ما هكذا تورد يا سعد الإبل
حوار علمي مع الدكتور ربيع
حول منهج المحدثين النقاد القدامى في نقد الأحاديث
- صحيح مسلم أنموذجا -
ويليه:
الأنوار الكاشفة
لما في تنكيل الدكتور ربيع من التضليل والمجازفة
بقلم
د. حمزة عبد الله المليباري
كلية الدراسات الإسلامية والعربية دبي
الإمارات العربية المتحدة
www.ahlalhdeeth.com
بسم الله الر حمن الرحيم
المقدمة :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.
ونصلي ونسلم على سيدنا محمد، النبي، الأمي، الأمين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فاللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدي محمد ( صلى الله عليه وسلم) وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
قال الله تعالى: + واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون".(1)
وقال تعالى : + قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم".(2)
وقال تعالى : + يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"(3).
وقال تعالى: +يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"(4)
__________
(1) - سورة الزمر ، 55
(2) - سورة آل عمران ، 31
(3) - سورة التوبة 119
(4) - سورة المائدة ، 8(1/1)
وقال تعالى: + يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون "(1)
وقال تعالى: + وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"(2)
فهذا الذي أقدمه إليكم - إخواني الكرام - بعنوان: ’’ما هكذا تورد يا سعد الإبل‘‘ تعقيب، كتبته سنة 1407هـ 1986م، حين كنت طالبا في مرحلة تحضير رسالة الدكتوراه، بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ضمن حوار تحريري جرى بيني وبين أحد أساتذة الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، يدعى الدكتور ربيع، حول بعض القضايا العلمية المتصلة بمنهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل.
حين أرسلت إليه رسالة صغيرة في حدود سبع صفحات لأنبهه على أخطائه العلمية الفادحة في فهمه لنصوص النقاد ومصطلحاتهم الواردة في تعليل حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، وذلك في كتابه (بين الإمامين: مسلم والدارقطني)(3)، ثار ثائره، ثم جاءني رده عليها بعد شهرين تقريبا تبلغ صفحاته إحدى وثمانين صفحة. وعلى الرغم من مخاطبتي له في تلك الرسالة بعبارات محترمة وبأسلوب علمي نزيه، فإن الأستاذ أبى إلا أن يخاطبني في جميع ردوده بتكبر وعناد واستهزاء، ولسان حاله يقول:
__________
(1) - سورة الحجرات، 11
(2) - البقرة ، 190 ، هذه الآيات كلها تعلمنا الآداب والاعتدال وعدم الاعتداء حتى في القتال مع الأعداء، وما بالكم في الحوار العلمي بين الإخوة المسلمين. ومن يتأدب من عباده بهذه الآداب ويلتزم بهذه التعليمات في حياته فهو الذي يكون أتقى العباد وأكرمهم عند الله. وقد قال الله تعالى + إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الحجرات ، 13.
(3) - أصل هذا الكتاب رسالته للماجستير تقدم بها إلى جامعة الملك عبد العزيز، فرع مكة المكرمة .(1/2)
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بسوء فما أدري لمن أنا قائله
بما أن هذه الردود التي رددت بها عليه قبل سبع عشرة سنة تحمل فوائد علمية جمة تتصل بتصحيح مفاهيم مغلوطة لدى كثير من الباحثين حول منهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها، وحلولا منهجية لكثير من الشبهات التي يتخبط فيها كثير من الدارسين اليوم في مجال الحديث وعلومه، وما كان الأستاذ وكتابه (بين الإمامين ) إلا أنموذجا واضحا لذلك، إلى جانب إلحاح بعض أصدقائي علي، فإني أقدم إلى قرائي الأعزاء ذلك التعقيب، بعد إجراء تغيير في أسلوبه، وترتيب جديد لمواضيع الحوار، وحذف كثير من الجزئيات الفرعية التي تتصل بأسلوب الطرفين في المناقشة وسياق نصوصهما، والتي لا طائل في ذكرها، ذاكرا مزيدا من الأدلة التي تفند دعاوى الأستاذ التي يطلقها في كتابه كرا وفرا، وتدحض شبهاته التي استغلها للإساءة إلى سمعتي بين طلبة العلم وأهله، وإيذائي بأنواع من السب والشتم والتهم والطعن في النية.
إن أنا كافيت من أساء فقد.... صرت إلى مثل سوء ما فعلا
إن معالي الأمور تسمى لمن.... يصبر عند المكروه إن نزلا
ذو الحلم في جنة ترد سهام.... الجهل عنه إن جاهل جهلا
أما موضوع الحوار فهو ما أخرجه الإمام مسلم في أواخر باب فضل الصلاة في المسجد النبوي من حديث ابن عمر، بعد أن صدر هذا الباب بحديث أبي هريرة الذي لم يختلف في تصحيحه أحد من النقاد، واتفق مسلم مع البخاري في الاعتماد عليه.(1/3)
وهذا الحديث الذي رُوي عن ابن عمر قد أعله الإمام البخاري والنسائي والدارقطني. وحين قام الأستاذ بدراسته وتخريجه ضمن موضوع رسالته للماجستير لم يكن مدركا علة هذا الحديث التي من أجلها أعلوه، حتى إنه لم ينتبه إلى دقة الإمام مسلم في بيانه لها من خلال ذكر الروايات المختلفة على نافع في أواخر الباب. وبالتالي ذهب إلى القول بصحتها، مع وجود انقطاع في الرواية الأخيرة، لا لأنه اكتشف ما لم يستطع اكتشافه أمثال البخاري والنسائي والدارقطني من عباقرة النقد وأساطين الحديث في عصورهم الذهبية، وإنما بناء على أن الحديث روي في صحيح مسلم، وأن رواته أئمة ثقات، ولم يستطع الأستاذ حتى الآن أن يضيف إلى ذلك شيئا جديدا من العلم ولا دليلا مقبولا من الأدلة.
لما وقف الأستاذ على ما شرحت له من الحقائق التي تكمن في حديث ابن عمر، وأن الإمام مسلما لم يورده في صحيحه من أجل اعتماده ولا تصحيحه، وإنما لبيان الاختلاف فيه، صعق بأخطائه العلمية التي وقعت منه حين صحح تلك الروايات مخالفا لأولئك النقاد، وقد كان يتخيل أن نتائج بحثه ودراسته في كتابه (بين الإمامين) إبداع نادر في مجال الأبحاث العلمية الأكاديمية،(1).
__________
(1) - يقول الأستاذ: ’’وأستغفر الله لقد ألجأتني أن أقول إن كتاب (بين الإمامين ) قد حظي بالتقدير والاحترام في الأوساط العلمية، مع أني ما كنت أنتظر من أحد ذلك ، وإنما أنتظر ما ينتظره كل مسلم ..‘‘ (ص: 159 منهج سلم)(1/4)
بما أن الدكتور ربيع الذي كان رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة آنذاك لم يعجبه ذلك مني، ولم يكن مستعدا لتصحيح أخطائه العلمية، ربما لأني طالب غريب عن البلد أصغر منه يدرس في عقر داره، أخذ يقلب الحقائق رأسا على عقب؛ فاتهمني مباشرة – وكان ذلك سهلا عليه - بأني ضعفت من صحيح مسلم حديثين، وضيعت جزءا من السنة(1). وكانت مهارته في توهيم القارئ بصواب ما يدعيه لافتة للانتباه، ثم استخدم لسانه وقلمه للإساءة إلي، ولم يكتف بذلك، بل أرسل بخفية رسالة مغرضة(2)إلى مدير جامعة أم القرى يتهمني فيها بالانحراف ثقافيا وعقديا، حاثا له على فصلي من الجامعة، لكن الله تعالى حفظني من شرور ذلك الصنيع الذي يذكرنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
’’أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر‘‘.(3)
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
__________
(1) - كان الأستاذ يحاول أن يوهم القارئ في جميع حواراته أنني أضعف حديثا رواه مسلم في صحيحه بأقوى الطرق وأصحها، وأنني أنتهج فيه منهجا جديدا يؤدي إلى تضعيف كل ما أورده مسلم في آخر الباب من الأحاديث والروايات.
أقول: إن الذين أعلوا ذلك الحديث هم هؤلاء الأئمة: البخاري والنسائي والدارقطني، وقد صرح بذلك الأستاذ نفسه قبل الحوار في كتابه (بين الإمامين، ص: 346 ، وص : 343 الطبعة الهندية)، وبعد الحوار أصبح الذي ضعفه هو هذا العبد الضعيف.
(2) - سيأتي ذكر محتوى هذه الرسالة – إن شاء الله تعالى – في الحقيقة الثالثة .
(3) - صحيح مسلم في الإيمان ، باب بيان خصال المنافق 1/98 ( شرح النووي)(1/5)
لقد حاول الدكتور ربيع في كتابه (التنكيل) المليء بظلمات الأكاذيب والأباطيل، أن ينكر اتفاق النقاد على تضعيف حديث ابن عمر، بعد أن اعترف به في كتابه (بين الإمامين)، لكي يتهمني بتضعيف حديث رواه مسلم في صحيحه. لكنه بعد دراسته لنصوصهم الواردة بهذا الصدد لم يستطع إنكار ذلك، بل اضطرب في النتيجة بين الأقوال الثلاثة؛
1 - حججهم ضعيفة.
2 - بل عرضت لهم شبهات(1).
3 - غير أنهم لم يستوفوا الحيثيات!
أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب
إن كان الأستاذ يرى أن حججهم ضعيفة، أو أن بعضهم لم يستوف حيثيات التضعيف، أو عرضت لهم شبهات، فهذا لا يعني بالضرورة أن القول برأيهم حرام على غيره لا سيما من يرى حججهم مقنعة وقوية.
إذن لماذا هذا التهويل والتهويش والتفسيق والتبديع، والتحركات السرية لممارسة ضغوط على مدير جامعة أم القرى لأن أفصل منها ؟!
وهل هذا الفعل من خصال الإسلام ؟!
وهل هذا السلوك من السلفية ومن أخلاق السلف؟!
وهل علينا أن ننتظر في قبول ذلك من نقاد الحديث؛ أمثال البخاري والدارقطني والنسائي، أن يأذن لنا الأستاذ بذلك ؟!
وهل يميل إلى مذهب الإرجاء الذي يتمثل في أن الإيمان لا يضره الكذب والفسق؟! ومن الفسق سباب المسلم وإيذاؤه وإرهابه.
قال زبيد: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‘‘(2).
__________
(1) - يعني للبخاري ، ثم للنسائي ، ثم للدارقطني، ثم للقاضي عياض حول موضوع واحد من صلب تخصصاتهم ، واستمرت الشبهات عبر تلك القرون الطويلة، ولم يكتشف ذلك إلا الأستاذ!!. ولو وقعت الشبهة لأحدهم لكان معقولا، لكن وقوعها للجميع ، ثم تستمر لهذه الحقبة الطويلة!! وهذا مستحيل عرفا.
(2) - البخاري كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله 1/27(1/6)
إن اهتمامه البالغ بجانب التبديع والتجريج في نية الخصم والتشكيك في إخلاصه، وصرفه من أجل ذلك مساحة كبيرة من جميع فصول الكتاب، يعد من أكبر حيله التي مارسها في هذا الحوار، ليخفي على القراء أباطيله وأخطاءه العلمية، ويبرر له ما يصدر منه من سب وشتم وإيذاء في حق خصمه، بعد أن اعتبره من أهل الأهواء، دون أن يعرف عنه شيئا من سلوكه وعقيدته، ويضفي على ذلك التصرف المذموم الشرعية الدينية!
الواقع أني لم أكن سوى مؤيد للأئمة النقاد في تعليلهم لحديث ابن عمر، في ضوء الأدلة والقرائن التي شرحتها له سابقا في الأوراق التي أرسلتها إليه في بداية الحوار. وفي حال ما إذا لم تتبين لي الأدلة كان ينبغي علي أن أسلم للنقاد ما صدر عنهم من الأحكام في مجال التصحيح والتعليل، باعتبارهم أهل تخصص وملكة في هذا الشأن، لا لكونهم معصومين من الخطأ.
قال الحافظ ابن كثير:
’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘(1).
وقال السخاوي:
’’.. فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح‘‘ اهـ(2)
__________
(1) - اختصار علوم الحديث ص: 79
(2) - فتح المغيث 1/237(1/7)
والنقاد إذ أعلوا حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، فإنهم لم يضيعوا جزءا من السنة، بل قاموا بتدقيق الرواية غاية التدقيق لكي لا ينسب شيء إلى غير مصدره، ضمن دفاعهم عن السنة، وذبهم عنها أوهام من يهم فيها أو افتراءات من يفتري على النبي صلى الله عليه وسلم. جزاهم الله عنا خير الجزاء(1).
ولله الحمد، لم يمسني شيء من أذى الأستاذ، بفضل الله تعالى، بل نال جهدي في سبيل إحياء منهج المحدثين النقاد - بتوفيقه تعالى – صدى كبيرا لدى طلاب العلم وأهله من الباحثين والمتخصصين في الحديث وعلومه، وهم كثر – ولله الحمد - في الأقطار الإسلامية، لا سيما في بلده الذي حاول أن يستأصلني منه بدون رحمة أو شفقة.
ولرب نازلة يضيق لها الفتى ... ذرعا وعند الله منها مخرج
__________
(1) - في يوم من الأيام بعد أن أرسلت إليه الأوراق التي تضمنت تصحيح أخطائه العلمية، رأيت في المنام أني كنت واقفا تحت ظل شجرة كبيرة كثيفة الغصون والأوراق، وارفة الظلال، إذ فوجئت بأحجار كبيرة الحجم تقذف نحوي، بدون انقطاع، من وراء جبل يحيطني عن بعد، ولا أرى الشخص الذي يقذفها علي لكونه متخفيا وراء الجبل، لكن كلما يأتي حجر كنت أتحول من مكان إلى مكان متسع، ولم يرهبني حجم الأحجار لكونها تقع بعيدا عن موقعي دون أن يمسني شيء منها.
ومضت الأيام إلى أن جاءني رد الشيخ ربيع صباح يوم العيد، فإذا به يقذفني من وراء الجبال بتهم تشبه تلك الأحجار التي رأيتها في المنام، ولما قاومتها بفضل من الله تعالى، في ظلال جامعة أم القرى علمت أن هذا تأويل تلك الرؤيا.
وقد أخبرني غير واحد من الإخوة الذين كنت أثق بهم أن هذا هو ديدن هذا الأستاذ تجاه من خالفه حتى في الأمور العلمية، وأنه كلما كان مخالفه ضعيفا ازدادت شوكته وقسوته عليه، ولا يترك أحدا حتى ولو كان أكبر منه سنا وعلما، ثم يزعم أن ذلك في سبيل الله! وحاله مع كثير من العلماء وطلاب العلم غير خاف.(1/8)
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
جزى الله تعالى الأستاذ الدكتور راشد الراجح، مدير جامعة أم القرى سابقا، والأستاذ الدكتور صالح بن حميد، عميد كلية الشريعة بالجامعة سابقا، والأستاذ الدكتور عبد العال أحمد عبد العال المشرف على رسالتي للدكتوراه، خير الجزاء على لطفهم وحسن معالجتهم لما لفَّقَه الأستاذ علي من التهم، مع كوني طالبا غريبا يدرس في بلدهم، وجعل الله تعالى ذلك في ميزان حسناتهم التي يسرون بها يوم القيامة.
سترى عظم نعمة الله علي ، وحكمة مسؤولي الجامعة في معالجة تلك القضية بمنتهى الإنصاف والعدل، حين تطلع على محتوى الرسالة التي أرسلها الأستاذ ربيع إلى إدارة الجامعة، وأسلوبه النادر في التحريض والتضليل وتمويه الأباطيل.
إن كان الرجل قد يعذر في ذلك لكونه شديد الغضب(1)والانفعال، مع غيرته الشديدة على الدعوة السلفية، فإنه من المؤسف جدا أنه قد تدرب على هذا السلوك الغوغائي، على يده بعض المساكين من ضعفاء النفوس من بعض الأقطار الإسلامية، يركزون على تزكية أنفسهم وأعمالهم بالدعاوى التي تكون في كثير من الأحيان فارغة، وإيذاء من خالفهم حتى في المجال العلمي، أكثر من حرصهم على شرح الموضوع وتوضيحه وإفهامه للقراء، بأسلوب علمي هادئ. والله أعلم بما تنطوي عليه قلوبهم من النيات، والله حسيبهم.
نسأل الله تعالى للأمة الإسلامية العافية والسلامة.
وعلى الرغم من فداحة مواقف هذا النوع من الناس، وشدة وقعة أساليبهم في النفوس فإنه لا يسعني إلا أن أتأدب بآداب القرآن العظيمة وأقول: + ربنا لا تجعل في قلوبنا غِلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ".
__________
(1) - قال الشاعر:
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب(1/9)
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور قد قام بطبع كتابين بعد ذلك الرد الذي تحدثت عنه آنفا، يتضمن كل منهما مواضيع هذا الحوار، وهما: ’’منهج مسلم في صحيحه ورد شبهات حوله‘‘، و’’التنكيل لما في توضيح المليباري من الأباطيل‘‘.(1)وليس فيهما شيء جديد من حيث العلم ولا من حيث المنهج، وإنما تطور مدهش في الأخطاء والأوهام، وأساليب السب والشتم وإطلاق الدعاوى والطعن في السلوك والعقيدة والنية، وكما جاء في المثل: ’’قد ركب السيل الدرج‘‘.
إن كان من طبيعة الإنسان أن يخطئ ويصيب فإن حرصه على معرفة خطئه، ثم الرجوع إلى الحق، أيا كان مصدره، دون تردد، أو فعل الجميل لمن ينبهه بذلك حتى وإن لم يكن محقا في الواقع، من أعظم ما يرفع من شأنه وقدره لدى أهل العلم جميعا، بل يعد ذلك من شيم الصالحين.
يقول الله تبارك وتعالى: + وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقاّهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"(2)
وأما الإصرار على الخطأ، مؤولا ومموها أمام القراء بأنه إبداع في مجال البحث، ودفاع عن السنة النبوية ومصادرها، ثم الإساءة إلى من أسدى إليه النصيحة، فذلك من السلوك السيء الذي يجب على الإنسان المسلم أن يتجنبه قدر المستطاع.
إذا نصحت لذي عجب لترشده فلم يطعك ، فلا تنصح له أبدا
فإن ذا العجب سيعطيك طاعته ولا يجيب إلى إرشاده أحدا
__________
(1) - العنوان الثاني مأخوذ من الشيخ عبد الرحمن المعلمي الذي عنون كتابه القيم بـ:’’التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل‘‘، ولذا أسميت القسم الثاني من هذا الكتاب بـ: ’’الأنوار الكاشفة لما في تنكيل الدكتور ربيع من التضليل والمجازفة‘‘.
(2) - سورة فصلت، الآيتان : 34 - 35(1/10)
وبما أنني شرحت في كتابي (عبقرية الإمام مسلم في ترتيب مسنده الصحيح) ما يتعلق بالترتيب في ضوء الأمثلة التطبيقية، ولم يثبت الأستاذ في (كتابه التنكيل) المليء بظلمات الأكاذيب والأباطيل، خلاف ذلك بالحجج، فإن بيان العلة في صحيح مسلم ودحض شبهات حوله سيشكل أهم محاور القسم الأول من هذا الكتاب، الذي هو بعنوان: (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) ، كما سنخصص - إن شاء الله تعالى - القسم الثاني للتعقيب على تنكيل الأستاذ، بعنوان: (الأنوار الكاشفة لما في تنكيل الدكتور ربيع من التضليل والمجازفة).(1)
وفيما يأتي عرض لأهم محاور القسم الأول، وهي :
المحور الأول : تحديد موضع النزاع ، ومغالطات الأستاذ حوله.
والمحور الثاني : تحقيق نسخة صحيح مسلم فيما يخص حديث ميمونة في فضل الصلاة في المسجد النبوي.
والمحور الثالث: حديث عبيد الله بن عمر وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، ونصوص البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض في إعلاله.
والمحور الرابع: حديث معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي ، وقول الدارقطني فيه ’’ليس بمحفوظ عن أيوب‘‘.
والمحور الخامس: الروايات التي تبدو موافقة لحديث عبيد الله، ومدى تقوية بعضها لبعض.
__________
(1) - لقد كنت من أكثر الناس حرصا على معرفة الجديد منه، لكنه خيب آمالي؛ فإذا في تنكيله ينهج منهج الاحتمالات، ويتخبط فيه أكثر، وينشغل بالشغب وذر الرماد في عيون الناس، وينتهي في مباحثه أو فصوله إلى السؤال: ’’فما المانع ؟!!‘‘. هذا ويمكن أن يقول الإنسان بالاحتمال أو أن يسأل ’’ما المانع‘‘ دون أن يتعب نفسه بالدراسة والبحث والشغب! يقول الحافظ ابن حجر : ’’والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن‘‘. ( فتح الباري 1/45)(1/11)
هذه القضايا العلمية جديرة بالدراسة لكونها تشكل نماذج واضحة للتباين المنهجي بين كثير من الباحثين المعاصرين وبين نقاد الحديث القدامى في التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل، كما أنها تصحح مفاهيم مغلوطة حول مصطلحات علوم الحديث - إن شاء الله تعالى - .
أود أن أقول للقارئ الكريم إنني أوظف أخطاء الأستاذ وأوهامه وشبهاته لإفهام طلبة العلم قواعد علوم الحديث، وأسباب تلك الأخطاء والشبهات ، وآثارها في الدراسة والتعامل مع نصوص النقاد، وإقناعهم بضرورة احترام منهجهم في التصحيح والتضعيف والترجيح. ولا أريد أن أستغل تلك الأخطاء والأوهام للتقليل من شأن الأستاذ، والطعن في شخصيته، بل أشكره على تسهيل مهمة إفهام طلبة العلم تلك المسائل من خلال أخطائه ، ولولا أخطاؤه ما أتيحت لي هذه الفرصة لتحديد الشبهات، ومكامنها، ومعالجتها.
عداتي لهم فضل علي ومنة ... فلا أبعد الرحمن عني الأعادي
هم طلبوا زلتي فاجتنبتها ... ... وهم نافسوني فاكتسبت المعالي
قبل أن أنهي هذه المقدمة أود أن ألفت انتباه القارئ إلى بعض الحقائق العلمية التي ينبغي للقارىء أن يعرفها قبل الحوار.
الحقيقة الأولى :
إن منهج المحدثين النقاد في نقد الأحاديث موحد عموما، وذلك لاعتماد كل منهم أساسا على مدى استحضار خلفيته العلمية الحديثية والفقهية، ومن كان قد استوفى من هذه الخلفية العلمية ما يتصل بالحديث الذي يقوم بنقده لا يختلف بعضهم عن بعض في الحكم، بل يكون بينهم اتفاق، على الرغم من اختلاف عصورهم وبلدانهم، بخلاف ما نراه في المجال الفقهي من الاختلاف حسب اختلاف المدارس الفقهية التي تعول كل منها على أصولها وقواعدها الخاصة بالاستنباط، وطريقة تطبيقها.(1/12)
نعم، قد يختلف المحدثون النقاد في بعض الأحاديث تصحيحا وتعليلا، وذلك حسب استيفائهم ما يتصل بها من الحيثيات والخلفيات. لكن، لا يعني هذا بالضرورة اختلاف منهجهم في النقد عموما، بل يظل هذا الاختلاف العملي طبعيا. لذا، نجدهم في الغالب يتفقون على الحكم، على اختلاف عصورهم وأوطانهم، وإن كانت عباراتهم في ذلك مختلفة ومتفاوتة بسبب تركيزهم على بيان حكم الحديث، أو الإشارة إلى تصحيحه أو تعليله، أكثر من التفصيل في حيثيات الحكم، والتدقيق في التعبير عنها(1).
أشير هنا على سبيل المثال إلى مسألة التفرد أو مسألة زيادة الثقة؛ فمن استبان سبب ذلك التفرد أو الزيادة في ضوء ما استوعبه من الخلفيات العلمية حول ذلك الحديث الذي وقع التفرد في روايته، أو حول الزيادة التي زادها أحد رواته دون الآخرين، حكم بما يقتضيه ذلك السبب، لكن قد يستحضر بعضهم السبب، ولا يستحضره الآخرون، وبالتالي يعل بعضهم ما صححه غيره من الحديث الغريب أو زيادة الثقة قائلا بأن زيادة الثقة مقبولة أو إن الراوي ثقة أو غير ذلك.(2)
وهذا لا يعني أبدا أنهم مختلفون في منهج التصحيح والتعليل فيما يخص زيادة الثقة، أو فيما تفرد به، وإنما اختلفوا في الحكم بسبب تفاوتهم في استيفاء المعلومات الضرورية حول ملابسات رواية ذلك الحديث، كما لا يعني أنهم مختلفون في قبول الزيادة والتفرد منهجا.
__________
(1) - هذه المسألة المتصلة باهتمام النقاد ببيان الحكم أكثر من التركيز على دقة التعبير عن حيثياته مما ينبغي إبرازه للباحثين المجدين، وقد مررنا في السنوات الماضية أثناء البحث والتتبع بأمثلة كثيرة لذلك. أقول هذا لئلا يثير بعضهم إشكالا بأن النقاد مختلفون في التعليل أو مضطربون في حيثيات الحكم قصد التهرب من قبول ذلك، كما ستجدون ذلك في بعض المناقشات في كتب التخريج ، وكذلك في هذا الحوار.
(2) - انظر كتاب زيادة الثقة في كتب المصطلح للمؤلف . .(1/13)
وأما دراسات المعاصرين وتحقيقاتهم، فإذا أمعنت النظر في طريقة دراستهم للأحاديث وجدت أكثرهم يتخبطون في فهم نصوص النقاد ومصطلحاتهم في النقد، بل يفهمون منها شيئا لم يكن مقصودهم أصلا، لا سيما مصطلح (هذا حديث تفرد به فلان)، أو (لا يعرف إلا من هذا الوجه)، ثم يردونه عليهم بقولهم ( كلا ، وجدت له متابعات وشواهد، ويرتقي بها الحديث إلى الصحة أو الحسن).
بل، نجد بعض المعاصرين المتخصصين في الحديث يعترض على الأئمة النقدة في نقدهم، ويقول بجرأة: (هذا خطأ منهم)، أو (هذا وهم منهم)، أو (لا نسلم لهم هذا)، أو(ما هكذا تعل الأحاديث يا ابن المديني؟!) أو (لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري لما تجاوزوا النتائج التي وصلت إليها ) أو ( لم يتقن الدارقطني عرض المسألة، غفر الله له ورحمه، ولكل جواد كبوة) ونحو ذلك، ثم يستخدم ضد من يناقشه بأدب واحترام سلاحا رخيصا، وهو اتهامهم بأنهم يقدسون السلف ويغالون في احترامهم وحبهم.
أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب
ولا شك أن هذا كله لسبب إهمالهم دراسة منهج المحدثين في النقد دراسة صحيحة، ولتحكيمهم العقل عند الحكم على الأحاديث، وإحسانهم الظن برواة الحديث.
يقول عبد الرحمن بن مهدي:
’’خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث‘‘(1).
ويقول الحافظ ابن حجر :
’’والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن‘‘(2).
انطلاقا من هذا الواقع المؤلم، فإن بلورة هذا المنهج العلمي - شرحا وتوضيحا وتطبيقا - أمر يجب على علماء الحديث؛ كل حسب قدرته ودقته واستيعابه، حفاظا على تراثنا العلمي الذي تمخضت عنه جهود علمائنا السابقين في الدفاع عن السنة النبوية الشريفة في جميع مراحلها التاريخية.
الحقيقة الثانية:
__________
(1) - نقله العقيلي في كتاب الضعفاء 1/9
(2) - فتح الباري 1/45(1/14)
مسألة الترجيح بين الروايات، والنظر في أصحها تعد من أهم المسائل التي تخبط فيها الأستاذ في هذا الحوار، ولم ينتبه إلى منهج المحدثين النقاد في ذلك، ولم يميز بين دقة منهجهم وبين منهج الآخرين؛ إذ كان يرجح الرواية أو الحديث بمجرد كون الراوي أوثق أو ثقة، ويقدمها على رواية غيره من صدوق او صدوق يخطئ، معتمدا في ذلك على ما ذكره الحافظ ابن حجر في التقريب من مراتب الرواة، ثم يزعم أن ذلك هو منهج الإمام مسلم وغيره من المحدثين.
هذه غلطة كبرى تشكل نقطة تباين واضح بين عمل الأستاذ وبين منهج المحدثين النقاد، ومنهم الإمام مسلم؛ إذ كانوا يرجحون من الروايات ما هي أسلم من العيوب وأنقى ويقدمونها على غيرها، بغض النظر عن مرتبة الرواي وظاهر السند، فقد يكون الراوي أوثق الناس، أو ثقة أو صدوقا أو ضعيفا(1).
لذا، فإن القول في تعريف الشاذ إنه مخالفة الثقة لمن هو أولى بحفظ ذلك الحديث الذي وقع فيه الخلاف يكون أدق من القول بأنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق، إذ الثاني فيه تضييق لمفهوم الشاذ بسبب ربطه بالأوثق. وإن كان الأوثق يقدم على الثقة عند المقارنة بين الرواة، فإنه ليس من الضرورة أن يقدم ما رواه على غيره دائما؛ حيث ينبغي النظر في مدى استيفائه شروط الصحيح، كالاتصال والخلو من الشذوذ والعلة. لذا، تكون المقارنة بين الرواة أمرا، والمقارنة بين الروايات أمرا آخر، بينهما فرق شاسع لا تلازم بينهما. والخلط بينهما هو سبب انزلاق الأستاذ في مجال الترجيح بين الأحاديث.
__________
(1) - هذه المسألة شرحناها بشيء من التفصيل في أماكن مختلفة في القسم الثاني من هذا الكتاب.(1/15)
ومن المؤسف أن الدكتور ربيع لم يشعر بذلك، ولا بخطورته، بل كان يغتر بعمله حتى بلغ به الغرور إلى التجرإ على أن يتهمني بالضلال والإفك والتلاعب والمروق حين شرحت له سبب تقديم مسلم حديثا على حديث، أو رواية على رواية حسب الأصحية وبخلاف ما تقتضيه أحوال الرواة؛ إذ يكون في سند الحديث الأول ثقة تكلموا فيه، وفي سند الحديث الثاني ثقة متفق عليه .
ولا شك أن مسألة الترجيح بين الروايات تكتسي أهمية كبرى عند المحدثين، لا تقل عن أهمية التصحيح والتضعيف والتحسين، نظرا لكونها تشكل المرجعية لحل كثير من الاختلافات في المسائل الفقهية والعقدية والسلوكية.
لذا، أحببت أن أركز في هذه المقدمة على إبراز مسألة المقارنة بين الروايات وترجيح ما هو أسلم من العيوب وأنقى، وبيان منهج المحدثين النقاد في ذلك. وقد تناثر الكلام حوله في أثناء الحوار وحسب المناسبة، لكني أجمعه هنا بشيء من التفصيل.
إن الصحيح له شروط: عدالة الراوي واتصال السند وسلامة الحديث من شذوذ وعلة. فحين نرجح بين الروايات الصحيحة التي توافرت فيها هذه الشروط عموما على اختلاف المستويات، ينبغي أن نبحث عن الرواية التي استوفتها بأكمل وجه وأوضح صورة. ويمكن معرفة ذلك من خلال القرائن بالإضافة إلى جوانب أخرى علمية يظنها بعضهم من الكماليات، لكن أثرها بارز في جعل الحديث أسلم من العيوب وأنقى. وهي على سبيل المثال: علو الإسناد ، وشهرة الرواية بين الثقات وتسلسلها، وجودة متونها وغير ذلك.
فالحديث الصحيح العالي المسلسل المشهور بين الثقات مع جودة متنه يكون في القمة من الصحة، لكونه أسلم من العيوب، وليس لكون راويه أوثق. وبقدر ما يستوفي الحديث أو الرواية من هذه الجوانب العلمية يتم ترجيحها وتقديمها على غيرها.(1/16)
إن مسألة المقارنة والترجيح تتوقف على الحفظ والفهم والمعرفة. فمن جعل الحديث أصح بناء على مجرد كون راويه أوثق فإنه يكون قد ضيق واسعا، وخرج من مقتضى تعريف الصحيح، بل انحرف عن منهج القوم انحرافا واضحا.
إن الإمام مسلما بين ذلك في مقدمته بقوله:
’’فأما القسم الأول، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم.
فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم،....... فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم....‘‘اهـ.
من أمعن النظر في سياق هذا النص وتدبر كلماته تيقن التزام مسلم نوعين من الترتيب، هما:
1 - الترتيب بين الأخبار الصحيحة التي نقلها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما رووه؛ إذ قال: ’’ نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها‘‘. وهذا القول مقيد بالقسم الأول من الرواة، و يتمثل هذا الترتيب في تقديم الأصح فالأصح.
2 - والترتيب بين الأخبار الصحيحة التي نقلها أهل الاستقامة وبين الأخبار التي نقلها أهل الدرجة الثانية؛ لأنه قال: ’’فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان‘‘. وفي هذا الترتيب تقدم رواية الثقة على رواية الضعيف.(1/17)
فالإمام مسلم، إذ يجمع بين الروايات الصحيحة التي رواها أهل القسم الأول من الرواة في موطن أو باب أو موضوع، يقدم أسلمها من العيوب من غيرها وأنقى. يعني بذلك أنه يقدم الأصح فالأصح. هذا هو الأغلب. كما أنه يرتب بين رواية الثقات وبين رواية الضعفاء التي قد يذكرها مسلم متابعة أو شاهدا بتقديم الأولى على الثانية(1).
وإلا، فما معنى التقديم في قوله ’’إنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي ينقلها أهل استقامة في الحديث؟! ولم يقل: نذكر الأخبار.
وأين يقدم إذن؟!
وعلى ماذا يقدم؟!
وهل يعتبر مجرد الذكر تقديما؟!
إن الناظر في كلام الإمام مسلم يلمح هذا النوع من الترتيب بجلاء(2).
__________
(1) - على هذا يحمل قول ابن الصلاح :’’وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبع ذلك بإسناد آخر – أو أسانيد – فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة‘‘.
وكذا ما نسبه الدكتور ربيع إلى الحاكم أنه جعل الترتيب في صحيح مسلم بتقديم أهل الطبقة الأولى على أهل الطبقة الثانية . انظر الصفحات : 109 ، 115 ، 119 ، 122 ، 124 ، 189 من كتاب المدخل إلى الصحيح بتحقيق الدكتور ربيع . والغريب أن المعروف عن الحاكم أنه يرى أن الإمام مسلما لم يخرج في صحيحه لأهل الطبقة الثانية!.
(2) - اعترض علي بعض الإخوة بقوله :’’ لم يفهم أحد من العلماء السابقين أن وسيلة مسلم في بيان العلل في صحيحه هي التقديم والتأخير، وهذا المسلك هو الذي أشار إليه من ذكرنا قوله !.‘‘ (وهو حمزة المليباري)
ثم أخذ هذا الأخ يحلل مضمون الفقرة بقوله :
’’ إن منشأ الخطأ الواقع في الفكرة السابقة هو عدم فهم لقول مسلم في أهل الطبقة الأولى : (فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم ..) فظن من نقلنا قوله أنه يتوخى تقديم الأخبار في أوائل الأبواب ثم يعرج على ذكر الأخبار المعللة ساكتا عنها!! وكأنه من أهل الباطن ..‘‘.اهـ من كتاب ’’الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح وأثره في علم الحديث‘‘ للشيخ مشهور ص: 1/456.
أقول: إن صاحب هذا التعليق لم يبين للقارئ مقصود الإمام مسلم من التقديم، وأين يقدم، وعلى ماذا يقدم، وكيف يتحقق التقديم، وهل هو مجرد الذكر.
أهكذا ينتقد الباحث كلام الآخرين ؟! إذا أنكر شيئا فعليه أن يبين الصواب.
ثم إن قوله ’’إن وسيلة بيان العلل بهذا الترتيب‘‘ من أين له ؟! ومن قال ذلك ؟! .
كل ذلك سطره الأخ الفاضل تقليدا للشيخ ربيع دون تأمل وتدبر لما كتبه في كتابه (منهج مسلم).(1/18)
وأما قول الإمام مسلم ’’من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا‘‘ فلم يكن إلا قيدا أغلبيا، إذ الحديث أو الرواية لا تكون أسلم من العيوب بمجرد كون راويها ثقة أو أوثق. ذلك لأنه إذا روى الأوثق حديثا كان أكثر سلامة من عيب واحد فقط، وهو ضعف الراوي، لكن قال مسلم هنا بلفظ الجمع ليشمل الانقطاع والشذوذ والعلة وضعف الراوي.
إذن، لا بد من النظر في مدى سلامة الحديث من احتمال الانقطاع والشذوذ والعلة حتى يتبين للناقد أنه أسلم من جميع هذه العيوب وليس مجرد تحقق سلامة منها، وإنما كونه أسلم منها وأبعد وأنقى.
وليس من الصعب أن نفهم من نص الإمام مسلم أن التقديم الذي يريده في صحيحه إنما هو عند جمعه لروايات القسم الأول أو لأحاديثهم في موضوع واحد أو باب واحد، وأن هذا التقديم ليس فقط بترجيح حديث الأوثق على من هو دونه، بغض النظر عن شروط أخرى أو جوانب علمية أخرى من شأنها أن تجعل الحديث أكثر بعدا عن العيوب من غيره؛ إذ لم يقل مسلم إنه يتوخى أن يقدم أخبار الثقات، بل قال: ’’نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى‘‘. بذلك يتبين أن معيار تقديم حديث على حديث عند الإمام مسلم هو أن يكون أسلم من العيوب وأنقى.
ومن تدبر أسلوب المحدثين النقاد في الترجيح وجدهم لم يتقيدوا بأحوال الرواة ومراتبهم، بل وجدهم يرجحون حسب ما يستكمل الحديث من خصائص الإسناد والمتن ما يجعله أسلم من العيوب وأنقى. ومن هذه الخصائص ما يرجع إلى حال الراوي، ومنها ما يرجع إلى تركيبة الإسناد؛ كالعلو والتسلسل، ومنها ما يرجع إلى شهرة الرواية، ومنها ما يرجع إلى طبيعة المتون؛ كأن يكون أتم وأكمل وأبعد عن الغموض والاختلاف.(1/19)
أما الترجيح بين الرواية الصحيحة والرواية الضعيفة فلا إشكال لأحد في تقديم الصحيحة وترجيحها. لكن إذا وقع خلل في تصور الباحث حول مفهوم الصحيح والضعيف، واعتبر ما رواه الثقة صحيحا وما رواه الضعيف ضعيفا، ثم يرجح بناء على ذلك ما رواه الثقة على ما رواه الضعيف أو الصدوق ، فإنه يكون بذلك بعيدا عن منهج المحدثين.
ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون راوي الحديث ثقة أن يكون الحديث صحيحا، كما لا يعني ما رواه الضعيف ضعيفا.
يقول الحافظ ابن حجر(1): ’’لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح ، لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني ووجودها في الأول، أو كثرة المتابعات وتوافرها على الثاني دون الأول ‘‘.
ويقول المعلمي(2): ’’أئمة الحديث قد يتبين لهم في حديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف ، وفي حديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم‘‘.
وفيما يأتي ذكر نماذج من نصوص النقاد للبرهنة على أنهم في الترجيح يعتمدون على كون الحديث أكثر استيفاء لخصائص الإسناد والمتن دون إهمال أحوال الرواة ومراتبهم.
أولا: كان مسلم يقدم من الأخبار الصحيحة ما هو أعلى من غيره حتى وإن كان في سنده راو ضعيف.
جاء في تدريب الراوي أن أبا زرعة أنكر على مسلم روايته عن أسباط بن نصر وقطن وأحمد بن عيسى المصري، فقال: إنما أدخلت من حديثهم ما رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول، فأقتصر على ذلك. ولامه أيضا على التخريج عن سويد، فقال: من أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة بعلو؟!!(3).
__________
(1) - النكت 1/247 – 248
(2) - التنكيل 2/32
(3) - 1/98(1/20)
يعني بذلك أن الإمام مسلما اختار حديث أسباط وقطن وأحمد بن عيسى وسويد مع كونهم ضعفاء على رواية الثقات لسبب علو رواية هؤلاء ونزول رواية أولئك. فالعلو يعده مسلم من معايير التقديم والترجيح.
ثانيا: كان مسلم يقدم من الأخبار الصحيحة ما هو أسلم من العيوب من غيره. يقول مسلم في التمييز(1):
’’رواية بشير بن يسار أصح الروايتين‘‘
وأعاده بقوله:
’’ وحديث بشير بن يسار في القسامة أقوى الأحاديث وأصحها‘‘ . يعني من رواية أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي حثمة.
ثم رأينا الإمام مسلما في صحيحه قد طبق ذلك؛ حين أورد حديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار، وصدر به الباب، ثم ذكر حديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار، وختم الباب بحديث أبي ليلى عن سهل بن حثمة الأنصاري(2).
ومن أمعن النظر في هذه الروايات علم أن هذا الترتيب والتقديم والتأخير ليس بناء على مراتب الرواة وطبقاتهم التي لخصها الحافظ ابن حجر في التقريب، وإنما لكون الحديث أكثر سلامة من العيوب ؛ كالشذوذ والعلة(3).
__________
(1) - ص: 146
(2) - كتاب القسامة والمحاربين .. ، باب القسامة 11/151 ( شرح النووي)
(3) - قال الإمام مسلم في التمييز (ص: 144 - 146) عن حديث سعيد بن عبيد : ’’هذا خبر لم يحفظه سعيد بن عبيد على صحته ، ودخله الوهم حتى أغفل موضع حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته ‘‘.
وقال أيضا: بعد أن ساق جميع ما رواه مسلم هنا في صحيحه من الروايات عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار وغيرها :
’’ وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم البينة ، إلا ما ذكر سعيد بن عبيد في خبره ، وترك سعيد القسامة في الخبر فلم يذكره ، وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقتضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة‘‘.
وبعد أن رأينا قول الإمام مسلم نفسه يمكن القول بأنه أخر حديث سعيد بن عبيد لهذه العلة التي بينها . فروى من حديثه ما وافقه فيه غيره ، أما حديث أبي ليلى الذي ختم به مسلم فقد صرح بـ ’’أن رواية بشير أصح الروايتين‘‘ يعني رواية بشير ورواية أبي ليلى.(1/21)
والجدير بالذكر أن بشير بن يسار وأبا ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ثقتان.
ثالثا: كان يقدم من الأخبار الصحيحة ما كان متنه أجود وأكمل . مثاله:
قول الإمام مسلم:
’’حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا إسماعيل عن الشعبي عن مسروق قال: سألت عائشة: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟! فقالت: سبحان الله، لقد قف شعري لما قلت. وساق الحديث بقصته . وحديث داود أتم وأطول‘‘.
فقدم مسلم رواية داود عن الشعبي على رواية إسماعيل عن الشعبي لأن حديثه أتم وأطول(1).
والجدير بالذكر أنه أورد في هذا الباب قبل رواية الشعبي روايات أخرى. وهذا الذي ذكرته إنما هو فيما يخص الترتيب بين الروايات عن الشعبي.
ومنها قوله :
’’وحدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد وحديث جرير أتم وأشبع‘‘.(2)
لقد قدم مسلم حديث جرير عن عبد الملك بن عمير على حديث أبي عوانة عن
عبد الملك بن عمير لكون متنه أتم وأشبع.
ومنها قوله:
’’وحدثناه محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق بهذا الإسناد غير أن حديث منصور أتم وأكثر ‘‘.(3)
إذ قدم مسلم حديث منصور عن أبي إسحاق لكونه أتم من حديث شعبة عن أبي إسحاق . والجدير بالذكر أن هذا الترتيب بالنسبة إلى حديث أبي إسحاق .
ونحو ذلك في مواضع كثيرة من صحيح مسلم.(4)
رابعا : كان يقدم من الأخبار الصحيحة ما هو أكثر شهرة من غيره. يقول النووي في حديث تتبعه الدارقطني :
(
__________
(1) - انظر باب معنى ’’قول الله عز وجل: +ولقد رآه نزلة أخرى ...."‘‘ 1/160
(2) - انظر باب في قوله تعالى: +وأنذر عشيرتك الأقربين " 1/192
(3) - انظر باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1/523
(4) - انظر القسم الثاني : ’’الأنوار الكاشفة لما في تنكيل الدكتور ربيع من التضليل والمجازفة ‘‘.(1/22)
وذكر مسلم في الباب اختلاف طرق هذا الحديث ، فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ، ثم رواه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة . ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبي معاوية ، ولا خرجه من طريقه ، بل خرجه من طريق آخر، وعلى كل حال فالمتن صحيح لا مطعن فيه ) اهـ بتصرف.
ويقول أيضا في مواقيت الحج(1):
’’ذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث، حديث ابن عباس أكملها، لأنه صرح فيه بنقله المواقيت الأربعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلهذا ذكره مسلم في أول الباب ، ثم حديث ابن عمر لأنه لم يحفظ ميقات أهل اليمن ، بل بلغه بلاغا، ثم حديث جابر لأن أبا الزبير قال: أحسب جابرا رفعه، وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعا‘‘.
إن هذه النصوص واضحة بدلالتها على أن الإمام النووي يرى الإمام مسلما يرتب الأحاديث حسب الخصائص الإسنادية والحديثية، إذ بين الترتيب، لكن ليس بتقديم رجال أهل الطبقة الأولى على الطبقة الثانية، وإنما بتقديم الحديث حسب الشهرة وجودة المتن.
أما في النص الأول فلشهرة رواية الأعمش عن أبي حازم، حين قال :
’’فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ، ثم رواه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة‘‘.
وأما النص الثاني فأوضح سبب الترتيب أن متن الحديث الأول أكمل وأجود من الحديث الثاني؛ إذ تضمن ذكر المواقيت الأربعة، والحديث الثاني الذي أخره مسلم أنقص، إلى جانب كون جابر لم يجزم برفعه.
خامسا: قال المعلمي: ’’من عادة مسلم في صحيحه أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة, يقدم الأصح فالأصح, فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمال أو خطأ فتبينه الرواية المقدمة‘‘(2)
__________
(1) - شرح النووي 8/81، وفي الأمثلة التي درسناها في القسم الثاني : (الأنوار الكاشفة) تقديم ما هو أكثر شهرة من غيره.
(2) - الأنوار الكاشفة ص 230(1/23)
سادسا: كان النقاد على المنهج نفسه في الترجيح؛ كانوا يرجحون الحديث لكونه أسلم من العيوب من غيره ، فقد يكون الحديث الراجح من طريق راو قال فيه الحافظ ابن حجر – مثلا- : صدوق يخطئ ، والثاني من طريق راو قال فيه الحافظ- مثلا - : ثقة .
ومن أمثلة ذلك ترجيح الإمام الدارقطني:
سئل الإمام عن حديث عثمان بن عفان عن عمر بن خطاب عن النبي
صلى الله عليه وسلم ’’إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه فيموت على ذلك إلا حرم النار لا إله إلا الله‘‘ ، فقال:
’’هو حديث يرويه قتادة واختلف عنه ؛ فرواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار عن حمران عن عثمان عن عمر . قال ذلك عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عن سعيد .
وخالفه خالد بن الحارث عن سعيد ؛فرواه عنه عن قتادة عن حمران ، وكذلك رواه أيوب أبو العلاء عن قتادة عن حمران ، وحديث عبد الوهاب بن عطاء أحسنها إسنادا وأشبه بالصواب ‘‘(1).
وكان هذا الترجيح على حديث خالد بن الحارث وأيوب أبي العلاء .
وعبد الوهاب قال فيه الحافظ: صدوق، ربما أخطأ، أنكروا عليه حديثا في العباس. يقال: دلسه عن ثور. وأما خالد بن الحارث بن عبيد بن سليم الهجيمي فثقة ثبت. ومع ذلك رجح الدارقطني رواية عبد الوهاب.
ومثال آخر من علل الدارقطني(2).
روى موسى بن داود عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن أبي هريرة ، وخالفه الوليد بن مسلم ؛ فرواه عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ’’أبا هريرة‘‘.
قال الدارقطني: ’’قصر به الوليد، والصحيح عن أبي هريرة‘‘ .
فرجح هنا رواية موسى بن داود على رواية الوليد، وموسى بن داود قال فيه الحافظ : صدوق فقيه زاهد له أوهام. وأما الوليد بن مسلم الدمشقي، فقال فيه الحافظ : ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية.
وكذلك الإمام الترمذي لم يكن معتمدا في الترجيح على أحوال الرواة فقط، انظر إلى قوله:
__________
(1) - علل الدارقطني 2 /7
(2) - علل الدارقطني 7/262(1/24)
’’حديث ابن عمر أصح وأحسن من حديث أبي هريرة‘‘(1).
وقد وافقه عمليا الإمام مسلم؛ حين قدم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة(2).
والجدير بالذكر أن رواة حديث أبي هريرة ثقات كلهم، بينما في سند حديث ابن عمر شريك، وهو متكلم فيه لسبب الاختلاط. وسبب هذا التقديم _ فيما أرى، والله أعلم _ هو شهرة رواية حديث ابن عمر، بينما حديث أبي هريرة صحيفة تفرد بروايتها عبد الرزاق عن معمر عن همام عنه به.
وقال الترمذي:(3)
’’لا أعرف حديث تعجيل الزكاة من حديث إسرائيل عن الحجاج بن دينار إلا من هذا الوجه، وحديث إسماعيل بن زكريا عن الحجاج عندي أصح من حديث إسرائيل عن الحجاج بن دينار، وقد روي هذا الحديث عن الحكم بن عتيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ‘‘
فقدم الترمذي حديث إسماعيل على إسرائيل.
وإسماعيل قال فيه الحافظ: ’’صدوق يخطىء‘‘، وقال في إسرائيل: ’’ثقة تكلم فيه بلا حجة‘‘.
وقال الترمذي(4)- بعد أن روى من طريق حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن يعيش بن الوليد المخزومي عن أبيه عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ. فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له. فقال: صدق. أنا صببت له الدفع - :
’’وقد جود حسين المعلم هذا الحديث. وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. وروى معمر هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير فأخطأ فيه فقال: عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء، ولم يذكر فيه الأوزاعي، وقال: عن خالد بن معدان. وإنما هو معدان بن أبي طلحة‘‘.
__________
(1) - سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور 1/6
(2) - صحيح مسلم 3 /102 (شرح النووي)
(3) - سنن الترمذي ، كتاب الزكاة باب ما جاء في تعجيل الزكاة 3/63
(4) - سنن الترمذي 1/145 - 146(1/25)
وحسين بن ذكوان المعلم قال فيه الحافظ : ثقة ربما وهم ، بينما معمر بن راشد قال فيه الحافظ : ثقة ثبت . ومع كون معمر أوثق من حسين المعلم رجح الترمذي حديث حسين .
وبهذا، يتبين لنا أن معايير الترجيح بين الروايات الصحيحة لا تقف عند الإمام مسلم ولا غيره من المحدثين النقاد عند حدود أحوال الرواة ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل، بل تتعداها إلى خصائص علمية تجعل الحديث أسلم من العيوب.
لكن الطامة الكبرى أن يتجرأ الباحث المعاصر - مع علمه بالقدر الذي عنده من الخلفيات العلمية، وإحساسه القوي بأنه بعيد عن علم النقاد، وأنه عالة عليهم - على تنصيب نفسه للمحاكمة بين الأئمة من خلال نظره في أحوال الرواة ورتبهم في سلم الجرح والتعديل بناء على تقريب التهذيب. وكيف يستطيع هذا الباحث المعاصر أن يقوم بهذه المهمة العلمية النقدية إذا كان عمله قائما على نظره في ظواهر السند وأحوال رواته؟! وسنكشف خطورة نتائج ذلك عند تعقيبي على ردود الأستاذ.
اللهم احفظ سنة نبيك مما يشكل تلاعبا عليها من قبل محبيها دون أن يشعروا به؛ فإن تلاعبهم غير مكشوف، قد يغتر به من يحترمهم، بل يعض عليه بالنواجذ على حساب من يكرهه، بخلاف ما يُقدِم عليه الأعداء من تلاعب وعبث بالسنة، لأنه مكشوف لدى الجميع، ولا يغتر به إلا منحرف.
الحقيقة الثالثة:
هذه الحقيقة أخفيتها طوال هذه السنوات نظرا لحقوق الأخوة الإسلامية التي يفرض علينا الإسلام احترامها، ومن هذه الحقوق ستر العيوب عن أخ مسلم فضلا عن داعية، والتسامح فيما وقع منه من التجاوزات. غير أن الأستاذ تمادى في إساءاته إلى سمعتي بين الطلبة ، وإيذائي بالسباب والشتائم والتجريج والتشكيك، ونشر كتابين لهذا الغرض، حتى إني كنت أسمع من بعض إخواني كلمات بذيئة في وصفي عبر الكتب والشبكة المعلوماتية. أدعو الله تعالى أن يهديم جميعا إلى الحق والصواب.(1/26)
لذلك، فإن من حقي أن أدافع عن نفسي وعرضي وعقيدتي، وأن أبين الحقائق التي وقعت في بداية الحوار حتى يدرك القراء أن الأستاذ كان مضللا في جميع ما تكلم به عني، وكاذبا فيما وصفني به. ومع ذلك، فإني أحافظ على تعاليم الإسلام، ولا أريد أن أطعن في الرجل ولا أنتهك عرضه، ولا أكذب عليه.
إن موقف الأستاذ في بداية الحوار كان ازدواجيا؛ فمن جهة أرسل إلي ردوده بلغة قوية مع السب والشتم والتشكيك والاستهزاء، ومن جهة أخرى تحرك سريا للاتصال بمدير جامعة أم القرى بمكة المكرمة ليفصلني منها - وأنا على وشك التخرج – عقابا لي على ما نبهته إليه من أخطاء علمية بأدب واحترام وسرية تامة.
وفيما يأتي محتوى الرسالة التي أرسلها إلى مدير الجامعة في اليوم الذي أرسل إلي ردوده المنفعلة.
بسم الله الرحمن الرحيم في 27/9/1406هـ
صاحب المعالي مدير جامعة أم القرى حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد – فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه
أحيط معاليكم علما بأنه وصلتني أوراق من طالب يحضر الدكتوراه في جامعتكم تحت عنوان ’’غاية المقصد في زوائد مسند أحمد‘‘ تحقيق ودراسة يدعى الطالب باسم حمزة بن
عبد الله المليباري.
وقد تناول حديثين من صحيح مسلم بالنقد ، وهما من الأحاديث التي درستها في رسالتي ’’بين الإمامين مسلم والدارقطني ‘‘ وظهر لي صحتها بالأدلة فصححتها وأوردت لها المتابعات والشواهد مما أكد صحتها ورفعها إلى قمة الصحة كما بينت ضعف حجة من انتقدهما بالأدلة الواضحة القوية.(1/27)
لكن الطالب المذكور قد ذهب إلى تضعيف الأحاديث المذكورة بدون حجج ولا علم مخالفا أكثر من ثلاثة عشر عالما ذهبوا إلى صحتها، وذكرها بعضهم في المتواتر، وقد تعسف جدا في دراسته وارتكب من المغالطات والمجازفات الشيء الذي لم أر له نظيرا إلا في دراسات المستشرقين. وقد أزعجني أن توجد دراسة مثل هذه في مجال سنة رسول الله وفي قلعة من قلاع الإسلام.
وقد حاولت الستر على الطالب ولكني – والله خشيت أن يحاسبني الله على هذا السكوت ، إذ أن هذه الدراسة لا تعدو أن تكون حملة من الحملات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد مر علي أكثر من شهر وأنا أتردد في الكتابة إليكم، ثم ترجح لي إشعاركم بذلك ، فإن مثل هذا العمل المريب كما هو هدم للسنة، يمس كرامة الجامعة وسمعتها ويعرضها للمسؤولية أمام الله.
أرجو من معاليكم أن تطلعوا بأنفسكم على مناقشتي للطالب في الأوراق المرفقة بهذا الخطاب لتقفوا على الحقيقة ، وتقرروا في شأن الطالب ما يخلصكم من المسؤولية أمام الله. علما بأن الرسالة لم تناقش إلى الآن.
والمسألة سر بيني وبينكم وبين الله . دفعتني النصيحة لله ولرسوله ولسنته إلى تقديمها ، وأوراق الطالب مرفقة بأوراقي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ربيع مدخلي(1)
وجه الأستاذ هذا الخطاب إلى مدير الجامعة حين أنهى إعداد رده الأول علي، وكان منشغلا به مدة أكثر من شهر بعد أن تلقى مني الأوراق التي بعثتها إليه، وأرسل إلي ذلك الرد في اليوم الذي اتصل فيه بالمدير، إذ وصلني رده يوم عيد الفطر عام 1406هـ ، وتاريخ الرسالة التي وجهها إلى المدير 27/9/1406هـ كما هو مسجل أعلى الرسالة، يعني في نهاية شهر رمضان المبارك.
كنت أتساءل: أين النصيحة التي ذكرها في خطابه الموجه إلى المدير؟!
هل النصيحة هي هذا الفعل منافيا للأمانة العلمية؟!
__________
(1) - ألحقنا صورة الرسالة بآخر الكتاب .(1/28)
كيف اتصل به بهذه الرسالة المغرضة والمضللة قبل أن ينتظر مني ردي وموقفي تجاه ما كتبه وشرحه في رده، وقبل أن يعرف عني شيئا؛ هل أنا معاند أم معذور؟!.
هل هذه سنة رسول الله ×، يلجأ إلى الخداع قبل المواجهة ؟!
هل هو بحاجة إلى هذا الفعل الرخيص إذا كان يريد الذب عن السنة ؟!
أوليس حديث ابن عمر مما أعله الإمام البخاري ثم النسائي ثم الدارقطني ثم القاضي عياض ، حسبما صرح به الأستاذ نفسه؟!.
إذن لست أنا الذي ضعف الرواية عن ابن عمر.
إذا كان عمل الأستاذ هذا ليذب عن السنة ومصادرها، بحيث لا يستطيع أن يسمع من أحد تضعيف ما في أحد الصحيحين حتى ولو سبقه النقاد في تضعيفه، فكيف سكت عن تضعيف الشيخ الألباني (رحمه الله) أحاديث من صحيح مسلم مع أنه لم يسبقه أحد من النقاد في تضعيف بعضها ؟!(1).
وماذا يقول عن قول الشيخ الألباني (رحمه الله ):
’’ وليس معنى ذلك أن كل حرف أو لفظة أو كلمة في الصحيحين هو بمنزلة ما في (القرآن) لا يمكن أن يكون فيه وهم أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة ، كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله تعالى أصلا، فقد قال الإمام الشافعي وغيره (أبى الله أن يتم إلا كتابه)، ولا يمكن أن يدعي ذلك أحد من أهل العلم ممن درسوا الكتابين دراسة تفهم وتدبر مع نبذ التعصب ، وفي حدود القواعد العلمية الحديثية ، لا الأهواء الشخصية ، أو الثقافة الأجنبية عن الإسلام وقواعد علمائه‘‘؟!.(2)
وكيف سكت الأستاذ وصبر على الشيخ مقبل حين أيد قول الدارقطني في تضعيف بعض أحاديث مسلم، أو صرح بقوله: ولعل مسلما ذكره ليبين علته ؟!(3)
__________
(1) - انظر كتاب طليعة فقه الإسناد (ص: 119 – 132) للشيخ طارق عوض الله
(2) - مقدمة تحقيق شرح الطحاوية ، ص: 23
(3) - انظر (الإلزامات والتتبع) ص: 139 ، 140 ، 143، 145، 147، 157، 165، 170، 171، 181، وغيرها من المواضع الكثيرة(1/29)
وقوله (لعل) لا يخفف على الأستاذ غضبه؛ لأنه ورد في تطبيق ماكان يعتقده في الأمثلة. وهذا دليل واضح على اعتقاد الشيخ مقبل بأن مسلما يبين العلة في الصحيح كما وعد به في المقدمة.
والأمر واضح مثل الشمس أن الأستاذ ربيع يريد أن يدافع عن نفسه ورأيه الذي يظن أنه لا ينبغي لأحد أن يعيد النظر فيه. وهذا هو الحق البين لمن يتأمل في مجريات الحوار وأسبابه ومراحله. والله تعالى أعلم بما يخفي الناس في صدورهم.
وما أصدق قول الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئ
إن أقصى ما يمكن أن يقال في حقي أني ردَّدت أقوال الأئمة الجهابذة في هذا الشأن مدافعا عن مصداقيتها.
ورد على هذا الخطاب الأستاذ الدكتور /عبد العال أحمد عبد العال، الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه، وسلم إلى مسؤولي الجامعة ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
معالي الدكتور عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أمر القرى بمكة المكرمة
الدراسات العليا فرع الكتاب والسنة .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
فإني أرد على خطابكم الموجه إلينا بتاريخ 10/1/1407هـ تحت رقم 42 / 31 بهذا الرد الموجز فأقول:
كان الطالب الذي أشرف على رسالته للدكتوراه / حمزة عبد الله قدم إلي عند لقائنا في أول الإشراف هذا العام نسخة من ردوده على الأستاذ الدكتور / ربيع بن هادي المدخلي / وبعدها بقليل وصلني خطابكم الكريم يكلفني بحث الموضوع فصار لزاما عليَّ أن أطلع وأفحص ما أرسلتم إليَّ من أوراق الطالب الأولى ومن ردود الطالب على فضيلة الشيخ الدكتور / ربيع المدخلي.(1/30)
وبعد الفحص والتتبع وجدت أن الخلاف بين الاثنين مرجعه إلى جملة قالها الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه عقب ذكره لمنهجه في الكتاب ، وهذا نصها ’’ وسنزيد إن شاء الله شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى ‘‘اهـ. (مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي جـ 1 ص: 59)
وعندما وصل الإمام مسلم في صحيحه إلى الحديث رقم 500 ، باب الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ونصه ’’ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام‘‘ (جـ 9/163 بشرح النووي ) روى مسلم الحديث من طرق عشرة، ورتبها حسب منهجه الذي يفهم منه أن الطريقين رقم 1 ، 2 أسلم الطرق من العيوب، وأنقاها، ويليهما في السلامة والصحة طريق 3، 4، 5 ، ثم بعدها الطرق التي في الأرقام من 6 إلى 10 ، وهنا طبق الإمام مسلم على طريقته ما وعد به في المقدمة عند ذكر المعللة، وتناول الإمام النسائي والدارقطني ما في هذه الطرق من علل الاختلاف والاضطراب في الإسناد وتبعهم القاضي عياض رحمهم الله جميعا .
وعندما تناول الطالب /حمزة عبد الله/ البحث في الحديث لم يفعل أكثر من تتبعه لما قال الدارقطني والنسائي بل والبخاري واقتنع بما قالوا وعمل على تأييده بما ورد في كتب العلل. وذلك يخالف ما ذهب إليه الشيخ ربيع في كتابه (بين الإمامين مسلم والدارقطني ) وهو موضوع رسالته. وعندما أرسل إليه الطالب / حمزة عبد الله / بما رأى ووصل إليه بحثه قامت قيامته وراح يرد عليه بأسلوب لا يليق بعلماء السنة النبوية. ولكن الطالب لم يقنعه ذلك الرد وكتب ردودا على ما قاله الشيخ تقع في أربع وتسعين صفحة من القطع الكبير. وإني أرفقها بهذا التقرير(1/31)
والذي أرى – دون تحيز – أن الحق في جانب الطالب، وليس هذا التقرير مجالا لذكر الأسباب فإنها واضحة في مذكرة الطالب التي رد فيها على الشيخ ربيع وهي مرفقة مع هذا ومرفوعة إليكم.
وإنصافا للطالب وإظهارا للحق والعدل وتمسكا بروح البحث العلمي الجاد وليس عندي مانع من أن تقوم الجامعة بتكوين لجنة علمية تختارها من كبار علماء الحديث المحققين أمثال الشيخ حماد الأنصاري والشيخ الألباني والدكتور أحمد نور سيف والدكتور مصطفى الأعظمي والدكتور محمود الميرة والدكتور نور الدين عتر لتكون حكما بين الاثنين. واعتقادي أن هؤلاء العلماء سوف ينصرون الحق ولا يخشون في الله لومة لائم .
وذلك لأني أرى أن هذا الطالب مثال للجد والنشاط دؤوب على البحث والتحقيق وإنه لمفخرة أي مفخرة أن يتخرج مثل هذا النوع من جامعة أم القرى بمكة المكرمة في ظل مديرها الشجاع.
ونسأل الله التوفيق للجميع ، والسلام عليكم ورحمة الله .
المشرف
3/ 2 /1407 هـ د/ عبد العال أحمد عبد العال
6 /10/1986م (التوقيع )
أستاذ بالدراسات العليا(1)
جزى الله تعالى الأستاذ الدكتور / عبد العال أحمد عبد العال الذي دافع عن الحق وصاحبه، وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة.
انتهت القضية بدون أن يمسني شيء من الضرر. وأخيرا كفتني الجامعة مؤنة إرسال ردي إلى الشيخ ربيع .
تلك هي الحقيقة لبداية الحوار بيني وبين الأستاذ ربيع، ولم تسبقها أية خلفية أخرى بيننا، وحتى لم أكن أعرفه شخصيا ولم أجالسه ولم أره.
إني لا زلت أتساءل كيف تجرأ الأستاذ على تحويل هذا الموضوع العلمي البحت الذي بدأ على الشكل الذي رأيناه إلى موضوع عقدي خطير ينذر الناس بأنه تهديد لهدم السنة ومصادرها وأني صوفي ضال!.
سبحان الله . ولله في خلقه شؤون.
__________
(1) - صورة الرسالة ملحقة بآخر الكتاب(1/32)
أخيرا أختتم هذه المقدمة بنصين لإمامين جليلين؛ وهما ابن قتيبة وابن القيم. أما الإمام ابن قتيبة فقد قال:(1)
’’وسيوافق قولي هذا من الناس ثلاثة :
رجلا منقادا سمع قوما يقولون، فقال كما قالوا ، فهو لا يرعوي ولا يرجع؛ لأنه لم يعتقد الأمر بنظر فيرجع عنه بنظر.
ورجلا تطمح به عزة الرياسة وطاعة الإخوان وحب الشهرة، فليس يرد عزته ولا يثني عنانه إلا الذي خلقه إن شاء ؛ لأن في رجوعه إقراره بالغلط واعترافه بالجهل، وتأبى عليه الأنفة .
وفي ذلك – أيضا – تشتت جمع وانقطاع نظام واختلاف إخوان عقدتهم له النحلة ، والنفوس لا تطيب بذلك إلا من عصمه الله ونجاه.
ورجلا مسترشدا يريد الله بعلمه، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا تدخله من مفارق وحشة، ولا تَلفِته عن الحق أَنَفَة ، فإلى هذا بالقول قصدناه وإياه أردنا‘‘.
وأما ابن القيم فقد قال في مفتاح دار السعادة(2):
’’فهذا مضمون هذه التحفة، وهذه عرائس معانيها الآن تجلى عليك، وخُود أبكارها البديعة الجمال ترفل في حللها وهي تزف إليك، فإما شمس منازلها بسعد الأسعد، وإما خود تُزف إلى ضرير مُقعد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها فيما شئت من المنزلتين، ولا بد لكل نعمة من حاسد، ولكل حق من جاحد ومعاند.
هذا، وإن ما أودع من المعاني والنفائس رهن عند متأمله ومطالعه، له غُنمه وعلى مؤلفه غُرمه، وله ثمرته ومنفعته، ولصاحبه كدره ومشقته مع تعرضه لمطاعن الطاعنين، ولاعتراض المناقشين.
وهذه بضاعته المزجاة، وعقله المكدود، يُعرض على عقول العالمين، وإلقاؤه نفسه وعرضه بين مخالب الحاسدين ، وأنياب البغاة المعتدين.
فلك أيها القارئ صفوه، ولمؤلفه كدره، وهو الذي تجشم غراسه وتعبه، ولك ثمره، وها هو قد استهدف لسهام الراشقين، واستعذر إلى الله من الزلل، والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين.
__________
(1) - كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية ،ص: 13(دار الكتب العلمية)
(2) - 1/216(1/33)
اللهم فعياذا ممن قصُر في العلم والدين باعه، وطالت في الجهل وأذى عبادك ذراعه، فهو لجهله يرى الإحسان إساءة، والسنة بدعة، والعرف نكرا، ولظلمه يجزي بالحسنة سيئة كاملة، وبالسيئة الواحدة عشرا، قد اتخذ بطر الحق وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل ويرضاه ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر إلا ما وافق إرادته، أو حالف هواه....
وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعة، والعذل نصيحة، فهو دائما يُبدي في الملامة، ويعيد ويكرر على الفحل فلا يفيد ولا يستفيد.
بل عياذا بك من عدو في صورة ناصح، وولي في مسلاخ بعير كاشح، يجعل عداوته وأذاه حذرا وإشفاقا، وتنفيره وتخذيله إسعافا وإرفاقا، وإذا كانت العين لا تكاد إلا على هؤلاء تَفتَحُ، والميزانُ بهم يخفُّ ولا يرجَحُ، فما أحرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قبله جزءا من الالتفات، ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الأحياء بين الأموات.
وما أحسن ما قال القائل :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور‘‘.
انتهى كلامه.
وفي ختام هذه المقدمة لا يسعني إلا أن أشكر الله تعالى على توفيقه لإعداد هذا الكتاب على هذا النحو الذي خرج به، ولولا فضله وتوفيقه ما جاء هذا الكتاب أصلا.
كما أشكر سعادة مدير كلية الدراسات الإسلامية والعربية دبي الذي يحب أن يرى إخوانه الأساتذة في الكلية قدوة لطلابهم في البحث والإبداع والعطاء العلمي، وقد شجعني فعلا هذا الموقف على مواصلتي لكتابة الأبحاث وتأليف الكتب، بل أتاح لي فرصا لذلك، وأدعو الله تعالى أن يوفقه لما فيه الخير في الدارين وأن يجزيه خير الجزاء.(1/34)
كما أشكر جميع إخواني الذين مدوا يد المساعدة لإخراج هذا الكتاب، من تصحيح أخطاء وإسداء نصائح قيمة لها دور واضح في رفع مستواه العلمي والسلوكي، وأخص منهم بالذكر هذين الشابين المتميزين المجدين أحدهما كان معي في كل خطوة وفي كل كلمة من كلمات هذا الكتاب، حتى إنه راجعه لي بكامله أكثر من مرة ، وبدقة لفتت انتباهي، وقدم لي استدراكات علمية قيمة، ألا وهو أخونا الفاضل: بطي بن محمد المهيري ، والثاني : الشيخ أبو خالد سامي محمد حمدان الذي قام بجمع بعض النصوص وتوثيقها ، وهما من ثمر كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي . جزاهما الله خير الجزاء .
كما لا يفوتني أن أشكر أهلي على صبرهم فيما قصرت في حقهم في أثناء إعداد هذا الكتاب.
اللهم أنت اللطيف الخبير الرحمن الرحيم عالم الغيب والشهادة اجعل هذا الكتاب عملا صالحا خالدا لي ولجميع من سبق ذكره.
والله ولي التوفيق، ونعم المولى ونعم النصير.
المحور الأول
في تحديد موضع النزاع ومغالطات الأستاذ حوله
وفيه :
? خلاصة الخطاب الموجه إلى الأستاذ قبل بدء الحوار.
? تعقيب الأستاذ عليه ، وخطأ فهمه لموضوع الخطاب.
? المغالطة الأولى: زعمه أن حديث ابن عمر في القمة من الصحة.
? المغالطة الثانية: زعمه أني ضعفت حديث ابن عمر.
? المغالطة الثالثة: أن القاضي عياض لم يستقر على رأيه، بل نسي ما قرره.
? غرائب الأستاذ وغوغائيته:
أ - الأنموذج الأول: قوله: النصوص الصريحة في الترتيب، وشرح العلل كلها لغو مائة في المائة.
ب - الأنموذج الثاني : حمله النصوص على غير محملها، وتقوله علي بأني طبقت القاعدة في حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة .
خلاصة الخطاب الموجه إلى الدكتور ربيع(1/35)
كتبت إلى الدكتور ربيع أول مرة، حينما كنت طالبا في مرحلة الدكتوراه في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، سنة1407هـ، 1986م، نقدا علميا حول نتائج دراسته لحديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقد درس الدكتور هذا الحديث ضمن مجموعة من الأحاديث التي أعلها الإمام الدارقطني في صحيح مسلم، وذلك لنيل درجة الماجستير في تخصص الحديث من جامعة الملك عبد العزيز – فرع مكة المكرمة - ،جامعة أم القرى حاليا.
لم تكن بيني وبينه صلة ولا لقاء قبل هذه المراسلة. اللهم إلا أني قرأت له هذا الكتاب: (بين الإمامين: مسلم والدارقطني)، ولما قرأته، وأنا في بداية مرحلة الدكتوراه، وجدت الموضوع الذي تناوله موضوعا شيقا، حتى تمنيت أن أستفيد منه في مجال النقد، وأتشرف بتعارف علمي بيني وبينه.
ومن هنا أحببت أن أرسل إليه هذا النقد، عسى أن يكون ذلك بداية تعارف وأخوة علمية بيني وبينه، وتشاورت في ذلك مع أحد زملائي في جامعة أم القرى(1)، وشجعني على ذلك قائلا: ’’ لنرسل إليه وننظر بماذا سيرد علينا‘‘. وطلبت منه أن يوصله إلى الأستاذ، وقد تم ذلك سرا دون أن يعرف عنه أحد.
قال صلى الله عليه وسلم : ’’الدين النصحية‘‘ .
وقال بعضهم : ’’تعمدني بنصحك في انفراد، وجنبني النصيحة في الجماعة‘‘.
__________
(1) - ، وهو الشيخ الفاضل سيف الرحمن مصطفى – رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله تعالى عني خير الجزاء – وكان زميلا لي في مرحلة الدكتوراه، وكان أخا متواضعا، تعودنا معه على مجالسة الشيخ أبي الأشبال محقق كتاب التقريب في معظم أيام الأسبوع في المسجد الحرام ، لا سيما يوم الخميس والجمعة ، بين المغرب والعشاء.(1/36)
بما أن الأستاذ قد اعتمد في دراسة حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي على ظاهر سنده وأحوال رواته ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل، فإنه لم يعد يفهم مغزى نصوص النقاد ومصطلحاتهم في تعليل هذا الحديث، بل ذهب إلى تصحيحه ، إذ كان رواته كلهم أئمة ثقات.
ومما قلته له في النقد: أن النقاد أصابوا في تعليل هذا الحديث، وما ذكروه من المخالفة والتفرد كاف لفهم ما يكمن فيه من العلة، وأن الإمام مسلما قد أدركها، كما أدركها غيره من النقاد. لذلك، أورد حديث ابن عمر في آخر الباب، بعد أن صدره بحديث أبي هريرة المتفق على صحته بين الأئمة النقاد، بل شرح العلة بذكر وجوه الاختلاف على نافع الذي يشكل مدار تلك الروايات المختلفة.
وليس في صنيع مسلم هذا ما يستدعي الغرابة، لأنه وعد في المقدمة بترتيب الأحاديث حسب الأصحية، إلى جانب شرح العلل أحيانا بذكر وجوه الاختلاف، ولم يكن ذكر حديث ابن عمر هذا في آخر الباب إلا أنموذجا واضحا لوفاء وعده الذي قطعه على نفسه. وتبين لي ذلك من خلال تتبع مواقف النقاد تجاه هذا الحديث، لا سيما نصوص الدارقطني في كتابه (التتبع) الخاص بذكر الأحاديث المعلة في صحيح مسلم.
ومما ينبغي التذكير به أنني لم أضعف هذا الحديث ولا حديثا آخر من تلقاء نفسي، بمجرد وروده في آخر الباب، وإنما أعله النقاد القدامى؛ مثل البخاري والنسائي والدارقطني(1)،
__________
(1) - للأستاذ موقف آخر تطور في كتابه (منهج مسلم)، وهو محاولة إنكاره تعليل الدارقطني وغيره من الأئمة لهذا الحديث، وقد نسي أنه ذكر هذا الحديث في كتابه ( بين الإمامين) بطبعته الهندية، باعتباره من جملة الأحاديث المنتقدة من قبل الدارقطني. وهذا إقرار قديم من الأستاذ بتوهين الدارقطني للحديث.
لكن لما عجز في ضوء الواقع أن يكذب على الدارقطني توجه إلى قوله:’’لم يتقن الدارقطني عرض المسألة، غفر الله له ورحمه، ولكل جواد كبوة‘‘.
وبهذا يتبين أن الإمام الدارقطني أعل هذا الحديث قبلي بقرون، بغض النظر هل استوفى الأدلة أو لا، وهل هي قوية أو ضعيفة. وأن عملي في هذا المجال هو بيان مصداقية تعليل الدارقطني، في ضوء الأدلة والبراهين، لا أكثر ولا أقل. إذن لماذا بدعني وفسقني ورماني بالتهم المفتعلة؟!!(1/37)
ولم يكن عملي هنا في هذا المجال إلا في إطار تبرئة الإمام مسلم والاعتذار عنه في ذكر هذا الحديث في الصحيح، حتى لا يفهم أنه تساهل في تصحيحه، أو أنه لم يقف على ما وقف عليه النقاد.
لما قرأ الأستاذ ما كتبته في هذا الصدد لم يفهم مغزاه، وتخبط في تأويل نقاطه، بل ثار ثائره، مع أني كنت متواضعا في كل كلمة خاطبته بها، ومنهجيا فيما شرحته له، حتى افتعل علي ما لم يخطر ببالي - وهو أن الإمام مسلما التزم في صحيحه شرح العلل بالترتيب والتقديم والتأخير -، ليتم له بعد ذلك أن يسبني ويسخر من منهجي في البحث، ويتهمني بأني أقعد قاعدة خطيرة لنسف صحيح مسلم وهدم السنة عموما(1)- وهي أن يعد كل حديث متأخر في آخر الباب في صحيح مسلم معلولا وضعيفا - وألف على هذا الأساس كتابين: (منهج مسلم) و(التنكيل).
خطأ الأستاذ في فهمه لمحتوى الرسالة وتعليقه عليه
__________
(1) - كم يحز مثل هذا الاتهام في قلب مسلم يكنُّ في نفسه حبا واحتراما لصحيح مسلم !!. توجه إليه هذه التهم وبأسلوب غوغائي، من طرف شخص مثقف أو شيخ داعية، حين يوضح له الحقائق العلمية التي تستتر وراء تعليل النقاد لحديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي الذي رواه مسلم في أواخر الباب، ويبرهن له بأسلوب علمي على أنه (رحمه الله تعالى) لم يكن غافلا عن علته.(1/38)
علق عليه بقوله:’’انتهى ما قاله الأخ حمزة(1)معتقدا أن الإمام مسلم(2)( كذا ) لم يورد حديث ابن عمر من طريق الأئمة الحفاظ؛ يحيى القطان وابن نمير وأبي أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، كلهم عن الإمام الثبت عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا .
ومن طريق الإمام الثبت الورع يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الثقة موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر مرفوعا.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر
ومن طريق الليث بن سعد الإمام عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة مرفوعا.
ولم يوردها مسلم من هذه الطرق التي هي في القمة من الصحة .
ومعظمها من الطبقة الأولى من شرطه إلا ليوضح ويبين ويشرح عللها مستفيدا كل هذا من قول الإمام مسلم رحمه الله:
(وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها).
ويرى الباحث أن هذا الجهد الذي بذله مسلم في اختيار أصح الطرق وأقواها إنما هو لشرح وإيضاح العلل في هذين الحديثين – غفر الله له وسامحه –. هذا الفهم الذي فهمه الأخ حمزة من قول مسلم السابق غير مسلم وغير واقع في هذا الكتاب العظيم ، وأبى الله عليه إلا أن يتربع قمة كتب السنة وأن يكون صنو أصح الكتب بعد كتاب الله، ألا وهو صحيح البخاري.
__________
(1) - هكذا كان خطابه لي في البداية ، ثم تحول الخطاب في كتابه الأخير (التنكيل = ظلمات الأكاذيب والأباطيل) إلى ’ الفيلسوف المليباري علامة الأحاجي ، وإلى ’’من أعمى الله بصيرته وخذله ‘‘، وإلى ’’ وأهل البدع والضلال‘‘ ، وإلى ’’أفاك مبطل‘‘. وغيرها من الكلمات والأوصاف النابية التي تطورت في ردوده، ونالت من اهتمامه ما لم تنله الجوانب العلمية في الحوار.
(2) - ما بين القوسين إشارة من الأستاذ إلى ما وقع في كلامي من الخطأ النحوي ، لكن الأستاذ وقع في الخطأ نفسه كما سترى (إن شاء الله تعالى).(1/39)
ولو طبقنا عليه القاعدة المذكورة لجاء في مؤخرة كتب السنة، بل جاء في مصاف كتب العلل، ويأبى الله ذلك والمؤمنون وعلى رأسهم أئمة الحديث والسنة وجبال الحفظ والفهم والدراية الذين تلقوه بالقبول، ومنهم من جعله في مستوى صحيح البخاري، ومنهم من يرى أنه التالي للبخاري نظرا لتشدد البخاري في شرطه.
يجب أن نفهم أن الإمام مسلما قد التزم الصحة في كل ما يورده في كتابه الصحيح، وقد بذل كل جهد للوفاء بهذا الشرط. والبراهين على هذا كثيرة في طليعتها تصريحاته بذلك نذكر منها:
أولا : تسميته لهذا الكتاب بالجامع الصحيح لا الجامع المعلل.
ثانيا: روى مسلم حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – في تعليم الناس الصلاة، وذكر فيه زيادة (وإذا قرأ فانصتوا)
فاعترض معترض في إيرادها في صحيحه أن بعض الناس عللها فدار بينهما حوار انتهى فيه مسلم إلى القول: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه (صحيح مسلم 1/304 ، نهاية حديث رقم 63)
والزيادة المذكورة قد انتقدها الإمام يحيى بن معين والإمام البخاري ومن بعدهما أبو داود والدارقطني وابن خزيمة وأبو علي النيسابوري .
ولكن الإمام مسلم(1)(كذا) مجتهد مستقل له رأيه فيها وقناعته بصحتها.(2)
لذا أوردها في صحيحه مع علمه بكلام من سبقه من الأئمة فيها ومع معارضته من عارضه فيها ، وعلى هذا الأساس أورد حديث ابن عمر وابن عباس مع علمه بمن انتقدهما.
__________
(1) - كان الأستاذ يستدرك علي مثل هذا الخطأ النحوي، فإذا هو يخطئ الخطأ نفسه . مثلا : يقول هنا ’’لكن الإمام مسلم ‘‘ وهو خطأ والصواب ’’ لكن الإمام مسلما‘‘ ، ولذا كتبت كلمة كذا بين القوسين تنبيها إلى خطئه .
(2) - انظر إلى أبي مسعود الدمشقي وهو أحد متتبعي صحيح مسلم مثل الدارقطني، يقول فيما يخص حديث سليمان التيمي الذي رواه مسلم مع ذكر الاختلاف: ’’ ذكره مسلم ليبين الاختلاف لا أنه يثبته ‘‘.(1/40)
ثالثا : قال الإمام مسلم – رحمه الله – عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي ، فكل ما أشار أنه له علة تركته ، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة أخرجته. (صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط ص: 68)
ومعنى هذا أن الإمام مسلما انتهى به المطاف إلى أن يقدم صحيحه وهو يعتقد أنه خال نظيف من العلل هذا ما يعتقده ، وإن كان قد بقي عليه فيه ما يؤخذ عليه وهو نزر يسير لا يخلو من مثله أعمال البشر، غير أن الذي نعتقده أن مسلما لم يقصد أبدا إلى أحاديث يعلم أن فيها عللا فيوردها في صحيحه، ثم يقوم بشرحها وتوضيحها.
رابعا: أن معاصريه من أئمة الحديث في عصره قد استقر في أذهانهم أن مسلما قد التزم الصحة في كل ما يورده في كتابه. وكانوا يوجهون إليه اللوم بناء على هذا الأساس لم رويت عن فلان وفلان ولم ولم ؟!
فيسلم لهم أنه التزم الصحة ويبدي لهم أعذارا يقنعهم بسلامة وجهة نظره فيسكتون . ( صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط ص: 97)
خامسا: أن الإمام مسلم ( كذا ) قد صرح في مقدمة كتابه 1/4: أنه لم يؤلف كتابه هذا لخاصة الناس أي للمختصين في علم الحديث ، وإنما قصد إلى جمع أحاديث صحيحة ليستفيد منها عوام الناس لأنه أدرك أن أمثال هؤلاء لا قدرة لهم على تمييز الصحيح من السقيم.
سادسا : أن الأمة تلقته بالقبول لأنه صنو البخاري في الصحة ، لا لأنه وضع لشرح العلل وبيانها، وإلا لكان له شأن آخر وللأمة موقف آخر منه ، كأن يضعونه في كتب العلل، وقد ألف الحازمي وابن طاهر في شروط الأئمة الخمسة والستة، ومنها الصحيحان وأقرتهما الأمة على ذلك .
وعلى أساس التزام الصحة وجهت إليه وإلى صحيح البخاري بعض الانتقادات، لأنهما أخلا بشرط الصحة في تلك الأحاديث المنتقدة في نظر من يوجه إليهما النقد، كالدارقطني وأبي سعيد الدمشقي وأبي علي الغساني، ولو كان مسلم التزم القيام بشرح العلل وبيانها في كتابه لما وجدت شيئا من تلك الانتقادات.(1/41)
أما تلك الجملة التي تعلق بها الباحث، فليس لها أي أثر وليس لها أي تطبيق في صحيح مسلم باعتبارها عللا قادحة.
فتحمل هذه الجملة على أحد أمرين :-
الأول : أن يريد بها العلل غير القادحة، وذلك أن بعض المحدثين يطلق اسم العلة على ما ليس بقادح . انظر مقدمة ابن الصلاح ( ص84 ) والنكت لابن حجر ( 2/771 ).
والثاني : أن يكون أعرض عن تطبيق هذه الجملة، والأول أرجح في نظري(1)ولا ثالث لهذين الاحتمالين إلا الالتزام بالصحة في كتابه وهو الواقع.
والدليل على ذلك كل ما قدمناه من أقواله ومواقف الناس في صحيحه وضمهم إياه إلى صحيح البخاري.
وأظن أن الباحث خدع بقول القاضي عياض – رحمه الله – بأن مسلما قد التزم هذا الشرط ووفى به وهو شرح العلل وبيانها وإيضاحها.
وهو قول قد خدعت به وكنت معجبا به، ثم تبين لي أنه سراب خيال ولا يستطيع القاضي عياض ولا غيره أن يأتي بحجة واضحة صريحة من صحيح مسلم على تطبيق هذا الشرط الذي زعمه عياض – رحمه الله - .
بل القاضي عياض كثيرا ما يجاري الدار قطني في انتقاده لمسلم ويقوم بتأييده فيما يبدو له من علل، ومعنى هذا أن القاضي عياضا ينسى ما قرره من أن مسلما التزم بيان العلل وشرحها، ويقع فيما يعتقده أهل الحديث قاطبة متقدميهم ومتأخريهم أن مسلما التزم الصحة في كتابه – وهو الاعتقاد الصواب – ويشارك الدار قطني وغيره من المنتقدين في اعتقاد أن مسلما التزم الصحة لكنه أخل بشرطه في نظرهم بإيراد هذه الأحاديث المعللة في صحيحه يؤيده الواقع لرأيناه يقول للمنتقدين: إن مثل هذه التتبعات والانتقادات في غير موضعها لأن مسلما التزم بيان العلل وشرحها، وهذه بياناته وتوضيحاته وشروحه.
__________
(1) - إذن لما تراجع الأستاذ عما في رسالته للماجستير ما دام أن العلة التي شرحها كلها غير قادحة ؟!!(1/42)
ولعدم وجود هذه البيانات والشروح والايضاحات للعلل القادحة المزعومة لا يسع عياضا إلا أن يجاري من يعتقد أن مسلما التزم الصحة في صحيحه لا غير. انظر على سبيل المثال اكمال المعلم ( 1/ ق 75و1 ) وشرح النووي لصحيح مسلم ( 2/ 182 ) وبين الإمامين مسلم والدار قطني ( ص 26 ) حيث جارى الدار قطني وأبا مسعود الدمشقي في نقدهما للإمام مسلم في حديث سعد بن أبي وقاص الذي يقول فيه :
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم – قسما فقلت : يا رسول الله أعط فلانا فإنه مؤمن ... الحديث، حيث رواه مسلم فقال : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري. عن عامر بن سعد عن أبيه مرفوعا.
قال عياض- رحمه الله – :
’’قال أبو مسعود الدمشقي: هذا الحديث إنما يرويه سفيان ابن عيينة، عن معمر عن الزهري. قال الحميدي وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن الصباح الجرجرائي كلهم عن سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري بإسناده.
وكذلك قال أبو الحسن في كتابه الاستدراكات هذا ما قاله القاضي عياض ونقله عن إمامين تصديا لنقد أحاديث من صحيح مسلم ومن صحيح البخاري معتقدين أن البخاري ومسلما التزما الصحة في كتابيهما، وقد أخلا بهذا الالتزام في الأحاديث التي انتقداها ووافقها القاضي عياض في هذا الالزام والاستدراك.
ولو كانت تلك القاعدة التي تعلق بها القاضي عياض أحيانا بسبب بعض الشبه راسخة في نفسه ووجد من تصرفات مسلم ما يدعمها لوقف معارضا لهذين الإمامين يصول ويجول بتلك القاعدة ويقول لهما – إن مسلما ما خرج عن منهجه ولا أخل بشرطه وإنما هو ماض في منهج وضعه فلا يحق لكما الاعتراض والاستدراك عليه. انظر – أيضا- شرح النووي (3/171) وبين الإمامين (ص 85)(1/43)
حديث رواه الإمام مسلم من طريق محمد بن عبد الله بن بزيغ، حدثنا يزيد ( يعني ابن زريع)، حدثنا حميد الطويل، حدثنا بكر بن عبد الله المزني عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه، قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم – وتخلفت معه وذكر قصة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم – ثم صلاة عبد الرحمن بن عوف إلى نهاية القصة قال الدار قطني كذا قال ابن بزيع، وخالفه غيره عن يزيد.
فرواه عنه على الصواب، عن حمزة عن المغيرة، فرواه حميد بن مسعدة وعمرو بن علي عن يزيد بن زريع على الصواب، وكذلك قال ابن أبي عدي عن حميد ، فقال القاضي عياض فقد وهم.
هذا موقف عياض (رحمه الله ) مؤيدا للدار قطني في نقده للامام مسلم فلو كان مسلم قد ساق هذا الحديث – كما يرى القاضي عياض – لبيان علته ولشرح تلك العلة وتوضيحها لوقف إلى جانب مسلم يدافع عنه قائلا لا حق لكم في انتقاده وأنه ماش على منهجه الذي التزمه من الشرح والإيضاح للعلل.
ومنها موقفه من هذين الحديثين اللذين ذكرهما الدار قطني في التتبع حديث ابن عمر وميمونة اللذين يجري فيهما النقاش الآن. ولا يتسع المقام لمتابعة القاضي عياض، فإن الأمثلة كثيرة والإشارة إلى بعضها تكفى طالب الحق. ولا أذكر القاضي عياضا قد يجد على ندرة شبهة فيتعلق بها وهي في حقيقتها شبهة أوهى من خيوط العنكبوت.فلا ينبغي لطالب الحق إلا الثبات على أقوال مسلم الصادعة بمنهجه وتطبيقه العملي لهذا المنهج ومواقف أئمة الحديث حتى المنتقدين منهم، فإنهم لا يختلفون في أن مسلما التزم الصحة.
ولا يجوز الالتفات إلى رأي عياض، فإن الواقع والبراهين تدفع ما ذهب إليه. وأعتقد أن هذا التوضيح لمنهج مسلم كاف لاقناع الباحث بالرجوع عن هذا الفهم، وعن ما قرره عن حديثي ابن عمر وميمونة، وكاف لإقناعه أن الامام مسلما إنما أوردهما بتلك الطرق القوية التي اختارها إلا احتجاجا بهما معتقدا صحتهما‘‘. انتهى كلام الشيخ.(1/44)
وأعاد الأستاذ مضمون هذه الفقرات في كتابه (منهج مسلم ) بمزيد من الافتراء والطعن والاحتقار والسخرية، انظر ص 12 – 49 تحت عنوان ’’ نظرة العلماء إلى صحيح مسلم وآرائهم في منهجه‘‘، ثم أعاده مرة أخرى في كتابه ( التنكيل) = ظلمات الأباطيل والأكاذيب بمزيد من الانفعال والدعاوى الفارغة والتجريج، انظر ص: 11 – 52 تحت عنوان ’’التزام الإمام مسلم بالصحة في كتابه الصحيح، وبيان أسباب اقتصاره على الحديث الصحيح وتجنبه المعلل والضعيف‘‘، وكذا في ص: 117 – 119 من التنكيل.
ملخص كلام الأستاذ
أقول: يمكن تلخيص كلامه في النقاط الآتية:
فهم الأستاذ من كلامي: أن الإمام مسلما لم يورد هذه الروايات التي هي في القمة من الصحة إلا ليوضح ويشرح عللها. وأني توصلت إلى هذا الفهم من خلال القولين:
أ - قول مسلم ’’وسنزيد إن شاء الله تعالى هذا شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها‘‘
ب - وقول القاضي عياض بأن مسلما قد وفى بما وعده من شرح العلل وبيانها وإيضاحها.
ثم حاول الأستاذ أن ينتقدني في ذلك بما يأتي:
أ – إنه يلزم من القول بشرح العلل في الصحيح: أن يكون كتاب (الصحيح) في مصاف كتب العلل.
ب – وأن الإمام مسلما التزم الصحة في كل ما يورده في كتابه الصحيح، ولا مجال لوجود حديث معلول فيه ولا لشرحه.
ج - وسرد الأستاذ الأدلة على أصحية الكتاب.
د - ومما يؤكد التزام مسلم الصحة في كل ما يورده في الصحيح أن بعض الأئمة انتقدوا الإمام مسلما في بعض أحاديثه التي فيها كلام، بناء على هذا الالتزام.
هـ - أما قول مسلم إنه يشرح ويوضح العلل فيحتمل أمرين:
الأول: أنه يشرح العلل غير القادحة.
والثاني: أنه أعرض عن تطبيقه لشرح العلل. لكن الراجح الأمر الأول.
و - أما القاضي فلا يعتمد على قوله لأنه لم يأت بدليل. بل ادعى بأنه لن يستطيع أن يأتي بحجة ولا بمثال من صحيح مسلم.(1/45)
ز - مع ذلك، فإن القاضي نسي ما قرره من أن مسلما التزم بيان العلل وشرحها.
ح - ثم ذكر الأستاذ مثالين ليبين أن القاضي لم يسعه إلا أن يجاري الدارقطني والدمشقي في نقدهما للإمام مسلم.
ط – وفي الأخير قال: هذا التوضيح كاف لإقناع الباحث أن الإمام مسلما إنما أورد حديث ابن عمر بتلك الطرق القوية احتجاجا به معتقدا صحته، وليس لشرح العلل.
شبهات الأستاذ ومغالطاته
بما أن كلام الأستاذ فيه مغالطات، فإن الإجابة عنه تقتضي مني أولا تحرير بعض الأمور العلمية التي تتعلق بمنهج الإمام مسلم في صحيحه حتى يكون القارئ على بينة من مكمن النزاع بيني وبين الأستاذ، فأقول – والله شاهد على ما أقول- :-
إن الصحيحين أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وأن موضوعهما الرئيس الذي من أجله ألفهما الشيخان: البخاري ومسلم، هو ذكر الأحاديث الصحيحة من رواية الثقات اعتمادا عليها واحتجاجا بها، لا تبعا ولا استطرادا، وهذا أمر جلي لا يتنازع في نصاعته أحد ينتمي إلى أهل السنة والجماعة لا أنا ولا هو، ولم يقع في كلامي الذي خاطبته به، ولا في سياقه، شيء يدل على خلاف ذلك، لا تصريحا ولا ضمنا، حتى يجهد الأستاذ نفسه بسرد الأدلة لإقرار هذا الأمر البدهي الذي هو محل اتفاق بيننا.
من المعلوم أن من أهم القضايا المنهجية لكتابة الأبحاث العلمية النقدية أن يتحلى صاحبها بالصدق والعدل والإنصاف والشفافية في معالجة المسائل العلمية، واحترام الحق والصواب فيها أيا كان مصدره، وعدم الخلط بين الأمور المسلمة التي لا يختلف فيها طرفا الحوار، وبين الأمور التي تشكل محل نقاش ونزاع بينهما.(1/46)
وقد يكون الإنسان جريئا على قلب الأمور رأسا على عقب إذا لم يكن الإيمان والتقوى والصبر متحكما في نفسه وإحساسه عند الغضب والانفعال، بل يحرص على إيذاء مخالفه إرضاء لجماعته، واستحواذا على عواطفهم، وإيهامهم بأن عمله ذلك إنما هو ليخدم السنة ويدافع عنها، وأن مخالفه الذي يحاوره يحاول بخفية هدمها ومهاجمتها.
وقد سعى الأستاذ جاهدا إيهام القراء بأني أهيئ نفسي لهدم السنة النبوية، ولنسف صحيح مسلم ثاني أصح مصادرها من خلال تقعيد قاعدة خطيرة !.
ما هي القاعدة الخطيرة التي تنسف صحيح مسلم وتهدم السنة النبوية؟!
إذا كانت القاعدة هي أن الإمام مسلما يشرح العلل في صحيحه بالتقديم والتأخير، وأن كل ما أخره مسلم من الأحاديث حتى وإن كانت مروية بأصح الأسانيد لم يؤخرها مسلم إلا لكونها معلولة، فاعلموا – إخواني رحمكم الله - أني بريء منها كبراءة الذئب من دم يوسف!، والله شهيد على ما أقول.
وليس في كلامي الموجه إليه، وأبحاثي المنشورة وغير المنشورة وكتبي التي ألفتها حتى اليوم ما يدل على هذه القاعدة ولا تقعيدها، لا نصا ولا ضمنا. وكتاب (عبقرية الإمام مسلم) الذي خصصته لبيان دقة مسلم في ترتيب أحاديثه في الصحيح حسب خصائصها ولطائفها، خير شاهد على ذلك؛ إذ لم أعل فيه حديثا بمجرد كونه مذكورا في آخر الباب، وفيه اثنان وعشرون مثالا من صحيح مسلم.
فإذا علمنا هذه الحقائق فعلينا أن نتساءل ما مصداقية كتابيه: (منهج مسلم ) و(التنكيل) الذين ملأ صفحاتهما بالسباب والشتائم والتهم بناء على خطئه الأول في فهم كلامي، وتقوله علي بأن الإمام مسلما يشرح العلل بالترتيب والتقديم والتأخير، دون أن يتراجع عن هذا الخطأ الذي بينته في ضوء الأدلة، بل أصر على تضليله، رافضا لنصوصي الواضحة الجلية في أن مسلما يشرح العلل أحيانا بذكر وجوه الاختلاف، وأن هذا الشرح لا صلة له بالترتيب الذي يقوم على مدى استيفاء الحديث لخصائصه العلمية التي تجعله أسلم من العيوب.(1/47)
إن شرح العلل بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الاستطراد، هو الذي كنت أقول بأن الإمام مسلما التزم به في صحيحه، بناء على قوله في المقدمة إلى جانب عمله التطبيقي في كتابه الصحيح. ولم أكن بذلك شاذا، لأنه مما قال به قبلي الأئمة الكبار والعلماء الأفذاذ، بغض النظر عن التفاصيل الجزئية، منذ أن شرح ذلك القاضي عياض إلى يومنا هذا. ومن أواخرهم الشيخ الفاضل مقبل (رحمه الله تعالى رحمة واسعة) في تحقيقه لكتاب (الإلزامات والتتبع) للدارقطني. وحتى الشيخ ربيع هذا صاحبنا في الحوار كان يؤمن بذلك، قبل أن يتراجع عنه لسبب تكتيكي كما يقولون!.
وأما الترتيب فقد صرح الإمام مسلم بتقديم الأصح فالأصح، وتبين لنا ذلك من خلال ما قمنا به من الاستقراء الدقيق لجزء كبير من أحاديث مسلم؛ فقد كان يراعي ترتيب أحاديث الثقات الصحيحة حسب خصائصها ولطائفها؛ فما كان منها أشهر يصدر به الباب ثم يذكر ما دونه شهرة، وما كان منها عاليا بمختلف معايير العلو يقدم على الإسناد النازل(1)، والحديث الصحيح الذي تسلسل بمختلف معاييره يقدم على غيره، والحديث الذي لم يختلف في صحته يقدم على المختلف فيه حتى وإن كان من رواية الأئمة، وغير ذلك من الخصائص التي شرحناها في كتابي (العبقرية).
ثم إني لم أكن أحكم باجتهادي على أي حديث من أحاديث صحيح مسلم بأنه معلول بمجرد أنه ورد في آخر الباب، إلا إذا أعله أحد النقاد، فعندئذ أقول إن مسلما أورده إما للاحتياط أو الاستئناس أو للاستدلال بالقدر الذي لم يقع فيه اختلاف أو إعلال، أو إنه (رحمه الله ) يرى صحة ذلك الحديث، ويقتنع بها، مخالفا لغيره من النقاد، كل ذلك حسب التتبع والقرائن، وليس تخمينا.
__________
(1) - وصاحبنا لا يهتم في العلو إلا بالعدد.(1/48)
والخلاصة: أن الحديث الذي ذكره مسلم في أواخر الباب لا يكون أصح مما قدمه في أوله، بل دونه صحة عند الإمام مسلم. وذلك حسب الخصائص العلمية التي يرتكز عليها المحدثون قديما وحديثا، والتي شرحناها في كتاب (عبقرية الإمام مسلم)، لكن الأستاذ أبى إلا أن يسخر منها.
وما أصدق قول القائل: ’’الناس أعداء ما جهلوا‘‘.
وفيما يأتي الإجابة عن مغالطات الأستاذ.
المغالطة الأولى: زعمه أن حديث ابن عمر في القمة من الصحة
قال الشيخ: يرى الباحث أن هذا الجهد الذي بذله مسلم في اختيار أصح الطرق وأقواها إنما هو لشرح وإيضاح العلل في هذين الحديثين – غفر الله له وسامحه.. فما كان للأخ من حق أن يأخذ هذه الجملة من قول مسلم، ويهرع مسرعا بها إلى تعليل حديثين ... كلا ثم كلا‘‘.
أقول: نعم، إن الإمام مسلما إنما أتى بحديث ابن عمر وميمونة لبيان العلة في حديث ابن عمر بذكر وجوه الاختلاف التي دارت على نافع الذي هو مخرج هذين الحديثين، بعد أن اعتمد حديث أبي هريرة المتفق على صحته بين النقاد. غير أن قول الأستاذ بأن هذه الروايات في القمة من الصحة فغير صحيح على الإطلاق. لأن من أهم عناصر الصحيح خلو الحديث من الشذوذ والعلة، ولم تستوف هذه الروايات سوى ثقة الرواة واتصال السند.
لذا، فإن هذه الروايات في نظر الأئمة؛ كالبخاري والنسائي والدارقطني، معلولة. والإمام مسلم إذ أورد هذه الروايات في أواخر الباب أجاد في تعامله معها بوضعها في مكانها المناسب، وأصبح بصنيعه هذا موافقا لأولئك النقاد.
لمزيد من الشرح أعرض هنا طريقة الإمام مسلم في ذكر هذا الحديث الذي هو محل حوار بيني وبين الدكتور ربيع:
قال الامام مسلم رحمه الله في صحيحه(1):
(
__________
(1) - 9/ 163 ( مع شرحه للنووي ).(1/49)
1) حدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب، و اللفظ لعمرو قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
(2) حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد: أخبرنا وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام.
(3) حدثني إسحاق بن منصور، حدثنا عيسى بن المنذر الحمصي حدثنا محمد بن حرب, حدثنا الزبيدي عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي عبد الله الأغر مولى الجهنيين وكان من أصحاب أبي هريرة أنهما سمعا أبا هريرة يقول صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام , فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر الأنبياء , و أن مسجده آخر المساجد.
قال أبو سلمة وأبو عبد الله: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعنا ذلك أن نستثبت أبا هريرة عن ذلك الحديث، حتى إذا توفي أبو هريرة تذاكرنا ذلك، وتلاومنا أن لا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان سمعه منه، فبينا نحن على ذلك جالسنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ فذكرنا ذلك الحديث، والذي فرَّطنا فيه من نص أبي هريرة عنه، فقال لنا عبد الله بن إبراهيم: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد.
((1/50)
4) حدثنا محمد بن المثنى، وابن أبي عمر جميعا عن الثقفي قال ابن المثنى: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول سألت أبا صالح هل سمعت أبا هريرة يذكر فضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فقال :لا ، ولكن أخبرني عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، أنه سمع أبا هريرة يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة أو كألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا أن يكون المسجد الحرام.
(5) وحدثنيه زهير بن حرب، وعبيد الله بن سعيد ومحمد بن حاتم قالوا: حدثنا يحيى القطان عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد
(6) وحدثني زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى وهو القطان، عن عبيد الله قال أخبرني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
(7) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ح وحدثناه ابن نمير حدثنا أبي ح وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب كلهم عن عبيد الله بهذا الإسناد.
(8) وحدثني إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة عن موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله عليه وسلم يقول بمثله.
(9) وحدثناه ابن أبي عمر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .
((1/51)
10) وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح جميعا عن الليث بن سعد - قال قتيبة حدثنا ليث - عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس(1)أنه قال: أن امرأة اشتكت شكوى، فقالت: (إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس). فبرأت، ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها، فأخبرتها ذلك ، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة. اهـ
وفيما يلي رسم شجرة أسانيد أبي هريرة.
رسم شجرة أسانيد حديث ابن عمر وميمونة
من أمعن النظر في هذه الأحاديث التي أوردها الإمام مسلم في باب فضل الصلاة في المسجد النبوي، وطريقة روايتها، في ضوء منهج المحدثين النقاد في النقد، وجدها مرتبة ترتيبا علميا رائعا حسب ما يستوفي كل منها من لطائف الإسناد، وخصائص الرواية. وتوضيح ذلك يأتي في الفقرات الآتية:
كانت عادة الإمام مسلم (رحمه الله تعالى) في صحيحه أن يصدر الباب بطريق رقم 6، و 9 وكذلك طريق رقم 8 ، أو يوردها في الأصول عموما، ولم يكن يؤخرها عن أهل القسم الثاني من الرواة، حسب ما تبين لي من خلال تتبعي لمعظم كتابه الصحيح.
فلما أخر الإمام مسلم هنا ما كان يصدر به الباب فُهم منه أنه أدرك فيه شيئا جعله يخالف عادته، فأورده في آخر الباب، بعد روايته من طريق أهل القسم الثاني.
لكي تتضح لنا دقة الإمام مسلم في تعامله مع أسانيد هذا الحديث، وما أودعه من دقائق علوم الإسناد ولطائفه ينبغي أن نتتبع أقوال العلماء ونصوصهم حول هذا الحديث ورواياته، عسى أن نجد فيها ما يساعدنا على معرفة ملابسات كل طريق أورده الإمام مسلم ، وسبب تأخير حديث ابن عمر.
__________
(1) - لا يصح ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الإسناد لأنه تصحيف من النساخ . وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في المحور الثاني.(1/52)
لذا، ننظر أولا كيف أجاب الإمام الدارقطني في كتابه العلل عندما سئل عن حديث سعيد وأبي سلمة (عن أبي هريرة)(1)قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، يقول :
’’ يرويه الزهري، واختلف عنه.
(1) فرواه ابن عينية ومعمر وإسماعيل بن أمية وسليمان بن كثير، والموقري عن الزهري عن سعيد وحده عن أبي هريرة.
(2) ورواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة. قاله عروة الجرار عن موسى بن أعين عنه.
(3) ورواه الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة والأغر عن أبي هريرة موقوفا، وقال في آخره أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أسنده عن أبي هريرة.
(4) ورواه عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن الأغر وحده عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرسلا.
(5) وقال أبو المسور الزهري عن ابن عينية عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة‘‘. انتهى كلام الدارقطني.
هذه هي وجوه الاختلاف التي وردت على الزهري. وعند المقارنة بينها تظهر نقطة الاختلاف في رقم 5،2،1 وهي: كيف روى الزهري هذا الحديث؛
هل عن سعيد بن المسيب وحده عن أبي هريرة؟!
أم رواه جمعا بين سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ؟!
وفيما يخص حديث رقم 4،3
هل رواه الزهري جمعا بين أبي سلمة والأغر؟!
أم رواه عن الأغر وحده مرسلا؟!
ويكون عمل الناقد في مثل هذا الاختلاف أن يبحث عن أسبابه من خلال الملابسات والقرائن ليعرف الثابت عن المحدث من تلك الوجوه المختلفة، دون أن يتخرص بالاحتمال. وإذا ثبت عنده وجه أو أكثر عبر عنه بأنه هو المحفوظ عن ذلك الراوي.
وبعد بيان الاختلاف قال الإمام الدارقطني:
__________
(1) - وقع فيه (عن أبي سلمة ) بدل ( عن أبي هريرة) ، وهو تكرار خطأ من ناسخ الكتاب، والصواب ما أثبتناه بين القوسين ، بدليل أن الطرق التي أوردها الدارقطني كلها عن أبي هريرة إلا رقم (4) فإنه مرسل. والله أعلم ( العلل 3/2/124-125 )(1/53)
’’والمحفوظ عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد وحده عن أبي هريرة، وقول الزبيدي محفوظ أيضا‘‘. وعليه فما رواه إسحاق بن راشد عن الزهري غير ثابت ، وكذا ما رواه أبو المسور عن ابن عيينة غير محفوظ.(1)
وسبب الترجيح ظاهر، لأن ابن عيينة وافقه جماعة من الثقات، منهم معمر وإسماعيل بن أمية. والذي خالفهم هو إسحاق بن راشد، فجمع في روايته عن الزهري بين سعيد وأبي سلمة، وإسحاق هذا فيه كلام، خاصة في روايته عن الزهري، فالجمع بينهما إذن وهم من إسحاق.
ههنا نقطة مهمة ينبغي الانتباه إليها في هذه المناسبة التي نقرأ فيها قول الدارقطني في نقد هذه الروايات، ألا وهي أن أبا سلمة إنما كان يروي هذا الحديث عن أبي هريرة موقوفا، كما جاءت قصة روايته عند مسلم في رقم (3). ولذا يكون إسحاق قد تساهل في الرواية، فجعلها مرفوعة.
وقد يستعجل بعض الباحثين نظرهم فيه، فيرون أن الزهري رواه عن سعيد وعن أبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة، دون أن ينتبه إلى نقطة الاختلاف بينهما. وفي مثل هذه المناسبات يظهر أن إسحاق بن راشد، وكذا أبو مسور، لم يكونا على مستوى مطلوب من الإتقان والضبط في نقل الأحاديث ومخالفتهما للثقات تدل على تساهلهما في الرواية.
__________
(1) - وقد سبقه الإمام مسلم في تصحيح حديث ابن عيينة والزبيدي حين صدر بهما الباب. انظر كيف اتفق النقاد على معرفة الحق والصواب فيما يحدث به الرواة، ومحل الاتفاق يكون أكثر بالنسبة إليهم، وكيف أصبحت نصوص بعضهم مفسرة لما أجمله الآخرون. لذا فإن جمع نصوص النقاد ليفسر بعضها ببعض، فيما يخص التصحيح والتعليل والجرح والتعديل، يعد من أهم أصول الشرح والتحليل.
الأستاذ يخالف هذا الأصل فيما يخص نصوص من يخالفه، لأنه لو اعتمد هذا المنهج الأصيل لتفسير النصوص لفقد في كتب مخالفيه أو نصوصهم مجال التفسيق والتبديع وهدر الأعراض. أما إذا كان يريد أن يؤيد رأيا فهو أول الناس في تأصيل هذا المنهج !.(1/54)
وأما الزبيدي فقد نقله عن الزهري كما سمعه منه دون أدنى تغيير عند الرواية. وتدل القصة التي حكاها بالتفصيل على مدى تيقظه لما سمعه من الزهري. إلى جانب هذا فقد تابعه محمد بن عمرو، كما بين ذلك الدارقطني.
ومن خلال تتبع نصوص الإمام الدارقطني تبين أن رأي الإمام مسلم كان في غاية من الدقة؛ إذ أخرجه مسلم في أول الباب من طريق معمر وابن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، حيث إنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم نر أحدا من النقاد قد اعترض على صحته.
ثم أخرج ثانيا من طريق الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة، حيث إنه صحيح أيضا. لكن روايتهما عنه مرفوعا إنما كانت بواسطة عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وابن قارظ هذا دون سعيد بن المسيب راوي الحديث الأول، ثم إن إسناده أنزل من الحديث الأول، مع أن مسلما قد رواه من طريق عيسى بن المنذر وهو متكلم فيه.
والواقع أن الإمام مسلما (رحمه الله تعالى) لا يورد أحاديث أمثال عيسى بن المنذر في صحيحه ـ حتى في المتابعات ـ إلا بعد الانتقاء منها، وبعد تأكده من صحتها. هذا وقد وجدنا متابعا له فيما أورده الإمام الدارقطني في علله(1)، إذ رواه من طريق محمد بن عوف بن الوليد عن محمد بن حرب بإسناده ومتنه.
هذا كله فيما يخص حديث أبي هريرة الذي أورده مسلم في صدر الباب.
أما طريق الحديث الذي رواه الإمام مسلم ( في رقمي 4، 5) فهو أيضا محفوظ؛ فقد قال الإمام الدارقطني (رحمه الله تعالى) :
’’وروى هذا الحديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي صالح السمان، واختلف عنه.
(1) فرواه علي بن عاصم عن يحيى بن سعيد عن أبي صالح عن أبي هريرة .
(2) وغيره يرويه عن يحيى عن أبي صالح عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ عن أبي هريرة ، وقال الدارقطني: (وهو الصواب)‘‘(2). انتهى كلام الدارقطني.
__________
(1) - العلل 3/ 2/125/ ب
(2) - العلل 3/2/ 125(1/55)
بما أن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ليس في الطبقة الأولى من أصحاب أبي هريرة أورده مسلم أيضا في المتابعات.
وأما بقية طرق الحديث التي أوردها الإمام مسلم من ( 6 ) إلى (10) فقد جاء ذكرها في علل الإمام الدارقطني (رحمه الله)(1)، وهذا نصه:
’’سئل عن حديث نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فقال:
(1) يرويه موسى بن عقبة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن أبي هريرة، واختلف على نافع في إسناده لهذا الحديث فرواه عبيد الله بن عمر، وموسى الجهني، وعبد الله بن عمر العمري، وعبد الله بن نافع مولى ابن عمر عن نافع عن ابن عمر.
(2) وكذلك روي عن موسى بن عقبة عن سالم ونافع عن ابن عمر قاله أبو ضمرة عنه، وخالفه يعقوب الإسكندراني، واختلف عنه.
أ - فقيل عنه عن موسى بن عقبة عن نافع عن أبي هريرة .
ب - وقيل عنه عن موسى بن عقبة عن نافع عن إياس عن أبي هريرة .
ج - ورواه ابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن مبعد بن عباس عن ميمونة .
(3) وقال بعضهم فيه : عن ابن عباس عن ميمونة و لم تثبت .
(4) ورواه الليث بن سعد عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة، وقال الدارقطني: (وهو الصواب)‘‘. اهـ
هكذا نرى الإمام الدارقطني - بعد بيان الاختلاف على نافع - يرجح ما رواه الليث وابن جريج عن نافع، بحيث يتفق مع الإمام مسلم في ذلك؛ إذ أتى الإمام مسلم بوجوه الاختلاف على نافع في آخر باب فضل الصلاة في المسجد النبوي. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على دقة نظر الإمام مسلم في هذه الروايات عن نافع، إذ لم يغفل عن ذكر الاختلاف الوارد فيه.
__________
(1) - العلل 3/1/57(1/56)
هذا وقد سبق الإمام الدارقطني الإمام البخاري في التاريخ الكبير(1)؛ إذ قال بترجيح رواية ابن جريج والليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، بعد أن ذكر وجوه الاختلاف على نافع، كما أنه صرح بأن ذكر ابن عباس في رواية ابن جريج لا يصح.
وفي ضوء نصوص الإمام الدارقطني، والإمام البخاري، حول ملابسات رواية نافع تبين جليا أن رواية عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر تعد مخالفة لرواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، وبالتالي لا تكون روايتهما خالية من الشذوذ والعلة، كما يفهم ذلك أيضا من صنيع الإمام مسلم؛ إذ أوردها في أواخر الباب شارحا لوجوه الاختلاف على نافع. وإلا لذكر رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، ورواية موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر، وكذلك رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر في صدر الباب كعادته، وكما وعد في المقدمة؛ لشهرة سلسلة هذه الأسانيد وعلوّها.
وعلى كل حال فهذا الترتيب يفيد أن الإمام مسلما كان مدركا لعلة حديث ابن عمر، كما أدركها غيره من النقاد، ثم تعامل معه في الصحيح على هذا الأساس، بل قام بشرح علته عند ذكره ، وذلك بذكر الوجوه المختلفة على نافع الذي هو مدار هذا الحديث(2).
ألا ترى الإمام الدارقطني لم يذكر في التتبع سوى ما أورده مسلم من الروايات!. ومن المعلوم أن كتابه التتبع إنما وضعه لبيان العلة فيما رواه كل من البخاري ومسلم. وبذكر الدارقطني هذه الروايات كما أوردها مسلم ولم يزد فيها سوى رواية ابن جريج، فهم العلماء أن الدارقطني شرح علتها. وعلى هذا الأساس جاء الشيخ ربيع ليذكر في كتابه (بين الإمامين) حديث ابن عمر ضمن الأحاديث المنتقدة من طرف الدارقطني.
__________
(1) - 1/302 – 303
(2) - أرجو أن ينتبه الأستاذ هنا إلى أننا عرفنا علة الحديث من خلال نصوص النقاد ، وليس من خلال التقديم والتأخير.(1/57)
أما طريق الحديث (رقم 9)، وهو: ’’وحدثناه ابن أبي عمر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر‘‘، فقد قال الإمام الدارقطني: ’’وليس بمحفوظ عن أيوب‘‘(1).
وبعد أن اتضح لنا جليا دقة الإمام مسلم (رحمه الله تعالى) في ترتيب أحاديث باب فضل الصلاة في المسجد النبوي، وشرحه لعلة حديث ابن عمر على سبيل الاستطراد، وبعد أن سمعنا رأي الإمام البخاري والدارقطني حول ملابسات حديث نافع عن ابن عمر، وكذا في حديث معمر عن أيوب، يحسن بنا أن نجيب عن الشبهات التي أثارها الأستاذ.
الشبهة الأولى والإجابة عنها
يتوهم القارئ مما عرضه الأستاذ أن الإمام مسلما قد أفرد باب فضل الصلاة في المسجد النبوي لبيان العلل فيما روي عن ابن عمر وميمونة من حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي.
وليس الأمر كذلك، بل أورد مسلم في صدر هذا الباب حديث أبي هريرة من طرق صحيحة، وجعله أصل الباب، ثم أورد حديث ابن عمر من طرق أعلها النقاد؛ كالبخاري والنسائي والدارقطني لافتا الانتباه إلى أنه أدرك فيها ما أدركه غيره من الأئمة النقاد من الاختلاف.
ولو أفرد مسلم هذا الباب بهذه الروايات المعلولة دون الأخرى، لفهمنا أنه أوردها على سبيل التصحيح والاعتماد، وأنه لا يوافق غيره من النقاد على تعليلها، ولا مجال للقول إذن إنه أوردها لبيان العلة، لأن المقصود من كتابه هو ذكر الأحاديث الصحيحة.
__________
(1) - التتبع ص: 297 ، سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) حديث خاص حول قول الدارقطني في النقطة الرابعة.(1/58)
والواقع أن الإمام مسلما صدر الباب بحديث أبي هريرة الذي لا يختلف في صحته أحد من النقاد ثم أتى بحديث ابن عمر من طرق مختلفة، دون أن يصدر بها الباب، على الرغم من تميزها بالعلوّ، وشهرة رواتها. ومن المعلوم أن علو الأسانيد مما يهتم به المحدثون قاطبة، وفي طليعتهم الإمام مسلم.(1)
الشبهة الثانية والإجابة عنها
ومن هنا يجب أن نفهم أن الأصحية لا تتوقف على أحوال الرواة وحدها في منهج المحدثين، وإنما تتوقف أساسا على مدى سلامته من شذوذ وعلة، ثم على تميزه بخصائص إسنادية، من أهمها ’’العلو‘‘ بمختلف معاييره، وهنا يتبين حجم الفارق العلمي بين الباحثين المعاصرين والنقاد القدامى.
إذن إعلان الأستاذ أن هذه الطرق في القمة من الصحة، ومعظمها من الطبقة الأولى من شرطه يكون في غير محله، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنه سلك طريقة غير طريقة المحدثين النقاد في معرفة صحة الحديث، وفي محاكمته بين الإمامين أو الموازنة بينهما.
وكأن الرجل ظن أن عمل المحاكمة أو الموازنة بين الإمامين أمر ميسر يتم القيام به من خلال معرفة أحوال الرواة وطبقاتهم العلمية من كتاب الحافظ ابن حجر (التقريب ) أو غيره من كتب التراجم!.
ما هكذا تورد يا سعد الإبل!
__________
(1) - جاء في تدريب الراوي (1/|98) أن أبا زرعة أنكر على مسلم روايته عن أسباط بن نصر وقطن وأحمد بن عيسى المصري فقال: إنما أدخلت من حديثهم ما رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول فأقتصر على ذلك. وجاء في سير أعلام النبلاء 11/418) : قال ابراهيم بن أبي طالب قلت لمسلم كيف استجزت الرواية عن سويد في الصحيح؟!! قال: فمن أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة. (سير أعلم النبلاء 11/418) يعني آثر مسلم رواية حديث حفص بن ميسرة من طريق سويد بن سعيد المتكلم فيه على روايته من طريق الثقات لعلوه. وقد بينا أهمية العلو عند المحدثين في كتاب عبقرية الإمام مسلم.(1/59)
ومن الجدير بالذكر أن الحديث لا يصحح ولا يضعف بناء على أحول الرواة وحدها في منهج المحدثين النقاد، وإنما على شروط أخرى تضمنها تعريف الصحيح؛ ومن أهمها سلامة الحديث من شذوذ وعلة، سواء رواه ثقة أو إمام، وهذا ما ينبغي فهمه وإفهامه للطلبة في مقرر علوم الحديث.
يقول الحافظ ابن حجر: ’’فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل‘‘اهـ(1).
وهو بذاته يستفاد من تعريف الصحيح:’’ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة‘‘.
لكن للأسف الشديد إن كثيرا من المعاصرين يعتمدون أحوال الرواة في التصحيح والتضعيف، بل يعارضون النقاد بحجة (كم ترك الأول للآخر)، وهذا في الواقع انحراف منهجي، بل انحراف سلوكي يجب العمل على تصحيحهما في آن واحد، ولا ينبغي التساهل في ذلك.
فلما كان الأستاذ قد سلك في ذلك هذا المسلك السهل اندفع مغرورا إلى إعلانه بأن ما أورده مسلم في آخر ذلك الباب من الروايات في القمة من الصحة.
وقبل أن يشاغب كان عليه أن يتأكد من مدى استيفاء تلك الروايات شروط الصحيح، ومن أهم هذه الشروط سلامتها من شذوذ وعلة كما سبق. أما طريق عبيد الله وموسى الجهني وأيوب فلم تخل من علة المخالفة التي أعل بها الإمام البخاري والدارقطني، والدارقطني وحده بالنسبة إلى رواية أيوب.
ومن العجب أن الأستاذ الذي نصب نفسه للموازنة بين الإمامين لم يكن فاهما مغزى ما شرحه مسلم من نقطة الاختلاف على نافع، بل لم يفهم نصوص الإمام البخاري والدارقطني حول تلك النقطة، وكيف يفهمها، وهو لا يملك في هذه الموازنة سوى النظر في مراتب الرواة المبينة في كتاب التقريب !.
__________
(1) - هدي الساري ص 11(1/60)
وقد سبق أن ذكرت أن الأستاذ بمنهجه السطحي يرى أن تلك الطرق التي أوردها مسلم لبيان الاختلاف على نافع إنما هي متابعات وشواهد! وهي عند النقاد وجوه الاختلاف والاضطراب التي تقتضي الترجيح فيها أو الجمع بينها على منهجهم وليس على منهج الفقهاء والأصوليين.(1)
إن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة شرط من شروط الصحيح لدى جميع النقاد، ومنهم الإمام مسلم رحمه الله تعالى، فقد قال الحافظ أبو الفضل المقدسى:
’’فاعلم أن شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلا غيرمقطوع ..‘‘ اهـ(2).
وأين في حديث ابن عمر اتفاق الرواة ؟! وقد رأينا في صحيح مسلم اختلافهم على نافع، ثم وجدنا الأئمة؛ البخاري والنسائي والدارقطني قد أعلوه بناء على الاختلاف نفسه. إذن كيف يدعي الأستاذ أن هذه الروايات من الطبقة الأولى من شرطه؟!.
نعم إن نسخة ’’ عبيد الله عن نافع عن ابن عمر‘‘، ونسخة ’’ أيوب عن نافع عن ابن عمر‘‘ من أصح الأسانيد، وعليه جرى الإمام مسلم (رحمه الله) في صحيحه، لكن ليس معناها أن كل حديث جاء عنها صحيح، وإنما معنى ذلك أن الأحاديث التي وردت عنها أكثرها صحيحة، وأن الأخطاء التي وقعت فيها قليلة نسبيا، وإلا فالإنسان غير معصوم من الأوهام، وكلما يكون الإنسان قليل الوهم والخطأ يكون أوثق الناس وأضبطهم. ومن ينكر أوهام الإمام مالك وشعبة والثوري وعبيد الله وغيرهم من الجهابذة؟! لكن لقلة أوهامهم نسبيا صاروا كبار أئمة الحديث الثقات، كما لا يخفى على من له أدنى صلة بكتب الرجال والمصطلح.
وأذكر هنا بعض الأمثلة لوقوع الوهم من الجهابذ :
__________
(1) - غير أن الأستاذ أخذ يزعم مغترا بدراسته السطحية أنه هو الذي يخدم السنة، وأن محاوره الذي يؤيد رأي المحدثين النقاد ويدافع عن منهجهم في النقد أصبح هادم السنة ومضيعها!!.
(2) - شروط الأئمة الستة . ص: 13(1/61)
روى الإمام أحمد(1)عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: حدث سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس. فقال يحيى القطان للثوري: تعست، يا أبا عبد الله!. أي عثرت.
فقال: كيف هو؟!
فقلت : حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبي الجراح، عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: صدقت.
وقال الحافظ ابن حجر تعقيبا على هذه القصة:
’’وقد اشتمل هذا الخبر على عظم دين الثوري وتواضعه وإنصافه، وعلى قوة حافظة تلميذه القطان وجرأته على شيخه حتى خاطبه بذلك ونبهه على عثوره، حيث سلك الجادة، لأن جل رواية نافع هي عن ابن عمر، فكان قول الذي يسلك غيرها – إذا كان ضابطا – أرجح‘‘(2).
انظر يا أخي الكريم – رحمك الله - ! كيف ترى الحافظ ابن حجر يدافع عن منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل؟! دون أن يغتر بكون رواة ذلك الحديث المعلول من السلسلة الذهبية. وإن كان هذا مقبولا من الحافظ ابن حجر فينبغي أن يكون ما قاله البخاري والدارقطني في حديث ابن عمر أجدر بالقبول والاحترام والدفاع؛ إذ لا خلاف بين الحديثين، وبين الأسلوبين.
لعل القارئ قد استفاد من هذا المثال أن التصحيح والتعليل ليسا تابعين لأحوال الرواة. وإن كان الشيخ ممن يعتقد أن العلة تختص برواية الثقات، فلماذا إذن يبحث الآن عن ضعف الراوي ليقبل علة حديث ابن عمر التي اتفق عليها هؤلاء الأئمة النقاد؟!
هذا مثال ثان: يقول الحافظ ابن حجر:
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 6/426، وكتاب الإرشاد للخليلي 1/236
(2) - نقله السخاوي في فتح المغيث 1/279(1/62)
’’وكذا يحيى القطان بشعبة ، حيث حدثوه عنه بحديث (لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر)، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقال ( يحيى) حدثنا به سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن ابن مسعود، وهذا هو الصواب، ولا يتأتى ليحيى أن يحكم على شعبة بالخطأ إلا بعد أن يتيقن الصواب في غير روايته‘‘.
ويقول الحافظ متسائلا:
’’ فأين هذا ممن يستروح، فيقول مثلا: يحتمل أن يكون عند أبي إسحاق على الوجهين، فحدث به كل مرة على أحدهما؟! وهذا الاحتمال بعيد عن التحقيق، إلا إن جاءت رواية عن الحارث بجمعهما، ومدار الأمر عند أئمة هذا الفن على ما تقوى في الظن. وأما الاحتمال المرجوح فلا تعويل عندهم عليه‘‘ اهـ(1)
وهاك مثالا آخر:
قال بسر بن سعيد: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله فذكر الحديث. قال ابن عبد البر: هكذا رواه ابن عيينة مقلوبا، أخرجه ابن أبي خيثمة عن أبيه عن ابن عيينة. ثم قال ابن أبي خيثمة: سئل عنه يحيى بن معين، فقال: هو خطأ، إنما هو أرسلني زيد إلى أبي جهيم كما قال مالك. وتعقب ذلك ابن القطان الفاسي المغربي، فقال: ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر.
فجاء تعقيب الحافظ على ابن القطان الفاسي فقال:
’’تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ‘‘.اهـ(2)
هذا هو منهج المحدثين في التصحيح والتضعيف، وليس المعيار فيهما هو ما اعتمده الأستاذ من أحوال الرواة في المحاكمة بين الإمامين، وهذا استرواح منه، كما وصف به الحافظ ابن حجر كل من يرد قول النقاد اعتمادا على ظواهر السند .
__________
(1) - المصدر السابق .
(2) - فتح الباري 1/585(1/63)
وعلى كل فإن صحة الحديث تتوقف على أمور ثلاثة: الإتقان والاتصال والخلو من العلة، فضلا عن الحكم بأنه في القمة من الصحة.
ولهذا قال الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى):
’’... لأنه ( يعني مسلما ) ينتقي من أحاديث هذا الضرب ( يعني سيئ الحفظ) ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ، فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية طريقة ابن حزم وأشكاله‘‘(1).
ولذا قال الحافظ:
’’... ولا يلزم من كون رجال الإسناد من رجال الصحيح أن يكون الحديث الوارد به صحيحا لاحتمال أن يكون فيه شذوذ أو علة ‘‘(2).
وقال الحافظ المزي والزيلعي :
’’.... إذ ليس كل حديث احتج براويه في الصحيح يكون صحيحا؛ إذ لا يلزم من كون راويه محتجا به في الصحيح أن يكون كل حديث وجدناه له يكون صحيحا على شرط صاحب ذلك الصحيح لاحتمال فقد شرط من شروط ذلك الحافظ كما قدمناه .‘‘اهـ(3)
فأصبح الأمر واضحا مثل الشمس أن معنى قولهم إن فلانا ثقة، أو فلان في الطبقة الأولى من الصحة أن أكثر أحاديثه جاءت صحيحة. وليس معناه:’’أن كل ما يرويه من الأحاديث يكون صحيحا، أو يكون في الطبقة الأولى من الصحة‘‘. فإن خلو الحديث من علة شرط في صحته، إضافة إلى الإتقان والاتصال أيا كان راويه إلا أن يكون متروكا.
