية، ع105، 10 مارس (آذار) 1928، ص3.
[226] بولس مصويع، "الزواج المدني، أفضليته لمصر وسائر الأمم الشرقية"، السيدات والرجال، ع31، 9 اغسطس (آب) 1927، ص 628-631.
[227] مجلة "الإمام"، (الإسكندرية)، ع11، 1936، ص 677.
[228] م.ن، ص 678.
[229] مجلة "المصرية"، ع19، تشرين ثاني (نوفمبر) 1926، في، جورجيت عطية إبراهيم، هدى شعراوي الزمن والريادة، ج2، ص91.
[230] "المرأة المصرية، بقلم اللورد كرومر عن كتابه مصر الحديثة"، السياسة الأسبوعية، ع80، 17 سبتمبر (أيلول) 1927، ص24.
[231] "تعدد الزوجات أيضاً، بمناسبة فتوى الأستاذ الإمام"، كوكب الشرق، ع800، 8إيريل (نيسان) 1927، ص1. عمر عناتي، "قانون الزواج والطلاق"، المقطم، ع(11945)، 9 يونيو (حزيران) 1928، ص1. يوسف حنا، "كيف تسقط المرأة في مصر"، السياسة الأسبوعية، ع203، 25 يناير (كانون ثاني) 1930، ص 11. د. أمير بقطر، "البيت المصري، كيف ننهض به ونرقيه"، الهلال، م46، ج1، أول أغسطس (آب) 1938، (ص1093-1110)، محمد علي علوبة (سكرتير حزب الأحرار الدستوريين)، مبادئ في السياسة، ص246.
[232] اقترح قاسم أمين نظاماً للطلاق، يقصره على الحضور أمام القاضي أو المأذون، الذي يستطلع الحالة، ويقدم النصح والإرشاد، ثم يلجأ إلى التحكيم، ولا يصح وقوع الطلاق إلا أمام القاضي أو المأذون وبحضور شاهدين، مطالباً بمنح المرأة حق الطلاق، والعدول عن المذهب الحنفي الذي يحرم المرأة هذا الحق، أو العمل به مع أن تشترط المرأة المتزوجة أن يكون لها الحق في تطليق نفسها متى شاءت أو تحت شرط من الشروط، وهذا ما تقبله جميع المذاهب. قاسم أمين، تحرير المرأة، الأعمال الكاملة، ج2، ص104-108.(22/98)
[233] د. آمال السبكي، الحركة النسائية، ص 202. كتب أحدهم بتوقيع رمزي (م.أ.ط) في كوكب الشرق الوفدية تحت عنوان (خطر يهدد الحياة الاجتماعية) يقصد الطلاق، ومطالباً بتقييد الطلاق وأن يكون مسبباً وأمام هيئة قضائية، وهو يتوقع معارضة العلماء . كوكب الشرق، ع 108، 23 يناير (كانون ثاني) 1925، ص2.
[234] كوكب الشرق، الأعداد: 836-848، (20 مايو (أيار) 1927-4 يونيو (حزيران) 1927).
[235] أمير بقطر، البيت المصري، كيف ننهض به ونرقيه، الهلال، م46، ج1، أول أغسطس (آب) 1938، ص1999".
[236] د. محمود عزمي، "التزوج بالأجنبيات وما يلقاه في الشرق من مقاومة"، الهلال، م36، ج10، أول أغسطس (آب) 1928، ص1171-1175. (بدون توقيع)، "أزمة الزواج، نحو السفور الحقيقي، وجوب اختلاط الجنسين"، الأسبوع، ع28، 6 يونيو (حزيران) 1934، ص14 و28. فكري أباظة، "مشكلة الزواج في مصر"، الهلال م41، ج3، أول يناير (كانون ثاني) 1934، ص321-329.
[237] سلامة موسى، "النهضة النسائية في مصر تحتاج إلى المطالبة بالمساواة الاقتصادية"، السياسة الأسبوعية، ع147، 29 ديسمبر (كانون أول)، 1928، ص(8-9)، ص11. وعاد د. فخري ميخائيل لإثارة نفس الفكرة والمطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الميراث، عاداً نظام الميراث الإسلامي ملحقاً للضرر بالمرأة، ومطالباً باللجوء إلى القانون المدني في هذه المسألة وغيرها. وقد أثار هذه القضية في محاضرة ألقاها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مما أثار ردود فعل عنيفة ضده، فقدمته النيابة العامة للمحاكمة بتهمة الطعن في الإسلام، ولما تبين أنه طعن في الكاثوليكية أيضاً، رُفعت عليه دعوى ثانية. وفي سياق ردود الفعل قدم الشيخ محمد عرفه المدرس في الأزهر محاضرة عامة في دار العلوم رداً على نظرية المساواة بين المرأة والرجل في الميراث. مجلة "الرابطة الشرقية" (القاهرة) السنة الثانية، ع6، 15 مارس (آذار) 1930، ص16-17.(22/99)
[238] أنور الجندي، الفكر العربي المعاصر، ص 615-616.
[239] د. منصور فهمي، "الشرق والغرب"، الرابطة الشرقية، ع2، 15 ديسمبر (كانون أول) 1928، ص52.
[240] هدى شعراوي، "حصة المرأة في الميراث"، مجلة "المصرية"، ع45، كانون ثاني (يناير)، 1929، في جورجيت عطية إبراهيم، هدى شعراوي الزمن والريادة، ج2، ص163.
[241] م.ن، ص166، 169.
[242] إن مصطلح العدالة الاجتماعية غربي المنشأ، ظهر في المجتمعات الرأسمالية الأوروبية بعد الثورة الصناعية، وتفاقم المشكلات الاجتماعية الناجمة عن اختلال العلاقة بين من يملك ومن لا يملك، أو بين الأغنياء والفقراء، وأصحاب العمل والعمال. فجاءت الفكرة في إطار محاولات المفكرين والمصلحين الاجتماعيين في الغرب للتخفيف من سلبيات النظام الرأسمالي، وتقليص معاناة الفئات المسحوقة، عبر تدخل محدود مقنن للدولة من خلال التشريعات لفرض ضرائب على الأغنياء، تمكنها من تقديم تأمينات ومساعدات اجتماعية للفئات المحتاجة من العمال والفقراء، والعاطلين عن العمل، والعجزة، والشيوخ، وذوي الحاجات والظروف الخاصة. وتوفير شيء من تكافؤ الفرض أمام الأفراد في النمو والتربية والتنشئة وفرص التقدم، وفقاً لقدرات الفرد ومواهبه. وإذا كان المصطلح وافداً من الغرب، فإن موروثنا الحضاري، المتصل بمبادئ الإسلام، عرف هذه المبادئ والمضامين، وإن لم يعرف المصطلح بذاته. وقد قدم الإسلام منظومة متكاملة من المبادئ الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بتوفير العيش الكريم لكل فئات المجتمع، وتحقيق تكافؤ الفرص، والعدل والمساواة التي ينشدها البشر. لكن هذه المبادئ العامة كانت تحتاج دوماً لجهد الفقيه المسلم القادر على استنباط المعالجات السليمة والشرعية لمشكلات الواقع المعاصر.(22/100)
وحول مفهوم العدالة الاجتماعية، يمكن مراجعة؛ إحسان عبدالمنعم سمارة، "مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر" رسالة ماجستير في الفلسفة، الجامعة الأردنية، 1986، إشراف د. أحمد ماضي. ثروت بدوي، النظم السياسية، دار النهضة العربية، القاهرة، د. ت، جـ1، ص 369-371. إبراهيم مدكور، (تصدير ومراجعة)، معجم العلوم الاجتماعية، ص385. ميشيل مان، موسوعة العلوم الاجتماعية، ص134.
[243] ألبرت حوراني، الفكر العربي، ص 411-412.
[244] ياسر قنصوة، مفهوم الحرية في الليبرالية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص206، ص221 وسيشار إليه فيما بعد. قنصوة، مفهوم الحرية. ص206، ص221. د. سعد الدين إبراهيم، المسألة الاجتماعية بين التراث وتحديات العصر، في، التراث وتحديات العصر في الوطن العربي (الأصالة والمعاصرة)، ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1985، ص502.
[245] إبراهيم، المسألة الاجتماعية، ص503-505. محمود السعيد إدريس، الوفد والطبقة العاملة، 1924-1952، دار الثقافة الجديدة، ص119-121.
[246] قانون الحزب الديمقراطي المصري، الطليعة، ع2، فبراير (شباط) 1965، ص 158.
[247] عبدالعظيم رمضان، حزب الوفد بين اليمين واليسار، موقع الوفد الأيديولوجي، الكاتب، ع147، يونيو (حزيران) 1973، ص56-65، وسيشار إليه، رمضان، حزب الوفد بين اليمين واليسار. إدريس الوفد والطبقة العاملة، ص 84. هلال، السياسة والحكم، ص135-136، ص 178. بيومي، قضايا الفلاح في البرلمان المصري، ص150.
[248] الرافعي، في أعقاب الثورة، ج2، ص196-197. إدريس، الوفد والطبقة العاملة. ص85. مريت بطرس غالي، سياسة الغد (برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي)، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط2، 1944، (ط1، 1938)، ص 16-17. مجيد خدوري، الاتجاهات السياسية، ص242.
[249] قانون حزب الأحرار الدستوريين، الطليعة، ع3، مارس 1965، ص 145.(22/101)
[250] "نظام الطبقات والتفاوت بين البشر ضروري للعمران" (بدون توقيع)، الهلال، م41، ج2، أول ديسمبر، 1932، ص231.
[251] م. ن، ص232.
[252] "التفاوت بين الخظوظ، ظلم لابد منه لنظام الاجتماع"، (بدون توقيع)، الهلال، م43، ج7، أول مايو (أيار). 1935، (ص 845-848)، ص845.
[253] د. محمد حسين هيكل، "حضارة البر والرحمة"، الهلال، م43، ج9، أول يوليه (تموز) 1935، (ص1026-1029) ص1029.
[254] يمكن مراجعة؛ د. رمزي زكي، الليبرالية المتوحشة، ملاحظات حول التوجهات الجديدة للرأسمالية المعاصرة، دار المستقبل العربي، القاهرة، ط1، 1993.
[255] د. محمد حسين هيكل، "حضارة البر والرحمة"، ص 1029.
[256] عباس شوقي، "غذاء الفقراء في مصر، ارتباطه بنهضتنا الاقتصادية"، السياسة الأسبوعية، ع71، 16 يوليو (تموز) 1927، ص 23.
عباس شوقي، "المال والأغنياء في مصر"، السياسة الأسبوعية، ع73، 30 يوليو (تموز) 1927، ص 22. عباس شوقي، "لماذا نحن فقراء؟"، السياسة الأسبوعية، ع82، أول أكتوبر (تشرين أول)، 1927، ص23. "الأزمة الاقتصادية في مصر لا علاج لها إلا تنفيذ سياسة اقتصادية رشيدة" (افتتاحية) السياسة الأسبوعية ع114، 12 مايو (أيار)، 1922، ص 14.
[257] مريت غالي، سياسة الغد، ص 75.
[258] إدريس، الوفد والطبقة العاملة، ص 105-106.(22/102)
[259] م. ن، ص 127، لقد ماطلت الحكومات المتعاقبة، وهي كلها محسوبة على التيار الليبرالي بشكل أو آخر، في إصدار أي تشريع يقر حقوق العمال، أو يعترف بنقاباتهم، وبعد ضغوط بدأ الإعداد لتشريع عمالي، وانتهى من إعداده 1927، لكنه لم يصدر رسمياً إلا في عام 1942. وكانت الصحافة الليبرالية تعزف على نغمة التشريعات العمالية، لإخراج الخصوم السياسيين في الوزارة. انظر مثلاً دفاع "السياسة" لسان حال حزب الأحرار الدستوريين عن ضرورة إصدار الوزارة الوفدية لتشريع عمالي، يحول دون ترك العمال فريسة الفوضى مما يضاعف خطر الشيوعية. واتهمت الوزارة الوفدية بالسماح بصدور صحف شيوعية تدافع عن العمال وتنشر الشيوعية في أوساطهم. السياسة، ع 2324، 23 إبريل (نيسان) 1930، ص1.
[260] أحمد توفيق، "مشاكل العمل ورعاية حقوق العمال"، السياسة الأسبوعية، السنة السادسة، ع3، 3 يناير (كانون ثاني) 1937، ص15. عباس شوقي، "حماية حديثي السن من العمال"، السياسة الأسبوعية، ع68، 25 يونيو (حزيران) 1927، ص22.
[261] أحمد لطفي السيد، "أزمة المتعلمين في مصر"، الهلال، م40، ج2، أول ديسمبر (كانون أول) 1931، (ص177-188) ص183.
[262] أحمد لطفي السيد، "تطور حياتنا العقلية"، المقتطف (القاهرة)، م88، جـ5، 1 مايو (أيار) 1936م، ص589.
[263] الأهرام، ع19361، 7/8/1938، ص1.
[264] أحمد لطفي السيد، "أزمة المتعلمين في مصر"، الهلال، م40، جـ2، أول ديسمبر (كانون أول) 1931، ص183. مريت غالي، سياسة الغد، ص118.
مصطفى فهمي، "البطالة ووسائل علاجها، والتعليم الإقليمي وأثره في علاج البطالة"، السياسة الأسبوعية، ع2، 22 يناير (كانون ثاني)، 1937، ص4.
[265] أنور الجندي، الفكر العربي المعاصر، ص544-545. عاصم الدسوقي، كبار ملاك الأرض، ص 304-305.
[266] د. طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، ص95.
[267] م.ن، ص98.(22/103)
[268] مي زيادة، "في التعليم الجامعي الإجباري"، الهلال، م47، ج8، أول يوليه (تموز)، 1939، ص857.
[269] محمد زكي عبدالقادر، الأهرام، ع19605، 13/4/1939م، ص3.
[270] محمد خالد، "أنقذوا الفلاح من براثن المرابين"، السياسة الأسبوعية، ع100، 4 فبراير (شباط) 1928، ص 20. حافظ محمود، "بين الفلاح والفلاحات"، السياسة الأسبوعية، ع125، 28 يوليو (تموز) 1928، ص23 د. هيكل، "هجرة الريف إلى المدن، أسبابها، وخطرها، ضرورة تلافيها"، السياسة الأسبوعية، ع208، 1 مارس (آذار) 1930، ص3-4. هذا مع وجود هجوم دائم على "إسراف الفلاح" وسوء إدارته لموارده وإنقاقه غير المنضبط لما يجنيه، ويرافق ذلك استفاضة في تقديم النصح والوعظ والإرشاد يصدّع رأس الفلاح الذي لا يقرأ هذا الصحافة أصلاً. عباس شوق، "لماذا نحن فقراء" السياسة الأسبوعية، ع28، 1 أكتوبر (تشرين أول) 1927، ص23. عبدالحميد رمضان، "الحياة المصرية المضطربة"، السياسة الأسبوعية، ع150، 19 يناير 1929، ص4. إن التيار الليبرالي اعتاد منذ مطلع القرن على معالجة شؤون الفلاح بهذه الروح، إذ قدّم أحدهم وصفاً لسوء تصرف الفلاح، الذي يجر عليه سوء ما يعانيه من أحوال. "وناهيك بالفلاح، وجه الإسراف، وجهله، حاضره ومستقبله، وقلة اهتمامه لغده، قدر اهتمامه بيومه، وهم المتوسعون في نفقاتهم في السر إلى حد دونه السفه. فضلاً عن خلق التنافس (حتى في الزواج) وهم كثيرو الخصومات في معاملتهم لبعضهم بعضاً، لأقل سبب. وقضاياهم ومواقفهم في مرادات البيوع وأخذهم وعطاهم من جيرانهم وأقربائهم، كلها أسباب تجر بهم إلى الإسراف والاستدانة حتى توقعهم في تعاسة الفقر والعيشة الضنكة. حتى أن ديونهم أصبحت ثقيلة الحمل عليهم، وميلهم إلى الفتور، وإلى ما يسيء السمعة، جعلهم في حاجة من يتولى أعمالهم بالجد من أهل العلم.... إذ هم يبيعون محصولهم قبل حصاده أو في ابتداء الموسم برخيص الأثمان.(22/104)
وهم لا يعلمون ما يأتي به الغد من أسعار.. فضلاً عن ولوجهم أبواباً يجهلونها من شراء الأسهم والسندات... ثم جهلهم في حرفتهم ودليل ذلك قلة غلة الزراعة في القطر. محمد عمر، حاضر المصريين أو سر تأخرهم، مطبعة المقتطف، القاهرة، 1902، ص 146-147.
[271] د. هيكل، "واجبنا نحو الفلاح"، السياسة الأسبوعية السنة السادسة، ع11ن 27 مارس (آذار)، 1937، ص 12-13. ابنة الشاطئ، "نعم هذا يُطاق.."، الأهرام، ع 1961، 7/8/1938، ص1.
[272] زكريا بيومي، قضايا الفلاح في البرلمان، ص 111-112.
[273] من الأمثلة على ذلك تصريحات رئيس الوزراء إسماعيل صدقي، أحمد شفيق باشا، حوليات مصر السياسية، الحولية السابعة (1930)، المطبعة الهندية، ط1، 1931، القسم الثاني، ص1122.
[274] علوبة، مبادئ في السياسة، ص 52.
[275] د. كامل هلال، "إصلاح الريف وترقية حال الفلاح المصري"، المقتطف (القاهرة)، م89، جـ4، 1 نوفمبر (تشرين ثاني) 1936، ص 424-428.
[276] السياسة، ع 804، أول يونيو (حزيران) 1925، ص4.
[277] رجاء بهلول، المرأة وأسس الديمقراطية، ص 33-34.
[278] د. طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، ص54، ص63.
[279] ألبرت حوراني، طه حسين تفكيره الاجتماعي، الحوار، السنة الأولى، ع1، تشرين ثاني، ص234. مجيد خدوري، الاتجاهات السياسية، ص 234.
[280] محمد عبدالله عنان، "أدوار الصراع بين الثقافة الأزهرية، والثقافة الحديثة"، الهلال، م45، ج4، فبراير (شباط) 1937، ص384-387.
[281] د. أمير بقطر، "الجيل المصري المقبل، تكوينه من ناحيتي الأهخلاق والشخصية"، الهلال، م46، ج4، أول فبراير (شباط) 1938، ص366-373.
[282] السياسة، ع1226، 8 أكتوبر (تشرين أول) 1926، ص1.
[283] من أبرز هذه الأسئلة.
- هل في طاقة الشباب أن يعيش عيشة طاهرة، أم هذه العيشة لا وجود لها إلا في عالم الخيال؟
- هل الرقص مرغوب فيه؟
- هل يجوز للشباب أن يثور على العادات والتقاليد، ومتى لا يجوز؟(22/105)
- ما الفائدة من الدعاء إلى الله أن ينزل الغيث "المطر" في فترات الجفاف طالما نحن نعلم أن المطر خاضع لقوانين طبيعية جوية هيهات أن يعمل الخالق على كسرها؟
- إذا تعارض الدين مع العلم فأيهما نصدق؟
د. أمير بقطر، "الجيل المصري المقبل، تكوينه من ناحيتي الأخلاق والشخصية"، الهلال، م46، جـ4، أول فبراير (شباط) 1938، ص 373.
[284] د. محمد حسين هيكل، "إصبع مأجورة، لا للفضيلة ولا للدين"، السياسة، ع1222، 4 أكتوبر (تشرين أول) 1926، ص3.
[285] السياسة، ع4133، 16 أكتوبر (تشرين أول) 1936، ص3. وحول موقف الصحافة الليبرالية من مشكلة البغاء، انظر، أنور الجندي، الصحافة والسياسة في مصر، ص601-605.
[286] "قمار في مصر؟!... والإسلام دين الدولة"، افتتاحية (بدون توقيع)، السياسة، ع827، 28 يونيو (حزيران) 1925، ص4.
[287] م.ن، ص3.
[288] "الوطن يناديكم. ساعدوا بلادكم اقتصادياً، شجعوا صناعة مصر وأقبلوا عليها"، دعاية للبيرة المصرية، السياسة الأسبوعية، ع166، 11 مايو (أيار) 1929، ص8.(22/106)
[289] لنأخد مثلاً مجلة "الأسبوع" وهي مجلة يرأسها أدوار عبده سعد، وهي ذات توجهات وفدية واضحة، إذ أنها تحرص على الدفاع عن وجهات نظر الوفد، وفي صدر كل عدد تنشر حكمة الأسبوع من أقوال زعماء الوفد (سعد، النحاس، مكرم عبيد). ولنر ما هي القضايا التي تشغلها، وما هو مفهوم حرية المرأة الذي تقدمه للقارئ، وما هي الاتجاهات والقيم التي تتبناها؛ مباريات الجمال للنساء، الأسبوع، ع1، 29 نوفمبر (تشرين ثاني) 1933، ص18. وفي زاوية الجنس اللطيف تنويه بجهود أتاتورك لتحرير المرأة التركية، ص19. محمود الشرقاوي (السلفيون أعداء الشباب)، الأسبوع، ع9، 24 يناير 1934، ص5. محمود الشرقاوي (فتياتنا بين الاختلاط والحجاب)، الأسبوع، ع13، 28 فبراير (شباط) 1934، ص8. (الطلبات والطلبة في معاهد العلم)، الأسبوع، ع15، 7 مارس (آذار) 1934، ص1. صور شبه عارية لفتيات وفتيات، ص11. صورة الغلاف لفتاة شبه عارية، الأسبوع، ع16، 14 مارس (آذار) 1934. وفي نفس العدد (الشباب المصريون والثقافة)، ويدعو فيها إلى الانفتاح على كل ما هو جديد. إضافة إلى عدد كبير من المقالات والصور حول نفس المعاني السابقة – هذا مجرد مثال.(22/107)
المسلم المقصر .. هل له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؟
( مبحث لابن حزم رحمه الله )
هذا مبحث مهم ، يكثر السؤال عنه بين فترة وأخرى ، وهو : هل للمسلم المقصر - سواء بفعل المعاصي أو التهاون في بعض الأوامر - أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؟
وهو من كلام ابن حزم - رحمه الله - ضمن رسالته "التلخيص لوجوه التخليص " ( ص 259-265) ، أحببتُ نقله ( دون هوامشه ) - لما فيه من فائدة . .
قال - رحمه الله - :
( قد توصل الشيطان إلى جماعة من الناس بأن أسكتهم عن تعليم الخير؛ بأن وسوس إليهم، أو لمن يقول لهم: إذا أصلحتم أنفسكم، فحينئذ اسعوا في صلاح غيركم .. وربما اعترض عليهم بقول الله عز وجل: ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديت ) (سورة المائدة، 105) وبقوله تعالى: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) (سورة البقرة،44) الآية، والحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن رجلاً يقذف به في النار فتندلق أقتابه ، فيقول له أهل النار: يا فلان: ألست الذي كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: نعم كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله وأنهاكم عن المنكر وآتيه"، أو كما قال عليه السلام، فأسكتهم عن تعليم الخير.
فاعلموا رحمكم الله:
- أن الآية الأولى لا حجة فيها للمعترض بها؛ لأنه ليس فيها نهي لنا عن أن ننهى من ضل عن ضلاله ، ولكن فيها تطييب لأنفسنا عن غيرنا ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، وقد جاء في بعض الآثار: أن المنكر إذا خفي لم يؤخذ به إلا أهله، وأنه إذا أعلن فلم ينكره أحد أخذ فاعله وشاهده الذي لا يقره؛ فإنما في هذه الآية إعلام لنا أننا لا نُضرُّ بإضلال من ضل إذا اهتدينا، وعلى من اهتدى بنا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.(23/1)
- وأما الآية الثانية فلم ينكر فيها الأمر بالبر، وإنما أنكر استضافة إتيان المنكر إليه.. ونعم معترفون لها بذنوبنا، منكرون على أنفسنا وعلى غيرنا، راجون الأجر على إنكارنا، خائفون العقاب على ما نأتي مما ندري أنه لا يحل. ولعل أمرنا بالمعروف، وتعليمنا الخير، ونهينا عن المنكر: يحط به ربنا تعالى عنا ما نأتي من الذنوب؛ فقد أخبرنا تعالى أنه لا يضيع عمل عامل منا.
- وأما الحديث المذكور فهو عن رجل غلبت معاصيه على حسناته، فإن كان مستحلاً للمنكر الذي كان يأتي ومرائياً بما يأتي به: فهذا كافر مخلد في نار جهنم ، ويكفي من بيان هذا قوله تعالى: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )(سورة الزلزلة) .
فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وعصى مع ذلك فوالله لا ضاع له ما أسلف من خير، ولا ضاع عنده ما أسلف من شر، وليوضعن كل ما عمله يوم القيامة في ميزان يرجحه مثقال ذرة، ثم ليجازين بأيهما غلب. هذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد .. وقد أمر تعالى فقال: ( ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )(سورة آل عمران، 104)، وقال تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (سورة التوبة، 122)، فأمر تعالى من نفر ليتفقه في الدين بأن ينذر قومه، ولم ينهه عن ذلك إن عصى، بل أطلق الأمر عاماً، وقال تعالى: ( وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه )(سورة آل عمران، 115) .(23/2)
فمن رام أن يصدَّ عن هذه السبيل بالاعتراض الذي قدمنا فهو فاسق، صاد عن سبيل الله، داعية من دواعي النار، ناطق بلسان الشيطان، عون لإبليس على ما يحب، إذ لا ينهى عن باطل ولا يأمر بالمعروف ولا يعمل خيراً، وقد بلغنا عن مالك أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له قائل: يا أبا عبدالله: وأنت لا تفعل ذلك؟ .. فقال: يا ابن أخي ليس في الشر قدوة .
ورحم الله الخليل بن أحمد الرجل الصالح حيث يقول:
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وذُكرت هذه المسألة يوماً بحضرة الحسن البصري رحمه الله فقال: ودَّ إبليس لو ظفر منا بهذه؛ فلا يأمر أحدٌ بمعروف ولا ينهى عن منكر.. وصدق الحسن؛ لأنه لو لم يأمر المعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يذنب: لما أمر به أحد من خلق الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل منهم قد أذنب.. وفي هذا هدم للإسلام جملة.. فقد صح عن النبي عليه السلام أنه قال: "ما من أحدٍ إلا وقد ألمَّ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا" أو كلام هذا معناه.
فخذوا حذركم من إبليس وأتباعه في هذا الباب، ولا تدعوا الأمر بالمعروف وإن قصرتم في بعضه، ولا تدعوا النهي عن منكر وإن كنتم تواقعون بعضه، وعلّموا الخير وإن كنتم لا تأتونه كله، واعترفوا بينكم وبين ربكم بما تعملونه بخلاف ما تعلِّمونه ) .(23/3)
أدونيس وقبره الذي يحلم به
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها ( 7611 ) يوم الخميس 25/6/1420هـ ـ الموافق 30/9/1999م حديثاً مع " علي أحمد سعيد إسبر " مسمى " أدونيس " جاء فيه أنه بلغ الثامنة والستين من عمره في يوم لا يعرفه من كانون الثاني ( يناير ) الماضي . وجاء فيه كذلك أنه أوصى أن يكون قبره في " قصّابين " ، الضيعة التي ولد فيها في سوريا ، في حديقة منزله هنالك ، بعيداً ثلاثمائة متراً عن قبري والديه ، وأنه أوصى أن تدفن زوجته خالدة فقط في الحديقة ، وأنه اختار الموقع في زاوية في الحديقة فيها أشجار الصنوبر والسنديان والجوز والرمان ، وأنه سيكون على قبره لوحة أفقية تعلو شيئاً فشيئاً إلى ثلاثين أو أربعين سنتيمتراً ، بعرض خمسين سنتيمتراً ، بلون رمادي أو أبيض ، يكتب عليها اسمه وسنة ميلاده ووفاته وبيت من الشعر . وهو يبحث عن مهندس يتقن هندسة القبور ... . إلى غير ذلك .
فأوحى لي هذا الحديث بهذه القصيدة .
أدونيس
وقبره الذي يحلم به
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
" أدُنيس " مَهْلَكَ ! حيثُ شِئتَ فَعَلِّمِ * * * قْبراً يلمُّكَ مِنْ شَتاتِك ، وارسُمِ
إِنْ كُنْتَ مِتَّ كما حييتَ فيا له * * * موتاً يذيقُكَ مِنْ عذابٍ أعْظَمِ
وإذا قَضَيْتَ ألمْ تَكُنْ مَيْتاً دُفِنْـ * * * ـتَ معَ الحياةِ بَغْيهَبٍ لك مُعْتِمٍ
فالكفْرُ مَوْتٌ في الحَياةِ وظُلْمةٌ * * * والهَدْيُ إشراقُ الحَياةِ لمُسْلِمِ
فاخْترْ لنفسِكَ موضِعاً تُلْقى بِهِ * * * وتُرَدُّ من بَلْوى الظلامِ لأظْلمِ
واجْمعْ كما تَهْوى الزّخارفَ كلَّها * * * لِتكونَ عِبْرَةَ ناظِرٍ مُتَوَسِّمِ
وَمِنَ الحَدائِقِ والظِّلالِ ومِنْ رُؤى * * * حُلُمٍ وفتْنَةِ شاعرٍ مُتَوَهِّمِ
واجْمع أمانيّ الحَياةِ فكُلُّها * * * وَهْمٌ يَغيب ولهفةُ القَلْبِ العمي(24/1)
إِنْ كنتَ مِتّ كَمَا حَيِيْتَ فذُقْ إذاً * * * هولاً يُمزِّقُ في الحَشَا والأَعْظُمِ
كم كُنْتَ تهزَأ ، يا شَقيُّ ، بآيَةٍ * * * ومَضَيْتَ تُنكرُ كُلَّ حَقٍّ مُعْلَم
كم كنتَ تَهْزَأُ ، يا شَقيُّ ، بخالِقٍ * * * أعطاكَ من نِعَمٍ ! فيا لَلْمُنْعِمِ
وكَفرْتَ بالله الذي سَوّاك مِنْ * * * عَلَقٍ ! فَيا لِلْجاحِدِ المتَبرِّمِ
وكفرْتَ بالرحمن ! كَمْ مِنْ آيةٍ * * * تُجْلىَ وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ لم يُسْلِمِ
أدُنيسُ ! مَهْلَك ! فابْنِ قبرَك ! هل ترى * * * أيْنَ المصيرُ مَعَ القضاء المُبْرَم ؟!
هل كُنْتَ تَدْري أين تُنْزَعُ منك رُو * * * حُك أو متى؟! جهلٌ وفتنةُ مَزْعَمِ !
الله قَدَّر للعِبادِ مَصِيرَهُمْ * * * كُلٌّ إلى أجَلٍ يَسِيرُ مُحَتَّمِ
شَيِّدْ كَما تَهْوى القبورَ فربَّما * * * تُلْقَى لمُفْتَرِسِ الوحوشِ وقشْعَمِ
أو في فلاةٍ أقْفَرَتْ ساحاتُها * * * بَيْنَ الرّمالِ وَبَيْنَ تيهٍ مُظْلِمِ
أو في البِحارِ تَغيبُ في أَمْواجها * * * أو في حَنَايَا مَوْقِعٍ مُتَهَدِّمِ
أَنّى سقطتَ فَرُبّما لَفَظَتْكَ تِلْـ * * * ـكَ الدّارُ من رجْسٍ عَليْكَ و مأثمِ
فَتَدُورُ لا تَلْقى مكاناً بَعْدَها * * * يُؤْويكَ أو ساحًا عَلَيْها ترْتمي
فالحقُّ أبْلجُ ، لو عَلِمْتَ ، وآيةٌ * * * فمصيرُكَ المحتومُ قَعْرُ جَهنَّمِ
إِنْ لمْ تَتُبْ للهِ تَوْبَةَ صادقٍ * * * وَتَعُدْ إِلى الإِيمانِ عَوْدَةَ مُسْلِمِ
فهناكَ يُجلى الحق ! عُضَّ يدَ الندا * * * مَةِ أو أسِرَّ من الندِامةِ واكْتُمِ
واشْربْ مِنَ الماء الحَميمِ وكُلْ مِن * * * الزَّقُّوم ،كمْ أنكرْتَهُ ؟! وتَنَعَّمِ !
وانظر يمينَك أو شِمالَك هلْ تَرَى * * * من منْجِدٍ تأوي إليهِ ومُكرِمِ
أو مِن شفيعٍ مُقْبلٍ أو مِنْ حميمٍ * * * أو وليٍّ بالشفاعَة مُسْهِمِ
كُلُّ الذين عبدتَهُمْ مِنْ قَبلُ قَد * * * سقَطوا هنالك في عذابٍ أشْأَمِ(24/2)
فَارْجعْ لِربِّك قَبْلَ مَوْتِك واسْتَقِمْ * * * والجأْ إلى الله الأبَرِّ الأرْحَمِ
للتّائِبين لَدَيْهِ بابٌ واسعٌ * * * مَنْ تَابَ تَوْبَةَ صَادقٍ لم يُظْلَمِ
فَعَسَاكَ أنْ تَلْقَى النَّجاةَ و إنّما * * * تُوفَى النَّجاةُ مَعَ السَّبيل الأَقْومِ
الله بَيَّنَ للعِبَادِ سَبيلَهُ * * * حَقّاً وفَصَّل في الكِتابِ المُحْكمِ
فارْجعْ لربّكَ ! قَدْ وُلِدْتَ بِفِطْرةٍ * * * حقٍّ على دينِ الحنيفةِ مُعْلِمِ
وحَبَاكَ مِنْ سَمْعٍ ومن بَصَر هُدى * * * لِتَرَى الحَقِيقَةَ بالفُؤاد المُعصِمِ
وأَتَتْ لنا رُسُلٌ بِدينٍ واحد * * * تترى بكلِّ مُبَلِّغٍ ومُعَلِّمِ
خُتِموا بأحْمَد كُلُّهم وكتابِه * * * فانْهضْ له ! أسلمْ لِربِّكَ والْزَمِ
الرياض
28 / جمادى الآخرة / 1420هـ
8 / أكتوبر / 1999م
----------
* رسالةٌ وصلتني من الدكتورِ عدنانَ النحوي(24/3)
( الرد الجميل .. ) كتيب نادر للشيخ حمود التويجري رحمه الله ، يرد فيه على الظاهري
هذا كتيب نادر للشيخ العلامة حمود التويجري – رحمه الله – طُبع عام 1392هـ ، ولا أعلم أنه أعيد طبعه بعد ذلك ، وسبب تأليفه أن الشيخ رد على أبي تراب الظاهري – رحمه الله – في تحليله للأغاني ، وتعرض لشيخه ابن حزم – رحمه الله - .
وكان الموسوعي أبوعبدالرحمن الظاهري – وفقه الله – تلك السنة في ذروة فورته الحزمية الظاهرية ! ، التي شذ بها عن العلماء وطلبة العلم في بلادنا . فأخذته الحمية لشيخه ابن حزم ، وكتب مقالا ينتقد فيه صنيع الشيخ حمود – رحمه الله - .
فكان هذا الكتيب ردًا عليه ، وبيانًا لتعصبه لابن حزم ، الذي شذ به .
موجز الكتيب : نقول من كلام العلماء في ابن حزم ، مع تعداد الشيخ حمود لأخطائه التي أخذوها ؛ وهي :
1- تصريحه في بعض كتبه بما يقدح في عدالته . ( قصصه مع النساء وعدم غضه لبصره .. ) .
2- تأويله للصفات .
3- قوله الغريب في القرآن .
4- استحلاله للغناء .
5- أوهامه في الجرح والتعديل .
6- استحلاله لعشق المرأة الأجنبية !
7- توسعه في المنطق والفلسفة .
8- وقوعه في العلماء .
وقد بين الشيخ أن هدفه كبح جماح المتعصبين لابن حزم . وهذا منهج معروف عند العلماء ، أشار إليه العلامة المعلمي في التنكيل ، وهو أن العالم إذا رأى تعصب الناس لشخص ، وتجاوزهم الحد في ذلك ، فله أن يُذكرهم بأخطائه ، وأنه يؤخذ منه ويُرد . ولعل هذا مأخوذ من قوله تعالى عن مريم وعيسى عليهما السلام : ( كانا يأكلان الطعام ) ، لدفع غلو النصارى فيهما .(25/1)
- ومع هذا فقد أنصف الشيخ حمود وقال ( ص 42 ) : ( إذا عُلم هذا فلستُ أسلب الدين والخير عن ابن حزم ، كما قد يُفهم ذلك من كلام المتعصب ، بل أقول فيه دين وخير ، وفيه مع ذلك ما يعيبه ويقدح فيه ، ولستُ أغلو فيه كما فعل أبوتراب وصاحبه ابن عقيل ، ولستُ أجفو عنه كما أجمعوا على تضليله ) .وقال ( ص 72 ) : ( وقبل الختام : نكرر الدعاء لأبي محمد بن حزم بالعفو والمغفرة ، ونعترف له بالفضيلة والتقدم في كل ما وافق فيه الحق ، وما أودعه في مصنفاته من الفوائد الجليلة ، ونرجو له المسامحة عن الزلات والهفوات ) .
قلتُ : رحم الله الشيخ حمود التويجري ، فقد أنصف – كما هي عادة أهل الديانة والتقوى - ، والحق يقال : أن أباعبدالرحمن الظاهري قد لان بعد صلابة في سنواته الأخيرة ، وخف تعصبه ، ودار مع الحق في معظم المسائل التي خالف فيها ابن حزم – رحمه الله - ، فرد عليه تأويلاته وجهمياته في العقيدة ، وتاب من استماع الغناء .. ، لكن بقيت معه مسألة – وإن خالف فيها ابن حزم – إلا أنه لم يختر قول أهل السنة ، ولكن توقف ! وهي مسألة القرآن . ( وسيأتي توضيح لها في مقال آخر إن شاء الله ) . فلعل الشيخ أباعبدالرحمن يعيد فيها النظر ، فما عهدته إلا رجاعًا للحق ، ذا ديانة وخشية ، وصراحة فيما يعتقد ، وحبًا للخير ، وردًا على المنحرفين ؛ كالسقاف والحداثيين وغيرهم . - أحسبه كذلك والله حسيبه - . ولعل من اختار السير على طريق " الظاهرية " يستفيد من تجربته الطويلة مع ابن حزم .
الرد الجميل على أخطاء ابن عقيل
رابط التحميل
http://www.kabah.info/uploaders/ibn-3kael.rar(25/2)
مذكرات ( همفر ) في الميزان .. وفتوى ظالمة للبوطي
- أما البوطي - هداه الله - ، فقد عُرف بتصوفه وأشعريته ، مع معاداة مستفيضة للسلفية وأهلها ، ويجد القارئ تحت هذه الروابط شيئًا من أفكاره ، مع الردود عليها :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showth...E1%C8%E6%D8%ED
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showth...C8%E6%D8%ED%22
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showth...C8%E6%D8%ED%22
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showth...C8%E6%D8%ED%22
وهنا رابط مهم :
http://www.sahab.net/sahab/printthre...hreadid=333192
- وأما الفتوى الظالمة ؛ فقد سُئل البوطي في موقعه :
( مشكلتي أنني لا أستطيع تكوين رأي سليم في الحركة الوهابية يطمئن له قلبي، فكيف يجتمع حرصهم على نشر تعاليم الإسلام النقية، وهدم الشرك والوثنية، مع سعيهم إلى الاستقلال عن دولة الخلافة العثمانية؟ وإذا قيل إنه قد ظهرت علامات الفساد والضعف في تلك الخلافة بالابتعاد عن حكم الإسلام، فهل هذا يعني السعي للانفصال عنها أو حربها؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فكيف قال العلماء : إن انتهاء الخلافة العثمانية كان جريمة كبرى، مع ما ثبت عنها من جنوح عن الطريق الصحيح؟ ) .
فأجاب - هداه الله - :
( الحركة الوهابية ساعدت بريطانيا في إيجادها، وهي تمثل جزءاً من خطة كاملة وضعتها بريطانيا أثناء دعمها آل السعود، ضد آل الرشيد.. والقضاء على الخلافة إنما تم بجهود من الصهيونية العالمية بالاشتراك مع العقلية البريطانية المعروفة، اِقرأ مذكرات (حاييم وايزمن) تقف على التفاصيل) !!(26/1)
- قلت : لا غرابة في هذه الفتوى الظالمة من هذا العدو الكاشح ؛ ولا غرابة من الإحالة على مرجعه اليهودي ! ، فقد استقى هذا من إخوانه الرافضة ؛ الذين يتناقلونه في منتدياتهم عندما يريدون الطعن في دعوة الإمام المجدد التي وقفت سدًا أمام ضلالهم وخرافاتهم .وقد قال البوطي عن إخوانه الرافضة في فتوى له : ( الشيعة بمختلف فئاتهم مسلمون ، ولا يجوز تكفيرهم ، وأنت محقّ في ارتياحك إليهم وإعجابك بكثير منهم ، كالشيخ حسن نصر الله. أمّا ما يُروى عنهم من سبهم الصحابة ، فالأرجح أنها روايات كاذبة أو غير دقيقة ) !!
ولهذا أخذ الرافضة راحتهم في الدعوة إلى التشيع في سوريا - كما هو معلوم - .
- والفرية السابقة أطال فيها المسمى ( همفر ) في مذكراته التي كذبها الرافضة ونسبوها له - وهو اسم وهمي ! - ، كعادة الرافضة في عدم تورعهم عن الكذب والافتراء ، فشاركهم الصوفية في الاحتفال بها .
وقد قام الأستاذ مالك بن حسين - حفظه الله - بنقدها ، وتبيين أكذوبتها ، في 3 مقالات نشرها بمجلة ( الأصالة ) ، ( الأعداد 31-32-33 ) ، وقد أحببتُ نقلها للشبكة ؛ لأنها - المذكرات - منتشرة في منتديات أهل البدع ، وكثيرًا ما تُثار عند الحديث عن دعوة الشيخ المجدد - رحمه الله - .
مذكرات ( همفر ) في الميزان
بقلم: مالك بن حُسين
وقفت على كتاب موسوم بـ- (مذكرات مستر همفر)( 1 )، وهذا الاسم ليس بالغريب؛ فقد كنت أول ما قرأت عنه في "مجلة منار الهدى" التي يصدرها المكتب الإعلامي في جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، (العدد 28)، رمضان 1415هـ - شباط 1995، وهي مجلة يصدرها جماعة الأحباش (الهَرَرِيّين)؛ ولَمَّا قرأت ذلك المقال، تطلَّعَتْ نفسي للاطلاع على كتاب أو مذكرات هذا الجاسوس الإنجليزي - نفسِها - ؛ حتى أنظر فيه، وأعرف مدى صدق ما نُسِبَ للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في هذه المذكرات.(26/2)
وبعد قراءة هذه المذكرات تبيَّن لي أنَّها كذب من أصلها، وأنَّ (همفر) - هذا - شخصية وهميَّة، فأحببت أن أُطلع إخواني على ما وقفت عليه؛ حتى يكون هذا عوناً لهم في الدَّفاع عن الإمام - رحمه الله -، وليدفعوا بها في نحر كل مبتدع؛ {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (الإسراء: 81).
قال الله - تعالى - : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات: 6).
في هذه الآية درس عملي للفئة المؤمنة؛ التي تحرص على دينها وعلاقاتها بإخوانها المؤمنين، بأن تتوثَّق من كل إشاعة ترمي إلى خلخلة الصف، وبذر الشحناء، وإتاحة الفرصة للفرقة(2 ).
وما زال أعداء (الشيخ محمد بن عبدالوهاب) –رحمه الله- يحاولون بشتى الطرق والوسائل تشويه (دعوته الإصلاحية)؛ وبضاعتهم مزجاة، ليس فيها إلا (الكذب) و(الافتراء)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا طالب الحق! رسائل الإمام المجدد (محمد بن عبدالوهاب) –رحمه الله- ومؤلفاته مطبوعة على النحو التالي:
القسم الأول: العقيدة؛ مجلد . القسم الثاني: الفقه؛ مجلدان. القسم الثالث: "مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم"، والفتاوى؛ مجلد. القسم الرابع: التفسير، ومختصر "زاد المعاد"؛ مجلد. القسم الخامس: الرسائل الشخصية؛ مجلد. قسم الحديث: خمس مجلدات. ملحق المصنفات؛ جلد.
فهذه (اثنا عشر مجلداً)، جمعَتها لجنة علمية متخصصة، منبثقة من جامعة ( الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، وصنَّفها وأعدَّها للتصحيح تمهيداً لطبعها: الدكتور (عبدالعزيز بن زيد الرومي)، والدكتور (محمد بلتاجي)، والدكتور (سيد حجاب)، وطبعت (بمطابع الرياض).(26/3)
فمن كان طالباً للحقِّ؛ فعليه أن يُقارِن بين كلام الإمام - رحمه الله - وبين كلام خصومه، فهذه كتبه ورسائله مطبوعة، فما كان فيها من حقٍّ قبلناه، وما كان فيها من خطأ، ومُخالفة للصواب رددناه، ولا نتعصَّب لأحدٍ، كائناً من كان؛ إلا الذي لا ينطق عن الهوى، الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم( 3).
أمَّا أن نعتمد على كلام (كافر نصراني.. نكرة مجهول)؛ كان يشرب الكأس إلى الثُّمالة( 4)، بل هو يذكر عن نفسه الكذب( 5).
ومن جعل الغراب له دليلاً يَمُرُّ به على جِيَفِ الكلاب
كيف يكون هذا ؟ والذي يتَّضح من رسائل وردود الإمام - رحمه الله - أنَّ فيها نفياً وتفنيداً لِمَا أُلصق بدعوته من تُهم وأكاذيب؛ لم يقلها؛ بل نفاها، وكرَّر مراراً القولَ: "هذا بهتان عظيم"(6 ).
ورحم الله الإمام الذهبي القائل: "ولم نر ذلك في كتبه"( 7)؛ وذلك لما حكى أموراً نقلها بعضهم قد اتُهم بها الإمام ابن جرير الطبري –رحمه الله-.
وإنني أقول:إنَّ ما ورد في هذه (المذكرات) هو محضُ هُراءٍ، وكلامٌ عارٍ عن الدليل، لا ينطلي إلا على أحد رجلين:الأول: جاهل جهلاً مركباً، غبيٌّ لا يُفرِّق ما بين كوعه وكرسوعه.
والثاني: صاحب هوىً مبتدع، عدوُّ لدعوة التوحيد.
فاتقوا الله؛ فإن لحوم العلماء مسمومة، وسنَّة الله في منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثَّلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب... نسأل الله السَّلامة والعافية.
مذكرات (همفر) باطلة من أصلها و (همفر) شخصية وهميَّة:
وبعد دراستي لهذه (المذكرات) تبيَّن لي أنَّ هذه المذكرات من نسج خيال (فَرْد) أو (مجموعة) ؛ المقصود منها تشويه دعوة (الإمام محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - بالكذب والافتراء، والأدلة على ما أقول كثيرة؛ إليك بعضاً منها:(26/4)
أولاً: بِتَتَبُّع التواريخ المذكورة في (المذكرات) يظهر لنا أنَّ (همفر!!) لَمَّا التقى بالشيخ - رحمه الله -؛ كان عمر الشيخ - الافتراضي - وقتئذ (عشر سنين!!)، وهذا أمر لا يتناسب - بل يتناقض - مع ما ذُكر في المذكرات (ص30) من أنَّ (همفر) تعرَّف: "على شاب كان يتردد على هذا الدكان، يعرف اللغات الثلاث؛ التركية والفارسية والعربية، كان في زي طلبة العلوم الدينية، وكان يسمى بـ- (محمد بن عبد الوهاب) وكان شاباً طموحاً للغاية" أهـ.
وإليك تفصيلَ ذلك بالدليل:
- ذكر أنَّ وزارة المستعمرات (البريطانية) أوفدته إلى الآستانة (مركز الخلافة الإسلامية) سنة (1710م -1122هـ) .
- ذكر في (ص18) أنه مكث في الآستانة سنتين؛ ثم رجع إلى لندن حسب الأوامر؛ لتقديم تقرير مُفصل عن الأوضاع في عاصمة الخلافة.
- ذكر في (ص22) أنَّه مكث في لندن ستة أشهر.
- ذكر في (ص22) أنه توجه إلى البصرة، وأخذت منه الرحلة ستة أشهر.
- وفي أثناء وجوده في البصرة التقى بالشيخ - رحمه الله -.
- يكون مجموع التواريخ الماضية هو (1713) أي : سنة (1125 هـ) (8 ) ، والشيخ - رحمه الله - ولد سنة (1703 م) (1115هـ)؛ فيكون عمر الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - وقت لقاء (همفر) به؛ عشر سنين!! وهذا واضح جداً في بطلان هذه المذكرات جملةً وتفصيلاً.
ثانياً: ذُكر في (المذكرات) (ص100) أن الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - أظهر دعوته في سنة (1143) هجرية، وهذا كذب واضح؛ حيث إن تاريخ إعلان الشيخ - رحمه الله - دعوته هو نفسه التاريخ الذي توفي فيه والده، وهو سنة (1153هـ) ( 9)، فانظر إلى هذا التفاوت الواضح في التاريخ.
ثالثاً: إنَّ موقف (الحكومة البريطانية) من دعوة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب)؛ ليس التأييد والدعم؛ وإنما هو العداء والمحاربة - كما سيأتي معنا بدليله -.(26/5)
رابعاً: لا نَجِدُ ذكراً لهذه (المذكرات) في سالف الزمان؛ رغم حرص أعداء هذه (الدَّعوة المُباركة) على تشويهها، ونشر كل ما يُسيء إليها، وخروجها في هذا الوقت المُتأخر دليل على افترائها وتلفيقها.
خامساً: (همفر) هذا (نكرةٌ) لا يُعرَف؛ فأين هي المعلومات التفصيليَّة عنه؛ من حيث اسمُه، ورتبتُه، وما يتعلق بوظيفته ومهمَّتِه من كتب ووثائق (الحكومة البريطانية) ؟!
سادساً: إنَّ الذي يقرأ هذه (المذكرات) يجزم بأنَّ مؤلفها ليس نصرانياً؛ لوجود كثير من العبارات التي فيها الطعن والانتقاص (بالدّين النصراني) و(الإنجليز) أنفسهم، وبعض العبارات التي فيها مدح (الإسلام)؛ من ذلك –على سبيل المثال- انظر: (ص14، 15، 16، 24، 26، 48، 50، 66) .
سابعاً: النسختان المطبوعتان ترجمةٌ لهذه (المذكرات)، لم يُذكر فيهما أية معلومات عن هذه (المذكرات)؛ من حيث النسخة الأصلية التي تُرجمَت عنها، وهل هي مطبوعة أم مخطوطة؟! وبأيّ لغةٍ؟!
ثامناً: المُترجِمُ نكرة؛ ففي النسخة (أ) لم يُذكر عنه أيُّ شيء، وفي النسخة (ب) رمز له بـ- (د.م.ع.خ)!!
تاسعاً: كثرة الفروق بين (النسختين) (المترجمتين) ، وبعضها فروق جوهرية.
عاشراً: في النسخة (ب) تاريخ ترجمة هو : (25 حزيران 1990)؛ فهل مثل هذه (الوثائق المهمَّة) تبقي حبيسة، ولا ترى النُّور إلا بعد (199) عاماً من وفاة الشيخ - رحمه الله - ؟!!
الحادي عشر: اتَّفقت (النسختان) على كتابة تاريخ (2/1/ 1973) في نهاية (المذكرات)؛ وهذا التاريخ لا أدري ما هو: هل هو تاريخ كتابة هذه (المذكرات) من (همفر) - كما هو ظاهر - !! وهذا يؤكد كذب هذه المذكرات؛ إذ إنَّ وفاة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - قبل هذا التاريخ بأعوام كثيرة !
أم هو تاريخ افتراء واختلاق هذه (المذكرات)؟!!(26/6)
الثاني عشر: إنَّ ما في كُتب الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) كلَّه يُكذِّب ما ورد في هذه المذكرات؛ كما سيأتي تفصيله - إن شاء الله - في الصفحات القادمة.
الثالث عشر: إن واقع الشيخ - رحمه الله - وواقع دعوته؛ ينفي ذلك كلَّه.
الرابع عشر: شهادة أعداء الشيخ - رحمه الله - ؛ من مسلمين وكفار تنفي عنه ما في هذه المذكرات، وهذا أمر مستفيض، ولو تتبعناه لطال بنا البحث.
موقف (الإنجليز) من دعوة الإمام (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله -:
لمس الإنجليز آثار دعوة الشيخ - رحمه الله - السَّلفية، في أعظم مكان يعتزُّون باستعماره والاستيلاء على خيراته، عندما تلقَّفها الهنود على يد الدَّاعية الإسلامي (أحمد بن عرفان)، الشهير (بأحمد باريلي)، وأتباعه، وفي حركات أُخرى مثل: (الفراتقيين وتيتومان) (نزار علي) ( 10)، تلك الدَّعوات التي ناوأت (القاديانيَّة) الكافرة؛ التي أرادها (الإنجليز) واجهة إسلامية تُحقّق مآربهم، وينضوي تحتها من لا يعرف من الإسلام إلا اسمه.
ويظهر انزعاج (الإنجليز) وحرصهم على القضاء على دعوة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - ؛ - التي تُمثّل يقظة جديدة في الدين الإسلامي، ودعوة إلى فهمه من مصادره الصَّافية؛ كتاب الله وسنَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم -، أنَّهم بذلوا جهوداً وأموالاً في هذا السَّبيل.(26/7)
وقد أبانت رحلة (سادلير) الضابط البريطاني، وقائد الفوج (47)، ومبعوث (الحكومة البريطانية) في (الهند)؛ الذي قام برحلة شاقَّة من (الهند) إلى أن وصل (الرياض)، ووقف على أطلال (الدرعيَّة)؛ التي هدمها (إبراهيم باشا)، بناءً على تخطيط اشترك في الإعداد له (الإنجليز)؛ ليطمئن على تفتيت (الحكومة الإسلاميَّة) التي تحرَّكت في (الجزيرة) لإيقاظ المسلمين، وليقضي على قاعدة (الدعوة السَّلفيَّة) بنفسه؛ لِما أحدثته من خوف وقلق في داخل (الحكومة الإنجليزية) خوفاً على مصالحها، وقد كان في (رحلته) هذه ضمن قافلة كبيرة أغلبها من الأتراك، أبانت هذه (الرحلة) جانباً مهمَّاً في التعاطف والحرص على القضاء على هذه (الدَّعوة)؛ التي تُمثّل يقظة إسلامية توحِّد المسلمين، كما أبانت عن حقد (الإنجليز) على (الإسلام)، ذلك الحقد المُخطّط له من (التَّبشير الكنسي) المُوجَّه بأفكار (المستشرقين) ودسائسهم.
فقد مرَّ (سادلير) (بالدِّرعية) متخفّياً في (13) أغسطس من عام (1819م) ( 11)، وبعد أن ارتاحت نفسه، شدَّ الرِّحال لاحقاً (بإبراهيم باشا)، حتى أدركه في (آبار علي)، على مقربة من (المدينة المنورة)؛ ليُقدِّم له التَّهاني بهذا النَّصر(12 )، مقرونة بهدايا (حكومة الهند الشرقية = الحكومة البريطانية).
الرد التَّفصيلي على ما ورد في هذه المذكرات:
الملاحظة الأولى: ذكر في (ص 30) أنَّ الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) كانت له صداقة لرجل شيعي اسمه (عبد الرضا).
أقول: صداقة الشيخ - رحمه الله - للشِّيعة من أوضح الباطل، وهو كذب مفضوح، وللشيخ - رحمه الله - رسالة مطبوعة مُتداولة بعُنوان: "رسالة في الرَّدِّ على الرَّافضة"( 13)؛ وهي قوية في بابها في الرَّدِّ على الشيعة، وعقائدهم الشنيعة..
الملاحظة الثانية: ذكر في (ص 30)؛ أنه في البصرة يلتقي السُّنّي والشِّيعي وكأنهما إخوة.(26/8)
أقول: هذا أمر يدل على جهل كاتب هذه (الافتراءات)، فهذا أمرٌ لم يكن في يوم من الأيام –البتة-، ولن يكون أبداً، فالشيعة يكفّرون أهل السنة، وأهل السنة أثبتوا –من كتب الشيعة- أنفسهم تحريفهم للقرآن، وتكفيرهم للصحابة إلا نفراً يسيراً، والغلو في أئمتهم، وأنهم أوصلوهم إلى مرتبة الألوهية... وغير ذلك مما ليس هذا مجال بسطه موثقاً(14 )!!!
الملاحظة الثالثة: ذكر في (ص30)؛ أن الشيخ (محمد بن عبدالوهاب) كان يعرف اللغات الثلاث: التركية، والفارسية، والعربية.
أقول: هذا أمر ليس بثابت؛ بل هو باطلٌ جداً، ويُستبعد أن يتعلم الشيخ –رحمه الله- لغة أعجمية ليس مضطراً لها، وقد استغنى بالعربية؛ وهي لغة (السلف الصالح) من المسلمين، والتي نزل بها القرآن، ودُوّنت بها السنة؛ وليس في مؤلفات الشيخ –رحمه الله- وآثاره ما يدل على شيء من هذا –البتة- ، بل إنها على (المنهج السلفي)، بعيدة كل البعد عن مخالفة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه( 15).
الملاحظة الرابعة: ذكر في (ص 31)؛ أن (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) لم يكن يرى أي وزن لأتباع المذاهب الأربعة المتداولة بين أهل السنة ويقول: إنها ما أنزل الله بها من سلطان!
أقول: موقف الشيخ - رحمه الله - من المذاهب الأربعة واضح في كتبه؛ ومما قاله في بيان مذهبه: "نحن مقلدون للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة؛ أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل - رحمهم الله -" أهـ( 16).
وقال - رحمه الله - : "أما مذهبنا؛ فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة، إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها" أهـ( 17).
وقال - رحمه الله - : "وأما المتأخرون - رحمهم الله - فكتبهم عندنا؛ نعمل بما وافق النص منها، وما لم يوافق النص لا نعمل به"أهـ( 18).(26/9)
وأنقل لك شهادة الشيخ (محمد رشيد رضا) حيث قال: "... وأنهم( 19) في الأصول على مذهب جمهور السلف الصالح، وفي الفروع على مذهب الإمام (أحمد)، وأنهم يحترمون مذاهب (الأئمة الأربعة)، ولا يفرقون بين أحد من مقلديهم، وإنما قال (ابن عابدين) - ومن تبعه - ما قاله؛ تصديقاً لأكاذيب الشيخ (أحمد دحلان) ومفترياته، مع عدم وجود شيء من كتب (الشيخ) وكتب (أولاده وأحفاده) في الأيدي، ونحن كنا نصدق هذه الإشاعات التي أشاعتها السياسة (التركية) عنهم تصديقاً (لابن عابدين) وأمثاله؛ وقد طبعت كتبهم وكتب أنصارهم في عصرنا، فلا عذر لأحدٍ في تصديق (الحشوية) (والمبتدعة) (وأهل الأهواء) فيهم، وقد ذُكرت هذه الإشاعات مرةً بمجلس الأستاذ الكبير الشيخ (أبي الفضل الجيزاوي) (شيخ الأزهر) في إدارة المعاهد الدينية، فاستحضرت لهم نسخاً من كتاب "الهدية السنية" فراجعها (الشيخ الكبير)، وعنده طائفة من أشهر (علماء الأزهر)، فاعترفوا بأن ما فيها هو عين مذهب جمهور أهل السنة والجماعة" أهـ( 20).
الملاحظة الخامسة: ذكر في (ص 30)؛ أن الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) و(عبد الرضا) الشيعي كانا ناقِمَيْنِ على الخليفة.
أقول: والجواب على هذا من وجوه، هي:
1 - الشيخ - رحمه الله - يرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين؛ ومن ذلك قوله: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برِّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة؛ وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه" أهـ(21 )،وقال أيضاً: "الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبشياً، فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند كثير ممن يدعي العلم، فكيف العمل به؟!" أهـ ( 22).(26/10)
2 - الشيخ - رحمه الله - كان لا يجد أدنى شكٍ في أن محل دعوته ليست خاضعة لدولة الخلافة؛ من ذلك قوله: "أن هذا الذي أنكروا علي وأبغضوني وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام أو اليمن أو غيرهم، يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره؛ لأن الحاكم في بلده ما أنكره؛ بل لما عرف الحق اتبعه" اهـ( 23).
3 - هذه كتب الشيخ - رحمه الله - بين أيدينا، وليس فيه ما يدل على أي موقف عدائي ضد (دولة الخلافة)، ولا أي فتوى له - رحمه الله - تكفر (الدولة العثمانية)، وكانت سياسة الشيخ - رحمه الله - وموقفه تجاه (الدولة العثمانية)؛ أنه لم يُؤثر عنه - طوال حياته - تحريضٌ، أو استعداء، أو دعوة لحربها، أو الاستيلاء عليها؛ لشعوره أن ذلك الفعل يُفسر على أنه خروج على (دولة الخلافة)، ولم تُحرك (دولة الخلافة) ساكناً، ولم تبدُر منها أية مبادرة امتعاض، أو خلاف يُذكر؛ رغم توالي أربعة من (سلاطين آل عثمان) الخلافة، أثناء حياة الشيخ - رحمه الله - .
4 - دولة (الخلافة العثمانية) لم يكن لها سيطرة على (نجد)؛ فلم تشهد (نجد) - على العموم - نفوذاً (للدولة العثمانية)، وما امتد إليها سلطانها؛ فلم يكن في (نجد) رئاسة ولا إمارة (للأتراك)، ولا أتى إليها (ولاة عثمانيون)، ولا جابت خلال ديارها حامية (تركية)؛ في الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب)؛ بل كانت (نجد) (إمارات صغيرة) (وقرى متناثرة)، وعلى كل بلدة أو قرية - مهما صغرت - أمير مستقل، وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات.(26/11)
ومما يدل على هذه (الحقيقة التاريخية) استقراء تقسيمات (الدولة العثمانية) الإدارية، فمن خلال (رسالة تركية) عنوانها: "قوانين آل عثمان در مضامين دفتر ديوان" - يعني: (قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان) - ألفها (يمين علي أفندي)؛ الذي كان أميناً للدفتر الخاقاني، سنة (1018هـ) الموافقة لسنة (1690م)، ونشرها (ساطع الحصري) ملحقاً من ملاحق كتابه "البلاد العربية والدولة العثمانية" (ص 230 - 240)؛ من خلال هذه الرسالة تبيّن أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري، كانت (دولة آل عثمان) تنقسم إلى (32) إيالة، منها (14) إيالة عربيّة، وبلاد (نجد) ليست منها، ما عدا (الأحساء)، إن اعتبرناها من (نجد).
ثم إن نفوذ (العثمانيين) ما لبث أن ضعف في (جزيرة العرب)؛ نتيجة لمشاكلهم الداخلية والخارجية، فاضطروا في نهاية الأمر إلى ترك (اليمن)؛ بسبب ثورة أئمة صنعاء ضدهم، واضطروا إلى مغادرة (الأحساء) أيضاً أمام ثورة زعيم بني خالد (براك بن غرير) وأتباعه سنة (1080هـ) (24 ).
5 - منطقة (نجد) لم تُعرَف بوجود شيء من (الخيرات) (والثروات)، التي تجعل تلك المنطقة محل طمع (الخلافة العثمانية)، وغيرها.
الملاحظة السادسة: ذكر (ص34) أن الشيخ - رحمه الله - كان له رأيه المستقل الذي لا يهتم حتى بالخلفاء الأربعة أمام ما يفهمه هو من القرآن والسنة.
وذكر في (ص37) أن (همفر) كان يبين للشيخ (محمد بن عبد الوهاب)، أنه أكثر موهبة من (علي وعمر)!
أقول: أما اعتقاد الشيخ - رحمه الله - في الصحابة - رضوان الله عليهم -؛ فهو التالي:
قال - رحمه الله - : "وأتولّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكفُّ عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم"( 25)، وقال –رحمه الله-: "وقد جاءت الآيات والأحاديث النّاصة على أفضلية الصحابة، واستقامتهم على الدين" اهـ( 26).(26/12)
وقال –رحمه الله-: "وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على كمال الصحابة - رضي الله عنهم -، خصوصاً الخلفاء الراشدين، فإن ما ذكر في مدح كل واحد مشهور بل متواتر؛ لأنَّ نَقَلَةَ ذلك أقوام يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويُفيد مجموع أخبارهم العلم اليقيني بكامل الصحابة وفضل الخلفاء"اهـ( 27).
وقال - رحمه الله -: "ومن اعتقد منهم - أي: الرافضة - ما يوجب إهانتهم - أي: الصحابة -؛ فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من وجوب إكرامهم وتعظيمهم، ومن كذَّبه فيما ثبت عنه قطعاً؛ فقد كفر"اهـ( 28)، وقال - رحمه الله -: "فمن سبَّهم؛ فقد خالف أمر الله به من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم، أو جمهورهم؛ فقد كذب الله - تعالى - فيما أخبر من كمالهم وفضائلهم، ومكذبه كافر" اهـ( 29).
الملاحظة السابعة: ذكر في (37-38) أن (همفر) قال للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) بأن الجهاد ليس فرضاً... وبعد نقاش هز الشيخُ رأسه علامة للرضا!!
أقول: مذهب الشيخ - رحمه الله - في الجهاد بينه - جلياً - بقوله: "وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام؛ براً كان أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل" اهـ( 30).
فهذا يُكذِّب ذاك، ويُبطله...
الملاحظة الثامنة: ذكر في (38) أن (همفر) أقنع (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) بأن (متعة النساء جائزة)، وأنه تمتع بامرأة مسيحية من اللاتي كن مجندات من قِبل وزارة المستعمرات لإفساد الشباب المسلم !(26/13)
أقول: سلسلة الكذب لا تنتهي؛ فسبحان الله! فهل مثل هذا الكلام يُصدق عن (إمام من أئمة أهل السنة)؛ ألف كتاباً في (الرد على الرافضة)، وجعل الرد عليهم في مطالب، منها: (مطلب المتعة)، قال - رحمة الله - في نهاية المطلب - ما نصُّه -: "والحاصل: أن المتعة كانت حلالاً ثم نُسخت وحُرمت تحريماً مؤبداً، فمن فعلها؛ فقد فتح على نفسه باب الزنا"أهـ(31 ).
الملاحظة التاسعة: ذكر في (38 و 42) أن (همفر) بعد نقاش أقنع (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) بأن (شرب الخمر) ليس بحرام، وأن (الصلاة) ليست فرضاً؛ فشرب الخمر، وتهاون في الصلاة !!!
أقول: قال الشيخ - رحمه الله - في رسالته إلى عالم بغداد (الشيخ عبد الرحمن السويدي) - رحمه الله - بعد أن بيّن له عقيدته، وما يدعو الناس إليه من إخلاص العبادة الله - تعالى -، وإنكار ما فشا في الناس من أمر الشرك؛ من دعاء الأموات، والالتجاء إليهم من دون الله - تعالى -، قال - رحمه الله -: "فإني ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة، وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الرِّبا، وشرب الخمر والمسكرات، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدحَ في هذا وعيبه؛ لكونه مستحسناً عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمرُ به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك، ولبَّسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان وَرَجِلِه؛ منها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً أن يفتريه، ... - وبعد أن عدَّد أموراً كثيرة مما نسب إليه - قال: والحاصل أن ما ذُكر عنّا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنَّهي عن الشرك، فكله من البهتان، وهذا لو خفي على غيركم فلا يخفى عليكم" اهـ( 32).(26/14)
واقرأ هذه الشهادة من الضابط البريطاني (سادلير)، واصفاً ما سمّاهم (الوهابيين): "مع سقوط (الدرعية)، وخروج (عبد الله) عنها، ويبدو أن جذور (الوهابيين) قد انطفأت، فقد عرفت من كلّ (البدو) الذي قابلتهم في (نجد) أنهم سنيُّون، وأنهم يداومون على (الصلاة) المفروضة حتى في السفر الطويل، وتحت أقسى الظروف"( 33). وهذا الكلام في أتباع (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) بعد وفاته فتأمل!!
الملاحظة العاشرة: ذكر في (ص 54) بأنَّ (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ذهب إلى (أصفهان وشيراز).
أقول: الشيخ - رحمه الله - لم يذهب إلى (أصفهان وشيراز)؛ فإن الذين ترجموا للشيخ حرصوا على تدوين كلِّ ما يتَّصل برحلاته، وبذكر البلاد التي زارها، ولم يذكر أحدٌ منهم ذهاب الشيخ - رحمه الله - إلى (فارس وإيران وقم وأصفهان وشيراز)! ومن ذكر هذا إنما نقله عن بعض المستشرقين الذين ذكروا ذلك في مؤلفاتهم المعروفة بالأخطاء، ومجانبة الحقيقة؛ أمثال: مرجليوث في "دائرة المعارف الإسلامية"، وبرايجس، وهيوجز، وزيمر، وبلقريف(34 ).
الملاحظة الحادية عشر: ذكر في (ص 54) أن (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) يؤمن (بالتقية).
أقول: قال الشيخ - رحمه الله - في معرض ردِّه على (الرَّافضة) في مسألة (التقيّة): "والمفهوم من كلامهم أن معنى (التقية) عندهم: كتمان الحق، أو ترك اللازم، أو ارتكاب المنهي؛ خوفاً من الناس، والله أعلم.
فانظر إلى جهل هؤلاء الكذبة، وبنوا على هذه (التقية) المشؤمة كتم علي نص خلافته ومبايعة الخلفاء الثلاثة...
وهذا يقتضي عدم الوثوق بأقوال أئمة أهل البيت وأفعالهم؛ لاحتمال أنهم قالوها أو فعلوها (تقية)!...
ما أشنع قول قوم يلزم منه نقص أئمتهم المبرئين عن ذلك" اهـ( 35).
الملاحظة الثانية عشرة: ذكر في (98)؛ أن من الخطط التي وضعت (للشيخ محمد بن عبد الوهاب) تكفير كل المسلمين، وإباحة قتلهم، وسلب أموالهم !!(26/15)
أقول: هذا من الافتراءات الكثيرة التي روجها أعداء (الدعوة)، وأنا ناقل من كلام (الإمام محمد بن عبد الوهاب) ما يدحض هذه الفرية، ويبين أن منهجه في (التكفير) هو (منهج أهل السنة والجماعة).
قال - رحمه الله -: "أركان الإسلام الخمسة: أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ إذا أقر بها وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفّره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نكفِّر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم؛ وهو الشهادتان" اهـ( 36)، وقال - رحمه الله -: "ولا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبِّههم"اهـ( 37)، وقال - رحمه الله -: "وأما الكذب والبهتان؛ فمثل قولهم: إنا نكفِّر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنَّا نكفِّر من لم يكفِّر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان؛ الذي يصدُّون به الناس عن دين الله ورسوله..." اهـ( 38)، وقال - رحمه الله -: "ولا نشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار؛ إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمسلم، وأخاف على المسيء" اهـ( 39)، وقال - رحمه الله -: "ولا أكفر أحداً بذنب، ولا أُخرجه من دائرة الإسلام" اهـ( 40)، وقال - رحمه الله -: "وأما ما ذكره الأعداء عني أنِّي أكفِّر بالظنِّ، والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم؛ يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله" اهـ( 41)، وقال - رحمه الله - : "والله يعلم أن الرجل - ابن سحيم - افترى علي أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي؛ فمنها: أني أكفر البوصيري، وأني أكفر من حلف بغير الله...(26/16)
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم" اهـ(42 )، وقال - رحمه الله -: "وأجلبوا علينا بخيل الشيطان وَرَجِله؛ منها: إشاعة البهتان بما يستحي أن يحكيه، فضلاً على أن يفتريه، ومنها ما ذكرتم: أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟!!..." اهـ( 43)، وقال - رحمه الله -: "وكذلك تمويهه على الطغام بأنَّ ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد على ما يعمله من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو مسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعد ما تبين له الحجة على بطلان الشرك" اهـ( 44) وقال - رحمه الله -: "وأما القول: أنَّا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء، الذي يصدّون به عن هذا الدِّين، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم" اهـ(45 ).
والآن أذكر لك أيها (القارئ الكريم) شهادة (حق) من بعض العلماء على هذا الكلام:
قال الشيخ العلامة الكبير المحدِّث الفقيه النحرير (محمد بشير السهسواني الهندي) نافياً عن الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) تهمة (تكفير المسلمين واستباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم): "إن الشيخ وأتباعه لم يُكفروا أحداً من المسلمين، ولم يعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأنَّ من خالفهم هم المشركون، ولم يستبيحوا قتل أهل السُّنَّة وسبي نسائهم... ولقد لقيت غير واحد من أهل العلم من أتباع الشيخ، وطالعت كثيراً من كتبهم، فما وجدت لهذه الأمور أصلاً وأثراً، بل كل هذا بهتان وافتراء" اهـ( 46)، وعلَّق (الشيخ محمد رشيد رضا) على الكلام السابق بقوله: "بل في هذه الكتب خلاف ما ذُكر وضدُّه؛ ففيها أنهم لا يُكفِّرون إلا من أتى بما هو كفر بإجماع المسلمين" اهـ(47 ).(26/17)
الملاحظة الثالثة عشرة: ذكر في (98) أن من الخطط التي وضِعت (للشيخ محمد بن عبد الوهاب)؛ هدم القباب والأضرحة.
أقول: أخرج (مسلم) في "صحيحة" عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".
وأخرج عن جابر - رضي الله عنه - قال: "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصّص القبر، وأن يبني عليه، وأن يكتب عليه".
وأخرج عن ثمامة بن شّفيّ قال: كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره يُسوى، ثم قال: "سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يأمر بتسويتها".
قال الترمذي - رحمه الله -: "باب ما جاء في تسوية القبور".