الشبهة الثالثة والإجابة عنها
أما إخراج الإمام مسلم حديث عبيد الله ومن بعده هنا خارج الأصول، ومقصود كتابه، بخلاف عادته في الترتيب، مع ذكر الاختلاف على نافع فلم يكن على سبيل الاحتجاج والتصحيح، بل على سبيل بيان العلة. والحديث الذي اعتمده الإمام مسلم (رحمه الله تعالى) وجعله أصل الباب هو حديث أبي هريرة الذي لم يختلف في صحته أحد من النقاد، كما بينت سابقا.
__________
(1) - زاد المعاد 1/96
(2) - النكت 1/274
(3) - نقله في قواعد التحديث ص198(1/64)
وعلى هذا فإن ذكر حديث عبيد الله ومن بعده في صحيح مسلم على تلك الصورة لا يكون دليلا على أنه (رحمه الله) يرى صحته، بل دليل على أنه أدرك العلة في روايتهم. أو قل إن مسلما رتب هذه الطرق بتقديم الأصح فالأصح ، وعليه فحديث أبي هريرة أصح من حديث ابن عمر عند مسلم، والأمر كذلك ، لكن الأستاذ يرى خلاف ذلك .
وفي ضوء ما سبق من التوضيح فإن قول الشيخ’’ هذه الطرق هي في القمة من الصحة، ومعظمها من الطبقة الأولى من شرطه‘‘، يشكل نقطة تباين بين منهج الأستاذ في فهم درجة الحديث وبين منهج المحدثين النقاد. وإن كان الشيخ ينهج منهجا سهلا في التصحيح والتضعيف؛ يضعف إذا كان الراوي ضعيفا، ويصحح إذا كان ثقة، ويقوي الحديث بالشواهد والمتابعات إذا لم يكن فيها متروك، فإن النقاد ينهجون منهجا علميا دقيقا يتمثل في تركيزهم على مدى سلامة الحديث من شذوذ وعلة أي من مخالفة أو تفرد بما ليس له أصل، أيا كان الراوي حتى وإن كان إماما.
وقد توافرت نصوص صريحة عن كثير من المتأخرين أن الحكم على الحديث ليس تابعا لأحوال الرواة، وإذا تتبعت أعمال النقاد وجدتها تدل على ذلك، ومع ذلك فإن موقف الأستاذ أصبح مما ينسف منهج المحدثين النقاد نسفا، ويؤدي إلى طمس معالمه، سواء علم ذلك أم لم يعلم.
واللافت للانتباه أنه تقرر في كتب المصطلح أن ميدان وقوع العلة أحاديث الثقات، وأن كشفها لن يتم إلا لنقاد الحديث، وفيما أظن أن الأستاذ ممن يعتقد ذلك، لكنه هنا ألغى الحكم الذي صدر من النقاد، لا لشيء سوى أن الرواة ثقات، وأنه لم يفهم حيثياتهم في التعليل، أو أنهم لم يذكروها مستوفية !
ولما ذكر الأستاذ جميع ما عنده من الخلفيات بعد شغبه على القراء وجدت المثل يصدق عليه ’’تمخض الجبل فولد فأرا‘‘؛ فإن كل ما لديه من الخلفية العلمية التي سردها لمعرفة حكم هذا الحديث هي أحوال رواته ورتبهم في سلم الجرح والتعديل، مستفيدا كل ذلك من تقريب التهذيب.(1/65)
وعلى هذا فكيف يوفق الشيخ بين تعريف الصحيح، وبين عمله في تصحيح هذا الحديث، متحديا الأئمة النقاد الذين أعلوه؟!! فإنه بصنيعه في التصحيح يعلن أن الصحيح هو ما رواه الثقات، يعني أنه يرى الأحكام تابعة لأحوال الرواة. لكن حسب تعريف الصحيح وغيره لا تكون الأحكام تابعة لها.
إن كان الأستاذ لا يملك في التصحيح والتضعيف إلا النظر في كتب التراجم لمعرفة أحوال الرواة فعليه أن يقبل من البخاري والنسائي والدارقطني ما صدر منهم من الإعلال، وأما ما أشكل عليه من صنيع الإمام مسلم في ذكر الحديث المعل من قبل الأئمة النقاد فله أن يتركه لغيره من الباحثين.
المغالطة الثانية: زعمه أني ضعفت حديث ابن عمر
أما المغالطة الثانية فتتمثل في فهم الأستاذ أنني ضعفت حديث ابن عمر مستفيدا من قول الإمام مسلم: ’’وسنزيد إن شاء الله شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى‘‘ اهـ(1). ذلك لأني لم أضعف هذا الحديث بناء على هذا النص. وإنما كنت مؤيدا للنقاد: البخاري والنسائي والدارقطني، حين رأيت الأستاذ يتخبط في فهم نصوصهم في التعليل. وأما نص الإمام مسلم فإني أتيت به لبيان سبب إيراده لهذه الروايات المعلولة في صحيحه، وليس لتعليلها(2).
هذا وقد سبقني الأستاذ في تطبيق تلك الجملة في مواضع كثيرة من كتابه (بين الإمامين) تأييدا لصنيع مسلم في إيراد الروايات المعللة في صحيحه، كما عول عليها الشيخ مقبل (رحمه الله) في تحقيقه لكتاب الإلزامات والتتبع.
إن كان الأستاذ قد تراجع عن ذلك بعد سنوات عدة حين ألزمته قبول التناقض بينه وبين ما هاجمني به، فإن غيره من العلماء الأفاضل منهم الشيخ مقبل (رحمه الله تعالى) ظلوا على رأيهم دون أن يسجل عنهم ما يدل على تراجعهم عنه.
__________
(1) - مقدمة صحيح مسلم مع شرح النووي 1/59
(2) - يأتي الكلام حول ذلك في موضعه (إن شاء الله تعالى).(1/66)
وهذا الحافظ المعروف برشيد الدين العطار كان يبرر ساحة مسلم في ذكر الأحاديث المنقطعة في الصحيح بقوله : ’’لينبه على الاختلاف‘‘(1).
إذن لست وحدي في هذا الموقف.
في ضوء ما سبق فذكر قول الإمام مسلم في هذه المناسبة لم يكن إلا لتبرير ساحة مسلم في روايته لهذا الحديث في صحيحه، حيث إنه قد التزم شرح العلل في بعض المواضع من الكتاب استطرادا، وبالتالي يكون هذا الحديث نموذجا لذلك الذي التزمه مسلم، ولا يدعو ذلك إلى الاستغراب.
غير أن الأستاذ حاول أن يوهم القارئ بأن هذا النص لا صلة له بشرح مثل هذه العلل، حين قال: إن قول الإمام مسلم يحتمل أمرين:
الأول: أنه يشرح العلل غير القادحة.
والثاني: أنه أعرض عن تطبيقه لشرح العلل. لكن الراجح الأمر الأول.
أقول: إن قول الإمام مسلم: ’’وسنزيد إن شاء الله شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى‘‘ اهـ(2)يفيد بدلالته اللغوية التي يفهمها كل عربي وأعجمي: أن الإمام مسلما سيذكر في كتابه الصحيح المزيد مما شرحه وأوضحه قبل في سياق كلامه.
وإذا نظرنا فيما سبق هذا النص وجدناه يشرح ما يتصل بعلامة المنكر في حديث المحدث مع الأمثلة، إذن معنى هذه الجملة أن الذي سيشرحه في مواضع من صحيحه هو ما يتصل بالمنكر(3)
__________
(1) - ذكر ذلك في مواطن كثيرة في كتابه (غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة). انظر الصفحات: 211 ، 218 ، 219 ، 238 ، 253 ، 321، 284 ، 292 ، 297.
(2) - مقدمة صحيح مسلم مع شرح النووي 1/59
(3) - المنكر هنا هو ما شرحه الإمام مسلم قبل هذا الكلام ، هو كل حديث خالف الراجح ، سواء رواه ثقة أم رواه صدوق أم رواه ضعيف مقبول، وهذه المخالفة هي علامة المنكر في حديث المحدث ، وكلمة (المحدث) أعم من الثقة والصدوق والضعيف. وليس المقصود هنا هو ما اصطلح عليه المتأخرون .
و فيما يأتي نص الإمام مسلم أنقله بكامله ليقف القارئ على مناسبة قوله (وسنزيد إن شاء الله شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب ..)
’’وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث وغير مقبوله ولا مستعمله.
فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن محرر و يحيى بن أبي أنيسة والجراح بن المنهال أبو العطوف وعباد بن كثير وحسين بن عبد الله بن ضميرة وعمر بن صهبان ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به، لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه قبلت زيادته .
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره أو لمثل هشام بن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره. فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس. والله أعلم‘‘
’’قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها، وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى. (صحيح مسلم 1 /59)(1/67)
وغيره.
وليس معنى العلة كما يدعيه الأستاذ، وهو العلل غير القادحة ، ويريد بها بيان اختلاف الرواة في الألفاظ المترادفة، لأن هذا المعنى يخالف سياق كلام الإمام مسلم في المقدمة وشرحه للمنكر، كما يخالف منهج النقاد عموما في إطلاق مصطلح (العلة).
وبعد هذا أصبح جليا أن تلك الجملة تفيد بدلالتها اللغوية، أنه ( رحمه الله تعالى ) يشرح العلة في بعض الأحيان في صحيحه(1).
__________
(1) - قلت للشيخ : ’’شرح العلل وبيانها في مواضع من الكتاب حسب المناسبة على سبيل الندرة تبعا للموضوع وليس مقصودا بذاته ‘‘فقال الأستاذ في هامش كتابه ( التنكيل) المليء بظلمات الأكاذيب والأباطيل:
’’هذا الكلام من ذر الرماد في العيون، كيف تقعد قاعدة تقتضي هدم قواعد كل باب من أبواب صحيح مسلم؟! فالباب مثلا يقوم على عشرة أعمدة ، فقاعدتك التي طبقتها تهدم خمسة أعمدة على الأقل ، بل هدمت فعلا العشرة الأعمدة وشواهدها التي قام عليها الباب الذي عقده مسلم لفضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صرت تناور فتقول : على سبيل الندرة ! فهل قال مسلم: على سبيل الندرة ؟! وتقول : إن مسلما وعد ببيان العلل . فكيف يعقل أن يكون بيانه غير مقصود ؟! ألا ترى أن كلامك لغو، ومن ذر الرماد فعلا‘‘.
أقول : أ لا يفهم كل عربي من سياق كلام الإمام مسلم الذي تضمن:
أ - قوله (في مواضع من الكتاب)
ب - و (عند ذكر الأخبار المعللة)
ج - و (إذا أتينا عليها)
د - و (الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح)، أن الإمام مسلما سيشرح العلة في بعض المواضع ، وليس في جميع المواضع من الكتاب . يعني بذلك في بعض الأحيان. أو على سبيل الندرة؟!.
كيف يترك النصوص الواضحة الجلية ليستنتج من خياله ما يخالف تلك النصوص، ثم يقول عن هذه النصوص الصريحة إنها من ذر الرماد في العيون؟!!(1/68)
وكلمة العلة تفسر بما يفهم من سياق النص، وهو ما يتصل بالخطأ والوهم. كما أنها تؤكد أن الإمام مسلما تولى بيان العلة في مواضع من كتابه (الصحيح)، عند ذكر الأخبار المعللة فيه.
وعلى كل فحين نفهم أن شرح العلة إنما هو استطرادي، وأنه شأن كثير من كتب الحديث الأصيلة؛ كصحيح البخاري، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، وسنن الترمذي، وسنن النسائي(1)، وسنن أبي داود، سواء اشترط المؤلف في كتابه الصحة أو لا، يهون علينا ما هوَّله الأستاذ.
والجدير بالذكر أن بيان العلة يعني بيان اختلاف الرواة في وصل الحديث وإرساله، أو وقفه ورفعه، أو في ذكر الزيادة في الحديث ونقصها، أو تبديل أسماء الرواة، أو قلب الإسناد، أو عزو الحديث إلى غير صاحبه.
يقول الحافظ ابن حجر في كتابه النكت الذي يعد من أواخر مؤلفاته عموما والذي حققه الأستاذ لنيل درجة الدكتوراه:
’’ ومن عادة البخاري ( يعني في صحيحه) أنه إذا كان في بعض الأسانيد التي يحتج بها خلاف على بعض رواتها ساق الطريق الراجحة عنده مسندة متصلة، وعلق الطريق الأخرى إشعارا بأن هذا الاختلاف لا يضر، لأنه إما أن يكون للراوي فيه طريقان ، فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، فلا يكون ذلك اختلافا يلزم منه اضطراب يوجب الضعف، وإما أن لا يكون له فيه إلا طريق واحدة ، والذي أتى عنه بالطريق الأخرى واهم عليه ، ولا يضر الطريق الصحيحة الراجحة وجود الطريق الضعيفة المرجوحة. والله أعلم‘‘(2)
__________
(1) - قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: ’’ وقد اعترض على الترمذي (رحمه الله ) بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبا ، وليس ذلك بعيب ، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل ، ثم يبين الصحيح في الأسانيد ، وكان قصده رحمه الله ذكر العلل ، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط ، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له ‘‘.(شرح علل الترمذي 1/411)
(2) - النكت 1/ 362 - 367(1/69)
قوله: ’’وعلق الطريق الأخرى إشعارا بأن هذا الاختلاف لا يضر‘‘. معناه أن الإرسال لم يضر في صحة المسند الذي اعتمده البخاري. فذكره الرواية المرسلة في الصحيح ليس لغرض الاعتماد، وإنما لغرض آخر، وهو: إفادة أنه قد وقف على هذا الاختلاف، وأن المسند صحيح لم يؤثر الإرسال في صحته.
وبذلك تبين أن إطلاق الأستاذ بأن البخاري ومسلم قد التزما الصحة في كل ما يوردانه في كتابيهما، غير صحيح.
وقال في موضع آخر من كتابه (النكت) :
’’ومنها ما يشير صاحب الصحيح إلى علته كحديث يرويه مسندا ثم يشير إلى أنه يروى مرسلا فذلك مصير منه إلى ترجيح رواية من أسنده على من أرسله‘‘.(1)
__________
(1) - المصدر السابق 1/269، وعلق عليه الأستاذ في كتابه منهج مسلم ص: 43 بقوله :
’’ أولا : عد إلى ما قرره الحافظ سابقا بشأن الصحيحين.
وثانيا: هذا قد يفعله البخاري رحمه الله . أما مسلم فلا يفعله لأن البخاري له مقاصد فقهية وغيرها فيورد الآيات وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم ويختصر الأسانيد بالتعليق ويختصر المتون من أجل أهدافه الفقهية وكل من هذا أو ذاك لا يورده إلا للاحتجاج أو للاستشهاد أما أن يسوق البخاري أو مسلم حديثا من طريق أو من طرق صحيحة لبيان ما فيها من علل فهذا ما لا يجوز أن ينسبه إليهما مسلم يؤمن بالله ويخشاه وهذا ولله الحمد لم يقله أحد من علماء الحديث منذ ألف الشيخان كتابيهما إلى يومنا هذا‘‘.
أقول : في قوله هذا مغالطات؛
منها: قوله : ’’ هذا قد يفعله البخاري‘‘ إقرار منه أن البخاري يشير إلى علة الحديث بروايته مسندا ومرسلا . وبالتالي أصبح قوله ’’ عد إلى ما قرره الحافظ سابقا بشأن الصحيحين ‘‘ في غير محله.
ومنها : قوله إن مسلما لا يفعل ذلك، وأما البخاري فله أغراض فقهية.
أسأل: ما علاقة الأغراض الفقهية بتنبيه البخاري على علة الحديث، الذي ذكره الحافظ ثم أقره الأستاذ؟
نعم ما سرده الأستاذ من تقطيع الحديث واختصاره وذكر الآيات والآثار يفعله البخاري لأغراض فقهية ، وهذا موضوع آخر يختلف فيه عن مسلم. لكنهما يتفقان في موضوع الصحيح والتزامهما الصحة في الكتابين ، وبالتالي يشتركان في الأغراض النقدية، والاهتمام بالإشارة إلى أن ما ذكراه من الأحاديث لا يضر صحتها ما جاء في بعض الطرق من اختلاف. ويشرحان ذلك على سبيل الاستطراد كما قال الحافظ .
ومنها : قوله : ’’هذا قد يفعله البخاري‘‘. وأنا أقول : وكذلك الإمام مسلم.
ومنها: أنه لم يقل أحد أن الشيخين يوردان الحديث بطرق صحيحة لبيان العلة ، كيف تكون الطرق صحيحة وفي الوقت ذاته تكون فيها علة ؟! هذا من الأفكار السطحية. ولو قال : بطرق من رواية الثقات لكان أسلم.
وأخيرا تبين جليا أن الأستاذ لم يستطع أن ينكر ما قد يفعله البخاري ومسلم على سبيل الاستطراد من الإشارة إلى علة الحديث بذكر الوجه المعلول مع الوجه الصحيح.(1/70)
وأذكر هنا بعض النماذج مما ذكره الحافظ ابن حجر (رحمه الله) في هدي الساري عندما أجاب عن تتبع الإمام الدارقطني وغيره في بعض أحاديث صحيح البخاري، الأمر الذي يجعلنا نجزم بأن الحافظ كان يعتقد أن البخاري يذكر بعض الروايات في صحيحه لبيان الاختلاف والاضطراب. وبما أن الناس قد فهموا أن ذلك البيان كان على سبيل الاستطراد لم يتهموا الحافظ بأنه جعل صحيح البخاري في مصاف كتب العلل.
وكان فيما أجاب به الحافظ رحمه الله قوله:
’’ومقتضاه صحة ما اختاره البخاري واعتمده من رواية الأعمش على أن البخاري لم يهمل حكاية الخلاف بل حكاها عقب حديث الثوري. والله أعلم‘‘(1)
__________
(1) - الهدي في ص: 358 الحديث الثالث و العشرون. علق عليه الأستاذ بقوله : ’’أما قصد البخاري فهو تأييد الحديث المتصل بالحديث المعلق بناء على التزامه الصحة ، وقصده إثبات سماع أبي عطية من عائشة كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح ، وعلى أن المعلق بصيغة الجزم يكون صحيحا . وأما رأي الحافظ فاختلف فيه فقال في المقدمة ما نقله المليباري ، وقال في الفتح 3/411 وهو رأيه الأخير وهو الحق : ’’والطريقان محفوظان وهو محمول على أن للأعمش فيه شيخين ‘‘. ويؤيد رأيه هذا أن الإمام يحيى بن سعيد القطان قد تابع شعبة.اهـ (منهج مسلم ص: 38 – 39)
أقول : على تعليقه هذا عدة مؤاخذات.
أولا : وجه استدلالي هنا أن الحافظ كان يعتقد أن البخاري يذكر استطرادا الروايات المعللة للإشارة إلى علتها، وقد تحقق ذلك بالمثال الذي ذكرنا من الهدي، ورأيه في الفتح لم يفد تراجعه عن هذا الاعتقاد، وإنما افاد تغير رأيه حول صحة الحديث. ولو تغير رأيه فعلا في منهج البخاري في ذلك لصرح بذلك. بل كان مستمرا عليه بدليل قوله في النكت .
على أن رأي الحافظ في الفتح لم يكن سديدا في ضوء منهج النقد، وما قاله في المقدمة هو الصواب، وليس كل ما تأخر يكون أصح مما تقدم، وهذه ليست قاعدة مطردة.
والدليل على صواب رأيه في المقدمة أن ابن أبي حاتم أعل رواية شعبة كما قال الحافظ ، لكن الأستاذ لم ينقله مع أنه مذكور في الفتح. ولو وقع مني ذلك لشغب به الأستاذ . والحافظ لم يرده إلا بقوله: ’’والطريقان محفوظان وهو محمول على أن للأعمش فيه شيخين‘‘ من غير أن يذكر قرينة على ذلك.
ثم إن سفيان الثوري له متابعات من أبي معاوية ومحمد بن فضيل وابن نمير وأبي خالد الأحمر (انظر البخاري والمسند 6/32 ، 181، 320، ومصنف ابن أبي شيبة 3/204) . أما شعبة فلم أجد له متابعة حسب تتبعي، وقد ادعى الأستاذ متابعة يحيى بن سعيد له، ولم يذكر مصدره. ولو وقع هذا من خصمه لاهتم الأستاذ بإثارته.
ثانيا: قوله: إن المعلق بصيغة الجزم يكون صحيحا ‘‘ فهو غريب ، إذ لا يفيد الجزم صحة الحديث مطلقا، وإنما يفيد فقط صحته عن شعبة. ونحن هنا بصدد الإشكال حول قول شعبة.
ثالثا: قوله: إن قصد البخاري هو تأييد الحديث المتصل بالحديث المعلق‘‘ غريب أيضا، كيف يكون مؤيدا، وسفيان يقول عن الأعمش عن عمارة ، ويقول شعبة عن خيثمة . فأين هذا التأييد ؟
رابعا: أما إفادة إثبات سماع أبي عطية من عائشة ، فهذا لا يعني أنه ليس للبخاري غرض آخر. بل له غرض آخر، وهو كما قال الحافظ : حكاية الخلاف على الأعمش.(1/71)
ومنه أيضا قوله:
’’وانما اعتمد البخاري فيه رواية مالك التي اثبت فيها ذكر زينب ثم ساق معها رواية هشام التي سقطت منها حاكيا للخلاف فيه على عروة كعادته‘‘ . اهـ(1)
ومنه أيضا قوله :
’’فقد أخرجه على الوجهين، ومقصوده منه الاحتجاج بقصة النخل المؤبرة وهي مرفوعة بلا خلاف بدليل أنه أخرجها في أبواب المزارعة. وأما قصة العبد فأخرجها على سبيل التتبع، وبين فيها من الاختلاف فلا اعتراض عليه. والله أعلم‘‘(2).
ومنه أيضا قوله:
’’وقد حكى البخاري الخلاف فيه، وهو تعليل لا يضر و الله أعلم‘‘(3).
__________
(1) - ص: 358، الحديث الرابع و العشرون
(2) - ص: 361 الحديث الثالث والثلاثون. وعلق عليه الأستاذ بأن الاختلاف هذا لا يعني التعليل . وهذا كما قلت آنفا إن وجه استدلالي هو أن قول الحافظ في الهدي يفيد اعتقاده بأن البخاري قد يكون له في ذكر رواية أو روايات غرض غير الاحتجاج، وإذا لم يثبت الأستاذ ما يدل على تراجعه عن هذا الاعتقاد فإن تعليقه يكون في غير محله.
(3) - ص: 364، الحديث الثامن والأربعون. علق عليه الأستاذ بقوله: ’’ وإذا كان الخلاف والتعليل لا يضر فلماذا لم تقل مثل هذا في حديث ابن عمر وابن عباس ، وكيف استسلمت لقول ابن حجر هنا ولم تستسلم لثلاثة عشر عالما ، ومنهم ابن حجر في حديث ابن عمر وشواهده التي وصلت إلى التواتر. مع أن الخلاف في هذا الحديث أشد ، وقد خرج البخاري منها إسنادين في الأصول ... والظاهر أن البخاري لا يذكر الأشياء إلا في المتابعات‘‘.اهـ منهج مسلم ص: 40 – 41)
أقول: إن هذا الاختلاف لا يضر في صحة المتن ، لأنه مهما كان الأمر فإنه من رواية الثقة . وعلى كل فقصدي بقول الحافظ أنه كان يعتقد أن البخاري له أغراض من ذكر بعض الروايات غير الاحتجاج . وهنا كان غرضه بيان الاختلاف كما قال الحافظ.
وأما حديث ابن عمر وحديث ابن عباس فسيأتي الكلام حولهما مفصلا - إن شاء الله تعالى – في المحور الثالث . وأقول هنا: إن الاختلاف الذي وقع في حديث ابن عمر لم يضر المتن ، وإنما الكلام في السند فقط. ولم يتكلم أحد في فضل الصلاة في المسجد النبوي ، وهو حديث صحيح متفق عليه.(1/72)
ومنه قوله:
’’فهو عنده على الاحتمال ولم يهمل حكاية الخلاف فيه‘‘(1).
ومنه قوله :
’’ومع ذلك فأخرج البخاري الطريقين فأفهم أنه رأى أن الموصول أرجح وهو المعتمد‘‘.(2)
ومنه قوله:
’’إنما أخرج البخاري حديث مالك إثر حديث محمد بن عمرو بن حلحة ليبين موضع الخلاف فيه‘‘.(3)
ومنه أيضا قوله :
’’وقد أشار البخاري إلى الاختلاف فيه على عبيد الله وعلى سعيد فلا استدراك عليه‘‘.(4)
وانظر في الحديث الأول بعد المائة. والخامس بعد المائة.
هكذا نرى الحافظ ابن حجر يجيب بما سبق، وخلاصته: أنه يرى أن الإمام البخاري كان يشرح في مواضع من الصحيح علل الحديث، أو يلفت الانتباه إليها، لمناسبة علمية، بدون أن ينص الإمام البخاري على التزامه به، ولا غرابة في ذلك فإنه من عادة النقاد في كتبهم، ومن يراجعها بإنصاف وتجرد فإنه يقر بذلك.
__________
(1) - ص: 364 . الحديث الخمسون. تعليق الأستاذ هنا لافت للانتباه . يقول: ’’ وإذا كان البخاري أخرجه على احتمال صحة الوجهين - أي أنه اختلاف لا يضر – فماذا تستفيد منه مع أن هذا من قول الحافظ اجتهاد منه في معرفة قصد البخاري، وقد يكون قصد البخاري غيره ..‘‘ اهـ ( منهج مسلم ص: 41)
أقول : قصدي هو أن الحافظ كان يعتقد بيان البخاري الاختلاف في صحيحه، وتحقق لي بالمثال . وبعد ذلك لا يهمني أنه اجتهاد منه أصاب فيه أم أخطأ. هذا هو معنى الاحتياط في رواية الحديث المعل ، يخرجه على احتمال الصحة.
(2) - ص: 375، الحديث التاسع و السبعون. علق عليه الأستاذ بما لا يضر طريقة استدلالي بقول الحافظ كما سبق .
(3) - ص: 376، الحديث الثاني و الثمانون. لم يعلق عليه الأستاذ .
(4) - ص: 380، الحديث السادس و التسعون. لم يعلق عليه الأستاذ .(1/73)
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في فتاويه(1): " وأجل ما يوجد في الصحة كتاب البخاري ، وما فيه متن يعرف أنه غلط على الصاحب ، لكن في بعض ألفاظ الحديث ما هو غلط ، وقد بيّن البخاري في نفس صحيحه ما بين غلط ذلك الراوي ، بين اختلاف الرواة في ثمن بعير جابر ... "
والذي يجب أن ننتبه إليه في هذه المناسبة أن الحافظ ابن حجر لما أجاب بذلك على تتبع الدارقطني لم يتهم بأنه جعل صحيح البخاري في مصاف كتب العلل! وذلك لأن شرح العلة إنما هو في مواضع من الكتاب الصحيح عند ذكر الأخبار المعللة، ولا يتعارض مع موضوعه الأصلي الذي من أجله صنف ذلك الكتاب، كما لا يتعارض معه ذكر الأحاديث المعلقة في تضاعيف الكتاب الذي وضع لذكر الأحاديث المسندة المتصلة الصحيحة. والحافظ ابن حجر لم يكن يدعي أن البخاري قد يأتي بأبواب لذكر هذه الأنواع من الأحاديث المعلقة، ثم يعتمد عليها. وإن كان هذا الصنيع مسلما لدى الجميع دون اعتراض على ذلك فإن شرح العلل ينبغي أن يكون كذلك أيضا، فما يجاب به على وجود أحاديث معلقة في الصحيح يكون جوابا بذاته ع شرح العلل فيه استطرادا.
ولم يدع أحد أن الإمام مسلما كان يفرد في كتابه الصحيح بابا من أبوابه لشرح العلل، وإنما يأتي بها فقط استطرادا ضمن أحاديث الباب بعد أن صدره بالحديث الصحيح. لذا، لا يشكل شرح ذلك في مواضع من الصحيح عند ذكر الأخبار المعللة تناقضا مع موضوع الكتاب، ولا يلزم من هذا الصنيع الحط من هذا الكتاب الذي نعتقده من أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه، وجعله في مصاف كتب العلل.
هذا هو الواقع الذي كنت أصرح به في أثناء الحوار. وبعد ذلك فلا مبرر لأحد كائنا من كان أن يتهمني بخلاف ذلك.
وإذا كان الأستاذ قد وجه إلي تساؤلاته السابقة بحجة أني قلت إن الإمام مسلما قد شرح علة الحديث في صحيحه، فإنه يلزمه توجيه التهم نحو الحافظ ابن حجر وغيره ممن أجابوا بذلك في أكثر من موطن.
__________
(1) - مجموع الفتاوى 18/73(1/74)
المغالطة الثالثة: أن القاضي عياض لم يستقر على رأيه، بل نسي ما قرره
وأما قول الأستاذ: ’’ بل القاضي عياض كثيرا ما يجاري الدارقطني في انتقاده لمسلم ، ويقوم بتأييده فيما يبدو له من علل، ومعنى هذا أن القاضي عياضا ينسى ما قرره من أن مسلما التزم بيان العلل وشرحها ...ولايتسع المقام لمتابعة القاضي عياض، فإن الأمثلة كثيرة والإشارة إلى بعضها تكفي طالب الحق‘‘.
قلت: إن كلام الأستاذ غريب فعلا، لماذا يُلزم القاضي أن يجيب عن انتقادات الدارقطني بما نقله الأستاذ عنه بمجرد أنه قد أجاب به في بعض المواضع حسب نوعية الإشكال؟!
إن العاقل يفهم جيدا أن الإجابة عن الإشكالات ينبغي أن تكون بما تقتضيه نوعيتها، وليس من العقل أن يُنتظر من القاضي في كل موضع انتقد فيه الدارقطني الإمام مسلما أن يرد عليه بالجواب نفسه الذي أجاب به في بعض المواضع حسب الإشكال.
لكي يتضح ذلك ننظر في المثالين الذين أتى بهما الشيخ ربيع قائلا إنهما يكفيان لطالب حق ! ولأمانته العلمية أعرض عن ذكر الأمثلة التي تخالفه!.
المثال الأول هو ما رواه مسلم عن ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما، فقلت: يا رسول الله أعط فلانا فإنه مؤمن ... الحديث.
يقول الأستاذ:
’’قال عياض: رحمه الله قال أبو مسعود الدمشقي: هذا الحديث إنما يرويه سفيان بن عيينة، عن معمر عن الزهري. قال الحميدي وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن الصباح الجرجرائي كلهم عن سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري بإسناده‘‘(1).
__________
(1) - قال مسلم في كتاب الإيمان ، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه .. 1/132
حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال قسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قسما فقلت: يا رسول الله أعط فلانا فإنه مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم أقولها ثلاثا ويرددها علي ثلاثا أو مسلم. ثم قال: إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار.
حدثني زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس فيهم قال سعد فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من لم يعطه وهو أعجبهم إلي .. الحديث.
حدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد قالا حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه سعد أنه قال ثم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فيهم ... الحديث
وحدثنا الحسن الحلواني حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن إسماعيل بن محمد قال سمعت محمد بن سعد يحدث هذا فقال في حديثه فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده بين عنقي وكتفي ثم قال أقتالا ؟! أي سعدُ، إني لأعطي الرجل .
قام الأستاذ بدراسة هذا الحديث ليبين أن مسلما لم يهتم بترتيب أسانيده ، وشغب به في كتابه (التنكيل)، سيأتي التعليق على دراسته في القسم الثاني من الكتاب (إن شاء الله تعالى).(1/75)
أتى الأستاذ بهذا المثال في رده الأول الذي أرسله إلي، وأعاده بشيء من التفصيل في كتابه (التنكيل) المليء بظلمات الأباطيل والأكاذيب،(1)ليبرهن على أن القاضي نسي ما فاوض به معاصريه؛ لأنه لم يجب هنا عن تتبع الدارقطني بأن مسلما لم يخرجه إلا لبيان العلة، وهذا دليل عنده أن القاضي نسي ما قرره فيما يخص منهج مسلم في شرح العلل.
وهذا الفهم من الأستاذ غريب جدا، لأن الإمام مسلما لم يذكر هنا إلا رواية واحدة عن ابن عيينة، ولو أورد عنه رواية أخرى تخالفها لكان ذلك شرحا للعلة. فإن شرح العلة لا يتم بذكر رواية واحدة، وإنما بذكر وجوه اختلاف الرواة. وعليه يكون الإمام مسلم قد أورد حديث ابن عيينة في صدر الباب على سبيل التصحيح والاستدلال، إذن لماذا نلزم القاضي أن يجيب هنا بأن مسلما أورد هذا الحديث لشرح العلة بناء على أنه قد أجاب بذلك في موطنه المناسب؟!
والجدير بالذكر أن المشكلة التي أثارها الإمام الدارقطني حول حديث ابن عيينة هي انقطاع سنده، لكنه لا يضر الإمام مسلما لكون الواسطة معروفة، وهي معمر بن راشد، ثم إن هذا الحديث مشهور عن الزهري، وأتى مسلم بروايات أخرى عنه بما يوافق رواية ابن عيينة، وأصبح الحديث صحيحا لا غبار عليه.
وأما المثال الثاني(2)
__________
(1) - ص: 117 – 119
(2) - هو حديث رواه الإمام مسلم من طريق محمد بن عبد الله بن بزيغ، حدثنا يزيد ( يعني ابن زريع)، حدثنا حميد الطويل، حدثنا بكر بن عبد الله المزني عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه، قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتخلفت معه - وذكر قصة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم – ثم صلاة عبد الرحمن بن عوف إلى نهاية القصة قال الدار قطني: كذا قال ابن بزيغ، وخالفه غيره عن يزيد.
فرواه عنه على الصواب، عن حمزة عن المغيرة، فرواه حميد بن مسعدة وعمرو بن علي عن يزيد بن زريع على الصواب، وكذلك قال ابن أبي عدي عن حميد ، فقال القاضي عياض فقد وهم.
يقول الأستاذ :
هذا موقف عياض (رحمه الله ) مؤيدا للدار قطني في نقده للإمام مسلم فلو كان مسلم قد ساق هذا الحديث – كما يرى القاضي عياض – لبيان علته ولشرح تلك العلة وتوضيحها لوقف إلى جانب مسلم يدافع عنه قائلا لا حق لكم في انتقاده وأنه ما ش على منهجه الذي التزمه من الشرح والإيضاح للعلل.(1/76)
فلا يختلف عن الأول، حيث إن الإمام مسلما لم يأت إلا برواية واحدة عن يزيد بن زريع، ولو كان يشرح علته لذكر ما يخالفه من الروايات عن يزيد بن زريع. وبما أنه (رحمه الله تعالى) لم يأت إلا برواية واحدة فلا يقال هنا إنه أورده لشرح العلة، ويمكن أن يكون مسلم يرى أن هذا الحديث صحيح بخلاف غيره من النقاد.
كأن الأستاذ فهم أن كل حديث منتقد من أحاديث صحيح مسلم يجب الإجابة عنه بأن مسلما أورده لشرح العلة، ولم يقل به أحد، لا القاضي ولا الشيخ مقبل ولا هذا العبد الضعيف. وإنما يجاب بذلك إذا وجدنا الإمام يذكر أوجه الاختلاف على الحديث فحسب.
وليس للأستاذ فيما ذكره دليل على أن القاضي نسي ما قرره، بل كان ذاكرا له، وكان يجيب به في مواطنه التي تقتضيه. ولا يلزمه أن يجيب به في جميع المواطن لكونه قد أجاب به في موطنه اللائق، وبالتالي لا يقال إن القاضي نسي أو تراجع عما قرره إذا لم نجده قد أجاب في جميع الأحاديث المنتقدة. ولذا أصبح فهم الأستاذ عجيبا وغريبا، والأغرب والأعجب من ذلك إلزام غيره أن يقبله منه، وإلا فهو ممن يهدم السنة في نظره.
قول الشيخ ربيع: ’’ وأظن أن الباحث خدع بقول القاضي عياض – رحمه الله – بأن مسلما قد التزم هذا الشرط ووفى به وهو شرح العلل وبيانها وإيضاحها. وهو قول قد خدعت به ، وكنت معجبا به ، ثم تبين لي أنه سراب وخيال ، ولا يستطيع القاضي عياض ولا غيره أن يأتي بحجة واضحة صريحة من صحيح مسلم على تطبيق هذا الشرط الذي زعمه القاضي – رحمه الله -.‘‘
قلت: هكذا يقول الأستاذ بكل تأكيد، متحديا القاضي عياضا الذي لم يخالفه أحد ممن خاطبه به أو وقف على رأيه من الأئمة اللاحقين، بل أقره الحافظ ابن حجر، وقبله الإمام النووي، وابن الصلاح وغيرهما.(1/77)
وإذا كان الأستاذ قد أقر هنا أن القاضي يعتقد بوجود شرح العلل في صحيح مسلم وترتيب أحاديثه حسب الأصحية فإن التهم التي اتهمني بها من أجل تطبيق ذلك في حديث واحد تتوجه إلى القاضي وغيره ممن يقول ذلك. ومنهم أبو مسعود الدمشقي الذي تتبع أحاديث مسلم، والشيخ عبد الرحمن المعلمي والشيخ مقبل.
والأستاذ نظر في موضوع بيان العلة في صحيح مسلم وترتيب الأحاديث حسب الأصحية، ضمن عمله في رسالته للماجستير، فوجد في صحيح مسلم أمثلة تطبيقية لهما آن ذاك، وعلى هذه الأمثلة قامت رسالته للماجستير، وإلى جانب ذلك اهتم الأستاذ بسرد آراء العلماء في هذين الموضوعين؛ كالقاضي والنووي، تأكيدا على ذلك، ثم فجأة وجدنا الأستاذ يتراجع عنهما كما رأيت.
ولما أمعنت النظر في سبب تراجعه عما كان عليه سابقا لم أجد له مبررا علميا في ذلك؛ إذ أسلوبه في جميع دراساته لم يتغير ولم يتطور، كانت دراسته هنا وهناك قائمة على أحوال الرواة، ولم يستطع أن يضيف فيها شيئا جديدا إلا الشغب والشتم والسخرية. ولو تغير أسلوبه في الدراسة وتطور نظره لكان تراجعه معقولا وطبعيا جدا، كأن يكتشف شيئا جديدا في أثناء تتبعه الخاص بعد أن عجز عنه في مرحلة الماجستير ومرحلة الدكتوراه ومرحلة تدريس الطلاب في جميع مراحلهم.
وظل الأستاذ على اعتقاده بأن الإمام مسلما يشرح العلل في صحيحه إلى أن أوقعته في تناقضه العلمي، ولم يجد أمامه للخروج من هذا التناقض إلا سبيلين أحلاهما مر:
أ - الإقرار بالتناقض وتسليم الأمر لنقاد الحديث.
ب - أو إعلان توبته عما كتبه في رسالته للماجستير، ومخالفة النقاد في منهجهم.
لكن الأستاذ آثر الأمر الثاني لكونه الأسهل بالنسبة إليه، لأنه لو لم يتراجع عما في رسالته للماجستير لقصم ذلك ظهره، وأقر بعجزه وقصوره في مجال البحث العلمي أمام القراء.(1/78)
والغريب أن الرجل لم ينتبه إلى ما يراه خطأ في أثناء بحثه في مرحلة الدكتوراه، ولا في أثناء إعداد الرسالة لطبعها في الهند، إلا حين ألزمتُه بالإقرار بتناقضه مع ما كتبه في رسالته للماجستير.
أما القاضي عياض فقد قال:
’’وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفا إلا صوبه و بان له ما ذكرت و هو ظاهر .... ‘‘.
ثم وافقه الإمام النووي وغيره من الأئمة. أما حسب قول الشيخ فإن هؤلاء الأئمة الذين جاؤوا بعده جميعا خدعوا بقول القاضي. والواقع أن رأي القاضي (رحمه الله) لم يكن إلا صوابا، و ليس بسراب كما وصفه الشيخ، فإن الشيخ نفسه قد اعتمده من قبل، بل أشاد به وبدقة فهمه في مواضع عدة من كتابه بين الإمامين(1)؛ حين أورد القاضي (رحمه الله) أمثلة واضحة وصريحة من صحيح مسلم. بل إن القاضي عياض (رحمه الله) كان يجيب به عن انتقادات الدارقطني في أماكنها المناسبة.
ولعل من الأفضل أن نستمع إلى ما قاله الشيخ في كتابه بين الإمامين، ص 393:
’’وقال القاضي عياض بعد أن أشار إلى استدراك الدارقطني: وأرى مسلما أدخل هذه الروايات ليبين الخلاف فيها، وهي وشبهها عندي من العلل التي وعد مسلم بذكرها في مواضعها، وظن ظانون أنه يأتي بها مفردة فقالوا : توفي قبل تأليفها، وقد بسطنا هذا في صدر الكتاب‘‘(2)اهـ.
وقال الإمام النووي قبل حكاية قول القاضي:
’’.. وإنما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك‘‘.
__________
(1) - قمت بتحرير هذه النقاط من الحوار سنة 1986م ، وحين أرسلتها إليه أعلن توبته عنها، وهي من أهم النقاط العلمية التي قامت عليها رسالته للماجستير التي أقرتها لجنة المناقشة. وقد أبقيت هذه النقاط هنا لأنها محررة قبل توبته، وليعرف القارئ أن الأستاذ إنما تراجع عنها بعد ما أرسلتها إليه.
(2) - انظر شرح مسلم للنووي 11/81(1/79)
وإن كان الأستاذ قد رجع عن قوله هذا، فإن الأئمة الذين قلدهم في ذلك لم يتراجع أحد منهم.
لماذا أصبح الأستاذ منفعلا حين قلت له إن الإمام مسلما ذكر تلك الروايات المختلفة على نافع ليبين الاختلاف؟!
ولماذا لا ينفعل بقول أبي مسعود الدمشقي والقاضي عياض والإمام النووي والشيخ مقبل؟!
ولماذا لا يتهمهم من أجل قولهم ذلك بأنهم جعلوا صحيح مسلم في مصاف كتب العلل؟!
وهل يرى فرقا بين قولهم بشرح العلل وبين قولي؟!
الواقع أنه لا فرق بينها، وإن حاول الأستاذ توهيم القارئ بوجود فرق بينها.
وذلك لأني قلت وما زلت أقول - دون أن أخفي شيئا في نفسي كما اتهمني به الأستاذ - : إن الإمام مسلما قد التزم بأمرين اثنين مستقلين ولا تلازم بينهما، وهما ترتيب أحاديث مسنده الصحيح حسب الأصحية، وبيان العلة بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة. وأما زعم الأستاذ بأني أدعي إن بيان العلة بالترتيب، فذلك زور وبهتان يتلذذ به لسانه لكي يتم له أن يتهمني بأن كل حديث ورد في آخر الباب معلول.
وقال الدكتور ربيع في ص 394 من كتابه (بين الإمامين)(1)معلقا على ما ذكره القاضي عياض رحمه الله :
’’وما ذكره القاضي عياض من أن مسلما أدخل هذه الروايات ليبين الخلاف فيها، وإنها وشبهها من العلل التي وعد مسلم بذكرها في مواضعها قول سديد وربط بين منهج مسلم الذي التزمه وبين عمله في الصحيح ‘‘اهـ . بل وجدنا الأستاذ يغتنم الفرصة في الإجابة على الدارقطني بمشيه وراء القاضي، يقول في ص 482 من الكتاب:
قال القاضي: ’’وهذا الإسناد من الأحاديث المعللة في كتاب مسلم التي بين مسلم علتها كما وعد في خطبته، وذكر الاختلاف فيه.. وهو في شرح مسلم 14/26 – 27 ‘‘.
__________
(1) - الطبعة الهندية ، وإن كان الأستاذ قد تراجع عن رأيه فإن القاضي صاحب هذه المقولة لم يتراجع عنها .(1/80)
ثم أعاده الشيخ ص 484 قائلا : ’’وقد سبقه إلى هذا الإعلال ابن معين وتابعه القاضي عياض، والنووي، واعتذرا لمسلم بأنه لم يخرج حديث أبي معاوية إلا لبيان هذه العلة‘‘.
وبه تبين أن القاضي عياض (رحمه الله) أجاب به، ولم ينس رأيه الذي فاوض به معاصريه كما زعم الأستاذ، ولم تقع له أي شبهة في ذلك، كما أجاب به الإمام النووي، ولم يعلن أحد منهم تراجعه عن هذا الموقف.
وقد وجد قبل توبته أمثلة كثيرة للعلل التي شرحها الإمام مسلم في صحيحه كما وعد به في المقدمة، فما ذكرته لم يكن سرابا إذن؛ فقد قال الشيخ في كتابه بين الإمامين ص286:
’’وهذا انتقاد في محله فإن مقصود مسلم بإخراجه التنبيه على هذا الاختلاف، و هذا دأبه في كتابه، فهو يسير على منهج معين، و خطة واضحة التزمها في مقدمته‘‘ 1هـ .
ثم أعاده ص287 فقال :
’’و لم يخرجه مسلم في نظري إلا لبيان ما فيه من علة‘‘.
وقال أيضا ص 531: ’’أورده لبيان هذا الاختلاف، ولينبه على ما في إسناد يونس من علة، كما وعد بمثل هذا في مقدمته وصرح هنا بالتنبيه فعلا كما رأيت‘‘.
ثم أعاده ص 532، فقال: ’’وليس على مسلم أي مؤاخذة في رواية هذا الحديث لأنه بين الاختلاف صراحة، والراجح لديه رواية مالك ومعمر‘‘.
وقال أيضا ص 608: ’’وهذا لم يفت الإمام مسلما، فقد نبه على الاختلاف موفيا بذلك شرطه الذي التزمه من التنبيه على الخلاف وشرح العلل‘‘.
وقال أيضا ص 502: ’’والذي يظهر لي من صنيع مسلم في سياقه طرق حديث أنس أنه لم يذكر هذه الجملة الزائدة في حديث طلحة بن يحيى....إلا ليبين علتها، وليلفت النظر إلى مخالفتها لأصحاب يونس الحفاظ‘‘.
ثم أعاده في آخر كلامه من تلك الفقرة، فقال:
’’فالظاهر والله أعلم أن مسلما لا يريد من وراء كل هذا التصرف إلا التنبيه على ما في هذه الزيادة من علة‘‘.
ثم أعاده ص 507 فقال:(1/81)
’’أما مسلم فلا مؤاخذة عليه في إيرادها في صحيحه لأن تصرفه يوحي بأنه لم يوردها إلا لينبه على مخالفتها لرواية الحفاظ من أصحاب يونس والزهري، وليلفت النظر إلى هذه العلة‘‘.
وقد قال نحو ذلك ص 151، 189، 262، 361 ، 376 ، 397 ، 424 ، 430 ، 436 ، 474 ، 475 ، 513 ولا حاجة إذن لإطالة الكلام، وندعو الله ربنا السلامة والعافية.
قول الأستاذ: ’’قد التزم الصحة في كل ما يورده في كتابه‘‘ فيه نوع من المبالغة، بل ينبغي أن يقيد بأنه في أصول كتابه ومقصوده، وذلك لأن المتابعات والشواهد التي يوردها مسلم في صحيحه يتساهل فيها بما لا تسعه الأصول ولا يتحمله الموضوع. وإلى جانب هذا فقد قال الإمام مسلم إنه يخرج أحاديث أهل القسم الثاني، كما أنه يزيد شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة.
وقد حكم الشيخ بالشذوذ على بعض الأحاديث من صحيح مسلم، وذلك في كتابه بين الإمامين انظر (ص: 177، و239 – 244). وانظر أيضا كلامه حول موضوع التزام الإمام مسلم بشرح العلل في صحيحه، كما في مقدمة ذلك الكتاب (ص: 21-22).
هذا وقد صرحتُ أكثر من مرة بأن الإمام مسلما يشرح أحيانا العلة بذكر وجوه الاختلاف بين رواته، وليس لذلك صلة بالترتيب، فهذا شيء، وبيان العلة شيء آخر لا تلازم بينهما. وأصبح تهويل الأستاذ كله في غير محله.
فكيف يلزم من تطبيق مسلم ما وعد به في مقدمته أن يكون كتابه في مصاف كتب العلل؟!.
قوله: ’’وعلى أساس التزام الصحة وجهت إليه وإلى صحيح البخاري بعض الانتقادات ..... ولو كان مسلم التزم القيام بشرح العلل، وبيانها في كتابه لما وجدت شيئا من تلك الانتقادات‘‘.
قلت: أما بالنسبة إلى الإمام الدارقطني فموضوع كتابه التتبع هو: ’’تتبع ما في الصحيحين من الأحاديث المعللة، وبيان عللها، و الصواب منها‘‘، كما ورد عن الإمام الدارقطني في أول كتابه (التتبع)(1).
__________
(1) - انظر ص : 120(1/82)
وعلى هذا فالذي أعله الدارقطني فيهما أو في أحدهما يكون بعضه نقدا عليهما أو أحدهما، وذلك إذا كان كل منهما قد احتج بذلك الحديث المعلول، واعتمد عليه، وهذا قليل جدا جدا، أو لا يكون بعضه نقدا ولا اعتراضا عليهما، أو على أحدهما، إذا ذكر كل منهما وجوه اختلاف الرواة على شيخهم في ذلك الحديث، وهذا كثير. غير أنه لا يمنع الدارقطني عن تتبعه لهذا النوع من الأحاديث التي لم يكن قصدهما الاحتجاج بها، وبيان ما فيها من العلة؛ إذ هدف الإمام الدارقطني هو تتبع ما فيهما أو أحدهما سواء كان في الأصول أو خارجها، ولذلك لم يحجم عن تتبعه لما أورده مسلم في مقدمة صحيحه من الأحاديث المعللة، مع أن الإمام الدارقطني أدرى بأن الإمام مسلما لم يشترط في أحاديث المقدمة الصحة.
أو يكون الجواب ما قاله العلامة المعلمي (رحمه الله تعالى):
’’ ....بلى في كل منهما أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس، و مرجع ذلك إما إلى اختلاف النظر، وإما إلى اصطلاح لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر .....‘‘(1).
قال الإمام أبو الحسن القابسي ( ت 403 هـ ) : وقد يُخَرِّج مثل هذا ( أي المنقطع و البلاغ ) مع المسند من يقصد إلى ذكر اختلاف الألفاظ في الحديث الواحد, واضطراب الناقلين له , فيأتي به للتنبيه على الخلاف فيه.(2)
ومن مغالطاته أن يقول: ’’هذا الفهم الذي فهمه الأخ حمزة من قول مسلم السابق غير مسلم وغير واقع في هذا الكتاب العظيم ، وأبى الله عليه إلا أن يتربع قمة كتب السنة وأن يكون صنو أصح الكتب بعد كتاب الله ، ألا وهو صحيح البخاري‘‘.
__________
(1) - الأنوار الكاشفة ص: 9
(2) - مقدمة رواية القابسي للموطأ ص 45. تحقيق الدكتور محمد علوي المالكي(1/83)
أقول: رأينا هذا الفهم عند القاضي عياض وكل من فاوضه به من علماء عصره، ثم جاء العلماء بعده يطبقونه في الإجابة عن الإشكالات التي أثيرت حول صحيح مسلم، كالحافظ رشيد الدين العطار، أو يقرونه دون إنكار، ومن المعاصرين الشيخ مقبل. وأما قوله إن ذلك غير واقع في صحيح مسلم فعناد ومكابرة، لأنه لم يعتمد في ذلك على دراسة أحاديث صحيح مسلم على منهج المحدثين النقاد، ومنهم الإمام مسلم، وإنما درسها دراسة سطحية ؛ حيث إنها لم تتجاوز ظاهر السند وأحوال الرواة ومراتبهم في الجرح والتعديل المبينة في تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر.
كما أن الأستاذ لم يقدر حتى الآن أن يذكر اسم عالم واحد من العلماء السابقين ينكر الترتيب ، وبذلك أصبح هو وحيدا في رأيه.
ومن المغالطات أيضا قوله: ’’ولو طبقنا عليه القاعدة لجاء في مؤخرة كتب السنة، بل لجاء في مصاف كتب العلل.... ومنهم من جعله في مستوى صحيح البخاري، ومنهم من يفضله عليه، ومنهم من يرى أنه التالي للبخاري نظرا لتشدد البخاري في شرطه‘‘.
قلت: أظن الشيخ يريد بالقاعدة بيان العلة في الصحيح، وإن كان كذلك فأقول: إن التزام مسلم ببيان الاختلاف والعلة في صحيحه على نحو ما وعد به في مقدمته لا يتنافى مع موضوع كتابه، كما سبق بيانه، ولا مع كونه صنو صحيح البخاري.
غرائب الأستاذ وغوغائيته
سترى- إن شاء الله تعالى – في هذا الحوار بقسميه، غرائب كثيرة وعجائب جمة في موقف الأستاذ من الخصم، وتعامله مع النصوص التي ينقلها عنه وتفسيرها وفق ما يتخيله. أذكر هنا أنموذجين:(1/84)
الأنموذج الأول: أنه يرد نصوصي الصريحة حول مسألة الترتيب وشرح العلل جازما بأنها لغو مائة في المائة ، وأنها مخارج للهروب منها إذا أجبر على التأخر أو الخروج، وأنه لون من التحايل والتهرب، وأساليب الصوفية وما تتذرع به من تقية ومثلها الألاعيب السياسية التي تحتاج إلى ذكاء وفطنة وحذر ويجب أن يكون التعامل معها على هذا الأساس(1)ليتقول علي بقوله:
’’إن الرجل يؤمن بقضية الترتيب والتقديم والتأخير في صحيح مسلم وأن بيان العلل إنما يأتي من خلال هذا الترتيب والتقديم والتأخير ، يؤمن بذلك إيمانا أعمى.. وليس هذا مني من باب سوء الظن ولا من باب الاتهامات التي لا تستندها الأدلة، بل هذا من صريح كلامه ومن مواقفه ومن رفضه التخلي عن هذا الفكر الخطير‘‘.(2)
أقول: لا أدري مما أتعجب: من قدرته على تضليل الحقائق ؟! أم من جرأته عليه؟!
لماذا يدعو الناس إلى ترك ما نص عليه محاوره، وقبول ما كان يفتريه عليه؟!
وقد سبق في مستهل هذا المحور تلخيص الموضوع الذي كتبته للأستاذ قبل بدء الحوار، وليس فيما كتبته شيء يفهم منه أن الترتيب وسيلة لبيان العلل وشرحها في الصحيح، ولعل الأستاذ يريد بقوله ( بل هذا من صريح كلامه) ما وقع في سياق كلامي، وهو:
’’فإذا أخر مسلم إسنادا كان يصدر به الأبواب عادة فمعناه أنه وجد فيه شيئا جعله يؤخره‘‘.
كلامي هذا واضح بمنطوقه ومفهومه وسياقه: أن الإمام مسلما يرتب الأحاديث في تضاعيف كتابه، ويقدم الأصح فالأصح حسب وجود الخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية، وما ذكره في آخر الباب من الأحاديث تكون عنده أقل صحة لسبب علمي، وهو أعم من أن يكون الحديث معلولا، ولذلك قلت متعمدا :
’’فمعناه أنه وجد فيه شيئا جعله يؤخره‘‘.
__________
(1) - منهج مسلم ، ص: 20 - 21
(2) - المصدر السابق، ص: 20(1/85)
هذا - كما ترى - فيه إطلاق للسبب الذي من أجله يؤخر مسلم ما كان يصدر به الأبواب عادة ليشمل جميع الأسباب: العلة والغرابة والنزول والاختلاف والتصرف في المتون وغيرها مما يخص علم الإسناد وفقه المتن.
غير أن الأستاذ جاء هنا ليفهم من كلمة (شيئا) أنها العلة، بناء على ما قلته في سبب تأخير حديث ابن عمر في آخر الباب. وهو في الواقع مثال لنوع واحد من الأسباب التي من أجلها تؤخر الأحاديث.
لماذا يصر الأستاذ على خطئه متجاهلا الأمثلة التي طبقت فيها أسبابا أخرى غير العلة؛ كالعلو والنزول أو الشهرة والغرابة أو التسلسل وغيره؟!
وهل قلت: (وجد فيه الشيء)؟!
وهل لا يعرف الفرق بين لفظ ( شيء ) ولفظ ( الشيء)؟!
يعني أن الأستاذ حمل المجمل على ما هو مطبق في مثال واحد، وحصره في ذلك السبب المطبق، بخلاف رأيه الشاذ الداعي إلى ترك كلام الناس على ظاهره، وعدم حمله على ما هو مفصل، ولو حمله على جميع ما فصله خصمه في مواطن مختلفة اتضح له الحق وبراءة الخصم من التهم التي كان يلفقها عليه.
وعلى كل فإن الأستاذ فسر المبهم هنا بما شرحناه في حديث ابن عمر كمثال جزئي، حين قال: إن معنى جملة:’’(أنه وجد فيه شيئا جعله يؤخره)، يعني وجد فيه علة‘‘. وذلك تضييق لما وسعته في سبب تأخير مسلم للأحاديث، ليتسنى له بعد ذلك أن يتقول علي بأن كل حديث يكون في آخر الباب معلول عند مسلم.
وبعد ذلك يقول :
’’وليس هذا مني من باب سوء الظن ولا من باب الاتهامات التي لا تستندها الأدلة، بل هذا من صريح كلامه ومن مواقفه ومن رفضه التخلي عن هذا الفكر الخطير‘‘!!
أقول: أي من صريح كذب الأستاذ ربيع.(1/86)
وفيما يبدو أن الأستاذ أخطأ في قراءة رسالتي التي أرسلتها إليه قبل بدء الحوار، وفهم محتواها فهما مغلوطا لشدة انفعاله وغضبه حين أوقفناه على أخطائه الفادحة في دراسته لبعض الأحاديث ومخالفته فيها جماعة من النقاد؛ كالبخاري والنسائي والدارقطني والقاضي، ولم يصححه أحد من النقاد إلا الشراح المتأخرون، فصعب عليه تصحيح ذلك.
وكان كلامي واضحا لمن يقرؤه بتدبر وإمعان . وأنا أنقل هنا بعض الفقرات من الرسالة الأولى التي أرسلتها.
قلت فيها محللا لنص الإمام مسلم في الترتيب(1):
1 - وهذا يفيد أن ترتيبه للأحاديث قائم على منهج علمي ، وهو مراعاته ذلك الترتيب في إيراد الأحاديث في كتابه ( الصحيح) فإذا أورد طريق حديث من طرقه في أول الباب فمعناه أنه أسلم من العيوب وأنقى عنده.
2 – ويجمع تارة طرقه في أول الباب لكونها على مستوى واحد في (السلامة من) العيوب.
3 – ثم إذا أتبعها بطرق أخرى لذلك الحديث ، وقد تكون هي طرقا مستقلة عن الصحابي الذي قدم حديثه من طرق أخرى غير هذا ، فمعناه أنها ليست في مستوى تلك، لكون راويها من أهل القسم الثاني ، أو لسبب آخر.اهـ
تدبر يا أخي الفاضل !
ماذا يفهم من الجملة الأخيرة ؟!
__________
(1) - قال الإمام مسلم’’فأما القسم الأول، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم.
فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم(1/87)
ألا يفهم منها أن الحديث الذي أورده مسلم في آخر الباب ليس على مستوى الحديث الذي صدر به الباب ، ويكون دونه إما لكونه من رواية أهل القسم الثاني يعني الضعفاء ، وإما لسبب آخر؟!.
ألا يفهم منها أن التأخير له نوعان من الأسباب نوع يرجع إلى حال الراوي ونوع يرجع إلى غيره ؟!
وكيف يفهم منها أن الحديث الأخير معلول ؟!
وكيف يفهم منها أن الترتيب هو وسيلة بيان العلة؟!
أوليس هذا تحريف في نصوص الآخرين وتأويل باطل؟!
وللأسف وجدت بعض الباحثين يقلد الدكتور في ذلك الفهم، حين قال في كتابه(1):
’’وإن وسيلة بيان العلل هي هذا الترتيب العلمي الدقيق على هذا، فإذا قدم ما هو مستحق أن يؤخره، وإذا أخر ما هو مستحق أن يقدمه فمعناه أن أدرك فيه شيئا يجعله يتصرف كذلك‘‘.
والغريب من هذا الباحث أنه يزعم هذا بعد أن نقل تلك الفقرة مباشرة التي تدل على أن سبب التأخير نوعان: أن يكون الراوي من أهل القسم الثاني، وأن يكون لسبب آخر. فمن أين فهم مسألة شرح العلل؟! وأين ورد ذكر العلة ؟!!.
وعلى كل فجملة : ’’فإذا قدم ما هو مستحق أن يؤخره ، وإذا أخر ما هو مستحق أن يقدمه فمعناه أنه أدرك فيه شيئا جعله يتصرف كذلك‘‘ تكون واضحة في دلالتها على أن أسباب التأخير كثيرة وليست بيان العلة فقط. وإذا طبقنا سببا من أسبابه في مثال لا يعني أن ذلك السبب بعينه يكون في جميع الأحاديث التي تذكر في آخر الباب.
هذا كما يقال: إن فلانا لا يذهب إلى السوق في آخر النهار إلا لسبب. فإذا وجدناه يوما خرج إليه في آخر النهار لاستقبال صديق له لا يعني أنه لا يذهب في ذلك الوقت إلا للاستقبال. وإنما ينبغي فهمه أنه لم يخرج إلا لسبب، قد يكون الاستقبال أو غيره.
__________
(1) - الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح ، للأخ مشهور حسن ، ص: 453(1/88)
وأخيرا أود أن أصرح للقارئ الكريم أن ما عمله الأستاذ في هذا المجال زور وبهتان وظلم وتحريف، ويعلم الجميع بداهة أن ذلك محرم شرعا. وكان ينبغي له أن يكون قدوة للآخرين في قبول الحق والتراجع عن الخطأ واحترام المحاور، والتواضع للحق. أما أن يصر على الخطأ، ويهيم في كل واد ليصحح ذلك الخطأ أو ليخفيه عن أعين الناس أمر غير لائق بالمسلمين، فضلا عن الدعاة.
الأنموذج الثاني للغوغائية
كان الأستاذ يحمل النصوص على غير محملها ليفهم منها ما يريده، ثم يجعل ذلك أمرا واقعيا يستند إليه في الاتهام والاستهزاء. فقد نقل الأستاذ من كلامي الآتي:
’’قال المليباري: لما وعد الإمام مسلم في المقدمة أن يضع طرق الحديث في موضعها، وقد وضعها في موضعها فعلا، فإذا رأينا المخالفة في الترتيب في الظاهر فينبغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك، وهذا هو الذي وقع هنا في رواية أيوب، وأنه كان من العادة أن يقدم رواية معمر عن أيوب، (على رواية ) أهل القسم الثاني(1).
وعلى هذا إذا ذكرها عقب رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري فيفيد أن معمرا عنده الوجهان لهذا الحديث، كما أفاد هنا بذكر رواية الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عقب رواية معمر عن الزهري عن سعيد أن الزهري يرويه من الوجهين الصحيحين.
ومثل هذا في بعض مواضع صحيح مسلم. انظر مثلا حديث الأعمش (17/144) من صحيح مسلم مع شرح النووي‘‘
__________
(1) - أعني به: يقدم الإمام مسلم رواية معمر عن أيوب أولا ، ثم رواية أهل القسم الثاني ، وهي عادة مسلم في صحيحه ، أما هنا فقد خالف العادة فذكر رواية معمر عن أيوب بعد رواية أهل القسم الثاني، ولما تتبعنا نصوص النقاد وجدنا الإمام الدارقطني في كتابه التتبع يوضح علة حديث معمر عن أيوب ، وبهذا تبينت دقة مسلم في ترتيب أحاديثه في الصحيح، حيث لم يضع هذا الحديث في أول الباب عقب حديث معمر عن الزهري ، وإنما وضعه بعد حديث أهل القسم الثاني من الرواة.(1/89)
أقول: إن سياق هذا الكلام واضح، وأن الإشارة في الفقرة الأخيرة (ومثل هذا) ترجع إلى ما سبق في السياق، وهو إفادة صحة الوجهين عن الزهري من خلال ذكر حديثه عن أبي سلمة عقب حديث الزهري عن سعيد.
يعني لو كان حديث معمر عن أيوب صحيحا لذكره عقب حديث معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة ليفيد أن معمرا له روايتان صحيحتان في هذا الحديث، واحدة عن الزهري عن سعيد ، والثانية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر. غير أن مسلما لم يفعل ذلك، بل أورد حديث معمر عن أيوب بعد ذكر حديث أهل القسم الثاني.
وبهذا يكون التمثيل بحديث الأعمش إنما هو لإفادة صحة الروايتين عن معمر لو ذكر مسلم كلا منهما عقب الآخر، كما أفاد مسلم بهذا الصنيع في حديث الأعمش صحة روايته عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود، وروايته عن مجاهد عن ابن عمر حين أورد الثانية عقب الأولى.
يعني أنه لو كان حديث معمر صحيحا عند مسلم لذكره عقب حديث معمر عن الزهري الذي أورده مسلم في أول الباب ليفهم أن معمرا له وجهان صحيحان؛ كما عمل في حديث الأعمش. وتوضيح ذلك فيما يأتي:
أورد مسلم في كتاب صفات المنافقين، باب انشقاق القمر(17/143 – 145) ثلاثة أحاديث؛ فذكر أولا حديث عبد الله بن مسعود. وثانيا حديث ابن عمر. وثالثا حديث أنس. أما حديث عبد الله بن مسعود فأورده من طرق متعددة. بدأ بحديث مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود ، وثنى بحديث إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود .
وأورد مسلم حديث إبراهيم هذا من طرق متعددة تدور على الأعمش، وهي رواية أبي معاوية وحفص بن غياث وابن مسهر وشعبة جميعا عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود.
وفيما يلي رسم شجرة الإسناد:(1/90)
فلما أورد مسلم رواية أبي معاوية وحفص وابن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود ذكر عقبها رواية شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر، فأفاد مسلم بهذا الصنيع أن الأعمش له هذان الوجهان الصحيحان. وهما: الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود، والأعمش عن مجاهد عن ابن عمر.
غير أن الأستاذ فهم من قولي المنقول آنفا شيئا غريبا ، ما أدري كيف انزلق ذهنه إليه.
الحق شمس والعيون نواظر ولكنها تخفى على العميان
انظر ماذا قال، وهذا نصه :
’’افهم قوله: (فإذا رأينا المخالفة في الترتيب في الظاهر فينبغي أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك ، وهذا الذي وقع هنا في رواية أيوب، وأنه كان في العادة أن يقدم رواية معمر عن أيوب ، عن أهل القسم الثاني)(1)، افهم أنه يضع قاعدة خطيرة تقضي أن كل ما خالف فيه مسلم عادته بتأخير ما كان يقدمه فإن فيه علة(2)، وضرب لذلك مثلا برواية معمر عن أيوب، مع أنه قد أعل طرقا أقوى من طريق أيوب بهذه القاعدة، وذكر تطبيقا لهذه القاعدة أن هذا التصرف موجود في بعض مواضع من صحيح مسلم ، ومنها حديث الأعمش(17/144)
’’ ولم يعل حديث الأعمش هذا أحد من أئمة النقد ، ولم يذكر المليباري أحدا أعله ، ليس له علة عند المليباري إلا أن مسلما وضعه في آخر الباب !! ‘‘
’’ ألا ترى أنه يفتري على الإمام مسلم أنه يبين العلل من خلال هذا الترتيب بتأخير ما عرف من عادته أنه كان يقدمه...الخ‘‘.اهـ
أقول: ما هكذا تورد يا سعد الإبل! من الذي قال إن مسلما يبين العلل بالترتيب؟! لا أحد في الدنيا قال ذلك، وإنما هو من مخيلة الأستاذ.
__________
(1) - أعني قبل رواية أهل القسم الثاني
(2) - طبعا هذا حسب فهم الأستاذ ، وإلا فكلامي نقله الأستاذ في كتابه، وفيه ’’ قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك‘‘ وفهم منه الأستاذ بأن الشيء هو العلة . وهذا غير صحيح، كما أوضحت سابقا.(1/91)
ثم إن مسلما لم يؤخر حديث الأعمش على رواية أهل القسم الثاني. بل أورده في جملة الأحاديث الصحيحة في أول الباب، وأفاد بذلك أنها جميعا في درجة واحدة من الصحة.
ومن قال إن حديث الأعمش معلول؟! لا أحد، إلا أن الأستاذ تخيل ذلك فقط. وأما حديث معمر عن أيوب الذي هو موضوع الحوار إنما أعله الإمام الدارقطني، ولم أعله أنا بذكر مسلم له في آخر الباب(1).
وبهذا أرجو أن يكون موضوع الحوار قد تبين للقارئ، وأن محل النزاع بيني وبين الشيخ ربيع، هو ما يتعلق بحديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم في صحيحه. إذا كان النقاد قد أعلوا هذا الحديث فإن الأستاذ يصححه بناء على أنه لم يفهم سبب إعلالهم له ، وأن ظاهر السند رواة ثقات من غير أن يثبت للقارئ مدى خلو هذا الحديث من شذوذ وعلة.
وحين ناقشته حول هذا الموضوع جلبنا الحوار إلى المسائل الآتية:
أ - منهج الإمام مسلم في ترتيب أحاديثه في أبواب الصحيح حسب خصائص الرواية ، ولطائف الإسناد.
ب - شرحه للعلة في صحيحه على سبيل الندرة بذكر وجوه الاختلاف.
وأما شرح العلل بترتيب الأحاديث وتقديمها وتأخيرها فليس موضوع الحوار بيني وبين الأستاذ، إذ لم أدع ذلك أبدا، ولم أخاطبه به قط. كما أنني لم أجعل حديثا في صحيح مسلم معلولا بمجرد أنه مذكور في آخر الباب، وهذا كله من كذب الأستاذ وافترائه علي.
ج - قضية تصحيف قديم وقع في نسخة صحيح مسلم حول سند الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، وهو كما في النسخة المطبوعة: الليث عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة. وهو تصحيف واضح.
د – اتفاق النقاد على تضعيف حديث ابن عمر، والدفاع عن منهجهم في التصحيح والتضعيف، مع تبرير ساحة مسلم من ذكره في الصحيح.
__________
(1) - ولا يدري الشيخ أنه بهذا الصنيع يكون قد دون تاريخه الشخصي للأجيال اللاحقة، ورسم لهم بقلمه المباشر صورة واضحة لطبيعة نفسه، وطريقة تفكيره، وقدر علمه في الحديث، وأسلوبه في التعامل مع من خالفه.(1/92)
هـ - مغزى قول الدارقطني: حديث معمر عن أيوب غير محفوظ ، مع أنه مما أخرجه مسلم في صحيحه.
و - تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد.
وبعد تحديد موضوع النزاع بيني وبين الأستاذ ندخل في الحوار معه حول حديث ميمونة. كيف رواه مسلم في صحيحه ؟! وهل هو عن إبراهيم عن ميمونة أم عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة ؟! وماذا يقول الشراح عنه؟! وما رأي النقاد فيه؟! .
يقول الأستاذ : إنه عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة. وأنا أقول : إن الصواب عن إبراهيم عن ميمونة، وذكر ابن عباس فيه خطأ من النساخ .
وتفصيل ذلك في المحور الثاني:
المحور الثاني
حديث ميمونة في صحيح مسلم وما وقع فيه من تصحيف
تصحيف قديم في حديث ميمونة من صحيح مسلم وتحقيق الرأي حوله
ما يأتي من الفقرات تتمحور حول قضية تصحيف وقع قديما في صحيح مسلم في إسناد الليث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة. وذكر ابن عباس راويا عن ميمونة في هذا السند يعد خطأ من الناسخ، والصواب:’’عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘. وأحاول إن شاء الله إعطاء صورة واضحة حول هذا الموضوع مصحوبا بنصوص النقاد ومدعما بالأدلة والبراهين.
أما الأستاذ فلم ينتبه إلى ذلك التصحيف، فلما حاورته بطريقة علمية حول هذه القضية سخر مني بألفاظ سخيفة لا يستعملها إلا أهل السوق من الجاهلين، وأنكر ذلك التصحيف، واعتبر ما ليس له وجود في قول مسلم ثابتا، ليشاغب على القراء بأني أقدم على صحيح مسلم كتاب التاريخ الكبير وكتب العلل(1).
__________
(1) - قال في كتابه (منهج مسلم) ص: 110، 113 الذي وصفه بقوله: ’’ولله در كتابي‘‘ .
’’وصدق يا مليباري أن كتب الدنيا كلها لو خالفت ما في صحيح مسلم ونسخه الذي تلقته الأمة بالقبول والحب والعناية والرعاية لقدموه عليها، ولهم الحق في ذلك ، والحق معهم ، ولا يرجحون عليه إلا صحيح البخاري ، وهما في هذا الباب لا يختلفان ... إلى أن قال :
وثق أنك كما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ولا يزيدك سلوك هذه الطرق العوجاء إلا صغارا عند الله وعند الناس إلا أن تتوب إلى الله توبة نصوحة..‘‘اهـ.
أرجو من القارئ أن لا يستغرب من أسلوب الأستاذ؛ فإن عادته في الحوار العلمي الشغب والمشاكسة وبطر الحق وغمط الناس، وهو لا يستطيع أن يحاور مخالفه بعلم ومنهج وصبر، ولا أن يركز على موضوع الحوار، بل يثير مواضيع جديدة لا صلة لها بالموضوع.
سيتبين لك إن شاء الله تعالى أن ذكر ابن عباس تصحيف جزما لا إشكال فيه. وإني أتساءل إذا وقع في طباعة المصحف تصحيف وصححه أحد من المحسنين فهل يقول أحد يحفظ القرآن الكريم: إن ذلك من الطرق العوجاء، ثم ينصحه بأن يتوب توبة نصوحة ؟!! نعم قد يقول ذلك من لا علم له بالقرآن الكريم من العوام الذين يقدسون الأشياء بمظاهرها.
نحن نرى أن ما وقع في النسخة المطبوعة من صحيح مسلم تصحيف . وبالتالي لم نكن ممن يرجح كتب التاريخ والعلل على صحيح مسلم. والحمد لله.(1/93)
ولم أكن منتبها إلى هذا التصحيف في بداية الحوار، حين كتبت له النقد، لكن حين وقفت على قول الحافظ المزي بهذا الصدد اتضح لي ذلك، أما الأستاذ فكعادته بدأ يستهزئ من هذا التصحيح، لأنه يريد مني أن أرجع عن الحق والصواب إلى رأيه الذي أراه باطلا، ولا يقبل من مخالفه في الحوار سوى ذلك، وإلا فليستعد لمواجهة ما يصدر من لسانه وقلمه من السب والاتهام.
قلت له في الأوراق التي أرسلتها إليه قبل أن أنتبه إلى التصحيف:
’’إن الإمام مسلما أورد طريق الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة، ولم يورد طريق الليث التي لم يذكر فيها ابن عباس، والأول لا يصح، والثاني محفوظ، ولوكان يريد مسلم المتابعة لكان أولى أن يورد الثانية لأنها سليمة ولا نزاع في صحتها ولم يفعل‘‘
هذا الكلام خطأ تبين لي ذلك بجلاء، وأنا لا أريد أن أدافع عنه، لكن كلام الأستاذ وحواره يثير إشكالات جديدة ويفتح أبوابا من الشبهات. ولذلك عرضنا لكلامي السابق، وإلا أعرضنا عنه صفحا. انظر إلى الأستاذ كيف يعقب عليه، وهذا نصه:
’’يعني الأخ الباحث وفقنا الله وإياه لاتباع الحق والقول به أن الإمام مسلما (رحمه الله) ما أورد طريق الليث التي أوردها في صحيحه في الأصول ولا في المتابعات وإنما أوردها ليبين ما فيها من علة، وكأن كتاب مسلم (رحمه الله) كتاب علل يترك الروايات الصحيحة المحفوظة المتفق عليها، ويأخذ الروايات الشاذة المعللة المطعون فيها‘‘.
’’وحتى كتب العلل لا تفعل مثل هذا فإن السبيل إلى معرفة العلة أن يجمع بين طرق الحديث وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط، ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه . انظر : مقدمة ابن الصلاح ص82 ‘‘.
’’فلو كان مسلم يقصد بيان العلل لسلك هذا المسلك. ولساق طرق حديث ميمونة صحيحها ومعللها في نظره‘‘.(1/94)
’’أما وهو لم يفعل ذلك فلا يجوز القول بما ذهب إليه الأخ الباحث ولوذهبنا إلى قوله لكان مسلم من أعجز الناس عن كشف علل الأحاديث وبيانها وحاشاه من ذلك وكتاب التمييز له أكبر شاهد على مقدرته الفائقة على بيان العلل وكشفها‘‘.
’’وقوله : والأول لا يصح، والثاني محفوظ‘‘.
’’يعني به أن الإسناد الذي فيه ذكر ابن عباس عن ميمونة لا يصح والثاني الذي خلا من ذكر ابن عباس أي عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله ابن معبد عن ميمونة هو المحفوظ‘‘.
’’وهذا كلام غريب ومنطق عجيب‘‘.
’’والذي يظهر لي أن مسلما (رحمه الله) اختار الحديث الذي فيه ذكر ابن عباس لأنه هو الأصح في نظره‘‘.
’’ذلك أنه لا يشك أحد من المحدثين في رواية ابن عباس عن خالته ميمونة، أما رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس فإنه قد يساور المحدث الشك في روايته عن ميمونة (رضي الله عنها)‘‘.
’’وقد أنكر ابن حبان سماعه من ميمونة وكذلك مغلطاي وانظر كلام ابن حبان والبخاري في ترجمته في تهذيب التهذيب (1 / 137)‘‘ انتهى كلام الشيخ
ثم أعاده بمزيد من الشغب والتهويل في كتابه ( منهج مسلم ) ص : 99 – 126. لو كان الأستاذ ملتزما بالمنهج والأدب في الحوار العلمي، دون تهويش وتهويل وشغب لكان متعاونا على بلورة الحق، حتى ولو كان مخطئا.
الردود والتعقيبات
أقول: إني لا أدافع عن خطئي وما بنيت عليه من التعقيب، لكني أناقشه في أسلوبه في الحوار، وسعيه لتصحيح السند الذي وقع مصحفا في نسخة صحيح مسلم، ثم يجعله أساسا لرفض كلام الأئمة النقاد، وأمر الأستاذ غريب والله.
يرى الأستاذ أن حديث ابن عمر صحيح، والذي أورده مسلم من الروايات المختلفة هي متابعات وشواهد، يقوي بعضها بعضا. يعني كلها صحيحة عند الأستاذ، ولا يقبل من النقاد نقدهم فيها، بل ينتهج منهجا جديدا في تصحيح جميع الروايات حتى الشاذة والمصحفة.(1/95)
إن المتابعة والشاهد قد يكون ذكرهما من أجل تقوية الأحاديث، وقد يكون للاحتياط أو للاستئناس، فإذا كان الذي أورده مسلم في صحيحه على غير الاحتجاج به محكوما عليه بالخطأ من قبل أئمة هذا الشأن، ولم يكن هناك دليل واضح على أن الإمام مسلما يخالفهم في ذلك، فحمل صنيعه في ذكر تلك الطرق على بيان العلة أفضل من حمله على تقوية الحديث بالمتابعة والشاهد. لهذا، قلت:
’’إن هذه الطرق لم يذكرها أصولا ولا متابعة، وإنما أوردها لبيان الاختلاف على نافع، وعلى سبيل الاستطراد‘‘.
وبهذا البيان الاستطرادي لا يتحول كتابه الصحيح إلى كتاب للعلل قطعا.
وما ذكرته في أوراقي الأولى إنما هو بناء على ظني أن السند سليم من التصحيف، لكن بعد ثبوت هذا التصحيف فإني أتراجع عن كلامي الأول، ولا أدافع عنه، ومع ذلك فإن أصل المسألة التي تشكل موضوع الحوار لم يتغير بهذا التراجع.
وعلى كل ينبغي في هذه المناسبة أن أشرح ملابسات هذا الموضوع لكونه من أهم النقاط العلمية التي تخبط فيها الشيخ، لبعده عن منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل.
والإمام مسلم إذ أورد حديث ابن عمر في أواخر الباب تطرق لبيان الاختلاف على نافع، وخلاصته: يرويه بعض الثقات عن نافع عن ابن عمر، ويرويه آخرون عنه عن إبراهيم عن ميمونة. وبهذا أصبح الإمام مسلم قد جمع هذه الروايات المختلفة في صحيحه لبيان علتها على وجه الاستطراد، بعد أن اعتمد على حديث أبي هريرة في الموضوع نفسه، وصدر به الباب .
ومن هذه الروايات المختلفة على نافع رواية الليث. وبما أن الأستاذ أثار مشكلة جديدة في حديث الليث عن نافع فإن تحقيق الأمر فيها وتدقيقه أصبح ضروريا الآن. ولذا، أقول: إن خلاصة موقف النقاد تجاه حديث الليث هي:(1/96)
أن الليث إنما روى عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة، أما ابن جريج فقد اختلف عليه على وجهين؛ قال بعضهم عنه عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة، وقال آخر: عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة.
يعني بذلك: هل روى ابن عباس هذا الحديث عن ميمونة أم رواه إبراهيم عنها، وابن عباس ليس له ناقة في هذا الحديث ولا جمل؟!
إذا كانت رواية الليث عن إبراهيم عن ميمونة متفقة في جميع الروايات عنه، لكن نسخ صحيح مسلم لم تكن متفقة على شكل واحد، بل اختلف النساخ فيها؛ ففي بعضها ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، وفي أخرى ذكر عباس ضمن أجداد إبراهيم.
والاختلاف بين النسخ غير الاختلاف بين رواة الحديث.
فما يقع في النسخ من اختلاف فلا صلة له برواة الحديث، فإن المحدث قد روى على وجه معين، ثم جاء بعد ذلك النساخ فاختلفوا فيما رواه ذلك المحدث في كتابه عند نسخهم له. فإذا تبين من خلال القرائن أن الراوي لم يرو إلا من وجه واحد، - وهو المعروف لدى الحفاظ - فالذي وقع في النسخ خلاف ذلك يتعين أن يكون خطأ؛ إما من المؤلف وإما من الناسخ. هذا أمر بدهي يعرفه أهل العلم.
إلا أن الأستاذ جاء هنا ليخلط بين هذين الأمرين، وجعل اختلاف النساخ ملازما لاختلاف رواة الحديث، و في ضوء ذلك جاء كلامه في الحوار.
ولا ينبغي له أن يخلط بينهما؛ فإن لكل منهما ما يقتضيه بطبيعته من القواعد والأساليب.
والإمام مسلم إذ أورد هنا في صحيحه حديث نافع، بعد اعتماد حديث أبي هريرة، أراد أن يشرح ما فيه من العلة؛ فذكر طرفي الاختلاف، وهما:
1 - رواية عبيد الله وموسى الجهني وأيوب عن نافع عن ابن عمر.
2 - ورواية الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد لله بن معبد بن عباس عن ميمونة.(1/97)
يعني: اختلف هؤلاء الثقات على نافع في هذا الحديث؛ هل هو عن ابن عمر، كما قال عبيد الله وموسى الجهني؟! أم عن إبراهيم عن ميمونة كما رواه الليث؟!. وسيأتي هذا الموضوع في المحور الثالث إن شاء الله تعالى .
وبعد ذلك وقع اختلاف جديد بين نسخ صحيح مسلم حول رواية الليث بذكر ابن عباس راويا عن ميمونة. والثابت عن مسلم في صحيحه هو ذكر عباس ضمن أجداد إبراهيم، وليس ابن عباس راويا للحديث عن ميمونة، كما تدل عليه القرائن الآتية.
اللهم إلا إذا أخطأ مسلم فيها، وهذا بعيد جدا في رأيي، لأنه لو كان هو المخطئ لاتفقت النسخ على ذلك، ولجاء الدارقطني ليبين ذلك الخطأ في كتابه (التتبع)، لكن لم يحدث ذلك، وعليه فالإمام مسلم بريئ من هذا الخطأ، وإنما وقع من بعض نساخ صحيح مسلم.
ومن الجدير بالذكر أن الراوي إذا لم يكن مشهورا بين المحدثين اضطر صاحبه إلى تعريفه بذكر اسمه الكامل حتى ينتهي إلى المشهور من آبائه.
شبهات الأستاذ
والأستاذ حين تناول هذا الموضوع الدقيق تخبط فيه؛ فقال: إن الصواب في حديث الليث ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة. يقول الأستاذ(1):
’’حديث ميمونة من طريق قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد عن نافع عن ابراهيم بن عبد لله عن ابن عباس عن ميمونة، ورواية ميمونة خارج صحيح مسلم ليس فيها ابن عباس ، وإنما فيها عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة.
وقد ذكرنا سابقا أنه لا يشك محدث في رواية ابن عباس عن ميمونة . أما إبراهيم بن عبد الله بن معبد فإن ابن حبان قد ذكره في طبقة أتباع التابعين . وقال : قيل إنه سمع من ميمونة وليس ذلك بصحيح عندنا (تهذيب التهذيب 1/137)
__________
(1) - ص : 61 من رده الأول .(1/98)
ويرى مغلطاي أن إبراهيم بن عبد الله لم يسمع من ميمونة، قال : (...ولم يصرح بسماعه منها أحد علمناه من القدماء المعتمدين ، وكذلك ذكره عند ابن سعد في الطبقة الرابعة من المدنيين الذين ليس عندهم إلا عن صغار الصحابة ( الإكمال 1/ق 58).
ولعل مسلما يرى هذا الرأي ، ولذا أخرج الإسناد الذي فيه عن إبراهيم بن عبد الله عن ابن عباس . وهذا الإمام المزي (رحمه الله ) يرجح أن هذا الحديث إنما هو عن ابن عباس عن ميمونة فقال :
’’ومن مسند ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم، إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة : حديث صلاة فيه - تعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة‘‘.
م في الحج عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن ليث عن نافع عنه به، وفيه قصة أن امرأة اشتكت، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس .
س فيه (المناسك 2/124) عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع نحوه. وفي الصلاة عن قتيبة به، ولم يذكر القصة. ورواه موسى الجهني وغيره عن نافع عن ابن عمر، وقد مضى.
وهكذا ذكر أبو القاسم هذا الحديث في هذه الترجمة، وهكذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود، وهكذا ذكر أبو بكر بن منجويه في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد من رجال مسلم أنه يروي عن ميمونة في الحج، وكذلك رواه النسائي عن قتيبة، لم يذكر فيه (عن ابن عباس)، وهو في أول كتاب المساجد من السنن.
وكل ذلك وهم ممن قاله - والله يغفر لنا ولهم- وهو في عامة النسخ من صحيح مسلم: (عن ابن عباس عن ميمونة).
وكذلك وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود في ترجمة (ابن عباس عن ميمونة).(1/99)
وكذلك حديث ابن جريج عند النسائي (الكبرى، المناسك 126) هو في جميع النسخ (عن ابن عباس عن ميمونة). ولفظه: ’’عن ابن جريج سمعت نافعا يقول: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد أن ابن عباس حدثه أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‘‘. وهذا لفظ صريح في أن الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، لا عن إبراهيم عن ميمونة والله أعلم اهـ. (تحفة الأشراف 12/484 – 486)
وبما يفهم من تصرف الإمام مسلم وبموقف ابن حبان ومغلطاي من رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة وبموقف المزي والنووي يتضح ولله الحمد أنني لست وحدي فيما ذهبت إليه ولا أستبعد أن يكون أكثر المحدثين بعد مسلم والذين تلقوا كتابه بالقبول والإجلال أو كلهم سوى النسائي والدارقطني وعياض على اعتقاد ثبوت هذين الحديثين من الطرق التي أخرجها مسلم.
وبهذا يكون روع هذا الباحث ويذهب عنه ما كان يجده من إثبات هذين الحديثين ويظهر له قوة الأدلة التي أوردتها على إثباتهما ودعم طرقهما. ويظهر له ضعف حجج أو شبهات من أعلها،و أن قوله ’’وليس فيه استحالة صحة رواية عبيد الله بل يحتمل صحته‘‘ لا يجدي عنه فتيلا فإن المتكلمين المبتدعين الذين قلدهم في مثل هذا التعبير لا يرون استحالة الكذب في كل ما يثبت عن رسول الله مما لم يتواتر ولو كان في الصحيحين لأنها عندهم أخبار آحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وما كان كذلك يحتمل الكذب، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يظنون، وهم سفسطوا وتفلسفوا لإقناع الرعاع بهذيانهم المخبول فإن أنصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبابه حقا لا ادعاء لا ينظرون إلى هذا الهذيان وما شاكله من أنواع الضلال إلا بعين الاحتقار والازدراء ويرون أن كل حديث جاء عن طريق الثقات العدول بشروطه المعروفة عند المحدثين يفيد العلم والعمل ويؤمنون به في باب الاعتقاد ويطبقون في مجال العمل وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل.(1/100)
وأقول ثانيا للباحث هل علمت أن من أسباب اختياري لموضوع رسالتي ’’بين الإمامين مسلم والدارقطني‘‘ ومن البواعث القوية للنهوض به هو ما يشنه خصوم الإسلام – في هذا العصر – من هجوم عنيف غاشم على الإسلام مستهدفين هدم بنيانه وتقويض أركانه بتسديد ضرباتهم الأثيمة تارة إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وتارة إلى السنة المطهرة التي هي تفسير وإيضاح لمرامي القرآن وأهدافه وتقييد لإطلاقه وبيان لمجملاته ..‘‘ انتهى كلام الأستاذ(1).
الردود والتعقيبات
يبدو أن الأستاذ لم يكن قادرا على الصبر والتحكم في نفسه أثناء الحوار، وحين بدأ الحوار أخذ ينفعل حتى غاب عنه عقله، وإلا بماذا يفسر هذا الصراخ والعويل والشغب وإطلاق الدعاوى! وكيف يتحول من موضوع إلى موضوع، وما علاقة خبر الآحاد هنا، ونحن بصدد تحقيق رواية الليث. واستغربت منه حين اتهمني بأني قلدت أهل الكلام والمبتدعين فيما يخص خبر الآحاد. وهل يتهم الأستاذ كل من عبر بمثل ذلك التعبير بأنهم مقلدون لأهل الكلام والمبتدعين؟! إذن فالحافظ ابن حجر وقبله العلائي وغيرهما من السابقين واللاحقين قد صدر عنهم ما يدل على أن الناقد إذا قال: إنه صحيح أو ضعيف أو معلول أو لا يصح، لا يعني استحالة خلاف ذلك، وإنما هو على الظن الغالب.(2)
__________
(1) - ص: 65 من الرد الأول
(2) - يقول الحافظ ابن حجر: ’’ إن مدار الأمر عند المحققين إنما هو البناء على ما يغلب على الظن والاحتمال البعيد لا يعول عليه عندهم‘‘ اهـ.
ويقول أيضا: ’’تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ‘‘.اهـ (فتح الباري 1/585)
ويقول أيضا: ’’والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة‘‘.اهـ (النكت 2/688)
ويقول ابن الصلاح: ’’ومتى قالوا : هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة ، وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول‘‘.( المقدمة ص: 13 – 14)
ويقول أيضا: ’’ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه’‘ ( المقدمة ص: 90)
ويقول العلائي : ’’وأما على التفصيل الذي ذكره الإمام الشافعي رحمه الله فمأخذه أن مدار قبول خبر الواحد على ظهور الثقة في الظن الغالب‘‘ . ( جامع التحصيل ص: 86)(1/101)
لندع هذه الأساليب الجاهلية، ونحن في الحوار العلمي المفيد الذي يجب علينا أن نتأدب به تواضعا لله تعالى، من أجل تمييز الحق من الباطل، ونكون جميعا مأجورين في ذلك؛ سواء أخطأت أنا أم كان هو من المخطئين الواهمين، فإن كُلا منا يكون سببا لظهور الحق أمام القراء، لكن يكون ذلك حسب النية والاجتهاد.
وأما إذا ظهر التلفيق والتلبيس والتوهيم والشغب وتجاوز الحدود في إطلاق الدعاوى من أحد أطراف الحوار ضد الطرف الثاني وحاول أن يوهم القراء أنه منحرف وصاحب أفكار باطلة، مزينا لجانبه ومزكيا لنفسه، فإنه يكون قد ضيع بهذا التصرف الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، وإن كان مخطئا فالأمر أخطر لأنه سعى لإخفاء الحق وإظهار الباطل.
وعلى كل ففيما يأتي توضيح المسألة التي نحن بصددها بشيء من التفصيل:
إن الذي وقع في نسخة صحيح مسلم التي نتداولها هو:
’’...عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة ..‘‘
وهو تصحيف واضح، وإن كان رأي الإمام المزي في تحفة الأشراف غير ذلك، إذ لا يرى ذلك تصحيفا. واعتمده الأستاذ ليقول جازما: إن الليث روى هذا الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة.
وهذه غفلة شديدة من الأستاذ إذ جعل المسألة متصلة باختلاف الرواة على الليث، وليس الأمر كذلك، بل هي من اختلاف النساخ على ما وقع في صحيح مسلم، وأما الليث فقد روى الحديث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، بدون ابن عباس شيخا لإبراهيم. وهذا التصحيف أدى إلى غلط كبير، وهو إدراج عبد الله بن عباس في رواية هذا الحديث، وليس له صلة برواية هذا الحديث. وحسب الرواية الصحيحة يكون الذي ورد ذكره في السند هو جد إبراهيم: معبد بن عباس وهو غير ابن عباس المشهور، كما ستتجلى دقة النقاد في فهم ما يتصل بالأسانيد ونقدها، من الفقرات الآتية.
رأي الحافظ المزي حول هذا الإسناد في صحيح مسلم وغيره من الكتب(1/102)
أولا: أنقل ما قاله الحافظ المزي (رحمه الله) في تحفة الأشراف 12/484 – 486، وهذا نصه كاملا:
’’ ومن مسند ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة : حديث صلاة فيه - تعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة‘‘.
م في الحج عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن ليث عن نافع عنه به قصة أن امرأة اشتكت، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس .
س فيه ( المناسك 2/124 ) عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع نحوه. وفي الصلاة عن قتيبة به ، ولم يذكر القصة ، ورواه موسى الجهني وغيره عن نافع عن ابن عمر، وقد مضى.
وهكذا ذكر أبو القاسم هذا الحديث في هذه الترجمة، وهكذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود، وهكذا ذكر أبو بكر بن منجويه في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد من رجال مسلم أنه يروي عن ميمونة في الحج، وكذلك رواه النسائي عن قتيبة، لم يذكر فيه (عن ابن عباس)، وهو في أول كتاب المساجد من السنن.
وكل ذلك وهم ممن قاله - والله يغفر لنا ولهم- وهو في عامة النسخ من صحيح مسلم: (عن ابن عباس عن ميمونة)، وكذلك وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود في ترجمة (ابن عباس عن ميمونة). وكذلك حديث ابن جريج عند النسائي ( الكبرى، المناسك 126 ) هو في جميع النسخ (عن ابن عباس عن ميمونة).
ولفظه: ’’عن ابن جريج سمعت نافعا يقول : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن معبد أن ابن عباس حدثه أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‘‘. وهذا لفظ صريح في أن الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، لا عن إبراهيم عن ميمونة والله أعلم اهـ.
تعقيب الحافظ ابن حجر على قول المزي
وتعقبه الحافظ ابن حجر (رحمه الله) بقوله :(1/103)
’’رويناه في جزء أبي الجهم عن الليث، ليس فيه ابن عباس(1)، وكذا أخرجه أحمد عن علي بن إسحاق عن ابن مبارك عن ابن جريج، وكذا أخرجه الطحاوي من رواية أبي عاصم عن ابن جريج، ومن رواية ابن وهب عن الليث، ليس في شيء منها ابن عباس‘‘ اهـ(2).
أقول: تعقب الحافظ في محله، لأنه استدرك على المزي بالروايات التي ليس فيها ابن عباس، وهذا يعني أن ترجيحه لذكر ابن عباس في حديث الليث بناء على ما أورده من الروايات فيه نظر.
تساءل الأستاذ في كتابه ( منهج مسلم ص: 110) :
’’ ماذا يريد الحافظ بتعقبه ؟! هل يريد أن ذكر ابن عباس في صحيح مسلم من رواية الليث لا وجود له أو لا يثبت ؟!؟!
كلا ثم كلا ، وإنما يريد الاستدراك والتنكيت على المزي بأنه فاته ذكر بعض الروايات.
ثم على منهج المليباري كيف تعتمد على هذه الروايات التي نقلها الحافظ من جزء أبي الجهم ومن كتاب الطحاوي؟! كيف تسلم بها؟! وكيف تعتمد على ما في تاريخ البخاري؟! كيف تعتمد على هذه المصادر وغيرها وهي لم تحظ بواحد من ألف مما أحيط به (صحيح مسلم) في مشارق الأرض ومغاربها وعلى امتداد الأجيال والتاريخ منذ صنف إلى يومنا هذا، وتدعي أن ذكر ابن عباس لا وجود له في صحيح مسلم من رواية الليث لهذا الحديث وقد أحيط من العناية العظيمة بما هو معلوم لدى أولي النهى .
وقد ساق لك المزي الأدلة على أنه موجود في عامة نسخ مسلم مع أدلته الأخرى ، وما مثل مذهبك هذا إلا كمذهب الشيعة الذين يدعون التحريف في القرآن.
وإذا سلم بمذهبك هذا فإنه لا تبقى للمسلمين ثقة في مسلم ولا في غيره‘‘ .انتهى تعقيب الأستاذ.
__________
(1) - جزء أبي الجهم ، ص: 46، تحقيق د . عبد الرحيم القشقري ، (مكتبة الرشد ، سنة 1420هـ الرياض).
(2) - النكت الظراف 12/484.(1/104)
أقول: إن الناظر في تعقيب الحافظ ابن حجر يفهم جيدا أنه يريد الاستدراك على الحافظ المزي بما فاته من الروايات التي ليس فيها ابن عباس. وبالتالي يكون فيه استدراك على إطلاق الاستدلال بحديث ابن جريج بحيث يوهم أن حديثه متفق على ذكر ابن عباس، وتبين مما أورده الحافظ أن الأمر ليس كذلك. بل هو أيضا مختلف فيه. وبالتالي لا يستقيم الاستدلال بما فيه خلاف. وكان على المزي أن يذكر ذلك. وليس هذا مجرد تعقيب بما فاته من الروايات.
ثم إن الأستاذ يتهمني بتقديم تلك الكتب على صحيح مسلم، وأن ما أقوله مثل ما يدعيه الشيعة بوجود تحريف في القرآن الذي يتداوله أهل السنة والجماعة.
أليس هذا من ذر الرماد في عيون القراء؟!
وسترى - إن شاء الله تعالى - من خلال الحوار أنني أدافع عن صحيح مسلم وأذب عنه أوهام النساخ، بناء على ما يملكه الأئمة الحفاظ من النسخ ؛ مثل أبي القاسم وابن منجويه والدارقطني والحافظ ابن حجر والقاضي عياض، وبناء على أمرين ؛ وهما:
أ - نصوص الأئمة النقاد.
ب - اتفاق الرواة: عبد الله بن صالح وقتيبة وابن رمح وابن وهب وأبي جهم وغيرهم من أصحاب الليث .
وليس في كلامي ما يدل على تفضيل ما في كتب العلل والتاريخ وغيرها على صحيح مسلم. وإنما يدل فقط على وقوع تصحيف في سند حديث ميمونة من نسخة صحيح مسلم المطبوعة، مدعوما بالأدلة والبراهين، ومن أهم هذه الأدلة أنه صح في تلك الكتب عن أصحابها عدم ذكر ابن عباس في ذلك السند.
مناقشة المزي في أدلته
وعلى كل فقد أقر الحافظ المزي من خلال تناوله هذا الموضوع بأن النسخ من صحيح مسلم مختلفة في ذكر ابن عباس، وأن أبا القاسم وأبا بكر بن منجويه كانا قد اعتمدا على النسخة التي ليس فيها ذكر ابن عباس، وكذلك في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود – وهو أطراف صحيح مسلم –.
ويمكن أن نضيف إلى هذه النسخ التي يملكها الأئمة نسختي الإمام الدارقطني والحافظ ابن حجر من صحيح مسلم.(1/105)
أما الدارقطني فقد اعتمد في تتبعه على نسخته التي خلت من ابن عباس، ويدل على ذلك قوله: ’’ وخالفه ابن جريج وليث روياه عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة‘‘. ولو كان ذكر ابن عباس ثابتا في نسخته لذكره في جملة الأحاديث المعللة، باعتبار ذلك خطأ من مسلم أو من بعض رواة الليث، لا سيما أن الدارقطني أطلق القول فيما يخص حديث صحيح مسلم بأن الليث رواه عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة.
وأما الحافظ ابن حجر فقد عزى الرواية التي ليس فيها ابن عباس إلى مسلم(1)، وهذا يعني خلو نسخته من صحيح مسلم عن ابن عباس.
وعلى كل فإن الحافظ المزي قد اجتهد في هذه القضية فذهب إلى ترجيح ذكر ابن عباس في صحيح مسلم، ووَهَّم النسخ التي سقط منها ذكره، سواء كان في رواية الليث أو ابن جريج، سواء كان في صحيح مسلم أو في سنن النسائي، سواء كان ذلك من ابن عساكر أو أبي بكر بن منجويه أو أبي مسعود الدمشقي - بالنسبة إلى بعض النسخ من أطرافه -. وإن كان هذا رأيه الذي جزم بصوابه، لكن الواقع خلاف ذلك.(2)
__________
(1) - الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية ص: 133 - 139
(2) - كنت قد راجعت ميكرو فيلم لنسخة أطراف ابن عساكر في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، وكذلك ميكرو فيلم لأطراف أبي مسعود الدمشقي، (ورقمهما 192 حديث 140/ب)، ووجدت فيهما ’’إبراهيم عن ميمونة‘‘ دون ذكر ابن عباس.
كما راجعت جامع المسانيد – ميكرو فيلم – في جامعة أم القرى تحت رقم 962 ، 6/95/ب، ويقول فيه الحافظ ابن كثير: بعد أن ذكر رواية حجاج:
’’...حدثنا ليث به – يعني بدون ذكر ابن عباس راويا – وكذا رواه مسلم والنسائي عن قتيبة - زاد مسلم: ’’ومحمد بن رمح‘‘ - عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة‘‘.
ثم قال: ’’حدثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول ثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد أن ابن عباس حدث أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : الحديث‘‘.
وقال الحافظ ابن كثير: ’’وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم وحمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، قال شيخنا – وهو المزي – وهو الصواب كما سيأتي‘‘.
ثم قال في ص 99/1 : ’’حديث آخر رواه النسائي من حديث إبراهيم ابن عبد الله بن معبد بن عباس عن ابن عباس عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي الخ وتقدم عن إبراهيم عنها من غير ذكر ابن عباس، والله أعلم‘‘.
رأينا الحافظ ابن كثير قد ترك هذه القضية من دون أن يحققها، بل وجدناه يقتصر على نقل ذلك عن شيخه المزي (رحمهما الله ).(1/106)
أما الأدلة التي استند إليها الحافظ المزي (رحمه الله تعالى) لترجيح النسخة التي فيها ذكر ابن عباس فهي:
1 - اتفاق عامة النسخ من صحيح مسلم على ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة في حديث الليث.
2 - ورود الحديث في كتاب الأطراف لخلف في ترجمة (ابن عباس عن ميمونة) يعني أن الحديث لابن عباس عن ميمونة.
3 – كذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود الدمشقي.
4 – جاء في رواية ابن جريج أن ابن عباس حدث إبراهيم.
قلت: اتفاق عامة النسخ من صحيح مسلم على ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، بالإضافة إلى الأمور التي ذكرها، كل ذلك دليل على صحته، لكن فقط إذا لم تقم قرائن قوية على أن الواقع خلاف ذلك، أما هنا فقد توافرت قرائن تدل على أن الليث لم يذكر في حديثه ابن عباس راويا أصلا، وما وقع في أكثر النسخ من صحيح مسلم - حسبما صرح به الإمام المزي - لم يكن إلا خطأ من نُسّاخها، ولا يمكن أن يكون ذلك من الإمام مسلم.
مع أن اتفاق عامة النسخ على إثبات شيء فيها ليس بدليل دائما على أنه هو الحق، إذ تتفق النسخ أحيانا على الخطأ، والتصحيف، ويعرف ذلك من خلال معرفة الواقع. وهذه بعض النماذج لذلك.
وقع في صحيح مسلم حديث: ’’نجيء نحن يوم القيامة عن كذا عن كذا ‘‘، وهذا تصحيف اتفق عليه الشراح. يقول النووي: هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف وتغيير واختلاط في اللفظ، قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين:
’’هذا الذي وقع في كتاب مسلم تخليط من أحد الناسخين‘‘ .
قال القاضي : هذه صورة الحديث في جميع النسخ ، وفيه تغيير كثير وتصحيف ، قال: وصوابه: ’’ نجيء يوم القيامة على كوم‘‘. هكذا رواه بعض أهل الحديث، وفي كتاب ابن أبي خيثمة من طريق كعب بن مالك:
’’يحشر الناس يوم القيامة على تل وأمتي على تل‘‘.
وذكر الطبري في التفسير من حديث ابن عمر:(1/107)
’’ فيرقى هو (يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم) وأمته على كوم فوق الناس‘‘.
وذكر من حديث كعب بن مالك:
’’يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل‘‘.
قال القاضي: فهذا كله يبين ما تغير من الحديث وأنه كان أظلم هذا الحرف على الراوي أو امحى فعبر عنه بكذا وكذا، وفسره بقوله أى فوق الناس. وكتب عليه ’’انظر‘‘ تنبيها، فجمع النقلة الكل، ونسقوه على أنه من متن الحديث كما تراه. هذا كلام القاضي، وقد تابعه عليه جماعة من المتأخرين والله أعلم.
وهذا أنموذج آخر، ينقل الحافظ ابن حجر عن البلقيني قوله :
وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه ، وذلك أن لفظه :
(وقال مجاهد: شرع لكم ، أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا )
والصواب: ’’(أوصيناك يا محمد وأنبياءه) كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم ، وبه يستقيم الكلام ، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة ‘‘(1).
وإن كان الحافظ قد اعترض على البلقيني بأن التصحيف غير متعين(2)، لكنه لم ينكر ذلك عليه ، وإنما قال غير متعين، كما أنه لم يطعن فيه لمخالفته جميع النسخ، ولا بأنه قد قدم على صحيح مسلم غيره من الكتب. فشتان بين الأسلوبين.
وعلى كل، فإن وجه الاستدلال بهذا المثال هو أن البلقيني يرى كلمة (وإياه) تصحيفا في ضوء القرائن التي شرحها، مع أن جميع الروايات لأصل الصحيح متفقة على كلمة (وإياه)(3)
وهاك مثالا آخر من صحيح مسلم:
__________
(1) - فتح الباري 1/48
(2) - هذا كلام العلماء يسر القارئ بأدبهم واحترامهم وتواضعهم مع من ينتقدهم.
(3) - على مذهب الأستاذ يكون عمل البلقيني والقاضي مثل مذهب الشيعة في إدعائهم الكذب بوجود تحريف في القرآن ؟!!(1/108)
وقع في صحيح مسلم(1)حديث هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مراوح الليثي عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله ! أي الأعمال أفضل .. الحديث ، وفيه (تعين صانعا)، وهذا تصحيف، والصواب عن هشام: (تعين ضائعا).
يقول الإمام ابن الصلاح:
’’ قوله في رواية هشام ( تعين صانعا) هو بالمهملة والنون في أصل الحافظ أبي عامر العبدري وأبي القاسم بن عساكر، قال: وهذا هو الصحيح في نفس الأمر، ولكنه ليس رواية هشام بن عروة، إنما روايته بالمعجمة، وكذا جاء مقيدا من غير هذا الوجه في كتاب مسلم في رواية هشام.
وقال: وذكر القاضي عياض أنه بالمعجمة في رواية الزهري(2)لرواة كتاب مسلم إلا رواية أبي الفتح السمرقندي، قال الشيخ : وليس الأمر على ما حكاه في رواية أصولنا لكتاب مسلم فكلها مقيدة في رواية الزهري بالمهملة. والله أعلم‘‘ اهـ. يعني ( الصانع)
هذا وقد جاء حديث هشام هذا في صحيح البخاري بلفظ (وتعين ضايعا)، ويقول الحافظ ابن حجر: ’’ (هو) بالضاد وبعد الألف تحتانية، لجميع الرواة في البخاري كما جزم به عياض وغيره، وكذا في مسلم، إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض ، وجزم الدارقطني وغيره بأن هشاما رواه هكذا دون من رواه عن أبيه ...‘‘
وقال: ’’ وإذا تقرر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه روى بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه ...‘‘(3)
خلاصة الكلام أن رواية هشام بن عروة إنما هي: ( وتعين ضايعا) ومن قال في حديثه ( وتعين صانعا ) فقد صحف، ولا اعتبار باتفاق معظم رواة الكتاب على خلاف الواقع في حديث هشام، إذ ليس اتفاقهم دليلا على صواب ما اتفقوا عليه إذا علم من خلال الأدلة أن الواقع بخلافه.(4)
__________
(1) - كتاب الإيمان ، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/112 (شرح النووي)
(2) - يعني ( وتعين ضايعا)
(3) - فتح الباري 5/149
(4) - انظر تفصيل ذلك في كلام الشراح في هذا الصدد.(1/109)
إذن اتفاق النسخ لا يكون دليلا قاطعا على صحة ذلك الشيء المتفق عليه وثبوته عن صاحب الكتاب إذا كانت القرائن قائمة على خلاف ذلك في الواقع. ومثل هذه الأمور لا تخفى على من يشتغل بالمخطوطات وتحقيقها تحقيقا علميا.
ولا مجال للأستاذ لأن يشاغب بالباطل، ثم يوجه التهم نحو خصمه حتى يلزمه بقبول قوله، وتقديمه على قول الأئمة النقاد.(1)
__________
(1) - انظر إلى الشيخ كيف يعقب على هذه النقطة، يقول:
’’فيها مكابرة لم يسبق إلى مثلها ، فعامة نسخ مسلم تطابقت على ذكر ابن عباس يتداولها أئمة الحديث جيلا عن جيل في مشارق الأرض ومغاربها من أقصى خراسان إلى أقصى الأندلس والشام ومصر والحجاز واليمن وغيرها من البلدان وتؤيدها أطراف خلف وأكثر نسخ أطراف أبي مسعود ومع كل هذا لا يعتمد عليها في قضية من القضايا في نظر هذا الرجل بل يجزم بعدم وجودها . أظن أن أكبر سوفسطائي لا يصل إلى هذا الحد من المكابرة .
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ما هو الدليل على أنه لا يعتمد على ما يذكر في عامة نسخ (صحيح مسلم ) مهما كثرت ومهما أيدها من المؤيدات ، ومهما حفت بها من قرائن تدل على ثبوت ما فيها؟!!
الجواب لدى المليباري :
هو أن البخاري لم يذكر الاختلاف على الليث بين أصحابه في إثبات ابن عباس راويا عن ميمونة ، لأنه ذكر الاختلاف على ابن جريج ولم يذكر الاختلاف على الليث.
فمجرد سكوته عن شيء دليل قاطع على بطلان ذكر ذلك في صحيح مسلم ، ولو اتفقت عليه مئات النسخ تحرسها عناية الله ثم عناية الأمة بها ، ولو أيدته كتب أخرى وحتى لو روى الطحاوي وابن أبي شيبة هذا الحديث وفيه ذكر ابن عباس عن ميمونة ، فلا تقبل هذه الشهادة.
بل ولو روت كل كتب السنة والتاريخ شيئا سكت عنه البخاري في كتابه (التاريخ) فلا يصدق ولا يقبل، ولا يجوز لأحد أن يصدق بوجوده . انتهى كلامه
وقال في كتابه منهج مسلم ص: (109) :
انظر إلى هذه المكابرة ، دواوين الإسلام المعتبرة أثبتت أن هناك اختلافا بين أصحاب الليث وأنهم طائفتان في رواية حديث ميمونة :
فطائفة تروي عن الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة ، وهم
1 - عبد الله بن صالح كما في (تاريخ البخاري)
2 – وحجاج بن محمد كما في (مسند أحمد)
3 – وقتيبة في رواية عنه كما في ( سنن النسائي)
وطائفة ثانية تروي الحديث عن الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة وهم :
1 – قتيبة وروايته في (صحيح مسلم)
2 – ومحمد بن رمح كما في (صحيح مسلم)
3 – وعبد الله بن وهب كما في ( مشكل الآثار)
4 – وشبابة بن سوار كما في ( مصنف بن أبي شيبة)
وإذا وصلت المكابرة التي تدعي التحقيق العلمي إلى هذا الحد فقل سلام الله على التراث الإسلامي إن تصدى لدراسته وتحقيقه مثل هذه النوعية الغريبة من العقول البشرية .
وردد معي قول الشاعر:
وليس يصبح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ‘‘
انتهى كلامه.
أقول : هكذا يحاور الأستاذ مخالفه، وليس في جعبته إلا التهويل والتهويش وإطلاق الدعاوى الفارغة وغمط المحاور وبطر الحق.
ولماذا هذا الصراخ والتهويل والشغب بأن عامة النسخ فيها ذكر ابن عباس، وأنها يتداولها الأئمة في مشارق الأرض ومغاربها من أقصى خراسان إلى أقصى الأندلس والشام ومصر والحجاز واليمن وغيرها ؟!!، كأن الأستاذ طاف البلدان كلها وتتبع النسخ في مكتباتها حتى يجزم بأن دواوين الإسلام المعتبرة أثبتت أن هناك اختلافا بين أصحاب الليث!!
والغريب أن الأستاذ يتجاهل ما أثبتناه فيما مضى من أن الإمام الدارقطني والقاضي عياض وأبا مسعود الدمشقي وأبا بكر بن منجويه، وأبا القاسم والحافظ ابن كثير ( انظر جامع المسانيد ) والحافظ ابن حجر و غيرهم من الأئمة تداولوا نسخا من صحيح مسلم وليس فيها ذكر ( ابن عباس )، كما أن البخاري والنسائي والدارقطني وابن أبي حاتم وابن حبان ومغلطاي والقاضي عياض كلهم يرون أن إبراهيم إنما روى عن ميمونة ، وليس عن ابن عباس.
ولم يكتف الإستاذ بهذا التجاهل والتناسي، بل اتهمني بأني أجعل مجرد سكوت البخاري دليلا قاطعا على بطلان ذكر ابن عباس، بينما هو يتناسى أنه يجعل مجرد سكوت البخاري دليلا على جهله عما سكت عنه. وسيأتي إن شاء الله النقاش حول نقطة سكوت البخاري وما يدل عليه من الدلالات والمرامي.
وما فائدة اتفاق النسخ على ذكر شيء إذا كان الواقع بخلافه ؟!! وقد رأيت آنفا بعض الأمثلة في ذلك.
أما الإجابة عن شبهات الأستاذ فتظهر من الأدلة والقرائن التي ذكرتها في الصفحات التالية، وليقرأها الأستاذ بهدوء ، ثم لينطق بعلم أو يسكت بحلم.(1/110)
وإليك القرائن والأدلة التي تدل على أن الواقع هو خلاف ما رجحه الحافظ المزي ( رحمه الله):
الدليل الأول: أن الإمام البخاري أورد في التاريخ الكبير(1)حديث الليث بدون ذكر ابن عباس، ولم يبين فيه الاختلاف بين أصحابه، بينما ذكر الاختلاف فيه على ابن جريج بإيراد روايتين متعارضتين عنه.
وهذا يعني أن رواية الليث خالية من ابن عباس عند الإمام البخاري. ولو يعلم أنه قد اختلف على الليث كما اختلف على ابن جريج ما أجاز لنفسه أن يفرق بينهما في شرح ذلك الاختلاف، وهو بصدد بيان العلة في الروايات التي توهم أن إبراهيم إنما روى عن ابن عباس وليس عن ميمونة. وبالتالي لا يعقل أن يأتي البخاري برواية واحدة عن الليث موهما اتفاق أصحابه عليه، أو أن يأتي برواية عبد الله بن صالح دون أن يعرف ملابساتها من حيث الاتفاق والاختلاف والتفرد.
__________
(1) - هذا نص البخاري في التاريخ الكبير(1/302):
’’إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب أخو عباس الهاشمي عن أبيه وميمونة سمع منه سليمان بن سحيم المدني وسمع منه ابن جريج .
? ... وقال لنا عبد الله بن صالح حدثني الليث قال حدثني نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه الا مسجد الكعبة .
? ... وقال لنا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن معبد عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم
? ... وقال لنا المكي عن ابن جريج سمع نافعا أن إبراهيم بن عبد الله بن معبد حدثه أن ابن عباس حدثه عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ولا يصح فيه ابن عباس.
? ... وقال لنا مسدد عن بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
? ... وقال لنا مسدد عن يحيىعن موسى الجهني سمع نافعا سمع عبد الله بن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
والأول أصح‘‘(1/111)
فذِكرُ الإمام البخاري حديث الليث في التاريخ الكبير من طريق واحد يعد دليلا على أن الليث بن سعد لم يختلف عليه رواته حسب علمه، وذلك لأنه (رحمه الله) بصدد تحقيق الأمر في رواية إبراهيم عن ميمونة مباشرة، من خلال عرضه لما يؤيده من الروايات الثابتة، مع تضعيفه الرواية المعارضة. ولو كان هناك خلاف في حديث الليث حول ذكر ابن عباس لذكره. وهذا يعني أن الإمام البخاري لم يقف على الاختلاف بين أصحابه.
وما علمه البخاري حجة على ما توهمه الأستاذ، ولا يُردُّ قولُه بما صحفه بعض النساخ في صحيح مسلم، حتى ولو اشتهر ذلك التصحيف بين الناس، ولا ينبغي أن يدرج فيه ما ليس منه ولو حرفا.
وإن كان هذا صنيع البخاري فيما يخص رواية الليث فإنه قد وافقه غير واحد من الأئمة في ذلك، كالنسائي والدارقطني حين قالا:
’’روى الليث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘، يعني حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي.
مع أنهم ذكروا الاختلاف على ابن جريج في ذلك. وهذا الاتفاق بين الأئمة النقاد على إطلاق رواية الليث بدون ابن عباس يعني أن الليث رواه بدون ابن عباس. وهذا يرجح صحة النسخ من صحيح مسلم التي خلت من ابن عباس، بل يفيدنا ذلك الاتفاق الجزم بأن ذكره في رواية الليث تصحيف من النساخ، سواء كان في نسخة صحيح مسلم أو غيره من الكتب.
ولا ينفع هنا الصراخ والتهويل والشغب بأن أكثر النسخ ذكرت ابن عباس، وأنها متداولة بين العلماء جيلا بعد جيل في مشارق الأرض ومغاربها وأني أجعل مجرد سكوت البخاري دليلا قاطعا على بطلان ما في صحيح مسلم!!.(1/112)
أما الأستاذ فيتناسى تماما أنه يجعل مجرد سكوت البخاري دليلا قاطعا على جهله بما سكت عنه؛ إذ استدل بذلك على أن البخاري لا يعلم حديث الليث إلا من طريق واحد، وهو ما ذكره في التاريخ الكبير، بمجرد كونه لم يذكر في التاريخ طريقا غيره، فهذا قياس خيالي لا يعتمده إلا الفلاسفة؛ إذ من المعروف في تاريخ المحدثين عموما، وخاصة النقاد، أنهم لا يكتفون بسماع الحديث من راو واحد، لا سيما إذا كان مصدره مشهورا مثل الليث، بل يبحثون عنه في مصادر أخرى، وإذا لم يجدوه بعد البحث إلا من وجه واحد، أو لا يعلمون غيره، حكموا بغرابته، أو يقولون: لا نعلمه إلا من هذا الوجه.
ومن أجل لقاء الشيوخ وتلقي الأحاديث من مصادرها المختلفة برزت عناية المحدثين بالرحلة إلى المدن والقرى. وفي إطار ذلك رحل الإمام البخاري إلى مصر بلد الليث مرتين، ولقي فيها من لقي من الرواة، وسمع منهم أحاديث، ثم إن علاقة خاصة كانت تربطه بقتيبة(1)، وقد صاحبه البخاري كثيرا في الحضر والسفر، حتى إنه قدم معه الكوفة والبصرة مرات لا تحصى.
وعلى هذا فإنه من المستبعد جدا أن يقال إنه فات الإمام البخاري حديث الليث من رواية قتيبة وابن رمح، بمجرد أن الإمام البخاري لم يذكرها في تاريخه الكبير، وبناء على ما وقع في صحيح مسلم من التصحيف.
ومن المعلوم أن التاريخ الكبير ليس من كتب العلل المطولة حتى يسرد البخاري فيه جميع الروايات المتفقة والمختلفة، ولم يلتزم بذلك. وهذا ابن أبي حاتم في علله لم يكن من عادته إلا ذكر بعض أطراف الاختلاف. وهم يخاطبون من يفهمهم من أهل العلم والبصيرة .
__________
(1) - قتيبة هذا أحد رواة هذا الحديث عن الليث عند الإمام مسلم والنسائي الذي أطلق بقوله ’’رواه الليث بدون ابن عباس‘‘ .(1/113)
ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأئمة النقاد يكون من عادتهم أيضا عند بيان العلة أن يشرحوا وجه الاختلاف، بذكر وجه واحد من كل الطرق، وأنهم لا يسردون الروايات إذا كانت متفقة، بل يقتصرون على رواية واحدة منها؛ فإن الغرض من ذلك بيان وجوه الاختلاف بذكر بعضها دون ذكر جميع الروايات.
لذا، ينبغي أن نقول إن البخاري قد سمع حديث الليث من أصحابه، وليس قتيبة وابن رمح فقط. فلما وجد (رحمه الله ) رواياتهم عن الليث متفقة على إسقاط ابن عباس، اكتفى برواية عبد الله بن صالح لكونه صاحب كتاب، كعادة البخاري في التاريخ. ولو كان يعلم الاختلاف بين أصحاب الليث لذكر روايتين مختلفتين عنه على أقل الأحوال، كما عمل في حديث ابن جريج، مع أن مناسبة الحديث تقتضي منه ذكر ذلك الاختلاف على الليث لو كان فيه، تحقيقا للمسألة التي طرحها في مستهل الترجمة، وهي: هل روى إبراهيم عن ميمونة ، أم عن ابن عباس.
الدليل الثاني: قال النسائي: ’’رواه الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة ولم يذكر (ابن عباس)‘‘.(1)
وبهذا وافق البخاريَّ في رأيه. ولو يعلم الإمام النسائي أن الرواة قد اختلفوا على الليث ما أجاز لنفسه أن يطلق بقوله: ’’رواه الليث‘‘. فمعنى ذلك أن جميع الرواة الذين رووه عن الليث متفقون على عدم ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، طبعا حسب علمه.
أما أن يقال إن النسائي لا يعلم إلا ما رواه عن قتيبة، فمنطق العوام الذين يعتمدون على الاحتمالات العقلية المجردة التي كثيرا ما يعول عليها الأستاذ في دراسته(2).
ومن الجدير بالذكر أن النسائي قد روى في كتاب المساجد، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 2/33 عن قتيبة عن الليث، بدون ابن عباس، واتفقت عليه النسخ من السنن، كما يظهر ذلك مما قاله الحافظ المزي (رحمه الله تعالى).
__________
(1) - سنن النسائي (الكبرى) 2/390
(2) - انظر في النقطة الرابعة ، والقسم الثاني من الكتاب.(1/114)
والحديث الذي أورده مسلم كان عن قتيبة نفسه، وهذا يجعلنا نجزم أن رواية قتيبة عن الليث في صحيح مسلم إنما هي بغير ذكر ابن عباس. والنسائي أولى بالقبول من المزي، والثاني عالة على الأول.(1)
وهنا نلاحظ أن البخاري ذكر رواية عبد الله بن صالح، والنسائي ذكر رواية قتيبة كلاهما عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة. ولو فرضنا جدلا أن كلا منهما لا يعرف سوى ما ذكره في كتابه، لكننا نستطيع بدورنا أن نضم علم هذا مع علم ذاك لتتجلى دقة كل منهما في الآراء. وبالتالي يتلخص أن عبد الله بن صالح وقتيبة بن سعيد رويا عن الليث دون ذكر ابن عباس، بل أكد النسائي بقوله ’’ رواه الليث بدون ابن عباس‘‘.
هل يكون من المعقول أن يرد قول الأئمة الواضح والصريح، بما وقع في صحيح مسلم تصحيفا؟! ثم نعطي لما وقع فيه التصحيف مكانة الكتاب ذاته؟!
وما سبق من الحيثيات تكفي لأهل العلم أن يرجحوا نسخ صحيح مسلم التي خلت من ابن عباس ولو كان عددها قليلا، على النسخ التي فيها ابن عباس ولو كان عددها أكثر.
الدليل الثالث: أن الإمام الدارقطني لم يذكر أيضا الاختلاف على الليث – لا في العلل، ولا في التتبع – بينما ذكر ذلك الاختلاف على ابن جريج. مما يدل دلالة قاطعة على أن الروايات التي حفظها هو وجمعها، ودرسها، كلها متفقة على عدم ذكر ابن عباس راويا عنها في حديث الليث. وأن النسخة التي كان يملكها من صحيح مسلم خالية منه أيضا، وإلا لتعرض إلى ذكر ذلك في التتبع؛ لأنه خاص بتتبع أحاديث الصحيحين.
__________
(1) - لكن الأستاذ يقدم المزي على النقاد. وهذا من المزالق الخطيرة التي يقع فيها كثير من المعاصرين لعدم اهتمامهم بتمييز المرجعية الأصيلة من المرجعية المساعدة في علم الحديث. انظر هذا الموضوع في مقدمة كتاب (علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين) للمؤلف.(1/115)
والإمام الدارقطني لا يعتمد إلا على مسموعاته ومحفوظاته من الروايات، وبحفظه وفهمه ومعرفته ينتقد الأحاديث. والذي يعتمد على ’’الوجدات‘‘، وما وقع في النسخ، يكون عالة على النقاد. وليس من الإنصاف أن يرد كلامهم بناء على تصحيف وقع في نسخ صحيح مسلم.
الدليل الرابع: أن ابن أبي حاتم وابن حبان، وقبلهما الإمام البخاري، لم يذكروا لإبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس رواية عن ابن عباس. ولو ثبت عندهم ’’عن ابن عباس‘‘ في رواية الليث وابن جريج لذكروا لإبراهيم رواية عنه. بل ذكر ابن أبي حاتم والإمام البخاري روايته عن ميمونة، بينما ذكر ابن حبان روايته عن أبيه. وإبراهيم هذا قليل الرواية، وفيما يبدو من خلال التتبع أن إبراهيم هذا لم يعرف له إلا روايتان، رواية عن أبيه عن ابن عباس، ورواية عن ميمونة.
أما الحافظ المزي فذكر في ترجمة إبراهيم من تهذيب الكمال روايته عن ابن عباس بناء على ما رجحه في صحيح مسلم، وتبعه في ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه التهذيب نظرا لكونه مختصرا لتهذيب الكمال. كما ذكروا أيضا رواية إبراهيم عن ميمونة، وربما يكون ذلك على سبيل الاحتمال، وكلام الأئمة النقاد وصنيعهم في كتبهم ينبغي أن يكون هو الفيصل في مثل هذا النوع من الاختلاف الذي يوجد في نسخ الكتاب، ولا يعكر صفاءه ما نقله بعض المتأخرين بخلافهم.
الدليل الخامس: أورد الحافظ ابن حجر في رسالته اللطيفة ’’ الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية‘‘ (ص 133 – 139) حديث قتيبة عن الليث عن نافع، بدون ذكر ابن عباس، وعزاه إلى مسلم. وهذا دليل واضح على أن ما يحفظه من حديث الليث بإسناده الخاص خال من ابن عباس، كما أن نسخته من صحيح مسلم خالية أيضا، لأنه قال بعد روايته:’’رواه مسلم‘‘.
الدليل السادس: قال ابن أبي شيبة:(1/116)
’’ورواة أهل مصر لا يدخلون فيه ابن عباس‘‘(1).
هذا النص صريح بأن قتيبة وغيره من أهل مصر لم يذكروا فيه ابن عباس.
الدليل السابع : قال الإمام أبو علي الجياني(2):
’’وإنما يحفظ هذا الحديث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة ، ليس فيه ابن عباس ، هكذا رويناه في حديث الليث بن سعد، وكذلك ذكره البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الله بن صالح عن الليث ....‘‘. ثم نقل عن التاريخ ما سبق ذكره.(3)
الدليل الثامن : قال الأُبّي في الإكمال 3/480:
’’... وذكر ابن عباس فيه خطأ‘‘
وقال في ذيله:
’’صوابه إسقاط ابن عباس، لأنه يحفظ (إبراهيم عن ميمونة) والمتن صحيح بلا خلاف ، ولعل الروايتين صحيحتان‘‘.
وقوله الأخير إنما يكون على الاحتياط فقط، وإلا يتناقض مع قوله: ’’صوابه إسقاط ابن عباس‘‘.
الدليل التاسع: إن حجاج بن محمد المصيصي، وعبد الله بن صالح، وأبا جهم وقتيبة وابن وهب كلهم قد رووا عن الليث بدون’’عن ابن عباس‘‘. وما وجد خلاف ذلك فيعد خطأ.
1 - أما رواية حجاج ففي المسند (6/334،333) .
2 - ورواية عبد الله بن صالح في التاريخ الكبير (1/302).
3 - وحديث أبي الجهم في جزئه (ص: 46) .
4 - وحديث قتيبة في سنن النسائي دون خلاف كما سبق ذكره.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة 6/416 وقد أتحفني بهذا النص أخونا الفاضل طارق بن مصطفى أبو إسحاق التطواني حين زارني في دبي، جزاه الله تعالى خير الجزاء.
(2) - وصفه القاضي عياض بأنه من أتقن الناس بالكتب ، وأضبطهم لها، وأقومهم لحروفها ، وأفرسهم ببيان مشكل أسانيدها ومتونها. ( الإلماع ، ص: 192 تحقيق السيد صقر)
(3) - التنبيه على الأوهام الواقعة في صحيح الإمام مسلم ، ص: 181 ، ثم روى الحديث عن طريق ابن رمح ، لكن وقع فيه ابن عباس ، ومن المؤكد أن هذا تصحيف ، إذ صرح في مستهل كلامه ’’ هكذا رويناه في حديث الليث ‘‘ يعني بدون ابن عباس .(1/117)
5 - ورواية ابن وهب في شرح معاني الآثار 3/126، وقد أحال إليه الحافظ ابن حجر في النكت الظراف.
غير أن رواية ابن وهب في (مشكل الآثار) للطحاوي، النسخة المطبوعة 1/246، فيها ’’ابن عباس‘‘، لكنها معارضة لما ثبت في النسخة المخطوطة، ومنها ثلاث نسخ راجعها لي الأخ محمد طاهر(1)، كما أنها معارضة لنسخة الحافظ ابن حجر من كتاب مشكل الآثار، التي اعتمدها في (النكت الظراف)، فهذه النسخ الخطية كلها متفقة على إسقاط ابن عباس راويا عن ميمونة، وعليه فما وقع في المطبوع إن هو إلا تصحيف واضح(2).
__________
(1) - الأخ الدكتور محمد طاهر قام بتحقيق كتاب مشكل الآثار ضمن أطروحته للدكتوراه ، وراجعه لي مشكورا أيام كنا طلبة بجامعة أم القرى ، فجزاه الله تعالى عنا خير الجزاء .
(2) - يقول الأستاذ بهذا الصدد:
’’ورواه في مشكل الآثار عن يونس عن ابن وهب عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة . والتي في ( المشكل ) وفيها ذكر ابن عباس ، هي الراجحة ، ويؤيدها ما في عامة نسخ صحيح مسلم وجميع نسخ النسائي، وما في نسخ أطراف خلف وما في بعض نسخ أبي مسعود ، وتقرير الحافظ المزي والحافظ ابن حجر‘‘ (منهج مسلم ص: 113).
قلت: هكذا كان الأستاذ يرسل الكلام على عواهنه، ويطلق الدعوى بلا دليل. كان عليه أن يستدل في محل النزاع بما ليس فيه نزاع، وكل ما ذكره في الترجيح محل نزاع بيني وبينه، ونحن نرى ذكر ابن عباس في هذه النسخ خطأ، بناء على تعليل النقاد. مع أن تلك النسخ غير متفقة على ما ذكره الأستاذ، مثلا نسخ صحيح مسلم ونسخ أبي مسعود ليست كلها متفقة، ثم إن الأستاذ تجاهل اتفاق النسخ من سنن النسائي على عدم ذكر ابن عباس في رواية قتيبة عن الليث. وعليه فقوله : ’’هي الراجحة ‘‘، مجرد دعوى.
أما تقرير الحافظ ابن حجر فلم يذكر الإستاذ مصدره ، هذا وقد سبق آنفا عن الحافظ ابن حجر قوله في النكت الظراف، وفي رسالته (الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية)، ومفاده أن الطحاوي روى في (المشكل) عن ابن وهب بدون ابن عباس.
وماذا يستفيد الأستاذ من ذر الرماد في عيون القراء؟!! والله المستعان .(1/118)
وقد وقع في مصنف ابن أبي شيبة 2/371 حديث الليث من رواية شبابة بن سوار بذكر ’’ابن عباس‘‘ ، حيث فيه :
’’حدثنا شبابة بن سوار عن الليث بن سعد عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة‘‘،
هذا يدل على أن الكتاب المطبوع فيه سقط وتصحيف أيضا، وبالتالي لا يصلح أن يكون معتمدا في مثل هذا الاختلاف، حيث سقط من السند اسم’’نافع‘‘. وهل يقال هنا بناء على هذا السقط: أنه اختلف على الليث؛ فرواه مرة عن إبراهيم مباشرة وأخرى رواه عن نافع عن إبراهيم، والأول عال والثاني نازل؟!
أما على أسلوب الباحث الذي يجمع الروايات كحاطب ليل فنعم !.
لكن وقع في موضع آخر من المصنف(1)ما يدل على أن شبابة رواه بذكر ابن عباس، وهذا نصه:
’’حدثنا شبابة قال ثنا ليث بن سعد عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه - يعني مسجد المدينة - أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد مكة.ثم قال ابن أبي شيبة : ( ورواة مصر لا يدخلون فيه ابن عباس) فما رواه شبابة عن ليث لا يكون إلا خطأ في ضوء ما جزم به النقاد . هذا إن ثبت ذلك عن شبابة . والله أعلم .
الدليل التاسع: إن رواية ابن جريج التي استدل بها الإمام المزي على رجحان ذكر ابن عباس في رواية الليث، لا يصح فيها ابن عباس، كما صرح بذلك الإمام البخاري والدارقطني(2).
ويبدو من كلام الحافظ المزي (رحمه الله) أنه لم يستحضر وجوه الاختلاف على ابن جريج، وإلا ما استند إلى روايته جازما. لهذا قلت: إن تعقب الحافظ ابن حجر عليه في محله.
__________
(1) - 6/416
(2) - التاريخ الكبير 1/302 - 303 ، والعلل 3/1/57(1/119)
الدليل العاشر: من الجدير بالذكر أن مثل هذه الأسانيد التي يطول فيها اسم الراوي يقع فيها كثيرا كتابة (عن) قبل (ابن) تصحيفا، أو استبدال كلمة (ابن) بـ(عن)، وبالعكس أيضا، وإذا نظرت في سياق إسناد الليث، ألا وهو: ’’نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘، ثم قارنت بينه وبين ما وقع فيه ابن عباس راويا، ترجح عندك أنه تصحيف.
ذلك لأن السند الذي فيه ’’عن ابن عباس‘‘ ورد هكذا: ’’ نافع عن إبراهيم بن
عبد الله بن معبد عن ابن عباس‘‘، وكان من المفروض أن يقع كالآتي:
’’ نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ابن عباس‘‘، لأن إبراهيم غير مشهور بالرواية، وبالتالي يهتم المحدثون بذكر المشهور من آبائه، وهو عباس بن عبد المطلب، ولا فائدة تذكر إذا انتهى ذكر اسمه عند معبد.
أما ابن عباس المشهور - هو عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) - فلا صلة له بهذه الرواية، ولو كان الصواب في السند ذكر عبد الله بن عباس لجاء سياقه ’’.. معبد بن عباس عن ابن عباس ‘‘؛ إذ لا يتحقق غرض الراوي في تعريف اسم إبراهيم إذا انتهى اسمه بمعبد، بل لا بد من ذكر عباس حتى يعرف إبراهيم باسمه الكامل؛ فإن إبراهيم من الرواة الذين لم تعرف اسماؤهم الكاملة بين المحدثين إلا عن طريق الأسانيد التي تعد من أهم المصادر الموثوقة في تدوين تراجم الرواة، وتفاصيل اسم الراوي التي يذكرها تلميذه في روايته.
وأما الذي لم يقع فيه ’’عن ابن عباس‘‘، فهو مذكور هكذا:
’’إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘،
فأصبح إبراهيم معرَّفا باسمه الكامل، ولذا أقول إنه وقع عند بعض النساخ اشتباه لطول اسمه بذكر أجداده ، فكتب’’عن‘‘ قبل ’’بن عباس‘‘ كالعادة ، لاسيما أن ابن عباس مشهور بالرواية بحيث يسبق إليه القلم عند استعجال الناسخ في نسخه. ومثل هذا الاسم الذي يطول بذكر الآباء والأجداد يتعرض عادة لتصحيف النساخ، كما لا يخفى على من يشتغل بالتحقيق.(1/120)
وإذا قيل إن هذا الترجيح يؤدي إلى تقديم التاريخ الكبير وسنن النسائي وغيرهما من الكتب على صحيح مسلم الذي يعد من أصح الكتب بعد كتاب الله، كما قال ذلك الأستاذ نفسه(1)، فأقول: ليس الأمر كذلك، إذ لم يثبت في صحيح مسلم ذكر ابن عباس أصلا حتى يقال إننا فضلنا تلك الكتب على صحيح مسلم في اعتماد الإسناد. والذي ثبت في صحيح مسلم هو ما يطابق تلك الكتب، وما وقع بخلافه يعد تصحيفا، وبالتالي لا مجال لهذا السؤال.
وبعد فأقول: إنه لم يقع في عدم ذكر ابن عباس اختلاف على الليث بين أصحابه، ولم نجد أحدا من الأئمة النقاد يشير إلى ذلك الاختلاف، إلا ما وجدنا في مصنف ابن أبي شيبة من رواية شبابة. أما الاختلاف الذي عالجه الحافظ المزي إنما كان بين نساخ صحيح مسلم.
وفي ضوء هذا الواقع لا يسوغ لنا القول إن رواية مسلم فيها ذكر ابن عباس. وكان مراد الإمام مسلم هنا بذكر رواية الليث مع روايات عبيد الله وموسى الجهني وأيوب بيان الاختلاف على نافع فقط.
الأستاذ مع أدلة التصحيف؛ الدليل الأول
لنا في سياق كلام الأستاذ في كتابه (منهج مسلم ) بعض الوقفات لنناقشه في بعض القضايا التي لم يتقن عرضها عند تعقيبه على الأدلة التي ذكرتها لإثبات تصحيف النساخ في صحيح مسلم.
يقول الأستاذ معقبا على الدليل الأول الذي يتمثل في موقف الإمام البخاري:
’’ هكذا بكل قوة يؤكد ما تضمنته هذه الفقرة كأنما جاءه بهذا جبريل من رب العزة والجلال الذي أحاط بكل شيء علما ، أتدري كم عدد تلاميذ الليث ...‘‘
إلى أن قال بعد شغبه بالعدد الحسابي:
’’ هذه الأعداد والحسابات التي هي أدنى التقادير هي بعض ما يحتمله كلامك ، فاتق الله واترك التهاويل والمجازفات. وأعتقد أنني أكن للبخاري من الحب والتقدير ما لا يوجد عندك، وأعتقد أن هذه التعسفات التي ترتكبها إنما هي لنصرة باطلك‘‘.
__________
(1) - انظر منهج مسلم ص: 113 للشيخ ربيع .(1/121)
’’ يا أخي: إن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وابن مسعود وغيرهم من أكابر الصحابة كانوا أفضل من البخاري وأقوى منه حافظة ، وأحرص منه على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ملازمة البخاري لأصحاب الليث، ومع ذلك يفوت كل واحد منهم من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم )رغم أنه أستاذ واحد، وليس هناك أسانيد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهل تذكر قصة أبي بكر عندما جاءته الجدة ... (ذكر القصة في الميراث).
وهل سمعت بالأحاديث التي فاتت أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – ومنها ’’حديث الاستئذان‘‘ ، وحديث ’’إملاص المرأة‘‘ و’’ حديث دية الأصابع ‘‘ مع أنه كان يلازم رسول الله ، وإذا غاب يكلف من ينوب عنه ليحفظ له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم أضرب لك من الأمثلة من أصحاب رسول الله فضلا عن غيرهم.
والآن هل ترى أنه من أمكن الممكنات أن يفوت البخاري حديث ابن عباس من طريق الليث وأصحابه، أو ترى أنه يستبعد استبعادا أن يكون فاته ؟
وسأمثل لك بشيء فات البخاري وعرفه غيره، وهو الترمذي. قال الترمذي في (العلل) حدثنا أبو كريب وأبو هاشم الرفاعي وأبو السائب والحسين بن الأسود قالوا حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ’’ الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد‘‘(1/122)
قال أبو عيسى هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده ، وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يستغرب من حديث أبي موسى. سألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث فقال : هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة، لم نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة ، وسألت محمد بن إسماعيل فقال: هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة، لم نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة ، فقلت له: حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا فجعل يتعجب ، وقال: ما علمت أن أحدا حدث هذا غير أبي كريب ، وقال محمد: كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة .
وإذا فرضنا جدلا أنه سمعه من أصحاب الليث فهل أنت مستعد أن تقبل قولي أو قول غيري أنه يحتمل إلى أبعد الحدود أن يكون نسيه حينما كان يكتب في التاريخ وأنه أولى وأليق من القول بأنه تركه عمدا أو سترفع البخاري فوق مستوى الأنبياء والصحابة الكرام وستستبعد عليه النسيان استبعادا ما بعده استبعاد؟؟
ثم أسألك هل يجوز أن ترد حديثا رواه مسلم في كتاب تلقته الأمة بالقبول بمثل هذه الافتراضات الخيالية التي يدرك زيفها بأدنى تأمل‘‘. انتهى تعقيب الأستاذ ( منهج مسلم ص: 116 – 120).
الردود والتعقيبات
أقول: ههنا في تعقيبه عدة نقاط استوقفتني وسأعقب عليها فيما يأتي:
أما النقطة الأولى فإن تعقيب الأستاذ هذا كان على ما كتبته له في الرد الثاني الذي أرسلته إليه جامعةُ أم القرى. وإن كان موضوع التصحيف وما يتصل به من الأدلة لم يتغير في هذا الكتاب، إلا أن بعض العبارات كانت مبهمة في الرد الثاني، حتى استغلها الأستاذ في شغبه بالحسابات الرياضية، ولذلك حررت الموضوع نفسه بمزيد من التوضيح والأدلة كما أشرت إلى ذلك في مقدمة هذا الكتاب .
وأما النقطة الثانية: فإن موضوع الحوار بيني وبينه هو:
هل يرى البخاري أن الروايات عن الليث متفقة على عدم ذكر ابن عباس أم لا.(1/123)
أما أنا فأقول إن البخاري يرى أن الليث لم يذكر ابن عباس، وأن الرواة عنه لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا على ابن جريج، ولما وجد البخاري الروايات متفقة على الليث في عدم ذكر ابن عباس اكتفى بذكر رواية واحدة منها في التاريخ الكبير، وهي روايته عن عبد الله بن صالح عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، كما هي عادته فيه. وفي الوقت ذاته شرح البخاري اختلاف الرواة على ابن جريج حتى رجح عدم ذكر ابن عباس في حديثه. وتأيد ذلك بنصوص النسائي والدارقطني.
بينما يذهب الأستاذ إلى أن البخاري لا يعلم أن الرواة عن الليث متفقون أو أنهم مختلفون، وأنه لا يعلم سوى رواية واحدة عن الليث، وهي التي ذكرها في التاريخ. وحجته في ذلك أن البخاري لم يذكر في التاريخ سوى رواية عبد الله بن صالح عن الليث. ولو أنه كان يعلم رواية قتيبة التي رواها مسلم بذكر ابن عباس (حسب زعم الأستاذ طبعا) لذكرها، إذن فالبخاري لا علم له برواية قتيبة. ومن المعلوم أن الأئمة يتفاوت علمهم زيادة ونقصا، ويفوت بعضهم ما عند الآخر، وحتى كبار الصحابة فاتهم ما علمه صغارهم، بل فات البخاري فعلا من الروايات ما حفظه الترمذي من الأحاديث.
أو إن البخاري يعلم الروايات كلها غير أنه نسي في التاريخ الكبير رواية قتيبة، لأن الناس من طبيعتهم أن ينسوا.
هذا هو منطق الأستاذ وأسلوبه في التعامل مع نصوص النقاد في نقد الروايات، وهو – كما ترى – مبني على منهج الاحتمالات والتجويزات العقلية التي يلجأ إليها عادة غير المؤهلين. ويستغرب صدور ذلك من الأستاذ الذي تخصص في الحديث وعلومه، وقام بالتدريس في الجامعة الإسلامية ومناقشة الرسائل، حتى أصبح رئيس قسم الدراسات العليا وتحصل على أعلى درجة أكاديمية.
وما قاله الأستاذ يكون مقبولا جدا لو كنت أدعي عموما أنه لا توجد رواية عن الليث غير رواية عبد الله، بحجة أن البخاري لم يذكر في التاريخ سواها، وجعلت مجرد سكوته دليلا على العدم.(1/124)
وأما حين أقول له : - بناء على عادة البخاري في تاريخه الكبير، وعلى منهجه في نقد الأحاديث- إن البخاري أفادنا من خلال روايته عن عبد الله بن صالح عن الليث في التاريخ الكبير أن حديث الليث ليس فيه ابن عباس في جميع رواياته التي يعلمها، ولو يعلم اختلافا بين الرواة لذكر وجها واحدا مخالفا لحديث عبد الله، كما عمل في حديث ابن جريج. فيقول لي الأستاذ إن البخاري لا يعلم رواية قتيبة التي تخالف رواية عبد الله بن صالح، أو أنه يعلمها لكنه نسيها، بناء على مجرد الاحتمال والتجويز العقلي، دون أن يأتي بنص واحد له أو لغيره من الأئمة يدل على نسيانه أو جهله، ثم يسرد التاريخ ليثبت أن ذلك محتمل في حقه، فليس ذلك من آداب الحوار العلمي الهادف، وإنما هو أسلوب غوغائي يريد به الشغب، وقياس فلسفي لا مكانة له في المجالات العلمية، لا سيما في الحديث وعلومه.
وإلى جانب هذا أن النسائي وافق البخاري في ذلك حين صرح بقوله: رواه الليث ولم يثبت فيه ابن عباس. وكذا الدارقطني أطلق ذلك في كتابه (التتبع)، وأمامه حديث مسلم عن قتيبة الذي يزعم الأستاذ أنه عن ابن عباس .
فهل من المعقول أن تُرد أقوال النقاد بناء على ما صحفه بعض النساخ في صحيح مسلم، أو على احتمال أن يكون تصحيفا على أقل الأحوال؟!! مع أن نسخ صحيح مسلم الأخرى التي تداولها الأئمة سلمت من ذلك التصحيف.
وهل يمكن أن يتحول الإنسان العاقل في أثناء الحوار إلى الانشغال بالتساؤل الخيالي أو الجدلي، تبريرا لرفض نصوص النقاد وآرائهم المؤسسة على الحفظ والمعرفة والفهم ؟!
وهل من المنطق أن يجعل مجرد سكوت البخاري عن شيء دليلا على أنه نسيه أو جهله؟!
وهل يكون التصحيف من بعض النساخ دليلا على أن البخاري نسي أو جهل؟!(1/125)
وإذا سلك الأستاذ هذا المسلك لم يبق حديث واحد من السنة إلا وقد ضعفه، ولا تصحيح النقاد ولا تضعيفهم إلا وقد رده جملة وتفصيلا لأن حجته في ذلك أنه يحتمل أن يكون هناك حديث مخالف لم يعلمه الراوي، أو أنه حَكَمَ بخلافه ناقد آخر؟! أو يحتمل أن يكون الراوي قد نسي أثناء روايته للحديث ؟! أو يحتمل أن يكون النقاد قد نسوا أو جهلوا طرقا أخرى ؟!
أ وليس هذا بعينه منطق المعتزلة في ردهم لخبر الآحاد ؟!.
وعلى أسلوب الأستاذ الفاضل فما ورد عن أبي هريرة أو عمر أو أبي بكر أو ابن مسعود من الأحاديث لا يفيد اليقين إذن؟! لأنه يحتمل أن يكون له حديث معارض في المسانيد أو المستخرجات أو دواوين السنة التي لم نطلع عليها، لا سيما وأنه تساءل بقوله :
’’هكذا بكل قوة يؤكد ما تضمنته هذه الفقرة كأنما جاءه بهذا جبريل من رب العزة والجلال الذي أحاط بكل شيء علما ‘‘.
ويفهم من هذا أنه لا يفيد اليقين إلا إذا جاء به جبريل من رب العزة.
ما هكذا تورد يا سعد الإبل ؟!.
لا ينبغي في الحوار اللجوء إلى الدعوى بالاحتمال، ولا يكون الاحتمال دليلا على المخالف إلا إذا ادعى الاستحالة. وكان ينبغي على الأستاذ أن يثبت بالدليل أن البخاري لا يعلم رواية قتيبة أصلا، أو أنه نسيها، ويأتي من نصوصه أو نصوص الآخرين، ما يدل على ذلك. أما أن يعتبر سكوت البخاري عن رواية قتيبة وغيره دليلا على جهله بها، مع أنها مشهورة لدى معاصريه، فغير مقبول.
أما أنا فقد ذكرت له أن البخاري أثبت في التاريخ الكبير اتفاق الرواة على عدم ذكر ابن عباس في حديث الليث، وأن إبراهيم إنما روى عن ميمونة، وليس عن ابن عباس.
وذلك لأمور ؛ منها :(1/126)
أن عادة البخاري وغيره من النقاد إذا لم يعرفوا حديثا إلا من وجه واحد أن يستغربوه، ويقولوا: ’’هذا حديث فلان لا نعرفه إلا من هذا الوجه‘‘، كما قال محمود بن غيلان والبخاري والنسائي في الأمثلة التي أتى بها الأستاذ. وللأسف لم ينتبه الأستاذ إلى أن هذه الأمثلة التي ساقها كانت حجة عليه؛ إذ لو كان كل منهم لا يعرف الحديث إلا من الطريق الذي رواه لاستغربه كما وجدنا في تلك الأمثلة. بل رأينا البخاري يستدل بحديث عبد الله على أن إبراهيم إنما روى عن ميمونة ، وليس عن ابن عباس.
ثم إني لم أكن أدعي أنهم يعلمون كل ما ورد في حديث الليث من الروايات بناء على أنهم يحفظون جميع الأحاديث والروايات، حتى يتعب الأستاذ نفسه بسرد تلك الأمثلة ليبرهن على عدم استيعابهم جميع السنن.
ومن الأمور التي تدل على عدم ثبوت ابن عباس في رواية الليث: نصوص صريحة للنسائي والدارقطني على أن الليث رواه بدون ابن عباس. والنسائي ممن رواه عن قتيبة مباشرة بدون ابن عباس، والدارقطني ممن تتبع أحاديث مسلم ومنها حديث قتيبة هذا الذي نحن بصدده.
ومنها أيضا: أن النقاد لا يحتجون بالرواية الغريبة الشاذة فيما يتصل بالحديث أو الإسناد. وهنا فقد استدل البخاري بحديث عبد الله عن الليث مع الروايات الراجحة عن ابن جريج على أن إبراهيم إنما رواه عن ميمونة.
ومنها أيضا: أن عادة البخاري في التاريخ - كغيره من النقاد - أن يكتفي بذكر وجه واحد في حال اتفاق الرواة عن شيخهم. وإذا ذكر رواية عن محدث واكتفى بها ثم ذكر وجوه الاختلاف على محدث آخر فمعنى ذلك أن الرواة لم يختلفوا في الرواية عن المحدث الأول وإلا ما اقتصر على وجه واحد.(1/127)
إذا كان بعض النقاد في مجال النقد يعلق بصيغة الجزم ويقول مثلا: روى الليث، مثل ما رأينا عند النسائي والدارقطني، فإن الآخر يروي الحديث باستيعاب طرقه كما عمل الدارقطني في العلل، أو يرويه بلا استيعاب؛ كما عمل البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في العلل.
وعلى الأستاذ الذي لا يقبل هذا الواقع أن يأتي بالأدلة الناصعة البعيدة عن النزاع، ولا ينبغي له أن يقول: إنه يحتمل أو يجوز. ونحن غير مستعدين لرفض كلام النقاد بناء على هذه الاحتمالات المجردة والبعيدة.
ومن الذي أنكر احتمال النسيان على الأئمة حتى يأتي الأستاذ بأمثلة من التاريخ !
ولو فرضنا جدلا أن البخاري لم يعرف إلا ما ذكره في التاريخ الكبير، وفاته حديث قتيبة الذي رواه مسلم ، فما الذي ثبت لدى الأستاذ حتى يرد قوله ؟!
أما رأيت من الروايات ما يؤيد صحة استدلاله على رواية إبراهيم عن ميمونة، بدون ذكر ابن عباس ؟!.
ألا ترى الإمام النسائي رواه عن قتيبة مباشرة بدون ابن عباس، ثم قال : ’’رواه الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة‘‘ ؟!.
ثم يأتي الدارقطني يوافقه أيضا بعد تتبع أحاديث مسلم، ومنها حديث قتيبة وابن رمح الذي يزعم الأستاذ أنهما روياه عن ابن عباس عن ميمونة.
ثم أتى الحافظ ابن حجر برواية أبي الجهم وابن وهب عن الليث، مصرحا بأنه ليس فيهما ابن عباس.
هذا كله فيما يخص النقطة الثانية من التعقيبات على قول الأستاذ.
وأما النقطة الثالثة فإن البخاري لو لم يعلم حديث الليث إلا من طريق واحد وهو ما ذكره في التاريخ، لقال مثل ما نقله الأستاذ عن الترمذي، ولقال: ’’هذا حديث عبد الله عن الليث، ولم نعرفه إلا من حديث عبد الله عنه‘‘.
أما أن يذكر البخاري حديث عبد الله عن الليث استدلالا على أن إبراهيم إنما رواه عن ميمونة لا عن ابن عباس، ثم يوافقه النسائي والدارقطني فلا ينبغي للدكتور المتخصص في الحديث أن يرده زاعما أن البخاري لا يعلم إلا حديث عبد الله، أو نسي حديث فلان.(1/128)
وهل يجوز أن يُرفض كلام البخاري بمجرد احتمال أو خيال أنه لا يعلم سوى ما ذكره، دون دليل على ذلك، من أجل تبرير تصحيف وقع من بعض النساخ ؟!
وأما النقطة الرابعة فإني لم أكن أردُّ حديثا رواه مسلم في كتابه وتلقته الأمة بالقبول بالافتراضات الخيالية. ويعلم الأستاذ جيدا أن ذكر ابن عباس في حديث الليث عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة ليس مما تلقته الأمة بالقبول، بل صرح الأئمة: البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض بعدم صحة ذلك. وعلى هذا فالذي كنت أردُّه هو ما صحفه بعض النساخ بعد ما تبين لي ذلك من خلال نصوص النقاد ومواقفهم تجاه حديث الليث، وقد سبق شرحها مفصلا. وبالتالي أصبح قول الأستاذ هذا باطلا غير صحيح.
غير أني أود أن أسأل هل يجوز لأحد أن يدرج في كتاب تلقته الأمة بالقبول شيئا لم يذكره صاحبه أصلا بتلك الإفتراضات الخيالية التي يدرك زيفها بدون تأمل؟! كلا وألف كلا.
الأستاذ مع الدليل : الثاني والثالث
وأما الدليل الثاني والثالث – وهما يتمثلان في موقفي النسائي والدارقطني - فعلق عليهما الأستاذ بمثل ما سبق في تعقيبه على البخاري . والحمد لله أن كلامه يرد على نفسه، لأنه مبني على الاحتمالات والافتراضات.
وعلى كل فأنا أنقل كلامه هنا، وهذا نصه(1):
’’ جوابهما ( يعني الجواب عما يتصل بكلام النسائي والدارقطني ) ما مضى مثله في البخاري، فجائز أنه يبلغهما(2)ما بلغ مسلما والطحاوي وابن أبي شيبة، وربما بلغ غيرهما، فهناك مستخرجات، وهناك كتب علل لم تبلغك، وهناك مسانيد؛ كمسند يعقوب بن شيبة المعلل وكمسند أبي علي الحسين بن محمد الماسرجسي الحافظ البارع له مسند. قال الذهبي فيه ’’ المسند الأكبر‘‘، وقال ’’ صنف المسند الكبير مهذبا معللا في ألف جزء وثلثمائة جزء‘‘.
__________
(1) - منهج مسلم، ص: 120 – 121
(2) - يبدو أن فيه سقطا ، ولعل الرجل يريد أن يقول ’’ فجائز أنه لم يبلغهما‘‘، وإلا فالقول مردود من أوله(1/129)
فما يدريك أن مثل أبي علي ومثل يعقوب بن شيبة وغيرهما قد ذكرا الاختلاف على الليث ورجحا – مثلا – رواية محمد بن رمح وقتيبة التي أخرجها مسلم وربما أيداها بما رواه الطحاوي من طريق ابن وهب وبما رواه ابن أبي شيبة من شبابة وربما رواه غير هذين عن الليث .
ولا نغالي في هؤلاء، بل نقول عند البخاري ما لم يبلغهم وعند الدارقطني والنسائي ما لم يبلغهم كما بلغهم ما فات هؤلاء، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم لم يحط بها أحد ومجموعها عند الأمة بحيث لم يفت منها شيء.
وحسبك مثالا قول النسائي – رحمه الله – بعد أن روى الحديث من طريق الجهني عن نافع عن ابن عمر ’’ صلاة في مسجدي‘‘ وهو حديثنا هذا: ’’لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني، وخالفه ابن جريج وغيره‘‘ .
وقد علم البخاري ما جهله النسائي من مشاركة عبيد الله بن عمر للجهني في رواية هذا الحديث عن نافع .
وقد بلغ الدارقطني ما فات البخاري والنسائي، وهو مشاركة عبد الله بن عمر وموسى بن عقبة وعبد الله بن نافع وأيوب وقد ذكرهم جميعا في العلل والتتبع وقد عرفت ذلك، وليس الدارقطني بأعلم من البخاري والنسائي فهما يعلمان الكثير مما فات الدارقطني فيما نظن، وهذه سنة الله في خلقه .
إذا عرفت هذا فأظن أنك ستتنازل عن قولك: ’’ وثانيا : أن الدارقطني لم يذكر أيضا الاختلاف على الليث لا في العلل ولا في التتبع ... مما يدل دلالة قاطعة على أن الروايات التي حفظها وجمعها ودرسها دراسة مقارنة عن الليث كلها متفقة على عدم إثبات ابن عباس‘‘. فهذا الجزم والقطع لا ينبغي إلا لنبي جاءه الوحي من عند الله بمثل هذا النبأ، أو رجل اجتمع عنده من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، وهذه أمور معلومة عند عقلاء البشر. وأما الإمام النسائي فأظن – إن صدق ظني – سيكفيك اعترافه.
الردود والتعقيبات
تضمن كلامه عدة أمور تسلط الأضواء على طبيعته وتناقضاته الغريبة.(1/130)
الأمر الأول: أن الرجل وجدناه ينتهج في هذا الحوار منهج الاحتمال والتجويز العقلي لمواجهة النقاش العلمي المؤسس على علم وبصيرة وفهم. ويرد النصوص الصريحة للأئمة النقاد بالاحتمالات والتجويزات العقلية .
وقد وقفنا على نصوص صريحة للإمامين: النسائي والدارقطني على عدم صحة ذكر ابن عباس في رواية ابن جريج، واتفاقهما على خلو حديث الليث من ذكر ابن عباس. فروى النسائي عن قتيبة الذي روى عنه مسلم في صحيحه، ولم يذكر فيه ابن عباس. وأما الدارقطني فقد وقف على حديث قتيبة وابن رمح عند مسلم لأنه من الأحاديث التي تتبعها وأوردها في كتابه التتبع.
وأما الأستاذ فلا يقبل هذه النصوص الصريحة. وحجته في ذلك أنه جائز أنه (لم) يبلغهما ما بلغ مسلما والطحاوي وابن أبي شيبة.
فما الذي بلغ هؤلاء الأئمة مما لم يبلغ النسائي والدارقطني؟! ومن المعلوم أن الإمام الدارقطني تتبع أحاديث مسلم، ومن هذه الأحاديث حديث قتيبة. فهل يقال إذن: إنه جائز أنه لم يبلغه ما بلغه مسلم؟!!.
ما هذا الكلام ؟! و ما هذا الأسلوب ؟!
والأمر الثاني: قول النسائي بعد روايته عن موسى الجهني: ’’لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني، وخالفه ابن جريج وغيره‘‘.
إذن لو كان البخاري لا يعلم إلا وجها واحدا من حديث الليث، لصرح بذلك، مثل ما صرح النسائي بذلك. وهذه عادته وعادة غيره من النقاد في مجال النقد.
وإذا لم نجده يقول ذلك في مناسبة النقد فمعنى ذلك أن الحديث مشهور عندهم وليس غريبا حسب علمه.
وهب أن النسائي أعل رواية موسى الجهني دون أن يقف على رواية عبيد الله، فماذا ترتب عن تعليله هذا؟! هل اعترض عليه أحد برواية عبيد الله أم أن تعليله أصبح مقبولا لدى العلماء؟!
إذن فما قيمة قول الأستاذ بأن النسائي لم يقف على رواية عبيد الله؟!(1/131)
والأستاذ يرسل الكلام دون تأمل ودون علم ومنهج، ولا يصلح معه النقاش العلمي؛ لأنه ينهج منهجا فضفاضا يتهرب به من التناقضات كلما يقع فيها. وبناء على منهجه هذا يمكن أن يقول هنا: جائز أن يكون الدارقطني قد نام أثناء ذكره لتلك الروايات، أو نسي في التتبع ما فصله في العلل!!
أي منهج ينهج الباحث الذي يزعم بأن البخاري والنسائي والدارقطني لا يعلمون إلا ما ذكروا في كتبهم من الأحاديث، ويجهلون أو ينوسون ما لم يذكروا فيها، لا لدليل، وإنما لمجرد كونهم لم يذكروا ذلك، حتى ولو ذكروا في كتاب آخر فإنهم يجهلون ذلك في الكتاب الذي لم يذكروه فيه؟!
وهل مضى في التاريخ مثل هذا النوع العجيب من الباحثين الذين يجعلون الجهل علما، والعلم جهلا ، والمنهج فوضى ، والفوضى منهجا؟!
ما هكذا تورد يا سعد الإبل!
والأمر الثالث: عدم إفادة اليقين في الأخبار عند الأستاذ إلا في حالين فقط: وهما:
أ - النبي إذا جاءه الوحي.
ب - والرجل إذا اجتمع عنده من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع.
وأما في غير ذلك فلا يفيد الجزم والقطع حسب قول الأستاذ.
وهذا صريح كلامه: ’’فهذا الجزم والقطع لا ينبغي إلا لنبي جاءه الوحي من عند الله بمثل هذا النبأ، أو رجل اجتمع عنده من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، وهذه أمور معلومة عند عقلاء البشر‘‘(1).
وقد أجاب الرجل حين قلت له: ( وليس فيه استحالة صحة رواية عبيد لله بل يحتمل صحته) بقوله :
__________
(1) - أليس في كلامه هذا مدح لأهل الكلام ؟!(1/132)
’’لا يجدي عنه فتيلا؛ فإن المتكلمين المبتدعين الذين قلدهم في مثل هذا التعبير لا يرون استحالة الكذب في كل ما يثبت عن رسول الله مما لم يتواتر ولو كان في الصحيحين لأنها عندهم أخبار آحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وما كان كذلك يحتمل الكذب، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يظنون، وهم سفسطوا وتفلسفوا لإقناع الرعاع بهذيانهم المخبول فإن أنصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبابه حقا لا ادعاء لا ينظرون إلى هذا الهذيان وما شاكله من أنواع الضلال إلا بعين الاحتقار والازدراء ويرون أن كل حديث جاء عن طريق الثقات العدول بشروطه المعروفة عند المحدثين يفيد العلم والعمل ويؤمنون به في باب الاعتقاد ويطبقون في مجال العمل وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل‘‘اهـ.
أقول : ما تعليق الأستاذ على هذا التناقض العجيب والتلون الغريب؛ إذ يعلن في موطن بحصر إفادة اليقين في الحالين دون غيرهما، ويأتي إلى موضع آخر ليعلن بأن الخبر الذي جاء عن طريق الثقات العدول بشروطه المعروفة عند المحدثين يفيد العلم وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل ؟!
ووجه التناقض أنه ينكر في النهي الأول إفادة خبر الآحاد القطع والجزم إلا ما جاء به الوحي أو ما اجتمعت فيه من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، واعتبر أصحاب الكلام والجدل عقلاء البشر، وأعلن أنها أمور معلومة عندهم. بينما يفيد في النص الثاني بأن خبر الآحاد يفيد العلم بشروطه المعروفة عند المحدثين، حتى وإن لم يستوف من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل.(1)
الأستاذ مع الدليل الرابع
__________
(1) - هذا ويعرف الجميع قصة هذا الرجل مع أخينا الفاضل الداعية أبي الحسن المأربي – حفظه الله ورعاه – وإيذائه بأبشع العبارات بسبب قوله: إن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن.(1/133)
لقد علق الأستاذ على الدليل الرابع(1)بما يأتي :
’’ جوابها (يعني الفقرة التي تضمنت الدليل الرابع ) أن البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان لم يشترطوا استيعاب شيوخ وتلاميذ من يترجمون لهم، وكم تركوا منهم وفي الوقت نفسه لم ينفوا سماع إبراهيم بن عبد الله من ابن عباس ولو نفوه وأثبته غيرهم من الأئمة لقدم الإثبات؛ لأن المثبت مقدم؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
ثم هل علمت أن ابن حبان صرح بنفي سماع إبراهيم من ميمونة، وكذلك مغلطاي ، وقد ذكر المزي والحافظ ابن حجر إبراهيم في الرواة عن ابن عباس ، ولو اتبع الناس منهجك هذا لأنكروا سماع أكثر رواة الصحيحين بمثل حجتك هذه ، فإذا لم يجد المغرض سماع شخص من شيخه في (تاريخ البخاري) و (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم أنكر سماع ذلك الراوي عن شيخه بناء على حجتك هذه، وهل تقصد بمواقفك هذه فتح أبواب الفتن على مصراعيها على كتب السنة وكتب الرجال التي يقوم عليها الإسلام. (منهج مسلم ص : 121 – 122)
الردود والتعقيبات
قلت: في تعقيبه أمور:
__________
(1) - والدليل الرابع هو أن ابن أبي حاتم وابن حبان، وقبلهما الإمام البخاري، لم يذكروا لإبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس رواية عن ابن عباس. ولو ثبت عندهم ’’عن ابن عباس‘‘ في رواية الليث وابن جريج لذكروا لإبراهيم رواية عنه. بل ذكر ابن أبي حاتم والإمام البخاري روايته عن ميمونة، بينما ذكر ابن حبان روايته عن أبيه. وإبراهيم هذا قليل الرواية، وفيما يبدو أن إبراهيم هذا لم يعرف له إلا روايتان، رواية عن أبيه، ورواية عن ميمونة.(1/134)
الأمر الأول : عادة البخاري في تاريخه الكبير - إذا كان الراوي المترجم له نادر الرواية، مثل إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس - أن يستوعب ذكر من روى عنه، قد يكون واحدا أو اثنين أوثلاثة. أما إذا كان كثير الرواية فيقتصر على ذكر بعض الشيوخ والتلاميذ. هذا ما تبين لي من خلال استقرائي لكتاب التاريخ الكبير أيام تحضيري لرسالة الدكتوراه.
الأمر الثاني: تقديم المثبت على النافي، وإن كان هذا مسلما كقاعدة أصولية فإن تطبيقها يحتاج إلى خلفية علمية حول طبيعة المسألة التي تطبق فيها القاعدة، وهنا يتميز العالم من المتعالم المقدام.
فإذا أراد الباحث تطبيق هذه القاعدة الأصولية في الحديث الذي اختلف فيه المزي مع النقاد في ذكر ابن عباس يتعين عليه قبل التطبيق النظر في المثبت وطبيعة إثباته، وفي النافي وملابسات نفيه، والمقارنة بينهما لمعرفة مدى تساويهما في العلم والمنهج والأصالة. وإلا سيؤدي ذلك إلى قلب الأمور رأسا على عقب.
ومن الجدير بالذكر أن تطبيق القاعدة لن يكون منهجيا إلا إذا لم يتبين من خلال القرائن أن النافي يتميز بمزيد علم بما نفاه. ومن هنا تتجلى مصداقية قولهم إن كل قاعدة لها استثناءات.
وعلى كل فإذا كان الأستاذ يرى تقديم المثبت على النافي ويرجح قول الحافظ المزي، فإننا نرى قاعدة تقديم الجارح على المعدل فيه أولى بالتطبيق، إذ الناقد الذي ضعف الحديث الذي فيه ذكر ابن عباس يصبح جارحا، والذي يصححه يكون في مثابة المعدل، فعلى القاعدة الأصولية يقدم التعليل على التصحيح، وذلك نظرا لكون الناقد مطلعا على ما لم يطلع عليه المصحح، إذ جل اعتماد هذا المصحح على الظاهر.(1/135)
هذا وإن تلك القاعدة الأصولية - مع وجود خلاف فيها - إنما محلها عند التعارض بين الأطراف المتساوية علما ومنهجا وأصالة، أما التعارض بين المتقدمين والمتأخرين في مجال التصحيح والتعليل أو الجرح والتعديل فلن يكون مجالا لهذه القاعدة فإن النقاد مقدمون في كل الأحوال.(1)
__________
(1) - قال الحافظ ابن حجر : ’’ ... فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث‘‘.
أما صاحبنا فيقول : لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري لما تجاوزوا النتائج التي وصلت إليها ، ...وبهذا أخذوا وردوا .
وقال السخاوي في نوع (الموضوع):
’’ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجىء بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح‘‘ اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : ’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘.(1/136)
وإذا كان الحافظ المزي قد أثبت ذكر ابن عباس بناء على ظاهر الأمور التي شرحها، فإن النقاد أعلوا ذلك بناء على الحفظ والفهم والمعرفة، وبالتالي فلا مقارنة بينه وبينهم حتى تطبق القاعدة، لا سيما في الوقت الذي تبين فيه أن ذكر ابن عباس تصحيف من النساخ كما شرحنا سابقا.
والأمر الثالث: إن الذي أنكره كل من أبي حاتم وابن حبان هو سماع إبراهيم من ميمونة، ولم ينكرا روايته عنها، بل أثبتا روايته عنها ضمنا؛ فإن إنكار السماع بين إبراهيم وميمونة دليل بذاته على وجود رواية عنها، والأئمة لا يبحثون عادة عن السماع ولا يتحدثون عن مدى احتماله إلا إذا وقعت الرواية في سند ما ، وإلا فلا مجال لإنكار السماع أو إثباته. والفرق بين الرواية والسماع ظاهر لدى الجميع.
ومن الجدير بالذكر أن ابن حبان ومغلطاي لم يثبتا لإبراهيم رواية عن ابن عباس، ولا السماع بينهما؛ لأنه لم تثبت روايته عنه أصلا في الأسانيد، هذا، وقد قال مغلطاى:
’’ولم يصرح بسماعه (يعني إبراهيم) منها (أي ميمونة) أحد علمناه من القدماء المعتمدين، وأكد ذلك ذكره عند ابن سعد في الطبقة الرابعة من المدنيين الذين ليس عندهم رواية إلا عن صغار الصحابة ‘‘ اهـ(1)
وقال ابن حبان: ’’قيل إنه سمع من ميمونة، وليس ذلك بصحيح عندنا ‘‘اهـ
ولهذا ذكره ابن حبان في أتباع التابعين(2).
ويدل قولهما على وجود رواية لإبراهيم عن ميمونة ، وإلا فالكلام حول سماعه من ميمونة لغو عديم الجدوى.
الأستاذ مع الدليل الثامن
يعلق الأستاذ على هذا الدليل– وهو أن حجاج بن محمد المصيصي، وعبد الله بن صالح، وأبا جهم، وقتيبة، وابن وهب كلهم قد رووا عن الليث بدون ’’عن ابن عباس‘‘. وما وجد في خلاف ذلك فيعد خطأ - بما يأتي:
__________
(1) - كما نقله الشيخ من الإكمال 1/ق 58
(2) - الثقات 6/6(1/137)
’’ الجواب: أيضا روى مسلم عن قتيبة وابن رمح عن الليث الحديث بذكر ابن عباس . وروى الطحاوي عن عبد الله بن وهب بذكر ابن عباس، وروى ابن أبي شيبة عن شبابة عن الليث الحديث وفيه ذكر ابن عباس، ولا يبعد أن تكون كتب المسانيد والمستخرجات قد روت عن آخرين عن الليث بذكر ابن عباس.
وهل أسقطت رواية مسلم الإمام عن إمامين وهما ابن رمح وقتيبة من الحساب مع مؤيدات مسلم الكثيرة ؟!
وقوله: وهذا يدل على وقوع الاختلاف بين النسخ من (المشكل). أقول: ولماذا لا يدل على اختلاف النسخ من شرح معاني الآثار ؟! هل تظن أنك تكتب لأطفال وبلهاء ؟!
كان ينبغي أن تنزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة مثلا، وزيادة الثقة مقبولة. وبالنسبة لشبابة بن سوار في مصنف ابن أبي شيبة التي رواها عن الليث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس تحققت أنا من صورة عن مخطوطة الظاهرية الموجودة في مكتبة الجامعة الإسلامية برقم (571)، (2/82) فوجدتها توافق المطبوعة بإسقاط نافع من الإسناد، وهذا لا يدل على أن الإسناد كله غلط، بل يقال: إن وجود ذكر ابن عباس فيها صواب، والقرائن على ثبوته وسقوط ذكر نافع ما في صحيح مسلم وما في مشكل الآثار، حيث رواها في هذين الكتابين زملاء شبابة عن الليث عن نافع به.
وهم قتيبة ومحمد بن رمح في مسلم ، وعبد الله بن وهب في المشكل.
ثم لو وجد في مخطوطة الإسناد متصلا بذكر نافع إلى ابن عباس هل ستغير موقفك ؟! هذا بعيد إلا أن يغير الله قلبك ، فهذا بيد الله سبحانه وتعالى.
ثم وعد أنه إذا تمكن من مراجعة مخطوطات ابن أبي شيبة سيقوم بتحقيق الأمر، ولا ندري ما هو هذا التحقيق؟!
ثم أفادنا أنه معروف لدينا أن كتاب (المشكل) و(المصنف) لم يحققا حق التحقيق، وكل المصادر التي توافق هواه، ومنها شرح معاني الآثار وتاريخ البخاري قد حققا حق التحقيق لأن هواه قد ضمنها من الخطأ والسقط.
الردود والتعقيبات(1/138)
أقول: تمنيت أن أقرأ للأستاذ تعليقا علميا مفيدا ولو مرة واحدة! ولا يعقل أن يصدر مثل هذا التعليق من أستاذ جامعي اشتغل برهة من الدهر في حقل تدريس الحديث وعلومه ومناقشة رسائل جامعية.
أما قوله ’’أيضا روى مسلم .... إلى آخر الفقرة ‘‘ فغير علمي وغير منهجي، لأن ذكر ابن عباس في هذه الكتب التي ذكرها الأستاذ مختلف في صحته، وبالتالي قد يكون كل من هؤلاء الأئمة بريء من ذلك على أقل التقدير. لذا، لا ينبغي للأستاذ في حال الاختلاف أن يطلق القول بأنه روى مسلم أيضا عن قتيبة وابن رمح عن الليث، وروى الطحاوي عن ابن وهب وفي روايتهم جميعا ذكر ابن عباس. هذا وقد سبق في كلامي تحقيق حول رواية هؤلاء الأئمة، وقد قدمنا من الأدلة ما يقطع بأن ذكره في كتب هؤلاء الأئمة تصحيف من النساخ.
وهذا في الحقيقة مما يشكل تباينا واضحا بين الأستاذ وبين أهل النقد، وإن كان الأستاذ ممن يحترم آداب الحوار فإنه لا ينبغي له الاستعجال على إطلاق الدعاوى، قبل أن يثبت صحة النسخة فيما يتصل بحديث الليث، من خلال الأدلة النقلية أو العقلية.
وقوله: ’’ ولماذا لا يدل على اختلاف النسخ من شرح معاني الآثار؟! هل تظن أنك تكتب لأطفال وبلهاء ؟!‘‘.
أقول: هذا دليل على وجود خلل في فهم الأستاذ، ولماذا أقول ذلك إذا كانت نسخ (شرح معاني الآثار) متفقة على عدم ذكر ابن عباس، ولم يشر أحد من العلماء السابقين إلى وقوع اختلاف بينها في ذلك؟! بل النسخة التي اعتمدها الحافظ ابن حجر موافقة للمطبوع المتداول لدينا. وإذا كانت نسخ كتاب (المشكل) مختلفة لماذا أسكت عن شرح ذلك الاختلاف؟!. وإذا شرحناه هل يلزمني أن أشرح الاختلاف بين نسخ الكتب الأخرى حتى وإن لم يوجد الاختلاف بينها ؟!(1/139)
وقوله: ’’ننزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة وزيادة الثقة مقبولة‘‘. هذا أغرب من السابق. يا أخي إن في كتاب المشكل إشكالا واضحا حول ذكر ابن عباس، وقد بينت فيما سبق أن ثلاث نسخ مخطوطة لهذا الكتاب اتفقت على إسقاط ابن عباس.
إذن كيف يعتمد الكتاب المطبوع فيما خالف فيه النسخ المخطوطة؟!
وكيف يقول الأستاذ: ننزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة وزيادة الثقة مقبولة ؟!
والأستاذ ليس لديه معرفة عن الناسخ الذي أدخل في السند ابن عباس. فكيف يرسل الكلام جزافا: ’’ننزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة، وزيادة مقبولة‘‘؟!!. وكأن مسألة زيادة الثقة سهلة التطبيق عنده! وإذا حمل كل اختلاف النسخ على زيادة الثقة، دون أن يعرف عن الناسخ الذي صحف، يكون قد خرب الكتاب، بدل أن يحققه.
أما فيما يخص مصنف ابن أبي شيبة فهو أيضا غير محقق، وفيه تصحيفات وسقطات يعرفها كل من يشتغل بالحديث. ووجدنا له نسخة مخطوطة في مكتبة جامعة أم القرى، لكنها نسخة سقيمة فيما يبدو، ولعل المطبوع معتمدا على هذه النسخة المخطوطة، لتطابقهما في الأخطاء والسقطات.
والحديث الذي وقع في سنده سقط يثير الإشكال عموما في مدى خلو الكتاب من التصحيفات والسقطات، لا سيما إذا كان الكتاب غير محقق أصلا. ولذلك لا يطمئن القلب لشيء مخالف لما في الكتب الأخرى. هذا وقد دلت الروايات الأخرى على أن سقط نافع في السند غفلة من الطابعين. وبالتالي لا يكون ما وقع في هذا الكتاب دليلا لحل النزاع بعد أن دلت الأدلة والبراهين على أنه لم يكن إلا تصحيفا واضحا.
الأستاذ مع الدليل التاسع
يقول الأستاذ تعقيبا على الدليل التاسع - وهو أنه اختلف على ابن جريج في ذكر ابن عباس - .
’’ أولا : إن موضوع كتاب المزي إنما هو أطراف أحاديث الكتب الستة وزوائد مؤلفيها ، وليس هو كتاب علل حتى يستوفي كل جهات الاختلاف.(1/140)
ثانيا: أنا لا أغلو فيه فأقول إنه صنف وجمع الطرق ودرسها دراسة مقارنة ، فيبعد جدا أن يكون ينسى هذا ، وغيره ولو كان حافظا كبيرا حجة شأنه شأن البشر، وأجوز عليه أنه فاته أشياء ولو وافق بحثه هواك لنسجت حوله هالة كبيرة جدا . ولله في خلقه شؤون .
وباقي الفقرة افتراض ميت وكلام سقيم ، فما هو تعقب الحافظ هل تعقبه في ترجيح ذكر ابن عباس ؟! ثم هل تظن أن المزي وصل من الجمود وبلادة الفكر إلى هذا الحد ، ألا تراه قد خرج عن موضوع كتابه منافحا عن صحيح مسلم بكل حماس؟!
ألم تقرأ قوله عن أبي القاسم وابن منجويه ومن شاركهما في إسقاط ابن عباس الذي يؤمن بثبوت ذكره في هذا الإسناد إيمانا قائما على العلم : وكل ذلك وهم ممن قاله ، والله يغفر لنا ولهم.
إنه يرى ثبوت ذكر ابن عباس ، لا في صحيح مسلم فحسب بل خارج صحيح مسلم ، ولهذا وهم ابن عساكر صاحب أطراف السنن لا الصحيحين.
وما مراده وقد قال مستدلا : ’’وهذا اللفظ صريح في أن الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة لا عن إبراهيم عن ميمونة‘‘.
أتظنه مثل الجهلة بالحديث وعلومه من محترفي التحقيق أو مثل المستشرقين لا يهمهم بعد ذلك أن تلك النصوص صحيحة أو باطلة ؛ لأنهم لا يميزون بين الثابت وغير الثابت ، وليس ذلك مما يهمهم ، إنه لا يوهم ويرجح لأجل مجرد شيء مذكور في بعض النسخ ولم تذكره الأخرى فقط ، بل لأنه محدث ناقد يعرف ماذا يترتب على هذا الذكر أو ذلك الحذف ويوهم على أساس منهج نقاد الحديث ويرجح على منهج نقاد الحديث لا على طريق النساخ الجهلة التي لا يعجز عنها أحد.
وهكذا نرى منهج هذا الرجل يحط من شأن كل ما خالفه ، ومن خالف هواه ، فالكتب التي تخالف هواه تحتاج إلى تحقيق ، والكتب التي توافق هواه في زعمه لا تحتاج إلى تحقيق.
والأشخاص الذين لا توافق تصرفاتهم هواه يتلاعب بكلامهم ويحطهم عن منزلتهم ، فيجعل كلامهم مثل كلام الأطفال والجهلة البلهاء.
الردود والتعقيبات(1/141)
أقول : يمكن أن نسأل الأستاذ الذي لم يحترم رأي النقاد هذه الأسئلة ذاتها.
وهل يظن الأستاذ أن المزي أفضل وأعلم من البخاري والنسائي والدارقطني؟!
ليأتيني بنص واحد أو بدليل واحد يدل على ما يقول .
الواقع الذي أعرفه من خلال هذا الحوار الذي استمر برهة من الدهر على مراحل مختلفة أن الأستاذ لا يملك في هذا المجال إلا التهاويل والمجازفات.
أما قوله: ’’وهكذا نرى منهج هذا الرجل يحط من شأن كل ما خالفه، ومن خالف هواه ....‘‘، فغير منهجي .
ومن الذي أنكر أن المزي لم يستند إلى دليل فيما رجحه، حتى يسألني: هل رأيت .. وهل رأيت.. ؟!
لقد قلت سابقا إن المزي استند إلى عدة أمور في ترجيح ما رجحه ، لكن أدلته غير كافية، لا سيما في ضوء نصوص النقاد المتفقة على أن ذكر ابن عباس في حديث الليث غير ثابت.
ومن المعلوم أن الحافظ المزي ليس من المحدثين النقاد، وإنما هو مثل الذهبي والحافظ ابن حجر وغيرهما من المحدثين المحققين الذين يعتمدون على النقاد رواية ونقدا، وهو عالة عليهم في مجال الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف. وهذا ليس عيبا ولا طعنا في علمه ولا في مكانته ، وإنما هو من طبيعة الواقع الذي عاشه هو وغيره من المحدثين المتأخرين.
يبدو من طبيعة استدلال الأستاذ أنه يرى المزي لا يخطىء!، وأنا أذكر هنا مثالا واحدا لخطئه في التحقيق حتى لا يرفعه فوق مكانته العلمية، ويجعله فوق كلام النقاد في مجال تخصصهم الحديثي.
المناسبة حديث أخرجه البخاري عن ابن حرب عن أبي مروان عن هشام عن أبيه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ’’ إذا صليت الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون‘‘
وتتبع الإمام الدارقطني رواية هذا الحديث فقال:(1/142)
’’وهذا مرسل، ووصله حفص بن غياث عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة ، وقال ابن سعيد عن محمد بن عبد الله بن نوفل عن أبيه عنه ، ووصله مالك عن أبي الأسود عن عروة عن زينب عن أم سلمة في الموطأ‘‘ انتهى كلام الدارقطني.(1)
وقال الحافظ ابن حجر :
’’حديث مالك عند البخاري في هذا المكان مَقْرون بحديث أبي مروان، وقد وقع في بعض النسخ - وهي رواية الأصيلي- في هذا ( عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة موصولا).
وعلى هذا اعتمد المزي في الأطراف. ولكن معظم الروايات على إسقاط زينب.
قال أبو علي الجياني: وهو الصحيح ، ثم ساقه من طريق أبي علي بن السكن عن علي بن عبد الله بن مبشر عن محمد بن حرب شيخ البخاري على الموافقة، وليس فيه (عن زينب) .
وكذا أخرجه الإسماعيلي من حديث عبدة بن سليمان ومحاضر وحسان بن إبراهيم كلهم عن هشام ليس فيه زينب، وهو المحفوظ من حديث هشام.
وإنما اعتمد البخاري فيه رواية مالك التي أثبت فيها ذكر زينب ثم ساق معها رواية هشام التي سقطت منها حاكيا للخلاف فيه على عروة كعادته ، مع أن سماع عروة من أم سلمة ليس بمستبعد. والله أعلم ‘‘(2)اهـ.
من الجدير بالذكر أن الحافظ المزي قد اعتمد على الخطأ الذي وقع في نسخة الأصيلي مع اتفاق معظم الروايات على خلافها، فما بالك إذن إذا اتفقت أكثر النسخ على الخطأ. هذا شأن البشر يخطئون ويصيبون، لا سيما في المجالات العلمية التي يكون فيها مقلدا وعالة على غيره ، ولا يختلف في ذلك المتقدم والمتأخر.
__________
(1) - كتاب الإلزامات والتتبع ص: 246 - 247
(2) - هدي الساري مقدمة فتح الباري الحديث الرابع والعشرون ص: 519 .(1/143)
والذي يتعين على الباحث المنصف المتجرد أن يفهم القضية في ضوء الواقع ، وليس لأن فلان هو الذي قال ذلك. ألا ترى الحافظ ابن حجر - بعد أن أشار إلى اتفاق أكثر الروايات على خلاف ما اعتمده الحافظ المزي - يشرح الواقع الثابت في حديث هشام من خلال الروايات ليبرهن على خطأ المزي في كتابه الأطراف؟!.
ولا ينبغي للإستاذ أن يواجه شخصا يبين خطأ الحافظ المزي في ضوء الواقع والأدلة والبراهين، ويقول له:
’’ أتظنه مثل الجهلة بالحديث وعلومه من محترفي التحقيق أو مثل المستشرقين لا يهمهم بعد ذلك أن تلك النصوص صحيحة أو باطلة ؛ لأنهم لا يميزون بين الثابت وغير الثابت..........وهكذا نرى منهج هذا الرجل يحط من شأن كل ما خالفه، ومن خالف هواه، فالكتب التي تخالف هواه تحتاج إلى تحقيق، والكتب التي توافق هواه في زعمه لا تحتاج إلى تحقيق. والأشخاص الذين لا توافق تصرفاتهم هواه يتلاعب بكلامهم ويحطهم عن منزلتهم ، فيجعل كلامهم مثل كلام الأطفال والجهلة البلهاء‘‘. (!!)
أقول : إن السؤال المطروح هنا لماذا لا يرى العيب في نفسه، حين يتهم به غيره، فهو كما قيل: ’’رمتني بدائها وانسلت‘‘.
لكل منا أن يقبل ما يقتنع به في ضوء الأدلة، سواء أ كان مخطئا أم مصيبا، بل يؤجر على ذلك إذا لم يكن مقصرا ومتساهلا. وينبغي أن يكون ذلك هو منطلق الحوار العلمي الهادف. ولا ينبغي لأحد أن يمارس الإرهاب في حق الآخر ليقبل رأيه. والله الموفق.
المحور الثالث
حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، وما ورد في نقده من نصوص النقاد ؛ كالبخاري والنسائي والدارقطني
نصوص النقاد في تعليل حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، ودحض شبهات الأستاذ حولها
بعد أن صدَّر الإمام مسلم باب فضل الصلاة في المسجد النبوي، بحديث أبي هريرة المتفق على صحته، أورد في أواخره حديث ابن عمر في الموضوع ذاته من طرق أعلها الأئمة: البخاري والنسائي والدارقطني.(1/144)
جاء الأستاذ ليدرسها، ضمن موضوع رسالته للماجستير تحت عنوان: (بين الإمامين: مسلم والدارقطني)، وبعد دراسته لهذه الروايات ذهب إلى الحكم بصحتها، بحجة أن الرواة كلهم ثقات من الطبقة الأولى، وأن الحديث وارد في صحيح مسلم، وأنه لم يظهر له وجه العلة التي أعلوه بها. ثم تطورت الفكرة أثناء الحوار حتى أعلن بأن حديث ابن عمر أصح من حديث أبي هريرة ، ولعله على وجه التحدي، لأن طريقته في البحث ومعاييره في الحكم لم تتغير، وهي كما كانت في مرحلة الماجستير!!
والواقع أن تصحيح الأستاذ إنما هو لأسانيد حديث ابن عمر، يعني أن رواتها ثقات عموما، وهذا لا يتناقض مع تعليل الأئمة لها؛ إذ المقصود من تعليلهم أن إضافة هذا الحديث إلى ابن عمر خطأ، ولم يحدث به نافع عنه أصلا، وإنما رواه عن إبراهيم عن ميمونة.
وهذا - كما ترى - ليس فيه ما ينكر ثقة الرواة ، وإنما يدل على أن بعضهم لم يضبط رواية ذلك الحديث فقط مع كونهم ثقات عموما. وبالتالي أصبح الأستاذ بدراسته وحكمه على حديث ابن عمر في واد بعيد عن الوادي الذي فيه الأئمة.
ومن الجدير بالذكر أن النقاد لم يعلوا حديث ابن عمر لضعف رواته، وإنما لكونه أقرب إلى الوهم، تبين لهم ذلك من خلال المقارنة بينه وبين ما رواه الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، كما سيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.(1/145)
لو أثبت الأستاذ أن الحديث محفوظ وثابت عن ابن عمر أيضا بطريقة علمية مألوفة لدى المحدثين النقاد - كأن يذكر رواية ثابتة عن نافع تجمع بين هاتين الروايتين: رواية نافع عن ابن عمر ، ورواية نافع عن إبراهيم عن ميمونة مثلا، بدل أن ينشغل بأمور تعد هنا من فتات القضايا؛ كترجمة الرواة من كتاب التقريب، وإطلاق دعاوى فارغة باحتمال صحة الوجهين عن نافع، مستدركا عليهم بقوله ’’إن الرواة كلهم ثقات من أهل الطبقة الأولى‘‘ - لكان باحثا جديرا بالاحترام والتقدير، وموازنا مبدعا يسر به القراء، ويثري بدراسته مكتبات الأمة.
فكأن معنى الصحيح عند الأستاذ هو ما رواه الثقات فقط !.
أليس معناه الصحيح هو: ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة؟!
وكيف يعترض على الأئمة الذين أعلوا تلك الطرق مع كون رواتها ثقات أئمة قبل أن يفهم مغزى كلامهم ومراميه؟!
أليست أحاديث الثقات ميدان وقوع العلة حسب ما تقرر في كتب المصطلح ؟!
ولماذا إذن يعتمد أحوال الرواة وحدها ليستدرك عليهم بما ليس له صلة بالإشكال الذي أثاروه (رحمهم الله)؟!
وهل يعتقد الأستاذ أن هؤلاء الأئمة لم يعرفوا من أحوال هؤلاء الرواة ودرجاتهم في الحديث ما يعرفه هو؟!
أو أنهم جميعا غضوا الطرف عن ذلك؟! حتى يعترض عليهم بقوله: إن الرواة ثقات من الطبقة الأولى، ويرفض تعليلهم قائلا :
’’ولا يظهر وجه لترجيح البخاري والدارقطني وعياض لرواية الليث وابن جريج على رواية عبيدالله وأيوب وعبدالله بن عمر وموسى الجهني، فالصواب أن كلا الوجهين صحيح، ومع هذا فإن رواية عبيدالله ومن معه أصح في نظري.... ‘‘(1)
أ ليس في هذا الكلام شيء من المكابرة والعناد والجرأة على علوم الحديث؟!
كيف يكون الحديث الذي أعله النقاد أصح من الحديث الذي لم يختلف في صحته أحد منهم؟!!
__________
(1) - ص 57 من رد الأستاذ الأول.(1/146)
وحديث أبي هريرة متفق عليه، ولم يختلف في صحته أحد من النقاد، بل هو أصح ما عند الإمام مسلم في هذا الباب، إذ صدره به. وأما حديث ابن عمر فمعلول من قبل النقاد، ومع ذلك انفرد مسلم بإخراجه دون البخاري(1).
ومن المعلوم أن الحديث المتفق عليه يكون أصح مما انفرد به أحدهما، إذا لم يتميز ما انفرد به أحدهما بالخصائص الإسنادية التي تجعل الحديث أسلم من العيوب ؛ كالشهرة والعلوّ وغيرهما(2).
وعلى كل فإن الشيخ قد اعتمد في تصحيح حديث ابن عمر، وتقديمه على حديث أبي هريرة وميمونة على أمور تتصل بأحوال الرواة ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل، بل أصبح مغرورا به؛ حين قال:
’’ولا يستطيع عاقل بعد إدراكه كل هذه المرتكزات القوية أن يقول إن أسانيدها كلها منتقدة معللة، وإن مسلما أوردها لبيان عللها وإيضاحها‘‘(3).
إن المرتكزات التي اغتر بها الأستاذ، هي في الواقع مما يعرفه جميع من يقرأ كتب التراجم، وليس فيها شيء جديد يستدرك به على النقاد. وتتمثل هذه الأمور التي اكتشفها الأستاذ بنظره الطويل في تعدد الطرق ومراتب رواتها في سلم الجرح والتعديل.
ولا شك أن هذه الحيثيات العلمية التي تتمثل في تعدد الطرق وخصائص الرواة ورتبهم العلمية في سلم الجرح والتعديل تشكل قرينة تعتمد في الترجيح فقط إذا لم تتوافر قرائن علمية أخرى قوية تدل على خلاف الظاهر.
__________
(1) - سترى الأستاذ يتلون: يقول مرة : الحديث المتفق عليه أصح من الحديث الذي انفرد به مسلم، بينما يقول هنا وفي مواضع أخرى عكس ذلك !
(2) - انظر النكت 1/365 - 366
(3) - ماذا يريد الأستاذ من أمثالنا : أن نقلده فيما يقول، ونرفض ما يقوله النقاد؟!(1/147)
غير أن الأستاذ اعتبر تلك الحيثيات التي يشترك في معرفتها الأستاذ والطالب قرينة مطردة للتصحيح والترجيح، حتى إنه يرد بها قول النقاد إذا كان بخلاف مقتضى الحيثيات. فهذا في الواقع ليس منهجا سليما، بل نوع من التفكير الغوغائي الذي يروج في أوساط الباحثين الجدد، ويزاحمون به صفوف النقاد القدامى، قائلين:’’كم ترك الأول للآخر‘‘، و’’هم رجال ونحن رجال‘‘، و’’هم بشر يخطئون ويصيبون‘‘ و’’أن منهجهم من صنع البشر‘‘.
وعلى كل فقد رأينا الشيخ قد رجح رواية عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر، قائلا: إن رواية عبيد الله لها مزايا كثيرة، ولها متابعات خمسة، ثلاثة منها رواتها ثقات، واثنتان ضعيفتان تصلحان للاعتبار، وهذه المزايا لا توجد في رواية الليث وابن جريج، حتى وصل إلى نتيجة غريبة.
يقول: في ص 57 من رده الأول:
’’فالصواب أن كلا الوجهين صحيح، ومع هذا فإن رواية عبيد الله ومن معه أصح في نظري‘‘.
أقول: هذا أسلوب غير معروف عند المحدثين، بل يشكل ذلك نقطة تباين واضحة بينه وبين النقاد الأوائل.
ونحن لم نجد حتى الآن في جعبته - وقد ألف الرجل في مجال الحوار الذي جرى بيني وبينه ثلاثة مؤلفات، اثنان منها مطبوعان - إلا ما يتعلق بأحوال الرواة التي مصدرها كتب التراجم، وقاعدة تعدد الطرق يقوي بعضها بعضا، وبها كان يصول ويجول في كتبه.
أما فقه الروايات وفقه القرائن التي تحيط بكل منها، فلا أثر لهما في بحوث الأستاذ وحواره. لذا نراه هنا يطلق القول بصحة الروايتين، بل يعتبر حديث ابن عمر أصح الأحاديث التي أوردها مسلم في موضوع فضل الصلاة في المسجد النبوي. وهذا الإطلاق لا يتأتى حقيقة إلا بعد معرفة القرائن التي تدل على ثبوت جميع وجوه الاختلاف، وليس على التجويز العقلي والاحتمال المجرد.(1/148)
يقول المعلمي(1): ’’أئمة الحديث قد يتبين لهم في حديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف، وفي حديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم‘‘.
والجدير بالذكر أن وجوه الترجيح وقرائنه وملابساته كثيرة لا تنحصر فيما ذكره الأستاذ من بعض ظواهر الأمور. وللمحدثين النقاد منهج في غاية من الدقة في فهم القرائن وتطبيقها في الترجيح والتصحيح والتعليل، وذلك بناء على طول ممارستهم للأحاديث، وسعة حفظهم لها، ودقة فهمهم لأحوال رواتها، وطبيعة رواياتهم لها.
إذا تتبعنا نصوص النقاد وطريقة ترجيحهم للأحاديث وجدناهم يصححون أحيانا حديث الثقة ويعلون في مقابله ما رواه الأوثق منه، أو ما رواه الأكثر عددا، الأمر الذي يدل على أنهم يدورون في الترجيح حول القرائن والملابسات التي قد تكون عامة وقد تكون خاصة لا يحس بها إلا النقاد.
وعلى كل فما صدر عنهم من الأحكام ينبغي لنا قبوله حتى وإن كانت خلاف الظاهر، وقد سبق عن الأئمة المحققين من المتأخرين ما يدل على ذلك. وليس من الضرورة أن يكون ذلك مقبولا عند غيرهم، فإن كثيرا من العوام لا يلتفتون إلا إلى الظواهر ومراتب الرواة العامة،(2)ونقاد الحديث كصيارفة الدنانير والدراهم يعولون أساسا على معرفتهم وتجاربهم وذوقهم الحديثي.
أما تنوع المرجحات بحيث لا تنحصر في بعض ظواهر الأمور، فقد قال الحافظ ابن حجر في النكت نقلا عن العلائي :
’’.... ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده‘‘ اهـ(3).
__________
(1) - التنكيل 2/32 للشيخ العلامة عبدالرحمن المعلمي .
(2) - كما لا حظنا ذلك في كتابات الأستاذ
(3) - 2/ 712 ، وانظر 2/778 ، 604 من النكت(1/149)
وقال الحافظ أيضا:
’’... وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم‘‘ اهـ(1).
أما على أسلوب الأستاذ في التصحيح والترجيح فإن القرائن تكون منحصرة في بعض ظواهر الأمور التي جمعها من كتب التراجم دون ربطها بواقع الرواية.
لو كان الأستاذ قد اعتمد على هذه الحيثيات العامة، التي يشترك في معرفتها جميع من يشتغل بالحديث، في تصحيح حديث لم يرد عن النقاد تعليله، لكان ذلك معقولا بوجه ما. أما والنقاد قد أعلوا الحديث فذِكرُ هذه الحيثيات استدراكا عليهم يعني ذلك أن الأستاذ مغرور بدراسته السطحية. وكأنه لم يشعر بسطحيتها، ولم يحس بدقة النقاد في هذا المجال. لذا قال:
’’ولو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة، حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا – في نظري – النتائج التي وصلت إليها، لأني بحمد الله طبقت قواعد المحدثين بكل دقة، ولم آل في ذلك جهدا‘‘.
ثم دافع عنه بقوله العجيب :
’’نعم أنا قلت ذلك وهو منطق إسلامي، به أخذ المسلمون وأعطوا وقبلوا وردوا، وبه خالف أبا حنيفة صاحباه في ثلث مذهبه ، وبه رد الشافعي على شيخه مالك ، وبه خالف أحمد شيخه الشافعي في كثير من القضايا ، وبه ألف ابن أبي حاتم أوهام البخاري، وبه رد البخاري على الأحناف في صحيحه كثيرا من آرائهم ، وبه انتقد الدارقطني وأبو مسعود البخاري ومسلما في أحاديث من صحيحيهما، وفي هذا المنهج خطر على المنهج الصوفي، لأنه يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال‘‘(2)
ثم بالغ في الدفاع عن رأيه:
’’وليس في هذا خطورة لأنها لا تمس العقيدة ولا تمس جانب الألوهية والنبوة، إنما الخطورة والهلاك في الغلو ورفع الناس فوق منازلهم، وفي ذلك مس للعقيدة ولجانب الألوهية والنبوة ، وفي ذلك الخطورة والهلاك (إنما أهلك من كان قبلكم الغلو )‘‘(3)اهـ
__________
(1) - شرح النخبة ص: 84
(2) - منهج مسلم ص: 134
(3) - منهج مسلم ، ص: 138(1/150)
أقول: إن الأستاذ يملك قدرة هائلة على قلب الحقائق رأسا على عقب، وإيهام القارئ بأن ما يقوله حق وصواب، وما يقوله الخصم زور وبهتان.
فإذا كنت أنا قد دافعت عن النقاد ومنهجهم في النقد في ضوء الأدلة والحيثيات العلمية، ويعتبر الأستاذ ذلك تقديسا وصوفية، فلماذا لا يرى في عمله التقديس والصوفية ورفع الناس فوق منازلهم، إذ كان شاذا حين دافع عن الحافظ المزي فيما ذهب إليه من غير دليل علمي مقنع ، وقدمه على النقاد، وآثر رأيه على رأيهم، ورفعه فوق منازلهم ؟!
فهو كما قيل: رمتني بدائها وانسلت!
ولماذا لا يفرق بين تقديس الأشخاص والآراء، وبين الدفاع عن الحق والصواب في ضوء الأدلة ؟!!
أليس من الواجب أن ننظر فيما يقوله المخالف، لمعرفة مدى اعتماده على الأدلة؛ فإن اعتمدها فإنه لا يكون مقدسا لأحد، وإلا فهو مقلد أو مقدس.
أما دفاع الأستاذ عن زلله ومجازفاته قائلا بأنها منطق إسلامي وبه أخذ العلماء فطامة أخرى، إذ يأخذ الأشياء بغير حقائقها، ثم يموه بواطله بأنها الحق.
ألا يرى فيما أتى به من تاريخ الأئمة برهانا واضحا على زلله ومجازفاته؟!! حيث إن الإمام الشافعي وصاحبي الإمام أبي حنيفة والبخاري وأبا حاتم كانوا علماء مطلعين على حقائق المسائل وأدلتها المقنعة، واختلف بعضهم مع بعض في ضوء ذلك لكن دون الخروج عن أدب الحوار.
وكيف يقارن نفسه بالإمام أحمد والبخاري والدارقطني... أين الثرى من الثريا ؟!!
هذا والأستاذ لا يملك في مجال التصحيح والتضعيف والترجيح إلا النظر في أحوال الرواة، وظواهر الأسانيد. لذا، لا يستطيع أن يصحح إلا الأسانيد دون الأحاديث، أما معرفة القرائن الخاصة المحيطة بها وفقه دلالاتها وتصحيح الحديث سندا ومتنا فمما يتميز به النقاد، وبهذا ينجلي التباين الحقيقي بينه وبين هؤلاء الأئمة، وأصبح هو في واد بعيد عن واد العلم الذي تمركز فيه الأئمة النقاد.(1/151)
وعلى كل يجب على الأستاذ أن يصحح زلته، فقد نَصَحَنا الأئمة المتأخرون باحترام النقاد وقبول آرائهم في الحديث ورواته تصحيحا وتعليلا، وجرحا وتعديلا. وهذه بعض نصوصهم بهذا الصدد:
قال الحافظ ابن حجر:
’’ ... فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث‘‘(1).
وقال السخاوي في نوع (الموضوع):
’’ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجىء بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح‘‘ اهـ(2)
وقال أيضا:
’’وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحا، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ وهو استرواح، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيا وإثباتا فضلا عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك، وربما تطرق إلى التصحيح متمسكا بذلك من لا يحسن، فالأحسن سد هذا الباب‘‘(3).
وقال الحافظ ابن كثير:
__________
(1) - النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص: 64
(2) - فتح المغيث 1/ 237 . وتوضيح الأفكار 1/344 ، والنكت 2/604 – 605.
(3) - فتح المغيث 1/20 ( تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، ط:2 ، سنة 1388 ، المكتبة السلفية)(1/152)
’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘(1).
تعليل النقاد لحديث ابن عمر وبيان وجهه
ونعود إلى موضوعنا وهو تعليل النقاد لحديث ابن عمر - مع كونه مرويا عن
عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر - لننظر لماذا أعلوه، وما سبب ترجيحهم لرواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة .
ولا يفهم من ترجيحهم لرواية الليث وابن جريج أن النقاد غفلوا جميعا عن أحوال الرواة الذين خالفوهما، أو أنهم اعتبروا كلا منهما أفضل وأوثق وأحفظ من عبيد الله بن عمر وموسى الجهني عموما، وإنما ينبغي أن يفهم من ذلك أن النقاد إنما قدموا رواية الليث وابن جريج في هذا الحديث لوجود قرائن علمية غير التي ذكرها الأستاذ، دلت على أن روايتهما أسلم من العيوب من غيرهما، وأكثر بعدا من الخطأ والنسيان.
فإذا كان هذا أسلوب النقاد في التصحيح والترجيح، فما قيمة دعوى الأستاذ:
’’لو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا – في نظري – النتائج التي وصلت إليها ....‘‘؟!
__________
(1) - اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث : 79(1/153)
وقد وجدنا بعض النقاد قد رووا تلك الروايات التي نقلها الأستاذ، وكانوا أدرى بخصائص كل راو منهم ومزاياه الشخصية، ثم اتفق كل من الإمام البخاري والدارقطني والنسائي والقاضي عياض على ترجيح رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، مع اختلاف عصورهم وبلدانهم، ولم نجد عليهم اعتراضا من النقاد الآخرين(1)، ثم إنه ليس في ذكر الإمام مسلم في كتابه (الصحيح) تلك الروايات المختلفة على نافع في أواخر الباب، دليل على أنه يريد تصحيح هذه الروايات، كما بينته مفصلا في النقطة الأولى، فإذا كان هذا هو الواقع كيف يتبجح بقوله:
’’ولا يستطيع عاقل بعد إدراكه كل هذه المرتكزات القوية أن يقول إن أسانيدها كلها منتقدة معللة، وإن مسلما أوردها لبيان عللها وإيضاحها‘‘.
__________
(1) - علق عليه الأستاذ بقوله : ’’ أعجب لهذا الرجل على جهله البالغ وتطفله على علم يجهله ، يقول هذا الكلام بعد أن ذكرت له أن النووي والمنذري وابن حزم قد صححوا حديث ابن عمر ، فيتجاهلهم ولا يعتبرهم من النقدة متعاليا عليهم وعلى غيرهم ممن صححوه وصححوا شواهده الكثيرة ، والذين يبلغ مجموعهم أكثر من خمسة عشر عالما ، وأزيد الآن رجالا صححوا حديث ابن عمر ألا وهم البيهقي وابن حجر والسنوسي وأحمد شاكر .. اهـ( منهج مسلم ص: 149)
أقول : هذا أنموذج واضح لخلطه بين المصادر الأصيلة والمراجع المساعدة في علوم الحديث ، وقد عالجنا ذلك في أبحاث مستقلة ، راجع كتاب ( الموازنة ). وقد نقلت قبل قليل عن المتأخرين أنفسهم ما يرد عليه ، حيث نصحونا بالتسليم للمتقدمين ، خاصة إذا اتفقوا.(1/154)
أما كون الإمام الدارقطني والإمام البخاري والقاضي عياض قد وقفوا على تلك المزايا التي استدرك بها الأستاذ عليهم، فذلك أن الدارقطني قد أورد في العلل رواية موسى الجهني وعبد الله بن عمر العمري وعبد الله بن نافع، ولا استعبد وقوف الإمام البخاري على رواية هؤلاء، لما نعرف عنه من الاهتمام في النقد بجمع الروايات وحفظها، ورحلته إلى القرى والمدن من أجل لقائه بالشيوخ، حتى قال شيخه عمرو بن علي الفلاس:’’حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث‘‘(1).
ومن المعلوم أن النقد يتوقف على جمع الروايات واستيعابها، لا سيما إذا كانت مشهورة برواية الأئمة الثقات.
قال ابن معين : ’’لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه‘‘.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: ’’الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا‘‘.
وقال ابن المديني: ’’الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه‘‘.(2)
إذن يكون من المستبعد أن يقال: إن البخاري لا يعرف رواية عبد الله بن عمر العمري وابن نافع لمجرد كونه لم يوردها في التاريخ الكبير. هذا وقد ذكر الدارقطني رواية موسى الجهني مع رواية عبيد الله، ثم وقف القاضي عياض على تلك الروايات كلها، لكنهم لم يراعوا عند الترجيح هذه الروايات ولم يلتفتوا إليها لقوة شعورهم بأن من روى الحديث عن نافع عن ابن عمر قد وهم.
فالمرتكزات العلمية التي تبجح بها الأستاذ ليست أمرا جديدا على النقاد، حتى يستدرك بها عليهم في مجال النقد. ولو كانت هذه الأمور معتبرة هنا لكان الدارقطني الذي أورد تلك الروايات أول من اعترض على البخاري والنسائي! ولم يفعل ذلك، بل انضم إليهما في التعليل.
وقد ذكر الإمام الدارقطني رواية أيوب في التتبع، وحكم بشذوذها، وأما أحوال
عبيد الله وغيره وما لهم من المزايا، فهؤلاء الأئمة أدرى بها، ونحن عالة عليهم في جميع ما يتصل بالحديث ورواته .
__________
(1) - الهدي ص 483
(2) - انظر الجامع لأخلاق الراوي 2/212(1/155)
إذن فما هي القرائن يا ترى لتعليل حديث ابن عمر، وترجيح حديث ميمونة عليه ؟! وبدون الممارسة الحديثية لا يمكن لنا تحديد ما تقوى به ظنهم في ذلك، ووصفه في نقاط معينة، إلا أننا نحاول بقدر الإمكان أن نجد هنا ما قد يكون قرينة، بناء على أسلوبهم في تعليل أحاديث الثقات الأئمة، وما ورد عنهم من النصوص والتوضيحات في هذا الجانب النقدي. وحتى إذا لم نعرف دليلهم في التعليل فعلينا أن نحترمهم ونقبل منهم ذلك، دون استفسار عن الأسباب، ليس لكونهم معصومين، وإنما لكونهم من أهل هذا العلم وأئمته.
وهذه القرينة - فيما يبدو - أن عبيد الله بن عمر لازم نافعا ملازمة طويلة، مع كونه حافظا متقنا ومن أهل بلده. وبهذا كان من أعلم الناس بحديث نافع، بحيث لا يخفى عليه شيء من أحاديث نافع، فلو حدث نافع بذلك الحديث – حديث صلاة في مسجدي – عن ابن عمر وعن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة، سواء كان ذلك في مجلس واحد، أو في أكثر من مجلس، فلا بد إذن أن يكون ذلك الحديث عند عبيد الله بكلا الوجهين، لأنه أعلم الناس بأحاديث نافع، وما عنده من الروايات، وأدرى بنوادرها، وخاصة حين حدث به ابنَ جريج المكي والليثَ بن سعد المصري، وكان ذلك في فترتين مستقلتين على الظن الغالب. ومع ذلك لم يرو عبيد الله إلا من وجه واحد، وهو عن نافع عن ابن عمر.
وعدم رواية عبيد الله عن نافع بكلا الوجهين يعد قرينة على أن نافعا إنما حدث ذلك الحديث من طريق واحد، إما عن ابن عمر مباشرة، أو عن إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة. ومن خلال المقارنة بين الروايتين وجدنا رواية نافع عن ابن عمر أكثرهما احتمالا لسلوك الجادة، وأقربهما احتمالا لوقوع القلب والوهم، لشهرتها وكثرة تداولها على الألسنة، بخلاف رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة.(1/156)
والإنسان من طبيعته أن يميل إلى ما هو أبعد عن الخطأ حين يشتبه عليه الأمر. وربما لهذه القرينة – فيما أرى – أن الإمام الدارقطني وغيره من الأئمة رجحوا رواية الليث وابن جريج، بدون أن يأخذوا بتلك المزايا في حسبانهم للترجيح، وهذا هو سر الاتفاق بينهم على اختلاف عصورهم، وبلدانهم.
ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه القرينة لا يحس بها تلقائيا إلا من له ممارسة طويلة لهذا الشأن، أما الآخرون فيصعب عليهم قبول ذلك، بل يغترون بقرائن عامة ظاهرة.
ولنفرض جدلا أن البخاري فاتته رواية عبد الله بن عمر العمري شقيق عبيد الله بن عمر، ورواية عبد الله بن نافع ورواية عطاء فإن ذلك لا يضره أبدا، ولا يغير حكمه، بل يظل تعليله لحديث ابن عمر في منتهى الدقة؛ لأن القرينة التي تحيط به تدل على أن من روى الحديث عن نافع عن ابن عمر قد سلك الجادة ! والدارقطني الذي روى هذه الروايات لم يغير الحكم الذي حكم به البخاري، بل أبرز دقته في الفهم وسداد رأيه في التعليل.
فالذي يرى صحة الروايتين جميعا خلاف ما ذهب إليه النقاد، عليه بيان ما يقوى ظنه به، كأن يذكر رواية عبيد الله بكلا الوجهين عن نافع، أو أن يأتي من خلفياته العلمية الخاصة برواية أخرى تجمع بين الوجهين جميعا(1)،
__________
(1) - انظر كتاب النكت الذي حققه الأستاذ 1/382 – 383 . ينقل الأستاذ من سنن الترمذي ما يؤيد قولي، وهذا نصه :
’’قال الترمذي بعد أن روى الحديث بإسناده عن رافع بن خديج مرفوعا وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال : أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج ، وذكر عن علي بن المديني أنه قال : أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس ، لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة الحديثين جميعا حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس . الترمذي 3:136 . قال الشيخ ربيع: انظر إلى علي بن المديني، كيف صحح الحديثين جميعا ؟!! صححهما بدليل أن يحيىرواه جمعا بينهما. ولم يكن ذلك بمجرد ادعاء ولا بمجرد احتمال‘‘ . ما أحسن تعليق الأستاذ هنا !
وقال المعلمي : إذا روى الرجل الحديث على وجهين : تارة كذا ، وتارة كذا ، ثم رواه فجمعهما معا دل ذلك على صحتهما معا. (فوائد في كتاب العلل لابن أبي حاتم، ص: 27 ، تحقيق عبد الرزاق)(1/157)
ولا يكفي هنا مجرد الادعاء بأن الصواب صحة الروايتين، وأن حديث ابن عمر أصح. وهذا سهل لمن يتجرأ على هذا العلم العظيم.
وقد سبق عن الحافظ ابن حجر قوله:
’’فأين هذا ممن يستروح فيقول مثلا يحتمل أن يكون عند أبي إسحاق على الوجهين ، فحدث به كل مرة على أحدهما ؟! وهذا الاحتمال بعيد عن التحقيق إلا أن جاءت رواية عن الحارث بجمعهما ومدار الأمر عند أئمة هذا الفن على ما تقوى في الظن ..." اهـ
فبهذا الذي ذكرت ظهر وجه ترجيح الإمام البخاري وغيره، وكيف لا يكون له وجه صحيح؛ فقد رجحه الإمام البخاري، ثم وافقه النسائي والدارقطني، ثم وافقه أخيرا القاضي عياض. فكان دفاعي عنهم ليس لتعصب أعمى، ولا تقديسا للأشخاص، وإنما لأنهم أهل هذا الشأن. ولله الحمد، وهو الموفق .
لدى الأستاذ بعض التعقيبات حول ما سبق، وأذكر هنا ما هو أهم.
زلة الأستاذ وتضليله
عقب الأستاذ على هذه الفقرات بقوله :
’’على كل حال فإذا كان النسائي لم يحط بكل شيء علما فكذلك نقول في البخاري والدارقطني والقاضي عياض.
وإذا كان الأنبياء والصحابة ينسون كما هو مقرر في الكتاب والسنة وعند خلاصة الأمة، فالبخاري والدارقطني أولى بالنسيان. وإذا كان كبار الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون فضلا عن صغارهم يفوتهم كثير من الأحاديث عن أستاذهم الوحيد رسول الله × وهم أحرص الناس على حديثه، فالبخاري والنسائي والدارقطني وعياض أولى وأولى أن يفوتهم الكثير والكثير وأن ينسوا الكثير والكثير وأن يقعوا في الأخطاء والأوهام الكثيرة وهذه هي عقيدة الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة التي تميزت بهذا المنهج. ومن هذا المنطلق ألف ابن أبي حاتم كتاب أخطاء البخاري في التاريخ ، ومن هذا المنطلق وبهذه العقلية ناقش الدارقطني البخاري ومسلما في الأحاديث التي انتقدهما فيها ...‘‘ إلى أن قال:(1/158)
’’وبهذه العقلية الناضجة البعيدة عن الغلو والإطراء، وعن التفريط والجفاء ، حفظ الله لنا هذا الدين القويم وبهذه العقلية انتخب لنا الصحيحان... ‘‘ إلى آخر ما قاله. ( منهج مسلم ص: 150 – 153)
أقول : سبحان الله ! هكذا يقول الأستاذ؟! إذا كان هؤلاء الأئمة أولى وأولى أن يفوتهم الكثير والكثير وأن ينسوا الكثير والكثير وأن يقعوا في الأخطاء والأوهام الكثيرة فكيف جعلناهم أئمة وصدقناهم فيما نقلوا لنا وصححوا لنا من الأحاديث ؟!
أوليس هذا تشكيك في مصداقيتهم ؟!
وكيف تجرأ على أن ينسب ذلك إلى عقيدة الطائفة المنصورة ؟!
وهل يستطيع أن يأتي بكتاب واحد جمع فيه الأوهام التي وقع فيها الأئمة النقاد مجتمعين، دون أوهام آحادهم؟!
ولم أر في تاريخ النقد من نبه إلى وقوع خطأ ووهم ونسيان من الأئمة الجهابذة؛ مثل البخاري والنسائي والدارقطني تسلسلا حول نقطة معينة عبر العصور المختلفة، إلا الأستاذ صاحبنا في الحوار، فقد اكتشف في التاريخ لأول مرة شيئا لم يسبقه إليه أحد !!
يصحح ما أعله النقاد في عصور مختلفة، مغترا بظاهر السند، ثم يزعم أنهم جميعا نسوا، أو جهلوا، وأنهم من البشر، وقد نسي أكبرهم وأعظمهم.
فليعلم الأستاذ أننا بصدد ما اتفق على تعليله الأئمة: البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض. وبينت له وجه تعليلهم ومنهجهم في الرواية والنقد بإيجاز. وليس فيه ما يدل على أن كل واحد منهم معصوم من الخطأ والنسيان.
ثم إن الحق أن البشر جميعهم معرضون للخطأ والنسيان، وكلما يكون يقظا ومتفوقا في مجال ما، يقل منه الخطأ والشذوذ في ذلك المجال، وبقدر ندرة الخطأ والوهم يصبح الشخص إماما. أما الناسي كثيرا والمخطئ كثيرا فلم تجعله الطائفة المنصورة إماما أبدا.
وعلى كل فقول الأستاذ هذا زلة وتضليل. وعليه أن يتوب منها.(1/159)
ثم إن قولي بأن هؤلاء الأئمة أولى بالقبول ليس لاعتقادي أنهم معصومون من الخطأ والنسيان، بل لإمامتهم ودقة نظرهم وقلة وهمهم وخطئهم وندرة نسيانهم لما حفظوا من الأحاديث، مع كونهم من أورع الناس وأتقاهم، وأنهم لا يرسلون الكلام جزافا، وإنما يقولون بناء على معرفتهم وخلفيتهم العلمية.
انظر إلى الحافظ ابن كثير يقول:
’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘(1)
سلوك الجادة ودحض شبهات الأستاذ حوله
. قال الشيخ تعقيبا على موضوع سلوك الجادة :
’’لو كان راوي طريق نافع عن ابن عمر واحدا فقط لقلنا أنه سلك الجادة، أما والرواة جماعة اتفقت كلمتهم على ذلك، ولهم ما لهم من المزايا لا سيما عبيد الله فلا يتأتى القول بأنهم سلكوا الجادة، إلا إذا كان القائل يريد المكابرة والعناد، فهذا أسلوب غير علمي، ولا يتصور من عاقل فضلا عن محدث أن يقبله، ولو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة ، حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا في نظري النتائج التي وصلت إليها، لأني بحمدالله طبقت قواعد المحدثين بكل دقة ولم آل في ذلك جهدا‘‘.اهـ(2)
قلت : إذا كان الأستاذ يعد الباحث الذي يؤيد آراء النقاد بما يطابق منهجهم، ويحاول أن يجد لها محامل صحيحة، معاندا ومكابرا فمعنى ذلك أن معايير القيم والأخلاق عنده قد اختلت.
ثم من الذي وضع ذلك الشرط الذي قال به الأستاذ في سلوك الجادة؟!
الواقع أنه ليس هناك شرط لسلوك الجادة أن يكون الراوي الذي سلكه واحدا.
انظر إلى الإمام الدارقطني ماذا يقول:
__________
(1) - اختصار علوم الحديث ص: 79
(2) - ص: 58 من رده الأول(1/160)
’’وسلك الجادة قوم منهم يزيد بن هارون‘‘ .(1)
وقال الحافظ :
’’وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه عن أبي هريرة فكان ينبغي ترجيحهم، ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدث به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة، فمن قال عنه عن أبي هريرة سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه عن أبي شريح زيادة علم ليست عند الآخرين‘‘(2).
ووصف الحافظ من روى عن سعيد عن أبي هريرة بأنهم قد سلكوا الجادة مع كثرة عددهم.
وقال أيضا:
’’ورواه سفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ومحمد بن عبيد عن عبيد الله بن عمر بإسقاطه وكأنهم سلكوا الجادة ، لأن عبيد الله بن عمر معروف بالرواية عن نافع مكثر عنه والعمدة على من زاد (عمر بن نافع) بينهما، لأنهم حفاظ، ولا سيما فيهم من سمع عن نافع نفسه كابن جريج‘‘(3)
اعتبر الحافظ هنا رواية الجماعة سلوكا للجادة.
وهذا مثال آخر يقول الحافظ:
’’وسلك برد بن سنان وهشام بن الغاز الجادة ، فقالا عن نافع عن ابن عمر‘‘(4)
وماذا يقول الأستاذ إذا وقع منه الحكم على رواية جماعة بأنها سلوك الجادة ؟! هل يعتبر نفسه مكابرا ومعاندا؟!
انظر في كتابه ( بين الإمامين: مسلم والدارقطني)، يقول في ص 277:
’’أحدهما: أنهما سلكا به الجادة‘‘.
ويقول في ص 18:
’’والظاهر أن من رواه عن هشام عن أبيه عن عائشة سلك به الجادة، وهم ثلاثة‘‘.
فأين الشرط الذي زعمه هنا لسلوك الجادة؟!
مجازفة الأستاذ في التفريق بين المتفق من الأمثلة
__________
(1) - نقله الحافظ في الفتح 9/632. وهذا دليل على أن الحافظ قد أقر ما قاله الدارقطني .
(2) - فتح الباري 10/444 ، بالمناسبة إن قول الحافظ ابن حجر ، - ولله دره - يلفت انتباهنا إلى نوعية القرائن الخاصة التي يعتمدها النقاد، ويقوى شعورهم بها حتى يرجحوا الروايات في ضوء ذلك.
(3) - المصدر السابق 10/364
(4) - المصدر السابق 10/96(1/161)
بعد بيان علة حديث ابن عمر نقلت قول الحافظ ابن حجر: ’’فأين هذا ممن يستروح فيقول مثلا يحتمل أن يكون عند أبي إسحاق على الوجهين فحدث به كل مرة على أحدهما؟ وهذا الاحتمال بعيد عن التحقيق إلا إذا جاءت عن الحارث بجمعهما ، ومدار الأمر عند أئمة هذا الفن على ما يقوى به الظن ‘‘. وذلك لأبرهن للأستاذ على أن عمله في تصحيح الوجهين عن نافع؛ أي حديث ابن عمر وحديث ميمونة، بخلاف ما قاله النقاد، هو عين الاسترواح الذي جاء في سياق قول الحافظ، لكونه قد بنى ذلك على الاحتمال البعيد عن التحقيق؛ إذ لم يأت عن نافع برواية تجمعهما، أو أي دليل آخر يقوى به الظن بذلك. ومن المعلوم أن كون الراوي إماما حافظا لا يعني بالضرورة أن كل ما أضيف إليه من حديث قد حدث به فعلا.
جاء الأستاذ ليعقب عليه فقال:
’’سوف أسوق لك كلام الحافظ قبل هذه القطعة التي اقتطفها من كلام الحافظ، ليظهر لك الفرق بين المقامين والفارق بين المسألتين.
قال الحافظ: وكذا خطأ يحيى القطان شعبة؛ حدثوه عنه بحديث ( لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر) عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقال يحيى حدثنا به سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن ابن مسعود ، ولا يتأتى ليحيى أن يحكم على شعبة بالخطأ إلا بعد أن يتيقن الصواب في غير روايته‘‘. وإليك الفروق:
أولا: أن المحدثين قد اتفقوا أنه إذا اختلف شعبة وسفيان الثوري فالقول قول سفيان، وعبيد الله أحفظ في نافع من كل من خالفه في هذا الحديث، وقد تابعه خمسة فزاد قوة على قوة(1).
__________
(1) - إذن لماذا لا يقول الأستاذ هنا كما قال يحيى؛ فيقول بصحة رواية عبيد الله وتخطئة رواية الليث ؟! لكنه خالف فقال بصحة الوجهين، دون دليل إلا أن الرواة ثقات أئمة. وهذا هو الاسترواح بعينه!(1/162)
ثانيا: أن شعبة في هذه الرواية واحد، ولا يستبعد منه وقوع الوهم بخلاف الكثرة(1).
ثالثا: أن يحيى القطان لم يخطئ شعبة بناء على القرينة التي يدندن المليباري حولها، وإنما خطأه بشيء سمعه بأذنيه وأبصرته عيناه ووعاه قلبه من سفيان الذي هو أحفظ من شعبة فظهر الفرق بين الأمرين(2).
وظهر أن المليباري بمجرد أن رأى أن المحدثين قد يرجحون بهذه القرينة، فظن أنها تصلح في كل مقام فاستروح إليها، وهول بها، وصال بها وجال ظانا أن هذا من مجالاتها . وخفي عليه : أن لكل مقام مقالا ولكل ميدان رجالا. اهـ(3)
أقول: إن هذا التعليق يكفي لذر الرماد في عيون القراء. وفي الواقع أنه لا فرق بين تخطئة يحيى لشعبة وتخطئة النقاد لرواة حديث ابن عمر، وأن القول باحتمال صحة الوجهين فيهما استرواح؛ إذ كل قول يبنى على مجرد الاحتمال من غير أن يستند إلى دليل فهو استرواح.
إذا كان يحيى قد خَطَّأَ رواية شعبة بعد أن تبين له الصواب من خلال القرائن التي تتوقف معرفتها على الحفظ والمعرفة والفهم، فإن النقاد أيضا قد خطؤوا رواية عبيد الله وغيره عن نافع عن ابن عمر بعد أن تبين لهم الصواب في رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة. وبالتالي يكون القول باحتمال صحة الوجهين دون أن يأتي بدليل يدل على أن أبا إسحاق أو نافعا قد حدث به على الوجهين، استرواحا.
__________
(1) - كذا سفيان في الرواية الثانية واحد أيضا. وكون الراوي واحدا ليس هو المعيار الوحيد لوقوع الوهم ، كما أن الكثرة ليست معيارا مطردا لمعرفة الصواب.
(2) - ليس لمجرد كون سفيان أحفظ، كلا ، وإنما لقرائن أخرى سيأتي ذكرها . وشعبة لا يستهان به لكونه أثبت. ومن المعلوم أن الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق.
(3) - منهج مسلم ، ص: 162 - 163(1/163)
إن قول الحافظ: ’’ولا يتأتى ليحيى أن يحكم على شعبة بالخطأ إلا بعد أن يتيقن الصواب في غير روايته‘‘ واضح في كونه لم يربط المسألة بأن سفيان أحفظ من شعبة، بل أطلق قوله ’’ بعد أن يتيقن الصواب في غير روايته‘‘.
وفيما يبدو لي أن يحيى تبين له الصواب في رواية سفيان من عدة قرائن؛ وهي أن سفيان أحفظ، وأنه لم يرو عن أبي إسحاق ذلك الحديث على الوجهين جميعا، وكذلك لم يرو شعبة عنه على الوجهين، ولو حدث أبو إسحاق على الوجهين لأتيا بهما جميعا، لا سيما أحفظهم، وهو سفيان، ثم إن ما ذكره شعبة يعد سلوكا للجادة لأن رواية الحارث عن علي أكثر شهرة من روايته عن ابن مسعود. وهذه هي القرائن التي يدندن حولها المليباري في مثل هذه المناسبات فقط، وليس في كل حديث، فإن لكل حديث قرينة خاصة كما صرح بذلك المحققون من المتأخرين .
ثم إن يحيى خطَّأ رواية شعبة مع كونه أثبت، ولم يستروح إلى احتمال صحة روايته أيضا، وهذا بخلاف عمل الأستاذ الذي استروح إلى القول بصحة الروايتين، دون دليل يثبت ذلك ، وإنما لكون الرواة ثقات ، وبعضهم أئمة، وهذا مجرد احتمال يخطر بالبال كلما يكون الإنسان بعيدا عن العلم والمعرفة.
ومما ينبغي لفت الانتباه إليه أن البخاري والنسائي والدارقطني كلهم يعتمدون في النقد والتخطئة والتصويب على ما سمعوا بآذانهم من شيوخهم وأبصرته عيونهم ووعته قلوبهم. كما قال الأستاذ في حق يحيى. وبالتالي لا يوجد فرق بين المثالين إلا ما افتعله الأستاذ.
ولو كان يحيى قد سمع من أبي إسحاق الذي هو مصدر الحديث مباشرة، وتيقين أن ما سمعه هو الصواب، ثم رد كل من خالفه لقلنا بالفرق بينهما من حيث العلم واليقين. لكن يحيى سمع من سفيان تلميذ أبي إسحاق، وشعبة أيضا تلميذه. ولا يتبين ليحيى الصواب في رواية سفيان إلا باعتماده على القرائن والأدلة، وليس بمجرد كون سفيان أحفظ.(1/164)
وأما قول الأستاذ الأخير: ’’وظهر أن المليباري بمجرد أن رأى أن المحدثين قد يرجحون بهذه القرينة، فظن أنها تصلح في كل مقام فاستروح إليها، وهول بها، وصال بها وجال ظانا أن هذا من مجالاتها . وخفي عليه : أن لكل مقام مقالا ولكل ميدان رجالا.‘‘. فأقول : لماذا لا يشعر بذلك في عمله ؟! لأنه هو الذي جعل القرائن كلها منحصرة في أحوال الرواة، ثم جال بها وصال ليرد بها تعليل النقاد.
نعم ، هذا مما يؤكد أن لكل مقام مقالا، ولكل ميدان رجالا .
مغالطة الأستاذ في تكثير الروايات والمتابعات
أما الجماعة الذين زعم الشيخ أنهم اتفقوا في الكلمة فهم عبيد الله وموسى الجهني وأيوب وعبد الله بن عمر العمري وعبد الله بن نافع كلهم رووا ذلك الحديث عن نافع عن ابن عمر ، كما أن عطاء رواه عن ابن عمر أيضا.
أقول: هذا تعدد في الظاهر، لكن النقاد لم يأخذوه بعين الاعتبار، حين رجحوا رواية الليث وابن جريج. وذلك لما يأتي:
أولا: رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال فيها الإمام الدارقطني: ’’غير محفوظ عن أيوب‘‘. لذا، لا يمكن اعتبارها متابعة؛ إذ معنى هذا التعقيب أن أحد الرواة وهم حين أضاف الحديث إلى أيوب بهذا السند. كما سيأتي النقاش حوله في المحور الرابع (إن شاء الله تعالى).(1/165)
ثانيا: رواية عبد الله بن عمر العمري، وعبد الله هذا ضعيف، عده الإمام علي بن المديني والنسائي في طبقات الضعفاء من أصحاب نافع، لكثرة أخطائه فيما يرويه عن نافع، إذن كيف تعطي روايته عن نافع به قوة لرواية عبيد الله بن عمر. لا سيما وقد دلت القرينة على أن من روى حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي عن نافع عن ابن عمر قد سلك الجادة.(1)
__________
(1) - أذكر هنا مثالا مما ذكره الأستاذ في هامش كتاب النكت الذي حققه ( 1/247). وهذا نصه:’’قال البخاري في تاريخه الكبير 2/54 – في ترجمة أسماء بن الحكم الفزاري راوي هذا الحديث ( حديث الاستحلاف ) عن علي - : لم يرو عنه إلا هذا الحديث ، وحديثا آخر لم يتابع عليه . وقد روى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم عن بعض فلم يحلف بعضهم بعضا.
قال الحافظ: ’’ قال المزي : هذا لا يقدح في صحة الحديث لأن وجود المتابعة ليس شرطا في صحة كل حديث . على أن له متابعا.. وذكر له متابعات. قلت : - أي الحافظ - : والمتابعات التي ذكرها لا تشد هذا الحديث شيئا لأنها ضعيفة جدا ، وقال البزار : أسماء مجهول . وقال موسى بن هارون : ليس بمجهول ، لأنه روى عنه علي بن ربيعة والركين (بمهملتين) ابن الربيع ... وهذا الحديث جيد الإسناد ، وتبع العقيلي البخاري في إنكار الاستحلاف، فقال قد سمع علي من عمر فلم يستحلفه‘‘.
أرأيت الحافظ ابن حجر يدافع عن البخاري، ويرد على المزي بقوله : ’’ والمتابعات التي ذكرها لا تشد هذا الحديث شيئا لأنها ضعيفة جدا‘‘.(1/166)
ثالثا: رواية عبد الله بن نافع عن نافع به، وعبد الله بن نافع جعله علي بن المديني والنسائي في طبقة المتروكين من أصحاب نافع. فلا تعطي روايته عن نافع به قوة لرواية عبيد الله، عند الاختلاف بينه وبين الثقات. فبقيت رواية موسى الجهني متابعة قوية لعبيد الله، فانحصر العدد الذي صاح به الأستاذ في اثنين فقط، وأصبحت رواية عبد الله بن عمر، وعبد الله بن نافع وما روي عن أيوب كالعدم في عدم إفادتها لعبيد الله متابعة قوية، لكون هذه الروايات أقرب إلى سلوك الجادة.
ولو لم تكن هنا قرائن تدل على خطأ من أضاف الحديث إلى ابن عمر لكانت رواية كل من عبد الله بن نافع وعبد الله بن عمر العمري صحيحة ومفيدة ومقوية لرواية عبيد الله بدون شك.
رابعا: رواية عطاء عن ابن عمر التي أتى بها الأستاذ متابعة قاصرة لعبيد الله، وهي غير ثابتة أيضا، لأنها مما أورده البزار وغيره وجها من وجوه الاضطراب على عطاء، ولا يدرى ماذا قال عطاء من هذه الوجوه التي أضيفت إليه.
لهذا لم يأخذ النقاد بعين الاعتبار تلك الروايات حين رجحوا رواية الليث وابن جريج. إلا أن الأستاذ أصبح حاطب ليل يخلط بين الحابل والنابل، المحفوظ وغير المحفوظ، فكان يجمعها من كتب النقاد، ليطبق عليها قاعدة ’’تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد‘‘، ثم يدعي بأن حديث ابن عمر أصح من حديث أبي هريرة ، ضاربا بموقف النقاد عرض الحائط ، ومنهم الإمام مسلم نفسه(1).
__________
(1) - لأن الإمام مسلما صدر الباب بحديث أبي هريرة المتفق على صحته ، وثنى بحديث ابن عمر . ومعنى هذا حسب منهجه في الترتيب أن حديث ابن عمر دون حديث أبي هريرة صحة على جميع الاحتمالات، وسبب ذلك يستفاد من نصوص النقاد، وليس من كتاب التقريب .(1/167)
كأن الصحيح عند الأستاذ هو ما رواه الثقات على أي وجه كان! وكأن الطرق دائما يتقوى بعضها ببعض إذا لم يكن الحديث من مرويات المتروكين!! وقد قوى الأستاذ برواية عبد الله بن نافع الذي عده علي بن المديني والنسائي من طبقة المتروكين من أصحاب نافع. ومن شأن الضعفاء أن يسلكوا الجادة لقلة الاهتمام بالحديث ويضيفوا إلى نافع ما لم يحدث به.
إذن لم يبق من الجماعة إلا اثنان، وهما عبيد الله بن عمر وموسى الجهني. وعلى كل فمن روى حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة يكون أقرب إلى الصواب.
لكن الأستاذ لما ضاقت عليه السبل لخروجه من المأزق العلمي الذي وقع فيه من غير أن يشعر حين استعجل الحكم على حديث ابن عمر بصحته، على الرغم من كونه معلولا من قبل الأئمة، أغمض عينيه وأنكر ما ورد عن الأئمة من التعليل، لكي يوهم القارئ أن حمزة المليباري ضعف حديثا صحيحا من أحاديث مسلم، بل الطامة الكبرى عنده التي أشعلت فتيل غضبه وفجرت في عمق وجدانه، ليست تضعيف حديث من أحاديث صحيح مسلم، وإنما تضعيف ما صححه هو، وإيقافه على أخطائه الفادحة.
والدليل على ذلك أنه لم يثر ثائره حين ضعف الشيخ الألباني (رحمه الله تعالى) أحاديث عدة من صحيح مسلم ولا حين ضعف القاضي عياض أو الشيخ مقبل من صحيح مسلم مؤيدا لتتبع الدارقطني، ولا حين قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي: ’’إنما أراد مسلم بإخراج حديث التيمي تبيين الخلاف في الحديث على قتادة لا أنه يثبته...‘‘ وهو حديث (إذا قرأ فأنصتوا)(1).
سنرى – إن شاء الله تعالى - في الفقرات الآتية محاولة الأستاذ إيهام القارئ بأن الأئمة لم يتفقوا على تعليل حديث ابن عمر.
الأستاذ مع نصوص النقاد في تعليل حديث ابن عمر. أولا : نصوص البخاري
قال الأستاذ (ص :16 - 17 من رده الأول) :
’’إنما حررته ( يعني تصحيح حديث ابن عمر ) كان نتيجة لدراسة وتأمل وموازنة‘‘.
__________
(1) - انظر كتاب عبقرية الإمام مسلم للمؤلف ص: 67.(1/168)
’’كل ذلك على منهج المحدثين المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط وقد حاولت جهد الطاقة – ولا أبرئ نفسي من الخطأ – أن يكون كل ما حواه كتابي من دراسة على هذا الأساس لم أتعصب لا لمسلم ولا للدارقطني، وإنما كنت أدور جهد طاقتي مع الأدلة والقرائن‘‘(1).
’’وأستغفر الله من الخطأ والزلل وتزكية النفس ولكني اضطررت إلى هذا، ثم أقول مرة أخرى: إنه إلى الآن لم يظهر لي هذا البعد ولو ظهر لي بالحجج المقنعة بعد ما حررته عن الصواب لتركته راضي النفس شاكرا مقدرا للأخ الذي تكرم بتنبيهي إلى خطئي. وحيث إن الأخ وصل إلى هذه النتيجة من خلال منهج واضح الخطأ، كما بينته - ولله الحمد - بيانا شافيا فما عليه إلا أن يرجع إلى منهج مسلم الذي قرره وسار عليه فعلا في هذا الكتاب، وأن يرجع إلى ما فهمه المحدثون، واعتقدوه في صحيح مسلم، ومنهج مؤلفه فيه، وقد وضحته له، وسيدرك أن ما حرره هو البعيد بعدا ظاهرا لا خفاء فيه ولا لبس.... ‘‘(2).
إلى أن قال:
’’سوف أذكر لك – مضطرا – نقد هؤلاء الأئمة وحججهم التي استندوا إليها والحد الذي وصل إليه كل واحد في تعليل هذا الحديث، وعدم إلحاحهم وتركيزهم على تعليله، كما يفعل هذا الباحث، وأنه لا ينبغي إطلاق اتفاقهم بهذه الشاكلة‘‘
__________
(1) - يعني أحوال الرواة ، وتقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، هذه أدلته وقرائنه الدائمة .
(2) - لم يشكك أحد في كون صحيح مسلم من أصح الكتب بعد كتاب الله. غير أني أقول بما التزمه مسلم من ترتيب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح ، وبيان العلل استطرادا بذكر وجوه الاختلاف، وقد قال به قبلي القاضي عياض وكل من فاوضه من علماء عصره ومن جاء بعدهم ، حتى إن أبا مسعود الدمشقي أحد متتبعي الصحيح صرح ببيان مسلم العلة في صحيحه، وكذلك رشيد الدين العطار. وعليه فما على الأستاذ إلا أن يرجع إلى ما فهمه المحدثون من منهج الإمام مسلم . انظر تفاصيل ذلك في كتاب عبقرية الإمام مسلم ص: 53 – 90.(1/169)
’’فأولهم إمام المحدثين البخاري (رحمه الله) وسوف أسوق كل ما كتبه عن هذا الحديث:
1 - وقال لنا عبد الله بن صالح حدثني الليث قال حدثني نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة .
2 - وقال لنا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن معبد عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
3 - وقال لنا المكي عن ابن جريج سمع نافعا أن إبراهيم بن عبد الله بن معبد حدثه أن ابن عباس حدثه عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح فيه : (ابن عباس) .
4 - وقال لنا مسدد عن بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
5 - وقال لنا مسدد عن يحيى عن موسى الجهني سمع نافعا سمع عبد الله بن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم مثله‘‘.
ويتابع الأستاذ دراسة هذه الروايات بطريقته الخاصة القائمة على أحوال الرواة ورتبهم في سلم الجرح والتعديل ، ويقول :
’’دراسة هذه الأسانيد‘‘
’’أولا : حديث الليث فيه عبد الله بن صالح الجهني ، كاتب الليث ، وقد حذف منه ابن عباس، وعبد الله بن صالح ضعيف، وقد خالفه ثقتان ثبتان، وهما قتيبة بن سعيد وابن رمح، راجع ترجمتهما في التقريب، وقد اختارهما مسلم فأحسن(1)، راجع صحيحه (2/1014).
ثانيا: حديث ابن جريج الذي رواه عنه أبو عاصم ليس فيه ذكر ابن عباس لكن فيه علة وهي عنعنة ابن جريج وهو مدلس ، وإن كانت هذه العلة ستزول بتصريحه بالتحديث لكني هنا أبين الحيثيات التي استند إليها الإمام البخاري في حكمه.
__________
(1) - لا ينبغي أن يجزم به، فقد أثبتنا بالأدلة والبراهين ونصوص الأئمة النقاد ومواقفهم جميعا بأن ما وقع في صحيح مسلم هو تصحيف ، وأن مسلما بريء منه .(1/170)
ثالثا : الإسناد الثالث إسناد صحيح وقد صرح فيه ابن جريج وشيوخه إلى ميمونة بالتحديث، وهو كما ترى ذكر فيه ابن عباس، وهو من المتابعات القوية لحديث الليث عند مسلم التي رواها عن قتيبة وابن رمح عن الليث إلى ابن عباس عن ميمونة مرفوعا.
وقول البخاري على جلالته ’’ولا يصح فيه ابن عباس‘‘ غير مسلم لأنه فيما يبدو على أن مكيا خالف اثنين وهما عبد الله بن صالح وأبا عاصم الضحاك بن مخلد، ولا يمنعني كثرة حفظه وجلالته أن أقول: إنه فاته أن قتيبة وابن رمح الإمامان الثقتان الثبتان قد رويا الحديث عن الليث، والإمام البخاري أجل وأحفظ من مسلم، وله أمور يمتاز بها على مسلم يعرفها أهل الشأن.
ولكني أكاد أقطع أن الإمام البخاري قد فاتته رواية قتيبة وابن رمح ، ولو كانت روايتهما عنده لما تجاهلها في هذا الموقف فهو أخشى لله وأتقى من ذلك.
رابعا: حديث مسدد عن بشر بن الفضل عن عبيد الله عن نافع، كلهم من جبال الحفظ ، مسدد ثقة حافظ . تقريب (2/242)
وبشر بن الفضل ثقة ثبت فاضل عابد . تقريب (1/537)
ويضم بشر بن الفضل إلى الرواة الذين اختارهم مسلم في الرواية عن عبيد الله عن نافع به ، وهم يحيى القطان وابن نمير وأبو أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي.(1)
وهل يطلب لصحة الأحاديث وثبوتها أعلى وأثبت وأحفظ من هؤلاء، أو على منهج الأخ الباحث من أراد أن يدلل على علة حديث يأتي بأمثال هؤلاء .
__________
(1) - انظر إلى الأستاذ كيف يكون نشيطا فوق العادة في ذكر المتابعات ليضمها مع رواية بشر ، بينما يتوقف نشاطه عن ذلك حين يرى الإسناد يخالف رأيه ، مع كونه مما استدل به البخاري ، ويقول : ’’لكن فيه علة وهي عنعنة ابن جريج وهو مدلس ، وإن كانت هذه العلة ستزول بتصريحه بالتحديث لكني هنا أبين الحيثيات التي استند إليها الإمام البخاري في حكمه‘‘.(1/171)
خامسا : مسدد (عن ) يحيى(وهو ابن سعد القطان ) عن موسى الجهني سمع نافعا سمع عبد الله بن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم – مثله – والأول أصح.
وهذا إسناد قوي فيه جبال الحفظ ، وأدناهم موسى الجهني ، وهو ثقة عابد ، وفيه تقوية لابن أبي زائدة الذي روى مسلم الحديث عن طريقه عن موسى الجهني به .
ثم ليقف المنصف هنا عند قول الإمام البخاري ’’والأول أصح‘‘ وليتساءل:
أولا : ما المراد بقوله: ’’ الأول‘‘
ثانيا : ما المراد بقوله: ’’أصح‘‘
هل يريد الأولية المطلقة في الأحاديث التي رواها في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس ؟!
هذا بعيد لأن في الإسناد الأول عبد الله بن صالح، وهو ضعيف.
ويحتمل أن يريد الأولية الإضافية .
فقد يريد بها تفضيل أحد إسنادي حديث عبد الله بن عمر.
أي يريد بيان أصحية إسناد بشر بن المفضل عن عبيد الله ، وأنه أصح من إسناد موسى الجهني .
وليس هذا بمستبعد ، فيكون قصده إثبات صحة الإسنادين إلا أن أحدهما أصح.
ويحتمل أن يريد الأولية الإضافية أيضا، ويكون قصده أن حديث ميمونة أصح من حديث عبد الله بن عمر ، ويقصد بذلك بيان اشتراكهما في الصحة إلا أن حديث ميمونة عنده أصح ، كما هو الأسلوب العربي المعروف.
فقوله: ’’والأول أصح ‘‘ محتمل لهذه الوجوه وليس هناك دليل واضح على أحدها. وليس هناك دليل في كلامه على تعليل حديث عبد الله بن عمر. فالجزم بتعليله بناء على كلام الإمام البخاري هذا والجزم بأن مراده بقوله : الأول حديث ميمونة لا يخلو من مجازفة وتعسف.
وبناء على هذا التعليل يمكن القول: بأن البخاري لم يعلل حديث عبد الله بن عمر .
وأما تعليله لطريق ابن عباس عن ميمونة فواضح من قوله ’’ولا يصح فيه ابن عباس‘‘(1/172)
ولكنا مع إكبارنا له لا نسلم له ونرى أن الصواب ما اختاره مسلم من ثبوته وإضافة إلى هذه الدراسة نقول: إن الإمام البخاري لم يستوف حيثيات الحكم فلم يذكر رواية قتيبة وابن رمح وابن وهب عن الليث بن سعد عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة مرفوعا.
حيث اقتصر على رواية عبد لله بن صالح الضعيف ، ولم يذكر قتيبة وابن رمح وابن وهب الثقات الأثبات الذين ذكروا ابن عباس في الإسناد ورواية قتيبة وابن رمح في صحيح مسلم.
ولم يذكر رواية حجاج الشاعر وقتيبة نفسه التي توافق عبد الله بن صالح في حذف ابن عباس من الإسناد. وعلى فرض التسليم أنه أعل حديث ابن عمر فنقول: إنه لم يذكر متابعة معمر عن أيوب لعبيد الله بن عمر وموسى الجهني في نافع التي رواها مسلم في صحيحه.
ولم يذكر متابعة عطاء بن أبي رباح لنافع في ابن عمر التي رواها الإمام أحمد في المسند (2/29، 155) من طريق يوسف الأزرق ومحمد بن عبيد الطنافسي ، وكلاهما ثقة عن عبد الملك بن أبي سليمان ، وهو حسن الحديث ، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر.
ولم يذكر متابعة عبد الله بن عمر العمري لأخيه عبيد الله في نافع التي رواها عبد الرزاق في مصنفه (5/121)، وأحمد (2/68) في مسنده.
شبهات الأستاذ ومجازفاته
أقول: إن الأستاذ كشف لنا من خلال هذه الفقرات طريقة دراسته وحكمه على الحديث، وكشف لنا الأدلة والقرائن التي كان عليها تعويله في فهمه واستنتاجه. ولو أن صاحب هذه الدراسة من الخراصين لكان ذلك معقولا. أما أن صاحبها أستاذ جامعي في الحديث، وعاش طويلا في مجال تدريس الحديث فيعد ذلك من عجائب هذا العصر الذي تنفق فيه أموال طائلة في سبيل تعليم الأجيال وتربيتهم وتوعيتهم وتثقيفهم ثقافة صحيحة.
علينا أن ننظر من الذي أطلق القول بأن الإمام البخاري وغيره من النقاد أعلوا حديث ابن عمر.(1/173)
يقول الشيخ في كتابه (بين الإمامين) ص 346: ’’ثم إن ما ذهب إليه الدارقطني والبخاري والنسائي من توهين رواية عبيد الله وموسى الجهني ليس بصواب‘‘.
وقال قبله، ص 343:
’’وقد أقر القاضي عياض استدراك الدارقطني هذا، بل نقل ما يؤيده في نظره عن البخاري..‘‘ اهـ.
ثم قال الشيخ بعد سنوات عدة في رده الأول الذي أنكر فيه تعليل الأئمة:
’’ولا يظهر وجه لترجيح البخاري والدارقطني وعياض لرواية الليث وابن جريج على رواية عبيدالله وأيوب وعبدالله بن عمر وموسى الجهني، فالصواب أن كلا الوجهين صحيح، ومع هذا فإن رواية عبيدالله ومن معه أصح في نظري ...‘‘(1)
والأستاذ كان يقر في رده الأول بأن البخاري والدارقطني والنسائي وعياض ضعفوا حديث ابن عمر بعد أن جال وصال بالفكرة نفسها في كتابه ( بين الإمامين)، ثم فجأة أخذ ينكر ذلك الذي أقره، إذن فهو متناقض مع نفسه.
هذه الطريقة التي سلكها الأستاذ في دراسة نصوص الإمام البخاري والروايات التي أوردها في التاريخ لا تحتاج إلى تخصص في مجال الحديث، وإذا كان عند الباحث كتاب التقريب للحافظ ابن حجر أصبح قادرا على نقد كبار الأئمة، والاعتراض عليهم في الأحكام التي تخالف ظاهر السند!
و لم نر الأستاذ في هذا المجال الحديثي إلا وهو يدور حول ظواهر الأسانيد، حتى إن نظره في ترجمة الرواة كان سطحيا ومستعجلا. لذا، ضعف حديث عبد الله بن صالح بحجة أن عبد الله ضعيف.
إن دراسة الأسانيد تتوقف على جمع الروايات لتكون منهجية ومؤسسة، وإلا فإن دراسة الباحث لا توصل إلا إلى قلب الحقائق وخلطها.
__________
(1) - ص 57 من رده الأول .(1/174)
لقد درس الأستاذ الأسانيد التي أوردها الإمام البخاري في تاريخه الكبير كل على حدة، دون أن ينظر في متابعاتها ولا في ملابساتها ولا في قرائنها، زاعما أن حيثيات البخاري في الحكم هي ما ذكره في التاريخ الكبير، ثم تجاسر الأستاذ على إعلانه أن البخاري قد فاته حديث الآخرين عن الليث. وما أرخص هذا الأسلوب! يجعل مجرد السكوت دليلا على الجهل أو النسيان !!
إن الراوي إذا وافق غيره من الرواة الثقات فيما رووه، فذلك دليل على ضبطه لذلك الحديث ، حتى وإن كان ضعيفا، وما فائدة الشغب إذن بقوله ’’إن الراوي ضعيف، وقد خالفه ثقتان ثبتان‘‘، دون أن يأخذ بعين الاعتبار ما يوافقه من روايات الثقات؟!.
أما إذا خالفه غيره أو انفرد بالحديث أو بزيادة شيء فيه فيضر ذلك الحديث إذا دلت القرائن على أن مخالفته أو تفرده كان نتيجة وهم أو نسيان. ومن المعلوم أن القرائن لا تكون منضبطة بقواعد محددة ، ولا يمكن استيعابها من كتب التراجم، بل يتوقف فقهها على ممارسة الأحاديث مع الحفظ والفهم والمعرفة، كما قال الحاكم : الحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير.
ومعرفة التفرد والمخالفة لا تكون إلا بعد تخريج الحديث وجمع طرقه وتحديد مداره والمقارنة بينها.
لقد تبين لنا من خلال التخريج والجمع أن عبد الله بن صالح لم ينفرد بالحديث عن الليث، بل وافقه غيره من أصحابه، ومع ذلك فإن عبد الله ثبت في كتابه، وثقة إذا روى منه، وإن كانت فيه غفلة، مما جعل الحافظ يلخص حاله في التقريب بقوله: (صدوق يخطئ).
وسبب الغفلة أن له جارا كان يضع الحديث ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله ويرميه في داره، فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به. وعليه فما وافق فيه غيرَه يكون صحيحا، ويدل على ضبطه لذلك الحديث. وبالتالي تكون إثارة أقوال بعض العلماء في تضعيفه، دون مراعاة القرائن التي تحيط بما رواه من حديث، عديمة الجدوى في هذه المناسبة.(1/175)
وعلى كل فهو كما قال الحافظ في الهدي – بعد أن سرد أقوال العلماء فيه - :
’’ ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه في الأول كان مستقيما، ثم طرأ عليه فيه تخليط، فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق، كيحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم فهو من صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه‘‘اهـ(1).
وعلى هذا فإن رواية البخاري عن عبد الله بن صالح تكون صحيحة، وليس كما أطلق الشيخ بضعفها، لا سيما وقد ذكر البخاري هذا الحديث على سبيل الاحتجاج به على أن إبراهيم له رواية عن ميمونة، ولا يأتي البخاري في سبيل الاحتجاج بشيء غريب لا يعرفه إلا من وجه واحد.
قوله : ’’وقد خالفه ثقتان ثبتان، وهما قتيبة وابن رمح‘‘.
أقول: قد مضى بيان حقيقة رواية الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، وأعيد هنا أن الروايات عن الليث– منها رواية قتيبة وابن رمح - متفقة على إسقاط (ابن عباس) راويا عن ميمونة، وليس بينها اختلاف على الليث فيه، وإنما وجدنا الاختلاف بين نساخ صحيح مسلم، كما سبق بيانه وبسطه في المحور الثاني.
لذلك ينبغي على الأستاذ أن يثبت أولا أن هناك اختلافا على الليث، نقلا عن إمام من الأئمة النقدة، لا بالخلط بين اختلاف النسخ وبين اختلاف الرواة، ولا بناء على ما وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم من تصحيف، ثم يأتي هنا ويدعي أن عبد الله ضعيف خالفه ثقتان ثبتان، وهما قتيبة وابن رمح، وأين المخالفة بينه وبين قتيبة وابن رمح ؟!
ولماذا سكت الأستاذ عما يعرفه من الروايات المتفقة مع عبد الله بن صالح؟!
ولماذا ركز على إبراز المخالفة بين ثقتين ثبتين وبين راو ضعيف، دون ذكر من تابعه من الثقات، او دون ذكر من مدح عبد الله بن صالح ووثقه خاصة فيما رواه من الكتاب؟! ولو كان منصفا لذكرها.
__________
(1) - الفصل التاسع ، ص: 414.(1/176)
وهب أن هناك اختلافا على الليث بين أصحابه، لكن القول بترجيح وجه من وجوه الاختلاف، أو بالجمع بينها، لا بد أن يكون على منهج المحدثين، والأستاذ لا يملك في جعبته لإجراء الموازنة بين الأئمة إلا النظر في أحوال الرواة ومراتبهم المبينة في كتاب التقريب، من غير أن يسعى إلى معرفة القرائن في مثل هذه المناسبات العلمية.
وأما قول الأستاذ: ’’وقد خالفه ثقتان ثبتان ... فأيهما أرجح، الإمامان الثقتان الثبتان قتيبة ومحمد بن رمح؟! أم عبد الله بن صالح الضعيف‘‘، ففيه مجازفة.
ومن أين له أن قتيبة وابن رمح قد خالفا عبد الله حتى يطرح هذا السؤال؟! وقد رأيت آنفا أن روايات الليث كلها متفقة على عدم ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، ومنها رواية قتيبة ورواية محمد بن رمح. بل قال ابن أبي شيبة: ’’ورواة أهل مصر لا يدخلون فيه ابن عباس‘‘(1). الأمر الذي يدل بوضوح على أن الإمام مسلما بريء من ذكر ابن عباس حين روى الحديث من طريق قتيبة وابن رمح من المصريين.
وفي ضوء تصريحات النقاد الذين يشكلون المرجعية الرئيسة في علوم الحديث لا يسعنا إلا أن نقول: إن قتيبة وابن رمح وحجاج بن محمد المصيصي وغيرهم من الثقات الأثبات قد تابعوا عبد الله بن صالح.
واعتماد البخاري على ابن صالح لم يكن سهوا ولا استعجالا منه، وإنما كان بناء على خلفية علمية واسعة ، كما سيأتي (إن شاء الله تعالى).
وربما يقول الأستاذ: إن البخاري بشر يخطئ ويصيب؟! وكم ترك الأول للآخر؟!
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة 6/416(1/177)
أقول: نعم إنه بشر يخطئ ويصيب، وقد ترك الأول للآخر، لكن لا يجوز القول بذلك إلا عند اكتشاف الآخِر خطأ الأوائل.(1)وليس من الإنصاف العلمي والمنطق السليم أن يرد قول الأول المؤسس على معرفته الحديثية ، بمجرد كونه بشرا يخطىء ويصيب، أو بدعوى: كم ترك الأول للآخر.
ولئن كان للشيخ حق في أن يأتي برواية مصحفة لقتيبة وابن رمح من خارج التاريخ ليرد قول البخاري، وإنكار مصداقيته في التعليل، فلماذا يمنع غيره من أن يأتي بمرويات الثقات الثابتة والموافقة لعبد الله بن صالح للبرهنة على دقة البخاري في التعليل ؟!
والبخاري وغيره من الأئمة كانوا يهتمون بمعرفة حالة الرواية من حيث التفرد والمخالفة والموافقة من خلال استحضار الروايات والمقارنة فيما بينها، وهذا من أهم ما يشكل نقطة التباين بين أسلوب الأستاذ الذي يتوجه مباشرة إلى كتب التراجم لدراسة السند، وبين أسلوب النقاد في نقد الحديث.
وعلى كل فلم يكن الأستاذ منصفا ، ولا منهجيا في دراسة حديث عبد الله بن صالح الذي أورده البخاري ، ولا ينبغي له أن يزعم أن البخاري لا يعلم إلا ذلك الحديث، لمجرد سكوته عن غيره.
وقوله: ’’ثانيا حديث ابن جريج الذي رواه عنه أبو عاصم ليس فيه ذكر ابن عباس لكن فيه علة وهي عنعنة ابن جريج وهو مدلس، وإن كانت هذه العلة ستزول بتصريحه بالتحديث لكني هنا أبين الحيثيات التي استند إليها الإمام البخاري في حكمه‘‘.
أقول : أهكذا نتعامل مع نصوص النقاد ؟!
ألا يتريث الأستاذ في قوله – وهو في دراسة نص الإمام البخاري - : ’’لكني هنا أبين الحيثيات التي استند إليها الإمام البخاري في حكمه‘‘؟!
__________
(1) - انظر إلى ما يقوله الشيخ المنصف الفاضل / مقبل – رحمه الله - في كتابه (تحفة المجيب) جوابا عن السؤال الرابع عشر : ’’ ولا يقال كم ترك الأول للآخر في علم الحديث‘‘.(1/178)
يعني أن الأستاذ يعرف أن ابن جريج صرح بالتحديث في رواية أخرى، لكنه ينظر فقط في الرواية التي أوردها في التاريخ معنعنة. أ هكذا يعترض الباحث بنظره السطحي الذي لا يتجاوز ظاهر السند، على أقوال النقاد التي لا تصدر منهم إلا في ضوء خلفياتهم العلمية الواسعة، ؟!!
وكأن الأستاذ أعد نفسه لرد ما لم يعجبه، بأي أسلوب، سواء أ كان مضحكا أم مبكيا، سواء أ كان مألوفا أم غير مألوف.
وأسلوب الأستاذ يجعلنا نتساءل:
هل كان الإمام البخاري لا يعرف تدليس ابن جريج؟!
وهل لا يعرف أن عنعنة المدلسين غير مقبولة حتى يستدرك عليه بهذه الأمور التي لا يجهلها طالب مبتدئ؟!
وكيف ساغ له أن يقول إن حيثيات البخاري في ذلك الحكم هي ما ذكره في التاريخ؟!
ولماذا يمنع نفسه من البحث فيما يؤيد رأي البخاري من الأدلة ؟! بينما يكون الأستاذ مقداما فوق العادة في ميدان جمع الروايات كحاطب ليل، صحيحة كانت أو معلولة، إذا كان ذلك مما يخدم هدفه.
أ ليس هذا تلاعبا بنصوص النقاد ، وجرأة على علوم الحديث ؟!
وكيف يرفض قول البخاري ’’ذكر (ابن عباس) لا يصح‘‘، زاعما أنه لم يستوف الحيثيات ؟!
وهل يتوقف القبول من النقاد على استيفائهم حيثيات الأحكام؟!
وكيف يظن أن علم البخاري بالأحاديث هو ما سطره في كتبه فقط؟!
وهل وجد نصا يفيد أنه قد فاته كل ما لم يسطره في التاريخ الكبير من الروايات؟!
فأي المنهجين يفضي إلى الفوضى والبلبلة وطمس معالم النقد والخلط في السنة: منهجي أم منهج الأستاذ ؟!
ما هكذا تورد يا سعد الإبل !
هذا وقد نقل الشيخ نفسه سابقا أن السبيل إلى معرفة العلة: ’’أن يجمع الناقد طرق الحديث وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط‘‘.