وقال ابن ماجه - رحمه الله -: "باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها".
قال النووي - رحمه الله – في شرح صحيح مسلم : قال الشافعي –رحمه الله-: "رأيت الأئمة في مكة يأمرون بهدم ما بُني".
و "الذي يرجع لمبدأ (البناء على القبور) في (العالم الإسلامي)، يراه مرتبطاً بقيام (دولة القرامطة) في (الجزيرة العربية)، (والفاطميين) في (المغرب) ثم في (مصر)"( 48).
الملاحظة الرابعة عشرة: ذكر في (99) أن من الخطط التي وضعت (للشيخ محمد بن عبد الوهاب)؛ نشر قرآن فيه تعديل كما جعل في الأحاديث من زيادة ونقيصة !!(26/18)
أقول: إليك عقيدة الشيخ - رحمه الله - في (القرآن الكريم)، وحكم الزيادة فيه، والنقص منه: قال - رحمه الله -: "واعتقاد ما يُخالف كتاب الله كفر" اهـ( 49)، وقال - رحمه الله -: "فمن اعتقد ما يُخالف كتاب الله فقد كفر"اهـ( 50)، وقال –رحمه الله-: "ومن اعتقد عدم صحة حفظ القرآن الكريم من الإسقاط، واعتقد ما ليس منه أنه منه؛ فقد كفر" اهـ( 51)، وقال - رحمه الله -: "ومُكذِّب القرآن كافر ليس له إلا السيف وضرب العنق" اهـ(52 )، وقال - رحمه الله -: "ومن هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول؛ فهو كافر" اهـ( 53).
الملاحظة الخامسة عشرة: ذكر في (ص101) أن (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) استبعد أن يقدر على (هدم الكعبة) عند الاستيلاء عليها.
أقول: أكتفي بالجواب على هذا الهراء؛ بنقل شهادة (رجل) (ليس من أهل نجد)، بل وليس من مؤرخي (المشارقة)، وإنما هو من مؤرخي (المغاربة)؛ يحكي لنا واقعة بعد وفاة (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (بعشرين سنة) تقريباً، وهذا الرجل هو (أحمد الناصري) صاحب كتاب: "الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى"(54 )، وقد غطى حيزاً كبيراً من أخبار (دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)؛ بأكثر من (عشر صفحات).
يقول (أحمد الناصري) عن السلطان (سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي) ( 55): "أنه أراد أن يتحقق من (ابن سعود) وما يدعو إليه، فأرسل ابنه (المولى إبراهيم في جماعة من علماء المغرب وأعيانه، ومعه (جواب) من والده، فوصلوا إلى (الحجاز)، وقضوا (المناسك)، وزاروا (الروضة الشريفة)، كل هذا على (الأمن والأمان)، (والبر والإحسان)".(26/19)
ثم أردف (أحمد الناصري) قائلاً: "حدثنا جماعة وافرة ممن حجَّ مع (المولى إبراهيم) في تلك السنة، أنهم، ما رأوا من ذلك (السلطان) - يعني الإمام سعود -؛ ما يُخالف ما عرفوه من (ظاهر الشريعة)، وإنما شاهدوا منه، ومن أتباعه غاية الاستقامة، (والقيام بشعائر الإسلام)؛ من (صلاة وطهارة)، (وصيام)، و(نهي عن المنكر الحرام)، (وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام)؛ التي كانت بهما من غير نكير، وأنه لما اجتمع (بالشريف المولى إبراهيم)، أظهر له التعظيم الواجب (لآل البيت الكريم)، وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته، وكان الذي تولَّى الكلام معه (الفقيه القاضي)؛ (أبو إسحاق إبراهيم الزرعي)" اهـ( 56).
الملاحظة السادسة عشرة: ذكر في (ص101-102) أنه بعد سنوات من العمل تمكنت الوزارة من جلب (محمد بن سعود) إلى جانبها، فأرسلوا إلى (محمد بن عبد الوهاب) رسولاً يبين له ذلك، ويظهر وجوب التعاون بين (المحمدين)؛ فمن (محمد بن عبد الوهاب) الدين، ومن (محمد بن سعود) السلطة... !!
أقول: المذكور الثابت في (كتب التاريخ) أن الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - ذهب إلى (الدرعية) بلد (محمد بن سعود)، فعلِم به خصائص من أهل (الدرعية)، فزاروه خفية، ورأوه لا يزال على سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم (ثابتاً)، فأرادوا أن يُخبروا (محمد بن سعود)، ويشيروا عليه بنصرته، فهابوا فأشارت (المرأة) على (زوجها)، وكذلك أخواه (ثنيان ومشاري)، بمساعدة الشيخ ونصرته، وألقى الله - سبحانه - في قلبه للشيخ محبة ، فقام (محمد بن سعود) من فوره، وسار إليه، ومعه (أخواه)، فسلم عليه، ورحَّب به، وأبدى غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده، وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعزِّ والمنعة.(26/20)
فقال (الشيخ): وأنا أبشِّرك بالعزِّ والتمكين، وهذه كلمة "لا إله إلا الله"؛ من تمسَّك بها وعمل بها ونصرها، ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرُّسل؛ من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى (نجداً) (وأقطارها) أطبقت على (الشّرك)، (والجهل والفرقة)، (وقتال بعضهم لبعض)؛ فأرجو أن تكون (إماماً) يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك.
ثمَّ لَّما تحقَّق (محمد بن سعود) من معرفة التوحيد وفضله، ورأى بُعدَ الناس في الواقع عنه، قال للشيخ: يا شيخ! إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، وأبشر بالنُّصرة لك ولِما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد " (57 )
الخاتمة : قد وجد القدح في (هذه الدعوة) صدى في نفوس (راغبي الزعامة) (والتسلط)، باسم (المعرفة والعلم)، ولدى (أصحاب الأهواء) و(المصالح الظاهرة) أيضاً.
هذا من (جانب)، ومن (جانب) آخر انطلت (النسبة) إلى (الوهاب): (الوهابية) نبزاً بدعوة الشيخ!!، وهي نسبة غير صحيحة –من حيث مراد الطاعنين-، لأنهم لو نسبوها (للشيخ محمد) لصارت (محمدية)، ولا يتحقق لهم ما أرادوا؛ لأن (الدين الإسلامي) كلمة يسمى (الرسالة المحمدية)، نسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بلّغها عن ربه( 58).
وما أرادوه بالطعن منلقبٌ عليهم ؛ فـ(الوهابية) نسبة إلى الله –تعالى- الذي من أسمائه –سبحانه-: "الوهاب"؛ فالحمدلله.
ولا أستبعد أن يكون جميع من كتب متهجماً على (الشيخ محمد) (ودعوته)، ومن يقوم بنشر ذلك بين الناس لم يقرأ واحداً من كتبه؛ سواء في (التوحيد والعقيدة)، أو (الفقه والأحكام)، أو (التفسير)، أو (السيرة النبوية)، بل إنه لم يناقش رأياً مما قال، وإنما حرَّكتهم (المصالح الدنيوية)، (وأعماهم الهوى)... (59 )(26/21)
وقد أثبتت الأيام صدق وإخلاص (الشيخ محمد) –رحمه الله-؛ حيث بقي صدى الدعوة، بل ازداد، وحرص الناس في كل مكان على تتبع كتبه –رحمه الله-، ودراستها ، كما عاد كثير من المناوئين إلى رُشده ، بعدما استبان لهم سلامتها ، وصدق هدف الداعية ؛ (لأن الحق أحق أن يتَّبع) ( 60).
هذا إلى (جانب) اهتمام المسلمين بها في كل مكان، وتحقق طلبة العلم من صدق الهدف ، وبُعدها عن مسارب البدع والخرافات التي أنكرها علماء الإسلام في كل مكان.
ولقد زاد الأمر وضوحاً أن الناس في كل مكان ما كانوا ليقنعوا إلا بما هو واضح ، يدعمه الدليل ، فوضح أمامهم أن (محمد بن عبدالوهاب) كغيرة من الدعاة المصلحين جاء ليجدد الدعوة ، وينقي العقيدة من الفساد ، الذي أُدخل عليها نتيجة الجهل؛ أداء للأمانة، ونصحاً للأمة ، ليعيد الناس بأعمالهم واعتقاداتهم إلى (منهج السلف الصالح)، منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى نهاية القرن الثالث الهجري ؛ حيث بدأت البدع تدخل الصف الإسلامي، نتيجة غلبة الأمم، والتأثر بثقافات الأمم الأخرى في معتقداتها، ولضعف العلماء في أداء الأمانة( 61). وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-------------------------------
الهوامش :
( 1)وقفت على نسختين لهذه (المذكرات)؛
الأولى باسم: "اعترافات الجاسوس الإنجليزي" الطبعة الرابعة، قد طبعت طبعة جديدة بالأوفست وقف الإخلاص، تطلب من مكتبة الحقيقة بشارع الشفقة بفاتح 57 استانبول – تركيا.. هجري قمري (1413)، هجري شمسي (1370)، ميلادي (1992)؛ تقع في (103) صفحة من القطع الوسط، وبآخرها ملحق بعنوان: (عداوة الإنكليز للإسلام) (ص104-148)، وملحق آخر بعنوان (خلاصة الكلام) (149-186).
الثانية باسم: "سيطرة الإنكليز ودعمهم لمحمد بن عبدالوهاب"، أو "مذكرات مستر همفر الجاسوس البريطاني في البلاد الإسلامية".(26/22)
نقله إلى العربية الدكتور (م.ع.خ)، تقع في (85) صفحة من القطع الوسط! ولا يوجد عليها أي معلومات عن دار الطباعة أو سنة الطبع!!
( 2) "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية": (ص 39) د. محمد بن سعد الشويعر.
( 3) قال الإمام محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله-: "لست –ولله الحمد- أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أُعظّمُهم؛ مثل: ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم؛ بل أدعو إلى الله –وحده لا شريك له-، وأدعو إلى سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أردُّ الحق إذا أتاني؛ بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه: إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنّها على الرأس والعين، ولأضربنَّ الجدار بلك ما خالفها من أقوال أئمتي؛ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقول إلا الحق..." اهـ (القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب –الرسائل الشخصية): (ص252).
( 4) كما في (ص 14، 19) من "مذكراته".
(5 ) كما في (ص 15، 18، 27، 28، 44) من "مذكراته"!.
( 6) قال شيخ الإسلام (ابن تيمية) –رحمه الله-: "لم يزل الله –سبحانه وتعالى- يقيم لتجديد الدين من الأسباب ما يكون مقتضياً لظهوره؛ كما وعد به في الكتاب؛ فيظهر به محاسن الإيمان ومحامده، ويعرف به مساوئ الكفر ومفاسده، ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين، ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين...؛ وذلك أن الحق –إذا جُحد وعُورض بالشبهات –أقام الله- تعالى- له مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات البينات، بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة... قال –تعالى-: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) [آل عمران: 179] اهـ. "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح": (1/84-87).
( 7) "سير أعلام النبلاء" (14/277).(26/23)
( 8) وهذا ما وقع به التصريح في (مجلة منار الهدى)؛ (الحبشيَّة الهرريَّة) (العدد 28)، رمضان 1415هـ - شباط 1995، في (ص62): "وفي عام (1125هـ - 1713) وقع في شراك الجاسوس الإنجليزي (همفر) وأصبح آلة لمساعي الإنكليز لمحو الإسلام، ونشر عبد الوهاب ما أملى عليه الجاسوس من الأكاذيب باسم (الوهابية)". أهـ.
فسبحان من أعمى أبصارهم وبصائرهم...!!!
( 9) أنظر: "عنوان المجد في تاريخ نجد" لعثمان بن بشر: (1/29).
(10 ) انظر كتاب: "انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية" - لمحمد كمال جمعة - (ص 63 - 87).
(11 ) انظر: "رحلة عبر الجزيرة العربية" لسادلير: (ص85 - 87 وص96 - 99 و ص105 - 110 و ص149 و ص156 - 159). ترجمة: أنس الرفاعي، والناشر: سعود بن غانم العجمي.
(12 ) أنظر: "محمد بن عبد الوهاب؛ مصلح مظلوم ومفترى عليه" لمسعود النَّدري: (ص 150 - 154).
( 13) وهي مطبوعة بتحقيق ناصر بن سعد الرشيد مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي مكة المكرمة. ط: الثانية. طبعت بإشراف دار المأمون للتراث 1400هـ.
(14 ) ومن رام الاستزادة والوقوف على حقيقة هذا الكلام وأضعافه؛ فلينظر كتاب "أصول مذهب الشيعة الإثني عشرية عرض ونقد" للدكتور ناصر القفاري.
( 15) انظر: "عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي" للدكتور صالح بن عبدالله العبود: (1/178-179).
( 16) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 96".
(17 ) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 107".
( 18) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 101".
( 19) أي: أتباع الشيخ (محمد بن عبد الوهاب).
(20 ) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان": (ص 510 - 511) في الحاشية.
( 21) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 11".
( 22) مؤلفات الشيخ "القسم الأول - العقيدة - ص 394".(26/24)
( 23) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 32".
(24 ) انظر: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي": (1/40 - 41)، و "انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية" لمحمد كمال جمعة: (13)، و "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور العجلاني: (47).
( 25) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 10".
( 26) "رسالة في الرد على الرافضة": (14).
(27 ) "رسالة في الرد على الرافضة": (18).
( 28) "رسالة في الرد على الرافضة": (27).
( 29) "رسالة في الرد على الرافضة": (17).
(30 ) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية -" (ص 11).
( 31) "رسالة في الرد على الرافضة" (ص 34 - 35).
( 32) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 36)"، وانظر كتاب: "البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار" لفوزان السابق: (ص 81 - 82)، وانظر كتاب: "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد" لعبد العزيز العبد اللطيف: (ص 170 - 171)، و"الدرر السَّنية في الأجوبة النجدية": (1/65).
(33 ) "رحلة عبر الجزيرة العربية" لسادلير: (ص 139).
(34 ) انظر: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي" للدكتور صالح بن عبد الله العبود (1/ 175 - 176).
( 35) "رسالة في الرد على الرافضة": (ص 20 - 21) بتصرف.
( 36) "تاريخ نجد": (2/271)، ومؤلفات الشيخ "القسم الثالث - الفتاوى - ص 9"، و"الدَّرر السَّنيَّة في الأجوبة النجدية" (1/102).
(37 ) مؤلفات الشيخ "القسم الثالث - الفتاوى - ص 11".
(38 ) مؤلفات الشيخ "القسم الثالث - الفتاوى - ص 11".
( 39) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية ص 11".
(40 ) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية ص 11".
( 41) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية ص 25".(26/25)
( 42) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية ص 11، 12، 62".
( 43) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية - ص 36.
(44 ) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية ص 60".
( 45) مؤلفات الشيخ "القسم الخامس - الرسائل الشخصية ص 100 - 101".
( 46) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان": (ص 510).
( 47) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان": (ص 510) في الحاشية.
( 48) "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" للدكتور محمد بن سعد الشويعر: (ص 103)
( 49) "رسالة في الرد على الرافضة": (14، 7).
( 50) "رسالة في الرد على الرافضة": (8).
(51 ) "رسالة في الرد على الرافضة": (15).
( 52) "رسالة في الرد على الرافضة": (25).
(53 ) مؤلفات الشيخ "القسم الأول - العقيدة - ص 118".
( 54) (8/ 120 - 122).
(55 ) الذي بويع في (فاس) في حدود عام (1226 هـ)، وقد كان معاصراً للإمام (عبد الله بن سعود)، ووالده الإمام (سعود بن عبد العزيز)؛ الذي دخل مكة المكرمة في المرة الأولى حاجاً عام (1214 هـ) الموافق لعام (1799 م).
(56 ) وانظر: "الإعلام بمن حلَّ مراكش وأغمات من الأعلام" للعباس بن إبراهيم: (10/ 68 - 73). نقلاً من كتاب "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" بتصرف.
( 57) انظر: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية" (2/162 - 167) تصرف.
( 58) "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" (ص79).
( 59) "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" (ص84- 85).
( 60) "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" (ص 90).
(61 ) "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" (ص 112).(26/26)
كرامات غمارية .. ( الغماري يتصرف في الكون كله ) !!
هذه بعض الكرامات الغمارية التي ذكرها أحمد الغماري في كتابه " التصور والتصديق " ؛ يرى القارئ من خلالها كيف وصل الحال بهؤلاء الخرافيين إلى منازعة الله في ربوبيته ؛ ليصرفوا بذلك عامة الناس عن إخلاص العبادة لله وحده ، واستبدالها بتقديس أساطين الخرافة ، المُتكسبين بها مالا أو جاهًا .
والحمد لله أن انتشار التعليم بين المسلمين ، وترقيهم في الاطلاع والثقافة ، مع ظهور دعوة التوحيد ، قد ساهم بشكل كبير في اختفاء مثل هذه المظاهر الخرافية ، أو على الأقل استخفاء أهلها بها خوفًا من التشنيع عليهم ؛ فرأينا – مثلا – من يُعيد طبع الكتب الصوفية ، ويحذف ما فيها من خرافات ؛ لعلمه أن الحال قد تغير ، وأن الناس لم تعد تنطلي عليهم مثل هذه الحكايات والمنامات .. الخ .
ولاشك أن طلبة العلم الفضلاء يعلمون ماسببته تلك العقائد الشركية من تخلف للأمة ، واحتلال الأعداء لأراضيها ؛ بسبب افتقاد الشرط المهم من شروط النصر والعزة : ( .. يعبدونني لايشركون بي شيئًا ) . فلابد من التواصي بكشف زيفها ، وتحذير المسلمين منها ومن تبعاتها ، على دينهم ودنياهم ، ودعوتهم إلى التعلق بالله وحده .
الكرامات الغمارية :
وهي لوالده وأجداده ، ورقم الصفحة يلي كل مقطع :(27/1)
- أحدهم ( كان يقيم بموضعين من القبيلة المذكورة ، وله في كل منهما تلامذة ، وأصحاب أحدهما يسمى بيدر، والآخر ورطاس، وبهذا الأخير كانت وفاته، وبه دفن أولاً، ثم جاء أهل بيدر ونقلوه إليها ، فلما علم أهل ورطاس بذلك قصدوهم إلى مدفنه الأول، فامتنع من ذلك أهل بيدر ، ووقع بينهم نزاع كاد يفضي إلى المحاربة والقتال، فبينما هم كذلك إذ وقف الشيخ على واحد منهم في رؤيا منامية، فقال له: لم هذا النزاع وأنا موجود بالقبرين معاً، فمرهم يحفرون على القبرين فإنهم يجدوني في كل منهما ؟ فلما أخبرهم بما رأى فعلوا ذلك، فوجدوا الشيخ في كل من القبرين، فرضي الفريقان، وبنى كل واحد على القبر الذي عنده قبة، هما موجودتان إلى الآن، وكلتاهما مزارة مقصودة ) !! ( 6-7) . هذه الزبدة !
- أحدهم : ( نزل على أحد سكان القرية فأكرمه باعتباره ضيفاً غريباً، ثم كلفه برعي غنمه، فكان يخرج بها صباحاً ثم يذهب إلى محل بعيد فيه حفرة واسعة فيجمعها هناك ، ثم يقبل على العبادة إلى آخر النهار ثم يعود بها، وأحياناً يذهب لناحية أخرى فيتركها وحدها وينصرف، فمر ذات يوم بعض الناس على تلك الغنم، ورأى ذئباً يحوم حولها، فذهب إلى ربها وأخبره، فذهب للتحقق مما قال فوجد الغنم ترعى والذئب يحرسها، فتعجب مما رأى ورجع إلى موضعه، فلما جاء المترجَم آخر النهار سأله عن الحقيقة وألح عليه في ذلك، فأخبره أنه يذهب إلى مكة المكرمة للصلاة بها !! ويترك الذئب حارساً للغنم، فترك الرجل بعد ذلك تكليفه برعي الغنم، وقال له: اشتغل بعلمك وعبادتك، ولا تفكر في القوت والمؤنة، وبالغ في تعظيمه ) . ( 7 ) .(27/2)
- أحدهم : ( قصد ضريح ولي الله سيدي أحمد الفلالي، فكان يختم فيه كل ليلة ختمة كاملة من القرآن العظيم في الصلاة، ويسأل الله تعالى أن ييسر له من يأخذ عنه العلم، لأنه تحير في ذلك، ولم ينشرح صدره لطلبه بفاس، فاستمر على ذلك أربعين ليلة ختم فيها أربعين ختمة، وصبيحة اليوم الحادي والأربعين نزل من ضريح الشيخ المذكور، فوجد بالطريق رجلاً منكمشاً في مرقعته من شدة البرد، وعن يمينه وشماله أكوام من الثلج ، وحال الغربة بادية عليه فسلم، وسأله عن حاله، فأجابه بأنه غريب مسكين، فطلب منه الشيخ أن ينزل معه، فامتنع واعتذر بأن رجليه حافيتان ولا يقدر على المشي في الثلج بدون حذاء فخلع الشيخ حذاؤه وأعطاه إياه، فلبسه ونزل معه ، فأطعمه وأكرمه، وبقي معه ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع قال له: أتعرف من أنا، قال : لا. قال : أنا من بلاد بعيدة جئت مخصوصاً من أجلك ، أرسلني سيدي علي بن أحمد من جبل صرصر لأعلمك العلم، ففرح غاية بهذه الكرامة التي أجاب الله بها دعوته على يد الولي الشهير سيدي علي بن أحمد وذلك من طريق الغيب والتصرف بعد الموت ) !! ( 8-9) .(27/3)
- والده : ( كان الشيخ رضي الله عنه في بداية أمره يعمل بظاهر الحديث المذكور ويهتم بأمر المسلمين اهتماماً ما رآه الراؤون من أحد من أهل عصره لا سيما العلماء ، ودام يسعى في ذلك أزيد من خمس عشرة سنة بما يطول شرحه ولا يساعد الوقت على ذكره ، ثم صار في نهايته يعمل بباطن الحديث أيضاً ، فسلم الأمر لله وصار يترقب ما يبرز من الحضرة الإلهية دون وساطة بشر أو سعي مخلوق. وكذلك صار في آخر عمره لا يتكدر مما عليه الناس من كثرة المعاصي والمخالفات، ولا يتأسف على ذلك ولا يكثر من ذكره إلا على سبيل القلة والندرة ، بخلاف ما كان عليه في بداية أمره ؛ فإنه كان كثير التعرض لذلك في دروسه وخطبه ومجالسه بقصد تغيير المنكر والتنبيه عليه ، وذلك أيضاً من كمال المقام في المعرفة وهو مقام عدم الاعتراض على شيء من الأقدار الإلهية ولو خاطراً كما ذكر العارف الشعراني، قال : وهو مقام عزيز لا يثبت فيه إلا من أطلعه الله تعالى على اللوح المحفوظ وعرف ما سبق به العلم الإلهي ) . ( 164-165) . هذا سبب تعاون الصوفية مع أعداء الأمة ، ورضاهم بالاستعمار !
- قال أحمد : ( حدثني من ذهب أخيراً إلى بعض الأولياء وكان متخوفاً عليّ من بعض الحوادث الوقتية فقال له ذلك الولي : والله ما يتوصلون منه ولا إلى قلامة ظفر لا ظاهراً ولا باطناً ، فإن والده هو الذي يتصرف في الكون كله ) !! ( 172) . نعوذ بالله من الشرك البواح .
- ( ومنها ما حدثني به بعض الصالحين من أصحابه قال : ذهبت إلى الشيخ يوماً وأذن لي بالدخول ، فلما أقبلت على المحل الذي هو به رأيت ذاته عظيمة جداً قد حازت ركناً كبيراً من الغرفة ، فدهشت لذلك ، فلما وقع بصره علي تبسم وقال : مرحباً ، فزال عني ما أصابني من الدهش ، ثم رجع جسمه إلى حالته الاعتيادية ) ! ( 187 ) .(27/4)
فائدة : قال في ص 63 عن والده : ( ويحب مذهب الزيدية ويعترف بفضلهم وبراعتهم في الفقه واستنباط المسائل ، وذكر الدليل في كتبهم ، وكان يحبها ويرغب في الحصول عليها ويسأل عنها بتلهف ) . أظن هذا هو السبب في تشيع الغماري ، وطعنه في معاوية - رضي الله عنه - خاصة ، مع عدم نسيان " صلة التصوف بالتشيع " .
مقالان مهمان لأخوين فاضلين :
http://saaid.net/Doat/ehsan/59.htm
http://saaid.net/feraq/sufyah/12.htm(27/5)
دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - : بين : ابن سند .. و عدنان زهار
من مهمات الباحث من باعثي كتب التراث أن يتقي الله في عمله في أمور كثيرة ؛ من أهمها في نظري - بعد إخلاص النية – تنبيهه على المخالفات الشرعية التي قد توجد في تلك الكتب ، سواء كانت علمية ، أو وقوع في جور ، أو غير ذلك . فبهذا يبرئ الباحث ذمته ، وينجو من تحمل وزر السكوت أو تأييد المنكر .
وفي هذا الوقت الذي تقارب فيه الزمان والمكان ، وتجلت فيه الحقائق ، وانكشفت الأمور ، لا عذر للباحث إذا غالط أو شوّه الحق ، أو بهت الآخرين بما ليس فيهم ، لأنه يأتي ذلك عن علم لا غبش فيه ، بعد أن تيسرت وسائله – كما سبق - .
ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – السلفية قد طالها منذ أن جهر بها ظلمٌ عظيم ، تواطأ عليه الكفار وأهل البدع – للأسف - ، مشوهين صورتها ، ( تجد نماذج من ذلك في كتاب دعاوى المناوئين للدكتور عبدالعزيز آل عبد اللطيف – حفظه الله - ) . يقول المحامي عباس العزاوي في كتابه " ذكرى أبي الثناء الألوسي " ( ص 37 ) – متحدثًا عن الشيخ محمد - : " أما الدولة العثمانية فإنها حاذرت من تأثيره على بلاد العرب خارج نجد ، فأغرت العلماء في الرد عليه ، والطعن في أهله ، فاختلقوا عليهم ما شاؤا ، ونبزوا مذهبهم بما أرادوا ، وهذا لم يمنع الكثير من العلماء أن يناصروه ويؤيدوه في الخفاء ".(28/1)
*والحق أن دعوته – رحمه الله - هي دعوة التوحيد التي تريد للمسلمين : العزة ؛ بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وبتصفية مجتمعاتهم من المخالفات الشرعية . ، وقد أراد الله – وله الحمد وحده – إظهارها ونصرها في هذا الزمان ، وإماتة جهود أعدائها ، وتيسير انتشارها بين المسلمين ، ومعرفتهم لحقيقتها ، من خلال تراثها وبلادها ، وهذا مما يُفرح العقلاء منهم خاصة ، ممن أدركوا أنها دعوة الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ؛ لأنهم يعلمون أنها وسيلتهم " دينيًا " إلى إعادة مجد الأمة ، والخروج من نفق الاستضعاف والذل .
فلاعذر بعد اليوم – في ظل تيسر الحصول على المعلومات -* أن يردد باحث ما قاله المناويؤن لها دون بينة ، وإلا كان من الظالمين الباهتين ، الذين قال الله فيهم : ( وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِين ) .
مادعاني لكتابة ما سبق : وقوفي على تعليقين للأستاذ عدنان زُهار – هداه الله - ، أيد فيهما كلام أعدائها عنها ، وذلك في تعليقاته على كتب أحمد الغماري ، التي كان الدين والإنصاف يدعوانه إلى نشر ما فيها من فوائد ، مع التعليق على مخالفاته – المتنوعة - ، وعدم غش الأمة بالسكوت عنها ، فضلا عن تأييدها .(28/2)
1- قال الغماري في كتابه " الأجوبة الصارفة " ( ص 56 ) – متحدثًا عن عرب الجزيرة - : ( وأيضًا فقد وجد فيهم مع هذا المبتدعة ( يقصد القرامطة ! ) الذين خرجوا عن الحق وفارقوا الدين، وسرقوا منه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم قتلاً ونهباً وظلماً ، وامتدت أيديهم إلى حرم الله تعالى، حتى هتكوا حرمة الكعبة وأخذوا الحجر الأسود، إلى غير ذلك من التاريخ الأسود، الذي شوه وجه الإسلام، ولا يزال ذلك فيهم إلى يومنا، فقد ظهر في أواخر القرن الثاني عشر في جزيرة العرب قرن الشيطان النجدي، ونشر مذهبه الخارجي، وكفر المسلمين وعاث في الأرض فساداً ونهب وسفك الدم الحرام وهتك حرمات الحرمين الشريفين، إلى أن كان تطهيرها منه على يد العجم حكام مصر الأتراك، ثم أعادوا الكرة في هذه المائة وعاثوا فساداً وسفكوا الدماء وأهانوا الحرمين الشريفين، وملؤوها فسقاً وفجوراً كما هو معروف من سيرتهم، ولا يزالون بالحجاز - طهره الله منهم- ) !!
فماذا قال الزهار عن هذا الكذب والبهتان ؟ هل تُراه رجع إلى كتب الشيخ وتلاميذه ، أو الكتب التي بينت تاريخ الدعوة ، وحقيقتها – وهي في متناول يده إن أراد – ليتثبت ؟
للأسف لم يفعل هذا .. إنما ذهب يؤيد أكاذيب الغماري بتعليق يقول فيه :
( قد كان حصل هذا على أيدي الوهابية، وهذا الذي ذكر المؤلف - رحمه الله - بعض من كثر ( هكذا ) أنواع الفساد الذي جاهد له بعض دعاة السلفية في بلاد الحجاز، ولسنا نتهم بالخيانة والإفساد.. محمد بن عبدالوهاب ؛ لأننا نعتقد أنه ممن كذب عليه ونسب إليه ما لم يقل وما لم يفعل، وإن كنا نرى أنه ممن أفرط في حركته الإصلاحية بهدم قبور أضرحة الصحابة والتابعين وأولياء هذه الأمة ) !!
تأمل : ( قد كان حصل هذا ) !! و ( أنواع الفساد ) !! *
تأكيد وتكثير !
ولم يبين ( أنواع الفساد ) . هل هو مايسميه " هدم قبور الصحابة " – بهذا التهويل العاطفي - ؟(28/3)
ولو كان منصفًا لقال : " هدم ما بني على قبور الصحابة " . وهذا مما يُشكرون عليه ويؤجرون ؛ لأنه تنفيذٌ لوصية وأوامر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أظن الأدلة الصحيحة تخفاه . من أهمها قوله صلى الله عليه وسلم لعلي – رضي الله عنه - : " " لا تدع صورة إلاَّ طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلاَّ سويته " رواه مسلم في صحيحه .وللمزيد ينظر هذا الرابط :
http://www.alukah.net/majles/showthread.php?t=110
أما مذهبهم في التكفير ، فليت الزهار تعرف عليه ، وتأمله تأمل منصف وطالب حق ، قبل أن يخط ما خط ، ويجد على هذا الرابط :
http://saaid.net/monawein/sh/11.htm
وهذا :
http://saaid.net/monawein/sh/2.htm
- أما سيرتهم أثناء دخولهم الحرمين ، فقد أفصح عنها الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب – رحمهم الله - ، في رسالته التي كتبها *سنة 1218هـ بعد دخوله والإمام سعود بن عبدالعزيز مكة ، كتبها إجابة منه لمن سألة عما يعتقدونه ويدينون الله به ، وبياناً لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، ومنهجهم في الدعوة والأمر بالمعروف . قال – من ضمنها - : " .. ثم رُفعت المكوس والرسوم ، وكُسرت آلات التنباك ، ونودي بتحريمه ، وأحرقت أماكن الحشاشين ، والمشهورين بالفجور ، ونودي بالمواضبة على الصلوات في الجماعات ، وعدم التفرق في ذلك ، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد ، واجتمعت الكلمة حينئذ ، وعُبد الله وحده ، وحصلت الألفة ، وسقطت الكلفة ، واستتب الأمر من دون سفك دم ، ولا هتك عرض ، ولا مشقة على أحد ، والحمد لله رب العالمين " . ( تجدها كاملة في كتاب : الدرر السنية 1/222-242، وهي مهمة جدًا لما فيها من حقائق وتفصيلات وإقرارات من علماء مكة حين ذاك ) .
فهل ما سبق من الإفساد ، أو الإصلاح ؟
هداه الله ، ووفقه لما يُحب ويرضى ، وألزمه العدل والإنصاف .
*(28/4)
2- قال الغماري في مقدمة رسالته " الزواجر المقلقة " : " أما بعد، فإن بعض الجهلة البلداء ممن ينتمي إلى مذهب القرنيين الخوارج أنكر التداوي بالصدقة والاستشفاء بها "!
فعلق عدنان : " عادة ما كان المؤلف ينعت بعض خصومه بالقرنيين والخوارج، إشارة بالأولى إلى حديث ابن عمر قال: "استند النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة فقال: "إن الفتنة هاهنا، إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان" وزاد بعضهم: وهو مستقبل المشرق. وفي رواية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا وفي نجد، قال منها يطلع قرن الشيطان". وغيرها من الأحاديث. وكان يرى أن محمد بن عبدالوهاب النجدي ومن تبعه هو المقصود بقرن الشيطان فسماهم قرنيين. وأشار بالخوارج إلى كون هؤلاء من أكثر الناس استباحة لتكفير المسلمين بأدنى ذنب أو حتى شبهة، وهو ما عرف عن الخوارج الذين كفروا حتى علياً عليه السلام. ومذهب القرنيين لا زال إلى اليوم يحكم على أغلب الأمة بالكفر والفسق والشرك، وأخفهم حكماً من يبدع السواد الأعظم من المسلمين، والله حسبنا ونعم الوكيل " !!
قلتُ : صدقتَ ! فحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن يفتري على غيره ، ويذمهم بما ليس فيهم ، وتجد جواب كلامك حول حديث قرن الشيطان على الرابط قبل السابق . وأما التكفير فقد سبق .
أسأل الله الهداية للأستاذ عدنان ، وأن يجعله من أنصار دينه ، فيما يُحقق أو يكتب ، فإن تكن الأخرى ، فيكون منصفًا ، ممتثلا لقوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ) . وإذا ما استشكل أمرًا ، فليسأل وليسترشد ، قبل أن يتبنى الخطأ أو يؤيده .
أحد المناوئين للدعوة يُنصفها ، ويعترف بالواقع(28/5)
هو الشيخ عثمان بن سند ( ت 1250) ، الذي عاصر الدعوة ، وناوأها ، لكنه ما ارتضى أن يُغالط ما يراه على أرض الواقع من حسناتها ، لذا قال في كتابه " مطالع السعود " - بعدما انتقد الدعوة - :
" ومن محاسن الوهابيين أنهم أماتوا البدع . ومن محاسنهم أنهم أمّنوا البلاد التي ملكوها ، وصار كل ما صار تحت حكمهم من هذه البراري والقفار يسلكها الرجل وحده على حمار ، بلا خفر ، خصوصًا بين الحرمين الشريفين . ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض ، وصار جميع العرب – على اختلاف قبائلهم – من حضرموت إلى الشام – كأنهم إخوان ، أولاد رجل واحد وهذا بسبب قسوتهم في تأديب السارق والقاتل والناهب ، إلى أن عُدم هذا الشر في زمان ابن سعود ، وانتقلت أخلاق الأعراب من التوحش إلى الإنسانية ، وتجد في بعض الأراضي المخصبة ، هذا بيت عنزي ، وبجنبه بيت عتيبي ، وبقربه بيت حربي ، وكلهم يرتعون كأنهم إخوان " . ( ص 80-81 من مختصره للحلواني ) .
أما في زمننا الحاضر ، فبإمكان الأستاذ الزهار زيارة الحرمين ، لمعرفة ما بُذل لأجلهما ، وما ينعم به أهلهما من أمن ، ورغد عيش ، وظهور للسنة ، وإماتة للبدعة ، وهذا مما يغتبط له كل محب للإسلام الذي ارتضاه الله دينا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، ولله الفضل وحده .
( كتاب : دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ )
http://saaid.net/monawein/index.htm(28/6)
من ضلالات عبدالله الغماري في تعليقه على التمهيد .. للأستاذ عمر الأحمد
هذا المقال نُشر في مجلة الأصالة ( العدد 21 ) ، وقد قمت بترقيمه وتنسيقه ، مع تعليقات يسيرة تُكمله ، أسأل الله أن ينفع به ، وأن يوفق دور النشر - عند تحقيقها لكتب السلف - أن تُكلف من يؤتمن في عقيدته ، ولا يشوه الكتاب بتعليقاته وهوامشه الخَلَفية ؛ كما فعل الغماري بالتمهيد .
من ضلالات الغماري في تعليقه على "التمهيد"
إن كتاب "التمهيد" لابن عبدالبر من أعظم الموسوعات والفقهية التي تعرض المسائل الفقهية بأدلتها من الكتاب والسنة وآثار الصحابة وأقوال الفقهاء من التابعين، ومن أدمن النظر أُتي علماً جماً، قال الذهبي: قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام وكان أحمد المجتهدين-: ما رأيت من كتب الإسلام مثل "المحلى" لابن حزم، وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين. قلت: صدق الشيخ عزالدين، وثالثهما:: "السنن الكبير"، ورابعها: "التمهيد" لابن عبدالبر. فمن حصل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقاً (18/193 سير). وقد قال ابن عبدالبر عن كتابه في كتابه:
سمير فؤادي من ثلاثين حجة وصاقل ذهني والمفرج عن همي
بسطت لهم فيه كلام نبيهم لما في معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآداب ما يهتدي به إلى البر والتقوى وينهى عن الظلم(29/1)
-وقد كانت لي –من فضل الله- قراءة في التمهيد، وقد أزعجني! ما رأيت في تحقيق المجلد السابع من تحقيق عبدالله الغماري ، وبعض تعليقاته، التي شوهت جمال الكتاب في تأويل بعض صفات الله فكان مني أن أنصح لأمتي بالتحذير من هذا. والله أسأل أن ينفعني بما كتبت، وقلت: قال الذهبي: فإذا قلنا لله يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ولا تقول إن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول أنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها. قوله: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) الشورى: 11، ( ولم يكن له كفواً أحد) الإخلاص: 3، (سير 18/284).
1- قال الغماري ( ص 142 ) - تعليقًا على قول المبارك : الله على السماء السابعة على العرش . فقيل له : بحد ؟ قال : نعم ، وهو فوق سبع سماوات على العرش - - : لا يجوز إطلاق هذا في جانب الله تعالى، لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة، وفي ترجمة ابن حبان من طبقات الشافعية: أن أبا إسماعيل عبدالله بن محمد الهروي؛ قال: سألت يحيى بن عمار عن ابن حبان؟ قلت: رأيته؟ قال: وكيف لم أره؟! ونحن أخرجناه من سجستان، فإن له علم كثير، ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله، فأخرجناه من سجستان. قال السبكي: انظر ما أجهل هذا الجارح وليت شعري من المجروح؟! مثبت الحد لله أو نافيه! وقال الحافظ العلائي تعليقاً على هذه الحكاية: يالله العجب! من أحق بالإخراج والتبديع وقلة الدين؟ اهـ .(29/2)
قلت: قال الذهبي في السير في ترجمة ابن حبان في مورد هذه القصة؛ قال: إنكاركم عليه بدعة أيضاً والخوض في ذلك مما لم يأذن به الله، ولا أتى نص بإثبات ذلك، ولا نبغيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وتعالى الله أن يحدّ أو يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو علمه رسله بالمعنى الذي أراد، ولا كيف ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ( 16/97 ترجمة ابن حبان).
( قال أبومصعب : الصواب هنا أن يُقال ما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله - :
" هل يجوز إطلاق الحد عليه ؟ قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروذي وقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه ، وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال ورأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء قال سمعت أبا بكر بن أبي داود قال سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تبارك وتعالى حد قال : نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش . يقول محدقين قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى . وقد نفاه في رواية حنبل فقال : نحن نؤمن بان الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد . فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه . والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين : أحدهما على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات الستة بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو . والثاني : أنه على صفة يبين بها من غيره ويتميز " ( تلبيس الجهمية 1/436) .(29/3)
2 – قال الغماري : روى الشيخان عن ابن مسعود؛ قال: جاء رجل من أهل الكتاب، وفي رواية حبر اليهود، فقال: يا أبا القاسم! أبلغك أن الله عز وجل يحمل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والخلائق على إصبع ويقول: أنا الملك أنا الملك، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ( وما قدروا الله حق قدره) ، ويلاحظ أن المتكلم بالأصابع يهودي، واليهود مجسمون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من جهله وتلا الآية يوحي بتلاوتها إلى أن القبضة واليمين فيها معناهما القوة والاقتدار، لا الكف ولا الأصابع. (ص 48 ت64).
قلت: الصواب كما قال الذهبي في (السير 18/248): فإذا قلنا : لله يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد: القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ، ( ولم يكن له كفواً أحد) .
وذكر ابن خزيمة في كتابه التوحيد –(ص53، دار الكتب العلمية، باب ذكر إثبات يدي الله الخالق البارئ جل وعلا)- قال: والبيان أن الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه ثم ساق الأدلة على ذلك من القرآن والسنة.
قال ابن خزيمة: باب إثبات الأصابع لله عز وجل ثم ساق الأدلة على ذلك في كتاب التوحيد (ص97)، وكذلك في الرد على من أول اليد والأصابع بالقوة والقدرة.(29/4)
قال ابن خزيمة في كتابه: جل ربنا على أن تكون أصابعه كأصابع خلقه وعن أن يشبه شيء من صفات ذاته صفات خلقه وقد أجل الله تعالى قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق الباري بحضرته بما ليس هو من صفاته فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب التكبير والغضب على المتكلم به ضحكاً تبدأ نواجذه تصديقاً وتعجباً لقائله لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق رسالته. اهـ .
3- قال الغماري : روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، قال الحافظ في الفتح: وقع في هذا الموضع يكشف ربنا عن ساقه وهو من رواية سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك، ثم قال في قوله عن ساقه نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم بلفظ: "يكشف عن ساق"، قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة، لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك ليس كمثله شيء. اهـ. وحفص أقوى لأنه ثقة، وسعيد صدوق. اهـ
قلت: قال البيهقي في "الأسماء والصفات": باب ما ذكر في الساق ثم ذكر الحديث السابق وذكر كذلك حديث رواه الإمام ومسلم وهو من رواية آدم بن أبي إياس ليس كمثله شيء وهو السميع(مختصراً وقال في هذا الحديث: "يكشف ربنا عن ساقه". .(البصير
يوم(قال شيخ الإسلام (6/359) في الفتاوى حول تفسير قوله تعالى : قال: ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها(يكشف... ومعناها المعروف، ولكن كثير من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاته له، ثم يريدون حرفه عنه ويجعلون هذا تأويلاً.(29/5)
قلت: فإثبات صفة الساق لله عز وجل الأدلة عليها متظافرة متظاهرة، ولا يلزم من إثبات الساق لله عز وجل تشبيهها بسوق المخلوقين تعالى الله عز وجل عن ذلك ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فالإنسان له ساق والشجرة لها ساق ؛ فلا نشبه ساق أحد بساق أحد. .
4- قال ابن عبدالبر: ... وأنه – أي الله تعالى - يدخل في النار يده حتى يُخرج من أراد ... قال الغماري ( ص 150 ) : لم يأت ذلك أي حديث مرفوع مقطوع به. اهـ
قلت: بل قد ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في حديث الشفاعة الطويل، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله.... وذكر فيه: "فيقولون : ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خيرٌ. قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفع الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين. قال: فيقبض قبضة من النار –أو قال قبضتين- ناسًا لم يعملوا لله خيراً قط..."، رواه الإمام البخاري (ح7439).
5- قال الغماري ( ص 150 ) : العقيدة لا يكفي فيها رواية الثقات؛ بل لابد فيها من خبر يفيد العلم. اهـ
قلت: هذه الشنشنة لا يدرى ما الذي يُقصد منها ؟ والأخبار التي يستدل منها على حكم عقدي مستندة إلى السنة الصحيحة سواء كانت هذه السنة من طريق الآحاد أو من طريق التواتر فإنها تقبل . قال ابن عبدالبر 1/2 التمهيد: وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتى فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله. اهـ
وقال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى 18/41: وخبر الواحد المتلقي القبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول أكثر أصحاب الأشعري. وأنت كما ترى فإن الكلام متوجه إلى قبول خبر الواحد فكيف به برواية الثقات التي يقدح فيها الغماري ؟!(29/6)
6- قال الغماري ( ص 149) عن الكرسي موضع القدمين : لم يرد هذا مرفوعاً، ولكنه كلام ابن عباس رواه بن خزيمة في كتاب التوحيد، ومثل هذا لا يقبل إلا من المعصوم. اهـ
قلت: قال الذهبي في مختصر العلو: عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره، رواته ثقات، وأخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة 2/582 ط دار العاصمة. قال الألباني: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.
وهذا لا يقال بالرأي ولابد أن عند ابن عباس خبر من عند المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فكيف وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه حديث مرفوع؟! " انتهى مقال الأستاذ عمر الأحمد – حفظه الله - .
وبقي أنه لم يتعرض لـ :
1-رد الغماري لحديث " الجارية " وإنكاره لصفة العلو . ( ص 135 ) .
2-قدحه في نعيم بن حماد أنه " يغلو في الإثبات " ! ( ص 144 ) .
3-رده لحديث " على صورة الرحمن " . ( ص 147 ) .
والله الهادي ..(29/7)
بناء المساجد على القبور: ( الحكم - الشبهات - البداية ) .. للدكتور إبراهيم الغصن
نشر الدكتور إبراهيم الغصن - أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام - فرع القصيم ، بحثًا بعنوان ( عمارة المساجد ) في مجلة العدل ( العدد الرابع ) تضمن مبحثًا مهمًا عن حكم البناء على القبور - وهو البدعة المنتشرة في معظم بلاد المسلمين للأسغف- والإجابة عن أبرز شبهات أهله ؛ أحببتُ نشره هنا ؛ لعله يجد من يستفيد منه على أرض الواقع بإنكار هذا المنكر العظيم ، ودعوة المتلبسين به بالتي هي أحسن ، ووضع الحلول العملية للخلاص منه ، والسير نحو تحقيق التوحيد الذي هو من شروط نهظة الأمة وعزها .قال - وفقه الله - :
المبحث السابع
بناء المساجد على القبور
أ-حكم بناء المساجد على القبور.
ب-نشأة بناء المساجد على القبور وأول من بنى المشاهد.
أ-حكم بناء المساجد على القبور:
يحاول كثير من المبتدعة لي أعناق النصوص ليفسدوا على العامة دينهم ويوقعوهم في حبائل الشرك والضلال، ومن ذلك أنهم يصورون للعامة أن من تمام عمارة المساجد بناءها على القبور أو بناء القبور فيها، لذلك رأيت أن من تمام هذا البحث أن أتطرق إلى هذا الموضوع بمبحث مستقل أبيّن فيه حكم بناء المساجد على القبور أو بناء القبور في المساجد أبين فيها القول الحق في سرد جملة من أدلته، بالإضافة إلى استعراض أدلة المخالفين، والرد عليها مبتدئاً ببيان حكم بناء المساجد على القبور.
فبناء المساجد على القبور غير سائغ ولا يجوز، بل اتفق أئمة المسلمين على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، وإنما خالف هذا الاتفاق من لا يعتد بقولهم من أهل البدع والضلال. وقد تضافرت الأدلة على تحريم هذا العمل لما يفضي إليه من الشرك.
وهذا هو قول عامة أهل العلم، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبر"1.
وقال في موضع آخر: "قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور" 2.(30/1)
وقال في موضع آخر: "ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها، فلا يفعل ذلك لا اتفاقاً ولا ابتغاء ؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم؛ منهم من صرح بالتحريم، ومنهم من أطلق الكراهة3. سواء في ذلك الحنفية4 ، أو المالكية 5 ، أو الشافعية 6، أو الحنابلة 7 .
قال السرخسي الحنفي: "أما المقبرة" فقيل: إنما نهي عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود. كما قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري بعدي مسجداً"8
قال العيني الحنفي من هذا الحديث: "هذا من باب قطع الذريعة لئلا يعبد قبره الجهال، كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم"9
وقال الإمام مالك رحمه الله: "أكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة التي يبنى عليها"10
وقال القرطبي المالكي: "اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة عن النهي عنه ممنوع لا يجوز"11
وقال الحطاب المالكي: "ويكره البناء على القبر والتحويز عليه، وإن قصد المباهاة بالبناء عليه... فذلك حرام" 12 ولا شك أن بناء المساجد عليها من أعظم أنواع المباهاة والتعظيم.
وقال الباجي المالكي تعليقاً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: يريد أنه أراد عذاب قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك في مرضه تحذيراً مما صنعه اليهود والنصارى من ذلك"13
والمالكية –رحمهم الله- إنما أجازوا بناء المساجد على المقبر إذا خرجت عن كونها مقبرته كالمقابر العافية والمندرسة والمتغيرة. قالوا: لأنها تصبح والحالة هذه مثل غيرها من الأرضين14(30/2)
وقال الإمام الشافعي –رحمه الله-: "وأكره أن يبنى على القبر مسجداً ويصلى عليه وهو مستوى أو يصلى إليه. وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره –والله تعالى أعلم- أن يعظم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده"15
وقال النووي الشافعي: "اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره"16
وقال البُهوتي الحنبلي: "ويحرم اتخاذ المسجد على القبر وبينها.. وتتعين إزالتها إذا وضعت على القبور أو بينها"17 . ونصوص الحنابلة في هذا كثيرة.
وقد جاءت الأدلة الصحيحة الصريحة متضافرة على تحريم بناء المساجد على القبور ومنها:
أولاً: عن عائشة وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصه على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال –وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مما صنعوا 18
ثانياً: ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً 19
ثالثاً: ما روته عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة –رضي الله عنهما- ذكرتا كنسية رأيتها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تيك الصورة فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" 20
رابعاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 21
خامساً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 22(30/3)
سادساً: ما رواه جندب بن عبدالله البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم -قبل أن يموت بخمس- وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك" 23
سابعاً: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 24
ثامناً: عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 25
والأحاديث في هذا الباب كثيرة وهي تدل دلالة واضحة وصريحة على تحريم بناء المساجد على القبور.
وقد نقل عن بعض السلف أنهم لم يكرهوا الصلاة في المقبرة، والذي يظهر لي أن أكثرهم إنما أجازوا وصححوا الصلاة على الجنازة في المقبرة دون الصلاة ذات الركوع والسجود، ولذلك تجدهم استدلوا على قولهم بما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : "أن امرأة سوداء ( أو شابًا )كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها (أو عنه) فقالوا: مات. قال: "أفلا كنتم آذنتموني"، قال: فكأنهم صغروا أمرها (أو أمره) فقال: "دلوني على قبرها" فدلوه. فصلى عليها. ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم"26 واللفظ لمسلم.
وبما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفّوا خلفه وكبر أربعاً" 27 وهذا لفظ مسلم.
وبما رواه مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر 28(30/4)
والصلاة على الميت تختلف عن الصلوات الخمس المفروضة، فليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء للميت.
قال الشنقيطي –رحمه الله-: "هي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور، ولا يفيد شيء من تلك الأدلة على جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود، ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر" 29
وقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر فقال: القبر القبر!!" 30 . وحتى من نقل عنه جواز الصلاة في المقابر لم ينقل عنه أنه أجاز بناء المساجد على القبور، وليست هذه المسألة عندهم هي مسألة الصلاة في المقبرة العامة، فإن منهم من يعلل النهي عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين.
وأما المساجد المبنية على القبور، فقد نهوا عنها معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين 31 .
وإباحة بناء المساجد على القبور والصلاة فيها إنما هو رأي أهل الضلال والبدع المخالفين لطريقة أهل السنة والجماعة، وإليك بعض الأدلة التي تشبث بها بعض أهل الضلال، وحاولوا تطويعها لمعتقداتهم وآرائهم.
أدلة المخالفين الذين سوغوا بناء المساجد على القبور: استدل أصحاب هذا الاتجاه بأدلة لا تؤيد توجههم، وإنما حاولوا –كما ذكرت سابقاً- لي أعناق النصوص ليطوعوها على حسب آرائهم. وسأستعرض شيئاً من أدلتهم مع مناقشتها:
أولاً: استدلوا بقوله تعالى: ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) 32 قالوا: الآية تدل على جواز بناء المساجد على القبور.
مناقشة الدليل:
قال الشيخ الشنقيطي رداً على من استدل بهذا الدليل: إن ما يزعمه بعض من لا علم عنده من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد في غاية السقوط. وقائله أجهل خلق الله.(30/5)
أما الجواب عن الاستدلال بهذه الآية فهو أن تقول: من هؤلاء القوم الذين قالوا: لنتخذن عليهم مسجداً؟ أهم من يقتدى بهم! أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم؟
وهذا مما اختلف في قائلي هذه المقالة هل هم الذين على دين الفتية أم هم طائفة كافرة؟ 33 فعلى القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة.
قال الشنقيطي: وعلى القول بأنهم مسلمون.. فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية: إنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته ، فقابل قولهم: "لنتخذن عليهم مسجداً" بقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ملعون على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم 34
ثانياً: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كان مقبرة للمشركين:
قالوا: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المقبرة مسجداً يدل على جواز اتخاذ القبور مساجد.
مناقشة الدليل:
إن الاستدلال بهذا الحديث على جواز بناء المساجد على القبور ظاهر البطلان، فإن نص الحديث كما أورد الإمام البخاري عن أنس قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف، كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.(30/6)
فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويّت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة. وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة 35
قال ابن حجر: أما الكفرة فإنه لا حرج في نبش قبورهم إذ لا حرج في إهانتهم، ولا يلزم من اتخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعرف بذلك ألا تعارض بين فعله في نبش قبور المشركين واتخاذ مسجده مكانها وبين لعنه صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء مساجد كما تبين من الفرق 36 .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت، خرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجداً 37
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المقبرة وصلى أصحابه خلفه، قالوا: فهذا نص على جواز الصلاة في المقبرة مما يدل على جواز اتخاذها مساجد.
مناقشة الدليل:
إن هذا الدليل الذي ذكروه إنما هو في الصلاة على الميت، والصلاة على الميت إنما هي دعاء للميت، فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور، لا تفيد جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي ذات ركوع وسجود، ولم يرد شيء يدل على جواز الصلاة ذات الركوع والسجود إلى القبر أو عند القبر بل العكس. أما الصلاة على الميت فهي التي تعارضت فيها الأدلة.
قال الشنقيطي –رحمه الله-: والمقرر في الأصول أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل الدال على الجواز، وللمخالف أن يقول: لا يتعارض عام وخاص، فحديث "لا تصلوا إلى القبور" عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت. والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة، والخاص يقضى به على العام.(30/7)
فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية: منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقاً، للعنه صلى الله عليه وسلملمتخذي القبور مساجد، وغير ذلك من الأدلة. وأن الصلاة على قبر الميت التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود تصح لفعله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عباس وأنس. ويومئ لهذا الجمع حديث: "لعن متخذي القبور مساجد" لأنه أماكن السجود. وصلاة الجنازة لا سجود فيها، فموضعها ليس بمسجد لغة لأنه ليس موضع سجود 38 .
رابعاً: أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يوجد فيه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبرا صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
مناقشة الدليل:
إن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم يُدفنوا في المسجد بل دفن صلى الله عليه وسلم في بيته في حجرة عائشة رضي الله عنها، فدفن معه صاحباه ولم تكن حجرة عائشة داخل المسجد، بل كانت حجرتها وسائر حجر أزواجه صلى الله عليه وسلم من جهة شرقي المسجد وقبلته لم تكن داخلة في مسجده، وإنما كان يخرج من الحجرة إلى المسجد، ولكن في خلافة الوليد بن عبدالملك وسع المسجد وكان يحب عمارة المساجد وعمّر المسجد الحرام، ومسجد دمشق وغيرهما، فأمر نائبه عمر بن عبدالعزيز أن يشتري الحجر من أصحابها الذين ورثوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويزيدها في المسجد، فمن حينئذ دخلت الحجر في المسجد، وذلك بعد موت عامة الصحابة، ولم يكن بقي في المدينة منهم أحد، فلهذا لم يتكلم فيما فعله الوليد هل هو جائز أو مكروه إلا التابعون كسعيد بن المسيب وأمثاله، الذين كرهوا فعل الوليد، وعلى كل حال فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضل مما كان، مع أن الوليد –رحمه الله- لم يقصد دخول الحجرة فيه وإنما قصد توسيعه بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت فيه الحجرة ضرورة مع كراهة من كره ذلك من السلف 39(30/8)
وبعد هذا العرض لا يبقى مجال للشك في سقوط قول المبتدعة الضالين في جواز بناء المساجد على القبور وخاصة إذا علمنا أنها بريد الشرك بالله تعالى، فإن مبدأ الشرك بالله تعالى من عبادة الصالحين وتعظيم آثارهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الشيطان يجر الناس من هذا إلى غيره، لكن هذا أقرب إلى الناس، لأنهم يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك منه، فتارة يسألونه، وتارة يسألون الله به، وتارة يصلون ويدعون عند قبره ظانين أن الصلاة والدعاء عند قبره أفضل منه في المساجد والبيوت، ولما كان هذا مبدأ الشرك سدّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب كما سدّ باب الشرك بالكواكب 40
ولذلك قال –رحمه الله-: "إن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين، بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء أكان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك، وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد لا نبي ولا غيره نبي" 41
إلى أن قال رحمه الله: "وكل من قال: "إن قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني على قبر، أو مشهد، أو غير ذلك: أمر مشروع، بحيث يستحب ذلك، ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه" فقد مرق من الدين وخالف إجماع المسلمين. والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده فإن تاب وإلا قتل" 42
ب-نشأة بناء المساجد على القبور وأول من بنى المشاهد:(30/9)
لم توجد هذه الظاهرة القبيحة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في صدر الإسلام من القرون المفضلة، وإنما ظهرت هذه البدع بعد ما كثر الزنادقة وأهل البدع في المجتمع الإسلامي لصرف الناس عن دينهم وتبديل دين الإسلام، فلم توجد هذه البدع على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلاً، لأن الإسلام كان آنذاك ما يزال في قوته وعنفوانه، بل عامة هذه المشاهد محدثه بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت "القرامطة العبيدية القداحية" بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر, وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه، وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قوي بنو عبيد القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا قبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي رضي الله عنه هناك، وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة.
وصنف أهل الفرية الأحاديث في زيارة المشاهد والصلاة عندها، والدعاء عندها، وما يشبه ذلك. فصار هؤلاء الزنادقة وأهل البدع المتبعون لهم يعظمون المشاهد، ويهينون المساجد، وذلك ضد دين المسلمين ويستترون بالتشيع.
ولهذا لما لم يكن بناء المساجد على القبور التي تسمى "المشاهد" وتعظيمها من دين المسلمين، بل من دين المشركين، لم يحفظ ذلك، فإن الله ضمن لنا أن يحفظ الذكر الذي أنزله كما قال: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) 43(30/10)
فما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة محفوظ، وأما أمر المشاهد فغير محفوظ، بل عامة القبور التي بنيت عليها المساجد: إما مشكوك فيها، وإما متيقن كذبها 44
هذا ما يسر الله لي جمعه وتأليفه أسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ) .
مقالات ذات صلة
فعلها علماء اليمن ... فهل يفعلها علماء مصر ؟!
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/35.htm
قبور ومشاهد مكذوبة ( 2 ) : مسجد ( الحسين ) بمصر ..!
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/13.htm
قبور ومشاهد مكذوبة ( 3 ) : مسجد ( السيدة زينب ) بمصر
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/26.htm
------------------
الهوامش :
( 1) مجموع الفتاوى 22/ 1945.
(2 ) مجموع الفتاوى 27/ 77.
(3 ) مجموع الفتاوى 27/488 – 489/.
(4 ) انظر: المبسوط 1/2،6/. وحاشية ابن عابدين 1/380/.
( 5) انظر: المدونة 1/189/. والمعيار المغرب 11/152/، ومواهب الجليل 2/2/242/.
( 6) انظر: الأم 1/246/. والمهذب 1/139/، والمجموع 45/27/.
( 7) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 22/194/،24/318/،27/77/، وكشاف القناع/163/، ومنار السبيل 1/307/.
( 8) المبسوط 1/206/.
( 9) عمدة القارئ 2/136/.
( 10) المدونة 1/189/.
( 11) تفسير القرطبي، 1/379/.
( 12) مواهب الجليل 2/242/.
( 13) المنتقى للباجي 1/307/.
(14 ) انظر: التاج والإكليل بهامش الخطاب 2/252/، والمنتقى للباجي 1/703/.
( 15) الأم 1/246/.
( 16) المجموع 5/270/.
( 17) كشاف القناع /163/.(30/11)
( 18) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/144/، وفي المغازي باب مرض النبي لله ووفاته 5/140/، وفي اللباس باب الأكسية والخمائص 7/41/، ومسلم (531) في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور، والنسائي في المساجد باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد 2/40/، والدرامي (1410) في الصلاة باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وأحمد 1/218/ و6/34/.
( 19) وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما(أخرجه البخاري في الجنائز باب ما جاء في قبر النبي 2/106/، ومسلم (529) في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور، وأحمد 6/80/.
( 20) أخرجه البخاري في الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد 1/110/، ومسلم (528) في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور، والنسائي في المساجد باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد 2/41/.
( 21) أخرجه مسلم (530) في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور، وأبو داود (3227) في الجنائز باب في البناء على القبر، وأحمد 2/284/.
(22 ) أخرجه مسلم (530) في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور، والنسائي في الجنائز باب اتخاذ القبور مساجد 4/96/، وأحمد 2/366/.
( 23) أخرجه مسلم (532) في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(24 ) أخرجه أبو داود (3236) في الجنائز باب في زيارة النساء القبور، والترمذي (320) في الصلاة باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجد، والنسائي في الجنائز باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور 4/94/، وقال الترمذي: حديث حسن.
( 25) أخرجه مالك في الموطأ في قصر الصلاة في السفر باب جامع الصلاة 1/172/، وابن سعد في الطبقات 2/240-241/، وأخرجه أحمد عن طريق أبي هريرة 2/246/.(30/12)
( 26) أخرجه البخاري في الصلاة باب كنس المساجد 1/118/، وفي الجنائز باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن 2/92/، ومسلم (956) في الجنائز باب الصلاة على القبر، وأبو داود (3203) في الجنائز باب الصلاة على القبر، وابن ماجة (1527) في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على القبر، وأحمد 2/353/، 388/.
( 27) أخرجه البخاري في الجنائز باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن 2/92/، ومسلم (954) في الجنائز باب الصلاة على القبر، والنسائي في الجنائز باب الصلاة على القبر 4/85/، والترمذي (1037) في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على القبر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
( 28) أخرجه مسلم (955) في الجنائز باب الصلاة على القبر، وابن ماجة (1531) في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على القبر.
( 29) أضواء البيان/ 158/.
( 30) رواه البخاري تعليقاً في الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية 1/110/، ووصله عبدالرزاق من طريق معمر عن ثابت عن أنس في المصنف (1581) في المساجد باب الصلاة على القبور، ووصله البيهقي من طريق حميد عن أنس في السنن الكبرى في الصلاة باب النهي عن الصلاة على القبور 2/435/.
( 31) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/489/.
( 32) الكهف / 21/.
( 33) انظر: تفسير القرطبي 10/379/.
( 34) أضواء البيان 3/159/.
( 35) الحديث سبق تخريجه.
(36 ) فتح الباري 1/524/.
( 37) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 17/463/.
( 38) أضواء البيان 3/158/.
( 39) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/418 – 424/.
( 40) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 17/461/.
(41 ) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/488/.
( 42) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/488/.
( 43) سورة الحجر / آية رقم 9/.
( 44) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/ 167 – 170، 466.(30/13)
كتابان مهمان .. لمن أراد النقاش مع دعاة تغريب المرأة
الإخوة الكرام : يسعدني أن أعرض لكم كتابين مهمين يختصان بالقضايا التي يثيرها التغريبيون في كل بلاد الإسلام عن المرأة ، فيهما النقاش العلمي لأفكار القوم ، في نظري لا يستغني عنهما كل مهتم بهذه القضايا :
أولهما : رسالة ( المرأة والحقوق السياسية في الإسلام ) للباحث مجيد أبو حجير.
والثانية : رسالة ( ولاية المرأة في الفقه الإسلامي ) للباحث حافظ أنور .
http://www.kabah.info/uploaders/Almarah.jpg
http://www.kabah.info/uploaders/Almarah.rar
http://www.kabah.info/uploaders/Wlayatalmarah.jpg
http://www.kabah.info/uploaders/Wlayatalmarah.rar(31/1)
سنية انتقال المصلي من المكان الذي صلى فيه الفريضة للنافلة ( بحث مختصر )
هذا بحث مختصر عن سنية الانتقال من المكان الذي صلى فيه الفرض إذا أراد التطوع ، كتبه الأخ محمد بن إبراهيم الخريجي – وفقه الله - ، بناء على طلب أحد العلماء ، قبل سنين عديدة .
قال : " إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فهذا بحث في مسألة عملية وهي: أداء النافلة في المكان الذي صُليت فيه الفريضة أو الانتقال إلى مكان آخر.
وبعد البحث في هذه المسألة عثرت للعلماء على ثلاثة آراء فيها:
الأول: رأي من يقول بانتقال المصلي سواء كان إماماً أو مأموماً من مكانه الذي صلى فيه الفريضة إذا أراد أن يتنقل.
وبه يقول: ابن عباس وابن الزبير وابن سعيد وإحدى الروايتين عن ابن عمر رضي الله عنهم، ورجحه النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني وغيرهم ممن سوف يرد بالتفصيل.
الثاني: رأي من يقول بانتقال المصلي إذا كان إماماً من مكانه الذي صلى فيه الفريضة إذا أراد أن ينتقل وبه يقول: علي رضي الله عنه وإحدى الروايتين عن ابن عمر رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب والحافظ بن حجر.
الثالث: رأي من جوز للمصلي أن يتنفل في مكانه الذي صلى فيه ، وبه يقول ابن مسعود رضي الله عنه والبخاري وسعيد بن المسيب.
هذا وسوف أقوم إن شاء الله بسرد أقوال كل رأي مفصلاً فأسأل الله العون والسداد.
أدلة الرأي الأول: الذي يقول: بانتقال المصلي سواء كان إماماً أو مأموماً من مكانه الذي صلى فيه الفريضة إذا أراد أن يتنفل.
1-قوله تعالى: ( فما بكت عليهم السماء والأرض...) سورة الدخان: 29.(32/1)
2-وقوله تعالى: ( يومئذ تحدث أخبارها) سورة الزلزلة: 4. قال الشوكاني في نيل الأوطار (3/197) بعد أن ذكر بعض الأدلة على مشروعية انتقال المصلي من مكانه إذا أراد أن يتنفل: "والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة كما قال البخاري والبغوي لأن مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى ( يومئذ تحدث أخبارها) أي تخبر بما عمل عليها وورد في تفسير قوله تعالى ( فما بكت عليهم السماء والأرض) أن المؤمن إذا مات بكي عليه مصلاه في الأرض ومصعد عمله في السماء ، وهذه العلة تقتضي أن ينتقل إلى الفريضة من موضع نفله وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل ، ولما م ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام لحديث النهي عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي أو يخرج أخرجه مسلم وأبو داود" ا.هـ
3-وأخرج الترمذي في التفسير (3308) باب من سورة الدخان، وأبو يعلى في مسنده (7/160-161 رقم 4133) كلاها من طريق يزيد بن أبان الرقاشي، قال أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مؤمن إلا وله بابان: بابٌ يصعد منه عمله، وبابٌ ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه، فذلك قوله: "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين".
وهذا سنده ضعيف جداً لضعف يزيد بن أبان الرقاشي وموسى بن عبيدة الربذي، وذكره الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي برقم 641 ص 413.(32/2)
4-وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد يعني الزبيدي حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبدالله قال سأل رجل علياً رضي الله عنه : هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد معمله في السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين". وهذا الإسناد فيه عباد بن عبدالله الأسدي وهو ضعيف والعلاء بن صالح وهو صدوق له أوهام.
5-لكن الحديث يتقوى بالحديث التالي: قال ابن جرير في تفسيره 25/124-125: حدثنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال له : يا أبا العباس أرأيت قوله تعالى: ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله فإذا مات المؤمن فأغلق بابه في السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه وإذا فقده مصلاه في الأرض التي كان يصلي فيها وبذكر الله عز وجل فيها بكت عليه. وهذا سنده حسن.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( فما بكت عليهم السماء والأرض...) ج4/126 أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم... ثم ساق الأحاديث السابقة.(32/3)
6-وقال الترمذي (ج9 ص285 الأحوذي): حدثنا سويد بن نصر أخبرنا عبدالله بن المبارك أخبرنا سعيد ابن أبي أيوب عن يحيى ابن أبي سليمان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( يومئذ تحدث أخبارها) قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ وأمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يومَ كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب وسنده ضعيف لضعف يحيى بن أبي سليمان. وذكره الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي برقم 664 ص437.
7-وفي معجم الطبراني من حديث ابن لهيعة حدثني ابن يزيد سمع ربيعة الجرشي أن رسول اله الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحفظوا في الأرض فأنها أمكم وإنه ليس من أحد عامل عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرة".
ذكره الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم 2407 وقال ضعيف وقال ابن كثير في تفسيره هذه الآية ( يومئذ تحدث أخبارها) ج4 ص472 أي تحدث بما عمل العاملون على ظهرها، ثم ساق الأحاديث السابقة.
8-وأخرج أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي أخبرنا عبدالرزاق أنبأنا ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن يزيد ابن أخت عمر يسأله عن شيء رأى من معاوية في الصلاة فقال: "صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلمت قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال: لا تعد لما صنعت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أن لا توصل صلاة بصلاة حتى تتكلم أو تخرج" 3/479 (عون المعبود).
أخرجه عبدالرزاق ج2 ص417، وابن أبي شيبة 2/139، ومسلم 2/602 ترتيب عبدالباقي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/191 وذكره الشيخ الألباني في صحيح أبو داود 1/209 برقم 999- 1129.(32/4)
ثم قال البيهقي بعد أن ساق الحديث السابق: أخبرناه أبو صالح بن أبي طاهر أنبأنا جدي يحيى بن منصور القاضي حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا عبدالرحمن بن بشر ومحمد بن رافع قالا حدثنا عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج فذكره بنحوه إلا أنه قال فلما سلمت قمت ولم يذكر الإمام وهذه الرواية تجمع الجمعة وغيرها حيث قال لا توصل صلاة بصلاة ، وتجمع الإمام والمأموم، وقد ذكر الشافعي –رحمه الله- في رواية المزني عند عبدالمجيد بن عبدالعزيز عن ابن جريج هذه الرواية وقد نقلها مع أثر بن عباس ا.هـ
9-قال ابن أبي شيبه ج2 ص208: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن الحجاج ابن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله يعني السُبحة.
هذا الحديث أخرجه أبو داود (عون المعبود 3/308)، وأخرجه ابن ماجه 1/458، وهو من زيادات ابن الإمام أحمد في المسند "18/139 رقم الحديث 9492 تحقيق الشيخ أحمد شاكر؛ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/190، وذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع 1/519 وقال: صحيح وكذلك ذكره في صحيح أبو داود ج1 ص188 رقم الحديث 885-1006".
وقد بوب البخاري –رحمه الله- في صحيحه (باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام) ...، ثم قال: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: لا يتطوع الإمام في مكانه ولم يصح"(32/5)
قال ابن حجر في الفتح (2/335): قوله (ويذكر عن أبي هريرة رفعه) أي قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله (لا يتطوع الإمام في مكانه) ذكره بالمعنى ولفظه عند أبي داود "أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر..." ولابن ماجه "إذا صلى أحدكم..." زاد أبو داود يعني في السُبحة وللبيهقي "إذا أراد أحدكم أن يتطوع بعد الفريضة فليتقدم..." قوله (لم يصح) هو كلام البخاري وذلك لضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، واختلف عليه فيه وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه وقال "لم يثبت هذا الحديث. أ.هـ وقال الشيخ أحمد شاكر "المسند تحقيقه 18/139": ليث هو ابن أبي سليم وإبراهيم بن إسماعيل ذكره ابن حبان في الثقات وقال أبو حاتم "مجهول" واختلف في إسناد الحديث قال ابن حجر والخلط فيه من ليث ابن أبي سليم وقال البخاري "ولم يصح إسناده" وانظر التهذيب ترجمة حجاج وترجمة إبراهيم والمراد من الحديث ألا يتطوع المصلي في مكان صلاة الفريضة. أ.هـ
وهذا السند ضعيف جداً لضعف ليث بن أبي سليم واضطرابه في الحديث ولجهالة الحجاج بن عبيد وجهالة حال إبراهيم بن إسماعيل.
10-وقد أخرج عبدالرزاق في المصنف 2/417، هذا الحديث قال: عن معمر عن ليث عن عبدالرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صلى أحدكم المكتوبة فأراد أن يتطوع بشيء فليتقدم قليلاً، أو يتأخر قليلاً أو عن يساره".
وهذا اختلاف آخر على ليث.
11-قال ابن أبي شيبه 2/208: حدثنا ابن عُليه عن أيوب عن عطاء أن ابن عباس وابن الزبير وأبا سعيد وابن عمر رضي الله عنهم كانوا يقولون : لا يتطوع حتى يتحول من مكانه الذي صلى فيه الفريضة.