فمعرفة العلة لا تتأتى إلا بعد جمع طرق الحديث والنظر فيها، والبحث عما يكتنفها من الملابسات والقرائن.(1/179)
وإن كانت معرفة العلة متوقفة على استيعاب الطرق واستيفاء الحيثيات ودراية القرائن، فإن ذكر العلة لم يتوقف أبدا على سرد تلك الطرق والحيثيات العلمية باستيعاب؛ فإن الناقد يخاطب بذلك من يفهمه من طلبة العلم. وبالتالي فقد يشرح ذلك بإيجاز، وقد يبسط فيه، وقد يعبر بما يفهمه معاصره.
لذا، فسكوت الناقد عند التعليل عن أدلته لن يكون دليلا على جهله بها، كما أن اقتصاره على ما ذكره في النقد لن يكون دليلا على استعجاله في الحكم قبل أن يبحث ويتتبع وينخل.
وليس من عادتهم ذكر جميع حيثيات النقد، وإنما يذكرون بعض أطراف الرواية، كما هو شأن البخاري في التاريخ ، وابن أبي حاتم في العلل ، وعلي بن المديني في العلل والترمذي في سننه وعلله. وقد يجمع طرق الحديث باستيعاب أو بلا استيعاب عند بيان العلل كما أَلِفنا الدارقطني في علله.
وفي ضوء هذا الواقع الذي يتجلى مثل الشمس يصبح ما قاله الشيخ غير منهجي. ومن المعلوم أن من عادة العلماء البحث والتتبع عن محامل الأقوال الصادرة عمن سبقهم من الأئمة إذا اشتبه عليهم شيء منها. وأستاذنا لا يلتفت إلى خارج التاريخ لفهم كلام الإمام البخاري، إذا كان ذلك يخالف رأيه. وأما إذا كان مما يخدم رأيه فإنه من أكثر الناس نشاطا وشغبا بجمع المتابعات والشواهد كحاطب ليل.
ومما ينبغي لنا أن نعرفه جيدا أن الأئمة النقاد لا يخوضون في التصحيح والتعليل والترجيح إلا بعد جمع طرق الحديث، وفحصها. واذا لم يستطيعوا الجمع والنظر توقفوا عن النقد.
وقد سأل الترمذي البخاري عن حديث رواه بسنده عن أبي جحيفة وآخر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – (شيبتني هود وأخواتها) أيهما أصح، فقال البخاري: ’’دعني أنظر‘‘، ولم يقض فيه بشيء.(1)
أما رأيت الإمام البخاري هنا يتوقف عن الحكم قبل الجمع والمقارنة؟!
هل كان يقصد من قوله ’’دعني أنظر‘‘ أن ينظر في ترجمة الرواة؟!
__________
(1) - علل الترمذي الكبير 1/358(1/180)
كلا . فإن الرواة وأحوالهم ومراتبهم عند النقاد معروفة، وقد ذكر الترمذي الحديثين بسنديهما.
وأين نحن من هؤلاء النقاد حتى نرد كلامهم بظاهر الأمور؟!
وأين نحن من الأحاديث التي كان يحفظها الإمام البخاري وغيره حتى نقول إنه فاتته الروايات بمجرد أنه لم يذكرها في التاريخ؟!. وكان على الشيخ أن يسكت بحلم، أو ينطق بعلم.
ولا يعني هذا أبدا أنهم معصومون من الخطأ، وأنهم لا يخطئون فيما يصدر عنهم من الأحكام، كلا وألف كلا. بل يعني أنهم لا يقصرون في جمع الطرق والنظر فيها، وأنهم لا يُقدمون على تعليل حديث أو نقده إلا بعد استيعاب طرقه. لذا، فإن الخطأ فيما يتفق عليه النقاد مستحيل عرفا، وإن كان جائزا في حق واحد منهم، وإن أخطأ أحدهم فإن غيره من النقاد لا يوافقونه عليه.
وقول الشيخ:
’’ثالثا: الإسناد الثالث إسناد صحيح وقد صرح فيه ابن جريج وشيوخه إلى ميمونة بالتحديث، وهو كما ترى ذكر فيه ابن عباس، وهو من المتابعات القوية لحديث الليث عند مسلم التي رواها عن قتيبة وابن رمح عن الليث إلى ابن عباس عن ميمونة مرفوعا‘‘.
أقول: كيف يحكم الأستاذ بصحة الإسناد بمجرد تصريح المدلس بالسماع؟!
وأين بقية شروط الصحيح ؟!
أما رأيت الإمام البخاري، والدارقطني قد قالا بأن ذكر ابن عباس في حديث ابن جريج لا يصح، ليس لأنه مدلس، ولا لأنه متكلم فيه، ولا لأن البخاري والدارقطني لا يعرفان عن أحوال ابن جريج، كلا، وإنما لمخالفة بعض رواته ما ثبت عنه. ومن أهم شروط صحة الحديث خلوه من تلك المخالفة التي تعد علة وشذوذا.(1/181)
وأما النقاد فيحكمون على الحديث بأنه صحيح أو غير صحيح بناء على الحفظ والمعرفة والفهم. وبالتالي إذا قالوا هذا صحيح فمعناه أنه تبين لهم أن الرواة لم يخطئوا في رواية هذا الحديث. وإذا قالوا : هذا منكر، وهذا غير محفوظ ، أو هذا غريب، فمعناه أنه تبين لهم أن الراوي أخطأ في الحديث. وليس معناه أن رواته ضعفاء، أو أحد رواته ضعيف، أو الإسناد منقطع، حتى يأتي الأستاذ اليوم ليقول مستدركا عليهم: كلا، إن رواته ثقات، أو صرح فلان بالتحديث.
وقوله: ’’وقول البخاري على جلالته (ولا يصح فيه ابن عباس) غير مسلم؛ لأنه فيما يبدو على أن مكيا خالف اثنين وهما عبد الله بن صالح وأبا عاصم (كذا) الضحاك بن مخلد، ولا يمنعني كثرة حفظه وجلالته أن أقول : إنه فاته أن قتيبة وابن رمح الإمامان الثقتان الثبتان قد رويا الحديث عن الليث ، والإمام البخاري أجل وأحفظ من مسلم، وله أمور يمتاز بها على مسلم يعرفها أهل الشأن.
ولكني أكاد أقطع أن الإمام البخاري قد فاتته رواية قتيبة وابن رمح، ولو كانت روايتهما عنده لما تجاهلها في هذا الموقف فهو أخشى لله وأتقى من ذلك‘‘.اهـ
قلت: والله كم يستفزني صدور مثل هذا الكلام غير المنهجي من أستاذ جامعي قضى حياته في حقل تدريس الحديث وعلومه!.
لا ينبغي الفهم أن البخاري ضعف ذكر ابن عباس في السند لأن مكيا خالف اثنين، وهما: عبد الله بن صالح وأبو عاصم الضحاك بن مخلد. إذ الاختلاف الذي يقتضي الترجيح أو الجمع يجب فيه أن يتحد مخرج الروايات المختلفة(1)، بينما الاختلاف الذي أثاره الأستاذ لم يكن متحدا في المخرج؛ فإذا كان مخرج الحديث في رواية عبد الله بن صالح هو الليث بن سعد، فإن المخرج في رواية مكي وأبي عاصم هو ابن جريج، وبالتالي لا يقال إن مكيا قد خالف عبد الله بن صالح. وكيف إذن يحمل هذا الفهم المغلوط على الإمام البخاري؟!
__________
(1) - انظر النكت 3/715(1/182)
نعم يقال هنا: إن مكيا قد خالف أبا عاصم لاتحاد مخرجهما وهو ابن جريج.
وعلى كل فقول الإمام البخاري في غاية من الدقة، ولا يشك في نصاعته أحد ممن عنده معرفة حديثية أو ممارسة لنصوص النقاد. لذا، وجدنا الإمام الدارقطني في العلل قد وافقه في ذلك، ولم نجد لهما مخالفا من النقاد.
والواقع أن الاختلاف على ابن جريج إنما هو بين عبد الله بن المبارك وأبي عاصم من جهة وبين عبد الرزاق ومكي من جهة أخرى، وفي مثل هذا الاختلاف ينبغي ترجيح أحد الروايتين، أو تصحيحهما جميعا بناء على مقتضى القرائن، ولا يكون ما وقع في نسخة صحيح مسلم من التصحيف دليلا للترجيح، والذي يتعين علينا في مثل هذه المناسبة هو قبول ما رجحه البخاري والدارقطني وغيرهما دون اعتراض عليهم.
وربما صوب الأئمة إسقاط ابن عباس في حديث ابن جريج لموافقة ذلك رواية الليث المتفقة على إسقاطه، وربما يكون للترجيح سبب آخر، لأنهم لا يرجحون شيئا جزافا ودون علم ومعرفة، وإن كان الوهم والخطأ والنسيان من طبيعة البشر لكنه بعيد فيما اتفق عليه الأئمة في عصور مختلفة. وهذا هو اعتقادنا في سلفنا. والله الموفق.
ثم إن قول الشيخ: ’’ولا يمنعني كثرة حفظه وجلالته أن أقول إنه فاته أن قتيبة وابن رمح الإمامان الثقتان الثبتان قد رويا الحديث عن الليث‘‘، مرفوض لدى العقلاء؛ إذ سكوت البخاري عن شيء لا يعني بالضروة أنه فاته ذلك الشيء.
والذي أعرفه من تاريخ الأئمة النقاد الذين تصدوا لهذه المهمة العلمية، بل أعتقد اعتقادا جازما، أنهم لا يقتصرون على سماع الحديث من شيخ واحد، لا سيما إذا كان ذلك الحديث مرويا عن أحد المكثرين أمثال الليث، بل يجتهدون ويتتبعون، ويرحلون لكي ينظروا في ذلك الحديث ضمن أحاديث أخرى، ويسمعونه من تلاميذ ذلك الشيخ، بل يسمعون من شخص واحد أكثر من مرة. ولهم في ذلك غرضان أساسيان، وهما:
أ - دراسة حال الحديث.
ب - ودراسة حال راويه.(1/183)
هنا مثلا حديث الليث في فضل الصلاة في المسجد النبوي، رواه الإمام البخاري من طريق عبد الله بن صالح عنه في التاريخ الكبير، ولم يزد عليه، مع شهرة رواية قتيبة وابن رمح وغيرهما عنه، وهذا لا يدل - لا من قريب ولا من بعيد - على أن الإمام البخاري قد فاته ما لم يذكره بمجرد أنه لم يذكره في التاريخ الكبير. ولو ثبت عندنا أن البخاري كان يستوعب في تاريخه ذكر الروايات المتفقة والمختلفة ثم وجدناه لم يذكر إلا رواية واحدة لحديث ما لكان ذلك دليلا على أنه لم يعلم إلا ما ذكره فيه.
أما والإمام البخاري لم يشترط في التاريخ استيعاب الروايات، بل صرح بأن الكتاب مختصر(1)، فعدم ذكر الروايات الأخرى فيه قد يكون لاتفاقها أو لعدم وقوفه عليها. لكن مناسبة النقد تدل على أنه كان مهتما بروايات أخرى عن الليث. وإلى جانب هذا أن عادته أن يعل الحديث أو يعرض عنه إذا لم يعرفه إلا من طريق واحد.
وفي ضوء هذه المعطيات يتعين علينا القول إن البخاري اكتفى بذكر رواية
عبد الله بن صالح دون غيرها من الروايات المشهورة بين معاصريه، لوجود اتفاق بينها، ولا حاجة لذكرها في تاريخه الكبير الذي لم يلتزم فيه الاستيعاب.
__________
(1) - صرح الإمام البخاري نفسه بأنه مختصر . انظر تاريخ بغداد 2/7(1/184)
ومن المعلوم أنه إذا سمع البخاري من عبد الله بن صالح، أو غيره أحاديث الليث مثلا فإنه يولي اهتماما كبيرا لسماعه من الآخرين من أصحابه، ومنهم قتيبة بن سعيد وابن رمح، وغيرهما من الثقات، ولم يكن من عادتهم أن يقتصروا في ذلك على راو واحد، بل يسمعه من شخص واحد أكثر من مرة، كما يسمع ذلك الحديث من غير واحد إذا أمكن ذلك، وذلك لكي يعلم مدى ثبوت ما يروى عن الليث، ولهذا الغرض كان يرجع إلى كتب عبد الله بن صالح فيما يخص حديث الليث، كما يظهر ذلك بجلاء لمن يتتبع التاريخ الكبير. هذا وقد رحل البخاري فعلا إلى مصر مرتين للقاء المحدثين فيها، وكان قتيبة ممن صاحبه كثيرا في الحضر والسفر، حتى إنه دخل مع قتيبة وغيره الكوفة مرات لا تحصى.
جاء عن قتيبة بن سعيد: ’’لقد رحل إلي من شرق الأرض ومن غربها، فما رحل إلي مثل محمد بن إسماعيل‘‘. مما يدل على أن البخاري قد صاحبه ولازمه. وكذلك قد لقي الإمام البخاري ابن رمح وهو مصري، وقد روى عنه خارج الصحيح(1). وهما من مشاهير أصحاب الليث .
وإذا كان هذا حال أئمة النقد عموما، كيف يُقْدِم الأستاذ على الجزم بأن البخاري فاته حديث قتيبة وابن رمح ؟! ومن أخبره بذلك ؟!.
وقوله في (ص 19):
’’رابعا: حديث مسدد عن بشر بن الفضل عن عبيد الله عن نافع كلهم من جبال الحفظ ، مسدد ثقة حافظ . تقريب (2/242)
وبشر بن الفضل ثقة ثبت فاضل عابد . تقريب (1/537)
ويضم بشر بن الفضل إلى الرواة الذين اختارهم مسلم في الرواية عن عبيد الله عن نافع به ، وهم: يحيى القطان وابن نمير وأبو أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي.
وهل يطلب لصحة الأحاديث وثبوتها أعلى وأثبت وأحفظ من هؤلاء أو على منهج الأخ الباحث من أراد أن يدلل على علة حديث يأتي بأمثال هؤلاء‘‘.اهـ.
__________
(1) - انظر التهذيب 9/165(1/185)
قلت : على أنه قد مضى ما يكون جوابا عن هذه الفقرة فإنه مما ينبغي أن نتذكره دائما أن قضية التصحيح والتعليل ليست بالأمر الهين، وأن التصحيح لا يكون إلا بعد أن تتوفر في الحديث شروط الصحة، ومن أهمها خلوه من مخالفة الثابت والتفرد بما ليس له أصل، وهذا هو المنهج المعروف عند المحدثين في التصحيح، وأما تصحيح الإسناد فعمل لا طائل تحته سوى التنبيه على أن رواته ثقات فقط. وبالتالي يبقى عمل النقاد نزيها ومحترما.
ويبدو من تركيز الأستاذ على ذكر عدد كبير من الرواة ممن رووا هذا الحديث عن عبيد الله أن الإشكال في روايتهم عنه ، وليس الأمر كذلك، لأن الحديث ثابت عن عبيد الله بهذا الوجه، وأما الإشكال الذي أثاره النقاد فيكمن في رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.
قوله: ’’خامسا مسدد (عن ) يحيى(وهو ابن سعد القطان ) عن موسى الجهني سمع نافعا سمع عبد الله بن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم – مثله – والأول أصح.
وهذا إسناد قوي فيه جبال الحفظ ، وأدناهم موسى الجهني ، وهو ثقة عابد ، وفيه تقوية لابن أبي زائدة الذي روى مسلم الحديث عن طريقه عن موسى الجهني به .
ثم ليقف المنصف هنا عند قول الإمام البخاري ’’والأول أصح‘‘ وليتساءل :
أولا : ما المراد بقوله: ’’ الأول‘‘
ثانيا : ما المراد بقوله: ’’أصح‘‘
هل يريد الأولية المطلقة في الأحاديث التي رواها في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس ؟!
هذا بعيد لأن في الإسناد الأول عبد الله بن صالح، وهو ضعيف.
ويحتمل أن يريد الأولية الإضافية .
فقد يريد بها تفضيل أحد إسنادي حديث عبد الله بن عمر.
أي يريد بيان أصحية إسناد بشر بن المفضل عن عبيد الله ، وأنه أصح من إسناد موسى الجهني .
وليس هذا بمستبعد، فيكون قصده إثبات صحة الإسنادين إلا أن أحدهما أصح.(1/186)
ويحتمل أن يريد الأولية الإضافية أيضا، ويكون قصده أن حديث ميمونة أصح من حديث عبد الله بن عمر ، ويقصد بذلك بيان اشتراكهما في الصحة إلا أن حديث ميمونة عنده أصح ، كما هو الأسلوب العربي المعروف.
فقوله: ’’والأول أصح ‘‘ محتمل لهذه الوجوه وليس هناك دليل واضح على أحدها. وليس هناك دليل في كلامه على تعليل حديث عبد الله بن عمر. فالجزم بتعليله بناء على كلام الإمام البخاري هذا والجزم بأن مراده بقوله : الأول حديث ميمونة لا يخلو من مجازفة وتعسف.
وبناء على هذا التعليل يمكن القول: بأن البخاري لم يعلل حديث عبد الله بن عمر‘‘ انتهى تعقيب الأستاذ . اهـ
أقول: استنتاج الأستاذ في غير محله، والاحتمالات التي كلف نفسه في تخمينها مستبعدة جدا في ضوء سياق النص ومنهج النقاد في التعليل، وأما الاحتمال الذي استبعده بدون دليل فهو أقرب إلى الصواب، بل عين الصواب. وتوضيح ذلك فيما يأتي:
نعم ليقف هنا المنصف الواعي عند قول الإمام البخاري ( والأول أصح ). إن هذا القول يعود إلى الطرف الأول من أطراف الاختلاف على نافع ، وهو’’عبد الله بن صالح عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة‘‘ و’’أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة‘‘. كما فهمه القاضي عياض(1)، والإمام النووي وغيرهما من الشراح، ثم بعدهم بقرون جاء الشيخ ليفهم الشيء نفسه في كتابه (بين الامامين). غير أن الشيخ تطور تفكيره فقال:
__________
(1) - هذا نص القاضي عياض : ’’وقد ذكر البخاري في تاريخه رواية عبيد الله وموسى، عن نافع قال: والأول أصح. يعني رواية إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة كما قال الدار قطني. والله أعلم‘‘، ونقله الإمام النووي وغيره مقرين بذلك.(1/187)
’’و(الأول أصح) محتمل لهذه الوجوه وليس هناك دليل واضح على أحدها. وليس هناك دليل في كلامه على تعليل حديث عبد الله بن عمر. فالجزم بتعليله بناء على كلام الإمام البخاري هذا والجزم بأن مراده بقوله: الأول حديث ميمونة لا يخلو من مجازفة وتعسف‘‘ .
أقول: مما يمكن الجزم به في ضوء منهج المحدثين في بيان الاختلاف والترجيح أن قوله (الأول أصح) لا يعود إلى رواية بشر عن عبيد الله .
وليتضح ذلك نقرأ أولا ما ساقه البخاري في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس من الروايات والتعقيبات قراءة منهجية.
الذي يبدو لكل منصف يتتبع نصوص البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة إبراهيم هو: أن البخاري قصد من خلال عنوانه - وهو: ’’إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب أخو عباس الهاشمي عن أبيه وميمونة‘‘ - وما أورده فيه من الروايات: أن يبرهن على أن إبراهيم له رواية عن ميمونة، بغض النظر عن مدى اتصالها وانقطاعها، وأنها ليست عن ابن عباس. أما روايته عن أبيه فليس في ثبوتها إشكال، وقد ثبت من الروايات المشهورة في الصحيح والسنن أنه روى عن أبيه عن ابن عباس، لذا أعرض عن هذا الجانب، مركزا على رواية إبراهيم عن ميمونة، لما فيها من إشكال قد يثيره بعض الباحثين نظرا إلى ظاهر الأسانيد التي تتصل بحديث إبراهيم.
فأورد البخاري في ترجمة إبراهيم أولا رواية الليث من طريق عبد الله بن صالح، ورواية ابن جريج من طريق أبي عاصم والمكي، وثانيا رواية عبيد الله وموسى الجهني، وبذلك قد استوعب جوانب الموضوع المتعلق بكيفية رواية إبراهيم عن ميمونة بذكر أطراف الاختلاف، ثم رجح في ضوء القرائن أن الصواب ما رواه الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، حين قال:’’والأول أصح‘‘، يعني الطرف الأول من أطراف الاختلاف، ألا وهو رواية الليث وابن جريج.
كما رجح الإمام البخاري عدم ذكر ابن عباس في حديث ابن جريج.(1/188)
وبهذا العرض العلمي الدقيق والمقارنة والترجيح تبين لنا جليا أن البخاري قد برهن على صحة ما ورد في العنوان، وهو: أن إبراهيم له رواية عن ميمونة، مبعدا عنه كل ما تثيره بعض الروايات من إشكال، وبذلك تناسق كلامه الطويل في ترجمة إبراهيم بعضه مع بعض.
ومن الجدير بالذكر أن الإمام البخاري له أغراض علمية في ترجمة الرواة وذكر الروايات المتعلقة بصاحب الترجمة، وتتنوع هذه الأغراض العلمية بتنوع المشكلات المثارة حول الراوي المترجم له. قد يكون غرضه إثبات سماعه من فلان، أو تحقيق اسمه الكامل، أو تحقيق روايته عن فلان بغض النظر عن مدى الاتصال والانقطاع بينهما، أو يكون قصده بيان شهرة الراوي بالحديث الذي أورده في ترجمته، قد يكون الحديث مشهورا وقد يكون غريبا، أو بيان شهرة الحديث بصاحب الترجمة، وقد يكون الراوي مشهورا وقد يكون غير معروف إلا من خلال حديثه الذي أورده في ترجمته، وقد يكون ذلك الحديث مشهورا وقد يكون غريبا.
وعلى كل فقد تضمنت نصوصه في ترجمة إبراهيم نقطة علمية رئيسة؛ وهي هل روى إبراهيم عن ميمونة أم أن هذه الرواية غير ثابتة. وركز على إثباتها من خلال ترجيحه رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة. أما موضوع رواية إبراهيم عن ابن عباس في حديث ابن جريج فقد عالجه البخاري استطرادا، حين أتى برواية ابن جريج، وصرح بعدم ثبوت روايته عن ابن عباس.(1/189)
وإثبات رواية إبراهيم عن ميمونة متوقف على حل الخلاف بين عبيد الله وموسى الجهني من جهة، وبين الليث وابن جريج من جهة أخرى، وذلك لأنه لو كانت رواية عبيد الله وموسى الجهني هي التي ثبتت عن نافع في حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي لانتفى مجال رواية إبراهيم عن ميمونة، لأن إبراهيم قليل الحديث ، ويبدو أن روايته عن ميمونة لم تعرف إلا من خلال هذا الحديث، ولذا ركز البخاري على حل ذلك الخلاف من خلال هذا الحديث، بترجيح رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة في ضوء الأدلة والقرائن التي يفهمها أهل التخصص من سياق كلام البخاري.(1)
__________
(1) - ومن الجدير بالذكر أن إبراهيم هذا قليل الرواية جدا، وأمثال البخاري من علماء الجرح والتعديل إنما يكون تعويلهم على مثل هذه الأسانيد الصحيحة في إثبات الرواية والسماع في حق الرواة القدامى غير المشهورين. والله أعلم
وينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن كثيرا من المتأخرين مثل صاحب كتاب الكمال وصاحب تهذيبه وغيرهما من المتأخرين إنما يعولون على ما ذكره السابقون، بالإضافة إلى ما ورد في الأسانيد من الروايات، من دون تحقيق لمدى صحة السماع واللقاء، بخلاف البخاري وغيره من أئمة النقد، فإنهم يتأكدون من ذلك بدقة. ومن هنا جاء في ترجمة إبراهيم من تهذيب الكمال وما لحقه من كتب التراجم ذكر ابن عباس من شيوخ إبراهيم ، بينما في كتب المتقدمين لم يذكر أنه روى عن ابن عباس .(1/190)
ولما أورد البخاري رواية عبيد الله و موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر مع رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، في ترجمة إبراهيم دلنا على وجود خلاف على نافع؛ هل روى نافع هذا الحديث عن ابن عمر أم عن إبراهيم. وهذا الاختلاف بعينه جاء في صحيح الإمام مسلم بعد أن اعتمد على حديث أبي هريرة الذي لم يختلف في صحته أحد من النقاد حسب تتبعي. ثم جاء الإمام النسائي ليبين الاختلاف ذاته على نافع، ثم أورد ذلك الاختلاف الإمام الدارقطني في كتابه التتبع. انظر كيف اتفق هؤلاء الأئمة في مختلف العصور والبلدان على تلك النقطة التي أثارها الإمام البخاري في التاريخ الكبير. فهذا دليل على مدى دقة نظر كل واحد منهم في الحديث وتوحد منهجهم في النقد.
ولم نر أحدا منهم يعترض على الآخر بأن فلانا من أهل الطبقة الأولى، أو كلهم ثقات أجلاء، وله متابعات وشواهد فالحديث صحيح من جميع هذه الطرق!، بل نرى النقاد ينضم بعضهم إلى بعض بإثارة الاختلاف الذي أثاره أسبقهم.
وبعد بيان الاختلاف على نافع رجح البخاري رواية الليث وابن جريج بقوله (والأول أصح). فرجعت الأولية إلى الطرف الأول من أطراف الاختلاف على الأسلوب الحديثي المعروف، بل على الأسلوب العربي المألوف.
وينبغي أن يتذكر الأستاذ أن الاختلاف هنا يرجع إلى نقطة واحدة، بالنسبة إلى رواية عبيد الله و موسى الجهني، وهي: هل روى نافع هذا الحديث عن إبراهيم عن ميمونة، أم عن ابن عمر مباشرة. هذه فائدة ربط الروايات المضطربة بمدارها والمقارنة بينها.
وأما احتمال أن يقصد البخاري بقوله (الأول أصح) رواية بشر عن عبيد الله، فغير وارد هنا أصلا لأنه :
أولا - كما سبق – أن البخاري في صدد بيان الاختلاف بين عبيد الله وموسى الجهني من جهة، وبين الليث وابن جريج من جهة أخرى. ومن المعلوم لدى الجميع أن أي ترجيح يكون بعد بيان الاختلاف إنما يكون بين الأطراف المختلفة، وليس بين الأطراف المتفقة.(1/191)
ثانيا: أن المراد بقوله (أصح) هو الترجيح، وليس بيان الاشتراك في أصل الصحة، وقد سبق في كتب المصطلح أن هذا المصطلح إنما يستخدم للترجيح عند الاختلاف. لا أدري من أين أتى الأستاذ بهذه التحليلات الغريبة؟! وكتب المصطلح بريئة كل البراءة من هذا الفهم المغلوط. غفر الله لنا وله.
أسلوب البخاري في استخدام كلمة (الأصح) في التاريخ الكبير
لعل من الأفضل أن ننظر في أسلوب الإمام البخاري في استخدام كلمة (الأصح) في تاريخه الكبير؛ فهو يطلق فيه عند بيان الاختلاف على راو، مرجحا لوجه من وجوه هذا الاختلاف، ويقول: (هذا أصح), أو (الأول أصح)، وهوالغالب، ويطلق أحيانا لفظ (الأشبه)، أما إطلاقه (الصواب)، و(المحفوظ ), فقليل ولا يكاد يوجد فيه، ويقول كذلك: في تاريخه عند بيان الاختلاف (ولا يصح) يريد به أنه غير محفوظ، أو مرجوح، ويقول أحيانا (ولا يتابع عليه ) وأما مصطلح (ولا أراه محفوظا ) ، (وهو خطأ) فنادر جدا.
وكذلك لم يقل (وخالفه)، أو (واختلف عليه) لبيان الاختلاف، بل يقول (وقال) إلا في أربعة مواضع من التاريخ، وهي (1/51 ،92 ، 4/292, 5/40) فقد قال فيها (وخالفه)، هذا كله في ضوء استقرائي لتاريخه.
أما اطلاقه (هذا أصح)، (والأول أصح) فيريد به الترجيح بغض النظر عن مدى استيفائه شروط الصحة، فقد يكون ما قاله الراوي مرسلا أو منقطعا، أو خطأ، إذ المقصود بالترجيح هو بيان ما ثبت عن الشيخ المختلف عليه. و ليس معناه بيان الاشتراك في أصل الصحة.
وإذا رجعنا إلى كتاب التاريخ نفسه، و نظرنا ما هي عادته فيه، وجدنا فيه (1/303) قوله في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن سفيان الأخنسي: (وهذا أصح) عقب بيان رواية سليمان بن يزيد المدني حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن سفيان عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن عمر .(1/192)
ثم أورد طريقا آخر بقوله: حدثني حامد بن عمر حدثنا بشر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري حدثني ثعلبة بن عبد الله بن صعير... مثله ، (ولا يصح فيه ثعلبة).
فإذا كان البخاري يريد بقوله (الأصح) بيان الاشتراك في أصل الصحة فكيف إذن يقول عن المرجوح (ولا يصح)، إذن واضح وجلي أنه يريد بقوله (الأصح) ترجيحه فقط.
وانظر أيضا في (2/172) فقد أورد الإمام البخاري في ترجمة ثعلبة بن الحكم الليثي، اختلافا على سماك، فذكر رواية زكريا بن أبي زائدة عن سماك عن ثعلبة بن الحكم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’لاتحل النهبة‘‘، ثم ذكر رواية أسباط عن سماك عن ثعلبة عن ابن عباس، وقال: (ولا يصح ابن عباس) وقال عن رواية سماك عن ثعلبة بن الحكم "انتهبوا يوم خيبر‘‘ (وهذا أصح). وهذا ظاهر أيضا أنه يريد به الترجيح.
وانظر أيضا في (6/408-409) فقد ذكر فيه البخاري رواية عبد العزيز ابن رفيع حدثني ابن أبي مليكة وعكرمة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه أكل لحما ولم يتوضأ).
وعقبه البخاري بقوله: (وهذا لا يصح). وذكر سببا له فقال: ’’لأن أيوب وسماكا وعاصما رووه عن عكرمة عن ابن عباس‘‘، ثم قال البخاري: ’’وقال الليثي حدثني عقيل عن يونس عن ابن شهاب أخبرني سعيد بن خالد سمع عروة سمع عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم توضؤوا مما مست النار، وهذا أصح‘‘. وهذا أيضا ظاهر في أنه يريد الترجيح.
وكذلك في (6/449) من التاريخ في ترجمة عامر بن أسامة بن عمير البصري الهذلي . قال البخاري : قال مسلم ثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المليح كنا مع بريدة في غزوة، وقال الأوزاعي عن يحيى عن أبي قلابة عن أبي مهاجر. قال البخاري : (والأول أصح)، ثم قال: ’’وروى الأوزاعي أيضا أحاديث عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي مهاجر، ولا يصح من أبي قلابة عن أبي المهاجر شيء‘‘.(1/193)
وهذا أيضا ظاهر في أنه لا يريد به الاشتراك في أصل الصحة، بل يريد به الترجيح.
هكذا رأينا البخاري يجمع بين قوله (الأصح) و(لا يصح) أو بين (الأصح) و(لا يتابع عليه) في سياق واحد في مواضع من التاريخ؛ منها (3/284، 5 /21) مما يؤكد أن المراد بالأصح عند بيان الاختلاف هو الترجيح، دون بيان الاشتراك في أصل الصحة.
ومن عادة البخاري وغيره من الأئمة إطلاق (الأصح) للتعبير عن الراجح بغض النظر عن مدى استيفاء الحديث شروط الصحة من الاتصال وغيره، فكانوا يطلقون ذلك فيما كان منقطعا أو متصلا أو موقوفا أو مرفوعا أو غيرها.
قال البخاري في التاريخ (2/171):
’’وحديث ثابت أصح وفي نفس الحديث نظر‘‘.
وفي(2/228) ’’هذا أصح بإرساله وانقطاعه‘‘.
وفي(4/221) ’’وهذا أصح بانقطاعه، ولا يصح إلا عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم‘‘.
وبعد فأقول إن الأئمة النقاد إذا قالوا في أثناء بيان وجوه الاختلاف أو بعده: (هذا أصح) أو (الأصح كذا)، أو(الصحيح كذا) أو(الأشبه كذا)، أو (هذا يشبه)، أو(المحفوظ كذا)، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك أن هذا هو الثابت عن الراوي، بغض النظر عن مدى سلامته من الخطأ والوهم؛ فقد يكون ضعيفا، وقد يكون صحيحا.
ومن المعلوم أن لكل فن رجالا، ولهم فيه منهج واصطلاحات خاصة بهم، ولا يسعنا إلا أن نلتزم بمنهجهم، ولا ينفع فيه الشغب والانفعال والطعن والدعوى الفارغة.
وكذا يقول الإمام الترمذي: ’’ هذا أصح شيء في هذا الباب‘‘ ولا يريد به أنه أكثر صحة من غيره، بل يريد الترجيح فقط(1).
إذا كانت هذه هي عادة الإمام البخاري في تاريخه الكبير تعين المراد بقوله في المثال السابق (والأول أصح): أن ما أورده أولا من وجوه الاختلاف على نافع ثابت عنه، وهو ما رواه الليث وابن جريج بدون ذكر ابن عباس. ويفهم من ذلك أن ما رواه عبيد الله وغيره، خطأ.
__________
(1) - وانظر مقدمة تحفة الأحوذي (ص: 197).(1/194)
كما لا يمكن أن يراد بقوله (الأول أصح) أن ما رواه الليث أكثر صحة من غيره، وذلك لأن حديث إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة لم يثبت اتصاله، وإلى جانب هذا فإن إبراهيم لم يوثقه إلا ابن حبان، وبالتالي لم تتوفر فيه شروط الصحة، فضلا عن أن يكون حديثه أصح من حديث عبيد الله وغيره عن نافع عن ابن عمر، ورجال هذا الإسناد كلهم جبال. فلا يمكن أن يقال في حق الإمام البخاري، في ضوء ما شرحه في التاريخ الكبير:
’’أنه يرى صحة حديث ابن عمر وحديث ميمونة، إلا أن حديث ميمونة عنده أكثر صحة من حديث ابن عمر‘‘. كما زعم الشيخ.
وإن كان الشيخ يدعي صحة الروايتين فعليه أن يأتينا بدليل مقبول. ولا يكون قوله ’’إن حديث ابن عمر رجاله أفضل من رجال حديث ميمونة‘‘ كافيا في ذلك، وليس من المعقول أن النقاد أغفلوا جميعا في مختلف العصور أحوال رواة هذين الحديثين. فهذه دعاوى فارغة لا صلة لها بالموضوع الذي نحن بصدده. بل إن ترجيحهم ذلك تنبيه قوي إلى أن منهجهم قائم على الحفظ والفهم والمعرفة، وليس على ظاهر السند وأحوال الرواة.
هذا ما قاله الشيخ المعلمي : ’’أئمة الحديث قد يتبين لهم في حديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف، وفي حديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح ، والواجب على من دونهم التسليم لهم‘‘.
ويقول الخليلي: ’’وإذا أسند لك الحديث عن الزهري او عن غيره من الائمة فلا تحكم بصحته بمجرد الإسناد فقد يخطئ الثقة ‘‘(1).
ويقول الحافظ ابن حجر : ’’فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث‘‘(2).
__________
(1) - الإرشاد 1/202
(2) - النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص: 64(1/195)
ويقول السخاوي: ’’... ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر، لا ينكر عليهم، بل يشاركهم، ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة‘‘.
’’هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريج كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين‘‘.
’’فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك ( إن شاء الله ) معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله‘‘(1). اهـ.
خلاصة القول حول رأي البخاري في حديث ابن عمر، وتضليل الأستاذ في ذلك
في ضوء ما سبق يتبين جليا أن الإمام البخاري قد أعل حديث عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر بمخالفتهما رواية الليث وابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة، وصوب رواية الليث وابن جريج، كما فهم ذلك العلماء من قبل؛ كالقاضي عياض والنووي وغيرهما.
والغريب أن الأستاذ كان يقر بتعليل البخاري وتوهينه لحديث ابن عمر في أكثر من موضع، ومع ذلك فإنه ينسب إليَّ تضعيف هذا الحديث في مواطن كثيرة ليصب علي جام غضبه بحجة أني أضعف ما صححه هو بعد جهد جهيد في رسالته للماجستير.
__________
(1) - فتح المغيث 1/274 (ط: سنة 1407هـ إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس)(1/196)
وقوله الأخير في دراسته لنصوص الإمام البخاري: ’’ ولكنا مع إكبارنا له لا نسلم له ونرى أن الصواب ما اختاره مسلم من ثبوته وإضافة إلى هذه الدراسة نقول: إن الإمام البخاري لم يستوف حيثيات الحكم فلم يذكر رواية قتيبة وابن رمح وابن وهب عن الليث بن سعد عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة مرفوعا.
حيث اقتصر على رواية عبد لله بن صالح الضعيف ، ولم يذكر قتيبة وابن رمح وابن وهب الثقات الأثبات الذين ذكروا ابن عباس في الإسناد ورواية قتيبة وابن رمح في صحيح مسلم.
ولم يذكر رواية حجاج الشاعر وقتيبة نفسه التي توافق عبد الله بن صالح في حذف ابن عباس من الإسناد . وعلى فرض التسليم أنه أعل حديث ابن عمر فنقول : إنه لم يذكر متابعة معمر عن أيوب لعبيد الله بن عمر وموسى الجهني في نافع التي رواها مسلم في صحيحه.
ولم يذكر متابعة عطاء بن أبي رباح لنافع في ابن عمر التي رواها الإمام أحمد في المسند (2/29، 155) من طريق يوسف الأزرق ومحمد بن عبيد الطنافسي ، وكلاهما ثقة عن عبد الملك بن أبي سليمان ، وهو حسن الحديث ، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر‘‘.اهـ
قلت: قوله هذا لا يضر الواقع، ولا يقدم ولا يؤخر، فقد علمنا قدر علمه في الحديث وعلومه ومدى فهمه لنصوص النقاد ومصطلحاتهم من خلال ما سبق. وماذا سيحدث إذا لم يذكر الناقد في كتابه رواية فلان وفلان ؟! وهل يظن أن هؤلاء الأئمة يخاطبون بذلك أطفالا بلهاء(1)؟!
وإذا لم يذكر البخاري رواية فلان وفلان مما يعرفه الأستاذ لا يعني أنه لم يعل الحديث. ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ هنا بصدد إنكار نسبة الإعلال إليه، وليس في إنكار مصداقية تعليله لحديث ابن عمر.(2)
__________
(1) - معذرة ، هذا من لغة الأستاذ خاطبني بها حين رجح رأي الحافظ المزي على رأي البخاري والنسائي والدارقطني.
(2) - إن أسلوب الأستاذ هذا يؤكد أنه يقر بأن البخاري قد أعل حديث ابن عمر، لكنه فقط لم يستوف الحيثيات.(1/197)
أما التاريخ الكبير فقد صنفه البخاري على الاختصار ولم يلتزم فيه استيعاب ما يتصل بالراوي المترجم له من الروايات، حتى يستدرك عليه بأنه لم يستوف حيثيات الحكم، والبخاري إذ ألف هذا الكتاب فإنه يخاطب به العلماء الذين يفهمون مصطلحاته ومنهجه فيها، ولم يخاطب من يجهلها.
وسيأتي في المحور الرابع تحقيق ما يكمن في رواية معمر عن أيوب. وأما رواية عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر فلا يقال إنها مما فات البخاري بحجة أنه لم يذكرها في التاريخ الكبير.
واعلم أن هذه الرواية وجه من وجوه الاختلاف على عطاء، ومن الغريب المستفز أن يأتي الأستاذ هنا بهذه الرواية ويجعلها متابعة لنافع!! ما هذا الأسلوب؟! ألم ير البزار قد ذكرها ضمن وجوه الاضطراب على عطاء؟!. لذلك، فإن الدارقطني لم يعتبرها متابعة لرواية عبيد الله، مع أنه قد رواها في علله! وسيأتي تفصيل ذلك في محله في المحور الخامس (إن شاء الله تعالى).
إذا كان الباحث المعاصر لا يملك إلا معرفة أحوال الرواة وطبقاتهم، والمتابعات التامة والقاصرة، دون تنقيحها في ضوء ملابسات روايتهم؛ فإن تناوله لنصوص النقاد ونقد أحكامهم والموازنة بينهم يجعلنا نقول له:
ما هكذا تورد يا سعد الإبل!!.
ثم دخل الأستاذ في دراسة نصوص الإمام النسائي على الطريقة التي رأيناها في دراسته لنصوص الإمام البخاري، باحثا عن مدى صحة نسبة تضعيف حديث ابن عمر إلى الإمام النسائي، بعد أن أقر في أكثر من موضع بأنه ضعفه. وهذا نص دراسته :
نصوص الإمام النسائي وشبهات الأستاذ حولها
قال الأستاذ:
’’ وثانيهم الإمام النسائي – رحمه الله – فقد أشار فقط إلى طرف من هذه القضية فقال في سننه ( 5/168 ) تحت عنوان، (فضل الصلاة في المسجد الحرام )
أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد عن موسى بن عبد الله الجهني، قال سمعت نافعا يقول: حدثنا عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر الحديث.(1/198)
ثم قال: لم يرو هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني وخالفه ابن جريج وغيره. أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، قال إسحاق: أنبأنا، وقال محمد: حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا ابن جريج قال : سمعت نافعا يقول : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس حدثه(1)أن ميمونة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وساق الحديث.
فهذا كل ما أدلى به النسائي في هذه القضية فلم يستوف أدلة الطرفين، ولم يذكر رواية عبيد الله بن عمر بطرقها القوية ولم يذكر متابعاته.
ولم يذكر الاختلاف على ابن جريج ولا الاختلاف على الليث كما يفعله أئمة النقد في بيان العلل كابن المديني والدار قطني وابن أبي حاتم ومسلم في كتاب التمييز من جمع الطرق وبيان الاختلاف فيها وتوضيح العلل، وإنما أشار النسائي إلى طرف من القضية، ولم يبرهن عليها، ولم يدل فيها بحكم ولسنا ندري ما هو حكمه، وإنما ذكرت النسائي في رسالتي: (بين الإمامين) لأنه أشار إلى هذه القضية الإشارة التي وصفتها لا لأن له رأيا واضحا متكاملا في القضية.
ومن الجدير بالذكر أن النسائي رحمه الله قد روى حديث ميمونة في السنن الكبرى ( ل 51 )(2)من طريق ابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة، فذكر فيها ابن عباس، ونبه على ذلك المزي في تحفة الأشراف (12/485)، ويفهم من كلام المزي أنه رواه كذلك في المجتبى.
__________
(1) - فيه سقط ، يبدو أن كلمة (حدثه) ينبغي كتابتها قبل ابن عباس ، لأن عبد الرزاق رواه عن ابن جريج كذلك.
(2) - 2/390(1/199)
وبهذا يكون النسائي أشار إلى الخلاف بين أصحاب نافع في الجملة ولم يتعرض للخلاف في حديث ميمونة بذكر ابن عباس أو حذفه ثم يتضح لنا في هذا العرض أنه لا يجوز أن يقال إن النسائي انتقد وعلل حديث ابن عمر وميمونة كما يردد ذلك هذا الباحث(1). فهذه الدراسة التي كشفت عن هذه الأمور هي التي سوغت لي تأييد وتقوية وموافقة الإمام مسلم في تصحيح حديث ابن عمر ثم حديث ابن عباس عن ميمونة. وسوغت لي مخالفة ما فهمه القاضي عياض من كلام البخاري.
دحض شبهاته
هذه الدراسة أعجب من السابقة ، إذ نرى الإمام النسائي يعل حديث ابن عمر حين قال: ’’لم يرو هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني وخالفه ابن جريج وغيره‘‘، لكن الشيخ يقول:
’’لا يجوز أن يقال إن النسائي انتقد وعلل حديث ابن عمر وميمونة‘‘(2)
إذن ماذا عمل النسائي هنا في هذا الحديث؟!!
إن قول النسائي واضح في بيان مخالفة موسى الجهني لابن جريج وغيره، وهذه المخالفة يفهمها كل منصف واع أنها علة، ولا يفهم أنه يصحح حديث ابن عمر أو يقويه بتعدد الطرق. وبين الأمرين فرق واضح يعرفه كل طالب، إذ يقال عند التعليل :’’ وخالفه فلان ‘‘ وفي التعدد والتقوية: ’’تابعه فلان‘‘.
__________
(1) - لكل شيء حدود حتى الكذب والافتراء، فمن هذا الباحث الذي كان يردد بأن النسائي انتقد وعلل حديث ميمونة؟!! فأنا لم أقل ذلك ، وإنما قلت فقط أنه أعل حديث ابن عمر ، ورجح حديث ميمونة .
(2) - كما أن الأستاذ جاء هنا ليقر بالواقع دون أن يشعر، حين قال: ’’وسوغت لي مخالفة ما فهمه القاضي من كلام البخاري‘‘، إذن لست وحيدا في الميدان، وكنتُ قد فهمت من نصوصه كما فهم القاضي، وكل ما يوجهه نحوي من التهم يتوجه نحو القاضي أيضا.(1/200)
وهنا نقطة طريفة: كان الرجل يقول لنا إن النسائي لم يذكر حيثيات الحكم ولم يذكر رواية فلان وفلان، ومقتضى هذا أن النسائي أعل حديث ابن عمر لكن إعلاله غير مقبول عنده، أو فيه نظر لأنه لم يستوف الحيثيات، أو أعله بدون دليل.
وأما أن يقول بعد الدراسة: ’’ ثم يتضح لنا في هذا العرض أنه لا يجوز أن يقال إن النسائي انتقد وعلل حديث ابن عمر وميمونة كما يردد ذلك هذا الباحث‘‘ فدليل على تغير فهمه واختلال موازينه؛ لأن ما أتى به الأستاذ قبل هذا صريح في أن النسائي أعل حديث ابن عمر، لكنه فقط لم يستوف حيثيات حكمه وتعليله.
ثم إن النسائي ركز على تعليل حديث ابن عمر، وليس من الضرورة أن يذكر جميع الاختلافات الواردة في حديث ميمونة، حتى يقبل تعليله لحديث ابن عمر، ولم يشترط ذلك أحد من قبل.
صحيح أن الإمام النسائي لم يذكر هنا رواية عبيد الله ، ولا رواية الليث وهذا لا يعني أنه أعل الحديث دون علم بما ورد فيه من الطرق، واستعجل بالحكم دون مقارنة، كما لا يعني أنه يجهل ذلك الذي لم يذكره من طرق الحديث. وسبب ذلك التزامه بالاقتصار على أعلى أسانيده في سننه، لا سيما وقد ألف الحفاظ الصحاح والسنن في عصره وقبله، ولا يعيدون فيها الحديث بسنده إلا إذا كان عاليا، كما يتضح ذلك جليا من خلال المقارنة بين السنن وبين ما سبق من الصحاح، ثم إنه كان يخاطب بسننه من يفهمه من طلبة العلم .
ومن الجدير بالذكر أن الأئمة قد يركزون على بيان علة الحديث أكثر من تركيزهم على ذكر حيثياته، اعتمادا على فهم من يخاطبونه(1). لذا، نلفيهم يتفقون في التعليل ويختلفون في دقة التعبير عن بعض الحيثيات من التفرد والمخالفة، وهنا نرى الإمام النسائي يقول:
’’لم يرو هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني وخالفه ابن جريج وغيره‘‘ .
__________
(1) - جاء في تدريب الراوي : "وربما تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدينار والدراهم‘‘. (1/252)(1/201)
وكان تركيزه على بيان العلة في حديث ابن عمر أكثر من تركيزه على بيان حيثياتها، وقد تساهل في ذكرها، بل اكتفى بعبارة يظن أنها كافية في ذلك. لذا، لا ينبغي تفسير ما صدر من النسائي أنه ( رحمه الله ) استند في تعليل حديث ابن عمر إلى تفرد موسى الجهني به مخالفا لابن جريج وغيره. ثم الاعتراض عليه بأن الأمر ليس كذلك، بل تابعه عبيد الله بن عمر وغيره.
ولو فرضنا أن الإمام النسائي لم يستوف الأدلة لعدم وقوفه عليها، وأنه استند في تعليله إلى ما أورده في سننه دون غيره، وأنه كان مستعجلا في حكمه، ما وافقه غيره من النقاد، لكن وافقه كل من الإمام الدارقطني والبخاري، وهذا يدل على دقة نظره وصواب رأيه، وأنه أعل الحديث في ضوء خلفيته العلمية التي يجب توافرها في الناقد، ولم نجد أحدا من النقاد يعترض على النسائي برواية عبيد الله بن عمر وغيره، بل قد أعلوه مع علمهم بها.
وقول الإمام النسائي (رحمه الله): ’’إن موسى الجهني خالفه ابن جريج وغيره‘‘، بيان منه أن هناك اختلافا على نافع، وأن حديثه عن نافع عن ابن عمر معلول بسبب هذه المخالفة، وبعد ذلك أخرج رواية ابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد (عن ابن عباس) عن ميمونة، دون أن يتعرض هنا إلى بيان الاختلاف على ابن جريج، ولا إلى روايته عن الليث.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: ’’ وقد اعترض على الترمذي (رحمه الله ) بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبا، وليس ذلك بعيب ، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الأسانيد، وكان قصده رحمه الله ذكر العلل، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له‘‘.(1/202)
وقول الأستاذ: ’’فهذه الدراسة التي كشفت عن هذه الأمور هي التي سوغت لي تأييد وتقوية وموافقة الإمام مسلم في تصحيح حديث ابن عمر ثم حديث ابن عباس عن ميمونة. وسوغت لي مخالفة ما فهمه القاضي عياض من كلام البخاري‘‘
أقول: هذه الدراسة كشفت أن الإمام النسائي صرح بأن حديث موسى الجهني عن نافع مخالف لحديث ابن جريج وغيره. وهذه عبارة علمية واضحة المعنى في نقد المرويات، ولو يرى النسائي غير ذلك ما وصفه بالمخالفة، كعادة النقاد. ويعد هذا تصريحا من الإمام النسائي بأن حديث موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر معلول، والصواب حديث الليث وابن جريج، لا سيما في ضوء نصوص الأئمة الآخرين في الموضوع نفسه.
أما عدم ذكره لعبيد الله فإنه لا يعني أنه فاته هذا الحديث، وأما اعتماده على تفرد موسى الجهني فلكونه قد روى ذلك الحديث، كما أنه لم يورد حديث الليث، وإنما اكتفى بقوله ’’وابن جريج وغيره‘‘، ثم روى حديث ابن جريج وحده. وهذا لا يدل على أنه لم يحفظ حديث الليث. ولذا أقول: إن الإمام النسائي اقتصر هنا في رواية هذا الحديث على بعض طرقه، وبيان علته بعبارة مألوفة لديهم في النقد. والله أعلم
وعلى كل فإن الأستاذ لم يثبت لنا من خلال دراسته أن الإمام النسائي لم يعل حديث ابن عمر، بل كان يسلم - من غير أن يشعر - بصحة ما كنت أقوله، وهو أن النسائي أعل حديث ابن عمر كما أعله البخاري قبله.
وبعد هذه الدراسة بدأ الأستاذ دراسته لنصوص الإمام الدارقطني، وكان هدفه من هذه الدراسة أن يبين لنا أن الأئمة لم يتفقوا على توهين حديث ابن عمر.
هيا لننظر ماذا تم له من النتائج .
الأستاذ ونصوص الإمام الدارقطني في تعليل حديث ابن عمر
يقول:
’’ ثالثهم الإمام الدارقطني ( رحمه الله )، ونص كلامه في التتبع:
وأخرج مسلم حديث عبيد الله وموسى الجهني، عن نافع عن ابن عمر: (صلاة في مسجدي).
وأتبعه بمعمر عن نافع وليس بمحفوظ عن أيوب.(1/203)
وخالفه ابن جريج وليث، روياه عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة.
وأخرج القولين ولم يخرجه البخاري من رواية نافع بوجه.
فنرى في كلام الدار قطني ما يأتي:-
أولا: أنه نفى الحفظ فقط عن رواية أيوب.
فقال: وليس بمحفوظ عن أيوب.
ثانيا: أحجم أن يقول مثل ذلك في رواية عبيد الله بن عمر وموسى الجهني لهيبة الموقف، لأن عبيد الله إمام حافظ متقن خصوصا في روايته عن نافع، فمن الصعوبة بمكان أن يقول عن حديثه عن نافع: وليس بالمحفوظ.
وكذلك رواية موسى الجهني وهو ثقة لم يجد من الأدلة ما يشجعه على نفي الحفظ عنها لا سيما وقد وافقه على ذلك الجبل في الحفظ عبيد الله بن عمر. أما رواية معمر فقد وجد ما يشجعه على أن يقول فيها: وليس بمحفوظ عن أيوب لأن الإمام يحيى بن معين ضعف معمرا في روايته عن العراقيين ولكن ذلك لا يحط معمرا من درجة الاعتبار به. كيف لا وهو إمام ثم حكى الخلاف الموجود بين أصحاب نافع وهي حكاية لم يتقن عرضها. غفر الله له ورحمه ولكل جواد كبوة.
فإن الليث وابن جريج خالفا عبيد الله ومن معه.
فإن ابن جريج مختلف عليه في رواية حديث ميمونة اختلافا كثيرا سيأتي ذكره في محله، والليث أيضا اختلف عليه أصحابه.
وعلى كل فإن مخالفة الليث وابن جريج لا تضر برواية عبيد الله ومن وافقه كما سيأتي توضيح ذلك إن شاء الله.
دحض شبهاته وفضح أباطيله
أقول: هذا الكلام مضحك ومبك في آن واحد. أما رأيت الدارقطني نفسه يقول في العلل: ’’والصواب: نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘ بعد أن شرح مخالفة عبيد الله وموسى الجهني لهما في حديث نافع. وهذا المعنى هو ذاته يفهم من قوله في التتبع: ’’ وخالفهما الليث وابن جريج‘‘، كما فهم القاضي عياضي وغيره من المتأخرين قبلي.
إذن أين راحت الهيبة التي منعت الإمام الدارقطني أن يقول في حق عبيد الله ’’وليس بمحفوظ‘‘ حسب زعم الأستاذ .(1/204)
بالله عليك أيهما أوضح في بيان البطلان: قوله (وليس بمحفوظ)، أم قوله: (والصواب كذا)؟!
طبعا إن الأوضح هو القول الثاني؛ لأن مفهومه الذي لا ينكره أحد هو: أن ما رواه عبيد الله وموسى الجهني خطأ. وأما قوله (ليس بمحفوظ) وإن كانت تؤدى المعنى نفسه لكنها عبارة محترمة، وفيها تواضع قد لا يثير حساسية المخاطب المنفعل إذا كان يعتقد خلاف ذلك. وعليه فإن قول الدارقطني في التتبع: ’’وخالفهما الليث وابن جريج‘‘ لم يكن إلا تعبيرا دقيقا عما أوضحه في العلل.
إني أود أن أسأل:
ما هي الهيبة التي يحكيها الأستاذ؟!
وأي هيبة تبقى بعد أن جرد مصطلح (غير محفوظ ) من أبعاده النقدية، حين أَوَّله بأنه نفي الحفظ فقط عن أيوب؟!
وهل كان الدارقطني يبحث كلام النقاد في الجرح والتعديل حين يريد أن يعل الحديث كما نعمل نحن؟!
أ لم تسمع عن سعة حفظه وقوة ذاكرته وإمامته في النقد واستقلاله بالفهم؟!
كأن الأستاذ يظن أن هذا الإمام يضعف الحديث ويصححه كما يعمل هو؛ يفتح كتب التراجم، وينظر ماذا قيل في الراوي ثم يصحح ويضعف بناء على أحوال الرواة !.(1)
أما قوله: ’’... وهي حكاية لم يتقن عرضها غفر الله له ... ‘‘
__________
(1) - هنا نلفت انتباه القارئ إلى أهمية فهم النصوص والمصطلحات في ضوء المعايير العلمية الصحيحة، ومن أهمها جمع نصوص الناقد من مواضع مختلفة أو نصوص الآخرين الواردة في الموضوع نفسه، ثم تفسير بعضها ببعض، فإنهم يتحدثون عما اقتنعوا به في ضوء المعرفة الحديثية ويتفقون غالبا في الحكم تصحيحا أو تعليلا، لكنهم يعبرون عن الحيثيات بعبارات مختلفة، قد تكون بعضها مبهمة وأخرى واضحة ومفصلة .(1/205)
فأقول: فهم الأستاذ مغلوط، وأسلوبه في التعامل مع نصوص النقاد غير مستقيم. والواقع أن الإمام الدارقطني أتقن عرض الخلاف على نافع بدقة بالغة، لكون هذا العرض في ضوء خلفياته العلمية الواسعة، وكان قصده في كتابه (التتبع) ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو أحدهما وبيان عللها والصواب منها. كما صرح بذلك في مقدمته. وبالتالي فلا يلزم صاحبه عرض جميع أنواع الاختلاف في هذا الحديث إلا فيما يخص ما أورده الإمام مسلم في صحيحه.
ولما كان الإمام الدارقطني قد اقتصر في كتابه (التتبع) على بيان علة حديث أيوب عن نافع، وحديث ابن عمر بعبارة موجزة ومألوفة لديهم، - دون أن يتطرق لعلل روايات أخرى مما لم يرد في صحيح مسلم- تَوَهَّم الأستاذ أن ذلك تقصير من الإمام الدارقطني ثم دعى له بالمغفرة.
أما حديث ابن جريج فلم يذكره الإمام مسلم في صحيحه، فلا حاجة إذن إلى بيان علته في كتابه (التتبع)، غير أنه اكتفى بذكر الراجح منه مع حديث الليث. هذا وقد بين الإمام الدارقطني في علله وجوه الاختلاف على ابن جريج في حديث ميمونة، ورجح الحديث الذي خلا من ذكر ابن عباس راويا، كما سبق ترجيحه عن الإمام البخاري.(1)
فما أحسن هذا العرض من الإمام الدارقطني وأتقن طريقته فيه! وما ذنب الإمام المتقن إذا لم يفهمه الأستاذ.
قوله:’’... فإن ابن جريج مختلف عليه في رواية حديث ميمونة اختلافا كثيرا سيأتي ذكره في محله ...‘‘
__________
(1) - وأسلوب الأستاذ غريب، فهو يعتمد على ما ذكره الناقد في كتابه، ولا يرجع إلى ما فصله هذا الناقد في موضع آخر أو كتاب آخر، إذا كان الأستاذ معارضا لرأي ذلك الإمام، وأما إذا كان مدافعا عن رأي إمام فإذا هو أكثر الناس نشاطا في جمع كل ما يتعلق به من الروايات والنصوص كحاطب ليل حتى وإن كانت مصحفة أو أوهاما، وجمعها من خارج الكتاب ، ثم يقوي بعضها ببعض أو يفسر بعضها ببعض !.(1/206)
أقول هذه غلطة فاحشة، ومنهج منحرف، وقد رأينا الإمامين البخاري والنسائي آنفا قد رجحا رواية ابن جريج والليث، مع أن البخاري شرح الاختلاف على ابن جريج، ثم جاء الدارقطني واتجه الاتجاه نفسه، إلا أن الأستاذ اتجه اتجاها آخر مغايرا لهم دون فهم القضايا والملابسات التي أثاروها. وإنما نظر فقط إلى ظاهر الرواية وأحوال رواتها، واعتمد على ما صحَّفه بعض النساخ، ولم يأت بشيء جديد في دراسته مما لم يقف عليه هؤلاء الأئمة في مختلف العصور، وإنما ذكر ما أوردوه في كتبهم. ثم اعترض على الدارقطني بقوله:
’’إنه لم يتقن عرضه للقضية‘‘.
وحجته في الاعتراض أن الدارقطني لم يبين ما وقع على ابن جريج من الاختلاف الكثير، كما أنه لم يشرح الاختلاف على الليث، وهو أيضا مختلف فيه!
وعلى كل حال يكون معنى هذا الكلام أن الدارقطني أعل حديث ابن عمر لكنه لم يتقن عرضه. أما نحن فلا نزال ننتظر إجابة الأستاذ عن السؤال الذي أثاره في بداية الدراسة وهو: هل اتفق الأئمة على تضعيف حديث ابن عمر؟! ومع ذلك فإن النتائج التي وصل إليها الأستاذ حتى الآن من خلال دراسته السابقة كلها تفيد أنهم أعلوا الحديث، لكن بعضهم لم يستوف الحيثيات، والآخر لم يتقن عرضه للقضية حسب زعمه.
والأستاذ هو الذي لم يتقن عرض المسألة، ولا فهم نصوصهم فيها، على الرغم من وضوحها كالشمس. و في ضوء تصريحه بأن ’’ابن جريج مختلف عليه في حديث ميمونة اختلافا كثيرا‘‘ إنني أسأل:
هل يستطيع أن يورد وجها واحدا من الاختلاف على ابن جريج في حديث ميمونة غير هذا الاختلاف الذي ذكره الأئمة حول ذكر ابن عباس؟!
وكيف يدعي أن ابن جريج اختلف عليه في حديث ميمونة اختلافا كثيرا؟!
وهل يريد أن يقول إن هؤلاء الأئمة النقاد قد غفلوا عما وقع في حديث ميمونة من الاختلاف الذي وقف عليه الأستاذ؟!(1/207)
وما هذه الاختلافات الكثيرة في حديث ميمونة؟! مع أن الاختلاف في حديث ميمونة هو: هل رواه ابن عباس عن ميمونة أم رواه إبراهيم عنها مباشرة، بغض النظر عن مدى الاتصال والانقطاع.
أما النقاد فقد شرحوا هذا الاختلاف بأساليب مختلفة بين إيجاز وتفصيل بحيث يفهمهم أهل العلم. وأين ما زعمه الأستاذ إذن من الاختلاف الذي لم يبينوه؟!!.
وأرجو أن لا ينسى أن من شروط الاضطراب والاختلاف أن يكون الإسناد واحدا من حيث المخرج.
نعم، هناك اختلاف آخر على ابن جريج، وهو في روايته عن عطاء، لكنها رواية أخرى مستقلة لا صلة لها بحديث ميمونة. لذلك، أورد الدارقطني هذا الاختلاف في موضع آخر من علله، وهو مسند أبي هريرة، وسيأتي ذكره في المحور الخامس (إن شاء الله تعالى). ولا تنس أننا بصدد بيان الاختلاف في حديث ميمونة، كما قال الأستاذ آنفا :’’فإن ابن جريج مختلف عليه في رواية حديث ميمونة اختلافا كثيرا سيأتي ذكره ‘‘.
ولكون حديث ابن جريج عن نافع وحديثه عن عطاء روايتين مستقلتين من حيث المخرج، فإن الأئمة لم يتطرقوا في مناسبة حديث ميمونة لذكر الاختلاف على ابن جريج في روايته عن عطاء. وفقنا الله وإياه لفهم منهج المحدثين كما ينبغي. اللهم آمين.
وقول الأستاذ:’’وعلى كل فإن مخالفة الليث وابن جريج لا تضر برواية عبيد الله ومن وافقه ...‘‘
قلت: بل إنها تضر برواية عبيد الله ومن وافقه في نظر الأئمة، كما رأينا ذلك سابقا. وإن دل موقف الأستاذ وأسلوبه في الدراسة والاستنتاج على شيء فإنما يدل على اتساع رقعة التباين المنهجي بينه وبين المحدثين النقاد.
أما قول الدارقطني:’’وليس بمحفوظ عن أيوب‘‘ وما يتصل به من قضايا سيأتي بشيء من التفصيل في المحور الرابع (إن شاء الله تعالى).
نصوص القاضي عياض ورأي الأستاذ فيها
يقول: ’’رابعهم القاضي عياض ( رحمه الله ) قال :(1/208)
قال بعضهم: صوابه إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس أنه قال: أن امرأة اشتكت، قال القاضي: وقد ذكر مسلم قبل هذا في الباب حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وحديث موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر وحديث أيوب عن نافع عن ابن عمر.
وهذا ما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: وليس بمحفوظ عن أيوب، وعلل الحديث عن نافع بذلك، وقال: وقد خالفهم الليث وابن جريج فروياه عن إبرهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة.
وقد ذكر مسلم الروايتين، ولم يذكر البخاري رواية نافع بوجه، وقد ذكر البخاري في تاريخه رواية عبيد الله وموسى، عن نافع قال: والأول أصح. يعني رواية إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة كما قال الدار قطني. والله أعلم.
وبعد فلعل القارئ المتأمل المنصف يدرك من هذه الدراسة أن هؤلاء الأئمة الذين ادعى الأخ الباحث اتفاقهم على تعليل حديث نافع واستدعى انتباهه مخالفتي لهم أن من احتج منهم فحجته ضعيفة، وهو الإمام البخاري، ثم هو لم يستوف أدلة الجانب المحكوم عليه كما أسلفت.
والآخرون لم يبدوا شيئا من الأدلة على تعليل حديث نافع.
فهل يسوغ لي أو لمسلم غيري بعد معرفة هذه الحقيقة أن يعمد إلى حديث صحيح في كتاب عظيم يتربع قمة الصحة فيهوي بهذا الحديث من قمته الشامخة إلى حضيض الأمراض والعلل والضعف من أجل أن هذا أو ذلك عرضت له شبهة فقالها أو أشار إليها إشارة من بعيد.
دحض شبهاته
قلت: إنه أفاد من خلال هذا العرض أن القاضي كان موافقا للإمام البخاري والنسائي والدارقطني في توهين الرواية عن نافع عن ابن عمر، كما أثبت الأستاذ نفسه اتفاقهم في سياق كلامه الذي حاول إنكاره. وعلى كل فقد أنهى دراسته يائسا ليقول في النهاية :(1/209)
’’وبعد فلعل القارئ المتأمل المنصف يدرك من هذه الدراسة أن هؤلاء الأئمة الذين ادعى الأخ الباحث اتفاقهم على تعليل حديث نافع واستدعى انتباهه مخالفتي لهم أن من احتج منهم فحجته ضعيفة، وهو الإمام البخاري، ثم هو لم يستوف أدلة الجانب المحكوم عليه كما أسلفت‘‘.
’’والآخرون لم يبدوا شيئا من الأدلة على تعليل حديث نافع‘‘.
’’فهل يسوغ لي أو لمسلم غيري بعد معرفة هذه الحقيقة أن يعمد إلى حديث صحيح في كتاب عظيم يتربع قمة الصحة فيهوي بهذا الحديث من قمته الشامخة إلى حضيض الأمراض والعلل والضعف من أجل أن هذا أو ذلك عرضت له شبهة فقالها أو أشار إليها إشارة من بعيد‘‘ اهـ.
أقول: الذي لفت انتباهي هو أن الأستاذ كان مضطربا في الدعوى وغير مستقر في رأيه؛ مرة ينكر إعلال الأئمة لحديث ابن عمر، وفي الوقت ذاته يقره لكن لم يقبل منهم هذا الإعلال، زاعما أن حججهم ضعيفة، أو أنهم لم يستوفوا الأدلة. وعلى الأستاذ أن يحدد دعواه قبل أن يختلق موضعا آخر للنزاع والخلاف بيني وبينه، وقبل أن يفتح جبهة أخرى للجدل والثرثرة.
فماذا يريد أن يقول للقارئ: هل يريد أن ينكر إتفاق الأئمة على تعليل حديث ابن عمر؟! أم يريد القول إن إعلالهم غير مقبول لضعف حججهم أو لعدم استيفائهم الأدلة؟!
فإذا كان الأول هو مقصوده، فإنه قد برهن لنا بدراسته التي تَفَضل بها على أنهم اتفقوا على تعليل حديث ابن عمر، ولم يذكر فيها شيئا يثبت ما يزعمه، وإنما حاول تضعيف حكمهم مع إقراره به. وبالتالي أصبح مقرا بأنه قد سبقني في الإعلال أئمة كبار؛ كالبخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض.
إذن لماذا أتى بهذه الويلات والأكاذيب والتهم والسباب والشتائم والادعاءات الفارغة والتفسيق والتبديع؟! ولم ضيع أوقاته النفيسة فيما لا طائل تحتها، بل في هدر الأعراض التي حرمها الله تعالى كالدماء والأموال؟!(1/210)
وإن كان الثاني هو مقصوده فإن دعواه باطلة، لأنه لم يقدم لنا دليلا واحدا يدل عليها، مع أن حججهم كانت قوية ومقنعة وكافية في قبول حكمهم، وما ذنبهم في ذلك إذا لم يكن الأستاذ فاهما لنصوصهم ومنهجهم؟!.
أما الأدلة التي يزعم الأستاذ أن الأئمة لم يستوفوها؛ فهي كلها تتمثل في المتابعات الضعيفة التي تركها الأئمة دون أن يأخذوها بعين الاعتبار، مع علمهم بها، أو تتمثل في خصائص الرواة العلمية التي هم أدرى بها، كما أوضحنا ذلك بشيء من التفصيل.
وحين يزعم الأستاذ بأن الأئمة لم يستوفوا الأدلة، أو أن حججهم ضعيفة، أو أن بعضهم لم يتقن عرض القضية يخيل إلى القارئ أنه يملك من العلم والفهم والإدراك ما ليس عند الأئمة السابقين. لكن العجب العجاب أنه كان يعول في ذلك على ما وقع مصحفا في صحيح مسلم - كما سبق توضيحه – والروايات الضعيفة والشاذة.
إن الأئمة قد اتفقوا على إعلال حديث ابن عمر، وذكروا حجتهم فيه، وهي: أن عبيد الله وموسى الجهني قد خالفا ليث بن سعد وابن جريج، وهذا كاف في إقناع من يشتغل بالحديث بالفهم والدراية، ومع ذلك فقد شرحت سابقا ما يتصل بحقيقة المخالفة والقرائن التي تكمن فيها، كما اتفقوا على أن الليث إنما رواه عن نافع بدون ابن عباس، وأنه لم تثبت في هذا الحديث رواية إبراهيم عن ابن عباس.
لعل من الأفضل أن نتذكر ما قاله ابن الصلاح(1)، وهذا نصه :
’’ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه‘‘.
__________
(1) - (مقدمة ابن الصلاح ص: 90)(1/211)
حتى وإن لم نقف على أدلتهم فيما يتفقون عليه من تصحيح أو تعليل أو جرح وتعديل، فإنه ينبغي علينا أن نقبل قولهم دون استفسار. أما أن نرفض آراءهم زاعمين بأن حججهم ضعيفة أو أنهم لم يستوفوا الأدلة بناء على ظواهر الأسانيد التي لا تخفى على من يشتغل بالحديث، فمجازفة خطيرة.
يقول السخاوي:
’’... ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر، لا ينكر عليهم، بل يشاركهم، ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة‘‘(1).
هذا وقد شرحنا في ضوء الأدلة والبراهين التي لم يأخذها الأستاذ بعين الاعتبار، أن حديث ابن عمر، حين أورده مسلم مع بيان اختلاف رواته على نافع، لم يكن قصده بذلك تصحيحه، ولا أن يقوي به حديث أبي هريرة المتفق على صحته، وإنما لشرح هذا الاختلاف على نافع، وبالتالي أصبح موافقا للنقاد في تركيزه على الاختلاف نفسه، لا معارضا لهم بتصحيح ما أعلوه. ولوجود الاختلاف في حديث ابن عمر لم يورده مسلم في صدر الباب، بل أورده في آخره مع حديث ميمونة لبيان ذلك الاختلاف.
ومن المعلوم أن الحديث الذي اتفق الشيخان عليه أصح مما انفرد به أحدهما، وما بالك إذا كان الحديث الذي انفرد به مسلم معلولا أو مختلفا في صحته على أقل الأحوال، هل يكون هذا الحديث أصح من حديث أبي هريرة؟ كلا .
ومن المعلوم أيضا أن الناقد إذا لم يستوف أدلته على العلة لا يعني أن حكمه باطل ومرفوض، لا سيما إذا توافرت الأدلة المؤيدة لحكمه، وهنا قد وجدنا الأدلة تؤيد حكمهم. وأما الأستاذ فكان اعتماده في معارضته للأئمة على الآتي :
أ – السند الذي وقع في نسخة صحيح مسلم مصحفا.
ب - أحوال الرواة ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل.
__________
(1) - فتح المغيث 1/274(1/212)
وكان الشيخ يقر في هذه الدراسة بأن الإمام البخاري قد أعل حديث نافع عن ابن عمر، ولكن معارضته كانت في حججه باعتبارها ضعيفة وغير كافية في نظره، إلى جانب كونه لم يستوف جميع الأدلة.
مع أن حجة البخاري في تعليله كانت قوية، وواضحة حين أورد أوجه الاختلاف، وأما ما سرده الأستاذ من المتابعات، فليس لها وزن في نظر النقاد، ليس لأنهم تساهلوا أو أغفلوا تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، بل لوجود قرائن تدل على أن الذين رووا عن نافع عن ابن عمر ذلك الحديث قد سلكوا جميعا الجادة .
والذي ينبغي فهمه من صنيع الإمام مسلم أنه لم يجعل تلك الطرق المعلولة في القمة من الصحة، وإنما وضعها في موضعها المناسب كما بينت سابقا.
وعليه فقول الأستاذ :
’’ فهل يسوغ لي أو لمسلم غيري بعد معرفة هذه الحقيقة أن يعمد إلى حديث صحيح في كتاب عظيم يتربع قمة الصحة فيهوي بهذا الحديث من قمته الشامخة إلى حضيض الأمراض والعلل والضعف من أجل أن هذا أو ذلك عرضت له شبهة فقالها أو أشار إليها إشارة من بعيد‘‘، لم يكن إلا تضليلا وتمويها .
وننظر في دراسته حول حديث أبي هريرة المتفق على صحته، ومدى نجاحه في تحقيق هدفه في توهيم القراء بأن حديث ابن عمر أصح من حديث أبي هريرة وأن الإمام مسلما لم يهتم بترتيب الأحاديث، ولا بشرح العلة في حديث ابن عمر. وهذا نصه :
دراسة الأستاذ لحديث أبي هريرة
حين شرحت له في تلك الأوراق التي أرسلتها إليه فب بداية الحوار: ترتيب الإمام مسلم لأحاديث باب فضل الصلاة في المسجد النبوي حسب الأصحية، ووجه بيانه للعلة التي وقعت في حديث ابن عمر، قال الأستاذ معقبا عليَّ(1):
’’ ثم أقول لك إني مضطر لأن أقوم بعرض الحقيقة مرة أخرى كما عرضها الإمام مسلم – رحمه الله – لتدرك أنت وغيرك أنك لم توضح القضية‘‘
__________
(1) - ص: 26 - 30 من مذكرة الأستاذ.(1/213)
’’قال الإمام مسلم (رحمه الله) عارضا حديث أبي هريرة من عدة طرق ( 2/1012 – 1013 ) تحت الرقم التسلسلي ( 1394 )‘‘
1- حدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب ( واللفظ لعمرو ) قالا : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام).
’’أقول في هذا الحديث عنعنة سفيان بن عيينة والزهري، وهما مدلسان وقد وضع الحافظ ابن حجر الزهري في الطبقة الثالثة من المدلسين، وهم الذين لا يقبل من حديثهم إلا ما صرحوا فيه بالتحديث وفيه صيغة (يبلغ به) وهي مختلف فيها‘‘.
2- ثم قال : وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد أخبرنا وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساق الحديث نحوه. وفي هذا الحديث عنعنة الزهري.
3- ثم قال حدثني إسحاق بن منصور، حدثنا عيسى بن المنذر الحمصي حدثنا محمد بن حرب، حدثنا الزبيدي، عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي عبد الله الأغر مولى الجهنيين، وكان من أصحاب أبي هريرة، أنهما سمعا أبا هريرة، يقول: صلاة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وأن مسجده آخر المساجد. في اسناده عيسى بن المنذر الحمصي قال الحافظ فيه مقبول. التقريب ( 2 / 102 ) وقد انفرد في الحديث بزيادة، وهي قوله : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وأن مسجده آخر المساجد. وفيه عنعنة الزهري، وفيه أنه هنا موقوف على أبي هريرة.
ثم عالج مسلم - رحمه الله – قضية الوقف الواقعة في هذا الإسناد(1/214)
فقال أبو سلمة وأبو عبد الله: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول عن حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمنعنا ذلك أن نستثبت أبا هريرة عن ذلك الحديث. حتى إذا توفي أبو هريرة، تذاكرنا ذلك وتلاومنا أن لا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان سمعه منه فبينا نحن على ذلك جالسنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، فذكرنا ذلك الحديث والذي فرطنا فيه من نص أبي هريرة عنه، فقال لنا عبد الله بن إبراهيم: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – فإني آخر الأنبياء وأن مسجدي آخر المساجد.
4- قال : حدثنا محمد بن المثنى وابن أبي عمر جميعا عن الثقفي، قال ابن المثنى: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سألت أبا صالح هل سمعت أبا هريرة يذكر فضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. فقال: لا، ولكن أخبرني إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، أنه سمع أبا هريرة يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة أو كألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا أن يكون المسجد الحرام.
وحدثنيه زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد ومحمد بن حاتم، قالوا : حدثنا يحيى القطان عن يحيى بن سعيد بهذا الاسناد. اهـ .
انظر: كيف عادت هذه الطرق كلها إلى ابن المسيب وإلى عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وابن قارظ مختلف في اسمه، واختلف عليه في رواية هذا الحديث.
فمن الرواة عنه من قال عن إبراهيم بن قارظ سمع عمر وعليا (رضي الله عنهما) ومنهم من قال عنه عن أبي هريرة: انظر : التاريخ الكبير للبخاري ( ق/1/ج 3 /40 ) وسكت عنه البخاري.
ونقل المزي الاختلاف في اسمه ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا
وقال الحافظ فيه : صدوق. تقريب ( 1/37 ، 400 )(1/215)
وسكت عنه الذهبي في الكاشف (1 / 84 ) وسكت عنه ابن أبي حاتم (5/ 2) فأسانيد حديث نافع عن ابن عمر أنقى الأسانيد وأقوى رجالا وأشهر. أضف إلى ذلك أن الدار قطني ذكر حديث أبي هريرة في كتابه العلل (3 / 123 ) .
وذكر فيه اختلافا على الزهري واختلافا على ابن قارظ واختلافا في اسم ابن قارظ ومع ترجيحه لبعض طرقه، يبقى قولنا: أن أسانيد حديث ابن عمر أقوى وأنظف – سليما لا غبار عليه. فقاعدتك التي استخدمتها في نقد حديثي ابن عمر وميمونة تنطبق على حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – ولا تنطبق بحال على حديثي ابن عمر وميمونة، لأنه ليس لمسلم أي كلام على هذين الحديثين ولا أدنى إشارة بينما لمسلم على حديث أبي هريرة أكثر من إشارة وفي حديث أبي سلمة والأغر وأبي صالح عن أبي هريرة توضيح بالعبارة. فعلى منهجك الذي طبقته على حديثي ابن عمر وميمونة إكمالا لتطبيق القاعدة، يلزمك أن تعلل حديث أبي هريرة لزوما لا محيد لك عنه، وبعد ذلك لا يبقى لنا حديث صحيح في هذا الباب وإلى الله المرجع والمآب.
واعلم أن قولك عن الإمام مسلم أخرج حديث أبي هريرة من طرق صحيحة سليمة رمية من غير رام، وإلا لو تنبهت لإشارات مسلم وكلامه في طرق حديث أبي هريرة، لتورطت فيه أكثر من تورطك في حديثي ابن عمر وميمونة.
واعلم أن تشبثك بتلك القاعدة خطير جدا ولا يخول لك الدفاع عن حديث أبي هريرة ولا عن غيره، حتى ترجع عنها وتسلم بالواقع وهو أن الإمام مسلما ملتزم بالصحة في كتابه العظيم وأنه كان جادا في تطبيق هذا الالتزام.
وأن هذه الإيضاحات من مسلم ليست شرحا للعلل وأنه لا يعتقد أن لحديث أبي هريرة عللا ولو كان يعتقد أن هذه عللا تخرجه عن الصحة لما أورده في صحيحه.
وأن هذا التصرف والبيان إنما مرجعه دقة مسلم وأمانته في النقل وشدة تحريه في آداء الصيغ وألفاظ المتون وهذا من ميزاته رحمه الله التي يكاد ينفرد بها.(1/216)
ثم أقول دفاعا عن حديث أبي هريرة بالنسبة لتدليس الزهري لا نسلم لما قرره الحافظ ابن حجر في وضعه في الطبقة الثالثة، فلا دليل له على ذلك‘‘. انتهى كلام الأستاذ.
شبهات الأستاذ
من خلال عرض الأستاذ لأحاديث فضل الصلاة في المسجد النبوي رأينا الإمام مسلما قد صدر الباب بحديث أبي هريرة، ثم أورد حديث ابن عمر وحديث ميمونة الذين يدوران على نافع.
يفهم من صنيع مسلم في ترتيب هذه الأحاديث أن حديث أبي هريرة أصح عنده من حديث ابن عمر وميمونة. وظهر لنا ذلك مما يأتي:
أولا: لم يختلف في صحة حديث أبي هريرة أحد من النقاد فيما أعلم.
ثانيا: خلوه من جميع أنواع الشذوذ والعلة، إلى جانب استيفائه لبقية شروط الصحة، كالاتصال والعدالة والضبط.
ثالثا: حديث ابن عمر أعله النقاد.
رابعا : حديث ميمونة في سنده انقطاع .
بيد أن الأستاذ يزعم أن حديث ابن عمر أصح من حديث أبي هريرة، ويدافع دفاعا مستميتا عن اعتقاده بأن مسلما لم يقدم الأصح في هذا الباب، ولم يشرح العلة أيضا. وللبرهنة على ذلك قام بدراسته التي رأيناها آنفا، وهي بعيدة عن منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف. فهو على طريقة المتأخرين من الفقهاء والأصوليين وغيرهم، ينظرون في ظاهر السند، ويعتمدون على أحوال الرواة ورتبهم في سلم الجرح والتعديل عند التصحيح والتضعيف والتقوية. لذا سنرى عند الحوار معه مرة أخرى عجائب أفكاره وغرائب تصوراته وشواذ معلوماته وتصرفاته.
وفيما يأتي دحض شبهاته .
دحض شبهته حول عنعنة سفيان بن عيينة والزهري
قوله: ’’في هذا الإسناد عنعنة سفيان بن عينية والزهري، وهما مدلسان وقد وضع الحافظ ابن حجر الزهري في الطبقة الثالثة من المدلسين، وهم الذين لا يقبل من حديثهم إلا ما صرحوا فيه بالتحديث وفيه صيغة (يبلغ به) وهي مختلف فيها‘‘.(1/217)
قلت: يعني ماذا ؟! حديث أبي هريرة ضعيف لعنعنة المدلسين فيه؟! أم صحيح لكنه دون حديث ابن عمر لعنعنة ابن عيينة والزهري؟! ماذا يريد الأستاذ أن يقول؟! أ هكذا يزاحم صفوف النقاد بهذه التصورات الغريبة والأفكار السطحية؟! لذا رأيناه يشرق حين يغربون، ويغرب حين يشرقون، ويصحح ما ضعفوه، ويضعف ما صححوه، ويقدم ما أخروه، ويؤخر ما قدموه. هذا كما قال الشاعر:
’’سارت مشرقة وسرت مغربا فشتان بين مشرق ومغرب‘‘
وما أحسن قول المتنبي :
’’ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم‘‘
وكلنا نعلم أن الشيخين: البخاري ومسلم كانا ينتقيان الأسانيد ومتونها، وأنهما ضربا في ذلك أروع مثال في تاريخ تمحيص المعلومات، وانتهاج أدق منهج في نقد المرويات. لذا كانا يدققان عما يرد في الأحاديث من ألفاظ وصيغ وحتى الحروف، وكانوا على وعي تام بصيغ الأداء والتلقي في الأسانيد، ومدى الاتصال بين الرواة، فإذا رويا حديثا في أصول كتابيهما، وفي إسناده عنعنة مدلس، فمعناه أنه ثبت عندهما الاتصال، وأن ذلك الراوي المدلس لم يدلس في هذا الحديث، وأن كل واحد من الرواة نقله عمن فوقه من غير خطأ ولا وهم.
وهذه المسألة جاء بسطها في كتب المصطلح(1). وإن اختلف فيها بعض الفقهاء المتأخرين فإن التحقيق هو ما سبق آنفا.
بما أن الأستاذ قد أثار موضوع عنعنة المدلسين في الصحيح بالشكل الذي رأيناه فإن عمله هذا انقلب عليه، فانقلب السحر على الساحر. إذ يكون سهلا على الطرف الثاني في الحوار - إذا كان مثله طبعا- أن يتهم الأستاذ، بأن هذه الإثارة تفتح الأبواب على مصراعيها للتشكيك في صحة كل حديث فيه عنعنة للمدلسين، بل في مصداقية كثير من أحاديث الصحيحين.
__________
(1) - انظر النكت 2/634 – 636(1/218)
إن الحكم على الأسانيد بالاتصال أو الانقطاع – وإن كان الأصل فيه ما يرد في السند من الصيغ – فإنه مبني في كثير من الأحيان على معرفة الناقد بمدى سماع كل من الرواة ممن فوقه ذلك الحديث الذي رواه، من خلال استحضاره طرقه المتداولة عند الحفاظ أو المثبتة في أصولهم، وتصريحاتهم في ذلك، بغض النظر عن ظاهر ما يرد في الأسانيد من عنعنة أو تحديث أو إخبار.
ألم تسمع ابن حبان يقول: ’’فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنه بين السماع فيه لا أبالي أن أذكره ببيان السماع، في خبره بعد صحته عندي، من طريق آخر‘‘؟!(1).
وهي بعينها طريقة جميع المحدثين النقاد.
لذا نرى النقاد يقولون أحيانا في السند الذي فيه تحديث إنه منقطع، ويقولون مرة في السند الذي فيه عنعنعة المدلس إنه متصل، وإذا أردت أن تعرف ذلك أو تنظر إليه، فعليك أن تفتح كتب العلل وتقرأ ما فيها بروية وبصيرة.
يقول الحافظ ابن رجب:
’’ولا يعتبر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعا‘‘.
’’وذكر أحمد عن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أخبرنا منصور بن زاذان، قال أحمد: ولم يسمعه هشيم من منصور. ولم يصح قول معمر وأسامة عن الزهري سمعت عبد الرحمن بن أزهر‘‘(2).
وقال الحافظ ابن عبد البر في مبحث العنعنة:
’’إنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع‘‘(3).
وقال الحافظ ابن حجر:
’’ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المدلسين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة، موهما بالسماع، ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئا‘‘(4).
__________
(1) - مقدمة صحيح ابن حبان 1/162
(2) - شرح العلل 2/594
(3) - مقدمة التمهيد1/26
(4) - طبقات المدلسين : ص16 ، تحقيق :د. عاصم القريوتي .(1/219)
ويأتي هنا بعض الباحثين المعاصرين ليقول: ’’قلت : كلا ، إنه متصل، فقد صرح الراوي بالسماع‘‘، وقد يقولون في تبرير ذلك: ’’كم ترك الأول للآخر‘‘، أو’’إنهم بشر يخطئون ويصيبون‘‘.
كما قال الشاعر:
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم يستطعه الأوائل.
نعم، يكون ظاهر السند معولا عليه في الحكم، لكن فقط بعد تتبع الطرق وجمعها واستيعاب ما عند الحفاظ من الروايات، أو في أصولهم. فإذا تأكد لديه بعد ذلك أن الراوي المدلس إنما رواه معنعنا، ولم يصرح بالسماع، ساغ له القول:’’إنه مدلس وقد عنعن‘‘، أو قل ’’دلس‘‘. أما أن يقال في كل حديث صححه النقاد: فيه عنعنة المدلس، بقصد إثارة الشكوك في مدى اتصاله، فاتجاه غير سليم.
وكيف يثير الأستاذ إشكالا حول عنعنة سفيان بن عينة والزهري، في حديث صححه البخاري ومسلم، ثم وافقهما على صحته جميع المتتبعين والنقاد ؟!!
بيد أن هذه الإثارة لم تكن إلا برهانا واضحا على وجود تباين منهجي بين أسلوبه ومنهج الأئمة في التصحيح والتعليل. ولو كان الأستاذ منصفا لأتى بجميع الروايات التي تتفق على عنعنة الزهري إذا لم يكن مطمئنا لما صححه الأئمة وما تلقته الأمة بالقبول.
هذا وعنعنة سفيان بن عيينة تحمل دائما على الاتصال؛ لإنه لا يدلس إلا عن الثقات(1)
أما قوله: ’’وفيه صيغة (يبلغ به) وهي مختلف فيها‘‘
فأقول: قال الإمام النووي (رحمه الله تعالى) :
’’أما إذا قيل عند ذكر الصحابي (يرفعه)، (أو ينميه)، أو( يبلغ به)، أو (رواية) فكله مرفوع متصل بلا خلاف ...‘‘(2)اهـ.
دحض شبهته حول حديث ابن قارظ
__________
(1) - انظر ترجمة سفيان في التهذيب . وأما عنعنة الزهري وتدليسه فيأتي الحديث عنها بعد قليل .
(2) - مقدمة شرحه لمسلم 1/31 ، واقرأ إن شئت كتاب الكفاية للخطيب ص: 416، وكتاب تدريب الراوي 1/191 – 192.(1/220)
قوله: ’’... وابن قارظ مختلف في اسمه، واختلف عليه في رواية هذا الحديث ، فمن الرواة عنه من قال عن إبراهيم بن قارظ سمع عمر وعليا – رضي الله عنهما – ومنهم من قال عنه عن أبي هريرة ..... وسكت عنه البخاري‘‘.
قلت: إن الإمام البخاري أراد بذلك بيان الاختلاف على اسم ابن قارظ ، ثم بيان الاختلاف على محمد بن عمرو في روايته عن ابن قارظ، استطرادا، ولم يكن قصده بذلك بيان الاختلاف على ابن قارظ في هذا الحديث الذي نحن بصدده.
انظر إلى قول الإمام البخاري:
’’قال بعضهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبي هريرة، وقال بعضهم عن محمد عن الأغر عن أبي هريرة ، وقال بعضهم عن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة‘‘.
وعلى كل أنقل هنا ما قاله الإمام البخاري في تاريخه الكبير 5/40 ليتضح ذلك: قال رحمه الله :
’’ عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الزهري ، سمع أبا هريرة .
1. روى يحيى بن سعيد الأنصاري سمع أبا صالح سمع عبد الله بن إبراهيم.
2. وروى عثمان بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل سمع عبد الله بن إبراهيم.
3. وقال يونس وعقيل وشعيب حدثنا الزهري عن عمر بن عبد العزيز سمع عبد الله بن إبراهيم.
4. وخالف معمر فقال: إبراهيم بن عبد الله .
5. وقال الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة سمع عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الزهري سمع أبا هريرة (رضي الله عنه) سمع النبي عليه الصلاة والسلام: صلاة في مسجدي خير.
6. وقال ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن إبراهيم بن قارظ ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله.
7. وقال شعبة وإبراهيم بن سعد عن سعيد عن إبراهيم بن قارظ سمع عمر وعليا رضي الله عنهما .(1)
__________
(1) - تنبه أيها القارىء الكريم! لم يذكر هنا الإمام البخاري لفظة (مثله) أو (نحوه) مما يشير إلى أنهما رويا غير هذا الحديث، فإن قصده من سرد هذه الروايات هو تحقيق اسم الراوي، هل هو إبراهيم بن قارظ أم عبد الله بن إبراهيم بن قارظ(1/221)
8. وقال إبراهيم بن موسى أخ إسماعيل عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي خير.
9. وعن محمد عن الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله .
10. وقال النضر بن شميل عن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله‘‘. انتهى كلام البخاري.
ينبغي أن نلحظ أن الإمام البخاري أتى بتلك الروايات تحت عنوان:
’’عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الزهري ، سمع أبا هريرة ‘‘
فقول البخاري(رحمه الله) من رقم (1) إلى رقم (8) هو في بيان الاختلاف حول اسم ابن قارظ، من خلال جمع الأسانيد التي ورد فيها اسمه على شكل مختلف، دون أن يتعرض إلى ذكر متونها، إلا في رقم (5) و (6) و (8). ولا ندري متون الروايات رقم (1) و (2) و (3) و (4) و (7) هي هذا الحديث الذي نحن بصدده أم غيره؟!
والظاهر أن متونها تكون مختلفة ومتنوعة، لأنه (رحمه الله تعالى) في صدد ذكر وجوه الاختلاف في اسم ابن قارظ عموما، ليؤيد قوله في مستهل الترجمة ’’عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الزهري سمع أبا هريرة‘‘، من غير أن يتقيد بمتن واحد، بل ينبغي أن يعول على متون مختلفة. فإذا تقيد بمتن واحد في هذه الحالة فلا يكون مستوفيا لوجوه الاختلاف في اسم ابن قارظ.
ثم لما أورد طريق إبراهيم بن موسى في رقم (8)، تعرض مستطردا إلى بيان الاختلاف الوارد على محمد بن عمرو في روايته لهذا الحديث، فذكر طريق رقم (9 و10)، وهذه الروايات ليس لها صلة ببيان الاختلاف في اسم ابن قارظ .
بهذا يتبين جليا أن الامام البخاري (رحمه الله تعالى) لم يذكر الاختلاف على إبراهيم بن قارظ في روايته عن أبي هريرة هذا الحديث. وإنما ذكر وجوه الاختلاف على اسم ابن قارظ، كما ذكر الاختلاف على محمد بن عمرو في هذا الحديث.(1/222)
وبعد فقول الشيخ: ’’... وابن قارظ اختلف عليه في رواية هذا الحديث فمن الرواة عنه من قال عن إبراهيم بن قارظ سمع عمر وعليا (رضي الله عنهما)، ومنهم من قال عنه عن أبي هريرة ، وسكت عنه البخاري‘‘، رمية من غير رام .(1)
ما هكذا تورد يا سعد الإبل!.
وينبغي أن نتذكر أن الإمام مسلما (رحمه الله) أورد في باب فضل الصلاة في المسجد النبوي، ثلاثة أحاديث ، وهي: حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر وحديث ميمونة. وقام بترتيبها ترتيبا علميا تتجلى فيه دقته في فهم الأحاديث وفقه ما يحيط بها من القرائن والملابسات التي تدل على درجة كل حديث منها، بل نجد نصوص النقاد الواردة في نقد هذه الأحاديث تدل على ذلك أيضا؛ حيث إنهم متفقون على صحة حديث أبي هريرة، دون حديث ابن عمر فإنهم أعلوه لوجود اختلاف فيه، وأما حديث ميمونة – وإن كان ثابتا عن نافع – فإنه من رواية إبراهيم عن ميمونة، وفي اتصالها نظر قوي، ثم إن إبراهيم قليل الرواية.
فكان ترتيب مسلم لتلك الأحاديث مطابقا تماما لما أدركه نقاد الحديث فيها. ما أكثر التطابق بين النقاد ومسلم (رحمهم الله تعالى جميعا) في فهم الروايات وفقه قرائنها!.
وإذا أمعنا النظر في الروايات التي أوردها مسلم لحديث أبي هريرة، وجدنا فيها ترتيبا علميا آخر؛ فقدم حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة على حديث أبي سلمة والأغر، الذي يرجع الرفع في حديثيهما إلى رواية ابن قارظ عن أبي هريرة. وأما التفاضل بين سعيد بن المسيب وابن قارظ مما يعرفه الجميع من أهل العلم.
وأما حديث ابن عمر وحديث ميمونة فأوردهما مسلم من طرق مختلفة تدور كلها على نافع ضمن بيان اختلاف الروايات. وقدم مسلم المرجوح منها على الراجح كعادة النقاد في ذلك، إذ المقصود من ذكر ذلك هو بيان الاختلاف، والراجح والمرجوح.
دعواه بأن حديث ابن عمر أصح من حديث أبي هريرة
__________
(1) - انظر العلل للدارقطني 3/2/124ـ125 فقد فصل فيه الاختلاف, مبينا ما هو الصواب والخطأ.(1/223)
قوله: ’’... يبقى قولنا إن أسانيد حديث ابن عمر أقوى وأنظف ...‘‘
قلت: هذه النتيجة توضح مدى قيمة منهج الأستاذ في التصحيح والتضعيف والترجيح؛ إذ ينتهي بدراسته إلى قلب الأمور رأسا على عقب.
أ ليس حديث أبي هريرة مما اتفق عليه البخاري ومسلم؟!
هل اختلف أحد من النقاد في تصحيحه؟!
أ وليس حديث ابن عمر مما أعله النقاد؟!
فبأي منطق يبقى حديث ابن عمر المعلول أصح من حديث أبي هريرة المتفق على صحته؟!
وقد ذكرنا أكثر من مرة أن التصحيح والتضعيف والتحسين والترجيح ليس تابعا لأحوال الرواة، ولا يلزم من كون الرواة ثقات أن يكون الحديث صحيحا، ولا من كونهم أوثق أن يكون الحديث أصح، ولا من كون الرواة من رواة الصحيحين أن يكون الحديث صحيحا على شرط الشيخين. انظر في كتاب النكت الذي حققه الأستاذ(1)، يقول فيه الحافظ ابن حجر: (رحمه الله):
’’ صحة الحديث وحسنه ليس تابعا لحال الراوي فقط، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنكارة‘‘
ويقول: ’’ولا يلزم من كون رجال الإسناد من رجال الصحيح أن يكون الحديث الوارد به صحيحا، لاحتمال أن يكون فيه شذوذ أو علة، وقد وجد هذا الاحتمال هنا فإنها رواية شاذة ...‘‘(2)
ويقول أيضا: ’’..لا يلزم من كون الإسناد محتجا برواته في الصحيح أن يكون الحديث الذي يرويه به صحيحا لما يطرأ عليه من العلل‘‘(3)
ولا يختلف عمل الأستاذ في التصحيح والتضعيف والترجيح عن كثير من الباحثين المعاصرين، يصححون الأسانيد بناء على ظواهرها ومراتب رواتها جرحا وتعديلا، ثم يعترضون بذلك على نقاد الحديث. والواقع أن هؤلاء الباحثين لا يشعرون بأن عملهم في التصحيح لا يتجاوز ظاهر السند، ولا يفيد ذلك سوى كون الرواة ثقات.
__________
(1) - النكت 1/404
(2) - المصدر السابق 1/274
(3) - المصدر السابق 1/275(1/224)
ولخطورة النتائج التي يتمخض عنها عملهم في هذا المجال، ولخطورة تطاولهم على النقاد، وجرأتهم على علم الحديث ألفت كتاب: (الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الحديث وتضعيفه) عسى أن ينتبه الباحثون إلى ضرورة إعادة النظر في منهجهم، وفهم دقة آراء النقاد المتقدمين في مجال النقد ، واتباعهم في ذلك(1).
هذا الذي أعلن عنه الأستاذ - بعد تلك الدراسة القائمة على المعلومات التي اختطفها من كتاب التقريب، زاعما بأنها دراسة علمية وافية - لا يتعارض مع حكم النقاد، فإنه كان يصحح الأسانيد، ويجعلها أقوى وأنظف، يعني بذلك أن رواة حديث ابن عمر أوثق ومن الطبقة الأولى، لا أكثر ولا أقل. وأما النقاد فأعلوا الحديث بناء على وجود خطأ من بعض الرواة الثقات، وليس لكونهم ضعفاء، ولا لأنهم أقل درجة من رواة حديث أبي هريرة ، أو حديث ميمونة.
لماذا لا يفهم الأستاذ ما شرحه النقاد من الاختلاف على نافع؟!
ولماذا تجاهل ترجيحهم لحديث ميمونة على حديث ابن عمر؟!
ولماذا لم يلتفت إلى ما رجحه الإمام الدارقطني من وجوه الاختلاف على الزهري؟! وبعد كل هذا وذاك كيف استطاع أن يقول: ’’يبقى قولنا إن أسانيد حديث ابن عمر أقوى وأنظف سليم لا غبار عليه‘‘! وهذا قول غير مقبول.
قوله: ’’وذكر فيه اختلافا على الزهري واختلافا على ابن قارظ واختلافا في اسم ابن قارظ ومع ترجيحه لبعض طرقه، يبقى قولنا: إن أسانيد حديث ابن عمر أقوى وأنظف – سليما لا غبار عليه‘‘.
أقول: هذه دعوى فارغة، وقول مرفوض؛ إن الاختلاف الذي شرحه البخاري استطرادا في ترجمة ابن قارظ إنما هو في رواية محمد بن عمرو، وليس على ابن قارظ. وخلاصته :
أ - هل روى محمد بن عمرو حديث (صلاة في مسجدي) عن أبي سلمة عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبي هريرة ؟!
ب - أم رواه عن الأغر عن أبي هريرة ؟!
__________
(1) - ليس في مجال النقد فحسب، بل فيما يخص العقيدة أيضا، فإن علم السلف أولى بالاتباع من علم الخلف.(1/225)
ج - أم رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة؟!
وهذا الاختلاف – كما ترى – لا صلة له بحديث ابن قارظ الذي رواه مسلم من أفضل الطرق، وهي عن الزهري عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر عن ابن قارظ عن أبي هريرة ، وعن يحيى بن سعيد عن أبي صالح عن ابن قارظ عن أبي هريرة . ولم ترد أصلا في صحيح مسلم رواية محمد بن عمرو.
ومهما كان الأمر فإن الذي أورده مسلم، سواء كان عن طريق الزهري أو عن يحيى بن سعيد ، يرجع كله إلى ابن قارظ ، وهو كما ترى دون سعيد بن المسيب الذي ذكره مسلم في أول الباب.
ما أروع ترتيب مسلم لهذه المجموعة من الأحاديث
ما أروع ترتيب الإمام مسلم لهذه المجموعة من الأحاديث ! وكيف غابت عن فهم الأستاذ هذه الدقة في ترتيب مسلم لأحاديث الباب ؟! ثم يقول: إن حديث ابن عمر أصح!
وإن لم يكن الأستاذ معجبا بهذه الحقائق العلمية فلا ضير في ذلك، فإن أهل العلم يفهمونها، وهذه غايتي من هذا الحوار. ولله الحمد.
لأني مولع بالحق لست إلى سواه ... ... أنحو ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا ... ... من مات من غيظه منهم له كفن
أما ما يتعلق بشغب الأستاذ حول حديث الزهري فأقول :
إذا أراد الباحث الوقوف على مغزى صنيع المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف فعليه أن ينظر في كتب العلل، لا سيما كتاب العلل للإمام الدارقطني الحافل. أما كتاب التقريب فإذا اعتبره الباحث مرجعا رئيسا في التصحيح والتضعيف والترجيح والموازنة أو المحاكمة بين الأئمة فإن نصوص النقاد التي يمر بها تكون بعيدة عن إحساسه وإدراكه، كما وجدنا في دراسة الأستاذ آنفا.
هذا وقد سبق تفصيل ما يتعلق بحديث الزهري(1).
__________
(1) - انظر المحور الأول ، المغالطة الثانية ، ص: 41(1/226)
فما أثاره الأستاذ حول حديث أبي هريرة المتفق على صحته من عنعنة الزهري وابن عيينة ريح عابرة على الصخور. لو كان صاحب هذا الكلام طالبا في الماجستير لكان معقولا، أما من الأستاذ الذي حصل على الترقيات الأكاديمية فيا ويل المؤسسات العلمية وخسارتها، تنفق عليها أموال طائلة، لكن نتائجها هي ما نرى في دراسة الأستاذ وأمثاله!!. وما قيمة هذه الترقيات إذا كان صاحبها يتخبط في علوم الحديث مثل ما يتخبط فيها المبتدئون من الطلبة؟!
أما قول الأستاذ:
’’فقاعدتك التي استخدمتها في نقد حديثي ابن عمر وميمونة تنطبق على حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ولا تنطبق بحال على حديثي ابن عمر وميمونة، لأنه ليس لمسلم أي كلام على هذين الحديثين ولا أدنى إشارة، بينما لمسلم على حديث أبي هريرة أكثر من إشارة، وفي حديث أبي سلمة والأغر وأبي صالح عن أبي هريرة توضيح بالعبارة. فعلى منهجك الذي طبقته على حديثي ابن عمر وميمونة، إكمالا لتطبيق القاعدة، يلزمك أن تعلل حديث أبي هريرة لزوما لا محيد لك عنه، وبعد ذلك لا يبقى لنا حديث صحيح في هذا الباب وإلى الله المرجع والمآب‘‘
فلا قيمة له؛ لأن الذي فهمناه من صنيع الإمام مسلم في حديثي ابن عمر وميمونة ليس قاعدة، وأنا لم أسمه قاعدة، وهذا من عند الأستاذ، ولا يمكن أن ينطبق ذلك الذي فهمناه من صنيع مسلم على حديث أبي هريرة بأي حال من الأحوال. كما لا يلزمني أن أضعفه. ومنطق الرجل غريب جدا.(1/227)
وحديث ابن عمر أعله النقاد كما سبق في دراسته، وحديث أبي هريرة صحيح متفق عليه. ولما أتى الإمام مسلم في صحيحه بحديث ابن عمر المعل اضطر إلى بيان وجه الاختلاف على نافع بشكل جلي. وأما حديث أبي هريرة فقد صدر به الباب فأتى بأصح رواياته, فأين الاختلاف في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، مثل الذي رأيناه في حديث ابن عمر؟! وهل أشار مسلم إلى ذلك؟! وحتى إن الأستاذ لم يستطع بعد النظر والدراسة إلا ذكر عنعنة الزهري وابن عيينة. يعني فتات القضايا التي ينشغل بها الصغار، والتي لا أثر لها في الحكم على حديث أبي هريرة.
وهذه نتيجة الدراسة التي قام بها الأستاذ، وهي كما جاء في المثل: ’’ تمخض الجبل فولد فأرا‘‘.
إذا كان الأستاذ لا يرى الاختلاف الذي بينه الأئمة في حديث ابن عمر، ثم يقول: ليس فيه أي كلام لمسلم ولا أدنى إشارة، وفي الوقت ذاته يرى في حديث أبي هريرة النظيف أكثر من إشارة من قبل مسلم(!)، مع أنه متفق عليه، ولم يختلف في صحته أحد من النقاد، ولا أشار أحد إلى أية علة فيه، ولا أي اختلاف، لا الإمام مسلم ولا غيره من النقاد، فمعنى هذا أن الأستاذ لا يهمه في هذا الحوار إلا الشغب وقلب الحقائق رأسا على عقب وحب الغلبة. وإلا فبأي منطق وبأي عقل يقول:
’’فعلى منهجك الذي طبقته على حديثي ابن عمر وميمونة، إكمالا لتطبيق القاعدة، يلزمك أن تعلل حديث أبي هريرة لزوما لا محيد لك عنه، وبعد ذلك لا يبقى لنا حديث صحيح في هذا الباب، وإلى الله المرجع والمآب‘‘. (؟!)
إن كان الأستاذ يطبق هنا مسألة العنعنة دون مراعاة أبعادها النقدية يلزمه لزوما لا محيد له عنه أن يثير الإشكالات في جميع أحاديث الصحيحين التي فيها عنعنة المدلسين. وإلى الله تعالى المشتكى.(1/228)
وأما ما يتصل بحديث الزهري من الاختلاف الذي بينه الدارقطني قد زال أثره فيه ببيانه الراجح فيه والمرجوح، وقد وجدنا مسلما قد اختار في صحيحه الرواية الراجحة من حديث أبي هريرة، ليصدر بها الباب. وهي رواية معمر وابن عيينة والزبيدي عن الزهري.
ومن الغريب أن الأستاذ يتجاهل أن الحق إذا ثبت لا يضره وهم من وهم فيه، وإلا فما فائدة إثارته قضية الاختلاف في حديث الزهري بعد معرفة الراجح والمرجوح، والصواب والخطأ. وليقرأ قول الحافظ ابن حجر:
’’ولا يضر الطريق الصحيحة الراجحة وجود الطريق الضعيفة المرجوحة‘‘(1).
أما قول الأستاذ: ’’واعلم أن تشبثك بتلك القاعدة خطير جدا ولا يخول لك الدفاع عن حديث أبي هريرة ولا عن غيره، حتى ترجع عنها وتسلم بالواقع وهو أن الإمام مسلما ملتزم بالصحة في كتابه العظيم وأنه كان جادا في تطبيق هذا الالتزام‘‘ فمرفوض. أوليس هذا عناد ومكابرة ؟!.
ومن هو حتى يعلن أمام الناس: ’’ ولا يخول لك الدفاع عن حديث أبي هريرة ولا عن غيره حتى ترجع عنها‘‘ ؟! يعني حتى نرجع إلى أخطائه، ونؤيده فيها، ونرفض تقليد الأئمة النقاد!!. سبحان الله ، ولله في خلقه شؤون.
إن كان الأستاذ قد دافع عن حديث أبي هريرة حين قال إنه لا يسلم للحافظ ابن حجر وضع الزهري في الطبقة الثالثة، بعد أن أثار عنعنته وعنعنة ابن عيينة، فإني أدافع عنه بقولي: ليست العنعنة هنا بشيء بعد أن اتفق البخاري ومسلم وغيرهما على تصحيحه من رواية ابن عيينة وغيره من الثقات عن الزهري. ثم إن ابن عيينة إذا عنعن يحمل على الاتصال ، لأنه لا يعنعن إلا فيما سمع من الثقات. انظر في كتب المصطلح موضوع التدليس، أو في كتب التراجم ترجمة ابن عيينة.
__________
(1) - النكت 1/ 362 - 367(1/229)
ومن المعلوم أن الزهري عالم بأحاديث الحجاز والشام، لا سيما بأحاديث سعيد بن المسيب وأمثاله، وهو أعلم الناس بها بحيث لا يحتاج إلى شخص آخر ليتلقى أحاديثهم، و هو يشكل محطة مركزية يحط فيها المحدثون رحالهم لاستيعاب أحاديث الحجاز والشام عموما لا سيما أحاديث سعيد بن المسيب وأبي سلمة والأغر وغيرهم من حفاظ المدينة، وإذا كان هذا هو الواقع فإن عنعنته فيما يخص أحاديثهم تحمل على الاتصال، لندرة احتمال التدليس، لا سيما وقد رواه عنه غير واحد من أصحابه الكبار كابن عيينة ومعمر والزبيدي دون اختلاف في نقطة الاتصال. والله أعلم.
نعم يكون الزهري في الطبقة الثالثة من التدليس كما قال الحافظ ابن حجر، لكن فقط بالنسبة إلى شيوخه الذين لم يلازمهم، وأما بالنسبة إلى شيوخه الذين لازمهم ملازمة طويلة ويروي عنهم مباشرة دائما بدون واسطة؛ كسعيد وأبي سلمة وأمثالهما فيكون في الطبقة الأولى من التدليس .
المحور الرابع
حديث معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر،
وقول الدارقطني فيه: ’’غير محفوظ عن أيوب‘‘
قول الدارقطني ’’وليس بمحفوظ عن أيوب‘‘، وتخبط الأستاذ في فهمه
إن مصطلحات النقاد لها دلالات خاصة، وأبعاد نقدية، تتوقف معرفتها واستيعابها على ممارسة طويلة لطبيعة منهجهم في النقد، وليس من السهل فهمها في ضوء التعريفات التي يحفظها كثير من الطلبة من كتب المصطلح؛ فإنها تعتمد في صياغتها على ما هو أكثر استعمالا. ولتسليط الضوء على ذلك عموما جعلنا هذا المحور لبيان مصطلح (وليس بمحفوظ عن فلان) وما يكمن فيه من الأبعاد النقدية التي تخبط الأستاذ في فهمها.
أود أن أنقل أولا نص الإمام الدارقطني، وثانيا تعليق الأستاذ عليه :
قال الإمام الدارقطني في التتبع:
وأخرج مسلم حديث عبيد الله وموسى الجهني، عن نافع عن ابن عمر: (صلاة في مسجدي).
وأتبعه بمعمر عن أيوب عن نافع، وليس بمحفوظ عن أيوب.(1/230)
وخالفه ابن جريج وليث، روياه عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة.
وأخرج القولين، ولم يخرجه البخاري من رواية نافع بوجه‘‘(1)انتهى كلام الدارقطني.
وقال الأستاذ معقبا عليه :
’’ نرى في كلام الدار قطني ما يأتي:-
أولا: أنه نفى الحفظ فقط عن رواية أيوب.
فقال: وليس بمحفوظ عن أيوب.
ثانيا: أحجم أن يقول مثل ذلك في رواية عبيد الله بن عمر وموسى الجهني لهيبة الموقف، لأن عبيد الله إمام حافظ متقن خصوصا في روايته عن نافع، فمن الصعوبة بمكان أن يقول عن حديثه عن نافع: وليس بالمحفوظ.
ثم فصل الأستاذ في (ص: 42 – 43) وقال:
’’.... وكنت، ولا أزال أعتقد أن الدارقطني لا يحكم على الحديث بأنه شاذ أو منكر بمجرد أن ينفرد به واحد من الثقات، فرأيت أن أقرب ما يمكن أن يوجه به كلامه هو قول ابن معين فيما يرويه معمر عن العراقيين بصريين كانوا أو كوفيين، لهذا الغرض المعقول نقلت كلام ابن معين ، مع عدم الجزم بأن هذا هو قصده ، ومع احترامي للدارقطني ، فلم أبن على كلامه أي نتيجة، لأنه لم يقدم حجة تدعم قوله فما كان مني إلا أن شددت برواية معمر عن أيوب عن نافع بقية الروايات عن نافع وذلك واضح في رسالتي بين الإمامين‘‘.
’’ ثم أزيد الآن أنني أقبل قول ابن معين في رواية معمر عن العراقيين بصريين وكوفيين إلا في رواية قتادة وأيوب، فإنه كان يحفظ حديثه عن قتادة وكان بينه وبين أيوب صلة وثيقة أعتقد أنه بهذه الصلة كان يحفظ حديث أيوب لأن هذه الصلة عبارة عن الملازمة يحسب لها حساب عند المحدثين ويرجحون بها عند الاختلاف، وانظر تهذيب التهذيب10/245، وسير أعلام النبلاء 7/9 - 7 للتأكد من هذه الصلة بأيوب‘‘.
أما قول الشيخ في كتابه (بين الإمامين)(2):
__________
(1) - كتاب التتبع ص: 297
(2) - ص: 342 - 344 ، من الطبعة الهندية(1/231)
’’أما المسألة الأولى: وهي قوله أن هذا الحديث ليس بمحفوظ عن أيوب فكأنه يشير بهذا إلى رأى ابن معين في حديث معمر عن العراقيين، حيث قال: إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه، إلا عن الزهري وابن طاووس فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة والبصرة فلا‘‘.
وعلق الأستاذ بقوله:
’’أقول إن الثناء على معمر مستفيض، ثم إن كلام ابن معين لا ينطبق على هذا الحديث.
أ - لأنه لم يخالفه أحد من أصحاب أيوب، حتى نحكم عليه بالوهم والشذوذ(1).
ب - ولأن روايات موسى الجهني وعبيد الله وعبد الله بن عمر عن نافع تؤيد رواية معمر عن أيوب عن نافع‘‘ اهـ .
الردود والتعقيبات
انظر أيها القارئ الكريم, كيف تعامل الأستاذ مع قول الإمام الدارقطني (وليس بمحفوظ عن أيوب) في نقد حديث معمر عن أيوب. وهو مصطلح له أبعاد نقدية، يتوقف فهمها على ممارسة طويلة لمصطلحات النقاد ومنهجهم في استخدامها عند النقد.
فالأستاذ فهم من قول الدارقطني شيئا غريبا، لم يفهمه أحد في حدود علمي. يقول في تفسير هذا المصطلح: ’’إنه نفى الحفظ فقط عن رواية أيوب‘‘.
ثم قال: ’’ فكأنه يشير (يعني الدارقطني) بهذا إلى رأي ابن معين‘‘. ليعلق عليه بقوله:
’’إن كلام ابن معين لا ينطبق على هذا الحديث...‘‘!!
يعني بذلك أنه رفض رأي الدارقطني بناء على فهمه الخاص، وقبل أن يفهم مغزاه !
فقد قال أولا في كتابه بين الإمامين : ’’فكأنه يشير بهذا إلى رأي ابن معين‘‘.
وقال ثانيا: ’’إن كلام ابن معين لا ينطبق عليه‘‘ .
والنتيجة : كلام الدارقطني غير مقبول .
__________
(1) - كلام الأستاذ يفيد أنه على دراية تامة بمنهج المحدثين وأشد احتراما لهم فيه؛ يقدم رأيهم على رأيه، ويحكم بالشذوذ والوهم في حديث معمر لو كانت هناك مخالفة بينه وبين أصحاب أيوب، لكنه لم يجد المخالفة. وبالتالي لم يحكم عليه بالوهم ولا بالشذوذ. لكن أين هذا الموقف تجاه ما أعله النقاد من حديث ابن عمر للمخالفة الواقعة بين الثقات من أصحاب نافع؟!(1/232)
وقال في المرحلة الأخيرة : ’’إنه نفى الحفظ فقط عن رواية أيوب‘‘.
يعني ماذا ؟!
أليس معنى هذا القول: أنه لا خوف على رواية معمر عن أيوب، إذ الدارقطني لم يضعفها، وإنما نفى الحفظ فقط عن رواية أيوب ولم ينف شيئا غيره؟!.
وإلا فما معنى قوله : (إنه نفى الحفظ فقط)؟!.
بعد كل هذه التطورات في موقف الأستاذ فإن قول الدارقطني بقي شامخا، وواضحا صوابه. وكيف لا ؟! فإن قول الأستاذ في واد بعيد، وقول ذلك الإمام الناقد في واد آخر؛ وادي الحفظ والفهم والمعرفة .
ما هكذا تورد يا سعد الإبل!
من فسر هذا المصطلح قبل الأستاذ بأن معناه هو نفي الحفظ فقط؟!
أهكذا فُسّر هذا المصطلح في كتب مصطلحالحديث ؟!
وعلى كل ففي حمل قول الإمام الدارقطني على ما فهمه الأستاذ ظلم واضح، وتجريد عن محتواه، بل فيه جرأة على علوم الحديث.
والعجيب أن الأستاذ لم يشعر بتناقض القولين في كتابه ( بين الإمامين)، ورده الأول الذي ظهر بعده بسنوات ؟!
فقوله في كتابه (بين الإمامين):
’’كأنه يشير به إلى قول ابن معين‘‘؟! يتعارض مع قوله الذي تطور في رده الأول: ’’هو نفي الحفظ فقط عن رواية أيوب‘‘
إذ معنى قوله الأول أن الدارقطني يريد تضعيف حديث معمر عن أيوب بناء على قول ابن معين. بينما يكون معنى القول الثاني أنه لا يريد تضعيفه، وإنما نفي الحفظ فقط ولا شيء غيره، حسبما يفهم من سياق كلام الأستاذ.
دعني أضع تناقضه جانبا، لأركز على القضايا العلمية التي نحن بصددها.
إن الإمام الدارقطني مجتهد في الجرح والتعديل، ونقد المرويات، لا سيما إذا كان الراوي معروفا ومشهورا بأحاديثه، أمثال معمر وأيوب. وحين يقوم بنقد أحاديث ذلك الراوي، أو نقد ما روي عنه من الأحاديث، كان يعول على خلفيته العلمية، ولم يكن من جنس محدثي عصرنا، حتى يفسر كلامه وعمله في ضوء ما يعمله المعاصرون.(1/233)
أما إذا كان الراوي غير معروف بحديثه فإن الناقد سيكون مضطرا إلى تقليد من سبقه من الأئمة في جرحه أو تعديله، أو تعليل حديثه، وعلى كل فلا ينبغي تفسير كلامه بما لا يحتمل منهجه.
ومما يدل على أن الإمام الدارقطني كان لا يرى في رواية معمر عن أيوب أي مغمز، مالم تكن هناك قرينة أو قرائن تدل على وجود خطأ فيها، أنه لم يكن يستدرك بها على الإمام البخاري ولا على الإمام مسلم فيما أخرجاه في صحيحيهما من أحاديث معمر عن أيوب، ولم يكن يعقب عليهما، لا قبل هذا الموضع الذي نحن بصدده ولا بعده.
انظر مثلا كتاب الحج، باب استحباب نزول المحصب يوم النفر (9/59) – من صحيح مسلم - أعني قبل الحديث الذي نحن فيه -، لقد روى مسلم فيه حديث معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في أول الباب، دون أن يذكر له متابعا لمعمر. ولو كان ما فهمه الأستاذ من عدم استقامة رواية معمر عن أيوب صحيحا بناء على قول الإمام يحيى بن معين لاستدرك عليه، أو يحيل إليه فيما يأتي من رواية معمر عن أيوب.
وبهذا يتضح أن ما فهمه الأستاذ من قول الدارقطني (وليس بمحفوظ عن أيوب) مجرد خيال لا وزن له من حيث المنهج، ولا من حيث العلم.
بل إن قوله: (وليس بمحفوظ عن أيوب) لا يصلح أن يحمل على ما قاله الإمام ابن معين، لأن معنى قوله: إن رواية معمر عن العراقيين، ضعيفة إذا خالف الثقات، أو تفرد عنهم بما لا يعرف عند العراقيين بحيث يثير الشك لدى النقاد في مدى صحته. ولا يعني به أن جميع ما رواه معمر عن العراقيين يعد منكرا، أو ليس بمحفوظ.
لذا يكون معنى قول الدارقطني: ’’وليس بمحفوظ عن أيوب‘‘ أن هذا الحديث بهذا الإسناد الذي رواه مسلم غير ثابت عن أيوب، ولا يتعين فيه أن يكون المغمز في معمر أو في روايته عن أيوب، لا سيما وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع مرسلا.(1/234)
وعلى كل فقول الدارقطني هذا نابع عن معرفته الحديثية أو عن معرفة الواقع في أحاديث أيوب، وليس بناء على قول ابن معين كما توهم الأستاذ.
هذا وقد وجدنا هذه الرواية مخالفة لما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن أيوب عن نافع مرسلا، بحيث يكون قول الدارقطني: ’’وهذا غير محفوظ عن أيوب‘‘ جلي المعنى وواضح المقصود.
إن المشكلة العلمية التي أثيرت في حديث نافع هي فيما يخص تحديد شيخه الذي روى عنه؛ هل هو ابن عمر أم إبراهيم عن ميمونة. وعليه فوصل ما ثبت إرساله في حديث أيوب يكون محل تعليل الإمام الدارقطني بقوله ’’وهذا غير محفوظ عن أيوب‘‘.
وقال الإمام ابن الصلاح:’’وكثيرا ما يعللون الموصول بالمرسل‘‘(1)
وعلى ذلك فقول الشيخ :
’’أقول إن الثناء على معمر مستفيض، ثم إن كلام ابن معين لا ينطبق على هذا الحديث، لأنه لم يخالفه أحد من أصحاب أيوب، حتى نحكم عليه بالوهم والشذوذ، ولأن روايات موسى الجهني وعبيد الله وعبد الله بن عمر – عن نافع تؤيد رواية معمر عن أيوب عن نافع‘‘. يكون في غير محله.
ومن المعلوم أن رواية عبيد الله وغيره عن نافع لا يلزم منها أن يكون أيوب قد روى عنه أيضا، لأنه يتوقف ذلك على ثبوت الرواية عنه. لا سيما وقد جاء هذا الحديث عن أيوب مرسلا.
ثم إن قول ابن معين ’’رواية معمر عن العراقيين غير مستقيمة‘‘ يصعب حمله على عمومه، لأنه جاءت في الصحيحين أحاديث كثيرة من رواية معمر عن أيوب وغيره من الكوفيين والبصريين، لكن لم يكن ذلك مطلقا، وإنما فقط حين يوافقه غيره من الثقات من أهل البصرة والكوفة، وأما إذا انفرد بما ليس له أصل عند الآخرين أو خالفه غيره فيعد ذلك دليلا على وقوع وهم من معمر.
لعل من الأحسن أن نقرأ هنا قول الإمام ابن الصلاح:
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح ص: 90(1/235)
’’ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم لغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه‘‘.(1)إذن يكون التفرد مثل المخالفة لكن عندما تتوفر القرائن التي تدل على أن هذه المخالفة أو التفرد نتيجة وهم أو خطأ. وتركيز الأستاذ هنا على المخالفة دون التفرد مما يدعو إلى الغرابة.
إن كثرة المخالفة أو التفرد في حديث معمر عن العراقيين هي التي جعلت الإمام ابن معين يحكم على روايته عن العراقيين بما سبق.
ويدل على هذا ما نقله الإمام الذهبي عن ابن أبي خيثمة: ’’سمعت ابن معين يقول: إذا حدثك معمر عن العراقيين فخفه(2)، إلا عن ابن طاووس والزهري، فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة والبصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئا، وحديثه عن ثابت وعاصم وهشام بن عروة مضطرب كثير الأوهام‘‘(3).
__________
(1) - علوم الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح ص: 52-53 .
(2) - هذه الكلمة وقع فيها اختلاف بين الرواة ، وإن كان معناها واضحا إلا أنها بحاجة إلا تحقيق .
(3) - سير أعلام النبلاء 7 /10 – 11 ، والتهذيب 10/245(1/236)
ومن الجدير بالذكر أن معمرا نشأ بالبصرة ، وقد ولد سنة 95 هـ أو 96 هـ ، ورحل إلى اليمن ، فأقام هناك عشرين سنة، وقد توفي سنة 154 هـ أو 153 هـ أو 152 هـ وقال الإمام أحمد : عاش ثماني وخمسين سنة. وعلى هذا كانت مدة نشأته بالبصرة قرابة 38 سنة ، وبدأ طلب العلم منذ أن بلغ سنه أربع عشرة سنة. فالذي يظهر منه أن معمرا قد تلقى الأحاديث بالبصرة وغيرها قبل أن يرحل إلى اليمن طوال 24 سنة، وكان معمر متيقظا في سماع الأحاديث ولم يكن متساهلا، فمرجع كلام ابن معين إلى أسباب أخرى طارئة، وربما يرجع بعضها إلى شيخه، كالاختلاط، ويرجع بعضها إليه لسبب اعتماده على الحفظ حين ذهب إلى البصرة من أجل زيارة أمه، فما خالف فيه أو تفرد بشيء لا يعرف عن العراقيين أو غيرهم فيعد معلولا.
وعلى كل حال فإنه يصعب حمل قول الدارقطني على قول ابن معين، كما يصعب القول بأن ابن معين أراد التعميم بقوله ذلك. وقد قال الحافظ في التقريب:
’’ثقة ثبت فاضل، إلا في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة ، وكذا فيما حدث به في البصرة‘‘.
وقال في الهدي:(1)
’’.... وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين إذا حدثك معمر عن الزهري وابن طاوس فحديثه مستقيم، وما عمل في حديث الأعمش شيئا، وإذا حدث عن العراقيين خالفه أهل الكوفة وأهل البصرة ...‘‘ الخ
وهذا يؤيد أن ابن معين إنما قال ذلك على أساس كثرة المخالفة بين معمر وبين أهل الكوفة وأهل البصرة، ويكون مقتضاه تجنب ما فيه مخالفة، وكذا ما تفرد بما ليس له أصل عندهم. ومعرفة ذلك تتوقف على الحفظ وفهم دلالة القرائن المحتفة بحديثه، وليس على ترجمة الرواة من كتاب التقريب.
قال في (ص: 43) تعقيبا على قولي: لا أجد لنقل قول ابن معين هنا أي فائدة :
’’فهذا حكم على نفسه هو صادق فيه لأنه قلما يستفيد من كلام العلماء لما وجدت بحثه هذا مليئا بالأخطاء .....وأما أنا فاستفدت منه بأن حققت به غرضا كما أسلفت‘‘.
__________
(1) - ص 444(1/237)
قلت: إن المناقشات العلمية لا تحتاج إلى مثل هذه الدعاوى الفارغة، والقارئ المنصف هو الذي يحكم من هو أكثر استفادة من نصوص النقاد. لذا، نضع هذه الدعاوى الساقطة جانبا، ونركز على القضايا العلمية.
ورأينا قبل قليل الهدف الذي حققه الأستاذ من خلال منهجه الجديد في التعامل مع نصوص الأئمة، وهو تجريد مصطلح ( وليس بمحفوظ عن أيوب) عن محتواه، ثم رفضه. وأما النتيجة التي حققتها أنا من خلال منهجي في تفسير النصوص فهي إبراز مصداقية الإمام الدارقطني في نقده لحديث أيوب، وأن قوله ( وليس بمحفوظ عن أيوب) نابع فعلا من خلفيته العلمية الواسعة فيما يخص أحاديث أيوب.
قال في ص34: ’’أقول إن كلام الدارقطني و اضح أنه يقصد معمرا وأنه انفرد بهذا الحديث عن أيوب . قال رحمه الله : وأخرج مسلم حديث عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر : صلاة في مسجدي وأتبعه بمعمر عن أيوب عن نافع ، وليس بمحفوظ عن أيوب ، وخالفهم ابن جريج وليث . فمحور الحديث هم في الدرجة الأولى أصحاب نافع ، والمقارنات والدراسة تدور حولهم....‘‘
قلت: صحيح إن كلامه واضح أنه يقصد ما رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، يعني إضافة هذا الحديث إلى ابن عمر ليست بمحفوظة عن أيوب. ولا يقصد به رواية معمر عن أيوب بذاتها، لأنه جاء في مصنف عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام. مرسلا ، كما سبق.(1/238)
لذا، يحتمل أن يكون الوهم فيه من معمر أو عبد الرزاق أو ابن أبي عمر، لكن في ضوء معرفتنا الضيقة بمخالفة ابن أبي عمر لما ثبت في مصنف عبد الرزاق يمكن القول إن الوهم من ابن أبي عمر. وبالتالي فلا صلة له بقول ابن معين أصلا. والله أعلم.(1)
إن تفسير مصطلح كهذا لا بد أن يكون مطابقا لمنهج صاحبه في استعماله له، أو مطابقا لما فسره هو بنفسه في موضع آخر. هذا والإمام الدارقطني قد بين مقصوده بقوله’’ليس بمحفوظ عن فلان‘‘, قبل هذا الحديث من كتاب التتبع.
أذكر هنا مثالا لذلك.
قال الإمام الدارقطني في التتبع ص 216ـ 217 :
’’وأخرج البخاري عن سعد بن حفص عن شيبان عن منصور عن المسيب بن رافع عن وراد عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله حرم عقوق الأمهات.. الحديث.
قال: هذا غير محفوظ عن المسيب، وإنما رواه شيبان عن منصور عن الشعبي عن وراد، قاله عبيد الله بن موسى وحسين المروزي و غيرهما.
__________
(1) - الجدير بالذكر أنني في أول الحوار مع الأستاذ قمت بتحليل السبب الذي يكمن في رواية معمر عن أيوب ، وهو أن ابن ابي عمر رواه عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر, مخالفا للامام أحمد ومحمد بن رافع وعبد بن حميد إذ قالوا: عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة, وليس عن أيوب عن نافع عن ابن عمر.
ولما وقع الاختلاف بينهم في إضافة الحديث إلى أيوب بدل الزهري ناسب أن يقول الإمام الدارقطني’’وليس بمحفوظ عن أيوب‘‘، بمعنى أن حديث ابن أبي عمر بهذا الإسناد ليس بمحفوظ عن أيوب. وبناء على هذا جاء الحوار ، والآن تبين لي أن هذا السبب بعيد ، وإنما السبب هو ما ذكرته آنفا. والله أعلم. ومهما كان السبب فإن قول الإمام الدارقطني ’’وليس بمحفوظ عن أيوب ‘‘ سليم ومقبول، بل ينبغي قبوله، وإن لم يعرف سببه ، كما ورد عن المتأخرين نصوص صريحة على ذلك، وليس كما قال الأستاذ يقينا.(1/239)
وكذلك قال جرير عن منصور عن الشعبي، والذي عند منصور عن المسيب عن وراد حديث غير هذا، وهو: ’’كان يقول في دبر الصلاة الدعاء‘‘، فلعله اشتبه على سعد بن حفص. وقد أخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن موسى عن شيبان عن منصور عن الشعبي‘‘اهـ.(1)
والإمام الدارقطني بين هنا معنى قوله: ’’وليس بمحفوظ عن المسيب‘‘ بأن الخلل وقع من الراوي المتأخر، وهو سعد بن حفص، تلميذ تلميذ تلميذ المسيب حين رواه عن شيبان به مخالفا لعبيد الله بن موسى، وحسين بن محمد المروزي وغيرهما. ولما وقع الاختلاف بينهم في ذكر ’’المسيب‘‘ بدل ’’الشعبي‘‘، قال:
’’وليس بمحفوظ عن المسيب هذا الحديث‘‘.
وبيت القصيد في هذا المثال هو أن الخلل الذي أشار إليه بقوله: ’’غير محفوظ عن المسيب ‘‘ قد يكون من تلميذ المسيب أو من تلميذ تلميذه أو ممن بعده، ويأتي الناقد ليبين نقطة الخطأ، ثم قد يحدد صاحبه، وقد يترك ذلك، لأن هذا يعرف من خلال المقارنة بين الروايات، ولا يعرف من تقريب التهذيب، ولا من أحوال الرواة.
وعلى هذا فإن قول الشيخ ’’وإنه انفرد بهذا الحديث عن أيوب‘‘ ’’ وأنه نفى حفظه فقط عن أيوب‘‘ قول غير منهجي؛ ذلك لأن قوله ’’وليس بمحفوظ‘‘ من ألفاظ النقد يتوقف فهمها على مقارنة الروايات بعد تحديد مدارها.
__________
(1) - ذكره الحافظ في الهدي ص 378 (كتاب الأدب، الحديث 90)(1/240)
فكلمة’’ليس بمحفوظ‘‘ معناها أنه خطأ، أو أنه مرجوح لكونه غير محفوظ وغير معروف لدى المحدثين الذين يعتمد عليهم في قبول الروايات، أو أنه غير موجود في أصول ذلك الراوي. وكلمة ’’المحفوظ‘‘ أو ’’غير المحفوظ‘‘، لبيان الراجح والمرجوح، وبعبارة أخرى لبيان الصواب والخطأ، حسبما تبين للنقاد في ضوء القرائن(1).
من تتبع كتب العلل علم أن النقاد يطلقون مصطلح’’ليس بمحفوظ‘‘ على ما تفرد به الراوي عن الحافظ المشهور بما ليس عند المعروفين من أصحابه، ولا في أصوله(2). يعني أن الراوي أخطأ فيه حين أضافه إلى ذلك الحافظ المشهور.
فقول الإمام الدارقطني في أثناء بيان الاختلاف بين الرواة ’’وليس بمحفوظ عن أيوب‘‘ يعني أن أحد رواة هذا الحديث قد وهم وأضاف الحديث إلى أيوب متصلا وجعله من مسند ابن عمر.
وأما ما فهمه الأستاذ فغريب وغير مقبول، فما صلة الإمام الدارقطني بقول الإمام يحيى بن معين؟!.
قول الأستاذ في رده الأول المخطوط ( 35/ب) :
__________
(1) - قال في التدريب 1/241: الثاني عبارة شيخ الإسلام في النخبة : ’’فإن خولف الراوي بأرجح يقال له المحفوظ ، ومقابله يقال له الشاذ ، وإن وقعت المخالفة مع الضعيف فالراجح يقال له المعروف ومقابله يقال له المنكر ...‘‘ اهـ يعني بذلك بيان الخطأ والصواب حسب علم النقاد، سواء أطلقت على ذلك ’’محفوظ‘‘ أو ’’غير محفوظ‘‘ ،’’ شاذ‘‘ أو ’’منكر‘‘، فإن هذه المصطلحات غير مقيدة بأحوال الرواة.
(2) - أما الذي اشتهر في كتب المصطلح عموما أن المحفوظ يقال بمقابل الشاذ ، والمعروف بمقابل المنكر فتضييق لما وسعه النقاد، ولا أصل لهذا التقييد في عمل النقاد . والله أعلم .(1/241)
’’خامسا: توضيحا لبعدك عن الواقع جدا وأنك أبعدت النجعة فيما ظهر لك بعد التتبع الطويل أذكر لك أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث في مصنفه (5/122) فقال : عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة في مسجد المدينة .. الحديث فهل يكفي هذا التوضيح لبراءة ساحة ابن أبي عمر من الوهم الذي نسبته إليه‘‘.
قلت: هذا أمر في غاية الغرابة، كيف صدر هذا الكلام من الشيخ؟! فإن عبد الرزاق إنما روى في مصنفه (5/122) عن معمر عن أيوب عن نافع مرسلا ، ولم يذكر الراوي الذي روى عنه نافع، وإشكالنا الذي نتحدث عنه هو فيما يخص تحديد اسم الراوي الذي روى عنه نافع؛ هل هو ابن عمر أم إبراهيم عن ميمونة؟! فكيف إذن يكون ما وقع في المصنف متابعا لرواية ابن أبي عمر عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا متصلا ؟!.
قوله في ص: (35/ب) :
’’ما معنى قولك عن ابن أبي عمر: ولم يتابعه عليه أحد في حدود تتبعي، فهب أنك لم تجد له متابعا في عبد الرزاق فهل يصير حديثه من الأفراد المطلقة ؟! أين أنت من حديث عبيد الله بن عمر وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر في صحيح مسلم بين يديك (كذا )ألا تعتبر روايتا هذين متابعة له والتي يسميها المحدثون بالمتابعة القاصرة ، ثم كيف وجدت المتابعات لمخالفيه ولشيوخهما ....‘‘
أقول: تعقيبات الأستاذ معظمها غريبة، ولم نجد فيها ما يفيدنا لا علما ولا منهجا ولا استدراكا إلا نادرا جدا. من الحقائق العلمية التي ينبغي علمها واحترامها أن الشذوذ والنكارة في السند لا تزولان إلا بالمتابعة التامة، وأما المتابعة القاصرة فلا تفيد إلا نفي الشذوذ عن المتن.(1/242)
إذا تتبعنا كتب الضعفاء وجدنا لذلك أمثلة كثيرة ، فالأئمة يحكمون على ما تفرد به الراوي المترجم له من الأحاديث، بأنها باطلة أو منكرة أو واهية، نظرا إلى تفرده عمن روى عنه، تفردا نسبيا، مع أن تلك الأحاديث معروفة، بل ومخرجة في الصحيح من رواية الآخرين، وقد تعد متابعة قاصرة لتلك الرواية التي أعلوها، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك عن الحكم ببطلان الحديث.
أما هنا فرواية عبيد الله وموسى الجهني عن نافع تعد متابعة قاصرة جدا، بالنسبة إلى ابن أبي عمر، فلا يزول بتلك المتابعة القاصرة ما أثاره الإمام الدارقطني بقوله ( وليس بمحفوظ عن أيوب ) ولم يقل ( وليس بمحفوظ عن نافع )، فإنه لا يلزم من رواية عبيد الله عن نافع أن يكون أيوب قد رواه عن نافع كذلك. بل يتوقف القول به على ثبوته عن أيوب.
لذا، فإن الإشكال في رواية ابن أبي عمر عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر لا يزال باقيا بمخالفته لما ثبت في المصنف عن عبد الرزاق مرسلا.
قال الأستاذ في ص 37 : ’’أقول: مغزى هذا الكلام التقليل من شأن ابن أبي عمر .....‘‘
أقول: ندع جانبا دعاويه الفارغة، لنحاوره حول القضايا العلمية.
كان عملي هنا هو ربط الترجمة بواقع الرواية، إذ البحث فيما يتصل بعلاقة الراوي مع شيخه، وحقيقة حال روايته عن شيخه يعد من الدراسة العلمية الوافية التي توصل صاحبها إلى فهم نصوص النقاد ومصطلحاتهم وسبب تعليلهم للحديث.
ومن المألوف لدى طلبة الحديث أن الرواة تختلف أحوالهم باختلاف الشيوخ والأوطان والعصور. يكون بعضهم ثقة، لكن بالنسبة إلى بعض شيوخه يكون من الضعفاء، وكذلك الحال يختلف باختلاف المواطن أو العصور. وقد أطنب في ذلك الحافظ ابن رجب في تتمة شرح العلل، مشيرا إلى أهمية دراسة علاقة الراوي مع شيخه. وانظر كتاب التنكيل للشيخ عبد الرحمن المعلمي أيضا.(1/243)
ولم تكن دراستي حول رواية ابن أبي عمر إلا على هذا الأساس العلمي المنهجي، وليس فيها شيء يقلل من شأن ابن أبي عمر كما ادعى فضيلة الشيخ.
قال الشيخ في ص 37 : ’’ما أتعس حظ ابن أبي عمر عند هذا الباحث .....‘‘ إلى قوله في ص 38 ’’فبماذا يفسر تقصير الباحث وتقاعسه عن حل هذه المشكلة(1)، الله يعلم ما تنطوي عليه القلوب .....‘‘
قلت: في الحقيقة كنت سعيدا عند قراءة هذه الفقرات، على الرغم من تهويله وتعنيفه وشغبه، وذلك لحرصي الشديد على معرفة حقيقة حال رواية ابن أبي عمر عن عبد الرزاق ، ولم أكد أنهي قراءة تلك الفقرة ، حتى عرفت أن ما يقوله الأستاذ لم يكن سوى سراب وخيال. وتوضيح ذلك فيما يأتي:
أولا: أن ابن أبي عمر من رجال صحيح مسلم والسنن، لكن روايته عن عبد الرزاق هل تعد من شرط صحيح مسلم؟! وقد قال الشيخ: روى عنه مسلم وحده مائتي حديث وستة عشر حديثا.
والسؤال المطروح: هل تلك الروايات كلها عن عبد الرزاق؟! الجواب: لا، وقد أكثر الإمام مسلم من رواياته ما رواه عن سفيان الثوري، وابن عيينة، ومروان ، وعبد العزيز، وفضيل بن عياض ، وبشر السري .
وأما روايته عن عبد الرزاق فقليلة جدا، ومع ذلك فإما هي مقرونة مع راو آخر، وإما في المتابعة، حسب تتبعي لمعظم صحيح مسلم. هذه هي حقيقة رواية ابن أبي عمر عن عبد الرزاق في معظم صحيحه، ولسنا بصدد شخصية ابن أبي عمر ولا حديثه مطلقا.
ثانيا : يوجد هنا في رواية ابن أبي عمر عن عبد الرزاق، إشكال يجب حله قبل إطلاق القول بأنه من رجال مسلم، أو صحيح على شرط مسلم. والإشكال هو: هل سمع ابن أبي عمر من عبد الرزاق قبل اختلاطه أم بعده؟!
ليتضح ذلك أنقل هنا ما ورد في التقييد والايضاح(2)، وهذا نصه :
__________
(1) - وهي : أن مسلما أكثر من الإخراج له في صحيحه .
(2) - ص: 460(1/244)
’’وممن سمع من عبد الرزاق قبل الاختلاط أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه ، وعلي بن المديني ، و يحيى بن معين ، ووكيع بن الجراح في آخرين ، أخرج لهم الشيخان من رواياتهم عن عبد الرزاق‘‘.
’’فممن اتفق الشيخان على الإخراج له عن عبد الرزاق مع إسحاق بن راهويه إسحاق بن منصور الكوسج ومحمود بن غيلان‘‘ .
’’وممن أخرج له البخاري فقط عن عبد الرزاق مع علي بن المديني إسحاق بن إبراهيم السعدي، وعبد الله بن محمد المسندي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، ويحيى بن جعفر ....‘‘ اهـ. وكذا في الكواكب النيرات.(1)
بذلك اتضح أن العراقي ذكره فيمن أخرج له البخاري (والصواب مسلم) ولم يذكره فيمن سمع من عبد الرزاق قبل اختلاطه. وأن ذكره فيمن أخرج له مسلم لا يعني أن سماعه كان قبل الاختلاط، فإن العراقي ذكر غندرا محمد بن جعفر، وعبدة بن سليمان ممن سمع سعيد ابن أبي عروبة بعد اختلاطه، وقد ذكرهما فيمن أخرج له مسلم.(2)
أما قوله في آخر ص 40 ’’... ولا نقبل أي تعليل لهذه الروايات وأمثالها إلا بحجج واضحة كالشمس، ونرد الشبهات والأوهام والخيالات ‘‘.
قلت : مسألة العلة في هذا الحديث واضحة كالشمس عند الأئمة النقاد. وهل تنتظر أن يكون الراوي ضعيفا لتقبل العلة التي أعل بها النقاد في عصور مختلفة، مع أن كتب المصطلح تعلمنا بأن العلة خاصة بالرواة الثقات، ولهذا جاء تعريفها: بأنها عبارة عن سبب غامض خفي مع أن الظاهر السلامة منه(3). ويستعان على إدراك هذه العلة بالمخالفة والتفرد مع قرائن تنضم إليها كما صرح به الإمام ابن الصلاح.
__________
(1) - ص 277 – 278 . وقال محقق كتاب الكواكب : أن ذكر ابن أبي عمر العدني فيمن أخرج له البخاري وهم ، والصواب هو ممن أخرج له مسلم اهـ باختصار
(2) - انظر التقييد والايضاح ص 450 – 451
(3) - انظر مثلا متن تدريب الراوي 1/252(1/245)
وأين قول الأستاذ فيما يخص قول الدارقطني (غير محفوظ عن أيوب):’’لأنه لم يخالفه أحد من أصحاب أيوب، حتى نحكم عليه بالوهم والشذوذ‘‘(1)؟!. ومعنى هذا أنه يقبل قول النقاد، بل يحكم على ما خالفه أحد الثقات بالوهم والشذوذ.
ومن المصائب فعلا أن نرى الشيخ يصف ما اتفق عليه النقاد من تعليل حديث ابن عمر بأنه من شبهاتهم وأوهامهم وخيالاتهم، بمجرد أنه صحح ذلك الحديث، بناء على ظاهر سنده وشهرة سلسلته!
وما أحسن قول الذهبي:
’’يا شيخ ارفق بنفسك والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشَّزْر ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا حاشا وكلا، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: من أحمد؟! وما ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟! فاسكت بحلم أو انطق بعلم. فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل‘‘ .(2)
بعد أن أنهينا الحوار مع الأستاذ فيما يخص حديث أيوب وقول الدارقطني فيه (وليس بمحفوظ عن أيوب)، ندخل معه في حوار آخر شيق حول موضوع يشكل سببا رئيسا للشبهات التي يتخبط فيها الأستاذ، ألا وهي تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد.
وبما أن الشيخ لم يفهم هذا الموضوع مع أهميته، ولم يستفد ما يتصل بشروط تطبيقه، من نصوص النقاد ولا من الجوانب العملية التطبيقية لهم، فإنه قد جال وصال بهذه القاعدة شرقا وغربا ، وكرا وفرا، دون مراعاة أبعادها النقدية في التطبيق، ليرد أحكام النقاد بلا تحفظ.
__________
(1) - كتاب بين الإمامين ص: 256 ( الطبعة الجديدة ) .
(2) - الحافظ الذهبي، تذكرة الحفاظ ص: 628.(1/246)
لذا، ترى – أيها القارئ الكريم - مرة أخرى على طول الخط معه في الحوار: عجائب أفكاره وغرائب تصرفاته وشواذ تصوراته وخوارق قدرته على قلب الحقائق رأسا على عقب، ثم إيهام القارئ أنه على حق وصواب، وأنه قد اكتشف بواطن الأمور التي يخفيها محاوره قصد هدم السنة!.
والله تعالى المستعان.
المحور الخامس
مسألة تقوية حديث ابن عمر بالمتابعات والشواهد
مسألة المتابعات والشواهد وتخبط الأستاذ في تطبيقها
لقد سعى الأستاذ ليدافع عن رأيه في تصحيح حديث ابن عمر الذي أعله النقاد، ويبرهن على مصداقيته بشتى الوسائل، لكنه باء فيها بالفشل ، ومنها تقوية حديث ابن عمر بالمتابعات والشواهد، وهي حديث عطاء عن ابن عمر وجابر وأبي هريرة وابن الزبير وعائشة.
إن تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد مسألة علمية دقيقة، بل من أهم مسائل علوم الحديث، وأسهلها فهما وأصعبها تطبيقا. وحين ننظر في أعمال الباحثين المعاصرين في مجال دراسة الحديث تخريجا وتحقيقا، تصحيحا وتعليلا وترجيحا نجد أكثرهم غير مستوعبين لهذه المسألة كما ينبغي، بل يجعلونها بابا واسعا لدخولهم في مجال النقد قبل أن يتأهلوا لذلك.
وإن كانت هذه المسألة قد شرحناها في كتاب (الموازنة) وكتاب (علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين) فإننا هنا نلقي نظرة سريعة عليها تمهيدا للحوار مع الأستاذ فيما يخص هذه المسألة.
ومن خلال استقراء الجوانب التطبيقية لنقاد الحديث، وما صدر عنهم في مناسبات عدة من نصوص وتعليقات يتجلى أن المسألة لها شروط، وهي:
أ - أن لا يكون الحديث من مرويات الكذابين والمتروكين.
ب - وأن لا يكون الخطأ والوهم واضحا وجليا، وإن كان من رواية الثقات.
وعليه فإن الحديث الذي يتقوى، أو الذي يقوي حديثا آخر هو: كل حديث لم يتبين فيه الخطأ، ولم يكن من مرويات الكذابين والمتروكين.(1/247)
وفي ضوء ذلك فالحديث الذي تبين صوابه أولى بتقوية الحديث الضعيف، بل يعد الحديث الذي رواه الضعيف صحيحا وليس حسنا فقط، إذا وافقه الثقة وتقوى بحديثه.
وكثير منا لا يزالون يعتقدون أن شرط تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد هو أن لا يكون في أسانيدها راو متروك، وفي غير ذلك يرون الحديث صالحا لأن يتقوى أو يقوي.
والواقع أن الحديث الذي تبين فيه الخطأ وإن كان راويه ثقة لا يختلف عما رواه الكذاب أو المتروك في النتيجة، وإن كان الأول غير متعمد في الخطأ لكن الثاني تعمد فيه، هذا إذا اتضح كذبه في الحديث، وهذا هو الفرق بين المتروك وبين غيره.
لذلك، نجد هذه المسألة تشكل نقطة تباين واضح بين النقاد القدامى وبين الباحثين المعاصرين، فما تبين للناقد أنه خطأ، أو غير محفوظ من الروايات، يعدها الباحث المعاصر متابعة أو شاهدا، ثم يرد بها على النقاد قولهم: ( هذا حديث تفرد به فلان)، أو (لا يعرف إلا من طريق فلان).
ولهذا التباين المنهجي بين المعاصرين وبين النقاد القدامى في التصحيح والتضعيف والتحسين نماذج كثيرة في دراسة الأستاذ، وتعقيبه على النقاد، إذ كان يصحح ما أعلوه أو يحسن ما ضعفوه، بحجة أن الحديث له شواهد ومتابعات، أو يضعف ما صححوه، بناء على أن الحديث فيه عنعنة المدلس أو راو ضعيف أو غير ذلك.
والغريب في ذلك أن الأستاذ يأتي بهذه المتابعات والشواهد مما رواه النقاد أنفسهم، وجعلوها وجوه الاختلاف والاضطراب على مصدر الحديث، مع غروره الشديد بظواهر السند ومزايا الرواة التي تستفاد من كلام النقاد أنفسهم.
ونحن في هذا المحور الخامس نحاور الأستاذ حول محاولته المستميتة لتصحيح حديث ابن عمر، بل لاعتباره أصح من حديث ميمونة وحديث أبي هريرة المتفق عليه، وحول طريقة تقويته له من خلال عدد من الروايات باعتبارها متابعات تامة وقاصرة وشواهد.(1/248)
والواقع أن كثيرا من هذه الروايات كانت شاذة تبين خطؤها لدى النقاد. مع أن الشواهد ليست مما يخص حديث ابن عمر، دون غيره. وإذا تقوى عند الأستاذ حديث ابن عمر المعلول بتلك الشواهد فحديث أبي هريرة المتفق على صحته أولى بذلك، وبالتالي يكون حديث أبي هريرة أصح الأحاديث لكونه أكثر استفادة منها من غيره.
ومن المعلوم أنه لم يضعف أحد من النقاد متن حديث ابن عمر، بل هو متفق على صحته، وإنما أعل النقاد إضافة هذا الحديث إلى ابن عمر في رواية نافع، بدل أن يضاف إلى صحابي آخر. بمعنى أن نافعا إنما حدث به فعلا عن إبراهيم عن ميمونة، وليس عن ابن عمر. وتعد الرواية عن ابن عمر وهما من بعض الرواة. وهذه خلاصة نقدهم لحديث ابن عمر. ولهم في ذلك قرائن يفهمونها من خلال ممارستهم ومعرفتهم لأحاديث كل راو من الرواة على حدة مع الحفظ والفهم.(1/249)
وعوضا عن التركيز على حل الإشكال المثار هنا، بطريقة علمية مألوفة لدى النقاد اتجه الأستاذ إلى ترجمة الرواة وجلب الشواهد لتصحيح رواية ابن عمر، فكأن النقاد ضعفوا متنه، مع أن في هذه الشواهد ما يعد شاذا تبين خطؤه. وليس لذكر الشواهد هنا في هذه المناسبة التي نحن بصدد نقد رواية عبيد الله وغيره عن نافع عن ابن عمر أية فائدة تذكر ما دام متن هذا الحديث معروفا وصحيحا لدى الجميع، بل هو هروب مكشوف من نقطة الخلاف(1). إذ يفيد الشاهد ثبوت متن الحديث وإبعاده عن الشذوذ والغرابة، دون أن يحل من مشكلات السند شيئا.
لقد قام الشيخ – هدانا الله وإياه- في صفحات كثيرة من رده الأول ( 67 – 71) بدراسة المتابعات والشواهد التي أتى بها لتقوية حديث ابن عمر الذي أعله النقاد. ثم دافع عنها في كتابه منهج مسلم (ص: 164 – 189). وإني لا أزال مستغربا أن تصدر مثل هذه الدراسة من الشيخ مع كونه أستاذا متخصصا في الحديث وعلومه، وأن يتبنى أسلوب الفقهاء المتأخرين في الحكم على الأحاديث، ثم يصف ويزكي دراسته بأنها قائمة (إن شاء الله) على مناهج المحدثين وقواعدهم, وعلى تحري العدل والإنصاف!.
__________
(1) - هذا أسلوب كثير من الباحثين المعاصرين، يركزون على حشد ما تفرق في كتب الحديث من الأحاديث الصحيحة وينشغلون بتخريجها لحل الإشكال الذي أثاره النقاد حول رواية معينة شاذة خالف فيها راويها الثقة غيره من الثقات ، ثم لتقوية المتن الذي لم يتكلم فيه أحد من النقاد، وإنما تكلموا فقط حول نقطة إسنادية معينة. كإضافة المتن إلى راو آخر، أو وصل المرسل أو رفع الموقوف وهما. ولو كان ذلك الجهد من أجل دفع شبهة عن المتن عموما لكان ذلك مقبولا، كأن يقول: مهما كان الأمر فإن المتن معروف من طرق أخرى – مثلا - .(1/250)
ومن الغريب أنه لم يدرك حتى الآن وجود تباين منهجي بين المحدثين النقاد القدامى وبين المتأخرين في التصحيح والتضعيف مع وجود نصوص صريحة من قبل المتأخرين أنفسهم، بل نجده يفضل منهج المتأخرين على منهج المحدثين النقاد لا لشيء سوى أن النقاد بشر يخطئون ويصيبون.
فهل المتأخرون لا يخطئون في نظره؟!
وإذا قدمنا المتقدمين على المتأخرين ثار ثائره وأخذ يتفنن في نسج التهم وأصبحنا بذلك ممن يقدس الأئمة في نظره !! وله أن يعمل ما يريد حتى ولو كان من الأساطير، لكن إذا قال غيره بما يخالف رأيه حتى وإن كان نقلا عن النقاد فهو في نظره هدم للسنة النبوية بخفية!!.(1/251)
إن تحديد المراجع الأصيلة والمراجع المساعدة والفصل بينهما أمر ضروري حين ندرس أي علم من العلوم، ذلك لأن أي خلط في هذا المجال الحساس يؤدي إلى انحراف في الفهم وانزلاق خطير في التعامل مع مصطلحات هذا العلم(1). وإذا نظرنا إلى كثير من الباحثين المعاصرين، ومنهم الأستاذ صاحبنا في الحوار، وجدناهم يخلطون بين هذه المراجع، ويجعلون المراجع المساعدة أصيلة، بل يقدمونها، ويأخذون منها القواعد على إطلاقها، بينما تكون لها استثناءات أو شروط عند النقاد، مثل تفرد الثقة، وزيادته، وتقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، وهذا الخلط والمزج يكون من أهم أسباب انزلاقاته الخطيرة التي رأيناها في دراسته وأساليب حواره.
__________
(1) - أحسن مثال يذكر هنا هو مجال التشريع الإسلامي، إذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية هما مصادر التشريع الأصيلة فإن أقوال آحاد العلماء تعد مصادر مساعدة في ذلك. أعني بذلك: أنها تساعدك على فهم القرآن والسنة، ومع ذلك لا ترتقي إلى كونها مصدرا للتشريع. فمن كان قوله موافقا للكتاب والسنة يكون مقبولا، وإلا فهو مردود عليه كائنا من كان من العلماء . وأما إذا جعل الباحث أقوال إمام من الأئمة هي المصدر الرئيس لمعرفة الحلال والحرام فإنه انحرف وانزلق؛ إذ لا يجد ضرورة لإعادة النظر في قوله والتأمل في مدى موافقته للمصادر الأصيلة. وهكذا في كل علم لا بد من التفريق بين مصادره الأصيلة ومصادره المساعدة. وكل ما يعطيك من المفاهيم أو النظريات إذا كان مطابقا لما في المصادر الأصيلة يجب قبوله، وإلا يرد. والله أعلم.(1/252)
وأنت ترى - أيها القارئ الكريم- : أن المتأخرين ممن تصدوا لعملية التصحيح والتضعيف بدءا من الحافظ المقدسي في كتابه (الأحاديث المختارة) إلى صاحبنا هذا يقولون: ’’إسناده صحيح‘‘، أو ’’رجاله ثقات‘‘، أو ’’إسناده حسن‘‘. بينما يقول النقاد؛ كالإمام أحمد وعلي بن المديني والبخاري والنسائي والدارقطني وغيرهم: ’’حديث صحيح‘‘ في الأغلب(1). والفرق بين هذين القولين، أو الحكمين شاسع، وتفصيله في كتب المصطلح.
إذا كان علماؤنا المتأخرون؛ مثل المقدسي والهيثمي وغيرهما قد عبروا عن ثقة الرواة بقولهم ’’إسناده صحيح‘‘ احتراما لقواعد علوم الحديث وإيمانا بعجزهم عن نقد المرويات، ثم يقفون عند ذلك الحد عموما، فإن أصحابنا من الباحثين المعاصرين يتجاوزون الحدود ويتطاولون على النقاد ثم يستنبطون الأحكام مما صححوه على طريقتهم، دون أن يتحققوا من مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة.
ومن الجدير بالذكر أن تصحيح المتأخر لحديث أعله الناقد لا يدفع علته، لأن معنى تصحيح المتأخر أن رواة الحديث ثقات، وأن ظاهره متصل لا أكثر ولا أقل(2).
كيف ينبغي أن تكون الدراسة حول الأسانيد
إن دراسة الأسانيد ينبغي أن تقوم على مراعاة ثلاثة أمور مهمة على أقل الأحوال لكي يتوصل الباحث إلى معرفة حكم مناسب للحديث، وفهم يطابق منهج النقاد, وإلا ستكون الدراسة سطحية وغير وافية.
__________
(1) - أما إذا قال أحد النقاد ’’إسناده صحيح‘‘ ولم يعترض عليه أحد منهم، فالظاهر أنه يفيد معنى قوله حديث صحيح. (انظر الموضوع في كتب المصطلح )
(2) - شرحنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب (الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين) . خلال تتبع كتب الحافظ ابن حجر، رأيناه كثيرا يجمع بين تصحيح السند وبين بيان الاضطراب أو العلة . كقوله : ’’إسناده صحيح لكن فيه اضطراب‘‘ . أو هذا صحيح من حيث السند‘‘.(1/253)
أما الأمر الأول فهو النظر في حال الراوي في الرواية، واعيا لمناسبة أقوال الأئمة فيه، بعد تعيين الراوي الوارد في السند، باسمه الكامل، إذ يكون ذلك في بعض الأحيان أمرا صعبا للغاية، لتصحيف الناسخ فيه عند نسخه، أو لكونه من المتفق والمختلف أو لغير ذلك. ويستعان على حل الإشكال في تحديد الراوي بتخريج الحديث تخريجا علميا، لأنه قد يقع في بعض الأسانيد اسمه كاملا بحيث لا يلتبس برجل آخر، وكذا مراجعة كتب الرجال المطولة التي تساعد الباحث على تحديد الراوي، لا سيما (التاريخ الكبير) للإمام البخاري، وكتاب (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم.
والأمر الثاني أن يبحث الدارس حقيقة حال الرجل فيما يرويه عمن فوقه، وعلاقته به؛ لأن الثقات والضعفاء تختلف أحوالهم حسب اختلاف شيوخهم، ولا يعني ذلك إنكار وجود الثقة أو الضعيف في كل الشيوخ فهم كثيرون أيضا. و هذا الأمر لا تتأتى معرفته إلا من خلال مراجعة الكتب المطولة في الرجال بشيء من الفقه والدقة والوعي. وأحيانا تكون معرفته صعبة، وفي هذه الحال يكون من الأفضل أن يتتبع الباحث الصحيحين بحثا عن كيفية روايته فيهما، مع التمييز بين الأصول وخارجها، فإن ذلك قد يكون مما يساعده على معرفة حقيقة حال رواية ذلك الراوي عن شيخه. و هذا الأمر الثاني مما ينبغي مراعاته حسبما أمكن ولا يناسب الباحث أن يغفل عنه، ولا أن يقصر في بحثه.(1/254)
والأمر الثالث النظر فيما قاله الراوي من سند ومتن، ذلك لمعرفة مدى موافقته مع غيره من الرواة، أو مع الواقع في أصول شيخه، ومدى تفرده بما رواه عنه، وهل له أصل أم لا ، و هل حكم أحد من الأئمة عليه بالاضطراب، أو بالغرابة والتفرد، أو النكارة ؟! أو غيرها من ألفاظ التعليل(1). ولا يتم هذا الأمر إلا من خلال تخريج الحديث تخريجا علميا ومراجعة كتب العلل، وكتب الضعفاء وكتب التخريج. فإذا وجد الباحث إماما من الأئمة النقاد قد حكم باضطراب الحديث أو نكارته أو غرابته وتفرده فإن الباحث قد اتخذ من الخطوات العلمية المنهجية ما يساعده على فهم ذلك الحكم وحيثياته، فلا يكون مغترا بظاهر السند حتى ولو كان مثل الشمس.
وهذه الأمور الثلاثة ينبغي مراعاتها عند ما يقوم الباحث بدراسة الأسانيد لكي تكون الدراسة على قواعد المحدثين ومناهجهم، وإلا يكون الباحث ممن أساء إلى علم الحديث، بل تكون عواقب دراسته وخيمة، لكونها تؤدي إلى طمس معالم النقد عند المحدثين النقاد، وخلط السنة بين الثابت والدخيل، وجعل قول الصحابي أو قول التابعي قولا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فعليك - أيها القارئ رحمك الله - أن تقبل الحكم على الحديث من المحدثين النقاد؛ كالإمام أحمد وعلي بن المديني وابن معين والبخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبي داود والدارقطني وغيرهم من النقاد القدامى، ودون استفسار عن الأسباب والحيثيات، وأن تتحفظ في القبول من الباحثين المعاصرين أو المتأخرين ما خالفوهم فيه.
__________
(1) - هذه القضايا المنهجية مما بسطناه في كتاب ( كيف ندرس علم تخريج الحديث).(1/255)
قال الحافظ ابن حجر : ’’هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غائصا واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن يمارس ذلك‘‘.
إلى أن قال:
’’فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث‘‘(1).
وقال السخاوي:
’’... ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر، لا ينكر عليهم، بل يشاركهم، ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة‘‘(2).
’’هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريج كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين‘‘.
__________
(1) - النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص: 64
(2) - رأينا الأستاذ عبر هذا الحوار لا يقبل من النقاد إعلالهم ، بل يظل يطالبهم الأدلة مع أنهم قد شرحوا الأدلة بلغة واضحة، إذن من يكون الأستاذ يا ترى ؟!! المحدث العاري عن الفهم والمنهج ؟!! أم الأصولي العاري عن الحديث؟!!(1/256)
’’فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك ( إن شاء الله ) معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله‘‘(1).
أما الباحث الذي ينشغل بسطحيات الأمور وفتاتها عن أمهاتها، ثم يزاحم بها صفوف النقاد بحجة’’كم ترك الأول للآخر‘‘، وهو فارغ القلب، لا يعرف شيئا عن الحديث وملابساته، فمشاغب ينبغي التحرز منه.
وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟!
حديث عطاء عن ابن عمر جعله الأستاذ متابعة لنافع عن ابن عمر
يقول الأستاذ:
’’ ولنبدأ بمتابعة لنافع في ابن عمر: قال الإمام أحمد (2/29) حدثنا إسحاق بن يوسف ثنا عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فهو أفضل.
ثم قال (رحمه الله) ثنا محمد بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء به‘‘
ثم درسه الأستاذ كما يأتي:
’’إسحاق بن يوسف الأزرق ثقة من التاسعة ، (ع . تقريب 1/63)
محمد بن عبيد الطنافسي ، ثقة يحفظ من الحادية عشرة (تقريب)
عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، صدوق له أوهام من الخامسة (تقريب)
عطاء بن أبي رباح المكي، ثقة فقيه، لكنه كثير الإرسال، من الثالثة، (تقريب)
وقال الذهبي في عبد الملك بن أبي سليمان: الكوفي الحافظ، قال أحمد: ثقة يخطئ ، من أحفظ أهل الكوفة ، رفع أحاديث عن عطاء.
فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن فهو متابع جيد لحديث نافع عن ابن عمر‘‘.
انتهت دراسة الأستاذ بسلام !.
__________
(1) - فتح المغيث 1/274 (ط: سنة 1407هـ إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس)(1/257)
أقول: هذه هي الدراسة التي يزعم الأستاذ أنها وافية، وأنه طبق فيها قواعد المحدثين. وهي في الواقع كما وصفتُ سابقا: عبارة عن ترجمة الرواة من كتاب التقريب، لا غير! ولا صلة لها برواية الحديث الذي نحن بصدده. وبهذه الدراسة لا يصل إلا إلى نتيجة واحدة ، وهي معرفة رواة هذا الحديث فقط. أما اتصال السند وخلوه من شذوذ وعلة فأمر ليس له أثر في دراسته. ومع هذا يزعم أنه يطبق قواعد المحدثين!.
أ ليس من أهم قواعد المحدثين في التصحيح التحقق من مدى خلو الحديث من الشذوذ والعلة ؟!
وأين هذه الأمور في هذه الدراسة ؟!(1)
ما هكذا تورد يا سعد الإبل !
وعلى كل ههنا ملحوظان؛ الأول:
أن الشيخ لم ينظر هل وهم عبد الملك بن أبي سليمان في رواية هذا الحديث أم لا ؟! وكان عليه أن ينظر في ذلك؛ لأنه نقل في ترجمته عن الحافظ ابن حجر قوله ’’إنه صدوق له أوهام‘‘. وبناء على ذلك فمن المحتمل جدا أن يكون هذا الحديث من أوهامه.
وبعبارة أخرى أن الشيخ لم ينظر هل أخطأ فيه عبد الملك فرفع هذا الحديث عن عطاء خطأ، لقد قال فيه الإمام أحمد: ’’ثقة يخطئ، من أحفظ أهل الكوفة، رفع أحاديث عن عطاء‘‘. ولا ينبغي التسرع بالحكم على حديث مثل هذا الراوي بناء على مرتبته العامة في سلم الجرح والتعديل.
لم يحدد لنا علماء الجرح والتعديل مراتب الرواة ليعتمدها الباحث المعاصر المستعجل في الحكم على الحديث. وإنما لاستخدامها في مناسبات خاصة يفقد فيها الناقد أو الباحث القرائن والملابسات التي تدل على خلاف الظاهر.
ولعل من الأحسن أن نتذكر ما قاله السخاوي، وهذا نصه:
__________
(1) - يستطيع الباحث المعاصر أن يدرس مئات الأسانيد ويصححها ويضعفها خلال ساعات معدودة لأنه يعيش في عصر السرعة. ولشدة السرعة يتجاوز العقبات التي يقف أمامها كبار النقاد في العصور الماضية. وإذا قلنا إن هنا عقبات توقف أمامها النقاد يصرخ ويقول: ’’ كم ترك الأول للآخر‘‘ !(1/258)
’’وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء ( يعني المتأخرين) في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحا، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ وهو استرواح،(1)حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيا وإثباتا فضلا عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك، وربما تطرق إلى التصحيح متمسكا بذلك من لا يحسن، فالأحسن سد هذا الباب‘‘(2)
أما الملحظ الثاني فإن الشيخ على علم بأن الإمام البزار ذكر هذا الإسناد وجها من وجوه الاختلاف على عطاء(3)،
__________
(1) - رأينا أثناء الحوار أن الأستاذ لم يقبل من النقاد تعليلهم بعد أن صرحوا بذلك ، فبماذا يوصف هذا العمل ؟!! هل هو عناد أم استرواح؟!!
(2) - فتح المغيث 1/20 ( تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، ط:2 ، سنة 1388 ، المكتبة السلفية)
(3) - قال البزار : حدثنا أحمد بن عبدة قال أنا حماد بن زيد عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الزبير أن رسول الله قال صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة.
وهذا الحديث قد روي عن عطاء، واختلف على عطاء فيه. ولا نعلم أحداً قال: ’’فإنه يزيد عليه مائة ‘‘ إلا ابن الزبير. وقد تابع حبيب المعلم والربيع بن صبيح فروياه عن عطاء عن ابن الزبير.
وروى هذا الحديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر
ورواه ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة .
ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة.
انظر كشف الأستار 1/214 ، وقد نقلته للأستاذ في أول الصفحة من الرسالة التي أرسلتها إليه في بداية الحوار. وكان الإمام البزار قد أورد الاختلاف على عطاء، وليس من الإنصاف أن يفهم من هذا الصنيع أنه يريد تقوية الحديث بتلك الروايات المتعددة ، ويقوي بعضها ببعض، بل يبين اختلاف الرواة على عطاء.(1/259)
فكيف أغفل عن قول هذا الإمام الناقد، ليقول للناس: ’’فهو متابع جيد لحديث نافع عن ابن عمر‘‘ موهما بأن الإسناد سليم من العلة.
هذه دراسة سطحية بعيدة عن منهج المحدثين وقواعدهم. وكان على الأستاذ أولا أن ينفي الاضطراب عن الرواية، لا سيما وقد أوردها البزار وجها من وجوه الاضطراب على عطاء، وبعد ذلك لا مانع أن يعدها متابعة جيدة. كما قيل: (ثبِّت العرش ثم انقش).
ومن أساليب كثير من الباحثين المعاصرين أن يعتمدوا في التصحيح والتضعيف على رواية واحدة، كما رأينا آنفا في دراسة الشيخ، إذ قام بترجمة رواة الحديث من كتاب التقريب، دون أن يقوم بتخريجه، ودون أن يعرف مدى الاتفاق بين الرواة والاختلاف والتفرد من خلال المقارنة بين رواياتهم. كأن الباحث المعاصر عبقري فذ، يعرف الأمور بدون دراسة وتعب، بل يستشفها من خلال رواية واحدة ! بينما يقول بعض النقاد:
’’لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه‘‘.
وقال بعضهم: ’’الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا‘‘.
وقال الآخر: ’’الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه‘‘.(1)
شتان بين المشرق والمغرب.
حتى إذا قام الباحث المعاصر بتخريج الحديث لم يكد يفقه منه ما يحتاج إليه في الحكم، ويجعل التخريجات في جانب، ثم يبتعد عنها ويقول: إن الإسناد صحيح ورواته ثقات. وللأسف الشديد فإن كثيرا من المؤسسات العلمية والجامعات الأكاديمية كانت تدرب في السنوات الماضية طلبتها في العلوم الشرعية على هذه الطريقة الرياضية. والدليل على ذلك هذا الكم الهائل من الرسائل الجامعية التي تثقل بها رفوف مكتبات الجامعات.
وإذا كان عند الأستاذ من العلم والمنهج والإنصاف لنقل لنا ما أثاره البزار في مسنده من الاضطراب، ثم يعقب عليه بأنه غير مضطرب في ضوء الأدلة، على أقل الأحوال حتى يتم له القول إنه متابع جيد لحديث ابن عمر.
__________
(1) - انظر الجامع لأخلاق الراوي 2/212(1/260)
وهذا مأخذ كبير في نظري, لأن فيه عدم المبالاة بقواعد علوم الحديث، وحتى إذا طبقها إمام ناقد من النقاد، فإن الأستاذ لا يبالي بذلك في حال ما إذا خالف فهمه، بل يفضل عليه المتأخرين.
ثم أورد الشيخ شواهد من حديث أبي هريرة وحديث جابر وغيرهما من أجل تقوية حديث ابن عمر، مما يدل على أنه لا يفرق بين الغث والسمين، ولا يفقه قواعد تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، ولا يميز بين ما يخدم موضوع النقاش والحوار مما لا يخدمه.
ونحن بصدد حديث ابن عمر الذي لفت الأستاذ انتباهنا حين صححه غرورا بظاهر السند، دون أن يتحرج من مخالفته للنقاد؛ البخاري والنسائي والدارقطني الذين اتفقوا على إعلال هذا الحديث، حتى إن الإمام مسلما لم يكن مخالفا لهم حين أورده في أواخر الباب مشيرا إلى ذلك الاختلاف الذي من أجله أعلوه، غير أن الأستاذ لم يفهم ما دل عليه صنيع مسلم في صحيحه.
ومعنى إعلالهم لهذا الحديث هو أن إضافة هذا الحديث إلى ابن عمر خطأ، وإضافته إلى إبراهيم عن ميمونة هو الصواب، ولم يتعرضوا لمتن الحديث لا من قريب ولا من بعيد، وهو صحيح من حديث أبي هريرة المتفق عليه، ثم لم يختلف في تصحيحه أحد من النقاد في حدود علمي.
والباحث الذي يرى صحة حديث ابن عمر غير مبال باتفاق النقاد على تعليله، ينبغي أن يركز في معالجته على موضع الخلل الذي أثاروه، كأن يثبت لنا أن نافعا حدث به مرتين: مرة عن ابن عمر، وأخرى عن إبراهيم عن ميمونة، بطريقة معقولة ومعروفة لدى النقاد. ولا يكفي هنا مجرد الادعاء باحتمال صحة الروايتين بعد ترجمة الرواة من التقريب، إلى جانب مزاياهم الشخصية ليزعم أن حديث ابن عمر أصح من حديث ميمونة، بل من حديث أبي هريرة المتفق عليه.(1/261)
غير أن الأستاذ لم يحاول أن يأتي بقرينة تدل على صحة الروايتين؛ كأن يأتي برواية ثابتة تجمع بين الوجهين، أو أن يثبت أن الوجهين جميعا مما يصعب الانتقال إليه على ألسنة الرواة في حالة استعجالهم الرواية أو غفلتهم فيها أو اعتمادهم على الحفظ. لأنه إذا كان أحدهما أقرب إلى الخطأ، والثاني أقرب إلى الصواب، لاختلت المساواة بينهما، وبالتالي يقتضي ذلك ترجيح الثاني.
وأما القول بصحة الروايتين في حال اختلال المساواة بين الطرفين فرمية من غير رام. ومن المؤسف أن يعتقد الأستاذ أن تساوي الطرفين إنما يكون من حيث العدد والمزايا الشخصية فقط.(1)
أما هنا فحديث نافع عن ابن عمر أسهل على اللسان أن ينتقل إليه، بخلاف حديث نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة فإنه أصعب على اللسان، فمن المنطق إذن أن يرجح الثاني؛ لكونه أبعد عن أن يكون وهما، ولذا وجدنا النقاد متفقين على ترجيح رواية نافع عن إبراهيم عن ميمونة على رواية عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عن ابن عمر.
إن الأستاذ لم يفرق بين هذين الحالين من حيث صعوبة انتقال اللسان وسهولته، لكنه انشغل بأمور لا يقتضيها منه موضوع الحوار، ومناسبة النقاش. فانشغل بما يعرفه الطلبة بلا عناء من فتات القضايا، فنقل من كتب بعض النقاد ممن أعلوا الحديث ما هو شاذ منكر ليوهم الناس بالكثرة في جانب رواية عبيد الله.
__________
(1) - بناء على ذلك انشغل الأستاذ بسرد المزايا الشخصية لعبيد الله بن عمر وأكثر من ذكر المتابعات له ليقول إن حديث ابن عمر أصح، وفي الوقت نفسه يزعم صحة الروايتين، وهذا من غرائب تصرفاته وشواذ تصوراته في مجال النقد، ذلك لأن القول بصحة الروايتين يتوقف أساسا على إزالة الإشكال الذي أثاره النقاد، ولا يكفي في ذلك مجرد الإدعاء، ومن المعلوم أن خلو الحديث من العلة والشذوذ - أي من مخالفته الراجح - من أهم شروط الصحيح.(1/262)
وبعد أن قام بسرد المتابعات لم يستطع أن يحل الإشكال الذي أثاره النقاد، لكنه لجأ إلى الشغب وإطلاق الدعاوى الفارغة والتجريج الأثيم في نيتي وإخلاصي. بل وصل غروره وعناده إلى أن يتحدى النقاد بقوله:
’’ولو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي وصلت إليها‘‘.
لو كان النقاد قد أعلوا متن الحديث، لكان من الواجب إذن أن يأتي الشيخ بالشواهد التي تدل على أن المتن ثابت ومعروف. أما والموضوع يتصل بإسناد حديث ابن عمر ولم يتحدث النقاد إلا عن ضعف السند، دون المتن، مع اتفاقهم على صحته، فما قيمة المتابعات القاصرة، والشواهد، لا سيما إذا كانت شاذة ، في مناسبة حديثنا عن إعلال النقاد رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ؟!.
ما هكذا تورد يا سعد الإبل !
ونعرض لنموذج آخر لدراسة الأستاذ للأسانيد زاعما أنها وافية.
من الشواهد التي درسها الأستاذ حديث هلال عن أبي هريرة
قال في ص68 - 69 من رده الأول، بعد أن أورد حديث أبي هريرة من مسند الإمام أحمد عن يونس بن محمد أنا محمد بن هلال قال ثنا أبي ثنا أبو هريرة:
’’الإسناد فيه يونس بن محمد ثقة ومحمد بن هلال صدوق، وأبو هلال لم أقف له على ترجمة فهو إسناد فيه مجهول، فإن شئت أن تجعله في الشواهد، وإلا فنحن في غنى عنه‘‘. اهـ
قلت: هذه هي دراسته الوافية، التي أوصلته إلى أن يقول: ’’فإن شئت أن تجعله في الشواهد وإلا فنحن في غنى عنه‘‘. أرجو من القارئ أن لا يتعجب فإنه في عصر السرعة!
إن الحديث رواه أحمد في مسنده فقال:
حدثنا يونس بن محمد أنا محمد بن هلال قال أبي ثنا أبو هريرة ( ....)(1)
__________
(1) - كذا في المسند 2/499 ، لكنه وقع فيما ذكره الشيخ (قال أنا أبي ) وهو في المسند (قال أبي ) وبينهما فرق كبير جدا ، ولكني راجعت كتاب الأطراف للمسند للحافظ ابن حجر ووجدت فيه (.... ثنا أبي .. ) ( 435/ب ) بدل ( قال أبي ).(1/263)
يقول الشيخ: ’’وأبو هلال لم أقف له على ترجمة‘‘(1)
فأين هنا أبو هلال؟! إنما في الاسناد :’’.. محمد بن هلال قال ( ثنا ) أبي ..‘‘. وأبوه هو هلال بن أبي هلال ، وله ترجمة في التهذيب والميزان، ولم أجد في المراجع أنه يكنى بأبي هلال. فقد قال الحافظ في التهذيب 11 /86:
’’.. هلال بن أبي هلال المدني، مولى بني كعب ، ويقال حليف بني مدلج ، روى عن أبيه وأبي هريرة وميمونة بنت سعد خادمة النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه ابنه محمد . ذكره ابن حبان في الثقات ، قلت : قد ذكره الخطيب في المتفق أنه روى عنه أيضا خالد بن سعيد بن أبي مريم، وساق من طريقه حديثا عنه ، وقال في وصفه مولى ابن كعب المدلجي، قال الذهبي ( لا يعرف )‘‘.
وأبوه في الإسناد هو هلال بن أبي هلال، وليس أبو هلال، وقد قال الحافظ في الأطراف هلال بن أبي هلال ( 435/ب ) وراجع الميزان.
ليس قصدي من هذا التعقيب تصحيح هذا الحديث، وإنما قصدي بيان استعجاله في الحكم، وسطحيته في النظر، وانشغاله بفتات الأمور، وغوغائيته في التعقيب وشغبه بالدعاوى.
أخيرا أود أن أسأل الأستاذ - بغض النظر عن مدى صحة هذه الرواية عن أبي هريرة - إذا كان متن حديث ابن عمر يتقوى به، فلماذا لا يتقوى متن حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم من طرق أخرى، ويزداد به قوة ؟!
أليس متن حديث ابن عمر هو نفسه متن حديث أبي هريرة المتفق عليه؟!
وكيف يزول به الإشكال الذي من أجله أعل النقاد إسناد حديث ابن عمر دون متنه؟!
ولم تنته عجائبه في الدراسة، فإذا هو يذكر شاهدا آخر من حديث جابر، ليدرسه بالطريقة نفسها.
حديث آخر يعده الأستاذ شاهدا لحديث ابن عمر
وقال في (ص: 69):
’’ومن الشواهد التي سقتها حديث جابر رضي الله عنه الذي رواه أحمد في مسنده
(2/343)
__________
(1) - لا يقال : إنه خطأ مطبعي ، وإنما هو ( أبوه هلال) ، لأن الأستاذ يصطدم بقوله : ’’لم أجد له ترجمة ‘‘.(1/264)
ثنا حسن (يعني ابن محمد) وعبد الجبار بن محمد الخطابي قالا ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به
و(2/397) ثنا أحمد بن عبد الملك ثنا عبيد الله عن عبد الكريم عن عطاء به‘‘.
ثم قام الشيخ بدراسة هذين الإسنادين فقال:
1 - الحسن بن محمد لم يتبين لي من هو، فإن كان هو الزعفراني وهو من تلاميذ أحمد – ولا يبعد أن يروي الشيخ من تلميذه - فهو ثقة وإن كان غيره فلا يضر، فإن في الإسناد هذا والذي بعده من يقوم مقامه .
2 - عبد الجبار بن محمد الخطابي العدوي ذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الرابعة، روى عنه أحمد وغيره ، وروى عن ابن عيينة وبقية وعبيد الله بن عمرو الرقي. تعجيل المنفعة (163)
3 - عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي أبو وهب الأسدي ثقة فقيه ، ربما وهم ، من الثالثة/ ع. ( تقريب) كذا في المطبوعة المصرية ، وفي المصورة (ص186) من الثامنة ، وهو الصواب.
4 - عبد الكريم بن مالك الجزري ، ثقة من السادسة ( تقريب)
5 - وعطاء إمام مشهور، وتقدمت ترجمته.
الإسناد الثاني: أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني أبو يحيى الأسدي، ثقة تكلم فيه بلا حجة من العاشرة (تقريب) وبقية هذا الإسناد ترجم لهم.
فالحديث بالإسناد الثاني صحيح، والأول يزيده قوة‘‘.
ثم قال (ص: 72 – 73):
’’يبدو أن لدى الباحث رغبة قوية في المنازعة والخلاف لأئمة الحديث ... وخالف ابن عبد الهادي وابن حجر والبوصيري والألباني في تصحيح حديث جابر – رضي الله عنه – في الموضوع نفسه، وقد سبقه إلى ذلك الإمام البخاري. ولم يقم حجة على تضعيفه، ولم يلتفت هؤلاء العلماء إلى ما قاله البخاري لأنه لم يقم حجة على تضعيفه إلا مخالفة عبد الكريم.(1/265)
وأراد الباحث ( يعني حمزة المليباري) أن يبرهن على ضعف الحديث بعبد الكريم فقال: وعبد الكريم ثقة في نفسه ولا شك، لكنه يروي عن عطاء ما لا يوافقه عليه أحد، ولهذا قال ابن معين بأن حديثه عنه رديء‘‘.
ثم عقب عليه الشيخ بقوله:
’’أقول: لكن ابن عدي رحمه الله بين مراد ابن معين بقوله هذا، فقال: يعني عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها ولا يحدث وضوءا، إنما أراد ابن معين هذا، لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد الكريم أحاديث صالحة مستقيمة. (تهذيب التهذيب 6/374) ، فترك الباحث تفسير ابن عدي الذي قيده بحديث عائشة المذكور ليصل إلى مقصوده، وهو تضعيف حديث جابر‘‘ إلى آخر الصفحة .
دحض شبهات الأستاذ
هكذا درس الأستاذ الشواهد(1)، ولم تتجاوز دراسته كما وصفنا ترجمة الرواة من التقريب ونحوه. لذا لم يلحظ ما لحظه النقاد من الاختلاف على عطاء الذي هو مدار تلك الروايات. بل جعلها الأستاذ من تعدد الطرق أو الشوهد التي يقوي بعضها بعضا، الأمر الذي يمكن البرهنة به على بعده الشاسع عن منهج المحدثين النقاد.
على كل، فههنا مآخذ:
أولا : إنه لم ينتبه إلى ما وقع في السند من التصحيف، فذكر اسم شيخ أحمد (حسن)، إنما هو حسين، والدليل على ذلك ما يأتي في آخر الحديث:
وهو قول أحمد : (قال حسين : ’’فيما سواه‘‘).
وقال الحافظ في الأطراف 1/50/ب : بعد أن أورد هذا الحديث :
’’عن حسين بن محمد وعبد الجبار بن محمد وأحمد بن عبد الملك عن عبيد الله بن عمرو ...‘‘ اهـ
__________
(1) - تركنا هنا التعقيب على شواهد أخرى مثل حديث أبي الزبير، وذلك خوفا من الإطالة حيث إن حديث أبي الزبير فصلنا في رسالتي للدكتوراه ما يتصل به من الاختلاف والاضطراب حول السند والزيادة في متنه. وعلى كل فدراسة الأستاذ لحديث ابن الزبير كانت على الأسلوب نفسه القائم على ترجمة الرواة، والنظر إلى ظاهر السند.(1/266)
من هنا نتأكد أن الذي وقع في المسند في أول الإسناد تصحيف، وأن الصواب هو حسين ، وهو ابن محمد بن بهرام المؤدب. وهذا أنموذج واضح لدراسته السطحية التي يتبجح بها أمام القراء.
ثانيا: قوله :
’’ فالحديث بالإسناد الثاني صحيح ، والأول يزيده قوة‘‘.
كأن التصحيح عنده أمر هين. ومن الغريب أن الشيخ ينشغل بأمور شكلية تتمثل في تصحيح الإسناد بناء على أن رواته ثقات، وتعضيد الأول الذي فيه راو لم يعرفه، دون أن يعير أي اهتمام لطبيعة رواية عبد الكريم عن عطاء، لا سيما وقد أثار حولها النقاد إشكالا، والأستاذ يمر عليه مرور الكرام ، بل اكتفى بقوله: إن فلانا ثقة والآخر إمام.
هذا، وقد مر الأستاذ بقول البخاري في (التاريخ الكبير) إن حديث عبد الكريم عن عطاء عن ابن عمر لا يصح، وأن حديث عبد الكريم عن عطاء عن جابر لا يثبت. وإذا رأى الشيخ صحة الحديث فعليه أن يبين وجها يدفع به قول الإمام البخاري، وهو إمام من أئمة هذا العلم، حيث لم يحكم هو وأمثاله بعدم صحته إلا بعد قيامهم بدراسة وافية دقيقة، سواء أ شرحوا حيثياتهم وأدلتهم وقرائنهم في ذلك أم لا.
وبعد: فأود أن أسأل الأستاذ - بغض النظر عن مدى صحة حديث جابر- إذا كان حديث ابن عمر يتقوى به، فلماذا لا يتقوى حديث أبي هريرة المتفق عليه، ويزداد به قوة ويكون أصحّ منه ؟!
أليس متن حديث ابن عمر هو نفسه متن حديث أبي هريرة ؟!
وكيف يزول به الإشكال الذي من أجله أعل النقاد إسناد حديث ابن عمر؟!
وهل أعل النقاد متن حديث ابن عمر حتى يأتي بالشواهد؟!
ثالثا: قوله :’’لكن ابن عدي رحمه الله بين مراد ابن معين بقوله هذا، فقال: يعني عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها ولا يحدث وضوءا، إنما أراد ابن معين هذا، لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد الكريم أحاديث صالحة مستقيمة، فترك الباحث تفسير ابن عدي الذي قيده بحديث عائشة المذكور ليصل إلى مقصوده، وهو تضعيف حديث جابر‘‘(1/267)
قلت: إن ابن عدي بين مراد ابن معين، لكن ليس كما يدعيه الأستاذ، وليته رجع إلى الكامل(1).
وأنقل هنا ما ورد في الكامل من بيان مراد ابن معين، وهذا نصه:
’’..حدثنا عبد الملك، ثنا عباس، سمعت يحيى يقول: أحاديث عبد الكريم عن عطاء رديئة، وهذا الحديث الذي ذكره يحيى بن معين عن عبد الكريم عن عطاء هو ما رواه عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم عن عطاء عن عائشة قالت : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها ولا يحدث وضوءا)، إنما أراد ابن معين هذا الحديث لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد الكريم أحاديث صالحة مستقيمة يرويها عن قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات فحديثه مستقيم.
أخبرنا الحسن بن فرج الغزي، ثنا يوسف عن عدي، ثنا شريك، عن عبد الكريم (الجزري) عن عطاء عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عن عطاء، هو في جملة ما قال ابن معين إن أحاديثه عن عطاء رديئة، ومع هذا فإن الثوري وغيره من الثقات قد حدثوا عنه" اهـ
هذا الكلام من ابن عدي ظاهر، وصريح بأنه لم يقيد قول ابن معين بحديث عائشة دون غيره كما فهم الشيخ من كلام ابن عدي.
ذلك لأن ابن عدي صرح بقوله أحاديث عبد الكريم ( بالجمع). ثم ذكر حديث عائشة من رواية عبد الكريم عن عطاء أنموذجا لأخطائه فيما رواه عنه، حين قال: ’’إنما أراد ابن معين هذا الحديث لأنه ليس بمحفوظ‘‘.
__________
(1) - وجدت الأستاذ يبرر ذلك بقوله في كتابه منهج مسلم ص: 166 – 167: بأنه لم يجد حاجة إلى الرجوع إلى كتاب ابن عدي ، لأنه رأى ما نقلته عن ابن معين مطابقا في اللفظ لما نقله عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب.
أقول : هذا ليس مبررا، وكان عليه أن يرجع إلى الكامل وهو متداول لدينا جميعا. وليعلم أن هذا الخلل يقع من الجميع ، من الأستاذ وغيره، ومن غير تعمد أيضا. لذا لا ينبغي للأستاذ الشغب والاتهام إذا وجد ذلك عند الآخر، وينسى نفسه !.(1/268)
يعني أن ابن عدي جعل حديث عائشة من جملة أحاديث عبد الكريم الرديئة لكونه غير محفوظ عن عطاء. ولم يكن قصد ابن عدي تخصيص قول ابن معين بهذا الحديث دون غيره؛ إذ لم يقل: ’’إنما أراد ابن معين هذا الحديث‘‘ فقط، بل أضاف إليه قوله’’ لأنه ليس بمحفوظ‘‘.
ويتأيد ذلك بسياق كلامه، إذ أورد حديثا ثانيا - وهو حديث أكل لحوم الخيل - ثم جعله في جملة أحاديثه الرديئة؛ حيث قال في آخره:
’’وهذا عن عطاء، هو في جملة ما قال ابن معين: إن أحاديثه عن عطاء رديئة‘‘.
فبذلك تبين جليا أن ابن عدي لم يقيد قول ابن معين بحديث عائشة وحده.
ثم إنه ينبغي للشيخ أن يتذكر أنه لا يمكن أن يحكم ابن معين على حديث عبد الكريم عن عطاء بهذا العموم بخطئه في حديث واحد.
أما قوله: ’’فترك الباحث تفسير ابن عدي الذي قيده بحديث عائشة المذكور ليصل إلى مقصوده، وهو تضعيف حديث جابر‘‘، فمن سوء فهمه لكلام النقاد .
زعم الأستاذ بوقوع تحريف في كلام ابن عدي، ودحض شبهاته في ذلك
زعم الأستاذ بوجود تحريف فيما نقله ابن عدي عن ابن معين ’’أحاديث عبد الكريم عن عطاء رديئة‘‘، والصواب هو : حديث عبد الكريم عن عطاء رديء، بالإفراد.
ثم قال:
’’الأدلة على هذا التحريف من السياق ؛
أولا – قوله: وهذا الحديث الذي ذكره يحيى بن معين بألفاظ الإفراد في اسم الإشارة هذا.
ثانيا: إفراد لفظ الحديث.
ثالثا: إفراد صفة الحديث وهو الاسم الموصول (الذي).
رابعا: إفراد العائد على الموصول وهو الضمير في ذكره.
خامسا: تأكيده ذلك (إنما أراد ابن معين هذا الحديث لأنه ليس بمحفوظ) باسم الإشارة ولفظ الحديث ، وإفراد اسم إن ، وإفراد اسم ليس وخبرها.
سادسا: ما نقله الحافظ ابن حجر عن الدوري بلفظ الإفراد في كل ما ذكرناه ، وكذلك ما نقله الزيلعي وعبد الحق الإشبيلي بالإفراد‘‘. اهـ(1/269)
أقول: هذه الأمور الخمسة كلها ترجع إلى جملتين، وهي قول ابن عدي: ’’ وهذا الحديث الذي ذكره‘‘ وقوله:’’إنما أراد ابن معين هذا الحديث‘‘، ويتخيل القارئ أن تلك الأمور أدلة متنوعة قاطعة بصواب ما يزعمه الأستاذ. والواقع أنها أوهى من بيت العنكبوت.
إذا كانت هذه الأمور هي الحجة البالغة عند الأستاذ لفهمه للتحريف فسلام على اللغة العربية والعلم والبحث !!.
تأمل - يا أخي - سياقَ كلام ابن عدي كله، سترى أنّ ما ذكره الأستاذ مجرد توهم أو تمنّ!. والعجب أن الأستاذ فكك الجملة التي وردت في تعليق ابن عدي على حديث عائشة إلى كليمات ثم أشار إلى أنها جاءت بالإفراد ليستدل بها على أن قول ابن عدي فيه تحريف. إذا كان ابن عدي يعلق على حديث عائشة فإنه لا ينبغي أن يستخدم فيه إلا صيغة الإفراد.
سبحان الله ! فماذا يقول الأستاذ في قول ابن عدي في المثال الثاني الذي أورده في الترجمة ذاتها: ’’وهذا عن عطاء، هو في جملة ما قال ابن معين: إن أحاديثه عن عطاء رديئة؟! إذن كيف يكون فيه تحريف؟! ومن الذي حرفه: ابن عدي نفسه أو أحد رواة الكتاب ؟!
وأما الدليل السادس على التحريف فليس بحجة على ابن عدي؛ إذ رواه بسنده عن ابن معين، وأما الحافظ ابن حجر والزيلعي وعبد الحق وغيرهما إنما نقلوا بغير إسناد، وبالتالي فابن عدي مقدم على المتأخرين.
وهب أنه تحريف، أو رواية بالمعنى، وأن قول ابن معين إنما هو بلفظ ’’ حديث عبد الكريم عن عطاء رديء‘‘ فماذا يستفيد الأستاذ من ذلك؟
الجواب: لا شيء؛ لأن هذه العبارة تفيد العموم عند أهل اللغة، وتشمل كل الروايات الرديئة التي رواها عبد الكريم عن عطاء. وسبب قول ابن معين بهذا العموم هو كثرة مخالفته واضطرابه وتفرده عن عطاء بما لا يعرفه أصحابه. ثم جاء ابن عدي ليرينا مصداقية قول ابن معين، حين طبقه في المثالين الذين ذكرهما لكونهما غير محفوظين.(1/270)
أما فهم الأستاذ من سياق كلام ابن عدي أن ابن معين إنما قال ذلك من أجل حديث عائشة وحده دون غيره، فغريب من جميع الجوانب اللغوية والعلمية.
ثم إن قول ابن معين ليس هو الدليل على التعليل، وإنما تفرد عبد الكريم بما رواه عن عطاء، بل كل من روى عنه عن عطاء هذا الحديث اختلف بعضهم على بعض. كما بين ذلك الدارقطني ، وهذا نصه:
قال الامام الدارقطني رحمه الله في العلل(1):
’’رواه عطاء بن أبي رباح عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعائشة، وكذلك قال أبو مريم عن عطاء.
ورواه الزنجي بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حبيب المعلم والمثنى بن الصباح والربيع بن الصبيح عن عطاء عن ابن الزبير.
ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة ،
وقال عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر،
وروى أبو إسحاق السبيعي عن عطاء بن أبي رباح مرسلا‘‘. اهـ
وهذا أوسع مما ذكره البزار من وجوه الاختلاف على عطاء.
والجدير بالذكر أن هذا الذي أورده الدارقطني يعطينا صورة واضحة لكيفية نظر النقاد في الرواية، رأيناه يربط الروايات بمصدرها، ثم يلحظون الاختلاف عليه. وهنا – كما ترى - لم يرجح شيئا من وجوه الاختلاف. وأما صاحبنا فله نظرة أخرى عجلى في الأسانيد فيعد هذه الروايات المختلفة متعددة الطرق يقوي بعضها بعضا!
وفي ضوء ما سبق تبين جليا أن قول البخاري:’’ حديث عبد الكريم عن عطاء عن جابر لا يثبت‘‘ حجة على جميع من اغتر بظاهر السند وصححه(2).
__________
(1) - 3/2/124
(2) - هذا وقد قال الحافظ ابن عبد البر: طعن قوم في حديث عطاء في هذا الباب للاختلاف عليه فيه. لأن قوما يروونه عنه عن ابن الزبير ، وآخرون يروونه عنه عن ابن عمر، وآخرون يروونه عنه عن جابر.
ومن العلماء من لم يجعل مثل هذا علة في هذا الحديث، لأنه يمكن أن يكون عند عطاء عنهم كلهم، والواجب أن لا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة لا تحتمل التأويل ولا المخرج، ولا يجد منكرها لها مدفعا وهو مشتهر بصحة حديث عطاء. وبالله التوفيق. وفي هذا الباب حديث موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختلف عليه فيه وهو يشهد لصحة حديث عطاء وبالله توفيقنا. ( التمهيد 6/36)
قول ابن عبد البر واضح في رده العلة بمجرد الاحتمال، حين قال: ومن العلماء من لم يجعل مثل هذا علة في هذا الحديث لأنه يمكن أن يكون عند عطاء عنهم كلهم‘‘. وتعليل النقاد لا يرد بهذا الاحتمال المجرد. ثم إن تصحيح ابن عبد البر لحديث موسى الجهني عن نافع قائلا ’’لم يختلف عليه فيه ‘‘، يدل على أنه لم يستحضر الاختلاف على نافع الذي أثاره النقاد البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض.
إن الترجيح في مثل هذه المناسبة ينبغي أن يقوم على منهج علمي ، حتى ينظر من هو أقرب إلى المنهج ، ومن هو أبعد عنه، ثم يرجح في ضوء ذلك. وليس المعيار هو مجرد موافقة القول لرأي من ينظر فيه. والله اعلم.(1/271)
أما الأستاذ فقد تخيل أن في كلام ابن عدي تحريفا، أو يتمنى أن يكون كذلك، ثم افتعل أدلة خيالية من غير أن يشعر بوهائها وزيفها.
انظر إلى الأستاذ يقول: ’’فأين الظهور ، وأين هذه الصراحة ، وحال السياق كما تراه وكما شرحناه؟. وعد بذاكرتك إلى ما ادعاه في صحيح مسلم من تحريف، مع قيام الأدلة والبراهين على بطلان دعواه. وهنا لو كلمه الموتى، وحشر كل شيء أمامه قبلا ما كان ليؤمن بهذا التحريف الذي قامت عليه الأدلة الواضحة، ولو وجد ما يوافق هواه فهو صحيح وصريح وثابت ولا يمكن أن يتطرق إليه التصحيف، ولو خالف هواه ما في صحيح مسلم أو في البخاري فيمكن أن يكون مصحفا ومحرفا. ولو كان في غاية الصراحة والظهور فليس بصريح ولا واضح ولا ظاهر". اهـ(1)
أقول: يتحدث الأستاذ كأنه يعلم السر وأخفى ويعلم الماضي والمستقبل!! ولم أره يعقب بعقل سليم ، ومنهج علمي، بل عاند وكابر، فوقع في خطأ فادح !!
أما وجه الظهور والصراحة بأن ابن عدي لم يقيد قول ابن معين بحديث عائشة فذلك لأنه أورد مثالا ثانيا. ثم قال: ’’ وهذا عن عطاء هو في جملة ما قال ابن معين إن أحاديثه عن عطاء رديئة‘‘ كما شرحنا آنفا.
انظر إلى الأستاذ كيف يتبجح بفهمه المغلوط!، يقول:
’’إن إصراره على الصراحة والظهور، وفي كلام ابن عدي ما يدل صراحة على الإفراد(2)وقصده دليل واضح على مكابرته ومرجع هذا الإصرار أمور؛
أحدها: المكابرة في البدهيات التي عرفناها فيه.
وثانيها : عجمته .
وثالثها : مع عجمته عدم فهمه للغة العرب ؛ فإن تفسيره للنصوص تفسيرا خاطئا (؟) ، وركة أسلوبه يدلان على أن الرجل إلى الآن لم يفهم العربية كما يفهمها عوام العرب، وكما يفهمها كثير من العجم.‘‘ اهـ.(3)
أقول :
أولا : ما ذكره كله من الخصال الجاهلية التي لا تقع عادة إلا من عوام الناس الجهلة.
__________
(1) - منهج مسلم ص: 168 – 169
(2) - يعني قول ابن معين : ’’حديث عبد الكريم عن عطاء رديء‘‘.
(3) - المصدر السابق، ص: 169(1/272)
ثانيا: قول ابن عدي بأن المثال الثاني (في جملة ما قال ابن معين أن أحاديثه عن عطاء رديئة)، إذا لم يكن صريحا بأنه لم يقيد قول ابن معين بحديث واحد ، فإن الأستاذ أصبح ممن لا يعرف ما هو الخلل والخطأ في اللغة العربية؟.
ثالثا: قول ابن عدي: (أحاديث عبد الكريم عن عطاء رديئة) لا يختلف عن لفظ ( حديث عبد الكريم عن عطاء رديء)، فإنهما يفيدان العموم في اللغة العربية الصحيحة التي يتحدث بها أهل العلم.
رابعا : قول ابن عدي : (إنما أراد ابن معين هذا الحديث لأنه غير محفوظ) يكون معناه كما يفهمه العرب : أن ابن معين لم يجعل هذا الحديث ضمن أحاديث عبدالكريم الرديئة إلا لكونه غير محفوظ ، وأنه لم يقصد بذلك تخصيص قول ابن معين بذلك الحديث دون غيره من أحاديث عبدالكريم .
خامسا: إن الاستعجال بالحكم على المحاوِر بدل محاورته بالعلم والإنصاف دليل على الضعف.
وهو كما قال الشاعر:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ويلاحظ أن الإمام البخاري (رحمه الله تعالى) حين أورد حديث عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، قال: (لا يصح). وقال بعد أن ذكر رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء عن ابن عمر: (لا يثبت).
ثم أتى ابن حبان يقول في المجروحين(1): ’’عبد الكريم الجزري كان صدوقا، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد من الأخبار‘‘ اهـ .
وعبد الكريم ثقة، ولا شك فيه، لكنه يروي عن عطاء ما لا يوافقه أصحابه، ولهذا قال ابن معين بأن (أحاديثه) عنه (رديئة). وأما ابن حبان فقد أطلق التضعيف، ولهذا اعترض عليه الإمام الذهبي بقوله:
’’قد قفز القنطرة، واحتج به الشيخان وثبته أبو زكريا‘‘ اهـ(2).
وقال الحافظ ابن حجر:
’’ لم يخرج البخاري من روايته عن عطاء إلا موضعا واحدا معلقا واحتج به الجماعة‘‘ اهـ.(3)
__________
(1) - 2 / 145 – 146
(2) - ميزان الاعتدال 4/387
(3) - الهدي ص: 421(1/273)
ولا يفهم من قول الذهبي، وكذا من صنيع الشيخين في صحيحيهما، أن كل ما حدث به عبد الكريم عن عطاء صحيح، كما أنه لا يخالف قول ابن معين.
والخلاصة: أن ما خالف فيه عبد الكريم أو تفرد عن شيخه بما لا يعرفه أصحابه من الثقات فلا يحكم عليه بالصحة باعتباره ثقة في نفسه. والبخاري ومسلم لم يصححا من أحاديثه وأحاديث أمثاله من الرواة إلا إذا خلا من العلة والشذوذ، أي من المخالفة والتفرد.
أما قول الشيخ: ’’إن البخاري لم يقم حجة‘‘(1)، فأقول: إنه أقام الحجة على تضعيفه بحيث يفهمها أهل العلم والخبرة، وإن لم يفهمها الأستاذ، فإنه لا يضر الواقع، ولا يقدم ولا يؤخر.
أما الحجة التي اعتمدها البخاري فهي: تفرد عبد الكريم الجزري عن عطاء بما لم يعرفه أصحابه. ثم وجدنا ابن معين يقول: إن أحاديث عبد الكريم عن عطاء رديئة، كما وجدنا الإمام الدارقطني يذكر حديث عبد الكريم هذا ضمن وجوه الاختلاف على عطاء، وبعد كل هذا فأي دليل يطلب الأستاذ من هؤلاء النقاد، ليقبل قولهم؟!
__________
(1) - هذه تهمة موجهة إلى البخاري. ولا يرى الأستاذ فيه شيئا ، كأنه يعلق على أمثالنا. وكان على الأستاذ أن يتعلم منهج المحدثين النقاد أولا ، ثم يعقب عليهم بما ظفر به دونهم. وأما أن يشاغب بما لا يخفى على الجميع من ظواهر السند فداء يجب علاجه قبل أن ينتشر.
وأما أنا فلم أضعف الحديث بعبد الكريم، وإنما أدافع فقط عن صحة قول البخاري وغيره من النقاد في إعلالهم لحديث عبد الكريم، بناء على ما فهمته من كلامهم أنهم لم يضعفوه لسبب عبد الكريم، وإنما لتفرده عن عطاء بما لم يعرف عند أصحابه، بل اختلف فيه مع غيره. ولا فائدة هنا لذكر أقوال العلماء في توثيق الرجل ، حيث لم يكن ذلك مثارا عموما من قبل النقاد حين أعلوا حديثه.(1/274)
كأن الرجل لا يقبل العلة إلا إذا كان الراوي ضعيفا، مع أن ميدان وقوع العلة هو مرويات الثقات وأحاديث الأئمة. ومن المعلوم أن التفرد والمخالفة من أدلة العلة والخطأ، كما بينا سابقا.
موقف الأستاذ هذا أمر طبعي إذا علمنا أنه لا يعرف منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل، بل يخلط بين منهجهم وبين منهج الفقهاء الأصوليين المتأخرين. وأنه لا يعرف في التصحيح والتضعيف والتحسين إلا أن ينقل أحوال الرواة من كتب التراجم مثل كتاب التقريب.
وعلى كل حال فما تفرد به عبد الكريم الجزري عن عطاء بما لا يعرفه أصحابه يعد منكرا بناء على قول ابن معين وابن حبان. فكيف إذا خالفه غيره من الرواة عن عطاء؟! هذا وقد ذكر الإمام الدارقطني في علله(1)حديث عبد الكريم هذا ضمن وجوه الاختلاف على عطاء، دون أن يرجح شيئا منها.
غير أني لا أزال أستغرب من صنيع الشيخ في كتابه (منهج مسلم)(2)كأن يفضل قول الزيلعي وقول عبد الحق الإشبيلي وابن التركماني وأحمد شاكر، على ابن معين والبخاري وابن عدي والدارقطني.
فأيهما أفضل: الذي يقدم علم الخلف بالحديث على علم السلف، أو الذي يقدم علم السلف على علم الخلف؟!.
ومن تأمل قول الزيلعي وغيره ممن صحح حديث ابن عمر علم أنهم صححوا إسناده لكون رواته ثقات، وهذه عادتهم في التصحيح والتضعيف، لذا لم نرهم يستدركون على النقاد بذكر رواية ثابتة تعتبر متابعة لعبد الكريم عن عطاء عن جابر، لا سيما وقد صرح النقاد بما يدل على تفرد عبد الكريم بحديث لم يعرف عند غيره من أصحاب عطاء، بل اختلف كل من رواه عن عطاء بعضهم على بعض.
وأما ما عول عليه المتأخرون في التصحيح من كون الرواة ثقات لا يشكل استدراكا على النقاد، لكونه من الأمور التي يشترك في إدراكها الجميع. وغاية ما في الأمر أن سبب تضعيف النقاد لحديث عبد الكريم عن عطاء لم يكن واضحا لدى المتأخرين الذين صححوا إسناده.
__________
(1) - 3/2/124
(2) - ص: 169 - 171(1/275)
ومن هنا تبرز أهمية التفريق بين المتقدمين النقاد وبين المتأخرين في التصحيح والتضعيف.
وحديث ابن عمر من طريق عبيد الله، وحديث جابر بزيادة ( فهو أفضل) من طريق عبد الكريم، مما أعله النقاد كما سبق بيانه . غير أن الأستاذ اهتم في خاتمته بالتضليل إذ ذكر أسماء المتأخرين ممن صححوا إسناديهما، وتبجح بتكثير عددهم، من غير أن يذكر أسماء النقاد الذين ضعفوا هذين الحديثين، وأوهم القارئ أنني قد خالفت أئمة الحديث عموما.
استدراك غريب وتعقيب عجيب
يقول الأستاذ :
’’وسأنقل كلام الدارقطني من 5/71: وسئل عن حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة ) فقال: يرويه عطاء بن أبي رباح واختلف عنه فرواه ابن جريج عن عطاء واختلف عنه.
1 – فرواه ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعائشة.
2 - وخالفهم (كذا) أبو عاصم وعبد الرزاق ، فروياه عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة.
3 – وقال موسى بن طارق : عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عائشة .
4 – وقال عبد الغفار بن القاسم: عن عطاء.
5 – وقال محمد بن عبيد الله العرزمي (عن) عطاء عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6 – وقال أبو بشر جعفر بن زيد أبي وحشة عن عطاء عن عائشة .
7 – وقال حماد بن زيد عن عطاء، ويشبه أن يكون قول حماد محفوظا.
والصحيح عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عائشة، والباقي وهم‘‘.
ثم علق عليه الأستاذ بما يأتي:
أقول : لماذا تجنب المليباري نقل هذا النص ؟ أظن والله أعلم لما عرفت من أساليبه أنه خاف أن يتورط في تضعيف حديث أبي هريرة في الصحيحين ، فتقوم عليه ضجة تزلزله ؛ لأن منهجه الذي سلكه يحتم عليه أن يضعف هذا الحديث، فابتعد بنفسه عن ساحة الخطر المكشوفة.
ولأبين للقارئ هذه القصة :(1/276)
ألم تر أن الدارقطني قال: (والصحيح عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عائشة والباقي وهم) .
ومعنى هذا أن الحديث من مسند عائشة لا من مسند أبي هريرة ، وقد رواه الشيخان في الصحيحين في مسند أبي هريرة.
والدراقطني قد حكم على سائر طرقه عن عطاء بالوهم ، ولم يصح في نظره عن عطاء إلا من هذا الطريق، وهو يتعلق بكلام الدارقطني لتحقيق أغراضه تعلقا أعمى فلماذا لا يتابعه هنا، ويقول كما قال ودندن طويلا وتغالى في الدارقطني: إن الدارقطني لم يصححه إلا لقرينة ولم يرجحه إلا لقرينة كما قال في حديث عبيد الله بن عمر وموسى الجهني وموسى بن عقبة وأيوب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن نافع ، فليأخذ بهذه القرينة القوية وليهول بها وبالدارقطني ويقترح على المحدثين أن يعللوا هذا الحديث في الصحيحين بهذه العلة.
وليقترح على من يحقق كتب الأطراف أن ينقلوا هذا الحديث إلى مسند عائشة، وقد يتظاهر بأن الشيخين إنما خرجاه من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
فيقال بحكم تعلقك بكتاب العلل ، فإن مؤدى كلامه هذا أن الحديث من مسند عائشة ، وأن أبا هريرة تلقاه عنها، وكلامه واضح في ذلك لا يمكن التخلص منه إلا برد كلامه ومناقشته مناقشة علمية يتبين فيها ضعف حجته، لا طريق للخلاص من هذا المأزق إلا بسلوك منهج المحدثين في اتباع الحجة، ورد الخطأ بالحجة. لكنه على مسلك المليباري يعتبر هذا طعنا في أئمة الإسلام يفرح أعداء الإسلام .. ‘‘.اهـ(1)
كشف مجازفة الأستاذ
لقد أردت أن أعرض عن مثل هذه التعقيبات لسطحيتها ولسهولة كشف مجازفة الأستاذ فيها. لكني أحببت أن أسجل هذا التعقيب هنا ليلفت القارئ إلى دقة النقاد في أقوالهم وآرائهم ومصطلحاتهم وأنه لا ينبغي الاعتراض عليهم بالأمور السطحية التي لا تخفى حتى على المبتدئين.
__________
(1) - منهج مسلم ص: 182 – 183(1/277)
من الذي لا يدري أن كلام الدارقطني إنما في نقد حديث عطاء ثم حديث ابن جريج عن عطاء، وبيان الاختلاف الوارد في رواية كل منهما، بحثا عما ثبت عن كل منهما، ولا صلة له بما رواه الشيخان في صحيحيهما لا من قريب ولا من بعيد؛ لأنهما روياه من طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وليس فيه ما رواه ابن جريج عن عطاء، ولا عن طريق عطاء عموما!
ومن لا يدري أن قول الدراقطني:
’’ والصحيح عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عائشة ، والباقي وهم‘‘ إنما هو في الترجيح بين الوجوه المختلفة على ابن جريج، وأن ما رواه الآخرون عن ابن جريج عن عطاء وهم، ولا صلة له بما رواه الشيخان عن طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة !
ومن لا يستفيد من قول الدراقطني هذا في معرفة دقة الشيخين في اختيار الروايات الصحيحة ؟
ومن لا يدري أن قول الدارقطني (ويشبه أن يكون قول حماد محفوظا ) لا يتعارض مع قوله ( والصحيح عن ابن جريج ..) !
حيث إن القول الأول في بيان ما ثبت عنده عن عطاء، بغض النظر عن مدى صحة قول عطاء هذا. بينما القول الثاني في بيان ما ثبت عنده عن ابن جريج عن عطاء، بغض النظر عن مدى صحة قول ابن جريج عموما.
أين الأستاذ من دقة مصطلحات النقاد وأسلوبهم في النقد والترجيح؟!
وكيف تجاسر الأستاذ المتخصص على قوله :’’ قد يتظاهر بأن الشيخين إنما خرجاه من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ‘‘ ؟!
وكيف فهم أن هذا الواقع الملموس لدى أهل العلم هو تظاهر؟
سبحان الله !
وعلى كل فقول الأستاذ: (فإن مؤدى كلامه هذا أن الحديث من مسند عائشة وأن أباهريرة تلقاه عنها ...) كله خيالي لا معنى له عند أهل الحديث(1).
__________
(1) - لو سمى الأستاذ كتابه (منهج مسلم ) الذي يحكي القصص الخيالية ، بـ: ’’تضليل المسلم عن منهج مسلم‘‘ أو غيره من الأسماء النابية، مثل التنكيل وغيره لكان أليق بالواقع.
ومن الغريب المبكي أن بعض الشباب في بعض البلاد يتقربون إلى الله بطبعه ونشره وتوزيعه بمقابل ثمن زهيد، ولا يعلمون حقيقة هذا الكتاب! هل يصل التقليد الأعمى إلى هذه الدرجة ؟!
وإلى الله المشتكى وعليه التكلان.(1/278)
للأسف الشديد أن الأستاذ يتخيل الاحتمال والتجويز العقلي حجة وبرهانا، وأن الحجة والبرهان والدليل مجرد احتمال، أو تقديس، أو طعن!!.
مفارقات عجيبة وألوان سحرية!!
خاتمة كتاب الأستاذ (منهج مسلم)
يقول الأستاذ:
’’وأختم مناقشتي هذه بما ختمت به مناقشتي الأولى مع إضافة شيء جديد وهو : أنه قد سبقني إلى تصحيح حديث ابن عمر وميمونة الإمام مسلم، ومن أتى بعد مسلم من أئمة الحديث الذين تلقوا كتابه بالقبول ولم يبالوا بشبه المتقدمين.
وممن صحح رواية ميمونة من طريق نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس الإمام المزي في تحفة الأشراف.
وممن صحح حديث ابن عمر: المنذري، وابن حزم، والبيهقي، والسنوسي شارح مسلم، والنووي، والحافظ ابن حجر، وأحمد محمد شاكر حيث صحح هذا الحديث من كل طرقه فصححه من طريق عبيد الله في المسند رقم ( 4646، 5153، 5777) ومن طريق موسى الجهني (5155) ، ومن طريق عبد الله بن عمر العمري (5358).
وممن صحح حديث ابن الزبير ، وخالفهم الباحث:
ابن عبد البر، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن حزم، والمنذري، والطحاوي، والزركشي، وابن حجر، والسمهودي، والألباني.
وممن صحح حديث جابر وخالفهم الباحث:
ابن حزم، والمنذري، وابن عبد الهادي، وابن حجر، والبوصيري، والألباني.
وممن صحح حديث عائشة :
الدارقطني في العلل 3/134 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/5 والأمر كذلك.
وعجبا للباحث أن يتجرأ على مخالفة هؤلاء جميعا بدون حجج، ويستغرب مخالفتي لعدد قليل، لهم شبه، ومعي الحجج القوية والحمد لله وإلى جانبي الكثير من الأئمة ومنهم هؤلاء وأمامك مناقشتي ودراستي في هذا البحث وفي رسالتي (بين الإمامين) ترى الحجج النيرة على ما ذهبت إليه في تصحيح هذه الأحاديث.
ومن الجدير بالذكر أن صاحب كتاب (النظم المتناثر من حديث المتواتر ) قد عد حديث صلاة في مسجدي من الأحاديث المتواترة‘‘. اهـ
كشف تضليل الأستاذ(1/279)
لم يبرز الأستاذ في خاتمته الحقائق التي وقف عليها قبل الحوار وبعده. لذا أود أن أبين منها ما لم يذكره.
أولا: إن حديث ميمونة جاء في صحيح مسلم من طريق نافع عن إبراهيم عنها، لكن صحح الحافظ المزي ذكر ابن عباس في السند كما قال الأستاذ، غير أنه أخفى أسماء من تكلم فيه من النقاد.
لقد صرح بعدم صحة ذكر ابن عباس فيه: البخاري والدارقطني والنسائي وابن أبي شيبة وأبو علي الغساني، ومن المتأخرين الأبي وابن حجر.
وعلى رأي النقاد فحديث ميمونة لا يصفو من إشكال الانقطاع، إذ الأرجح أن إبراهيم لم يسمع منها. غير أن الأستاذ اعتمد على السند المصحف فصححه بناء على أن إبراهيم روى عن ابن عباس عن ميمونة. ولم ينتبه إلى أن إبراهيم إنما كان يروي حديث ابن عباس عن طريق أبيه، وليس عنه مباشرة.(1)
هل من الإنصاف أن يقدم المزي على هؤلاء الأئمة النقاد؟!
أليس من التضليل أن يسكت الأستاذ عمن وقف عليه من النقاد الذين تكلموا في ذكر ابن عباس، ويذكر من صححه فقط؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن متن حديث ميمونة صحيح لم يضعفه أحد، لأنه جاء عن أبي هريرة من طرق صحيحة. وإنما تكلم النقاد حول نقطة واحدة تتعلق بذكر ابن عباس في سند حديث ميمونة.
وأما حديث ابن عمر فلم يضعف متنه أحد، وإنما تكلم النقاد في سنده، وكانت حجتهم واضحة وقوية، وهم: البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض. وقد شرحنا بالتفصيل أن الإمام مسلما لم يقصد من ذكره إلا بيان علته بذكر وجوه الاختلاف.
إن أقل ما يمكن أن يقال فيه حسب منهج مسلم في الصحيح أن حديث ابن عمر دون حديث أبي هريرة صحة، إذ أورده في آخر الباب قبل حديث ميمونة، وكلاهما يدور على نافع. وبعد التتبع تبينت جليا دقة الإمام مسلم في تعامله مع الروايات التي لم تسلم من مخالفتها لما هو أولى بالقبول والترجيح.
__________
(1) - راجع التفاصيل وأقوال النقاد فيه في المحور الثاني من هذا القسم.(1/280)
وعلى الرغم من ذلك فقد رأينا الأستاذ قد ركز على ذكر من صححه دون ذكر هؤلاء النقاد، مع التقليل من شأنهم، حين قال في سياق آخر: ’’ويستغرب مخالفتي لعدد قليل، لهم شبه‘‘، ولم يوضح من هؤلاء، وما هي الشبه التي اكتشفها الأستاذ .
ومن الجدير بالذكر أنه لم يصرح أحد ممن صحح الرواية عن ابن عمر بأن النقاد لديهم شبه، وهم قلة، إلا الأستاذ! وذلك لأنه لا يفرق بين تصحيح السند وبين تصحيح الحديث، بخلاف العلماء المتأخرين فإنهم يفرقون بينهما.
كما أن الأستاذ لا يفرق بين منهج النقاد القدامى وبين منهج الفقهاء المتأخرين في التصحيح والتضعيف، أو بين قول النقاد ’’حديث صحيح‘‘ أو ’’حديث باطل‘‘، وبين قول المتأخرين ’’إسناده صحيح‘‘ أو ’’إسناده ضعيف‘‘، مع أن التباين المنهجي بينهم أمر جلي لدارسي كتب المصطلح(1)،
__________
(1) - لعل أول موضع من كتب المصطلح يشد انتباه القراء إلى ضرورة التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث: النظري والتطبيقي هو مبحث الصحيح.
فقد قال ابن الصلاح: ’’الصحيح ما اتصل سنده بالعدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة‘‘. ثم أشار إلى أن هذا التعريف على منهج أهل الحديث حين قال : ’’فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث‘‘ . وتبعه في ذلك كل من صنف في مصطلح الحديث عموما، متفقين على أن هذا التعريف إنما هو على منهج المحدثين دون غيرهم من الفقهاء وعلماء الأصول.
ولهذا قال ابن دقيق العيد: ومداره (يعني الصحيح) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة، على ما قرر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا. وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا ولا معللا، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء .
وقال أيضا في شرح الإلمام: ’’إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقا غير طريق الآخر، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه، فمتى حصل ذلك وجاز ألا يكون غلطا وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه. فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته‘‘.
وقال الصنعاني معقبا عليه: ’’وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه‘‘.
وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسي(611هـ) ’’إن للمحدثين أغراضا في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه روي موقوفا أو مرسلا، وكطعنهم في الراوي إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه، أو أحفظ. وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول، أو آية من كتاب الله تعالى، فيحمله ذلك على قبول الحديث، والعمل به، واعتقاد صحته، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة‘‘. راجع مقدمة كتاب الموازنة للمؤلف.(1/281)
ثم إنه لم يذكر المصادر التي وجد فيها تصحيح المتأخرين لحديث ابن عمر.
يقول ابن الصلاح:
’’قولهم : هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد دون قولهم هذا حديث صحيح أو حديث حسن ، لأنه قد يقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح ؛ لكونه شاذا أو معللا ، غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه، لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر . والله أعلم‘‘(1)
ويظهر من هذا القول أنهم لا يرون تناقضا بين تصحيح السند وبين تعليل الحديث. والأمر كذلك. وما ورد عن المتأخرين حول حديث ابن عمر لا يرد تعليل النقاد، ولذا لم يقل أحد مثل ما قال الأستاذ : ’’عدد قليل لهم شبه‘‘.
وأما حديث جابر ففيه زيادة تدل على أن المسجد الحرام أفضل، لكن أعل الرواية عن جابر البخاري والدارقطني والبزار، غير أن الأستاذ أخفى ذكرهم حين سرد أسماء من صححه من المتأخرين والمعاصرين.
وحديث ابن الزبير أيضا كذلك، وفيه زيادة اختلف في ذكرها الرواة ، وقد درسنا هذا الحديث في رسالتي للدكتوراه، لذا لم أتطرق له هنا في الحوار.
ومما يلفت الانتباه أنه ينسب التصحيح إلى الأئمة دون ذكر المصادر، والذي أعرفه هو أن الإمام المنذري لم يصرح في الترغيب والترهيب بتصحيح حديث ابن عمر، بل قال: ’’ رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ‘‘(2)وكذلك الطحاوي لم يصحح في كتابه (مشكل الآثار) حديث ابن الزبير، ولم يعرف أن هذا الكتاب مما التزم صاحبه بالصحة حتى يفهم أنه صححه بمجرد ذكره لذلك الحديث في الكتاب، وكذا السمهودي لم يصرح بالتصحيح، لكن الزركشي قال: ’’إسناده على شرط الصحيح‘‘، وكذلك الحافظ في الفتح وبلوغ المرام لم يصرح بالتصحيح ، بل اكتفى بنقل تصحيح ابن عبد البر وابن حبان، إلا أنه قال في التلخيص:’’ إسناده صحيح إلا أنه اختلف على عطاء‘‘.
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح ص: 38
(2) - الترغيب 2/135(1/282)
ثم إن حديث (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) صحيح متفق عليه من رواية أبي هريرة ولم يتكلم فيه أحد، كما سبق. وإن ذكره في كتاب (النظم المتناثر من حديث المتواتر) لا يغير شيئا مما قاله النقاد حول تلك الروايات السابقة. ولا يلغي حكمهم فيها، إذ يذكر فيه الحديث بمجرد كونه مرويا من طرق متعددة بغض النظر عن مدى ثبوتها، ومدى استيفائه شروط التواتر، مثل حديث إنما الأعمال بالنيات الذي اتفق النقاد على تفرد يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر به، فأورده السيوطي في الأحاديث المتواترة بدليل أنه مروي عن أنس وأبي هريرة وغيرهما، وهذه الروايات كلها أوهام في نظر النقاد.
والعجيب في الأمر أن يكتفي الأستاذ لإلغاء الحكم الذي صدر عن النقاد بمثل هذا الكتاب.
وفي ضوء ما سبق أنه إذا كان الأستاذ يؤيد رأي العلماء في صحة الحديث عن ابن عمر، وجابر، مع أن معظمهم متأخرون فقهاء، يصححون ويضعفون السند بناء على أحوال الرواة دون النظر في طبيعة الرواية ، فإنه قد تبين من خلال الحوار أنني كنت أدافع عن علم النقاد ورأيهم في تعليل الحديث عنهما، في ضوء الأدلة والبراهين التي أراها قوية. فهل هذا يستحق من الأستاذ السب والشتم والإيذاء والاستهزاء والتضليل والتبديع ؟!!
وهل يكون خصمه بذلك صوفيا ضالا، ومبتدعا معاندا ؟!
فليتق الله في أعراض المسلمين الأبرياء !
فقد جاء في صحيح البخاري وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: يا أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا ؟ قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. فأعادها مرارا ثم رفع رأسه، فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت(1).
__________
(1) - رواه البخاري في مواضع من صحيحه ومنها: 2/629(1/283)
فعجبا للشيخ أن يدعي أنني خالفت العلماء بدون حجج، وكان في الحقيقة أنه هو الذي خالف نقاد الحديث دون دليل، بل باغتراره بظواهر السند.
ليقرأ الأستاذ مرة أخرى، بل مرات ومرات، نصوص العلماء المتأخرين؛ فإنها تساعده على تجنب الأخطاء والأوهام في تعامله مع الأحاديث :
قال الحافظ ابن حجر:
’’ ... فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث’’(1).
وقال أيضا: ’’وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد، كالترمذي، وكأبي حاتم ابن حبان؛ فإنه أخرجه في صحيحه، وهو معروف بالتساهل في باب النقد، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال‘‘(2).
__________
(1) - النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص: 64
(2) - النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726 ( تحقيق الشيخ ربيع المدخلي ، ط: 1 ، الجامعة الإسلامية) ، وأما قول الحافظ ابن حجر في معرض تعقيبه على ابن الصلاح في مسألة التصحيح في العصور المتأخرة :‘‘فيلزم على الأول ( يعني قول ابن الصلاح: فآل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة) تصحيح ما ليس بصحيح، لأن كثيرا من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن’’ (النكت 1/270 )
فيعني به تصحيح المتساهلين من المتقدمين؛ كابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، دون التعميم على جميع المتقدمين النقاد، ولذا عقبه بقوله ’’فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته، وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن، وكذا في كتاب ابن حبان، بل وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي يفرق بين الصحيح والحسن‘‘.
لذا، فإن قول الحافظ ابن حجر هذا لا يتعارض مع الذي نقلناه عنه من ضرورة الرجوع إلى تصحيح المتقدمين وتعليلهم، وتسليم الأمر لهم فيهما. والله أعلم.(1/284)
وقال السخاوي في نوع (الموضوع):
’’ ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجىء بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح‘‘ اهـ(1)
وقال الحافظ ابن كثير :
’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘.(2)
القسم الثاني
الأنوار الكاشفة
لما في تنكيل الدكتور ربيع من التضليل والمجازفة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه . اللهم اجعل هذا الكتاب عملا صالحا وخالدا يؤتي ثمره كل حين.
__________
(1) - فتح المغيث 1/ 237 . وتوضيح الأفكار 1/344 ، والنكت 2/604 – 605.
(2) - اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث : 79(1/285)
لما زرت مكة المكرمة عام 1419هـ ، الموافق 1999م أخبرني بعض الإخوة بصدور كتاب للدكتور ربيع قبل عام تحت عنوان: (التنكيل بما في توضيح المليباري من الأباطيل)، فرغبت في الحصول على نسخة منه. وحين سافرت إلى المدينة - على صاحبها أزكى الصلاة والتسليم - أهدى لي الكتاب أحد أصدقائي مشكورا قبيل مغادرتي إلى جدة في طريق عودتي إلى الأردن، ولم أصبر على الكتاب حتى قرأته كاملا قبل وصولي إلى جدة .
بعد القراءة تأسفت كثيرا على هذا الكتاب وجهد صاحبه في تضليل الآراء أمام القراء، بالأكاذيب وتمويه الأباطيل بما يوهم القارئ أنها حقائق علمية، مع غمطه للخصم، وبطر الحق الذي شرح له بالأدلة، وإصراره على الأخطاء البينة الجلية.
ولا أود أن أضيع أوقاتي في وصف صاحبه، ما دام كتابه (التنكيل) خير دليل ينطق أمام القراء المنصفين - الذين لم يتكدر صفاء قلوبهم بالتعصب الأعمى للأشخاص- عن شخصية صاحبه وعقليته وطبيعته ومدى حرصه على الإساءة إلى من يحاوره في مجال العلم بأدب واحترام، واهتمامه بتلفيق التهم ضده والاستهزاء به، إلى جانب السب والشتم، أكثر من اهتمامه بجانب العلم، وتوضيحه، والدفاع عن قواعده وضوابطه.
ويبقى كتابه هذا مصدرا موثوقا للأجيال القادمة في التعرف على تاريخ صاحبه بهذه السلبيات التي دونها هو بقلمه، كما نتعرف اليوم على السابقين: الصالحين والطالحين، والمعتدلين والمنصفين والمتشددين والمغرضين، والصادقين والكاذبين ومدى اضطلاع كل واحد منهم بالمنهج والفهم والدقة، ورسوخ قدمهم في العلوم التي تناولوها، من خلال ما ألفوا من الكتب والرسائل.
يقول الشاعر :
وما من كاتب إلا سيفنى ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه(1/286)
ومع ذلك فإني أود أن أشير هنا إلى نقطة آلمتني كثيرا، لبعدها التحريضي والتضليلي، ألا وهي: محاولة الدكتور أن يرسم للقراء في بداية الكتاب صورة عامة مضللة عن خصمه بأنه مبتدع ضال يسعى في الخفاء إلى هدم السنة النبوية، وأن يوهمهم بأنه يريد أن يرد عليه، ذابا عن السنة ومصادرها، حين قال في مستهل كتابه (التنكيل) المليء بالأكاذيب والأباطيل:
’’أما بعد: فإن الذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من الضرب بالسيوف، كما قال يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري: وإن الراد على أهل البدع مجاهد‘‘.
كلمة حق أريد بها باطل؛ إذ يحاول الأستاذ أن يوهم قراءه أنه يؤلف هذا الكتاب ليذب عن السنة، ويرد على المبتدع صاحب الهوى. هذا في الواقع أكبر تضليل للحقائق أمام القراء، وسينجلي بإذن الله تعالى حجم هذا التضليل.
إذا قرأت (تنكيل الدكتور ربيع) فإنك لا تجد فيه شيئا يتصل بذبه عن السنة، ولا بالبدعة، وإنما تجد فيه فقط حيله الذكية في قلب الحقائق، ومهارته الفائقة في الافتراء على خصمه مالم يقله أصلا، والتلبيس والتمويه والتضليل، كل ذلك دفاعا عن شخصيته، وإخفاء لأخطائه الفادحة، ثم حطه لصحيح مسلم في أدنى مكانته العلمية – دون أن يشعر به طبعا - ؛ حين جعله خاصا لعوام الناس الجاهلين، بعد أن أنكر فوائده الإسنادية ولطائفه الحديثية التي ترفع قدره عند الأمة وأئمتها.
لذلك سميت القسم الثاني من هذا الكتاب بـ :
(الأنوار الكاشفة لما في تنكيل الدكتور ربيع من التضليل والمجازفة).
إن كتاب التنكيل كان مقسما إلى بابين وكل باب مقسم إلى أربعة فصول؛ أما فصول الباب الأول فأولها في بيان التزام مسلم بالصحة، وثانيها فيما يزعمه من تلون المليباري وتطور منهجه الباطل، وثالثها في مناقشة المليباري في شرح العلل التي ينسبها إلى مسلم. ورابعها في بيان بطلان تعلق المليباري بالعلماء وفي الترتيب المزعوم.(1/287)
وأما فصول الباب الثاني فأولها في مناقشة المليباري في أن مسلما يبين العلل بالكلام بعد أن كان ينكر ذلك. والثاني في تعليله لبعض الأحاديث في صحيح مسلم بكلام مسلم فيها خارج الصحيح، والثالث في إبطال ما يزعمه من تهويش المليباري على أمثلة ضربها ليبين أن الإمام مسلما لم يلتزم في صحيحه الترتيب الذي كان يدعيه المليباري، والرابع في أمثلة جديدة تؤيد عدم التزام مسلم بالترتيب.
لقد ألف الدكتور ربيع كتابه (التنكيل) هذا ردا على كتابي (التوضيح) الذي هو نسخة مسودة قديمة لكتابي (عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح)، الصادر عن دار ابن حزم سنة 1418هـ، وهذه النسخة المسودة تداولها الإخوة الجزائريون بعد أن أذنت لهم بتصويرها تلبية لإلحاحهم علي بذلك، لما أدركوا بأن الكتاب يتأخر طبعه ونشره. وعن طريقهم وصلت النسخة إلى الدكتور ربيع، ولم يصبر عليها فكتب الرد على هذا الكتاب، بناء على مفاهيمه المغلوطة، وأخطائه السابقة، ثم قام بطبعه ونشره.
وأما منهجي في هذا الرد فأحاول بقدر الإمكان أن أركز على الجوانب العلمية خدمة لعلوم الحديث ودفاعا عن منهج أئمتها في نقد الحديث، واحتراما لشعور القراء وأوقاتهم النفيسة. وهذا الأسلوب بحد ذاته يشكل ردا رادعا لأباطيله وأكاذيبه، ومظاهر تعاليه على خصمه الذي يختلف معه في المجالات العلمية.
إلا أن أسلوبه قد يجرني أحيانا إلى أن أرد عليه بالكلمات التي استخدمها هو نفسه، أو أستعمل بعض الأبيات الشعرية التي تنسف تعاليه على الخصم ومظاهر احتقاره له، لذا أعتذر للقارئ مسبقا على هذا الأسلوب الذي قد يتخلل في هذا الحوار الهادف الذي حاولت بقدر الإمكان أن يكون بعيدا عن نعرات الجاهلية، وردات الفعل المضادة.(1/288)
اللهم إني أتضرع إليك، وأنا عبدك الفقير، خلقتني وربيتني وأنعمت علي نعما لا تحصى، ووفقتني لحب الحق وكره الباطل، ولا أشرك بك أحدا، وأومن بك وبكتبك ورسلك وملائكتك واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما علمنا نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأثبت لك ما أثبتَّ لنفسك من الأسماء والصفات، من غير تأويل ولا تكييف ولا تجسيم ولا تعطيل ولا تفويض، كمأكان عليه سلف هذه الأمة، دون أن أزيد في ذلك شيئا ولا أنقص منها شيئا ولا أغير شيئا منها، اللهم أنت أعلم بما في نفسي وأنت علام الغيوب.
اللهم إني أتبرأ إليك من جميع ما اتهمني به الدكتور ربيع في كتابه (التنكيل) و(كتابه منهج مسلم) من صوفية، واستشراقية، وسعي إلى هدم السنة، وهجوم على كتاب مسلم وتقول على صاحبه الإمام مسلم النيسابوري، وتضعيف حديث صحيح ثابت عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وتضييع جزء من السنة، ونشر الباطل، والتلاعب بالحق وبكلام الأئمة، وتقديس الأشخاص، والتحايل والمكابرة والعناد، ومن سائر الأكاذيب التي اخترعها الدكتور ربيع.
اللهم فاقبل مني هذا الجهد، وعليك أتوكل وبك أستعين وإليك ملجئي. اللهم اهدني صراطك المستقيم كما هديت عبادك الصالحين.اللهم قيضني للدفاع عن كتابك وسنة نبيك كما قيضت لذلك عبادك الصالحين.
اللهم زد من أحبك وأحب من يحبك هدى وتقوى وتوفيقا وعلما وفهما.
اللهم اجعل هذا الكتاب عملا صالحا خالدا ينتفع به عبادك الصالحون إلى يوم القيامة. إنك على كل شيء قدير.
الفصل الأول
فيه أربع نقاط شغب بها الأستاذ للتضليل:
1 - التزام مسلم الصحة في كتابه (الصحيح).
2- دعوى الأستاذ بأن صحيح مسلم إنما وضع لعوام الناس استجابة لطلب أحمد بن سلمة.
3– دعواه بأن شرح العلل يتناقض مع التزام مسلم بعدم تكرار الأحاديث الصحيحة واختصارها.
4- دعواه بأن شرح العلل يتناقض مع إنكار مسلم ومحاربته لرواية الأحاديث عن المتروكين، ورواية المناكير.(1/289)
النقطة الأولى : التزام مسلم الصحة في كتابه (الصحيح)
كان الدكتور ربيع قد خصص الفصل الأول من كتابه (التنكيل) لبيان التزام مسلم الصحة في كتابه الصحيح، وللدفاع عن مكانته العلمية، وأشغل نفسه في جلب نصوص مسلم من المقدمة وشرحها، مع سرد الأقوال والآراء الواردة عن العلماء في الثناء على هذا الكتاب، بلا مناسبة تستدعيها طبيعة الحوار الذي نحن بصدده، بعد أن عالج ذلك في كتابه الأول (منهج مسلم ).
لعل الأستاذ يهدف بذلك إلى توهيم القارئ بأن خصمه في الحوار ينكر هذا الأمر البدهي، أو يشكك في مصداقيته، حين ادعى الخصم أن الإمام مسلما يشرح العلل في صحيحه أحيانا بذكر وجوه الاختلاف.
لذا يكون من الأفضل أن أؤكد للقارئ الكريم مرة أخرى، حتى لا يبقى أي مبرر له، أن الخلاف الذي بيني وبينه إنما هو حول حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي، الذي رواه مسلم في آخر الباب؛
كان يقول: إن هذا الحديث صحيح، بل إنه يتربع على القمة من الصحة.
وأما أنا فأقول: إن حديث ابن عمر هذا معلول أعله النقاد، وهم على الحق في ذلك، وأن الإمام مسلما إذ روى هذا الحديث في صحيحه فإنه لم يقصد الاحتجاج به، وإنما بيان علته. لذا أتى – رحمه الله - باختلاف الرواة على نافع في آخر الباب. وبالتالي تبرر ساحة مسلم.
ولمسلم في صحيحه منهج علمي في ترتيب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح، وعليه فحديث ابن عمر الذي أورده في آخر الباب دون حديث أبي هريرة صحة. وسبب ذلك هنا أنه اختلف فيه، والإمام مسلم لما أورد وجوه الاختلاف تبين أنه أراد بذلك شرح هذا الاختلاف، وبالتالي ظهر الاتفاق بينه وبين الأئمة في تشخيص العلة.
كما أن شرح العلل بذكر وجوه الاختلاف في آخر الباب في بعض الأحيان مما التزم به مسلم في المقدمة. على أنه لا يشكل نقطة تناقض مع طبيعة الشروط التي اشترطها مسلم في صحيحه، والتزامه بها بدقة متناهية، لكون ذلك الشرح على سبيل الاستطراد لسبب علمي طارئ.(1/290)
وهذه النقاط التي ذكرتها في تبرير ساحة مسلم أنكرها الدكتور ربيع جملة وتفصيلا؛ بل عدها معاول خفية لهدم السنة ومصادرها، بناء على فهمه المغلوط، وهو أن شرح العلل في الصحيح بالترتيب والتقديم والتأخير، وأن كل حديث يورد في آخر الباب يكون معلولا، وبالتالي فإن دعوى شرح العلل في الصحيح يلزم منها أن تكون الأحاديث في آخر كل باب معلولة. لذا خصص الفصل الأول لبيان التزام مسلم الصحة في كتابه ( الصحيح).
إني أتساءل ما الذي دعا إلى إعادة مسألة أصحية صحيح مسلم هنا في الحوار؟! بعد صدور كتاب العبقرية الذي برهن بكل وضوح على أن شرح العلل إنما هو بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة، ولا صلة له بمنهج مسلم في الترتيب، وأن ذلك الشرح الاستطرادي لا يتناقض مع موضوع الصحيح.
مع ذلك فإن الأستاذ تجاهل ما تضمنه كتاب العبقرية من التوضيحات والتصريحات التي تزيل الغموض واللبس عن مسألة الترتيب وشرح العلل. وبذلك أصبح بعيدا عن آداب الحوار، بل صار مهتما بقلب الحقائق رأسا على عقب، لا أدري هل هو متعمد فيه أو غير متعمد.
وعلى كل فإن مكانة صحيح مسلم لم تكن محل خلاف بيني وبينه، وأن موضوع صحيح مسلم لا يتناقض مع شرح العلل فيه مادام هذا الشرح إنما يكون بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة وفي خارج الأصول، ولا يترتب عليه شيء مما شغب به، ولا داعي لافتعال تعارض وتناقض بينهما. لا سيما أن الإمام مسلما قد التزم ذلك في صحيحه.
تنبيه مهم إلى تلون الدكتور ربيع وتطوره في المواقف إلى أطوار
كان الأستاذ قد أنكر شرح العلل في صحيح مسلم جملة وتفصيلا – كما رأيت سابقا – بناء على زعمه أن ذلك يتناقض مع موضوع الصحيح، لكنه بدأ يتلون، وأخذ جانبه يلين تجاه ذلك، تحت ضغط الأدلة والبراهين التي واجهها في الحوار، بل بدأ يقر بشرح العلل فعلا، حتى صار الخلاف بيني وبينه حول طريقة مسلم في شرحها وتوضيحها.
يقول الأستاذ:(1/291)
’’وهذا التصرف من مسلم، وهو شرحه وبيانه بالكلام مثل سائر البشر ومنهم الأنبياء والعلماء..‘‘(1).
وقال أيضا:
’’إذا قام مسلم ببيان العلل القادحة وشرحها على طريقة المحدثين فلا يجوز المراء في ذلك؛ وكلامه حينئذ يقال فيه المثل: (قطعت جهيزة قول كل خطيب)، ولكنك كنت تقول: إن البيان إنما ينبع من الترتيب والتقديم والتأخير، وتمدح هذا الترتيب وتطريه؛ لأنه هو الذي تكفل بهذا البيان الذي تميز به مسلم وكتابه‘‘(2).
وقال أيضا(3):
’’ الأخبار التي فيها علل قادحة، فحينئذ فما تولى هو شرحه وإيضاحه قلنا إنه قد أعله مسلم وشرح ذلك ووضحه‘‘(4).
أقول: والحمد لله أن الأستاذ استسلم أخيرا للواقع الذي كان ينكره ، بعد أن حارب فكرة شرح العلل جملة وتفصيلا برهة من الدهر، وقد صرح هنا بلسانه وقلمه بأن مسلما شرح العلل في صحيحه، فهذا يعد تلونا عجيبا في موقف الأستاذ.
__________
(1) - تنكيل ربيع ، ص : 48
(2) - المصدر السابق ص: 79
(3) - المصدر نفسه ، ص: 21
(4) - هذا إقرار واضح من الأستاذ أن مسلما شرح العلل في صحيحه. فالسؤال المطروح كيف يتم شرحها ؟! أقول : يكون الشرح - كعادة المحدثين النقاد - بذكر وجوه الاختلاف، وقد يكون مصحوبا بقولهم (هذا خطأ) أو (هذا غير محفوظ)، أو غير ذلك من العبارات الصريحة. وقد يكون مصحوبا بقولهم ( خالف فلان فلانا ) أو ( اختلف على فلان)، أو لا يكون مصحوبا بهذه العبارات كما في معظم مواطن التاريخ الكبير للبخاري.
وحسب تتبعي لصحيح مسلم وجدت الصورة الأولى والأخيرة. ومن الجدير بالذكر أن شرح العلل في صحيح مسلم عموما يكون على سبيل الندرة وخارج الموضوع لمناسبة علمية خاصة ، كما شرحنا في الأبحاث السابقة.(1/292)
أما الأمثلة التي ذكرتها لبيان العلل فذلك لإثبات ما أنكره الأستاذ جملة وتفصيلا في صحيح مسلم، فإذا به يتلون ويغير موقفه ويقر بوجود شرح العلل، لكن فقط بالكلام. وأما شرح العلل بطريقة أخرى أو بغير الكلام فذلك الذي ينكره الآن .
يعني أصبح موقف الأستاذ من شرح العلل على أربعة أطوار؛
أما الطور الأول فأنكر فيه شرح العلل جملة وتفصيلا بل يدعي أن جميع ما في كتاب صحيح مسلم صحيح دون استثناء شيء منه ، وحارب فكرة شرح العلل أساسا محاربة شديدة كما رأيت.
وفي الطور الثاني يقر بوجود شرح العلل ولكن بالكلام ، وينكر شرحها بأي طريقة أخرى.
وفي الطور الثالث يقر بوجود شرح العلل غير القادحة، وينكر فقط العلل القادحة.
وفي الطور الرابع يقول : إذا قام مسلم ببيان العلل القادحة وشرحها على طريقة المحدثين فلا يجوز المراء في ذلك ؛ وكلامه حينئذ يقال فيه المثل ( قطعت جهيزة قول كل خطيب ). وهذا يفهم منه احتمال وجود شرح للعلل القادحة في الصحيح بطريقة المحدثين، والذي ينكره الآن شرحها على طريقة غير المحدثين .
لا أدري علاما استقر عليه الأستاذ ؟!
على كل حال فقد رأينا الأستاذ يحارب فكرة شرح العلل في صحيح مسلم حتى إنه تراجع عما بنى عليه جزءا كبيرا من رسالته للماجستير، وأنكر ذلك على القاضي وغيره ، بل تحدى القاضي أن يذكر مثالا واحدا، وحاربني من أجل ذلك ، فإذا به يقر بوجود شرح العلل لكن بصريح الكلام ، منكرا شرح العلل بالترتيب والتقديم والتأخير، وأخرى يقر بشرح العلل غير القادحة، منكرا للعلل القادحة.
إن كان شرح العلة بصريح الكلام غير متناقض مع شرط مسلم في صحيحه فإنه لا مانع إذن من شرحه لها بذكر وجوه الاختلاف، إذ ذكر الاختلاف من الكلام أيضا وإن لم يكن صريحا ، بل يكون بحيث يفهم كل من يقوم بالمقارنة بينها أن ذلك الاختلاف هو السبب الذي من أجله أعله النقاد.(1/293)
وليس المهم أن يكون شرح العلل في صحيح مسلم بصريح الكلام ، وإنما المهم أن يكون ذلك على سبيل الندرة والتبع لأنه ليس من المنطق أن يقال إذا كان ذلك بصريح الكلام لا يتناقض مع موضوع الصحيح ، وإلا فمتناقض. الواقع أن شرح العلل يتناقض إذا لم يكن على سبيل الاستطراد والندرة سواء أكان ذلك بصريح الكلام أم بغير ذلك .
وربما يقول الدكتور ربيع إني أنكر فقط بيان العلل بالتقديم والتأخير. فأقول: إنه لم يدع أحد ذلك حتى ينكره. أما شرح العلل في صحيح مسلم بكلام صريح أو بكلام غير صريح، بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة وعلى سبيل التبع لا قصدا، فلا يتناقض ذلك مع شرطه وموضوعه الذي من أجله صنف صحيحه.
وبهذا القدر أرجو أن أكون قد أوضحت للقارئ أن مكانة صحيح مسلم ومرتبته ليست محل نزاع بيني وبين الدكتور ربيع، وأنه لا داعي لإثارتها مرة أخرى في تنكيله بعد أن أثارها في كتابه (منهج مسلم). ذلك لأن شرح العلل في صحيح مسلم إنما يكون بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة خارج الأصول، حسب مناسبة علمية تطرأ أثناء رواية الأحاديث الصحيحة، وربما يكون ذلك دفعا لشبهة معينة، أو تنبيها للقارئ بعدم اغتراره بظاهر السند وثقة الرواة، وبالتالي لا يشكل هذا الشرح تناقضا مع موضوع الكتاب.
وفي ضوء ذلك فلا مجال للأستاذ أن يتهمني بأنني من أهل الأهواء، ويكذب علي بأنني أسعى لهدم صحيح مسلم من خلال تقعيد بعض القواعد التي لم يذكرها أحد، وتطبيقها في صحيح مسلم، ولا مبرر للأستاذ في ذلك أمام الله تعالى حسب علمي. وسيحمل على ظهره وزر هذا الاتهام والكذب إذا كان مصرا على ذلك بعد كل هذا التوضيح، ووزر من قلده فيه. والله أعلى وأعلم.
قال تعالى : + يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"(1).
__________
(1) - سورة التوبة 119(1/294)
وقال تعالى : + يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون "(1)
وقال تعالى: + يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون "(2)
وقال تعالى: + ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"(3)
فالخلاصة : أن الأستاذ قد أقر من خلال هذه النصوص بأن مسلما يشرح العلل في صحيحه بالكلام، وليس بالترتيب والتقديم والتأخير، وصار النزاع الآن بيننا حول طريقة مسلم في الشرح والبيان. بعد أن كان حول شرح العلل ذاته.
إن كان الأستاذ قد أقر شرح العلل بالكلام في صحيح مسلم فإنه يعني أن شرح العلل بالكلام لا يتعارض مع موضوع كتاب صحيح مسلم. والذي يتعارض في نظره هو شرح العلل بالترتيب والتقديم والتأخير. وبناء على ذلك فإن شرح العلل بذكر وجوه الاختلاف لا يتعارض أيضا، لأن ذكر الاختلاف من الكلام أيضا، الذي يفهمه أهل العلم والاستنباط. وإن لم يكن كذلك بالنسبة إلينا.
__________
(1) - سورة المائدة ، 8
(2) - سورة الحجرات، 11
(3) - البقرة ، 190 ، هذه الآيات كلها تعلمنا الآداب والاعتدال وعدم الاعتداء حتى في القتال، وما بالكم في الحوار العلمي بين الإخوة المسلمين. ومن يتأدب من العباد بهذه الآداب ويلتزم بهذه التعليمات في حياته فهو الذي يكون أتقى العباد وأكرمهم عند الله. وقد قال الله تعالى + إن أكرمكم عند الله أتقاكم".(1/295)
وأما شرح العلل بالإشارة أو بالرموز أو بالترتيب والتقديم والتأخير فلا أحد يزعم ذلك. وعلى كل إن الشرح بالكلام - سواء أكان صريحا يفهمه كل الناس أم غير صريح لا يفهمه إلا أهل العلم - لا يتناقض مع طبيعة موضوع الصحيح لكونه فقط على سبيل الندرة وخارج الأصول. وليس لكون الشرح بالكلام.
النقطة الثانية : دعوى الأستاذ بأن صحيح مسلم لم يؤلفه إلا لعوام الناس
يواصل الأستاذ سعيه الحثيث في إنكار شرح العلل في صحيح مسلم بأي وسيلة كانت، فأتى بوسيلة جديدة، دون أن يتأمل عواقبها، فزعم أن كتاب صحيح مسلم لم يؤلفه إلا لعوام الناس الذين وصفهم مسلم بالجهل والعجز.
يقول الدكتور ربيع بهذا الصدد:
’’وهو ( يعني الإمام مسلما) لم يؤلف كتابه إلا إجابة لسائل لا يريد أن يشغله بالكثرة من الحديث وتكراره، فضلا عن العلل الخفية القادحة التي لا يدركها إلا كبار الحفاظ النقاد.
ولم يؤلف كتابه - إضافة إلى ذلك(1)- إلا لعوام الناس الذين وصفهم بالجهل، وعدم التمييز، والعجز عن معرفة القليل‘‘(2).
أقول: هل يدري الشيخ ما الذي يخرج من عقله ويسطره بقلمه ؟!
من الذي قال: إنه لم يؤلف صحيحه إلا لعوام الناس الذين وصفهم بالجهل؟!
يعني بذلك أن الكتاب وضعه مسلم في حدود ما يفهمه العوام الجهلة، ويستفيدون منه ما يحتاجون إليه من معلومات سريعة وجاهزة. وبالتالي ليس له مكانة علمية؛ حيث لا يجد فيه أهل العلم والاستنباط طلبتهم، في نظر الأستاذ الذي يذب بهذا الكتاب عن السنة ومصادرها !
وأين كلمة الجهل في نصوص الإمام مسلم، أو ما يدل عليه؟!
نعم وصفهم مسلم بالعجز، لكن لا يلزم منه الجهل.(3)
__________
(1) - أي إضافة إلى استجابته لأحمد بن سلمة في طلبه .
(2) - كتابه ( التنكيل) المليء بالأباطيل والأكاذيب ص: 11 - 13
(3) - ولا أريد أن أقول هنا مثل ما قاله الأستاذ الدكتور ربيع في رده علي:
’’ أ فنأخذ به أم نستسلم لكلام من أعمى الله بصيرته وخذله، فجعل يهرف بما لا يعرف ، ويتقول على هذا الإمام بما صرح كرات ومرات بضده؟! ( تنكيل الدكتور ربيع ص: 25)
ولا أود أن أسأله مثل ما سألني :
’’ بأي مذهبيك أو مذاهبك تأخذ ويأخذ الناس وخاصة أمثالنا وعوام الناس؟! تالله ما رأيت مثل هذا الاضطراب والتلاعب عند أحد يعقل ويدعي العلم فضلا عن أئمة الحديث الذين يدعي المليباري كذبا وزورا أنه يسير على منهجهم.‘‘ ( تنكيل الدكتور ربيع ص: 48)(1/296)
هل كان صحيح مسلم مثل كتاب الإمام النووي: (رياض الصالحين) الذي وضعه بحيث ينتفع به عوام الناس وأطفالهم ؟!
هل كان أحمد بن سلمة أبو الفضل البزار صاحب مسلم الذي طلب منه أن يلخص له الأحاديث الصحيحة من العوام الذين وصفهم بالجهل أيضا؟!
ألا يعرف الدكتور أن أبا الفضل هذا من كبار الحفاظ , وأنه رفيق مسلم في الرحلة إلى بلخ والبصرة , وأنه قد شاركه في كثير من شيوخه, وأن له مستخرجا كهيئة صحيح مسلم(1).
هذا وقد أقر الدكتور ربيع في ص: 12 من تنكيله، بأن أحمد بن سلمة طالب علم.
وإلى أين ينزلق الدكتور ربيع بهذا الخيال ؟!
كأن الرجل (لطم لطم المنتفش) فلا يدري خطورة تفكيره الارتجالي ؟!
ولم نر فيما أورده الإمام مسلم في مقدمته ما فهمه الدكتور ربيع. بل وجدنا فيه أنه كان يقصد من تأليفه من يفهمه من أهل العلم، والاستنباط. لقد قال مسلم:
’’وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا‘‘
أي لأهل العلم الذين لهم فهم وعقل، يستوعبون مذهب المحدثين فيما قالوا من الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل والترجيح.
وقال أيضا :
’’وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر، فإن ذلك زعمت مما يشغلك عما له قصدت من التفهم فيها والاستنباط منها..‘‘
هل التفهم والاستنباط من أوصاف العوام الجهلة؟! أم من أوصاف أهل العلم؟!
فهذه نصوص الإمام مسلم، مع واقع كتابه الصحيح ومقدمته تدل دلالة قاطعة وجلية على أنه يخاطب بهذا الكتاب العظيم من يفهم لغته ومنهجه وقواعده في علوم الحديث من أهل العلم والاستنباط، كما أنه يستفيد منه الجميع كل حسب تخصصه من استدلال فقهي بالمتون التي يجمعها في موضع واحد في الجوانب الفقهية، أو استدلال حديثي في جوانب علوم الإسناد أو النقد والتصحيح والتضعيف .
__________
(1) - انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 2/156 , طبقات الحفاظ، ص: 279 , الجرح والتعديل: 2/54 , وتاريخ بغداد، 4/186(1/297)
يقول ابن طاهر: ’’سمعت أبا إسماعيل شيخ الاسلام يقول: جامع الترمذي أنفع من كتاب البخاري ومسلم؛ لأنهما لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم، والجامع يصل إلى فائدته كل أحد‘‘(1).
وهذا الإمام النووي يصف صحيح مسلم بعلم وبصيرة:
’’اعلم أن مسلما (رحمه الله) سلك فى هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز التام فى نهاية من الحسن، مصرحة بغزارة علومه، ودقة نظره، وحذقه. وذلك يظهر في الإسناد تارة وفى المتن تارة، وفيهما تارة. فينبغي للناظر فى كتابه أن ينتبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه وينشرح لها صدره وتنشطه للاشتغال بهذا العلم‘‘.
’’واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما فى هذه النفائس التى يشير إليها من دقائق علم الإسناد، وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك ويزداد به الكتاب ومصنفه فى قلبك جلالة إن شاء الله تعالى‘‘(2).
يقول ابن الصلاح : " فيذكر (مسلم) العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل الشأن بذلك "(3)يعني بأهل الشأن بذلك حفاظ الحديث .
وفي ضوء ما سبق ينبغي أن نعلم أن كتاب صحيح مسلم عظيم تعده الأمة قاطبة من أصح الكتب بعد كتاب الله، بل متميزا عن صحيح البخاري بما أودعه فيه من دقائق علم الأسانيد وخصائصها وبدائع ترتيبها التي لم يستطع فهمها كما ينبغي حتى كبار أهل عصرنا.
والغريب في الأمر أن الأستاذ بعد ثنائه على صحيح مسلم ودفاعه عنه يأتي في الأخير ليقول:
’’إن صحيح مسلم لم يؤلفه إلا لعوام الناس الذين وصفهم بالجهل وعدم التمييز والعجز عن معرفة القليل‘‘.
وأصبح الأستاذ بذلك كمن يبني قصرا ويهدم مصرا.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء 13/277
(2) - شرح مسلم للنووي 1/151
(3) صيانة صحيح مسلم ، ص: 97(1/298)
ولو كان الأمر كما فهمه الدكتور ربيع - وهو أنه لم يؤلف مسلم صحيحه إلا لعوام الناس الذين وصفهم مسلم بالجهل حسب زعمه - لذكر فيه المتون بلا أسانيد، كرياض الصالحين مثلا.
من الذي يفهم الأسانيد وتحويلاتها ويفقه دقائق علومها في صحيح مسلم: عالم أم جاهل؟!
ومن الذي يقدر على استيعاب مسائل النقد والجرح والتعديل التي عالجها مسلم في مقدمته العظيمة: عالم أم جاهل ؟!
إذا كان الإمام مسلم لم يؤلف كتابه الصحيح إلا لعوام الناس الجاهلين فعنايته الفائقة في جانب الأسانيد والتحويلات في تضاعيفه، وما شرحه في مقدمته من مسائل النقد، تكون عديمة الجدوى إذن؟!
اتق الله يا رجل فيما تنسبه إلى أئمة الإسلام، وفي الكلام الذي يفضي إلى الإساءة إلى كتاب يتربع على قمة الصحاح بفوائده العلمية الحديثية والإسنادية التي تتمثل في ثلاثة جوانب، وهي:
1 - اختيار مسلم الأحاديث الصحيحة والروايات السليمة من آلاف المرويات التي كان يحفظها، في ضوء أرقى منهج للنقد في تاريخ البشر.
2 - ترتيب تلك الروايات الصحيحة في ضوء ما تستوفيه كل منها من خصائص الأسانيد ولطائف المتون.
3 - بيانه العلل على سبيل الندرة.(1)
وعلى كل فكتاب (صحيح مسلم) كتاب عظيم في نظر الأمة وأئمتها، ومن أصح الكتب بعد كتاب الله، كيف لا، وقد أخذ في تأليفه مدة خمس عشرة سنة، وضعه لجميع الناس إلى يوم القيامة، كل يستفيد منه حسب توجهه الثقافي وتخصصه العلمي: الفقهي أو الحديثي أو العقدي أو السلوكي.
__________
(1) - ليس معناه أنه يروي في صحيحه الأحاديث المعلولة. إذ شرح العلل بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة ولمناسبة طارئة ، واعتماده في الباب على الروايات الصحيحة، شيء، ورواية الأحاديث، صحيحة كانت أو معلولة شيء آخر، ولا تلازم بينهما، وإن افتعل الأستاذ هذا التلازم.(1/299)
كان من أهم أهداف الإمام مسلم من تأليف كتابه الصحيح أن يذب به عن السنة ما ظهر في مجتمعه، أو سيظهر في الأمة من خرافات وبدع وانحرافات، وما وقع من الرواة من أوهام وأخطاء.
فجزى الله الإمامين: البخاري ومسلما عن الأمة الإسلامية خير الجزاء.
والواقع أن أكثر الناس استفادة من صحيح مسلم هم في الدرجة الأولى أهل العلم والاستنباط، وليس أهل الجهل والعجز، مع أنه دستور للجميع.
قال مكي بن عبدان: سمعت مسلما يقول ’’لوأن أهل الحديث يكتبون الحديث مئتي سنة فمدارهم على هذا المسند‘‘(1).
وقال سعيد البرذعي قال مسلم: ’’إنما قلت صحاح، ولم أقل مالم أخرجه ضعيف وإنما أخرجت هذا من الصحيح ليكون مجموعا لمن يكتبه‘‘(2)
هذا وقد عجز كبار علماء اليوم عن استيعاب دقائق علوم الأسانيد التي أودعها مسلم في صحيحه. حتى إن مقدمته لا يفهمها إلا أهل التخصص، ومن أهم مواضيعها معرفة المنكر في حديث المحدث، ومعرفة معاييب الرواة، وعنعنة الرواة، وشروطه في الصحيح وغير ذلك.
وأين العوام الجهلة من هذه الدقائق العلمية التي يتوقف فهمها على بحث متخصص ودراسة معمقة، بل إلى دراسات متخصصة متعددة الجوانب؟!