وهذا إسناده صحيح.(32/6)
12-وقد أخرج عبدالرزاق 2/416: عن ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: من صلى المكتوبة ثم بدا له أن يتطوع فليتكلم أو فليمش وليصل أمام ذلك قال : وقال ابن عباس: أني لأقول للجارية: انظري كم ذهب من الليل؟ ما بي إلا أن أفصل بينهما.
وهذا سند رجاله ثقات لكن ابن جريج مدلس ولم يصرح بالسماع.
13-وقد أخرج البيهقي (2/191) قال: أخبرنا أبو الحسن علي ابن أحمد بن عبدان أنبأنا القاضي أبو بكر أحمد بن محمود بن خرزاد حدثنا موسى بن إسحاق القاضي حدثنا إبراهيم بن محمد يعني الشافعي حدثنا داود عن عمرو قال قال ابن عباس رضي الله عنهما : من صلى الفريضة ثم أراد أن يصلي بعدها فليتقدم أو ليكلم أحداً.
وهذا إسناد ضعيف لأجل أحمد بن محمود بن خُرزاد القاضي فإنه إما مجهول أو ضعيف كما يتضح من مراجعة ترجمة يعيش بن هشام، في لسان الميزان 6/314.
14-وقد أخرج عبدالرزاق 2/416: عن ابن جريج عن عطاء قال أخبرني من رأى ابن عمر وصلى رجل المكتوبة ثم قام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة يتطوع فيه فدفعه ابن عمر فلما انصرف قال له ابن عمر: هل تدري لم دفعتك؟ قال: لا غير أني أرى أنك لم تدفعني إلا لخير . قال: أجل من أجل أنك لم تتكلم منذ انصرفت من المكتوبة ولم تصل أمامك".
وقد أخرجه البيهقي إلا أن عطاء قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهم ... (2/191).
15-وقد أخرجه أبو داود "عون المعبود 3/476" قال: حدثنا محمد بن عبيد وسليمان بن داود المعنى قالا أخبرنا حماد بن زيد أخبرنا أيوب عن نافع "أن ابن عمر رأى رجلاً يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟ وكان عبدالله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته ويقول: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا سنده صحيح، وذكره الألباني في صحيح أبو داود برقم 997-1127 (1/209) وقال: صحيح.(32/7)
16-وقد أخرج الإمام أحمد في المسند (5/368) قال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الأزرق بن قيس عن عبدالله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فقام رجل يصلي فرآه عمر رضي الله عنه فقال له : اجلس فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحسن ابن الخطاب".
وهذا إسناده صحيح حيث أن جهالة الصحابي لا تضر.
وقد أخرجه عبدالرزاق في المصنف 2/432، وأبو يعلى في مسنده 13/107، (وأخرجه أبو داود "عون المعبود 3/309" وكذلك البيهقي 2/190 وكلاهما في الإسناد المنهال بن خليفة العجلي وهو ضعيف كما في التقريب ص 547. وأشعث بن شعبة المصيصى وهو مقبول كما في التقريب ص 113. وقد ذكره الشيخ الألباني في ضعيف أبو داود برقم 215-1007 وكذلك في المشكاة 1/306 برقم 972).
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2/234 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجال أحمد رجال الصحيح ، قال في عون المعبود 3/311: قال صاحب إعلام أهل العصر: والظاهر أن عمر رضي الله عنه لم يرد الفصل فصلاً بالتقدم لأنه قال له اجلس ولم يقل تقدم أو تأخر، فتعين الفصل بالزمان، وأما الفصل بالتقدم أو التأخر فكما أخرجه مسلم في حديث معاوية رضي الله عنه وفيه إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة... الحديث" أ.هـ
17-وقال ابن أبي شيبة في المصنف 2/139: حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبدالملك بن أبي سليمان قال حدثنا عطاء قال رأيت ابن عمر صلى الجمعة ثم تنحى من مكانه فصلى ركعتين فيهما خفة ثم تنحى من مكانه ذلك فصلى أربعاً هي أطول من تيك.
وهذا سنده صحيح. وقد أخرجه البيهقي 3/240-241، (وأخرجه أبو داود "عون المعبود 3/483" من طريق ابن جريج أخبرني عطاء...[زاد فيه] قلت لعطاء: كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال: مراراً. وذكره الشيخ الألباني في صحيح أبو داود 1/210 برقم 1003-1133 وقال: صحيح).(32/8)
18-وأخرج أبو داود "عون المعبود ج3 ص480" قال: حدثنا محمد بن عبدالعزيز بن أبي رزمة المروزي أنبأنا النضل بن موسى عن عبدالمجيد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن ابن عمر قال: "كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". وقد ذكره الشيخ الألباني في صحيح أبو داود 1/210 برقم 1000-1130 وقال: صحيح .
19-وقد أخرج ابن أبي شيبه في المصنف 2/139 قال: حدثنا أبو معاوية عن أبي قلابة قال صليت معه الجمعة فلما قضيت صلاتي أخذ بيدي فقام في مقامي وأقامني مقامه.
ثانياً: أدلة من قال بالرأي الثاني القائل: بانتقال المصلي إذا كان إماماً من مكانه الذي صلى فيه الفريضة إذا أراد أن يتنفل.
1-أخرج أبو داود "عون المعبود 2/333" قال: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا عبدالعزيز بن عبدالملك القرشي حدثنا عطاء الخرساني عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول".
وسنده ضعيف، قال أبو داود : عطاء الخرساني لم يدرك المغيرة بن شعبة وقد أخرجه البيهقي في السنن 2/190 – شرح السنة للبغوي 3/215.
وقد ذكره الشيخ الألباني في صحيح أبو داود 1/122 برقم 576-616 وقال صحيح، وقد ذكره كذلك في مشكاة المصابيح 1/300 وقال: هو منقطع، وفيه علة أخرى: وهي جهالة عبدالعزيز بن عبدالملك القرشي، لكن الحديث صحيح فإن له شاهدين ذكرتهما في صحيح أبي داود . اهـ.
2-وقد أخرج ابن أبي شبيه في المصنف 2/209 قال: حدثنا شريك عن ميسرة بن المنهال عن عمار بن عبدالله عن علي رضي الله عنه قال: إذا سلم الإمام لم يتطوع حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام.
كذا جاء في المصنف "عمار بن عبدالله" وصوابه "عباد بن عبدالله".(32/9)
فقد أخرجه كذلك عبدالرزاق في مصنفه 2/417 قال: عن الثوري عن ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبدالله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال: لا يصلح للإمام أن يصلي في المكان الذي أم فيه القوم حتى يتحول، أو يفصل بكلام. وهذا إسناده ضعيف لضعف عباد.
وقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/209 والبيهقي في السنن 2/191 إلا أنه قال: قال علي رضي الله عنه : من السنة إذا سلم الإمام أن لا يقوم من موضعه الذي صلى فيه يصلي تطوعاً حتى ينحرف أو يفصل بكلام.
3-وقد أخرج ابن أبي شيبة 2/209 قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره إذا صلى الإمام أن يتطوع في مكانه ولم ير به لغير الإمام بأساً.
وهذا إسناد ضعيف فيه حجاج بن أرطاة وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس ولم يصرح هنا بالسماع ، وأبو إسحاق السبيعي ثقة إلا أنه مدلس واختلط.
4-وأخرج ابن أبي شبية 2/209 قال: حدثنا أبو معاوية عن حجاج عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو أنه كره للإمام أن يصلي مكانه الذي صلى فيه الفريضة وهذا إسناد ضعيف أيضاً فيه حجاج بن أرطاة وتقدم الكلام عنه وإبراهيم بن مهاجر وهو صدوق لين الحفظ.
5-وبه يقول: سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي.
أخرجه ابن أبي شبيه في المصنف 2/209.(32/10)
6-قال الحافظ بن حجر (الفتح 2/335): ويؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالاً ؛ لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أولا يتطوع، الأول اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور ثم يتطوع؟ وهذا الذي عليه عمل الأكثر ، وعند الحنفية يبدأ بالتطوع، وحجة الجمهور حديث معاوية. ويمكن أن يقال : لايتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر بل إذا تنحى من مكانه كفى، فإن قيل لم يثبت الحديث في التنحي قلنا: قد ثبت في حديث معاوية "أو تخرج" ويترجح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة) ا.هـ
ثالثاً: أدلة من قال بالرأي الثالث القائل: بجواز أن يصلي التطوع في المكان الذي صلى فيه الفريضة.
1-قال البخاري "الفتح 2/334": وقال لنا آدم حدثنا شعبة عن أيوب عن نافع قال : "كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة" وفعله القاسم. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/209 والبيهقي في السنن 2/191.
2-أخرج عبدالرزاق في المصنف 2/418 قال: عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يؤمهم ثم يتطوع في مكانه، قال وكان إذا صلى المكتوبة سبح مكانه.
ولا يفهم من هذا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يصل صلاة بصلاة لأنه يمكن التوفيق بينه وبين ما سبق نقله عنه أنه فصل بينهما هنا بكلام من ذكر أو غيره.
3-أخرج ابن أبي شيبه في المصنف 2/209 قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي بحر عن شيخ قال سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة قال : لا بأس به.
أخرجه عبدالرزاق في المصنف 2/419 البيهقي في السنن 2/192. وسنده ضعيف لإبهام الراوي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
4-أخرج ابن أبي شيبة في المصنف 2/209 قال: حدثنا معتمر عن عبدالله بن عمر قال : رأيت القاسم وسالم يصليان الفريضة ثم يتطوعان في مكانهما.
5-وبه يقول عطاء وسعيد بن المسيب وطاووس. انظر مصنف ابن أبي شبية 2/209، مصنف عبدالرزاق 2/418.(32/11)
الخاتمة: ومما سبق يتضح لنا أن :
1-الرأي الأول أقوى الآراء للأدلة الصحيحة التي يستدل بها له وهي:
1- قوله تعالى: ( فما بكت عليهم السماء والأرض...) تقدم ص 2 برقم1.
2- قوله تعالى: ( يومئذ تحدث أخبارها) تقدم ص 2 برقم 1.
3- حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا توصل صلاة بصلاة حتى تتكلم أو تخرج تقدم برقم 8.
4- قول ابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهم لا يتطوع حتى يتحول من مكانه الذي صلى فيه الفريضة. تقدم برقم 11.
5- عن نافع "أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟... الحديث " برقم15.
6-حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العصر فقام رجل يصلي فرآه عمر رضي الله عنه فقال له اجلس ... الحديث" تقدم برقم 16.
وغيرها مما قد صح أيضاً وسبق ذكره.
2-الرأي الثاني ضعيف حيث أن أدلته ضعيفة كما سبق.
3-الرأي الثالث فيه أثر ابن عمر رضي الله عنهما وهو صحيح لكن يوفق بينه وبين ماقبله أنه صح عنه أيضًا رضي الله عنه أنه يرى الرأي الأول، وبأنه فصل بين الصلاتين بكلام من ذكر أو غيره.(32/12)
وهذا الترجيح هو الذي يقول به جمهور العلماء وبه يقول النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني رحمهم الله وسنذكر أقوالهم كما يأتي: - قال النووي في المجموع 3/491-492: قال أصحابنا فإن لم يرجع إلى بيته وأراد التنفل في المسجد يستحب أن ينتقل عن موضعه قليلاً لتكثير مواضع سجوده ، هكذا علله البغوي وغيره ، فإن لم ينتقل إلى موضع آخر فينبغي أن يفصل بين الفريضة والنافلة بكلام إنسان ، واستدل البيهقي وآخرون من أصحابنا وغيرهم بحديث عمرو بن عطاء "أن نافع بين جبير أرسله إلى السائب يسأله عن شيء رآه من معاوية رضي الله عنه في الصلاة فقال : صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال : لا تعُد لما فعلت ، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج رواه مسلم فهذا الحديث هو المعتمد في المسألة ، وأما حديث عطاء الخراساني عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي الإمام في الموضع الذي يصلي فيه حتى يتحول" فضعيف رواه أبو داود وقال : عطاء لم يدرك المغيرة ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني النافلة" رواه أبو داود بإسناد ضعيف وضعفه البخاري في صحيحه ، قال أصحابنا : فإذا صلى النافلة في المسجد جاز وإن كان خلاف الأفضل ..." ا.هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "الفتاوى 24/202": والسنة الفصل بين الفرض والنفل في الجمعة وغيرها كما ثبت عنه في الصحيح "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام" فلا يفعل ما يفعله كثير من الناس يصل السلام بركعتي السنة ، فإن هذا ركوب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم.(32/13)
وفي هذا من الحكمة : التمييز بين الفرض وغير الفرض كما يميز بين العبادة وغير العبادة ، ولهذا يستحب تعجيل الفطور وتأخير السحور والأكل يوم الفطر قبل الصلاة ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين ، فهذا كله للفصل بين المأمور به من الصيام وغير المأمور به والفصل بين العبادة وغيرها. وهكذا تمييز الجمعة التي أوجبها الله من غيرها.
وأيضاً فإن كثيرًا من أهل البدع كالرافضة وغيرهم لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر ويُظهرون أنهم سلموا، وما سلموا ، فيصلون ظهراً ويظن الظان أنهم يصلون السنة ، فإذا حصل التمييز بين الفرض والنفل كان هذا منعًا لهذه البدعة وهذا له نظائر كثيرة والله سبحانه أعلم.اهـ .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3/197 بعد سياق حديث المغيرة بن شعبة: لا يصلي الإمام ...الحديث" وحديث أبو هريرة: أيعجز أحدكم...الحديث" قال: والحديثان يدلان على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي صلى فيه لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل. أما الإمام فبنص الحديث الأول وبعموم الثاني. وأما المؤتم والمنفرد فبعموم الحديث الثاني والقياس على الإمام.
والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة كما قال البخاري والبغوي ؛ لأن مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى (يومئذ تحدث أخبارها) أي تخبر بما عمل عليها ، وورد في تفسير قوله تعالى ( فما بكت عليهم السماء والأرض) أن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء وهذه العلة تقتضي أيضاً أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل ، وإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام لحديث النهي عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي أو يخرج أخرجه مسلم وأبو داود. ا.هـ
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والله أعلم.
كتبه / محمد بن إبراهيم الخريجي
2/4/1412هـ(32/14)
هل وافق الشوكاني الشيعة في الوصية بالخلافة لعلي - رضي الله عنه - ؟ ( مبحث )
للشوكاني – رحمه الله – رسالة بعنوان (العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين) ، يُفهم منها أنه يذهب مذهب الشيعة والزيدية في إثبات وصية النبي صلى الله عليه وسلم ( بالخلافة ) لعلي – رضي الله عنه - ، وقد أشكل هذا على البعض بسبب تعارض مافي الرسالة المذكورة مع أقوال الشوكاني في كتبه الأخرى ، التي جاءت موافقة لعقيدة أهل السنة .
وقد رأيت الباحث الأخ خالد الدبيان – حفظه الله - قد حل هذا الإشكال في رسالته الجامعية التي لم تُطبع حسب علمي : " قضايا العقيدة عند الإمام الشوكاني " ، رغم مناقشتها عام 1412هـ ، فأحببت نقل ذلك فيما يلي :
قال – وفقه الله - : " إن الحديث عن موقف الشوكاني لا ينفصل عن تحديد منهجه، وذلك كما بين سابقاً أن الإمام الشوكاني قد عاش في بيته ساد الفكر الزيدي عليها(1 )، والعالِمُ فرد من أفراد المجتمع يؤثر فيه كما أنه يتأثر به.
ولهذا نجد أن الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، لم يغفل هذه المسألة التي طال فيها النزاع، فقد صنف رسالة في ذلك أسماها (العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين) ( 2) .
ففي هذه الرسالة عالج الإمام الشوكاني قضية إثبات وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب، وقسم الرسالة إلى مبحثين:
المبحث الأول: إثبات مطلق الوصية منه صلى الله عليه وسلم، وذكر لذلك عدة أمثلة ؛كقوله صلى الله عليه وسلم : (الصلاة وما ملكت أيمانكم) و(أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)...الخ( 3) .(33/1)
المبحث الثاني: إثبات تقييد الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر الأحاديث التي تفيد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصي للرسول صلى الله عليه وسلم، مثال: (وصي ووارثي ومنجز موعدي علي بن أبي طالب) و(لكل نبي وصي ووارث وأن علياً وصي ووارثي) و(هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) ... الخ(4 ) . وهذا المبحث هو مجال حديثنا.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (والواجب علينا الإيمان بأنه – أي عليا - عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلزمنا التعرض للتفاصيل الموصى بها، فقد ثبت أنه أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وعين له علاماتهم وأودعه جملاً من العلوم وأمره بأمور خاصة كما سلف، فجعل الموصى بها فرداً منها ليس من دأب المنصفين) .
فالشوكاني رحمه الله تعالى، يثبت أن علياً رضي الله تعالى عنه وصي للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يرى أن هذه الوصية يجب ألا تخصص في شيء من الأشياء، فهي تشمل كل ما أوصى به صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب. مع أنه رحمه الله تعالى أورد في رسالته من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب قوله : (هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) وأيضاً : (ألا أرضيك يا علي؟ أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي) (5 ) فعلي رضي الله عنه على رأي الإمام الشوكاني أنه منجز الوعد، وقاضي الدين، ووارثه، ووزيره، وخليفته في الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا ما ختم به رسالته (العقد الثمين) بقوله: "اعلم أن جماعة من المبغضين للشيعة عدوا أن علياً عليه السلام وصي لرسول الله من خرافاتهم، وهذا تعنت يأباه الانصاف، وكيف يكون الأمر كذلك وقد قال بذلك جماعة من الصحابة كما ثبت في الصحيحين أن جماعة ذكروا عند عائشة أن علياً وصي، وكما في غيرهما. واشتهر الخلاف بينهم في المسألة وسارت به الركبان"( 6).(33/2)
وبهذا يُفهم أن الشوكاني –رحمه الله تعالى- يذهب أيضاً إلى جواز إمامة المفضول بوجود من هو أفضل منه، وذلك في شرحه لكتاب (حدائق الأزهار)، فقد قال على شرط صاحب المتن(7 ) (بأن الإمام يجب أن يكون علوياً فاطمياً) : "العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش، وأعلاها شرفاً وبيتاً، ولا ينفي ذلك صحّتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بأن الأئمة من قريش"(8 ) .
فقوله: "العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش، وأعلاها شرفاً وبيتاً، ولا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث" يفهم منه فضل النسب العلوي الفاطمي واستحقاقه بالإمامة، ولكن هذا لا ينفي أن يتولى الإمامة من هو أقل فضلاً من العلوي الفاطمي، شريطة أن يكون قرشياً كما دلت الأحاديث على ذلك.
و" القول بجواز إمامة المفضول، ذهب إليه أكثر أهل السنة والجماعة وأكثر المعتزلة وأكثر الخوارج "( 9) "إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحة ومفاسده وقوة القيام بلوازمه ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف وبشرائطها أقوم"(10 ) .
وسئل الإمام أحمد: "عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزو مع القوي الفاجر"(11 ) .
والقول "بجواز إمامة المفضول بوجود من هو أفضل منه هو أحد أقوال الشيعة الزيدية"(12 ) .(33/3)
وكذلك نجد الإمام الشوكاني يثبت إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فحين استعرض طرق انعقاد الإمامة قال: "ومن طريقها أن يعهد الخليفة للآخر كما وقع مع أبي بكر لعمر ولم ينكر ذلك الصحابة، ومن طرقها أيضاً أن ينص الإمام الأول على واحد من جماعة يتوالون عليه ويبايعون كما فعل عمر إلى أولئك النفر من الصحابة ولم ينكر ذلك عليه"( 13) فاعتباره بطريقة تولي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما دليل على إثبات خلافتهما رضي الله عنهما.
مناقشة موقف الإمام الشوكاني من الإمامة :
بعد عرض موقف الإمام الشوكاني –رحمه الله تعالى- من الإمامة، نريد أن نناقش هذا الموقف الذي اتخذه في هذه المسألة.
من الملاحظ أن رسالة الإمام الشوكاني (العقد الثمين) كانت مجالاً لدراسة بعض الدارسين في تحديد منهج الإمام الشوكاني، ومدى اتفاقه أو اختلافه مع فرقة الشيعة الزيدية، فيرى البعض أن الشوكاني زيدي المذهب، قبل، وبعد اجتهاده، وحتى وفاته، وقد استدل صاحب هذا الرأي بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي رضي الله عنه التي أفرد لها الشوكاني رسالة خاصة سماها "العقد الثمين في إثبات الوصية لأمير المؤمنين"، وأشار إلى أن تفتحه على أهل السنة أو إعراضه عن علم الكلام، يمثل تسامح المذهب الزيدي، وتجديد أصوله( 14) .
فإذاً كانت الرسالة عند صاحب هذا الرأي هي الحكم الفاصل في بيان منهج الإمام الشوكاني، وأنه زيدي المذهب، لأن فيها إثبات الوصاية بالإمامة وغيرها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ما يقول به الشيعة الزيدية، وكذلك الدفاع عن المنهج الشيعي في قولهم بالوصاية.(33/4)
- بينما يرى البعض أن رسالة "إثبات الوصية" لم تُثبت الإمامة أو الخلافة لسيدنا علي رضي الله عنه ، بل أوردت وصايا عامة للمسلمين كأداء الصلاة، والزكاة، وعدم مفارقة الجماعة، والطاعة، والتحذير من الفتن وغيرها، ووصايا خاصة لسيدنا علي رضي الله عنه تضمنت اهتمامه بريحانتيه الحسن والحسين رضي الله عنهما، وبتغسيله، وقضاء دينه، وغيرها، ولم تتضمن الوصية بالخلافة في الحكم( 15). وبنفس الفكرة قال محقق كتاب (قطر الولي) (16 ) .
- ويرى بعض الدارسين بأن الشوكاني لا يتقيد بالمذهب الزيدي، ولا بمذاهب أهل السنة الأربعة المشهورة، ولا بالمذهب الأشعري أو المعتزلي، وإنما ديدنه البحث عن الدليل، بمنهج علمي، خال من التمذهب المسبق(17 ) .
هذا عن موقف الدارسين من رسالة الإمام الشوكاني (العقد الثمين)، والذي يراه الباحث أن الرسالة تفيد إثبات الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما هو مسماها، ولكن الخلاف في تحديد هذه الوصية( 18) .
والقول بأنها لا تفيد إثبات الإمامة لعلي رضي الله عنه يدحضه أن مفهوم الوصية عند الزيدية والإمامية هو الوصية بالإمامة( 19) ورغم أن تفصيل الشوكاني في مسألة الوصية قد يوهم أنه لا يريد الوصية بالإمامة خاصة، إلا أن استشهاده بالأحاديث التي استدل بها الشيعة عموماً ضعفت من هذا الاحتمال، وتدل على أن الشوكاني قد قال بقول الشيعة في الإمامة، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصي للرسول صلى الله عليه وسلم.
نفي السلف رحمهم الله وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالخلافة:
وبعد تقرير هذا يقال: وردت أحاديث في نفي الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفهم السلف رحمهم الله تعالى منها أن المراد بالنفي، نفي الوصية بالخلافة.
من هذه الأحاديث: عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبدالله بن أبي أوفى، هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، لم يوص ) ( 20) .(33/5)
قال السلف: قوله (لم يوص) معناه: "لم يوص بثلث ماله ولا غيره، إذ لم يكن له صلى الله عليه وسلم مال، ولا أوصى إلى علي رضي الله عنه، ولا إلى غيره بخلاف ما يزعمه الشيعة. وقد تبرأ علي من ذلك( 21) وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته بكتاب الله ووصيته بأهل بيته، ووصيته بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وبإجازة الوفد، فليست مرادة بقوله (لم يوص) إنما المراد به ما قدمناه وهو مقصود السائل عن الوصية"( 22) .
وقالوا: "ويؤيد هذا الاحتمال ما وقع في رواية الدارمي(23 ) وابن ماجة( 24) : قال طلحة فقال لهزيل بن شرحبيل: (أبو بكر كان يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ود أبو بكر أنه كان وجد عهداً من رسول الله فخزم أنفه بخزام) وهزيل هذا أحد كبار التابعين ومن ثقات أهل الكوفة. فدل هذا على أنه كان في الحديث قرينة تشعر بتخصيص السؤال بالوصية بالخلافة"( 25) .
ومن الأحاديث أيضاً: حديث عائشة رضي الله عنها أنهم ذكروا عندها أن علياً رضي الله عنه كان وصياً، فقالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري –أو قالت: حجري- فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه( 26) .
وقد بين السلف رحمهم الله تعالى أن القائل بالوصية عند عائشة رضي الله عنها هم الشيعة( 27)، "فذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته، فلذلك ساغ لها إنكار ذلك، واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك، لكونه منحصراً في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها"(28 ) .
ومن الأحاديث قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قيل له : ألا تستخلف؟ قال: "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم"( 29) .(33/6)
قالوا: "كأن عمر رضي الله عنه قال: إن أستخلف فقد عزم صلى الله عليه وسلم على الاستخلاف فدل على جوازه، وإن أترك فقد ترك فدل على جوازه، وفهم أبو بكر رضي الله عنه من عزمه الجواز فاستعمله، واتفق الناس على قبوله"( 30)
واستدل السلف أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فأكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا) قال عبيد الله: سمعت ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم الكتاب لاختلافهم ولغطهم( 31) .
وقالوا: "إن قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، قد جاء مبيناً، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: (ادعي لي أباك وأخاك أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم (.. لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ويدفع الله ويأبى المؤمنون).
وقد اشتبه هذا على عمر، هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض، أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء. ولهذا قال: (ماله؟ أهجر؟) فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر، والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما وقد شك بشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله. وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات.(33/7)
والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) .
ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة، فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب"(32 ) .
ومن أدلة السلف في نفي الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ما ورد عن علي رضي الله عنه، فقد سئل رضي الله عنه : هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: "ما هو إلا كتاب الله وفهم يؤتيه الله من شاء في الكتاب"(33 ) .
وقد قال رضي الله عنه لما ظهر يوم الجمل: "يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمامة شيئاً"(34 ) .
وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا توصي؟ قال: "ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فأوصي، اللهم إنهم عبادك فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم"(35 ) .
وقال أبو الطفيل عامر بن وائلة: "كنت عند علي رضي الله عنه فأتاه رجل فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ قال: فغضب وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتم الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: (لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)" ( 36) .(33/8)
ومع استدلال السلف رحمهم الله تعالى بهذه الآثار في نفي الوصية، فقد استدلوا من جانب النظر والعقل، فقد قالوا: إن هناك "برهان آخر ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين، فما منهم أحد أشار إلى علي رضي الله عنه بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه، ولا ادعى ذلك قط لا في ذلك الوقت ولا بعده، ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت"(37 ) .
- وبعد إبطال السلف رحمهم الله تعالى لدعوى الوصية لعلي بن أبي طالب بالخلافة يظهر من تتبع ما كتبه الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، من شرح لبعض الأحاديث سابقة الذكر والتعليق عليها، قد يكون تراجع عن هذا الرأي (الوصية لعلي بن أبي طالب) إذ أن رسالة (العقد الثمين) كتبت في شهر شعبان من عام خمس ومائتين وألف (1205) من الهجرة النبوية( 38) فإذا كان تاريخ وفاة الإمام الشوكاني عام خمسين ومائتين وألف من الهجرة (1250) فإنه بين التأليف والوفاة فترة طويلة جداً، فقد يكون كتابته للرسالة في أوائل الطلب، مع عدم إغفال التأثر بالمجتمع المحيط به والغالب عليه الفكر الزيدي. إضافة إلى أن الرسالة قد أثبتت الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم تفرق بين قضاء الدين ونحوه وبين الخلافة، ولكن نجد الإمام الشوكاني قد فرق بين الوصية بالخلافة وبين الوصية بأمور عامة، وذلك عند شرحه لقول عائشة رضي الله عنها (متى أوصى وقد مات بين سحري ونحري) وقول ابن أبي أوفى رضي الله عنه (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص) فقد قال: "المراد بنفي الوصية منه صلى الله عليه وسلم نفي الوصية بالخلافة لا مطلقاً، بدليل أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الوصية بعدة أمور"( 39) وبلا شك فإن هذا النص الذي يفيد التفريق يناقض ما ذكره في رسالته، مما يدل على أن الإمام الشوكاني قد تراجع عن قوله السابق.(33/9)
ويؤكد تراجع الإمام الشوكاني عن إثبات الوصية، أنه قال عند شرحه لقول عمر رضي الله عنه: (فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبدالله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف) .
قال الشوكاني: (يعني أنه سيقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الاستخلاف ويدع الاقتداء بأبي بكر وإن كان الكل عنده جائز، ولكن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في الترك أولى من الاقتداء بأبي بكر في الفعل )(40 ) فالشوكاني رحمه الله يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك ولم يستخلف، وهذا ما يقول به علماء السلف.
وعن حادثة تولي عثمان رضي الله عنه للإمامة، وقول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايعه علي، وولج أهل الدار فبايعوه.
قال الشوكاني: " وفي هذا الأثر دليل على أنه يجوز جعل أمر الخلافة شورى بين جماعة من أهل الفضل والعلم والصلاح، كما يجوز الاستخلاف وعقد أهل الحل والعقد " ( 41) فلم يتعرض الشوكاني إلى القول بالوصية، وأن علياً رضي الله عنه أفضل وأحق كما تفعله الشيعة، وإنما أجاز انعقاد الإمامة بالشورى، وبعقد أهل الحل والعقد.
ويؤكد تراجع الشوكاني –رحمه الله- عن القول بالوصية لعلي رضي الله عنه، أنه كثيراً ما كان يتراجع عن آراء اتخذها، وصنف كتاباً في تأييدها والدعوة إليها، وقد أشار إلى بعضها( 42) .(33/10)
فمن خلال ما سبق يتبين لدى الباحث من موقف الإمام الشوكاني ما يلي: أولاً: إن رسالة العقد الثمين، فيها إثبات الوصية بالخلافة وغيرها، بل كونها إلى الخلافة أقرب من غيرها، لأن النزاع بين أهل السنة والجماعة والشيعة في الإمامة، فالشوكاني كان يقول بقول الشيعة في الوصية.
ثانياً: تعتبر رسالة العقد الثمين، من الكتب المبكرة في الحياة العلمية لدى الإمام الشوكاني، فهي تمثل الموقف الذي كان عليه سابقاً من الإمامة.
ثالثاً: يكون الرأي المختار والذي يوصف بأنه الموقف المتأخر للإمام الشوكاني من الإمامة، هو قوله بأن الإمامة تنعقد بالشورى وبعقد أهل الحل والعقد والعلم والفضل، وليس بالوصية أو بالنص، كما هو مبين في كتابه نيل الأوطار، وهو رأي أهل السنة والجماعة.
رابعاً: لم يقدح الإمام الشوكاني –رحمه الله تعالى- في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تفعله الشيعة، بل كان موافقاً لما ذهبوا إليه من طرق انعقاد الإمامة.
_________________________
(1 )انظر: الإمام الشوكاني حياته وفكره – د/ عبدالغني الشرجي- 76.
(2 )العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين – الشوكاني- ضمن مجموعة الرسائل اليمنية (الرسالة الثانية)- المطبعة المنيرية، القاهر- 1348هـ.
(3 )العقد الثمين – 6 – 8.
( 4)العقد الثمين – 8-10.
(5 )العقد الثمين 8-9.
( 6) العقد الثمين – 10.
( 7) هو الإمام الهادي أحمد بن يحيى المرتضي. انظر: كتاب قطر الولي -55.
( 8) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار –الشوكاني- 4/506.
(9 )الإمامة العظمى – 299.
(10 )المواقف –للإيجي- 413.
(11 ) السياسة الشرعية – ابن تيمية – 21- دار الكتاب العربي. وانظر: منهاج السنة النبوية – 6/475
(12 ) الملل والنحل – الشهرستاني – 1/154.
(13 )السيل الجرار – الشوكاني – 4/511.
( 14) الزيدية – أحمد محمود صبحي – 727 – 728.(33/11)
(15 ) الشوكاني المفسر –رسالة دكتوراه- لم تنشر – قسم التفسير وعلوم القرآن- كلية أصول الدين- جامعة الأزهر- 1977م (نقلاً من كتاب الشوكاني حياته وفكره- 28).
( 16) مقدمة قطر الولي – إبراهيم هلال – 107.
(17 )الإمام الشوكاني حياته وفكره – عبدالغني الشرجي – 291.
(18) انظر البداية والنهاية 5/200.
( 19) كتاب الأمامة والرد على الرافضة – للحافظ أبي نعيم الأصبهاني – تحقيق الدكتور/ علي بن محمد الفقيهي- 232- مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة- الطبعة الأولى- 1407هـ.
( 20) أخرجه البخاري – 3/186- كتاب الوصايا – باب الوصايا. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه – 3/1256- برقم (1634) – كتاب الوصية- باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه. وأخرجه الترمذي في السنن – 4/376- برقم (2119) – كتاب الوصايا – باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص.
( 21) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم – النووي- 11/88. وانظر: معالم السنن – لأبي سليمان الخطابي – 4/144 – تحقيق محمد حامد الفقي- دار المعرفة- بيروت – لبنان.
( 22) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم – النووي- 11/88.
( 23) انظر سنن الدارمي – 2/291- برقم (3184) كتاب الوصايا – باب من لم يوص.
(24 ) سنن ابن ماجة – 2/900 – برقم (2696) – كتاب الوصايا – باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(25 ) فتح الباري – ابن حجر – 5/425. وانظر: كتاب الأمة والرد على الرافضة – أبي نعيم الأصفهاني – 233.
( 26) صحيح البخاري – 3/185- كتاب الوصايا – باب الوصايا.وأخرجه مسلم في صحيحه – 3/1257- برقم (1636)- كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. وأخرجه الإمام أحمد في المسند – 6/32.
( 27) انظر: فتح الباري – ابن حجر – 7/757.
( 28) فتح الباري –ابن حجر – 5/426. وانظر: كتاب الأمة – أبي نعيم الأصفهاني – 232. وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم – 11/88.(33/12)
(29 ) صحيح البخاري – 8/125- كتاب الأحكام- باب الاستخلاف. وأخرجه مسلم في صحيحه – 3/1454- برقم (1823)- كتاب الإمارة – باب الاستخلاف وتركه.
(30 ) فتح الباري – 13/219.
( 31 ) معالم السنن 4/198
(32) أخرجه مسلم ( 2385) .
( 33) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – 5/137 – كتاب المغازي – باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. وأخرجه الإمام مسلم – 3/1257- برقم (1637)- كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه.وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في المسند- 1/325. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة – 7/225.
( 34)منهاج السنة النبوية – ابن تيمية – 6/23-25. وانظر: كتاب الأمة –لأبي نعيم الأصفهاني – 234-235. والبداية والنهاية – ابن كثير – 5/200. وشرح العقيدة الطحاوية – 2/223.
( 35) صحيح البخاري – 1/36- كتاب العلم – باب كتابة العلم.
( 36) أخرجه الإمام أحمد في المسند . وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة – 7/223.
( 37) أخرجه عبدالله بن أحمد – السنة – 2/538- برقم (1249). وأخرجه الخلال في السنة – 273- برقم (332). وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة – 7/223.
(38 ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – 3/1567- برقم (1978)- كتاب الأضاحي.
( 39) الفصل في الملل والأهواء والنحل – ابن حزم- 4/161.
( 40) رسالة العقد الثمين – الشوكاني – 10.
(41 ) نيل الأوطار – الشوكاني – 6/40.
(42 ) التحف في مذاهب السلف – الشوكاني – 57. والبدر الطالع – الشوكاني – 2/37.(33/13)
موقف الصنعاني من الصحابة رضي الله عنهم .. ( مبحث من رسالة مخطوطة )
هذا مبحث منتزع من رسالة الأخ نعمان بن محمد شريان – وفقه الله - : " ابن الأمير الصنعاني ومنهجه في الاعتقاد " ، نوقشت عام 1417هـ في كلية أصول الدين بجامعة الإمام ، ولم تُطبع حسب علمي .
المطلب السادس: مناقشة بعض المآخذ على ابن الأمير:
سبق في مطلب العدالة الآنف الذكر أن ابن الأمير يُخرج من عدالة الصحابة من ظهر منه اختلالها بمفسق وغيره، ويقصد بذلك إخراج أربعة من الصحابة من العدالة، وقد أشار إليهم بقوله: (والمحدثون وإن أطلقوا أن كل الصحابة عدول، فقد ذكروا قبائح جماعة لهم رؤية تخرجهم من عموم دعوى العدالة، كما قال الحافظ الذهبي في النبلاء في مروان بن الحكم( 1) ما لفظه... إلى أن قال ابن الأمير: وكتأويل من تأول لمعاوية( 2) في فواقره أنه مجتهد أخطأ في اجتهاده مع أنه قد نقل العلامة العامري الإجماع على أنه باغ، والباغي غير مجتهد في بغيه.. إلى أن قال ابن الأمير: هذا وقد خالف ابن حجر المحدثين فإنهم صرحوا بفسق من له رؤية كبسر بن أرطاة( 3) ، قال الدارقطني: كانت له صحبة ولم تكن له استقامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم... إلى أن قال ابن الأمير: وكذلك الوليد بن عقبة(4 ) قال الذهبي في النبلاء في ترجمته: كان يشرب الخمر، وحد على شربها، ... إلى أن قال: والقصد من هذا بيان أن قول الحافظ: إن ثبتت رؤية لمروان، فلا يعرج على من تكلم فيه أنه جعل الرؤية كالعصمة، وكلامه خلاف ما عليه أئمة الحديث...) ( 5) .
ويمكن مناقشة هذا النص في الأمور الآتية:(34/1)
الأمر الأول: يقال: لعل ابن الأمير قد أورد هؤلاء الأربعة للكلام عليهم كأمثلة لمن خرمت عدالتهم، لا لإخراجهم من الصحبة، وقد تقدم الإشارة إلى أن الصحابة كلهم عدول، ولااعتبار إن وجد شواذ، ولا يسلم من المعاصي إلا الأنبياء، ثم إن الصحابة أسرع الناس إلى التوبة، ثم إن الموقف مما شجر بينهم السكوت عن ذلك، وأن تلك فتن قد طهر الله أيدينا منها فلنطهر قلوبنا وألسنتنا من الإساءة إليهم رضي الله عنهم أجمعين.
الأمر الثاني: مما ذكره محقق ثمرات النظر في تعليقه على كلام ابن الأمير هذا قوله: لقد قال الشيخ المعلمي كلاماً طيباً في الرد على من شنع على أهل الحديث في إخراجهم لمروان قال (رحمه الله) : (اعتبر البخاري أحاديث مروان فوجدها مستقيمة معروفة لها متابعات وشواهد، ووجد أن أهل عصر مروان كانوا يتقون بصدقه في الحديث...) .
أما الوليد بن عقبة فلم يثبت أن الوليد روى حديثاً يزكي به نفسه، أو يبرز ما نسب إليه، وليس له حديث في الصحيحين.
أما بسر بن أرطاة فقد ذكر ابن عدي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب أنه ليس له صحبة، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فلم يسمع منه، وكذلك الذهبي في النبلاء قال: في صحبته تردد...) (6 ) .
أما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لا يُسَلِّم أحد للمؤلف أن معاوية رضي الله عنه في النار، لأن أهل السنة والجماعة لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار إلا بوحي من الله رسوله صلى الله عليه وسلم.(34/2)
ثم إن الحسن بن علي قد تنازل عن الخلافة لمعاوية وبايعه... والذي لا يُشك فيه أنها فتنة خاض فيها أناس مبشرون بالجنة ورجال لا يمكن أن يكونوا في النار، ثم هل للمؤلف دليل حتى من الإمام على رضي الله عنه بتكفير معاوية، وهو الذي لم يكفر الخوارج ولا الصحابة الذين ساروا مع معاوية، أما معاوية ورواية الحديث، فإنه مشهود له أثناء الحرب بأنه لم يضع حديثاً، أو يكذب لصالح نفسه، وأحاديثه في الصحاح، وقد ذكرها السيد محمد بن الوزير، ولم يشنع عليه فيها بل تعجب لمن شنع على أهل الصحاح برواية هذه الأحاديث(7 ) .
الأمر الثالث: بالنسبة لموقف ابن الأمير من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وولده يزيد، فقد ورد عن ابن الأمير في أكثر من موضع بأن معاوية بن أبي سفيان من الظلمة البغاة في اغتصابه مقام الخلافة، وأن الفئة المحقة علي ومن في حزبه، والفئة الباغية معاوية ومن في حزبه( 8)، وقد ورد في بضع مواضع لعن معاوية ويزيد ابنه، وفي بعضها لا يكون اللفظ من كلام ابن الأمير إنما يكون نقلاً عن غيره كابن أبي الحديد وغيره، كما في الروضة الندية شرح التحفة العلوية( 9)، أما في الديوان حيث جاء القول: (قال يزيد بن معاوية لعنهما الله أبياته المعروفة)( 10)، فليس من قول ابن الأمير، وكذلك أبياته في الديوان( 11) لا تخرج عن كلامه في أنه من البغاة، وهذا الكلام عن معاوية وابنه يزيد ثابت عن ابن الأمير (غفر الله له).(34/3)
الأمر الرابع: أما مسألة كون معاوية من البغاة فيقال: ربما أن ابن الأمير قد استند إلى حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: رضي الله عنه "تقتلك الفئة الباغية"( 12) وهو حديث ثابت، ورواه مسلم، وقد أشار ابن الأمير نفسه إلى جملة طرقه في توضيح الأفكار(13 )، وشرحه في كتابه سبل السلام( 14)، وتكلم عن مسألة قتال البغاة وأنه إجماع لقوله تعالى: ( فقاتلوا التي تبغي) . وإذا كان كلامه (رحمه الله) من باب الكلام في قتال البغاة، فهذا قد يقال إنه من باب الاجتهاد، ومن باب وقوع الاختلاف في المسألة، أما تعيينه بأن رأس البغاة ورأس النواصب معاوية وابنه يزيد( 15) فهذا مما كان ينبغي لابن الأمير أن لا يخوض فيه، وكان الأولى به (غفر الله له) القول بقول الله تعالى: ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) .
والعمل بما قرره نفسه في مواضع من تحريم سب الأموات أو لعنهم أو النيل منهم حيث قال في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"(16 ) . قال: ظاهره العموم للمسلم والكافر( 17) .
وكذلك قوله: (والحديث إخبار بأنه ليس من صفات المؤمن الكامل الإيمان السب واللعن، إلا أنه يستثني من ذلك لعن الكافر، وشارب الخمر، ومن لعنه الله ورسوله) ( 18) .(34/4)
وفي إيقاظ الفكرة بعد أن نقل عن ابن قيم الجوزية في كتابه الجواب الكافي في تعداد من لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عرفت هذا، فليس لمن قاتل الباغي مثلاً أن يلعنه ويسبه وينال منه، إن لم يرد ذلك عن الشارع... وقد ورد فيمن جلده صلى الله عليه وسلم على الخمر أنه سبه بعض الصحابة، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: "لا تعينوا الشيطان على أخيكم"( 19)، وأنه ليس لنا التصرف في عباد الله في أموالهم ولا في أعراضهم ولا دمائهم إلا بالإذن الشرعي، فالأصل منع الإضرار فلا ينتقل عنه إلا بالدليل) (20 ) .
وفي ختام هذا المبحث أشير إلى أن العليمي، قد ذكر بعض الانتقادات التي وجهت إلى ابن الأمير ورد عليها( 21)، من ذلك: قول ابن الأمير بعد ذكر اسم علي بن أبي طالب –عليه السلام- قال العليمي: (والمتأمل لهذا الأمر يرى أن الصنعاني –رحمه الله- قال: (واختلفوا أيضاً في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي، فقيل: يشرع مطلقاً، وقيل: تبعاً ولا يفرد بواحد لكونه صار شعاراً للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ محمد الجويني، قلت –أي ابن الأمير-: هذا التعليل بكونه صار شعاراً لا ينهض على المنع؛ والسلام على الموتى قد شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم "السلام عليكم دار قوم مؤمنين"( 22) .
قال العليمي: إن قول الصنعاني –عليه السلام- بعد ذكر علي لا تعني أكثر من معناها الذي تدل عليه اللغة، ولا ينبغي تحميلها أكثر من ذلك؛ لأن الصنعاني وغيره كابن الوزير لم يستعملاها لعلي فقط، بل يطلقانها على غيره والأمر كما قال العليمي لا ينبغي إعطائها أكثر من حجمها، والله أعلم.
ومما ذكره من الانتقادات أيضاً: عدم ترضيه عن بعض الصحابة أو الترجمة لهم وهذا إما سهواً من ابن الأمير أو اختصاراً ولا يقصد من وراء ذلك شيئاً.(34/5)
وأيضاً ما نسب إليه من سب لبعض الصحابة، وهذا قدم تقدم الإشارة إليه قريباً، وأيضاً ذكر انتقادات ابن الأمير لاجتهادات عمر رضي الله عنه وقد ذكر العليمي أمثلة مما يوضح أن ابن الأمير مجتهد يتبع الدليل، وأنه قد يتبع عمر بن الخطاب إذا صح الدليل على ما ذهب إليه أو قد ينتقده إذا لم يكن الدليل مع عمر رضي الله عنه(23 ) .
- وأشير إلى شيء في باب الصحابة مما يؤخذ على ابن الأمير وهو إطلاقه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه لفظ (الوصي) ولم يشر إلى هذا العليمي، وهذا ثابت عن ابن الأمير في مواضع من ديوانه، وفي مواضع من مؤلفاته الأخرى، وهذا اللفظ من إطلاقات الرافضة، حيث يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بالخلافة لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه، وقد وضع الشيعة أحاديث في هذا الأمر، وقد أشار الشوكاني أن أحاديث وصايا علي بن أبي طالب كلها موضوعة( 24) .
وعلى العموم فإن ابن الأمير مع هذه الهفوات التي ربما كانت في فترة سابقة من حياته، فإنه يترضى عن جميع الصحابة، وأن الغالب على أهل ذلك العصر الصدق، ويقدم أبا بكر وعمر ويترضى عنهم، ولا يمكن نسبته إلى التشيع ولا إلى الاعتزال لكلام قليل في مواضع قليلة نادرة، نسأل الله له العفو والعافية. ) . ( ص 721-727) .
=============================
(1 ) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص القرشي الأموي، يكنى أبا القاسم وأبا الحكم. قيل: له رؤية، وذلك محتمل ومن كبار التابعين، قال الذهبي: (استولى مروان على الشام ومصر تسعة أشهر، ومات خنقاً من أول رمضان سنة 65هـ) . انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/476.
( 2) تقدمت ترجمته ص 272.(34/6)
(3 ) هو بسر بن أرطاة الأمير أبو عبدالرحمن عمر بن عويمر بن عمران القرشي العامري الصحابي نزيل دمشق. قال الذهبي: (كان فارساً شجاعاً، فاتكاً من أفراد الأبطال، وفي صحبته تردد) وقال ابن حجر: (من صغار الصحابة. مات سنة 86هـ) . انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/409؛ ابن حجر: التقريب (121 برقم 663) .
( 4) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأمير، أبو وهب الأموي، له صحبة قليلة، ورواية يسيرة، وهو أخو أمير المؤمنين عثمان بن عفان لأمه. من مُسْلمة الفتح. قال الذهبي: (وكان مع فسقه –والله يسامحه- شجاعاً قائماً بأمر الجهاد وله أخبار طويلة في تاريخ دمشق ولم يذكر وفاته) . انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/412.
( 5) انظر: ابن الأمير: ثمرات النظر 53-56.
( 6) انظر: المصدر السابق: المقدمة 36-37 من كلام المحقق: أحمد عبده ناشر.
(7 ) انظر: ابن الأمير: ثمرات النظر 34-35 المقدمة؛ وانظر كلام ابن الوزير في نقل أحاديث معاوية التي رواها وهي: ستاً وثلاثين ومائة حديث، في توضيح الأفكار 2/435.
(8 ) انظر على سبيل المثال: ابن الأمير: سبل السلام 3/524-525؛ منحة الغفار 4/2479، 2491، 2555، الروضة الندية في مواضع منها 73، 76، 85، 86، 133، التنوير شرح الجامع الصغير 4/379 (مخ). قال النووي –رحمه الله-: (قال العلماء: هذا الحديث ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً، والطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك) انظر: شرح مسلم 18/56 شرح حديث (2915).
( 9) انظر: ابن الأمير: الروضة الندية 125، 141، 184، 241.
( 10) انظر: الديوان ص 368.
(11 ) انظر: الديوان ص 196.
( 12) رواه مسلم في كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (شرح النووي 18/56-57 برقم 2916) بلفظه وله روايات عدة.
(13 ) انظر: ابن الأمير: توضيح الأفكار 2/448-453.(34/7)
( 14) انظر: ابن الأمير: سبل السلام 3/523-524.
( 15) انظر: ابن الأمير: التنوير 2/202 (مخ)، فتح الخالق 1/110 (مخ) .
( 16) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما ينهى من سب الأموات (الفتح 3/304 برقم 1393) بلفظه، وتقدم تخريجه 17.
( 17) انظر: ابن الأمير: سبل السلام 2/239- 241، 4/378.
( 18) المصدر السابق 4/378.
( 19) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة (الفتح 12/67، 77 برقم 6777، 6780، 6781).
( 20) انظر: ابن الأمير: إيقاظ الفكرة 2/640، وانظر في تحريم سب الصحابة (رضوان الله عليهم) د. ناصر بن علي عائض حسن الشيخ: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام 2/831 وما بعدها، فقد ذكر تحريم سبهم بنص الكتاب والسنة ومن كلام السلف، وبين حكم ساب الصحابة وعقوبته، وقد أجاد في ذلك وأفاد، وكذلك رده على الفرق المنحرفة في باب الصحابة في الباب الرابع في الجزء الثالث. مع العلم أن ابن الأمير –رحمه الله- لا يجهل تلك النصوص والأحكام، ولعلها كبوة في حقه يغفرها الله له بجانب حسناته الكثيرة. والله أعلم.
( 21) انظر: العليمي: الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار 95- 103.
(22 ) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (شرح النووي 7/58 برقم 974) بلفظه.
( 23) انظر: العليمي: المرجع السابق 103 – 108.
(24 ) انظر: الشوكاني: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، تحقيق، عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (بيروت، المكتب الإسلامي ط3، 1407هـ =1987م) ص 366 تحت عنوان: (بحث آخر في النسخ الموضوعة) بعد حديث رقم (1230)؛ (193) في فضائل القرآن.(34/8)
شبهات الطابور السادس والرد عليها ( المجموعة الأولى )
للشيخ/ فيصل الجاسم
تهذيب واختصار سليمان بن صالح الخراشي
كتب الشيخ فيصل الجاسم - وفقه الله - كتابًا قيمًا بعنوان ( كشف الشبهات في مسائل العهد والجهاد ) ، تعرض فيه لشبهات الطابور السادس في تجويزهم قتل المعاهدين والمستأمنين ، وتجويزهم غدر المسلم بالدول الكافرة والقيام بعمليات التفجير والقتل على أراضيها التي دخلها بأمان منهم .
وقد أحببت نقل رده على شبهات الطابور السادس في هذه المسألة ؛ لتكون مجموعة أولى في الرد على شبهاتهم .. يتلوها إن شاء الله مجموعات أخرى في مقدمتها شبهاتهم في تجويز قتل رجال الأمن ؛ كما حصل مؤخرًا منهم .. نسأل الله لهم الهداية .
قال الشيخ فيصل :
-( الشبهة الأولى : أن حاكم المسلمين لا يصح عهده للكافرين ولا أمانه لهم إلا إذا كان يحكم بكل الشريعة . فإن ترك الحكم ببعض الشريعة وحكم بغير ما أنزل الله فلا يصح عهده ولا أمانه ؛ لأنه كافر فلا تعصم بعهده ولا بأمانة دماء الكافرين .
وهذه الشبهة هي عمدة شبههم التي يدندنون حولها . وهي تدل على جهل واضح بالكتاب والسنة ونصوص الأئمة . وإليك الرد على هذه الشبهة من عشرة أوجه :
( الوجه الأول ) : أن العلماء الثقات في هذا العصر اختلفوا في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله فمنهم من قال بأنه لا يكفر إلا إذا استحل ذلك ، كما نص على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث قال : " أما القوانين التي تخالف الشرع فلا يجوز سنها ، فإذا سن قانوناً يتضمن أنه لا حد على الزاني أو حد على السارق أو لا حد على شارب الخمر ، فهذا قانون باطل ، وإذا استحله الوالي كفر لكونه استحل ما يخالف النص والإجماع ، وهكذا كل من استحل ما حرم الله من المحرمات المجمع عليها فهو يكفر بذلك " [1]
وقال في رسالة " حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها " :(35/1)
" القسم الثاني : من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها ، أو ليعين غيره على ذلك ، مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك ، فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام ، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم ، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب " الصلاة " وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة " الرسائل " [2]
واختار بعضهم كفره ولو لم يستحل ذلك . ( انظر رسالة الشيخ عبدالرحمن المحمود : الحكم بغير ما أنزل الله ) .
وعلى هذا فإننا لو تنزلنا وقلنا بترجيح قول من كفر الحاكم بغير ما أنزل الله من غير استحلال ، فإن المسألة تبقى مسألة خلاف بين أهل العلم ، كما اختلفوا في تارك الزكاة والصيام والحج .
والقاعدة النبوية التي أصلها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تقرر بأن مسائل الخروج وما يترتب عليها من إبطال العهود والمواثيق لا تكون إلا على كفر لا يختلف فيه المسلمون ، وهو الذي وصفه بقوله " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " أي حجة واضحة بينة لا يختلف فيها عالم .
أما أن نلزم الناس بالأحكام المترتبة على كفر الحاكم بناء على ترجيحنا للقول بكفره ، فهذا من الضلال المبين .
والحكم على الحكام والأئمة في مسائل الكفر والإيمان المختلف فيها يختلف عن الحكم بها على آحاد الرعية .(35/2)
( الوجه الثاني ) : أن يقال لا أقل من أن ينزل من حكم بغير ما أنزل الله من الحكام منزلة الخوارج ، من حيث اختلاف العلماء في كفرهم ، وظاهر الأحاديث يدل على كفر الخوارج ، ومع ذلك أمضى العلماء عهود الخوارج وأمانهم وأجازوا دفع الزكاة إليهم إذا غلبوا .
قال ابن عمر : " تدفع ـ أي الزكاة ـ لمن غلب "
ونص على ذلك أحمد رحمه الله
بل إن العلماء نصوا صراحة على صحة صلحهم للكفار وعهدهم .
فقال سحنون : " وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز " [3]
وقال محمد بن الحسن : " وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز كأمان أهل العدل " [4]
وهذا في حق الأمان الذي يكون من آحاد الرعية ، فكيف بالعهد العام للكفار الذي لا يكون إلا من الحاكم ؟!
ولا أعلم أحداً من العلماء أبطل صلح الخوارج لأهل الحرب ، بل ولا صلح من لم يختلف في كفرهم كالعبيديين وكثير من دول الرافضة المارقة كالسامانيين والبويهيين .
ذلك لأن صلح الكافر للكافر جائز .
قال أحد علماء الدعوة النجدية " الدرر 10/338 " : " يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم بالكتاب والسنة والاعتبار " .
( الوجه الثالث ) : أننا لو فرضنا كفر الحاكم بغير ما أنزل الله مطلقاً واتفاق العلماء عليه ، لم يكن هذا دليلا على بطلان عهده وأمانه للكفار؛ ذلك لأن الكافر يُعصم دمه بالأمان الصريح الصحيح وبالأمان الفاسد ـ الذي هو شبهة أمان ـ وبالهدنة الصحيحة وبالهدنة الفاسدة تغليباً لحقن الدماء ، ولئلا يترتب عليه الصد عن سبيل الله ، لأن قاعدة الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات .
والقاعدة في هذا أن كل ما ظنه الكافر أماناً عصم به دمه ولم يستبح لأجل الشبهة .
يدل عليه ما رواه سعيد في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل ـ أي ظناً أنه أراد الأمان ـ فقتله لقتلته ".
وقال أحمد : " إذا أشير إليه ـ أي الكافر ـ بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان " [5](35/3)
وقال ابن جزي في القوانين الفقهية : " ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يرده فلا يقتل " .
وقال شيخ الإسلام : " ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم " [6]
وقال أيضاً : " هذا الكلام الذي كلموه صار به مستأمناً ، وأدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان ، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر ، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه " [7]
وقال السرخسي : " وذلك لما بين أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي" [8]
ومن شبه الأمان التي تعصم بها دم الكافر : أن يؤمنه كافر بين المسلمين ظنه الكافر المؤمن مسلماً ، أو علمه كافراً إلا أنه ظن أن أمانه يصح ، وعلى هذا نص الأئمة . فقد روى ابن وهب بإسناده كما في المدونة في " باب أمان المرأة والعبد والصبي " أن عمر رضي الله عنه بعث كتاباً إلى سعيد بن عامر وهو يحاصر قيسارية فقال فيه : " وإذا أمنه بعض من تستعينون به على عدوكم أهل الكفر فهو آمن حتى تردوه على مأمنه أو يقيم فيكم ، وإن نهيتم أن يؤمن أحد أحداً فجهل أحد منكم أو نسي أو لم يعلم أو عصى فأمن أحداً فليس لكم عليه سبيل من أجل أنكم نهيتموه فردوه إلى مأمنه إلا أن يقيم فيكم ، ولا تحملوا إساءتكم على الناس فإنما أنتم جند من جنود الله " .
وقال ابن وهب في المدونة : " وقال الليث والأوزاعي في النصراني يغزو مع المسلمين قالا : لا يجوز على المسلمين أمان مشرك ويرد إلى مأمنه " [9]
وقال الشافعي في الأم في باب " الأمان " : " وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أم لم يقاتلوا لم نجز أمانهم ، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أم لم يقاتل لم نجز أمانه ، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز وننبذ إليهم فنقاتلهم ".(35/4)
ومن ذلك أيضاً أن يقدموا إلينا في هدنة فاسدة كأن يعقدها غير الإمام ، أو على قول هؤلاء أن يعقدها حاكم كافر ظنه الكفار مسلماً ، فإنه تعصم دماؤهم بهذه الهدنة الفاسدة للشبهة .
قال الفتوحي رحمه الله في المعونة في كتاب الجهاد : " متى جاء الكفار في هدنة فاسدة بأن يتولى عقدها غير إمام أو نحو ذلك من فساد الهدنة معتقدين الأمان ردوا آمنين إلى مأمنهم " [10]
وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على عصمة دم الكافر بأمان كافر مثله للشبهة مع كون الكافر المؤمن من عامة الناس ، فكيف إذا كان الذي أمنهم أو صالحهم هو حاكم المسلمين الذي عاهده الكفار على أنه مسلم فبان كافراً ، فلئن تعصم بعهده وأمانة دماء الكافرين ولو بالشبهة من باب أولى ؟!
( الوجه الرابع ) : أن الأمان والعهد إنما عقده الحاكم لمصلحة المسلمين عامة ، فرد أمانه وعهده وإبطاله يترتب عليه الضرر على المسلمين .
( الوجه الخامس ) : أن يقال : إننا لو أبطلنا عهد الحاكم بغير ما أنزل الله ، ولم نعصم به دماء الكافرين ، فإن هذا يستلزم إبطال كل ماباشره الحاكم أو نائبه مما يشترط في مباشرته الإسلام ، كالأنكحة ، وولاية جمع المال وتفريقه ، والقضاء ، وغير ذلك ، إذ لا فرق بين عهده للكافرين وبين سائر عهوده وعقوده ، وهذا يترتب عليه من الفساد ما يكفي تصوره في بطلانه .
( الوجه السادس ) : أن القول ببطلان عهد الحاكم بغير ما أنزل الله ، للكفار ، يستلزم أن يكون الكفار فقهاء محققين لمسألة الحكم بغير ما أنزل الله وأنها كفر ، ثم يعملون تحققها في هذا الحاكم بخصوص ، لئلا يقدموا على الصلح والأمان فيقدموا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين ، ثم تستباح دماؤهم وأموالهم ! وهذا بين الفساد والبطلان .(35/5)
( الوجه السابع ) : أن إبطال عهد وصلح الحاكم بغير ما أنزل الله للكفار واستباحة دمائهم بذلك يستلزم الصد عن سبيل الله ، والتنفير عن الإسلام ، لأنهم يظنون أنهم يعاهدون حاكماً مسلماً ، وأن دماءهم قد عصمت بالعهد ، وكل قتل لهم بعد ذلك يعدونه غدراُ وخيانة ، ولا يتصور منهم أن يقلبوا التفصيل الذي يذكره من يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً .
( الوجه الثامن ) : أن العهود التي يعقدها الحاكم بغير ما أنزل الله مع الكفار قد رضي أهل الحل والعقد بها ، وهم وجهاء الناس ومجالس الشورى ونحوها بل وعامة الشعب ، فلم يستقل الحاكم بغير ما أنزل الله بهذه العهود والمواثيق .
كما أن الذين يباشرون تأمينهم من إعطاء الفيزة وختم الدخول هم آحاد المسلمين وهم راضون بتأمينهم ، فكيف تستباح دماؤهم بعد ذلك ؟!
( الوجه التاسع ) : أن إبطال العهود التي يعقدها الحكم بغير ما أنزل الله مع الكفار وكذا أمانه قول باطل ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا نص إمام . وهو قول محدث لا سلف له .
( الوجه العاشر ) : أن نقول إننا لو قدرنا كون من يحكم المسلمين كافراً بما هو أوضح من مسألة كفره بالحكم بغير ما أنزل الله ، كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو عابداً لصنم ونحو ذلك ، فإن هذا لا يقتضي أيضا اعتبار عهده وأمانه منتقضاً ، واستباحة دماء من أمنهم وعاهدهم ، وذلك لأن من يعيش تحت حكومته وولايته من المسلمين يعتبرون مستوطنين ، والمستوطن يلزمه من الحقوق ما لا يلزم المستأمن والمعاهد .(35/6)
يوضحه : أن المسلم الذي يدخل بلاد الكفار بأمان منهم لا يحل له التعرض لهم بنفس ولا مال بالإجماع ، مع كون الأمان الذي عصم دماءهم وأموالهم مؤقتاَ ، فلأن لا يحل له التعرض لهم ولا لمن في بلادهم وهو مستوطن لها من باب أولى وأحرى ، وذلك من أجل عهد المواطنة الذي أصبح مستوطناً به بلادهم ، وهذا العهد وإن لم يكن مكتوباً باللفظ إلا أنه معلوم بالمعنى ، وهذا لا يستريب فيه من عرف رائحة العلم .
ولا تعارض بين هذا وبين ما ورد من جواز الخروج على الحاكم المرتد أو الكافر إذا كان بالمسلمين قوة كما في الحديث : " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " ، وذلك أن الخروج على الحاكم حال كفره يعد من باب الجهاد في سبيل الله بعد دعوته وإنذاره ، بخلاف قتل المستوطنين والمعاهدين والمستأمنين ، فإنه من الفساد والفوضى والغدر والخيانة لا من الجهاد والدعوة ؛ لأنه قتلٌ في حالة أمن ونقض للعهد .
الشبهة الثانية : هي قولهم : إننا مكرهون على الصلح والعهد ومضطرون إليه ، ومن اضطر لصلح أو ألجئ إليه لم يصح صلحه.
والجواب عنها : أن المقدمتين باطلتان .
أما الأولى : وهي أننا مكروهون فليس بصحيح وذلك لأن الكفار قد قدموا ابتداء بطلب من البلاد الإسلامية ، وبرضاهم ، ألجأهم إلى ذلك الواقع لا الكفار .
وأما المقدمة الثانية وهي أن صلح المكره لا يصح ؛ فهي باطلة من ثلاثة أوجه :
" الوجه الأول " أن هذا قول لم يقله أحد من أهل العلم فيما أعلم .
" الوجه الثاني " أن الهدنة لا تكون غالباً إلا في حال ضعف من المسلمين ، بل لا تكون صحيحة بلا خلاف إلا في مثل هذه الحالة ، لأن عامة أهل العلم على إبطال الهدنة في حال قوة المسلمين إذا لم يكن فيها مصلحة .(35/7)
والنصوص الشرعية قد ذهبت إلى أبلغ من هذا ألا وهو جواز دفع المال للكفار للكف عنا إذا لم يكن بنا قوة ، يدل عليه هم النبي صلي الله عليه وسلم بإعطاء غطفان وحلفائها في غزوة الأحزاب شطر ثمار المدينة على أن يرجعوا ، وعلى هذا نص عامة أهل العلم .
" الوجه الثالث " أنه لا يتصور إكراه على الهدنة والصلح إلا والمسلمون في غاية الضعف ، فإنه إذا كان يحرم قتل المعاهد في حال قوة المسلمين ومنعتهم ، فلأن يحرم قتلهم والمسلمون في حالة ضعف من باب أولى ؛ لأنه ذريعة حينئذ إلى استئصالهم حيث لا قوة لهم .
الشبهة الثالثة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فقتلهم هو وسيلة لإخراجهم .
والرد عليها من وجوه :
( الوجه الأول ) : أن المراد بمنع اليهود والنصارى من جزيرة العرب إنما هو استيطانها والإقامة الدائمة بها ، لا الدخول مدة معينة بالعهد أو الأمان .
قال النووي في المنهاج : " ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز " [11]
وقال القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية : " وما سوى الحرم منه ـ أي الحجاز ـ مخصوص من سائر البلاد بأربعة أحكام :
إحداها : لا يستوطنه مشرك من ذمي ولا معاهد [12]
وقال ابن قدامة في المغني : "ولا يجوز لأحد منهم سكنى الحجاز "[13] وهذا باتفاق أهل العلم .
( الوجه الثاني ) : أنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز دخول المعاهدين والمستأمنين والذميين الحجاز التي هي أخص جزيرة العرب ، وإنما اختلفوا في مدة مقامهم .
فكيف يقال بمنعهم من دخول غير الحجاز بغير نية استيطان أو إقامه ، بل وقتلهم لأجل بذلك ؟
( الوجه الثالث ) : أن جزيرة العرب مختلف في تحديدها ؛ فمن أهل العلم من يحدها من بحر القلزم " الأحمر " غرباً وبحر العرب جنوباً وخليج البصرة " الخليج العربي " شرقاً واختلف أصحاب هذا القول في شمالها وهو المشهور من مذهب مالك وقول أبي حنيفة .(35/8)
ومنهم من يحدها بالحجاز إلى تبوك وهو قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه ورواية عن مالك وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، واستدلوا على ذلك بأن عمر رضي الله عنه لم يخرجهم من اليمن وتيماء ،فعلى هذا القول تكون الكويت والأحساء ونجد ليست من جزيرة العرب.
( الوجه الرابع ) : أن يقال إنه لو صح أن المراد بالحديث عدم جواز دخولهم جزيرة العرب مطلقاً ، لم يكن إخراجهم منها عن طريق القتل بعد أن أعطوا العهد ، بل يكون الإخراج على طريقة عمر رضي الله عنه .
( الوجه الخامس ) : أن الإخراج منوط بالحاكم لا بآحاد الرعية ، كالحدود والجهاد وغير ذلك فلا يُفتئت عليه فيها.
الشبهة الرابعة : أنهم يوردون على ما ذكرته في المسألة الثالثة " من عدم جواز غدر المسلم بالكفار إذا دخل بلادهم بأمان " بأنهم يكيفون ما حصل في بلاد الكفار من خطف للطائرات وتدمير للمباني على أنه من باب أحد أمرين :
الأول : من باب التبييت والتترس .
الثاني : أنهم أئمة الكفر ، الذين لا تحقن دماؤهم بعهد ولا أمان لقوله تعالى : " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " " التوبة 12 " وكما حصل لكعب بن الأشرف اليهودي لما أظهر له محمد بن مسلمة رضي الله عنه الأمان ثم قتله .
والجواب على هذه الشبهة ما يلي :
أما التصوير الأول وهو أنه من باب التبييت والتترس فالرد عليه من وجوه :
( الوجه الأول ) : أن التبييت ـ وهو الإغارة على الكفار ليلاً دون إنذار ـ ورمي الكفار في حال التترس ـ وهو تحصن الكفار بالمسلمين أو بمن لا يقتلون كالنساء والصبيان ـ إنما يكون في قتال كفارٍ محاربين ، ليس بيننا وبينهم عهد ولا أمان ، وقد بلغتهم الدعوة .
كما أغار النبي صلي الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون
وسئل النبي صلي الله عليه وسلم " عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال : "هم منهم " متفق عليه.(35/9)
وأما إن كانوا معاهدين أو مستأمنين ، فلا يجوز تبييتهم ، ولا رميهم وهم متترسون بمن لا يجوز قتله في الحرب .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : " وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين ولا اعتقدوا أنهم قد أومنوا " [14]
فإن قال قائل :إن أمريكا قد نقضت العهد بقتال المسلمين في أماكن كثيرة ، فجاز تبييتهم والإغارة عليهم .
فالجواب أن يقال ـ بعد التنزل مع الخصم والقول بانتقاض عهدنا مع الكفار بقتالهم لبعض المسلمين الذين ليسوا تحت ولايتنا مع كونه باطل [15] ـ : إنهم وإن نقضوا العهد العام ، وهو الهدنة والصلح ، فإن العهد الخاص ، وهو أمانهم لمن دخل بلادهم به لم ينتقض ، كما لو دخل محارب منهم بلادنا بأمان في حال حربنا مع قومه ، فإنه آمن بما أعطي من الأمان الخاص وقومه محاربون ، فكذلك المسلم إذا دخل بلادهم بأمان منهم ، لا يحل له تبييتهم ولا الإغارة عليهم ، ما لم ينقضوا هذا الأمان الخاص ، برفع السلاح عليه ونحو ذلك .
فلا بد إذاً أن يفرق بين الأمان العام وهو العهد والصلح ، وبين الأمان الخاص وهو عقد الأمان لآحاد الأفراد ، فبطلان أحدهما لا يستلزم بطلان الآخر .
فإن بطل الأعم وهو العهد لم يبطل الأخص وهو الأمان ، والعكس صحيح .
لذلك يبطل أمان المستأمن منهم إذا دخل بلادنا إذا ما نقضه بسبنا أو سب ديننا ، ولا يستلزم هذا بطلان العهد العام الذي بيننا وبين قومه لو كان .
ولا يبطل عهد المستأمن إذا دخل بلادنا به ببطلان عهد قومه معنا بحربنا فتأمل .
( الوجه الثاني ) : أن العلماء مختلفون في رمي الكفار إن تترسوا بذرا ريهم ونسائهم .
فمن أهل العلم من منع رميهم في هذه الحال إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ، كأن كان في الكف عن قتالهم انهزام المسلمين ، أو يخشى من استئصال قاعدة الإسلام ، وهذا هو مذهب الإمام مالك والشافعي .(35/10)
ومن أهل العلم من رخص في رميهم حال التترس بنسائهم وذراريهم مطلقاً سواء كانت الحرب ملتحمة أو كانت غير ملتحمة ، بشرط أن يقصد الرامي المقاتلة لا النساء والذرية .
( الوجه الثالث ) : أن تبييت الكفار ورميهم حال التترس إنما يكون بأمر ولي الأمر ، أو من وكله على إمرة الجيش ، لا أن يفعله من شاء من الرعية ، لأنه افتئات على الحاكم .
قال الفتوحي في المنتهي في فصل " الغزو بغير إذن الإمام " : " ويحرم غزو بلا إذن الأمير "
وهذا مذهب السلف قاطبة .
قال الفتوحي في المعونة : "" فان دخل قوم " لهم منعة أو لا منعة لهم " أو أحد ولو عبداً دار حرب بلا إذن من الإمام " فغنموا "فغنيمتهم فئ" تصرف مصرف الفئ على الأصح لأنهم عصاه بافتياتهم على الإمام لطلب الغنيمة ، فناسب حرمانهم كقتل الموروث ".
وقال كل من الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ وحسن بن حسين آل الشيخ وسعد بن حمد بن عتيق ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ في رسالة إلى الإمام عبد الرحمن بن فيصل " الدرر 9/94 " : " ورأينا أمراً يوجب الخلل على أهل الإسلام ، ودخول التفرق في دولتهم ، وهو الاستبداد من دون إمامهم ، بزعمهم أنه بنية الجهاد ، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو ، وبذل الذمة للعامة ، وإقامة الحدود ، أنها مختصة بالإمام ومتعلقة به ، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته ... " .
ولا يقول قائل إنهم إنما فعلوا ذلك بإذن ولي أمر دولة مسلمة يدينون له بالطاعة غير الدولة التي دخلوا باسمها وبجواز سفرها ، وذلك لأن دخول المسلم إلى بلاد الكفار على أنه من بلد معين وبجواز سفر ذلك البلد ، ثم هو يدين بالطاعة والولاء لدولة أخرى ، التي لو علم الكفار أنه منهم وفي طاعتهم ما أدخلوه بلادهم وما أمنوه ، يعد من الغدر والخداع والكذب .(35/11)
( الوجه الرابع ) : إننا لو تنزلنا مع هؤلاء وقلنا بصحة تكييف ما حصل على أنه من باب التبييت أو التترس ، فإن هذا لا يخرجه عن كونه محرماً أيضاً في ظل هذه الأوضاع ، لما يترتب عليه من المفسدة ما هو أعظم ، كتسلط الكافرين على المسلمين وتسيير جيوشهم إلى بلاد المسلمين ، واتخاذ ما حصل ذريعة وحجة لضرب كل ما هو إسلامي من دعاة وجهات دعوية وخيرية وغير ذلك ، بل والسعي في تغريب المجتمعات وتعديل المناهج بما يناسب مصالحهم .