وهل يعقل أن الإمام مسلما يخاطب العوام بهذا الكتاب العظيم الذي تجسدت فيه تلك المسائل التي تشكل أهم محاور علوم الحديث؟!.
هذا وقد أكد الإمام مسلم أنه يقصد به أهل العلم والاستنباط، أو الذي يفهم ويعقل مذهب المحدثين، حين قال:
’’وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وأخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا‘‘ أي أهل العلم دون أهل الجهل.
وقال أيضا:
__________
(1) - سير أعلام النبلاء للذهبي 12/ 579
(2) - المصدر السابق . يعني به حفاظ الحديث .(1/300)
’’ إن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام(1)إلا أن يوقفه على التمييز غيره‘‘.
هذا النص أوضح في أن قصد الإمام مسلم من تأليف الصحيح أهل العلم وطلابه، كما أنه يبطل ما تقوَّل الأستاذ على مسلم إنه لم يؤلف الصحيح إلا لعوام الناس الذين وصفهم بالجهل والعجز.
والعجب أن يأتي الشيخ نفسه ليؤكد ذلك ويقول:
’’وللصحيحين هيبة عند من يعرف قدرهما الذي يجهله الرعاع وأهل البدع‘‘(2)
أقول: من هم الرعاء الذين يجهلون قدر الصحيحين؟! أليسوا عوام الناس الجهلة؟!
ما هذا التناقض الغريب؟!
مرة يقول الأستاذ:
’’إن الكتاب لم يؤلفه مسلم إلا لعوام الناس الذين وصفهم بالجهل والعجز‘‘.
أي جاء كتابه الصحيح ليفهمه العوام ويقدروه.
وأخرى يقول:
’’للصحيحين هيبة عند من يعرف قدرهما الذي يجهله الرعاع وأهل البدع والضلال‘‘.
وأخرى يقول:
’’ لقد بين مسلم أن كتابه هذا إنما القصد الأول منه: نفع من سأله تأليفه من طلاب العلم، ثم نفع العوام الذين لا تمييز عندهم‘‘. وهذا يناقض قوله ’’إن الكتاب لم يؤلفه مسلم – إضافة إلى ذلك - إلا لعوام الناس الذين وصفهم بالجهل وعدم التمييز والعجز عن معرفة القليل‘‘ .
إذا كان يرى الأستاذ أن القصد بالتأليف طلاب العلم والعوام مأكان عليه أن يقول بما يفيد الحصر في جانب واحد .
هذه زلة قدم، غفر الله لنا وله.
النقطة الثالثة: دعوى الأستاذ بأن شرح العلل يتناقض مع التزام مسلم الاختصار من الأحاديث الصحيحة وعدم تكرارها.
__________
(1) - عوام زمانهم ليسوا مثل عوام زماننا. والمقصود بالعوام هنا بمقابل الخواص، وهم عوام المحدثين .
(2) - لعله يريد به أن يلمح إلى أن الذي يعرف قدر الصحيحين هو الأستاذ ربيع وأصحابه، والذي يجهله هو المليباري وأمثاله. وعلى كل فهذا وغيره من أماني الأستاذ، وما أكثر غروره بأمانيه أثناء مواجهته لنقاط الحوار العلمي!!(1/301)
زعم الأستاذ أن شرح العلل غير وارد في صحيح مسلم، بحجة أن الإمام مسلما قد انتهج في صحيحه منهج الاختصار تسهيلا على العوام الذين يعجزون عن الاستفادة من الكتاب في حال ما إذا أكثر فيه الروايات وكررها. فإذا كان المرء عاجزا عن معالجة الكثير من الأحاديث، فبالأولى أن لا تذكر الأحاديث المعللة؛ فإن عللها لا يعرفها إلا نقاد الحديث الجهابذة، وبالتالي لم يقصد الإمام مسلم في الكتاب ذكر الأحاديث المعلولة أصلا.
هذا منطق الأستاذ وحجته الجديدة فيما ذهب إليه. ومما يلفت الانتباه أنه كلما يكتشف دليلا جديدا ينكر به شرح العلل في صحيح مسلم يقع في مجازفة جديدة وزلة خطيرة.
يقول الأستاذ محللا لنصوص مسلم في مقدمته:
’’أولا: يبدو أن السائل طالب علم، يريد أن يعلم ويتفقه ويعمل، وقد طلب من الإمام مسلم التلخيص في تأليفه، فلا يريد تكرارا ولا كثرة أحاديث حتى من الصحيح، لأن الكثرة والتكرار حتى للأحاديث الصحيحة مما يشغله عما قصد له من التفهم والاستنباط‘‘(1)
’’ فمثل هذا السائل ليس عنده أي استعداد للكثرة والتكرار من الأحاديث الصحيحة فضلا عن الأحاديث التي تنطوي على علل أو فيها ضعف أو شذوذ أو نكارة‘‘(2)
__________
(1) - لا يلزم منه أن يكون قصدُ مسلم من تأليف الصحيح نفع العوام الجهلة من غير أهل العلم والفهم، فإن الانشغال بالكثرة عن التفهم والاستنباط لا يعني بالضرورة أن يكون سبب ذلك هو الجهل، وحتى إن العالم تشغله الكثرة والتكرار عن التركيز على فهم الجوانب الفقهية أو غيرها.
(2) - إذا كان السائل غير مستعد لقبول الكثرة والتكرار لكن قد يكون في أشد الحاجة وأتم استعداد لمعرفة ما يكمن في الحديث من علة واختيار ما هو أصح ، حتى ولو كان جاهلا ، بل هو أحوج إلى بيان العلة من العالم ؛ فإن العالم قد يفهم ملابسات الروايات بلا شرح وتوضيح.
ولم يزعم أحد أن مسلما يروي الأحاديث المعلولة في صحيحه، مع الأحاديث الصحيحة جنبا إلى جنب ، أو يدسها في صحيحه، حتى يقول الأستاذ: إن العامي الجاهل لا يستطيع اكتشاف العلل إلا إذا شرح له ذلك.(1/302)
ثانيا: تجاوب الإمام مسلم مع هذا السائل، فأشعره بتلبية رغبته شارحا وجهة نظره ووجهة نظر السائل .
فبين أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، حتى لطالب العلم المميز بين الصحيح وغيره، فضلا عن العوام الذين لا تمييز لديهم بين الصحيح الجلي والضعيف البين، فضلا عن العلل الخفية التي يدعي أهل الأهواء أن مسلما لا وسيلة عنده لبيانها إلا الترتيب الذي لا يدرك العلل منه إلا الجهابذة من النقاد‘‘.(1)انتهى كلام الأستاذ.
هذا في الواقع مجازفة، وتلبيس للحقائق.
أتساءل من الذي أطلق القول إن مسلما يورد الأحاديث المعلولة في صحيحه؟!
ومن قال إن بيان العلل في الصحيح بالترتيب والتقديم والتأخير؟!
الجواب: لا أحد.
أما أنا فأصرح بأن موضوع الصحيح هو الأحاديث الصحيحة. وقد يوردها من طريق بعض الضعفاء لعلوها بعد التأكد من صحتها من خلال موافقتهم للثقات، وقد تكون رواية الثقات نازلة بالنسبة إلى مسلم، وبالتالي يختار الحديث الصحيح عن طريق الضعيف.
كما يورد الحديث المعلول لا للاحتجاج به، بل لشرح علته بذكر وجوه الاختلاف أو بصريح كلامه دفعا للإيهام أو تأييدا لصحة ما صدر به الباب، وقد يكون القارئ الحافظ بحاجة شديدة إلى لفت الانتباه إلى ما يكمن في بعض الروايات التي تكون في النظرة الأولى أصح مما اعتمده مسلم في الباب.
__________
(1) - ص: 12 – 13 من تنكيل الدكتور ربيع(1/303)
وأما كون الإمام مسلم قد سلك مسلك الاختصار وعدم تكرار الحديث نظرا لكونه أيسر على المرء من معالجة الكثير في ضبطه وإتقانه وتفقهه واستنباطه، فإنه لا يلزم منه أنه لا يشرح العلل، لعدم وجود ترابط بين الأمرين، بل يحتاج المرء بشدة إلى من يصحح له ويؤكد له خلوه من شذوذ وعلة، كما يحتاج إلى من يبين له علل بعض الروايات لئلا يغتر بظاهرها وثقة رواتها وشهرة تداولها بين الرواة، فمنهجه في الاختصار لا صلة له بشرح العلل الذي وعد به مسلم على سبيل الندرة لضرورة تقتضيها المناسبات الحديثية.
النقطة الرابعة: دعوى الأستاذ بأن شرح العلل يتناقض مع نهي مسلم عن رواية أحاديث المتروكين، ورواية المناكير.
الأمر الآخر الذي شغب به الأستاذ وجعله أمرا خطيرا أو تناقضا صريحا هو أن مسلما أعاب على الرواة رواية الحديث المنكر، وأنكر عليهم الرواية عن المتروكين؛ إذن كيف يروي مسلم حديثا معلولا وحديثا منكرا في صحيحه وهو مما أنكر على الراوي روايته.
يقول الأستاذ في هذا الصدد:
’’ أفيليق بعالم يشترط على نفسه التزام الصحيح، ويكرر هذا الالتزام، ثم يلزم الناس بالاقتصار على الأحاديث الصحيحة، ويوبخهم على رواية الأحاديث الضعيفة والمنكرة، ثم يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، فيأتي بأشد ألوان الضعيف خفاء، وهي الأحاديث المعللة بعلل خفية قادحة التي لا يدركها إلا كبار الحفاظ الجهابذة ؟!‘‘
’’ ثم يضيف إلى ذلك المبالغة في إخفائها، فلا يشرحها كما يشرح علماء كتب العلل بقوله: (اختلف فلان وفلان) ، بل يدل على ذلك بترتيبه الدقيق، كما هو قول المليباري الذي لم يسبقه إليه أحد؟!!‘‘
’’ برأ الله الإمام مسلما في إمامته وورعه ودينه وتقواه من هذه الأفاعيل التي يستحي منها من دونه بمراحل في دينه وتقواه وورعه‘‘.(1)اهـ
أقول: هكذا نرى الأستاذ مرة أخرى يقلب الحقيقة رأسا على عقب، وماذا عليه لو أنصف في طرح المسألة على حقيقتها!
__________
(1) - ص: 19 من تنكيل الدكتور ربيع(1/304)
وهل يخفى على أحد يقرأ نص الإمام مسلم حول رواية الحديث المنكر والرواية عن الضعفاء المتروكين أن مسلما يقصد من ورائه منع الناس عموما - عالمأكان أو جاهلا – من رواية الأحاديث المنكرة بلا بيان لنكارتها، لا سيما روايتها في محل الاحتجاج والتصحيح؟!
أما إذا كان المحدث يريد بيان العلة ووجه نكارة الحديث فلا مانع من ذلك حتى في الصحاح على سبيل التبع والندرة، بل يكون من الواجب عليهم إذا اقتضت المناسبة منهم ذلك. ولذا ألف مسلم كتابه التمييز، وعلي بن المديني والدارقطني وغيرهما كتب العلل وكتب الضعفاء، لا لرواية الأحاديث المنكرة والمعلولة، وإنما لبيان نكارتها وعللها. وشأن ذلك شأن الحديث الذي أقر الأستاذ آنفا بشرح مسلم لعلته بكلامه.
إذا كان ذكر الحديث المعلول أو المنكر لشرح علته ونكارته واجبا علميا على النقاد وأمرا مألوفا لديهم عبر التاريخ، فإن رواية الأحاديث المنكرة أو المعلولة في محل الاحتجاج ، هي التي تكون ممنوعة لديهم، بل إن الراوي إذا لم يمتنع عن روايته للمناكير فإنه بذلك يكون قد عرض نفسه لطعن النقاد فيه. وهذا ما حذر منه مسلم وغيره من الأئمة، ولا صلة له بشرح العلل.
الفصل الثاني
يدور الحوار في هذا الفصل حول تضليل الأستاذ بأن خصمه متلون ومضطرب من طور إلى طور فيما يخص مسألتي الترتيب وشرح العلل
فيه من النقاط ما يأتي:
1 - عرض القضايا التي عدها الأستاذ أطوارا، وتلونا.
2 - دعوى الأستاذ بالتلون والاضطراب وحججه فيها.
3 - خلط الأستاذ بين مسألتين منفصلتين: الترتيب وشرح العلل.
النقطة الأولى: القضايا التي عدها الأستاذ أطوارا وتلونا(1/305)
لقد سعى الدكتور ربيع في الفصل الثاني من الباب الأول من كتاب (التنكيل) إلى توهيم القارئ بأنني غير مستقر في الرأي، ومضطرب في المنهج، ومتلون حسب المناسبة، من خلال تأويله الغريب لبعض الفقرات التي وردت بصدد بيان العلة في حديث ابن عمر، وتبرير صنيع الإمام مسلم في إيراده في الصحيح.
إني لا أزال مستغربا كيف يصف الدكتور النقاط العلمية التي تضمنتها تلك الفقرات، مع ترابط بعضها ببعض شرحا وتوضيحا واستدلالا، بأنها تلون في المنهج، وأطوار، دون أن يوضح ماذا يعني بكلمة (الطور)، وما الفاصل بين الأطوار: زمنيا أو منهجيا أو علميا، وما وجه الاضطراب والتلون.
لعل من الأحسن أن أسلط الضوء على تلك النقاط التي وصفها الدكتور ربيع أطوارا أو فيها تلون، ووجه ترابط بعضها ببعض، حتى تنجلي مجازفته وتضليله في الفصل الثاني من (التنكيل).
الفقرات التي تعلق بها الأستاذ في تقوله على الخصم
قلت للأستاذ في الرسالة الأولى قبل بدء الحوار بيني وبينه:
’’ وقد رواه(1)الإمام مسلم في صحيحه من حديث نافع عن ابن عمر بدون الزيادة(2)، كما أشار إليه الهيثمي، من طرق كلها منتقدة من قبل أئمة هذا الشأن؛ كالإمام البخاري والدارقطني والنسائي.
أما الإمام مسلم فلا يتجه إليه طعن لإدخالها في الصحيح، وذلك لأنه لم يخرجها في الأصول ولا في المتابعة، وإنما أوردها في الصحيح للتنبيه على عللها، وذلك ظاهر لوجوه:
أولا: قال الإمام مسلم (رحمه الله ) في مقدمة صحيحه (1/59)
__________
(1) - أعني حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي.
(2) - هذا تعليق على حديث الإمام أحمد الذي كنت أشتغل به في رسالتي للدكتوراه ، لذلك قلت : رواه مسلم بدون الزيادة، أعني بها: ( فهو أفضل ) في آخر حديث (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فهو أفضل)، يكون معنى الحديث إن صحت هذه الزيادة: أن المسجد الحرام أفضل. وفي صحة هذه الزيادة كلام لأئمة النقد.(1/306)
وسنزيد (إن شاء الله تعالى) شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة، إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح (إن شاء الله).
ثانيا: أنه أورد طريق الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة، ولم يورد طريق الليث التي لم يذكر فيها ابن عباس، والأول لا يصح، والثاني محفوظ، ولو كان مسلم يريد المتابعة لكان أولى أن يورد الثانية، لأنها سليمة ولا نزاع في (صحتها)(1)ولم يفعل.
ثالثا: أنه أورد طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر ، بعد أن أورد الطرق المنتقدة قبل الأخير .
ولو أراد المتابعة لأتبعه طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة ، ليفيد أن الزهري قد تابعه أيوب، ولكنه لم يفعل , وسيأتي مزيد من الإيضاح عن هذه الطرق .
(وبِمَا) أن الإمام مسلما ( رحمه الله ) أخرج هذا الحديث من وجوه صحيحة، واتفق عليها مع الإمام البخاري في صحيحه، ولم يقصد بإخراج هذه الطرق المعللة والمنتقدة المتابعة، لم يتجه إليه الطعن إن شاء الله تعالى.
وهذا هو الذي ظهر لي من التوجيه لسلامة الإمام مسلم من الطعن(2)، والله أعلم.‘‘. انتهت الفقرات من الرسالة الأولى .
تلخيص محتوى الفقرات وتوضيحها
يمكن تلخيص محتوى هذه الفقرات بما يلي:
1 - إن الروايات التي أوردها مسلم لحديث ابن عمر معلولة من قبل النقاد: البخاري والنسائي والدارقطني وتبعهم القاضي عياض.
__________
(1) - هذه الفقرة صححناها، انظر تفصيل ذلك في القسم الأول (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) . وصوابها : ’’أنه أورد طريق الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة مع كونه منقطعا‘‘.
(2) - ألا يفهم منه كل عاقل أني لم أنكر موضوع مسلم في صحيحه والتزامه بالصحة، بل أدافع عنه، وإلألماذا أبحث عن مبررات للإمام مسلم في ذكر الحديث من طرق معلولة في كتابه المسند الصحيح إذا لم يلتزم فيه الصحة ؟!(1/307)
2 - وعلتها مخالفة عبيد الله وموسى الجهني لليث بن سعد وابن جريج.
3 - والإمام مسلم إذ أورد رواية عبيد الله وموسى الجهني مع رواية ليث بن سعد أراد فقط أن يبين الاختلاف على نافع الذي هو مدار تلك الروايات.
4 - وبذلك أصبح مسلم موافقا لغيره من الأئمة في إدراك العلة.
ثم تطرقت لتوضيح ما يتصل بترتيب الحديث وشرح العلل، حتى لا يشوبه غموض ولا لبس، فقلت ما معناه:
1 - إن ما أخره مسلم في آخر الباب يكون دون الحديث الذي صدر به الباب صحة، حتى ولو كان من رواية من هو أوثق الناس، لأن العبرة في ذلك مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة مع عدالة الراوي واتصال سنده. وليست العبرة أحوال الرواة وحدها(1). ولم يكن يؤخر مأكان يقدمه عادة في صحيحه إلا لأسباب علمية؛ كالشهرة والغرابة، أو العلو والنزول، أو الاتفاق والاختلاف في صحته، وغير ذلك من خصائص الحديث والإسناد. هذا كله فيما يخص الترتيب.
2 - أما شرح العلل فبذكر وجوه الاختلاف، وعلى سبيل التبع والندرة، أعني في بعض المواضع فقط استطرادا. ولا صلة لهذا الشرح بالترتيب، والتقديم والتأخير، إلا من جهة أن الحديث إذا كان معلولا أخره في آخر الباب فقط، ولا يصدره به.
3 - وإذا ذكر مسلم في صحيحه حديثا فيه علة لا يعني أنه أورده لبيان العلة، لأنه قد يكون ذلك الحديث صحيحا عنده، بخلاف رأي الآخرين من النقاد، أو ذكره للاحتياط أو للاستئناس، بعد وقوفه على ما يمكن التعليل به.
4 - أما إذا أورد وجوه الاختلاف الذي من أجله أعله النقاد فمعنى ذلك أنه أيضا وقف على هذا الاختلاف، ووضعه في موضعه المناسب، فهذا يكون في إطار شرح العلل الذي وعد به مسلم في مقدمته، كما فهمه العلماء.
__________
(1) - سيأتي – إن شاء الله تعالى – بعض النماذج لتقديم حديث الثقة على الأوثق ، أو الصدوق على الثقة من نصوص النقاد.(1/308)
إن معظم كلامي وتوضيحي بهذا الصدد قد دار على تلك النقاط، من غير أن أتلون في المنهج، ولا أن أغير شيئا منها إلا ما سبقت الإشارة إليه آنفا(1). وبالتالي فإن ذلك الشرح والتفصيل المرحلي لا يشكل أطوارا، ولا تلونا من طور إلى طور.
كما أود أن ألفت انتباه القارئ إلى بعض الحقائق التي تزيل الغموض وتحسم الخلاف، وهي:
أولا: أنني فهمت العلة في حديث ابن عمر الذي رواه مسلم من طريق عبيد الله وموسى الجهني عن نافع عنه حين أعله النقاد: البخاري والنسائي والدارقطني في عصور مختلفة.
ثانيا: لما أورد مسلم هذه الروايات في آخر الباب لم يكن قصده الاحتجاج بها ولا تصحيحها، وإنما بيان هذا الاختلاف الذي من أجله أعله النقاد.
ثالثا: أن صنيع مسلم هذا في صحيحه لم يكن غريبا بل مما التزمه في مقدمته.
رابعا: أن عادة مسلم في صحيحه أن يروي أحاديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وكذا حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر في أول الباب. ولما خالف هنا عادته في الترتيب فهمنا أن في هاتين الروايتين شيئا جعله يتصرف كذلك.
فلما وجدنا النقاد قد أعلوا هذه الروايات فهمنا أن الشيء الذي جعل حديث ابن عمر بجميع طرقه، التي فيها ثقات أئمة، دون حديث أبي هريرة، هو الاختلاف على نافع كما شرحه مسلم .
خامسا: ما ضعفت حديث ابن عمر تلقائيا بمجرد كونه في آخر الباب، ولا حديثا آخر في صحيح مسلم بناء على ذلك، إلا إذا أعله النقاد.
__________
(1) - هي ما ورد في هذه الفقرة : ’’ثانيا: أنه أورد طريق الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة، ولم يورد طريق الليث التي لم يذكر فيها ابن عباس، والأول لا يصح، والثاني محفوظ، ولو كان مسلم يريد المتابعة لكان أولى أن يورد الثانية، لأنها سليمة ولا نزاع في (صحتها) ولم يفعل‘‘.(1/309)
سادسا: حديث ميمونة الذي رواه مسلم في آخر الباب ضمن مجموعة الرويات المختلفة على نافع منقطع وليس بمتصل. إذ لم يسمع إبراهيم من ميمونة. وهذا مما يؤكد أن الغرض من ذكر تلك الروايات المختلفة على نافع هو بيان الاختلاف على نافع، وليس تصحيحها.
وبعد هذا التوضيح أود أن أسلط الأنوار الكاشفة على زلل الدكتور ربيع ومجازفته وتضليله في الفصل الثاني، دفاعا عن الحق وأصحابه.
النقطة الثانية: دعوى الأستاذ بالتلون والاضطراب ومناقشة حججه فيها
يبدو – والله أعلم - أن الدكتور ربيع يريد أن يسخر مني أمام القراء بأنني متلون حسب المناسبة وغير مستقر الرأي. لذا أتى في كتابه (التنكيل) المليء بالأكاذيب والاباطيل، بالفصل الثاني تحت عنوان: ’’بيان تلون المليباري وتطور منهجه الباطل‘‘.
وعند قراءة محتوى هذا العنوان نرى فيه شيئا آخر، وهو أن الأستاذ نفسه يتلون ويتطور منهجه ويتغير من رأي إلى رأي، وينتقل من موضوع إلى موضوع، ويعيد ويكرر، ويلف ويدور، حتى إن هذا الفصل أتعبني كثيرا في متابعة خطواته وملاحقته في كلماته، لكثرة اضطرابه وتلونه وتشتت أفكاره وكثرة تنقله من موضوع إلى موضوع بشكل مفاجئ.
وأما النصوص التي أتى بها الأستاذ ليستدل بها على العنوان فليس فيها ما يدل على مصداقيته؛ لأنها ترتكز على بيان علة حديث ابن عمر وتبرير ساحة مسلم في ذكره في صحيحه وفق منهجه الذي وعد به في المقدمة.(1/310)
وأنا أدعو القارئ إلى قراءة رسالتي التي أرسلتها إليه في بداية الحوار(1)، والاطلاع على كتاب عبقرية الإمام مسلم وهذا الكتاب (الانوار الكاشفة)، والمقارنة بينها، ثم ينظر هل تغير رأيي في موضوع الحوار، أو لا. وفي الواقع لم يتغير رأيي، وإن الأمور التي تضمنتها نصوصي في تلك الأوراق السبع هي بذاتها في كتاب العبقرية وفي هذا الكتاب، وهي لا تزال في طور واحد لترابط بعضها ببعض. اللهم إلا بعض الأخطاء التي وقعت في بعض الأمور الجانبية فقد استدركتها بالتصحيح.
وعجبت لهذا الرجل أنه لا يجد في النقاش إلا الطريق العوجاء، المتمثلة في الاستهزاء والسخرية وتزكية النفس وإطلاق الدعاوى الفارغة.
نص الأستاذ فيما يخص التلون والاضطراب والتعقيب عليه
يقول الدكتور ربيع في (ص: 48 من التنكيل):
’’ تالله ما رأيت مثل هذا الاضطراب والتلاعب عند أحد يعقل ويدعي العلم، فضلا عن أئمة الحديث الذين يدعي المليباري كذبا وزورا أنه يسير على منهجهم‘‘.
أقول: هكذا يدعي بهذا الجزم والحلف أني مضطرب وغير مستقر في الرأي ومتلاعب، وحين يذكر الأدلة على ما يزعمه نجدها مختلقة أو محرفة كما سيأتي ذلك.
وعلى كل فإنه يرى تلك النقاط التي شرحتها في بداية الحوار ثلاثة أطوار في المنهج، من غير أن يحدد لنا مواصفات كل طور من الأطوار الثلاث، والفوارق التي تفصل بعضها عن بعض، وتجعل كلا منها طورا جديدا.
ومن المعلوم أن الباحث إذا عالج قضية علمية معينة في ضوء الأدلة، ثم شرح ما يتصل بتلك الأدلة حسب المناسبة لا يقال إنه تلون وانتقال من طور إلى طور، إلا إذا خرج عن أصل الموضوع، وتناقض.
هيا نقرأ للأستاذ ما يتصل بالأطوار التي اكتشفها في كتابه (التنكيل) المليء بالأكاذيب والأباطيل.
الطور الأول المفتعل، والرد عليه
__________
(1) - هذه الرسالة قام بنقلها الأستاذ في كتبه.(1/311)
حاول الأستاذ في كتابه (التنكيل) المليء بالأكاذيب والأباطيل، أن يتصرف في نصوصي التي وردت في الرسالة الأولى التي أرسلتها إليه قبل بدء الحوار بيني وبينه، بحيث يوهم القارئ أن خصمه يتلون ويتغير ويضطرب، فقام بتقطيع النصوص، ليفترض كلا منها أطوارا، غاضا طرفه عن مدى تطابقها مع معاني كلمة الطور اللغوية أو الاصطلاحية، ثم أخذ يشرح كل طور منها بما يتخيله، بعيدا عن سياق الموضوع الذي طرحته في تلك الرسالة، كما سيتبين ذلك من خلال العرض الآتي:
الطور الأول فيما زعمه الأستاذ هو:
’’أنه يورد الأحاديث من أصح الطرق مهما كثرت، ومهما بلغ رجالها من الثقة والعدالة لينبه على عللها، وتكون خارج الأصول والمتابعات‘‘
علق عليه بتساؤله الآتي:
’’من قال بهذا القول الدقيق غير المليباري؟! لا أحد يقول بهذا القول، احفظ أيها القارئ هذا القول، وانتبه له‘‘(1)
أقول: انتبه أيها القارئ الكريم - وفقك الله تعالى للإنصاف في الفهم والقول والعمل - إلى تلاعب الأستاذ بنصوصي، ومجازفته في تأويلها بما لا يتحمله سياقها، وبمالم يخطر ببالي أصلا!
والعجب أنه ينقل كلامي ثم يلخصه على طريقته الخاصة بما لا يفهم منه بأي دلالة من الدلالات اللغوية، حتى يتم له تحقيق ما يريده في الحوار.
انظر إلى كلامي كما نقله الأستاذ:
’’وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث نافع عن ابن عمر بدون الزيادة، كما أشار إليه الهيثمي من طرق كلها منتقدة من قبل أئمة هذا الشأن كالإمام البخاري والدارقطني والنسائي‘‘
’’ أما الإمام مسلم فلا يتجه إليه الطعن لإدخالها في الصحيح، وذلك لأنه لم يخرجها في الأصول ولا في المتابعة، وإنما أوردها في الصحيح للتنبيه على عللها‘‘
ثم يلخص الأستاذ هذين النصين بما يأتي:
__________
(1) - ص: 29 – 30 (تنكيل الدكتور ربيع)(1/312)
’’لم يوردها مسلم من هذه الطرق التي هي في القمة من الصحة(1)، ومعظمها من الطبقة الأولى من شرطه؛ إلا ليوضح ويبين ويشرح عللها‘‘(2)
ثم لخصها مرة أخرى تحت عنوان: (فهذا هو طور المليباري الأول)
’’أنه يورد الأحاديث من أصح الطرق مهما كثرت، ومهما بلغ رجالها من الثقة والعدالة والإتقان لينبه على عللها، وتكون خارج الأصول والمتابعات‘‘(3).
أقول : هذا لا يفهم من كلامي أبدا بأي دلالة من الدلالات اللغوية، وإنما هو مما صنعه الأستاذ لغرض أراد تحقيقه.
وليس من المنهج السليم تحريف النص وتأويله بما لا يدل عليه. فإذا قلنا إن الإمام مسلما شرح في صحيحه - لمناسبة علمية خاصة - علةَ حديث ابن عمر الذي أعله النقاد، ، فلا يفهم منه أن الإمام يورد الأحاديث في صحيحه من أصح الطرق لينبه على عللها، فهذا تحريف !.
ومن آداب الحوار أن لا يطلق ما قيده الخصم، ولا يقيد ما أطلقه، وأن لا ينسب إلى خصمه إلا ما صرح به أو دل عليه سياق كلامه، مع أن لازم القول ليس بلازم.
من الأفضل أن نتذكر في هذه المناسبة قول الله تعالى:
+ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون "(4)
وقوله تعالى: + ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"(5).
__________
(1) - إن الحديث لا يكون صحيحا بمجرد كون راويه ثقة، ولا يعد في القمة من الصحة بناء على وجود راو أوثق في السند , بل باستكماله شروط الصحيح ، وهي العدالة والاتصال والخلو من الشذوذ والعلة. وكلما يكون الحديث مستوفيا لهذه الشروط بأكمل وجه وأوضح صورة يتربع الحديث على القمة من الصحة. وبهذا الفاصل المنهجي أختلف مع الأستاذ. كما سيأتي شرح ذلك.
(2) - ص: 29 (المصدر السابق)
(3) - المصدر نفسه
(4) - سورة المائدة ، 8
(5) - البقرة ، 190(1/313)
الواقع أن الإمام مسلما إنما التزم شرح العلل في بعض المواضع من كتابه الصحيح حسب المناسبة العلمية فقط، وشرح العلل إنما يكون بذكر الاختلاف خارج الأصول والمتابعة، أي: أنه لا يذكر هذا النوع من الروايات لا على سبيل الاستدلال ولا على سبيل التقوية.
وعلى هذا فقول الأستاذ ملخصألما ذكرته: ’’إن الإمام مسلما يورد الأحاديث من أصح الطرق مهما كثرت ومهما بلغ رجالها من الثقة والعدالة والإتقان لينبه على عللها وتكون خارج الأصول والمتابعات‘‘ مجازفة واضحة وتضليل مغرض.
تعليق الأستاذ على الطور الثاني المفتعل، والرد عليه
ذكر الدكتور ربيع الطور الثاني واصفا إياه بأنه كان شرحا ودفاعا عن الطور الأول، وقال:
’’فمن الجديد في هذا الطور، وهو الثاني: أن مسلما يخرج الطرق المعللة خارج الأصول لأمر استطرادي، أما في الطور الأول فإن مسلما يخرجها خارج الأصول والمتابعات‘‘
ثم قال مباشرة :
’’مما جد في الطور الثاني أن مسلما إذا قدم ما هو مستحق أن يؤخره وإذا أخر ما هو مستحق أن يقدمه فمعناه أنه أدرك فيه شيئا جعله يتصرف (كذلك)‘‘.
أقول: والله لا أكاد أفهم فلسفة الأستاذ، مع اضطرابه في تحديد دلالة الأطوار، وبيان صورة التلون والتطور في المنهج.
وهنا نسأل: ما الفرق بين الطورين؟! هل الفرق بينهما هو حذف كلمة (والمتابعات) في الطور الثاني وذكرها في الأول؟! أو الفرق بينهما كلمة (لأمر استطرادي) في الثاني دون الأول، وهل يشكل النص طورا إذا جاء شارحا للنص الأول كما أقر بذلك الأستاذ نفسه؟!
إن الجدير بالذكر أن شرح العلل في صحيح مسلم لأمر استطرادي ليس بنبأ جديد، بل هو قديم ذكرته قبل بدء الحوار، في أكثر من موضع وبألفاظ مختلفة؛ مثل (على سبيل التبع)، و(في بعض المواضع خارج الأصول)، و( يشرح أحيانا) وغيرها من العبارات.
خروج الأستاذ المفاجئ من موضوع التلون، إلى موضوع شرح العلة في الصحيح(1/314)
ثم خرج الدكتور ربيع من موضوع التلون والأطوار فجأة إلى خياله الواسع ليقدم لنا اكتشافاته الجديدة، فنقل أولا من كلامي ما يأتي:
’’قال المليباري: وبيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلة، بأن يقول أثناء الكلام: واختلف على فلان أو خالفه فلان مثلا، كما هو معروف في كتب العلل لابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهما، بل يكون البيان بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله: خالفه فلان أو اختلف على فلان مثلا، وإذا سمعه الحافظ يفهم بأنه اختلاف واضطراب، وإذا سمعه أمثالنا فيعده تعدد الطرق ، ومثل هذا البيان كثيرا ما تجده في التاريخ الكبير ، إلا في موضعين منه ‘‘
ثم علق عليه الأستاذ :
’’ هكذا يفتري على مسلم – رحمه الله – الذي ألف كتابه إجابة لطالب علم ، وصرح بأنه ألفه لعوام المسلمين لا يفهم رموزه التي خالف فيها عادة المحدثين، والتي لا يفهمها إلا الحفاظ من أمثال المليباري!!. أما كثير من أهل الحديث، وكثير من طلاب العلم مثل : ربيع فيعدونه تعدد الطرق، أي يعدونه صحيحا، وهو معلل لا يدركه إلا أمثال الفيلسوف المليباري علامة الأحاجي‘‘ !
’’وقد دمغت أباطيله دمغا بالحجج والبراهين في كتابي (منهج الإمام مسلم ) وأبطلت ترهاته ، فلم يستطع أن يواجه ذلك إلا بالتباكي والتظلم الكاذب‘‘.
ثم بعد كل هذه الأفاعيل يقول في كتابه الجديد المسمى بـ (التوضيح)(1):
(فأعيد وأكرر بأنني لم أقل إلا بما التزمه مسلم في مقدمته، وطبقه في تضاعيف كتابه الصحيح المسند كما أقره العلماء وأنني لم أفسر ما قاله مسلم في المقدمة إلا بواقع كتابه المسند الصحيح حسب فهمي ومعرفتي، ولم أدّع بعد أن التقديم والتأخير في الأحاديث وسيلة لبيان العلة فيه، بل هو من افتراءاته علي. والله المستعان)
__________
(1) - نسخة مسودة قديمة من كتاب (عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح)(1/315)
’’فأي سفسطة هذه، وأي مكابرة هذه، ومن هو كثير الافتراءات على مسلم وكتابه، وعلى من يدافع عنه بالحق والصدق والأدلة الواضحة‘‘.
’’إن هذا الرجل أقل من أن يقال له: عد إلى كلامك الأول وتأمله لعلك ترجع إلى الحق. لأنه يعرف نفسه أنه أفاك مبطل، لا ينشد الحق ولا يريد الرجوع إليه‘‘(1).
’’وإنما أخاطب العقلاء المنصفين فهم الذين يدركون أن هذا الرجل قد قال: بأن التقديم والتأخير هما وسيلة بيان مسلم للعلل. ألأنك لم تذكر لفظ (وسيلة) تريد أن ترمي الصادقين بالكذب؟! (رمتني بدائها وانسلت) وهل العبرة عند العقلاء بالألفاظ أو بالمعاني؟! وهل من يبين نبل قصد المتكلم أو خبث قصده يلتزم في هذا البيان ألفاظ ذلك المتكلم، ويفسره على حد المثل (فسر الماء بالماء )، ثم ألم تطبق ما زعمته من بيان العلل بناء على التقديم والتأخير على حديثين صحيحين لابن عمر وابن عباس، بل وثالث لابن عمر، وقلت من رقم واحد إلى خمسة صحيح ومن رقم (6 – 10 ) معلل، ومن قال غير المليباري؟!‘‘
ثم نقل كلامي وهذا نصه :
’’(لما وعد الإمام مسلم في المقدمة أن يضع طرق الأحاديث في موضعها، فقد وضعها في موضعها فعلا، فإذا رأينا المخالفة في الترتيب - في الظاهر- فينبغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك، وهذا هو الذي وقع في رواية أيوب، وأنه كان في العادة أن يقدم رواية معمر عن أيوب عن أهل القسم الثاني، وعلى هذا إذا ذكرها عقب رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري فيفيد أن معمرا عنده الوجهان لهذا الحديث كما أفاد هنا بذكر رواية الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عقب رواية معمر عن الزهري عن سعيد أن الزهري يرويه من الوجهين، ومثل هذا في بعض مواضع صحيح مسلم، انظر مثلا حديث الأعمش (17/144) من صحيح مسلم مع شرح النووي)‘‘
__________
(1) - ما أحسن قول القائل:
قل بما شئت في مسبة عرضي فسكوتي عن اللئيم جواب
ما أنا عادم الجواب ولكن .................................(1/316)
ثم يسأل الدكتور ربيع ويقول :
’’فما مؤدى هذا الكلام، وما هو مرماه، وماذا يفهم منه العرب والعجم؟! أو رد لغوائل دعاوى بيان التعليل بالترتيب والتقديم والتأخير؟! أو تقعيد خبيث ومعول هدام، يهدم به كتابا عظيما التزم صاحبه الصحة، وقال مؤكدا التزامه بأنه لا يورد في هذا الكتاب إلا ما أجمعوا على صحته‘‘(1). انتهى تعقيب الأستاذ الدكتور ربيع.
مناقشة الأستاذ في رأيه عن طريقة بيان العلة
هذا أسلوب الأستاذ في الحوار العلمي كما ألفناه سابقا، كان يركز – كما ترى - على الاستهزاء والسخرية وبطر الحق والاستعجال في الحكم وغير ذلك من الأمور التي لا تراها في كلام العلماء الأتقياء.
وعلى كل فههنا عدة أمور لا بد من ذكرها ونقاشها حتى تتجلى مجازفات الأستاذ وزلاته.
فما تقول علي الأستاذ: أن بيان العلل في صحيح مسلم إنما هو بالترتيب والتقديم والتأخير. رافضا لجميع نصوصي التي تدل بمنطوقها ومفهومها على أن بيان العلل في صحيح مسلم بذكر وجوه الاختلاف خارج الأصول والمتابعات. أعني بخارج الأصول والمتابعات أنه لم يكن قصد مسلم من ذكره لهذه الطرق الاحتجاج ولا التقوية.
وعلى الرغم من تصريحاتي المتكررة مع الأمثلة التطبيقية فإن الأستاذ أبى إلا أن يستمر في كذبه وسخريته.
فما تبصر العينان والقلب آلف ولا القلب والعينان منطبقان
لننظر كيف فهم الاستاذ من نصوصي التي نقلها آنفا من الرسالة الأولى التي أرسلتها إليه: ’’أنني أدعي بأن بيان العلل في صحيح مسلم بالتقديم والتأخير‘‘.
أما النص الأول فلا صلة له بما فهمه الأستاذ، فإن النص - كما نقله هو - ما يأتي :
__________
(1) - ص: 34 – 37 ( تنكيل الدكتور ربيع )(1/317)
’’ بيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلة(1)، بأن يقول أثناء الكلام: واختلف على فلان أو خالفه فلان مثلا، كما هو معروف في كتب العلل لابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهما، بل يكون البيان بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله: خالفه فلان أو اختلف على فلان مثلا ..‘‘
هذا النص ظاهر بمنطوقه أن بيان العلل بذكر وجوه الاختلاف. ولا يفهم منه بأي دلالة من الدلالات اللغوية أن بيان العلل بالتقديم والتأخير .
والنص الثاني لا يدل أيضا على ما فهمه الأستاذ، فإن النص كما نقله هو :
’’أنني لم أقل إلا بما التزمه مسلم في مقدمة صحيحه وطبقه في تضاعيف كتابه ، وأنني لم أدع بعد أن التقديم والتأخير في الأحاديث وسيلة بيان العلة ‘‘
هذا النص صريح بما كنت أقوله وهو أن بيان العلل إنما هو بذكر وجوه الاختلاف. ومع كونه صريحا بالمقصود فإن الأستاذ يأبى إلا أن يتكبر علي بقوله:
’’إن هذا الرجل أقل من أن يقال له: عد إلى كلامك الأول وتأمله لعلك ترجع إلى الحق. لأنه يعرف نفسه أنه أفاك مبطل، لا ينشد الحق ولا يريد الرجوع إليه‘‘(2)..
أقول: إني رجعت إلى قولي الأول الذي جعله الأستاذ طورا أولا، كما نصحني، وقرأته أكثر من مرة فلم أجد فيه شيئا مما قاله الأستاذ. وهو كما نقله في كتابه:
’’وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث نافع عن ابن عمر بدون الزيادة، كما أشار إليه الهيثمي من طرق كلها منتقدة من قبل أئمة هذا الشأن؛ كالإمام البخاري والدارقطني والنسائي‘‘
’’ أما الإمام مسلم فلا يتجه إليه الطعن لإدخالها في الصحيح ، وذلك لأنه لم يخرجها في الأصول ولا في المتابعة، وإنما أوردها في الصحيح للتنبيه على عللها‘‘.
والسؤال المطروح: أين في هذين النصين ما يدل على أن بيان العلل بالتقديم والتأخير؟!
__________
(1) - كذا في نصي ، والصواب: كتب العلل
(2) - ص: 35 من التنكيل(1/318)
أما النص الثالث فليس فيه أيضا ما فهمه الأستاذ من أن بيان العلل بالتقديم والتأخير، انظر إلى النص :
’’ فإذا رأينا المخالفة في الترتيب - في الظاهر- فينغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك، وهذا هو الذي وقع في رواية أيوب‘‘
يبدو أن هذا النص هو الأساس في فهم الأستاذ أنني أدعي بيان العلة بالترتيب والتقديم والتأخير. لكن ليس في هذا النص ما يساعده على ذلك الفهم. حتى ولو فرضنا جدلا أن هذا النص مبهم يحتمل ما فهمه الأستاذ ويحتمل غيره، فلا ينبغي له أن يجزم من غير دليل بأن معناه هو ما فهمه، بل ينبغي أن ينظر في السياق أو النصوص الأخرى التي تفسر المقصود به.
إن غاية ما في هذا النص: أن حديث معمر عن أيوب فيه شيء جعل الإمام مسلما يؤخره، وكانت عادته أن يقدمه في أول الباب. أما سبب التأخير، الذي أطلقته عمدا بقولي (فيه شيء جعله يؤخره) فقد يكون عدم الشهرة أو نزول السند أو غير ذلك من خصائص الإسناد مع كون الرواية صحيحة ، ورواتها ثقات، أو يكون ذلك الشيء علة أو الاختلاف في صحته.
لكن لما وجدنا الدارقطني قد أعل حديث معمر عن أيوب فهمنا أن سبب تأخيره هنا هو العلة التي من أجلها أعله الدارقطني. وهذا لا يعني بالضرورة أن تكون العلة هي سبب تأخير مسلم لجميع الأحاديث التي في أواخر الأبواب. لأنه قد يكون سبب ذلك ما يتصل بالخصائص الإسنادية؛ كعدم شهرة الرواية أو نزولها عند مسلم أو عدم تسلسلها أو عدم جودة المتن أو غير ذلك، والخصائص كثيرة.
ذلك لأن معنى قولي :’’وهذا هو الذي وقع في رواية أيوب‘‘ أي تأخير الحديث لسبب هو الذي وقع في رواية أيوب، ولذلك ذكر حديثه في آخر الباب. أعني أن تأخير مسلم لرواية أيوب كان لشيء أدركه فيها، وأنه لم يؤخرها بلا سبب. والشيء الذي أدركه فيها هو العلة التي صرح بها الدارقطني بقوله: ’’غير محفوظ عن أيوب‘‘.(1/319)
والإشارة في قولي (وهذا هو الذي) راجعة إلى تأخير الحديث لشيء. وليست راجعة إلى كلمة ( شيء) بذاتها.
وعلى كل فهذا مثال لتأخير مأكان يقدمه من الأحاديث، لسبب جعله دون الحديث الذي صدر به الباب. وإذا كان الشيء هنا في حديث أيوب هو العلة، فلا يعني بالضرورة أن جميع الأحاديث التي أخرها مسلم إنما يؤخرها لسبب العلة ذاتها. ولا يفهم ذلك عاقل في الدنيا. وإنما يفهم فقط أن التأخير إنما يكون لسبب، والسبب يختلف باختلاف الأمثلة، وأنه لا يؤخر شيئا على شيء إلا بسبب. هذا هو معنى قولي: ’’فإذا رأينا المخالفة في الترتيب في الظاهر فينبغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك، وهذا هو الذي وقع في رواية أيوب‘‘، أي دفعه إلى تأخيرها لشيء أدركه.
هذا كقولنا: إن عمرا لا يذهب إلى السوق إلا لشيء، وإذا ذهب إليه يوما لزيارة صديق له فلا يفهم عاقل في الدنيا أنه لا يذهب إلى السوق إلا لزيارة صديق.
مهمأكان الأمر فإن النص الثالث لا يفهم منه أبدا أن بيان العلل في صحيح مسلم إنما هو بالترتيب والتقديم والتأخير. لا سيما أنني لم أحكم بضعف هذا الحديث بمجرد كونه مذكورا في أواخر الباب، وإنما بعد فهم ما قاله الدارقطني ’’غير محفوظ عن أيوب‘‘.
الخلاصة :أن الذي يفهم من ذلك النص أن ما قدمه مسلم في الباب أصح مما أخره إلى آخر الباب. قد يكون الحديث المؤخر في آخر الباب معلولا أو مختلفا في صحته، فهذا نادر، أو يكون صحيحا غريبا عن راويه ولم يشتهر مثل الحديث الذي قدمه مسلم في الباب، أو في إسناده نزول نسبي، أو غير ذلك مما شرحنا سابقا من خصائص الإسناد ولطائفه التي لها ظهور فاعل في التفاضل بين الأحاديث الصحيحة. لذا لا يلزم من تأخير رواية على رواية أن تكون معلولة عند مسلم، وإنما يلزم من الترتيب والتقديم والتأخير أن ما أخره دون ما قدمه صحة فقط لا غير.
وكتابي (عبقرية الإمام مسلم )أكبر دليل على ذلك.(1/320)
في ضوء ما سبق فإن نصوصي كلها واضحة في أن الترتيب إنما هو حسب خصائص الإسناد والمتن، وهو معنى قولي: يقدم مسلم الأصح فالأصح، وأن شرح العلل إنما يكون فقط بذكر وجوه الاختلاف. وليس في كلامي شبهة أو غموض أو احتمال يبرر فهم الأستاذ بأن الترتيب وسيلة شرح العلل.
أتحدى الأستاذ أن يأتي بنص واحد يدل على أن بيان العلل في صحيح مسلم بالتقديم والتأخير. ولن يستطيع أن يأتي به. وكل النصوص التي نقلها الأستاذ بهذا الصدد صريحة أو واضحة في دلالتها على أن بيان العلل إنما هو بذكر وجوه الاختلاف، وأن الترتيب إنما يكون بتقديم الأصح فالأصح، ولا صلة له ببيان العلل.
وعلى الرغم من وضوح كلامي المكرر أكثر من مرة في أن بيان العلل ليس بالترتيب، فإن الشيخ يأبى إلا أن يصر على كذبه، ويقول لي جازما (قد قلتَ ذلك).
وإن كنت قد قلته فعلى الشيخ أن ينقل ذلك القول لنا.
والدعاوى مالم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
الواقع أن كل ما ذكره الأستاذ إنما هو مما نسجه في خياله، ليس له صلة بما كنت أقوله.
والصدق يألفه الكريم المرتجي والكذب يألفه الدني الأخيب
والأغرب من ذلك أن الرجل يعتبر نفسه مع هذه الأفاعيل من العقلاء الصادقين!! وكل من يوافقه في ذلك من العقلاء المنصفين أيضا !!
وسينجلي لك (بإذن الله ) من كان يدافع عن صحيح مسلم من خلال هذا الحوار.
والدفاع عن الحق ليس بالتمني، ولا بالتمويه والتلبيس، ولا بالسب والشتم والشغب، وإنما بالعمل المنهجي الصحيح النزيه الصادق في ضوء الأدلة ونصوص السابقين.
قديما قال أبو الطيب المتنبي:
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم
تعليق الأستاذ على الطور الثالث المفتعل
يقول الدكتور ربيع:’’ الطور الثالث لتلون المليباري وألاعيبه‘‘
ثم نقل عني ما يأتي:(1/321)
’’فأعيد وأكرر بأنني لم أقل إلا بما التزمه الإمام مسلم في مقدمته، وطبقه في تضاعيف كتابه الصحيح المسند كما أقره العلماء ، وأنني لم أفسر ما قاله مسلم في المقدمة إلا بواقع كتابه حسب فهمي ومعرفتي. وخلاصته: أن الإمام مسلما يرتب الأحاديث في الصحيح بحسب القوة والسلامة، وأنه يشرح العلة بذكر وجوه الاختلاف على سبيل التبع والاستطراد، وذلك في بعض المواضع في الصحيح‘‘.
ثم يتساءل الأستاذ:
’’فكم المسافة بين الطور الأول الذي ادعى فيه أن مسلما لم يخرج الطرق المنتقدة المعللة في الأصول ولا في المتابعة، وبين الطور الأخير الذي يقول فيه:’’على سبيل التبع(1)والاحتياط والاستئناس أو الاستشهاد بجزئه‘‘.
فطرح أسئلته الآتية:
’’فما معنى الاحتياط ؟!(2)
أيحتاط لعوام المسلمين بدس العلل التي لا يعرفها إلا الحفاظ ؟!
وما هو الاستئناس ؟!
وما المراد بقوله: على سبيل التبع؟! أليست هي المتابعات التي ذكر أن مسلما لا يخرج الطرق المعللة – في زعمه – في الأصول ولا في المتابعات. ومع هذا الاضطراب لا زال متشبثا بالترتيب والتقديم والتأخير‘‘.
أقول: أين التلون والاضطراب بين هذه النقاط التي جعلها أطوارا ؟!
__________
(1) - فهم الأستاذ من كلمة (على سبيل التبع) المتابعة الاصطلاحية ، لذا أشار إلى وجه التلون والاضطراب. وهذا في الحقيقة خطأ ، وإنما معناه على سبيل الاستطراد ، سيأتي توضيح ذلك.( إن شاء الله تعالى )
(2) - الاحتياط يعني أن يروي الحديث مع كونه معلولا لاحتمال أن يكون صحيحا، وبالتالي لا يكون ذكره لحديث على هذا الوجه حكما بصحته، ويكون التعليل في هذا الحال أمرا ظنيا مع احتمال صحته. وكذا الاستئناس بالحديث المعلول. وعلى كل فإن الحديث الذي يرويه احتياطا أو استئناسا لا يكون أصلا للباب ، وإنما يكون متابعة أو شاهدا.(1/322)
إن معنى كلامي الذي نقله الأستاذ: أن ذكر الحديث المنتقد في صحيح مسلم قد يكون على سبيل التبع أو الاحتياط أو الاستئناس أو الاستشهاد بما سلم من العلة، أما بيان العلة فهو بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الاستطراد والتبع، وبينهما فرق واضح. إذ إن ذكر الحديث المنتقد أو المعلول لا يعني بالضرورة أن الإمام مسلمأكان يريد شرح علته، لأن شرح العلة إنما يكون بذكر وجوه الاختلاف، إذن فهما حالتان مختلفتان لا تلازم بينهما.
وكل ما نقله الأستاذ من كلامي من أجل برهنته على التلون والاضطراب كان متعلقا بصنيع الإمام مسلم في ذكر هذه الروايات في الصحيح، والدفاع عنه.
أما قولي’’على سبيل التبع‘‘ فمن المؤسف أن الأستاذ لا ينصرف ذهنه إلا إلى ما هو أبعد. ومن الذي لا يفهم معنى كلمة (على التبع) أنه غير مقصود لذاته، وإذا ذكر شيء لغير قصد أصلي يكون على التبع والاستطراد أي تبعا للموضوع المقصود، ولا يلزم منه أن يكون معنى كلمة (على سبيل التبع) المتابعة الاصطلاحية.
إن كانت المتابعات تذكر في صحيح مسلم على سبيل التبع فإنها تكون من أجل التقوية. وأما وجوه الاختلاف التي تذكر على سبيل التبع تبعا للمناسبة فالغرض منها بيان العلة وليس التقوية. هذا هو الفرق بينهما. والأستاذ يفهم منه أن كل ما يذكر تبعا للموضوع فهو ’’متابعة‘‘ !
سارت مشرقة وسرت مغربا فشتان بين مشرق ومغرب
إذن لا يرجع أمر التناقض والتفاوت هنا إلى تلون المنهج ولا إلى تطوره، وإنما يرجع إلى غلط الأستاذ في فهمه لتلك النصوص.
وكم أخطأ الأستاذ، ثم بنى على أخطائه حواره وهجومه الظالم.!!
هل الاستدلال بالأقوال تلون واضطراب ؟!
يقول الدكتور ربيع – وهو بصدد بيان تلون خصمه واضطرابه - :(1/323)
’’ومن طوره الثالث: أنه يستشهد بأقوال بعض العلماء لتأييد منهجه في الترتيب الذي تبنى عليه العلل، فلا يأتي إلا بما يدينه ويكشف عواره، والمسكين لا يدرك ذلك‘‘(1).
ثم نقل قول الحافظ ابن حجر، وهو قوله :
’’... بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد ، واقتصر على الأحاديث، دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعا(2)لا مقصودا‘‘
فعلق عليه الأستاذ بما يأتي:
’’ أليس هذا الكلام حجة عليك ؟!
فهل الخلاف بيني وبينك في إخراج الموقوفات على سبيل الندرة تبعا لا مقصودا ؟!،
إن الخلاف الخطير بيني وبينك: أنك تدعي في طورك الأول في أحاديث خرجها مسلم في صحيحه من طرق رجالها من أرقى رجال الطبقة الأولى، ادعيت أنت أن مسلما أخرجها خارج الأصول والمتابعات. وفي طورك الثاني وضعت قاعدة في الترتيب والتقديم والتأخير تنسف معظم أحاديث صحيح مسلم، فلقد قلت: فإذا رأينا المخالفة في الترتيب في الظاهر فينبغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك ، وهذا الذي وقع هنا في رواية أيوب ...‘‘، وكررتَ وأكدتَ مثل هذا الباطل المدمر، بل نسفتَ طرقا بهذه القاعدة أرقى وأقوى من طريق أيوب في هذا الموضع بالذات وفي غيره ، وأشرت إلى ما تسميه في بعض المواضع، وقاعدتك تنسف جل المواضع‘‘.
ثم نقل نصا للإمام النووي(3)وهو قوله :
__________
(1) - أسأل الأستاذ بغض النظر عن مدى صحة الاستدلال: هل الاستدلال بأقوال العلماء تلون وتغير وطور جديد أم استمرار في الطور الأول ؟!
والأستاذ كعادته بدأ يسخر من استدلالي بأقوال العلماء دون أن يعرف وجه الاستدلال بها مع كونه واضحا. وما كنت أستدل بأقوال العلماء على بيان العلل بالتقديم والتأخير، وإنما على وجود بيان للعلل في صحيح مسلم على سبيل الاستطراد.
(2) - أخشى أن يفهم الشيخ من قول الحافظ (تبعا) أي متابعة ؟!
(3) - شرح النووي 11/112(1/324)
’’وهذا الاستدراك فاسد، لأن مسلما لم يذكره متأصلا، وإنما ذكره متابعة للطرق الصحيحة السابقة، وقد سبق أن المتابعات يحتمل فيها الضعف لأن الاعتماد على ما قبلها، وقد سبق ذكر مسلم لهذه المسألة في أول خطبة كتابه، وشرحناه هناك، وأنه يذكر الأحاديث الضعيفة متابعة للصحيح‘‘
فعلق عليه الأستاذ بقوله:
’’فتعلقك بكلام النووي والحافظ ابن حجر باطل باطل، لأن كلامهما ضدك، وهو حجة من حججي عليك، لأن منهجك يعلل ويقدح في أصح الطرق وأقواها في كل باب إذا أخرها مسلم، ولا ترى على الأقل أنه أوردها في المتابعات مقويا بها الأصول، بل ترى فيها اضطرابا وعللا‘‘.
وانتقل الدكتور ربيع إلى ما تعود عليه من الدعاوى الفارغة، فقال:
’’والحاصل أنك تورد أقوال العلماء في غير محل النزاع بيني وبينك، فتكون حجة عليك لا لك ، وتكون نصرة لخصمك من حيث لا تدري، فلله الحمد‘‘.
مؤاخذات على قول الأستاذ
أقول: في تعليق الأستاذ مؤاخذات عدة، وهي:
أولا : لم يركز على إبراز وجه التلون والتغيير والاضطراب في كلامي ، يبدو – والله أعلم - أنه لا يهمه ذلك، بقدر ما يهمه التلبيس والشغب.
ثانيا: إن منهج مسلم في الترتيب منهج علمي يدل على عبقريته ودقته المتناهية في فهم روايات الحديث، وملابساتها. والأستاذ استعجل في فهم النص وأخطأ فيه خطأ فادحا ثم بنى عليه حواره .
انظر إليه كيف فسر كلامي، فعندما قلت له:
’’ فينبغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك‘‘.
فسره الأستاذ بقوله: ’’أي أدرك علة‘‘. ثم بنى على فهمه المغلوط قوله:
’’ وكررتَ وأكدتَ مثل هذا الباطل المدمر، بل نسفت بهذه القاعدة أرقى وأقوى من طريق أيوب في هذا الموضوع بالذات وفي غيره، وأشرت إلى ما تسميه في بعض المواضع، وقاعدتك تنسف جل المواضع ‘‘.(1/325)
أقول : أوليس هذا كذب مكشوف ! فما نسفت بهذا الذي يسميه الأستاذ قاعدة، حديثا من صحيح مسلم، انظر حديث الأعمش الذي يشير إليه الأستاذ بهذا الكلام في القسم الأول .
وكلمة ( شيئا) تفيد العموم في اللغة العربية، وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في كتابي (عبقرية الإمام مسلم). وعلى الرغم من كون هذا الكتاب خاصا ببيان منهج مسلم في ترتيب الأحاديث فإنه لم يتضمن حديثا واحدا تم تضعيفه بناء على هذا المنهج. ومع كل ذلك يأبى إلا أن يَعْمَهَ في خطئه الذي أوضحناه.
وكان ينبغي له أن يفهم منها شيئا مبهما دون تقييده، بحيث يحتمل أن يكون المراد بها العلة أوالغرابة أو النزول أو عدم التسلسل أو غيرها من الأسباب التي شرحتها من قبل أكثر من مرة، لا سيما في كتاب (عبقرية الإمام مسلم). ولا ينبغي أن يستعجل في الفهم ويقيدها بالعلة دون غيرها.
لو كان مقصودي منها هو العلة فقط لقلت (الشيء) معرفا بالألف واللام، والفرق بين لفظة (الشيء) ولفظة (شيء) يعرفه الطلبة المبتدئون، لكن الأستاذ تجاهله.
الواقع أن هذا الذي نقرأه هو تلون عجيب للأستاذ، فإنه على مذهبه الشاذ ينبغي أن يترك لفظ (شيئا) على عمومه، إلا أنه حاد هنا عن هذا الرأي لغرض ما، فأخذ يخصص اللفظ المبهم بالعلة دون غيرها من الأسباب التي سبق ذكرها في مواطن مختلفة، بحجة أني طبقتها في حديث معمر عن أيوب.
إذا كان الأستاذ يقيد هذا المطلق بما هو مطبق في حديث معمر عن أيوب فإنه ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار ما شرحناه من الخصائص والأسباب الأخرى غير العلة، ثم طبقنا ذلك في كثير من الأمثلة.
وليس من الإنصاف أن يأخذ ما يريد من الأسباب، ويقيد به الجملة، ويترك الباقي.(1/326)
وعلى كل فإن ما أطلقته عمدا ليكون شاملا لجميع ما له صلة بالخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية التي لها ظهور فاعل في التفاضل بين الأسانيد لدى المحدثين قاطبة، لا ينبغي تقييده أو تخصيصه بسبب دون سبب فإن ذلك يكون من الزلل والمجازفة والتضليل.
وأعود إلى موضوع الفصل الثاني وأسأل:
أين وجه التلون بين الأطوار ؟!
أما قوله فيما يخص قول الحافظ ابن حجر والنووي فغير منهجي. ذلك لأني لم أنقل قوليهما ضمن أقوال أخرى - وهي كثيرة - لغرض الاستدلال على الترتيب ولا على بيان العلة، وإنما أتيت بتلك الأقوال للبرهنة على أن الإمامين: البخاري ومسلما يذكران في صحيحيهما مالم يندرج تحت شروطهما من الأحاديث، كالمعلقة والآثار الموقوفة على الصحابة أو التابعين خارج الأصول على سبيل الاستطراد والندرة ولهدف جانبي.
إذا كان ذكر المعلقات والآثار في صحيحيهما لأسباب علمية لا يشكل لدى الأستاذ خرقا لأصل موضوعيهما فإن بيان العلل على سبيل الندرة والاستطراد الذي هو محل الخلاف بيني وبينه لا يتعارض مع موضوع الكتابين أيضا.
وأسوق هنا ما ذكرته في كتابي (العبقرية )، وهذا نصه:
’’ يقول الحافظ ابن حجر:’’... بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد ، واقتصر على الأحاديث ، دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعا لا مقصودا‘‘.
وعلقت عليه بما يأتي :
’’ ولا أظن أحدا يفهم من قول الحافظ ابن حجر هذا أن موضوع صحيح الإمام مسلم ليس الأحاديث المرفوعة فحسب، بل الآثار الموقوفة أيضا، كما لا يفهم أحد من ذلك أن الحافظ ابن حجر يدعي بأن الإمام مسلما قد أخل بشرطه في صحيحه، وأنه أدرجه في نوع المصنفات. كلا لأنه قال : ’’لم يعرج الإمام مسلم على الموقوفات إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعا لا مقصودا‘‘.(1/327)
’’ونحن نريد بهذا الاستطراد أن نلفت الانتباه إلى ما أكده علماؤنا سابقا أن الصحيحين يضمان الأصول والمتابعات، أو بعبارة أخرى المقاصد وخارجها، وأن الإمامين قد يأتيان في المتابعات بمالم تتوافر فيه شروط الصحيح لأغراض علمية ثانوية، ونعرض هنا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ما صرح به أئمتنا في هذا الصدد‘‘(1)
ثم أتيت بنصوص الأئمة للبرهنة على أن الصحيح فيه الأصول وما يعد خارجها، ومن تلك النصوص نص الإمام النووي الذي آثره الأستاذ للتعقيب عليه بما سبق.
وعلى هذا فقول الأستاذ :
’’فتعلقك بكلام النووي والحافظ ابن حجر باطل باطل ‘‘.
كل ذلك مجازفة وتضليل لا أساس له من الصحة.
والرجل يعتمد دائما على خطئه القديم الذي وقع منه في أول الحوار ثم أصر عليه بعد كل تلك التوضيحات لغرض في نفسه. وهنا فقد أعاد الخطأ نفسه ، وهو قوله :
’’ لأن منهجك يعلل ويقدح في أصح الطرق وأقواها في كل باب إذا أخرها مسلم‘‘
إذا كان الأستاذ ينزعج بما ذكرت من الأقوال بدعوى أنها خارج محل النزاع، فلماذا يبرر ذلك في حقه؛ إذ عقد فصلا خاصا لبيان التزام مسلم بالصحة في صحيحه مع كونه خارج موضوع النزاع بيني وبينه؟!.
ثالثا: لقد شرحت في كتابي (عبقرية الإمام مسلم ) بشيء من التفصيل ما يهتم به المحدثون عموما في رواية الأحاديث، وتفضيل بعضها على بعض، من خصائص الإسناد ولطائفه؛ فيها ما يتصل بحال الراوي، وفيها ما يتصل بالإسناد ، وفيها ما يتصل بالمتن كأن يكون الراوي إماما أو يكون الإسناد عاليا أو مسلسلا أو تكون الرواية مشهورة أو غير ذلك، ذلك من أجل بلورة منهج الإمام مسلم في ترتيب أحاديثه في مسنده الصحيح حيث استخرجتها بعد دراسة تحليلية لتلك الأمثلة التي ساقها الأستاذ ليبرهن بدوره على عدم مراعاة مسلم الترتيب فيما يرويه في كتابه (الصحيح) من الأحاديث.
لكن الأستاذ علق على ذلك - بعد أن سخر مني كعادته - بقوله:
__________
(1) - العبقرية ص: 32(1/328)
’’ فأي تقول على مسلم أظهر من هذا الذي تقوله عليه، فأين قال مسلم: إنه يراعي هذه الخصائص؟! لا سيما إذا كان في أسانيدها من هم من الدرجة الثانية‘‘.
’’ولقد اعتمد المليباري اعتمادا كبيرا على هذه الخصائص: الشهرة والعلو والتسلسل، في عناده ومكابراته في رده علي، ومناقشته الساقطة للأمثلة التي بينت فيها بالأدلة الواضحة من كتاب مسلم أنه لم يلزم نفسه بالترتيب.. والذي غلا فيه المليباري غلوا لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم، ولم يسبقه إليه أحد، حتى إنه ليصور الإمام مسلما أنه قد بلغ درجة من التكلف والتنطع لا تخطر على بال عتاة الفلاسفة المتنطعين المتكلفين، ولم يأبه بقول مسلم أنه ألف هذا الكتاب ليستفيد منه عامة الناس، بل نفى أن يكون ألفه لخاصة أهل الحديث، فكيف بعد كل هذا يؤلف للفلاسفة المتنطعين المتهوكين ؟؟!‘‘(1)
أقول: كأن الأستاذ لم يسمع من قبل مدى اهتمام المحدثين بخصائص الإسناد، وحرصهم الشديد على تطبيقها عند الرواية، وإلا فما صدر منه في الفقرات السابقة لم يكن إلا للشغب.
كيف يجهل ذلك من يشتغل بالحديث؟! مع أن رحلات المحدثين كانت معظمها من أجل علو سندهم في الأحاديث، ثم ليطبقه عند الرواية، لا سيما عند التأليف والمذاكرة. ومن لا يدري أن أصل الاستخراج والهدف منه هو العلو؟!(2)
__________
(1) - تنكيل الدكتور ربيع ص: 39 - 42
(2) - يقول الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/568) :
’’ ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل؛ كالقعنبي عن أفلح بن حميد، ثم حديث حماد بن سلمة وهمام ومالك والليث، وليس في الكتاب حديث عال لشعبة ولا للثوري ولا لإسرائيل، وهو كتاب نفيس كامل في معناه. فلما رآه الحفاظ أعجبوا به، ولم يسمعوه لنزوله فعمدوا إلى أحاديث الكتاب فساقوها من مروياتهم عالية بدرجة وبدرجتين ونحو ذلك حتى أتوا على الجميع هكذا وسموه المستخرج على صحيح مسلم فعل ذلك عدة من فرسان الحديث منهم أبو بكرمحمد بن محمد بن رجاء وأبوعوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني وزاد في كتابه متونا معروفة بعضها لين والزاهد أبو جعفر أحمد بن حمدان الحيري وأبو الوليد حسان بن محمد الفقيه وأبو حامد أحمد بن محمد الشاركي الهروي وأبو بكر محمد بن عبدالله بن زكريا الجوزقي والإمام أبو علي الماسرجسي وأبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد الأصبهاني وآخرون لا يحضرني ذكرهم الآن.
أقول : في قول الذهبي : ( ولم يسمعوه ) نظر، لأن السماع يتوسع فيه من غير تحفظ؛ فيسمع المحدث الحديث عاليا ونازلا، لكن عند الرواية يفضلون العالي ، وإذا لم يجدوه رووه نازلا. وعلى كل فالعلو والنزول قد نالا اهتماما كبيرا لدى المحدثين عامة، وكلما يكون الحديث أعلى يكون أفضل .(1/329)
وليس أدل على اهتمام المحدثين بعلو الأسانيد من أن الإمامين: البخاري ومسلم تركا رواية أحاديث مالك عن طريق الإمام الشافعي مع جلالته، كما قال الخطيب البغدادي:
’’فتركُ البخاري الاحتجاج بالشافعي لألمعنى يوجب ضعفه، لكن غَنِيَ عنه بما هو أعلى منه، إذ أقدمُ شيوخ الشافعي مالكٌ والدراوردي وداود العطار وابن عيينة، والبخاري لم يدرك الشافعيَّ، بل لقي من هو أسن منه ؛ كعبيد الله وأبي عاصم ممن رووا عن التابعين، وحدثه عن شيوخ الشافعي عدةٌ. فلم ير أن يروي عن رجل عن الشافعي عن مالك‘‘(1).
ثم قال الخطيب: ’’إنه لم يرو حديثا نازلا، وهو عنده عال ، إلألمعنى ما يجده في العالي. فأما أن يورد النازل وهو عنده عال لألمعنى يختص به ولا على وجه المتابعة لبعض ما اختلف فيه، فهذا غير موجود في الكتاب‘‘(2).
وينبغي أن نفهم من قول الإمام مسلم في المقدمة’’ فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى‘‘: أنه يقدم الأصح فالأصح، إذ لم يقل: فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم أحاديث الثقات، بل قال: ’’أسلم من العيوب‘‘.
كيف تكون الأحاديث التي تشكل القسم الأول أسلم من العيوب؟! هل يكون ذلك لمجرد كون الراوي ثقة أو إماما؟! كلا. فإن العمل التطبيقي للإمام مسلم يوضح ذلك بجلاء، بل إن سياق كلامه مما يفسر به.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء 10/96
(2) - المصدر السابق(1/330)
وأما قوله ’’ من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث ..‘‘ فيكون على سبيل المثال، دون الحصر في أحوال الرواة. فإن صحة الحديث تتوقف على شروط عدة؛ مثل العدالة، والاتصال، والخلو من شذوذ وعلة. وقد تطرق مسلم لكل ذلك بالتفصيل في مقدمته، ومبحث العنعنة ومعرفة علامة المنكر وتقسيم الرواة إلى ثلاث مراتب كل هذا لم يكن إلا في ذلك الإطار. ولا تتحقق سلامة الحديث من عيوب الانقطاع والخلو من الشذوذ والعلة بمجرد كون الراوي ثقة ولا أوثق. هذا أمر بدهي لا يختلف فيه أحد من المحدثين النقاد.
وعليه فما ذكره مسلم فيما يتصل بالرواة ورتبهم في سلم الجرح والتعديل يكون ذلك على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر؛ إذ كل ما من شأنه أن يجعل الحديث أسلم من العيوب وأبعد من كل إشكال وغموض فهو أمر مطلوب يراعيه الإمام مسلم في ترتيبه للأحاديث، كما يأتي في دراسة الأمثلة.
فكلما تكون الرواية مستوفية لشروط الصحيح، بأكمل وجه، وأوضح صورة، حتى صارت أبعد من أي احتمال للانقطاع، وأبعد من الشذوذ والعلة، لشهرتها بين الرواة الثقات وتسلسلها وعلوها وجودة متونها، فإنها تكون في مقدمة الروايات الصحيحة وقمتها.
انظر إلى اهتمام مسلم بالعلو وجودة المتون في التقديم والترجيح:
جاء في كتاب تدريب الراوي للإمام السيوطي:
’’ فقد روينا أن أبا زرعة أنكر عليه روايته عن أسباط بن نصر وقطن وأحمد بن عيسى المصري فقال: إنما أدخلت من حديثهم ما رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول، فأقتصر على ذلك. ولامه أيضا على التخريج عن سويد . فقال: من أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة بعلوّ‘‘ ؟!(1)
هذا وقد وجدنا ذلك مجسدا في الأمثلة التي سنذكرها في هذا القسم.
__________
(1) - 1/98، انظر سير أعلام النبلاء 12/571(1/331)
لعل من الأفضل أن نسرد بعض النماذج لتقديم مسلم بعض الأحاديث لجودة المتن، الأمر الذي يؤكد أن ما ذكره في المقدمة من أحوال رواة القسم الأول، إنما هو على سبيل التمثيل، وليس على سبيل الحصر.
منها قول الإمام مسلم:
’’حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا إسماعيل عن الشعبي عن مسروق قال: سألت عائشة هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فقالت سبحان الله لقد قف شعري لما قلت . وساق الحديث بقصته . وحديث داود أتم وأطول‘‘.
فقدم مسلم رواية داود عن الشعبي على رواية إسماعيل عن الشعبي لأن حديثه أتم وأطول(1).
والجدير بالذكر أنه أورد في هذا الباب قبل رواية الشعبي روايات أخرى. وهذا الترتيب الذي ذكرته إنما هو فيما يخص حديث الشعبي .
ومنها قوله :
’’وحدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد وحديث جرير أتم وأشبع‘‘.(2)
لقد قدم مسلم حديث جرير عن عبد الملك بن عمير على حديث أبي عوانة عن
عبد الملك بن عمير لكون متنه أتم وأشبع.
ومنها قوله:
’’وحدثناه محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق بهذا الإسناد، غير أن حديث منصور أتم وأكثر ‘‘.(3)
إذ قدم مسلم حديث منصور عن أبي إسحاق لكونه أتم من حديث شعبة عن أبي إسحاق . والجدير بالذكر أن هذا الترتيب بالنسبة إلى حديث أبي إسحاق .
ومنها قوله:
’’وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا ابن فضيل ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية جميعا عن عاصم الأحول بهذا الإسناد، غير أن حديث حماد أتم وأطول ‘‘.(4)
قدم مسلم حديث حماد عن عاصم على رواية هؤلاء، لكون متنه أتم وأطول.
ومنها قوله:
__________
(1) - انظر باب معنى قول الله عز وجل +ولقد رآه نزلة أخرى ...." 1/160
(2) - انظر باب في قوله تعالى +وأنذر عشيرتك الأقربين" 1/192
(3) - انظر باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1/523
(4) - باب البكاء على الميت 2/636(1/332)
’’وحدثنا عبد الرحمن بن بشر حدثنا سفيان قال عمرو عن بن أبي مليكة كنا في جنازة أم أبان بنت عثمان وساق الحديث ولم ينُصَّ رفعَ الحديث عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نصه أيوب وابن جريج وحديثهما أتم من حديث عمرو ‘‘.(1)
فقدم مسلم حديث أيوب وابن جريج عن ابن أبي مليكة على حديث عمرو عن ابن أبي مليكة .
ومنها قوله:
’’وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة، بهذا الإسناد بمعنى حديث أبي أسامة وحديث أبي أسامة أتم ‘‘.(2)
قدم مسلم حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة على حديث وكيع لكون المتن أتم.
ومنها قوله:
’’وحدثني أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد يعني بن زيد ح وحدثني يحيى بن يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان كلاهما عن ثابت عن أنس قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فذكر بمعنى حديث عبد العزيز عن أنس غير أن حديث عبد العزيز أتم ‘‘.(3)
فقدم مسلم حديث عبد العزيز عن أنس على حديث ثابت عن أنس، لكون المتن أتم .
وغيرها من المواضع من صحيح مسلم(4).
وهذا الإمام مسلم يصرح بتقديم حديث على حديث لكونه أبعد من الغلط والعلة، وليس لكون راويه أوثق. انظر إلى قول مسلم في التمييز:
’’رواية بشير بن يسار أصح الروايتين‘‘ وأعاده في النهاية بقوله: ’’ وحديث بشير بن يسار في القسامة أقوى الأحاديث وأصحها‘‘ يعني من رواية أبي ليلى بن عبد الله بن
عبد الرحمن عن سهل بن أبي حثمة.
__________
(1) - باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 2/642
(2) - انظر الباب نفسه 2/643
(3) - انظر باب فيمن أثنى عليه خير أو شر من الموتى 2/656
(4) - انظر 3/1220، 1239، و 4/1912 ، 1995، 2082، 2093، 2224.(1/333)
ثم رأينا الإمام مسلما في صحيحه قد طبق ذلك؛ حين أورد حديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار، وصدر به الباب، ثم ذكر حديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار، وختم الباب بحديث أبي ليلى عن سهل بن حثمة الأنصاري(1).
ومن أمعن النظر في هذه الروايات علم أن هذا الترتيب والتقديم والتأخير ليس بناء على مراتب الرواة وطبقاتهم التي لخصها الحافظ ابن حجر في التقريب، وإنما لكون الحديث أكثر سلامة من علة وشذوذ.(2)
والجدير بالذكر أن بشير بن يسار وأبا ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ثقتان.
وقال النووي في حديث تتبعه الدارقطني :
(
__________
(1) - كتاب القسامة والمحاربين .. ، باب القسامة 11/151 ( شرح النووي)
(2) - قال الإمام مسلم في التمييز (ص: 144 - 146) عن حديث سعيد بن عبيد : ’’هذا خبر لم يحفظه سعيد بن عبيد على صحته ، ودخله الوهم حتى أغفل موضع حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته ‘‘.
وقال أيضا: بعد أن ساق جميع ما رواه مسلم هنا في صحيحه من الروايات عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار وغيرها :
’’ وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم البينة ، إلا ما ذكر سعيد بن عبيد في خبره ، وترك سعيد القسامة في الخبر فلم يذكره ، وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقتضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة‘‘.
وبعد أن رأينا قول الإمام مسلم نفسه يمكن القول بأنه أخر حديث سعيد بن عبيد لهذه العلة التي بينها . فروى من حديثه ما وافقه فيه غيره ، أما حديث أبي ليلى الذي ختم به مسلم فقد صرح بـ ’’أن رواية بشير أصح الروايتين‘‘ يعني رواية بشير ورواية أبي ليلى.(1/334)
وذكر مسلم في الباب اختلاف طرق هذا الحديث ، فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ، ثم رواه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة . ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبي معاوية ، ولا خرجه من طريقه ، بل خرجه من طريق آخر ، وعلى كل حال فالمتن صحيح لا مطعن فيه ) اهـ بتصرف.
وقال ( في مناسبة حديث آخر) :
( وهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة، لأن أولاد سعد تابعون، وإنما ذكر مسلم هذه الرواية المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك)
يعني أن المتن صحيح ، وقد أخرجه مسلم أولا بأسانيد نظيفة خالية من الاختلاف(1)، قصد اعتماده عليها ، ثم أورده من طريق حميد بن عبد الرحمن المعلول(2)، مبينا الاختلاف الذي وقع بين رواته في الإرسال والوصل.
وقال أيضا في مواقيت الحج 8/81:
(
__________
(1) - عقبه الأستاذ بقوله ( ص: 159): ’’ ثم إنك تصرف في قولك : أسانيد نظيفة تقابلها بأسانيد في صحيح مسلم صحيحة ؛ توهم أنهأليست نظيفة ، والنظافة تقابل القذارة والوساخة‘‘
أقول : هذه من ثقافة الأستاذ !! وأسأله: هل الحديث المختلف في وصله وإرساله أنظف إسنادا من الحديث الذي لم يختلف فيه الرواة؟! ثم إن ابن الصلاح قد عبر بذلك حين قال: ’’ وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف ‘‘.
(2) - علق عليه الأستاذ بقوله ( ص: 159): ’’ فمتى سمى هذه الطرق معلولة ؟! ومتى قال : إن هذا الاختلاف قادح ؟! فهل أنت تتعمد الكذب ، أو يجري على لسانك من حيث لا تشعر ..؟!‘‘
أقول : ماذا يسمى الحديث المختلف في رفعه ووقفه أو وصله وإرساله في لغة المحدثين ؟!
الجواب : يسمى معلولا إذا لم يمكن الجمع بين الوجوه المختلفة. قد يكون مضطربا أو شاذا أو منكرا. ألم تسمع قول ابن الصلاح: قد كثر التعليل بوصل ما هو مرسل أو رفع ما هو موقوف ؟!(1/335)
ذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث، حديث ابن عباس أكملها، لأنه صرح فيه بنقله المواقيت الأربعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلهذا، ذكره مسلم في أول الباب، ثم حديث ابن عمر لأنه لم يحفظ ميقات أهل اليمن ، بل بلغه بلاغا، ثم حديث جابر، لأن أبا الزبير قال: أحسب جابرا رفعه، وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعا).
إن هذه النصوص واضحة بدلالتها على أن الإمام النووي يرى أن الإمام مسلما يرتب الأحاديث حسب الخصائص الإسنادية والحديثية، إذ بين وجه الترتيب هنا، ليس بتقديم رجال أهل الطبقة الأولى على الطبقة الثانية، بل بتقديم الحديث حسب الشهرة وجودة المتن. وتوضيح ذلك فيما يأتي:
أما المثال الأول فلشهرة رواية الأعمش عن أبي حازم، حين قال :
’’فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ، ثم رواه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة‘‘.
أما في المثال الثاني – وهو حديث المواقيت - فسبب الترتيب لكون متن الحديث الأول أكمل وأجود من الحديث الثاني؛ إذ تضمن ذكر المواقيت الأربعة، والحديث الثاني الذي أخره مسلم أنقص، مع أنه مشكوك في رفعه. فتبين بهذا أن الإمام النووي يؤمن أيضا بخصائص الإسناد ولطائف الحديث. ولست وحيدا في الساحة كما حاول الأستاذ أن يوهم القارئ بذلك.
من تتبع شرح النووي لصحيح مسلم وفتح الباري للحافظ ابن حجر وجد أمثلة لا تحصى لحرص المحدثين على الأحاديث التي تتميز بالخصائص، واللطائف، كالشهرة والتسلسل والعلو وجودة المتن وغير ذلك مما سبق .
أقصد بذلك أن المحدثين عموما يعطون عناية كبيرة للخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية التي يعولون عليها في التفاضل بين الروايات والأحاديث، وقد ظهرت هذه العناية المألوفة لديهم في ترتيب الإمام مسلم لأحاديثه ورواياته في الصحيح.(1/336)
فعلى سبيل المثال يقول الحافظ ابن حجر في توجيهه سبب افتتاح الإمام البخاري كتابه بحديث (إنما الأعمال بالنيات) عن طريق الحميدي عن سفيان عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن علقمة عن عمر مع كون حديثه ناقصا :
’’ البخاري امتثل بقوله صلى الله عليه وسلم (قدموا قريشا)؛ فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي لكونه أفقه قرشي أخذ عنه، وله مناسبة أخرى لأنه مكي كشيخه فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي لأن ابتداءه كان بمكة ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك لأنه شيخ أهل المدينة وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل. ومالك وابن عيينة قرينان‘‘
هذا فهم الحافظ ابن حجر في بيان وجه بدء البخاري برواية الحميدي عن سفيان، والخلاصة في ذلك: أن الرواية مسلسلة بالمكيين بعد يحيى بن سعيد، إلى جانب كون الحميدي قرشيا حتى يكون ذلك امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم (قدموا قريشا).(1)
ثم إنه ليس كل شيء ينسب إلى المحدثين يتوقف على التصريح، بل عملهم التطبيقي يعد أوثق من التصريح. ولذأكان العلماء يعتمدون في فهم منهج المتقدمين على استقراء كتبهم؛ مثلا فيما يخص شرط البخاري فإن بعض العلماء قاموا باستقراء كتابه الصحيح فاستخلصوا شروطه.
وإذا سأل الدكتور ربيع: هل صرح البخاري بشروطه في الصحيح؟! فالجواب: نعم، بينها البخاري بعمله التطبيقي في تضاعيف كتابه الصحيح. وكذا ما يتعلق بخصائص البخاري في صحيحه.
__________
(1) - هل يستطيع الأستاذ أن يقول في صنيع الحافظ ابن حجر القائم على الاستقراء كما قال في عملي: ’’غلو لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم، ولم يسبقه إليه أحد، حتى إنه ليصور الإمام البخاري أنه قد بلغ درجة من التكلف والتنطع لا تخطر على بال عتاة الفلاسفة المتنطعين المتكلفين‘‘ ؟! كلا ، لأن ذلك من مظاهر التكبر، الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بطر الحق وغمط الناس.(1/337)
كما قام الحافظ ابن حجر وغيره بتحرير مسائل كثيرة عن طريق الاستقراء. والاستقراء منهج مشهور يعول عليه قديما وحديثا لتحرير كثير من المسائل. وجهل الأستاذ بهذه الحقائق أو تجاهله لا يغير الواقع، ولا يضر من فهمه واقتنع به.
ولم يكن عملي في كتابي (عبقرية الإمام مسلم) إلا في إطار الاستقراء، وبناء عليه قلت:
’’فأعيد وأكرر بأنني لم أقل إلا بما التزم مسلم في مقدمة صحيحه‘‘
’’ وإنني لم أقل إلا بما صرح به الإمام مسلم في مقدمته بدون زيادة أو نقص‘‘
أعني بذلك ترتيب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح، وبيان العلل على سبيل الاستطراد، وهذا مما صرح به مسلم فعلا، وطبقه في كتابه. وحين سئل عن سبب إخراج الحديث من رواية بعض الضعفاء برر مسلم ذلك بعلو الإسناد بالنسبة إليه، وجعله من أهم الخصائص التي تجعل الحديث أفضل وأصح حتى من رواية الثقات النازلة، هذا طبعا بعد صحة الحديث. لأنه لا قيمة للعلو إذا كان الحديث ضعيفا معلولا، وهو معلوم بالبداهة.(1/338)
أما الخصائص التي تجعل الحديث أصح فلم تنحصر عند المحدثين عموما في أحوال الرواة، بل هناك خصائص كثيرة تجعل الحديث أصح، لكن الوقوف عليها يحتاج إلى بحث استقرائي لعادات المحدثين في التقديم والتأخير أعني الترجيح والتفضيل؛ كالعلو والتسلسل والشهرة وغيرها من الخصائص(1).
الخلاصة: إن كان مسلم قد صرح ببعض الخصائص، ألا وهو أن يكون الحديث من رواية الثقات الذين هم أهل استقامة في الحديث وإتقان لما يرويه، فيما يخص التقديم والترتيب، فإن ذلك لم يكن إلا على سبيل المثال، وليس على سبيل الحصر، ومما يؤكد ذلك عمله التطبيقي في تضاعيف كتابه.
__________
(1) - هناك كثير من القضايا النقدية يجهلها أو يسيء إليها بالفهم المغلوط كثير من الباحثين اليوم، لعدم وجود نصوص صريحة فيها من السابقين ، وعدم اهتمامهم بالدراسات الاستقرائية لكتب النقاد. فعلى سبيل المثال مسألة القرائن وفقهها؛ فإنها غير متداولة بين الباحثين ، بل كثير منهم يتشبثون بالتفكير السطحي، ويجعلونها محصورة في بعض الأمور الظاهرية؛ مثل كون الراوي ثقة أو أوثق، وذلك واضح مما يحفظونه من تعريف الشاذ والمنكر. كقولهم : الشاذ ما رواه الثقة مخالفا لمن هو أوثق منه، بدلا من قولهم ما رواه الثقة مخالفا لمن هو أولى بحفظ ذلك . قد يكون هذا أوثق أو ثقة أو صدوق ، لأن المهم أن يكون الراوي أولى بحفظ ذلك الحديث بعينه، سواء أكان أوثق أم ثقة أم صدوقا .
وإذا تتبعت كتب العلل أو كتب الصحاح أو نصوص النقاد وجدت فيها أنواعا كثيرة من القرائن غير المذكورة في كتب المصطلح ، وأما أسباب الترجيح المذكورة في كتب المصطلح فمزيجة بين ما يقتضيه الجانب الفقهي أو القواعد الأصولية، وما تقتضيه طبيعة النقد الحديثي.
نظرا لأهمية هذا الموضوع اقترحنا إدراج (فقه القرائن) ضمن مفردات مرحلة الدكتوراه في الحديث وعلومه بالجامعة الأردنية.(1/339)
أما الأسلوب الاستقرائي لمعرفة منهج الكتاب وتحديد معالمه وتفاصيله فليس بغريب لدى المشتغلين بالعلوم الشرعية، ولا بدعة في الأبحاث العلمية.
إقرار الأستاذ بوجود شرح العلل في صحيح مسلم (!)
لما استدللت على وجود بيان العلة وشرحها في صحيح مسلم عموما بغض النظر عن طريقة شرحها وبيانها ببعض الأمثلة الواضحة الصريحة التي لا يستطيع الأستاذ رفضها علق عليه بقوله:
’’وقوله (عن أبيه) في هذا الحديث خطأ، فأنت ترى مسلما ساق الإسناد على وجه الصواب، ثم نبه على الخطأ، ولعل الحامل لمسلم على هذا التصرف أنه قد سمعه من القعنبي على الوجه الصواب، ثم سمعه منه على الوجه الخطأ، فرواه على الوجه الصواب ، ونبه على الخطأ، فالحديث صحيح عنده من هذا الطريق ، وليس بمعلول كما أرجف عليه المليباري‘‘(1)
أقول: كان على الأستاذ أن يستسلم للواقع، ويسلم بوجود شرح للعلل في صحيح مسلم على وجه الاستطراد كما وجدنا آنفا ، ويطمئن بأن ذلك لا يشكل خرقا لالتزامه الصحة في كتابه الصحيح، لكونه على وجه الاستطراد، وليس لكون الشرح بصريح كلامه.
وقد أوهم الأستاذ بطريقته الخاصة أن الخلاف بيني وبينه حول طريقة بيان العلل في صحيح مسلم، وليس في وجود شرح العلل فيه، وهذا نوع من تلون الأستاذ؛ إذ أنكر سابقا وجود هذا النوع في الصحيح، وأنه ليس من كتب العلل، وجميع ما فيه صحيح فإذا هو يقر هنا بوجود بيان العلة لكن بصريح كلامه.
وكذا حديث أبي هريرة في فضل الصلاة في المسجد النبوي، ساقه مسلم على الوجه الصواب واعتمده، ثم ساق حديث ابن عمر في الموضوع نفسه لبيان ما فيه من علة المخالفة بين أصحاب نافع. والحديث صحيح لا غبار عليه لكن ليس عن ابن عمر وإنما عن أبي هريرة.
__________
(1) - تنكيل الدكتور ربيع ص: 48(1/340)
وأنواع الخطأ والوهم كثيرة، قد تكون في قلب الإسناد، أو في تغيير اسم الراوي أو إدخال راو جديد في السند وقد تكون في المتن، وغير ذلك من أنواع الخطأ، بل كل ما هو بخلاف الواقع فهو خطأ.
انظر إلى مثال آخر: قال مسلم: ’’وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرني ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة سأل ابن عمر ... قال مسلم: (أخطأ حيث قال: عروة إنما هو مولى عزة)‘‘(1)
هذا أيضا بيان للعلة يعني بيان الخطأ في قول الراوي (مولى عروة) وبين أن الصواب ( مولى عزة) .
وعلق عليه الأستاذ بقوله :
’’ليس هذا تعليلا فلا تفرح، ولا تتعلق بخيوط العنكبوت، فإنه لم يقع هنا إبدال اسم شخص باسم شخص آخر، وعبد الرحمن هذا معروف فإنه مولى بني مخزوم، وليس هناك في الرواة من اسمه عبد الرحمن بن أيمن حتى يلتبس به، فيكون بسبب ذلك الحديث معلولا ، لكن لجهلك بهذا الشأن ولهواك ترى أن في هذا الحديث علة. وسبحان الله ! هل مسلم الذي التزم في كتابه الصحة لينتفع به عوام الناس الذين لا تمييز لهم وحارب الأحاديث الضعيفة والمنكرة ؛ يخرج الأحاديث المعللة التي هي من أشد الأحاديث ضعفا على سبيل التبع والاستطراد؟! وهو يعتبر إخراج الأحاديث الضعيفة الواضح ضعفها غشا للمسلمين فيتقصد إخراج الأحاديث المعللة التي هي أشد التباسا، والغش فيها أكبر ، هل ينسب هذا إلى الإمام مسلم ، وهذا حال مسلم عاقل ؟؟! لقد سقط تعلقك الباطل بالإمام مسلم وبغيره من العلماء ، ووقفت في العراء مكشوفا‘‘(2).اهـ
أولا : قوله: (وسبحان الله ! هل مسلم الذي التزم في كتابه الصحة لينتفع به عوام الناس الذين لا تمييز لهم وحارب الأحاديث الضعيفة والمنكرة؛ يخرج الأحاديث المعللة..)
__________
(1) - كتاب الرضاع باب تحريم طلاق الحائض10/69
(2) - التزين بالعفو خير من التقبح بالانتقام .(1/341)
أقول: إنه من مغالطات الأستاذ ومجازفاته، فقد تبين للقارئ فيما سبق أنه لم يدع أحد أن الإمام مسلما يروي الأحاديث المنكرة والمعلولة في صحيحه، كما تجلى أن الحرج في رواية الأحاديث الضعيفة إنما يكون إذا كانت روايتها على سبيل الاحتجاج بها، أو كانت دون بيان عللها، أما على سبيل بيان العلل وشرح نكارتها على سبيل الاستطراد فأمر مطلوب يحتاج إليه طالب علم، بل يكون العامي في أشد الحاجة إليه من طالب علم، ويكون شرح العلة والخطأ في أي شيء واجبا إذا اقتضت المناسبة ذلك.
ثانيا : سبق أيضا الجواب عن اكتشاف الأستاذ بمالم يخطر ببال أحد من قبل ، وهو أن صحيح مسلم إنما ألفه مسلم للعوام الذين وصفهم مسلم بالجهل والعجز.
ثالثا: أن العلة أنواع ولها صور عدة لا تحصى، والأستاذ قد فهم العلة ببعض صورها دون الأخرى، ثم جعلها محصورة في صورة واحدة التي تصورها، ليقيس عليها نصوص النقاد وتطبيقاتهم العملية. هذا أمر غير معقول، فإن قول الراوي (مولى عزة) خطأ هذا معنى العلة، والعلة لا تعني أبدا ما يقدح في المتن أو السند، وإنما تعني أنها تقدح في صحة ما وقعت فيه العلة من كلمة أو رواية أو سند أو متن.
النقطة الثالثة: خلط الأستاذ بين مسألتين منفصلتين : الترتيب وشرح العلل
مع توض يحيى المتكرر حول مسألة الترتيب ومسألة شرح العلل في صحيح مسلم على سبيل التبع والندرة، وأنهما مسألتان منفصلتان لا تلازم بينهما، لا سيما في كتابي (عبقرية الإمام مسلم)، فإن الأستاذ أبى إلا أن يتقول علي كذبا وزورا بقوله:
’’إن مسلما يورد الأحاديث من أصح الطرق مهما كثرت ومهما بلغ رجالها من الثقة والعدالة والإتقان لينبه على عللها، وتكون خارج الأصول والمتابعة ‘‘(1)
__________
(1) - ص: 29 من تنكيل الدكتور ربيع(1/342)
والعجب أن الأستاذ كان يردد هذه الأكذوبة كرا وفرا في مواضع كثيرة من تنكليه، ليضفي على هجومه الظالم الشرعية الدينية، وأسرد هنا بعض تلك المواطن حتى يعرف القارئ مدى تمسكه بها وعضه عليها بالنواجذ ، وكيف بنى عليها هجومه الظالم.
منها (ص: 20) حيث قال:
’’والقول بأن بيان العلل يفهم من الترتيب من أسمج الأكاذيب‘‘.
ومنها (ص: 21) قال فيها:
’’ ومالم يبين علته ولا شرحه هو ولا وضحه فلا يجوز شرعا ولا عقلا عند كل عاقل من عرب البشر وعجمهم أن يقول: إن فيه علة قد عرفها مسلم وقصد إيرادها في كتابه ولم يحطها بشرح ولا بيان. بل رمز إليها بترتيبه الدقيق الذي لم يذكر مسلم من قريب ولا بعيد أن يبين العلل بهذا الترتيب. ولم يفهم هذا عنه أحد من الأولين ولا من الآخرين هذا البيان الذي هو أشبه بالرموز الموغلة في الغموض والخفاء‘‘.
(ص: 44) قال فيها:
’’منهجك يعلل ويقدح في أصح الطرق وأقواها في كل باب إذا أخرها مسلم، ولا ترى على الأقل أنه أوردها في المتابعات مقويا بها الأصول، بل ترى فيها اضطرابا وعللا ‘‘
ومنها (ص: 43) قال فيها :
’’ وكررتَ وأكدتَ مثل هذا الباطل المدمر، بل نسفت طرقا بهذه القاعدة أرقى وأقوى من طريق أيوب في هذا الموضع بالذات وفي غيره وأشرت إلى ما تسميه في بعض المواضع ، وقاعدتك تنسف جل المواضع‘‘(1)
ومنها (ص:46) يقول فيها:
__________
(1) - اللهم إني بريء مما قاله الأستاذ كذبا وزورا. وما ضعفت حديثا رواه مسلم في صحيحه، لمجرد ذكر هذه الرواية في آخر الباب، وإنما فهمت علتهألما أعلها الإمام الدارقطني في كتابه التتبع، واقتنعت بقوله، وأما ما يقوله الأستاذ إني طبقت هذه القاعدة في أرقى رواية فلعله يقصد حديث الأعمش، والواقع أني لم أطبق فيه شيئا مما تقوَّل علي. وللأسف أن الأستاذ لم يكن موفقا في فهمه ما يتصل بذلك الحديث. انظر تفصيل الكلام فيه ص : ( ) من هذا الكتاب(1/343)
’’إن الخلاف بيني وبينك في أحاديث يوردها مسلم في صحيحه وهي من أصح الطرق محتجا بها ، فتقول : أنت : إنما أوردها مسلم خارج الأصول والمتابعات لبيان عللها، وتستدل على ذلك بالترتيب والتقديم والتأخير؛ ذلك المنهج الخبيث الذي افتعلته وألصقته بالإمام مسلم وصحيحه‘‘(1)
ومنها ( ص: 47) :
’’مع تشبثك بالترتيب والتقديم والتأخير وبناء العلل عليهما؛ مما يدل على مرض واضطراب عقلي وهوى أعمى، لا يردعها إلا سلطان مثل سلطان الرشيد والمهدي في أمثالك‘‘(2)
__________
(1) - هذا أيضا كذب محض أتبرأ منه إلى الله تعالى ، ولم أخاطبه بما يدل على ذلك أبدا. ونصوصي هي ما نقله الأستاذ نفسه. وإنما الخلاف بيني وبينه حول حديث ابن عمر الذي أعله النقاد؛ يقول الأستاذ إنه صحيح، وأنا أقول: إن الذي قاله النقاد هو الصواب.
(2) - هذا مما تعود عليه الأستاذ ، وهو انحراف واضح عن آداب الحوار العلمي. وأحسن وسيلة لمواجهة مع هذا النوع من الناس أن أقول له: (سلاما)، امتثالا لقول الله تعالى: +وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". فإن الجاهل لا يعني بالضرورة من ليس له علم، وإنما الذي ينحرف عن تعاليم الإسلام. ومن تعاليم الإسلام التقيد بآداب الحوار واحترام الخصم ونصحه، وأن لا يتكبر عليه وأن لا يسبه ولا يعيره.
قال تعالى: +ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"
ولما قالت عائشة لرهط من اليهود ’’وعليكم السام واللعنة‘‘ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله‘‘.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين عير غلامه: ’’إنك امرء فيك جاهلية‘‘.
والذين يتعاملون مع المخالف بتكبر وعناد، لا ينفع الحوار معهم، ولا النصيحة. بل يزيد الطينة بلة كما يقال.
إلا أنني أتوجه بهذا الحوار نحو الباحثين وطلبة العلم ليستفيدوا من أخطاء الأستاذ ما يعينهم على بناء تصورات صحيحة وسليمة حول قضايا علوم الحديث لا سيما منهج المحدثين في التصحيح والتعليل والترجيح .(1/344)
ومنها (ص: 48):
’’ لأن منهجه الذي طبل له سنوات أن التفسير من مسلم للعلل وبيانه لها إنما هو بالترتيب والتقديم والتأخير‘‘.(1)
ومنها (ص: 48):
’’وهذا التصرف من مسلم وهو شرحه وبيانه بالكلام مثل سائر البشر ومنهم الأنبياء والعلماء؛ يهدم ما نسجه المليباري من خياله من أن مسلما لا يبين العلل على طريقة أهل الحديث وغيرهم من البشر، وإنما بالترتيب والتقديم والتأخير الذي لا يفهمه أمثالنا، وإنما يفهمه الحفاظ ‘‘.
ومنها ( ص: 50):
’’وهل فهم أحد أو قال: إن وسيلة هذا البيان هي ترتيبه للأحاديث على النهج الذي سلكه هذا الرجل ‘‘(2)
ومنها (ص: 52):
’’أما أن يأتي متهور مثل المليباري فيقول بخلاف ما اعتقده العلماء وقرروه، ويقول بما يرفضه العقلاء من أن الإمام مسلما يورد أحاديث من أصح الطرق وأقواها لبيان العلل وشرحها؛ فإن مثل هذا لا يجوز أن يقابل إلا بالعقوبة الصارمة والإهانة الرادعة له ولأمثاله من الجهلة المتهورين المتوثبين على أصح كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم‘‘(3).
__________
(1) - هذا كذب محض. إني أتحدى الأستاذ أن يأتي بمثال واحد طبقت فيه ما نسب إلي زورا وبهتانا. كيف يتجرأ على أن يقول : ’’إني أطبل سنوات لهذا المنهج المتمثل في بيان العلل بالتقديم والتأخير‘‘، وأمامه التوضيح الذي هو نسخة مسودة لكتاب (عبقرية الإمام مسلم) ألفته لبيان ترتيبه للأحاديث ، وليس في هذا الكتاب ولا غيره مثال واحد لبيان العلل بالتقديم والتأخير.
(2) - لم يقل به أحد؛ لا أنا ولا غيري.
(3) - قل بما شئت في مسبة عرضي فسكوتي عن اللئيم جواب
ما أنا عادم الجواب ولكن ................................
هذا لا يمنعني أن ألفت انتباه القارئ إلى طبيعة تفكير هذا الرجل. إن الحوار بيني وبينه علمي بحت، وإذا كان خصمه يسرد الأدلة أثناء الحوار فيما ذهب إليه من الرأي كان على الأستاذ أن يحترمه ويقدره وينصحه إذا أخطأ فيه، لكن تفكيره في اتجاه آخر، يفكر كيف يمكن الإساءة إلى خصمه وإيذاءه. لذا اتصل الأستاذ بمدير جامعة أم القرى بعد أن أعد رده علي، لينزل علي عقابا صارما وهو فصلي من الجامعة.
ورأيناه هنا قد كشف ما في نفسه من النوايا السيئة حين صرح بقوله:
’’فإن مثل هذا لا يجوز أن يقابل إلا بالعقوبة الصارمة والإهانة الرادعة له ولأمثاله من الجهلة المتهورين المتوثبين على أصح كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم‘‘.
وقال أيضا : ’’مما يدل على مرض واضطراب عقلي وهوى أعمى، لا يردعها إلا سلطان مثل سلطان الرشيد والمهدي في أمثالك‘‘
إذا تتبعنا التاريخ وجدناه يزخر بنماذج كثيرة من هذا النوع من البشر ، وما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية وقبله من الأئمة كأحمد والبخاري وابن حبان من نفي وتنكيل وعذاب، وأنواع من الإيذاء، لم يكن إلا من فعل عيون الأمراء والخلفاء، كانت وظيفتهم أن يلفقوا التهم ضد خصومهم أمام مسؤولي الدولة، وإذا تتبع أحد كتبهم لم يجد في تضاعيفها أثرألما لفقوا عليهم من التهم!!
نسأل الله للأمة الإسلامية العافية والسلامة.(1/345)
ومنه ( ص: 79 - 80):
’’إذا قام مسلم ببيان العلل القادحة وشرحها على طريقة المحدثين فلا يجوز المراء في ذلك؛ وكلامه حينئذ يقال فيه المثل : (قطعت جهيزة قول كل خطيب)، ولكنك كنت تقول: إن البيان إنما ينبع من الترتيب والتقديم والتأخير، وتمدح هذا الترتيب وتطريه؛ لأنه هو الذي تكفل بهذا البيان الذي تميز به مسلم وكتابه‘‘.(1)
’’ وكان هذا التقعيد الخبيث يقتضي تدمير كتاب مسلم ، وإخراجه عن المكانة العظيمة التي شهد بها علماء الإسلام – وهي قمة الصحة – إلى كتب العلل‘‘
’’فلما ارتكبتَ هذا الإفك والشطط على مسلم وكتابه تصديتُ لإبطال هذا الباطل(؟!)(2). وألجأك هذا الرد الحاسم لأباطيلك إلى أن تقول: ثم إن كلام مسلم يقتضي بيان العلة وشرحها يكون على سبيل الندرة ، والأمر كذلك في صحيح مسلم. والحمد لله الذي ردك إلى هذا القول مرغما؛ ولو كنت صادقا مخلصا لاعترفت بأخطائك وببطلان منهجك الذي أرجفت به على صحيح مسلم ولأعلنت توبتك منه جهارا ونهارا‘‘(3)
__________
(1) - هذا من نماذج تلونه وتطور رأيه .
(2) - هذا مما تعود عليه الأستاذ المحترم من إطلاق الدعاوى الفارغة الساقطة. ألا يتقي الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء ؟!
(3) - أحمد الله تعالى الذي ألجأ الأستاذ لأن يقول : ’’إذا قام مسلم ببيان العلل القادحة وشرحها على طريقة المحدثين فلا يجوز المراء في ذلك ؛ وكلامه حينئذ يقال فيه المثل : (قطعت جهيزة قول كل خطيب)‘‘، إذن ليس بيننا خلاف أصلا ، وكل ما ذكره الأستاذ يكون مفتعلا ومختلقا.
أما قول الأستاذ: ’’ولكنك كنت تقول : إن البيان إنما ينبع من الترتيب والتقديم والتأخير، وتمدح هذا الترتيب وتطريه ؛ لأنه هو الذي تكفل بهذا البيان الذي تميز به مسلم وكتابه‘‘. فهذا يدل على أن إنكاره إنما ينصب في بيان العلل بالترتيب والتقديم والتأخير . وهذا لم يقل به أحد. والحمد لله رب العالمين .
وقوله (فلما ارتكبتَ هذا الإفك والشطط على مسلم وكتابه تصديت لإبطال هذا الباطل. وألجأك هذا الرد الحاسم لأباطيلك إلى أن تقول : ثم إن كلام مسلم يقتضي بيان أن العلة وشرحها يكون على سبيل الندرة ) أكذوبة مفضوحة. وانظر يا أستاذ إلى كلامي في الأوراق التي أرسلتها إليك في بداية الحوار قبل أن تنهمر علي بالشتائم ، يتبين لك من الكاذب .
وهذا نصي حسب ما نقله الأستاذ في كتابه (التنكيل) المليء بالأباطيل (ص: 31 ):
’’ ومع ذلك وله تصرف علمي آخر في صحيحه، وهو بيان العلة في بعض المواضع منه، وذلك بعد أن أخرج الحديث من طريق صحيح في الأصول، وإن كان لذلك الحديث علة من بعض طرقه بين العلة إذا كان المكان مناسبا للبيان، وذلك بذكر طرقه المعللة خارج الأصول ومقصود الكتاب وموضوعه‘‘.
ماذا تدل جملة ( في بعض المواضع) التي وقعت في الرسالة الأولى، والتي نقلها الأستاذ في كتابه ؟!
ألا تدل على أن بيان العلل على سبيل الندرة ؟!
إذن كيف يكذب الأستاذ على القراء أن رده هو الذي ألجأني إلى أن أقول مرغما: ’’إن بيان العلل على سبيل الندرة‘‘.
اتق الله تعالى يا رجل.
إن الكذب على الخصم من الرذائل، وإن كان المشركون يعدون الكذب على الخصم رذيلة لا تليق بالكبار فإن المسلمين أولى بتجنبه، لا سيما العلماء والدعاة.
انظر ما قاله أبو سفيان: ’’فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه‘‘ يعني أمام هرقل.
كأن الأستاذ ألف مثل هذا الكتاب لتلاميذه الذين منعوا من قراءة كتب مخالفيه ليبلعوا كل ما يقوله، كذبأكان أم حقا. خطأكان أم صوابا!
إن منع طلاب العلم من قراءة كتب المخالفين في الرأي، مشهور عن ضعفاء النفوس الذين يخافون على سمعتهم ومناصبهم ، وهؤلاء ما فكروا أن هذا أسلوب جاهلي آثره المشركون الذين خافوا من انتشار الإسلام، انظر إلى قوله تعالى : + وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون "
أما المنهج الإسلامي فكما جاء في القرآن الكريم + فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب".
لذا فإن الواجب على العلماء التركيز على أن يغرسوا في نفوس طلابهم وأصحابهم ومحبيهم الإخلاص والتقوى والإنصاف والعدل والاعتدال والاحترام وإحسان الظن بمن لا يعرفونه من المسلمين، والروية والتحمل والصبر والدقة والمنهج السليم في تمييز ما هو أقرب إلى الصواب وترك ما هو أبعد عن الواقع في ضوء الأدلة، أيأكان قائله من المسلمين ، وتربيتهم على كراهية الظلم والتعصب والتقليد الأعمى والتصرف عند الغضب، وسوء الظن، وتوعيتهم عن مغبة ذلك في المجتمع الإسلامي.
فإذا سعى عالم مرب إلى ذلك فلا يخاف بعد ذلك من أخطائه وأوهامه وشذوذه، فإن تلميذه لا يقلده فيها ، ولا يتعصب له، بل يصحح له بإنصاف واحترام.
وإلا فإن المجتمع يسوده الانشقاق والتمزق والفوضى والكراهية ، حتى يتحول إلى لقمة سائغة لأعداء الإسلام.
ويا ويل من ربى الأجيال على تقديس الأشخاس والتعصب لهم وتقليدهم التقليد الأعمى، وكان قدوة في الكراهية وانتهاك أعراض المسلمين بالسب والشتم ورمي التهم !.
فحذار ثم حذار أن يكون علمك يا أخي ، أو مالك أو موهبتك ، سببا لزرع الفتن بين المجتمع لسوء تصرفك فيها. بل حاول أن تستثمر نعمة الله تعالى عليك في نشر العقيدة الصحيحة بعيدا عن البدع والانحرافات ، ونشر السلوك القرآني بعيدا عن السلوك الجاهلي، من الحسد والتكبر والاستهزاء والسب والتفاخر وسوء الظن بالناس، حتى تكون خير مستمثمر لنعمة الله تعالى ، وغير مقصر أمام الله تعالى .
ومن لا يحزنه ما آل إليه المجتمع الإسلامي اليوم؟!
نسأل الله تعالى للأمة الإسلامية العافية والسلامة.(1/346)
ومنه (ص: 93) : ’’ويلهج به المليباري في حق مسلم بشرح العلل من خلال الترتيب والتقديم والتأخير ‘‘
ومنه (ص: 93) : ’’ وأنه لم يدر على بال أحد منهم أن مسلما يتعمد إخراج الأحاديث المعللة في صحيحه الذي يعتقد الجميع أنه التزم فيه الصحة ، ولا خطر على بال أحد منهم أن للترتيب والتقديم والتأخير دخل في العلل‘‘
ومنه ( ص: 96) : ’’أن القاضي عياض لم يربط بين الترتيب وبين شرح العلل‘‘
ومنه (106 ) : ’’ إن موضع النزاع ليس هو هذا الترتيب الذي قاله ابن الصلاح الذي يرى فيه أن مسلما يسوق أسانيد الطبقة الثانية على وجه التأكيد والتقوية ، وإنما هو ترتيب آخر ادعاه المليباري لم يسبقه إليه القاضي عياض ولا ابن الصلاح بل لا يقوله أي مسلم؛ وهو ذلك الترتيب الذي ينطوي على العلل المدمرة في كل باب من أبواب (صحيح مسلم)‘‘.
وغيرها من صفحات التنكيل، وهي كثيرة جدا جدا، وجال الدكتور ربيع بهذا الكذب وصال في معظم فصول كتابه (التنكيل) المليء بالأباطيل والأكاذيب.(1)وهذا الخلط المتعمد كذبا هو الأساس في اعتراض الأستاذ علي، وبه حاول إضفاء الشرعية على كل أفاعيله وأساليبه وسبابه وشتائمه التي صبغ بها حواره من أوله إلى آخره.
إذن كيف ننتظر من الأستاذ أن يفهم الحقيقة التي كنت أشرحها، ثم يتراجع عن تقوله علي بأن شرح العلل في صحيح مسلم بالترتيب والتقديم والتأخير، لأنه لو تراجع عنه وصحح أغلاطه لتعطل سلاحه الوحيد ضد خصمه، وفقد مجالا لتبديعه وتجريجه وإيذائه. وإلا لكفى لإنسان منصف عادل يخاف الله تعالى عشر معشار ما أوضحته ليصحح ما فهمه غلطا، ويتوب عن كل أفاعيل التجريج والتبديع.
__________
(1) - انظر ص: 124 ،6 12 ، 129، 137، 140، 141 ، بل تراه يعيد الاتهام بذلك في معظم صفحات الكتاب .(1/347)
وكلامي السابق الذي نقله الدكتور ربيع نفسه واضح أنه كان حول تبرير ساحة الإمام مسلم في ذكر تلك الروايات لحديث ابن عمر في صحيحه مع كونها معلولة ومنتقدة من قبل الأئمة، حتى يتبين للقارئ أن مسلما كان على علم بعلتها(1)، وأنه مع النقاد على منهج واحد وخط واحد. ولم يكن قصده من روايته لها اعتمادها في الباب، وإنمأكان اعتماده فيه على حديث أبي هريرة الذي لم يختلف في صحته أحد من النقاد.
أما أن يفهم الدكتور ربيع من ذلك النص أني أزعم أن كل حديث جاء في آخر الباب يعد معلولا، وأن مسلما يورد في آخره أصح الطرق ليبين العلة، فلم يكن ذلك إلا للتضليل والتمويه، فلو صدر هذا الاستنباط الظالم من شخص آخر في حق الأستاذ لأقام الدنيا ولن يقعدها.
ومن أساليبه غير العادلة أن يؤول نصوصي بمالم يخطر ببالي، ثم ينسب إلي ذلك الذي تأوله. فعلى سبيل المثال؛ أنه ينسب إلي أن بيان العلل في صحيح مسلم ليس على طريقة أهل الحديث. وهذا في الواقع ممالم يخطر ببالي:
يقول في ص: 48 من التنكيل :
’’ وهذا التصرف من مسلم وهو شرحه وبيانه بالكلام مثل سائر البشر ومنهم الأنبياء والعلماء؛ يهدم ما نسجه المليباري من خياله من أن مسلما لا يبين العلل على طريقة أهل الحديث وغيرهم من البشر، وإنما بالترتيب والتقديم والتأخير الذي لا يفهمه أمثالنا‘‘، مغيرا ومؤولا لقولي الآتي:
’’ بيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلل؛ كأن يقول أثناء الكلام (واختلف على فلان) أو ( خالفه فلان) كما هو معروف في كتب العلل، بل يكون بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله (خالفه فلان) أو (اختلف على فلان)، وإذا سمعه الحافظ يفهم بأنه اختلاف واضطراب، وإذا سمعه أمثالنا يعدونه تعدد الطرق، ومثل هذا البيان يوجد في معظم كتاب التاريخ الكبير‘‘
__________
(1) - ولا أقول إنه على علم بأنها منتقدة ، وبينهما فرق يعرفه كل عاقل .(1/348)
وكان على الأستاذ أن ينقل عن خصمه ما نص عليه، ثم يؤوله بما يتحمله سياقه.
من الذي قال: إن الإمام مسلما لا يبين العلل على طريقة أهل الحديث وغيرهم من البشر؟!
لا أحد ، وإنما نسجه الأستاذ من خياله ليسيء إلى سمعتي أمام القراء.
وعلى كل فكلامي واضح، وهو كما نقله الأستاذ نفسه في (ص: 34 من تنكيله)، وليس فيه ما يدل على ما فهمه الأستاذ ليتقول علي بـ:’’أن شرح العلل ليس على طريقة أهل الحديث وغيرهم من البشر‘‘، وهذا كذب غير مبرر أمام الله تعالى، لأني أوضحت له مسألة الترتيب وشرح العلل في بداية الحوار ثم في الرد الثاني بشيء من التفصيل ثم في كتاب (العبقرية) بالأمثلة والنصوص وأقوال العلماء، وما جعلت حديثا في صحيح مسلم ضعيفا لمجرد كونه في آخر الباب، ومع كل ذلك فإن الأستاذ يأبى إلا أن يستمر في كذبه علي بمالم يخطر ببالي، وهذا أمر لا يعقل صدوره من أمثاله.
وقديما قد عانى المحدثون من أهل السنة والجماعة من بعض خصومهم أصحاب النفوس المريضة من أهل البدع والهوى، فدسوا في أحاديثهم أو صحفوا في كتبهم أو نسبوا إليهم مالم يخطر ببالهم من الأحاديث، إساءة لسمعتهم وعقيدتهم. ولم يحدث ذلك إلا من قبل أصحاب النفوس المريضة. أما محدثوا أهل السنة والجماعة فلم ينقل عن أحد منهم مثل هذا السلوك السيء تجاه خصومهم، فإنهم أغنى الناس حجة وأبرزهم صدقا ونصيحة، وعلى نور من الله وهدايته، وليسوا بحاجة إلى الكذب على الخصوم ولا إلى التلبيس والتمويه، فهم يمتثلون لقول الله تعالى + وإذا قلتم فاعدلوا ...".(1/349)
ونسأل الله تعالى للأمة الإسلامية العافية والسلامة.(1)
والذي يستخلص من سياق كلامي حول الترتيب هو أن ما أخره مسلم من حديث يكون دون ما صدر به الباب. قد يكون هذا الذي أخره معلولا أو مختلفا في صحته، أو يكون صحيحا، وهذا هو الأكثر والأغلب، لكنه أخره لكونه غريبا لم يشتهر مثل الحديث الذي قدمه مسلم في الباب، أو إسناده أنزل، أو غير ذلك مما شرحنا سابقا.
لذا لا يلزم من تأخير الإمام مسلم حديثا في الباب أن يكون معلولا عنده، وإنما يلزم من الترتيب فقط أن الحديث الذي ذكره في آخر الباب دون الحديث الذي صدره به صحة. وكتاب (العبقرية) يزيل كل الشبهات التي يعتمدها الأستاذ في هذا المجال العلمي الذي يشكل موضوع الحوار بيني وبينه.
وعلى الرغم من وضوح كلامي في أن بيان العلل ليس بالترتيب، فإن الرجل ليس لديه إلا أن يكذب علي بقوله جازما: ’’قد قلت ذلك‘‘. وإن كنت قد قلته فعلا فأين ذلك القول؟! لماذا لا تنقله للقارئ ؟!.
وكل ما ذكره الأستاذ إنما هو مما نسجه من خياله، وليس له صلة بما كنت أقوله.
والأغرب من ذلك أن الرجل يعتبر نفسه مع هذه الكذبة الرخيصة المكشوفة من العقلاء الصادقين!! وكل من يوافقه في ذلك من العقلاء المنصفين أيضا !! سبحان الله ! هكذا تنقلب القيم في مجتمعنا، إن هي إلا من علامات الساعة.
الفصل الثالث
فيه دحض لشبهات الأستاذ حول النقاط الآتية:
1 - تقسيم الحافظ الخليلي العلة إلى قادحة وغير قادحة.
2 - مسألة زيادة الثقة.
__________
(1) - الإنسان بطبيعته يحس في نفسه شيئا من الانزعاج عند ما يقرأ ما يدل على خطئه، هذا أمر طبيعي، لكن إذا كان يعاني من عقدة نفسية حادة أخذ يترجم ذلك الإحساس في تعامله مع من أسدى إليه النصيحة، فيتوهم شيئا ضده ثم يرى كل ما يقرأ له مصدقا لذلك الاتهام، وبالتالي يحاول بقدر الإمكان إخفاء تعطشه للثأر منه عن طريق الكذب والاتهام والتبديع والتفسيق إضفاء للشرعية على ما يفعله من خصال الجاهلية.(1/350)
3 - هل تطلق العلة على تفاوت الألفاظ .
4 - مسألة التفرد.
تقسيم الحافظ الخليلي العلة إلى قادحة وغير قادحة
نقل الأستاذ من التوضيح الذي هو مسودة كتابي (العبقرية) المطبوع، قولي حول مفهوم العلة ومدى قدحيتها، ليعلق عليه بأسلوبه المألوف المتمثل في الشغب والتخليط والتلبيس. وقد مللت فعلا من التعقيب على شغبه وادعاءاته الفارغة. ولذا، أركز هنا على بعض الجوانب العلمية التي شوه صورها فهمه.(1)
__________
(1) - أود أن ألفت انتباه القارئ مرة أخرى إلى أن الأستاذ بنى هجومه وانتقاده وتبديعه وتشكيكه في النية والإخلاص على خطئه القديم، وهو: أن شرح العلل في صحيح مسلم بالترتيب والتقديم والتأخير. لذلك رأيناه يستخدم الحيل بمهارته النادرة ليصر على هذا الخطأ، ويوهم القارئ بأنه على حق وإنصاف. ومن ذلك ما يلي:
لما قلت له:’’شرح العلل وبيانها في مواضع من الكتاب حسب المناسبة على سبيل الندرة تبعا للموضوع وليس مقصودا بذاته‘‘، قال الأستاذ معلقا عليه:
’’هذا الكلام من ذر الرماد في العيون كيف تقعد قاعدة ..‘‘
وقال:
’’ كان تقعيدك في كتابك السابق يقتضي هدم صحيح مسلم، أما الآن فقد تغير كلامك هنا، فأصبحت تقول بندور وجود العلة في صحيح مسلم‘‘
أقول: أو ليس هذا من غمط الناس، وبطر الحق ؟!
هل يجوز شرعا أن يرفض الكلام الصريح، واصفا إياه بأنه من ذر الرماد، ويعتمد على ما تخيله هو أو ما يتمناه ؟!
وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ’’هلك المتنطعون‘‘ قالها ثلاثا.
إن شرح العلل بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة ليس جديدا في الحوار، بل كنت أقوله منذ بدايته إلى هذا اليوم، ولم يتغير. وقد شرحت ذلك في الفصل الثاني.
أنقل هنا مرة أخرى نص كلامي في بداية الحوار:
’’ومع ذلك (يعني مع التزام مسلم بترتيب الأحاديث حسب الأصحية) له تصرف علمي آخر في صحيحه، وهو بيان العلة في بعض المواضع منه، وذلك بعد أن أخرج الحديث من طريق صحيح في الأصول، وإن كان لذلك الحديث علة من بعض طرقه (بين) العلة إذا كان المكان مناسبا للبيان، وذلك بذكر طرقه المعللة خارج الأصول ومقصود الكتاب وموضوعه، وهذا البيان ليس بمقصود أصلي صنف وجمع لأجله الكتاب الصحيح، بل إنما هو لغرض استطرادي‘‘ .
هذا أول كلام خاطبت به الأستاذ حول شرح العلل في صحيح مسلم، والغريب كيف فهم منه أن شرح العلل بالترتيب ! .
ثم أوضحت ذلك في كتابي (العبقرية) حتى لا يكون هناك غموض، وهذا نصه:
’’وإلى جانب مسألة الترتيب، عالجنا في غضون هذا البحث موضوعا آخر يتعلق بعلل الأحاديث التي شرحها الإمام مسلم في كتابه الصحيح على سبيل الاستطراد والندرة ولمناسبة دعته، لا لغرض أصلي، لأن غرضه الأصلي من تأليف الصحيح هو جمع الأحاديث الصحيحة وتنسيقها حسب مواضيعها وترتيبها حسب قوتها وصحتها‘‘
ثم كررته : في ص: 16، وهذا نصه :
’’وكنت قد صرحت له من قبل في مناسبات شتى بأن بيان العلل في صحيح مسلم إنما يكون على سبيل الاستطراد وبذكر وجوه الاختلاف وليس بترتيب الأحاديث ، وأن ترتيب الأحاديث أمر لا صلة له بشرح العلل أصلا، فإنهما مسألتان مختلفتان ولا تلازم بينهما ولكل منهما مجال خاص‘‘
’’ بيد أن الإمام مسلما إذا أراد أن يوضح العلل في موضع ما من الصحيح لوجود مناسبة دعته إليه لن يكون منه ذلك الإيضاح إلا بذكر وجوه الاختلاف في آخر الباب في الغالب، ولا يفهم من هذا أبدا أن كل حديث متأخر في أي باب من الأبواب يكون معلولا، فإن الإمام مسلما التزم صحة الأحاديث في كتابه كله، ولهذا أصبح الكتاب من الصحاح ، وأما إذا استدعى السياق منه إيضاح علة لحقت بإحدى الروايات فلا يمنعه ذلك الالتزام من أن يأتي بها ويشرحها‘‘
ثم عدت إلى الكلام نفسه في (ص: 38)
’’ثالثا: أن الإمام مسلما يشرح العلل في مواضع من الكتاب على سبيل الاستطراد وتبعا للموضوع، وليس مقصودا بذاته‘‘.
ثم قلت مرة أخرى (ص: 47) :
’’وفي الأخير، لقد تجلى – بحمد الله – مما صرح الإمام مسلم في مقدمته أنه يرتب الأحاديث حسبما تتوافر فيها الخصائص الإسنادية والحديثية ، وذلك بتقديم أصح الأحاديث ثم أصحها عنده ، كما أنه يبين العلة في مواضع من الكتاب بذكر وجوه الاختلاف فقط على سبيل الاستطراد لا أصالة ولا مقصودا بذاته. وأنه لا يلزم من ذلك شيء يحط الكتاب من مرتبته، بل إن ذلك يؤكد على أنه من أصح الكتب، كما يؤكد على عبقرية صاحبه في معرفة صحيح الحديث وسقيمه وعلى دقته المتناهية في التزامه صحة الأحاديث في كتابه كله، وتقديم الأصح منها ثم الأصح‘‘.
ثم كررت أيضا الفكرة نفسها في (ص: 50)
’’ثم إني أعيد وأكرر بأنني لم أدع بعد أن الإمام مسلما التزم بيان العلل في صحيحه، وأن هذا البيان هو ترتيبه للأحاديث، وأنا بريء من هذه الدعاوى كل البراءة‘‘
’’وإنما الذي أقول هو ما قاله الإمام مسلم في مقدمته، وفهمه منه العلماء قديما وحديثا ، أنه يشرح العلل في مواضع من الصحيح على سبيل الاستطراد، وأنه يرتب أحاديثه بتقديم الأصح فالأصح وأن الإمام مسلما التزم الصحة في كتابه كله‘‘.
ومع كل هذا يقول الأستاذ الفاضل:
’’هذا الكلام من ذر الرماد في العيون. وكان تقعيدك في كتابك السابق يقتضي هدم صحيح مسلم، أما الآن فقد تغير كلامك هنا فأصبحت تقول بندور وجود العلة في صحيح مسلم‘‘
أقول : ولن يرضوا بقولك إذ أبيت طريقتهم ولو كنت المحق
وهل يرضى مسلم أن يفعل هذه الأفاعيل؟!
من أعظم زلل الأستاذ وأخطر مجازفاته التجريج والطعن في النيات. يقول الأستاذ:
’’ولكني أنا أشك في صدقك وإخلاصك لله في هذا العمل، وعندي من الأدلة الواضحة والقرائن القوية ما يؤكد رأيي فيك، ومن أدلتي: كثرة تشبعك بمالم تعط، ودعواك الكاذبة لإشعار الناس بسعة اطلاعك‘‘.
أقول: ما مناسبة هذا القول هنا في الحوار العلمي؟!
إذا كان الأستاذ يرى الحوار القائم على الأدلة، وتأسيس النقاط العلمية التي يتمحور حولها الحوار، بنصوص العلماء، تشبعا بمالم أعط، فمعناه أنه يتخيل أن علم الحديث حكر عليه!!.(1/351)
تعرض الأستاذ في هذا الفصل لعدة مسائل؛ منها هل قسم أحد قبل الحافظ الخليلي العلة إلى قادحة وغير قادحة، ومنها مسألة زيادة الثقة، وهل تطلق العلة على كل أنواع الاختلاف وتفاوت الألفاظ ، ومسألة التفرد.
أما تقسيم العلة إلى قادحة وغير قادحة فلم يعرف عن أحد من القدامى قبل الحافظ الخليلي. قلتُ له بهذا الصدد:
’’إن العلة كلها قادحة، قد تقدح في الحديث كله، وقد لا تقدح إلا في الجزء الذي وقعت فيه العلة، ومهمأكان الأمر فإنها لا تخرج من قدحيتها؛ لأنها عبارة عن وهم الراوي. ولم يعرف عن أحد من القدامى تقسيمها إلى قادحة وإلى غير قادحة، إلا عن الحافظ الخليلي‘‘.
فعلق عليه الأستاذ فقال:
’’فمن أنت حتى تقول مثل هذا الكلام؟! وهل إذا لم تعرف هذا عن أحد من المتقدمين من أهل الحديث أ يكون لعدم معرفتك اعتبار ويصبح قولك حجة؟؟! وهل أنت تفهم ما تقرؤه ولو كان قليلا، وقولك:’’والذي أعرفه أن بعض المتأخرين من المحدثين وجمهرة الفقهاء والأصوليين قسموا العلة إلى قادحة وغير قادحة‘‘، فهل أنت قرأت كتب جمهرة الفقهاء وكتب الأصوليين وقلبتها ظهرا لبطن؛ حتى توصلت إلى ما تدعيه من هذا التقسيم، أو أنت تتشبع بمالم تعط بعضه؟! وقولك: ’’وقد وجدت في كلام أبي يعلى الخليلي الأصولي استعمال العلة في غير قادحة ، ممثلا بإرسال ما وصله الثقة الضابط فمخالفته بالإرسال لا تقدح في وصل من وصله ، بناء على قاعدة وضعها الفقهاء وغيرهم، أعني بها قبول زيادة الثقة على الإطلاق‘‘.
ثم قال: ’’لماذا وصفت الخليلي المشهود له بأنه من كبار أهل الحديث ومن حفاظهم بالأصولي فحسب ؟! أ لأجل نصرة باطلك ترتكب كل هذه المجازفات؟! ..‘‘
أقول: إن الأستاذ اعتمد في تعقيبه على النسخة المسودة من كتابي (العبقرية) ولم يلتفت إلى المطبوع الذي وقع فيه ما يأتي:(1/352)
’’ وأما الحافظ أبو يعلى الخليلي فقد قسم العلة إلى قادحة وغير قادحة، وكان رحمه الله يمثل للثانية كأن يروي الثقات حديثا مرسلا وينفرد به ثقة مسندا فالمسند صحيح وحجة ولا تضره علة الإرسال. وذلك بناء على بعض المعطيات العلمية الواقعية، كأن يروي الشيخ حديثا فيسنده، وإذا طرأ له أدنى شك حول ذلك الحديث الذي أسنده فإنه يحتاط في المرة الثانية ويرويه متحفظا بإسقاط ذلك الذي وقع له فيه شيء من الشك أو أدنى تردد، وذلك من عادات كبار الثقات... ومن ثم يقع الحديث متصلا عند البعض من أصحابهم ومرسلا عند الآخر.
ونظرا لهذه الحقيقة العلمية قال الحافظ الخليلي: لا يقدح إرسال فيما وصله الثقة، وليس ذلك على مبدأ أن زيادة الثقة مقبولة عنده مطلقا‘‘.
’’وهذا الذي بنى عليه الحافظ الخليلي في اعتبار المخالفة بين رواة الحديث – زيادة ونقصا – علة غير قادحة كقاعدة مقبول جدا، لكن لا ينبغي تطبيقها في كافة المناسبات التي يظهر فيها الاختلاف – إرسالا ووصلا – ولا يقال: إن راوي الحديث حدث على الوجهين جميعا، إلا إذا دلت القرائن على ذلك....‘‘
’’والذي نلاحظه في كلام الحافظ الخليلي هو إطلاق الحكم بصحة ما وصله ثقة مخالفا لغيره الذي رواه مرسلا، أو بصحة ما زاده مخالفا لغيره الذي نقصه من الحديث من غير استناد إلى القرائن التي تفصل الأمر فيها، وهذا بعينه تبناه الفقهاء وغيرهم كمبدأ مسلم وكقاعدة مطردة ، أعني بها قبول زيادة الثقة على الإطلاق.‘‘(1)
وبهذا، أصبح شغب الأستاذ بترجمة الخليلي بلا فائدة، لأن الاعتبار بما في كتابي المطبوع (العبقرية)، وليس بالمسودة، ولا شك أن الأستاذ يعذر في ذلك.