وأما ما يتعلق بالتصوير الثاني وهو قولهم بجواز دخول بلادهم بأمان ثم التسلط على قتلهم ، لأنهم أئمة الكفر الذين قال الله فيهم : " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " " التوبة 12 " مستدلين بقصة قتل محمد بن مسلمة وأصحابه رضي الله عنهم لكعب بن الأشرف اليهودي بعد أن أظهروا له الأمان .
فالرد على هذه الشبهة من وجوه :
( الوجه الأول ) : أن أئمة الكفر الذين أخبر الله عنهم في الآية أنهم " لا أيمان لهم " أي لا عهود لهم قسمان :
القسم الأول : الذين نقضوا العهد بعد عقده ، فهؤلاء يجوز قتالهم من غير إنذار ، كما فعلت قريش في عهد النبي صلي الله عليه وسلم لما نقضوه بمعاونة بني بكر على خزاعة فغزاهم النبي صلي الله عليه وسلم من غير إنذار .
ألا ترى ما ذكره الله عز وجل في الآية من الشرط بقوله " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم " ؟
فعلى هذا القول : كل من نقض عهده من الكفار فهو إمام في الكفر ، يجوز تبييته والإغارة عليه من غير إنذار ، فإن كان العهد عهداً خاصاً وهو الأمان فلا ينتقض إلا بنواقضه خاصة ، لأن بطلان العهد العام لا يستلزم بطلان العهد الخاص ، وهو الأمان كما بينت سابقاً .(35/12)
فالذين دخلوا بلاد الكفار بأمان لا يكون الكفار في حقهم أئمة في الكفر إلا إذا نقضوا هذا الأمان خاصة ، دون العهد العام ، فكيف يحل قتلهم واستباحتهم على أنهم أئمة الكفر ، وهم لم ينقضوا الأمان الخاص الذي أعطوهم إياه .
القسم الثاني : هم من صدر عنهم من الجراءة على الدين ما يبيح دماءهم بكل حال ، بحيث لا يحقنه عهد ولا صلح ولا ذمة ، وهم الذين سبوا الرسول صلي الله عليه وسلم وطعنوا فيه ، ككعب بن الأشرف حيث هجا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " ، فقام محمد بن مسلمة بعد أن استأذن النبي صلي الله عليه وسلم بأن يقول شيئاً فأذن له ، ثم حصل من القصة أن أظهر محمد بن مسلمة رضي الله عنه لكعب بن الأشرف الأمان ثم قتله ، والقصة مشهورة .
قال شيخ الإسلام في توجيه قتل محمد بن مسلمة لكعب بن الأشرف بعد أن أظهر له الأمان : " لكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً ، وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان ، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر ، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه ، وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله ، ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمن ولا عهد .. إلى أن قال : لأن قتله حد من الحدود وليس لمجرد كونه كافراً حربياً ... فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة بطريق الأولى " [16]
ولذلك لم يأمر النبي صلي الله عليه وسلم بقتل أحد من الكفار المعاهدين له من اليهود وقريش لما صالحوه ، مع شدة مكرهم بالإسلام وأهله ، وإنما أمر بقتل من آذى الله ورسوله ، وأهدر دماءهم ، فلم تحقن بعهد ولا أمان .(35/13)
قال شيخ الإسلام : " وهذه كانت سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره "[17]
والفرق بين القسم الأول من أئمة الكفر وهم الناكثون للعهد بغير طعنٍ في الدين ، والقسم الثاني وهم الطاعنون في الدين : أن الأولين إذا لم يصدر منهم إلا مجرد النكث جاز أن يؤمنوا ويعاهدوا ، وأما الطاعنون في الدين فإنه يتعين قتالهم ولا تحقن دماؤهم بعهد ولا أمان ولا ذمة .
ولذلك اختار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أن أئمة الكفر في الآية هم الطاعنون في الدين المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون الناكثين فقط بغير الطعن ، وهو القول الثاني في الآية .
فقال شيخ الإسلام في تفسير الآية : " وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه ، وإنما صار إماماً في الكفر لأجل الطعن ، فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك وهو مناسب ، لأن الطعن في الدين أن يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه ، وهذا شأن الإمام ، فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر "[18]
فعلم بذلك أن الأئمة في الكفر الذين أمرنا بقتالهم ، إما أن يكونوا هم الناكثين للعهد بغير الطعن وهؤلاء إنما يقاتلون من غير إنذار شريطة أن لا يحدث بعد نقضهم للعهد السابق أمان أو عهد جديد .
وإما أن يكونوا هم الطاعنين في الدين ، وهو الوصف المناسب كما قال شيخ الإسلام ، وهؤلاء لا تعصم دماؤهم بعهد ولا أمان .
فعلى المعنى الأول وهم الناكثون للعهد بغير الطعن ، فإن الذين دخلوا بلاد الكفار بأمان ثم خطفوا وقتلوا قد حصل منهم بعد نقض الكفار للعهد ـ بقتال بعض المسلمين كما يزعمون ـ ما تعصم به دماء الكفار وهو أمانهم للكفار من أنفسهم بدخولهم بلادهم ، وهو عهد جديد مجدد لعصمة الدماء حصل بعد العهد المنقوض ، فلم يحل لهم الغدر بهم .(35/14)
وأما على المعنى الثاني وهم الطاعنون في الدين . فإن الكفار الذين غدر بهم في بلادهم لم يحصل منهم فيما نعمله ما يعتبر طعناً في الدين وسباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى له ، وإنما فعلوا ويفعلون ما كان يفعله المشركون من قريش من حرب للمسلمين ، وإعانة لأعداء الله من اليهود وغيرهم ، وليس هذا هو الطعن الذي لا ينفع معه عهد ولا أمان ، وذلك أن قريشاً كانت تحارب النبي صلي الله عليه وسلم وتصد عن سبيل الله وتحرض عليه ، وتجمع له الجموع وتقاتله ، ومع ذلك كله فقد عاهدهم ووفى لهم ، وحقن دماءهم بالعهد والأمان كما كان في صلح الحديبية ، وكما دخل أبو سفيان المدينة بعد الصلح ولم يتعرض له النبي صلي الله عليه وسلم مع أنه كان قبل إسلامه من أعظم المحرضين على قتال النبي صلي الله عليه وسلم والساعين في الصد عن دينه ، وإنما أهدر النبي صلي الله عليه وسلم دماء المؤذين له الطاعنين فيه فلم تحقن بعهد ولا أمان ولا ذمة .
( الوجه الثاني ) : أننا لو فرضنا أن قادة الكفار هم من الطاعنين في الدين الذين هم أئمة في الكفر ؛ فإن هذا إنما يبيح دماءهم خاصة بحيث لا يحقنها عهد ولا أمان ، دون دماء غيرهم ممن لم يطعن في الدين ولم يسب النبي صلى الله عليه وسلم .
يدل عليه أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يستبح من دماء الكفار المعاهدين إلا من ثبت عنه الأذى والطعن في الدين خاصة دون غيره من الكفار ، ولذلك نجد أن الذين أهدر النبي صلي الله عليه وسلم دماءهم لأجل ذلك معدودون ؛ ككعب بن الاشرف وابن أبي الحقيق والجارية ، ولم يفعل ذلك مع باقي اليهود أو المشركين .
قال شيخ الإسلام : " وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه " كما سبق .(35/15)
أما من كان من عامة الكفار فإنه يحقن دمه بالأمان الذي دخل المسلم بلادهم به ، فالذي حصل في بلاد الكفار من تدمير وقتل كان الضحية فيه ليسوا أئمة الكفر وإنما عامة الناس ، فهو كما لو قتل الصحابة رضي الله عنهم بعض اليهود ممن لم يطعنوا في الدين بحجة أن كعب بن الأشرف طعن في الدين ، وهذا لم يكن ، بل لم يقتل إلا الطاعن دون غيره من المعاهدين .
( الوجه الثالث ) : إننا لو تنزلنا وقلنا بجواز مثل هذا الفعل ، فإنه كما ذكرنا لا يكون إلا بإذن الإمام ، فلا يفتئت عليه فيه .
( الوجه الرابع ) : أنه يترتب عليه - على التنزل بصحته - من المفاسد العظيمة ما يربو على مصلحته . وهو ما حصل فعلاً ) .
-----------------------
المراجع :
1- مجموع فتاوى ومقالات ( 7/119 ) .
2- السابق ( 2/326) .
3- الذخيرة للقرافي
4- السير الكبير / باب النفل من أسلاب الخوارج
5- المعونة " كتاب الجهاد/باب الأمان "
6- الصارم المسلول ( 294 ) .
7- السابق ( 94 ) .
8- شرح السير / باب ما يكون أماناُ ممن يدخل دار الحرب والأسرى وما لا يكون أماناً.
9- باب أمان المرأة والعبد والصبي
10- باب الهدنة
11- كتاب الجزية
11- الفصل الرابع عشر / فصل تعريف الحجاز
12- كتاب الجزية / مسألة نقض العهد
13- الصارم المسلول ( 94 ) .
14- انظر ص 36 من أصل الرسالة ( الوجه الثاني ) .
15- الصارم المسلول ( ص 94 ) .
16- السابق ( ص 19 ) .
17- السابق ( ص 22 ) .
18- السابق ( 22 ) .(35/16)
قراءةٌ نقديةٌ لبحث سعود السرحان:
«الحكمة المصلوبة : مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»
1428
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
بسم الله الرحمن الرحيم
قَبْل البَدْء:
إضاءةٌ لمدخلٍ آخَر
«علم الاستغراب ليس حديثاً؛ لأن علاقتنا بالغرب أيضاً ليست فقط وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها منذ نشأة الأنا الحضارية المتمثل للتراث الإسلامي عبر أربعة عشر قرناً أو يزيد. ففي علاقتنا باليونان كما فعل القدماء تمتد جذور علم الاستغراب. اليونان جزءٌ من الغرب، جغرافياً، وتاريخياً، وحضارياً، وإلى اليونان والرومان تَمتدّ مصادر الوعي الأوربيّ»[1].
هل لي أن أذهبَ ـ من خلال هذا النص لحسن حنفي ـ إلى أنّ افتتانَ بعضِ مثقفينا بالمثال الغربيِّ ليس وليدَ هذا العصر الحاضر، وأنَّ متقدمي الفلاسفة في تاريخنا الثقافي إنما كانوا يمهِّدون لهذا الشعور بالنقص الحضاريِّ الذي نحياه؛ حين فُتنوا بالمثال الغربي في أسمى صُوَره الثقافية آنذاك: «الفلسفة اليونانية»؟
وهل كان حسن حنفي يعلم وهو يكتب «مقدمته في علم الاستغراب» أنه ـ وإن لم يقصد إلى ذلك ـ سينير لأحد الباحثين رؤيةً جديدةً لتراث ابن تيميّة قَلَّ أن تنبَّه لها دارسوه؟
«لماذا تُعَدُّ أبحاث وكتاباتُ ابن تيمية حول الفلسفة اليونانية عامةً، والمنطق الأرسطي خاصةً، جذوراً أو إرهاصاتٍ لعلم الاستغراب؟
ابتداءً أُقرّر أن قراءتي لكتاب «مقدمة في علم الاستغراب» للدكتور حسن حنفي منذ أربع سنوات؛ أوحت إليَّ بفكرة إعداد دراسة خاصة عن «الرد على المنطقيين» للإمام ابن تيمية وربطه بعلم الاستغراب.
فجذور هذا العلم ترجع ـ في نموذجه القديم ـ إلى علاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية، عندما كانت الحضارة الإسلامية ذاتاً دارساً، استطاعت أن تحوِّل الحضارة اليونانية إلى موضوع(36/1)
دراسة .. فإذا أضفنا إلى ذلك الأهدافَ التي توخّاها ابن تيمية والتي يسعى إليها علم الاستغراب المعاصر ـ عند بنائه واكتماله ـ نجد الاتفاق إن لم يكن المطابقة.
فأهداف علم الاستغراب؛ السيطرةُ على الوعي الأوربي، التقليلُ من إرهابه، وأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر.
أما ابن تيمية فإنه نموذج من نماذج الفكر الإسلامي، الذي استطاع تمثُّل الحضارات السابقة دون أن يفقد هويته؛ ثم قام بنقدها.
وإذا كنا نعترف أنه طالما أن الغرب قابعٌ في قلوب الكثير منا كمصدرٍ للمعرفة، وكإطارٍ مرجعيٍّ يحالُ إليه كلُّ شيءٍ للفهم والتقييم؛ فسنظلُّ قاصرين وفي حاجة دوماً إلى أوصياء.
نقول قبل ذلك ومعه: إن ابن تيمية كان يهدف إلى إزاحة الرهبة من الآخر وكشفه وتحجيمه، والتصدي لأي وصاية فكرية تصدر منه.
لقد أراد ابن تيمية للإنسان المسلم أن يفكر بعقله ولا يدع أفلاطون أو أرسطو أو أفلوطين يفكرون له.» [2].
.. قرأتُ ما كتبه سعود السرحان في بحثه «الحكمة المصلوبة: مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»، ومع أني تهيَّبتُ أوَّلَ أمري ولوجَ «مدخل مظلم» عُلِّقتْ على بابه «حكمة مصلوبة» تقطر دماً! إلا أني اتخذتُ شيئاً يشبه ذاك الذي يضعه مرتادو الأغوار والكهوف على رؤوسهم فينير لهم الطريق.. ودخلتُ.
تكمُنُ مشكلة بعض زملائنا الذين تسرّبوا من مدرستنا السلفية في تَوَهُّمه أنه حين يكتب شيئاً ثقافياً؛ إنما يؤسس لمرحلة مهمة من تاريخ حياتنا الثقافية، وتظلُّ تُداعب خيالَه أسماءُ: الطهطاوي، والأفغاني، وقاسم أمين، ومحمد عبده، وعلي عبدالرازق، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين... فيلقي في «شيئه الثقافي» هذا بعض الكلمات؛ عسى أن يهتدي إليها دارسو تراثه في المهرجان الذي سيقام بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لولادته!(36/2)
وذلك كقول صاحبنا في مقدمة بحثه: «تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه عرضاً لموقف ابن تيمية من الفلسفة إلى توضيح آثار هذا الموقف على الواقع العلمي والثقافي في السعودية»، وقوله: «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات، التي سيكون لها الأثر الكبير ليس على الفكر السلفي فقط، بل وعلى الفكر الإسلامي بصورة عامة». [3]
هنا أسئلةٌ تتردد في ذهني كثيراً حين أرى بعض من فشلوا في مشروعهم السلفيِّ يعودون فيشغبون على مدرستنا:
ما بالهم لا يذهبون إلى المدارس المجاورة فيقذفون نوافذهم بالحجارة كما يفعلون معنا؟
أهي نظرية الثَّأْر التي تملكُ على الإنسان عقلَه فتُحيلَه إلى مَوْتورٍ يحمل سلاحه ويمشي يترنَّحُ به في الطرقات على غير هدى؟
أشعورٌ بالنقص ينتاب هذه الأنفس كحال كلِّ من عَجَزَ عن تحقيق كمالٍ كان ينشُدُه؛ يحملها على أن تعْمَدَ في تفكيرها إلى شيءٍ من الشذوذ، حتى يكون لها نوعٌ من خصوصية الذات وتفرُّدها؟
أم هي نشوة المعرفة المُتوهَّمة تمشَّتْ في عقول هؤلاء؛ فأرادوا للطُّهْر أن يشاركهم اللذة الأثيمة، بكأس المخرج الإباحي فاديم، على ألحان اغتراب الوجودي كافكا، لنشيد نيرودا الذي ترنَّم به قيفارا مع الرِّفاق في أحراش بوليفيا؟
ستة محاور رئيسة في هذا البحث أَودُّ أن أقرأها مع صاحبنا، ثم أعرض بَعْدُ لشيءٍ من مثل ما نحن بسبيله. [4]
المحور الأول: النظرةُ التقليديَّةُ الجامدة التي تعامل بها السلفيُّون مع تراث ابن تيمية في الفلسفة.
المحور الثاني: تأخُّر دراسة ابن تيمية للفلسفة.
المحور الثالث: اعتمادُ ابن تيمية على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان.
المحور الرابع: بناءُ ابن تيمية دراستَه للفلسفة على «التلفيق» و«النفعية».
المحور الخامس: مآخذُ أخَذها الباحثُ على ابن تيمية.
المحور السادس: موقفُ ابنِ تيمية من المنطق.(36/3)
المحور الأول: النظرةُ التقليديَّة الجامدة التي تعامل بها السلفيّون مع تراث ابن تيمية في الفلسفة:
يريد صاحبنا أن يثبت أن ابن تيمية الذي تحسبه السلفية أربحَ ورقةٍ لها في التراث العقليّ عامة، [5] وفي الرد على الفلسفة التي لا تفهمها على وجه الخصوص؛ هذا الذي تحسبه كذلك؛ ليس كذلك.. فما هو إلا فقيه حنبلي احتاج في بعض ردوده إلى دراسة الفلسفة فدرسها على كِبَر، ملفِّقاً تارة، ونفعياً تارة أخرى، ثم إننا خُدعنا بقوله فصدقناه، لأن نظرتنا التقليدية وجمودنا الفكري حالا دون رؤية هذه الحقيقة.
قال ص1: «فقد ظلت نظرة ابن تيمية الحراني.. إلى كثير من المسائل، والفلسفة واحدة منها، هي الحَكَمُ عند السلفيين على شتى توجهاتهم، ولم تتعرض مواقف ابن تيمية للدراسة والتمحيص، بل بقيت أسيرة التقليد من الأتباع».
وكان من آثار هذه الرَّزِيَّة التي بُليتْ بها السلفيةُ الجامدةُ أنه: «توجد في السعودية قرابة عشر جامعات وعشرات الكليات لا تحوي بين جنباتها قسماً واحداً لدراسة الفلسفة، واعتماداً على نظرة ابن تيمية إلى الفلسفة التي تراها كفراً وضلالاً لم تتجرأ أي جامعة سعودية على فتح قسم للفلسفة.. وإن مرَّ ذكر الفلسفة عَرَضاً فينبغي وصفها بالكفر والضلال، والتأكيد على أن طريق العقل هو طريق الهلاك».(36/4)
ما ذكره هنا قولٌ مكرور، كان ردَّده عبدالمتعال الصعيدي قديماً؛ قال: «كان لابن تيمية مدرسة بعده جارته في تلك النواحي من الجمود، فعادتْ علوم الفلسفة كما عاداها، ولم تهتم بغير الفقه والتفسير والحديث وما إليها من العلوم، وكان ابن رشد الفيلسوف الفقيه أولى أن يكون له مدرسة بعده من ابن تيمية، ليسير المسلمون بها في سبيل التجديد الصحيح، ويجمعوا بها بين علوم الدين وعلوم الفلسفة، فهذا كان خيراً من مدرسة ابن تيمية التي جمدت بعده على تقليده .. على أن طابع الدعوة الوهابية كان متأثراً بطابع دعوة ابن تيمية، وقد كانت دعوة ابن تيمية تنافر أو تهمل الفلسفة وعلومها، وكان هذا نقصاً كبيراً فيها، وهو في الدعوة الوهابية أشدّ ضرراً .. »[6].
أعلم من قراءتي هذا البحث أن كاتبه يظن أن حجم الإبداع يقاس بمُطلق الجرأة على الثوابت، وليس بالقيمة الفكرية التي تحملها هذه الجرأة، لذا لن أنزلق معه في مهوىً خطابيٍّ يضادُّ هذه الخطابية التي أنشأها، وهو الذي يزعم أنه يؤسس لمرحلة عقلية مهمة في تاريخ حياتنا الثقافية.
وسأُورد شيئاً من أقوال بعض دارسي الفلسفة في القيمة الفكرية لتراث ابن تيمية الفلسفي، [7] وهؤلاء ممن لا ينتمون للسلفية التقليدية المغرَّرة، بل إن بعضهم قد وجَّه لابن تيمية في هذه الكتب المنقول عنها ما لا يرضاه أتباع مدرسته بحالٍ من الأحوال.
1- مصطفى عبدالرازق: «نَظَر ابن تيمية في الكلام والتصوف والفلسفة نظراً عميقاً: فكتبه تدل على سعة اطلاع على المذاهب الفلسفية وتاريخها؛ وحسن تصويره لما يَعرِض للرّد عليه من مذاهب الفلسفة ينبئ عن علم وفهم.. إنا نرجو أن تتوجه همم المشتغلين بالفلسفة وعلوم الكلام والتصوف إلى درس آراء ابن تيمية في الفلسفة والكلام والتصوف.
وهذه الدراسة نافعة في توضيح آراء كلامية وصوفية وفلسفية، كشف ابن تيمية غموضها بفكره النفاذ، وردها إلى أصولها وأحسن بيانها بقوله الواضح المبسوط.(36/5)
ولابن تيمية في ثنايا ردّه على الفلاسفة والمتكلمين والصوفية نظرات فلسفية طريفة قد تفتح لدراساتنا الفلسفية الناشئة آفاقاً جديدة». [8]
2- أبويعرب المرزوقي: «وإذن فتاريخ الفلسفة العربية والكلام العربي هو تاريخ محاولات التخلص هذه من الأفلاطونية المحدثة والتوراتية المحدثة.. سعياً إلى الملائمة بين ما بعد العلم، وما بعد العمل المطلقين، والعلم والعمل النسبيين، وإدراك هذا الانفجار وعدم الملائمة التي أبرزناها هما اللذان انطلق منهما ابن تيمية في ردوده على الفلسفة والتصوف والكلام، لوضع نظرية العلم الاسمي، وهي التي انطلق منها ابن خلدون كذلك لوضع نظرية العمل الاسمي». [9]
3- محمد جلال شرف: «هذا مظهرٌ آخر من مظاهر النقد الفلسفي للمشائية الإسلامية بعد ابن سينا، يتجلى بوضوح في شخصية ابن تيمية المتكلم السلفي، وكان من الممكن أن نتخذ منه نموذجاً فريداً لهذا النقد نستغني به عن كل ما سلف، فلم يترك فكرة أو شخصية إلا وتعرض لها بالتحليل والفحص على أساس من العقل والنقل.
ويرجع الفضل في ذلك كله إلى ظهوره في عصر متأخر بعد أن نضج الفكر الإسلامي واتخذ طريقاً واضحاً، مما أعان ابن تيمية على الاطلاع الكامل لهذا التراث الفلسفي، فكان يستعين بالمتكلمين على الفلسفة والعكس صحيح». [10]
4- عبد الحكيم أجهر: «إن رؤيته للعالم تتمتع بتماسك ذاتي كافٍ يقوم على أسس فلسفية ومنطقية واضحة وصلبة.. ابن تيمية صعب ثانياً: بسبب تعرضه لقضايا فلسفية عويصة تعكس معرفة هذا الرجل بالتراث الفلسفي السابق عليه، والذي أتى على الأغلب من مصادر عربية إسلامية، والأمر هنا لا يقتصر على مناقشته تلك القضايا فحسب، بل في تبنّيه هو لقضايا فلسفية معقدة يريد تأسيسها وتقديمها كبديل عن الخطابات العقلانية السابقة عليه». [11](36/6)
5- عبد الفتاح أحمد فؤاد: «كان الشيخ خبيراً بمذهب فلاسفة اليونان القدماء، فضلاً عن معرفته الواسعة بآراء فلاسفة الإسلام، ولا يتضح ذلك فقط عندما يكون بصدد عرض الخطوط العريضة لمذاهب الفلاسفة، وإنما يتضح أيضاً عندما يورد التعريفات الدقيقة للمعاني الفلسفية كتعريف أرسطو للمكان على سبيل المثال.. وها نحن نجدّد الدعوة إلى إنشاء كرسي للإمام ابن تيمية في بعض أقسام الفلسفة في جامعاتنا»! [12]
لو ذهبت أتتبع مثل هذه الأقوال لجاء من ذلك كتيّب لا بأس به.
أريد أن أصل؛ إلى أنه إذا كنا نحنُ دراويشَ السلفية - وفينا عبد الصمد شرف الدين، ومحمد رشاد سالم، ومحمد خليل هراس - قد أُصبنا بما أصبنا به، فكيف جاز أن يُخدع هؤلاء بالقيمة الفكرية لتراث ابن تيمية في الفلسفة؛ ثم لا ينكشف أمره إلا لصاحب هذا العقل الفَرْد؟
المحور الثاني: تأخُّر دراسة ابن تيمية للفلسفة:
قال ص10: «نشأ ابن تيمية نشأة علمية حنبلية سلفية، فقد اعتنى بسماع الحديث، وبدروس التفسير والفقه، ولم نجد له أي دراسة أو اعتناء بكتب الفلسفة والمنطق، إلا أن دخوله في صراعات كثيرة مع المتكلمين، والشيعة لاسيما الباطنية منهم، وغلاة الصوفية؛ قاده إلى البحث عن جذور مقالاتهم عند الفلاسفة، والتفتيش عن عضد «عقلي» يستعين به على إثبات العقائد «السلفية».
سأحاول أنا تلميذ السلفية استعمال العقل هذه المرة؛ لأثبت من نصوص صاحبنا - ومن غيرها - أن ابن تيمية عرف الفلسفة مبكراً، مبكراً جداً.
1- إنما درس ابن تيمية الفلسفة لتكون له عضداً عقلياً يستعين به على إثبات العقائد السلفية.. ماذا لو علمنا أن ابن تيمية قد ألّف مصنفاً قديماً يردّ به على المتكلم الرازي وهو دون الثلاثين من عمره؟ فما دام أنه درس الفلسفة لتكون له عضداً عقلياً.. فيكون قد درسها في العشرينات من عمره لا ريب.(36/7)
قال ابن تيمية: «وقد بسطنا الكلام على ما زعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف على مقدمات ظنية، مثل نقل اللغة والنحو والتصريف ونفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي بالسمعي، وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة». [13]
قال محمود الكردي: «يذكر ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل» أنه صنف مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة.. فإذا كان الدكتور محمد رشاد سالم يرجح أن يكون كتاب «درء تعارض العقل والنقل» قد كتب بين سنتي (713-717).. معنى ذلك أنه يمكن أن نفترض أن كتابه الأول وضع وعمره عشرون سنة». [14]
قال ص10: «لو حاولنا تحديد هذا التاريخ بدقة؛ فإننا قد نجد أنه كان بعد سنة 710، واستمر هذا الاعتناء إلى وفاة ابن تيمية في السجن. ومما يدل على صحة هذا الرأي أن أهم كتب ابن تيمية التي حوت مناقشاته للفلاسفة، أو إيراده لأقوالهم، كتبت بعد سنة 710 تقريبا، مثل: «درء تعارض العقل والنقل».. ».
2- كيف يكون اعتناء ابن تيمية بكتب الفلسفة بعد سنة (710)، والدليل على صحة ذلك أن أهم كتبه التي حوت مناقشاته للفلاسفة كتبت بعد سنة (710) تقريباً؟
أليس من «الفكر المنطقي» ونحن نحاول تحديد التاريخ بدقة أن يكون هذا التاريخ قبل سنة (710) وليس بعدها، ولاسيما أن صاحبنا قد نبّهنا إلى أن قدرات ابن تيمية العقلية ليست بتلك التي كنا نظن..
لا بد أنه احتاج إلى زمن قبل هذا التاريخ يفتّش فيه عن عضد عقلي يستعين به..
ص10: «وفي النصيحة الذهبية، المنسوبة للذهبي، نص يفيدنا كثيراً في هذا الأمر، إذ يقول الذهبي مخاطباً ابن تيمية: «فإلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن».
ويقول فيها: «أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل».(36/8)
فهذا يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب، فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة».
3- أ- «وفي النصيحة الذهبية المنسوبة للذهبي.. يقول الذهبي»؟ ألا يقال: «جاء في النصيحة المنسوبة للذهبي: فإلى كم»؟
ب- ها هنا عقلٌ يريد أن يمهِّد لدرس فلسفي: «سيكون له الأثر الكبير على الفكر الإسلامي بصورة عامة»، لكن استظهارات هذا العقل تكشف عما يُمنى به الإنسان حين لا يوفَّق في الموازنة بين طموحه وإمكاناته.. أيفهم صبيٌّ يتوسَّم فيه أهله النَّجابةَ من هذا النّص أنه: «يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب»؟
ناصح يصرخ ويقول لابن تيمية: «إلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية» اتركها يا رجل فقد أفنيت عمرك فيها: «إلى كم»، «قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات» لكثرة ما قرأتها وتوافرت عليها، أما آن لك: و«أنت في عشر السبعين» وقد كَبَرت سنُّك فليس يليق بك أن تشتغل بالفلسفة في هذه السن إن كان يليق بك الاشتغال بها زمن الشباب.. أما آن لك أن تنزع عنها: «وقد قرب الرحيل».
أفهذا الصراخ الذي يوقظ العقول: «يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب»؟ أعانك الله على عقلك.(36/9)
4- ما في كلام ابن تيمية هنا يغنينا عن كلِّ ما كنا فيه، لولا ما بُلينا به من هذه الرُّعونة، قال ابن تيمية: «وقد كنت (في أوائل معرفتي بأقوال الفلاسفة بعد بلوغي بقريب) ، وعندي من الرَّغبة في طلب العلم، وتحقيق هذه الأمور، ما أوجب أني كنت أرى في منامي ابن سينا وأنا أناظره في هذا المقام، وأقول له: أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق، وتقولون مثل هذا الكلام الذي لا يقوله أضعف الناس عقلاً؟ وأورد عليه مثل هذا الكلام فأقول: العقل الأول إن كان واحداً من جميع الجهات فلا يصدر عنه إلا واحد، لا يصدر عنه عقل ونفس وفلك، وإن كان فيه كثرة، فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد، ولو قيل: تلك الكثرة هي أمور عدمية، فالأمور العدمية لا يصدر عنها وجود ..». [15]
المحور الثالث: اعتمادُ ابن تيمية على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان.
قال ص16: «وسبب هذه المعرفة المشوهة هو أن ابن تيمية لم يطلع على النصوص الأصلية للفلاسفة اليونانيين، سواءً بلغتهم (لعدم معرفته باليونانية) ولا على النصوص المترجمة لفلاسفة اليونان. وواضح أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان».
وصاحبُنا باحث؛ لكن عن حتفِه بِظَلْفِه، فهو يضرب نصوص كتابه بعضها ببعض فلا يدري من أين يؤتى:
قال ص3: «الموضوع كبير جداً ويحتاج إلى دراسات كثيرة معمقة وتفصيلية، تناقش مدى فهم ابن تيمية للمسائل الفلسفية التي تعرض لمناقشتها، وكذلك مدى دقته في عزوه للمسائل والأقوال إلى أصحابها، ودراسة أثر بعض كبار المفكرين من الفلاسفة والمتكلمين على ابن تيمية، كالغزالي، وفخر الدين الرازي، وأبي البركات البغدادي، وشهاب الدين السهروردي، وابن رشد وغيرهم».(36/10)
ص20: «وقد اعتمد ابن تيمية أيضاً على نقل ابن ملكا عن هذا الكتاب؛ حيث قال عن أرسطو: «وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه (ما بعد الطبيعة) وقد ذكره بألفاظه أبو البركات صاحب (المعتبر) وغيره».
ص28: «ابن ملكا: وهو أعظم الفلاسفة تأثيراً في ابن تيمية».
ص21: «أكثر ابن تيمية من النقل عن كتب ابن رشد، بل يكاد يكون نقلها كاملة في كتبه».
ص27: «ما الذي استفاده ابن تيمية من الفلسفة، وماالذي أخذه منها؟ هذا جانب مهم من جوانب ابن تيمية الفكرية؛ أغفله الدارسون، فلا نكاد نجد من دراسات في هذا الجانب إلا دراسة عبد المجيد الصغير « مواقف رشدية عند ابن تيمية»، وبعض الإشارات عند باحثين وعلماء آخرين، مثل الشيخ محمد زاهد الكوثري، [16] ود. محمد علي أبو ريان».
لو كان صاحبنا على شيءٍ من النباهة، والاطلاع على تاريخ الفلسفة الإسلامية؛ لما ذكر: « أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان»؛ ثم ذهب في هذه النصوص التي سقتُها عنه يثبت ـ في سذاجة ـ الأثر البالغ لأبي البركات هبة الله ابن ملكا وابن رشد في ابن تيمية.
أيّ خير لك في أن تثبت أثر هذين الفيلسوفين في ابن تيمية وتدعو إلى دراسة ذلك؛ وأنت تزعم أن معرفته بمقالات فلاسفة اليونان: «معرفة مشوهة»؟ ألا تعلم أن ابن ملكا وابن رشد هما الفيلسوفان اللذان خلَّصا التراث اليوناني من اشتباكه، وحرّرا النص الأرسطي كما لم يحرره أحد؟ فإثباتُ أثرهما في ابن تيمية والحديثُ عن شدَّة عنايته بمؤلفاتها؛ فيه أن ابن تيمية قد عرف مقالات فلاسفة اليونان - ولاسيما أرسطو - في أدق صُوَره وأجلاها؟
لو قد كددتُ ذهني وأجهدت خاطري لأُثبت دقّة اطلاع ابن تيمية على تراث فلاسفة اليونان؛ لما تيسّر لي بمثل ما أفادنيه صاحبنا من هذه الطريقة هنا، فاللهم كثِّر في الثالبي تراث ابن تيمية من أمثاله!(36/11)
قال محمد علي أبوريان: «إن الاتجاه الأول في الفلسفة الإسلامية لم يكن مشائياً كما اعتقد جمهرة المؤرخين بصدد ما كان أفلاطونياً مستتراً تحت ستار أرسطي مزعوم، إذ أن لبّ نظرية الفيض إنما يرجع إلى أفلاطون الحقيقي، وكان لا بد من الكشف عن هذا التيار الأفلاطوني الكامن في بناء الفلسفة الإسلامية الأولى.
وقد تصدى لهذا العمل النقدي الكبير فيلسوف هو أبوالبركات البغدادي [ابن ملكا] الذي يعتبر (عمانويل كانت الفلسفة الإسلامية)، [17] إذ أنه كان على مفترق الطرق إلى ظهور مدرسة أفلاطونية واضحة المعالم تتعصب لأفلاطون وهي المدرسة الإشراقية، ومدرسة أرسطية يتزعمها ابن رشد». [18]
جاء النص المشائيُّ في بداية معرفة العرب بالفلسفة اليونانية متداخلاً مع غيره، يصعب فيه تبيّن أفلاطون من أرسطو، وأرسطو من أفلوطين، وبدا ذلك واضحاً عند الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين» أفلاطون وأرسطو، وهو يجمع بين أفلاطون ونفسه! وابن سينا وهو يشرح «أثولوجيا» أفلوطين ظاناً أنها لأرسطو، والغزالي الناقد للإنجاز الفلسفي دون النص المنطقي الذي تبع فيه ابن سينا، حتى قام ابن رشد بجِلاء النص الأرسطي المثقل بالشرح العربي، وحرّره من اشتباكه بعد أن اختلط فيه النص بالشرح، وأفلاطون بأرسطو، وأرسطو بالفارابي، وأفلاطون بأفلوطين، فتحددت ملامح أرسطو. [19]
كان ابن تيمية يعلم هذه المزية في كتب هذين الفَيلسوفيْن فأولاهما من العناية ما لم يوله غيرها، قال: «فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو، وهو أقرب إلى تحرير النَّقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد، وابنُ رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا، مع غلوّه في تعظيم أرسطو وشيعته». [20](36/12)
وقال: «بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضاً، كما ذكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد، وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين: أرسطو وأتباعه، ومن أكثر الناس عناية بها، وموافقة لها، وبياناً لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها». [21]
وما ذكرته هنا ليس إلا دليلاً واحداً ـ في جملة أدلةٍ كثيرةٍ نواهض ـ تشهد على زُور ما ذهب إليه.
وهنا معنى مهمٌّ أودُّ أن أُنبه عليه: حاولتُ في قراءة بعض المحاور أن أُرتِّب الجواب على نصوص صاحبنا نفسه، فربمّا جاء الجواب ضيِّقاً، فلم تكن معرفة ابن تيمية بالفلسفة هو ما أفاده من طريق هذين الفيلسوفَيْن ثم ينتهي الأمر، فله من الاستدارك عليهما، والبصر بأقوال الفلاسفة، وتحقيق النقول عنهم، والعناية بموارد كلامهم.. ما يحارُ له قارئ تراثه. وعندنا من النصوص في ذلك خيرٌ كثير .. فإن عاد صاحبنا عدنا له!
لست أزعم أن ابن تيمية لم يتطرق إليه الخطأ في بعض كلامه على الفلسفة اليونانية وفلاسفتها، فهو كغيره من العلماء يصيبه ما يصيبهم، لكن فرقٌ بين أفراد الأخطاء التي لا يسلم منها مؤلف؛ وبين الاتهام: «بالمعرفة المشوهة» الذي يسقطه الاطلاع على مجموع كلام ابن تيمية في الفلسفة.
وإنشاء الكلام هكذا عفوَ الخاطر كلُّ أحدٍ يستطيعه، فليس أكثر من هذر العامة في مجالسهم.
قبل أن أختم الحديث عن هذا المحور ـ وهو عندي من أهم المحاور ـ سأكشف عن حيلة أخَّرتُ الكلام عليها، كان صاحبنا تحيَّلها ليتوصل بها ـ مع غيرها ـ إلى ضعف معرفة ابن تيمية بالفلسفة، وأنه اطلع عليها في مصادر غير دقيقة، لكن هذه الحيلة تكشّفت بحمد الله.
مارس صاحبنا في هذا «المدخل المظلم» نوعاً من التعتيم الإعلامي في حق شخصية فلسفية سيفسدُ عليه ذكرُها كثيراً مما أراد أن يتحيَّفه من عقل القارئ.
كنت اصطنعت أَوَّلَ ولوجي هذا المدخلَ شيئاً يشبه ذاك الذي يضعه مرتادو الأغوار والكهوف على رؤوسهم فينير لهم الطريق..(36/13)
وقد وجَّهتُ النور إلى هذه الظلمات فألفيتهُ من خَلَلِها بعمامته، قاعداً ثمَّ على حصير في إحدى مدارس دمشق يأخذ في درسٍ للفلسفة؛ سيفَ الدين الآمديَّ، قد أبصرتك...
قال ص5: «لم تخرج الشام فيلسوفاً كبيراً، مع أنه دخلها جمع من الفلاسفة، لاسيما متفلسفة الصوفية، أما في عصر ابن تيمية ما بين عامي 651-750 فلا نكاد نجد فيلسوفاً كبيراً سواءً في مصر أو الشام أو العراق إلا ما ندر بل إننا نعجب من قلة المشتغلين بالعقليات من فلسفة ومنطق وطبيعيات في ذلك العصر، وقد جردت جملة من الكتب التي أرخت لتلك الفترة، وبحثت عن كل من قيل عنه أنه فيلسوف أو منطقي، فلم أجد إلا عدداً قليلاً سأذكرهم هنا».
لقد تحدَّث صاحبُنا عن أثر بعض الفلاسفة في ابن تيمية فيما سقناه من نقول عنه وفيما لم نسقه، لكنه في بحثه كله لم يغلط مرة فيذكر سطراً واحداً عن أثر الآمدي في ابن تيمية، إلا أن يكون: «شديدُ ظهوره أخفاه»!
لن أُخدع بما بين عامي (651-750) هذه، وسأرجع قليلاً إلى عام (631) تاريخ وفاة الآمدي في دمشق قبل ولادة ابن تيمية بثلاثين سنة (661)، لأن ثلاثين سنة ليست تجعله من أهل القرن الثاني فلا يذكر في جملة الفلاسفة في عصر ابن تيمية، ولأن من يدعو جاهداً إلى دراسة أثر بعض الفلاسفة في ابن تيمية كابن ملكا وابن رشد لا يستقيم له أن يتجاهل الفيلسوف الآمدي المتوفى في دمشق، ولاسيما وأن ابن تيمية نفسه كان من المعتنين بتراثه والمثنين عليه. [22]
لقد تحيَّل هذه الحيلة في مادة بحثه؛ ليقطع الصلة بين ابن تيمية الدمشقي، والإرث الفلسفي الذي خلَّفه الآمديُّ إنْ في كتبه أو في تلامذته في دمشق، وليصل إلى أن ابن تيمية إنما كان فقيهاً حنبلياً احتاج إلى سند عقلي..(36/14)
عُرف أبو الحسن علي: «سيف الدين الآمدي» عند كثير من القراء أصولياً متكلماً بكتابه «الإحكام في أصول الأحكام» و«غاية المرام في علم الكلام» و «أبكار الأفكار».. لكنه أيضاً فيلسوف بكتابه «دقائق الحقائق» و«رموز الكنوز» و«كشف التمويهات»، وبكتابه «المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»: الذي يمثِّل النضج الفلسفي بعدَّة ألفاظه ودقة قراءته الفلسفية على اصطلاح الفلاسفة، وفق نظام ميسّر مستمد من أعمال أرسطو والفارابي وابن سينا. [23]
توجّه الآمدي إلى دمشق سنة (617) بعد وفاة أمير حماة، واستقر فيها إلى أن توفي سنة (631)، وقام فيها بتدريس الفلسفة في دروس خاصة، وكان ممن تلمذ له فيها ابن أبي أصيبعة [24] الذي قرأ عليه كتابه «رموز الكنوز»، لما كان بينه وبين أبيه من صلة.
كان الآمدي واحداً ممن قرأهم ابن تيمية بعناية، [25] ولعل هذا الذي حجبتْه عنا ظلُمات الهوى فأريد له أن يغيب، يكشفُ بَعد رؤيته عن جانب مهم من جوانب البناء المعرفي عند ابن تيمية.
لم لا يكون ابن تيمية أخذ عن تلامذة هذا الفيلسوف، إن لم يكن في درس منتظم، فلا أقلَّ من مذاكرة واستفادة؟
أما معرفة ابن تيمية بتراثه فهذا ثابت من أقواله نفسها وكثرة تردد ذكره في كتبه: «حتى إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذُها منه أفضل من أخذ عكّا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحراً في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً». [26]
المحور الرابع: بناءُ ابن تيمية دراستَه للفلسفة على «التلفيق» و«النفعية»:
فُتِنَ صاحبنا بهذا الكشف فكرَّر هذا المعنى في بحثه عدة مرات، ما إن يضعف نَفَسُ البحث عنده؛ حتى يلقي بهذا القول ليفجأَ به القارئ فيصرفه بجرأته عن قيمة ما يقرأ.(36/15)
قال ص11: «فابن تيمية لم يدخل عالم الفلسفة دارساً محايداً أو متعلماً، بل دخله مخاصماً مجادلاً، حيث درس الفلسفة دراسة «نفعية»، فابن تيمية بنى دراسته للفلسفة على «التلفيق» ففي أي مسألة يريد أن يرد على خصومه فيها يبحث عن أي قول لأي فيلسوف يرد على هذا القول؛ سواء كان الفيلسوف مشائياً أو إشراقياً أو غير ذلك، وفي المسألة التي يقول بها يبحث ابن تيمية عن أي قول لأي فيلسوف يؤيدها مهما كان مذهبه».
ص22: «والملاحظ على نقد ابن تيمية للفلاسفة المشائين اعتماده على التلفيق، فهو يلفق ردوده من ردود الغزالي والشهرستاني عليهم..».
ص28: «واستفاد ابن تيمية من رد بعض الفلاسفة على بعض، فاستفاد من ردود ابن رشد على ابن سينا، وردود السهروردي على كثير من الفلاسفة، وردود ابن ملكا على الفلاسفة، وردود ابن سبعين على غيره، فابن تيمية يأخذ من كلام الراد ليبطل به كلام المردود عليه؛ هذا في المسائل التي يكون الراد موافقاً لابن تيمية فيها، أي أن ابن تيمية عندما يريد الرد على قول لأحد الفلاسفة يأخذ أي رد على هذا القول لأي فيلسوف آخر ».
1- أتعبني تتبُّع نصوص البحث وضمُّها إلى نظائرها حتى أُحسنَ قراءتها، ففي النصوص السابقة التي أوردتُها من بحثه وفي هذه؛ نرى أن المعنى الواحد يفرّق ويوزّع ويكرّر في البحث كله حتى يملَّه القارئ، فما هنا: ص11ثم ص22 ثم ص28، والمعنى في كُلٍّ واحد. وعهدي بأن للمفكرين عنايةً بالمنهج وطرائق التنظيم الفكري، إلا أن يكون صاحبنا ما حُنّك بَعْدُ «بأرجانون» بيكون، و«مقال» ديكارت، و «إصلاح» اسبينوزا، و «فن التفكير» عند فلاسفة «بورريال»، [27] فسنمهله إلى أن يَلْثَغَ بها ثم نقبل منه شيئاً من كلامه على المنهج.
2- هل يظن صاحبنا أني أجَّرتُ عقلي له، يقسمني مع القراء في فريقين: يقول لهذا الفريق: قل: كان ابن تيمية؛ فيردّ الفريق الآخر: ملفقاً نفعياً يأخذ من هذا فيردُّ به على هذا؟(36/16)
إنه لم يورد في هذه المواضع كلها نصاً يستشهد به على ما ذهب إليه.
3- الهدمُ أيسرُ من البناء لا شك، وأنا فأستطيع أن أُورد على صاحبنا شبهةً من الكلام يكلِّفه ردُّها ثلاث سنوات من البحث الجادّ، وحتى أكون صادقاً مع نفسي وصاحبي وقارئي؛ فإن الكلام في المنهج من أعقد مشكلات المعرفة، فكيف إذا كان عن ابن تيمية؟ بل كيف إذا كان عن منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة؟
فدراسة منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة تحتاج إلى:
1- دراسة تراث ابن تيمية في هذا الجانب بعناية.
2- دراسة ما يتّصل بهذا التراث من كتب ابن القيم فهي تشرحه وتتمِّمه.
3- دراسة ما يتصل بهذا المنهج من نظريات المعرفة.
4- دراسة المنهج في التراث الفلسفي خاصة.
5- دراسة مناهج أبرز الفلاسفة في ردودهم.
فهل قام صاحبنا بهذا وهو يتحدث عن منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة؟ كلا، وكلامه يشهد على هذا، وأنا أيضاً لم أقم به، وهو حريٌّ بدراسة مفردة جادة.
لذا فإن قراءتي لكلام صاحبنا هنا لن تعدو ما أَوْرَده، فهي قراءة لمنهج ابن تيمية في هذه الجزئية، وهذا الذي اصطنعناه هنا، منهجٌ أفدناه من بعض ما قرأناه من ردود، وهو مثَلٌ على الاستفادة من نتاج العقول بضابطه.
هل ما كان يقوم به ابن تيمية «تلفيقاً» كما فهم صاحبنا، أم هو عملٌ ينمُّ على عمق اطلاع ابن تيمية على مناهج الفلاسفة؟
لما أراد ابن تيمية أن ينقض على الفلاسفة أقوالهم؛ عمد إلى الفلسفة من الداخل فنقضها بأدواتها وليس بشيءٍ خارج عنها، وكان من المنهج سلوك طريق الفلاسفة أنفسهم مع بعضهم البعض في جدلهم: «هذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة».
إن شأنه شأنُ كلِّ المفكرين، ينقد وجهات نظر من قبله ثم هو يأخذ منهم في الوقت نفسه، وهذا يشبه قانون الفكر..(36/17)
ولأن من أصل المغالبة إظهارَ مواطن الضعف في دعاوى الخصم إذا سنحت الفرصة، ولاسيما وأنه لم يكن يلتزم مقتضيات العرض المنهجي، بل كانت دواعي المجادلة هي الحاكمة لأن المسلك الطبيعي لديه كان أقوى من المسلك الصناعي. [28]
قال عبدالرحمن بدوي في كلام يذهب فيه إلى إثبات شيءٍ آخر مغاير تماماً لما نحن فيه، لكنه يوضّحه: «قال هيجل إن تفنيد الفلاسفة بعضهم لبعض يحدث: «دون أن تختفي الفلسفات السابقة في مذاهب الفكر اللاحقة». فمثلاً تفنيد أرسطو لمثالية أفلاطون لم تمنع أرسطو من الاحتفاظ بفكرة الصورة في نظرية العلل عنده.. وتفنيد كَنْت لمذهب ديكارت لم يمنع كَنْت من الحفاظ على مقالة «أنا أفكر، فأنا إذن موجود» في مذهبه هو. والذي يحدث هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل إلى مرتبة ثانوية في مرتبة لاحقة.. هذا التغيير للمكانة يكفي لإبعاد شبهة «التلفيق» [!] عنها..
ولنضرب مثلاً بفلسفة أفلاطون: «إننا لو أخذنا محاورات أفلاطون، لوجدنا في بعضها طابعاً إيليّاً، وفي بعضها الآخر طابعاً فيثاغوريّاً، وفي بعضها الثالث طابعاً هيرقليطيّاً، ومع ذلك فإن فلسفة أفلاطون قد وحّدت بين هذه الفلسفات المختلفة معدّلة من نقائصها».. وعلى الرغم من أن كل مذهب لاحق لا بد له لتبرير وجوده أن يفند آراء المذهب أو المذاهب السابقة عليه، فإن «هذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة نفسها». [29]
5- هل كان ابن تيمية إلا واحداً من العلماء؛ ليس ينفكُّ عن نظرية التراكم المعرفي وأثرِها في صياغة العقل الإنساني؟
وهذا المعنى هنا واحد من أعظم الفروق بين نتاج العقل التراكمي و «الوَحْي» المؤسِّس.
هذا الوحي الذي كان ابن تيمية عظيمَ الاحتفاء به، حتى إنه صارع هذا الصراع العقليَّ العنيفَ ليخضع عقولَ الفلاسفة الآبقة ويردَّها لسلطته.(36/18)
أين هذا من عمل أذلِّ عقلٍ في تاريخنا الحضاري؛ ابن رشد، وهُوَ يقول عن متألَّهه أرسطو: «إن مؤلف هذا الكتاب هو أعقل اليونان، أرسطوطاليس بن نيقوماخس، الذي وضع علوم المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة وأكمَلها، وقد قلتُ: إنه وضعها، لأن جميع الكتب التي أُلِّفت قبله عن هذه العلوم لا تستحق جُهد الحديث عنها، ولأنها توارتْ بمؤلفاته الخاصة، وقد قلت: إنه أكملها، لأن جميع الذين خلفوه حتى زمننا، أي في مدة خَمسَةَ عَشر قرناً، لم يستطيعوا أن يضيفوا شيئاً إلى مؤلفاته أو أن يجدوا فيها خطأً ذا بال، والواقع أن جميع هذا اجتمع في رجل واحد، وهذا أمرٌ عجيبٌ خارق للعادة، وهو إذ امتاز على هذا الوجه يستحق أن يدعى إلهيًّا أكثر من أن يدعى بشرياً، وهذا ما جعل الأوائل يسمُّونه إلهيًّا»![30]
وفي ضوء هذا النص نعرف معنى القول الساقط الذي مرّ معنا لعبدالمتعال الصعيدي: «وكان ابن رشد الفيلسوف الفقيه أولى أن يكون له مدرسة بعده من ابن تيمية، ليسير المسلمون بها في سبيل التجديد الصحيح، ويجمعوا بها بين علوم الدين وعلوم الفلسفة، فهذا كان خيراً من مدرسة ابن تيمية التي جمدت بعده على تقليده.. ».
أين التقليد يامولانا الشيخ عبدالمتعال؟
متابعة عقل مستعبد كان أكبر أوصافه أنه: «شارح أرسطو »، أم التوافر على درس تراث عالم أحد أوصافه أنه: «ناقض أرسطو»؟
6- هذه «النفعيّة» ما وصفها من مذاهب الفلاسفة؟ أهي نفعية السوفسطائيين، أم نفعية البراجماتية، أم نفعية بنتام؟
أم هي لفظة يهمسُ بها عاميٌّ في أذن صديق له في مجلس لينال بها من أحد الداخلين؟
إنه لمن الشناعة أن يوصف في دراسة كاتب مسلم؛ جُهد مَن كان يناضل عن «الوحي» لينقذ العقل من أسر تلك التصورات اليونانية الوثنية المضحكة؛ من الشناعة أن يوصف هذا الجهد السامي الغاية، والبالغ الأثر، بكلمة توحي في بعض ظلالها: «باللؤم العقلي».(36/19)
«وابن تيمية بهذا الموقف يكشف عن غيرة دينية منقطعة النظير، كما يكشف في نفس الوقت عن الفيلسوف العملي الذي يرى أحقية الأشياء وصدقها في «نفعها» العام لبني البشر، وأكثر القضايا التي تقررها الأديان من قبيل القضايا التي دافع عنها ابن تيمية». [31]
ما هنا لا يفي بدراسة منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة، لكنها إشارة إلى هذا المنهج، وإن طبيعة القراءة والبحث لا تسمح بأكثر من هذا.
المحور الخامس: مآخذُ أَخَذها الباحثُ على ابن تيمية:
أعلمُ أن المؤلف حين يكتب فهو يقول: هاؤم عقلي فانظروا فيه، وأنا قد نظرتُ فوجدت شيئاً يشبه العقل وما هو به:
لأنه من العقل إذا ما أردت أن تقوّض مدرسة من المدارس؛ أن تعمد إلى ضعيف ممن يمثِّل هذه المدرسة فتفترسه..
لا أدري ما الذي صرف صاحبنا عن هذه الخطة؟ أمّا أن يبتلى فيُجادِل في العلم واحداً من أكبر العلماء في تاريخ العلم، ويجالِده بعدُ في الفهم؛ فهذه والله ورطة ما أعدّ لها صاحبنا عدّتها.
ومن أراد أن يجادِل ويجالِد ابنَ تيمية في العلم والفهم، فعليه أن يكون حذراً غاية الحذر من أن يجادَل ويجالَد، فيراجع علمه مرّات، ويعود على فهمه بالتهمة كرّات.
والحقُّ أنه ليس «يَغُضُّ» من قيمة عالم متماسك البنيان المعرفي عندي؛ أَنْ جَهِل ونسي هنا، أو أخطأ هناك، لأن المعرفة المطلقة التامة مستحيلة، فأفراد العلوم لا تتناهى، ولأن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه يجري عليه من الخطأ والغفلة ما هو من لازم كونه إنساناً.
فما جئتُ هنا لأقول: إن ابن تيمية لا يغلط كحال من لا أحبُّ له أن يقول ذلك، لكن جئتُ لأقول: إن شهوة النقد ضربتْ عقل صاحبنا فأصابته بالحَوَل الفكريِّ فلا حَوْل ولا قوّة إلا بالله!
وبسبب هذا سأبدأ القراءة بالمقلوب، أعني بصفحة 22، ثم ص15 ليكون أيسر على صاحبنا:(36/20)
أولاً: قال ص22: «قال ابن تيمية عن فلاسفة الصوفية: «.. وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وهذا مناقض للعقل والدين».
وبالنسبة لمسألة تفضيل الولي على النبي؛ ففي كلام ابن عربي ما يبين أنه يريد خلاف ما نقله عنه ابن تيمية، حيث يقول: «إذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج التشريع؛ فمن حيث هو ولي وعارف، ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولي أكمل وأتم من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع، فإذا سمعت أحداً من أهل الله يقول، أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول؛ فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له، فافهم».
فابن عربي يبين أن قول الصوفية بتفضيل الولي على النبي، يريدون به أن النبي من حيث كونه ولياً لله أفضل من حيث كونه نبياً له، ولا يريدون أن الولي (من غير الأنبياء) يكون أفضل من النبي، كما فهم ابن تيمية».
أصابت شهوةُ النقد صاحبنا بالحَوَل الفكريّ فما عاد يفرّق بين كلام ابن تيمية عن: «خاتم الأولياء» و: «الولي». ولو كان يريد أن يذبَّ القول عن عقله؛ لاتَّهم فهمه للكلام ألفَ مرَّة قبل أن يتَّهم فهمَ أكبرِ ناقدٍ للتراث الصوفي في تاريخ الإسلام.
قال ابن تيمية: «الناظر في الدليل بمنزلة المترائي للهلال قد يراه، وقد لا يراه «لعشىً في بصره»، وكذلك أعمى القلب. وأما الناظر في المسألة: فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به وينتفع، فأَمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة».[32](36/21)
«ولا يريدون أن الولي .. كما فهم ابن تيمية».
من أين يستمدُّ هؤلاء هذه الجرأة والقدرة على الصَّفاقة؟ إن أحدنا إذا كان في مجلسٍ فيه بعض طلبة العلم أدار المعنى في ذهنه مراتٍ قبل أن يقول به خوفَ أن يُزرى عليه، والواحد من هؤلاء يكشف للناس عن عورة عقله ويسير بها فلا يخجل ولا ينكسر.. فلله هذه الأنفس ما أشدَّ تباينها في منازعها وأطوارها وشأنها كلِّه!
1- قال ابن تيمية: «وهذا من جنس قول شيخهم الطائي [ابن عربي].. ويقول أيضاً: إن الولاية أفضل من النبوة، وولاية النبي عنده أفضل من نبوته ورسالته، لأنه بزعمه من حيث الولاية يأخذ من الله بلا واسطة، ومن حيث النبوة يأخذ بواسطة. وهذا الكلام قد يقولونه مطلقاً، وتوجيهه على أصولهم: أن النبوة هي مقام تخييل المعقولات، والولاية هي المعقول الصرف، فالولي ترِد عليه المعقولات صرفاً، والنبي من جهة ولايته له هذه المعقولات، لكن من جهة نبوته هي تخييل هذه المعقولات، فيأخذ بواسطة الخيال، وجهة رسالته عندهم أنزل الدرجات وهي جهة تبليغه للناس.. وهذا قلب للحقيقة التي اتفق عليها المسلمون، وهو أن الرسول أفضل من النبي الذي ليس برسول، والنبي أفضل من الولي الذي ليس بنبي، والرسالة تنتظم النبوة والولاية، كما أن النبوة تنتظم الولاية، وأن أفضل الأولياء أكملهم تلقياً عن الأنبياء». [33]
فابن تيمية «يفهم» هذا ويوجهه على أصولهم وينقضه.(36/22)
2- ثم يزيد عليه فيقول: «ويقولون: إن ولاية النبي أعظم من نبوته، ونبوته أعظم من رسالته، ثم قد يدّعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء، وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم هي عندهم أعظم من نبوتهم ورسالتهم، وإنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة خاتم الأولياء، وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا: الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبي والرسول بواسطة، ولهذا جعلوا ما يفيض في نفوسهم ـ ويجعلونه من باب المخاطبات الإلهية، والمكاشفات الربانية ـ أعظم من تكليم موسى بن عمران، وهي في الحقيقة إيحاءات شيطانية،ووساوس نفسانية (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، (الأنعام:121)، ولو هُدوا لعلموا أن أفضل ما عند الولي: ما يأخذه عن الرسول لا ما يأخذه عن قلبه، وأن أفضل الأولياء الصديقون، وأفضلهم أبوبكر، وكان هو أفضل من عمر، مع أن عمر كان مُحَدَّثاً كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)[34]».
3- ما ذَكَره ابن تيمية في النص الذي ساقه صاحبنا عنه: «وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن «خاتم الأولياء» أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء»؛ هو قول ابن عربي نفسه.
قال في «فصوص الحكم»: «وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه ـ متى رأوه ـ إلا من «مشكاة خاتم الأولياء»[35].
ثانياً: قال ص15: «فقدماء الفلاسفة قبل أرسطو كما يرى ابن تيمية، كانوا..». فذكر مآخذ أخذها على ابن تيمية ومنها:(36/23)
«يثبتون عالماً فوق هذا العالم يصفونه ببعض ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم به الجنة = واضح أن هذه صورة مشوهة وساذجة عن نظرية «المُثُل» التي قال بها أفلاطون».
أ- قال عبد الجليل الوالي في كتابه « نظرية المثل، البناء الأفلاطوني والنقد الأرسطي»: «نظرية المثل لم تنشأ من العدم، بل هي مزيج فلسفي من مفكرين سابقين، موضوعة بعقلية وقادة، مضاف إليها إبداعات خارقة».
فقوله: «نظرية «المثل» التي قالها بها أفلاطون»، غير دقيق.
ب- أما ذكر الجنة في «المثل الأفلاطونية» فأحيل صاحبنا إلى الكتاب السابق ليفتش فيه مع: «تاريخ الفلسفة اليونانية» ليوسف كرم [36]، وكتاب لحسام الألوسي عنوانه: «بواكير الفلسفة قبل طاليس»، ولينظر فيما قالوه عن: «الجنة» وأثر: «الأورفيَّة» في الفكر اليوناني وفي المثالية بكل أشكالها .. أحيله إليهما دون ذكر الصفحات حتى يشتدَّ عُوده في البحث، لأننا وقَفْنا على ما نذكره في هذه القراءة بعرق الجبين وسهر الليل، ولم نتلقَّها عن الشيخ «قوقل» عفا الله عنه!
هل كان ابن تيمية صاحبَ صورة ساذجة عن نظرية «المثل الأفلاطونية»؟ سأسوق كلاماً لابن تيمية عن «المثل الأفلاطونية» ومناقشته لها حتى تتبين لنا هذه السذاجة بوضوح.(36/24)
قال ابن تيمية: «لما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها «المثل الأفلاطونية» أنكر ذلك حُذّاقهم، وقالوا: هذه لا تكون إلا في الذهن، ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا: إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة، ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان، بل يمتنع أن تكون شرطاً في وجود الأعيان؛ فإنها إما أن تكون صفة للأعيان، أو جزءاً منها. وصفة الشيء لا تكون خالقةً للموصوف، وجزء الشيء لا يكون خالقاً للجملة، فلو قُدِّر أن في الخارج وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعاً لغيره من الموجودات، بل امتنع أن يكون شرطاً في وجود غيره، فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق، إن قيل: إن له وجوداً في الخارج، فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكاراً على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجاً عن الذهن؟ وهم قد قرروا أن العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم، لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن، وعلّة ومعلول، وقديم ومحدث. ومَورد التقسيم مشترك بين الأقسام. فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب، فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضاً لشيءٍ من الماهيات والحقائق. وهذا التعبير مبنيٌّ على أصلهم الفاسد، وهو أن الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج، بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته، فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة، ويفارقها أخرى»![37](36/25)
قال أبويعرب المرزوقي في التعليق على قول ابن تيمية: «كانوا قد بنوا ذلك على .. قول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات ... وهو قول القونوي صاحب ابن عربي». قال المرزوقي: «وإذا اعتبر التعدد العقلي أصلاً، والتعدد الحسي ظلاًّ له، كان الحل قائلاً بواقعية الكليات المعقولة، التي ينسبها ابن تيمية إلى تلميذ ابن عربي وربيبه أعني القونوي، معتبراً إياها من جنس نظرية «المُثُل الأفلاطونية»[38]».
لو أن البحث الذي بين يديَّ عملٌ علميٌّ متماسك، فيه أصالةُ رأي، ودقة فهم، وسعة اطلاع؛ لما «غَضَّ» من قيمته عندي أن أخطأ كاتبه هنا، أو وهم هناك.. لكن أن يكون البحث بمثل هذه الضّحالة العلمية الفاضحة، وهذا العمل العقليّ المخجل، ثم يزيد صاحبه الطين بِلَّةً بهذه الجرأة على علم ابن تيمية وفهمه؛ فإن أخطاءه وأوهامه مما كان قال فيها الطناحي: «لا أقول كما يقول بعض المناقشين إن هذه الملحوظات لا تَغُضُّ من قيمة الرسالة، بل «تَغُضُّ وسِتِّين تَغُضُّ»! [39]
قال صاحبنا وهو في فسحة من أمره وهي أمثلة على أوهامه الساذجة ولم أستقصِ:
1- ص5: «ولد ابن تيمية سنة 661، لكن لم تبق في ذاكرته عنها [حران] إلا ذكرى فظيعة عندما وضعه أهله في عربة .. وتوجهوا إلى دمشق سنة 666».
وهم قدموا إلى دمشق سنة (667).[40]
2- ص11: «فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة».
ومن ولد ـ كما في النص السابق ـ سنة (661)، وتوفي سنة (728)، يتوفى عن (67) سنة وليس عن (68).
3- ص6: «الحسين بن يوسف بن المطهر الشيعي». اسمه الحسن [41].
4- ص5: «نصير الدين الطوسي: أبوعبدالله محمد بن محمد بن حسن الطوسي، الفيلسوف الكبير، والفلكي المشهور .. وتوفي في ذي الحجة سنة 672 ـ وقد نيف على الثمانين».
أ- نصيرالدين الطوسي: «الفيلسوف الكبير»، وأما ابن تيمية فلم يكن يفهم في الفلسفة شيئاً.(36/26)
ب- كنية نصيرالدين: أبوجعفر، وليس «أبوعبدالله».
ج- توفي عن خمس وسبعين سنة ولم: «ينيف على الثمانين»، لأن ولادته كانت سنة 597.[42]
5- تطرق الخطأ إلى صاحبنا:
أ- لأنه رجع في ترجمة الطوسي إلى: «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد، تحقيق: محمود الأرناؤوط.
قال عبدالرحمن العثيمين: «واشتهر ابن العماد بكتابه «شذرات الذهب».. ثم أعاد تحقيقه محمود الأرناؤوط وطبع منه حتى سنة 1410هـ أربع مجلدات [تمَّ فيما بعد] .. ولنا على تحقيقه ملاحظات لا يتسع المقام لذكرها. ولعل من أهم هذه الملاحظات أن محققه لم يعتمد على نسخة المؤلف التي بخطه، وهي موجودة في مكتبة مدينة بتركيا ..»[43].
ب- ورجع في ترجمة ابن المطهر الحلي إلى: «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» لابن حجر، تحقيق: محمد سيد جاد الحق.
قال الطناحي: «... معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: طبع طبعة وحيدة بمصر [هذا وقت تأليف الكتاب] وهي طبعة رديئة جداً، وغفر الله لناشرها، فهو رجل من أهل الفضل والوعظ، ولكن تحقيق الكتب ليس من صناعته.. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: طبع طبعتين .. والثانية بمصر .. وهي طبعة غير جيدة، ويقال فيها ما قيل في طبعة كتاب «معرفة القراء الكبار» السابق، فناشرهما واحد، ومحققهما واحد» [44].
6- ليس يُرجع في تحرير تراجم الفلاسفة ـ في بحث فلسفي ـ إلى «الشذرات» و «الدرر الكامنة» ولو إلى مخطوطات أصلية بخط مؤلفيها. وكلما كان المرجع مما أُفرد في ترجمة العَلَم كان أوفى وأدقّ.
7- عندما يذهب المرء إلى المختبر، يأخذون عيِّنة من دمه، فإن كانت العيِّنةُ فاسدةً كان الدَّمُ فاسداً كلّه، وهذه «عيّنة» من علم صاحبنا وفهمه..«ومن أراد أن يجادِل ويجالِد ابن تيمية في العلم والفهم، فعليه أن يكون حذراً غاية الحذر من أن يجادَل ويجالَد».
المحور السادس: موقفُ ابنِ تيمية من المنطق:(36/27)
قال ص26: «موقف ابن تيمية من المنطق هو أكثر الجوانب استحواذاً على دراسات الباحثين، لذا فإني لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب، لاسيما بعد دراسات كثير من الباحثين من السنة والشيعة في هذا الجانب، كدراسة محمد حسن الزين «منطق ابن تيمية» وهي في قرابة 600 صفحة، ودراسات علي سامي النشار، وسأحاول هنا تلخيص رأيه في المنطق، مع بيان ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً». ثم تحدَّث في اثني عشر سطراً عن المنطق عند ابن تيمية.
«لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب»، فيم العجلة؟ سنمكث هنا بعض الوقت مع ابن تيمية والمنطق:
1- محمود يعقوبي: «نريد أن نثبت بهذا البحث ثلاث قضايا: أولاها أن الإمام ابن تيمية نقد المنطق المشائي نقداً مذهبياً شاملاً كما لم ينقده أحدٌ من المفكرين الإسلاميين لا قبله ولا بعده». [45]
2- محمد عبدالله الشرقاوي: «تفجرت في القرن السابع عشر ـ الذي بدأت منه وبه الفلسفة الحديثة ـ النزعة التجريبية على يد فلاسفة علماء كبار، يقف على رأس صفهم الطويل فرنسيس بيكون (1561-1626). ولم يدخر بيكون وسعاً في مهاجمة الفلسفة التقليدية والحط من شأنها، وتحميلها أوزار الجمود العلمي والقحط العقلي الذي آل الأمر إليه. وإنه ليتعجب من ضحالة الفلسفة التقليدية وعقمها، وعجزها عن الإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته.. قد برز لبيكون ـ مثلما برز لمعاصره ديكارت [46] ـ الحاجة الماسّة إلى إصلاح المنهج العلمي، فوضع بيكون المنهج الاستقرائي التجريبي، وضمنه كتابه «الأورجانون الجديد» أي: المنطق الجديد والآلة الجديدة في مقابل «الأورجانون القديم» الذي يتضمن منطق أرسطو الذي أفسد العلم وأصاب العقل البشري بالجدْب والعقم.(36/28)
ولنلاحظ أن فرنسيس بيكون قد نقد منطق أرسطو ونقضه بما نقده به ونقضه المفكر المسلم (ابن تيمية) في كتابيه «نقض المنطق» و «الرد على المنطقيين». وإنا لنتطلع إلى دراسة العلاقة بين هذين المفكرين العملاقين: ابن تيمية وهو السابق، وبيكون وهو اللاحق في ضوء نقد كل منهما لأرسطو». [47]
3- مصطفى طباطبائي: «جان لوك وابن تيمية: ولد جان لاك الفيلسوف الشهير الإنجليزي في عام 1632م قرب مدينة بريستول في إنجلترا، وتوفي في عام 1704. وهذا المفكر الشهير له دور كبير في نقد منطق أرسطو في العالم الغربي .. الكتاب المشهور لجان لاك يسمى: «رسالة في فهم البشر»، كما هو ظاهر من اسمه، كتب في مباحث تتعلق بمعرفة الذهن وقوانينه .. جان لاك – بخلاف بعض المناطقة – اعتبر المعاني الكلية أو الكليّات مخلوقاً من قدرة الفهم والعقل البشري، ولم يكن يعتقد لها وجود مستقل خارجي، ويقول في هذا الصدد: «واضح أن العمومي والكلي لا يتعلقان بالوجود الواقعي للأشياء، بل هما من اختراع الفهم الإنساني وخلقه».
هذا الرأي هو الذي بيّنه ابن تيمية قبل جان لاك بشكل أوضح وقال: «ومن أخصّ صفات «العقل» التي فارق بها «الحس» [إذ الحس] لا يعلم إلا معيّناً، والعقل يدركه كلياً مطلقاً». وعندئذٍ يوضح ابن تيمية: «وفصل الخطاب: أنه ليس في الخارج إلا جزئي معيّن، ليس في الخارج ما هو مطلق عام مع كونه مطلقاً عاماً..».[48]
4- فضل قائد علي: «لم يقل جون ستيوارت مل أكثر مما قال به ابن تيمية؛ وهو يقرر أن القياس الأرسطي تحصيل حاصل، لأن النتيجة «سقراط فان» متضمنة في مقدمة القياس الكبرى «كل إنسان فان» طالما وأن «سقراط إنسان» كما تقول المقدمة الصغرى». [49](36/29)
5- عفاف الغمري: «على صفحات هذا الكتاب بيان لمحاولة ابن تيمية المنطقية، وهي من المحاولات القليلة للنقد العلمي الموضوعي من عقلية عربية لمنطق أرسطو، فهي محاولة لم تكتف بالرفض دون تقديم الأسباب، أو القبول دون التوصّل إلى أدلة أو براهين على الصدق بالصحة. فلم يكن نقد ابن تيمية للمنطق لمجرد الهدم، أي هدم طريقة قديمة في التفكير بل كان لإظهار عدم كفاية هذه الطريقة في بلوغ المعرفة، أو في عصمة التفكير الإنساني عن الوقوع في الخطأ، لأن طرق الاستدلال الصحيحة موجودة في القرآن، ومن ثم فلا حاجة بنا إلى المنطق التقليدي طالما أننا نستغني عنه بما هو أكثر دقة .. جاء رفضه واعياً عن دراسة وفهم، فناقش المنطق القديم بصفة عامة ونظرياته، وأهمها نظرية القياس وقواعده وبراهينه وأوضح بطلانها أو عدم كفايتها في الوصول إلى المعرفة الحقة. فقدم بذلك محاولة نقدية مكتملة .. وكانت من المحاولات النقدية القليلة في تاريخ الفكر الإسلامي التي رفضت المنطق الأرسطي بناء على نقد ومناقشة لا عن إسقاط أو إحجام أو تكفير .. في دراستنا لحجج ابن تيمية التي وجّهها للمقام الموجب في الحد؛ وافقنا الدكتور عزمي إسلام في إثبات وجود تشابه بين بعض ما قاله ابن تيمية في هذه الحجج من نقد للمنطق الأرسطي، وبين الوضعيين المنطقيين أو التحليليين المعاصرين، خاصة: كارناب، وبرتراند رسل، وفتنجشتين، فابن تيمية في نقده لفكرة الماهيات الثابتة، وقوله بعدم وجود الماهيات والكليات إلا في الأذهان؛ يستخدم منهجاً تحليلياً لا يقل في دقته ووضوحه عن تحليلات فلاسفة ومناطقة التحليل المعاصرين أمثال رسل وفتنجشتين».[50]
لِمَ أغَذَّ صاحبُنا السير عند الحديث عن المنطق وابن تيمية، فلم يعد به حاجة إلى الإطالة؟(36/30)
أيكون الكلام عن قيمة تراث ابن تيمية في المنطق ينقض عليه بحثه كله ويهدمه على رأسه، لذا آثر السلامة وأسرع السير مخافةَ أن يصيبه مكروه؟ إن القول بعدم معرفة «الفقيه الحنبلي» ابن تيمية بالفلسفة، وعدم اطلاعه عليها في مصادرها الأصلية وتلقيه لها عن شيوخها، والقول بقيام منهجه فيها على التلفيق والنفعية؛ يقال في المنطق أيضاً فما الفرق؟
لاسيما أنه قد جرى على لسانه غفلةً منه: «ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً».
إنه ليس يصح في الذهن أن يبلغ ابن تيمية في نقده للمنطق المشائي هذا المبلغ؛ ثم هو يفشل بعد ذلك في الفلسفة الفشل الذريع الذي يريده له هذا المتعجّل.
يرى جون ديوي: أن علاقة المنطق بالفلسفة كعلاقة المنطق بالبحث ذاته، فأيّ تغيير في أحدهما لا بد أن ينعكس على الآخر، والمؤلفون في المنطق حين لا يفصحون عن ميولهم في اتجاهاتهم الفلسفية؛ فإن التحليل يكشف عن الرابطة بين الميول وما يذهبون إليه من نظرية منطقية. [51]
قال ابن تيمية: «لما كنت بالإسكندريّة اجتمع بي مَنْ رأيتُه يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرتُ له بعضَ ما يستحقونه من التجهيل والتضليل، واقتضى ذلك أني كتبتُ في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علّقتُه تلك الساعة، ثم تعقّبتُه بعد ذلك في مجالس إلى أن تمّ. ولم يكن ذلك من همّتي، فإن همّتي إنما كانت فيما كتبتُه عليهم في «الإلهيات». وتبين لي أن كثيراً مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات .. فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق، فأذنتُ في ذلك، لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتح من باب الردّ عليهم يحتمل أضعاف ما علّقتُه تلك الساعة».[52]
«كتبتُ في قعدة بين الظهر والعصر .. ولم يكن ذلك من همّتي»...(36/31)
كان صاحبنا قد قال في مقدمة بحثه: «تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه ..» وقال: «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات..»؛ زائرٌ ينصب خيمةً قديمةً وسط ناطحات السحاب في نيويورك، ثم يذهب يتحدَّث ـ بلا خَجلٍ ـ عن شيءٍ يشبه بداية تأسيس الهندسة المعماريّة!
إنك فشلت في أن تكون مشروعَ شيخٍ في الإسلام، وتريد ـ ويْحَكَ ـ أن تَنْقُضَ شيخَ الإسلام كلِّه..
أما بعد: فقد كان شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ـ رحمه الله ورضي عنه ـ واحداً من أكبر العقول العلمية التي عرفها تاريخ الإنسان، ورائدَ دعوة تجديدية تنويرية قلَّ أن بلغتْها دعوةُ مجدّد في الإسلام، وهو حجة الله على أهل العقول: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} البقرة: 269.
وإن بلداً طيباً شعاره التوحيد، ودثاره منهج السلف الصالح؛ ليس يسمحُ بأن تُعرّيَه منهما أقلامٌ غِرَّةٌ مغرضةٌ، لم تجد نفسها في الحق، فبحثتْ عنها في الباطل، ومن رام دَرْسَ الفلسفة الوثنيّة ففي تلك البلاد متَّسع.. ما دام قد ضاق صدره بلا إله إلا الله تعلو بها مآذن المساجد في جامعاتنا.
شيءٌ من مثل ما نحن بسبيله:
كثُر حديث المتحدِّث عن: «الانفتاح العالمي» وأثرِه في الصحوة الإسلامية، لكن قلّ الحديث عن أثر هذا الانفتاح العالمي في: «انتكاسات الصحوة».
كان غايةُ منتكس الصحوة قبل عدة سنوات: سيجارةً يشربها في تخفٍّ، أو أغنيةً يسارق سماعها، فإذا تفلَّتَ؛ أكثر من السهر.. أفعالٌ تحكمها براءة المجتمع ويتوب الله على من تاب.(36/32)
وأما اليوم؛ فثمَّ ـ مع الشهوة ـ تلوُّثٌ فكريٌّ، وجماحٌ عقليٌّ غالب، وشططٌ بالغ السوء؛ جعل منتكسَ الصحوة يواجه الصحوةَ نفسَها بوجه صفيق بعد أن كان يتوارى منها خجلاً.. صار ينازعها أصولَها وثوابتها في سَوْرةٍ محمومةٍ، وأصبحتَ تسمعُ أصواتاً مبحوحةً تتحدث عن: «المفصل الثقافي» والعروي، والجابري، و«الحراك الاجتماعي» وصادق العظم، وأركون، وابن تيمية الذي لا يفهم في الفلسفة.. فعسى أن أوفَّقَ للعَوْد وبسط هذا الموضوع، لأن السلفية ليست تطامن من العقل، ولا ترفض أن يُعْمَل العقل فيما حَقُّه أن يُعْمَل فيه، ولأن العقل الغربيَّ بمنهاجه ليس أقدَرَ على الدَرْس الحضاري من عقلٍ بمنهاجٍ سَلفيٍّ.
والعقل، هذا العقل ويلٌ له إن هو تَلَعَّبَ به صاحبه.
ونحن، نعم نحن: متى ندرك أن سرعة تغيّر الأفكار من خصائص العقل الناشئ، وأننا إن لم نحرص على هذه العقول تخَطَّفتْها عصاباتُ المعرفة فأحدثتْ بها عاهاتٍ فكرية؛ ثم أعادتها لتتسوّل بها على حسابنا!
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
1428
--------------------------
الهوامش
[1] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، ص57.
والاستغراب: دراسة الغرب برؤية شرقية.
[2] محمود ماضي، جذور علم الاستغراب، وقفة مع الرد على المنطقيين لابن تيمية، ص5، 6. وقارن هذا بقول باسمة جاسم: «وهنا نلاحظ أن ابن رشد يظهر مع عموم الفلاسفة والمناطقة والشراح مدافعاً بذلك عن المذهب الأرسطي، ويؤاخذهم لأنهم خرجوا على المعلم الأول ونصوصه، وهذا الموقف نابع من استحكام تأثر ابن رشد الشديد بأرسطو». النقد المنطقي لابن رشد، ص8.(36/33)
[3] في: الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، 1/66: «..أول من أفسد الكلام أبو الفضل[ ابن العميد]، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظن ّ أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيداً من الجاحظ، قريباً من نفسه؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبَّرٌ بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كلِّ أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد».
عن التوحيدي في بعض تراث ابن تيمية: عبد الأمير الأعسم، أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، ص22.
[4] أود أن أنبه على:
أ – أن البحث غير مرقم الصفحات، فآمل ترقيمها بتجاوز صفحة الغلاف ووضع الرقم (1) للمقدمة حتى تتفق الإحالة.
ب- أن هوامش البحث تنتهي في الأوراق التي بين يديّ بالهامش رقم (40)، مع أن إحالة الهوامش في المتن بلغت رقم (154)، فما في هذه القراءة لا يتجاوز البحث بهوامشه الأربعين.
ج- أن البحث غير مؤرخ.
[5] قال ابن بسام عن الشيخ إبراهيم ابن جاسر : «حدَّثَني أحد تلاميذه وهو الشيخ عبدالرحمن السعدي.. أنه [ابن جاسر] كان يدرس للطلبة في ـ المنهاج ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية في بريدة، فقرأ القارئ أمام الدرس كلام المعارض ـ ابن المطهر ـ وأخذ القارئ يسرد أقواله في الرفض والضلال، فما انتبه الطلبة إلا على بكاء الشيخ ونشيجه وترحُّمه على شيخ الإسلام، فلمّا سكن قال: «أيها الإخوان لو لم يقيِّض اللهُ لهذا الطاغية وأمثاله مثل هذا الإمام الكبير، فمن الذي يستطيع الرد والإجابة على هذه الحجج والشبهات». علماء نجد خلال ثمانية قرون، 1/281. ويرى الشيخ ابن سعدي أن ابن تيميّةَ من لطف الله بعباده في أثناء قرون هذه الأمة: المواهب الربانية من الآيات القرآنية، ص149.
[6] المجددون في الإسلام، ص266، 439.(36/34)
[7] لست مع حسن حنفي في قوله في مراجعة كتاب الصادق النيهوم: إسلام ضد الإسلام: «كما أن كثرة الاعتماد على النصوص المنتقاة تقلل من ثقل الحجج العقلية». هموم الفكر والوطن، 2/402. إلا أن يُقيَّد قوله فيقال: إن كثرة الاعتماد على النصوص المنتقاة تقلّل من ثقل الحجج العقلية؛ إذا كان موضوع النقاش من مجال الحجة العقلية. ماذا لو قال دارسٌ للحضارة المصرية لحسن حنفي: إن لفظة «فرعون» لم ترد في القرآن؟
ولرياض الريس في: آخر الخوارج، أشياء من سيرة صحافية، ص195، رسالة عن الصادق النيهوم ومنع كتابه في لبنان.
[8] فليسوف العرب والمعلم الثاني، ص123،120.
[9] تجليات الفلسفة العربية، منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي، ص147.
[10] الله والعالم والإنسان في الفكر الإسلامي، ص140.
[11] ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام، ص26،13.
[12] ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي، ص269،266.
[13] درء تعارض العقل والنقل، 1/22.
[14] أثر القرآن على منهج التفكير النقدي عند ابن تيمية، ص67. لو أخذنا سنة (717) على أعلى تقدير لوقت كتابته «الدرء»، وحذفنا من هذا التاريخ «نحواً من ثلاثين سنة»، يكون ابن تيمية المولود سنة (661)، قد ألف هذا الكتاب وهو دون الثلاثين بيقين.
[15] بيان تلبيس الجهمية، 1/37. عن: صالح الغامدي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها، ص207.
قال الكردي: «لقد بدأ تحصيله للفكر الفلسفي بداية مبكرة جداً حتى كون لنفسه فكرة عن الفلاسفة والمتكلمين وهو صبي في عمر البلوغ.. وهذا واضح باعترافه هو في مصنفه عن رد المنطق [ص24] فهو يقول: « وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم (الفلاسفة والمتكلمين) من المشغوفين بهم ـ وأنا إذ ذاك صغيرٌ قريب العهد من الاحتلام ـ كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل..». أثر القرآن، ص67.(36/35)
ألم يتعثّر صاحبنا في بحثه اللاهث بشيءٍ من هذه الأقوال وهو يفتش في تراث ابن تيمية؟
[16] الإشارة هنا إلى «الشيخ الكوثري»، «إشارةٌ سرحانيَّة».. فالكوثريُّ يقول في كتابه: من عبر التاريخ، عن ابن ملكا ص38: «تظاهر بالإسلام ابتعاداً عن الهوان والله أعلم بما في قلبه، وهو الفيلسوف الوحيد الذي وجد ابن تيمية بغيته عنده واتخذه قدوةً لنفسه في القول بجواز حلول الحوادث في الله سبحانه، تعالى الله عن إفك الأفاكين».
ليس بي هنا مناقشة كلامه في ابن تيمية فقد كُفِيناه، لكن قوله عن ابن ملكا: «تظاهر بالإسلام..»، ردّه عليه أحمد الطيب في: الجانب النقدي في فلسفة أبي البركات البغدادي، ص38.
ما أحسن ما ختم به محمد أحمد عبد القادر دراسته: الشيخ زاهد الكوثري وجهوده في مجال الفكر الإسلامي، حيث قال:
« يؤخذ على الكوثري في إطار حماسه الزائد اندفاعه إلى تخطئة غيره ممن لا يتفق معه إلى حد رَمْيه بالكفر، أو يصف خصمه بأوصاف لا يليق أن تصدر عن عالم أو مفكر مثله».
[17] «وخطتي في بحث موقف أبي البركات من الفلسفة المشائية.. تحليل الفكرة المنقودة، وذلك بتعقبها عند القائلين بها، وفي مظانها التي قيلت فيها، سواء عند أرسطو أو عند الأفلاطونية المحدثة، أو عند المشائية الإسلامية ممثلة في الفارابي وابن سينا، وقد كان أبو البركات ينقل في ذلك نقلاً غاية في الدقة والضبط والأمانة». أحمد الطيب، الجانب النقدي، ص10.
[18] منهج جديد لدراسة الفلسفة الإسلامية، ضمن: المشكاة، مجموعة مقالات في الفلسفة والعلوم الإنسانية مهداة إلى اسم المرحوم الدكتور علي سامي النشار [ت 1980]، ص20.(36/36)
[19] مقدمة تحقيق: الشرح الكبير لمقولات أرسطو، لأبي الفرج ابن الطيب، ص11. ولعبدالأمير الأعسم في: دراسة منطق ابن رشد، ضمن: ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته: «ابن رشد كان يمتلك الوعي بالنص الأرسطوطاليسي بحيث استطاع أن يكُون الحكم العقلاني التاريخي على كل أقوال المفسرين والشراح والمتأولين لأقوال أرسطوطاليس». 1/81.
[20] درء تعارض العقل والنقل، 9/434.
[21] المرجع السابق، 6/210.
[22] في: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيمية، لعثمان شوشان، ص77:موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من سيف الدين الآمدي في الإلهيات، ليحيى الهنيدي، جامعة أم القرى، 1407هـ. وفي هذا الدليل (صدر سنة 1424) مئة وسبع وسبعون رسالة علمية، منها مئة وثلاثون رسالة درستْ تراث ابن تيمية، والباقي في تحقيقه.
[23]عبد الأمير الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب، ص118. نُشر «المبين» ضمن الكتاب السابق، وأفرده الأعسم في: الفيلسوف الآمدي، دراسة وتحقيق.
[24] هنا تعتيمٌ إعلامي آخر وربط لخيوط الحيلة، فهذه شخصيةٌ فلسفية أخرى كانت تدرس الفلسفة في دمشق، وليس ذلك فحسب، بل هو صاحب أهم كتاب في تراجم الفلاسفة في تاريخنا الإسلامي: عيون الأنباء في طبقات الأطباء. ولا تغترَّ «بطبقات الأطباء» هذه، فما أكثر ما صَرَف عن هذه الكتب أسماؤُها.
لما كان كثير من الفلاسفة يشتغلون بالطب، وكان عصر ابن أبي أصيبعة يمقت الفلاسفة، أخفى عقول فلاسفته بأردية الطب، فعوقب بأن أخفاه صاحبنا فلم يذكره ولا كتابَه في بحثه قط.
توفي ابن أبي أصيبعة سنة (668).
[25]حسن الشافعي ،الآمدي وآراؤه الكلامية، ص40، 43، 166.
[26]نقض المنطق، ص156، فهرس: الدرء، 11/149. وفهرس: منهاج السنة، 9/222.
[27] علي جواد الطاهر، منهج البحث الأدبي، ص19. عثمان أمين، ديكارت: «ضرورة المنهج وماهيته» ص76.(36/37)
[28] عبد الحكيم أجهر،ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام، ص82. محمود يعقوبي ،ابن تيمية والمنطق الأرسطي، ص7. قال إبراهيم عقيلي: «حاولت من خلال ما سبق التدليل على مفهوم التكامل المنهجي عند ابن تيمية، وكيف أنه حاول الاستفادة من جميع طرق المعرفة الممكنة فلم يلغ بعضها لحساب بعض، وإنما عمل بكل طريق في مجاله، ونظر إلى كل مصادر العلم على أنها متكاملة ومتداخلة لا مستقلة ومتباينة، وألغى المحاولات السابقة «للتلفيق» بينها على أساس أن بعضها تابع لبعض مطلقاً». تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، ص383.
[29] مدخل جديد إلى الفلسفة، ص53.
[30] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، ص70. محمد عبدالستار أحمد، المدرسة السلفية وموقف رجالها من المنطق وعلم الكلام، ص248. ولزينب الخضيري: «لقد فعل ابن رشد لأرسطو مالم يفعله المؤلفون المسلمون إلا للقرآن ». أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، ص7.
[31] محمد عبد الستار أحمد، المدرسة السلفية، ص433.
[32] نقض المنطق، ص34.
[33] الرسالة الصفدية، ص252.
[34] بغية المرتاد، ص387.
[35] فصوص الحكم، 1/61. عن محقِّقَيْ: الرسالة الصفدية، ص253. ولعبد الرحمن بدوي في: تاريخ التصوف الإسلامي، ص78، إشارة لموقف ابن تيمية من ابن عربي.
[36] «للتوماويّ» يوسف كرم (ت 1959)، و«للراهب» الدومينيكاني جورج شحاته قنواتي (ت 1994)؛ أثرٌ بالغ السوء في كثير من مثقفي مصر، ولا سيما من أصبحوا فيما بعد أساتذة الفلسفة في مصر والعالم الإسلامي: محمد عبدالهادي أبوريدة، وعثمان أمين، وعبدالرحمن بدوي، وعاطف العراقي، وزينب الخضيري...
هذا الأثر يحتاج إلى توسّع لا تفي به هذه الإشارة.(36/38)
وفي كتاب: أبونا قنواتي، ص 83: «والطريف أن الأب قنواتي عندما كان يرأس قدّاس الصباح في الدير، كان يضع فوق المذبح بطاقة صغيرة تحتوي على أسماء الذين في فكره وحسبانه ليذكرهم في صلاته، وكان يقرأ حوالي ثلاثمائة وعشرين اسماً .. منهم على سبيل المثال: طه حسين ..»!
وفي: العقل والتنوير، لعاطف العراقي، ص 475: «جثمان الأب الدكتور جورج قنواتي .. وقد وقف بجوار الجثمان تلميذه عاطف العراقي».
ولنا مع الفيلسوف «الكذَّاب» عاطف العراقي تلميذ الأب جورج؛ وقفة مع «كذبه المخزي» على ابن تيمية ومصطفى عبدالرازق في غير هذا القراءة إن شاء الله.
[37] رفيق العجم، موسوعة مصطلحات ابن تيمية، ص448.
[38] تجليات الفلسفة العربية، ص438.
[39] تركي بن سهو العتيبي، الليلة الأخيرة، ضمن كتاب: محمود الطناحي .. ذكرى لن تغيب، ص38.
[40] محمد عزير شمس، وعلي بن محمد العمران، الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، الفهرس التفصيلي: «انتقاله مع أسرته من حران إلى دمشق ـ تاريخه»، ص751.
[41]صالح مهدي هاشم، المشهد الفلسفي في القرن السابع الهجري، دراسة في فكر العلامة ابن المطهر الحلي ورجال عصره، ص335. وفي: الأعلام 2/228: «الحسن كما هو هنا ويخطئ من يسميه الحسين».
[42]عبدالأمير الأعسم، الفيلسوف نصيرالدين الطوسي، مؤسس المنهج الفلسفي في علم الكلام الإسلامي، ص23، ص25.(36/39)
وفيه ص41: «ومن هنا اختصه هولاكو به فأكرمه «غاية الإكرام» كما يشير إلى ذلك البحراني والخوانساري، ولم يمر وقت طويل على هذه الصلة التي أثارت في نفس النصير سعادة المطمئن بعد أن لاذ بالوحش من الوحش نفسه، أن أعلن بشكل رسمي أنه شيعي (اثنا عشري)؛ فأزاح عن وجهه قناع التقيّة التي لازمته طوال ثمانية وعشرين عاماً في قلاع الإسماعيلية، وكان ذلك الإعلان المدهش في الرابع عشر من شوال سنة 654هـ.. ليصبح فيما بعد الزعيم العقلي للفكر الشيعي بلا منازع حتى يومنا هذا، والفيلسوف الشيعي الأول الذي يفخر به التراث الشيعي بكامله».
[43] السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، 2/460.
[44] الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم، ص53، 73. واللوم يقع ـ مع الناقل ـ على محقق «الشذرات» ومحقق «الدرر»، لأنهما لم ينبها على الوهم.
[45] ابن تيمية والمنطق الأرسطي، ص5.
[46] قال ديكارت: «معظم من أرادوا في هذه القرون الأخيرة أن يكونوا فلاسفة قد تابعوا أرسطو متابعة عمياء.. أما من لم يتابعوه ـ وفيهم كثيرون من ذوي العقول الراجحة ـ فلم يبرأوا من التشبع بآرائه في شبابهم، لأنه لا يُعَلَّم في المدارس سواها، وقد شغلهم ذلك شغلاً حال دون وصولهم إلى معرفة المبادئ الحقة». مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، ص35.
[47] مدخل نقدي لدراسة الفلسفة (1988)، ص143. وفي: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام، ص145: نظرية المنطق بين شيخ الإسلام ابن تيمية وفلاسفة الغرب، لجلال أحمد عبد النبي، جامعة القاهرة، 1989.
[48] المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، ترجمة عبدالرحيم البلوشي، ص135ـ 137.
[49] نقد نظرية القياس الأرسطية عند ابن سينا وابن تيمية، ص136. عن ابن تيمية وجون ستيوارت مل: علي سامي النشار، المنطق الصوري منذ أرسطو وتطوره المعاصر، ص424.(36/40)
قال توفيق الطويل: «كان طبيعياً أن يفيد «مل» من الدراسات العلمية التي أدت إلى قيام الاستقراء وبيان خطواته ومراحله، وقد بدأت هذه الدراسات على يد روّاد الفكر الحديث». جون ستيورت مل، ص133. لاحظ قوله: «بدأت هذه الدراسات على يد روّاد الفكر الحديث».
[50] المنطق عند ابن تيمية، ص10، 333. ونؤكد أن بعض من أوردنا نقولهم لم يسلّموا لابن تيمية بكل أقواله، بل ناقشوه في كثير منها.
[51] محمد تقي المدرّسي ،المنطق الإسلامي، أصوله ومناهجه، «العلاقة بين الفلسفة والمنطق»، ص33.
[52] الرد على المنطقيين، ص45.(36/41)
عودة علامة العراق محمود شكري الألوسي إلى السنة .. بقلم / تلميذه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
استتباعًا لما قام به الإخوة الكرام في صيد الفوائد على هذا الرابط ( العائدون إلى العقيدة السلفية ) بالكتابة عن الموفقين من علماء ودعاة الإسلام الذين آثروا اتباع الحق لما تبين لهم ، بشجاعة وتجرد ، ولم يأبهوا لأقاويل أهل البدع ، فرفع الله ذكرهم ، ووفقهم إلى أن يكونوا رؤوسًا في الحق ، ينتفع الناس بعلمهم ؛ جزاء ما بذلوه ابتغاء مرضاته - سبحانه وتعالى - . ومن هؤلاء الموفقين : علامة العراق محمود شكري الألوسي - رحمه الله - ، الذي أحببتُ أن أنقل كلام تلميذه " بهجة الأثري - رحمه الله - ، عن تحوله من ظلمات البدعة إلى نور السنة ، وأما جهوده وكانته - بعد ذلك - فمعلومة للجميع .
قال الشيخ الأثري : ( وقد قدمنا عن السيد أنه أصيب بما يصاب به كل فكر حي في ذلك المجتمع ، ومني بما يُمنى به كل منتم لمدارس الدين من التقليد الأعمى، والجمود على كتب ألفت في أيام التقهقر والانحطاط تسمى "كتب الجادة" وقد عددنا كثيراً منها قريباً، وهي محشوة بالرث البالي من آراء الأعاجم السخيفة، وحكاياتهم التافهة، ومناقشاتهم الفجة، التي كانوا يتلقونها بالتسليم، ويأخذونها بيد الإجلال والتعظيم، من غير تمحيص لما فيها من الحق والباطل بل كانوا –ولهم اليوم بين ظهرانينا خلف- يعكفون عليها كعوف المشرك على صنمه. إذا حاول أن يزحزحه عنه مزحزح قام وشهر عليه سيفه ، فإما أن يتمكن هذا من الفرار فينجو من شره ، وإما أن يتمكن ذاك منه فيقضي عليه بضربة لا يثنيها.(37/1)
استمر السيد على هذه الطريقة العوجاء متأثراً بها مدة من الزمن ليست بالقليلة لا يكاد يلومه عنها أحد حتى برقت له بارقة اليقين –وقد تجاوزت سنه الثلاثين- من سماوات كتب بعض الأئمة المجددين، التي نالتها يده في خزانة كتب عمه وأستاذه العلامة السيد نعمان خير الدين، كمؤلفات شيخ الإسلام أبي العباس أحمد تقي الدين ابن تيمية الحراني وتلميذه الإمام ابن القيم رضي الله عنهما، فاهتدى بنورها الوضاء، إلى المحجة البيضاء، التي لا يضل سالكها؛ وكسر قيود التعصب الذميم، وفك من عنقه ربقة التقليد الأعمى، وطفق يأخذ بالكتاب والسنة وبما يوافقهما من كلام سلف الأمة، من غير تحزب لشيعة أو مذهب، بل يأخذ الحق حيث وجده ويعززه حيث ألفاه.
ولكنه وواأسفاه لم يستطع يومئذ أن يجاهر بآرائه ، بل اضطر إلى المجاملة والتستر .. خشية أن يقع بيد من لا يخاف الله ولا يرحمه ، مع عدم من ينصره ويأخذ بيده كما ذكر لي هو عن نفسه.(37/2)
حتى إذا عُرف فضله، وقوي ساعده، بالتفاف جماعة حوله في بغداد، وانتشار أصدقائه ومحبيه في سائر البلاد، وصار له شأن يدفع به عنه عاديات الاضطهاد، خلع عنه ذلك الرداء رداء المجاملة ، وهتف مع شدة وطأة الاستبداد الحميدي بضرورة تطهير الدين من أوضار البدع التي طرأت عليه، ونبذ التقليد الذي هو علة العلل في انحطاط المدارك والأفكار؛ وشنَّ الغارات الشعواء على الخرافات المتأصلة في النفوس ، والتقاليد السخيفة التي شبّ عليها القوم وشابوا ، بمؤلفات ورسائل زعزعت أسس الباطل، وأحدثت انقلاباً عظيماً لا يزال تأثيره عاملاً في النفوس عمله المطلوب، فغاظ ذلك "أصحاب العمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة" من كل حشوي غرّ، وجاهل غمر، ذي خداع ومكر؛ وصاروا يشنعون عليه في مجالسهم وينبزونه بوهابي ، وهي كلمة ينفر منها السواد الجاهل ؛ حيث توحي إليهم أبالستهم زخرف القول زورا ، ويذكرون لهم عن الوهابي أنه منكر للرسل وعدو لجميع المسلمين ، يريق الدماء ويستحل الحرمات، وضربٍ من هذا اللغو الذي لا يجرؤ على التفوه به من رُزق حظاً من الإنصاف ، وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى؛ ولم يزالوا يتربصون به الدوائر حتى عام 1320هـ ، فسعوا فيه إلى ( عبدالوهاب باشا ) والي بغداد وكان حشويا عدواً لرجال الإصلاح، فكتب عنه إلى عبدالحميد ماشاء وشاء له الهوى وأقل ما جاء في كتابه: أنه يبث فكرة الخروج على السلطان، ويؤسس مذهباً يناصب كل الأديان، وأن تأثيره سار، وآخذ يوماً فيوماً في الانتشار. ويُخشى منه سوء المغية... إلخ ، فشالت نعامته وهوهو، وأمر حالاً بنفيه ونفي كل من يمت معه إلى الدعوة بنسب إلى بلاد الأنضول.(37/3)
فنفي هو وابن عمه ثابت بن نعمان الألوسي والحاج حمد العسافي النجدي من التجار الأتقياء مخفورين ، وما كادوا يصلون (الموصل) حتى قام أعيانها لهذا الإجحاف وقعدوا، وسعوا إلى عبد الحميد فأقنعوه بعد لأي ببراءته ، فأعيد هو وصاحباه إلى بغداد، بعد أن قضوا في الموصل شهرين لاقوا فيهما من الحفاوة ما يعجز عن شرحه اللسان ، ويكل دون تحبيره البنان ) . انتهى كلام الشيخ بهجة - رحمه الله - من كتابه " أعلام العراق " ( ص 98 - 101 ) .
قلتُ : وفعل السلطان عبدالحميد - رحمه الله - كان بتأثير المتصوفة الذين قربهم وآمن بخرافاتهم ، وعلى رأسهم أبوالهدى الصيادي ، وهذا ما أضعف الدولة العثمانية ، وسلط عليها أعدءها ، حتى مزقوها كلّ ممزق - كما هو معلوم - . والله المستعان .(37/4)
( الليبرالية وتقويض سيادة الإسلام ) .. كتاب أهديه للعقلاء والجهلة !!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا كتاب مفيد لكاتب غير محسوب على العلماء أو الدعاة ( الأستاذ عمرو جمال الدين ثابت ) ، ولكنه كاتب عاقل غير مخادع ، يسمي الأشياء بمسمياتها ، بيّن فيه أن الليبرالية تُقوض سيادة الإسلام ، وأن من يدعون إلى " ليبرالية إسلامية " جاهلون بحقيقة الليبرالية أو مغالطون ، اعتمد كتابه مركز علمي مشهور ؛ هو " مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية " ، أكتب عنه لفئتين :
الأولى : فئة الإخوة والشباب الجادين ؛ ليزيدهم معرفة إلى معرفتهم بتناقض الليبرالية مع الإسلام ، و يتبين لهم كذب من صعقته فتوى الشيخ الفوزان - حفظه الله - من أصحاب موضة " الليبرالية " - هداهم الله - . ( مع العلم أن السؤال الذي وجهته له لم يأتِ من فراغ ، إنما هو من واقع قراءات كثيرة في كتابات الليبراليين الأصليين ، لا المتخفين خلف الليبرالية الإسلامية ! ، ولدي شواهد على كل فقرة ذكرتها في السؤال ) .
الثانية : فئة الجهلة أوالمراوغين ممن يقلبون الحقائق ، ويُلبسون على الناس أن لا تعارض بين الإسلام والليبرالية .
وهذه بعض المقتطفات المهمة من الكتاب :
- ( وبما أن الإسلام يعد ديناً قائماً بذاته وذا مبدأ منهجي ذاتي المرجعية؛ فإن علمنته تعني بالتالي النجاح في إخضاعه. وسوف تحاول هذه الدراسة التحقق من دور الخطابات الغربية، وتحديداً الليبرالية، في تحدي سيادة الإسلام أو تقويض شرعيته، سواء بقصد أو من دون قصد ) . ( ص 8 ) .
- ( إن بعض الباحثين والدارسين المسلمين، وكرد فعل على إحساس مرضى متجذر في إطار أزمة عامة يعيشها المسلمون، قاموا بإسقاط التجربة التاريخية المعاصرة ( وتُقرأ غربية ) على الوحي تحت شعار " الإسلام الليبرالي " ) . ( ص 9 ) .(38/1)
- ( إن النظرية الاجتماعية بأشكالها المختلفة غير مهيأة بشكل مناسب للتعامل مع مظاهر الوحي في الإسلام، وبالتالي تحوِّله إلى ثقافة أو هيكل وظيفي تحل محله ضرورات مسيرة تقدم الحداثة أو ما بعد الحداثة، وإسلامٌ خاضع لمثل هذه الحيل والخدع يُصبح أقل علاقة بالدين وأكثر علاقة بالرأي الذي يعكس وجود "أكثر من إسلام واحد !" ) . ( ص 11 ) .
- ( أما النتيجة النهائية فكانت أن المسلمين اختزلوا أنفسهم في إطار التراكيب الثنائية الغربية، التي تمت صياغتها إلى حد كبير وفق متطلبات معركة الجدل الخطابي، وفي هذه الأثناء، تعرضت النصوص الإسلامية إلى تأويلات مستفيضة عن طريق فرض النقائض المتضاربة والمفترضة عليها، وعن طريق فتحها أمام مجموعة لا متناهية من المعاني التي لا يمكنها أو لا ينبغي لها أن تُنسب إليها. وهكذا، تمت محاربة الإسلام على أرضه ) . ( ص 13 ) .
- ( إنه إذا استخدم شخص ما مصطلحات مثل "الإسلام الليبرالي" أو "الديمقراطية الإسلامية"، فإنه من المشروع التساؤل : أين يمكن للمرء أن يجد مصطلحات "الليبرالية" أو"الديمقراطية" في المصادر الإسلامية الأولية أو الثانوية لتلبية شرط التماثل ؟ وإذا ما أراد أحدهم أن يدعي أن الديمقراطية الإسلامية هي "الشورى"، فإنه يحق لآخر أن يسأل عن سبب عدم استعمال المصطلح الإسلامي بكل ما فيه من دلالات ومعان بدلاً من ذلك ) . ( ص 19-20 ) .(38/2)
- ( كان من غير العملي بالنسبة إلى المنظرين الاجتماعين أن يشنوا هجوماً مباشراً على القرآن الكريم، ذلك الكتاب المبين الذي حفظه الله في لوح محفوظ وأثبت حصانته ومنعته في وجه العلمنة أو النقد الذي تعرضت له التوراة والإنجيل. وهكذا، فقد اتخذ الهجوم الضاري شكلاً مختلفاً من أشكال تقويض المؤسسات والتقاليد الإسلامية؛ إذ بالتشديد على أن الفكر الإسلامي هو مجرد تفسيرات وتأويلات، وبالتالي فهو مجرد معرفة إنسانية، أصبحت الأرضية مهيأة لتفسيرات وتأويلات "معاصرة" بديلة ) . ( ص 22 – 23 ) .
- ( إن الإسلام يظل دائماً في واقع الحال ديانة "مناهضة للعلمانية"، ومن الواضح أن هذا هو نوع المناهضة التي يسعى الليبراليون المسلمون المعاصرون إلى تجاوزها ) . ( ص 32 ) .(38/3)
- ( يعزو أحمد موصللي، في كتابه " البحث الإسلامي عن الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان " بوضوح نهضة الغرب إلى هذه المبادئ ويعرض هذه القيم باعتبارها علاجاً ناجعاً. وهذا يطرح التساؤل: هل أن هذه القيم هي حقاً أسباب صعود الغرب أم أنها آثار لبعض العوامل الأخرى؟ يمكن القول، من جهة أخرى، أن ديناميات التفوق الغربي قد وُجدت في فترة الحكام المستبدين والمطلقين، بل وفقاً لما يكل سوارد ، فإن الديمقراطية مثلاً لم تكتسب مفهوماً إيجابياً إلا في أوائل القرن العشرين. وباعتراف موصللي نفسه، أثبتت قيم التعددية والتسامح أنها كارثية في حالة الإمبراطورية العثمانية؛ إذ سمحت للقوى الأوربية باستخدام نظام الملل والتلاعب فيه من أجل تقويض الإمبراطورية وإنشاء مواطئ أقدام مهيمنة فيها؛ فعندما يختار أحد السلاطين اتخاذ إجراءات صارمة بحق الثوار من الأقليات غير المسلمة من أجل المحافظة على سلامة الإمبراطورية، كان يُتهم بالاستبداد والطغيان، وهي اتهامات استخدمت لتبرير التدخل الأوربي لاحقاً. وعلى العكس من ذلك، لم يتمسك الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن، الذي عرّف الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب وللشعب، بمثل هذه الأفكار والمُثُل عندما ألغى حق "الشعب" في الولايات الجنوبية بالانفصال ! دع عنك سياسات إبادة الهنود الحمر !! وكان الأول يدان باعتباره انعكاساً لـ"الاستبداد الشرقي"، أما الأخير فقد حظي بالتقدير والثناء باعتباره جزءاً من مسيرة التقدم ومبشراً بـ "المصير الواضح " ! ) . ( ص 42 – 43 ) .
ثم ختم الأستاذ كتابه أو بحثه بمقولة ذات دلالة :
( إن على المسلمين الليبراليين أن يعملوا بجهد أكبر لإثبات نزاهة طروحاتهم ! ) . ( ص 44 ) .(38/4)
وصف الشيخ أبوعبدالرحمن ابن عقيل للدولة السعودية (مع تعليق واقتراح مهم)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - وفقه الله - واصفًا حال الدولة السعودية مقارنة بغيرها من الدول الإسلامية التي ابتُليت بالاستعمار فترة من الزمن : ( والإغارة على شرقنا الإسلامي إغارة فكرية في الدرجة الأولى ، منذ حُل نظام الخلافة الإسلامية ، وانتُهبت تركتُها ، كما أن للصهيونية والصليبية تخطيطاً منظماً مدروساً لإبقاء شرقنا الإسلامي تحت الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي.. لا يمكن أن ينكر ذلك إلا من صمم بإرادة سلوكية حرة - لا بضرورة فكر- على أن يعزل نفسه عما حوله، وأهم ثمار هذا التخطيط جاء من قبل تحطيم إيجابية الفكر، وقد تجلّى ذلك في وسيلتين:
الوسيلة الأولى: إفساد القيادات والزعامات، وتربيتها تربية علمانية.. ، وعداء أغلب الزعامات للإسلام في بلادنا العربية والإسلامية حقيقة حسية مشهودة كلما استُحدِث زعيمٌ شغل الفراغ بالشعارات الكاذبة، مع ترديد العلمانية وترسيتها في حياة الناس وفي فكرهم؛ فإذا برم الضمير بتلك الشعارات، وسئم الاعتداء على مقدساته ؛ صُفِّيت تلك الزعامة بأي تدبير من وراء الكواليس، وأحل محلها زعامة جديدة لا سابقة لها ولا خطر ، إلا أنها رُبيت تربية معادية للأمة دينياً وعسكرياً واقتصادياً.. وهي تربية من وراء الكواليس أيضاً: تعيد حمى الشعارات السابقة، وتمتص غضب الجماهير بمراوغات جديدة ، وربما افتعلت لها المؤسسات الأجنبية نصراً عسكرياً مؤقتاً ومموهاً ضماناً لبقائها ، وما بُليت الأمة في هذه العصور إلا بعمالة القيادات وخيانتها.(39/1)
ويستثنى واقع التاريخ وضعاً حكومياً واحداً في جزيرة العرب : وهو الحكومة السعودية ، ليس في أي بلد عربي قيادة تساوي أو تقارب الواقع التاريخي لهذه الحكومة، بل كانت أعرق الحكومات على الإطلاق، وقد وُجدت قبل انحلال الخلافة الإسلامية في تركيا بما يزيد على قرن ونصف ، قبل أن يتفق الذئاب من الدول العظمى على التلاعب بكراسي الحكم والاستحواذ على ربائط تُربيها يد الأجنبي.. كانت هذه الحكومة من قرية من القرى الصغرى في نجد في مجتمع أمي عامي لم تمتد أساليب العمالة الأجنبية إلى فنائه، ولم تمخضه حركات الغارة الفكرية؛ لأنها لم توجد في الساحة بعد.. قامت هذه الحكومة والخلافة الإسلامية قائمة في تركيا ليس للأمم الكافرة أي سلطان على شرقنا، ولو وُجد لها سلطان لكانت الحكومة في الجزيرة آخر من يفكر في مداهنته؛ لأن النفوس مجبولة جِبلَّة فطرية وراثية على كراهة الأجنبي.. ولاسيما إن كان عدواً لله ، لم يصحب قيام هذه الدولة في مجتمع فقير أُميّ تأييدٌ أجنبي، ولا يد أجنبية، ولا تمثيل بين عواصم أمريكة وبريطانية وروسية وفرنسية؛ لأنه لم يقم لهذه الدول الكافرة سلطان يومئذ، ولأن خلافة تركيا المسلمة في نحورهم على الرغم من سلبياتهم الخانقة لأبناء ملتهم من العرب الذين لم تُكدِّر سلفيَّتهم البدعة والدروشة .. إنها حكومة قامت في جوها التاريخي الطبيعي داعية إلى الإسلام وتنقية المجتمع من شوائب البدعة والوثنية التي تراكمت مع أحقاب الزمن، وليس لهذه الحكومة أي موجّه فكري وافد؛ لأنه ليس في أرفف القوم غير القرآن الكريم، وكتب الفقه، والحديث، والتوحيد، والآلة ، بأقلام كبار السلف..(39/2)
لا يعرفون ولا يحسنون أصلاً غير ذلك، وظلت رقعة هذه الحكومة بين مدٍّ وجزرٍ ؛ تمتد بدافع الحماس للعقيدة كما في عهد عبدالعزيز الأول وابنه سعود، وتنكمش بتسلط الخلافة الإسلامية في تركيا بدافع الغيرة كما في عهد الإمام عبدالله ، أو بعامل الخلاف والتشاحن بين الأسرة ذاتها كما في عهد أبناء الإمام فيصل بن تركي رحمهم الله.. وقد عادت جميع الرقعة التاريخية في عهد الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وانتظمت القيادة بالدستور نفسه ، ومنذ ذلك التاريخ لم نجد وجهاً نشتبه فيه، والتعاقب على ولاية الأمر لم يكن من اللون الذي نرى فيه تصفية زعيم، واستحياء قزم، وإنما هو نظام تاريخي اختاره ولاة الأمر أنفسهم على نظام عريق سائد منذ قامت حكومتهم، وظل يكتسب شرعيته في كل مرحلة ببيعة المسلمين وتنظيم علمائهم وإلى الآن ، - والله المرجو أن يعصم مستقبلنا- لم يُمْلَ على شعبنا أي إيديولوجية وافدة، ولم يحصل اعتداء على حرمة الدين وحريته، واستمرت البيعة لأجله منذ عهد محمد بن سعود؛ فالكلمة للإفتاء والقضاء والدوائر الشرعية العليا، ولا تزال الدولة - ولن تزال إن شاء الله - جهة تنفيذ لدين الأمة وعقيدتها. هذا واقع تاريخ لم أبتدعه، وإنما نبَّهت عليه؛ لأنه برهان حاسم على أن نظامنا منَّا، وإنما يُخشى علينا الاستسلام للغارة الفكرية التي سأشرحها في الوسيلة الثانية من وسائل التدمير الأجنبي .. لقد رأينا خلال التهافت على الكراسي في البلاد الأخرى أكثر من سحنة، وأكثر من وجه، وأكثر من أسلوب للخداع .. ولكن الذي بقي ولم يتغير هو العلمانية في فصل الدين عن الدولة، وتربية الناشئة على الغُربة عن دينها، وبقاء الأمة خلال كل زعامة تطرأ عاجزة عن صُنع إبرة !(39/3)
و الوسيلة الثانية : التسلط على عقول المثقفين بأفكار من حيل ثقافية تؤمم كل إيجابية فكرية .. يظهر ذلك بربط مداخل جميع العلوم بمناهج فلسفية غربية معاصرة ، حطمت كل معايير الفكر الصحيحة الثابتة ، وهي مناهج ومذاهب متناقضة ما بين : حسبانية ، و اسمية ، و وضعية ، و وجودية .. وقممُ هذه الفلسفة المعاصرة ملاحدةٌ متسترون على يهوديتهم ، ولا يُنكر البروتوكولات الصهيونية إلا مغبون العقل .. ويظهر ذلك ظهورًا أدق ذكاء ، و أعوض تعقيدًا ، في أيديولوجية الأدب الحديث ، التي يتهافت عليها - بغريزة فطرية - معظمُ أجيال المثقفين .. ) . ( المدخل عن نظرية المعرفة ، 19-23 ) .
تعليق
1- صدق الشيخ أبوعبدالرحمن ، فبلادنا - ولله الحمد - قد حماها ربها من الاستعمار ، وصرف أنظاره عنها ؛ إلى أن اشتد عودها ، فآلم الكافرين انفلاتها من الوسيلة الأولى التي غزوا بها غيرها من بلاد الإسلام ، فلم يكن لهم بدٌ من محاولة غزوها بالوسيلة الثانية ، ولكنّ الله لهم بالمرصاد : ( كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ) ، مادامت متمسكة بشرعه ، مصداقًا لقوله : ( إن تنصروا الله ينصركم ) ، وقوله : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) .
2- بلادنا - ولله الحمد - ، حماها ربها من استيطان اليهود والنصارى ، وقد مهّد لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله - كما هو معلوم - ، لحكم ربانية ؛ من أهمها : أن استيطانهم فيها سيجعلها عُرضة لتدخلات الدول الكافرة بحجة حماية رعاياهم ! كما فعلوا بالدولة العثمانية ، حتى خلخلوها من الداخل . فتأمل حكمة الله ونعمته على هذه البلاد .(39/4)
3- بلادنا حباها الله بدعوة سلفية موحدة ، تآزر فيها السلطان والقرآن ؛ مما أحدث وحدة فكرية نُحسد عليها ، فمن دعا إلى تشتيتها بدعاوى التعددية وحرية الرأي.. الخ الزخارف الكلامية فهو ظالمٌ لنفسه ولها ، منكرٌ نعمةً تفتقدها كثير من الدول التي اغترت بتلك الدعاوى التي ما لبثت أن تحولت إلى أحزاب متناحرة . وقلة أهل البدع الذين يعيشون على أرض بلادنا آمنون مطمئنون على أنفسهم وأعراضهم ودمائهم ، ماداموا لم يُظهروا مخالفاتهم . مع أن المؤمل منهم أن يتوبوا منها ، ويلتزموا الإسلام الصحيح ؛ لأن فيه عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
4- ولهذا : فبلادنا ليست بحاجة إلى أفكار وتوجهات تُخالف شرع الله ، وتؤصل لتفرق المواطنين . ( سواء بتحزبات إسلامية أو قومية أو وطنية أو ليبرالية علمانية .. ) . فقد أغناها الله عن هذا كله بدعوة سلفية مُيسرة نقية ، تعتمد الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم . فعلى من أشغلنا بأحزابه ودعواته ( وإن سماها إصلاحًا ) ، أن يكفَ عن تفريق المسلمين ، لأننا لسنا بحاجة له ولأفكاره الهدامة ، وعليه أن يُعمل عقله إن كان جادًا في الإصلاح ، وليس طالب سُلطة أو شهرة ، في التالي 5و6 :
5- بلادنا بحاجة إلى مزيد من العقول النابهة والأعمال المتنوعة في مجالات الدنيا النافعة ، التي تضمن لنا - بعد الله - قوة تحمي البلاد من الأعداء ، وصناعة وتجارة وزراعة وإدارة .. الخ الأمور الدنيوية النافعة .. توفي متطلبات المسلمين ( إن لم يكن كلها فجلها ) ، وتنقلهم إلى حياة كريمة هانئة .(39/5)
6- أخيرًا : بلادنا بحاجة إلى مزيد من التناصح والتحاب بين الوالي والرعية ، يقوم كلٌ منهم بواجبه الذي سيُسأل عنه ، الوالي يعدل ويتلمس حاجات المواطنين ، ويحرص على إسناد الأمور لأهلها المأمونين في دينهم ونزاهتهم وولائهم ، ويحافظ على دين الأمة ؛ بمنع وسائل الإفساد ، والتضييق على المفسدين ، والرعية تحتسب الأجر في طاعته في غير معصية ، وجمع الناس عليه ، والدعاء له ، مع إسداء النصح والاقتراحات النافعة .
حفظ الله بلادنا ، وألزمها التقوى في جميع أمورها ، وأدام عزها واستقرارها وتآلفها ، ونفعها للمسلمين دعوةً وصدقات .
الاقتراح
عبارة عن وضع صندوق عام لاقتراحات المواطنين في مختلف مدن المملكة ( قصدي بالصندوق : مكان محدد ؛ إما موقع على الشبكة أو صندوق بريد ، أو رقم مجاني ، أو فاكس .. ) ، يُشرف عليه لجنة مُتخصصة في مختلف الشؤون الدنيوية ( علمية - اقتصادية - أمنية - .. ) . مهمة هذا الصندوق تلقي اقتراحات المواطنين التي تطرأ عليهم في سبيل حل مشكلة من المشاكل التي واجهتهم ، ومن المعلوم أن بعض المواطنين وهبهم الله ذكاءً ونباهة في مثل هذه الأمور ، قد لا تكون عند المختصين بها ، ولكنه لا يعرف كيف يُوصل اقتراحه ، فلهذا يوأد اقتراحُه في مهده ، ولوكان مثل هذا الصندوق موجودًا لانتفعت الدولة والمواطنون باقتراحه . ومهمة اللجان المشرفة على الصندوق : فرز الاقتراحات وانتقاء الناجح والفريد منها ، ثم رفعه للجهات العليا ، للنظر النهائي فيه وتنفيذه ، وسأبدأ بأول اقتراح يُرسل لهذا الصندوق !
وقفُ المواطن(39/6)
الجميع يعلم معاناة كثير من المواطنين المالية في السكن وغيره - خاصة الشباب المُقبل على الحياة - ، ولهذا لن أطيل فيه . ويعلم تأثير هذا على نفسيات الناس ، وسلوكهم ، ثم تعاطفهم مع أعداء هذه البلاد ، أو سلبيتهم تجاهها ، حتى قال واحد منهم : لا أذود الطيرَ عن شجرٍ * قد بلوتُ المرّ من ثمره ! ، ففضلا عن الأجر العظيم الذي ينتظر الوالي الرفيق بشعبه من هذا الوقف ، فإنه سيصرف كثيرًا من المحتاجين عن التأثر بالشرور بأنواعها . واقتراحي هو أن تُخصص الدولة - رعاها الله - مئة مليار من ميزانيتها الفائضة ، وتجعلها وقفًا - سواء كان الوقف في الداخل أو في بلاد مسلمة ، المهم أن يكون ريعه عاليًا ومستمرًا بإذن الله - يُصرف هذا الريع على المواطنين المحتاجين ، ( بناء مساكن أو سداد ديون أو غيرها ) ، ويكون استثمار هذا الوقف وتوزيع ريعه تحت إشراف ومتابعة دقيقة من أناس مأمونين في دينهم ونزاهتهم وسيرتهم ، برواتب مجزية . فإذا توقعنا أن ريع هذا الوقف سيكون على أقل تقدير - بحول الله - 10% أي 10مليار سنويًا ، فكم من المساكن الاقتصادية ستبنيها ؟ وكم من الحاجات ستسدها ؟ وكم من النعم والجزاء الأوفى من الله ستجلبها ؟ وكم من الشرور ستدفعها ؟ فكيف إذا كانت هذه المليارات العشرة ستتكرر سنويًا !! فما رأيكم ؟(39/7)
دكتورة لبنانية متحررة تكشف آخر أوراق دعاة التغريب!( مهم لكاتبات الصحافة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عندما رأت إحدى النساء المصريات ما جنته دعوة قاسم أمين التغريبية في المجتمع المصري ، كتبت تقول : " لم ينشد لنا نصيرنا قاسم أمين هذا الذي اخترعته المرأة وتفننت فيه، ولو كان يعلم الغيب لألقاها في غيابة السجن لا تخرج منه أبداً، أراد قاسم أن تتعلم المرأة وطلب مساواتها بالرجل " ! فقال الشيخ مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ، وكانت له جهود مشكورة في التصدي للتغريب في مصر بعد أن هاجر إليها – رحمه الله – قال رادًا على القول السابق : "ونحن نقف هنا وقفة فنقول للسيدة الكاتبة: بل هذا هو الذي نشده قاسم أمين وأضرابه من أنصار السفور، وكان كل من له عقل وخبرة بأهواء الرجال والنساء وميولهم الغريزية يعرف أن عاقبة السفور ستكون هذه المخازي، لأن فكرة السفور حصلت فينا تقليداً للغرب، وكنا عالمين بأن سفور المرأة الغربية غير مقتصر على كشف وجهها، ومما يدل على كوننا لم نتعظ بعد هذه التجارب المخجلة لدعاة السفور فينا ظننا بأن السفور في الغرب لا يتضمن تلك المخزيات المنافية للآداب والأخلاق، حتى أصبح كالعادة عند الذين يجلسون للوعظ والإرشاد من دعاة التجديد الذي فيه السفور وغيره أن ينبهوا على الفرق بيننا وبين الغربيين في الاستعداد للحرية، ويوصونا بمراعاة التدرج إلى أن نبلغ مبلغهم في العلم والرقي !! ولكن لا العلم والرقي، ولا أي شيء آخر يغلب الطبيعة البتة، فالسفور على حد انكشاف نساء الغرب - الذي هو قدوة الشرق اليوم- واختلاط المرأة بالرجال يكون لهما أثرهما الطبيعي إلا في النادر الذي لا يُبنى عليه الحكم، وليس التدرج في السفور، ولا الاستعداد له إلا تدرجاً في المفسدة، وإلا استعداداً لما ينجرّ إليه، فلا تغرَّنَّكم كلمات دعاة السفور المموهة، والقيود الاحترازية التي ذكروها لتبرير دعايتهم " .(40/1)
( قولي في المرأة ، ص 41-42 ).
قلتُ : صدق - رحمه الله - ؛ لأن الأمور التي تنبني على شهوات النفوس الفطرية ، لا يمكن ضبطها إلا بإحاطتها بسياج منيع يمنع الخطوة الأولى من خطوات الشيطان التي تتدرج بعدها الخطوات، وهذا ما فعلته الشريعة الربانية في موضوع المرأة ؛ حفظًا للمجتمع المسلم - رجالا ونساء - . ولهذا رأينا المفسد قاسم أمين كان يقاتل ويُصارع لإقناع المجتمع المصري بكشف الوجه ؛ لأنه إن تحقق فسيسهل مابعده ، وينتشر ما يريد بين العموم . والنادر لا حكم له . فمن ظن من الطيبين أن الأمر لن يتعد كشف الوجه ؛ لأنه سيضع له ضوابط كثيرة ، فهو واهم ، وقد رأينا من يحتج بقول فلان لا يأبه لضوابطه أبدًا .
يتساءل البعض - من الرجال والنساء - : ( إلى أين سيصل دعاة تغريب المرأة في خطواتهم ) ؟ أي : متى يصح أن نقول : إن المرأة الآن بلغت غاية التحرر التي لا مطلب بعدها ؟ هل المطلب النهائي أن تتحول إلى رجل في الخلقة ؟ لايمكن هذا ؛ لأنه مخالف لسنة الله الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل . ولا أظن عاقلا سيطالب بهذا ؛ للسبب السابق ، ولأنه لو غالط وقال يمكن ذلك بواسطة الطب ! ، فسننزل لمستواه العقلي ، ونقول : هذا لو حدث فمعناه انقراض نوع الإنسان ؛ لعدم وجود من يحمل ويلد !(40/2)
إذًا نعود إلى سؤالنا الأول .. كشفت المرأة وجهها ، فهل هذا يكفي ؟ لا .. فقد جاء من يطالب بعد الكشف بالاختلاط . اختلطت ، هل هذا يكفي ؟ لا .. جاء من يطالب بالحقوق السياسية . شاركت ، فهل هذا يكفي ؟ لا .. وهكذا .. لن ترض المرأة " المتمردة " مهما زاحمت الرجال ؛ لأن الشعور بالتفاوت سيبقى في نفسها ، وإن كابرت ، و لم تعترف بذلك . إلا أن تخالف سنة الله الكونية ، وهذا لا يمكن . فكان الأولى بالمرأة العاقلة أن ترضى باختيار الله ، وتوقن أنه حكيم عادل ، لا يظلم مثقال ذرة ، وأن وجود الزوجين - في كل شيئ - مهم لاستمرار الحياة ، وطبيعتها . وأن هذا لا علاقة له بأمور الإيمان في الدنيا والآخرة . فمن تحقق منه الإيمان والعمل الصالح ، فسيعيش ( حياة طيبة ) - كما أخبر الله - ، سواء أكان امرأة أو رجلا . وهكذا في الآخرة ، سيدخل الجنة دون نظر إلى جنسه . ولهذا قال الله تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض . للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن . واسألوا الله من فضله ) . وللزيادة عن هذه المسألة المهمة لنساء كثيرات ، يُنظر ( هذا الرابط ) .
أما المرأة المتمردة المستكبرة عن شرع الله وحكمه الكوني ، فستلهث وراء السراب ، وستسير مع خطوات الشيطان ، كلما انتهت من خطوة انتقلت إلى ما بعدها ؛ لأنها لم تجد ولن تجد ما تؤمل من " التحرير " ( لأن التحرير الحقيقي والاستقرار النفسي لا يأتي به إلا الإيمان والتسليم لأمر الله والرضا ) ، وهكذا ستتنقل مع خطوات التحرير الشيطانية إلى أن يكون حالها - إن استمرت في الإيغال بهذا الطريق - كحال الدكتورة إلهام منصور .
فما هي قصة الدكتورة إلهام منصور ؟(40/3)
هي امرأة لبنانية ، استهوتها حركة تحرير المرأة ، فخطت فيها خطوات كثيرة - كما هو حال لبنان إلا بقية من أهل الإيمان - ، ولكن كل هذا التحرير المزعوم الذي حدث في لبنان لم يُرضها ويورثها السكينة والاطمئنان ! ( كشف وجه ، بل كشف غيره ! ، واختلاط ، وسياسة ، وغناء ، وتمثيل ، ورقص ... الخ الخطوات ) . لهذا فقد ألفت - قبل سنوات - كتابًا بعنوان : ( تحرير المرأة في لبنان ) !! ولا أدري ما الذي بقي من خطوات التحرير لم تبلغه لبنان ؟ ولكن من قرأ الكتاب عرف الخطوة الأخيرة - كما أظن - التي سيوصلها التدرج في التحرير المزعوم لا محالة ، ولو من البعض الجريئ .(40/4)
قالت في هذا الكتاب ( ص 197 ) : ( الدين هو أول عائق خارجي في سبيل تحرير المرأة ) . ثم تتجرأ أكثر وتخطو خطوة شيطانية ( ص 211) لتقول : ( المشكلة الأساسية بالنسبة للدين الإسلامي هي مشكلة النصوص ، أي في كونها مُنزلة ، فهذا مما يجعل تحرير المرأة المسلمة أصعب بكثير من تحرير المرأة المسيحية ، وثورة المرأة المسلمة يجب أن تكون أعنف وأقوى من ثورة المرأة المسيحية ؛ لأنها ستقوم ضد النصوص ) ! ثم تجهر بخطوتها الأخيرة ( ص 340 ) قائلة : ( لا تُمارس المرأة اللبنانية حقوقها هذه ؛ لأنها محرومة من الحق الأساسي ، أي حق التحرر الجنسي ، والعلائقي ، الذي مازال وقفًا على الرجل ، وحقًا له وحده .. والمجتمع اللبناني الذي يحجب عن المرأة أي حق بإقامة علاقة جنسية خارج الزواج يُرغمها إما على الانحراف لإشباع حاجاتها بطرق وأساليب غير طبيعية ، وإما أن تلجأ إلى الكبت .. ، أو تلجأ لأساليب الجنس الشاذة ؛ كالسحاق ) !!! وتقول ( ص 346 ) : ( أول ما يُقصد بالتحرر الجنسي ؛ هو المطالبة بعدم دمج الأخلاق بالجنس ) ! ثم تحاول أن تطمئن اللبنانيين أن هذا التحرر الجنسي ( الزنا ) لن يؤثر على العائلة ! لأنه سيكون مُنظمًا !! إذن فقد رمت هذه المتحررة المتمردة بآخر ورقة ، وخطت آخر خطوة في ميدان تحرير المرأة ، وهو دعوتها ((( لإباحة الزنا ))) ، لأنها تراه من متطلبات دعوة التحرير . وفي هذا عبرة لكل امرأة مسلمة خطت خطوتها الأولى أو الثانية أو الثالثة على هذا الطريق الموحش مغترة بزخارف أهله ، أن تعود إلى رشدها ودينها ، قبل أن تنتقل الخطوة من مجرد كونها معصية ؛ بكشف وجه أو غيره ، إلى أن تُصبح (( ردة )) عن دين الله ؛ إذا ماهي بدأت في الاعتراض على نصوص الوحي ، وتجرأت على أحكام الشريعة .(40/5)
فالأمر خطير ؛ خاصة بالنسبة لكاتبات الصحافة - هداهن الله - ، اللواتي يخضن في دين الله دون علم ، إنما لمجرد الخوض ، أو التلبيس ، أو مشاقة أحكام الشرع بدعوتهن التمردية . فليتقين الله ، وليتذكرن قوله تعالى عن أهل النار : ( ما سلككم في سقر .. وكنا نخوض مع الخائضين ) ، وقوله : ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون ) .. أسأل الله لهن الهداية والتوفيق ، وأن يُسخرن أقلامهن فيما ينفعهن بعد الممات . والله الهادي .(40/6)
( العَلمانيون والقرآن ) : كتابٌ جديدٌ يهم بعض كتاب الصحافة السعودية ..
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صدر عن دار ابن حزم بالرياض قبل أيام كتابٌ مهم ، بعنوان : " العَلمانيون والقرآن الكريم - تاريخية النص " ، للدكتور السوري أحمد بن إدريس الطعّان ، المحاضر بجامعة دمشق ، في حوالي 900 صفحة . وتكمن أهميته في عرضه لأقوال أساطين العَلمنة في العالم العربي ، ممن جهروا بعَلمنتهم ، وتجرأوا على قداسة نصوص الكتاب والسنة ، تحت ذريعة الدعوى الشيطانية : " تاريخية النص " ، التي توصلوا من خلالها إلى التنصل من كثير من أحكام الشريعة . وهذا ماسيصل إليه أشباههم في هذه البلاد ، ممن زهد في دعوة الكتاب والسنة ، وآثر السير وراء أفكار أولئك العَلمانيين المجاهرين ، من أمثال أركون ونصر أبوزيد .. وغيرهم . فكتاب الدكتور مهم لهم ؛ لعلهم - من خلاله - يُدركون نهاية الطريق ، فينتهون، ومهمٌ لمن يريد أن يعرف أفكار القوم - نشأة وتطورًا - . والله الهادي .
من أقوال المؤلف
( إن توظيف علوم القرآن لتأكيد وتكريس واقعية القرآن ليس أمراً مرفوضاً، ولكن الواقعية التي يريدها الخطاب العلماني ليست هي الواقعية القرآنية، وإنما الواقعية العلمانية ترفض في حقيقة الأمر الانضواء تحت أي نص، أو الرضوخ لأي مُقدّس ؛ لأن هدفها الأساسي هو التحرر من سلطة النصوص ؛ لأن قال الله وقال الرسول ليس بحجة . ومن هنا فإن الصدام في أوج الاحتدام بين الواقعية القرآنية، والواقعية العلمانية ؛ لأن كلاً منهما تريد أن تكون الهيمنة لها، والسيادة والحاكمية بيدها ) . ( ص 543 ) .
( لم يكن هدف الخطاب العلماني من استخدامه للمفاهيم الإسلامية في دراساته هو البقاء في إطار الإسلام، والانضواء تحت مبادئه وهدايته وإنما الهدف هو:(41/1)
التحلل من المرجعية القرآنية ، دون مجابهة صريحة مع الفكر والرأي العام الإسلامي، وذلك بتوظيف مفاهيم ذات أصول قرآنية ، ولكن بعد تفريغها من مضامينها الحقيقية ، وحشوها بمضامين علمانية فكرانية حُددت سلفاً. وتؤدي هذه المفاهيم وظيفة استئناسية للعقل الإسلامي، لأنها مفاهيم مألوفة لديه ، ومن داخل نسقه الأصولي، وهو ما يبدد عن الأفكار المستوردة التي ستُسقَط على القرآن الكريم باسمها كثيراً من غرابتها. وبذلك يكون الخطاب العلماني قد استدرج الإسلاميين لتقبل أطروحاته ، أو على الأقل مهد الأرضية الثقافية والفكرية لتقبلها في المستقبل ) . ( ص 595 ) .
( لا تختلف لسانيات أركون عن أدبيات أبي زيد ، فالغاية جميعاً واحدة ، وهي زحزحة قداسة النص وطمس البعد الإلهي فيه، ودمجه في مجموعة النصوص المعاصرة له ، ليكون منتجاً ثقافياً ، أما أن يظل الإيمان بالله عز وجل كمنزِّل للنص، وقائل له ، قاراً في شعور القارئ وكيانه ، فهذا ما يسعى الخطاب العلماني إلى التحرر منه ؛ لأن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية - حقيقة كونه منتجاً ثقافياً - ، ويعكر من ثَمّ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص ) . ( ص 719 ) .
غلاف الكتاب(41/2)
هذه المرة من ( الكويت ) .. جاء التحذير والرد على ( الكوثري )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لقد ضج علماء وفضلاء العالم الإسلامي من رأس الجهمية في هذا العصر ( الكوثري ) ؛ بسبب عدائه للسنة وأهلها ، وأكاذيبه وافتراءاته عليهم ، فأبدى كثيرون رأيهم فيه ، وهو ما أقوم بنقل ما أظن أن كثيرين لم يطلعوا عليه ، بين حين وآخر ؛ ليُعلم أن التحذير منه ومن مسلكه قد جاء من ديار متفرقة في العالم الإسلامي ، وليس مقصورًا على بلد منها .
وهذه المرة جاء النقد للكوثري من ( الكويت ) ، على يد شيخها عبدالعزيز الرشيد – رحمه الله – ، حيث قال في مجلته " الكويت " ( ص 824-828 ) :
ذيول طبقات الحفاظ للذهبي
ورد إلى إدارة "الكويت" ثلاث ذيول لطبقات الحافظ للحافظ الذهبي مهداة من بعض الأفاضل إليها ( الأول ) ذيل تذكرة الحفاظ لتلميذه الحافظ أبي المحاسن الحسيني الدمشقي المتوفى 765هـ و( الثاني ) لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحافظ للحافظ أبي الفضل محمد بن محمد بن فهد المكي المتوفى 871 و( الثالث ) ذيل طبقات الحفاظ للذهبي لجلال الدين السيوطي المتوفى 911.
وقد جمعت هذه الذيول الثلاثة في مجلد واحد وعليها كثير من التعليقات لمحمد زاهد الكوثري ، وهي حواش دس فيها السم بالدسم ، وابتعد عن الحقيقة في غالبها بعد المشرق عن المغرب ، تعليقات جعل همه الوحيد فيها الطعن البذيء بعلماء السلف الصالح عامة وبالحنابلة خاصة ، ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته المحققين ، فتراه لا يترك فرصة تمر به إلا وينتهزها في الحط من كرامتهم وتوهين أمرهم وتنفير الناس منهم ، ولكن هيهات أن ينال منهم ما يتمناه أو يدرك ما يبتغيه.(42/1)
وقد يغتفر لزاهد كل هذا الإغراق في التعصب لو كان استناده على حقائق راهنة فيما ينسبه إليهم لا مطعن فيها ، ولكن العجب أن يحاول إثبات مثالب لهم بما هو في الحقيقة من مناقبهم ، ويحاول أن يبرز لهم سيئات لا وجود لها إلا في مخيلته الفارغة ، ويهون كل هذا أمام محاولته الخبيثة في إلصاق العيوب الفاضحة ببعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم ، وغمزهم في دينهم ؛ كعبدالله بن عباس رضي الله عنه حبر هذه الأمة وترجمان القرآن.
وإني إزاء هذه الفواقر القاحمة منه أكاد أجزم بأنه قنبلة الحادية أرسلها دعاة الإلحاد بعد أن علموا أن القضاء على قواعد الدين المحكمة لا يمكن إلا على أيدي أهله المتلبسين ممن انتسب إليه ظاهراً وقد اضمر له السوء ؛ أمثال الكوثري ، لا على أيدي متجدديهم الطائشين الذين نبذوا الدين جهاراً ، فلم تخف حقائقهم حتى على الغر البليد ، أكاد أجزم بهذا بلا تردد ؛ لأن تهوين الطعن على أكابر الصحابة رضي الله عنهم والتشهير بأعلام الأمة المجددين بعدهم بمثل لهجة الكوثري الجافة لا يفهم منه حتى الجاهل إلا هذا ، مهما أراد أن يحسن الظن به وينتحل له عذراً يبرر به تهجمه ، زيادة على أن أثر هذا الطعن عند أعداء الإسلام أعظم من كل أثر ، وفائدته لهم إذا صح أن يؤخذ حجة عليه أكبر من كل فائدة ، ولا أحسب هذا الغر يجهل أن المبشرين قديماً عمدوا إلى هدم السنة النبوية التي هي قسيمة القرآن بالطعن في رواتها من الصحابة أمثال أبي هريرة وعبدالله بن عمر وغيرهما في اعتراض خبيث ، وفق الله إلى أجابتهم عليه مجدد هذا العصر الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الغراء ؛ فألقمهم بتحقيقه فيه حجر السكوت ، وبيض وجه الحق وأهله.(42/2)
يقول الكوثري في تعريفه البارد بابن عباس رضي الله عنه وبشيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على قول ابن فهد في ترجمة المنصفي الحنبلي أنه حصلت عليه محنة بسبب ما أفتى به في مسألة الطلاق ما يأتي ص 186 ( من أن إرسال الطلقات الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة حشد ابن تيمية حول تأييد هذه الفتوى ما هو نموذج لتمويهه بما لا ينخدع به إلا ضعفاء النظر ، وليس عنده لدى النقد ما يكون شبه دليل على مدعاه ، وكاد وقوع الطلاق الثلاث أن يكون من مواطن الإجماع بين الصحابة حتى عند ابن عباس على ما ثبت بطرق عنه. وأما ما يرويه مسلم عنه فيما انفرد به عن البخاري من أن الثلاث كانت واحدة ففيه أولاً أن لفظه محتمل ، وعند الاحتمال يسقط الاستدلال. وثانياً أن ظاهره المفروض خلاف رواية جماعة من الإثبات عنه ، فيكون من الشاذ المردود على تقرير تسليم أن فيه بعض دلالة. وثالثاً : أنه خلاف مذهبه المتواتر عنه فيكون مردوداً أيضاً عند كثيرين ، منهم أحمد كما بسط ابن رجب في شرحه علل الترمذي. ورابعاً : أن طاوساً مع كونه من الملازمين لابن عباس روى ذلك بواسطة من غير لفظ يفيد االسماع. وخامساً : أن الواسطة أبو الصهباء وهو إن كان من موالي ابن عباس فمجهول ، وإن كان من غيرهم في طبقته فضعيف.وسادساً : إن في بعض طرقه خاطب أبو الصهباء ابن عباس بقوله : هات من هناتك ، وجل مقدار ابن عباس أن لا يرد على هذا السائل قوله. وسابعاً : أن ظاهره إقرار منه بأنه من هناته المردودة وقد شهر بين سلف العلماء وخلفهم حكم رخص ابن عباس الخ اهـ كلام الكوثري .
وأنا لم أنقل هذه العبارة برمتها عن هذا الرجل إلا لبيان خبث ما يضمره لأكابر الصحابة رضي الله عنهم وأعلام هذه الأمة ، وليقف الناس على تدليسه الظاهر فيما ينقل ويقول ، وعلى بعده عن التحقيق الذي رفع غيره إلى منصة الإعجاب ، وليعرفوا قدره في كل ما يدعيه من إتقان وإطلاع.(42/3)
وستعمد ( الكويت ) إن شاء الله تعالى إلى إبراز مخازيه التي موهها على بعض أهل الفضل ؛ فانخدعوا بها برهة من الزمن لسلامة نياتهم.
أما الآن فيطول بي البحث لو أردت مناقشته في كل عباراته التي يضرب بعضها رقاب بعض ، وإنما الذي لابد من التنبيه عليه هو بيان تهجمه الثقيل على حبر هذه الأمة رضي الله عنه ، وليس غرضي من مناقشته في هذه النقطة إلا الدفاع عن ترجمان القرآن لا تأييد مذهب شيخ الإسلام بن تيمية في الطلاق الثلاث ، فإني مع إجلالي لقدره ووقوفي في وجه من يحاول النيل منه لا أوافقه عليها لأسباب ، ليس منها الطعن في دينه كما يحاوله الكوثري بلا خجل ولا حياء ، فابن تيمية مجتهد من أئمة الإسلام وللمجتهد منهم أجران وأجر في أحكامه ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتهد الحكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد واخطأ فله أجر " ، ولا غمز ابن عباس بأمانته التي لم يخف الله بها الكوثري في تدنيس قلمه ، والتي سيصبح بعدها مُثلة أمام الناس .
فأقول وبالله التوفيق : إذا كان مذهب ابن عباس المعروف عنه بالتواتر أن الطلاق الثلاث بلفظة واحدة تعتبر ثلاثاً ، فما هو حينئذ المسوغ للنيل من شرفه بقول لم يقله ، وما هو المبرر لأن يجعل هذا القول الضعيف عنه في عداد رخصة التي نهى العلماء عنها ، وحذروا من العمل بها ؟ وهل يصح للعلماء المحققين أن يحذروا من قول مكذوب على صاحبه بحجة ما عرف عنه من تساهل ؟
وأيضاً : فكيف ساغ للكوثري أن يجعل أبا الصهباء واقفاً بين درجتي المجهول أو الضعيف ؟ وعلى أي استناد كان هذا التردد منه ؟ ومجرد كون الرجل مولى لا يلزم منه أن يكون مجهولاً أو ضعيفاً ، فكم في الموالي من فاق الأسياد والأحرار.(42/4)
على أنه من المستبعد جداً إذا كان أبو الصهباء من موالي ابن عباس أن يخاطبه بتلك العبارة الخشنة التي تستغرب ممن هو أحط من أبي الصهباء في علمه مع مثل ابن عباس في جلالته ، وهل بلغ سقوط قدر حبر هذه الأمة إذ ذاك أن يغمز بمثل تلك المغامز الحادة حتى من مواليه.
ثم قد يكون أمر هذه ( الهنات ) سهلاً لو كانت من ( هنات ) ابن عباس نفسه ومن اختياراته وحده ، فيقال حينئذ : اجتهد الرجل فاخطأ ، ولكن ماذا يقول ( زاهد ) وحديث مسلم الذي أشار إليه هو أن أبا الصهباء قال لابن عباس رضي الله عنه : ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه ترد إلى واحدة ؟ قال : نعم .