__________
(1) - العبقرية ص: 40(1/353)
هذا، ولم يستطع الأستاذ أن ينقل عن أحد من القدامى تقسيم العلة إلى قادحة وغير قادحة إلا عن الحافظ الخليلي، ثم عن السيوطي. ومع ذلك، نرى الأستاذ يدعي أن المحدثين قد قسموها إلى قادحة وغير قادحة كما سبق بيانه. وهذا من أمنياته، وقد رأيناه قد عجز عن أن يأتي بنص واحد عمن سبق الحافظ الخليلي.
الدعاوى مالم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
مسألة زيادة الثقة ودحض شبهات الأستاذ حولها
وأما مسألة زيادة الثقة، فقد حررتها في كتابي الجديد ( زيادة الثقة في كتب المصطلح ) فليرجع إليه؛ فإن فيه تفصيلا تزول به شبهات الأستاذ حول مسألة زيادة الثقة.
وخلاصة كلامي حول الزيادة هي :
أن النقاد إنما يقبلون الزيادة ويردونها حسب ما تدل عليه القرائن التي تحيط بها، وإذا لم يقف النقاد عليها، أو لم يستحضروها فإنهم يقبلون زيادة الثقة لكون ذلك هو الأصل فيها والأغلب، وهو الواقع الذي نراه في عمل النقاد، نعم قد يطلقون القول عند تصحيح الزيادة بأن زيادة الثقة مقبولة، لكن لا يعني قبولهم لها مطلقا، بدليل ردهم وتعليلهم لكثير من الزيادات.
ونظرا لأهمية المناسبة، فإني أفضل نقل بعض الفقرات من كتاب (زيادة الثقة في كتب المصطلح) في هذا الصدد، وهي كما يأتي:(1/354)
’’ وإذا كان النقاد قد نصوا في بعض المناسبات على قبول زيادة الثقة أوالأوثق(1)؛ بحيث يخيل إلى القارئ المستعجل أن موقفهم في ذلك هو القبول المطلق، فإن عملهم النقدي المتمثل في رد الزيادة مرة وقبولها أخرى بغض النظر عن حال الراوي الثقة أو الأوثق يكون كافيا للتفسير بأن ذلك ليس حكما مطردا منهم، وإنما قبلوا فقط بمقتضى القرائن المحيطة بها(2)،
__________
(1) - كما ورد عن الإمام البخاري فيما زاده إسرائيل على شعبة وسفيان: ‘‘الزيادة مقبولة ، وإسرائيل ثقة ’’ ( انظر تفصيل ذلك في كتاب شرح العلل 2/368 لابن رجب الحنبلي ، وكتاب الكفاية ص: 409 - 413 )، كما نص على قبول زيادة الثقة الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ’’والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاليس عند أصحابه قبلت زيادته‘‘ 1/7 .
(2) - يقول الحافظ ابن حجر : ’’وأسند الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث إسرائيل، ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا في ذلك إلى كونه زيادة ثقة فقط بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره‘‘ ( فتح الباري 9/184)
وقال في موضع آخر: ’’واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد روى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري - يعني: في الضبط - وذلك أنه كان يلازمه كثيرا، حضرا وسفرا، وقد تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا، والجواب والتحقيق: أنهمأليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله ( فتح الباري 10/203)(1/355)
أو بالرجوع إلى الأصل في حال الراوي الثقة الذي زاد في الحديث، بعد تأكدهم من سلامته من جميع الملابسات الدالة على احتمال الخطأ والوهم أو النسيان فيما يخص الزيادة.
لذلك، يكون قول الإمام أبي عبد الله الحاكم في نوع العلة: ’’والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير‘‘(1)من أحسن ما ينبغي أن يقال في مجال زيادة الثقة.
وأما الخطيب البغدادي الذي اعتمده الأستاذ في مسألة زيادة الثقة فقد قال عنه ابن رجب الحنبلي:
’’وقد صنف في ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفا حسنا سماه (تمييز المزيد في متصل الأسانيد) وقسمه قسمين: أحدهما ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد وتركها، والثاني ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها، ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب ( الكفاية) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقا كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب تمييز المزيد، وقد عاب تصرفه في كتاب (تمييز المزيد) بعض محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب الكفاية‘‘(2).
ويقول البقاعي: ’’إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرألم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن‘‘(3).
ويقول الحافظ العلائي: ’’وأما الشيخ تقي الدين بن الصلاح فإنه توسط بين أهل الحديث وأئمة الأصول، وقسم الزيادة إلى ثلاثة أقسام‘‘(4)
__________
(1) - الحاكم، معرفة علوم الحديث، ص: 112
(2) - ابن رجب الحنبلي، شرح العلل 1/427 – 428
(3) - نقله الصنعاني في كتابه توضيح الأفكار 1/339 – 340
(4) - العلائي، نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، ص: 215(1/356)
والجدير بالذكر، أن هذه المسألة من تلك الأنواع التي يجب الرجوع فيها إلى نقاد الحديث وحدهم لكونها في صلب تخصصاتهم النقدية، ولأن منهجهم في نقد المرويات ينبغي أن يكون وحده المعول عليه في معرفة المقبول والمردود من زيادات الثقات؛ إذ كانت حجتهم في ذلك حفظ الأحاديث وفهم محتواها ومعرفة ملابسات رواياتها، واحتمال روايتها بالمعنى. ولذا، لا يكون كافيا في قبول الزيادات أن يعتمد على ثقة راويها وإتقانه اعتمادا كليا بحجة أن النقاد جعلوا ذلك قرينة لقبولها في بعض المرويات؛ إذ إنه لا يلزم أن تكون تلك القرينة هي نفسها صالحة للاعتماد في جميع المرويات.
وقد أكد ذلك أئمتنا الحفاظ، يقول الحافظ العلائي:
’’ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص. وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات. ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده.والله أعلم‘‘(1).
ويقول الحافظ ابن حجر:
’’وهذا (يعني قبول زيادة الثقة مطلقا) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول، وجرى على هذا الشيخ محيي الدين النووي في مصنفاته. وفيه نظر كثير؛ لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد، فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتنى بمروياته كالزهري وأضرابه بحيث يقال: إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها. والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة‘‘.
__________
(1) - ونقله الحافظ في النكت 2/712(1/357)
‘’وقد نص الشافعي في (الأم) على نحو هذا فقال في زيادة مالك ومن تابعه في حديث (فقد عتق منه ما عتق(1): إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه، وهم عدد وهو فرد، فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عددا أنها تكون مردودة’‘(2). انتهى
وقال الحافظ:
’’وهنا شيء يتعين التنبيه عليه، وهو: أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذا، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عددا، ثم قالوا : تقبل الزيادة من الثقة مطلقا، فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عددا أو أضبط حفظا أو كتابا على من وصل أيقبلونه أم لا؟! أم هل يسمونه شاذا أم لا؟! لا بد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض’‘.(3)
يؤكد الحافظ ابن حجر من خلال هذا النص وجود صلة وثيقة بين مسألة زيادة الثقة ومسألة الشاذ، لا سيما حين ألزمهم (رحمه الله) في آخر كلامه أحد الأمرين: الاعتراف بالتناقض بين قبولهم زيادة الثقة مطلقا وبين شرطهم في الصحيح أن لا يكون شاذا، أو أن يأتوا بالفرق بينهما.
ثم قال الحافظ في مبحث الشاذ:
’’وعلى المصنف (يعني ابن الصلاح) إشكال أشد منه وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا كما تقدم، ويقول: إنه لو تعارض الوصل والإرسال قدم الوصل مطلقا سواء كان رواة الإرسال أكثر أو أقل حفظا أم لا، ويختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف راويه من هو أرجح منه. وإذا كان راوي الإرسال أحفظ ممن روى الوصل مع اشتراكهما في الثقة فقد ثبت كون الوصل شاذا فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون شاذا ؟!‘‘.
وتابع الحافظ قائلا:
__________
(1) -رواه البخاري في العتق باب إذا أعتق عبدا بين اثنين.. 2/892 ، ومسلم في أول كتاب العتق 2/1139
(2) - الحافظ ابن حجر، النكت 2/688
(3) - النكت 2/612(1/358)
’’هذا في غاية الإشكال، ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحة إنما يقوله المحدثون، وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك، والمصنف قد صرح باختيار ترجيح الوصل على الإرسال ولعله يرى عدم اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحيح لأنه هناك لم يصرح عن نفسه باختيار شيء، بل اقتصر على نقل ما عند المحدثين’‘(1).
وسبقهما في ذلك الإمامان ابن دقيق العيد والعلائي، أما ابن دقيق العيد فيقول: ‘’من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنهم إذا تعارض رواية مسنِد ومرسِل أو رافع وواقف أو ناقص وزائد إن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق فإن ذلك ليس قانونا مطردا، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول’‘(2).
وهذا نص العلائي:
’’كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن؛ كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم، يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي، بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث‘‘(3).
ويقول ابن الوزير مستفيدا من جميع هذه النصوص:
‘’وعندي أن الحكم في هذا لا يستمر ، بل يختلف باختلاف قرائن الأحوال، وهو موضع اجتهاد’‘(4).
وقد أجاد الحافظ ابن حجر حين عقب على الحافظ العلائي كتتمة لقوله السابق نقله، وأنا أذكره هنا كخلاصة في هذه المسألة، يقول (رحمه الله تعالى):
__________
(1) - النكت 2/653
(2) - نقله الصنعاني في مسألة تعارض الوصل والإرسال، توضيح الأفكار 1/308 (دار الكتب العلمية ، بيروت ، سنة 1417هـ)
(3) - الحافظ ابن حجر، النكت 2/604
(4) - الصنعاني ، توضيح الأفكار 1/312(1/359)
’’وهذا العمل الذي حكاه عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة(1)، وعلى هذا فيكون في كلام ابن الصلاح إطلاق في موضع التقييد‘‘(2).
الأمثلة التطبيقية لرد الإمام مسلم زيادة الثقة
يقول الأستاذ(3): ’’وممن يقبل زيادة الثقة : الإمام مسلم، وحكى ذلك عن أهل العلم ، قال – بعد أن بين علامة الحديث المنكر، وذكر عددا من رواة المنكر - : (لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث : أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاليس عند أصحابه قبلت زيادته).
وقال في كتابه (التمييز) بعد أن ذكر زيادة من طريق أيمن بن نابل في حديث التشهد: ’’والزيادة في الأخبار لا يلزم إلا (عن) الحفاظ الذين لم يعثر عليهم الوهم في حفظهم‘‘. فهذا مذهب مسلم، ونقله عن العلماء، والمراد بهم: علماء الحديث وأئمتهم‘‘.
أقول: إن إطلاق القبول هذا إنما هو فيمالم تحتف به القرائن التي تدل على أن الزيادة وهم، وذلك بناء على الأصل الغالب في الراوي الثقة.
وأذكر هنا بعض الأمثلة التي لم يقبل الإمام مسلم فيها ما زاده الثقة، وقد ذكرها الأستاذ في التنكيل ليستدل بها على أنه (رحمه الله ) يحذف ما اشتمل على تلك العلة، ولا يذكرها في الصحيح ولا يشرحها. لكنه لم ينتبه إلى أن هذه الأمثلة تشكل ردا واضحا عليه فيما زعمه بأن مسلما ممن يقبل الزيادة.
الأمثلة كما شرحها الأستاذ:
__________
(1) - يعني الحافظ ابن حجر: أن الأصل في الثقة أن يكون مصيبا في نقله لكونه كامل الضبط والإتقان. وهذا الأصل لا يرجع إليه إلا في حالة التأكد من خلو روايته من جميع القرائن التي تدل على خطئه أو صوابه. والله أعلم
(2) - الحافظ ابن حجر ، النكت 2/604 - 605
(3) - ص: 64 من تنكيله(1/360)
منها حديث عائشة في الاستحاضة، واستدل به على أن مسلما حذف كلمة (توضئي) من الحديث لأن فيها علة قادحة عنده.
ومنها حديث أبي قتادة ؛ إذ حذف مسلم كلمة (الخميس) لأنها وهم ، وصرح بأنه حذفها من أجل ذلك.
ومنها حديث القعنبي الذي قال فيه ( عن أبيه)، حذفها مسلم من الإسناد ثم نبه على أنها خطأ جريا على عادته في حذف الألفاظ المعللة ، ثم شرح ذلك التصرف وبيانه‘‘ . انتهى كلام الأستاذ.
أقول: إن الحديث الأول زاد فيه كلمة (توضئي) حماد بن زيد، وهو إمام، وقال النسائي: لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث (وتوضئي) غير حماد بن زيد، وقد روى غير واحد عن هشام ، ولم يذكر فيه (وتوضئي)(1)
والحديث الثاني زاد فيه غندر كلمة ( والخميس ) لم يقبلها مسلم بل صرح بقوله (وفي هذا الحديث من رواية شعبة قال: وسئل عن صوم يوم الإثنين والخميس فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهما)(2)، وغندر من أثبت أصحاب شعبة.
والحديث الثالث رواه مسلم(3)عن القعنبي من غير كلمة ( عن أبيه ) ثم بين أن ذلك خطأ من القعنبي. ومع كون القعنبي ثقة رد زيادته (عن أبيه).
وإذا راجع الأستاذ كتاب التمييز، وجد فيه أمثلة أخرى لرد زيادة الثقة بناء على قرائن دلت على أنها وهم. والمسألة إذن كما حققها الأئمة آنفا. لكن، يستثنى منهم فقط من عرف بالتساهل كابن خزيمة وابن حبان والحاكم، فإن مذهبهم في ذلك قبول زيادة الثقة.
هل تطلق العلة على تفاوت الأحاديث في ألفاظها
__________
(1) - سنن النسائي 1/123 - 124
(2) - صحيح مسلم ، كتاب الصوم باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... 8/51 ( شرح النووي )
(3) - صحيح مسلم 5/222 (شرح النووي)(1/361)
أما مسألة إطلاق العلة على كل أنواع الاختلاف وتفاوت الألفاظ المترادفة بين رواة الحديث الواحد، فأول من تلفظ به أو اكتشفه هو الأستاذ ربيع. لذا، لا ينبغي حمل هذه الكلمة في نصوص النقاد إلا على المعنى الذي كانوا قد استعملوه ، ولا تحمل على معان جديدة تخيلها بعض الناس حديثا.
ولما كتبت له ذلك، علق عليه بما يأتي:
’’أولا: ترفق بنفسك من هذا الزهو والادعاءات الفارغة، فإنك توهم الناس باطلاعك على أقوال المتقدمين والمتأخرين، وليس الأمر كذلك. وإن عدم اطلاعك لا يقدم شيئا ولا يؤخره، اللهم إلا الضرر بأشباه الأنعام‘‘(1).
ومع ذلك، لم يستطع الأستاذ أن يأتي بنص واحد يدل على مصداقية قوله، وقد ضيع صفحتين كاملتين من كتابه التنكيل، ثم يقول بعد ذلك:
’’ فما الذي يمنع الإمام مسلما من إطلاق العلة على أحاديث من هذا النوع، وطلاب العلم يعلمون أن أكثر المحدثين يرجحون الإرسال على الوصل عند التعارض، ويعلمون أن فحول أهل الحديث لا يلتزمون مثل هذا، وإنما يدورون مع القرائن‘‘
ثم قال :
’’ثم أنت اعترفت – وقد ذكرت مع إرجافك – أن العلة تطلق على النسخ وعلى القوادح الظاهرة كضعف الراوي أو كذبه أو الانقطاع في الإسناد، فما المانع عندك من إطلاق مسلم العلة على مثل ما بينته؟!‘‘
ثم أعاده مرة أخرى وقال:
’’ وما الذي يضيرك من حمل العلة على الفروق المذكورة وقد سمى هذا النوع بعض أهل الحديث عللا – وقد تقدم بيان ذلك – وإن رغم أنفك وسقطت تهاويلك ؛ ولماذا يشتد حرصك على إثبات وجود العلل القادحة في صحيح مسلم ؟! وتكافح وتناضل وتتقحم الصعاب من أجل ذلك‘‘.
هذا منطق الأستاذ يرد الحقائق بالتهويل والإرجاف، ثم في الأخير يكتفي بسؤال سهل: ما المانع؟ هل هذه التهويلات كلهأليسأل أخيرا بقوله: (ما المانع) ؟!
__________
(1) - ولسان حاله يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بسوء فما أدري لمن أنا قائله(1/362)
أ هكذا يتحدث العلماء في الحوار العلمي بالاحتمال والتجويز العقلي، خاصة حين يبرهن خصمه بالنصوص والأدلة؟!.
كان ينبغي أن ينقل لنا نصا واحدا عن الإمام مسلم ليدل على توسعه في إطلاق العلة على ما ذكر الأستاذ من المعنى، وبعد ذلك يستقيم السؤال فما المانع .
أما إذا تخيل الأستاذ شيئا من عنده ثم يسأل ما المانع أن تطلق العلة التي وردت في كلام الإمام مسلم على هذا الشيء الخيالي، فذلك تلاعب بالعلم والقواعد.(1)
وأما سؤاله ’’فما المانع‘‘ فأجيب عنه:
نعم، يوجد هنا مانع لحمل العلة على تفاوت الألفاظ بين الروايات. وهو أن بيان مسلم لهذا النوع من التفاوت أو التنبيه إليه بعبارات مختلفة لا تخلو صفحة من صفحات صحيح مسلم منه، وقد صرح الإمام مسلم بأنه يبين العلل في مواضع من الكتاب. يعني على سبيل الندرة فقط وليس في جميع أماكنها.
يقول مسلم في هذا الصدد:
’’وسنزيد - إن شاء الله - شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى‘‘(2)
__________
(1) - أما أن يصطلح الأستاذ لكلمة (العلة) معنى مبتكرا جديدأليستعملها في أبحاثه العلمية الخاصة به فلا مانع من ذلك؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
(2) - هذه النصوص نقلها الأستاذ في كتابيه: ( التنكيل) و(منهج مسلم). وبهذا النقل أصبح الأستاذ شاهدا على نفسه بأن ما ينسبه إلي من ’’أن بيان العلل في صحيح مسلم بالترتيب، وأنني أضعف الحديث بناء على هذه القاعدة‘‘ من أكاذيبه المفضوحة؛ إذ لا يفهم ذلك من كلامي، وإنما يفيد بسياقه ومضمونه ومفهومه أن ترتيب الأحاديث ، وشرح العلل شيئان مستقلان ولا تلازم بينهما.فإن الترتيب يكون حسب الخصائص الإسنادية، وشرح العلل يتم بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة.
أود أن أعلن أمام القراء أنه إذا أورد مسلم في آخر الباب حديثا فيه علة فلا يعني بالضرورة أنه ذكره لشرح ما فيه من العلة، لأن شرحها إنما يتم بذكر وجوه الاختلاف فقط كما أوضحنا ذلك في بداية الحوار.
أما الحديث الذي ذكره مسلم في آخر الباب فغالبا ما يكون صحيحا لكن دون الحديث الذي صدر به الباب صحة، أو يكون مختلفا في صحته، ذكره مسلم إما للاحتياط أو للاستئناس. انظر كتابي (عبقرية الإمام مسلم) وهو تطبيق عملي لما ذكرته آنفا فيما يخص الترتيب. وما جعلت حديثا معلولألمجرد كونه في آخر الباب. ومع كل ذلك فإن الأستاذ أبى إلا أن يتقول علي بمالم أقله. وما ذنبي إذا أخطأ الأستاذ في فهمه؟!
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم.
يبدو من قراءة كتابيه المذكورين أن قدرة الأستاذ على قلب الحقائق رأسا على عقب، وتمويه كذبه وباطله وخطئه بما يوهم الناس بأنه هو الحق والصواب، خارقة للعادة، والعجب في ذلك أنه يظنها إبداعا في الذب عن السنة ، وهو لا يدري أن السنة غنية عن مثل هذه الأكاذيب والافتراءات والتلبيسات الساقطة.(1/363)
يعني في بعض المواطن من الكتاب على سبيل الاستطراد ولمناسبة علمية فقط. لذا لا ينبغي حمل كلمة (العلة) إلا على ما دل عليه سياق كلامه.
وههنا مانع آخر وهو أن المتقدمين لم يستخدموا العلة على المعنى الذي تخيله الأستاذ، لذا لا تحمل العلة إلا حسب منهجهم العام في إطلاق تلك الكلمة.
وفي ضوء هذا الواقع فإن قول الأستاذ : ’’سبحان الله أين عقلك ودينك ؟! ترى الإمام مسلما يذم رواة الأحاديث المنكرة فتنسب إليه ظلما أن يروي الأحاديث التي تنطوي على علل خفية قادحة. أليس يكون مسلم قد ارتكب شرا مما ينهى عنه؟! حاشاه وبرأه الله مما تقوله عليه....‘‘
فمجازفة واضحة:
أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب
كأن الأستاذ لا يهمه إلا التعنيف في الرد، حتى يقول أصحابه: إن الشيخ رد على المليباري ردا عنيفا حتى يسكته، سواء أكان ذلك بالكذب والافتراء أم بالشتم والسب والاتهام، وسواء أصاب فيه أم أخطأ ، المهم أن الأستاذ قد رد عليه ردا عنيفا!!.
إن ما يزعمه الأستاذ في واد، وما قلته أنا في واد آخر. فإنني كنت أقول إن الإمام مسلما يشرح أحيانا العلة بذكر وجوه الاختلاف. أما أنه يروي الأحاديث المنكرة أو المتون المنكرة في صحيح مسلم مثل الأحاديث الصحيحة، فلم أقل ذلك، ولم يعرج عليه مسلم أصلا، حتى إذاروى حديثا صحيحا على سبيل الاستدلال في موضوع الكتاب وكان الحديث متصلا بموضوع الباب فإنه يحذف منه موطن العلة إذا كان يشتمل على علة، ويستدل بمالم تشتمل عليه، وقد أوضحت ذلك سابقا.
وأما شرح العلل وبيان وجه النكارة في بعض الروايات فمما تشتد إليه حاجة أهل العلم وطلابه الذين من أجل نفعهم وتوعيتهم وعلمهم ألف مسلم كتابه الصحيح الذي اختار فيه أحاديث صحيحة مما يحفظه من آلاف الروايات العالية والنازلة ، الصحيحة وغير الصحيحة.(1/364)
والذي عابه مسلم وأنكره على غيره أشد الإنكار كغيره من النقاد شيء آخر وهو رواية الأحاديث المنكرة في موضع الاحتجاج، كما تروى الأحاديث الصحيحة، أو الخلط بينها دون بيان وجه نكارتها.
عجبا للأستاذ أنه لا يفرق بين هذا وذاك!!.(1)
مسألة تفرد الثقة ودحض شبهات حولها
وبقي شيء آخر بالغ فيه الأستاذ وجازف كعادته، ألا وهو مسألة التفرد.
لما نقل الأستاذ عن أبي يعلى من كتابه (العدة) :
(وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى ما انفرد به الواحد منهم كان مردودا، وهذا أبدا في كتبهم تفرد به فلان وحده يعنون الرد بذلك‘‘ علق عليه الأستاذ بالآتي:
’’ أقول أنا ربيع: وقد لا يعنون الرد ، والدليل : وجود الغرائب في الصحيحين، وهي تبلغ حوالي مائتي حديث، وقال الإمام مسلم ’’تفرد الزهري بتسعين حرفا).
أقول: هذا يعني أن تصورات الأستاذ حول مبادئ علوم الحديث ليست سليمة.
من الذي قال: إن جميع أنواع التفرد ضعيفة؟!
ولا يلزم من قول أبي يعلى أنهم كانوا يجعلون الحديث الفرد ضعيفا، حتى يعلق عليه الأستاذ بقوله : ’’أقول أنا ربيع : وقد لا يعنون الرد ..‘‘ هكذا بزهو وغرور!!.
__________
(1) - انظر كتاب سنن الترمذي والنسائي وكتاب التمييز لمسلم وكتب العلل عموما ترى فيها رواية الأحاديث المنكرة بل رواية المتون المنكرة، لكن ليس على سبيل الاحتجاج وإنما لبيان نكارتها والصواب فيها، وهذا لم ينكره أحد من النقاد، لا مسلم ولا غيره، بل يرونه واجبا عليهم. وقليلا ما يوجد في السنن والمسانيد متون منكرة، وأكثرها من الكذابين أو المتروكين.(1/365)
إن معنى قول أبي يعلى هو أنه إذا قال النقاد :’’ تفرد به فلان‘‘، أو :’’ هذا غريب‘‘ غير مقرون بلفظ (صحيح)، فمعناه أن الحديث معلول. ومن الجدير بالذكر أنهم لا يقولون ذلك إلا إذا كان الراوي قد تفرد بمأليس له أصل في أحاديث شيخه أو أحاديث من فوقه، وأنهم لا يقولون (تفرد به فلان ) في جميع أحوال التفرد. وحديث (إنما الأعمال بالنيات) لم يطلق عليه أحد: ’’تفرد به يحيى‘‘ دون كلمة (صحيح) كما يطلقون على الحديث الضعيف. ولا مجال لتعقيب الأستاذ هنا، وليس له أية قيمة علمية في ميزان النقد.
اسمع إن شئت قول ابن الصلاح الذي يكتب بماء الذهب :
’’ويستعان على إدراكها (يعني العلة) بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه‘‘(1)
فابن الصلاح جعل تفرد الراوي مع الشروط التي ذكرها وسيلة لإدراك العلة التي بها يرد الحديث ولا يقبل.
الفصل الرابع
فيه دحض شبهات الأستاذ في آراء الأئمة حول منهج مسلم في الترتيب وشرح العلل:
1 - القاضي عياض.
2 - الإمام النووي.
3 - الإمام ابن الصلاح .
4 - الإمام ابن رشيد السبتي.
5 - الحافظ ابن حجر.
النقطة الأولى: رأي القاضي في الترتيب وشرح العلل
وضع الأستاذ لهذا الفصل عنوانا طويلا وهو: ( مناقشة المليباري في المحور الثاني، وهو: تعلقه بالعلماء زورا، وذلك بزعمه أنهم يوافقونه على منهجه أو مناهجه الباطلة، يتخلل ذلك مناقشة بعض الأحاديث )
__________
(1) - ابن الصلاح، علوم الحديث المشهور بـ (مقدمة ابن الصلاح) ص: 90(1/366)
إن أول ما ركز عليه الأستاذ في هذا الفصل هو ما تناوله في الفصل الأول، وهو ما يتصل بشرط مسلم في صحيحه والتزامه به، وأعاد فيه النصوص السابقة. كما أعاد فيه أكذوبته القديمة؛ وهي: أني أدعي أن بيان العلل في صحيح مسلم بالترتيب والتقديم والتأخير. ويبدو أن الأستاذ يأبى إلا أن يحمل وزر كذبه ووزر من يقلده فيه تقليدا أعمى، ولا يريد أن يتراجع عنه، على الرغم من توضيحاتي المتكررة التي تقطع دابر كذبه.
ما الذي يحمله على الإصرار على هذه الأكذوبة، واعتماده عليها في جميع فصول كتابه التنكيل؟! لعلها الوسيلة الوحيدة لتوجيه الطعون والتهم صوب خصمه، وتجريجه وتبديعه وتضليله، لأنه لو تراجع عنها لكان ما بناه خاويا على عروشه.
أما محتوى المحور الثاني الذي يحاورني فيه الأستاذ فخلاصته:
أن جميع الأئمة الذين ذكرنا أسماءهم ونصوصهم في هذا المحور متفقون على أن الإمام مسلما قام بوفاء وعده في مقدمة صحيحه فيما يخص ترتيب الأحاديث حسب الأصحية، وشرح العلل على سبيل الاستطراد، بغض النظر عن تفاصيل هذا الترتيب والشرح، حيث تختلف التفاصيل من شخص إلى شخص. وأما قبل القاضي عياض فقد أنكر الحاكم ذلك، لكن القاضي عياضا عارضه في ذلك، وبرهن على صواب تأويله بالأمثلة التطبيقية من واقع صحيح مسلم، بينمالم ينقل عن أحد قبل الحاكم رأيه حول مراد الإمام مسلم بما بينه في المقدمة.
وعلى الرغم من أني قد أتيت بنصوص اثني عشر عالما في كتابي (العبقرية)(1)، منهم من قال بترتيب مسلم لأحاديثه وشرحه للعلل، ومنهم من قال بأحدهما، فإن الأستاذ لم يعلق إلا على أربعة منهم فقط ، وترك الباقي، مع أن نصوصهم واضحة وجلية إما في مسألة الترتيب أو شرح العلل.
__________
(1) - انظر كتاب العبقرية ص: 53 - 90(1/367)
وعلى كل، ننظر ما هي النتائج التي توصل إليها الأستاذ من خلال تعقيباته؛ فهل استطاع أن ينكر قول العلماء بالترتيب وشرح العلل، أو أنه يقر بآرائهم، لكنهم أخطؤوا فيها ، وأن يقنع القارئ أن تعلقي بهم زور وبهتان؟!.
وقبل أن أدخل في الرد على الأستاذ في تعليقاته على القاضي عياض وابن الصلاح والنووي وابن رشيد السبتي، يحسن بي أن أبين مجازفاته العامة في أسلوب الحوار وخلط الحقائق.
حين قلت له:
’’ينبغي أن نلاحظ أنه لم يصلنا عن أحد بعد تأليف مسلم كتابه (المسند الصحيح) إلى عصر الحاكم نص في تأويل ما قاله مسلم في مقدمته ، وكما أنه لم ينقل عن أحد منهم خلاف حول هذين الأمرين، وعليه فيتعين علينا أن نتركهم جميعا دون أن ندعي عليهم بهذا أو بذاك‘‘ .
علق عليه الأستاذ بأن هذا تفسير باطل. ولم يأت الأستاذ بدليل يدل على بطلانه، بل قام بذر الرماد في العيون من خلال سرده لنصوص الأئمة قبل القاضي فيما يخص التزام مسلم الصحة عموما، الذي لا نزاع فيه بيني وبينه.
يقول الأستاذ في هذا الصدد(1):
’’لأنه تبين لنا من واقعهم وواقع من بعد الحاكم وعياض أنه لم يقم لديهم أي داع لهذا التفسير الباطل، بل القائم لديهم ضده، وهو اعتقاد صحة(2)
__________
(1) - تنكيل الأستاذ ، ص: 93 - 94
(2) - ليس هذا موضوع النزاع بيني وبين الأستاذ، والذي قلته هو : أنه لم ينقل عن أحد من العلماء قبل الحاكم أنه تطرق لمسألة الترتيب ومسألة شرح العلل. وأما اعتقاد الجميع بأن كتاب مسلم من أصح الكتب بعد كتاب الله فأمر متفق عليه.
ولو حاول الأستاذ أن يثبت للقارئ قبل هذا أن التزام مسلم بالترتيب وشرح العلل في مواضع من الكتاب على سبيل التبع والاستطراد يتناقض مع التزامه الصحة لكان عمل الأستاذ في هذا الفصل موضوعيا ومنهجيا.(1/368)
أحاديث مسلم التي نقل الإجماع على صحتها، وما ندر عن القاعدة ممالم يعتقدا ضعفه وتعليله فشيء لم يقصداه، لا سيما وهو نادر ، فكيف والحال هذه يفكرون في الشرح الذي لهج به المليباري(1)؟؟!!‘‘
ويقول في نهاية سرده للنصوص:
’’فظهر بما نقلناه عن علماء المشرق والمغرب قبل القاضي عياض وبعده أنهم لا يعتقدون في الصحيحين إلا الصحة، ومنهم من نقل الإجماع على ذلك‘‘(2)
أقول: إن ما ذكره الأستاذ من النصوص في واد، وقولي في واد آخر. ألا يعقل الأستاذ معنى قولي:
’’إنه لم يصلنا عن أحد بعد تأليف مسلم الصحيح إلى عصر الحاكم نص في تفسير المقصود بما قاله مسلم في مقدمته‘‘، الذي نقله الأستاذ من مسودة كتاب (العبقرية) ؟!
بأي نص من النصوص يستدل الأستاذ على بطلان قولي؟!
هل يستطيع أن يأتي برأي لأحد العلماء قبل الحاكم في تأويل قول مسلم فيما يخص الترتيب وشرح العلل، حتى يكون قولي باطلا؟!
فانطق بعلم أو اسكت بحلم.
فيما يلي تفاصيل الرد على تعقيبات الأستاذ على العلماء .
شبهات الأستاذ حول رأي القاضي عياض
يقول الأستاذ :
’’أن القاضي عياضألم يذكر الترتيب هنا(3)
__________
(1) - إني لا أرى تلازما بين الأمرين؛ فذكر الحديث المعلول على سبيل الاحتجاج ، بناء على اعتقاد الشيخين خلوه من العلة شيء ، وذكر بعض الروايات من أجل شرح ما فيها من علة خارج الأصول وعلى سبيل الاستطراد شيء آخر ، لا تلازم بينهما لا إثباتا ولا نفيا، حتى يقول الأستاذ (فكيف والحال هذه يفكرون في الشرح الذي لهج به المليباري ).
(2) - تنكيل ربيع ، ص: 93
(3) - يبدو أنه يعني بقوله (هنا): أي في أثناء قوله ( وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب، فما وجدت منصفا إلا صوبه وبان له ما ذكرت،..).
ومن تأمل في سياق قول القاضي، علم أن القاضي يعني بقوله (في تأويلي هذا ورأيي فيه) ما سبق له أن شرحه، ألا وهو مسألة الترتيب ومسألة شرح العلل، هذا هو رأيه فيها وتأويله.
إن العجب العجاب أن الأستاذ إذا شاء كان باحثا حكيما يعرف مفاصل السياق وأسراره وبواطنه، ويزن الأمور على مقاصدها ومعانيها، وليس على المباني والألفاظ، وإذا شاء صار باحثا متجمدا لا ينظر إلا في اللفظ والحروف ويغض الطرف عن محتوى السياق، وما سبق من التفصيل أو ما سيأتي بعده من التوضيح، ثم يتهم من ينظر في المقاصد بأنه صوفي باطني !!
وفي هذا الحوار وجدنا ثلاث أحوال تدلنا على ذلك.
الحال الأول: ما يتصل بنقد البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي لحديث الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة. انظر رأي الأستاذ الباحث حول ذلك في القسم الأول من هذا الكتاب.
الحال الثاني : تفسير لفظة (شيئا) في جملة’’ أن مسلما إذا قدم ما هو مستحق أن يؤخره وإذا أخر ما هو مستحق أن يقدمه فمعناه أنه أدرك فيه شيئا جعله يتصرف (كذلك)‘‘ بأنها العلة.
الحال الثالث: هذا الموضوع الذي نحن بصدده الآن .(1/369)
ولم يربط بينه وبين شرح العلل. فكيف تستجيز أن تقول: (يتضح من هذا أن الرأي الصحيح الذي قبله من القاضي عياض كل منصف حقق النظر وراجع أبواب الصحيح هو أن الإمام مسلما أراد بكلامه في المقدمة هو التزامه في تضاعيف كتابه، بترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة، وبشرح العلل في مواضع منه على سبيل التبع، لا أصالة ولا مقصودا)‘‘
’’وهذا كله لا يؤخذ من كلام القاضي عياض هنا، ولا يفهمه عاقل بأي نوع من أنواع الدلالة، وما هو إلا محض الافتراء عليه وعلى الإمام مسلم‘‘.
’’ثم هؤلاء الذين قبلوا قول القاضي لم يحققوا النظر ولم يراجعوا الأبواب،(1)ولم يقل القاضي عياض ولا غيره إنهم فعلوا ذلك؛ فبأي حق تتكثر بهم؟؟!!‘‘(2).
كشف تضليل الأستاذ، ودحض شبهاته
أقول: ههنا ملاحظ عدة:
__________
(1) - أما قول الأستاذ : ’’ثم هؤلاء الذين قبلوا قول القاضي لم يحققوا النظر ولم يراجعوا الأبواب، ولم يقل القاضي عياض ولا غيره إنهم فعلوا ذلك ؛ فبأي حق تتكثر بهم‘‘، فمن تلونه العجيب؛ لقد رأينا الأستاذ مرة رجلا حكيما يزن الأمور بالمعاني وليس بالألفاظ والحروف ، وهنا نراه يتشبث بالحروف والنصوص دون المعاني.
هذا شيء ، والشيء الآخر: كيف يدعي أنهم لم يحققوا ولم يراجعوا؟! هل قام الأستاذ باستقراء كتبهم جميعها ؟! ولو قال : لا أدري أنهم حققوا لكان أفضل وأكثر انصافا. هذا وقد سألني السؤال نفسه
انظر إلى كلامه:
’’فمن أنت حتى تقول مثل هذا الكلام؟! وهل إذا لم تعرف هذا عن أحد من المتقدمين من أهل الحديث أيكون لعدم معرفتك اعتبار ويصبح قولك حجة؟! وهل أنت تفهم ما تقرؤه ولو كان قليلا ؟!‘‘
وكان على الأستاذ الذي ينكر مثل هذا أن يكون قدوة لغيره في الابتعاد عما ينكره، أما وهو يمارس ذلك ثم يتهم الآخرين به فأنسب ما يقال فيه هو (رمتني بدائها وانسلت).
(2) - تنكيل ربيع ، ص: 98 -(1/370)
الملحظ الأول: أني لم أقل إن كل من قبِل من القاضي رأيه فقد حقق النظر وراجع أبواب الصحيح، بل قلت فقط:
(إن الرأي الصحيح الذي قبله من القاضي عياض كل منصف حقق النظر وراجع أبواب (الصحيح) هو أن الإمام مسلما أراد بكلامه في المقدمة هو التزامه ...).
ولا يلزم من هذا القول أن جميع من قبل هذا الرأي هم جميعا حققوا النظر وراجعوا الأبواب.
الملحظ الثاني: ليس من الإنصاف العلمي ولا من التواضع الإسلامي أن يطلق القول بأن: (هؤلاء الذين قبلوا قول القاضي لم يحققوا النظر ولم يراجعوا الأبواب، ولم يقل القاضي عياض ولا غيره إنهم فعلوا ذلك؛ فبأي حق تتكثر بهم).
ذلك لأن هؤلاء الأئمة ليسوا مثلنا؛ نتخرج من الجامعة بأعلى شهاداتها الأكاديمية، وليس منا من درس الصحيحين ولا من قرأهما كاملين على شيخ، اللهم إلا نادرا. أما الأئمة في عصور ما بعد الرواية فأكثرهم يقرؤون كتب الحديث على الشيوخ أكثر من مرة، من أجل توثيق نسخهم منها، وتحصيلهم على الإجازات والروايات التي بها يكتمل تحصيلهم العلمي.
ثم إن القاضي والنووي وابن الصلاح من أبرز شراح صحيح مسلم، وبالتالي يكونون بذلك قد حققوا النظر وراجعوا الأبواب، وإن لم يصرحوا بذلك. ثم إنه لا يلزم أن يصرحوا بذلك حتى نقبل قولهم، لا سيما إذا تأيد رأيهم بواقع صحيح مسلم. ولا يضرنا في ذلك عدم وقوف الأستاذ على ذلك.
فمن عرف حجة على من لم يعرف.
الملحظ الثالث: ينقل الأستاذ عني نصا صريحا واضحا على أن الإمام مسلما يرتب الأحاديث حسب القوة والسلامة، وأنه يشرح العلل في مواضع منه على سبيل التبع، ثم يتناسى ذلك ليتقول علي إنني أدعي بأن بيان العلل يكون بالترتيب والتقديم والتأخير.
الملحظ الرابع: يزعم الأستاذ أن القاضي لم يذكر الترتيب هنا، وأنه لم يربط بينه وبين شرح العلل.
هيا ننظر قول القاضي مرة أخرى لنعرف مدى مصداقية قول الأستاذ:
يقول القاضي:(1/371)
’’وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في موضعها‘‘
ماذا يفهم العاقل من هذا النص؟!
أوليس هذا ما يخص شرح العلل في صحيح مسلم؟!
ومع وجود هذا النص الصريح للقاضي يقول الأستاذ: إن شرح العلل في صحيح مسلم محض افتراء على القاضي ومسلم .
هذا بالنسبة إلى شرح العلل، وأما فيما يخص الترتيب فهذا نص القاضي:
’’ فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريقة الاستشهاد والاتباع‘‘
ولم ينقل الأستاذ هذا المقطع هنا، لا أدري لماذا ؟! ومع وجود هذا النص كيف يقول الأستاذ: ’’ وما هو إلا محض الافتراء على القاضي وعلى مسلم‘‘؟!
وبعد أن ذكر القاضي هذين الأمرين؛ وهما الترتيب وشرح العلل، قال :
’’وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب، فما وجدت منصفا إلا صوبه وبان له ما ذكرت، وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب، والله الموفق للصواب‘‘
إن معنى هذا المقطع أن جميع من فاوضه القاضي ممن يفهم هذا الباب قبلوا منه ذلك الذي سبق شرحه وهو الترتيب وشرح العلة. بل يكون تأويله واضحا لكل من تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب.
إذن اتضح من قول القاضي السابق: أن الرأي الصحيح الذي قبله منه كل منصف حقق النظر وراجع أبواب الصحيح هو أن الإمام مسلما أراد بكلامه في المقدمة التزامه في تضاعيف كتابه ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة، وشرح العلل في مواضع منه على سبيل التبع، لا أصالة ولا مقصودا.
أما قول الأستاذ تعقيبا على هذا :’’وهذا كله لا يؤخذ من كلام القاضي عياض هنا، ولا يفهمه عاقل بأي نوع من أنواع الدلالة، وما هو إلا محض الافتراء عليه وعلى الإمام مسلم‘‘، فمجرد دعوى لا أساس لها من الصحة. من المؤسف أنه لم يبين للقارئ ما الذي ينبغي فهمه من كلام القاضي إذا كان فهمي خطأ.
هل من الحوار العلمي أن ينكر المحاور قول خصمه بدون دليل، ثم يترك القارئ دون أن يبين له الحق والصواب ؟!(1/372)
ومن الجدير بالذكر أنه لم يدع أحد أن شرح العلل يكون بالترتيب والتقديم والتأخير، حتى يقال إنه لم يربط بين شرح العلل وبين الترتيب. والواقع أن الترتيب شيء، وشرح العلل شيء آخر، بينهما فرق كبير، لا تلازم بينهما.
وأضيف هنا: بل كل من قرأ نصوص القاضي أقر برأيه وصوبه؛ إذ لم يعترض عليه أحد في حدود علمي. وحتى إن الأستاذ وجد رأي القاضي وتأويله غنيمة باردة، استفاد منه في رسالته للماجستير، ووافقه على ذلك جميع أعضاء لجنة المناقشة الموقرة. لكن الأستاذ تراجع عن ذلك بطريقة أراها تكتيكية، وترك لجنة المناقشة على موقفها السابق !.
العلة ومجازفة الأستاذ في تفسيرها
يقول الأستاذ(1):
’’إن الإمام مسلما قد صرح مرارا بالتزام الصحة في كتابه مؤكدا ذلك بذم من يروي الأحاديث الضعيفة والمنكرة ومكررا لذلك أيضا. فلو أعطى القاضي هذا الالتزام الجاد المؤكد حقه من الاهتمام لما التفت إلى كلمة عارضة وشبهة طارئة يجب حملها وتفسيرها بما يتماشى مع شرط مسلم المؤكد بالتزام الصحة في كتابه، ولا يكون المرء مراعيا لشرط مسلم (والمؤمنون على شروطهم) إلا بهذا التفسير، وهو حمل العلة على العلة غير القادحة(2)،
__________
(1) - تنكيل الشيخ ربيع ، ص: 98
(2) - كأن الرجل يتكلم مرتجلا ومن غير تحضير. هذا كلامه هنا كما رأيت.
ويقول في ص: 99 من تنكيله : ’’وجد القاضي عياض حديثين : أحدهما في (11/81) ، والثاني في (14/2) قد انتقدهما الدارقطني فقال ما قال ، وهو لا يتفق مع الدارقطني في المنهج ؛ فالقاضي عياض يرى أن مسلما وعد بشرح العلل القادحة ، وعمله هذا وفاء منه بشرطه، والدارقطني وغيره يعتقدون أن مسلما التزم الصحة في كل أحاديثه التي أوردها في صحيحه‘‘.
وقال قبل ذلك ما يناقض هذين النصين:
’’..ولا يستطيع القاضي عياض ولا غيره أن يأتي بحجة واضحة صريحة من صحيح مسلم على تطبيق هذا الشرط الذي زعمه عياض (رحمه الله ). بل القاضي عياض كثيرا ما يجاري الدار قطني في انتقاده لمسلم ويقوم بتأييده فيما يبدو له من علل، ومعنى هذا أن القاضي عياضا ينسى ما قرره من أن مسلما التزم بيان العلل وشرحها، ويقع فيما يعتقده أهل الحديث قاطبة متقدميهم ومتأخريهم أن مسلما التزم الصحة في كتابه – وهو الاعتقاد الصواب – ويشارك الدارقطني وغيره من المنتقدين في اعتقاد أن مسلما التزم الصحة لكنه أخل بشرطه في نظرهم بإيراد هذه الأحاديث المعللة في صحيحه يؤيده الواقع ورأيناه يقول للمنتقدين: إن مثل هذه التتبعات والانتقادات في غير موضعها لأن مسلما التزم بيان العلل وشرحها، وهذه بياناته وتوضيحاته وشروحه‘‘.
أقول: إن الأستاذ ذهب في هذا النص إلى أن القاضي نسي ما قرره بل كان يجاري الدارقطني في انتقاده معتقدا أن مسلما التزم الصحة في كل أحاديثه كما اعتقده أهل الحديث قاطبة – حسب زعمه - ، بينما في النصين السابقين ذهب إلى أن القاضي لا يتفق مع الدارقطني في انتقاده في المنهج معتقدا بأن مسلما شرح العلل القادحة .
هذا وقد دحضنا شبهته بالأمثلة فيما سبق في القسم الأول من هذا الكتاب، ثم إن انتقادات الدارقطني وغيره ليست كما قال الأستاذ ، وقد شرحت ذلك في كتابي ( العبقرية ) انظر ص: 48 – 49.(1/373)
ذلك الأمر الذي تم القيام به من الإمام مسلم .
وهو واضح جلي في كتابه ، ولهذا لم يفسرها أئمة الحديث من عصره إلى عصر القاضي عياض بأنها العلة القادحة...‘‘.
أقول: هذا شيء جميل، وصل الأستاذ في أثناء الحوار في ضوء النصوص إلى أن يقول: ’’ نفسر العلة التي التزم مسلم بشرحها بغير القادحة‘‘. معنى ذلك أن الإمام مسلما يشرح في صحيحه العلة لكنها غير قادحة، ثم أكد ذلك بقوله :
’’ذلك الأمر الذي تم القيام به من الإمام مسلم‘‘.
لعل الأستاذ يريد بذلك تفاوت ألفاظ الحديث. ومن هنا يكون الأستاذ قد فارق كل من قسم العلة إلى قادحة وغير قادحة، إذ أعطى لكلمة (العلة) معنى جديدألم يراعه أحد عند تقسيمها إلى قادحة وغير قادحة. كما أن الأستاذ لم يكن مراعيا لشرط مسلم ( والمؤمنون على شروطهم) إذ فسر العلة الواردة في كلام الإمام مسلم بذلك المعنى الجديد الذي لم يعرف عن أحد من قبل.
أما إذا أراد الأستاذ المعنى الذي من أجله قسموا العلة إلى قسمين: قادحة وغير قادحة فقد قُصم بذلك ظهرُه. ذلك لأنهم يرون اختلاف الرواة في الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع علة غير قادحة، كما سيأتي تفصيل ذلك قريبا _ إن شاء الله تعالى_ .
وجه تقسيم العلة إلى قادحة وغير قادحة، ودحض شبهات الأستاذ حول ذلك
من الجدير بالذكر أن تقسيم العلة إلى قادحة وغير قادحة، له أكثر من اعتبار، وهو كالآتي :(1/374)
1- قد يرجع هذا التقسيم إلى تباين المنهج بين الفقهاء والأصوليين وبين المحدثين النقاد، كاختلاف الرواة في الإرسال والاتصال أو الوقف والرفع أو تغيير السند وقلبه أو زيادة في المتن ونقصانها؛ فإن كان الفقهاء يرون ذلك الاختلاف علة غير قادحة في صحة الحديث انطلاقا من قاعدة زيادة الثقة مقبولة؛ فإن النقاد - باستثناء من عرف بالتساهل كابن خزيمة وابن حبان والحاكم - يتوقفون في قبولها وردها على دلالة القرائن. أما إذا لم تتوافر القرائن لدى الناقد، أو لم يستحضرها فإنه في هذه الحال يرد أمر القبول والرد إلى الأصل والغالب في راوي الزيادة؛ فإن كان ثقة أو صدوقا تقبل، وإلا ترد.
2 - وقد يرجع التقسيم إلى اعتبار نسبي فقط وهو كون الاختلاف في السند مما لا يضر المتن لكونه معروفا بطرق أخرى. ونظرا إلى هذا الاعتبار قسموا العلة إلى قادحة وإلى غير قادحة. فكل علة لم تقدح في صحة المتن يقال إنها غير قادحة، يعني بالنسبة إلى المتن. وليس فيه إنكار قدحية العلة عموما سواء أكانت في المتن أم في السند.
3 - وقد يرجع التقسيم إلى نوع خاص من العلة، وهو الاختلاف بين الرواة في اسم الراوي الثقة أو اسم الصحابي أو كان الاضطراب دائرا بين ثقتين؛ فيقال عن هذا الاختلاف والاضطراب علة غير قادحة، باعتبار أن الحديث مهمأكان راويه فإنه من رواية الثقة وإن لم يعرف بعينه. لكنه قادح بالنسبة إلى إضافة الحديث إلى ذلك الراوي بعينه مادام فيه اضطراب.(1/375)
بناء على هذا الواقع فإن تقسيم العلة إلى قادحة وغير قادحة يختلف أساسه باختلاف النظر والناظر. وعلى كل، فماذا يعني الأستاذ من هذه الاعتبارات؟! وإن كان يريد ما أراده القاضي بالعلة، أو كان يريد ما شرحه القاضي من مفهوم العلة غير القادحة، - وهو الاختلاف بين الوصل والإرسال والوقف والرفع - ، فذلك موضع تباين منهجي بين نقاد الحديث وغيرهم في التصحيح والتضعيف كما شرحنا ذلك في كتابي (الموازنة) و(نظرات جديدة في علوم الحديث).
وعلى كل، يبدو أن الأستاذ لا يهمه التدقيق والتحقيق في هذا الجانب! والذي يهمه هو أن العلة قسموها إلى قادحة وغير قادحة، بغض النظر من الذي قسمها هذا التقسيم، وعلى أي أساس تم تقسيمها. وبالتالي فإنه لا يرى مانعا من حمل كلمة العلة في نص الإمام مسلم على تفاوت الألفاظ المترادفة، بغض النظر عن مدى مصداقية ذلك وإمكانية حملها عليه.
هذا، ويعرف الأستاذ جيدا أنه لا تخلو صفحة من صحيح مسلم من شرح هذا النوع من التفاوت، وتزخر به معظم صفحاته، بل كلما يجمع مسلم بين الأسانيد أو بين الشيوخ فإنه يشير إلى تفاوتهم في الألفاظ أو في السياق إن كان ذلك. مع أن الإمام مسلما قال إن بيانه للعلة في بعض المواضع فقط، وبهذا ينعدم مجال التطابق والانسجام بين واقع الكتاب وبين تفسير الأستاذ لمعنى (العلة) التي جاءت في كلام الإمام مسلم.
فهكذا نرى الأستاذ يرسل أقواله على عواهنها دون أن ينظر في مدى مصداقيتها ودون أن يتأمل هل يتحملها واقع صحيح مسلم، أو لا.
السؤال المطروح : إذا كانت العلة غير قادحة فلماذا تراجع الأستاذ عما أقره في رسالته للماجستير، وتاب عن قوله الذي أعاده في مواضع كثيرة منها، وأنكر فجأة شرح العلة في صحيح مسلم؟!(1/376)
ولماذا قال إذن:’’وأظن أن الباحث خدع بقول القاضي عياض – رحمه الله – بأن مسلما قد التزم هذا الشرط ووفى به وهو شرح العلل وبيانها وإيضاحها. وهو قول قد خدعت به وكنت معجبا به، ثم تبين لي أنه سراب خيال، ولا يستطيع القاضي عياض ولا غيره أن يأتي بحجة واضحة صريحة من صحيح مسلم على تطبيق هذا الشرط الذي زعمه عياض – رحمه الله ‘‘.
وقع الأستاذ في تناقض عجيب وغريب؛ مرة يقر بشرح العلة في صحيح مسلم لكنها غير قادحة، وأخرى ينكر ذلك واصفا إياه بأنه سراب وخيال.
ومن المعلوم أن العلة حسب التعريف هي عبارة عن سبب خفي يقدح في صحة الحديث الذي يشمل السند والمتن، وبالتالي يكون إطلاق العلة على غير القادحة مناقضا للتعريف. ثم إن القاضي ذكر مثالا للعلة التي يشرحها مسلم وهو اختلاف الرواة في الأسانيد والإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المحدثين. وهذا يقطع الخلاف حول الموضوع.
والعلة عند المحدثين النقاد هي عبارة عن خطأ الراوي سواء أكان في السند أم في المتن سواء أقدح في صحة الحديث بكامله أم في صحة القدر الذي وقعت فيه العلة، دون غيره ، والعلة مهمأكانت لا تخرج من كونها قادحة.
العلة وحدود قدحيتها، ومناقشة شبهات الأستاذ حولها
كأن الأستاذ يظن أن العلة القادحة هي التي تقدح في المتن، أما التي تقدح في السند دون المتن فلا اعتبار لها عنده. نعم، تقال العلة غير قادحة إن لم تقدح في المتن، يعني بالنسبة إلى المتن، بغض النظر عن مدى قدحها في السند. هذا الأمر لا يختلف فيه أحد، وهو أمر مسلم به مائة في المائة.(1/377)
لكن تقسيم العلة إلى قادحة وغير قادحة بهذا الاعتبار غير معروف بين المحدثين النقاد، وإنما المعروف أن العلة كلها قادحة لكن تختلف مواقع قدحيتها، فقد تقدح في صحة المتن بكامله، وهذا لا يمكن أن يقع في صحيح مسلم الذي وضع لذكر الأحاديث الصحيحة، وكيف يشرح مسلم في صحيحه أن الحديث باطل، وهذا معلول ، وهذا منكر؟! أليس هذا من مواضيع كتب العلل؟! ولم أدع ذلك؛ لأنه كتاب التزم مسلم فيه الصحة.
يقول ابن الصلاح: ’’وهذا الاستدراك من الدارقطني، مع أكثر استدراكاته على الشيخين، قدح في أسانيدهما، غير مخرج لمتون الحديث من حيز الصحة‘‘.(1)
وقد تقدح في الجزء الذي وقعت فيه العلة دون غيره، سواء أكان في السند أم في المتن. وهذه أيضا تعد علة قادحة لكن قدحيتها تكون فقط في القدر الذي وقعت فيه العلة، مثل زيادة كلمة في المتن، كما في حديث سليمان التيمي في الإنصات، أو تغيير سند مع صحة متنه من طريق آخر صدر به مسلم الباب، كما في حديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد الحرام الذي هو منطلق هذا الحوار، ومتنه صحيح عن أبي هريرة، لكنه غير صحيح عن ابن عمر.
وبيان هذا النوع من العلة على سبيل الاستطراد هو الموجود في صحيح مسلم، كما يدل على ذلك واقع صحيح مسلم، ولم يختلف أحد في ذلك بعد القاضي الذي أزال الإشكال والغموض عن ذلك حين أوضح المقصود بالعلة بأنه: الاختلاف في الإسناد والإرسال والاتصال، أو الزيادة والنقص.
وهذا واضح أيضا في الرسالة الأولى التي أرسلتها للأستاذ في بداية الحوار، وإني أنقله هنا مرة أخرى، وهذا نصه:
__________
(1) - صيانة صحيح مسلم ص: 177.(1/378)
’’ومع ذلك (أعني مع التزام مسلم بترتيب الأحاديث حسب الأصحية) له تصرف علمي آخر في صحيحه، وهو بيان العلة في بعض المواضع منه، وذلك بعد أن أخرج الحديث من طريق صحيح في الأصول، وإن كان لذلك الحديث علة من بعض طرقه فيبين العلة إذا كان المكان مناسبا للبيان، وذلك بذكر طرقه المعللة خارج الأصول ومقصود الكتاب وموضوعه، وهذا البيان ليس بمقصود أصلي صنف وجمع لأجله الكتاب الصحيح، بل إنما هو لغرض استطرادي‘‘.
ونوع العلة التي يشرحها مسلم في صحيحه واضح من هذا الشرح الذي كتبته إلى الأستاذ في بداية الحوار، وهو ما يقع في بعض الروايات والأسانيد مع صحة متونها؛ كحديث ابن عمر في فضل الصلاة في المسجد النبوي الذي أعله النقاد بمالم يقدح في صحة المتن، وإنمأقدحت فقط في صحة الرواية عن ابن عمر.(1)
وأما بيان العلة التي تقدح في المتن بكامله، فليس مجاله صحيح مسلم الذي وضع لرواية الأحاديث الصحيحة، وهذا أمر بدهي لا يحتاج إلى التنبيه، ونكارة المتن لا تكون عادة إلا في مرويات المتروكين والضعفاء، والإمام مسلم لا يعرج عليها في صحيحه. وأما العلل التي ترد في أحاديث الثقات فأكثرها فيما يخص السند، أو إدراج كلمة أو زيادتها في المتن أو رفع موقوف وغير ذلك من الأوهام والأخطاء.
__________
(1) - على الرغم من وضوح المسألة التي شرحتها أبى الأستاذ إلا أن يفهمها غلطا، فكتب للناس أن المليباري ضعف حديثين من صحيح مسلم ، وضيع جزء من السنة ، بحيث يوهم القارئ بأن انفعاله وعنفه في الرد وإرهابه في المواجهة كل ذلك لسبب تضعيف المليباري ما رواه مسلم وللذب عن السنة.
وليس الأمر كذلك، وإنما هو خدعة ومكر ، + ولا يحيىق المكر السيء إلا بأهله " والسبب الحقيقي في ذلك هو تضعيف المليباري ، ما صححه الأستاذ ربيع، رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية آنذاك، كما جاء في رسالته السرية التي أرسلها إلى مدير الجامعة .(1/379)
وفي النهاية أود أن أسأل الأستاذ: أنت بصدد النظر فيما قاله القاضي حول منهج مسلم في الترتيب وشرح العلل، وبعد تعقيبك عليه وبعد اللف والدوران هنا وهناك: ما هي النتائج التي توصلت إليها؟!
هل أنك تؤكد أن القاضي يدعي أن الإمام مسلما قام بترتيب الأحاديث بتقديم ما رواه أصحاب الطبقة الأولى على ما رواه أهل الطبقة الثانية، وأنه شرح العلل أحيانا في صحيحه؟ أو تشكك في ثبوت ذلك عن القاضي، أو تنكر عليه؟
للأسف، لم يلخص الأستاذ للقارئ نتائج تعقيبه الذي شتت أفكار القارئ، وجعله عديم الشعور بأخطاء الأستاذ وتناقضاته، وأبعده عن موضوع الفصل الرابع. وعلى كل علينا أن نستدرك ونقول: إنه تبين من خلال تعقيب الأستاذ أن القاضي أول من حرر مسألة الترتيب في صحيح مسلم ومسألة شرح العلل، بغض النظر عن تفاصيلهما، وأن تعلقي بالقاضي ليس زورا كما يدعي الأستاذ.
النقطة الثانية: شبهات الأستاذ حول رأي الإمام ابن الصلاح في الترتيب
بعد أن رأينا العجائب والمجازفات في تعيقب الأستاذ على القاضي عياض نقرأ تعليقه على ابن الصلاح، لنرى فيه ذلك مرة أخرى.
لقد ذكرت في (العبقرية ) نصوص ابن الصلاح حول ترتيب الإمام مسلم للأحاديث، ثم قلت:
’’فهذا كلام صريح من ابن الصلاح بأن الإمام مسلما يورد في (صحيحه)أحاديث الثقات متأصلا بها وأحاديث الضعاف تابعة لها وأنه يرتبها حينئذ: فيذكر حديث الثقة أولا ، ثم يذكر حديث الضعيف ثانيا ؛ هذا هو الترتيب الذي بينه الإمام مسلم في المقدمة وحرره القاضي قبله‘‘.
فجاء الأستاذ ليعلق عليه بما يأتي:(1/380)
’’أولا : إن الإمام مسلما (رحمه الله) لم يلتزم الترتيب على هذا الوجه الذي ذكره الحافظ ابن الصلاح؛ وتقليده في الخطأ أو تقليد غيره لا يجيزه الإسلام: فالإمام مسلم قد يسوق أبوابا كلها من أولها إلى آخرها برجال من الدرجة الأولى، وهذا كثير ، وقد يصدر الباب بإسناد من رجال الدرجة الثانية ، ثم يعقب بإسناد أو أسانيد من رجال الدرجة الأولى، وقد تكون أسانيد الباب كلها من رجال الدرجة الثانية – وهذا نادر - ؛ وقد بينت ذلك في كتابي ( منهج الإمام مسلم في ترتيب صحيحه)
ثانيا: إن موضع النزاع ليس هو هذا الترتيب الذي قاله ابن الصلاح الذي يرى فيه أن مسلما يسوق أسانيد الطبقة الثانية على وجه التأكيد والتقوية، وإنما هو ترتيب آخر ادعاه المليباري لم يسبقه إليه القاضي عياض ولا ابن الصلاح بل لا يقوله أي مسلم ؛ وهو ذلك الترتيب الذي ينطوي على العلل المدمرة في كل باب من أبواب صحيح مسلم.
فالباب الذي فيه عشرة أحاديث ينسف ترتيب المليباري منها خمسة ولو جاءت من أصح الطرق وأقواها، ويجعلها ترتيب المليباري خارج الأصول والمتابعات؛ وهذا هو الذي أزعجنا وحملنا على التصدي له.
ثالثا: انظر إلى المليباري كيف فرح بكلام ابن الصلاح على مخالفته الواضحة لكلام مسلم (رحمه الله) الذي صرح بقوله: ’’فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعاناها أخبارا يقع في أسانيدها من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان‘‘ ومعنى تقصيناها : أتينا بها كلها؛ وهذا يبطل كلام ابن الصلاح ، وإن واقع كتاب مسلم كذلك ، ويبعد كل البعد عما يقوله ابن الصلاح – غفر الله له - ؛ ولكل جواد كبوة ، وما أخطر هذه الكبوة! كيف يصح قوله : ( وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبع ذلك بإسناد آخر – أو أسانيد – فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة )؟؟!(1/381)
أليس معنى هذا أنه لا يكون صحيحا في كل باب إلا الحديث الأول الوارد بالإسناد النظيف على اصطلاح ابن الصلاح؟؟!
ليته لم يقل هذا الكلام الذي هذا مؤداه، والذي يتعلق به المليباري وأمثاله من أهل الأهواء. ولو تدبر ابن الصلاح هذا القول وما يؤدي إليه لما قاله، مع احترامنا له، وحسن ظننا به.
وهذا صحيح مسلم بين أيدينا لمن أراد أن يعرف الحقيقة، وكتب الرجال موجودة تساعده على ذلك‘‘(1). انتهى كلام الأستاذ.
دحض شبهات الأستاذ حول رأي ابن الصلاح
أقول: هنا زلل ومجازفات لا بد من إيضاحها:
أولا : قلت في كتابي (العبقرية)(2):
’’ثم علق ابن الصلاح على رأي القاضي بقوله: ( كلام مسلم محتمل لما قاله عياض ولما قاله غيره، نعم روى بالتصريح عن إبراهيم أنه قال: أخرج مسلم ثلاث كتب من المسندات، وهذا مخالف لما قاله الحاكم).
وهذا الاستدراك ( أعني استدراك ابن الصلاح بما يعارض قول الحاكم) يدل على ميله إلى ما قاله القاضي، هذا وقد ذكر في مواضع أخرى ما يؤيد القاضي(3)،
__________
(1) - ص : 105 – 107 من تنكيل الدكتور ربيع
(2) - ص: 58 - 60
(3) - لدى الأستاذ تصرف عجيب ، وهو أنه كلامي الأول في آخر الفصل الثاني من التنكيل، ثم علق عليه بقوله : ’’والشاهد منه قوله: ( كلام مسلم محتمل لما قاله القاضي عياض ولما قاله غيره . ثم إن كلام ابن سفيان مخالف أيضألما قاله القاضي عياض أكثر من مخالفته لكلام الحاكم ومن معه) وقد تعلق المليباري بكلام ابن الصلاح والأمر فيه ما ذكرته‘‘. =
والسؤال المطروح : لماذا فرق الأستاذ بين نصوصي وفصل بعضها عن بعض ، ثم ذكر بعضها في نهاية الفصل الثاني ( ص: 103) ثم جعل الفصل الثالث لبيان بقية كلامي( ص: 105) ؟!
ولو قرأ القارئ تلك النصوص كلها مجتمعة في سياق واحد لظهر له أنني أتيت بنصين للإمام ابن الصلاح للبرهنة على أن ابن الصلاح يميل إلى ما قاله القاضي ، لعل الأستاذ لا يريد إلا أن يخفي الحقائق التي تدل على بعدي عن كل ما يتهمني به.(1/382)
مثلا يقول ابن الصلاح في ص: 95 من صيانة صحيح مسلم:
’’الثاني: أن يكون ذلك واقعا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه‘‘.
فهذا كلام صريح بأن الإمام مسلما يورد في (صحيحه)أحاديث الثقات متأصلا بها وأحاديث الضعاف تابعة لها وأنه يرتبها حينئذ: فيذكر حديث الثقة أولا ، ثم يذكر حديث الضعيف ثانيا؛ هذا هو الترتيب الذي بينه الإمام مسلم في المقدمة وحرره القاضي قبله‘‘
ثم نقلت أيضا من ص: 97 من صيانة صحيح مسلم نصا آخر وهو:
’’ أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل، فيذكر العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه ، مكتفيا بمعرفة أهل الشأن بذلك(1)، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا ، وهو على خلاف حاله فيما رواه أولا عن الثقات ثم أتبعه بالمتابعة عمن هو دونهم ، وكان ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته ..‘‘
’’ أشار ابن الصلاح أثناء كلامه إلى أن عادة الإمام مسلم في صحيحه هي ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة إذ قال: ’’وهو على خلاف حاله فيما رواه أولا عن الثقات ، ثم أتبعه بالمتابعة عمن هو دونهم..‘‘. انتهى كلامي من العبقرية.
إن نصوص ابن الصلاح تدل بجلاء أنه ممن يؤيد القاضي في فهمه وتأويله لكلام مسلم في المقدمة فيما يخص منهجه في ترتيب الأحاديث. وقد أقر ذلك الأستاذ نفسه، حين قال متأسفا:
__________
(1) - يرى ابن الصلاح أن صحيح مسلم ألفه مسلم لأهل العلم ، وليس كما قال الأستاذ : لم يؤلفه إلا لعوام الناس الذين وصفهم مسلم بالجهل والعجز .(1/383)
’’ أليس معنى هذا أنه لا يكون صحيحا في كل باب إلا الحديث الأول الوارد بالإسناد النظيف على اصطلاح ابن الصلاح؟؟! ليته لم يقل (يعني ابن الصلاح) هذا الكلام الذي هذا مؤداه، والذي يتعلق به المليباري وأمثاله من أهل الأهواء(1). ولو تدبر ابن الصلاح هذا القول وما يؤدي إليه لما قاله، مع احترامنا له، وحسن ظننا به‘‘(2).
سيأتي التعقيب على هذا المقطع قريبا إن شاء الله تعالى. والذي يهمني هنا أن ابن الصلاح ممن يعتقد أن الإمام مسلما قام بالوفاء بوعده في المقدمة فيما يخص الترتيب، وأنه يرتب الروايات بتقديم حديث الثقات ثم حديث من دونهم إذا جمع تلك الروايات في باب واحد. وهذا خلاف ما ذهب إليه الأستاذ. وبه يتبين للقارئ المنصف أن تعلقي بابن الصلاح والقاضي في ذلك عموما ليس زورا.
ومن الجدير بالذكر أنني لم أضف إليه ولا إلى القاضي جميع تفاصيل هاتين المسألتين، التي شرحتها في ضوء الاستقراء لكثير من الأمثلة من صحيح مسلم، وغاية ما يقوله هؤلاء الأئمة أن الإمام مسلما يرتب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح.
كما قال الشيخ المعلمي:
’’عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح‘‘.(3)
وقال أيضا: ’’من عادة مسلم في صحيحه أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة , يقدم الأصح فالأصح, فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمال أو خطأ فتبينه الرواية المقدمة‘‘(4).
__________
(1) - يتمنى الأستاذ أن يكون من يخالفه في الأمور العلمية ويبين له أخطاءه من أهل الأهواء! أينا أقرب إلى اتباع الهوى: الأستاذ الذي يرفض كلام النقاد غرورا بظاهر السند، أم الذي يدافع عن النقاد ومنهجهم في النقد ؟! فاحكم بالعدل إنه أقرب للتقوى.
(2) - ص: 107 من تنكيل الأستاذ.
(3) - الأنوار الكاشفة ص: 29
(4) - الأنوار الكاشفة ص 230(1/384)
ومن المعلوم أن التصحيح والتضعيف والترجيح ليس تابعا لأحوال الرواة، وقد تكون حال الراوي ودرجته معيارا للترجيح والتصحيح والتضعيف إذا لم يستوف الحديث من القرائن ما يدل على خلاف ذلك الذي يقتضيه الأصل في الراوي.
ثانيا: كان قصدي من سرد نصوص الأئمة هو بيان أنهم كانوا يعتقدون أن الإمام مسلما قام بترتيب أحاديثه في أبواب الكتاب، ولم أقصد بذلك الاستدلال على كل تفاصيل الترتيب التي شرحتها، ليتجلى للقارئ أن الترتيب أمر مسلم لدى الأئمة، ولا ينبغي إنكاره لعناد أو غموض، ومن عرف حجة على من لم يعرف.
ثالثا: لم أكن أدعي أن هذا الترتيب هو وسيلة لبيان العلل في الصحيح، كما أني لم أستدل بتلك النصوص على ذلك أيضا. لذا، فإن قول الأستاذ:’’ وأؤكد لك الآن أن منهجك الباطل لا يقول به عالم مسلم لا النووي ولا عياض ولا ابن الصلاح ولا غيرهم ممن تتعلق بهم‘‘(1)باطل لا أساس له.
رابعا: أن الإمام مسلما بين أقسام الرواة، وهي ثلاثة أقسام. وعليه، فإن القسم الأول يشمل الثقة والصدوق. والقسم الثاني متكلم فيه، والثالث الرواة المتروكون. وليس من المنطق أن نحاول فهم منهج مسلم في ترتيب الرواة، والتفاضل بين أحاديثهم الصحيحة بناء على تقسيم الحافظ ابن حجر في التقريب الذي قسم مراتب الرواة اثنتي عشرة مرتبة، إذ لا صلة بين الصنيعين من قريب ولا من بعيد. وليست معايير التفاضل بين الأحاديث الصحيحة منحصرة في أحوال الرواة وحدها كما توهم الأستاذ.
بما أن التصحيح والترجيح والتضعيف ليس تابعا لأحوال الرواة، فإنه لا ينبغي أن نصحح حديثا أو نرجحه بمجرد كون راويه ثقة أو أوثق، كما لا ينبغي أن نجعل مراتب الرواة التي بينها الحافظ ابن حجر في التقريب معيار الموازنة والتفاضل بين الأحاديث التي صححها النقاد.
__________
(1) - ص: 110 من التنكيل .(1/385)
إن كان الأستاذ قد وصل باجتهاده إلى أن ينكر الترتيب في صحيح مسلم حسب درجات الرواة التي بينها الحافظ ابن حجر، - مخالفا للعلماء الذين قالوا بالترتيب أو بشرح العلل على سبيل الاستطراد، ومناقضا لواقع منهج المحدثين النقاد القدامى في التصحيح والتعليل والترجيح - فلماذا يمنع خصمه من أن يبرهن على منهج مسلم في الترتيب، بالأدلة والأمثلة ، لا سيما وقد قال به شراح صحيح مسلم ومصنفو كتب المصطلح؟!.
والأستاذ كعادته، إذا لم ير من أقوال العلماء ما يوافق فهمه يلجأ إلى تخطئتهم، فهذا الإمام ابن الصلاح الذي اقتنع بأن مسلما رتب أحاديثه في أبواب كتابه، بناء على ما فهمه من قول الإمام مسلم في المقدمة، بعد أن لمس في تضاعيف كتابه الصحيح تطبيقا عمليا لذلك، يقول فيه الأستاذ:
’’ أليس معنى هذا أنه لا يكون صحيحا في كل باب إلا الحديث الأول الوارد بالإسناد النظيف على اصطلاح ابن الصلاح؟؟! ليته لم يقل هذا الكلام الذي هذا مؤداه، والذي يتعلق به المليباري وأمثاله من أهل الأهواء. ولو تدبر ابن الصلاح هذا القول وما يؤدي إليه لما قاله، مع احترامنا له، وحسن ظننا به. وهذا صحيح مسلم بين أيدينا لمن أراد أن يعرف الحقيقة ، وكتب الرجال موجودة تساعده على ذلك(1)
__________
(1) - انظر ص: 107 من التنكيل.
ومن المعلوم أن ابن الصلاح قد شرح الكتاب مثل النووي، وأما الأستاذ فلا أعتقد أنه درس صحيح مسلم كاملا أمام شيخ، ولا أنه قد اعتنى بتحقيقه وتدقيقه وفهم أسانيده، اللهم إلا النظر العاجل الذي تعود أهل عصرنا عليه عند التخريج أو نحوه، وأين تكوينه العلمي من ابن الصلاح، وأمثاله؟! شتان بين المشرق والمغرب.
ثم إن كتب الرجال لا تكفي وحدهألمعرفة أسباب الترجيح والمفاضلة بين الروايات الصحيحة. و من خلال الأقوال والأعمال كشف لنا الأستاذ فهمه الناقص فيما يخص مسألة الترجيح والمفاضلة، وبهذا الفهم صال الأستاذ وجال ووازن حتى قلب الحقائق رأسا على عقب. انظر في تحقيقه لكتاب (المدخل إلى الصحيح).(1/386)
‘‘.
نعم، قد تتاح لباحث معاصر فرصة التعقيب والتصحيح والاستدراك على إمام سابق مهما علا شأنه وذاع صيته، لكن فقط إذا انفرد هذا الإمام بشيء غريب لم يعرف لدى معاصريه، أو خالف الواقع الملموس، أما إذا لم ينفرد بما قاله، بل وافق سابقه ولاحقه من الأئمة، ثم بعد ذلك تأيد رأيه بواقع صحيح مسلم، فمن زلل الباحث المعاصر ومجازفاته أن يخطئ ذلك القول، ثم يتهم من يقف في وجهه منبها لخطورة خطئه بأنه مبتدع ضال يريد هدم السنة!
كيف يكون الباحث مبتدعا ضالا بمجرد مخالفته للأستاذ؟!
هذا، وقد لمسنا من خلال الحوار السابق أن الأستاذ لم ينظر في صحيح مسلم إلا من أضيق الزوايا، حيث كان اعتماده في فهم صنيع الإمام مسلم في الصحيح على أمرين ، وهما:
1 - مراتب الرواة المبينة في كتاب التقريب.
2 - وتبويب الإمام النووي لشرحه وليس لصحيح مسلم.
ذلك لأن الأستاذ جعل هذين الأمرين محورين أساسين لدراسته حول منهج مسلم في الصحيح، لذا لم توصله هذه الدراسة إلا إلى عجائب تصوره وغرائب تفكيره، منها إنكار الترتيب في صحيح مسلم.
لعل من الأفضل أن أنقل هنا بعض الفقرات من مقدمة كتابي (العبقرية)، وهي:
’’فقد عقد الأستاذ المؤلف في كتابه ( منهج مسلم) فصلا خاصا لدراسة بعض النماذج من أحاديث صحيح مسلم، وهي عبارة عن عشرين حديثا، درسها الأستاذ على النحو الذي أوضحناه آنفا فإذا هو يتخبط في الأخطاء والأوهام.
يتداخل عليه راو فيقول عن ثقة: هذا راو ضعيف، قدم الإمام مسلم حديثه، وهذا ثقة، أخر مسلم حديثه، ثم يتساءل: أين الترتيب المزعوم؟!
وتراه يأتي بأحاديث من وسط الباب أو من آخره مع جملة من الأحاديث من أول الباب الذي يليه، ثم يقول: هذه مجموعة من الأحاديث لم يراع فيها مسلم الترتيب، فأين الترتيب؟!
وتراه يخلط بين أبواب مختلفة ويجعلها بابا واحدا، ثم يقول: هذه مجموعة من الأحاديث لم يرتبها، فأين الترتيب؟!(1/387)
وتراه أيضا يخلط بين مختلف المناهج، فيجعل منهج الحافظ ابن حجر في التقريب من تقسيم الرواة حسب الجرح والتعديل معيارا وحيدألمعرفة مراتبهم جرحا وتعديلا عند الإمام مسلم في صحيحه. ومعلوم أن الحافظ ابن حجر لم يكن يعتمد فيه على مذهب الإمام مسلم، ويقول: هذا راو قال فيه الحافظ: صدوق قدم مسلم حديثه، وهذا راو قال فيه الحافظ: ثقة أخر حديثه، فأين الترتيب ؟!‘‘(1).
مع هذه المجازفات نراه مغرورا بنفسه حين قال :
’’ وإن واقع كتاب مسلم كذلك، ويبعد كل البعد عما يقوله ابن الصلاح – غفر الله له - ؛ ولكل جواد كبوة، وما خطر هذه الكبوة! كيف يصح قوله: ( وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبع ذلك بإسناد آخر – أو أسانيد – فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة )؟؟!‘‘
’’ أليس معنى هذا أنه لا يكون صحيحا في كل باب إلا الحديث الأول الوارد بالإسناد النظيف على اصطلاح ابن الصلاح؟؟! ليته لم يقل هذا الكلام الذي هذا مؤداه، والذي يتعلق به المليباري وأمثاله من أهل الأهواء. ولو تدبر ابن الصلاح هذا القول وما يؤدي إليه لما قاله، مع احترامنا له، وحسن ظننا به. وهذا صحيح مسلم بين أيدينا لمن أراد أن يعرف الحقيقة ، وكتب الرجال موجودة تساعده على ذلك ‘‘.
أقول :
أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب.
مغزى قول الإمام ابن الصلاح هو أنه إذا جمع مسلم الروايات في باب من الأبواب فيها ما رواه ثقة وفيها ما رواه ضعيف فإنه يقدم ما رواه الثقة ويجعله أصلا ثم يروي ما رواه الضعيف، هذا معناه؛ فإنه قال ذلك في سبيل دفاعه عن صحيح مسلم وشرطه في الصحيح، انظر إلى سياق كلامه:
__________
(1) - عبقرية مسلم ص: 13(1/388)
’’أن يكون ذلك واقعا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه‘‘.
ولا يفهم أبدا من هذا القول: أنه لا يكون صحيحا في كل باب إلا الحديث الأول الوارد بالإسناد النظيف على اصطلاح ابن الصلاح؟! ، سبحان الله! أراد ابن الصلاح أن يدافع عن صحيح مسلم ويذب عن مكانته، ويبين للناس أنه لا يعكره وجود بعض الروايات الضعيفة فيه، فإذا بالأستاذ يقلب الأمر رأسا على عقب ، فأخذ يستغفر له. ثم يقول : ’’ليته لم يقل هذا الكلام الذي هذا مؤداه، والذي يتعلق به المليباري وأمثاله من أهل الأهواء(1)‘‘.
هذا فهم فيه زلل ومجازفة، وهو كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم.
__________
(1) - كيف تحكم علي بأنني من أهل الأهواء؟! أ هذا علم الجرح والتعديل الذي تحمل لواءه ؟! سبحان الله ! أهكذا كان علماؤنا يجرحون الرواة ويعدلونهم على هوى وبدون علم ؟! ولو قرأت كتاب الشيخ عبد الرحمن المعلمي ( التنكيل) لاستفدت منه في أبجديات فقه الرواة وعلم الجرح والتعديل.
وهل معيار التجريج هو أن يخالفك شخص فيما تراه؟! سبحان الله !
وما قلته في حقي لم يكن إلا بالهوى والظن الكاذب. فإنك لم ترني ولم تسمع قولي ولم ألتق بك، ولم أجلس معك. وكل ما كتبته هو حول علوم الحديث وإحياء منهج المحدثين النقاد ، ولم يكن عملي فيه بهوى بإذن الله تعالى. وإنما كله في ضوء الأدلة والأمثلة وحسب فهمي، وقد أكون مخطئا أو مصيبا، حتى وإن كنت مخطئا لا يلزم أن أكون من أهل الأهواء!(1/389)
ثم من مجازفات الأستاذ العجيبة: محاولته أن يضفي الشرعية على أخطائه وأوهامه ؛ حين نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: ’’فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة ألا يحكيها لمن يتقلدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، وإلا توقف عن قبولها، فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له. وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة مسوغة مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك لما التزمها ..‘‘.
مهارة الأستاذ في قلب الحقائق ثم إضفاء الشرعية على ذلك نادرة العصر.
ما مناسبة نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية هنا؟! ونحن في حوار علمي يبحث فيه كل منا عن الأدلة، لمصداقية رأيه الذي يذهب إليه، وكان قول ابن الصلاح من جملة الأدلة التي أتيت بها، وأنه قد فهم مما نص عليه مسلم في مقدمته ما فهمه القاضي وغيره من الأئمة، وهم حوالي اثنا عشر بين إمام وعالم من الذين وقفت على أقوالهم، ثم إن هذا الرأي يوافق الواقع العملي في صحيح مسلم، وبالتالي لا يعد رأي ابن الصلاح شاذا ولا مقولة ضعيفة. ولو كان ابن الصلاح منفردا برأيه ومخالفا لغيره أو لواقع الكتاب لكان مناسبا نقل ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية إذا كان ينقله خصمه في كتاب ثقافي عام يطلع عليه كل من هب ودب.
والواقع أن قول ابن الصلاح ليس خطأ، وإنما فقط تخيله الأستاذ خطأ بناء على دراسته الشاذة، ولا ينطبق عليه قول شيخ الإسلام ابن تيمية من قريب ولا من بعيد، حتى لو فرضنا أن ما قاله ابن الصلاح مقولة ضعيفة فإنه ينبغي نقله في الكتب العلمية المتخصصة من أجل الاستدراك عليه، أما قول ابن تيمية فإنما ينطبق إذا كان المؤلف يذكر الآراء الشاذة في كتب عامة تقع في أيدي عوام الناس أو أعداء الأمة؛ فإن ذلك يغذي نظرتهم العدائية للإسلام ومصادره، أو يشجع العوام على انحرافهم وشذوذهم وضلالهم.(1/390)
وأضيف هنا في هذه المناسبة أنه لا ينبغي نقل نصوص الأئمة إلى من لا يفهم مغزاها، فإن ذلك يؤدي إلى مصائب جمة، كما ورد عن عبد الله بن مسعود: ’’ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلأكان لبعضهم فتنة‘‘.
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم.
والله المستعان.
النقطة الثالثة: شبهات الأستاذ حول رأي الإمام النووي في الترتيب وشرح العلل
أما الإمام النووي فلم أستدل بقوله، الذي سيأتي نقله من (العبقرية)، على بيان العلل بالترتيب، وإنما أتيت به للاستدلال على أنه (رحمه الله) ممن كان يعتقد بترتيب الأحاديث في صحيح مسلم، وشرح العلة، لكن الأستاذ لم يعجبه ذلك فجاء ليعلق عليه بما يأتي:
’’ إن النووي يمدح الإمام مسلما وصحيحه، ولكنه لا يقصد ما يردده المليباري من أن مسلما يبين العلل من خلال هذا الترتيب ومن خلال التقديم والتأخير وبيان وجوه الاختلاف(1)، وأنه إذا قدم ما هو مستحق أن يؤخره أو أخر ما هو مستحق أن يقدمه أنه يريد بهذا التصرف بيان العلل، فإن هذا ما قاله ولا يقوله عالم يخشى الله ويحترم عقله. وقد بينت له في كتابي السابقين أن النووي لم يفهم ما فهمته من الباطل. ولو كان فهم فهمك هذا لما رد على الدارقطني انتقاده من أول شرحه إلى آخره...‘‘
وقال أيضا: ’’وأؤكد لك الآن أن منهجك الباطل لا يقول به عالم مسلم، لا النووي ولا عياض، ولا ابن الصلاح ولا غيرهم ممن تتعلق بهم‘‘.
ثم نقل الأستاذ عن النووي قوله:
’’(ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيفه الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة)، ليعلق عليه بقوله :
__________
(1) - لم أذكر أن شرح العلل من خلال الترتيب والتقديم والتأخير ، وهذا من أكاذيبه ، والذي ذكرته هو إن شرح العلل بذكر وجوه الاختلاف فقط.(1/391)
’’ولم يذكر الترتيب الذي يلهج به المليباري، ولا شرح العلل، ولا تقديم ما يستحق التأخير .. إلخ. ولا الخصائص الإسنادية‘‘. فكيف يجوز أن ينسب إليه مالم يقله ولم يخطر على باله‘‘(1).
دحض شبهات الأستاذ حول رأي الإمام النووي
أقول: ترفق بنفسك قليلا، إن الرد على قولك هذا موجود في كتابي (العبقرية)، وأنا أنقل هنا من فقراته ما يثبت أن الإمام النووي يؤيد القاضي في رأيه حول الترتيب وشرح العلل، بل إنه طبق ذلك في بعض الأمثلة مصرحا ببعض الخصائص الحديثية كالشهرة وجودة الحديث وتمامه؛ وهذه بعض منها:
قلت في العبقرية ص: 60 – 63 :
’’يقول الإمام النووي معلقا على ما قاله القاضي عياض مما سبق نقله بتمامه: (وهذا الذي اختاره ظاهر جدا )، ثم أكده بقوله الرائع:
(ومن حقق نظره في صحيح مسلم واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص طرقه واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات(2)
__________
(1) - تنكيل الدكتور ربيع ص: 109 - 112
(2) - أين الأستاذ من هذا الكلام الذي يعتبر مثله من الأمور الباطنية وشطحات الصوفية؟! ولماذا لم يثر ثائره هنا ؟! لقد ثار ثائره في ص: 226 – 227 من التنكيل ، حين ذكرت له الخصائص الإسنادية التي اعتمدها مسلم في الترتيب. انظر إلى قوله:
’’ يريد ( أي المليباري ) أن يشعر القراء بأنه متبحر وصاحب نظرات متبحرة ومن علماء الأسرار، وأن غيره سطحيون بعيدون عن معرفة الأسرار وبعيدون عن التبحر في العلوم التي يجيدها كهنة الصوفية. ونحن يسرنا أن نكون على طريقة علماء الظاهر من المحدثين والمفسرين وفقهائهم. ونعوذ بالله أن نكون على طريقة الباطنية المدعين لمعرفة الأسرار واكتناه الغيوب وهم لا يعدون المشعوذين في الأكاذيب والترهات والأساطير‘‘.
أقول : إن هذا القول إقرار منه بأنه ظاهري المذهب، وهو أسهل لكل من لم يتخصص في العلوم، وأما جمهرة علماء السلف الذين يفهمون من النصوص ظاهرها وما تشير إليه من المقاصد والمفاهيم. فهم على حسب فهم الأستاذ باطنيون !!.
وعلى كل، فإن قولي في مسألة الترتيب ليس بدعا، لقد رأيت الإمام النووي يمدح الإمام مسلما بأمور منها: ترتيب مسلم أحاديثه حسب الخصائص الإسنادية، ولو كان الترتيب حسب أحوال الرواة فقط ما ذكر إلا ما يخص مراتب الرواة، لكن أضاف إليه خصائص أخرى في قوله:
’’ ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيف الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك‘‘.
إذن ليس الترتيب بمراتب الرواة فقط، بل بخصائص إسنادية أخرى، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فالأستاذ يخالف القاضي وابن الصلاح والنووي وغيرهم من العلماء الذين ذكرتهم في العبقرية ، إذ ينكر الأستاذ الترتيب بجميع صوره ، بينما يقول هؤلاء العلماء والأئمة بوجود الترتيب وشرح العلل. ودليل الأستاذ في ذلك أنه لم ير ترتيبا حسب مراتب الرواة. ولم يقل مسلم أنه يقدم ويؤخر حسب مراتب الرواة، وإنما قال فقط يقدم ما هو أسلم من العيوب، وقد يتحقق هذا بمراتب الرواة أو بخصائص أخرى تتعلق باتصال السند أو بخلوه من شذوذ وعلة.
ومما يستدعي الغرابة أن الأستاذ نفسه ينص في تحقيقه لكتاب (المدخل إلى الصحيح) على أن الحاكم يرى أيضا ترتيب مسلم بتقديم أحاديث رجال الطبقة الأولى، على أحاديث رجال الطبقة الثانية. (انظر الصفحات : 114 ، 115، 119، 124)
وأما الأمثلة التي ذكرها الأستاذ في كتابيه ( التنكيل) و(منهج مسلم) دليلا على عدم وجود الترتيب في صحيح مسلم، فقد أثبتنا بها دقة مسلم بل عبقريته في الترتيب في ضوء الخصائص واللطائف التي تجعل الحديث أسلم من العيوب.
وفي ضوء هذا الواقع، يتضح لنا أن إنكار الترتيب في صحيح مسلم بدعة جديدة لم يقل بها أحد بعد القاضي إلا الأستاذ، في حدود علمي. والله تعالى أعلم.(1/392)
علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه، بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم... ومن ذلك احتياطه في تلخيص الطرق وتحول الأسانيد مع إيجاز العبارة وكمال حسنها، ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيف الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك)(1)
ولم يكتف النووي بتقرير المسألة نظريا، بل طبقه عمليا في بعض المواضع من شرحه ؛ إذ قال النووي في حديث تتبعه الدارقطني :
(وذكر مسلم في الباب اختلاف طرق هذا الحديث ، فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ، ثم رواه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة . ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبي معاوية ، ولا خرجه من طريقه ، بل خرجه من طريق آخر ، وعلى كل حال فالمتن صحيح لا مطعن فيه ) اهـ بتصرف(2).
وقال ( في مناسبة حديث آخر) :
( وهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة، لأن أولاد سعد تابعون، وإنما ذكر مسلم هذه الرواية المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك)(3).
يعني أن المتن صحيح ، وقد أخرجه مسلم أولا بأسانيد نظيفة خالية من الاختلاف، قصد اعتماده عليها، ثم أورده من طريق حميد بن عبد الرحمن المعلول(4)،
__________
(1) - شرح النووي 1/23
(2) - المصدر السابق 14/26
(3) - المصدر السابق 11/81
(4) - علق عليه الأستاذ بما هذا نصه ( ص: 159): ’’ فمتى سمى هذه الطرق معلولة ؟! ومتى قال : إن هذا الاختلاف قادح ؟! فهل أنت تتعمد الكذب ، أو يجري على لسانك من حيث لا تشعر ..؟!‘‘
أقول : ماذا يسمى الحديث المختلف في رفعه ووقفه أو وصله وإرساله في لغة المحدثين ؟!
الجواب : يسمى معلولا إذا لم يجمع بين الوجوه المختلفة. قد يكون مضطربا أو شاذا أو منكرا. ألم يسمع قول ابن الصلاح : قد كثر التعليل بوصل ما هو مرسل أو رفع ما هو موقوف ؟!(1/393)
مبينا الاختلاف الذي وقع بين رواته في الإرسال والوصل.
وقال أيضا في مواقيت الحج 8/81:
(ذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث حديث ابن عباس أكملها لأنه صرح فيه بنقله المواقيت الأربعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلهذا ذكره مسلم في أول الباب ، ثم حديث ابن عمر لأنه لم يحفظ ميقات أهل اليمن ، بل بلغه بلاغا، ثم حديث جابر لأن أبا الزبير قال: أحسب جابرا رفعه، وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعا)
انتهت الفقرات من العبقرية .
إن هذه النصوص واضحة بدلالتها على أن الإمام النووي مؤيد للقاضي في رأيه الذي سبق ذكره حول الترتيب وشرح العلل. ورأيناه قد طبق في بعض الأمثلة، فبين الترتيب ليس بتقديم رجال أهل الطبقة الأولى على الطبقة الثانية فحسب بل بتقديم الحديث حسب خصائصه الحديثية، وهي في المثال الأول شهرة رواية الأعمش عن أبي حازم، حين قال :
’’فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ، ثم رواه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة‘‘.
أما في المثال الثاني – وهو حديث المواقيت - فسبب الترتيب أن الحديث الأول أكمل وأجود من الحديث الثاني؛ إذ تضمن ذكر المواقيت الأربعة، والحديث الثاني الذي أخره مسلم أنقص، مع أنه مشكوك في رفعه. فتبين أن الإمام النووي يؤمن أيضا بخصائص الإسناد ولطائف الحديث، إذ وصف صحيح مسلم بقوله البديع:
’’ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيف الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك‘‘ . وهذا هو الفهم الصحيح الذي يتعين على الجميع احترامه وتقديره.
وإذا سأل الأستاذ : من أين للإمام النووي أن مسلما يقدم الحديث لكونه أجود وأكمل أو لكونه أشهر ؟!(1/394)
أقول إجابة عنه: ليدقق الأستاذ نظره في سياق كلام الإمام مسلم في (المقدمة) وصنيعه في أبواب (الصحيح) ، في ضوء منهج المحدثين النقاد، ومستفيدا من كلام المتأخرين، فحينئذ يرى دقة مسلم في الترتيب حسب خصائص الرواية.
أما قول الأستاذ: ’’ولو كان (يعني الإمام النووي) فهم فهمك هذا لما رد على الدارقطني انتقاده من أول شرحه إلى آخره...‘‘(1). فليس بشرط أن يطبق ذلك في جميع المواضع المنتقدة، وتكفيني نصوصه الواضحة حول الترتيب ومعاييره، وتطبيقها ولو كان في موضع واحد.
اهتمام الأستاذ بإثارة شبهات حول الأمثلة التي طبق فيها النووي رأيه
والغريب أن الأستاذ نقل من الأمثلة - التي أتيت بها، مما طبق فيها النووي الترتيب وشرح العلل، - ما يمكن له تلبيسه ليقول ساخرا: ’’ مسكين المليباري! إنه يظن أن كل بيضاء شحمة، وكل حمراء تمرة ولو كانت جمرة ، إن كلام النووي عليك لا لك:
ألا تراه حكم بوصل ما يسمى مرسلا من طريق حميد .
ألا تراه قد صرح بأنه ثبت وصله عن أولاد سعد – يعني : من طريق حميد -.
ألا تراه استشهد بالقاعدة التي نسبها إلى الفقهاء والأصوليين والمحققين من أهل الحديث.
ألا تراه أحالك على ردوده على الدارقطني . هذا كله فيما يتعلق بحديث حميد بن عبد الرحمن.
فلماذا تتقول على النووي بقولك الظالم ’’وواضح جدا أن الإمام النووي صرح بأنه أورد هذه الطرق المعلولة، وهو لا يراها معلة، ويرد على من أعلها‘‘ ما أخطر مثل هذا المتهور على العلم، وما أخطره على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلومه. هذا فيما يتعلق بحديث حميد بن عبد الرحمن.
وأما بالنسبة لحديث أم سلمة الذي انتقده الدارقطني وأشار إليه بأنه في (10/43) فماذا استفاد منه المليباري؟! ألا يدرك أنه ضده:
فالنووي قد حكم على استدراك الدارقطني بأنه فاسد.
__________
(1) - تنكيل الدكتور ربيع ص: 109 - 112(1/395)
وحكى أن مذهب مسلم ومذهب الفقهاء والأصوليين ومحققي المحدثين أن الحديث إذا روي متصلا ومرسلا حكم بالاتصال ووجب العمل به.
لأنها زيادة ثقة ، وهي مقبولة عند المحققين.
فلا يصح استدراك الدارقطني .
ولم يقل النووي: إن بيان مسلم للاختلاف من أجل الإعلال بالمرسل كما يريد أن يموه بكلامه المليباري. إن هذا الرجل (.....؟!)(1). فهو يسوق كلام العلماء ويردده على أنه له وهو عليه. فلا والله (؟!) لا النووي ولا القاضي عياض ولا الدارقطني ولا غيرهم من العلماء على منهجك الفاسد إذا قدم ما هو مستحق للتأخير وإذا أخر ما هو مستحق أن يتقدم فإنه أدرك فيه شيئا. ولا أن مسلما يورد الأحاديث المعلة برجال من الطبقة الأولى خارج الأصول والمتابعات. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في الخوارج : ( يقرؤون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم) فإن صاحب الهوى يعميه هواه ويصمه فيحتج بما يخيل له الشيطان وهواه أنه له وهو عليه(2).
ثم إنه على مذهبه الفاسد يلزمه أن يعل ما بعد المرسل مما جاء في آخر الباب عن أم سلمة وأنس من طرق صحيحة بأقوى الأسانيد‘‘. انتهى قول الأستاذ.
رد شبهات الأستاذ ودحضها
أقول: إن كلام الرجل هذا يعكس ثقافته وأدبه وسلوكه وتقواه.
وفيما يخص الشتم والاتهام والسخرية أقول، كما قال الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وقال آخر :
يكلمني السفيه بكل قبح ... ... وأكره ان أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما ... ... كعود زاده الإحراق طيبا
__________
(1) - حذفت ما بين القوسين، وهي كلمة لا يلفظ بها في حق من يتحاور بأدب واحترام إلا العوام الجهلة. هذه من ثقافة الأستاذ المتخصص في الحديث ، وآدابه وتواضعه !!. يمكن أن أفسر هذه الظاهرة المنبوذة بأنها من آثار ما يعانيه الأستاذ من عقدة نفسية حادة ، كلما يرى شيئا لا يعجبه تزداد العقدة حدة ، وبالتالي يفقد وعيه الطبيعي، ويتحدث هذيانا.
(2) - سامحه الله ، فلتة لسان عند ثوران الغضب.(1/396)
أما فيما يخص قلب الحقائق والتلبيس، فأقول:
أما أنت، فتنقل هنا نصوص الإمام النووي وغيره من الأئمة، وهي تدل على أن آراءهم متفقة على خلاف رأيك الذي تذهب إليه، وهو أن مسلما لم يرتب الأحاديث أصلا، وأما هؤلاء فرأيهم الموحد هو أنه رتب الأحاديث، وشرح العلل، بغض النظر عن طريقة الترتيب، هل بالخصائص الإسنادية التي تشمل مراتب الرواة ، أو بتقديم رجال الطبقة الأولى على رجال الطبقة الثانية.
إن كانت هذه النصوص تؤيدني في رأيي بالترتيب وشرح العلل عموما، وأنها لا توافق رأيك بل تخالفك جملة وتفصيلا، فأينا أولى بالاحترام والتقدير: الدكتور ربيع أم المليباري؟! نترك الجواب للقارئ المنصف.
تبجح الأستاذ باستدلاله بحديث عامر بن سعد على عدم ترتيب مسلم للروايات
أما حديث مسلم الذي رواه عن ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه ’’قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما، فقلت: يا رسول الله! أعط فلانا، فإنه مؤمن ... ‘‘ الحديث(1). فقد أتى به الأستاذ مرة أخرى، لكن ليستدل هذه المرة على عدم التزامه الترتيب.
يقول الأستاذ بهذا الصدد:
__________
(1) - في كتاب الإيمان ، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه .. 1/132 ، وقد سبق في القسم الأول هذه المجموعة من الأحاديث تعليقا على دعوى الأستاذ بأن القاضي نسي رأيه وأنه لم يرد على الدارقطني بأن مسلما أراد بيان الاختلاف . وقلت بعد الرد عليه بأنه سيأتي مرة أخرى استدلال الأستاذ بهذه المجموعة بعينها على أن مسلما لم يلتزم الترتيب.(1/397)
’’وسأضرب مثالا واحدا، وأحيل القارئ على كتاب مسلم؛ هذا المثال هو عكس الباب الذي تعلق به المليباري، فقد صدر بحديث فيه علة لم يقصدها، قال: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: ’’قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قسما، فقلت: يا رسول الله! أعط فلانا فإنه مؤمن فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أو مسلم؛ أقولها ثلاثا ويرددها علي ثلاثا أو مسلم. ثم قال: إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار‘‘.
في إسناده ابن أبي عمر لازم سفيان، وهو صدوق؛ قال ابن أبي حاتم: كان فيه غفلة. وفي الإسناد علة وهي سقوط معمر بين سفيان والزهري؛ بين ذلك الدارقطني في تتبعه، ووضحتها في كتابي (بين الإمامين). ثم قال مسلم ( رحمه الله ) :
حدثني زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس فيهم قال سعد فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من لم يعطه وهو أعجبهم إلي .. الحديث.
فهذا الحديث من هذا الوجه فيه بيان لسعد في الإسناد ، وبيان للسبب في المتن كما هو واضح. وفي إسناده ابن أخي الزهري صدوق له أوهام. ثم قال :
حدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد قالا حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه سعد أنه قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فيهم . بمثل حديث ابن أخي ابن شهاب عن عمه. وزاد : فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته ، فقلت : ما لك عن فلان.
وحدثنا الحسن الحلواني حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن إسماعيل بن محمد قال سمعت محمد بن سعد يحدث هذا فقال في حديثه فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده بين عنقي وكتفي ثم قال: ’’أقتالا ‘‘؟! أي: سعدُ، ’’إني لأعطي الرجل‘‘ .(1/398)
فختم مسلم الباب بإسنادين رجالهما من الطبقة الأولى أحفظ وأوثق من ابن أبي عمر وابن أخي الزهري(1).
__________
(1) - ما أدراك أن الأمر كذلك عند مسلم ؟!، وهو لم يقسم الرواة إلا إلى ثلاثة أقسام ، ثم بينها بقوله:
’’فأما القسم الأول، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم.
فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم،....... فأما مأكان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم....‘‘اهـ.
هذه الأقسام الثلاثة من الرواة عند مسلم ، وبالتالي فالقسم الأول يشمل كل الرواة الذين لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ، ويعدون بذلك أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا. وعليه فالصدوق ومن يقاربه من الرواة يدخل في القسم الأول عند مسلم.
وهل الحافظ ابن حجر تقيد بمذهب مسلم عند تقسيمه للرواة إلى اثنتي عشرة مرتبة ؟!.
ثم من مجازفات الأستاذ أن يقول ’’ختم مسلم بإسنادين ‘‘ . كأنه لا يعرف ملابسات الرواية ولا يهمه تحديد مدار الروايات. الواقع أن مسلما أورد حديثين: حديث الزهري وحديث إسماعيل ، وختم الباب بحديث إسماعيل في كتاب الإيمان وكتاب الزكاة. وأما خلطه بين حديث الزهري وحديث إسماعيل بناء على نظره إلى أحوال الرواة من دون تفريق بين الروايات بتحديد مداراتها فمن المجازفة والمغالطة. ولماذا لم يتفضل الأستاذ بقوله إن مسلما ختم بثلاثة أسانيد أو بأربعة ؟! وما دليله على أنه ختم بإسنادين بدلا من قوله : ختم بآخر الأسانيد؟!(1/399)
وقد أحال بمتنيهما على حديث ابن أخي الزهري وهو أتم من حديث ابن أبي عمر، وذكر فيهما زيادتان(1)(؟) ذكرهما مسلم – كما ترى - .
فهذا المثال بهذا الباب فيه عكس ما تعلق به المليباري في الأمور الثلاثة – كما وضحته -. وفيما يدعيه أن مسلما يبتدئ بالأصح فالأصح ، ويرتب حسب القوة والسلامة، وأنه إذا أخر ما يستحق التقديم فإن مسلما أدرك فيه شيئا. أي علة ‘‘.(2)
بل إنه يجعله خارج الأصول والمتابعات كما ادعى في بحثه الأول، وخارج الأصول كما ادعى في البحث الثاني. وأصبح الآن يقول إنه يخرجها على سبيل التبع والاستئناس، ولا ندري ما سيقول في المستقبل .(3)
ومما يبطل دعاوى المليباري في الترتيب والتقديم والتأخير ...إلخ؛ أن الإمام مسلما أورد هذا الباب بعينه بأسانيده ومتنه في ( كتاب الزكاة ، 45، باب إعطاء من يخاف على إيمانه)(4)مبتدئا بالإسناد الثالث ، وهو:
’’حدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد قالا حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه سعد مرفوعا‘‘. فلو كان ملتزما الترتيب فلماذا يقدم هنا ما أخره هناك على هذه الصورة ؟!. انتهت دراسة الأستاذ حول المثال.
دحض شبهات الأستاذ حول هذا المثال، ورد تضليله بالحقيقة
أقول: أولا أرسم شجرة الاسانيد .
ثانيا: إن هذا الحديث رواه مسلم في بابين:
أحدهما في كتاب الإيمان.
__________
(1) - هكذا يرفع الأستاذ المنصوب!
(2) - أقول أنا صاحب النص : أي علة أو غيرها من خصائص الإسناد والمتن. والأستاذ لا يبالي بالكذب والتصرف السيء في نصوص غيره بحيث يحقق غرضه، ثم يضفي الشرعية على أفاعيله !!
(3) - هذا تلاعب بنصوص غيره بما يحلو له ، ولا يجوز هذا شرعا.
(4) - 7/148 من شرح النووي .(1/400)
والثاني في كتاب الزكاة. كلاهما من طريق الزهري وإسماعيل بن محمد، فقدم مسلم فيهما حديث الزهري على حديث إسماعيل، من غير أن يغير الترتيب. وليس للأستاذ فيه دليل على إنكار الترتيب، ولا مجال لقوله ’’فلو كان ملتزما الترتيب فلماذا يقدم هنا ما أخره هناك على هذه الصورة ؟!‘‘.
أما حديث الزهري فرواه من طرق مختلفة؛
فقدم في كتاب الإيمان، حديث سفيان على حديث ابن أخي الزهري وصالح.
وفي كتاب الزكاة، قدم حديث صالح على سفيان وابن أخي الزهري ومعمر(1).
وصنيع مسلم هذا دليل على أن تلك الروايات جميعها في مرتبة واحدة عنده، ومع ذلك فلعل مسلما قدم حديث سفيان في كتاب الإيمان لكونه مطابقا باختصاره لموضوع الباب، وهو: ’’النهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع‘‘. وأما في كتاب الزكاة، فقدم حديث صالح لأنه أكمل حديث يناسب موضوع الباب، وهو: ’’إعطاء من يخاف على إيمانه‘‘.
ولو قدم مسلم حديث إسماعيل على حديث الزهري، لكان دليلا واضحا على عدم اهتمامه بالترتيب.
لفتة غريبة ومفاجئة من الأستاذ، والرد عليها
ومن مجازفات الأستاذ أن يقول:
’’فإن كان لا يعتمد نقله (يعني - والله أعلم - نقل الإمام النووي)، فلماذا يعتمد فهمه فيما يأتي؟‘‘.
أقول : هذه مجازفة، لأن معنى هذا القول أن الباحث إذا قبل من شخص شيئا وصوبه فيه فعليه أن يعتمد كل ما يصدر من ذلك الشخص، مهمأكان.
__________
(1) - لعل الصواب : ’’سفيان عن معمر ‘‘. راجع فتح الباري 1/81 ، وتغليق التعليق 2/33 – 34، ولا أرى فرقا بين هذه العبارات ، إذ تتفق على أن الرواية التي يذكرها مسلم من أجل توضيح علتها لا تكون أصلا يعتد به ويحتج به ولا متابعة يقوى بها.(1/401)
إذا رفضنا مقولة إمام لضعفها ومخالفتها الواقع المعروف، وبناء على آراء العلماء اللاحقين، هل هذا يعني عند الأستاذ تجريج وطعنَ شخصية ذلك الإمام وعلمه، وأنه متروك ولا يقبل منه شيء؟! ولماذا يقبل الأستاذ من الإمام البخاري وغيره من أئمة النقد أقوالهم، وفي الوقت ذاته يرفض بعض أقوالهم في النقد دون دليل؟! هذا منطق عجيب، أوليس هذا من العناد والمكابرة ؟!
وهو الذي أفتى سابقا بأنه لا يجوز تقليد شخص في أخطائه شرعا في سبيل تبرير موقفه الرافض لما قاله ابن الصلاح! إذن لماذا يمنع الآخرين نعمة التمييز بين الصواب والخطأ؟! فبمقتضى هذه الفتوى، يجب علينا أن نرفض الأخطاء مهمأكان مصدرها إذا تبين لنا ذلك في ضوء الأدلة، وعدم اعتمادها، فلماذا إذن يتلون موقف الأستاذ ويقول هنا: ’’فإن كان لا يعتمد نقله، فلماذا يعتمد فهمه فيما يأتي‘‘؟!
هذا، والإمام النووي لم يخطئ ولم ينفرد بقوله، بل وافق القاضي وابن الصلاح والأئمة، بل وافق الواقع في صحيح مسلم، وبالتالي يجب علينا أن نقول: ’’إن رأيه هو الصواب‘‘.
وعلى كل، لم يستطع الأستاذ أن يبرهن للقارئ المنصف على أن تعلقي بقول الإمام النووي زور. بل بدا جليا من خلال الحوار عكس ذلك تماما، وأن تعلقي بكلام النووي كان موفقا ومؤيدا بعلم وإنصاف. ولله الحمد والمنة.
النقطة الرابعة : رأي ابن رشيد السبتي في الترتيب ، وشبهات الأستاذ حوله
ثم انتقل الأستاذ إلى قول ابن رشيد ، فلننظر.
لعل من الأفضل أن أنقل من كتابي (العبقرية)(1)ما قلته بهذا الصدد، وهذا نصه:
__________
(1) - ص: 64 من العبقرية .(1/402)
’’(يقول ابن رشيد الفهري في كتابه (السنن الأبين ) ص: 87 ’’وأما أنت فظهر من فعلك في كتابك أنك لم يصف عندك كدر الإشكال في هذا الحديث، فأوردت في كتابك حديث مالك مصدرا (به) بناء على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع، فقلت: حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي ..‘‘، ثم أتبعته باختلاف الرواة فيه على شرطك من أنك لا تكرر إلا لزيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، فقلت: حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ليث – ح – وحدثنا محمد بن رمح قال : أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة ابنة عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ...‘‘ الحديث.
فابن رشيد الفهري أيضا فهم من منهج مسلم الذي أعلنه في المقدمة، أن الإمام مسلما قدم حديث مالك عن الزهري وصدر به الباب لكونه سليما من احتمال الانقطاع ولا إشكال في اتصاله، ثم أتبعه بحديث الليث عن الزهري لأنه لم يصف عنده كدر الإشكال في اتصاله ‘‘.(1)
جاء الأستاذ ليعلق عليه بما يأتي :
أولا: إن المسألة الأساسية التي قام بمناقشتها ابن رشيد هي قضية الاختلاف بين مسلم والبخاري في الإسناد المعنعن ... (ذكر الاختلاف بينهما).
ثانيا: أما مسألة الترتيب فيجوز أن يكون ابن رشيد قد قلد ابن الصلاح فيها ؛ وذلك غير مسلم لهما(2). (أعاد ما ذكره في كتابه ( منهج مسلم).
__________
(1) - العبقرية ص: 64
(2) - ليس ابن الصلاح وابن رشيد فقط، حتى يقال : (غير مسلم لهما )، بل ذكرت في العبقرية أسماء كثير من الأئمة ، وهم اثنا عشر عالما، والأستاذ لا يسلم لأحد منهم قولهم بالترتيب أو بشرح العلل.(1/403)
ثالثا: أن المليباري لم يفهم قول ابن رشيد الآتي: ( وهو قوله : ’’بناء على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع‘‘)، فإن ابن رشيد إنما أراد إلزام مسلم بما قاله في مقدمته من توسط عثمان بن عروة بين هشام وبين أبيه عروة، فابن رشيد لا يعتقد فيه الانقطاع.
رابعا: أن إلزام ابن رشيد لمسلم بأن ثنى بإسناد فيه انقطاع في اعتقاد مسلم غير سديد؛ وذلك أن الإمام مسلما أورد في باب (جواز غسل الحائض رأس زوجها ..) حديث ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة من طريق مالك ، وهذا إسناد صحيح ، ثم ثنى بحديث قتيبة وابن رمح عن الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ، وهو إسناد صحيح متصل لا غبار على اتصاله من طريق عروة وعمرة؛ فهو صحيح عند مسلم ، وعند جميع أهل الحديث لا انقطاع فيه في نظر أحد منهم، وصحيح عند ابن رشيد أيضا بدليل قوله في السنن الأبين بعد الكلام الذي نقله عنه المليباري :
(فقد بين الليث في حديثه عندك وعند البخاري أنه له عنهما ... وقد كفى الإمام البخاري مؤنة البحث، وبين أنه عند عروة مسموع من عائشة ، فذكر رواية هشام عن أبيه بإسقاط عمرة من طريق مالك وابن جريج عن هشام عن أبيه عن عائشة).
فابن رشيد يعتقد صحة هذا الحديث وصحة كل إسناد من أسانيده حتى من طريق هشام عن أبيه. لكنه أخطأ على الإمام مسلم في قوله : ( بناء على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع )، فإن مسلما لا يعتقد الانقطاع في الطريق الثاني عن الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة أبدا ، بل هذا خطأ واضح عليه من ابن رشيد. فبطلت تهاويل المليباري، وتبين أنه لا يفهم الكلام الذي يتعلق به ثم يستنتج منه ما امتلأ به دماغه من الباطل .(1/404)
افهم ما سبق حق الفهم، ثم تأمل قول المليباري : ( فابن رشيد أيضا فهم من منهج مسلم الذي أوضحه في المقدمة وأن مسلما إنما قدم حديث مالك عن ابن شهاب وصدر به الباب لأنه سليم ومتصل ثم أتبعه بحديث لم يسلم من الانقطاع) وهذا من أفرى الفرى على مسلم وكتابه، وعلى حديث الليث عن ابن شهاب..إلخ.
وقول المليباري: بعد هذا: ( وهذا هو الترتيب العلمي الذي بينه مسلم وفهمه العلماء ) إلخ من أفرى الفرى على الإمام مسلم وعلى كتابه وعلى العلماء، ودليل واضح على الهوى الجامح بالمليباري، وأنه ينتهز كل فرصة تخيل له للتهويش على كتاب تلقت أحاديثه الأمة بالقبول وأجمعت على صحتها.
ثم انظر كيف يضطرب في بحثه ويتناقض، فقد مر بك أنه هول على شرح مسلم للعلل بالترتيب والتقديم والتأخير، ثم هول مرة ثانية بشرح مسلم للعلل بالكلام، ثم عادت حليمة لعادتها القديمة فيعلل هنا بالترتيب والتقديم والتأخير، ولم يعترف من هذا الباب إلا بطريق مالك.
أليس هذا الإرجاف يهدف إلى ما بينته مرارا من سوء قصد هذا الرجل وخطورة المنهج الذي يتعلق به على ( صحيح مسلم) وأنه يهدم أحاديث كل الأبواب ما عدا الحديث الوارد بالطريق الأول في كل باب. ومن أول أقواله الخطيرة ( إن مسلما يخرج هذه الطرق خارج الأصول والمتابعات ) ولو كانت هذه الطرق من أرقى الدرجة الأولى.
دحض شبهات الأستاذ
ماذا عليه لو ركز في الحوار معي على القضية التي أثرتها آنفا ؟! لماذا يطوف بعقول القراء حول ما يدور في خلده من الأمور الخيالية؟!
هنا قضية واحدة، ألا وهي أن ابن رشيد يعتقد أيضا أن الإمام مسلما رتب أحاديثه حسب الأصحية، وما صدر به الباب أصح مما أخره، وبناء على هذا الاعتقاد الذي قوي عند ابن رشيد ورسخ في ذهنه، أخذ يفهم أن حديث مالك عن الزهري أصح وأسلم، وأما حديث الزهري فقد أخره لاحتمال كونه منقطعا.(1/405)
وكان على الأستاذ - إن كان غير مقتنع بذلك - أن يبرهن بالأدلة على أن ابن رشيد لا يعتقد ذلك، والأمر مفتوح للنقاش والحوار .
أما أن يهيم الأستاذ في كل واد ليثير قضايا لا صلة لها بالموضوع، ثم يلف ويدور، وينشغل بتوجيه التهم والتجريج، ثم في الأخير يترك القارئ في حيرته من دون أن يلخص له النتيجة؛ ومن دون أن يعرف ماذا يقرر الأستاذ: هل ينكر عن ابن رشيد رأيه في ترتيب الأحاديث في صحيح مسلم أو يثبته، فهذه زلة من زلات الأستاذ ومجازفاته .
ونحن لا نزال في الحوار مع الأستاذ حول محتوى الفصل الثالث الذي عنون له بقوله الطويل: (مناقشة المليباري في المحور الثاني، وهو: تعلقه بالعلماء زورا، وذلك بزعمه أنهم يوافقونه على منهجه أو مناهجه الباطلة، يتخلل ذلك مناقشة بعض الأحاديث). لذا، كان عليه أن يبين لنا وجه الزور في تعلق المليباري بالعلماء.
كما أنه لا يهمني هنا إن كان ابن رشيد مصيبا في نقاشه مع مسلم أم مخطئا قدر ما يهمني اعتقاد ابن رشيد منهج الترتيب في صحيح مسلم. وما ذكرته عنه كاف في إثبات ذلك، بغض النظر عن مدى صواب قوله وتفاصيل حواره مع مسلم.
وفيما يلي توضيح مجازفاته بالتفصيل :
أما قوله:
’’إن المسألة الأساسية التي قام بمناقشتها ابن رشيد معروفة وخارجة عن الموضوع. أما مسألة الترتيب، فيجوز أن يكون ابن رشيد قد قلد ابن الصلاح فيها ؛ وذلك غير مسلم لهما ...)‘‘
فإقرار واضح من الأستاذ بصحة ما ذكرته في العبقرية من اعتقاد ابن رشيد منهج مسلم في الترتيب، بغض النظر عن مصدره في ذلك، سواء قلد فيه ابن الصلاح أم بناء على فهمه المباشر مما ذكره مسلم في المقدمة، ولا يهمني ذلك بقدر ما يهمني أنه كان يقول ما قاله القاضي والنووي وابن الصلاح. أما أن رأيهما غير مسلم عند الأستاذ فأمر لا يهمني هنا حتى يأتي ببرهان على ذلك.
وقوله: (ثالثا: أن المليباري لم يفهم قول ابن رشيد ..)(1/406)
أقول: إنه ليس من المهم أن نركز على معرفة مدى صحة مضمون قول ابن رشيد؛ هل هو مخطئ فيه أو لا، بقدر تركيزنا على أنه ألزم مسلما بناء على منهجه في الترتيب، وهذا الإلزام واضح من قوله:
’’وأما أنت فظهر من فعلك في كتابك أنك لم يصف عندك كدر الإشكال في هذا الحديث‘‘.
ثم بين هذا الفعل بأنه التقديم والتأخير؛ حين قال:
’’فأوردتَ في كتابك حديث مالك مصدرا به‘‘.
ينبغي أن نلحظ هنا أن مبنى هذا الترتيب في نظر ابن رشيد هو سلامة الحديث الأول من احتمال الانقطاع، وعدم سلامة الحديث الثاني منه، ولم يكن ذلك على أساس أنه من الدرجة الأولى والثاني من الدرجة الثانية.
وهذا واضح جدا أن ابن رشيد – كسابقيه - يعتقد أن ترتيب مسلم للأحاديث إنما هو بتقديم الأصح فالأصح، أي تقديم ما هو أسلم من العيوب حسب تعبير الإمام مسلم في المقدمة. ومن المعلوم أن الحديث يكون أصح وأسلم حين يستوفي من الخصائص العلمية الضرورية والكمالية، ومن الخصائص العلمية أن يكون الحديث أبعد عن احتمال الانقطاع.(1)
__________
(1) - من المؤسف جدا أن يأتي الأستاذ بتصوراته السطحية المتمثلة في مراتب الرواة العامة المبينة في التقريب، من غير أن يربطه بمناسبة مناقشة ابن رشيد لما قاله الإمام مسلم.
وكان الإمام مسلم في المقدمة بصدد مناقشة موضوع اللقاء والمعاصرة في العنعنة، وبدأ يبرهن بأن المعاصرة مع إمكانية اللقاء كافية في إفادة الاتصال، وأما اشتراط ثبوت اللقاء فلا يتحقق به العلم بالاتصال في السند المعنعن، إلا إذا جاء مصرحا بالسماع في كل حديث بعينه، فإن كل معنعن ثبت لقاؤه وسماعه ممن فوقه عموما يحتمل أن يكون في الحديث الذي رواه معنعنا واسطة، فذكر الأمثلة لذلك؛ ومنها هذا الحديث الذي تناوله ابن رشيد.(1/407)
وأما قول الأستاذ بأن المليباري لم يفهم قول ابن رشيد، فغير منهجي، لكن تبين لنا من خلال التتبع أن الأستاذ هو الذي لم يفهم معنى قوله: ( بناء على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع)، إذ قال الأستاذ:
’’إنما أراد إلزام مسلم بما قاله في مقدمته من توسط عثمان بين هشام وعروة ، فابن رشيد لا يعتقد فيه الانقطاع‘‘
العجب أن ينزلق ذهنه إلى ما هو أبعد عن السياق، مع وضوح كلام ابن رشيد: ’’فأوردتَ في كتابك حديث مالك مصدرا به‘‘، ومع ذلك كيف يقول الأستاذ: ’’إنما أراد إلزام مسلم بما قاله في مقدمته من توسط عثمان بين هشام وعروة ، فابن رشيد لا يعتقد فيه الانقطاع‘‘؟!
ومن الذي قال هنا إن ابن رشيد يعتقد الانقطاع؟! وإنما قال ذلك مخاطبا الإمام مسلما بناء على منهجه في الترتيب، وهذا لا يعني أبدا أن ابن رشيد كان يعتقد ذلك حتى تناقشه في هذا الحوار. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن الإمام مسلما لم يذكر في المقدمة توسط عثمان بن عروة بين هشام وأبيه عروة في حديث الزهري. وأين عثمان هنا؟! انظر إلى الرواية الأولى ترى فيها الواسطة بينهما، وهي ( عمرة ) وليس ( عثمان)، وعثمان في حديث آخر(1).
__________
(1) - قال الإمام مسلم في باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه :
1 - حدثنا يحيى بن يحيىقال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة قالت:’’ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‘‘ .
2 - وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح قال أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ’’إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا‘‘. وقال ابن رمح: إذا كانوا معتكفين .
أقول : إن النقاش الذي أثاره ابن رشيد هنا في حديث الزهري ؛ هو هل رواه الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة، أو عن عروة عنها مباشرة بدون واسطة (عمرة )؟!
3 - وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ’’كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلي رأسه من المسجد، وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض‘‘ .
4 - وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة عن هشام أخبرنا عروة عن عائشة أنها قالت: ’’كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وأنا في حجرتي، فأرجل رأسه وأنا حائض‘‘ .(1/408)
إذن، من الذي لم يفهم قول ابن رشيد: الأستاذ المدخلي أم المليباري؟! الجواب واضح، ولا حاجة إلى ذكره، فإن القارئ المنصف يعرفه تماما.
ثم الغريب أن الرجل أقر في الفقرة الثانية بأن ابن رشيد يجوز أنه قلد ابن الصلاح، ثم يأتي في الفقرة الثالثة ليقول: إن المليباري لم يفهم، وابن رشيد إنما ألزم مسلما بما قاله في المقدمة!!. تناقضات عجيبة وغريبة !!.
قوله: ’’رابعا: أن إلزام ابن رشيد لمسلم بأن ثنى بإسناد فيه انقطاع في اعتقاد مسلم غير سديد؛ وذلك أن الإمام مسلما أورد في باب (جواز غسل الحائض رأس زوجها ..) حديث ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة من طريق مالك ، وهذا إسناد صحيح ، ثم ثنى بحديث قتيبة وابن رمح عن الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ، وهو إسناد صحيح متصل لا غبار على اتصاله من طريق عروة وعمرة؛ فهو صحيح عند مسلم ، ‘‘
أقول: لا يهمني أن إلزامه صحيح أم لا، بل كان قصدي واضحا ، وهو بيان أن ابن رشيد ألزم مسلما بناء على منهجه في الترتيب كما فهمه من المقدمة أو من أقوال من سبقه، وبالتالي أنه يؤمن بالترتيب، سواء أصاب هو في الإلزام أم أخطأ ، وسواء أكان الحديث الثاني صحيحا متصلا أم منقطعا، هذا لا يهمني الآن لأني لم أناقش الأستاذ في حكم هذا الحديث .
أما قوله :’’فبطلت تهاويل المليباري ...‘‘ وما بعده من الشغب والتجريج والإرجاف والافتراء، فأقول: بعد ظهور الحقائق، تبين جليا أن ما عمله الأستاذ هنا كله تهاويل ومجازفات، وأنه لم يفهم كلام العلماء جيدا، وسبب ذلك استعجاله في الحكم أو عدم استيعابه منهج القوم ولغتهم.
وما صلة مسألة ترتيب مسلم أحاديثه في الصحيح حسب الأصحية، بالتزامه الصحة فيه، حتى يلزم من القول بالترتيب القول بعدم التزام مسلم بالصحة؟!
النقطة الخامسة: رأي الحافظ ابن حجر في الترتيب وشرح العلل وشبهات الأستاذ حوله(1/409)
ذكرت في العبقرية قول الحافظ ابن حجر في موضوع الترتيب وشرح العلل في صحيح مسلم ، ومما أتيت به من نصوصه ما يأتي :
’’ويقول الحافظ ابن حجر في الهدي ص: 13: ( فهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب) يوجه به الحافظ رأي مسلم بن القاسم القرطبي في تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري‘‘.
’’يعني : يتميز صحيح مسلم بجودة الترتيب وحسن الوضع عن سائر الكتب الحديثية ، ولذا فضله القرطبي على صحيح البخاري. وهذا الترتيب لن يكون إلا ترتيب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح لأن الترتيب الفقهي لم ينفرد به مسلم ، بل يشاركه فيه البخاري وأصحاب السنن وغيرهم ، بل اتفق الجميع على أن البخاري قد فاق الأئمة في الصناعة الفقهية ، ولذا فإنه لم يكن قصده بالترتيب الذي ميز كتاب مسلم سوى الترتيب العلمي الذي يكون بتقديم الأصح فالأصح‘‘.
’’ ويقول الحافظ: في التلخيص الحبير 3/31: وقد بينت في المدرج أن هذه الجملة
(أرأيت إذا منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟) موقوفة من قول أنس ، وأن رفعها وهم وبيانها عند مسلم‘‘(1)
وقلت في الأخير :’’ وعلى كل، فالذي يعنينا هنا هو أن الحافظ ابن حجر أقر القاضي عياضا على ما فهمه من قول الإمام مسلم في المقدمة ، وإلا لاعترض عليه فيه، كما اعترض عليه في تعليل الحديث . فبهذا ظهر لنا أن الحافظ ابن حجر أيضا ممن يعتقد بأن لمسلم منهجا خاصا في ترتيب الأحاديث في صحيحه كما أنه يبين العلل في بعض المواضع من الصحيح تبعا لا أصالة‘‘.
مجازفة الأستاذ في تعليقه على هذه الفقرات
علق الأستاذ على هذه الفقرات بقوله :
__________
(1) - راجع كتاب العبقرية ص: 66 – 67 ، فيه تفصيل لهذا الموضوع ، ولم يعلق عليه الشيخ .(1/410)
’’ أولا : لماذا لم تنقل كلام الحافظ الآتي: ( لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما .....‘‘(1)أفمن يقول هذا القول ويقرر هذا التقرير ويسوق هذه الروايات لإثبات أن الشيخين لا يرويان في كتابيهما إلا ما اعتقد صحته ولا يخرجان ما يريان فيه عللا ، أفمن هذا واقعه يقصد بالترتيب في صحيح مسلم بيان العلل وشرحها بهذا الترتيب .
ثانيا: أن مراد الحافظ بجودة الوضع وحسن الترتيب بعيد بعدا سحيقا عما يدعيه عليه المليباري.‘‘
أقول: بعد أن نقل الأستاذ أقوال الحافظ حول تفضيل المغاربة صحيح مسلم على البخاري التي لا صلة لها بموضوع الترتيب قال في الأخير كليلا :
__________
(1) - نقل الأستاذ هنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في هدي الساري ، وتمامه : ’’ على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل ، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ... وكان محمد بن يحيىالذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري ، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا.
وروى الفربري عن البخاري قال : ( وما أدخلت في الصحيحين حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته، وقال مكي بن عبد الله : سمعت مسلم بن الحجاج يقول : عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته ).
فإذا عرف هذا وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما ، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارض (؟!) لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة ، وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم أقساما:) (الهدي ص: 346 – 347)(1/411)
’’فهذا وذاك ما يقصد الحافظ من حسن الوضع وجودة الترتيب من سياق أحاديث الباب كلها في موضع واحد وسوق المتون تامة محررة وسردها عاطفا بعضها على بعض ، مما دفع المصنفين في الأحكام إلى تقديمه على صحيح البخاري ، والذين يصنفون الكتب في الأحكام إنما يتحرون الأحاديث الثابتة لا الأحاديث المعلة‘‘.
ثم اعترض على الحافظ بقوله:
’’والظاهر: أن المغاربة إنما يفضلون مسلما من جهة الصحة، ومن لا يوافقهم يحمل كلامهم على ما ذكره الحافظ ؛ وكلا الفريقين لا يحكمون على الكتابين إلا بالصحة ، ونعوذ بالله من إرجاف أهل الأهواء بكلامهم على نقيض ما يعتقد هؤلاء العلماء ويقررونه. ثم أرجف بكلام القسطلاني والسيوطي وطاهر الجزائري ( وكتب في الهامش : وقد أطال في ذلك مما يعتبر مناقشته ضياعا للوقت وتكرارا ممجوجا): فإذا رأى كلمة (حسن السياق والترتيب) التي تناقلها بعضهم عن بعض آخذينها(؟) من ابن الصلاح لم يقدم أحد منهم أي دراسة تقنع طالب الحجة بصحة ما يقولونه عن صحيح مسلم ، ثم هم إذا ذكروا حسن الترتيب وجودته لا يريدون من قريب ولا من بعيد ما يرجف به الملياري الذي إذا رأى كلمة ترتيب طار بها فرحا ، وقال : إن مرادهم بالترتيب : الترتيب العلمي الذي يقصد به إثبات العلل في صحيح مسلم بكل وسيلة على وجه مرعب له لم يسبق إليه . برأهم الله جميعا مما يتقوله عليهم ...‘‘(1/412)
أقول : هكذا كان ينهي دراسته بعد الشغب والدعاوى والاتهام والسخرية، دون أن يعطينا فكرة واضحة حول معنى كلمة (الترتيب) التي وردت في نصوص العلماء والأئمة، وكنت أنتظر من الأستاذ حين بدأ يشاغب ويدعي ويتهم ويسخر وينقل نصوصا لا صلة لها بالموضوع أن يفسر لنا المقصود من كلمة (الترتيب)، لكن ما قدم لنا شيئا يصحح به ما فهمناه من كلمة الترتيب، إلا قوله :’’ وسردها عاطفا بعضها على بعض ‘‘ هل هذا هو الترتيب الذي يتميز به مسلم؟! وهل كان غيره يسرد الأحاديث غير عاطف بعضها على بعض ؟! . إذا لم يستطع الأستاذ تفسير هذه الكلمة فعليه السكوت بحلم.
وقد قلت أكثر من مرة: إن الترتيب إنما هو بتقديم الأصح فالأصح ، ولا صلة له بشرح العلل، إذ هو بذكر وجوه الاختلاف.