ماذا يقول الكوثري وتصديق ابن عباس لقول أبي الصهباء هذا يعد كالاعتراف منه ؟ وحاشاه الافتراء على الله ورسوله ، وعلى أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، ماذا يقول وقد طبل وزمر لإثبات لفظة ( الهنات ) في ذلك الأثر الذي يلزم منه إثباتها فيه ؟ومن إقرار ابن عباس لأبي الصهباء عليها أن يكون ما نسبه للرسول صلى الله عليه وسلم ( هناة ) ؟ والكوثري يعلم ما تنطوي عليه هذه اللفظة من بشاعة وشناعة ، وهل رجل بلغ به التساهل إلى هذا الحد حتى مع الرسول صلى الله عليه وسلم يكون أهلاً لأن يؤخذ عنه ، وأهلاً للثقة التي فاز بها من أئمة الإسلام أمس واليوم.
وقد كان للكوثري مندوحة عن كل هذه التمحلات المفضوحة بأن يحكم على حديث ابن عباس بعدم الصحة لا غير ، لو كان من سلامة النية وحسن القصد كما يدعي ، ولكن ضغينته الكامنة على هذا الحبر وعلى حملة الشريعة الإسلامية زجت به إلى هذا المأزق الحرج.(42/5)
أما تدليسه الذي أراد أن يخفيه فلم يستطع ، فاقتصاره من حديث مسلم على ما تقدم ، وحذفه منه باقيه الذي نبهنا عليه ، وغرضه من هذا الاقتصار إيهام القارئ أن هذا رأي خاص لابن عباس لا قول للنبي صلى الله عليه وسلم جرى الناس عليه مدة حياته وحياة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنهم ؛ ليسهل بهذا كله أمر المطاعن التي عمد إلى توجيهها للحبر من أنها من رخصه التي حذر العلماء منها ، ومن هناته التي عرفت عنه في آرائه المتطرفة !
ألا فليعلم الكوثري أن دسائسه الخبيثة قد أصبحت معلومة عند كل أحد من طلاب الحق ، وأن الغيورين من أبناء هذا العصر سيقعدون له كل مرصد ، وسيكيلون له الجزاء الأوفى انتقاماً منه في تعرضه لمن برأهم الله مما قال ، من أئمة الإسلام وحماته.
ثم يقال له أيضاً : إنك بتهجمك على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته المحققين في مثل هذا اليوم الذي تبينت فيه حقائقهم الناصعة للصغير والكبير قد جئت متأخراً ، وفي يوم لم يعد لإثارتك العواصف حولهم بالذي يجديك نفعاً وفائدة ، فقد انتشرت مؤلفاتهم النفيسة التي علم كل منصف كان يعتقد فيهم السوء قبل أن يطلع عليها أنه على خطأ فيما قاله فيهم واعتقده ، فتاب إلى الله وسأله العفو والصفح.
جئت ( يا أستاذ ) في وقت غير ملائم لنشر أضاليلك والاغترار بأباطيلك ، وقد أصبح شيخ الإسلام فيه لا يُذكر إلا بكل تجلة واحترام ، وكادت كلمة الكل تتفق على أنه هو عالم الإسلام الفذ ، وسيفه البتار الذي يقطع به عنق كل مبتدع ضال ، وهذا قليل في حق رجل كانت مؤلفاته الغالية هي النبراس الذي سار على ضوئه معلمو هذا العصر في هد كل بدعة ألصقت بالدين ، وحل كل إشكال وُجه إليه وإلى تعاليمه المقدسة.(42/6)
جئت بعد أن مضى أقرانك الذين ملأوا الدنيا صياحاً وتهويلاً ضده وتلامذته ، فصادف صياحهم إذ ذاك قبولاً من قوم لا يعلمون ، فعليك وقد جئت في هذا اليوم الذي أصبحتَ فيه فريداً وحيداً لا معين ولا نصير أن تندب حظك السيئ ، وطالعك النحس الذي من جرائه ستقع في حيص بيص ولابد :
هذا جزاء امرءًا أقرانه درجوا *** من بعده فتمنى فسحة الأجلِ(42/7)
نصيحة الشيخ محمد سرور .. لسعد الحريري ( هل تصل له ؟ )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذه نصيحة من الشيخ محمد سرور إلى سعد الحريري - وفقهما الله للخير - ، دله فيها على مافيه مصلحة أهل السنة في لبنان ، الذين كان لهم حكم البلاد في يوم من الأيام ؛ إلى أن سلبته منهم فرنسا ، التي مكنت للنصارى ، واشترطت قبل رحيلها أن يكون رئيس الدولة اللبنانية " نصرانيًا " بموجب الدستور ، مكافأة منها للمارون الذين كانوا طابورًا خامسًا لها ؛ في إسقاط الدولة العثمانية ، إضافة إلى إحيائها للفرق المنحرفة ، ودعمها ؛ لتزاحم أهل السنة ، وتُشغلهم . فهذه النصيحة تأتي - في وقت عصيب - لتدعو أهل السنة في لبنان - وعلى رأسهم أبناء الحريري - إلى التعلم من تجارب الماضي ، والحرص على ما يجمع أهل السنة ، ويُكتلهم أمام أعدائهم ، ويُعيد لهم - بإذن الله - الحق المغتصب .
قال الشيخ محمد سرور في كتابه الجديد : "اغتيال الحريري " ( ص11- 15) :
( ولأبناء الحريري نقول: لقد أغناكم الله بعد فقر مرير، وجعلكم سادة لبنان بعد أن كنتم نكرات لا يطمح أحد من عائلتكم المتواضعة أن يكون وكيل وزارة، بله أن يكون رئيس وزراء لبنان، ورجلاً مرموقاً في العالم، فلا تركنوا إلى أنفسكم وأموالكم وتتناسوا حق الله عليكم.
سبقكم والدكم في هذا الطريق، وهو كأي إنسان -خاض تجربة- ، له وعليه، وقد تحدثتُ في كتابي هذا عن أهم أعماله الطيبة التي استفاد منها الناس جميعاً، كما تحدثتُ عن بعض أخطائه، فاقتفوا أثره فيما قدم من أعمال جليلة، واحذروا أن تقعوا فيما وقع فيه من أخطاء.
ولن ينسى الناس في لبنان لأبيكم تدريس أكثر من ثلاثين ألف طالب على حسابه الخاص تخرجوا من أشهر الجامعات الأجنبية، ومئات منهم حصلوا على شهادة الدكتوراه، ولن ينسوا أيضاً زكاة أمواله التي يوزعها سنوياً على الفقراء، وهذا مما ينبغي أن تفخروا به، وتكونوا خير خلف لخير سلف في عمل الخير.(43/1)
ولكن ليكن معلوماً لديكم أن إيران تقدم لطائفة الشيعة عامة، ولما يسمى بحزب الله خاصة أكثر من ميزانية دولة، وتقدم كل من إيطاليا وفرنسا وكثير من الدول الغربية والأمريكية لمؤسسات النصارى المساعدات الوفيرة، أما أهل السُّنة فليس هناك من يتبنى مؤسساتهم التعليمية والخيرية، ولا يخفى عليكم ما آلت إليه أحوال جمعية المقاصد الإسلامية بعد تغريب الزعيم صائب إسلام، ثم موته..فهل يسد أبناء الحريري هذه الثغرة ، ويضاعفوا من المساعدات التي تقدم لأهل السُّنة ؟
ما يسمى بحزب الله هو الذي يتولى قيادة الطائفة الشيعية، وهو حزب عقائدي شعوبي، ومصالح الطائفة الشيعية وإيران بالذات مقدمة على مصالح لبنان والعرب.
وفي كل مسألة تتوحد كلمة علمائهم وزعمائهم رغم ما بينهم من خلافات في الرأي الذي يقرره الحزب.
والمطارنة هم المرجعية التاريخية والروحية للنصارى، وهذه الروحية تتحول في معظم الحالات إلى سياسية.
أما أهل السُّنة فقيادتهم منذ استقلال لبنان علمانية، وعندما جاء رفيق الحريري إلى الحكم ارتكب بحقهم خطأين فادحين؛ أما الخطأ الأول: فيتمثل في القائمة التي كان يختارها كنواب ووزراء ومستشارين، فليس بينهم من كان يتبنى الإسلام عقيدة وسلوكاً وشريعة ونظام حياة.
أما الخطأ الثاني : فقد نالهم في عهد حكوماته أسوأ أنواع الظلم والاضطهاد، ولم يحاول رفع الظلم عنهم في أي موقف من المواقف، فكان وكأنه لا ينتسب إليهم.(43/2)
يا أبناء الحريري...ويا سعد الحريري...ويا تيار الحريري...: إياكم ثم إياكم أن تخطئوا في قراءة الأحداث، وفي فهمها..فها قد مضى عام على الحكومة والمجلس النيابي وأنتم تمثلون الأكثرية في كلٍ منها، ومع ذلك فما يزال أهل السُّنة يتعرضون للتهميش والظلم ؛ وكأن جيش الغزاة الباطنيين لم يخرج من لبنان، وإليكم الدليل: استقبل المفتي الشيخ رشيد قباني أهالي الموقوفين في أحداث الخامس من شهر شباط عام 2006م ، وأهالي موقوفي الطريق الجديدة في حضور مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو، ورئيس هيئة رعاية السجناء وأسرهم في دار الإفتاء القاضي الشيخ محمد عساف، ومحامي الدفاع عن الموقوفين وحشد من العلماء.
وبعد أن شرح أهالي الموقوفين معاناة أولادهم من التعذيب والإهانات والإساءة إلى الكرامة البشرية والإنسانية، مما يتناقض مع حقوق الإنسان والقوانين الدولية، أدلى المفتي بالبيان التالي:
" لقد اطلعنا على أساليب التعذيب الإرهابية التي لم نسمع بمثلها في سجن "أبو غريب" على أيدي الأمريكيين المحتلين في العراق، الكهرباء، الضرب، التصرفات الداعرة اللاأخلاقية ، كلها تمارس مع الموقوفين في لبنان، أنا أطلب طلباً واحداً من جميع المسؤولين - وممن ذكر من بين هؤلاء رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ووزير الداخلية أحمد فتفت- أن يأتوا لدار الإفتاء ليتكلموا مع مفتي الجمهورية حتى نرفع الظلم ، إذ لا زالت بقايا الجهاز الأمني السابق في لبنان تعيث فساداً في أكثر الإدارات، وأضاف : لن نقبل بعد اليوم باستمرار فتح ملفات الموقوفين لأهل السُّنة في لبنان، ولن نقبل باستمرار التأجيل والمماطلة فيها - وختم بيانه بقوله - : فإن لم يتحقق ما نطالب به، فسوف أدعوا أهالي الموقوفين إلى اعتصام مستمر في دار الفتوى ليلاً ونهاراً، وفي مرحلة ثانية إن لم يتحقق شيء من ذلك فسوف أدعوا جميع المسلمين للاعتصام في دار الفتوى ".(43/3)
هذا البيان ، بل هذه الصرخة المدوِّية تأتي من مرجعية أهل السُّنة، ومن علماء كبار أخلصوا لأبيكم غاية الإخلاص ، وتجاوزوا عن أخطائه نحو بني دينه، وأخلصوا لكم من بعد أبيكم، وحملوا أهل السُّنة على انتخاب قائمتكم في يوم فاصل، وتعرضوا لحملة ظالمة من خصومكم داخل الطائفة السنية.
فمن لكم بعد هؤلاء العلماء الذين يمثلون نبض الشارع السني ! وهل تعيدون تقويم تجربتكم في الحكم، وأنتم لا تزالون في بداية الطريق ؟
يا سعد : اعلم وأنت لا تزال في شبابك وحداثة تجربتك أن الشارع السني لن يُساق كما كان يساق بالأمس، فقد شب عن الطوق،ولن يرحمكم يوم الانتخابات القادمة ما لم تستجيبوا لنبضه وترفعوا سيف الظلم عن كاهله، ومرة أخرى أقول : لا تخطئ يا سعد، في قراءة الأحداث ولا يخدعنك المستشارون العلمانييون الذين يحيطون بك، ولن ينفعك وليد جنبلاط، ولا سمير جعجع وأمثالهما.
يا سعد: إن فضائية المستقبل تُقدم لمشاهديها دليلاً فاضحاً على فساد مؤسساتكم، فلماذا الإصرار على ذلك ؟
وللمسلمين السُّنة نقول :
منذ أمد طويل ونحن ندعوكم إلى توحيد صفوفكم وإصلاح ذات البين بينكم، ولكننا اليوم لا نرى شيئاً مهماً قد تغير، فلا تزال الفوضى هي الفوضى، والخلافات تتوسع وتترسخ، وبعض المنظرين فيكم، يجيدون فن الهروب إلى الأمام، ويتمسكون بقول القائل ( عنزة ولو طارت ) ، ويرون ما صنعه الباطنيون في لبنان -إن اعترفوا به- ليس أكثر من أخطاء، ومن ثم فهم لا يدخرون وسعاً في التزلف لهم، وفي الثناء عليهم.(43/4)
يا حكماء أهل السُّنة : كان الشيعة في لبنان متفرقون متخلفون، وفضلاً عن ذلك فهم موزعون بين اليمين واليسار ، ثم جاء أمامهم موسى الصدر مرسلاً من قبل شاه إيران محمد رضا بهلوي، ومزوداً بجميع أنواع الدعم، فتمكن خلال بضع سنين من نقلهم نقلة ما كانوا يحلمون بها..وها هم بالتعاون مع حلفائهم في دمشق يحكمون لبنان منذ عقود ثلاثة، ولم يتضاءل دورهم بعد خروج القوات السورية من لبنان.
وأنتم يا حكماء أهل السنة لا يعجزكم أن تحققوا لإخوانكم ما حققه الشيعة لأبناء طائفتهم ، إذا أخلصتم نواياكم ، وأخذتم بأسباب التغيير.
إن شباب أهل السنة يرون أن هناك خطراً يهددهم ، ويبحثون عن مرجعية يستفيؤون في ظلها، وتجيبهم عن أسئلتهم التي جعلتهم حيارى، وأوقعتهم في أخطاء فادحة، فمن لهؤلاء الشباب غيركم، أيها العلماء والدعاة؟
اللهم بصر عبادك الموحدين بمخططات وكيد أعداء هذه الأمة، واجمع اللهم شتاتهم، ووحد صفهم ، وردهم إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ) .(43/5)
مقال الأستاذ محب الدين الخطيب - رحمه الله - في تعقب الكوثري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أنقل - هنا - مقالا للأستاذ محب الدين الخطيب - رحمه الله - ، يُبين فيه بعض مظالم الكوثري الجهمي للعلماء ، بعد أن اطلع عليها في تعليقات له على أحد الكتب التي شوهها .
فقد نشر الخطيب - رحمه الله - مقالا في مجلته " الزهراء " ( ج 5 م 5 ) يُعرف فيه بكتاب " ذيول تذكرة الحفاظ " قبل أن يعرف حقيقة الكوثري ، قائلا :
حركة النشر والتأليف
( ذيول تذكرة الحفاظ – للذهبي )
أحسن صديقنا الفاضل السيد حسام الدين القدسي كل الإحسان فيما اختاره لنفسه من طريق إلى خدمة العلم بنشر كتبه الطيبة، ومن آخر ما وصل إلينا منها ثلاثة ذيول على طبقات الحفاظ للذهبي نشرها في كتاب واحد أولها في 50 صفحة للحافظ أبي المحاسن محمد بن علي الحسيني الدمشقي (715-765هـ ) وهو تلميذ الذهبي. ثانيها في 280 صفحة للحافظ تقي الدين محمد بن فهد المكي (787-871 ) واسمه لحظ الألحاظ. والثالث في 40 صفحة للجلال السيوطي (849- 911) . وفي أول المجموع كلمة للناشر وتراجم للمؤلفين الثلاثة. وفي آخره أربع فهارس: أحدها فهرس عام، الثاني فهرس الحفاظ المترجمين مرتباً على الحروف، الثالث فهرس الوفيات مرتباً على الحروف، الرابع فهرس أسماء الكتب. وقد طبع السيد حسام الدين هذه الذيول عن نسخة بخط أبي الفضل محمد جار الله بن عز الدين عبدالعزيز بن فهد المكي (891- 954) وعارضها من الصفحة 160 بنسخة الخزانة التيمورية المزينة بتعليقات فضيلة الأستاذ العلامة مسند مصر السيد أحمد رافع الطهطاوي ، ونقل هذه التعليقات في النسخة المطبوعة كما حلاها بتعليقات العالم الفاضل الشيخ محمد زاهد الكوثري. فجاء هذا المجموع من خير ما نشرته مطابعنا العربية عناية واتقاناً ) .
ثم في العدد التالي ( ج 6 م 5 ) نشر هذا المقال :
عدوان على علماء الإسلام
يجب أن يكون له حد يقف عنده(44/1)
كتب إليّ مفخرة الحجاز ووجيهها السيد محمد نصيف يعاتبني على الكلمة التي كتبتها في جزء الزهراء الأخير تقريظاً لذيول تذكرة الحفاظ، ويلفت نظري إلى ما في تعليقات الكوثري عليها وعلى غيرها من سلاطة وطول لسان على علماء الحديث وأعلام الأمة وأئمة السلف. وضرب لي مثلاً بما كتبه (في ص 261 ) عن الحافظ الشرايحي الذي فاته في صغره أن يكون قارئاً كاتباً فلم يكن ذلك حائلاً بينه وبين أن يكون كما قال عنه الحافظ تقي الدين بن فهد "حافظاً لا يدانى في معرفة الأجزاء والعوالي، وآية في حفظ الرواة المتأخرين يذاكر فيهم مذاكرة دالة على حافظة باهرة مع حظ من معرفة الرجال المتقدمين وغريب الحديث. وكان اعتماده في ذلك على حفظه. وكان يستعين بمن يقرأ له، وهو بهذه المثابة أعجوبة زمانه في المحاضرة اللطيفة والنوادر الطريفة.. وكان تغمده الله برحمته فقيهاً فرضياً أوحد الحفاظ المفيدين".
هذا بعض ما قاله الحافظ ابن فهد في ذيل طبقات الحفاظ محاولاً تعريف ابن الشرايحي (748-820 ) الذي كان أعجوبة زمانه بما وهبه الله من علم في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي فقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي وفي الفرائض والمواريث مع أنه كان أمياً.
والأمية كما يعلم القارئ غير العامية، فقد يكون الرجل أمياً ويكون مع ذلك من كبار أهل الإحصاء في علم أو أكثر، كالإمام الكبير أبي عيسى الترمذي صاحب كتاب السنن -وهو أحد الكتب الستة التي أخذ منها المسلمون دينهم بعد كتاب الله- وكالعلامة العظيم ابن سيده صاحب المحكم والمخصص، ومنزلتهما في اللغة لا تقل عن منزلة سنن الترمذي في الحديث. فهؤلاء وأمثالهم كانوا أميين، ويسبُّ نفسه قبل أن يسبهم من يفسّر أميتهم بالعامية، كما فعل الكوثري في تعليقه على قول ابن فهد في الشرايحي (ص 261) .(44/2)
وظن الكوثري أن المجال اتسع أمامه للطعن بأئمة الحديث، فانتهز هذه الفرصة وقال في تعليقته: "ولأمثالهم (كثرة ) بين الرواة على اختلاف القرون، بل (غالبهم ) بمجرد تعلّمهم حروف التهجي في الكتاتيب ينصرفون إلى الرواية وإلى مجالس السماع من صغرهم قبل تحصيل مبادئ العلوم الضرورية، فيبقون من أبعد خلق الله عن النظر والتبصر... وإن كان بين هؤلاء من شُهر بالرواية لكن لم يزالوا على عاميتهم لبعدهم عن أهل العلم، وعدم ممارستهم النظر، وتعودهم أن يعيشوا أمة وحدهم مغترين بكثرة الملازمين لهم لتحمل ما عندهم من الروايات"
وبعد أن أرسل الكوثري هذه الشتائم إلى (الكثرة ) من علماء الحديث بل (غالبهم ) غير متقيد بأهل قرن من القرون؛ خطر على باله حينئذ خاطرٌ خبيث وهو أن يرمي تمرتين بحجر واحد، فيرد على الأستاذ - محمد عبده -كلمة له مشهورة في كتاب الإسلام والنصرانية وأن ينتقم لمن ذمّهم الشيخ محمد عبده ممن كان يجلهم –رحمه الله- ويحترم مقامهم.
رأى الكوثري أن الأستاذ الشيخ محمد عبده يقول في غلمان الترك الذين استعجم الإسلام على أيديهم زمن الدولة العباسية: "جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل آلهة معه يعبده في خلوته ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم، ومنهم من تولَّى أمره. أي عدو لهؤلاء أشد من العلم للذي يعرف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح سيرهم".(44/3)
رأي الكوثري أن الأستاذ يقول ذلك في أجناد الترك ومماليكهم زمن المعتصم ومن بعده، فأراد أن ينتقم لهم من المحدثين في الأقطار العربية فقال في هذه التعليقات الخبيثة ذاكراً (الكثرة ) من أهل الحديث بل (غالبهم ) : "ولم يستأصل الإسلام من عقولهم بعدُ شأفة نحلهم التي كانوا عليها قبل الإسلام من يهودية بفلسطين، ونصرانية بالشام، ووثنية بالبادية، وصابئية بحران وواسط عبَدة الأجرام العلوية وغيرها من قدماء المشبهة، ظانين ما هم عليه هو الاعتقاد الصحيح!!".
هذا بعض ما يقوله الكوثري في (غالب) علماء الحديث، وقد وقف حياته على البحث عما يقوله الخصوم في خصومهم ليذيعه في هذه التعليقات فيهدم حرمة الأئمة من قلوب الأمة.
وقد بلغ به الأمر أن أقنع صديقنا الفاضل ناشر تعليقاته بأن في دار الكتب الظاهرية كتاباً بخط شيخ الإسلام ابن تيمية قال فيه بالتجسيم. ودارُ الكتب الظاهرية كان أبي رحمه الله أمينها ونشأتُ منذ طفولتي بين جدرانها، وكان اثنان في دمشق يقرآن خط شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ أحدهما كاتب هذه السطور والذي طُبع من كتبه نقلاً عن خطه كان منقولاً بقلمي وأنا من أعرف الناس بكتب ابن تيمية المكتوبة بخطه. فقلت لصديقي : إن كان هذا موجوداً بخط ابن تيمية فأنا مستعد لأعلن على رؤوس الأشهاد انضمامي إلى رأي الكوثري في هذه المسألة. وأما إن عجزتم عن إظهار ذلك بخط شيخ الإسلام فيكفي أن تعلم أيها الصديق أنك قد خُدعت وأن هذه الفرية فرية شعوبي عدو لسلفنا ، معتدٍ على علمائنا يقول بقاعدة "الغاية تبرر الواسطة"
ومن أمثلة بغضه للسلف أنه لما أراد أن يكتب ترجمة الإمام ابن قتيبة في ثلاثة سطور لم يجد ما يقوله فيه غير هذه الكلمات:
"هو صاحب التصانيف أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة، أحد أئمة الأدب، إخباري قليل الرواية، قد يعتمد في التشبيه على ما يرويه من كتب أهل الكتاب، يُتهم بالنصب، كذَّبه الحاكم ووثَّقه غيره. مات عام ست وسبعين ومائتين".(44/4)
فانظر إلى هذه الصورة الكاذبة التي يصور الكوثري بها إماماً عظيماً كان خادماً للقرآن، مدافعاً عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، وسيلقى الله عز وجل وفي يده كتاب من تصنيفه في الرد على المشبهة يكذب به هؤلاء المستجيزين سبه والافتراء عليه. وحسب ابن قتيبة قول الخطيب البغدادي فيه "كان ثقة ديناً فاضلاً" وثناء العلماء عليه من أيامه إلى عهد الحافظ الذهبي القائل "ما علمت أحداً اتهمه في نقله" ثم إلى زمان الجلال السيوطي الذي كان ممن أحسن الثناء عليه. بل حسبُه أن أهل المغرب كانوا يقولون "من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يُتهم بالزندقة" ويقولون "كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه"
إن ما يقوله الكوثري في علمائنا لو قال أقلَّ منه طه حسين وسلامة موسى لأقمنا القيامة عليهما، والمهمة التي انتدب لها الكماليون لا حاجة بها إلى من يُكملها في بلاد لا تزال تعرف للسلف أقدراهم وفضلهم ) .
قلتُ : 1- حاول الكوثري الهالك التشويش على الخطيب في كتابه " .. البرهان " ( حققه مؤخرًا السقاف ! ) .
2- تعليقات الكوثري الجهمي على الكتاب السابق تحتاج إلى من يتعقبها ؛ لأن الخطيب لم يذكر إلا بعضها ، وهي مما يُكرره في جميع تعليقاته ، ولعل الشيخ الفهيد قد أتى عليها في هذه الرسالة :
http://www.alukah.net/majles/showthread.php?t=32(44/5)
ماذا قال الشيخ ابن باز - رحمه الله - عن القصيمي الملحد ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ظاهرة الردة ليست جديدة على المحيط الإسلامي؛ فقد ابتدأت منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآيات القرآنية للتحذير منها؛ كقوله تعالى (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم) وقوله (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) وقوله (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) .
ولكن هذا كله لم يكن حاجزًا أمام الغاوين من سلوك هذا الطريق الموجع؛ فتكررت حوادث الردة في جميع العصور الإسلامية متفاوتة في قلتها وكثرتها، وكان الحكام الموفقون والعلماء الربانيون يواجهون ذلك بحزم وشجاعة محذرين من طريق مستبدلي الكفر بالإيمان، ومشتري الحياة الدنيا بالآخرة.
ويعد عبد الله القصيمي (ت 1995) أحد أشهر المرتدين في عصرنا الحاضر، وقد لقيت حالته اهتماماً كبيراً في الأوساط المتنوعة "الإسلامية وغير الإسلامية" لأسباب عديدة، لعل من أبرزها تناقض ذلك مع تاريخه العلمي في مناصرة الدعوة السلفية ضد خصومها وتصنيفه المصنفات المفيدة في هذا الشأن، لهذا عجب الجميع لارتداده من القمة إلى السفح في صورة حادة وسريعة . فإن كان الكارهون لدعوة الحق قد طربوا لهذا التحول العنيف واتخذوه سلماً للطعن في تلك الدعوة والشماتة بأهلها، فإن أهل الإسلام قد تألموا لهذا جدًا وساءهم أن تكون نهاية الرجل موجعة، متذكرين قوله تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وجلين من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء" مرددين دعاءه صلى الله عليه وسلم "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" مترنمين مع ابن القيم رحمه الله في نونيته
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم *** فالقلب بين أصابع الرحمن(45/1)
ولكن لم يمنعهم هذا كله من الرد على القصيمي ودفع باطله وإلحاده انتصاراً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وخشيةً على أبناء المسلمين أن يصيبهم ما أصابه إذا ما اطلعوا على "شبهاته" و"تلبيساته" فصنفوا المصنفات العديدة لكشف باطله منها على سبيل المثال: كتاب "تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله" لعلامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي –رحمه الله-. وكتاب "بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال" للشيخ إبراهيم السويح –رحمه الله-. وكتاب "الرد القويم على ملحد القصيم" للشيخ عبد الله بن يابس –رحمه الله-. وكتاب "الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال، على ما فيه من زيغ وكفر وضلال" للشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. وشاركهم أيضاً غيرهم من الكتاب الذين ساءهم تطاول القصيمي على الإسلام أو على العرب؛ كدراسة صلاح المنجد عن القصيمي، و"ليلة في جاردن ستي" لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، و"ماذا يريد القصيمي" لأحمد الشامي؛ وغير ذلك.
ومن الكتب التي شاركت في الرد على القصيمي وفضحه كتاب صغير يحتوي على ثلاث قصائد، مزيّن بتقريظ لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- لاثنتين منها، وهذا ما زاد الكتاب أهمية. ونظرًا لندرة الكتاب وعدم اطلاع كثيرين عليه؛ فقد أحببت عرضه للقارئ الكريم ليزداد بصيرة بحماية الله لهذا الدين العظيم؛ حيث يستعمل له من يقومون بنفي تحريف الجاهلين عنه.
-نشر الكتاب تحت عنوان "تشخيص أخطاء صاحب الأغلال الرئيسية، وبيان ما دلت عليه من الإلحاد والمذاهب الإباحية" نشرته مطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر في 51 صفحة، عام 1367هـ – 1948م.
محتويات الكتاب:
يحتوي الكتاب على:
1 - قصيدة للشيخ راشد بن صالح بن خنين –حفظه الله- في (56) بيتاً، (ص4-7).
2- تقريظ للقصيدة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- مع رد شيء من ضلالات القصيمي، (ص-12).(45/2)
3- قصيدة للشيخ صالح بن سليمان بن سحمان –رحمهم الله- في (53) بيتاً، (ص13-16).
4- قصيدة طويلة للشيخ صالح بن حسين العلي العراقي، -رحمه الله- في (404) بيتاً، (ص 19-47).
5- تقريظ للقصيدة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله-، (ص48).
قصيدة الشيخ ابن خنين :
يقول الشيخ ابن خنين في مقدمته لقصيدته: "أما بعد فإني حين اطلعت على كتاب ألفه عبد الله بن علي القصيمي وسماه (هذي هي الأغلال ) وتأملته، فإذا مراده بهذه التسمية، ما صرح به في كتابه هذا من أن الدين الإسلامي هو الذي منع المسلمين بأغلاله عن التقدم ونيل المجد والسيادة، ومراده بالمجد والسيادة هنا هو تحصيل الدنيا لا غير. ولم يدر المسكين أن سبب تأخرهم عن قهر عدوهم هو عدم قيامهم بواجب دينهم على التمام.
وحقيقة قصده الخبيث: هو الدعوة إلى الفوضى في العقيدة والدين والأخلاق، وأن يكون الناس كالبهائم لا وازع ولا رادع إلا ما تمنعه الحيوانية وهذه هي دعوة الشيوعية عدوة كل دين ونظام، فهذا الخبيث يدعو المسلمين إلى الانسلاخ من الدين وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) وقد مدح في كتابه هذا الدول الكافرة وخصوصاً الملحدة وفضلهم على المسلمين وحرف آيات وأحاديث لأجل ذلك، كالآيات الواردة بذل اليهود وصغارهم وغيرها.
ثم يقول الشيخ في مطلع قصيدته :
"هذا القصيمي في الأغلال قد كفرا *** وفاه بالزيغ والإلحاد مشتهرا
هذا الذي "بصراع" و"البروق" أتى *** بالزعم منتسباً للدين منتصرا
من بعد نصرته للدين في كتب *** أضحى يفنده! يا بئس ما ابتكرا"
إلى أن يقول:
"أبدلت دينك بالكفران منتكسًا *** يا قبح ما قلته بالكفر مفتخرا
أبطلت كل الذي قد قلت من حَسَن *** بعد الكرامة صرت اليوم محتقرا"
إلى أن يقول معددًا انحرافات القصيمي في: "أغلاله" :(45/3)
"إن المصائب من كسب الذنوب أتت *** والله ممتحن، يا فوز من صبرا
والدين عندك حتى الآن ما فُهِمَتْ *** منه الحقيقة، كل الناس ما قدرا
هذا الرسول ومن بالحق يتبعه *** للدين قد فهموا يا وزغ سل خبرا
هم صفوة الناس والأنجاس ضدهمُ *** لكنّ دينك غير الدين قد ظهرا
والأمر تزعمه يجري بلا قدرٍ *** حسب الطبيعة إن نفعا وإن ضررا
والخير عندك عيش الناس قاطبةً *** مثل البهائم لا يخشون من فطرا
أيضَا التبرج للنسوان تمدحه *** يا للمصيبة، منك الخبث قد كثرا
مع ذي الفضائح للإسلام منتسبٌ *** ودينك الكفر في الأغلال قد زُبرا
للدين ترفض والدينار تعبده *** الله أكبر، إن الجرم قد كَبُرا"
إلى أن يقول ناصحًا له:
"يا ابن القصيمي هداك الله شرعتنا *** اترك زهوَّك وادع الله معتذرا
وارجع لربك قبل الموت في خجلٍ *** فالله يقبل من عبدٍ إذا اعتذرا"
تقريظ الشيخ ابن باز لقصيدة ابن خنين :
قال سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز: "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد. فإني لما قرأت هذه القصيدة السديدة. التي أنشأها الفهم الأديب واللوذعي الأريب، الشاب الفاضل راشد بن صالح بن خنين زاده الله علماً وفهما وجدتها قد وافقت الحق الذي يجب اعتقاده في هذا الباب، وزيفت كثيراً من أضاليل هذا الزائغ المرتاب. فإن هذا الضال القصيمي قد أكثر في كتابه من أنواع الضلال والكفر والإلحاد، ليضل بها الناس عن الحق والهدى ويدعوهم بها إلى نبذ الدين وسلوك مسلك أعداء الله الكافرين في حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، وطلبها بكل طريق أوصل إليها سواء أباحه الشرع أو حظره.(45/4)
ومن أكبر الأضاليل والمنكرات التي سطر في كتابه زعمه في صفحة 315 منه أن الإيمان بالله وقدرته التامة على كل شيء مشكلة لم تحل، وقوله صفحة 326 منه إن البشر عاجزون فيما يبدو لنا حتى اليوم عن أخذه، أي الدين، وفهمه وتصوره على وجهه النافع المفيد، بل هم إما أن يبقوا غير متدينين أو متدينين تديناً باطلاً، كما أثبت هذا جملة تاريخ الإنسان، ولابد من استثناء فترات أو ومضات قليلة خافتة، إلى أن قال: والدين هو أحد هذه الأمور الجميلة التي عجز الناس عن تصورها تصوراً صحيحاً لأنها جاءت قبل استيفاء استعدادهم الموقوت، فراحوا ضحايا هذا التصور الباطل –إلى أن قال صفحة 328 ولكن ثبت أن البشرية عاجزة إلا فيما ندر عن فهمه على وجهه الصحيح. هذه هي المشكلة التي لم تحل! فهذا الكلام لا يصدر إلا من شخص عدو لله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكافر بأن القرآن حق ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق، لأن القرآن والسنة قد بينا حقيقة الإيمان بالله، وحقيقة الدين الحق أعظم بيان، وصار ذلك عند المؤمنين بالله حقاً أوضح من الشمس في رابعة النهار.(45/5)
وقد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان حقيقة الإيمان وحقيقة الدين الحق، ودرجوا عليه ودعوا إليه، وجاءت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم مبشرة بأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق منصورة ظاهرة إلى قيام الساعة، وفي بعضها "حتى يأتي أمر الله" فكيف يكون الدين والحالة هذه لم يفهم إلا في ومضات أو فترات قليلة خافتة؟ وكيف يكون البشر عاجزين عن فهمه وتصوره تصوراً صحيحاً مع وضوحه وظهور أدلته؟ وكيف يجوز نسبة الله سبحانه إلى أنه كلف البشر مالا يستطيعون فهمه، وأمرهم بشرائع قبل استعدادهم لها، فراحوا ضحايا هذا التصور الباطل؟ هذا الكلام في غاية الكفر والضلال والإلحاد، فقاتل الله هذا الرجل الخبيث، ما أعظم جرأته على الله ودينه، وما أشد تلبيسه وأبعده عن الهدى! ومقصده من هذا الكلام دعوة الناس إلى نبذ الدين جملة، لأنهم إذا سمعوا أنهم عاجزون عن تصوره تصوراً صحيحاً، وأنهم إن أخذوه أخذوه على غير وجهه فكان ضاراً لهم كرهوه ورفضوه واعتنقوا سواه، لاسيما إن عرفوا أن هذا المفتون الخبيث قد كان قبل هذا يظهر الدعوة إلى الدين الحق ويرد على من خالفه، وإنما يغتر بمثل هذا ضعفاء البصائر، وأما من له أدنى مسكة من عقل صحيح، وعلم نافع صحيح، فإنه لا يغتر بمثل هذا الزائغ وأضاليله للعلم بأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولوضوح خطأه وزيغه. نسأل الله العافية والثبات على دينه.(45/6)
ومن جملة أضاليل هذا الزائغ المفتون قوله في صفحة 29: أن الدعاء أضعف وسيلة يلقى بها عدو عدوه، بل إنه ليس بوسيلة، وليس له من فائدة سوى أنه يقوم بعملية تعويض وتصريف خبيثة ضارة. وقوله في صفحة 180: كانت الخطب أيام الجمعات إحدى النكبات، وذلك أنها لتكررها كل أسبوع استطاعت أن تجعل تخديرها مستمراً مضموناً متجدداً، يعني بذلك تحذيرها عن الانهماك في طلب الدنيا والتنافس فيها إلى أن قال: لأنها لتكررها لا تترك فرصة لانطلاق معنى طيب من معاني الإنسان. إلى أن قال في صفحة 182: ولكن هذا الاجتماع الأسبوعي مفروض فرضاً، وهذه الخطب مفروضة على هذا الاجتماع فرضاً أيضاً، فأين النجاة، وكيف الفرار؟
فانظر أيها القارئ هذا الكلام وتأمل: هل مثله يصدر من مسلم يعقل ما يقول؟ لا والله، لا والله، لا والله، وإنما يصدر من شخص قد ملئ قلبه من بغض الأديان، ومعادات حزب الرحمن، لأن من ذم ما شرعه الله، وزعم أنه نكبة على العباد، وعملية مضرة لا شك في كفره وبغضه للحق وأهله. وقد دل على أن مثل هذا كفر قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) وفي كتاب هذا المفتري الملحد من الترهات الأضاليل غير ما ذكرنا كثير، قد أشار الناظم إلى جملة منها، وبيّن خطأه فيها. جزاه الله خيراً، وجعلنا وإياه وجميع إخواننا من أنصار الحق ودعاة الهدى.
وبالجملة فمن تأمل كتاب هذا الزائغ المفتون من أوله إلى آخره عرف أنه لا يدين إلا بعبادة الطبيعة، ولا يدعو في كتابه إلا إلى عبادتها. وأما الإله الحق الذي يُميت ويُحيي، ويسعد ويشقي ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يؤمن به ولا يدعو إلى عبادته، كما يدل على ذلك كلامه في مبحث القضاء والقدر والأسباب والمشكلة التي لم تحل، وفي مواضع كثيرة من كتابه.(45/7)
ومن عظيم إلحاده ودعوته إلى عبادة الطبيعة قوله في صفحة 158 في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: لقد بدأ رسالته بالخلوة بالطبيعة، وبمناجاتها فوق غار حراء، وختمها بمناجاتها أيضاً وهو في حجر عائشة بينما كان يجود بأنفاسه. فلقد كان في تلك الساعة شاخصاً ببصره إلى السماء لا يحوله عنها هول ولا أهل، ويقول: اللهم في الرفيق الأعلى.
فنسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مناجاة الطبيعة كذب ظاهرة وكفر واضح، ومخالفة لما فهمه المؤمنون من هذا الحديث الشريف، وقد أقذع هذا الضال في ذم الدين والسلف الصالحين، وحذر من سلوك سبيلهم، وحرف آيات كثيرة وأحاديث ليقودها إلى مذهبه الباطل، ورد أحاديث أخرى صحيحة لما لم توافقه على مذهبه العاطل، وأكثر من التلبيس والتدليس والخداع ليغير بذلك دين من لا بصيرة له بالدين الحق، وشابه في ذلك إخوانه من اليهود والمنافقين.
فنسأل الله الثبات على دينه، ونعوذ به من زيغ القلوب ورين الذنوب، وأسأله أن يمن على هذا الضال بالهداية والرجوع إلى الحق والتوبة النصوح، وأن يعيذنا والمسلمين مما ابتلاه به إنه سميع الدعاء قريب الإجابة.
ولقصد تأييد ما دلت عليه هذه القصيدة من الحق وتزييف أباطيل هذا المارق والتحذير من خطأه لئلا يغتر به حررت هذه الأحرف.
وأنا الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد الله بن باز، قاضي الخرج سامحني الله وغفر لي ولوالديّ ومشائخي وجميع المسلمين. وصلى الله عليه وسلم على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم. سنة 1366هـ".
قصيدة الشيخ صالح بن سحمان:
يقول الشيخ صالح –رحمه الله- في مقدمة قصيدته: "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:(45/8)
فإنه لما كان في سنة 1366من الهجرة رأيت كتاباً لعبد الله بن علي القصيمي سماه "هذي هي الأغلال"، ويعني بذلك أن الدين غلّ أهليه وأخرهم عن التقدم وأقعدهم عن الترقي إلى المجد والشرف وأذلهم، وأن علو الهمة ليس بالدين وأن المرأة كالرجل لا فرق ولا ميزة، ولها أن تخرج سافرة وأن تكون متعلمة حتى تكمل لا كالمحجور عليها الجاهلة، فخبط خبط عشواء وتناقض في كثير وفسر بعض الآيات على ما يشتهي وحرف أحاديث على ما يريد وكذب بعضاً فأحببت أن أعجل أبياتاً قليلة في الرد عليه على سبيل الاختصار والإشارة".
أما قصيدته فيقول في مطلعها :
"في مصر وزغٌ تمادى في الضلالات *** وتاه في تيه ديجور الجهالات
أعني القصيمي عبد الله من بلد *** الصعيد من جار في نشر الخُرافات
أبدى مخازيه في أغلاله وهوى *** في هُوة وتعامى بالمقالات"
إلى أن يقول رادًا بعض انحرافاته :
"يقول دين الهدى لا خير فيه وقد *** أغلّ أهليه عن نيل الكرامات
والرّوس مع أمريكا عند ذاك سمو *** بالعز إذ خلعوا دين الخليقات
واستخرجوا كنز أراض بها كملوا *** طراً ونالوا المعالي بالصناعات
وانحطَّ بالدين أقوام وقد سفلوا *** إذ لم يكونوا كأصحاب المطارات
فذمّ دين الهدى والتابعين له *** والواعظين على روس الجماعات
والرافعين إلى المولى أكفَّهموا *** يدعون رب الورى باري البريات
يقول والله لا يسمع دعاءهموا *** وليس يفعلُ من بذلِ الإجابات
لأن رفعهمو ذلٌ ومخرقة *** مثل العجائز في رفع الشكايات
إن الطبيعة لا ترضى وقد خلقوا *** أعزة ما لهم هافي الكمالات
إن الكمال لهم طبعاً كخالقهم *** لأنه كامل والنقص لايات
والناقصون على زعم النبي لهم *** ربٌ نقيص تعالى عن نقيصات
أأخَّرَ الدينُ خير المرسلين إذاً *** عن التقدم يا حاوي الرذالات
كذا خليفته الصديق أقعده *** عن العلى الدين مع كل الصحابات
أيضاً ولا عمر الفاروق ما فتحت *** في عصره أبداً كل الفتوحات(45/9)
ما قصروا قيصرا أيضا ولا كسروا *** كسرى ولا هدموا عرشا بآلات
وقل إذا شئت كل المرسلين إذاً *** الدين أقعدهم في كل مرَّات
قاموا يمدون أيديهم لخالقهم *** عجزاً وضعفاً وعاشوا بالمذلات
فيا أبا جهل يا فرعون مصر ويا *** بلعام ذا العصر يا أصل الجهالات
أرُوسيَا بذلتْ دنيا فجدت لها *** ببذل دينك في بث الدعايات
تدعو إلى دينها والروس ليس لها *** دين كذلك إفرنج الطبيعات
طوراً تحارب رب العالمين على *** مقدوره في الورى يا بئس ما تأت"
إلى أن يقول مذكرًا له بتاريخه وبعض مؤلفاته القديمة في نصرة الإسلام ودعوة الكتاب والسنة:
"أين (الصراعُ ) و(نقد) و(البروق ) وما *** أعلنت بالحق عن هذى الخُرافات
أتلك زندقةٌ والرشد ما نطقت *** أغلالك الآن من هذى الحماقات
إذاً فدينك دينارٌ جعلت له *** فخًّا فدمت على تلك الرُّكيعات
إن كان بالشرقِ أوْمَأتَ الركوعَ له *** أو كان عندك أكثرت التحيات"
قصيدة الشيخ صالح العراقي:
أما الشيخ صالح العراقي فيقول في مقدمته لقصيدته : "أما بعد، فإني لما اطلعت على الكتاب المسمى "هذى هي الإغلال" الذي ألفه عبد الله بن علي القصيمي وجدته مملوءاً من الأفكار الفاسدة والآراء الكاسدة، منطوقها ردّ على السنة والقرآن، ومفهومها نفي للخالق المنان، ولازمها تكذيب الأنبياء والمرسلين وتصديق الإباحية والطبائعيين، ونتيجتها دعوة العباد إلى نبذ الأديان، وإنكار المعاد والاكتفاء بالعقل والطبيعة، والإيمان بالإنسانية التي في زعمه ليست مقيدة شرعاً، وليست لها حدود قدراً، إذ عنده أن الإيمان بمواهب الإنسان هو الذي يوصله إلى السعادة والكمال، والإيمان بالله والتمسك بشرعه هو الذي يوصله إلى الشقاوة والنقص وسوء الحال.
على أن في كتابه المذكور من الآراء ما هو مقبول، ولكنه قطرة من ماء طهور فرات، في بحر نجس زعاق، مملوء بالأكدار والقاذورات.(45/10)
فاستخرت الله عز وجل في نظم أبيات تشتمل على إيضاح أباطيله ورد خطئه وأضاليله، وتشخيص ما به ارتد ومرق من الإسلام، نصحاً لله ولرسوله وللمسلمين، وقياماً ببعض ما يجب عليّ من نصر الدين وجهاد من خالفه من أعداء رب العالمين، لقوله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
وإنما قلت ما قلت في هذه القصيدة بعد ما قرأت الكتاب المذكور من أوله إلى آخره، على شيخنا العلامة المحقق، والأستاذ الفاضل المدقق أبي عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز، رفع الله قدره في الدارين، ورزقه الصبر واليقين، ونيل الإمامة في الدين، والقراءة المذكورة قراءة تدبر وبحث واستشكال، وذاكرته في المواضع المشكلة من كلام هذا المارق، حتى اتضح لي الصواب، وعرفت مقصود هذا الزائغ الخبيث المرتاب".
يقول العراقي في أبياته مشيرًا إلى بعض صفات القصيمي قبل ردته، وهي صفات ينبغي تأملها لمن أراد دراسة الأسباب الحقيقية وراء ردته:
"قد كان من ناصري الإسلام متبعاً *** في قوله غالباً منهاج أهليه
لكنما الكذب في فعل وفي كلم *** وصف له، عَلَّه طبعٌ مؤاخيه
أضف لها الكبر بل والحرص مع حسد *** كيف النجاة لشخص هذه فيه
لا يوجد الكبر في شخص ولا حسد *** والحرص إلا وفي الخسران ترديه
إذ تلك أصل الخطايا في شريعتنا *** سل من قضاها النجادوما تواليه
فالكفر يخرج من كبر ومن حسد *** بغي وظلم ومن حرص معاصيه
والكذب أسوؤها قبحاً وحجتنا *** أنْ هذه نعته مثل تماديه
إن حب شيئاً غلا في مدحه وإذا *** قلاه تالله بالبهتِ يمانيه"
إلى أن يقول: مبيناً أن القصيمي خلط شيئاً من الحق بكثير من الباطل في كتابه "الأغلال" لكي يروج باطله :
ونحن نؤمن إيماناً بلا رِيَب *** من يضلل الله ليس الخلق يهديه
لكن علينا على قدر استطاعتنا *** ردّ القبيح وإقصاء أهاليه(45/11)
إذ لو تركنا اللئيم في سفاهته *** مع طوقنا الردّ قد يهذي بمكروه
ما في كتيبّه الأغلال أجمعه *** تالله، فالسنّة الغرا تنافيه
وما به من جميل ليس مبتكراً *** وجاء به شبهة قصداً لتمويه
لكي يروج على الغوغاء باطله *** لعلها بالذكا والعقل تدعيه
حتى يقودهمو إلى هلاكهمو *** بئس الزعيم وبئس من يرجّيه"
رده على استهانته بالدعاء :
"فمن كلام الدعي في كتيّبه *** أن الدعا يجلب الضر لأهليه
فنسأل الله عفواً والثبات على *** دين الهدى في الذي نبدي ونخفيه
فالشرع أجمعه بالاتفاق دعا *** كيف المضرات تأتي من تعاطيه
ألست تدري الدعا إما لمسألة *** أو طاعة دون ريب أنت داريه
لكن جحدت على علم مكابرة *** إن لم تكن يا قصيمي بمعتوه
تدري، فمالازم القول بذا غُدَر *** معناه أنك رب الخلق تنفيه
إذ قال ربي فجل ذكره وعلا *** في محكم النص قطعاً أنت قاريه
وقال ربكم ادعوني أستجب لكمو *** عمداً تنابذ لا جهلاً تزجّيه
قولاً بلا حجة شرعاً ولا نظراً *** ولا اعتباراً ولا عقلاً تواتيه
هذا انسلاخ من العقل بلا ريب *** إذن فلا بدع فيما أنت تأتيه
نعوذ بالله من زيغ القلوب ومن *** سلب العقول وما يقضي فيجريه
لو لم يكن موجب يقضي بردته *** إلا ازدراء الدعا حقاً فيكفيه"
رده على ادعائه بأن الدين مشكلة !
"كيف وقد قال أن الدين مشكلة *** لم يُلف حل لها للآن في تيه
إذ الورى عاجزون عن تصوره *** تصوراً مبدياً للمعنى وجاليه
لأنه سبقه استعدادهم وأتى *** قبل اكتمال الحجا، من ذا ينافيه؟
وقد يجي للورى يوماً تصوره *** على الحقيقة ذا حتماً يوافيه
مهما تأخر وقت المرء يقرب من *** نضج وفهم صحيح ضد ماضيه
بل قال هذا القصيمي بلا خجل *** قولاً صريحاً فلم يصلح لتوجيه
مستقبل الوقت وأهل الوقت أفضل من *** ماضي الزمان بلا ريب وأهليه
فهذه كلها أقوال ذي فند *** صريحة وهي من أسوى صواديه
فيلزم القول أن الدين مشكلة *** أمران كل قبيح سوف يرديه(45/12)
نقول ءأما النبي الحل يعلمه *** أم لا؟ فإن قلت ناء عن معانيه
جعلته جاهلاً يحكي ويفعل ما *** قد ليس يفهمه أو لست تبغيه
فللخيانة مع غش لأمته *** نسبته قولك المقبوح يقضيه
وباتفاق أولي الإسلام أحمد قد *** فاق الورى مطلقاً فضلاً قد أوتيه
في العلم أعلمهم والنصح أنصحهم *** وفي البيان فقصب السبق حاويه
معصوم من خطأ فعلا وفي كلم *** وما أقر عليه وهو داريه
وأصوب الناس رأياً بل وأرجحهم *** عقلاً وفكراً، فقد طابت مساعيه
وابن القصيمي رماه بالخيانة والجـ *** ـهل المركب بل بالعيّ يرميه
ويدعي أنه الداعي لسنته *** تناقض ليس ذو عقل يواتيه
وقال أول شيء يُؤمنن به الإ *** نسان، لا الله نطقاً غير تنبيه
فمقتضاه بأن الرب ليس له *** تصرف قصده تعطيل باريه
لأنه قال إن المرء مقتدر *** يسمو كمالاً ولا شيء يعاصيه
بل كل شيء له يسمو بقدرته *** وطبعه دون ما ربط بمنشيه
وذا صريح بأنْ ليس لخالقنا *** فعل وعلم وحكم بل وينفيه
إذ قال إن الرسول كان أول ما *** يُوحى له إنما الطبع يناجيه
لا الرب أوحى، ولا جبريل بلغه *** وذا بمعناه والمفهوم يجريه
وبالطبيعة قبل الوحي مختلياً *** طوراً يخاطبها طوراً تناجيه
حتى أتى الموت وهو في مخاطبة *** مع الطبيعة يا كثر تجنّيه
أليس ظاهره أن الرسول أتى *** بالدين منه أو الأكوان توحيه
فصار حينئذ شرع النبي حكماً *** ليست أوامر رب أو نواهيه
خذ ما ارتضاه الهوى منها ودع جملاً *** تخالف القصد والوقت وأهليه
إذ لا عقاب على نهي تقارفه *** ولا ثواب على أمر تودّيه
أو فاستقل بعقل ذا لوازم ما *** قال القصيمي وذا التالي مصافيه
أبعد هذا يكون المرء متبعاً *** شرعاً ويعتذرن عنه مؤاخيه ؟
فكل معتذر عنه ويفهم ما *** حواه أغلاله حقاً يساويه
والعقل عند القصيمي يخالف ما *** جاء الرسول به إذ قال يزريه
قوموا بنا قومنا نبني ثقافتنا *** على الجديد السعيد ذا وآتيه(45/13)
إن القديم شقيّ إذ نجانبه *** وذا يعم الهدى حالا وماضيه
فقد حكمت على خير الخليقة *** والصحب الكرام بذا يا صاحب التيه
بأنهم في الشقا كانوا ذوي حمق *** أم سوء فهم بل الإلحاد تبغيه
بل وانسلاخاً من الأديان قاطبة *** هذا السعيد الذي تعني وتطريه
حق تقول ولا تدري وحق لمن *** يجفو هداه بأنّ الله يعميه
عمى بصيرة قلب طبق حكمته *** يضل من شا ومن شاء فيهديه
سبحانه جلّ رباً ليس يمنعه *** شيء إذا ما يشاء الشيء يمضيه"
رده على عدم فهمه لحقيقة التوكل :
"أما التوكل فأهل الحق قاطبة *** على خلاف الذي يا فدم تعنيه
إذ ليس ما قلته شرعاً ولا لغة *** بل افتراء على مولاك تجنيه
إذ حدّه بذل ما استطعناه من سبب *** والاعتماد على الخلاّق قاضيه
فإن ظفرنا بما نبغي فذاك، وإن *** فات اعتقدنا الحكيم ليس شائيه
لحكمة ثم لا تثنى عزائمنا *** عن غيره وهو مطلوب نواتيه
وهكذا صنعنا فيما أباح لنا *** جلبا ودفعاً وفي الحالين نرضيه
فثمّ نسمو كمالاً لا يضارعنا *** فيه سوانا، إذا هذا نوفّيه
والاعتماد بلا شك على سبب *** شرك كما تركه قدح بآبيه"
رده على سوء فهمه للزهد :
"وقال إنا مدحنا الفقر مع بله *** مع الجنون وجهل من تمنيّه
والعي والسقم والتخريب مع قذر *** وضد هذي بزعم الغمر نُزريه
لا يفتأ المرء هذا يفتري كذباً *** على التواريخ والدين وأهليه
بشطح أهل السلوك في كلامهمو *** أو أهل بدع ومن بالزيغ يحكيه
لكون كل لدين الحق منتسباً *** عمّ ذوي الحق بالذم وتسفيه
لله كم سرت الشيطان طلعته *** بل كل آن بلا شك يحييه
فالفقر قد جاءت الأخبار مادحة *** لمن دهاه إذا كانت مناشيه
أما عن الزهد في الدنيا نشا طمعاً *** في السير لله مع قصد مراضيه
فذا جميل بشرط الصبر ملتمساً *** جلب الذي عن جميع الناس يغنيه
مع القيام بحق المسلمين بلا *** تبرم أو خنوع منه مبديه
أو ناشئاً عن مصاب قد أصيب به *** وقام منه مجداً في تقصيه(45/14)
مع صبره واثقاً بالله يكشفه *** لأنه يا لئيم من بلاويه
وضد هذا فمذموم بلا ريب *** كيف القبيح لنا قبحت تنميه
وأننا قد مدحناه فذا عَتَهٌ *** إذ لو حجاك لديك لست تعزيه
والزهد يا وغد في الدنيا حقارتها *** في القلب حتى ولو كانت بأيديه
مع صرفها إن أتته في مواضعها *** في الشرع لا للمعاصي أو تباهيه
إذ ليس يلزم من زهد خلوّ يد *** من كثر مال ولو بالكسب يجبيه
كلا ولا من رياسات ولو عظمت *** كالراشدين لهم في الزهد عاليه
والزهد فيها على ذا النحو مادحه *** إلهنا وأهله هم من محبيه
إمامهم سيد الكونين يا غدر *** وصحبه فهمو كيف تهاجيه
ما غادروها ولا كانت تهمهمو *** علما بأن الفنا قطعا تأتيه
مع علمهم أن دار الخلد باقية *** مع خيرها دون تنغيص ومكروه
لو كنت تؤمن بالأخرى لما قبحت *** لديك أعمالهم بل أنت مقصيه
أما الغنى إن أصار المرء منحرفا *** عن طاعة الله أو عنها فيلهيه
فذا ذميم وإن كانت مصارفه *** في طاعة الله محمود تعاطيه
أما الجمال فممدوح بلا سرف *** وصرف مال ووقت في تشهيه"
ثم رد دعوته إلى "تغريب" المرأة المسلمة (ص 35)، وتهجمه على خطبة الجمعة (ص 35-36).
ثم رد على دعوته الفاجرة إلى نبذ الإسلام لكي نتطور دنيوياً كما تطور الغرب! قائلاً :
"وقال إن الهدى الإسلام أخرنا *** عن اللحاق بذا الغربي مغريه
إذ أنه قد سما في زعمه شرفاً *** وسؤدداً ليس ما قبلٌ يضاهيه
أسبابه رفضه كل الشرائع بل *** إنكاره خالق الخلق ومنشيه
هب أن طائفة الكفار قد سبقوا *** أهل التقى بالصناعات أخا التيه
أعندهم علم تثقيف العقول وما *** يسمو به الفكر بل والقلب يحييه
ويسعد المرء في دنيا وآخرة *** وبرزخ، ذا عدت منه وتقليه
والعلم هذا الذي قد كنت مرتدياً *** أمس به غير أن اليوم عاريه
هو الهدى ديننا الإسلام يا غدر *** هو الذي ضاء للخلق تلأليه
فراح كل ملىً منذ تلألؤه *** بنوره يستضيء كيف بأهليه(45/15)
بل كل شعب رقى دنيا لسؤدده *** من ديننا جاءه أصل ترقيه
إما اقتباساً حقيقياً مباشرة *** أو صدفة فالعلا جا من معاليه
شاء أولو الغرب أم لم يرتضوا حسداً *** بغياً وظلماً، كما قد رحت تزريه
واليوم لما أخلوا بالتقى قصرت *** مدارك الفكر عما الغرب ينشيه
من الصناعات حرباً أو مرافقه *** براً وبحراً ومما في مغانيه
وليس ضائرنا هذا إذا سلمت *** لنا العقائد والتوحيد نبديه
مع اعتدادٍ لهم قدر استطاعتنا *** من قوة طبق ذا الوقت وآتيه
إذ جلب ما فيه للإسلام تقوية *** ورفعة وهو مما لا ينافيه
تالله من أعظم التقوى تعلّمه *** وجلبه وبذا الإسلام نحميه
تالله لو حكم الإسلام قادتنا *** في كل شيء لسادوا الغرب ذا التيه
أو جاءهم سؤدد يفنى لهيبته *** كبر الورى مطلقاً وانقاد عاصيه
لكنهم قدموا حظ النفوس وما *** استطاعوا على الصبر كي ترقى مبانيه
قد هالهم شبح الموت لحبهمو *** هذي الحياة لذا انقادوا لشانيه
بفعل أولاء ضفت النقص من سفه *** للدين يا ناقص العقل وتقليه
وتنسبن إنحطاط المسلمين إلى *** الإسلام وهو الذي أعلت مباديه
شأن الخليقة في دنيا وفي فكر *** في ذا الزمان وقبلا عز معليه
اذكر عصور الأولى شادوا لنا شرفاً *** مجداً رفيعاً قوياً في مبانيه
عصر النبي وعصر الراشدين فيا *** للدين إذ ذاك ما أبهى مرائيه
وعصر شام وقد أعلت معالمه *** بنو أمية حتى عزّ ضاويه
لله عصر بني العباس مزدهيا *** به العراق وشام مع نواحيه
بلى الجزيرة مع مصر إلى اندلس *** يحلها من جمال الملك زاهيه
عصر سما فيه علم الدين وانتشرت *** فيه الحضارة وانجابت دياجيه
كان اقتباس العلوم من إنارته *** حتى ازدهى كل شعب من لآليه
فبالتقى يا أخا الأغلال قد نهضوا *** ووطدوا الملك حتى لان عاتيه
كم عاهل ساد في تلك العصور وقد *** دانت له الغرب والدنيا تحابيه
كانت بأيديهمو الدنيا برمتها *** لما أمدوا الهدى لأنأى مراسيه(45/16)
لاسيما جهتا الشرق وغربهمو *** من صينها فإلى الغرب وقاصيه
في نحو قرن أخا الأغلال قد ملكوا *** هذا وكم راق ذاك العز رائيه
أولائك القوم فخر العُرْب ذكرهموا *** لا يستطيع الورى يوماً تناسيه
ذكر جميل لهم في الناس قاطبة *** كيف أخو العقل ينساه ويخفيه"
ثم يعرج العراقي على ما فعله الغربيون ببلاد الإسلام لما سقطت في أيديهم -إلا ما رحم الله- هل أسسوا فيها حضارة؟! أو علموا أهلها سبل التقدم الدنيوي؟! أم أن الأمر خلاف ذلك؟! :
"والغرب بالضد لما أن أتى أمماً *** شرقية بث فيها من ملاهيه
صاد السفية بغزلان تغازله *** والسينماء ويا كثر ممانيه
ضف الخمور وصندوقاً ورادية *** مع ما أتى بخرافات وتسفيه
ولى على الشعب من حاكاه معتقداً *** وهو بأن الملا لا رب راجيه
شاد المعاهد ضد الدين فامتلأت *** بالخبث يا صاح والشر نواديه
فراح كل بلاد من ممالكنا *** في البؤس والتعس والارزا تفاجيه
سوى بلاد السعود في مناعته *** قد صانه الله فضلاً من توليه"
ثم يختم العراقي قصيدته بدعوته الله عز وجل أن يحفظ بلاد الجزيرة العربية من كيد الغربيين الذين يسؤهم أن تبقى محكمة للشرع، وأن يوفق ملكها لنصرة الإسلام:
"ونسأل الله رب الخلق ينقذنا *** من فتنة الغرب بالتقوى وتفقيه
في شرعنا ثم بعد الفعل يصحبه *** هذا السلاح الذي حقاً سيرديه
وهاهو الملك ساع في إشادته *** معاهد الدين نرجو الله يجزيه
عن سعيه خير ما جازى به ملكا *** ولاه ربي على قوم مطيعيه
أعاذه الله من أمرٍ يثبطه *** عن نصرة الدين أو إن هم يثنيه
ويمنح الملك تمكيناً ونصرته *** ونهجه الشرع والقرآن هاديه
مع حسن نيته إصلاح أسرته *** ونسله بل وشعب تحت أيديه"
تقريظ الشيخ ابن باز للقصيدة :
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- :
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده(45/17)
أما بعد فإني لما قرأت هذه القصيدة التي نظمها الابن الأديب، والفاضل الأريب صالح بن حسين العلي، وجدتها قد اشتملت على إيضاح كثير من أضاليل هذا القصيمي الخبيث الزائغ، ورد جمل كثيرة من أخطائه رداً صحيحاً مستنداً إلى الآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة النبوية وإجماع سلف الأمة، مع الإشارة إلى بعض ما يقضي بردة القصيمي صاحب الأغلال، ومروقه من دين الإسلام. فجزى الله هذا الناظم خيراً وزاده من العلم والعمل، وجعلنا وإياه وجميع إخواننا من أنصار دينه والدعاة إلى سبيله على بصيرة.
ونسأل الله أن يهدي صاحب الأغلال ويمنّ عليه بالتوبة النصوح، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن آمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
قاله الفقير إلى ربه عبد العزيز بن عبد الله بن باز قاضي الخرج عفى الله عنه وغفر له.
حرر في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1367 من هجرة النبي عليه الصلاة وأزكى السلام" .(45/18)
ذكاء عالم ( 2 ) : موقف الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - من جامعة الدول العربية !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سبق أن نشرتُ مقالا بهذا العنوان " ذكاء عالم .. " ، أوردتُ فيه موقفًا حكيمًا لعلامة مصر : الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله - ، وقفه تجاه من أراد أن يستخفه من دعاة تغريب المرأة : يجده القارئ على هذا الرابط :
http://www.saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/23.htm
إشارة إلى أن أمتنا – وسط هذا الكيد العظيم من الكفار والمنافقين – تحتاج إلى علماء ربانيين ، يجمعون مع العلم : ذكاء ونباهة أمام ألاعيب أهل المكر ، ممن قال الله عنهم : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) . لأن العلم والتقوى – على جلالتهما – لا يكفيان حين النزول إلى معترك الحياة ، فكم رأينا من شيخ فاضل غُرر به من صغار الصحفيين والصحفيات ؛ حتى استدرجوه إلى سقطات ، متخذين منه سُلمًا لأهوائهم .
خذ هذا المثال الواقعي : إعلامية متبرجة تكشف الشعر والنحر و .. ، تُنتج الأفلام المليئة بالمحرمات ، تسأل أحد العلماء " الطيبين " ! : ياشيخ .. ! أحسن الله إليك .. ! ماحكم كشف الوجه !!
فينطلق الشيخ " الطيب " ! ذاكرًا لها أقوال العلماء ، وأن في المسألة خلافا .. !
هذا مثال .. والأمثلة وافرة .
وكم أُتيت الأمة من أمثال هذا الطيب ، الذي لم يستحضر قول محدَّث هذه الأمة : عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : " لستُ بالخَب ولا الخَب يخدعني " . والخَب ( بالفتح ) = المخادع .
وفي هذا المقال أنقل لكم موقفًا رائعًا من مواقف أحد العلماء الربانيين النبهاء ؛ ممن كانت له جهود عديدة في الوقوف سدًا منيعًا أمام طوفان الفساد وأهله ، الذي كان عاتيًا في زمنه ؛ حيث الجهل والاندفاع غير السوي وراء زخارف الدنيا ، في فترة صعبة مرت على بلادنا ؛ إلا أنه – بتوفيق الله - ، قاد السفينة ومن آزره إلى بر الأمان ، وأسلمها مَن بعده سالمة غانمة ؛ ليكملوا المسيرة .(46/1)
أعني به : العلامة الموفق : والمفتي الجليل : محمد بن إبراهيم – رحمه الله - ، الذي أدار مناصب عديدة بالغة الأهمية باقتدار ، وترك من بعده آثارًا من الخير والعمل الصالح ؛ كالجامعة الإسلامية ، والمعاهد الشريعة ، والمجلات الإسلامية ، .... الخ المفاخر التي تجدها على هذا الرابط :
http://www.saaid.net/Warathah/1/shaikh-m.htm
هذا الموقف جرى له مع جامعة الدول العربية ! التي أنشئت لمزاحمة الرابطة الإسلامية ؛ التي كان يشغلها توحيد الأهلة عن توحيد رب العالمين !
فتأملوا الخطاب الرشيد ، والرد الموجز المفيد ، وادعوا لصاحبة أن يرحمه الولي الحميد :
( من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم الأستاذ : رشدي ملحس .. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : -
أعيد لكم خطابكم رقم 21 – 5 – 8 – 838 وتاريخ 12/3/ 77 ومشفوعه ورقة المشروع الذي أعد لإجابة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية حول البحث في موضوع مواقيت أهلة رمضان والفطر والحج .
وأفيدكم أن هذه مسألة فروعية ، والحق فيها معروف كالشمس . والفصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرويته وأفطروا لرويته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " . الخلاف في تطبيق مدلول هذا الحديث وغيره بتأويل ـ اجتهادًا أو تقليداً ـ مثل نظائره في المسائل الفروعية ، وجنس هذا الاختلاف لابد منه في المسائل الفروعية ، ولا يضر .(46/2)
إنما الهام هو النظر في الأصول العظام التي الإخلال بها هادم للدين من أساسه ، وذلك : مسائل توحيد الله تعالى ؛ بإثبات ما أثبت لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات : إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل ، وكذلك توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وكذا توحيد الاتّباع ، والحكم بين الناس عند النزاع : بأن لا يُحَاكم إلا إلى الكتاب والسنة ، ولا يُحكم إلا بهما . وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين هما أساس الملة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، بأن لايُعبد إلا الله ، ولايعبد إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن لايُحَكم عند النزاع إلا ماجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم . هذا هو الحقيق بأن يُهتم به وتُعقد المجالس والمجتمعات لتحقيقه وتطبيقه .
لذا لا أرى ولا أوافق على هذا المجتمع الذي هو بخصوص النظر فيما يتعلق بأهله الصوم والفطر ونحوهما . وقد درجت القرون السابقة ، وجنس الخلاف في ذلك موجود ، ولم يروه من الضار ، ولا مما يحوج إلى الاجتماع للنظر فيه . والسلام عليكم ) . .(46/3)
رأي الأستاذ محمود شاكر في الأفغاني ومحمد عبده وأحمد أمين
ورأي حسين أمين في العقاد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أصدر حسين ابن الأديب أحمد أمين كتابًا قبل سنتين ، بعنوان " شخصيات عرفتها " ، تحدث فيه عن الشخصيات التي كانت تتردد على والده ، أو الشخصيات التي زارها " حسين " ، ومن أبرز هذه الشخصيات :
سيد قطب - حسن البنا - زكي نجيب محمود - توفيق عبدالحكيم - العقاد - السادات - طه حسين - النقاش - فرج فوده ..
ومن أهم ما احتواه الكتاب - في نظري - : لقاؤه بالأستاذ محمود شاكر - رحمه الله - ، الذي جهر بآرائه دون مجاملة لحسين ، ومن ذلك : رأيه في والد حسين " أحمد أمين " ، ورأيه في العقاد ، وقبلها : رأيه المهم في " الأفغاني " و " محمد عبده " ، وأظنه سيفاجئ فئة لا زالت مغترة بالهالة التي صنعها الإعلام - عن عمد كما أشار الأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله - لهؤلاء .
* * * * * * * *(47/1)
1- قال حسين في ترجمته للعقاد ( ص 85 ) : " ما يحيرني منه هو موقفه من الإسلام ، فهو في مجالسه الخاصة وندواته الأسبوعية التي حرصتُ على حضور بعضها، كان يبدو صريح الإلحاد، صريح الاستخفاف بالعقائد، وقد تبدر منه فيها من التعابير ما يصدم مشاعر بعض جُلاّسه... ومع ذلك فما أكثر ما كتبه من كتب ومقالات في نصرة الإسلام والطعن على المستشرقين الطاعنين فيه، بل والتهجم على أقباط مصر، كما في المقالات التي كتبها لصحيفة "الدستور" عامي 1908 و1909م، وهو لا يزال دون العشرين.. ثم "العبقريات" المشهورة التي بدأت بعبقرية محمد عام 1942 – أثر العرب في الحضارة الأوربية – الفلسفة القرآنية – الديمقراطية في الإسلام – فاطمة الزهراء – بلال – أبو الأنبياء الخليل إبراهيم – الإسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله – مطلع النور وطوالع البعثة المحمدية – حقائق الإسلام وأباطيل خصومه- التفكير فريضة إسلامية – المرأة في القرآن الكريم – الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين – الإنسان في القرآن الكريم – ما يقال عن الإسلام – الإسلام دعوة عالمية... مثل هذا الكم الضخم دليل على عمق انشغال فكر الرجل بالإسلام، وربما على إخلاصه في الإيمان به، وامتعاضه من أي مساس به يأتي من قبل الغرب ومستشرقيه. وهو كمٌ لا يمكن الاقتصار في تفسيره على القول بأن الثلاثينيات – عقب الأزمة الاقتصادية العالمية التي مسّت آثارها مصر، وعقب اشتداد ساعد جماعة الإخوان المسلمين وانتشار تأثيرها – شهدت تحولاً ملحوظاً من جانب عدد كبير من الكتاب في مصر إلى الكتابة عن الإسلام تطلّعاً إلى مزيد من الشعبية والرواج لكتبهم، ومزيد من العائد المادي " .
2- وقال في ( ص 158 – 159 ) : " قلت في دهشة: قرأتَ سيادتك " دليل المسلم الحزين " - كتاب لحسين - ؟
ـ أيوه يا سيدي!
ـ وما رأيك فيه؟
ـ فَوّت (أي لا داعي للحديث عنه).
ـ اسمح لي بأن أصر على سماع رأيك مهما كان.(47/2)
اعتدل في مجلسه ليواجهني، ثم قال:
ـ أتحسبني غافلاً يا سيد حسين عما تفعله؟ أتحسبني غافلاً عن نواياك وخططك من وراء مقالاتك في "المصور" أو كتابك هذا؟ لا يا سيد حسين! لا أنا بالغافل ولا أنا بالأبله حتى أسميك كما أسماك عبدالعظيم أنيس منذ أسبوع في "الأهالي" بالكاتب الإسلامي المستنير.. ! ما معنى "الإسلام المستنير" بالله عليك؟ أهناك إسلام مستنير وإسلام غير مستنير؟ أم أن الإسلام كله نور ، ومن لم يستنر به لا يجوز وصفه بأنه مسلم؟.. الكاتب الإسلامي المستنير حسين أمين! محمد عمارة! فهمي هويدي! حسن حنفي!! دعني أقول لك إن كل ما تكتبونه هو عبث أطفال. نعم، مجرد لعب عيال! كلكم أطفال.. يقرأ أحدكم كتابين أو ثلاثة فيحسب نفسه مجتهداً ومؤهلاً للكتابة عن الإسلام والإصلاح والاستنارة!.. محمد عمارة هذا تبلغ به الصفاقة والادعاء والجهل مبلغاً يجعله يصف كتاب محمد عبده "رسالة التوحيد" بأنه من أهم ما كُتب في التراث الإسلامي في علم الكلام! لا يا شيخ؟!! هل قرأت يا سيد عمارة كل ما كتب في التراث الإسلامي في علم الكلام ثم وصلت إلى اقتناع بأن هذا الكتاب الهزيل الحقير الغث لمؤلفه ضحل الثقافة، من أهم الكتب في الموضوع؟! ما هذا العبث وهذا الاستغلال لجهل الناس؟! لا.. الأمر أخطر من ذلك إنها مؤامرة!.
ـ مؤامرة؟
ـ مؤامرة تستهدف تمجيد رجلين من أخطر عملاء الاستعمار في تاريخ أمة الإسلام : جمال الدين الأفغاني الماسوني، ومحمد عبده الصديق الصدوق للورد كرومر.
إن المسؤولية عن معظم ما يعاني منه الإسلام اليوم تقع على عاتق هذين الخبيثين، خاصة الأفغاني الذي هو أس الفساد كله.. وقد تعجبان إن قلت لكم إنني متفق مع لويس عوض في الرأي بأن الأفغاني كان مجرد متآمر وأنه لم يكن صحيح الإسلام. وعلى أي حال فإن رأي لويس ليس جديد، وكل هذه الأمور كانت معروفة عن الأفغاني حتى أثناء حياته.(47/3)
ألف حسرة على العالم الإسلامي وأمة الإسلام!.. جهل مطبق بالفكر الإسلامي وبالتاريخ الإسلامي.. تدهور رهيب في اللغة العربية .. نظم التعليم في مدارسنا غريبة محضة.. حتى الجماعات المسماة بالإسلامية ألقت بتراث أربعة عشر قرناً في صندوق القمامة.. نعم. ولكنهم ينبرون للتهليل لإسلام جاروي وكأنه حدث هام في تاريخ الإسلام، وذلك لمجرد أن هذا الأفَّاق الانتهازي نطق أمامهم بالشهادتين، وأثنى على الإسلام في كتب له كلها أخطاء وكفر ومغالطات.. وبعضهم يهلل للخميني والثورة الإيرانية والاثنا عشرية، وما منهم من يدري أن الاثنا عشرية هم غلاة الشيعة لا معتدلوها كما يزعمون، وأن الخميني كافر زنديق.
ـ كافر زنديق؟
ـ بالتأكيد.. ألم يقل بتحريف القرآن وتزنية عائشة؟ " .(47/4)
3- وقال ( ص 161 – 163 ) : " عبدالوهاب عزام، على عيوبه، كان رجلاً طيباً بسيطاً، أما أحمد أمين فلا. ولكنه على أي الأحوال لم يكن في خبث طه حسين ودهائه ومكره.. غير أن ما أعيبه حقيقة على أحمد أمين هو أنه، وهو الرجل العالم المثقف الذي كان بوسعه أن يقدم فكراً جديداً مبتكراً في ميدان الدراسات الإسلامية، والذي يُجبُّ علمُه علم كافة المستشرقين، استسلم وأذعن لتأثير طه حسين وآرائه، ووقف موقفاً ذليلاً من أحكام المستشرقين الخبثاء الحاقدين على الإسلام، وتبنَّى في كتبه "فجر الإسلام وضحاه وظهره" هذه الأحكام، دون أن يجرؤ على تفنيدها والتصدي لها.. ما هذا الذّل؟ ما هذه الاستكانة وهذا الضعف، سواء منك أو من أبيك، تجاه المستشرقين الغربيين؟ أهم أدرى بتراثنا وأقدر على إصدار الأحكام بصدده من علمائنا نحن الذين نهلوا من هذا التراث مع لبن أمهاتهم، ونشأوا عليه منذ نعومة أظفارهم؟ كيف يكون من حق "خواجة" بدأ في تعلم العربية في سن العشرين أو الثلاثين، ويظل "يتهته" بها إلى أن يموت، أن يدلي برأي في المعلقات السبع، وأن يصدر حكماً على المتنبي أو أبي العلاء؟ كيف تُسوّغ لمسيحي صليبي نفسُه أن يتحدث عن الأشاعرة أو المعتزلة حديث الواثق المطمئن لمجرد أنه قرأ كتابين أو ثلاثة في الموضوع؟ أيجوز لي، وأنا العربي، مهما بلغ إتقاني للغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي، أن أؤلف كتاباً عن تشوسر شبيهاً بذلك الذي كتبه بلاشير الفرنسي عن المتنبي؟ هل أسمح لنفسي، وأنا المسلم، أن تبلغ بها الصفاقة والغرور حد الكتابة عن دقائق الاختلاف بين المذاهب المسيحية؟ كيف لعالم إسلامي فذ كأحمد أمين أن يقع في فخ هؤلاء الصليبيين؟ الأمر في حالة طه حسين أيسر فهماً؛ فهو لم يقع في الفخ، وإنما قرر باختياره الحر أن يشارك الصليبيين في نصب الأفخاخ لبني قومه ودينه ، أما أحمد أمين، بالرغم من ذكائه وعلمه وصدق إسلامه، فقد وقع "زي الشاطر" في حبائل الشيطان.(47/5)
واستطرد يقول:
ـ كلمني هذا الصباح المدعو مارسدن جونز الأستاذ بالجامعة الأمريكية في القاهرة، يريد أن يجتمع بي.. رفضت، وقلت له : إنني لا أريد أن أجتمع به.. أتسمع عن مارسدن جونز هذا؟.
ـ محقق كتاب "المغازي" للواقدي.
ـ آه! حتى أنت قد صدقت هذه الأكذوبة كسائر الناس.. مارسدن جونز لم يحقق مغازي الواقدي ولا بذل فيه إلا أضعف الجهد.. وهذا هو السبب في أني رفضت مقابلته. فقد حدث يوماً أن جاءني رجل مصري غلبان اسمه عبدالفتاح الحلو، وأخبرني أنه هو الذي حقق كتاب المغازي من أوله إلى آخره بناءً على تكليف من مارسدن جونز ، ومقابل بضعة جنيهات كان في حاجة ماسة إليها، ولم يظهر اسمه على الغلاف لا باعتباره محققاً ولا حتى باعتباره مشتركاً في التحقيق، واكتفى جونز بالإشارة إليه في المقدمة باعتباره أحد الذين قدّموا له العون أثناء تحقيقه للكتاب!! هذا مجرد مثل لأخلاقيات هؤلاء المستشرقين الذين تغنَّى والدك بفضلهم!.
ـ وما الذي مال بك إلى تصديق زعم عبدالفتاح الحلو دون تصديق زعم مارسدن جونز أنه محقق الكتاب؟.
قال شاكر في ضيق وهو يتململ في كرسيه مؤذناً بانتهاء الجلسة:
ـ الذي مال بي إلى تصديق زعم الحلو يا سيد حسين هو معرفتي بأخلاقيات المستشرقين.. بالمر، جيب، ماسينيون، مرجوليث، شاخت، كلهم خنازير استعماريون. وإني لأرد على كل عربي يتحدث عن فضل هؤلاء سواء في تعليمنا المنهج العلمي في تحقيق التراث أو في كتابة التاريخ أو غير ذلك، بأن المسلمين هم الذين خرجوا على الدنيا في عصرهم الذهبي بالمنهج العلمي في التأليف، وهم الذي ابتدعوا وضع الفهارس للكتب لا الغربيون كما يزعمون.. لقد وضعتُ بنفسي فهارس كتاب المقريزي " إمتاع الأسماع" الذي حقّقتُه، فوصلتني رسالة من مستشرق فرنسي شهير يُبدي فيها انبهاره بروعة هذه الفهارس، ويقول : إنه ليس بوسع أي غربي أن يأتي بمثلها...(47/6)
المسألة إذن ليست مسألة فضل، وإنما هي تتعلق بخيبة المسلمين المحدَثين حيال تراثهم.. كل الأمور معنا تسير من سيء إلى أسوأ، في الثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق، أو ما شئت. والله سبحانه وتعالى إنما يعاقبنا على ما نرتكب وما نُهمل، وهو على كل شيء قدير " .انتهى .
تعليق
1- رحم الله الأستاذ محمود شاكر عن هذه الصراحة والنصيحة ، وكنتُ أتمنى أنه كتب كتابًا مفصلا عن هذه الشخصيات وجنايتها على الإسلام؛ كما فعل مع طه حسين .
2- سألتُ الدكتور المحقق عبدالرحمن العثيمين - حفظه الله - عن رأي محمود شاكر في الأفغاني وعبده ، فقال لي : " صدق ، فقد كانا كما قال " .
3- أخبرني الأستاذ خالد الغليقة أنه سأل الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - عن العقاد ، فقال : " كتاباته إسلامية ، وهو ليس بإسلامي " .
4- ذكر أنيس منصور تلميذ العقاد في كتابه " كانت لنا أيام في صالون العقاد " عنه كلامًا شبيهًا بما ذكر محمود شاكر .
5- الأستاذ أنور الجندي رحمه الله ممن يُحسن الظن بالأفغاني وعبده ، ويضع اللوم على تلاميذهما الذين انحرفوا عن نهجهما " سعد زغلول - قاسم أمين - لطفي السيد .. " . وليته - رحمه الله - واجه الحقيقة المرة الصعبة ، فإن البلاء " منهما " . ولازال بعض الفضلاء على نهج الجندي ، والأمر يحتاج لشجاعة ..
6- وجدتُ على الشبكة مايُفيد عن حقيقة الرجلين :
كتاب : ( دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام ) :
http://kabah.info/uploaders/norh/jmal.pdf
ورسالة : ( محمد عبده وآراؤه في العقيدة ..) :
http://kabah.info/uploaders/norh/abdo1.pdf
http://kabah.info/uploaders/norh/abdo2.pdf
والله الموفق ..
يُضاف(47/7)
1- قال الدكتور سعد الدين السيد : ( إن الشجرة ينبغي أن يقطعها أحد أعضائها ، إن خبرة الصيادين تعرف أن الفيَلة لا يقودها إلى سجن الصياد الماكر إلا فيلٌ عميلٌ أتقن تدريبه ؛ ليتسلل بين القطيع ؛ فيألفه القطيع ؛ لأن جلده مثل جلدهم ، ويسمعوا له ؛ لأن صوته يشبه صوتهم ؛ فيتمكن من التغرير بهم ، وسوقهم إلى حظيرة الصياد ) . " احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام " ، ( ص 95 ) ، نقلاً عن رسالة " الزنادقة – عقائدهم وفرقهم وموقف أئمة المسلمين منهم " ؛ للأستاذ سعد العريفي ، ( ص 337 ) – تحت الطبع - .
2- مما جاء في كتاب " كانت لنا أيام في صالون العقاد " ؛ لأنيس منصور – وأنا مجرد ناقل - :
-( ص 21 ) : ( كان الأستاذ العقاد يزلزل وجودنا عندما يغضب من الدنيا فيقول : ماهذا الكون ؟ ماهذه الدنيا ؟ أعطني المادة الأولية لهذا الكون ، وأنا أصنع لك واحدًا أفضل منه ) !!
-( ص 22 ) : ( يامولانا ، إن الله لن يحاسبني على ما أفعل ، إذ كيف يحاسبني وقد خلقني في عصر كمال الدين حسين ، وجمال عبدالناصر ) .
-وتُنظر الصفحات : ( 577و582و583و590و628) .
والله الهادي ..(47/8)
(النصيحة الذهبية للأشاعرة المعاصرين ) .. للشيخ عبدالرحمن الوكيل - رحمه الله -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تميز الشيخ عبدالرحمن الوكيل – رحمه الله – كما يقول الشيخ محمد علي عبدالرحيم رئيس جماعة أنصار السنة – رحمه الله – بـ " جمال البلاغة ، ووضوح المعاني ، وسعة الاطلاع ، وشرف الغاية ، كما جمع علمًا مصفىً من شوائب البدع والخرافات الصوفية ، وكان حسَن اللغة ، قليل اللحن ، فصيح العبارة " . " جماعة أنصار السنة ، للدكتور الطاهر ، ص 186 " .
قلتُ : وللشيخ كتابٌ مهم صاغه بأسلوبه الجميل ، عنوانه " الصفات الإلهية بين السلف والخلف " ، ناقش فيه أشاعرة عصره من المتأخرين ، الذين خالفوا عقيدة متقدميهم - بعد أن مرّ على مشاهيرهم - ، ثم نصحهم بالعودة إلى العقيدة السلفية ، وأن لا يُكابروا بالتشبث ببدع الجهمية ، أحببتُ أن أنقل جزءًا منه هنا من باب النصيحة - ؛ لعله يجد أذنًا " أشعرية " صاغية ، تؤوب إلى الحق ، قبل أن تلقى – ببدعها – الحق .. والله الهادي .
قال - رحمه الله - :
عقيدة أبي الحسن الأشعري
- أورد كلامه في الإبانة ثم قال - : هذه هي عقيدة إمام الأشاعرة الأول في الاستواء فليتدبر أتباعُه ما وَصَمَ به إمامهم أولئك الذين يؤوِّلون الاستواء بمثل تلك التأويلات الباطلة التي يدين بها الخلفيون الزاعمون أنهم أشاعرة.
ليتدبروا، فلعلهم - على الأقل- لا يوقعون أنفسهم تحت ما حكم به إمامهم الكبير على المؤولة. ولعلهم يوقنون مرة أخرى بأن ما صارت إليه "الأشعرية" على يد متأخري الأشاعرة يخالف كل المخالفة عقيدة إمامهم الأشاعرة الأول، وبأن هؤلاء المتأخرين من الأشاعرة إنما هم أشباح الجهمية والمعتزلة، أو شياطينهم ..(48/1)
هذه هي عقيدة الأشعري كما بسطها في كتابه "الإبانة"، وقد أثبت الحافظ "ابن عساكر" جل هذه النصوص التي ذكرناها في كتابه "تبيين كذب المفتري"، وابن عساكر قد توفى سنة 571هـ، وهو من خُلَّص الأوفياء لإمامه الكبير أبي الحسن، وقد قدم لهذه النصوص بقوله في كتابه التبيين: "لابد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة؛ ليُعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بالإبانة"( 1). ثم نقل كثيراً من تلك النصوص.
فابن عساكر - وقد نصب نفسه لتمجيد أبي الحسن ولإثبات أنه كان على عقيدة السلف، وللدفاع عنه في حماس قوي وعاطفة مشبوبة - لم يجد ما يحقق له غرضه سوى ما سجله الأشعري في "الإبانة" ، وهذا مصداق ما قاله ابن تيمية عن كتاب الإبانة: " وقد ذكر أصحابه ـ أي أصحاب الأشعري ـ أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذَّبِّ عنه عند من يطعن عليه"( 2) .
كما يذكر ابن عساكر أيضاً ما سجله " أبو الحسن" في كتابه "العمد" وهو قوله: " وألفنا كتاباً كبيراً في الصفات. وفي إثبات الوجه لله، واليدين، وفي استوائه على العرش". كما يذكر ابن عساكر قولاً آخر لأبي الحسن سجله أيضاً في كتاب "العمد": "وألفنا كتاباً كبيراً في الصفات نقضنا فيه كتاباً كنا ألفناه قديماً فيها على تصحيح مذهب المعتزلة لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق، فرجعنا عنه، فنقضناه، وأوضحنا بطلانه"( 3).
كما ينقل ابن عساكر مَرْثيّة رَثَى بها أحد الشعراء أبا الحسن، وقد جاء فيها ما يأتي:
ولا يرَى صِفَاته *** مثلَ صفاتِ البَشَرِ
وليس ينفي صفة *** له كنَفْي المُنْكِرِ
ويثبتُ استواءَه *** كما أتى في السُّور( 4)(48/2)
كل هذا، بل بعضه يدمغ بالجور أولئك الأشاعرة الذين يمقتون أن يُنسب إلى الأشعري أنه كان يُمجد عقيدة السلف. وذلك حين يتراءون بالارتياب في صحة نسب كتابه "الإبانة" إلى الأشعري(5 )، أو حين يزعمون أنه رجع عما فيه، فألف الكتب التي تنقض ما أثبته فيه!! والإبانة في الحقيقة هو آخر كتاب ألفه!!.
ولا أظن في أشعري مسلم، أنه يرتضي أن يُتهم إمامه بالردة عن دين الحق، أو بأنه كان نَهْبَ الحيرة والاضطراب في عقيدته، أو بأنه كان ذا وجهين ، وجه ينافق به المعتزلة والمعطلة، فكتب في تأويل الصفات أو نفيها، ووجه آخر ينافق به السلفيين، فيكتب في إثبات الصفات، ولا أظن في إنسان يحترم الحقيقة أنه يجنح إلى الريبة في صحة نسب الكتاب إلى الأشعري من غير دليل، إلا إن كنا نعتبر نزغ الهوى دليلاً!!. كما لا أظن أنه يرتاب في أن الأشعري ظل يؤمن بكل كلمة قالها فيه، ولم يؤلف كتاباً آخر ينقض به ما أثبته في الإبانة.
والذين يُجلون الأشعري، ويفخرون بالانتساب إليه، لا أظن أيضاً أنهم يجرؤون على إنكار هذه الحقيقة التي أذكرهم بها مرة أخرى: تلك هي أن ما انتهى إليه مذهب الأشعري على يد بعض أتباعه يخالف ما كان عليه الأشعري نفسه، ويناهضه ، وأن ما كتبه الرازي، أو الجويني وغيرهم من تأويلات يناقض عقيدة الأشعري كل المناقضة، وينتسب برحمٍ ماسَّةٍ إلى المعتزلة والجهمية الذين كفَّرهم أبوالحسن الأشعري!! فهل بعد هذا أستطيع أن أُقدِم على الظن بأن أشاعرة اليوم لن يُقْدِموا على تحطيم إمامهم الكبير؛ ليبنوا على أنقاضه بعض الذين أبوا إلا أن يجحدوا بدين إمامهم الكبير، وإلا أن يعينوا عليه عدوّه من الجهمية والمعتزلة!! وإلا أن يَسُبُّوا كبار أئمتهم ؛ كالأشعري، ليسبوا ـ بَغْياً ـ أنصار السنة؟.(48/3)
رأي الأشعري في كتاب المقالات: وكتاب المقالات من أنفس وأجل الكتب التي عنيت بترجمة آراء الفرَق الإسلامية وغير الإسلامية، وقد سماه: "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين" ، وكل أشعري يفخر بهذا الكتاب، غير أن الكثير منهم كان يتمنى أن يحذف منه الأشعري هذا الباب الذي عنون له بقوله: "هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث، وأهل السنة". ولقد بدأه بذكر طرف من عقيدة أهل السنة، ثم ذكر أنهم يُقرون بأن الله سبحانه على عرشه، وأن له يدين بلا كيف، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجهاً، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، وأنه يجيء يوم القيامة، وأنه يقرب من خلقه كيف يشاء، وأنهم يرون اتباع من سلف من أئمة الدين، ومجانبة كل بدعة، وكل داع إلى بدعة. وقد ذكر أبوالحسن بجوار كل مسألة أدلتها النقلية من القرآن والسنة. ثم قال: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا، ونعم الوكيل"( 6).
لقد خشي الأشعري أن يظن به ظان أنه ليس من أهل السنة، فعقب على رأي أهل الحديث بما عقب. وهكذا نرى الأشعري لا يترك فرصة تسنح من غير أن يَهْتَبِلَها؛ ليثبت أنه على عقيدة السلف، هذا لأن ولاءه القديم للمعتزلة كان شبحاً رهيباً يؤرقه، ويثير ثائرة شَجْوِه، ويُسعر جحيم الندامة في أعماقه، ويريب فيه أُمَّة من الناس، ويدفعه إلى أن يؤكد في كثير من كتبه التي ألفها بعد توبته من الاعتزال أنه على عقيدة السلف. تُرى، هل اقتنع الأشاعرة؟.
إني لأخشى أن يستبد بهم العناد، فيدفعهم إلى دَمغ إمامهم الكبير أبي الحسن الأشعري بالزيغ والتجسيم؛ ليرموا بنفس هذا البهتان أنصار السنة المحمدية!! أخشى أن يصموا آذانهم عن هذا النداء الخالص من النية الصافية، ومن جلال الحقيقة وسمائها، فيصموا إمامهم الكبير بالردة عن حقيقة الدين الحق!! أما نحن "أنصار السنة المحمدية" فنبرئ إمام الأشاعرة الكبير من هذه الوصمة الشنعاء.
رأي الباقلاني(48/4)
والباقلاني هو ـ كما يقول: ابن تيمية في "الحموية" - : "أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، لا قبله ، ولا بعده". وقد سجل الباقلاني: أنه سلفي العقيدة في كتبه الآتية: التمهيد، والإبانة، والحيرة، وننقل هنا رأيه عن التمهيد.
إيمانه بالاستواء: قال الباقلاني: "إن قال قائل: فهل تقولون: إن الله في كل مكان؟.
قيل: معاذ الله، بل هو مستوٍ على العرش، كما أخبر في كتابه، فقال عزّ وجل: ( الرحمن على العرش استوى ) ، وقال تعالى: ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ، وقال: ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) .
رده على من يزعمون أن الله في كل مكان: يرد الباقلاني على أصحاب هذه الفرية بقوله: "لو كان في كل مكان، لكان في جوف الإنسان، وفي فمه، وفي الحشوش، وفي المواضع التي يُرْغَب عن ذكرها ـ تعالى الله عن ذلك ـ ولو كان في كل مكان، لوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة، إذا خلق منها ما لم يكن خَلَقَه. وينقص بنقصانها ، إذا بطل منها ما كان، ولَصَحَّ أن يُرْغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى وراء ظهورنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا. وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافة وتخطئة صاحبه".
شبهة وردها: والشبهة الأولى نتجت عن سوء فهم - واعتقد أن سوء الفهم متعمّد - لقوله تعالى: ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) ، فقد زعم أصحاب هذه الشبهة أن هذه الآية الكريمة تثبت أن الله في كل مكان!! وعلى هؤلاء يرد الباقلاني بقوله: " المراد أنه إله عند أهل السماء ، وإله عند أهل الأرض ؛ كما تقول العرب: فلان نبيل مُطَاع بالعراق، ونبيل مطاع بالحجاز. يعنون بذلك أنه مطاع في المصرين، وعند أهلهما. وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة".(48/5)
شبهة المعية: وردت آيات كثيرة تُثبت المَعِيَّة. وقد زعم المعطلة وأتباعهم أن هذه الآيات تنفي الاستواء، وتُثبت أن الله في كل مكان ، ويرد الباقلاني على مقترفي هذه الشبهة بقوله: " وقوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) ، يعني بالحفظ، والنصر، والتأييد. ولم يُرِد أن ذاته معهم تعالى وقوله تعالى: ( إنني معكما أسمع وأرى ) ، محمولٌ على هذا التأويل ـ أي التفسيرـ، وقوله تعالى: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) ، يعني: أنه عالم بهم، وبما خَفيَ من سرهم، ونجواهم. وهذا إنما يُستعمَل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال قياساً على هذا: إن الله بالبَرَدَان، ومدينة السلام( 7)، ودمشق، وأنه مع الثور والحمار، وأنه مع الفُسَّاق، والمهان، ومع المُصْعِدين إلى الحُلْوان( 8) قياساً على قوله: (إن الله مع الذين اتقوا ) ، فوجب أن يكون التأويل على ما وصفناه" .. وسيأتي بسط بيان عن المعية.
رده على من فسّر الاستواء بالاستيلاء: ويقول الباقلاني: " لا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه كما قال الشاعر:
قد استوى بشرٌ على العراق
لأن الاستيلاء : القدرة والقهر. والله تعالى ـ لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً. وقوله تعالى: ( ثم استوى ) ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه"( 9).(48/6)
زهق الباطل: نُشر كتاب التمهيد للباقلاني بالقاهرة سنة 1947م وليس فيه هذا النص الذي نقلناه هنا، وقد أشرف على طبعه والتعليق عليه أستاذان من أساتذة جامعة القاهرة، وقد فتنهما عن الحق والتثبت شيخٌ شعوبي ( يعني الكوثري ) ، كان لا يدين إلا بمقت السنة وأئمتها، والعروبة وأبطالها؛ لهذا عاش ينال من كل إمام مسلم عربي الأصل، ويدعو إلى الجهمية الصرفة. فكان أن رمى الأستاذان - بِوَسْوَسَةِ الشيخ - الإمامَ ابنَ تيمية وتلميذه ابنَ القيم بما كان يجب أن يرميا به الشيخ الشعوبي، بعد أن أضلهما وضللهما، ونال من كرامتهما العلمية بين الزملاء والجامعيين، ولاسيما بعد ظهور النسخة الكاملة من التمهيد، فقد أثبتت أنهما كانا ضحية من ضحايا حقد الشيخ على ابن تيمية العظيم، وعلى كل ما هو عربي ، إذ وُجد فيها النص الذي نقلناه ! ولشد ما أدهشنا، وأدهش كل محب للحقيقة أن يخضع الأستاذان الكبيران، لتلبيس حاقد موتور، فيصرفهما عن التثبت والبحث والتنقيب الذي يقيم لهما كل معذرة، وهما من أبناء الجامعات التي تزعم أنهما تعلّم ـ أول ما تعلم ـ الحرية والفكرية!!.(48/7)
لقد اعترف الأستاذان اعترافاً ضمنياً بوجود نقص كبير في نسختهما الخطية التي عثرا عليها في مكتبة باريس، والتي عنها نشرا " التمهيد " ، وبأنها لا تُطابق الفهرس المخطوط الملحق بالنسخة الباريسية، ولهذا يقولان: " ونلاحظ اختلافاً بين هذا الفهرست، ومضمون نص التمهيد الذي قدمناه للقراء، فهو يحتوي على خمس وعشرين عنواناً غير موجودة في نصّنا، كما أنه لا يشير إلى أبواب كثيرة وردت في التمهيد( 10)" ثم يقولان: "وتبقى أخيراً عدة عناوين نجدها موضع شبهة خطيرة منها رقم (30) الخاص بالاستواء على العرش" هذا؛ لأنهما لم يجداه في النسخة التي بين أيديهما، ثم أشارا إلى ما نقله ابن القيم في "الجيوش الإسلامية" عن كتاب التمهيد، وإلى ما ذكره ابن تيمية أيضاً في الحموية وغيرها، ثم قالا: " ولو صدقنا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في نقلهما عن التمهيد، للزمنا أن نقرر أن ما بين يدينا من نص التمهيد غير كامل، ولكنا لا نستطيع ـ عند ملاحظة التعارض البيّن بين مذهب الباقلاني، ومعنى ما ينسبه إليه هذان المؤلفان المعروفان بالتحيز ـ إلا الشك في صحة نقلهما، وقد كتب إلينا العلامة الحجة الشيخ " الكوثري" وكيل مشيخة الإسلام في الخلافة العثمانية في هذا الشأن: " لا وجود لشيء مما عزاه ابن القيم إلى كتاب التمهيد في كتاب التمهيد هذا. ولا أدري ما إذا كان ابن القيم عزا إليه ما ليس فيه زوراً؛ ليخادع المسلمين في نحلته، أم ظن بكتاب آخر أنه كتاب التمهيد للباقلاني، ونحن نثق على كل حال بنسخة التمهيد التي بين يدينا ثقة أقوى من ثقتنا بنقل ابن تيمية وابن القيم" !!(48/8)
وقد ذكر الأستاذان أيضاً: أنه جاء في الفهرس: "باب القول في الوجه واليدين" ولكنهما لم يجداه في النسخة(11 ) ، كما ذكرا أن الباقلاني قال في مقدمة التمهيد أنه سيتكلم عن مسألة ما في باب "التعديل والتجوير" ، ولكنهما لم يجدا لهذا الباب أثراً في نسختهما الخطية( 12). كما ذكرا أنه يوجد نسختان مخطوطتان للتمهيد غير نسختهما محفوظتان بإستانبول، إحداهما في مكتبة أبا صوفيا تحت رقم 2201، والأخرى في مكتبة عاطف تحت رقم 2223. غير أنهما لم يستطيعا الوصول إلى واحدة منهما. كما اعترفا بأن أيدياً امتدت إلى المخطوطة التي نشر عنها الكتاب. كما ذكر الأستاذان أسماء الكتب التي ألفها الباقلاني والتي لم يعرف الكثير منها النشر، ومنها كتاب "الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة" وهو الذي نقل عنه ابن تيمية في "الحموية" عقيدة الباقلاني في الصفات ، وكتاب "الحرة" وهو الكتاب الذي نقل عنه ابن القيم في "الجيوش" ما يؤيد ما ذهب إليه الباقلاني في التمهيد في مسألة الصفات، غير أنه سماه "الحيرة".
ألا ترى أن كل هذا، بل بعضه كان كافياً في إقناع الأستاذين بأن النسخة التي نشرا عنها الكتاب نسخة ناقصة فعلا!! وفي منع الأستاذين من أن يصدرا على الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم هذا الحكم الظالم الذي تسرعا في إصداره، والذي كان من بين "حَيْثيَّاته" لقب وكالة المشيخة الإسلامية!! وقد آمن الأستاذان - بعد - أن هذه الوكالة قد غررت بهما، وجعلت منهما أحدوثة يتفكه بها العاكفون على النظر في المخطوطات ونشرها؛ إذ ما كانت الألقاب من الوسائل التي يعتمد عليها في نشر المخطوطات، وفي التنصيص على نفي شيء أو إثباته!! كما كان من بين "الحيثيات" أن ما نقله الإمامان ابن تيمية وابن القيم يخالف مذهب الباقلاني!.(48/9)
ولست أدري ما الذي دعاهما إلى إصدار حكمهما بإثبات هذه المخالفة المزعومة!!. أكانت بين أيديهما الكتب الباقلانية التي استنبطا منها مذهب الباقلاني ، وجعلتهما يعتقدان أن ما استنبطاه منها يخالف ما نقله الإمامان الجليلان؟ لم يكن بين أيديهما سوى هذه النسخة الناقصة من التمهيد، فأنى لهما العلم بمذهب الباقلاني الحقيقي؟!.
هذا، وقد نسي الأستاذان، أو تناسيا أننا كثيراً ما نعثر بمثل هذا التناقض في مذاهب كثير من أئمة الأشاعرة، فقد كان بعضهم يدين اليوم بما يتراءى له غداً أنه ضلالة، فينصرف عنه إلى غيره. ودليلنا في هذا : الأشعري نفسه، والجويني، والرازي والغزالي، ففي كل منهم مَسٌّ، وفي تاريخ كل منهم دليل الحقيقة التي تقولها.
وابن تيمية على وفرة خصومه، وترصد المئات منهم للنيل منه، لم يجرؤ واحد منهم على التشكيك في أمانته العلمية، وها هي كتب ابن تيمية، وها هي كتب الحديث والتفسير والفقه والأصول والتصوف والكلام والفلسفة والمنطق والتاريخ واللغة والأدب. فراجعوا ما نقله ابن تيمية في كتبه عن كتب هذه الفنون، وثمت تتجلى لكم قيمة هذه الأمانة العظيمة التي كان يمتاز بها الإمام الجلل، وخبرته الواسعة الدقيقة بكل فن من فنون الثقافات في عصره. ومما يوضح القيمة الجليلة لهذه الأمانة، وشمول هذه الخبرة الواسعة أن نذكر أنه لم تكن هناك مطبعة، ولا كتب مطبوعة!! ولا أكون مغالياً إذا قلت : إن النقول التي توجد في كتب ابن تيمية يجب أن تُجعل مرجعاً من المراجع التي يُرجع إليها عند نشر المخطوطات التي نقل عنها ابن تيمية لتحقيقها، وتصويبها!!.
فقَلَم ابن تيمية، وفكره الثاقب، وفهمه الدقيق، وبصيرته المشرقة، وخبرته الواسعة، وشمول ثقافته وأمانته العظيمة المشهود بها له. كل هذا يجعلنا نثق الثقة المطلقة في دقة النصوص التي توجد في كتبه وفي صحتها، حتى فيما ينقل عن فلاسفة الإغريق، كأرسطو، وإفلاطون!! فما بالك بالثقافة العربية والإسلامية؟!.(48/10)
ثم أقول للأستاذين: ألا نستطيع اتهامهما بأنهما هما اللذان أخفيا باب الاستواء، وباب الوجه واليدين، ولاسيما ونحن نعلم أن الباعث على هذا الإخفاء موجود وقوي، فقد كانا تحت سيطرة ذلك الشيخ الذي كان لا يبغض إماماً كما يبغض ابن تيمية وابن القيم، ولا يحقد على فئة كما يحقد على أهل السنة!! كنا نستطيع ذلك، مادام الاتهام أصبح هيناً يسيراً كما فعل الأستاذان، ولكننا لم نفعل ؛ لأننا نكرم أنفسنا.
وقد شاء الله سبحانه أن يبرئ الإمامين الجليلين " ابن تيمية وابن القيم" مما رماهما به الشيخ الشعوبي، ومحققا كتاب التمهيد؛ إذ صورت إدارة الثقافة بالجامعة العربية مخطوطة التمهيد التي كانت في استامبول بمكتبة عاطف تحت رقم 2223( 13).(48/11)
وقد قارن أخونا الأستاذ الجليل الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة بين ما في النسخة التي صورتها إدارة الثقافة وبين ما سجله ابن القيم في "الجيوش" وابن تيمية في "الحموية". فتجلت له صورة رائعة من الأمانة العلمية التي امتاز بها الإمام وتلميذه. فنشر هذا في صحيفتنا "الهدي النبوي" وفي رسالة خاصة. وقد طالب الأستاذين أن يذعنا لسلطان الحق القاهر، فيعترفا صراحة بالخطأ، ويستغفرا الله مما بهتا به الإمامين الجليلين، وينشرا في رسالة خاصة ما أغفلته نسختهما، أو يعيدا نشر التمهيد مرة أخرى احتراماً للحقيقة على الأقل. ولم يستجب أحد لهذه الدعوة الجليلة!! وإليك ما جاء في كلمة الأستاذ محمد عبدالرزاق: " بمقارنة نسخة مكتبة مصطفى عاطف بنسخة مكتبة باريس وجدنا نقصاً في نسخة باريس عن نسخة مكتبة عاطف بنحو 72 ورقة تقدر بنحو 30 ورقة من النسخة الباريسية، ومحل النقص بين الورقة 60، والورقة 61 منها" هذا، وقد طبع التمهيد عن العاطفية في بيروت في سنة 1957م من منشورات جامعة بغداد، وقد دحض ناشرها قول الأستاذين اللذين نشرا التمهيد بالقاهرة، وكذبهما فيما نسباه إلى ابن تيمية وابن القيم، مستدلاً بوجود ما نقلاه في النسخ الخطية التي نشر عنها التمهيد في بيروت ومنها العاطفية. وأقول: من يراجع ما نقله الإمام ابن القيم في الجيوش بما في الوجه 137 من النسخة العاطفية المحفوظة صورتها في إدارة الثقافة بالجامعة العربية يجد التطابق التام بين ما نقله ابن القيم في كتابه الجيوش عن التمهيد وبين ما هو موجود في العاطفية. مما يعطينا الدليل فوق ما لدينا من أدلة على أن أمانة ابن القيم وشيخه العظيم ابن تيمية فوق الشبهات.(48/12)
وحق ما يقول أخونا الأستاذ "محمد عبدالرازق حمزة " : " يا ترى هل كان من المصادفات التي لا يؤمن كثير من متعالمي هذا الزمان أنها أقدار الله الجارية بحكمته وعلمه ـ أن تأتي النسخة العاطفية من جبال الأناضول البعيدة عن الناشرين إلى القاهرة على يد هيئة دولية هي إدارة ثقافة الجامعة العربية؟ فقد طارت بتوفيق الله لحضرة السلفي الصالح خادم السنة وباذل ماله ونفسه في نشرها في أقطار العالم الشيخ محمد نصيف بتصوير نسخة منها على نفقته- فجزاه الله خيراً - ليطلع الناس عليها. فيصح عندهم انخرام النسخة الباريسية التي نشرت بالقاهرة، ويقوم دليل جديد بفضل الشيخين ابن تيمية وابن القيم وصحة نقلهما، وبهت من كذبهما، وافترى عليهما". نعم إنها قدرة الله القاهرة.
وهكذا جاء الحق، وزهق الباطل، وثبت ثبوتاً يغمره جلال اليقين أن الباقلاني دان في التمهيد بما يدين به السلف في الصفات، وأنه أحد اللاعنين للخلفية الشوهاء!!.
رأي في الباقلاتي: يقول بروكلمان في دائرة المعارف الإسلامية عن الباقلاني إنه "أدخل في علم الكلام أفكاراً جديدة مأخوذة من الفلسفة اليونانية، أو من المذاهب الاعتقادية للكنيسة الشرقية مثل فكرة الجوهر الفرد، والخلاء(14)، والقول بأن العَرَض لا يحتمل العَرَض، وأنه لا يبقى زمانين" ، وهذه هي إحدى جنايات "الباقلاني، فإنه كما يقول ابن خلدون في مقدمته: "جعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها؛ لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول(15 )".(48/13)
يجب اعتقاد آراء الكنيسة الشرقية، والفلسفة اليونانية؛ ليصح إيمانناً!! ونحن نسأل الخلف!! أكان صفوة هذه الأمة في قرنها الأول يعرفون الجوهر الفرد والخلاء، والعرض الذي لا يبقى زمانين ؟! ولا يحتمل العرض؟ ونسألهم أيضاً: بم يُحْكَم على هؤلاء؟؟ فقد كانوا جميعاً لا يعرفون شيئاً عن هذه الأوهام التي زعموا أنها الأدلة التي يتوقف على معرفتها الإيمان ، والتي زعموا أنها أصل أصول الإسلام(16 )؟
رأي ابن فُورَك
وأبوبكر بن فورك من كبار أئمة الأشاعرة، وقد اضطربت أقواله في بعض أصول الدين. ولكنه يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين. وكذلك المجيء والإتيان كما فعل إمامه الكبير أبو الحسن الأشعري. وقد قال فيما صنف في أصل الدين.
" فإن سألت الجهمية عن الدلالة على أن القديم(17 ) سميع بصير؟ قيل لهم: اتفقنا على أنه حي تستحيل عليه الآفات. والحي إذا لم يكن مأْوُوفاً بآفاتٍ تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات كان سميعاً بصيراً.
وإن سألتْ فقالت: أين هو؟ فجوابنا: إنه في السماء، كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك. فقال ـ عز من قائل ـ : ( أأمنتم من في السماء ) ، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه. وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم، فقلت: أين الله؟ لقالوا : إنه في السماء. ولم ينكروا لفظ السؤال بأين؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- سأل الجارية التي عرضت للعتق. فقال: (أين الله؟) فقالت: في السماء. مشيرةً بها( 18). فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) ، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها. ومعنى ذلك أنه فوق السماء؛ لأن" في " بمعنى فوق. قال الله تعالى:( فسيحوا في الأرض ) أي فوقها".(48/14)
وحسناً فعل أبو بكر بن فورك!! فإنه لم يغضب من "أين" ولا من الجواب عن "أين" كما يفعل أشاعرة اليوم!! ولو غضب من "أين" لاتّهم أعظم العابدين، وخاتم المرسلين بأنه نال عامداً من حرمات الله، وتغاضى جاحداً عن شتم الله، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي سأل بأين، وهو الذي حكم بإيمان من أجاب عن "أين"!!.
رأي الجويني
والجويني من أعظم أعلام الأشاعرة، حتى لقد لقبوه بإمام الحرمين، وقد نزع في كتابه " الإرشاد" منزع التأويل ، وعدا على السلف بحملة ظالمة( 19). ولكنه عاد فحرم التأويل، ومجد السلف، وسجل ذلك في آخر كتاب قام بتأليفه، وهو "العقيدة النظامية" وبهذا أدرج "الإرشاد" في الأكفان!! وإليك ما قاله في "النظامية".
7" اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتن على أهل الحق فحواها(20 )، وإجراؤها على ما تبرزه أفهام أسباب اللسان منها( 21). فرأى بعضهم تأويلها، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب، وفيما صح من سنن النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.(48/15)
والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة، فالأولى الإتباع، وترك الابتداع. والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة سنة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم- على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام. والمشتغلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً، أو محتوماً ؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب.
ومما استُحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى ) فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة" ، فَلْتُجْر آية الاستواء والمجيء، وقوله:( لما خلقتُ بيديّ ) (ويبقى وجه ربك) وقوله : (تجري بأعيننا) وما صح من أخبار الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا. فهذا بيان ما يجب لله تعالى(22 )".
وفي كلام الجويني حق كبير، ولكن فيه أيضاً تناقض بادٍ وخلل مثير!! فقد قرر أن مذهب أئمة السلف هو إجراء الظواهر على مواردها، والانكفاف عن التأويل. وهذا هو الحق الذي أيده هو بما نقله عن مالك. وهو قوله رضي الله عنه: " الاستواء معلوم" فعلام يدل هذا؟ إنه لا يدل إلا على شيء واحد ، هو أن معنى الاستواء مفهوم ، معلوم معناه في لغة القرآن والحديث. ولو لم يكن هذا مراد مالك، لقال: لا أدري، أو لقال: الاستواء مجهول. ولكنه قال "معلوم". أما الذي حكم مالك بأنه مجهول فهو "الكيف" لا "المعنى".(48/16)
أما التناقض: فقد وقع فيه " الجويني" بسبب زعمه أن السلف كانوا يفوضون "معاني" الصفات. فهذا الزعم الفطير يناقض ما ذكره من قبل، فصار كأنما يقول: مذهب السلف إجراء الظواهر على معانيها، ومذهب السلف تفويض معانيها!! وهذا يدلك، ويؤكد لك أن الجويني لم يُحسن التعبير عن مذهب السلف ، رغم أنه استشهد بالكلمة القيمة المقتصدة التي قالها مالك، والتي ذهب فيها مذهب أستاذه الجليل "ربيعة بن عبدالرحمن(23 )" فقد سئل ربيعة عن كيفية الاستواء، فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
وهكذا نرى إمام دار الهجرة، وأستاذه الجليل يؤكدان أن معنى الاستواء معلوم، أما "كيفية" استواء الله على عرشه، فهي المجهولة!! هذا، وإلا اتهمنا سلف هذه الأمة البررة الأخيار بأنهم كانوا لا يؤمنون في الأسماء والصفات الإلهية إلا بألفاظ خربة خاوية لا معنى لها، ولا دلالة!! وقلنا بأن صفات الله وأسماءه ما هي إلا ألفاظ خالية من كل مدلول أو مفهوم، فلا تثير في قلب العابد إلا الشعور بالعدم، والقلق العميق السحيق. ولا تتصل بالفكر إلا اتصال الرموز المبهمة والألغاز المحيرة، والأحجيات والطلسمات المقنعة بالغموض والإبهام!! أو بأنه سبحانه أبى لنا إلا الضلالة الأبدية والحيرة السرمدية، والتناحر المدمر حول أسمائه وصفاته!!.
وكيف نجرؤ على اتهام الله سبحانه بهذا، وبأنه يوجب علينا الإيمان بأن أسماءه وصفاته ألفاظ لا معنى لها، أو يوجب علينا ـ نحن المخلوقين ـ أن نضع لهذه الأسماء والصفات الإلهية المعاني التي نريد؛ لأنه عجز عن بيان معاني أسمائه وصفات؟!.(48/17)
وهل يقدر المخلوق، ويعجز الخلاق، والمخلوق آية من آيات قدرته القاهرة؟.إن ما ذكره الجويني يُشعِرك بأنه كان ـ وهو يكتب لتأييد الحق ـ ينظر بإحدى عينيه إلى الماضي الذي صال فيه، وجال ، مُدَّرِعاً بالتأويل، جاحداً بالاستواء، وبعقيدة السلف، ويرمق بالأخرى حاضره الذي انبثقت فيه إشراقة من النور في قلبه، ودوَّت في أعماقه زجرة هادية من الضمير تحثه على الإذعان الخالص للحق، وعلى أن يكفر بماضيه، وولائه للباطل فيه.
فحاول فيما كتبه في "العقيدة النظامية" أن يجعل منه شِفَّ رياء لماضيه، ولحاضره، حتى لا يثير أولئك الذين دانوا بكتبه الأولى، وانضووا تحت لوائه، وهتفوا باسمه، وصفقوا له!.
ثم؛ ليُسْكِن قليلاً من ثورة الحق التي يدوّي هديرها القوي في أعماقه!!
على أن في كلام "الجويني" حقائق جديرة بالتأمل والاعتبار :أولاها: أن خير طريقة هي طريقة السلف، لا طريقة الخلف، فالسلف هم صفوة هذه الأمة، فهم أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم -، والتابعون لهم بإحسان.
والثانية: وجوب الكف عن التأويل ـ أي الكف عن صرف الألفاظ عن ظواهرها.
الأخيرة: وجوب الاتباع، والكف عن الابتداع، وبهذه الحقائق التي ناصر الجويني فيها دعوة الحق، استحق أن يدعو المسلمون له بالرحمة والمغفرة، ولاسيما من أجل هذه النصيحة التي قال فيها: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به(24 )".
فعلى الأشاعرة المعاصرين واجب كبير، هو أن يكفوا عن العمل ببدعة الضلالة : بدعة الكلام، كما قال إمامهم الكبير ، وأن يدرسوا ما دان به سلف هذه الأمة دراسة واعية مستبصرة؛ ـ وهو دين الحق الجلي من الكتاب والسنة ـ ؛ ليحققوا بهذه الدراسة، وبالإيمان عن بينة ما دعاهم إليهم إمامهم الكبير الجويني، وهو: وجوب الاتباع، وترك الابتداع.
رأي الغزالي(48/18)
وأبو حامد الغزالي أشعري كبير، وله صفة أخرى ألصق به من أشعريته هي: أنه صوفي كبير!! ولكننا هنا سنأخذ عن "أشعريته" التي تعلمها على يد أستاذه "الجويني". أما صوفيته الإشراقية، فسنترك لغيرنا الحكم عليها في ترجمته.
يقول في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام": " اعلم أن الحق الصريح الذي لا مِراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف ـ أعني الصحابة والتابعين"( 25)، ثم قال: "إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصول مسلمة عند كل عاقل" وإليك موجزاً عن هذه الأصول التي ذكرها الغزالي.
الأصل الأول: أن النبي – صلى الله عليه وسلم ـ هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد، بالإضافة إلى حسن المعاد.
الأصل الثاني: أنه بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم، ولم يكتم منه شيئاً.
الأصل الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلام الله، وأحراهم بالوقوف على كنهه، وإدراك أسراره هم أصحاب الرسول الذين شاهدوا الوحي والتنزيل، ولازموا الرسول آناء الليل والنهار، مسخّرين أنفسهم لفهم معاني كلام الوحي، وتلقيه بالقبول للعمل به أولاً، ولنقله إلى الذين بعدهم ثانياً. وللتقرب إلى الله بسماعه وفهمه وحفظه ونشره. ثم يقول: "ليت شعري أيُتَّهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإخفائه( 26) ـ يعني الوحي ـ وكتمانه عنهم؟ حاشا منصب النبوة عن ذلك. أو يُتهم أولئك الأبرار في فهم كلامه، وإدراك مقاصده، أو يُتهمون في إخفائه وإسراره بعد الفهم، أو يُتهمون في معاندته من حيث العمل، ومخالفته على سبيل المكابرة مع الاعتراف بفهمه وتكليفه، فهذه أمور لا يتسع لتقديرها عقل عاقل".
الأصل الرابع: إن أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل، ولو كان التأويل من الدين أو علم الدين؛ لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً ودعوا إليه أولادهم وأهلهم.(48/19)
وبعد هذه الأصول المحكمة المسلّمة فعلاً عند كل مسلم يُصدر الغزالي هذا الحكم الصادق الحق الخاص بالسلف: "نعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما قالوه، والصواب ما رأوه( 27)". ولا ريب في أن كل أصل من هذه الأصول التي أجاد الغزالي في بسطها وعرضها توجب على كل مسلم أن يتبع، لا أن يبتدع. فعلى أشاعرة العصر الحديث، أو على الخلفيين واجب كبير أذكرهم به مرة أخرى، هو: أن يدرسوا مذهب السلف الذي أكد الغزالي أنه وحده هو الصواب والحق والهدى، وأن ما سواه خطأ وباطل وضلالة، دون أن يعتمدوا على الغزالي، فإنه بعد هذا التمجيد للسلف قد نسب إليهم آراء باطلة يبرأ منها صفوة السلف، فأثبت أنه لا يفقه دين السلف!.
وفي كتابه " فصل التفرقة بين الكفر والزندقة" يعرّف البدعة بأنها عبارة عن إحداث مقالة غير مأثورة عن السلف، ثم يتبع هذا بالحديث عن مقامين، فيقول: " يتضح لك أن ها هنا مقامين. أحدهما: مقام عوام الخلق، والحق فيه الاتباع والكف عن تغيير الظواهر رأساً، والحذر عن إبداع التصريح بتأويل لم تصرح به الصحابة، وحَسْمِ باب السؤال رأساً، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث، واتباع ما تشابه من الكتاب والسنة. كما روي عن مالك - رحمه الله- أنه سُئل عن الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة" ثم يتكلم عن المقام الثاني فيقول: "المقام الثاني بين النظار الذين اضطربت عقائدهم المأثورة المروية، فينبغي أن يكون بحثهم بقدر الضرورة، وتركهم الظاهر بضرورة البرهان القاطع( 28)".(48/20)
المقام الأول!! يصفه الغزالي بأنه مقام الاتباع، والكف عن الابتداع، وأصحاب هذه المقام يؤمنون بآيات الصفات والأسماء وأحاديثها من غير تغيير للظواهر أو نزوع إلى التأويل، كما قال مالك في الاستواء!! وكل مسلم يعرف أن هذا المقام هو مقام سلف هذه الأمة وأخيارها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، كما يعترف الغزالي ضمناً وصراحة. ولكن الغزالي ينعته صراحة أيضاً بأنه مقام العوام!! أما المقام الآخر، فهو مقام النظار أو المتكلمين أو الخلف، وهؤلاء يحرم عليهم ترك الظاهر من غير ضرورة مستمدة من البرهان القاطع؛ لأن ترك الظاهر بغير برهان قاطع كفر كما يقول الغزالي نفسه في نفس الكتاب. ولكن الغزالي يصف هذا المقام بأنه مقام النظار الذين اضطربت عقائدهم!!.
وأعتقد أن كل مسلم يحب أن يوجه إلى الغزالي هذا السؤال: إذا كان البررة الأخيار من سلف هذه الأمة هم العوام في الفكر والعقيدة والدين. فمن ـ يا تُرى ـ هم خواصها وأبرارها ، وأرباب الفكر الثاقب والبصيرة المشرقة، والدين القويم؟ لقد ذكر في "إلجام العوام" أنهم السلف. أما هنا فلا يذكر لنا في مقابل هؤلاء "العوام" سوى: "النظار الذين اضطربت عقائدهم" أفهؤلاء هم الخواص أصحاب الفكر العبقري والدين الخالص السوِيّ؟ ! لقد ضل الغزالي بأتباعه في تيه سحيق عميق!! فهم إن دانوا بما دان به خيار هذه الأمة، سماهم عواماً، وإن دانوا بما دان به علماء الكلام، أو الخلف سمّاهم نظاراً قد اضطربت عقائدهم!!.
والمسلم الحق ـ ولا شك ـ يحب أن يكون من أولئك الذين أطلق عليهم الغزالي أنهم عوام.(48/21)
وحسبنا من الغزالي اعترافه بأن أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كفوا عن التأويل، وأنهم آمنوا بصفاته وأسمائه كما وردت. وأن عقيدة السلف هي الحق والمنجاة، وأن التأويل هلكة ومَهْوَاة. اسمعوا إليه يقول في كتابه " قانون التأويل" عن التأويل في أصول العقيدة: " من أين يتجاسر عن الحكم بالظن، وأكثر ما قيل في التأويلات ظنون وتخمينات؟! ولست أرى أن أحكم بالتخمين. وهذا أصوب وأسلم من كل عاقل، وأقرب إلى الأمن يوم القيامة؛ إذ لا يبعد أن يُسْأل يوم القيامة، ويطالب، ويقال: لم حكمت علينا بالظن؟ ولا يقال له: لِمَ لمْ تستنبط مُرادنا الخفي الغامض( 29)". وتدبر ما ذكره دون أن يتعرض له بإبطال، وهو أن "إثبات الفوْق لله تعالى مشهور عند السلف ولم يذكر أحد منهم أن خالق العالم ليس متصلاً بالعالم، ولا منفصلاً، ولا داخلاً، ولا خارجاً، وأن الجهات الست خالية منه، وأن نسبة جهة فوق إليه كنسبة جهة تحت، فهذا قول بدع( 30)" تُرى هل يقتنع أشاعرة العصر، وهم أحلاس هذه البدعة الملعونة التي ذكرها الغزالي؟.
عقيدة الرازي
والفخر الرازي من أشهر متكلمي الأشاعرة، ومن غلاة المؤولة المسرفين في الطعن على السلف، ومن المؤلفين في كل فن حتى في السحر والتنجيم(31 ).
غير أنه ما لبث أن ارتاب في كل ما كتب ـ كما يقول شيخ الأزهر السابق، الشيخ مصطفى عبدالرازق:
" وقلَّت ثقته في العقل الإنساني، وأدرك عجزه، وأدرك تماماً أنه لا يستطيع الإحاطة بالوجود في ذاته. وكانت تنتابه في بعض مجالس وعظه نوبات فيصرخ مستغيثاً!! وعظ يوماً بحضرة السلطان شهاب الدين الغوري، وحصلت له حال، فاستغاث: " يا سلطان العالم لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقي" ! كما يذكر الشيخ أيضاً ما نقله ابن الصلاح عن الرازي، وهو قوله: " ياليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى(32 )".(48/22)
ومن وَهَج الحسرة البالغة على ما ضيّع من عُمُرٍ في الجدلِ عن الضلالة، ومن دموع الندامة التي كانت تؤُجُّ في أعماقه، ومن أغوار فاجعته النفسية راح يندب نفسه بهذه الأبيات:
نِهايةُ إقدامِ العُقولِ عِقالُ --- وأكثرُ سَعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحْشةٍ من جسومنا --- وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا --- سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(33)
إنها عاصفة الشك تجتاح نفسه، وتدمر ثقته في كل ما ألفه وكتب، وقرأ من قبل، وإنها صرخة الندم على ما ضيع!!.
"وأكثر سعي العالمين ضلال!!" إنه سعي "الخَلَفِيّة" ، وسَعي ماضيه الذي تروعه أشباحه، ونفجعه منه ذكريات الإسراف في الجور على قيم الحق ومقدساته، وفي اتهام أولياء الحق المثبتين للصفات بأنهم يهود هذه الأمة!! كما كان ينعتهم من قبل.
"جمعنا فيه قيل وقالوا"!! هذا هو كل ما حصله من معرفة!! إنها أقوال تافهة لا تهدي، ولا تنزع بفكر إلى الاهتداء، وغثاء عفن من الخرافات، وإنها لترجمان صادق عن قيمة كل ما ألف من كتب، وعن قيمة معارف أولئك الذين يَعدُون على الحق، ويوغلون في العدوان عليه!!.
فهل يعتبر أولئك الذين مازالوا على تقديسهم وولائهم لكتب ألفها الرازي في ضلالته، ثم عاد ـ والندم يستحوذ على مشاعره، والتوبة تأخذ بناصيته ـ فوصفها بأنها تافهة وباطل!! لقد برئ منها الرازي، وندم أشد الندم على تأليفه لها، وقد عبر عن هذا الندم في أبياته تلك، وبما سجله في كتابه " أقسام اللذات"(34 ).(48/23)
براءته من الخلفية: يقول في كتابه (أقسام اللذات) " لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في التنزيه:( والله الغني وأنتم الفقراء) وقوله : ( ليس كمثله شيئ ) ،و ( قل هو الله أحد ) ، وأقرأ : ( الرحمن على العرش استوى ) ، ( يخافون ربهم من فوقهم ) ، ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ، ( قل كلٌ من عند الله ) ومن جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".
وصية الرازي في مرض موته: أملى الرازي في مرض موته على تلميذه "إبراهيم بن أبي بكر الأصفهاني" وصية طيبة، قال عنها " ابن خلكان": "ورأيت له وصية أملاها في مرض موته على أحد تلامذته تدل على حسن العقيدة( 35)"، ومما جاء في هذه الوصية قوله: " ولقد اعتبرتُ الطرق الكلامية، ومناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم" ، وقد استفتحها بقوله: "اعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً، لا أقف على كمية، ولا كيفية سواء كان حقاً، أو باطلاً، أو غثاً أو سميناً(36 )".
اعتراف صادق ريّان الإخلاص في ندامته بأن المناهج الكلامية، أو طريقة الخلف لا تهتدي، ولا تهدي إلى يقين، وإنما تورث الشك والقلق والحيرة العاصفة.
وفي وصيته الحزينة صورة موجعة من مأساته الدامية، وإنك لتكاد تلمح دموع التوبة، وهي تنساب من عينيه الذاويتين، وتحس شواظ الحسرة المشبوبة في أعماقه!!.
كما يتبين لك في جلاء : رجوعه عن "خلفيته" الجامحة إلى عقيدة السلف، ويبدو لك إيمانه القوي بالاستواء والفوقية. وإني أخص هاتين بالذكر؛ لأن الرازي ـ رحمه الله ـ كان لا يكفر بشيء قبل توبته كما يكفر بالاستواء والفوقية ! ولكن تداركته رحمة من الله، فشرح للحق صدره، فتاب ومضى في شيخوخته الواهنة المكدودة المتعبة يبتهل إلى الله بالتوبة، ويلعن كل ما كتب من قبل!!.(48/24)
ثم يُعلن عقيدته في وصيته، ولكنك تحس بالخوف القوي الذي يملك على الرجل أنفاسه، وقلمه، وفكره وهو يقول: " كلما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القِدَم والأزليّة والتدبير الفعالية، فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتّفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو".
ثم يقول، ودموعه تحمل أشجان قلبه وأفلاذه مُسْترحماً الرحمن الرحيم: "لتكن رحمتك مع قصدي، لا مع حاصلي، فذاك جهد المُقِلّ، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في زلة ، فأغثني، وارحمني، واستر زَلَّتي، وامحُ حَوْبتي ، يا من لا يزيد ملكة عرفان العارفين، ولا ينقص ملكه بخطأ المجرمين".
ثم يقول ما يجب أن يقول الخلف بعد توبتهم: " وأقول : ديني متابعة سيد المرسلين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما".
أين الصِّيالُ في سَوْرتِه، وأين الجدال المحموم في رعونته؟ وأين الرازي الخلفي الذي جعل كتاب الله وراءه ظهريا؟ لا ترى إلا قلباً يذوب في توبته، ولوعة تنَفِّس عن غليلها، واستسلاماً مقروناً بالخوف والخشية المهيمنة على نفس ذليلة.(48/25)
فهل يتدبر الخلفيون الذين يتخذون الرازي رباً من دون الله فيحلون بهواه، ويحرمون بهواه، ويسدون أسماعهم وقلوبهم عن القرآن لهواه؟؟! فهم رازيُّون أكثر من الرازي الأسطورة.وهل يجوز أن يظل بعض الناس مُصرين على الإيمان بقدسية الرازي، ووجوب الاقتداء به في أصل الدين، وهو الذي وقف على شفا القبر يلعن ذلك الماضي الرهيب المعلون الذي استعلن فيه بعدوانه على الحق؟ أيهما أجدر بالاقتداء ـ إن كان يجوز الاقتداء بغير الرسول – صلى الله عليه وسلم- ـ آلرازي ـ وهو نهب الحيرة والضلالة في شبابه المعربد ـ أم الرازي الشيخ الذي شفته التوبة من ضلالته؟ إنه لعجيب أن يحطم صاحب الصنم صنمه، ويعلن في صراحة أنه كان صنماً حقيراً، ومع هذا يأبى الخلفيون إلا أن يعتقدوا فيه أنه ليس صنماً، وإنما هو إله كبير!!.
عجيب أن يَعْتَدَّ الخلفيون الزاعمون أنهم يتبعون الكتاب والسنة بكتب الرازي التي برئ هو منها، وجدَّ في لعنها، وسجد بين يدي الله في ذلة يضرع إليه ألا يحاسبه على ما بث فيها من زيغ وضلال!! عجيب أن يجعلوا هذه اللعنة عقبة كأداء تحول بينهم، وبين القرآن؟.
كلمة أخيرة مع الأشعرية
من هذا العرض الأمين يتبين لنا أن أبا الحسن الأشعري دان - بعد الاعتزال- بأهم أصول عقيدة السلف، وأنه لم ينقض شيئاً مما قاله في الإبانة، وأن كبار أئمة الأشاعرة كانوا ـ إذا ضلوا، وأضلوا ـ سرعان ما يفزعون بالتوبة إلى الله من الخلفية، ويفيئون إلى السلفية ، يستروحون منها سكينة الهدى بعد أن أهلكهم السُّرى في غياهب الضلالة!!.
حتى الغزالي!! فإن ابن عساكر يقول عنه: " وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين البخاري ومسلم(37 )".(48/26)
ولهذا ؛ أسأل الزاعمين أنهم على دين الخلف: أين هو دين الخلف، وهؤلاء الذين تعدونهم أئمة الخلف، قد لعنوا هذا الدين الخَلَفِيَّ، وبرئوا إلى الله منه، ودعوا جميعاً إلى الإيمان بما آمن به سلف هذه الأمة، وكما آمنوا؟ وإني لأستطيع أن أجيب بالحق البين: ليس للخلفية من معنى، ولا سلطان تعتد به بعد هذا إلا ذكريات تعسة!! فقد شهد التاريخ أئمة هذه "الخلفية" وهم يهوون بمعاولهم عليها، ويأتون بنيانها الواهن من القواعد، ويُخَلِّفون أطلالها الثكلى تقص للتاريخ قصة أولئك الذين شيدوها، ثم حطموها، وتركوها أنقاضاً تثير العِبْرة والعَبْرة!! تركوها، ومالها من وجود إلا في متحف الآثار البالية!! ثم أقول للخلفيين أيضاً: إنه لا "الإرشاد " ولا " المواقف "، ولا " العقائد العضدية "، ولا "المقاصد "، ولا "العقائد النسفية" ، ولا كل الشروح الطوال لها، ولا الحواشي المسرفات في اللغو والهذر، ولا كل كتب الرازي التي ألفها قبل توبته. لا كتاب من هذه الكتب يمثل حقيقة ما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري، ثم هو بالأحرى لا يهدي إلى يقين، ولا يمثل صورة من صور اليقين!! أروني الذين هُدوا إلى الإسلام على يد هؤلاء؟ " . انتهى كلام الشيخ الوكيل -رحمه الله - ، ( ص 47 - 98 ) .
تنبيه : كلامه عن محققَي التمهيد للباقلاني ، سبق الحديث عنه هنا :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=24051
وهنا : رسالة الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة - رحمه الله - عن الباقلاني وكتابه :
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=18111
------------
الهوامش
(1)ص 152 بيين كذب المفتري.
(2)ص448 ج1 مجموعة الرسائل الكبرى.
(3)انظر صفحتي129، 131 من تبيين كذب المفتري.
(4)ص175 المصدر السابق.(48/27)
(5)ذكر الحافظ أبو محمد بن علي البغدادي في رسالة الذب عن الأشعري أنه شاهد نسخة من الإبانة بخطه مقروءة مصححة. ثم عرّض بأشعري ارتاب في نسبة الكتاب إلى أبي الحسن. فقال: " فما دريت من أي أمريه أعجب، أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف من العلماء. أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه. واشتهاره قبل توبته بالاعتزال" ص10 رسالة " الكوثري وتعليقاته" مطبعة الإمام.
(6)ص 320 وما بعدها ج1 مقالات الإسلاميين طبع النهضة ويقول ابن تيمية عن كتابه هذا " إنه من أجمع الكتب، وقد استقصى فيه أقاويل أهل البدع، ولما ذكر قول أهل السنة والحديث ذكره مجملاً غير مفصل" ص247 مجموعة تفسير ابن تيمية.
(7)البردان: اسم يطلق على قرية في بغداد، وعلى مواضع أخرى. ومدينة السلام: هي بغداد.
(8)حُلوان: تقال على عدة أماكن منها حلوان العراق، وكانت مدينة عامرة، وحلوان قوهستان بنيسابور، وحلوان مصر.
(9)ص119 وما بعدها اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 452 ج1 مجموعة الرسائل الكبرى، ص169 ج3 شذرات الذهب وانظر النسخة المصورة من التمهيد الموجودة في حوزة إدارة الثقافة بالجامعة العربية، وهي منقولة عن نسخة مكتبة مصطفى عاطف باستانبول رقم 2223 ويوجد هذا النص في أثناء وجه 137 من النسخة العاطفية.
(10)ص 262 من كتاب التمهيد.
(11)وجد في النسخة العاطفية لكتاب التمهيد، وذلك في أثناء وجه 136 منها.
(12)وجد في النسخة العاطفية في أثناء وجه 169.
(13)أشرت إلى هذا في كتابي "دعوة الحق" المطبوع سنة 1952 حينما عرضت رأي الباقلاني.
(14)يقول بعض المتكلمين، ومنهم الأشاعرة : إن الكائنات مؤلفة من أجزاء متماثلة في ذاتها، وكل جزء من هذه الأجزاء يسمى الجزء الذي لا يتجزأ، أو الجوهر الفرد، أو الذرة في الاصطلاح العلمي الحديث. وقد عرّف الكلاميون الجوهر الفرد بأنه ذو وضع لا يقبل القسمة أصلاً. لا قطعاً، ولا كسراً ولا وهماً، ولا فرضاً.(48/28)
والإيمان عند الأشعرية يتوقف على الإيمان بمسألة الجوهر الفرد، فهو حجر الزاوية في مذهبهم، أو كما عبر كبير منهم، الأصل السادس من أصول الإسلام ، أو القاعدة التي ينبني عليها كثير من قواعد الإسلام، كإثبات القادر المختار، وكثير من أحوال النبوة والمعاد!! والخلق المستمر، هكذا يؤكد الأشاعرة أنه بدون دليل الجوهر الفرد، لا يمكن إثبات قدرة الله واختياره، ولا إثبات نبوة من النبوات، ولا القيامة التي أخبر الله عنها! أما الخلاء، فقد افترضوا وجوده، لكي يمكن تحرك هذه الجواهر الفردة، فتجتمع، أو تفترق. والأشاعرة لم يبتدعوا القول بالجوهر الفرد، وإنما قلدوا غيرهم وغلوا في التقليد، حتى أصبح الجوهر الفرد عندهم هو الدليل المعتمد وحده في التوحيد. إنهم استمدوه من المتكلمين قبلهم، وهؤلاء استمدوه من الفلسفة اليونانية القديمة التي كانت قبل سقراط، ولاسيما فلسفة "ديمقريطس" ، فقد قسم هذا الفيلسوف الطبعي الوجود إلى عدد غير متناه من الوحدات المتجانسة غير المنقسمة، غير المحسوسة لتناهيها في الدقة، وحكم عليها بالوجود في خلاء غير متناه تتحرك فيه، فتتلافى، وتفترق ، فيحدث الكون بتلاقيها، والفساد بافتراقها. وديمقريطس يحكم بقدم هذه الجواهر الفردة أو الذرات وببقائها الأبدي السرمدي، وبأن الحركة تعصف بها منذ القدم بذاتها، أي لا صلة لإله بحركتها !
وينتقل مذهب الفيلسوف، ويؤمن به الأشاعرة، فيصير ديمقريطس هو النبي المستتر لأشاعرة الجوهر الفرد، وتصير أسطورته الأصل الذي يتوقف عليه إيمانهم ونجاتهم هذا، وقد فجر العلم الذرة، وعصف بها، وفتتها. تُرى بماذا يثبت الأشاعرة اليوم وجود الصانع المختار، والنبوات، ومجيء اليوم الآخر؟.
(15)ص206 ط عبدالرحمن محمد.(48/29)
(16)يقول الغزالي: " من أشد الناس غلواً وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا التي حررناها، فهو كافر، فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده" ص97 الجواهر الغوالي مجموعة رسائل للغزالي.
(17)نبهنا مراراً على أن القديم ليس من أسماء الله الحسنى ، وإنما من أسمائه الأول والآخر.
(18)أي بإصبعها، وقد صرح في رواية أبي هريرة التي أخرجها أبو داود "فأشارت إلى السماء بأصبعها".
(19)انظر ص40 من كتاب الإرشاد، وقد روى محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر أبا المعالي، وهو يخطب على المنبر بقوله: " كان الله، ولا عرش" ، ويؤكد نفي الاستواء، فقال له الهمداني: " يا أستاذ دعنا من ذكر العرش ـ يعني؛ لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ: وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة، ولا يسرة ، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا" ، فصرخ أبو المعالي - ووضع يده على رأسه - : "حيرني الهمداني" ! ثم نزل من على المنبر. وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه القصة بقوله: " فهذا الشيخ الهمداني ـ تكلم بلسان جميع بني آدم، فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة ، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش، ولا استواء، فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن، وجميع من يدعو الله تعالى، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟" ص 52 نقض المنطق.
(20)الفحوي = معنى الكلام ولحنه. وتعبير أبي المعالي يخالف الحقيقة ، فالذي امتنع على أهل الحق: هو إدراك الكيفية لا المعنى.
(21)أي امتنع إجراؤها على حسب ما يفهم الناس منها بالنسبة إلى الخلق.(48/30)
(22)انظر ص23 وما بعدها العقيدة النظامية ط سنة 1948 بمطبقة الأنوار بالقاهرة، وهي قسم من كتاب كبير ألفه الجويني في العقيدة والأركان المبني عليها الإسلام. وقد عمد تلميذه "أبوبكر بن العربي" إلى فصل قسم العقيدة من هذا الكتاب. وتسميته: "العقيدة النظامية".
(23)أطلق عليه " ربيعة الرأي" وقد قال عنه مالك: "ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة" توفي سنة 136هـ.
(24)ص61 نقض المنطق.
(25)ص 5 إلجام العوام ط منير.
(26)الصوفية التي آمن بها الغزالي، ونصرها تؤكد ذلك، فتزعم أنه كتم الحقيقة، وأظهر الشريعة! وأنه اختص بالحقيقة قوماً دون قوم من أصحابه!! وانظر النصوص الدالة على هذا في كتابَي " مصرع التصوف " و " هذه هي الصوفية".
(27)ص 33 وما بعدها إلجام العوام.
(28)ص 88 الجواهر الغوالي رسالة " فيصل التفرقة" ط أولى سنة 1353هـ.
(29)ص 12 قانون التأويل.
(30)ص88 رسالة فيصل التفرقة، داخل مجموعة الجواهر الغوالي.(48/31)
(31)ألف فيه كتاب "السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم". وقد ألفه كما يقول ابن تيمية في السحر وعبادة الكواكب والأوثان ، مع أنه كثيراً ما يحرم ذلك، وقد نقل ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: " يُعلمون الناس السحر" نصوصاً كثيرة ، منها : زعمه: أن الساحر قد يقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً، وأن تحصيل العلم بالسحر واجب، وأن السحر ثمانية أنواع، منه سحر الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة، وقد ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل كوكب من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلونه، وما يلبسونه، وما يتمسكون به، كما ذكر أن من أنواع السحر الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن،وذكر أنه يمكن الاتصال بها بالرقى والدخن أو بالعزائم وعمل التسخير. ثم يقول ابن كثير: "ويقال إنه تاب منه، وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد" ، وقال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال": " وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم" سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله" ، كما ذكر ابن خلكان أسماء كتب الرازي التي ألفها، ثم قال: " وفي الطلسمات السر المكتوم أو المكنون".
وله كتاب في تفسير حديث المعراج يقول عنه ابن تيمية ما يأتي: "احتذى فيه حذو ابن سينا. فإنه روى الحديث بسياق طويل وأسماء عجيبة وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين. وإنما وضعه بعض السوّال والطرقية، أو بعض شياطين الوعاظ، أو بعض الزنادقة. ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين. وجعل معراج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترقيه بفكره إلى الأفلاك ! وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب ، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس والأنهار الأربعة هي العناصر، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق" !! ص53 نقض المنطق.
(32)ص20 من مقال صدّر به الشيخ كتاب: "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" للرازي.(48/32)
(33)انظر ترجمة الرازي في وفيَات الأعيان لابن خلكان، وتذكرنا هذه الأبيات بقول الشهرستاني صاحب الملل والنحل: لقد طفت في تلك المعاهد كلها * وسيرت طرفي بين تلك المعالم * فلم أر إلا واضعاً كف حائر * على ذقَن أو قارعاً سن نادم ، وقد قدم بهما لكتابه "نهاية الإقدام" كما ذكر ابن خلكان في ترجمته.
(34)سماه الشيخ مصطفى عبدالرازق أقسام الذات، ولعله خطأ مطبعي، فالكتاب يتحدث عن أقسام اللذات الإنسانية.
(35)ذكرها في ترجمة الرازي.
(36)23، 24 مقدمة الشيخ مصطفى عبدالرازق لكتاب الرازي.
(37)ص 296 تبيين كذب المفتري.(48/33)
تعليقات الشيخ ابن مانع على مقالات وكتب الكوثري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا كتابٌ جمعت فيه تعليقات العلاّمة الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله - على مقالات وكتب الكوثري ، جمعتها من مكتبته الخاصة المحفوظة بمكتبة الملك فهد بالرياض ، صدّرتها بنبذة عن حال الكوثري الذي أصبح " عَلَمًا " على " الجهمية - القبورية " في هذا الزمان ، يصدر عن كتبه من تأثر بهاتين البدعتين . وقد فاتني أن أذكر فيها :
1- رأي الأستاذ محمود الملاح " العراقي " - رحمه الله - .
2-رأي الشيخ أبي عبدالرحمن الظاهري - حفظه الله - .
أما الملاح ؛ فقد قال في مقالته عن الكوثري ، المنشورة في رسالته " مجموع السنة " ، ( 1 / 329 -339 ) -وأنتقي منها المهم - : " إن الكوثري مع شهرته في غير قطرنا لا يكاد اسمه يدور على الألسنة في العراق!.
وأول عثوري على اسمه كان عند اقتنائي نسخة من كتاب (الفَرق بين الفِرق) لعبد القاهر البغدادي ، إذ كان مكتوباً على غلافه : " عرف الكتاب وترجم للمؤلف وصححه وكتب هوامشه العلامة المحقق الكبير.. الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية"...
وأبلغني صديق في زمن متأخر أن الكوثري ليس كما كنتُ أظن وسطاً محدوداً ، بل هو صوال جوال ، فسيح المجال ، ذو آراء وأقوال ذات استقلال... وله تآليف ومقالات ، واعتراضات وانتقادات في مواضيع شتى... وأنها تبلغ كذا..
فسرني هذا الخبر المؤنس طبعاً، وكنت أشعر بالوحشة..! وزادني سروراً وعده إياي بمجلد ضخم من (كوثر) الكوثري!.
وشغلتني الشواغل ، جعل الله من خلقها لي أشغل من ذات النحيين..! ومر زمن ؛ حتى سقط عليَّ الجزء الأول من المجلد الثلاثين من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ، وإذا في ص156 منه تعليق للأستاذ البيطار على كتاب بعنوان (طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل).
فعلمت أن هناك هيجاء لم أسمع بضوضائها!..(49/1)
ومما تجانسنا فيه إنحاؤه بالتقريع على (مُرابط) مريب في مصر يزعم محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية، قائلاً ما معناه: إن التقريب بين المذاهب السنية مفروغ منه ؛ لاتحاد أصولها ، فدعواه تحصيل حاصل!...
لكن نغَّص عليَّ ذاتي بعد تلك المزايا وأخصها توافقنا في محاربة الباطنية قديمها وحديثها كالسبئية وخباياها.. والقاديانية ورزاياها.. أنا نختلف في ما يتصل بصميم ما توافقنا عليه ، بحيث فقد التناسق في منهاجه ، واختل الاتجاه!...
مثال ذلك : أنا متفقان في نقطة حرب الباطنية ، ومجتمعان على نظام التعبئة، لكنا حين نتجه إلى الخصم شاكي السلاح يزيغ هو إلى أحد أركان الخصم العتاة ؛ فيصافحه ويُقبل وجناته ، ويتمرغ بلحيته ، ويدعوه بالشيخ الأكبر - بالباء..! وهو لا يرى أنه أحدث بانحرافه خللاً في التعبئة، فكم من جهد أحتاج إليه ؛ لكي أفهمه أنه أحدث خُرماً من التعبئة يتدفق علينا منه الخطر ، والقذائف مثل المطر!.
وإنما جاءته هذه العلة ، من البيئة المعتلة: البيئة العثمانية البالية ، التي نبت فيها ، وتسمد بسمادها، فكان قوام ذهنه من ذراتها ، ومزاجه من طبيعة مناخها، فهو صورة طبق الأصل لبيئته!.
ولو أن الله كتب لنا التواصل ، وهو على قيد الحياة ، لربما تداركته فأحييته قبل أن يموت، ولو بقليل ؛ لأني آنست منه حب الحق، لكن ضل طريقه يا للأسف!...
لكن أنى لنا صبر على هدم كيان مجتهد ظهر في عصر متأخر ؛ هو الإمام الشوكاني اليماني ، الذي لا تجود دنيا الإسلام بمثله (دع) دنيا اليمن!.
إنه لم يكتفِ بالطعن في دينه ، بل أسفَّ إلى الطعن في جرثومته ، وهو أنه يهودي! فكان إسفافه أشبه بإسفاف (دجال استعماري) مجلوب.. زعم أن الولي الدهلوي الذي تدين بموالاته ملايين المسلمين في الهند وباكستان وغيرهما هو يهودي ، بوقاحة ظاهرة ، تشفياً منه ؛ لتأليفه كتاباً فضح فيه مكنونات سبئية ومجوسية ومزدكية...(49/2)
ولم يكن هجومه على الإباضية أقل شدة من هجومه على الرافضة... وهو بعد كل هذا يبرئ زيداً وأتباعه الخُلص ، ولا يعطف على ابن تيمية وأتباعه ، بل يسلقه ويسلق من قفا أثره ؛ كابن القيم وابن عبدالوهاب بلسان حاد..! ولم يسلم من وخزات قلمه السيد صديق خان ، ولا الألوسي صاحب جلاء العينين ، ولا والده ، ولا ابن أخيه..!.
فالرجل له صفحتان، صفحة حسناء نيرة، وصفحة شوهاء مظلمة! و (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).
ولا يمكن استقصاء الكوثري ، كما لا يمكن استقصاء آثاره.. ومن المؤسف أني لم أقف على كنهه إلا بعد وفاته ، ولو أدركته قبل وفاته لتداركته، ولكن هكذا كانت القسمة فيا للخسارة! " .
وأما الظاهري ؛ فقال في ( مجلة الدرعية ، العدد 41 ، ص 27 – 28 ) : " ويدخل في هذا الباب أن بعض المعاصرين يكون دافعه للكتابة عن عَلَم ، أو تحقيق أحد مؤلفاته : الحب ، أو الشنآن ؛ فيظهر ذلك في عمله ، فمن النموذج الأول .... ، ومن النموذج الثاني – وهو أسوأ نموذج – محمد زاهد الكوثري ، فمقدماته لكتب السلف ، وتحشياته عليها محل نظر وتحرٍ ؛ لشدة تعصبه ، وقلة تورعه عن الثلب بغير حق ، بل يجب مقارنة تحقيقه بالأصول الخطية ، فإنه غير مؤتمن " .
حمّل الكتاب من هنا(49/3)
شبهات عصرانية مع أجوبتها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا كتاب ( شبهات عصرانية مع أجوبتها ) ، أشكر الإخوة الكرام في موقع " الألوكة " العلمي على اهتمامهم به ، وطبعه ضمن إصداراتهم التي بدأت – ولله الحمد – بالصدور مع معرض الكتاب لهذا العام .
ذكرت فيه أبرز الشبهات التي تتردد في كتابات العصرانيين ؛ ممن يريدون إخضاع أحكام الشريعة لأهوائهم المتخفية خلف ضغط العصر ، وفقه الواقع .. إلى غير ذلك من الحيل الشيطانية التي انساقوا معها . ثم ذكرت أجوبة العلماء والباحثين عنها – بأسلوب مختصر – .
والشُبه هي :
1- قولهم : لماذا تُلزموننا بفهم السلف ؟
2- قولهم بتغير الأحكام تبعًا لتغير الزمان .
3- تمسكهم برأي ( الطوفي ) في المصلحة .
4- تقسيمهم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريفية .
5- مغالطاتهم في الفهم المقاصدي للإسلام .
6- احتجاجهم بمقولة : " إذا وُجدت المصلحة فثمَّ شرع الله " .
7- مغالطاتهم في مسألة " فقه الشافعي القديم والجديد " .
8- احتجاجهم بكلام لابن القيم – رحمه الله – لم يفهموه .
9- دعوتهم إلى الاجتهاد في أصول الفقه .
10- فهمهم الخاطئ للجهاد .
حمّل الكتاب من هنا(50/1)
فوائد شرعية عن ( صخرة القدس ) - تعريفها - بناؤها- حكم تعظيمها ..
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذه مجموعة فوائد شرعية عن " صخرة القدس " ، انتقيتها من كتاب الدكتور ناصر الجديع - حفظه الله - " صخرة القدس في ضوء العقيدة الإسلامية " ؛ ليعم الوعي بين المسلمين بماقيل عنها في ضوء نصوص الشريعة ، والله الموفق
التعريف بالصخرة
هي إحدى صخور مرتفعات القدس، وتقع وسط فناء المسجد الأقصى، ويبلغ طولها 18متراً وعرضها 13متراٌ تقريباً ، ويتجه جانبها المنحدر إلى الشرق، بينما يتجه جانبها المستقيم المرتفع إلى الغرب، وترتفع بعض نواحيها عن سطح الأرض بحوالي متر، وشكلها غير منتظم، أما محيطها فيبلغ عشرة أمتار، ومن أسفلها فجوة هي بقية كهف عمقه أكثر من متر ونصف، وتظهر الصخرة فوقه وكأنها مُعلَّقة بين السماء والأرض(1)، وهي محاطة بسياج من الخشب المنقوش(2).
بناء القبة على الصخرة
ذكرت المصادر التاريخية أن بناء القبة على الصخرة يرجع إلى عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان(3)، حيث أمر سنة 66هـ ببناء القبة على صخرة بيت المقدس تكنّ المسلمين من الحر والبرد وعمارة الجامع الأقصى ، وقد كمل البناء سنة 70هـ وقيل 73هـ ، وقد وكل عبدالملك للقيام بذلك رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه.
مكانة الصخرة في الإسلام
قال الله تعالى: ( سَيَقُولُ السُّفهَاءُ من النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاٍ مُسْتَقِيمٍ)(4) .
وقال تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(5).(51/1)
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يستقبل في الصلاة بيت المقدس أول الأمر وهي قبلة اليهود، وكان – صلى الله عليه وسلم- يحب التوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ) الآية، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود والمنافقون: ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟(6).
وجاء في الصحيحين عن البراء بن عازب – رضي الله عنه- أنه قال: (صلينا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صُرِفنا نحو الكعبة)(7).
وجاء في صحيح البخاري عن البراء – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم- صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشرة شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يُعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت،..)(8) الحديث.
والمقصود مما تقدم : أن بيت المقدس كانت قبلة المسلمين الأولى، ولكن هل المراد بهذه القبلة صخرة بيت المقدس بالذات؟.
وللإجابة على هذا أقول: إن هناك آثاراً لبعض التابعين صرحت بذكر الصخرة وأنها كانت القبلة.
من ذلك ما رواه الإمام الطبري – رحمه الله- بإسناده عن عكرمة والحسن البصري – رحمهما الله- أنهما قالا: (أول ما نُسخ من القرآن القِبلة، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستقبل صخرة بيت المقدس، وهي قبلة اليهود، فاستقبلها النبي – صلى الله عليه وسلم- سبعة عشر شهراً...)(9).
كما أن الإمام ابن كثير – رحمه الله- عند تفسيره للآيات السابقة قد جزم بأن تلك القبلة كانت الصخرة.
فقد قال – رحمه الله- بعد كلام تقدّم: ( وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة، مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله، ابن عباس والجمهور)(10).(51/2)
وقد أورد صاحب كتاب ( إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى) ما يفيد أن صخرة بيت المقدس كانت قبلة المسلمين، وأن أنبياء بني إسرائيل كانوا يصلون إليها، واستدل لذلك بما روي في فتح بيت المقدس أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- استشار كعباً أن يضع المسجد، فقال: اجعله خلف الصخرة، فتجتمع القبلتان، قبلة موسى، وقبلة محمد – صلى الله عليه وسلم- فقال: (ضاهيت(11) اليهودية)(12)(13).
وممن جزم من العلماء بأن القبلة الأولى كانت صخرة بيت المقدس، وأنها كانت قبلة اليهود: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم – رحمهما الله تعالى-.
وأخيراً : لا شك أن اعتقاد كون الصخرة خاصة قبلة المسلمين الأولى يحتاج إلى دليل قطعي يعتمد عليه، ومهما كان الأمر، فعلى افتراض صحة ذلك فإن الأمر لا يعدو القول بأن صخرة المقدس كانت قبلة للمسلمين فترة وجيزة، ثم نسخت بالكعبة.
حكم تقديس الصخرة
لايجوز ؛ لمايلي :
1- إن المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة من حيث جواز شد الرحال إليه، ومضاعفة الصلاة فيه.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)(14).
وقد روي أن الصلاة فيه تضاعف بخمسمائة صلاة(15)، وروي بغير ذلك(16).
2- إن الإسراء بالرسول – صلى الله عليه وسلم- كان إلى المسجد الأقصى، ثم العروج منه إلى السماء، كما قال تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الَّذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)(17).
3- إن الأقصى اسم للمسجد كله، ولا يختص بالمسجد القائم بالناحية القبلية الجنوبية، كما يظنه بعض الناس(18).
4- ليس ببيت المقدس مكان يُقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-.(19)(51/3)
5- العبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد: الطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحرج الأسود. وأما مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يُطاف فيه، ولا ما يُتمَسَّحُ به، ولا ما يُقبل، فهذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-.(20)
6- زيارة المسجد الأقصى للصلاة فيه، والدعاء والذكر والقراءة، والاعتكاف مشروعة في أي وقت، ولا علاقة لهذه الزيارة بالحج، كما ظنه بعضهم(21).
من خلال ما سبق اتضح لنا عدم اختصاص الصخرة بمزية معينة في الإسلام، وإنما هي واقعة ضمن حدود المسجد الأقصى، وتسري عليها أحكامه، كمضاعفة الصلاة عندها.
وإن قصارى ما يمكن أن يقال عن مكانتها في الإسلام أنها كانت قبلة لليهود، وأما المسلمون فقد كانت قبلة لهم فترة من الزمن أول الإسلام، ثم نسخ ذلك باستقبال الكعبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الصخرة (كانت قبلة، ثم نُسخت، وهي قبلة اليهود، فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم، كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت) (22).
وقال ابن القيم – رحمه الله -: ( وأرفع شيء في الصخرة أنها كانت قبلة لليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة المحمدية: الكعبة البيت الحرام) (23).
وبما أن العبادات مبناها على التوقيف والإتباع لا على الهوى والابتداع؛ فلا يجوز تخصيص تلك الصخرة بعبادة، كتخصيص زيارتها للصلاة عندها، كما لا يجوز تعظيمها، ولا التبرك بأي وجه كان، كتقبيلها، أو التمسح بها، أو الطواف حولها، ونحو ذلك.(51/4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- : ( لا تُستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلى في قبليّ المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين)(24).
وقال - رحمه الله - عن حكم الطواف بغير الكعبة: ( لا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي – صلى الله عليه وسلم-، ولا يغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء... بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يُطاف بالكعبة) (25).
وذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - من بدع بيت القدس: تعظيم الصخرة بأي نوع من أنواع التعظيم، كالطواف بقبتها تشبهاً بالطواف بالكعبة، أو التمسح بالصخرة، أو تقبيلها، ونحو ذلك(26).
ومن الأدلة على ماسبق أيضًا :
أولاً: لم يرد في مشروعية ذلك دليل من الكتاب ولا من السنة.
ثانياً: لم يفعل ذلك الصحابة ولا التابعون ممن زار منهم بيت المقدس.
ثالثاً: إن تعظيم الصخرة وتقدسيها فيه مشابهة لليهود(27)، وقد أُمرنا بمخالفة الكفار، ونُهينا عن التشبه بهم وخاصة أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى.
ولهذا فإن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حين كان في بيت المقدس لما أشار عليه كعب الأحبار أن يصلي خلف الصخرة أنكر عليه ذلك وقال: ( ضاهيت اليهودية، لا. ولكن أصلي حيث صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فتقدم إلى القبلة فصلى) (28).
وفي قول عمر (ضاهيت اليهودية) إشارة إلى أن تعظيم الصخرة من شأن اليهودية، فكيف نتشبه بهم في ذلك؟.
هل صلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندها؟
لم أقف على دليل صحيح يثبت صلاة الرسول – صلى الله عليه وسلم- عند الصخرة، بل جاء في مسند الإمام أحمد في قصة بيت المقدس – كما تقدم(29) – قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لكعب لما أشار عليه بالصلاة خلف الصخرة: (لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فتقدم إلى القبلة فصلى).
هل عُرج بالرسول صلى الله عليه وسلم من عندها ؟(51/5)
إن الروايات الصحيحة لحديث الإسراء والمعراج لم تحدد موضع العروج من المسجد الأقصى، لا الصخرة ولا غيرها.
فقد جاء في صحيح مسلم على سبيل المثال في النبي – صلى الله عليه وسلم-: ( ثم عُرج بنا إلى السماء) (30).
تحقيق ماورد في فضلها
لقد وردت عدة أحاديث وآثار في فضل الصخرة، منها المرفوع والموقوف والمقطوع.
ولكن بعد التأمل فيها ودراسة أسانيدها اتضح أنها لا تنهض دليلاً على أن الصخرة مزية تُعظم لأجلها، ولهذا قطع العلامة ابن القيم – رحمه الله- بأن كل حديث في الصخرة فهو كذب مُفترى(31).
قد يتعلق البعض بما أُثر أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حين فتح بيت المقدس أمر بإزالة ما على الصخرة من كناسة كانت النصارى قد ألقتها عليها(32)، حتى إنه كنسها بردائه وكنس الناس(33).
والرد على هذه الشبهة:
لأن يُقال : إن ما فعله عمر – رضي الله عنه- لا يدل على تعظيم الصخرة ولا تقديسها، حيث إن الأمر لم يتجاوز إزالة قمامة موضوعة في بعض أجزاء المسجد الأقصى– والصخرة تقع في وسط المسجد الأقصى كما تقدم-.
والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لم يصلِ عند الصخرة ولا تمسَّح بها، بل تقدم وصلى في قبليّ المسجد، مع أنه كان بإمكانه أن يصلي خلف الصخرة مستقبلاً القبلة كما أشار عليه كعب، ولكنه – رضي الله عنه- لم يفعل ذلك.
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله- بعد سياقه قصة عمر – رضي الله عنه-: (فلم يعظّم الصخرة تعظيماً يصلي وراءها وهي بين يديه، كما أشار كعب الأحبار - وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم، ولكن منَّ الله عليه بالإسلام فهُدي إلى الحق – ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين عمر (ضاهيت اليهودية) ولا أهانها إهانة النصارى، الذين كانوا قد جعلوها مزبلة، من أجل أنها قبلة اليهود، ولكن أماط عنها الأذى، وكنس عنها الكناسة بردائة.(51/6)
وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها(34)) (35).
لماذا بنى عبدالملك القُبّة ؟
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – عند كلامه عن بناء تلك القبة وسبب ذلك- أنه لم يكن على عهد الخلفاء الراشدين على الصخرة قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابن عبدالملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة المعروفة، كان الناس يحجّون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبدالملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير، فبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف ليرغّب الناس في زيارة بيت المقدس، ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير(36).
إجابة عن شبهة
يعتقد بعض الناس وجود بعض الآثار النبوية وغيرها في صخرة بيت المقدس، وأن هذا من دواعي التبر بها وتقديسها.
ولقد أجاب العلماء المحققون عن هذه المزاعم، فأنكروا صحتها، وبينوا بطلانها، وأنها لا أصل لها ولا سند إلا مجرد الشهرة فقط بين أوساط جهلة الناس.
ومن أشهر ما نسب للصخرة من الآثار: أثر قدم النبي – صلى الله عليه وسلم- في أعلى الصخرة عندما صعد عليها ليلة المعراج.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- منكراً ذلك وأمثاله: ( وما يذكره بعض الجهال فيها – أي الصخرة- من أن هناك أثر قدم النبي – صلى الله عليه وسلم-، وأثر عمامته، وغير ذلك؛ فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب) (37).
وقال ابن القيم – رحمه الله-: (والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي المزوِّرين، الذين يروِّجون لها ليكثر سواد الزائرين) (38)، فأثر القدم على الصخرة – كما نبه ابن القيم- من اختراع أصحاب المصالح تمويهاً على الناس حتى يحرصوا على زيارتها.
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
------------------------
الهوامش :(51/7)
(1) لعل هذا هو الذي جعل بعضهم يزعم أن الصخرة معلقة بين السماء والأرض، وأنها قد انقطعت من كل جهة.انظر مثلاً كتاب إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى ؛ لأبي عبدالله المنهاجي السيوطي 1/134.ومن الذين ناقشوا هذه الفرية وأبطلوها موسى محمد الأسود في كتابه الإسراء والمعراج ص103.
(2) من كتاب القدس الخالدة للدكتور عبدالمجيد زايد ص190، وكتاب أشهر المساجد في الإسلام لسيد عبدالمجيد بكر 1/314، 324، وكتاب القدس عربية إسلامية للدكتور سيد فرج راشد ص38.
(3) هذا ما تؤكده أغلب المصادر، وجاء في بعضها أن الذي بنى مسجد قبة الصخرة هو الوليد بن عبدالملك، ولعل سبب هذه النسبة أن الوليد وهو ابن عبدالملك وولي عهده، له بعض الأثر في البناء، فقد يكون أشرف عليه أو على ناحية منه، مع العلم أنه قد أضاف إلى القبة بعض التحسينات والنقوش. انظر كتاب تاريخ القدس للدكتور شفيق جاسر محمود ص203.
(4) سورة البقرة: 142.
(5) سورة البقرة: 144.
(6) انظر أسباب النزول لأبي الحسن الواحدي ص33.
(7) صحيح البخاري 5/152 كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، باب (ولكل وجهة هو موليها..) صحيح مسلم 1/374 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.
(8) صحيح البخاري 5/151 كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، باب (سيقول السفهاء من الناس...).
(9) تفسير الطبري 3/138.
(10) تفسير ابن كثير 1/190، وانظر: 3/18.
(11) المضاهاة: المشابهة، والمعنى: شابهت اليهودية وعارضتها (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/106).
(12) انظر كتاب إتحاف الأخصا بفضائل الأقصى لأبي عبدالله المنهاجي السيوطي 1/182.
(13) أخرجه أبوعبيد في كتاب الأموال ص73، وأخرجه مختصراً الإمام أحمد في مسنده 1/38.
(14) صحيح البخاري 2/56 كتاب وباب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، صحيح مسلم 2/1014 كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، واللفظ لمسلم.(51/8)
(15) انظر كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي 1/213، وقد حسنه الهيثمي، انظر مجمع الزوائد 4/7.
(16) راجع كتاب إعلام الساجد للزركشي ص288، المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم ص92، 93.
(17) سورة الإسراء: 1.
(18) انظر مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/61، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 2/808، 809، القدس عربية إسلامية للدكتور سيد فرج راشد ص38.
(19) انظر مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/63.
(20) انظر المرجع السابق 2/60، مجموع الفتاوى 26/150.
(21) انظر كتاب الإيضاح في المناسك للنووي ص165، 166، مجموع الفتاوى لابن تيمية 26/150، مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/64.
(22) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 2/811، وانظر مجموعة الرسائل الكبرى 2/62.
(23) المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم ص88.
(24) مجموع الفتاوي 26/150.
(25) مجموع الرسائل الكبرى 2/60.
(26) انظر مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف وسرد ما ألحق الناس بها من البدع للألباني ص64.
(27) انظر الاقتضاء 2/811.
(28) انظر هذه القصة في مسند الإمام أحمد 1/38، وقال الهيثمي: رواه أحمد وفيه عيسى بن سنان القسملي: وثّقه ابن حبان وغيره وضعفّه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4/6).
وقال الإمام ابن كثير: إسناده جيد (البداية والنهاية 7/58). وقد أخرج القصة أيضاً من طريق الإمام أحمد الحافظ ضياء الدين المقدسي في فضائل بيت المقدس ص87.
(29) سبق تخريجه .
(30) صحيح مسلم 2/145 كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات.
(31) في موضع آخر قال ابن القيم: ( وقد أكثر الكذابون من الوضع في فضائلها – أي الصخرة- وفضائل بيت المقدس) ثم ذكر ما صح من أحاديث فضل بيت المقدس، انظر كتاب المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص91.(51/9)
(32) يذكر أن سبب هذا العمل: النصارى، لأن اليهود كانوا يضعون القمامة على قبر المصلوب الذي شُبه لهم بعيسى عليه السلام، فكافأهم النصارى بوضع القمامة على الصخرة قبلة اليهود. انظر البداية والنهاية لابن كثير 7/56.
(33) راجع مسند الإمام أحمد 1/38، وقد تقدم ذكر القصة قريباً.
(34) صحيح مسلم 2/668 كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.
(35) تفسير ابن كثير 3/18، وانظر مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/61، 62.
(36) مجموعة الرسائل الكبرى 2/62، وانظر الاقتضاء 2/810، 811.
(37) مجموعة الرسائل الكبرى 2/62.
(38) المنار المنيف ص87.(51/10)
رأي اثنين من ( المفكرين العرب ) في مشروع " الجابري " .. وبيان طريقته في " المراوغة "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عندما ينتقد العلماء أو طلبة العلم مشروع الجابري الفكري ، يخرج بعض " مريديه " عندنا للدفاع عنه ، زاعمين أنكم لا تفهمون الجابري ، بل لا تبلغ عقولكم مستوى فكره و مشروعه .. إلخ الغلو المبالغ فيه !
وقد أحببتُ – هنا – أن أنقل رأي اثنَين من " المفكرين " العرب ، من غير المحسوبين على أهل العلم ، في " نقد " مشروع الجابري ، وتناقضاته ، وبيان سطحية المعجبين به . هما :
1-المفكر البحريني " القومي " : محمد جابر الأنصاري .
2-والمفكر السوري " النصراني " " العلماني " : جورج طرابيشي .(52/1)
1 - قال الدكتور الأنصاري في كتابه " مساءلة الهزيمة " ، ( ص 124 – 127 ) : ( أما فيما يتعلق بمشروع الجابري، فإنه على الرغم من الذيوع الذي حققه كتابه (نقد العقل العربي) بين جمهور القراء وعامة المثقفين، فإن أهم إسهاماته البحثية الفكرية تتمثل في كتابه الأسبق ( العصبية والدولة في فكر ابن خلدون) ، ففي هذا الكتاب كان الجابري رائداً في نهجه وتحليله ، حيث مثل إعادة نظر هامة في سوسيولوجيا التاريخ والحاضر في واقع العرب من منطلق ابن خلدون، بنظرة معاصرة لا تفتقر إلى التجديد والابتكار. ودن التقليل من أهمية كتابه الأكثر ذيوعاً (نقد العقل العربي) بأجزائه المتعددة ولا من الجهد البحثي والفكري الذي بذله فيه، فإن (نقد العقل العربي) أشبه ما يكون ببناء معماري فسيح ، له واجهة زخرفية جذابة ، وأروقة تبهر القادمين إليه، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة للسكن. أعني أن مقدماته وتحليلاته جذابة وشائقة، أما نتائجه الحقيقية فهي موضع نظر ، ويتصف بعضها بالهشاشة المعرفية والتنظيرية التي لا تمثل بناء يذكر في الفكر العربي. وهي إذا اجتذبت المثقفين العرب غير المختصين في الفلسفة الإسلامية، فإنها لا تمثل في الأغلب جديداً للمتخصصين فيها، إلا بإعادة الصياغة واختراع المصطلحات التي يجيد الجابري عرضها، وهي التي تفسّر في تقديرنا ظاهرة شيوعه بين عامة المثقفين غير المختصين وغير المتعمقين في أصول الفلسفة الإسلامية والفكر العربي.
وصنيعه في مجال الفكر يشبه صنيع أدونيس- مع المفتونين به من غير المتخصصين- في النقد الأدبي والإبداع الفني والكتابي.
والفارق أن أدونيس مبدع كبير في الشعر- خاصة في مراحله الأولى قبل قصيدة النثر الفجة- ، أما في الكتابة النقدية والفكرية فإنه تبسيطي واختزالي- مثل الجابري- ، ويمتلك - مثله- قدرة على الإبهار والتأثير، وإن قفز فوق المعطيات الموضوعية للقضايا التي يطرحها.(52/2)
ونرى أن سكوت الجابري عن الرد على المآخذ العلمية البحثية في النقد الموثق والمسهب لجورج طرابيشي بشأن مشروعه، وتجاهله المتعمد لهذا النقد، لا يمثل فحسب إشكالاً أخلاقياً في موقفه، وإنما يمثل أيضاً تهرباً علمياً لا يليق بمفكر في مستواه. وهو ما ينسحب على موقفه من الاعتراضات العلمية الأخرى على مشروعه التي صدرت عن عدد من المفكرين العرب الجادين في المغرب والمشرق. إذ عندما يفاجأ المثقفون العرب بعبارته الاستصغارية المنفعلة: "لم أقرأ جورج طرابيشي.." هكذا باستعلاء غريزي، فمن حقهم طرح أكثر من سؤال حول صدقيته كمفكر .
أما سر ذيوع كتابه هذا، فمردُّه في تقديرنا – كما سبق- إلى قدرته على تبسيط القضايا الفلسفية والفكرية لجمهور عربي من عامة المثقفين والمتعلمين الذين لم يلموا بتاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، أو وجدوا صعوبة في قراءة أصولها والدراسات البحثية الدقيقة بشأنها، فوجدوا في تبسيط الجابري لها غذاءً ثقافياً سائغاً لهم ولمستواهم المعرفي، أوحى إليهم بأنهم قادرون على التعمق في فهم مادة فسلفية شائكة ظلّت محجوبة عنهم في مرحلة تأسيسهم العلمي. وحيث إن مثقفي المشرق كانوا أكثر جهلاً بقضايا الفلسفة الإسلامية من نظائرهم في المغرب الأكثر انفتاحاً في عصرنا على الفلسفة، فقد كانوا أكثر افتتاناً بما جاء به الجابري من تنظيرات بشأنها وذلك ما يفسّر محدودية انتشاره في منطقة المغرب العربي مقابل شيوعه في المشرق ، وعلى الأخص لدى الأوساط والدوائر التي يشايعها أيديولوجيا.
وعليه، فإن ذيوع كتابه "نقد العقل العربي" لا يعود إلى قوته العلمية وإنما إلى "الضعف" المعرفي لدى متلقيه من المثقفين العرب من ذوي الاختصاصات الأخرى الذين ظلت الفلسفة العربية الإسلامية أضعف جوانب تأسيسهم التعليمي منذ الصغر، لما أحاط بدراسة وتدريس الفلسفة في العالم العربي بعامة من محاذير وموانع ما تزال قائمة.(52/3)
أما المختصون في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية ؛ فإن ما جاء به الجابري لم يكن جديداً عليهم إلا في بعض المفردات والمصطلحات، وعلى سبيل المثال : فإن التقسيم التبسيطي والاختزالي الذي جاء به الجابري لخارطة الفكر العربي بين "بيان" و"برهان" و"عرفان" ، لم يكن سوى تسميات أخرى لما أطلق عليه "المنحى الفقهي" و"المنحى الفلسفي" و"المنحى الصوفي" في تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ أمد بعيد. (انظر على سبيل المثال لا الحصر: كتاب تاريخ الفلسفة العربية لكمال اليازجي وأنطون كرم، بيروت، 1965م). هذا فضلاً عن وقوعه – نظير بعض مفكري الغرب في القرن التاسع عشر- في طروحات "عرقية" ، بين غرب عقلاني ومشرق صوفي مناهض للعقل . وكما لاحظ مفكر مشرقي طويل الباع في الفلسفة الإسلامية وهو طيب تيزيني، فإن الجابري قد أخرج المفكر المعتزلي والكاتب المعرفي البارز (الجاحظ) من المدرسة العقلية العلمية التي كان من أوائل مؤسّسيها، ليلحقه بخفة بمدرسة البيان ضمن تعميماته الاختزالية (انظر: طيب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي).
وبالنظر إلى "الأمية" الفلسفية السائدة في قطاعات واسعة من المثقفين العرب المعاصرين، فقد غاب عنهم أن أول مشروع جدير بالالتفات لدراسة العقل العربي في العصر الحديث قد تمثّل في مؤلفات الباحث المصري الرائد أحمد أمين الموسومة: "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"ظهر الإسلام" بأجزائه المتعددة وذلك منذ عام 1929م، أي قبل سبعين عاماً.(52/4)
والفرق أن أحمد أمين كتب دراساته في العقل العربي بلغة علمية مباشرة ومجردة، بينما كتبها الجابري بأسلوب لا يخلو من جاذبية – تفكيراً وتعبيرًا- وفي ذهنه مخاطبة المثقفين العرب المؤدلجين والحائرين منذ هزيمة 1967م وهم بانتظار مَن يعيد لهم تأسيس قناعاتهم الفكرية. واللافت للنظر أن الجابري يُغفل ذكر أحمد أمين ولا يشير إلى دراساته التأسيسية السابقة بما لا يقل عن نصف قرن لظهور مشروعه، بما يثير التساؤل عن مدى الالتزام بالوفاء العلمي بين أجيال المفكرين العرب.
ولم يقف تغافل الجابري عند حد إغماط حق المفكرين السابقين نظير أحمد أمين، فقد نقل عن فهمي جدعان – أحد المفكرين العرب المعاصرين – مادة أساسية "حذو النعل بالنعل" من كتابه "المحنة" بشأن محنة ابن حنبل والمعتزلة، ولم يشر إليه إلا إشارة جزئية عابرة لا تتناسب مع ما نقله عنه ، بما يخالف المتعارف عليه "في الدائر العلمية الجادة" حسب تعبير جدعان (انظر النص الكامل لشهادته في: "العلمانية والممانعة الإسلامية" لعلي العميم، ص 123وما بعد).
وكان جدعان قد حذّر من الانبهار بأصحاب "مشاريع العقل العربي" التي صدرت في: "مجلدات مهيبة لكنها جاءت حافلة بالمسائل الخلافية وبالتأويلات الشاردة أو المبتسرة... وتلقفتها وسائل البث الإعلامي الأيديولوجي "الموازية" وسعت إلى توظيفها في غايات سياسية أو أيديولوجية" (جدعان، الطريق إلى المستقبل، ص92 ). ومن جانب آخر، لفت جدعان إلى أن: "وقائع السنوات الأخيرة، مثلاً قد أبانت عن أن ثلة مرموقة من كبار العقلانية ونقّاد العقل قد تخلّت تماماً... عن جميع أسلحتها العقلانية ، حيث كانت تفرض عليها هذه الوقائع وضع عقلانيتها موقع التنفيذ، فلم يكن إلا أن وضعتها بين قوسين ، وذهبت في الطريق المضاد لأحكام العقل..." .(جدعان، المصدر ذاته، ص58)، ملمحاً بذلك إلى ديماغوجية موقف الجابري من فتنة احتلال الكويت وتدمير العراق (1990- 1991م) ) .(52/5)
2- وأما طرابيشي ؛ فقد ألف كتابًا من ( 3 ) أجزاء في نقد مشروع الجابري ، سماه " نقد نقد العقل العربي " ، جاء ملخصه على الغلاف : ( يقوم كل مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي على اصطناع قطيعة معرفية " بين فكر المشرق والمغرب ، وعلى التمييز بين " مدرسة مشرقية إشراقية " و " مدرسة مغربية برهانية " ، وعلى التوكيد على أن رواد " المشروع الثقافي الأندلسي – المغربي " – ابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن مضاء القرطبي والشاطبي –تحركوا جميعهم في اتجاه واحد " ، هو اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق " ، و" الكف عن تقليد المشارقة " و " تأسيس ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق " . وكتاب " نقد نقد العقل العربي " لطرابيشي يتصدى لتفكيك تلك " الأبستمولوجيا الجغرافية " ؛ من منطلق التوكيد على وحدة بنية العقل العربي الإسلامي ، ووحدة النظام المعرفي الذي ينتمي إليه ، بجناحيه المشرقي والمغربي ، ووحدة المركز الذي تفرعت عنه دوائره المحيطة . فلا التحول من دائرة البيان إلى دائرة العرفان أو دائرة البرهان ، يعني انعتاقًا من جاذبية نقطة المركز ، ولا التنقل بين الخانات يمكن أن يُشكل خروجًا عن رقعة شطرنج العقل العربي الإسلامي ، الذي يبقى يصدر عن نظام أبستمي واحد ، مهما تمايزت عبقريات الأشخاص ، وعبقريات الأماكن .. ) .
- وأيضًا خصص طرابيشي الصفحات (73 – 128 ) من كتابه " مذبحة التراث .. " ، لنقد الجابري ، وبيان تناقضاته ؛ منها على سبيل المثال :(52/6)
- ( اختزال العقل إلى العقل العقلي وحده ، قد قاد محلل العقل العربي إلى مأزق معرفي حقيقي ، فقد تعاطى حصرًا في كتبه مع العقل " الفقهي – الكلامي ، والعقل التصوفي ، والعقل الفلسفي " ، ومن ثم تراءى له أن العقل العربي المقسَّم هذا التقسيم الثلاثي ، يعمل تحت إمرة أنظمة معرفية ثلاثة : " البيان ، و العرفان ، والبرهان " . لكنه عندما انتقل إلى نقد العقل السياسي ، اعتمد تفسيرًا معرفيًا مباينًا ، بالاستناد هذه المرة إلى ثلاثي " القبيلة ، والغنيمة ، والعقيدة " ! وواضحٌ للعيان أين هو المأزق . فلو كان البيان أو العرفان أو البرهان نظامًا معرفيًا ثابتًا للعقل العربي ؛ لكان العقل السياسي العربي خضع للتحديد نفسه ، أما الانتقال السابق ، فيعني : إما أننا لسنا أمام تحليل إبستمولوجي قادر على الوصول إلى الثوابت البنيوية ، وإما أننا لسنا أمام بنية ثابتة لعقل عربي كلي تتكرر في جميع العقول الجزئية التي يتمظهر بها ) .
-( كانت العلمانية في حينها موضع تثمين عالٍ من الجابري ، ثم بعد سنوات ، طالب بسحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي ) !
- ( إن تكن صحراء المشرق " اللاعقلاني " يقابلها في المغرب " العقلاني " مجتمع مدن وبحر حسب فرضية الجابري ، فإن اللغة العربية الصحراوية المشرقية ! هي لغة أهل المغرب ، فكيف أمكن في إطار هذه اللغة " الحسية " أن يمارس ابن رشد عقلانيته ، وفي إطار هذه اللغة " اللاتاريخية " أن يمارس ابن خلدون تاريخيته " ، وهذا حتى بدون أي قطيعة لغوية " ) !
مثال
على طريقة الجابري في التنصل من الأحكام الشرعية ،
يُقاس عليه غيره(52/7)
الجابري يُجيد فن " المراوغة " في التنصل من أحكام الإسلام ، أو نقدها ، ولايُجيد " المواجهة " ؛ كما يفعل صاحبه " أركون " مثلا ، الذي يجهر بالتطاول على القرآن ، وأنه كغيره من النصوص التراثية الخاضعة للنقد ! ، أما الجابري فيستخدم أسلوبًا آخر للوصول لذلك ، بالتظاهر بتقدير النص الشرعي ، والأحكام المستنبطة منه ، ثم يتنصل من ذلك – مادام قد تورط به ! – بأن يجعل مايراه عقله من " مصالح " هو الأصل الذي ينبغي أن تُحاكم إليه النصوص الشرعية ، ولو كانت آيات محكمة من القرآن ! وبهذا يضمن الوصول لمبتغاه دون إثارة المسلمين .
وإليك مثالا لهذه الطريقة الماكرة ، ثم قس عليه الأمثلة الأخرى لكل حكم شرعي لايوافق أهواء الجابري ومن يتابعه ؛ لتعلم طريقته المراوغة ، وأن التظاهر بالتقدير للنص الشرعي ، مجرد " جواز مرور " لتسهيل مهمة " الهدم " دون ضجيج ..
أراد الجابري أن يتخلص مما يراه متعارضًا مع " المساواة " في زعمه ، وذلك أن الإسلام جعل نصيب الأنثى نصف نصيب الذكر في الإرث ، وهذا حكم ثابت بنص القرآن – كما هو معلوم - فماذا فعل الجابري ليتخلص من هذا الحكم الذي يسبب له حرجًا أمام " الغرب " ، قال : ( لنأخذ مثلا نصيب البنت من الإرث في الإسلام ، وهو الثلث ، كما يتبين من قوله تعالى ( للذكر مثل حظ الانثيين ) ، كيف نقرأ هذا الحكم قراءة تجعله معاصرًا لنفسه ، ومعاصرًا لنا في نفس الوقت ؟(52/8)
والقرآن لا يبين الاعتبارات التي تبرر هذا التمييز، وإذن فلابد من إعمال العقل بالرجوع إلى المقاصد وأسباب النزول ومعهود العرب. والواقع أن المجتمع العربي في الجاهلية وزمن النبوة كان مجتمعا قبليا رعويا، والعلاقة بين القبائل الرعوية هي علاقة نزاع حول المراعي. والزواج في مثل هذا المجتمع إذا تم بتزويج البنت لشخص من غير قبيلتها كان يثير مشاكل تتعلق بالإرث في حال وفاة أبيها. ذلك أنه إذا كان لها أن تأخذ نصيبا مما ترك، ماشية كان أو مجرد الحق في المرعى المشترك، فإن هذا النصيب سيؤول إلى قبيلة زوجها على حساب قبيلة أبيها، مما قد يتسبب في منازعات وحروب. ومن أجل تلافي مثل هذه النزاعات عمدت بعض القبائل في الجاهلية إلى عدم توريث البنت بالمرة، بينما منحتها قبائل أخرى الثلث أو أقل. وإذا أضفنا إلى ذلك محدودية المال المتداول في المجتمع القبلي سهل علينا إدراك كيف أن توريث البنت قد يؤدي إلى الإخلال بالتوازن الاقتصادي بين القبائل، خصوصا مع تعدد الزوجات، وكان معمولا به بكثرة...(52/9)
ولاشك أن الإسلام قد راعى هذه الوضعية ونظر إلى وجه المصلحة، وهو تجنب النزاع والفتنة، فقرر نوعا من الحل الوسط يناسب المرحلة الجديدة التي دشنها قيام الدولة المحمدية في المدينة، فجعل نصيب البنت نصف نصيب الولد ، وجعل نفقة المرأة على الرجل (زوجة كانت أو أما). أما اليوم وقد قل تعدد الزوجات وصارت علاقات المصاهرة تبتعد أكثر فأكثر عن الاعتبارات القبلية خصوصا في المدن، وأكثر من ذلك أصبحت المرأة تشتغل وتكسب مالا وتشارك في النفقة على البيت والأولاد الخ، وبالتالي خف المانع الذي كان يبرر عدم إعمال القاعدة الكلية، أعني المساواة بين المرأة والرجل، فإن الجزئي في هذه الحالة، لا أقول يجب أن يعطل، بل أقول يجب أن يُنظر إليه كاستثناء يُعمل به في أحوال ويُعلق في أحوال ؛ لأن مجتمعاتنا تجتاز في الوقت الراهن مرحلة تحول : يتعايش فيها الجديد مع القديم، وضعية المدينة مع وضعية البادية والأرياف ) . مجلة المجلة ، بتاريخ ( 7 / 2 / 2008 م ) ، وكتابه " التراث والحداثة " ، ( 54 – 56 ) .
قلتُ : قارن هذا الظن السيئ بشرع الله من الجابري ، ثم محاولته التخلص منه بطريقته السابقة ، بصنيع أهل الإسلام ، الذين قال الله عنهم : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .
وهنا بيان الحكمة التي لم يستوعبها الجابري في مسألة الإرث :
http://www.quran-radio.ps/wmonly10.htm
هدى الله الجابري والمفتونين به ..(52/10)
ست منظومات في الرد على الصوفي يوسف النبهاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من مقدمة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن أعداء الدعوة السلفية، ودعاة السوء، كانوا ومازالوا يبذلون جهدهم في الصد عن سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الباطل؛ كما قال تعالى: {ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } ، ولكل قومٍ وارث -كما قيل -، فمن هؤلاء الصادين عن توحيد رب العالمين؛ المدعو يوسف بن إسماعيل النبهاني، الصوفي الخرافي، صاحب الكتب التي يجيز فيها الاستغاثة بالأموات، والأشعار المشتملة على ألوانٍ من الغلو والإطراء المتجاوز لحدود الشرع الحنيف.
إلا أن الله - سبحانه وتعالى - بحكمته العظيمة يُقيم حُرَّاساً لشريعته في كل زمان ومكان، ينفون عنه زيغ الزائغين وتحريفهم، ويبينون للناس أحوالهم، وقد وفَّق الله - عز وجل - ثُلةً من العلماء والأخيار للتصدي لانحرافاته وخرافاته، فردوا عليه نثراً ونظماً، ومن تلك الردود: ست منظومات متتالية، أنشأها جماعة منهم في مقابل قصيدته الرائية، التي استطال فيها على عرض شيخ الإسلام، مجدد دعوة التوحيد، الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله -، وعلى من يسميهم «الوهابية»، مفترياً عليهم الأكاذيب المتنوعة، كعادة أسلافه من المناوئين -فقابلها أولئك العلماء بالإبطال والكشف.
وهذه المنظومات الست هي:
1-منظومة الشيخ علي اليوسف - رحمه الله -1.
2-منظومة الشيخ المؤرخ إبراهيم بن عيسى -رحمه الله - 2.
3-منظومة الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - 3.
4-منظومة الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم السويح- رحمه الله - 4.
5-منظومة الشيخ بهجة البيطار - رحمه الله - 5.
6-منظومة الشيخ محمد بن حسن المرزوقي - رحمه الله - 6.(53/1)
وقد أحببت القيام ببعثها إلى عالم المطبوعات؛ مساهمة مني في نشر العلم النافع، خاصة وأن أهل الباطل لازالوا - إلى اليوم - يطبعون كتب الصوفي النبهاني، ويوصون بها 7....
هذا، وقد قدمت قبل نشر المنظومات: ترجمة للنبهاني، وبياناً لحاله ومصنفاته، مع ذكر أقوال العلماء فيه، وما أثاره في رائيته من شبهات، مع الرد المختصر عليها، والإشارة إلى من توسع في الرد 8.
أسأل الله -تعالى -أن ينفع بهذه المنظومات، ويغفر لأصحابها، ويجمعنا بهم في جنات عدن، ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ) ، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
الهوامش :
1- حصلت على صورتها من الأخ عبدالله البسيمي - وفقه الله - وتوجد لها صورة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد (برقم 8863).
2- حصلت على صورتها من الدكتور أحمد البسام -وفقه الله -، وقد نشر صورتها في كتابه: «قراءة في بعض المذكرت والرسائل الشخصية للشيخ ابن عيسى»، (ص105-109).
3- مطبوعة ضمن ديوانه. واعتمدت على الطبعة الأخيرة للديوان؛ بعناية الشيخ أبي عبدالرحمن الظاهري - وفقه الله - .
4- صورتها من دارة الملك عبدالعزيز بالرياض. وتوجد لها صورة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد (برقم 8721).
5- صورتها من مكتبة الشيخ محمد نصيف - رحمه الله -، صورها لي الأستاذ الكريم: خالد السريحي - وفقه الله -. وتوجد لها صورة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد (برقم 8721).
6- حصلت على صورتها من الأخ عبدالله البسيمي - وفقه الله - .
7- ومن آخر طبعات كتابه الشركي «شواهد الحق» طبعة دار الكتب العلمية المحققة(!) بتاريخ 7/7/2007م. ومثله في السوء: كتابه الآخر: «مفرّج الكروب ومفرّح القلوب» المطبوع عام 1415هـ. انظر منه هذه الصفحات: (13 و16 و135).(53/2)
-ومما يأسف له المسلم أن يقوم بعض الفضلاء بالمساهمة في نشر كتبه، وكيل المديح له، دون تحذير من شطحاته ومؤلفاته الخرافية! كما فعل الأستاذ محمد خير يوسف -عفى الله عنه -، عندما أعاد طباعة كتاب النبهاني «أربعون حديثاً في الثناء على الله» عام 1426هـ، قائلاً في ترجمته (ص9) - والتعجب مني -: «أما المؤلف، فعَلَمٌ مشهور(!)، ومحدِّث لامع(!)، وقاضٍ كبير(!)، ومصنّفٌ جليل(!)...» إلى آخر مديحه، دون إشارة إلى أفكاره الخرافية التي هي مدار كتبه ومؤلفاته. فلعل الأستاذ يستدرك هذا في الطبعة القادمة، ويحتسب الأجر في عدم غش أبناء الأمة بمثل هذا التلبيس. ومثل هذا: قول الأستاذ محمود الأرنؤوط - عفى الله عنه - في ترجمته: «ولا يُنكر فضله على العلم في بعض ما خلَّفه إلا خصومه، ومن سلك مسلكهم(!)، ولا ينتصر له إلا أحبابه، ومن سلك مسلكهم، وهذا حال الكبار من الناس في كل زمان ومكان(!!)». (أعلام التراث، ص51). ومثله - أيضاً -: قول الأستاذ يوسف المرعشلي -عفى الله عنه -في ترجمته: «وهو ممن خدم السنة النبوية، والسيرة المطهرة، وذلك بنشر الكتب العديدة، ومنها..» -ثم ذكر كتابه «شواهد الحق..» وقال عنه: «وهو من أمتع مؤلفاته وأنفسها»!! (نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر: 2/1678-1680).
قلت: قال الله تعالى: ( لاتجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ... الآية ) ، وأي محادة لله أشد من تصنيف الكتب للدعوة إلى الشرك به -عز وجل -، والاستغاثة بغيره -سبحانه - ؟! إلا أن يكون المرء ممن لم يتشرب قلبه عقيدة السلف الصالح، التي من لوازمها: الحب في الله، والبغض فيه. والله الهادي.
8- ونشرت في خاتمة الكتاب رسالة صغيرة نادرة للشيخ عبدالقادر السندي - رحمه الله - في الرد عليه. وهي لا تغني عن الردود المؤصلة في المسائل المثارة.
لتحميل الكتاب أضغط هنا(53/3)
من قراءاتي عن الشيعة ( 1 ) هل كان المؤرخ ابن الأثير شيعيًا ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعتدتُ عند اهتمامي بأي موضوع أن أجعل له " دفترُا " خاصًا أقيد فيه مايعترض طريقي حوله ؛ من مقالات أو أخبار أو احصاءات أو غير ذلك .
ومن تلك المواضيع التي حازت على اهتمامي : موضوع الشيعة والتشيع ؛ حيث تجمعت لي عنه مجموعة كبيرة من التقييدات التي أحببتُ نشرها على حلقات في هذا المنتدى المبارك ؛ لمناسبتها له . وليس لي منها سوى الجمع والنشر مع تعليقات يسيرة إن اقتضى الحال .
وأبدأها بهذا المقال الرصين للدكتور سليمان الدخيل عن حقيقة " تشيع المؤرخ الشهير ابن الأثير " .
نظرة في كتاب (الكامل)
لابن الأثير
د . سليمان الدخيل
( مجلة البيان ، العدد 12)
هناك فرق بين أن ننسب ابن الأثير - عليه رحمة الله - إلى التشيع وحاشاه عن ذلك ونحن لا نملك عليه دليلاً ، بل نجد في ترجمته ثناء العلماء والحفاظ من مشاهير أهل السنة [1] ؛ وبين أن نقف عند نزعة التشيع في كتابه (الكامل في التاريخ) وقفة لا تقلل من قدر الكتاب وقيمته بقدر ما تلفت النظر إلى ملاحظة يحسن التنبه لها .
وقد اطلعت على ما كتبه الأخ الكريم (محمد العبدة) عن (ابن الأثير وموقفه من الدولة العبيدية وبعض الدول المعاصرة لها) في العدد التاسع من هذه المجلة الغراء (البيان) وقد لفت نظري ما أشار إليه صاحب المقال مما يدل على نزعة تشيع عند ابن الأثير في هذا السفر العظيم ، وقد تساءلت بيني وبين نفسي : من أين لابن الأثير هذه النزعة في الكامل ؟
أترى هو الجهل بعقائد الشيعة الأمر الذي قال معه ابن الأثير - حين حديثه عن دعوة العبيديين (الفاطميين) ولم يخرج فيه -يعني المعز- إلى حد يذم به!! [2] .(54/1)
قال في موضع آخر-وهو يتحدث عن واحدة من عقائد الشيعة (الرجعة) - ما نصه : ( قال عمرو ابن الأصم : قلت للحسن بن علي : إن هذه الشيعة تزعم أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : كذب والله هؤلاء الشيعة ، لو علمنا أنه مبعوث قبل يوم القيامة ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله) . ثم يعلق ابن الأثير بعد ذلك قائلاً :
(أما قوله هذه الشيعة فلا شك أنه يعنى طائفة منها فإن كل شيعة علي لا تقول هذا ، إنما تقوله طائفة يسيرة منهم ، ومن مشهوري هذه الطائفة جابر بن يزيد الجعفي الكوفي ، وقد انقرض القائلون بهذه المقالة فيما نعلمه) [3] .
وعلى كل حال فالقول بانقراض (الإمامية) وهم القائلون (بالرجعة والوصية)
غير مقبول من ابن الأثير ، لاسيما وقد عاش في عصر تكاثر فيه الشيعة وأصبح لهم وجود ظاهر إلى حد قال معه أحد الشيعة : (ولولا مجيء المغول لرفرف لواء التشيع على الشرق الإسلامي) [4] .
وهو العصر الذي ألفت عنه كتب خاصة بأعيان الشيعة ، وفيهم الإمامية ومن أبرزها (الأنوار الساطعة في المائة السابعة) للشيخ أغا بزرك الطهراني ، وقد أحصى فيه مؤلفه قرابة ثلاثمائة رجل من أعيان الشيعة ومع ذلك قال محققه أنه لا يمثل بشيء تاريخ الشيعة في ذلك القرن الذي تغلغلوا فيه في بيوت الأمراء ، ودخلوا بلاط الخلفاء ، وكان منهم الوزراء والعلماء [5] .
وكان من هؤلاء من كان في الموصل أمثال (محمد بن أبي الفوارس الحلي) [6] .(54/2)
وفي عقيدة الرجعة - بالذات - والتي نفى ابن الأثير وجودها في عصره تطالعنا مصنفات الشيعة بالأعداد الكبيرة المؤلفة فيها على امتداد القرون ، وفيها ما هو في القرن السابع - وقد عايشه ابن الأثير - من أمثال : كتاب (الغيبة للحجة وما جاء فيها عن النبي والأئمة ووجوب الإيمان بها) للأشرف بن الأغر المعروف بتاج العلا العلوي الحسيني المتوفي سنة 610 هـ ، فهل كانت هذه الكتب سرية حتى لم يطلع عليها أمثال ابن الأثير ؟ أم أنها ألفت في عصور متأخرة ونسبت للأوائل ؟ !
ووفق ذلك كله فالسمعاني (ت 562) يشهد بوجود أصحاب هذه العقيدة في عصره [7] .
أم هي لظروف العصر وملابسات البيئة التي عاش فيها ابن الأثير ؟ وهي بيئة كان للشيعة فيها وجود ليس على مستوى الأفراد فحسب وإنما على مستوى الولاة والحكام . ومن أمثلة ذلك : الملك الرحيم ( ت 657) الذي ملك (الموصل) نحواً من خمسين سنة [8] وهو الذي أزال الدولة الأتابكية (وهم أسياده قبل) ، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد علي قنديلاً ذهبياً زنته ألف دينار ، وهذا-كما قال الحافظ ابن كثير-دليل على تشيعه ، بل على قلة عقله [9] .
وكان في الأصل أرمنياً ، حتى نقل (الذهبي) عنه أنه كان يحتفل لعيد (الشعانين) لبقايا فيه من شعار أهله ، فيمد سماطاً عظيماً إلى الغاية ، ويحضر المغاني ، وفي غضون ذلك أواني الخمور فيفرح وينثر الذهب من القلعة ويتخاطفه الرجال ؟ فمقت لإحياء شعار النصارى ، وقيل فيه :
يعظم أعياد النصارى محبة ويزعم أن الله عيسى بن مريم إذا نبهته نخوة أريحية إلى المجد قالت أرمنيته : نعم [10]
وإذا كان الأمر كذلك فيه ، فلا غرابة أن يسير إلى (هولاكو) التتري - بعد أن أوقع ببغداد ما أوقع ، ثم انفصل عنها- على هيئة الخادم المتلطف له ، ومعه الهدايا والتحف ! ! حتى رجع إلى بلاده متولياً من قبله [11] .(54/3)
هذا الملك أثنى عليه ابن الأثير في مقدمة كتابه ، فقال : ( ... مولانا مالك الملك ( ! ! ) الرحيم ، العالم المؤيد ، المنصور المظفر بدر الدين ، ركن الإسلام والمسلمين ، محي العدل في العالمين ، خلد الله دولته) ! ! [12] . بل الأمر أعجب من ذلك ، فابن الأثير إنما انساق في إتمام تأليف كتابه (الكامل) عن أمر الملك الرحيم هذا ، وهذا ما حكاه ابن الأثير نفسه في مقدمة كتابه حين قال : (فلما جمعت أكثره أعرضت عنه مدة طويلة لحوادث تجددت وقواطع توالت وتعددت ، لأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت ، ثم إن نفراً من إخواني وذوي المعارف والفضائل من خلاني .. رغبوا إلي في أن يسمعوه مني ، ليرووه عني ، فاعتذرت بالأعراض عنه وعدم الفراغ منه ، فإنني لم أعاود مطالعة مسودته ولم أصلح ما أصلح فيه من غلط وسهو .. إلى أن قال : فبينما الأمر كذلك إذ برز من طاعته فرض واجب واتباع أمره حكم لازب ، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافعة .. مولانا مالك الملك الرحيم .. فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل ، وأبطلت رداء الكسل ، وألفت الدواة وأصلحت القلم وقلت : هذا أوان الشد فاشتدي زيم ، وجعلت الفراغ أهم مطلب ، وإذا أراد الله أمراً هيأ له السبب وشرعت في إتمامه مسابقاً ، ومن العجب أن السكيت يروم أن يجيء سابقاً ، ونصبت نفسي غرضاً للسهام ، وجعلتها مظنة لأقوال اللوام ... ) [13] .
وقال ابن كثير-في ترجمته للملك الرحيم - : وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى بالكامل في التاريخ فأجازه عليه وأحسن إليه [14] .
وإذا كان الأمر كذلك فهل بإمكاننا أن نفسر نزعة التشيع في (الكامل) بهذا الأمر وهي نزعة لا يمكن تجاهلها ولا قبولها - مهما كانت أسبابها - فبالإضافة إلى الأمثلة التي ساقها الأستاذ محمد العبدة في مقاله الآنف الذكر أسوق الأمثلة التالية :(54/4)
1 - في أحداث الفتنة الواقعة بين الصحابة يلحظ القارئ (للكامل) تغليب الروايات التي تصف خصوم (علي) -رضي الله عنه- بصفات يبعد قبولها ، بل يبعد أن يقول بها علي نفسه ، ومنها أن علياً يصف معاوية ويقول : ( ... وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق بن طليق ، حزب من الأحزاب ، لم يزل حرباً لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين ... ) [15] .
وحين رفعت المصاحف (للتحكيم) في (صفين) من قبل أهل الشام ، قال أصحاب علي :
نجيب إلى كتاب الله ، فقال لهم علي : (عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم ، فإن معاوية وعمراً ، وابن أبي معيط ، وحبيباً ، وابن أبي سرح ، والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، فقد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال ... ) [16] .
إذا كانت هذه الرواية - وأمثالها كثير- لا تليق بمقام الصحابة فلا أدري لماذا يكثر من ذكرها (ابن الأثير) ؟ دون أن يعلق على كثير منها .(54/5)
فإن قيل : إن مجمل الروايات التي ساقها إنما سبقه بذكرها الإمام الطبري في (تاريخه) وابن الأثير في (مقدمته) أبان أنه اعتمد فيما شجر بين الصحابة على الطبري ، فلا لوم عليه في ذلك ؛ أجيب بأن هناك فارقاً في المنهج بينهما ، فالطبري وإن لم يعلق على هذه الروايات المنكرة فقد صرح في مقدمته أن في تاريخه ما يستشنع وإن ذلك كان من قبل الرواة ، ورأى الطبري أن إسناده كل رواية إلى رواتها يعفيه من التبعة ، ويجعل الحكم للقارئ يحكم معرفته بالرواة ، والأمر يختلف عند ابن الأثير الذي جعل من منهجه -أحياناً - الحكم على الروايات ، والتعليق على بعض الروايات ، وكان جديراً به أن يعلق على هذه المرويات المنكرة ، كما صنع الحافظ (ابن كثير) الذي قال -في معرض حديثه عن هذه الروايات - : « ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم -يعني معاوية وأصحابه - وبين علي ، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر ، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه ، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك[17] .
وحين تعرض لرواية أبي مخنف في لعن علي معاوية ومن معه ، ثم لعن معاوية علياً ومن معه ، قال :
« ولا يصح هذا والله أعلم » [18] .
2- وفي الدولة العباسية ، وحين حديثه عن الخليفة (المتوكل) قال :(54/6)
وفي سنة 236 هـ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه .. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أن يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم وكان من ندمائه من يسخر من علي -رضي الله عنه- وقيل أن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء : المأمون ، والمعتصم ، والواثق في محبة علي وأهل بيته ، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة ابن لؤي ، وعمر بن فرح الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالى بني أمية ، وعبد الله ابن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجه ، وكانوا يخوفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر فيه ما كان ، فغطت هذه السيئة جميع حسناته ، وكان من أحسن الناس سيرة ، ومنع الناس من القول بخلق القرآن إلى غير ذلك من المحاسن) [19] .
وهذه الرواية حين نرجع إلى الطبري لا نجدها بهذا السياق ، بل نجد الطبري يكتفي بسياق الحادثة (هدم قبر الحسن وما حوله ، وحرث وإسقاء فوضع القبر)[20].
فلماذا أطال ابن الأثير في ذكرها مؤكداً على بغض المتوكل لعلي وأهل بيته ، بل كان يبغض من كان محباً لعلي من الخلفاء قبله ؟ وهل صحيح أن « ندماء المتوكل كانوا مشهورين بالبغض لعلي ؟ وإذا كان الإمام أحمد من مستشاري المتوكل [21] فهل لهذا اكتفى بالإشارة إلى وفاته مجرد إشارة ؟ ! [22] .(54/7)
وعلى فرض تسليمنا بكون المتوكل فيه (نصب) [23] فهل يستحق من ابن الأثير أن يقول عنه : « إن هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتله ! ويقول: إن هذه السيئة غطت جميع حسناته ؟ ! وهو الخليفة الذي أثنى عليه طائفة من العلماء فقال : خليفة بن خياط (ت 240 تقريبًا) :
استخلف المتوكل فأظهر السنة - وتكلم بها في مجلسه ، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنة ونصر أهلها [24] . وقال ابن خلكان : رفع المحنة في الدين وأخرج أحمد بن حنبل من الحبس وخلع عليه [25] . وقال ابن تيمية :
«وفي أيام المتوكل عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية ، وألزموا الصغار ، فعزت السنة والجماعة ، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم » [26] .
ويقول ابن كثير : « إن السنة قد ارتفعت جداً في أيامه [27] . وقد استبشر الناس بولايته فإنه كان محباً للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس ، وكتب إلى الآفاق لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن [28] .
وكان محبباً إلى رعيته قائماً في نصرة أهل السنة ، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق ورد عليهم حتى رجعوا إلى الدين ، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بنى أمية ، وقد أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله .
هذه بعض أقوال العلماء في المتوكل ، وإذا كان يظهر منها تتبعه لأهل البدع وقمعهم فإن قمعه لبدعة (التشيع) ظاهرة ، فقد كان يتبع أخبارهم ويطارد مشايخهم في أقطار الخلافة ، وتتبعه للشيخ (بشر الجعاب) الذي كان يظهر التشيع (بالدينور) وله أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ، كما ذكر قصته مطولة ابن خلكان [29]
نموذج لهذا التتبع ، ولعل هدمه لقبر الحسين من هذا الباب ، والسؤال المطروح لماذا تستثير مثل هذه الأعمال ابن الأثير إلى حد يقول معه إنها غطت جميع حسناته ؟ !(54/8)
وفي معرض حديثه عن (المعتضد) ذكر أنه عزم في سنة 286هـ على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس . قال ابن الأثير : ( وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته ، إلا أنه استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تصح ... ) [30] وهذا الكتاب ساقه (الطبري) بطوله في أحداث سنة 284هـ [31] وفيه من الغرائب والأحاديث المنكرة ما لا يتصور ، وفوق ما فيه من أحاديث منكرة فهو صريح في لعن أبي سفيان وابنه معاوية ، ويزيد ، ومروان بن الحكم بن الحكم وولده وهم -كما في الكتاب - أئمة الكفر ، وقادة ضلالة وأعداء الدين ، ومجاهدي الرسول ، ومغيري الأحكام ، ومبدلي الكتاب ، وسفاكي الدم الحرام ؟ ! ! [32] إلى غير ذلك من شناعات يحار القلم في تدوينها ، ويعجز اللسان عن النطق بها والعجب أن يقول (ابن الأثير) أن الكتاب قد أحسن كتابته ! ! وكان ينتظر منه أن يقول كما قال ابن كثير : إن هذا من هفوات المعتضد [33] .
ثالثاً : تعاطفه مع الشيعة :(54/9)
يظهر للمتأمل في (كامل ابن الأثير) تعاطفه مع الشيعة ، أو من لهم ميول (علوية) على الأقل ، فتراه كثيراً يترجم للشيعة وخاصة (الإمامية) وربما ذكر بعض معتقداتهم ولم يعلق عليها ، ففي أحداث سنة 305هـ قال : وفيها توفي أبو جعفر بن محمد بن عثمان العسكري رئيس الإمامية ، وكان يدعي أنه الباب إلى الإمام المنتظر ... [34] ، وكما صنع مع ( ورام بن أبي فراس) [35] الذي توفي سنة 605 هـ وقال عنه ابن الأثير : وكان صالحاً [36] ويطيل في تراجمهم كما فعل مع الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن زريك الأرمني وزير العاضد العبيدي ، والمتوفي سنة 556 هـ ، والذي نص ابن الأثير على إمامته ، وقال عنه : وكان الصالح كريماً فيه أدب ، وله شعر جيد ، وكان لأهل العلم عنده إنفاق ، ويرسل إليهم العطاء الكثير ، فذكر نماذج لها ، ونماذج من شعره أيضاً [37] ، وفي ترجمته للملك الأفضل (علي بن صلاح الدين) [38] أطال في ترجمته كذلك وامتدحه بأشياء لم يسبغها على أبيه (صلاح الدين) [39] وهو أفضل منه ومما قاله في الأفضل : « وكان رحمه الله من محاسن الزمان ، لم يكن في الملوك مثله ، كان خيراً ، عادلاً ، فاضلاً ، حليماً ، كريماً ، قل أن عاقب على ذنب ، ولم يمنع طالباً .. إلى أن قال :
وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك ، لا جرم حرم الملك والدنيا ، وعاداه الدهر ، ومات بموته كل فعل جليل ، فرحمه الله ورضي عنه » [40] .(54/10)
وتعاطف ( المنتصر) العباسي مع العلويين [41] جعلت (ابن الأثير) يقول في وصفه : كان المنتصر عظيم الحلم ، وراجح العقل ، غزير المعروف ، راغباً في الخير جواداً كثير الإنصاف ، حسن العشرة ، وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين - عليهما السلام - فأمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه وأطلق وقوفهم وأمر برد فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب عليه السلام [42] بل نقل عن بعضهم : إن المنتصر كان شاور في قتل أبيه (المتوكل) جماعة من الفقهاء وأعلمهم بمذاهبه ، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرها ، فأشاروا عليه بقتله فكان كما ذكرنا بعضه [43] .
وفي مقابل هذا التعاطف كان ابن الأثير يعرض ببعض أهل السنة الذين يرى منهم انحراف عن علي -رضي الله عنه- ، كما ذكر في ترجمته لمصعب ابن عبد الله بن ثابت بن عبد الله بن الزبير [44] وفي حديثه عن الحسن ابن زيد بن الحسن ابن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذكره فيمن توفي سنة168 هـ ثم قال عنه:
« وكان قتد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله وحبسه ببغداد ، وأخذ ماله فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله ، وكان جواداً إلا أنه كان منحرفاً عن أهل بيته مائلاً إلى المنصور » [45] .
وأخيراً فهذا ما تيسر الوقوف عليه في (الكامل لابن الأثير) ويبقى بعد ذلك كلمة أراها مهمة في نهاية هذه الدراسة ، وهي أن هناك صنفين من القراء قد لا يستفيدون من هذه الدراسة الفائدة المرجوة :
الصنف الأول : يفهم هذه الدراسة فهماً قاصراً ينتقض هذا السفر العظيم (الكامل) ، بل ربما وصل به الأمر إلى انتقاص (ابن الأثير) نفسه ، نظراً لوجود هذه الملاحظات عليه فلا يرى حاجة إلى الاستفادة منه ، وإذا ذكر عنده اشمأزت نفسه ، وتمنى لو غيره ذكر ! !(54/11)
والصنف الثاني : على النقيض وهؤلاء بلغت بهم الثقة ، ووصل بهم الإعجاب مبلغاً لا يمكن أن يقبلوا معه نقداً صحيحاً -لا يقلل من قدر الكتاب ، ولا ينقص من قدر مؤلفه - بل يعتبرون هذا النوع من الدراسة هدماً لكتب التراث وتجنياً على جهود الأسلاف ... إلى غير ذلك من التهم الباطلة .
والحق أن كلا الأمرين قصور في الفهم لا تهدف إليه هذه الدراسة التي أريد منها مزيد الثقة بهذه النفائس من كتب التراث بعد إيضاح ما فيها من هنات لا يكاد ينجو منها عمل البشر . والله المستعان .
________________________
(1) انظر ترجمته في البداية والنهاية 13/133 وسير أعلام النبلاء 22/ 353 .
(2) الكامل في التاريخ 8/664 .
(3) الكامل 3/392 ، 393 .
(4) أغا بزرك الطهراني : الأنوار الساطعة في المائة السابعة ، ص 88 .
(5) المرجع السابق ، ص هـ ، و .
(6) انظر الأنوار الساطعة/166 .
(7) الأنساب 1/344 ، اللباب 1/84 .
(8) ابن كثر : البداية والنهاية 13 /203 .
(9) المصدر السابق 13/203 .
(10) سير أعلام النبلاء 23/357 .
(11) المصدر السابق 23/357 .
(12) الكامل 1/5 .
(13) الكامل في التاريخ 1/4-6 .
(14) البداية والنهاية 13/203 .
(15) الكامل في التاريخ 3/291 .
(16) الكامل في التاريخ 3/316 .
(17) البداية والنهاية 7/282 .
(18) المصدر السابق 7/310 .
(19) الكامل 7/55 ، 56 .
(20) الأمم والملوك 9/185 .
(21) انظر البداية والنهاية 10/358 .
(22) الكامل 7/80 .
(23) ذكره الذهبي : سير أعلم النبلاء 12/35 .
(24) انظر سير أعلام النبلاء 12/31 .
(25) وفيات الأعيان 1/351 .
(26) الفتاوى 4/21 ، 22 .
(27) البداية والنهاية 10/358 .
(28) المصدر السابق 10/382 .
(29) وفيات الأعيان 1/351 .
(30) الكامل 7 /485 .
(31) تاريخ الطبري 10/55-65 .
(32) الطبري 10/62 .
(33) البداية والنهاية 11/86 .
(34) الكامل 8 /109 .(54/12)
(35) ورام هذا ذكره صاحب طبقات أعلام الشيعة (الأنوار الساطعة في المائة السابعة ، ص 197) ، وانظر : لسان الميزان 6/218 .
(36) الكامل 12/282 .
(37) الكامل 11/274 ، 275 .
(38) ذكر الذهبي تشيعه ، فقال : وفيه تشيع بلا رفض سير أعلام النبلاء 21/295 ، كما ذكر تشيعه ، ابن كثير في البداية والنهاية 13/104 ، والصفدي في : الوافي بالوفيات 12/234 واغا بزرك الطهراني في (طبقات أعلام الشيعة) (الأنوار الساطعة في المائة السابعة) ص 121 .
(39) انظر ترجمته لصلاح الدين في الكامل 12/ 95 ، وما بعدها .
(40) الكامل 12/428 ، 429 .
(41) انظر : سير أعلام النبلاء 12/42 .
(42) الكامل 7/116 ، ويلاحظ أن ابن الأثير كلما جاء على ذكر علي أو أبنائه قال : عليه السلام ، كما يلاحظ هنا تقديمه الحسين على الحسن ؟ ! .
(43) الكامل 7/115 .
(44) الكامل 7/57 ومصعب هذا أثنى عليه طائفة من العلماء ووثقوه ، ولم يذكروا هذا الانحراف فيه ، بل ذكروا توقفه في القرآن انظر : تاريخ بغداد 13/ 113 ، 114 سير أعلام النبلاء 11/30 ، ميزان الاعتدال 4/120 ، تهذيب التهذيب 10/163 .
(45) الكامل 6/80 .(54/13)
من قراءاتي عن الشيعة ( 2 ) ابن القيم والخلفاء الراشدون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد (2/214-215) :
( فائدة : السر – والله أعلم – في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر وعثمان ، أن عليا لو تولى الخلافة بعد موته لأوشك أن يقول المبطلون : إنه مَلك ورث ملكه أهل بيته ، فصان الله منصب رسالته ونبوته عن هذه الشبهة . وتأمل قول هرقل لأبي سفيان : هل كان في آبائه من ملك ؟ قال : لا ، فقال له : لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك آبائه.
فصان الله منصبه العلي من شبهة الملك في آبائه وأهل بيته .
وهذا – والله أعلم – هو السر في كونه لم يورث هو والأنبياء؛ قطعا لهذه الشبهة، لئلا يظن المبطل أن الأنبياء طلبوا جمع الدنيا لأولادهم وورثتهم ؛ كما يفعله الإنسان من زهده في نفسه وتوريثه ماله لولده وذريته، فصانهم الله عن ذلك ومنعهم من توريث ورثتهم شيئا من المال ، لئلا يتطرق التهمة إلى حجج الله ورسله ، فلا يبقى في نبوتهم ورسالتهم شبهة أصلا .
ولا يقال : فقد وليها علي وأهل بيته ، لأن الأمر لما سبق أنها ليست بملك موروث ، وإنما هي خلافة نبوة تستحق السبق والتقدم ، كان علي في وقته هو سابق الأمة وأفضلها ، ولم يكن فيهم حين وليها أولى بها منه ولا خير منه ، فلم يحصل لمبطل بذلك شبهة ، والحمد لله ) .(55/1)