وفي ضوء ما سبق من ردود الدكتور ربيع تبين جليا أن هؤلاء العلماء وغيرهم بعد القاضي عياض كلهم موافقون للقاضي فيما يتعلق بموضوعي الترتيب وشرح العلل ، ولم يستطع الدكتور ربيع أن ينكر على أحد منهم قوله في الترتيب أو شرح العلل، وكانت مناقشته كلها بعيدة عن الموضوع الذي عالجته في (العبقرية).(1/413)
وفي نهاية هذا الفصل، آن لي أن أسأل الدكتور ربيع: من الذي أنكر من العلماء بعد القاضي ترتيب مسلم أحاديثه في الصحيح وشرح العلل حتى يكون رأيه أفضل وأقرب إلى الصواب؟!. والجواب: لا أحد. إذن، رأي الأستاذ المتمثل في إنكاره الترتيب وشرح العلل على سبيل الندرة بذكر وجوه الاختلاف، يعد شاذا غير مقبول نظرا لكون ذلك ممالم يقل به أحد بعد القاضي. وأما رأيي فهو الصواب، وعليه العلماء، إضافة إلى ذلك قد تأيد بواقع الصحيح أيضا. وعلى الرغم من محاولة الدكتور ربيع نقده، فإنه لم يستطع إنكاره على أحد منهم ولم يثبت أن تعلقي بالعلماء كان زورا بناء على عنوان الفصل، وإنما انشغل بالشغب وإثارة أمور بعيدة عن الموضوع، ولا صلة لي بها. أبرزها تقوله علي بأني أدعي أن بيان العلل يكون بالترتيب والتقديم والتأخير. والحمد لله رب العالمين.
الباب الثاني
الفصل الأول
يحتوي هذا الفصل على النقاط الآتية:
1 - مزيد توضيح حول معنى العلة في كلام مسلم ومناقشة شبهات الأستاذ حوله.
2 - كيف يروي الإمام مسلم حديثا فيه علة، وشبهات الأستاذ حول ذلك.
3 - هل التزم مسلم بحذف القدر المعلول من الحديث، ثم بيان ذلك.
4 - الخصائص الإسنادية ليست مخترعة.
5 - مسألة الإدراج ، وصلتها بالعلة، وأوهام الأستاذ في فهمها.
6 - قواعد النقد عند الأستاذ مثل عصا الأعمى.
7 - أيهما يقدم : ما هو أبعد من الوهم أو ما هو أقرب إليه.
تمهيد
لقد وضع الأستاذ لهذا الباب الثاني عنوان : ’’سوء تطبيقه لمناهجه المضطربة‘‘
ثم قال ملخصا لأهم محاور الباب :
’’وسوف ترى العجائب في هذا الباب كما رأيت فيما سبق فتراه:
1 - تارة يدعي أن مسلما يورد الأحاديث التي فيها علل للاستئناس والاحتياط والاستشهاد؛ ولا يحدد معنى لهذه الألفاظ.(1/414)
وكان في بدء هجومه على صحيح مسلم يرى أن مسلما لا يخرج الأحاديث المعللة خارج الأصول والمتابعات(1).
2 - وتارة يدعي أن مسلما يورد الطرق المعللة لبيان وجوه الاختلاف.
3 - وتارة يدعي أن مسلما يبين العلل من خلال الترتيب والتقديم والتأخير بخلاف منهج أهل العلل في بيانهم للعلل بالكلام الواضح(2).
4 - وتارة يدعي أنه يسلك سبيل العلماء في بيان العلل بالكلام.(3)
5 - وتارة يعل بعض الأحاديث بكلام مسلم خارج الصحيح.
6 - وإذا عجز عن افتعال العلل افتعل الخصائص الإسنادية من الشهرة والعلو والتسلسل ؛ ليقدم بذلك رجال الطبقة الثانية على رجال الطبقة الأولى، ولو كان ما يدعيه من الخصائص متوفرة فيها أكثر، ولو كانت أحاديثهم مما اتفق عليه الشيخان. ولقد أساء في استعمال هذه الأنواع أبشع أنواع الإساءات‘‘. انتهى كلام الأستاذ.
أقول: إن الأستاذ قام في مستهل هذا الباب، بتقديم سريع لأهم النقاط، التي نتوقع أنه سيركز عليها في فصوله، وحددها بالأرقام، غير أن معظمها سبق نقاشها لا سيما في الفصل الثاني من الباب الأول (فصل التلون) وتبين وهاؤها وزورها في ضوء الأدلة والبراهين. ولا أدري لماذا أعاد ذلك مرة أخرى في هذا الباب.
ومما لفت انتباهي أنه لم يذكر ما يتصل ببيان العلة وتتبعه، ضمن نقطة واحدة، بل جعله عنصرا آخر للاضطراب والتلون، حيث قال:’’وتارة يدعي أن مسلما يورد الطرق المعللة لبيان وجوه الاختلاف‘‘، وقد أثبتنا بجلاء ووضوح أن هذه النقاط كلها في سياق واحد حول قضية واحدة وشرحناها في طور واحد وليس ذلك في أطوار مختلفة.
__________
(1) - لعله يقصد : يخرجها خارج الأصول والمتابعات، أو لا يخرجها في الأصول ولا في المتابعات .
(2) - هذا من أهم أكاذبيه التي اعتمده في التنكل وما قبل التنكيل.
(3) - هذه النقاط كلها سبق نقاشها .(1/415)
لعل هذا التصرف ناتج عن استعجال الأستاذ كما عهدناه من قبل، أو أنه لا يجد حرجا من تقطيع نصوص الخصم، ويستعملها كما يحب، بعيدا عن العدل والأمانة.
لو كان الأستاذ منصفا عادلا ما قال: ’’وإذا عجز عن افتعال العلل افتعل الخصائص الإسنادية من الشهرة والعلو والتسلسل‘‘.
فأين العلل المفتعلة في حواري معك ؟!.
في أي كتاب وجدت أثر ذلك حتى تقول: ’’وإذا عجز عن افتعال العلل افتعل الخصائص الإسنادية‘‘؟!
أليس هذا اعتداء على باحث مسلم يجب عليك احترامه بموجب الكتاب والسنة؟!
أوليس هذا إقرار منك بأن الترتيب ليس مبنيا على بيان العلل فقط، بل على الخصائص الإسنادية أيضا بغض النظر عن مدى افتعالها؟!
وهل كنت أضعف الأحاديث في صحيح مسلم من تلقاء نفسي؟!
وإني أتحداك أمام الملإ: ايتني بحديث واحد ضعفته من تلقاء نفسي بمجرد كونه في آخر الباب.
وكل ما كتبته في هذا المجال بين يدي القراء. وكل ما قاله الأستاذ حول ذلك لا يخلو من تضليل وتلبيس أو عناد ومكابرة .
يقول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: + وإذا قلتم فاعدلوا ".
النقطة الأولى : مزيد توضيح لمعنى العلة في كلام مسلم ودحض شبهات الأستاذ حوله
بعد هذا التقديم السريع بدأ بالفصل الأول تحت عنوان:
’’ادعاء المليباري أن مسلما يبين العلل بالكلام بعد أن كان ينكر بيانه به...ومناقشته‘‘(1)
يريد الدكتور ربيع أن يناقشني هذه المرة تحت هذا العنوان حول كلمة العلة وطريقة شرحها في صحيح مسلم.
حين قلت له: ’’إن المقصود بالعلل هو من جنس ما بينه مسلم في صحيحه بصريح كلامه‘‘ فهم منه شيئا آخر، حتى جعله عنوان هذا الفصل كما رأيت، وهو: (ادعاء المليباري أن مسلما يبين العلل بالكلام بعد أن كان ينكر بيانه به).
__________
(1) - ص: 134 من التنكيل(1/416)
انظر تضليل الأستاذ وتلبيسه على القارئ! وأنألم أنكر بيان العلل على سبيل الاستطراد بالكلام، وإنما أنكرت فقط بيان العلل في صحيح مسلم بطريقة كتب العلل مستخدما في ذلك عبارة ( خالفه فلان ) أو (اختلف على فلان).
سترى أيها القارئ الكريم مزيدا من التوضيح حول هذا الموضوع الذي قدمه للقارئ من غير أمانة علمية، وشوه صورته من أجل التضليل والتلبيس والتمويه.
حتى يتجلى موضوع هذا الحوار بجميع أبعاده أود أن أنقل من كتاب العبقرية بعض الفقرات المتصلة بتحديد مفهوم كلمة (العلة) الواردة في كلام الإمام مسلم، والتي أثارت حفيظة الأستاذ، وانفعاله:
’’ من أين للأستاذ هذا المعنى(1)(للعلة )؟! وهل أطلق أحد كلمة العلة على هذا المعنى؟! كلا. والذي وقع في كلام بعض الأئمة خلافا للمشهور هو إطلاق العلة على سبب ظاهر يقدح في صحة الإسناد، كضعف الراوي أو كذبه أو الانقطاع الظاهر أو غير ذلك مما يمنع صحة الإسناد...
وهل في قول مسلم وسياقه ما يدل على ذلك الذي يذهب إليه الأستاذ ؟! كلا ، انظر إلى ما قاله مسلم وتأمل في سياقه. يقول مسلم :
( قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها ، وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى )
فما الذي شرحه من مذهب أهل الحديث؟! الجواب واضح لمن يراجعه بوعي: المنكر وعلامته والزيادة والمخالفة هي جميع ما شرحه من مذهب المحدثين مما يدل بكل وضوح على أنه يريد بالعلة ما يتصل بالمنكر، وخلاصته: ما يكون سببا يدل على وهم الراوي وخطئه.
__________
(1) - المعنى الذي ذكره الأستاذ هو اختلاف ألفاظ الحديث المترادفة التي تتفاوت من راو إلى آخر كلما تعددت الطرق، وهذا المعنى لم يذكره أحد من قبل لكلمة (العلة)(1/417)
ثم إن المواضع من الصحيح التي شرح الإمام مسلم العلة فيها توضح بجلاء أن مقصوده بالعلة هي الخطأ والوهم،(1)مثلا: يقول مسلم في باب كراهية الشروع في النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة : ( قال القعنبي: ’’عبد الله بن مالك بن بحينة عن أبيه، وقوله ( عن أبيه) في هذا الحديث خطأ‘‘
هذا مثال واضح لشرح العلة التي هي عبارة عن خطأ الراوي ووهمه. وبيانها في صحيح مسلم لم يكن إلا على الاستطراد كما تراه هنا؛ لأن الإمام مسلما أورد في هذا الموضوع أحاديث صحيحة عن أبي هريرة وعبد الله بن مالك بن بحينة، ولما أورد مسلم حديث عبد الله بن مالك بن بحينة بإسناده الصحيح ناسبه أن يبين الخطأ الذي وقع من القعنبي ، وقال: (قال القعنبي: عبد الله بن مالك بن بحينة عن أبيه، وقوله (عن أبيه) في هذا الحديث خطأ)‘‘
__________
(1) - انتبه أيها القارئ إلى هذا السياق. كيف يصدق عليه قول الأستاذ ساخرا (ادعاء المليباري أن مسلما يبين العلل بالكلام بعد أن كان ينكر بيانه به) ؟! يريد الأستاذ بالإنكار ما قلت له سابقا:
( بيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلل؛ كأن يقول أثناء الكلام (واختلف على فلان) أو ( خالفه فلان) كما هو معروف في كتب العلل، بل يكون بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله ( خالفه فلان) أو (اختلف على فلان)، وإذا سمعه الحافظ يفهم بأنه اختلاف واضطراب، وإذا سمعه أمثالنا يعدونه تعدد الطرق، ومثل هذا البيان يوجد في معظم كتاب التاريخ الكبير).
وأين في هذا النص إنكار بيان العلة بالكلام ؟! أليس بيان وجوه الاختلاف من الكلام ؟! وإنما الذي أنكرته هو بيان العلة معبرا بقوله (خالفه فلان) أو (اختلف على فلان) كما هو موجود في كتب العلل عادة.(1/418)
والذي دل على خطئه هو مخالفته لجماعة من الرواة الثقات، وبعبارة أخرى: مخالفته للواقع الحديثي المعروف عن عبد الله بن مالك، حيث زاد القعنبي في إسناده قوله (عن أبيه) ، فهذه المخالفة أصبحت علة مؤثرة في صحة قول القعنبي (عن أبيه)، وإن لم تقدح في صحة المتن أو صحة الحديث‘‘.
ثم ذكرتُ مثالين؛ أحدهما لبيان علة الإدراج في حديث الشعبي بأسلوب آخر لكن ليس بصريح كلامه، وإنما بذكر وجوه الاختلاف بحيث يتبين من خلال المقارنة أن عبد الأعلى - أحد رواة هذا الحديث - أدرج في الحديث قول الشعبي، وجعله مرفوعا.
والمثال الثاني: لبيان الخطأ بصريح كلامه كما سبق في المثال الأول.
وفي ضوء هذه الأمثلة لخصتُ المقصود بالعلة وقلتُ :
’’ فالعلة التي وعد مسلم ببيانها وشرحها في بعض المواضع من الكتاب حسب المناسبة وعلى سبيل التبع والاستطراد، هي على اصطلاحها المعروف لدى المحدثين النقاد، ولا يترتب على بيانها في صحيح مسلم على هذا النحو أي تناقض لمقصود الكتاب وموضوعه، وقد بينا من قبل أن الخروج من موضوع الكتاب إلى أمر آخر تبعا له أمر معتاد، ومألوف لدى الجميع‘‘.
ثم أتيت بالأدلة لدحض دعوى الأستاذ بأن شرح العلة هنا بيان فروقات واختلافات الرواة في ألفاظ الحديث المترادفة، ثم ختمت هذا الموضوع بما يأتي:
’’ وبعد هذا أصبح الأمر واضحا جليا أن شرح العلة الذي وعد به مسلم شيء وبيان الفروق التي قد ترد في العبارات وفي الروايات الصحيحة شيء آخر، وأن ما قاله الأستاذ الفاضل من أن العلة هي بيان الفروق في العبارات غير صحيح على الإطلاق‘‘.
هذه خلاصة القول حول معنى العلة الذي شرحته في كتاب (العبقرية). لكن جاء الأستاذ، فبدأ يشاغب بخلط الأمور وإثارة موضوعات جديدة دون أن يركز على مناقشة هذا الموضوع. انظر إلى تعليقه في التنكيل بعد أن نقل كلامي من مسودة (العبقرية )، وهذا نصه:(1/419)
’’أولا : كان في السابق يدعي أن بيان مسلم إنما هو بالترتيب وبالتأخير والتقديم(1)‘‘.
ثانيا: أنه لم يثبت على هذه الدعاوى التي كررها وأكدها وطبقها في أوراقه وفي كتابه قبل هذا: فتراه الآن يقول: ’’إذا تتبعنا نصوص مسلم في بيان العلل وشرحه في بعض المواضع من الكتاب..‘‘ إلخ.
فتحول الآن إلى الاعتماد على نصوص مسلم في بيان العلل وشرحها بالكلام؛ سبحان الله ! فمن هو الذي قال: ’’وبيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلة بأن تقول أثناء الكلام: واختلف على فلان أو خالفه فلان – مثلا - ، كما هو معروف في كتب العلل لابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهما ، بل يكون البيان بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله : خالفه فلان ، واختلف على فلان مثلا.
وإذا سمعه الحافظ يفهم بأنه اختلاف واضطراب. وإذا سمعه أمثالنا فيعدونه تعدد الطرق. ومثل هذا البيان كثيرا ما نجده في التاريخ الكبير ؟؟!!
ومن الذي قال:
وعلى هذا فإذا قدم ما هو مستحق أن يؤخره، وإذا أخر ما هو مستحق أن يقدمه فمعناه : أنه أدرك شيئا جعله يتصرف ؟؟!!
أليس معنى هذا: أن مسلما يخالف الناس جميعا بما فيهم نقاد الحديث في طريق بيان العلل بالكلام والشرح الواضح به.
ومن الذي قال - وهو يطعن(2)في حديث ابن عمر في فضل الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) - أقول : ما صلة هذا القول بالموضوع الذي نحن بصدد مناقشته وتوضيحه. لا سيما وهو موضوع تم نقاشه في فصول الباب الأول أكثر من مرة، وتبين للقارئ المنصف الواعي وهم الأستاذ وخلطه في ذلك.
(2) - هذا من التمويه ، فالذي أعله البخاري والنسائي والدارقطني من الأئمة النقاد هو إضافة حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي إلى ابن عمر . ولم يطعن أحد في متن هذا الحديث ، وهو ثابت عن أبي هريرة، بل متفق على صحته كما سبق ذلك أكثر من مرة.(1/420)
’’ قلت: لما وعد الإمام مسلم في المقدمة أن يضع طرق الحديث في موضعها وقد وضعها في موضعها فعلا، فإذا رأينا المخالفة في الترتيب في الظاهر فينبغي لنا أن نعرف أن مسلما قد أدرك شيئا دفعه إلى ذلك؛ وهذا هو الذي وقع هنا في رواية أيوب، وأنه كان في العادة يقدم رواية معمر عن أيوب عن أهل القسم الثاني‘‘.(1)
بدأ الأستاذ يفقد وعيه، ويعيد الكذب علي مرة بعد مرة ودون ملل ليسخر مني. انظر ماذا يقول:
’’الحمد لله الذي كبتك وساقك إلى مصرعك وجعل هذيانك ببيان مسلم وشرحه للعلل بالترتيب والتقديم والتأخير، وجعلك تقول: إذا تتبعنا نصوص مسلم في بيان العلل وشرحه في بعض المواضع من الكتاب تبين لنا جليا أن العلة هي المعروفة عندهم.
ثم ضربت مثالا لبيان مسلم وشرحه للعلة القادحة بالكلام لا بالترتيب والتقديم والتأخير. وكان الناس ينتظرون منك أن تقيم الأدلة والبراهين على أن مسلما لا يبين العلل ويشرحها إلا بالترتيب والتقديم والتأخير فقط، فإذا بك تفاجئهم بأمر جديد هو الشرح والبيان بالكلام؛ وهو ضد ما كنت تلهج به من الترتيب والتقديم والتأخير ، وقد طبقته فعلا على بعض أبواب مسلم وأشرت إلى مواضع أخر من صحيح مسلم، وكان عملك هذا – أو تقعيدك – ينطوي على خطر كبير جدا على صحيح مسلم، ولولا سيف الحق الذي سله الله عليك والحصار الشديد الذي ضرب عليك لفعلت الأفاعيل .
ثالثا: الذي أعرف من منهج مسلم أنه إذا كان في الحديث أو في الإسناد علة فإنه يحذف ما اشتمل على تلك العلة، ثم يبين ذلك التصرف الذي عمله. ولنضرب لذلك أمثلة تقطع دابر التلبيسات والمغالطات‘‘.
ثم ذكر الأستاذ أربعة أمثلة ؛
منها حديث عائشة في الاستحاضة، واستدل به على أن مسلما حذف كلمة (توضئي) من الحديث لأن فيها علة قادحة عنده.
__________
(1) - عجبا للأستاذ ؛كم مرة ينقل هذه النصوص ؟! وقد أجبنا عن إشكال الأستاذ أكثر من مرة .(1/421)
وحديث أبي قتادة ؛ إذ حذف مسلم كلمة (الخميس ) لأنها وهم ، وصرح بأنه حذفها من أجل ذلك.
وحديث عبد الله بن عمر الذي رواه مسلم من طريق ابن قسيط ثم قال: (وساق الحديث بهذا المعنى إلا في قصة الإهلال فإنه خالف رواية المقبري فذكره بمعناه سوى ذكره إياه)
وحديث القعنبي الذي قال فيه (عن أبيه)، حذفها مسلم من الإسناد ثم نبه على أنها خطأ جريا على عادته في حذف الألفاظ المعللة ، ثم شرح ذلك التصرف وبيانه(1).
وبعد الأمثلة قال :
’’ وفي هذه التصرفات بحذف الأخطاء والأوهام أدلة وبراهين واضحة على أن مسلما لا يتعمد إيراد الأحاديث التي فيها علل في صحيحه بحال من الأحوال، وذلك وفاء منه بشرطه الذي اشترطه على نفسه من التزام الصحة. والقول بأنه يتعمد إيراد العلل في صحيحه ويشرحها بالترتيب والتقديم والتأخير أو بغير ذلك قول باطل.
ولو قال المليباري بمثل ما يقوله ويسلم به العقلاء لما عارضه في ذلك أحد، ولكنه يأتي بالتقولات الباطلة والدواهي الفظيعة، فكيف يسكت عنه وعن تلاعبه وتقولاته الباطلة.؟؟!! انتهى كلام الأستاذ.
هذا التعقيب تضمن نقاطا عدة ، وأثار موضوعات مختلفة، لا بد لنا أن نقف عند كل منها لنحاوره فيها، تاركا منها ما سبق نقاشه وكشف وهاءه وزوره وكذبه. لذا وضعت عناوين مستقلة لكل منها قبل الحوار تسهيلا للقراء.
__________
(1) - قارن بين هذا الذي ذكره هنا وبين قوله في موضع آخر:
’’وقوله (عن أبيه) في هذا الحديث خطأ، فأنت ترى مسلما ساق الإسناد على وجه الصواب، ثم نبه على الخطأ، ولعل الحامل لمسلم على هذا التصرف أنه قد سمعه من القعنبي على الوجه الصواب، ثم سمعه منه على الوجه الخطأ، فرواه على الوجه الصواب، ونبه على الخطأ‘‘ .
إذ يدل هذا القول على أن مسلمالم يحذف شيئا من السند الذي ذكره على الصواب، بينما يدل القول الذي هنا على أنه حذف من السند ما وقعت فيه العلة.(1/422)
النقطة الثانية: كيف يروي الإمام مسلم حديثا فيه علة، وشبهات الأستاذ حول ذلك
قوله: ’’ ثانيا : أنه لم يثبت على هذه الدعاوى التي كررها وأكدها وطبقها في أوراقه وفي كتابه قبل هذا : فتراه الآن يقول: إذا تتبعنا نصوص مسلم في بيان العلل وشرحه في بعض المواضع من الكتاب..‘‘ إلخ.
أقول: سبق أن شرحت أنني لم أتغير منذ بداية الحوار إلى يومنا هذا، وكنت أقول إن منهج مسلم في الترتيب: تقديم الحديث وتأخيره حسب الأصحية، كما قال الأئمة الذين سبق ذكر أسمائهم؛ كالنووي وابن الصلاح وابن رشيد والعراقي وابن حجر وغيرهم، وأن بيان العلل في صحيحه إنما هو بذكر وجوه الاختلاف على سبيل الندرة. والذي يفهم من الترتيب أن الحديث الذي صدر به الباب أصح، والحديث الذي بعده دونه صحة.
ومما يلفت إليه الانتباه أن المحدثين يشرحون العلل بطرق من أشهرها طريقتان:
الأولى: أن يقولوا ’’تفرد به فلان‘‘ أو ’’غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه‘‘ أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على تفرد الراوي بما لا أصل له.
والطريقة الثانية: أن يكون بذكر وجوه الاختلاف، قد يكون مصحوبا بقولهم (هذا خطأ) أو (هذا غير محفوظ)، أو غير ذلك من العبارات الصريحة. وقد يكون مصحوبا بقولهم ( خالف فلان فلانا ) أو ( اختلف على فلان)، أو لا يكون مصحوبا بهذه العبارات، كما في معظم مواطن التاريخ الكبير للبخاري.
وحسب تتبعي لصحيح مسلم وجدت الصورة الأولى والأخيرة من الطريقة الثانية، ومن الجدير بالذكر أن شرح العلل في صحيح مسلم إنما هو على سبيل الندرة، وخارج الموضوع لمناسبة علمية خاصة، كما شرحنا في الأبحاث السابقة.
أما قول الأستاذ:’’أليس معنى هذا أن مسلما يخالف الناس جميعا بما فيهم نقاد الحديث في طريق بيان العلل بالكلام والشرح الواضح به‘‘ فمن مغالطاته.(1/423)
على الرغم مما أوضحت له أن بيان العلل في صحيح مسلم لا يكون بعبارة: (اختلف على فلان)، أو (خالف فلان) كما هو موجود في كتب العلل، بل يكون بذكر وجوه الاختلاف، كما هو موجود في التاريخ الكبير، فإن الأستاذ كابر بقوله: ’’ أليس معنى هذا أن مسلما يخالف الناس جميعا بما فيهم النقاد في طريق بيان العلل بالكلام والشرح الواضح به‘‘ .
فذكر وجوه الاختلاف إنما هو بالكلام أيضا عند الناس جميعا، لكن ليس هو بالكلام الصريح الواضح الذي يفهمه كل الناس، مثل أن يقول: أخطأ فلان أو وهم فلان. وهل يظن الأستاذ النقادَ يشرحون دائما العلل بالكلام الواضح أو بالشرح البين؛ مثل قولهم: (أخطأ فلان) أو (وهم فلان) أو (هذا خطأ) ؟!
انظر إلى كلام الحافظ ابن حجر السابق نقله: ’’ يقول الحافظ: في تلخيص الحبير 3/31: (وقد بينت في المدرج أن هذه الجملة ( أ رأيت إذا منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه)؟! موقوفة من قول أنس ، وأن رفعها وهم، وبيانها عند مسلم‘‘
هل كان هذا البيان بالكلام الواضح أو بذكر وجوه الاختلاف فقط.
لقد فهم الحافظ من شرح مسلم أن الراوي الذي جعلها مرفوعة قد وهم، من غير أن يقول مسلم إنه وهم، لكنه شرح ذلك بذكر وجوه الاختلاف بين الرفع والوقف. وهذا معنى قولي:
’’وإذا سمع حافظ من الحفاظ يفهم أنه اختلاف واضطراب، وإذا سمعه أمثالنا يعدونه تعدد الطرق‘‘.
وإذا راجعت كتاب (التتبع) للامام الدارقطني وجدت فيه جميع أساليب بيان العلل.
النقطة الثالثة: هل التزم مسلم بحذف القدر المعلول من الحديث ؟!
كلما يقع الأستاذ في مأزق علمي أثناء الحوار يكتشف أمرا جديدا يستخدمه للخروج من مأزقه، بغض النظر عن مصداقية ذلك الجديد. ومن ذلك أنه أخذ يدعي أن الإمام مسلما يحذف من الحديث ما وقعت فيه العلة، ثم يروي بقية الحديث السليم.
انظر إلى قوله:(1/424)
’’ ثالثا: الذي أعرف من منهج مسلم أنه إذا كان في الحديث، أو في الإسناد علة فإنه يحذف ما اشتمل على تلك العلة ...‘‘
أقول: هكذا يقول الأستاذ ، بينما يقول الحافظ رشيد الدين العطار:
’’ والجواب عن ذلك ( أي إيراد مسلم لحديث زيد بن ثابت بإسناد فيه خلل ) أن مسلما – رحمه الله – إنما احتج بحديث البراء وحده ، وإنما أورد الإسناد الثاني لأن شعبة حدث به غندرا هكذا ، فأورده مسلم كما سمعه من أصحاب غندر، والظاهر من مذهبه أنه لا يختصر من الحديث شيئا، وإن اختصر منه شيئا لضرورة نبه عليه‘‘(1).
وقال أيضا: ’’ومسلم رحمه الله إنما أخرج هذه الزيادة تبعا للحديث المسند الذي وقعت هي في آخره، ولم ير اختصارها منه ، على عادته التي بيناها من قبل‘‘.(2)
كما أن في صحيح مسلم أمثلة لم يحذف فيها القدر المعلول من الحديث، بل ذكره وبين علته(3).
فهذا حديث سليمان التيمي عن قتادة في الإنصات عند قراءة القرآن. رأينا الإمام مسلما قد بين علة هذه الزيادة من خلال ذكره مخالفة سليمان للثقات فيها، ولم يحذفها مسلم كما زعم الأستاذ.
يقول أبو مسعود الدمشقي(4): ’’إنما أراد مسلم بإخراج حديث التيمي تبيين الخلاف في الحديث على قتادة لا أنه يثبته...‘‘ وهو حديث (إذا قرأ فأنصتوا)(5).
وهذا المثال يدل على خلاف ما فهمه الأستاذ من منهج مسلم في حذف العلة.
__________
(1) - غرر الفوائد المجموعة ص: 222
(2) - المصدر السابق، ص: 237 ، راجع الصفحات التالية : 278 ، 299 ، 312
(3) - انظر هامش كتاب (علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد) ص: 157
(4) - أبو مسعود الدمشقي هو أحد متتبعي صحيح مسلم، مثل الإمام الدارقطني.
(5) - انظر كتاب عبقرية الإمام مسلم للمؤلف ص: 67.(1/425)
ماذا يقول الدكتور ربيع في الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب الرضاع باب تحريم طلاق الحائض 10/69 وقال: (وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرني ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة سأل ابن عمر ...) قال مسلم: أخطأ حيث قال: ’’عروة‘‘، إنما هو ’’مولى عزة‘‘.
لم يحذف الإمام مسلم قوله’’عروة‘‘ مع كونه خطأ وتصحيفا.(1)
أما حديث ابن قسيط(2)فلا ينطبق عليه ما يقوله الأستاذ؛ ذلك لأن الإمام مسلما أحال إلى حديث المقبري، ولم يذكر إلا طرفا منه، ثم أشار إلى الاختلاف بينهما فيما يخص قصة الإهلال.
ولو أتى مسلم بلفظ ابن قسيط دون قصة الإهلال لناسب القول إنه حذف الكلمة لمخالفته للمقبري فيها، لكنه أحال الحديث إلى حديث المقبري.
من هنا يتجلى وهم الأستاذ في قوله: ’’ومن هنا رجح مسلم رواية المقبري على رواية ابن قسيط، ثم حذفها لأنها وهم‘‘؛ إذ ضمير المؤنث في قوله (ثم حذفها لأنها وهم ) ترجع إلى الرواية، ورواية ابن قسيط ذكرها مسلم في صحيحه: وهي :
(
__________
(1) - انظر التفصيل في هذا المثال ص: (50) من هذا الكتاب .
(2) - هذا الحديث رواه مسلم من طريق ابن قسيط عن عبيد بن جريج قال: حججت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب بين حج وعمرة ثنتي عشرة مرة فقلت : يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت منك أربع خصال. وساق الحديث بهذا المعنى إلا في قصة الإهلال فإنه خالف رواية المقبري.
وقصة الإهلال ذكرها ابن خزيمة وهي: (وقال رأيتك إذا أهللت فدخلت العرش قطعت التلبية قال صدقت يا بن جريج خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل العرش قطع التلبية فلا تزال تلبيتي حتى أموت)
وهي تخالف ما ورد في حديث المقبري ، وهو (ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية ) وقال : (وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتي تنبعث به راحلته)(1/426)
حدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عبيد بن جريج قال: حججت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما - بين حج وعمرة - ثنتي عشرة مرة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت منك أربع خصال. وساق الحديث بهذا المعنى إلا في قصة الإهلال فإنه خالف رواية المقبري، فذكره بمعنى سوى ذكره إياه )
وهذا كما ترى أن الإمام مسلما أورد رواية ابن قسيط، دون ذكر لفظ حديثه كاملا بل أحاله إلى حديث المقبري بقوله ’’وساق الحديث بهذا المعنى‘‘، مع الإشارة إلى تفاوت لفظهما في قصة الإهلال.
وفي ضوء هذا الواقع، لا يقال: إن مسلما حذف قصة الإهلال من حديث ابن قسيط لأنها معلولة، إلا إذا أتى مسلم بلفظ حديث ابن قسيط دون قصة الإهلال، أما هنا - كما ترى - فقد حذف مسلم الخصال الأربعة جملة، وهذه غير مخالفة لحديث المقبري، وإنما خالفه في قصة الإهلال فقط.
ومن تلك الأمثلة الواقعية الواضحة حديث سالم عن ابن عمر في قصة العبد ، نقل الحافظ ابن حجر وغيره أن مسلما جزم بأن قصة العبد ليست مرفوعة ، وإنما هي موقوفة على عمر كما قال نافع. ومع ذلك فقد أورد مسلم الحديث بكامله دون أن يحذف قصة العبد التي لا تصح مرفوعة عنده(1).
__________
(1) - لدى الأستاذ نظرة غريبة تجاه هذه المسألة. يقول : يحتمل أن الإمام مسلما غير رأيه السابق، لذا أورد الحديث بكامله في الصحيح، ولو كان ثابتا على رأيه لحذف القدر المعلول منه.
أقول: لم يثبت الأستاذ في ضوء الدليل الملموس: أن مسلما غير رأيه في ذلك فصحح تلك القصة، إلا بمجرد الاحتمال. وذكر مسلم قصة بيع العبد في باب بيع النخلة يعد دليلا على أنه لا يريد الاعتماد عليها عند ذكر الحديث إلا بالجزء الذي يوافق موضوع الباب.
ولو كان الأمر كما زعم الأستاذ لأعاد مسلم حديث سالم بكامله أو قصة العبد فقط في كتاب العتق ، لكنه لم يفعل ذلك.(1/427)
نعم قد يحذف مسلم من الحديث كلمة لكونها معلولة مع الإشارة إليها، لكن ليس هذا مطردا في منهجه، وقد لا يحذفها كما في الأمثلة التي ذكرتها آنفا، وفي كلتا الحالين يبين الإمام مسلم العلة.(1)
النقطة الرابعة : الخصائص الإسنادية ليست مخترعة.
مما اكتشفه الأستاذ لهروبه من المأزق العلمي الذي صرعه فيه استعجاله في الحكم والفهم قوله :
’’أولا : نحن ننتظر منك إثبات العلل في صحيح مسلم في ضوء منهجك: ( الترتيب ، وشرح العلل من خلاله ، وبالتقديم والتأخير)؛ فإذا لم يسعفك هذا المنهج أحوج ما تكون إليه فيجب أن تتنصل ... فلما هزمت هزيمة منكرة أيها المتبحر العديم النظير في السابق واللاحق، وانهزم منهجك المشحون بالدقائق والأسرار التي تبحرت منها؛ لجأت إلى مخترعات جديدة لا يجرؤ عليها إلا أمثالك ....‘‘
لعل الأستاذ يعني بالمخترعات الخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية التي يهتم بها المحدثون، ويراعونها في الرواية ويبرزونها في المذاكرة. ويدل على شدة حرصهم عليها وعنايتهم بها ما تعارف عليه المحدثون من الرحلات العلمية الواسعة. وقد ذكرت سابقا أن الإمام مسلما أوضح اهتمامه بعلوّ الإسناد وجودة المتن. وإذا تتبعت فتح الباري للحافظ ابن حجر، وشرح النووي لصحيح مسلم وكتب المصطلح عموما ترى فيها مدى اهتمام المحدثين بعلو السند وشهرة الحديث وتسلسل الروايات وصحتها وجودة المتون وكمالها.
__________
(1) - ومن الجدير بالذكر أن مسلما رتب هنا بتقديم حديث المقبري على حديث ابن قسيط حسب الأصحية ، فحديث المقبري أخرجه البخاري وغيره من طرق مختلفة عن المقبري ، وهو أصح بشهادة الأستاذ، إذ قال:
’’ وقد روى حديث المقبري البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم ؛ وقد رواه عدد عن المقبري ؛ ومن هنا رجح مسلم رواية المقبري على رواية ابن قسيط ثم حذفها لأنها وهم‘‘ ( تنكيل الدكتور ربيع ص: 140)(1/428)
لكن الأستاذ يرى تلك الخصائص المجسدة بأوضح صورة في واقع روايات مسلم مخترعة. والواقع أنهأليست مخترعة.
انظر إلى قول مسلم في التمييز: ’’رواية بشير بن يسار أصح الروايتين‘‘ وأعاده في النهاية بقوله: ’’ وحديث بشير بن يسار في القسامة أقوى الأحاديث وأصحها‘‘ يعني من رواية أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي حثمة. ونراه في صحيحه قد طبق ذلك حين أورد حديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار، وصدر به الباب، ثم ذكر حديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار، وختم الباب بحديث أبي ليلى عن سهل بن حثمة الأنصاري(1).
ومن أمعن النظر في هذه الروايات علم أن هذا الترتيب والتقديم والتأخير ليس بناء على مراتب الرواة وطبقاتهم التي لخصها الحافظ ابن حجر في التقريب، وإنما لكون الحديث أكثر سلامة من علة وشذوذ.(2)
__________
(1) - كتاب القسامة والمحاربين .. ، باب القسامة 11/151 ( شرح النووي)
(2) - قال الإمام مسلم في التمييز (ص: 144 - 146) عن حديث سعيد بن عبيد : ’’هذا خبر لم يحفظه سعيد بن عبيد على صحته ، ودخله الوهم حتى أغفل موضع حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته ‘‘.
وقال أيضا: بعد أن ساق جميع ما رواه مسلم هنا في صحيحه من الروايات عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار وغيرها :
’’ وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم البينة ، إلا ما ذكر سعيد بن عبيد في خبره ، وترك سعيد القسامة في الخبر فلم يذكره ، وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقتضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة‘‘.
وبعد أن رأينا قول الإمام مسلم نفسه يمكن القول بأنه أخر حديث سعيد بن عبيد لهذه العلة التي بينها . فروى من حديثه ما وافقه فيه غيره ، أما حديث أبي ليلى الذي ختم به مسلم فقد صرح بـ ’’أن رواية بشير أصح الروايتين‘‘ يعني رواية بشير ورواية أبي ليلى.(1/429)
والجدير بالذكر أن بشير بن يسار وأبا ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن كلاهما ثقة.
هذا أنموذج واضح لدقة مسلم في ترتيب الروايات حسب الخصائص الإسنادية وتقديم الأصح فالأصح، وإذا دققت النظر في هذه الروايات وملابساتها ترى كيف تمت عملية المقارنة والمفاضلة بينها، ولا يمكن إجراء هذه الموازنة بين الروايات إلا في ضوء الحفظ والفهم والمعرفة؛ حيث قارن مسلم بين رواية بشير بن يسار ورواية أبي ليلى من زاوية أنهما قد اشتركا في الرواية عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري.
وبعد هذه المقارنة قال مسلم: أصح الروايتين: رواية بشير بن يسار.
ثم بعد المقارنة بين رواية يحيى بن سعيد من جهة وبين رواية سعيد بن عبيد من جهة أخرى لكونهما قد رويا عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري: قال بمخالفة سعيد ليحيى، وأن رواية سعيد غلط.
وأين يقع نظر الأستاذ في صنيع الإمام مسلم؟! كان يأخذ كتاب (التقريب) ويتصفح فيه ويقول: هذا راو من أهل الطبقة الأولى، وهذا من الطبقة الثانية أو من الثالثة أو من الرابعة، أو غير ذلك؛ فقدم حديث هذا على ذلك، أو حديث ذاك على هذا، إذن لم يراع مسلم الترتيب!.
وبعد هذه الدراسة السطحية التي لم يراع فيها الأستاذ سوى أحوال الرواة ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل المبينة في كتاب التقريب، ارتكب طامة أخرى وهي أن يصف خصائص الإسناد والرواية بأنها مخترعة من طرف المليباري.
هكذا تم نظر الأستاذ في عمل الإمام مسلم، بدون حفظ ولا علم ولا فهم، وبسرعة فائقة أيضا لأنه في عصر السرعة !! بل تتم المحاكمة بين الأئمة أو الموازنة بين أعمالهم أيضا بهذه الطريقة ذاتها، ثم يتحدى بزهو وغرور (لو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي وصلت إليها، والحمد لله إني طبقت قواعد المحدثين..) !!(1/430)
وعمل الأستاذ هذا – وربما تكون نيته فيه حسنة، فيما أحسن الظن به على الرغم من إساءته إلي وتعامله معي بقساوة وعداوة وانفعال وغضب وتبديع وتجريج واتهام– فإنه يؤدي إلى طمس معالم النقد عند المحدثين، وتهميش قواعد علوم الحديث، تدريجيا. لذا يجب على أهل العلم التصدي لذلك بكل صرامة وبدون محاباة.
النقطة الخامسة: مسألة الإدراج ، وصلتها بالعلة، وأوهام الأستاذ في فهم ذلك
نعود إلى تعليق الأستاذ حول مسألة الإدراج في حديث الشعبي لأقول: إن المسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل.
ذكرت حديث ابن مسعود في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على الجن، من أجل توضيح معنى العلة التي أراد مسلم بيانها وشرحها في بعض المواضع من كتابه الصحيح، بعد أن أثار حولها الأستاذ شبهات، ولتسليط الضوء على أساليبه المتنوعة في ذلك الشرح المستطرد، كل ذلك تفنيدألما زعمه الأستاذ من أن المقصود بالعلة هو مجرد بيان تفاوت الألفاظ بين الأحاديث الصحيحة التي يرويها في صحيحه، وهذا التفاوت يعد علة غير قادحة حسب اجتهاد الأستاذ، وحجته في ذلك أن العلماء يطلقون العلة على القادحة وغير القادحة.
أما وجه استدلاله على ما يدعيه بهذا الإطلاق فقد استغربته فعلا ، وهو يقول في سبيل تفنيد ما قلته :
’’ما المانع إذن أن يطلق مسلم كلمة العلة على تفاوت الألفاظ بين الأحاديث الصحيحة‘‘؟!
ذلك لضآلة النتيجة التي توصل إليها وسطحيتها بعد شغبه وانفعاله.
ليتضح ذلك الأمر أنقل هنا من كتاب العبقرية ما يأتي:
’’ونسوق مثالا آخر، يقول مسلم في كتاب الصلاة ، باب الجهر بالقراءة في صلاة الصبح:(1)بعد أن أورد حديث ابن عباس مصدرا به هذا الموضوع:
__________
(1) - صحيح مسلم 4/167 – 171من شرح النووي .(1/431)
’’ حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن داود عن عامر قال سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟! قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود. فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟! قال: لا. ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير - أو اغتيل - قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: آتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن.
قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم.
وحدثنيه علي بن حجر السعدي، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بهذا الإسناد إلى قوله : ( وآثار نيرانهم)، قال الشعبي : ’’ وسألوه الزاد، وكانوا من جن الجزيرة .. إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله.
وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن داود عن الشعبي عن علقمة عن عبد لله عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: ( وآثار نيرانه) ولم يذكر ما بعده. اهـ
هذا مثال واضح لبيان العلة وشرحها في صحيح مسلم؛ حين أوضح الإدراج الذي وقع في حديث عبد الأعلى عن داود عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود، وصورة الإدراج أنه جعل قول الشعبي: ( وآثار نيراهم .. ) من حديث ابن مسعود، وساقه بسياق واحد، يفهم منه أن الحديث كله مما رواه عبد الله بن مسعود. بينما رواه الثقات عن داود عن الشعبي، وفصلوا بين حديث ابن مسعود، وبين قول الشعبي الذي لا يدرى من أي مصدر أخذه .(1/432)
يقول الدارقطني في هذا الصدد: ’’وأخرج مسلم حديث عبد الأعلى عن داود عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله حديث ليلة الجن بطوله، وآخر الحديث إنما هو من قول الشعبي مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج حديث ابن مسعود: ’’فأرانا آثار نيرانهم‘‘، وما بعده إلى آخر الحديث، وهو قوله : وسألوه الزاد إلى آخره.
وكذلك رواه ابن علية ويزيد بن زريع وابن إدريس وابن أبي زائدة وغيرهم عن داود. وقد رواه حفص عن داود عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله، وأتى بآخره مسندا ووهم فيه. (والله أعلم)(1).
بناء على قول الدارقطني في التتبع الذي يرشدنا إلى دقة الإمام مسلم في تعامله مع هذا الحديث، قلت في (العبقرية):
’’ولما أورد مسلم حديث ابن مسعود متابعا لحديث ابن عباس أراد أن يبين الإدراج الذي وقع من عبد الأعلى خطأ، فبينه على سبيل الاستطراد ( أي على سبيل التبع)(2). هذا هو معنى (العلة) التي تولى الإمام مسلم شرحها في مواضع من (الصحيح)، ويتم الشرح والإيضاح بأساليب متنوعة، وهذا أسلوب منها‘‘(3).
أما الأستاذ فلم يبين لنا من خلال تعليقه ما يدل على أن القول بالإدراج خطأ. انظر إلى قوله(4):
__________
(1) - كتاب التتبع ص235 ،وانظر العلل 5/131 تحقيق محفوظ الرحمن .
(2) - ومن الجدير بالذكر أن هذه الكلمة مما شغب به الأستاذ أكثر من مرة، ولذا أوضح هنا مرة أخرى بما يلي:
إن كلمة (على سبيل التبع) ليس معناها: المتابعة المعروفة في كتب المصطلح، وإنما معناها: (على سبيل الاستطرد)، إذ بيان الخطأ ووجه التلفيق بين المقطوع والمرفوع، ليس من موضوع الكتاب ومقصوده الذي من أجله ألفه، وبالتالي فإن تطرقه إليه أصبح استطرادا وعلى سبيل التبع.
(3) العبقرية ص :45
(4) تنكيل الأستاذ ص: 143(1/433)
’’ثالثا: لقد جزمتَ بإنكار أن تكون هذه الجملة من قول ابن مسعود؛ وهذا جزم باطل، وتصرف مسلم لا يدل على أنه حكم عليه بالإدراج، ولو كان يرى هذا لحذفه مسلم من صحيحه كما فعل بزيادة حماد وغيرها. ولقد دفعت عن هذه الجملة علة الإدراج في كتابي (بين الإمامين) قبل ما يقرب من عشرين سنة، ... فقد وجدت هذه الزيادة خارج مسلم من طرق مرسلة ومن طرق متصلة فرجحت الوصل على الإرسال لكثرة طرق الوصل، وذكرت له ثلاثة شواهد..‘‘.
أقول: إن الأستاذ لم يقدم دليلا على أن حديث عبد الأعلى عن داود عن الشعبي ليس فيه إدراج، وأن الشعبي قد روى الحديث كله متصلا عن علقمة عن ابن مسعود. وأما قوله إنه رجح الاتصال في كتابه (بين الإمامين)، فيأتي (إن شاء الله تعالى) نقاشه مفصلا بعنوان ’’قواعد النقد عند الأستاذ مثل عصا الأعمى‘‘.
وعلى كل، فإن الأستاذ لم يبرهن من خلال هذا التعليق على أن الشعبي روى الحديث كله متصلا، بل هي مجرد دعوى.
وأما استدلاله على ذلك بشيء اخترعه مؤخرا - وهو التزام مسلم بحذف ما وقعت فيه العلة – فلا يتم له إلا إذا أثبت ذلك بنص الإمام مسلم، أو نص إمام معتبر، أو بواقع كتابه الصحيح. والأستاذ لم يقدم لنا إلا بعض الأمثلة في صحيح مسلم، لكن قمنا سابقا بتفنيد هذه الدعوى ودحضها بأمثلة أخرى من صحيح مسلم ذاته، بحيث يدل ذلك على أن حذف الجزء من الحديث مما وقعت فيه العلة ليس منهجا مطردا عنده، فقد يحذف وقد لا يحذف(1). وسنرى غروره بهذا المخترع في أماكن أخرى من التنكيل، ويجعله دليلا، فيقول: ’’لو كان معلولا لحذفه كما رأينا هنا‘‘.
__________
(1) - يبدو من خلال التتبع أنه يحذف الكلمة التي فيها إشكال إذا كانت متصلة بموضوع الباب، وإلا يذكرها، كحديث سليمان التيمي في الإنصات ، وكحديث الشعبي هذا المدرج . والله أعلم(1/434)
ثم إني لم أجزم بالإدراج دون دليل، وما ذكره مسلم من الاختلاف كاف في فهم الإدراج الذي قال به العلماء؛ كالدارقطني والترمذي، والحق معهم لما سيأتي من الأدلة والقرائن.إن شاء الله تعالى .
قواعد النقد عند الأستاذ مثل عصا الأعمى
لعل من الأفضل أن أذكر القارئ هنا بأن تعليل النقاد لحديث عبد الأعلى بالإدراج لا يعني أبدا أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق الشعبي، وإنما يعنى فقط أن الشعبي إنمأروى جملة (فآثار نيراهم...) مرسلة، وأنه لم يروها عن علقمة متصلة، بغض النظر عن الحكم بصحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم صحتها.
وأما لو حكم النقاد بنكارة هذه الجملة وعدم صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا من طريق الشعبي ولا من طريق آخر، فإن مجال البحث عن الشواهد أصبح ضروريا إذا كان الأستاذ يرى خلاف ذلك.
لقد رأينا الأستاذ يعتمد في تصحيح حديث عبد الأعلى الذي أعله الترمذي والدارقطني بالإدراج، وترجيحه، على ما يأتي:
1 - رواة الحديث ثقات.
2 - وجود متابعات وشواهد.
ومما يدعو إلى الاستغراب أنه اعتبر المتابعات سببا للترجيح والتصحيح على الرغم من كون هذه المتابعات شاذة ومنكرة، لمخالفتهألما هو أولى بالقبول، وأكثر سلامة من العيوب وأبعد عن الوهم والخطأ، ولم يهتم الأستاذ بمعالجة مشكلة الإدراج التي أثارها الدارقطني وغيره ولم تكن تلك المحاولة حسب مقتضى المقام.
نقد استطرادي لدراسة الأستاذ حديث عبد الأعلى في كتابه (بين الإمامين)
وأما كتاب (بين الإمامين) فقد راجعته فوجدت فيه آثار تخبطه في فهم كلام النقاد واضحة، إذ حمله الأستاذ على غير محمله، وعالج الإشكال الذي أثاروه في الحديث بطريقة سطحية، قبل أن يستوعب منهج المحدثين في التصحيح والتعليل والترجيح، ومدى اعتمادهم فيه على القرائن المعرفية. ويتضح ذلك من العرض الآتي:(1/435)
أولا: الحديث رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب الجهر بقراءة القرآن في صلاة الصبح والقراءة على الجن، حسب تبويب الإمام النووي لشرحه، من طرق مختلفة تدور على داود بن أبي هند عن عامر الشعبي(1)، وحديث عبد الأعلى عن الشعبي أعله الترمذي والدارقطني من أجل الإدراج فيه، وبين الإمام مسلم وجه هذا الإدراج بذكر وجوه الاختلاف.
الجدير بالذكر أن موضوع الباب هو الجهر بقراءة القرآن في صلاة الصبح، وأما حديث عبد الأعلى ففي موضوع القراءة على الجن، وليس فيه ذكر الصلاة أصلا، وعلى هذا تكون قصة القراءة على الجن استطرادية بالنسبة إلى أبواب كتاب الصلاة؛ لذا جعل الإمام مسلم حديث ابن عباس أصلا للباب وصدره به، ثم أورد حديث عبد الأعلى لمناسبته لحديث ابن عباس الذي تضمن قصة الجن، أو للدلالة على أن هذه القصة التي ورد ذكرها في حديث الشعبي إنما وقعت في مناسبة قراءته في صلاة الصبح.
مهمأكانت مناسبة ذكر حديث الشعبي في كتاب الصلاة تبعا لحديث ابن عباس الذي هو أصل الباب فإن الإمام مسلما أصبح بحاجة ملحة إلى بيان الإدراج في حديث عبد الأعلى عن الشعبي، فأتى بروايات مخالفة له، لتدل على أن حديث عبد الأعلى مدرج.
ثانيا: نقل الإمام النووي في شرحه تعليل الدارقطني لحديث عبد الأعلى بلا اعتراض عليه، فكأن الإمام النووي يقر رأيه، كما قال الشيخ مقبل (رحمه الله تعالى)(2):
’’ولكن الذي تطمئن إليه النفس هو ما حكم به هؤلاء الحفاظ؛ كالترمذي والدارقطني وأقره النووي، من أن آخره من قول الشعبي، على أن مسلما رحمه الله قد أشار إلى ذلك ولم يخف عليه. والله أعلم.‘‘.
ثالثا: أما الذي صحح هذا الحديث عن الشعبي من رواية عبد الأعلى وحفص، خلافألما ذهب إليه النقاد، فهو الشيخ أحمد شاكر(رحمه الله)، وحجته في ذلك:
__________
(1) - انظر ص: ( ) من هذا القسم
(2) - كتاب التتبع، ص: 236(1/436)
أ - أن حفص بن غياث ثقة حافظ(1).
ب - والراوي قد يصل الحديث وقد يرسله(2).
__________
(1) - ثقة الراوي شرط أغلبي في صحة الحديث ، وليس موجبها ، لا سيما إذا خالف الثقة من هو أولى بالقبول ؟! كما أن ثقة الراوي قرينة للترجيح نظرألما هو الأغلب فيه ، ألا وهو حفظه وإتقانه .
لكن متى يعتمد هذا الأصل ؟!
أقول : إنما يعتمد هذا الأصل إذا خلا حديثه من القرائن والأدلة التي تدل على احتمال أن يكون ما رواه خطأ، وأما في حال وجود قرينة تدل على خطئه فكون الراوي أوثق أو ثقته غير معتبر.
(2) - هذه المسألة اختلف فيها علماء الأصول والفقه والمحدثون النقاد. نعم إذا تبين من خلال القرائن أن الراوي قد وصل مرة وأرسل أخرى ، وكل رووا عنه كما سمع دون تبديل ولا تغيير ، فلا يعل الحديث بالإرسال لأنه ثبت عنه الوجهان جميعا.
والجدير بالذكر أن الموضوع الذي نحن بصدده يختلف عن مسألة اختلاف الرواة في الوصل والإرسال. لأن الإشكال الذي نعالجه هو أن بعض الرواة روى الحديث بكامله، لكنه فصل الجملة الأخيرة عن أصل الحديث، وجعلها مرسلة. بينما رواها الآخرون ، وساقوها في سياق واحد، من غير فصل بينهما ، فكأن الشعبي روى الحديث كله متصلا.
إن كان الاختلاف هنا يعود إلى الوصل والإرسال عموما فإن موقع الاختلاف وظروفه تجعل الحديث مدرجا، أعني بهذه اللفتة أنه تبين من خلال ظروف الاختلاف وموقعه أن الذي روى الحديث وجعل جميعه عن الشعبي متصلا يكون قد أدرج الجزء المرسل في الجزء المتصل، وبالتالي فإن اختلاف العلماء حول قبول المرسل ورفضه لا يأتي هنا حقيقة.(1/437)
ج - ولم ينفرد حفص بوصل هذا النهي ( يعني النهي عن الاستنجاء الذي رواه حفص بن غياث عن داود عن الشعبي متصلا) فيما رواه عن داود،(1)فقد تابعه أيضا عبد الأعلى بن عبد الأعلى وهو ثقة، فرواه عن داود بن أبي هند موصولا، وهو عند مسلم في حديث طويل عن ابن مسعود مرفوعا.
خامسا : جاء دور الأستاذ ليدلي بدلوه، فرجح قول الشيخ أحمد شاكر وقال:
’’وكلام الشيخ أحمد شاكر وجيه جدا(2)، وكلامه يؤيد ما يبدو أنه اختيار مسلم، ويعارض ما ذهب إليه الترمذي والدارقطني ومن تابعهما من أن الراجح هو الإرسال، أما اختيار مسلم الذي ألمحت إليه فإنه يبدو من تصرفه في رواية الحديث، فقد أورده من طرق عن داود بن أبي هند وضح فيها الاختلاف بين أصحابه في هذه القطعة المختلف فيها فبين رواية من أرسلها ومن أسندها ومن لم يذكرها أصلا كما مر، والظاهر أنه رجح أن هذا الجزء المختلف فيه مسند، بناء على المرجحات من متابعات وشواهد سيأتي ذكرها،(3)
__________
(1) - هذه المتابعة لا تنفع؛ لأن حفصا أيضا واهم فيه ، كما قال الإمام الدارقطني في العلل، ودل على وهمه ثبوت فصل الجملة من أصل الحديث في الروايات الصحيحة.
(2) - ليس وجيها ، فإن صحة الحديث تتوقف على استيفائه شروطها، ومن أهم هذه الشروط خلوه من العلة والشذوذ، ولم يتحقق هذا الشرط هنألمخالفته لما هو أولى بالقبول.
(3) - أما صنيع مسلم فيدل على أنه رجح الإدراج لكونه قد شرح ذلك بذكر وجوه الاختلاف ، ولا يمكن أن نحمل صنيعه على أنه يصححها جميعها. أما قول الأستاذ بأن مسلما رجح وجه الاتصال على الإرسال بناء على الشواهد والمتابعات فلا معنى له ، لأن الشواهد لا تحل إشكال الإدراج في رواية الشعبي.
وأود أن أذكر الأستاذ بما قاله فيما يخص البخاري أنه لا يعرف إلا ما ذكره في التاريخ ، فما باله الآن يأتي بمتابعات وشواهد من خارج صحيح مسلم !(1/438)
ولكي نصل إلى حكم لأي من الإرسال والوصل فلا بد لنا من عرض ما تجده من الروايات المرسلة والمتصلة.
ثم أورد الأستاذ تلك الروايات من مصادر مختلفة مع بيان أحوال بعض الرواة.
وفي الأخير قام الأستاذ بترجيح الوصل على الإرسال حين قال:
’’المتن صحيح لا نزاع في صحته والجملة المنتقدة والتي رجح الدارقطني إرسالها ودار البحث حولها صحيحة أيضا بهذا الإسناد في صحيح مسلم. ولها متابعات قد مر بعضها وسنذكر باقيها. ولها شواهد‘‘.
ثم ذكر متابعتين قاصرتين، والشواهد من حديث أبي هريرة وحديث سلمان وحديث جابر. وأخيرا لخص رأيه بما يأتي:
’’هذه الجملة التي رجح الدارقطني ومن وافقه إرسالهأليس الأمر كما زعموا، بل الصواب أن الراجح هو وصلها لأمور :
أ – أنها زيادة من ثقات .
ب – ليس لجانب الإرسال مزية تستوجب ترجيحه على جانب الوصل، فما ظنه الدارقطني من مرجحات تبين لنا في ضوء البحث أنه بخلاف ما ظن من الكثرة وكون رواة الإرسال بصريين أعرف برواية داود بن أبي هند البصري الذي عليه مدار الرواية(1)؛ إذ في كلا الجانبين من الإرسال والوصل بصريون وكوفيون كما وضحناه ، والكثرة والحفظ قد حصل فيهما التكافؤ‘‘.
أقول: هنا عدة ملاحظ:
الأول: من الضروري فهمُ كلام النقاد قبل الاعتراض عليهم، وإلا فإن المعترض يتخبط فيه تخبطا شديدا، فيركز على أمور تكون بعيدة عن الإشكال الذي أثاره النقاد.
__________
(1) - من الذي قال له إن الدارقطني نظر هنا في هذا الاختلاف من زاوية الكثرة وكون البصريين أعلم بحديث داود بن أبي هند البصري، ثم رجح رواية الإرسال على هذا الأساس ؟! كلا ، إنه لا ينظر فيه مثل ما ينظر الباحث المعاصر، بل كان نظره في ذلك أدق مما وصفه الأستاذ. سيأتي شيء من التفصيل حول ذلك عند التعقيب إن شاء الله تعالى.(1/439)
إذا كانوا قد أعلوا حديث عبد الأعلى بسبب إدراجه في الحديث، وخلطه بين الجزء المتصل والجزء المرسل من الحديث، فإن الذي يعترض عليهم ينبغي أن يثبت أولا أن الشعبي روى الحديث كله متصلا، مستندا إلى أدلة ناصعة وبعيدة عن الاختلاف. ولا يكفي في الاعتراض ذكر المتابعات القاصرة التي في ثبوتها إشكال جم، والشواهد التي لا يحل بها إلا ما يتعلق بالمتن، كما لا يكفي قول المعترض إن الرواة ثقات وزيادة الثقة مقبولة.
الثاني: هذه الأدلة التي ذكرها الأستاذ غير كافية لمعالجة الإدراج الذي من أجله أعل الحديث كل من الإمام الدارقطني والترمذي.
ذلك أولا: لأن أحوال الرواة معروفة لدى النقاد أكثر مما نعرفه، وأنهم لم يشترطوا التعدد في صحة الحديث، وهم على مبدإ (الثقة عن الثقة حجة)، ومع ذلك فقد أعلوا حديث عبد الأعلى وحفص عن داود عن الشعبي لسبب الإدراج.
ثانيا: إن المتابعات القاصرة لا تدل من قريب ولا من بعيد على أن الشعبي روى تلك الجملة عن ابن مسعود، وإنما تدل فقط على أنه ثابت عن ابن مسعود بطريق آخر إذا كانت هذه الرواية صحيحة.
ثالثا: إن الشواهد التي ذكرها الأستاذ لا صلة لها بموضوع الإدراج، ولا تذكر في هذه المناسبة لأن النقاد لم ينكروا ثبوت تلك الجملة مطلقا، وإنما أنكروا فقط رواية الشعبي لها متصلة. بمعنى أنهم لم يقولوا إنهألم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنمالم تثبت عن الشعبي هذه الجملة مسندة، بل رواها مرسلة.
لذا فإن قول الأستاذ:
’’المتن صحيح لا نزاع في صحته والجملة المنتقدة والتي رجح الدارقطني إرسالها ودار البحث حولها صحيحة أيضا بهذا الإسناد في صحيح مسلم. ولها متابعات قد مر بعضها وسنذكر باقيها. ولها شواهد‘‘
يعد من آثار تخبطه الواضح في معالجة الإشكال الذي أثاره النقاد من أجل التعليل.
رابعا: قول الأستاذ ’’إنها زيادة من ثقات‘‘. فهل تعتبر الجملة الأخيرة من زيادة الثقة أو زيادة الثقات؟!(1/440)
كلا؛ لأن معظم الرواة اتفقوا على ذكر هذه الجملة في حديث الشعبي، لكنهم اختلفوا في وصلها وإرسالها. إذن القضية هنا مخالفة ثقتين لمن هو أولى بالقبول في وصل الجملة وإرسالها.
أما لو روى بعض الرواة بزيادة الجملة، والآخرون سكتوا عنها فهنا يستقيم القول بإنها زيادة الثقات، أما وقد اتفقوا على ذكر الجملة في الحديث ثم اختلفوا في وصلها وإرسالها فلا تقال هنا إن الجملة من زيادة الثقة.
نعم يدخل هذا الحديث في مسألة زيادة الثقة من جهة كون الوصل زيادة بالنسبة إلى الإرسال، وحكم النقاد في هذا المسألة واضح، ولم يعتبروا الوصل مقبولا باعتباره زيادة ثقة. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى من الذي قال بقبول زيادة الثقة مطلقا من النقاد؟! إذا كان النقاد قد اعتمدوا الأصل في الراوي في قبولها عند فقدان الأدلة التي تدل على خطئه في ذكر زيادة في أصل الحديث، فإنه لا يعني بالضرورة أن حال الراوي يصبح معيارا للقبول في جميع الأحوال حتى في هذه الحال التي حكم فيها النقاد بأن الزيادة وهم، وأنها مدرجة في الحديث المتصل.
من المعلوم أن من أهم ما يعرف به الإدراج أن تأتي الروايات الصحيحة التي تفصل بين أصل الحديث وبين المدرج. جاء في تدريب الراوي: ’’ويدرك الإدراج بوروده منفصلا في رواية أخرى أو بالتنصيص على ذلك من الراوي، أو بعض الأئمة المطلعين‘‘(1)
وفي رأي الأستاذ إن هذا الدليل الذي يعتمده النقاد وغيرهم لمعرفة الإدراج أصبح زيادة ثقة مقبولة!!.
يعني أن قواعد النقد ومسائل علوم الحديث عند الأستاذ كعصا الأعمى لا يدري أين يضعها!.
__________
(1) - تدريب الراوي1/268(1/441)
إذا كان الأستاذ يستدل بأمور مختلف فيها لحل النزاع فإنه من الأولى أن يستدل بأمور لا خلاف فيها بين النقاد. فهنا ورود الحديث بروايات تفصل بين أصله وبين الجملة المدرجة في رواية الثقات. وهذا دليل في معرفة الإدراج، ولم يختلف في كونه دليلا أحد من النقاد حسب علمي. وأما زيادة الثقة فمختلف في قبولها، ولم يطلق قبولها إلا الفقهاء وأهل الأصول والمتساهلون من المحدثين كابن حبان والحاكم. وعليه فأيهما أحق وأولى أن يستدل به في موضع الخلاف : الذي اتفق عليه النقاد وغيرهم قاطبة أو الذي اختلفوا فيه؟!
أيهما يقدم : ما هو أبعد من الوهم أو ما هو أقرب إليه
ههنا شيء مهم يشكل نقطة أساسية لمعرفة منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل والترجيح. ألا وهو إذا تعارض أمران أحدهما أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ والوهم، والثاني أقرب إلى الخطأ وأبعد من الصواب، فإن الذي يقتضيه العقل والمنطق أن يختار الأول. وهذا هو الذي يحدث هنا في هذا الحديث الذي نحن بصدده، وهذا سبب اختيارهم لمن فصل أصل الحديث عن الجملة الأخيرة. لكن المشكلة هي صعوبة التمييز بينهما، لأن الأمر فيه يحتاج إلى تخصص وملكة، وإلا سيتخبط الباحث في الاختيار، وتنقلب الحقائق رأسا على عقب.
بناء على ذلك فالحديث الذي فصل فيه الرواة الثقات بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما قاله الراوي، أو بين مأكان الشيخ يرويه متصلا وبين ما يرويه مرسلا في سياق واحد، يكون أقرب إلى الصواب وأبعد من أن يكون فيه سبق لسان، أو وهم؛ لأن الفصل بينهما يشكل بحد ذاته دليلا على تيقظ الرواة.
أما الحديث الذي لا يفصل فيه بين القدر المرفوع والقدر الموقوف، أو بين القدر المتصل وبين القدر المرسل، وساقه راويه في سياق واحد فيكون أقرب إلى أن يكون في ذلك سبق لسان أو وهم، وأبعد عن الصواب، ويدخل هذا من أنواع سلوك الجادة.
وعليه فالذي تطمئن إليه النفس بالمقارنة بينهما هو الأول بدون شك.(1/442)
لكن الشيخ اغتر بظاهر الإسناد وبالمتابعات والشواهد مخالفا للأئمة النقاد.
الفصل الثاني
يتمحور الحوار في هذا الفصل حول بعض الأمثلة التي أعلها مسلم خارج الصحيح، ثم رواها فيه مستدلا بالجزء الذي لم يتأثر بالعلة، وشبهات الأستاذ حول ذلك
1 - حديث سالم في قصة بيع العبد ورأي الأستاذ فيه.
2 - حديث سعيد بن عبيد في القسامة، ورأي الأستاذ فيه.
حديث سالم في قصة بيع العبد، ورأي الأستاذ فيه
عناوين الأستاذ على الفصول تدعو إلى الاستغراب، كان يضع عناوين طويلة ثم لا يركز على معالجة ما تضمنته العناوين. وعنوان هذا الفصل هو:
(تعليله لبعض الأحاديث في صحيح مسلم بكلام مسلم فيها خارج الصحيح .. أما في الصحيح فلم يبينها – بزعمه – إلا بجعلها في آخر الباب .. أي: بالتقديم والتأخير).
بعد ذلك وضع عنوانا صغيرا وهو:
(نقل المليباري ما يوافق هواه وكتمانه لما يخالف هواه).
ما يبدو لقارئ هذه العناوين ومحتواها هو أن الأستاذ يركز على الدعاوى أكثر من معالجة موضوع الحوار منهجيا، ويهتم بذكر ما يعكر صفاء ذهن القارئ ويشتت أفكاره.
ننظر الآن مدى مصداقية عنوان هذا الفصل: (نقل المليباري ما يوافق هواه وكتمانه لما يخالف هواه).
لكي يكون الموضوع جليا بأبعاده أنقل أولا ما قلته في العبقرية، وبعد ذلك أذكر تعليق الأستاذ عليه، ثم في الأخير أبين شبهاته في ذلك، موضحا للقارئ المسألة العلمية التي ينبغي فهمها ، دون أن أطعن في نيته وشخصيته.
قلت في كتابي العبقرية(1):
’’وجدير بالذكر أن الإمام مسلما لا يورد في صحيحه حديثا معلولا إلا على سبيل الاحتياط أو الاستئناس أو التتبع وبيان العلة ، أو الاستشهاد من الحديث بمالم تؤثر فيه علته ، ولا يذكر – رحمه الله – ذلك النوع المعلول من الأحاديث في أصل الموضوع ولا في أول الباب ثم يعتمد عليه ، وبالمثال يتضح المقال.
__________
(1) - ص: 17(1/443)
مثاله : حديث سالم عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ’’من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع ، ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع . أورده مسلم في آخر باب ( من باع نخلا عليها تمر) من كتاب البيوع 10/191من عدة طرق تدور كلها على الإمام الزهري عن سالم به.
مسألة العبد في هذا الحديث اختلف فيها سالم ونافع رفعا ووقفا، رفعها سالم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها نافع على عمر وجعلها قولا له . يقول الحافظ ابن حجر وغيره من الأئمة : جزم مسلم وغيره بترجيح رواية نافع على رواية سالم ‘‘(1)
وعلى هذا فرواية سالم لمسألة العبد في هذا الحديث مرفوعة، ومعلولة غير ثابتة عند الإمام مسلم . فإيراد مسلم هذا الحديث المعلول في صحيحه لم يكن إلا على سبيل الاستئناس أو الاحتياط أو الاستشهاد بطرفه الأول الذي لم تؤثر فيه علته.
مما يلاحظ أن الإمام مسلما لم يذكر حديث سالم في أول الباب، ولم يعتمد عليه، وإنما جعل في أصل الموضوع حديث نافع عن ابن عمر الذي لم يختلف الأئمة في صحته، وصدر به الباب لكونه أصح ما ورد فيه من الروايات عنده.
ومما يؤيد ذلك – أي استشهاده بالطرف الأول من الحديث – أن مسألة العبد التي هي الجزء الأخير منه لا علاقة لها بموضوع الباب الذي ساقها فيه، ولا بالموضوعات التي قبله أو بعده ، لأنها كلها في بيع الثمار وما يتعلق به من المحاقلة والمزابنة، والله أعلم.اهـ
فجاء الأستاذ ليعلق على هذه الفقرات فقال:
’’ أولا: نقل فعلا عن مسلم قوله: بأن القول قول نافع وإن كان سالم أحفظ فما هو سبب روايته لحديث سالم في صحيحه ، وفيها قضية العبد؟! أهو لبيان العلة ؟! أو لأنه مقتنع بصحتها؟!
__________
(1) - انظر فتح الباري 4/402 ، ومقدمته ص: 361 وفتح المغيث للسخاوي 1/212، وشرح الزرقاني للموطأ 3/ 325 ، والتهذيب لابن القيم(1/444)
الذي يظهر أنه ما أوردها في صحيحه إلا لاقتناعه بصحتها فلا يبعد أنه كان يرى رجحان رواية نافع بوقفها على عمر، ثم تغير رأيه فيها فرأى ثبوتها فأوردها في صحيحه الذي التزم فيه الصحة وشدد فيه النكير على من يروي الأحاديث السقيمة والمنكرة.
وقد رأينا مسلما يحذف الزيادة إذا رأى فيها علة كما فعل بالزيادات في حديث حماد بن زيد وغيره كما مر بنا سابقا وكما سيأتي.
ولو كان مسلم على رأيه في أن قصة العبد موقوفة لحذفها (يعني من حديث سالم) كما حذف هذه الزيادات، ولما استجاز روايتها ساكتا عن بيانها‘‘. اهـ
أقول: إن الأستاذ يحاورني حول الدليل الذي أتيت به. لقد أقر الأستاذ بذلك في مستهل التعليق، ثم يرد ذلك قائلا: ’’فلا يبعد أنه تغير رأيه ( يعني الإمام مسلما) فرأى ثبوت رواية سالم‘‘ . ودليله في ذلك أنه ورد حديث سالم في صحيح مسلم !!. كنت أنتظر منه دليلا ملموسا يدل على أن مسلما قد غير رأيه. لكن لا يملك الأستاذ إلا منهج الاحتمال.
فما ثبت بالدليل لا يزول إلا بدليل أقوى منه، أو مساو له. وأما الإجابة عنه بالاحتمال وأنه لا يبعد أن يغير رأيه بمجرد أنه رواه في صحيحه فبعيد عن الإنصاف.
نعم تتغير الآراء حسب تطور الفهم في ضوء الأدلة، وقد حدث ذلك لكبار الأئمة، وقد نقل الأستاذ بعضا منها، لكن لا يكون من الإنصاف أن نرد ما ثبت عن مسلم، بمجرد احتمال أنه تغير رأيه، دون ذكر دليل يدل على ذلك .
أما الدليل الثاني – وهو لو كان مسلم يرى قصة العبد موقوفة لحذفها من حديث سالم وما ذكرها بدون بيان – فغير مقبول أيضا، إذ نقضناه من قبل بالأمثلة من صحيح مسلم. ولا يلزم من ذكر مسلم حديث سالم في آخر باب (من باع نخلا عليها تمر ) أنه يريد تصحيح قصة العبد التي لم يثبت رفعها، والتي لا صلة لها بموضوع الباب، بل كان اعتماده على حديث نافع، الذي جعله أصلا للباب.(1/445)
ثم شغب الأستاذ كعادته، فنقل عن البخاري وعلي بن المديني ترجيح رواية نافع ليوجه إلي الأسئلة التالية:
لماذا أخفيت كل هذا؟!
لماذا لا تسلك مسالك الأمناء من أهل العلم؟!
ولماذا أخفيت أن البخاري خرج هذا الحديث ورجحه على حديث نافع ؟!
لماذا لا يسلك مسالك أهل العلم في استيفاء البحث وتصوير الاحتمالات التي تحصل لمسلم وغيره من العلماء؟!
أتأخذ بطرف من القضية وتركض بها لا تلوي على ما يقابلها لأن لك هوى في ذلك؟!‘‘
هكذا أنهى الأستاذ شغبه بهذه الأسئلة التي أبرزها في كتابه بتكبير حجم حروفها.
أقول: إنني لست بصدد دراسة حديث نافع وسالم عن ابن عمر، والنظر في مدى صحته، بل بصدد استدلالي فقط على أن الإمام مسلما إذا ذكر حديثا فيه علة فإنه قد يكون ذلك على سبيل الاحتياط أو الاستئناس أو لبيان العلة والتتبع، أو الاستشهاد من الحديث بمالم تؤثر فيه علته. لذا أتيت بحديث سالم مثالا للأخير – وهو استشهاد مسلم بالجزء الصحيح من الحديث دون اعتماده ما هو معلول منه -، وذلك لكون الإمام مسلم نفسه ممن أعل ذلك الحديث في خارج الصحيح، ثم رواه في باب (بيع النخلة) مع أن الجزء المعلول لا صلة له بموضوع الباب.
إذا كنت أنا بهذه المناسبة التي بينت آنفا قبل نقل تعليق الأستاذ فإن أسئلة الأستاذ إنما هدفه بطرحها مجرد الشغب وذر الرماد في عيون القراء.
ولماذا أذكر هنا أن البخاري خرج هذا الحديث في صحيحه؟! لو كان الأمر يتصل بالبخاري لقلت: نعم . وهل ضعفت الحديث بناء على رأي البخاري وعلي بن المديني؟! ولماذا أنظر في احتمالات التراجع والنسيان والغفلة التي تحصل لجميع البشر، مادام أنه قد ثبت عن مسلم ترجيح رواية نافع من خلال النقول؟!
أما أنا فمقتنع بأني بهذا المثال قد أعطيت الموضوع حقه حسب ما تقتضي مني المناسبة، بعيدا عن الوسوسة والخيال.(1/446)
ثم علق الأستاذ على قولي: ( إن الإمام مسلما إن ذكر حديثا فيه علة فإنه قد يكون ذلك على سبيل الاحتياط أو الاستئناس أو لبيان العلة والتتبع أو الاستشهاد من الحديث بمالم تؤثر فيه علته) بقوله :
’’سبحان الله حديث في أسانيده الأئمة: الليث وسفيان ويونس عن الزهري الإمام يوردها للاحتياط أو الاستئناس أو الاستشهاد بطرفه الذي لم تؤثر فيه العلة؟! فإذا كانت العلة لم تؤثر في طرفه الأول فلأجل ماذا تهبط إلى هذه الدرجة؟! وبأي ميزان تزن الأسانيد التي يعتبرها مسلم قمة الطبقة الأولى؟! وما هي الفروق بين الاحتياط والاستئناس والاستشهاد ؟! بين لنا هذه الدقة العلمية من كلام أهل العلم... ‘‘ إلى آخر كلامه الذي أطلقه على عواهنه.
أقول: لا داعي للعجب ، والأمر مألوف عند علماء هذا الفن، ومن لا يعرف من طلبة الحديث أن الاعتبار في صحة الحديث إنما يكون بمدى خلوه من شذوذ وعلة، مع عدالة الرواة والاتصال!. ومع ذلك فإن كان الإسناد عاليا ورواته ثقات أئمة وتوفرت فيه الخصائص الحديثية واللطائف الإسنادية أصبح الحديث في قمة الصحة.
أما كون الحديث في القمة من الصحة لمجرد كون رواته أئمة ثقات، بغض النظر عن مدى استيفائه الشروط، ومن أهمها خلوه من شذوذ وعلة فغير معروف عند المحدثين النقاد.
والأستاذ لا يزال في تصوره القديم، يظن أن التصحيح والتضعيف تابعان لأحوال الرواة. وبناء على هذا التصور الخاطئ قام بتصحيح الأحاديث التي أعلها النقاد، وأجرى الموازنة بين الإمامين : مسلم والدارقطني. ولا ينسجم هذا التصور مع تعريفات المصطلحات الآتية: الصحيح والضعيف والمعلول والمنكر والشاذ.
بل يتوقف التصحيح والتعليل والترجيح على مدى خلوه من شذوذ وعلة، حتى ولو كان راوي الحديث إماما. وهذا من أبرز النقاط التي تشكل الفاصل المنهجي بين الأستاذ وبين أولئك الأئمة النقاد.(1/447)
وعلى كل فإن المثال الذي أتيت به هنا - كما بينت آنفا - إنما لبيان وجه استدلال مسلم بطرف الحديث الذي لم تؤثر في صحته العلة، وليس للاستئناس ولا للاحتياط ولا لبيان العلة. والإمام مسلم يرى أن حديث نافع أرجح من حديث سالم، لذا قدم الأول وأخر الثاني. وليس الأمر في ذلك متوقفا على بيان رأي الآخرين من الأئمة، ولا على التقريب، ولا معنى لإلزام الأستاذ أن أذكر هنا رأي البخاري وغيره من الأئمة حول هذا الحديث لأني لست بصدد دراسته والنظر في مدى صحته.
حديث سعيد بن عبيد في القسامة ورأي الأستاذ فيه
ومن مجازفاته أيضا: ما ورد في مناقشة المثال الثاني، وهو حديث سعيد بن عبيد في القسامة الذي سبق الكلام حوله(1).
ذكرت هذا الحديث مثالا لكيفية استدلال مسلم واستشهاده من الحديث المعلول بالجزء الذي لم تؤثر في صحته علته.
انظر طريقة الأستاذ في الحوار . كان الأستاذ غريبا لا يحترم ولا يقدر ولا يعتبر ما يقوله خصمه. بل يأخذ منه ما يريد على النحو الذي يريد، لأنه إذا كان مستقيما في ذلك ما وجد شيئا ليشاغب على القارئ أو يهاجم خصمه بكل ما أوتي من قوة بلسانه وقلمه. والعجب أنه جعل ذلك تحت عنوان (نقل المليباري ما يوافق هواه وكتمانه لما يخالف هواه).
يقول الأستاذ - وهو يعلق على المثال الذي ذكرته - :
’’ أولا : إنك لم تفهم كلام مسلم على وجهه في التمييز، ولم تدرك تصرفه في صحيحه. فهذه الزيادة في حديث سعيد بن عبيد التي انتقدها مسلم في التمييز وحكم عليه فيها بالغلط والوهم ، وهي قوله ( وسألهم البينة) لم يذكرها مسلم في صحيحه ؛ فسقط تعلقك بها وبكلام مسلم ، وهذا من أكبر البراهين الواضحة على أن مسلما لا يورد في كتابه إلا حديثا يعتقد صحته ، وأنه إذا اعتقد في كلمة أو فقرة أنها معلولة حذفها ، كما فعل في هذا الحديث وكما فعل في الأحاديث التي ذكرناها سابقا‘‘.
__________
(1) - انظر هامش ص: 120 من هذا الكتاب(1/448)
أقول : هل الموضوع هنا هو أن مسلما يحذف القدر المعلول من الحديث، أو أنه يستدل بالجزء الذي ليس فيه علة من الحديث سواء حذف الجزء المعلول أو لا؟!.
وما صلة هذا الموضوع بعنوان: ’’نقل المليباري ما يوافق هواه وكتمانه لما يخالف هواه‘‘ وأين موضوع هذا العنوان في هذا المثال. كأن الأستاذ لا يهمه المنهج ولا معالجة الإشكال ولا الذب عن الحق والسنة إنما يهمه فقط الهجوم.
أليس من العيوب المنهجية أن يخرج الأستاذ من موضوع الفصل إلى ما سبق نقاشه، ويعيده مرات عديدة؟! وما ذكره في الفصل الأول يعيده في جميع الأبواب والفصول. وعلى كل فعلى الأستاذ أن يحترم عقول القراء وأوقاتهم وأموالهم! لماذا يفرض عليهم أن يقرؤوا الأكاذيب والأباطيل والتهاويل؟!
وعلى كل نعود إلى مناقشته وتعليقه.
لقد رأينا الأستاذ يحرص على تأسيس قاعدة جديدة وإبرازها ، وهي: لو كان في الحديث علة لحذفه، أو الجزء الذي فيه علة وذكر الباقي. وهذه القاعدة تم نقضها من قبل بالأمثلة الواقعية من صحيح مسلم.
وليس هذا موضوعنا الآن، وإنما موضوعنا أن الإمام مسلما يستدل بالحديث مع كونه معلولا، لكن فقط بالجزء الذي لم يتأثر بالعلة، وهو ما يوافق حديث يحيى بن سعيد وقد قلت قبل هذا المثال ما نصه:
(وجدير بالذكر أن الإمام مسلما لا يورد في صحيحه حديثا معلولا إلا على سبيل الاحتياط أو الاستئناس أو التتبع وبيان العلة، أو الاستشهاد من الحديث بمالم تؤثر فيه علته ، ولا يذكر – رحمه الله – ذلك النوع المعلول من الأحاديث في أصل الموضوع ولا في أول الباب ثم يعتمد عليه ، وبالمثال يتضح المقال ...)
ثم أتيت بمثالين؛ وهذا الذي ذكره الدكتور ربيع هو المثال الثاني.
قال الأستاذ في مستهل التعليق : ’’إنك لم تفهم ...‘‘.
أقول: لو بين لي الأستاذ ما الذي لم أفهمه!
أليس في كلامه ما يؤيدني في فهمي أن مسلما إنما استدل بمأليس فيه علة؟!.(1/449)
لماذا ينشغل الأستاذ بأمور سبق نقاشها وتم تفنيدها في الفصول السابقة؟!.
يقول الأستاذ:
’’ وهذا من جملة أدلة تدمر ما يهرف به المليباري كثيرا من أن مسلما يبين العلل من خلال ترتيبه وتقديمه وتأخيره، ثم يمدح ما يخترعه من الهراء بالدقة العلمية والخصائص العلمية الخ.
وعلى منهجه الذي طبقه على طرق حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس المذكور سابقا ؛ يلزمه لزوما لا مناص منه أن يقذف بالتعليل ما أورده مسلم من طرق بعد طريق سعيد بن عبيد ؛ فقد رواه مسلم بعد حديث سعيد بن عبيد :
1 – من طريق مالك عن أبي ليلى عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن حثمة.
2 – من طريق يونس عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي × أقر القسامة على مأكانت عليه في الجاهلية.
3 – ومن طريق ابن جريج عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله . يلزمه هذا لأنه ادعى أن حديث سعيد بن عبيد معل ، فما بعده أولى أن يكون معلا ، بل تقييده يقتضي على كل حديث يأتي بعد الخامس في كل باب ، ولكن ملاحقتنا له جعلته يراوغ ، ويكر بهذا المنهج أحيانا ويفر منه أحيانا‘‘.اهـ
أقول: إن الأستاذ لا يستطيع أن يذكر شيئا في حواره هذا إلا وقد أضاف إليه ما يعير به خصمه أو يزكي نفسه، من الدعاوى الكاذبة.
هل يحتاج العلم إلى مثل هذا الأسلوب الجاهلي الذي لا يمت إلى الإسلام ولا السلفية من قريب ولا من بعيد بصلة؟!
الواقع أن الأستاذ لم يفهم ما أقوله، أو لم يفهم كلام الآخرين ليس لغموضه، وإنما لكثرة انفعاله، أو استعجاله في الحكم.
وأما الإجابة على أسئلته فسهل، لأنه لم يفهم الموضوع كما ينبغي.
إن الإمام مسلما لم يعل حديث سعيد بن عبيد بكامله، وإنما أعل جزءا منه فقط، وهذا الجزء لم يذكره مسلم هنا، وبالتالي يكون قوله : ’’ لأنه ادعى أن حديث سعيد بن عبيد معل‘‘ ، تضليلا وتلبيسا. ولو ذكر مسلم الحديث بكامله لكان سؤالك وجيها يستحق التقدير.(1/450)
هذا وقد سبق ما يتعلق بترتيب مسلم لهذا الحديث(1).
وما ألزمني به الأستاذ ليس بلازم ، وهو أن تكون الأحاديث التي جاءت بعد حديث سعيد بن عبيد معلولة أيضا. وإنما يلزمني فقط القول بأن تلك الأحاديث دون حديث سهل بن حثمة الأنصاري، وهو كذلك إذا قارنا بين تلك الروايات التي أوردها مسلم في ذلك الباب وهي كلها عبارة عن حديثين: حديث سهل بن حثمة وحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأنت ترى حديث سهل طويلا ومفصلا ومبينا بأحداث القصة وبتعيين راويه من الصحابة. وأما الحديث الثاني فمختصر وموجز جدا. ثم إن الذي رواه من الصحابة لم يحدد اسمه. وبعد هذا قارن يا أستاذ ! ما الذي يكون عندك أصح وأفضل وأجود : حديث سهل أم حديث رجل من أصحاب النبي × ؟!
والأستاذ لا يستطيع أن يصبر لسماع هذه الحقائق مني ، لذا قال في نهاية التعليق ما يعكس ثقافته (؟!)، وهو قوله: ’’ولكن ملاحقتنا له جعلته يراوغ ويكر بهذا المنهج أحيانا ويفر منه أحيانا‘‘ .
إن أحسن ما يقال هنا هو ما قاله الشاعر :
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب
وما قاله الكريزي:
إذا أنا كافيت الجهول بفعله فهل أنا إلا مثله إذ أحاوره
ولكن إذا ما طاش بالجهل طائش علي فإني بالتحلم قاهره
ومن مجازفاته إعادة ما يتصل بالإمام النووي في هذا الفصل الذي خصصه لبيان تعليل المليباري لبعض الأحاديث في صحيح مسلم. وقد ذكرت له : أن الإمام النووي لم يكن نظريا فقط بل طبق الترتيب وشرح العلل. وأتيت ببعض نصوصه في ذلك. وبعد ذلك لا يهمني أنه طبق في جميع صحيح مسلم أو في بعضه. ولا أدعي أن النووي كان يجيب به على انتقادات الدارقطني في جميع المواضع أو في أكثرها. وقد سبق النقاش حول هذا الموضوع(2).
الفصل الثالث
__________
(1) - انظر الفصل الأول من الباب الثاني – النقطة الرابعة - من هذا الكتاب .
(2) - راجع الفصل الرابع من الباب الأول – النقطة الثالثة - من القسم الثاني .(1/451)
في ذكر تضليل الأستاذ ومجازفته، ودحض شبهاته في ترتيب الإمام مسلم روايات الأحاديث الآتية:
1 - حديث ابن عمر ( بني الإسلام على خمس).
2 - حديث أبي هريرة (من كان يؤمن ).
3 - حديث جابر وأبي هريرة في النهي عن البول في الماء الراكد .
4 - حديث الاستطابة .
5 - حديث (الماء من الماء).
6 – حديث (ويل للأعقاب من النار) .
7 – حديث ابن عمر وأبي هريرة ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور).
8 - حديث ابن عمر وغيره ( من جر ثوبه خيلاء ) .
تمهيد
خصص الدكتور ربيع الفصل الثالث لمناقشتي في مسألة ترتيب الأحاديث في صحيح مسلم، وقد أتى الأستاذ ببعض الأحاديث في كتابه الأول (منهج مسلم) ليبرهن بها على أن مسلما لم يهتم بترتيب الأحاديث في صحيحه. وذلك بعد دراسته لتلك الأحاديث دراسة سطحية كان الأستاذ يفتخر بها، لكنه صعق حين رآني أستدل بتلك الأحاديث ذاتها على دقة الإمام مسلم في الترتيب.
وبعد دراستي لها بينت له أن الإمام مسلما راعى ترتيبا علميا في سياق تلك الأحاديث في ضوء منهج المحدثين النقاد، الذي يتمثل في نظرهم للأحاديث من جميع جوانبها وهي:
1 – الرواة وأحوالهم ومراتبهم في الجرح والتعديل.
2 – والاتصال.
3 - وخلوه من شذوذ وعلة.
4 - و شهرة الحديث.
5 - وعلوّ الإسناد.
6 - وجودة المتن.
7 - وتسلسل الحديث. وغير ذلك مما يعتني به المحدثون عموما.
لقد كنت حريصا أشد الحرص على معرفة إشكالات الأستاذ وتعقيباته حول طبيعة دراستي للأمثلة الحديثية، والخصائص الإسنادية التي تبلورت من خلالها عبقريةُ الإمام مسلم في ترتيب أحاديثه في مسنده الصحيح، حتى أصحح أخطائي فيها، لكنه لم يكتشف فيها خطأ ولا نقصا، بل وجدته ينشغل بفتات القضايا، ويعيد الأمور التي تناولها سابقا ويكررها.
وعنوان الأستاذ للفصل الثاني - كالعادة - طويل جدا، وهو:(1/452)
’’إبطال تهويش المليباري على أمثلة ضربتها لأبين أن الإمام مسلما لم يلتزم الترتيب الذي كان يدعيه المليباري .. فلجأ إلى التهويش بالخصائص الإسنادية‘‘.
ومن مجازفاته ومغالطاته أن يقول:
’’هل الخلاف بيننا في هذه الخصائص أو العلل وشرحها؟! وكنا ننتظر منك أن تبين العلل في تأخير ما حقه التقديم، فإذا بك تفاجئنا بأن أحاديث الباب كلها صحيحة ثابتة صالحة للأصول ، وهذا ما أقرره أنا وأذب عنه وأكف عنه بغيك ؟! لله در كتابي (منهج الإمام مسلم في ترتيب صحيحه)، ولله در الأمثلة الصحيحة فيه التي كبحت جماحك وألقمتك الجنادل ‘‘(1).
قلت : إن المشكلة في فهم الأستاذ، وإصراره على ما فهمه خطأ، وليست المشكلة في نصوصي، ولا في منهجي.
إن منهج مسلم في ترتيب أحاديثه هو كما بينت له في أول الحوار قبل أكثر من 15 سنة إلى يومنا هذا من غير تغيير ولا تبديل فيه، وهو: أنه يرتب أحاديثه حسب الأصحية، يعني حسب الخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية، وليس الترتيب من أجل بيان العلل، ولا أن بيانها بالترتيب أيضا. وبيان العلل إنما هو بذكر وجوه الاختلاف يعني بالكلام وليس بالرموز، وقد يكون الكلام صريحا بينا واضحا وقد لا يكون كذلك، بل إنما يفهمه أهل العلم فقط.
وندخل مباشرة في الحوار حول تلك الأحاديث التي آثرها الأستاذ لإعادة دراسته لها في إطار الرد علي، ولم يذكر في التنكيل جميع الأمثلة التي درسناها في العبقرية لنبرهن بها على دقة الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث حسب الأصحية.
هنا شيء ينبغي التذكير به، هو أن الأستاذ كان أساسه في معرفة صحة الروايات والتفاضل بينها هو أحوال الرواة ومراتبهم المبينة في كتاب التقريب للحافظ ابن حجر، بعيدا عن التركيز على جوانب علمية أخرى كانت هي من أهم معايير الترجيح والتفاضل لدى المحدثين النقاد لا سيما عند الإمام مسلم.
__________
(1) - تنكيل الدكتور ربيع (ص: 169)(1/453)
لذا لم يكن الأستاذ موفقا للاطلاع على ما أودعه الإمام مسلم في كتابه من علم غزير يتصل بالأسانيد والرواية.
ومن أغرب مواقف الأستاذ في مواجهة تلك النقاط العلمية الدقيقة أن يتهمني بأنني أنكر مكانة كتاب التقريب ، وأكذب على مسلم بتلك النقاط ، وأدعي الأمور الباطنية. هذا كله من تهاويله التي فندناها سابقا.
سترى أيها القارئ الكريم – وفقك الله للفهم والإنصاف – خلال الحوار الآتي مع الأستاذ عجائب وغرائب في دراسته للأمثلة الحديثية. ( إن شاء الله تعالى).
المثال الأول: حديث ابن عمر (بني الإسلام) وشبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
وهو حديث أبي خالد الأحمر عن أبي مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر’’ بني الإسلام على خمسة على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج. فقال رجل : الحج وصوم رمضان ، قال: لا ، صيام رمضان والحج‘‘(1).
درس الدكتور ربيع هذا الحديث بطريقة سطحية قائمة على تحديد مراتب الرواة من خلال نظره في التقريب. لذا غاب عن ذهنه ما أودع مسلم في ترتيبه لطرق هذا الحديث من الخصائص والدقائق الإسنادية. وتوضيحها فيما يأتي:
أولا: رسم شجرة أسانيد حديث ابن عمر حسب الترتيب الذي اعتمده مسلم في الرواية، وهي أربعة أسانيد :
ابن عمر
سعد بن عبيدة (1) محمد بن زيد (2) عكرمة بن خالد(3)
أبو مالك عاصم بن محمد حنظلة
سليمان أبو خالد يحيى بن زكريا معاذ عبدالله بن نمير
ابن نمير سهل بن عثمان عبيد الله محمد بن عبد الله
الإمام مسلم
ثانيا: أنقل هنا من كتاب العبقرية(2)ما يوضح وجه ترتيب هذه الأسانيد:
أورد مسلم في موضوع (بني الإسلام على خمس) حديث ابن عمر من ثلاث طرق: طريق أبي مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة ، وطريق عاصم بن محمد عن أبيه محمد بن زيد ، وطريق حنظلة عن عكرمة. وهذه الروايات كلها صحيحة وثابتة ومذكورة في الأصول.
__________
(1) - راجع تفصيل دراستي في العبقرية ص: 91 - 97
(2) - ص: 93(1/454)
إلا أنه رتب بينها؛ إذ بدأ بحديث أبي مالك الأشجعي الكوفي، وهو أكثر شهرة بالنسبة إلى غيره ، فقد تناقله أهل بلده وغيرهم، وسمعه مسلم من محمد بن نمير الكوفي ، ومن سهل بن عثمان العسكري من الأهواز بهذا العلو.
وأما حديث عاصم المدني فلم يجده مسلم عاليا عند أحد من شيوخه المدنيين، وإنما وجده عند غيرهم، فرواه عن عبيد الله عن معاذ العنبري البصري ، وكذلك لم يجد حديث حنظلة المكي يتناقله المكيون من شيوخه، ويروونه ، وإنما وجده عاليا عند غيرهم فرواه عن الكوفي محمد بن عبد الله بن نمير.
على أن رواية أبي مالك الأشجعي أجود ما في الباب سياقا تدل على دقته البالغة وضبطه الكامل، ذلك أنه حكى ما جرى بين ابن عمر والراوي عنه، من تصحيح الحديث الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخطأ فيه بتقديم وتأخير، وعليه فمن روى هذا الحديث عن ابن عمر مخالفألما رواه أبو مالك تعتبر روايته رواية بالمعنى على القول الراجح، والله أعلم.
ثم إن أبا مالك الأشجعي أقدم من روى هذا الحديث من أقرانه؛ كحنظلة وعاصم بن محمد بن زيد، إذ توفي أبو مالك في حدود 140 هـ ، وجعله الحافظ من الطبقة الرابعة. وأما حنظلة فتوفي سنة 151هـ، وجعله الحافظ في الطبقة السادسة، وعاصم ففي الطبقة السابعة. وسيأتي عن الحاكم أن من أهم معايير العلو التي يرتكز عليها أهل العلم قدم وفاة الراوي.
فحديث أبي مالك الأشجعي أصح إسنادا وسياقا، والحديث الذي وجده الإمام مسلم في بلد راويه وخارجها عاليا أولى وأقوى من غيره. وهذه كلها من الميزات والخصائص العلمية عند المحدثين .(1)
__________
(1) - علق عليه الأستاذ في هامش كتابه (التنكيل) بقوله : ( ص: 174) :
’’سبحان الله ! حتى أهم من العدالة والضبط ! إن هذا من التلاعب بأصول أهل الحديث ، تلك الأصول العظيمة التي تقوم عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعنى قوله : إذا تعارض حديث توفرت فيه شروط الصحة لكنه لم يخرج عن بلد راويه كالمدينة – مثلا – مع حديث ضعيف خرج عن بلد راويه أن يقدم الحديث الضعيف الخارج عن بلد راويه على ذلك الصحيح الذي لم يخرج ‘‘!!
أقول : ما فهمه الأستاذ من كلامي السابق غريب وبعيد بل يعد تحريفا. وهذا المعنى لم يخطر ببالي أصلا. كيف فهم الأستاذ هذا الفهم الغريب؟!
إذا كان كلامي مقيدا بحال حديث ما لا ينبغي أن يجعله عاما يشمل جميع الأحاديث ، صحيحة كانت أم ضعيفة. كان كلامي في مناسبة الأحاديث الصحيحة الواردة في صحيح مسلم ، وهو مقيد ببيان المفاضلة بينها فقط.
ومن المعلوم أن الضعيف لا يعني دائما هو ما رواه الضعيف ، لأنه قد يكون ما رواه الضعيف صحيحا كما يكون ما رواه الثقة ضعيفا. والأستاذ لديه نظرة سطحية وظاهرية بحتة، تتمثل في التصحيح والتضعيف والتحسين بأحوال الرواة ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل كما هي مبينة في كتاب التقريب.
فإن كان يريد الأستاذ بالضعيف هو ما يكون في سنده راو ضعيف فقط، فأقول : نعم، قوله مقبول إذا كان حديث هذا الراوي الضعيف صحيحا. فالثقة أفضل من الضعيف، في حال ما إذا تساوى حديثهما الصحيح في خصائص الإسناد والحديث. وأما إذا تفاضل أحدهما بالشهرة والعلو مثلا فإن الصحيح المشهور العالي أصح حتى وإن كان في سنده راو ضعيف، وأفضل من الصحيح الغريب وإن كان سنده ثقة عن ثقة.
وأما إذا كان يريد الأستاذ بالضعيف ، الحديث الضعيف، فلا موازنة بينه وبين الصحيح أبدا.
إذا قال العلماء إن العالي أفضل من النازل، لا ينبغي الفهم منه أن الضعيف العالي أفضل من الصحيح النازل. فإن المقصود منه المفاضلة بين الروايات الصحيحة من حيث العلو والنزول. والرواية الضعيفة لا تقدم أبدا على الصحيحة بمجرد كون الأولى عالية، والثانية نازلة.
وتعقيب الأستاذ هنا غير علمي وغير منهجي ، ولا ينبغي أن يحمل نصي الوارد بصدد التفاضل بين الروايات الصحيحة على أنه تفاضل بين الروايات مطلقا سواء أكانت صحيحة أم ضعيفة.
ما قيمة العلو إذا كان الحديث ضعيفا ؟!(1/455)
ونلاحظ أنه رتب أيضا في حديث أبي مالك الأشجعي؛ إذ قدم حديث محمد بن
عبد الله بن نمير على حديث سهل بن عثمان العسكري ؛ لأن الأول مسلسل بالكوفين إلا ابن عمر، والثاني إسناده كوفي ثم عسكري، على أن محمد بن عبد الله بن نمير من أشهر شيوخ مسلم الثقات، وأما سهل بن عثمان فدونه، وهذا يدل على دقة مسلم وتيقظه في الاختيار بين الروايات تقديما وتأخيرا .
وقدم حديث عاصم على حديث حنظلة لأنه أتم سياقا منه، ذلك أنه ذكر الشهادتين جميعا، وأما حنظلة فحديثه الذي سمعه مسلم كان ناقصألم يذكر فيه إلا الشهادة الأولى.
على أن رواية عكرمة عن ابن عمر سمعها حنظلة منه دون أن يكون مقصودا بالتحديث كما أفصح عنه سياق مسلم ، وإن كانت هذه الرواية تفيد الاتصال دون أدنى تردد إلا أنهأليست مثل الرواية المقصود فيها الراوي عنه بالتحديث. من هنا فرقوا بين صيغة (حدثني) وبين (سمعت) ؛ فإن الأولى صريحة في القصد بالتحديث دون الثانية.
بهذا يتبين لنا أن الأحاديث مرتبة ترتيبا علميا روعيت فيه الخصائص الإسنادية والحديثية جميعا.
مجازفات الدكتور ربيع في تعليقه على هذه الدراسة التحليلية
كان الأستاذ يهتم بفتات القضايا، دون أن يناقشني حول الخصائص الإسنادية التي كانت هي الأساس في الترتيب، ودون أن يأتي بشيء يدل على أن هذه الخصائص مجرد شبهات لا أساس لها. لذا نراه يثير مرة أخرى ما يتعلق بحال الراوي أبي خالد الأحمر، ويحاول أن يجعله في الدرجة الثانية بناء على قول الحافظ في كتابه التقريب، مهملا في الوقت ذاته ما يدل عليه صنيع مسلم في صحيحه، وموقفه الرسمي تجاه أحاديث هذا الراوي، وهو أنه من قسم الثقات عنده، إذ كان يتعامل مع هذا الراوي وما يرويه من الأحاديث مثل ما يتعامل مع كبار الأئمة مثل مالك وسفيان، وإن لم يبلغ مرتبهم.
انظر إلى الأستاذ كيف ينشغل بأمور لا تقتضيها مناسبة المفاضلة بين الأحاديث الصحيحة التي رواها مسلم في صحيحه!.(1/456)
قلت له: إن دراسته كانت سطحية مبنية على النظر المجرد إلى رواة الحديث وأحوالهم!.
يقول معلقا عليه:
’’هذا كذب، ويدل على غروره وعجرفته. فأنا نظرت إلى الأسانيد في ضوء منهج أهل الحديث عامة، وفي ضوء شروط مسلم للصحيح(1)خاصة‘‘.
أقول: ننظر إلى دراسته حول هذا الحديث، التي أعادها مرة أخرى؛ هل هي كما يدعيه الأستاذ؛ ينظر إلى الأسانيد في ضوء منهج أهل الحديث عامة وفي ضوء شروط مسلم للصحيح خاصة، أو غير ذلك ؟!.
يقول الأستاذ وهو بصدد دراسة أسانيد ذلك الحديث الذي ذكرناه آنفا:
’’فأبو خالد الأحمر الذي صدر به مسلم الباب قد اختلف العلماء في تعديله وتجريجه، ومسلم يعلم ذلك(2)ومع ذلك صدر به مسلم الباب؛ لأنه لم يلتزم الترتيب على الوجه الذي فرضه عليه المليباري(3).
__________
(1) - لاحظ جيدا ، إنه قال ( في ضوء شروط مسلم للصحيح) ولم يقل (في ضوء شروط مسلم للرواة) . ومع ذلك فإن نتائج دراسته كانت حول مراتب الرواة فقط وليست حول مراتب الأحاديث.
(2) - ينظر إلى النقاد كأنهم أمثالنا ! وإذا كان الأستاذ ينظر في ترجمة الرواة من خلال أقوال الأئمة فيهم فإن النقاد وعلماء الجرح والتعديل ينظرون إلى الرواة من خلال مروياتهم ومدى موافقتهم لغيرهم فيها وموافقتهم لهم وتفردهم بها. وما حاجة الإمام مسلم إلى النظر في اختلاف العلماء في جرح وتعديل أمثال أبي خالد الأحمر الذين اشتهرت أحاديثهم وانتشرت سيرتهم الذاتية ؟!
(3) - بل نقلنا عن مجموعة كبيرة من العلماء بعد القاضي قولهم بترتيب مسلم أحاديثه حسب الأصحية، ولم يستطع الأستاذ أن يناقشني فيها إلا بشغب وتهويل، بعيدا عن العلم والإنصاف والمنهج. ولم يستطع أن يأتي بقول عالم واحد ينكر الترتيب.(1/457)
ونظرت إلى الرواة في ضوء منهج أهل الحديث عامة، وفي ضوء شروط مسلم خاصة فوجدتهم كلهم بعد إسناد أبي خالد الأحمر من الدرجة الأولى حفظا وإتقانا عند أهل الحديث عامة وعند مسلم خاصة(1).
ونظرت ثالثة في ضوء منهج أهل الحديث في احترامهم للأحاديث المتفق عليها بين الشيخين وإعطائهم إياها ميزة على كل ما عداها بما في ذلك ما انفرد به البخاري أو مسلم(2).
__________
(1) - إن الرواة على شروط مسلم ثلاثة أقسام : قسم الثقات ، وقسم الضعفاء وقسم المتروكين. ومن قال لك إن أبا خالد الأحمر من القسم الثاني عند مسلم ؟!
والحال أنه من القسم الأول حسب شروط مسلم. ويدعي الأستاذ ذلك حسب شروط الحافظ ابن حجر في التقريب ، ومسلم لا ناقة له ولا جمل في هذا الكتاب وتقسيم الرواة إلى اثنتي عشرة مرتبة.
(2) - بعد النظرة الثالثة لا يزال الأستاذ ينشغل بظاهر السند وأحوال الرواة. نعم اكتشف في هذه المرة أن الحديث متفق عليه !.
ما علاقة مصطلح (المتفق عليه) بالنسبة إلى مسلم ؟!
ولو نظر الأستاذ إلى الأسانيد على هذا النحو فإنه لن ير فيها شيئا يهتم به المحدثون عموما ، والإمام مسلم في صحيحه خاصة.
ثم بعد كل هذا يدعي الأستاذ أنه نظر إلى الأسانيد في ضوء منهج أهل الحديث عامة وفي ضوء شروط مسلم خاصة !.
إن كان يريد النظر في الأسانيد على طريقة أئمة الحديث عامة، وفي ضوء منهج مسلم خاصة، فعليه أن يخرج الحديث من جميع مصادره، ثم يقوم بمقارنة هذه الروايات بعد تحديد مداراتها، ويحاول معرفة الفروقات بينها، ومدى المخالفة بينها والموافقة والتفرد، وما تتميز به كل رواية منها من شهرة وعلو وجودة متن .
إن مسألة العلو لوحدها كافية لنفهم ما مدى بعدنا عن منهج المحدثين. إذ نعجز حقيقة عن إدراك أبعاد هذه المسألة في روايات الإمام مسلم وغيره من الأئمة.(1/458)
وهذه المزايا العظيمة المعتبرة عند أئمة الحديث وسائر علمائه في السابق واللاحق وعند أهل المشرق والمغرب وغيرهم قد أهدرها هذا الرجل المتلاعب بالحديث وأصوله وقواعده.
ثم يزعم بعد إهداره لها أن دراستي سطحية مبنية على النظر المجرد إلى الأسانيد ؛ فأي مغالطة تفوق هذه المغالطة ؟؟! وأي تلاعب يفوق هذا التلاعب بالقواعد والأصول؟! وأي تجاهل يفوق هذا التجاهل المغرض؟!(1).
انتهى كلام الشيخ في دفاعه عن الدراسة التي قام بها، ورأيناه فيها يرد علي بالدعاوى الفارغة، مركزا على أحوال الرواة، على الرغم من ادعائه بأنه كان ينظر إلى الأسانيد في ضوء شروط مسلم للصحيح خاصة ومنهج أهل الحديث عامة.
ومع كل ذلك يظل الأستاذ متعلقا بدراسته السطحية التي تتمثل في ذكر مراتب الرواة حسب ما بينه وفصله الحافظ ابن حجر في كتابه التقريب. ولا شك أن الاهتمام بأحوال الرواة العدول، ومراتبهم في الاتقان، بعد صحة أحاديثهم، متغافلا عن الخصائص الإسنادية الأخرى التي تشكل المحور الرئيس في عملية المفاضلة عند المحدثين، يكون غير منهجي، لا سيما إذا أثار المحاور تلك الخصائص، وبنى عليها ترجيحه للروايات.
فأين كان نظر الأستاذ في جانب اتصال السند، ومدى خلوه من الشذوذ والعلة، ومدى استيفاء كل رواية منها من الخصائص واللطائف؛ كالشهرة والعلو وجودة المتن وغير ذلك مما من شأنه أن يجعل الحديث أسلم وأنقى من العيوب؟! وأين نتائج نظره في هذا المجال؟!
وبعد كل هذا يرد علي بقوله : إنه كذب، من غير أن يثبت ذلك بالأدلة الواقعية!
وهل شروط مسلم للصحيح تتمثل فقط في أحوال الرواة، دون جوانب أخرى مما تضمنه تعريف مصطلح (الصحيح)؟!
__________
(1) - اترك الحكم للقارئ المنصف ، ليحكم في ضوء الواقع !(1/459)
وكيف يجد الباحث الذي يكون نظره معلقا على أحوال الرواة ومراتبهم العامة دقة الإمام مسلم في اختيار هذه المجموعة من الروايات وغربلتها من مئات الروايات التي كان يحفظها، ثم يرتبها حسب خصائص المتن و الإسناد.؟!
نعم اكتشف الأستاذ في نظرته الأولى أن أبا خالد مختلف فيه. لكن لم يعط لنا رأي مسلم فيه!
كما اكتشف في النظرة الثانية أن رواة الحديث بعد أبي خالد ثقات كلهم.
وفي النظرة الثالثة اكتشف أن الحديث متفق عليه !!.
هذه هي النتائج التي توصل إليها الأستاذ بعد نظراته المتكررة في صحيح مسلم!!.
وأنت يا أخي القاريء الكريم ترى أن تأليف مسلم لهذا الصحيح العظيم - الذي يحتل مع صحيح البخاري مكانة عالية في مصادر الحديث - أخذ حوالي خمس عشرة سنة. ولو كان نظر مسلم في السند مثل نظر الأستاذ لصدر عن مسلم مئات الكتب خلال فترة وجيزة.
فأين صرفت هذه المدة الزمنية ، مدة خمس عشرة سنة؟!
هل قضاها في النظر في أحوال الرواة ؟! كلا وألف كلا.
إنما صرفت هذه المدة في اختيار تلك المجموعة مما يحفظه من مئات الروايات في ضوء أرقى وأدق منهج علمي عرفه البشر في نقد المعلومات التي تنقل عبر الأجيال. بل إن كل نقطة من نقاط هذا المنهج لم تكن معولة على ظاهر الأمر الذي يعرفه العوام.(1/460)
إن ظهور مصطلح التدليس، بل تصنيف من عرف بالتدليس من الرواة على مراتب شتى بدقة متناهية وبأحكام مختلفة يدل على أن النقاد لم يكونوا – ومنهم الإمام مسلم - معتمدين على ظاهر العنعنة والمعاصرة العامة واللقاء العام، بل كانوا يبحثون بعد كل ذلك عن القرائن التي تدل على أن الراوي سمع من شيخه ما رواه عنه - على الرغم من وجود المعاصرة والتلمذة - أو أنه لم يسمعه منه(1).
وكذا ظهور مصطلح العلة وما يتصل بها من المصطلحات؛ كالشاذ والمقلوب والمدرج وزيادة الثقات يدل كل ذلك أيضا على أنهم لم يكونوا ظاهريين، بل يبحثون عن القرائن التي تدل على خطأ الراوي مع كونه ثقة أو إماما. وهذه المصطلحات العلمية إنما جاءت نتيجة لدقتهم وإمعانهم في النظر والبحث .
وعلى أي منهج يبني الأستاذ في تصحيح الحديث وتعليله وترجيحه ؟!
أليس منهجه في ذلك سطحيا، وظاهريا كما رأينا ؟!
أليس من الزلل أن يتبجح الباحث بدراسته السطحية القائمة على النظر في أحوال الرواة، ثم يتحدى النقادَ بقوله : لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري لما تجاوز النتائج التي وصلت إليها ..؟!
فاختيار مسلم أحاديث صحيحة من آلاف الروايات التي يحفظها يحتاج إلى مقارنة بينها وإمعان النظر في جوانب كثيرة من التي تضمنها تعريف الصحيح، ومن أهمها مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة. إلى جانب معايير العلو والتسلسل والشهرة وجودة المتون وغير ذلك من الخصائص الإسنادية التي تجعل الحديث أسلم وأنقى من العيوب.
__________
(1) - كلام مسلم في المقدمة لا يخدشه ، إذ كان يعالج مسألة العنعنة في حال الإبهام . انظر (كتاب علوم الحديث في ضوء تطبيقات النقاد) في مبحث الصحيح (ص: 44 – 45) . وللشيخ حاتم الشريف – جزاء الله خيرا - بحث مؤسس حولها بعنوان (إجماع المحدثين).(1/461)
وإذا أخذ تأليف هذا الكتاب الصحيح مدة خمس عشرة سنة فلن يكون ذلك غريبا عند من يعرف منهج النقاد في نقد الأحاديث. وهذا واضح وجلي عندما تدرس حديثا واحدا على ذلك الشكل. وفي كثير من الأحيان يبقى الإشكال حول صحة حديث معلقا إلى فترات طويلة يتخللها تكرار لصلاة الاستخارة.
إن شهرة الرواة بالحفظ والإتقان والدقة من المزايا والخصائص بلا شك، لكن هناك جوانب أخرى تعد أيضا من المزايا والخصائص، ومن أجل تحقيقها طافوا البلاد والتقوا الشيوخ، واهتموا بتطبيقها عند الرواية والمذاكرة(1).
أما قرأ الأستاذ قول الإمام النووي :
’’ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيف الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك‘‘ .
وهذا نص آخر يكتب بماء الذهب:
’’اعلم أن مسلما (رحمه الله) سلك فى هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز التام فى نهاية من الحسن، مصرحة بغزارة علومه، ودقة نظره، وحذقه. وذلك يظهر فى الإسناد تارة وفى المتن تارة، وفيهما تارة. فينبغى للناظر فى كتابه أن ينتبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه وينشرح لها صدره وتنشطه للاشتغال بهذا العلم‘‘.
’’واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما فى هذه النفائس التى يشير إليها من دقائق علم الإسناد، وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد فى الأحكام والمعانى فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى‘‘(2).
__________
(1) - راجع مبحث الاستخراج من كتاب نظرات جديدة في علوم الحديث للمؤلف.
(2) - شرح النووي لصحيح مسلم 1/151(1/462)
هل يرى الأستاذ أن هذه الأمور التي أشار إليها الإمام النووي كلها محصورة في أحوال الرواة ومراتبهم التي ذكرها الحافظ ابن حجر في التقريب؟!
ونحن درسنا في كتب المصطلح وغيرها مسألة علو الإسناد ونزوله، وشهرة الروايات وغرابتها ومسألة تسلسل الأسانيد، واهتمام المحدثين بها، ومع كل ذلك يأتي هنا الأستاذ المتخصص في الحديث، ليصف تلك الخصائص الإسنادية بأنها سفسطة، ومغالطة، وتلاعب بالقواعد والأصول وتجاهل مغرض!!.
أقول : تبين للقارئ المنصف، في ضوء ما سبق، من عنده سفسطة ومغالطة وتلاعب بالقواعد والأصول وتجاهل مغرض !.
الحديث المتفق عليه، وأثره في الترجيح
ومن المعلوم أن تميز الحديث بكونه متفقا عليه إنما هو بالنسبة إلينا بعد أن كان اعتمادنا في معرفة الأحاديث ومراتبها على الكتب كما قال ابن الصلاح. وهذا نصه:
’’ وإذا انتهى الأمر في معرفة الصحيح إلى ما خرجه الأئمة في تصانيفهم الكافلة ببيان ذلك كما سبق ذكره فالحاجة ماسة إلى التنبيه على أقسامه باعتبار ذلك. فأولها صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعا ..‘‘(1)
أما بالنسبة إلى الإمام مسلم الذي نحن بصدد معرفة منهجه في ترجيح الروايات وتقديم بعضها على بعض، فإنه لا أثر يذكر لكون الحديث متفقا عليه بين الشيخين؛ حيث كان مسلم ينظر عند الترجيح إلى الخصائص العلمية: ثقة الرواة وخلو حديثهم من الخطأ والوهم، وشهرة روايتهم وعلو سندهم وجودة متونهم وتسلسل أسانيدهم وغيرها من الخصائص التي تجعل الرواية أسلم من العيوب وأنقى، حسب تعبير الإمام مسلم نفسه في المقدمة.
وحين يروي مسلم حديثا في صحيحه ويصدر به الباب على هذا الأساس قد يكون موافقا للإمام البخاري ، وبالتالي يكون الاتفاق أمرا طارئا على الحديث بعد الترجيح. إذن كيف يكون هذا الأمر الطارئ بعد التصحيح والترجيح سببا لترجيح مسلم إياه؟!
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح ص: 27(1/463)
بذلك تبين جليا أن كون الحديث متفقا عليه من أسباب الترجيح، لكن يكون ذلك بالنسبة إلينا كما سبق، ولا ناقة في ذلك لمسلم ولا جمل .
ثم إن الحديث المتفق عليه لا يكون دائما في أعلى درجة من الصحة، لأنه قد يكون الحديث الذي انفرد به أحدهما أعلى درجة من المتفق عليه لأسباب علمية كالشهرة ونحوها.
يقول الحافظ ابن حجر:
’’قد يكون في ذلك الجانب أيضا قوة من جهة أخرى وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة ، فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي ، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد غير الصحابي الذي أخرجه الآخر ، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فردا غريبا فيكون ذلك أقوى منه‘‘.(1)
اهتمام الأستاذ بإلزام خصمه بما لا يلزم
لقد حاول الأستاذ شتى المحاولات ليبرهن للقارئ على أن الإمام مسلما لم يهتم في صحيحه بمنهج الترتيب، لكنه باء في جميعها بالفشل الذريع كما رأيت سابقا، وسترى لاحقا – إن شاء الله - .
من تلك المحاولات محاولة الإلزام.فقد ألزمني هنا بقوله :
لو كان مسلم يرتب الأحاديث لقدم الإسناد الذي استوفى الخصائص العلمية، في جميع المواطن التي يروي فيها الحديث بالإسناد ذاته. فإذا قدمه في بعضها وأخره في أخرى فمعنى ذلك أنه لم يلتزم منهج الترتيب.
يقول بهذا الصدد:
’’ مما يدل على عدم التزام مسلم بالترتيب الدقيق الذي يهول به المليباري ومما ينقض تهاويل المليباري هنا بالنسبة لإسناد أبي خالد الأحمر: (أن الإمام مسلما أورد في باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) حديث أبي هريرة من طريقين من الدرجة الأولى مدارها على الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ثم أورده من طريقين مدارهما على العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ، وهو من الدرجة الثانية : صدوق ، ربما وهم.
__________
(1) - النكت 1/365(1/464)
ثم أورده من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، وعن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ؛ فهو من الدرجة الأولى ، بقطع النظر عن أبي سفيان عن جابر.
ثم أورده من طريق أبي الزبير عن جابر. ثم أورده من طريق عبد الملك بن الصباح عن شعبة عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عبد الله بن عمر، وعبد الملك صدوق.
ثم أورده من طريق سويد بن سعيد وابن أبي عمر عن مروان الفزاري عن أبي مالك عن أبيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد .....إلخ.
ثم أورده من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أنه سمع النبي × يقول من وحد الله. ثم ذكر بمثله.
ثم رواه بالحوالة : ح عن زهير بن حرب ، حدثنا يزيد بن هارون عن أبي مالك عن أبيه به.
ونسأل المليباري: لماذا أخر حديث أبي خالد الأحمر عن أبي مالك إلى آخر الباب، وقد اشتمل على كل الخصائص والمزايا التي ذكرتها في حديث ابن عمر، فهو مسلسل بالكوفيين، وفيه العلو الذي ادعيته، وقد اشتهر وانتشر وتداوله أهل الكوفة وخراسان وواسط؟!
ولماذا قدم مسلم سويد بن سعيد وابن أبي عمر على ابن أبي شيبة وزهير بن حرب ، ولماذا قدم أسانيد فيها العلاء بن عبد الرحمن وأبو الزبير وعبد الملك بن الصباح وأبو خالد الأحمر على إسناد فيه الإمام الجليل يزيد بن هارون ، وفي إسناده كل الخصائص الإسنادية التي ترجف بها؟!‘‘(1)اهـ
انتهى إشكال الدكتور ربيع على ما ذكرت في تقديم حديث أبي خالد الأحمر .
أقول: إلزامه غير لازم , وتوضيح ذلك فيما يأتي:
أولا : أورد مسلم في هذا الباب ثلاثة أحاديث ؛ هي حديث أبي هريرة وحديث جابر وحديث ابن عمر.
أما حديث أبي هريرة فهذا رسم شجرة أسانيده:
أبو هريرة
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود سعيد بن المسيب عبد الرحمن بن يعقوب أبو صالح
العلاء بن عبد الرحمن الأعمش
__________
(1) تنكيل الأستاذ ص: 174 - 177(1/465)
الزهري
عبد العزيز روح حفص بن غياث
عقيل يونس أحمد الضبي يزيد بن زريع ابن أبي شيبة
ليث بن سعد ابن وهب أمية بن بسطام
قتيبة بن سعيد أبو الطاهر حرملة بن يحيى أحمد بن عيسى
الإمام مسلم
رسم شجرة أسانيد حديث جابر
جابر
أبو سفيان أبو الزبير
الأعمش سفيان
حفص بن غياث وكيع عبد الرحمن
أبو بكر بن أبي شيبة محمد بن المثنى
مسلم
رسم شجر إسناد حديث ابن عمر
ابن عمر
محمد بن زيد بن عبد الله
واقد
شعبة
عبد الملك بن الصباح
أبو غسان
مسلم
حديث أبي مالك ورسم شجرته
أبو أبي مالك (طارق بن أشيم)
أبو مالك
مروان الفزاري يزيد بن هارون أبو خالد الأحمر
سويد بن سعيد ابن أبي عمر أبو بكر بن أبي شيبة
مسلم
ثانيا: حين ننظر في هذه الروايات التي اختارها مسلم في صحيحه نجد فيها حسن الترتيب، الذي يشكل إجابة دقيقة عن أسئلة الأستاذ ، وذلك :
لأن حديث أبي هريرة الذي صدر به الباب هو أجود ما ذكره مسلم في الباب(1)، من حيث الشهرة وجودة المتن إلى جانب استيفائه شروط الصحيح التي لا حاجة إلى ذكرها، لكون الحديث متفقا عليه، وشهرة رواته بالحفظ والإتقان والرواية.
أما شهرة الحديث فلأن الإمام مسلما أتى برواية عبيد الله وسعيد وعبد الرحمن بن يعقوب وأبي صالح جميعا عن أبي هريرة. فمعنى ذلك أن الحديث اشتهر عن أبي هريرة نفسه برواية أوثق تلاميذه، مع صحة كل منها. هذا من جهة .
__________
(1) - ينبغي أن يلاحظ أنني لم أقل: ( إنه أجود ما في الباب) ، وإنما قلت : (أجود ما ذكره مسلم في الباب)، وبين القولين فرق واضح يعرفه الجميع. ومن المعلوم أنه ( رحمه الله) يختار مما يحفظه من مئات الروايات ما صح منها ، ثم عند ذكر الروايات المختارة في موضع يقدم أصحها ثم الأصح.(1/466)
ومن جهة أخرى أن أباهريرة إنما تلقى الحديث من عمر بحضرة أبي بكر وفي مناسبة تدعو بإلحاح إلى الاستدراك لو وقع من عمر تغيير أو تبديل فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث، ثم تناقله عن أبي هريرة أصحابه المعروفون.(1)
أما جودة المتن فأورد عبيد الله عن أبي هريرة الحديث بكامله مع قصة ما جرى بين أبي بكر وعمر من النقاش.
وأما حديث أبي أبي مالك، وهو طارق بن أشيم، فلم يستوف ما سبق ذكره من الخصائص، وهو واضح جدا إذا نظرنا في ضوء منهج المحدثين عامة وضوء منهج مسلم خاصة، ثم إن طارق بن أشيم مع كونه صحابيا ليس مثل عمر الذي هو صاحب الحديث الأول، وحديث طارق هذا تفرد به ابنه كما قال الإمام مسلم ، وليس لطارق أحاديث كثيرة.
أليست هذه الأمور التي استوفاها حديث أبي هريرة من الخصائص العلمية التي تجعله أصح وأفضل وأسلم؟!
لذلك أخر حديث أبي خالد الأحمر هنا الذي عن طريقه روى مسلم حديث طارق بن أشيم. وهذا معنى قولي: إذا أخر ما يستحق أن يقدمه، فمعنى ذلك أن فيه شيئا جعل الإمام مسلما يتصرف كذلك، والشيء هنا ما ذكرت آنفا، وليس العلة.
وأما قول الأستاذ : وفي حديث أبي خالد العلو، وقد اشتهر وانتشر وتداوله أهل الكوفة وخراسان وواسط.
فأقول: نعم، إن الإمام مسلما أورده في صحيحه لصحته وعلوه، وأما شهرته إنمأكانت عن أبي مالك، ولم يشتهر عن طارق بن أشيم، بخلاف حديث أبي هريرة فإنه اشتهر عنه مباشرة.
وقول الأستاذ : ’’ولماذا قدم مسلم سويد بن سعيد وابن أبي عمر على ابن أبي شيبة وزهير بن حرب، ولماذا قدم أسانيد فيها العلاء بن عبد الرحمن وأبو الزبير وعبد الملك بن الصباح وأبو خالد الأحمر على إسناد فيه الإمام الجليل يزيد بن هارون ، وفي إسناده كل الخصائص الإسنادية التي ترجف بها‘‘؟؟!.
__________
(1) - انظر معرفة علوم الحديث ص: 93 - 94(1/467)
أقول: إن قوله هذا يدل على بعده عن منهج أئمة الحديث في النظر في الأسانيد، وتشتت أفكاره في المقارنة ، وسطحية دراسته وتركيزه على أمور لا تقتضيها مناسبة الحوار.(1)
أما النظر إلى الأسانيد في ضوء منهج المحدثين، ومنهم الإمام مسلم، فيتمثل في تحديد مدارات الروايات وفهم صلة بعضها ببعض من حيث المخرج، لكي تستقيم المقارنة بين الرواة، وبين رواياتهم وألفاظهم، وبالتالي يصل إلى نتيجة علمية دقيقة فيما يخص تحديد الراوي الذي وقع منه تغيير لفظ الحديث أو تبديل السياق، والذي زاد فيه كلمة، أو أخطأ ووهم، أو وجه الاتفاق بين الرواة وغير ذلك من الأمور التي تتصل بملابسات الرواية وطبيعتها ودرجتها.
لكن الأستاذ هنا قام بحشد الرواة والروايات دون تحديد مدارها، ثم قال:
’’ولماذا قدم أسانيد فيها العلاء بن عبد الرحمن وأبو الزبير وعبد الملك بن الصباح وأبو خالد الأحمر على إسناد فيه الإمام الجليل يزيد بن هارون، وفي إسناده كل الخصائص الإسنادية التي ترجف بها؟! ‘‘
أليس هذا السؤال يدل على أن الأستاذ خابط خبط عشواء؟!
إن العلاء بن عبد الرحمن روى حديث أبي هريرة متفقا مع الرواة الثقات، فقدمه مع مجموعته، وأبو الزبير روى حديث جابر متفقا مع رواية أبي سفيان، فثنى بذكر حديثهما جميعا. وعبد الملك بن الصباح روى عن شعبة عن واقد عن محمد بن زيد عن ابن عمر، فذكر حديثه الذي أسنده إلى ابن عمر قبل حديث أبي مالك عن أبيه الذي اتفق في روايته كل من أبي خالد الأحمر ويزيد بن هارون. وكل واحد منهم يستقل بمخرجه. وبقدر ما استوفاه من الخصائص جاء ترتيب الإمام مسلم لهذه الأحاديث.
__________
(1) - ومع ذلك كان الأستاذ يدعي أنه ينظر في الأسانيد في ضوء منهج أهل الحديث وفي ضوء شروط مسلم ، وينكر سطحية دراسته ، لكن لا يشعر بأن عمله في الدراسة يكذب ما يقوله ويدعيه .(1/468)
إن المقارنة بين الرواة والتفاضل بينهم إنما يكون حسب مخارج أحاديثهم. وهذا هو المنهج المعروف في عمل النقاد.(1)
وعلى كل فحديث أبي مالك – وهو طارق بن أشيم - دون حديث أبي هريرة وجابر وابن عمر من حيث جودة متونهم وفضائلهم وخصائصهم الشخصية. وحديث طارق بن أشيم كما ترى بلفظ موجز بخلاف ألفاظ الآخرين، وأنه بالنسبة إلى عمر وأبي هريرة وجابر وابن عمر لا يقدم حديثه على أحد منهم في حال صحة الحديث عن الجميع.
وعليه فقول الأستاذ: ’’ قد اشتمل حديث أبي خالد الأحمر على كل الخصائص والمزايا التي ذكرتها في حديث ابن عمر‘‘، قول غير صحيح، لأن حديث أبي هريرة أشهر وأكمل وأجود فإن فيه ذكر المناقشة بين عمر وأبي بكر. وبذلك فالحديث أقوى سندا وأتم متنا. ثم إن أبا خالد الأحمر يروي هنا عن أبي مالك عن أبيه ، وهناك يروي أبو الأحمر عن أبي مالك عن ابن عمر. ففرق بين ابن عمر وطارق بن أشيم.
أما تقديم سويد وابن أبي عمر على زهير بن حرب وأبي بكر بن أبي شيبة فلعلو رواية سويد عن مروان الفزاري، وذلك واضح من خلال معرفة تاريخ الوفاة.
توفي سويد سنة 204هـ وله مائة سنة، ومروان الفزاري توفي سنة 193هـ. وإن كان ابن أبي عمر متأخر الوفاة مثل زهير بن حرب وأبي بكر بن أبي شيبة فإنه ذكره مقرونا مع سويد لاتفاقهما في الرواية عن الفزاري. وتوفي ابن أبي عمر 234هـ، وزهير بن حرب توفي سنة 243هـ ، وأبو بكر بن أبي شيبة توفي سنة 235هـ وهؤلاء جميعا متأخرو الوفاة. وأما يزيد بن هارون فوفاته كانت سنة 206هـ. وأبو خالد الأحمر توفي سنة 189هـ.
فأعلى إسناد عند الإمام مسلم من هذه الأسانيد الصحيحة هو إسناد سويد بن سعيد. لهذا قدم مسلم رواية سويد على زهير وأبي بكر. والله أعلم.
والعلو له معايير مختلفة ولا نعرف كثيرا منها لدقة شأنها، وتشعبها، واختلافها باختلاف المحدثين.
__________
(1) - انظر إن شئت كتب العلل، ومنهج التحويلات في الصحاح والسنن.(1/469)
فما ألزمنيه الأستاذ من تقديم حديث أبي خالد في جميع المواطن غير لازم.
خصائص إسنادية يتميز بها حديث ابن عمر، وشبهات الأستاذ ومجازفاته فيها
لقد تبين مما سبق أن حديث أبي مالك الأشجعي أقوى وأصح وأفضل من حديث عاصم وحنظلة، لما يتميز به من الشهرة والعلو وجودة المتن. ولم يهمل الأستاذ هذه النقاط في حواره ، بل أثارها مستغربا، ثم تناولها بطريقة عجيبة. انظر إلى قوله عن النقطة الأولى ، وهي الشهرة.
يقول الشيخ:
’’لنأت إلى ما اعتبره هو ميزات وخصائص بنى مسلم عليها ترتيبه على حد زعمه. لقد اعتمد هنا على الشهرة ، فالشهرة لذاتها لا تدل على الصحة، وهي عند المحدثين لها ثلاث إطلاقات .... فالأحاديث المشهورة على الألسنة لا يلزم من شهرتها وشيوعها أن تكون صحيحة .. فما توافرت فيه شروط الصحة فهو صحيح لتوفر شروط الصحة فيه لا من أجل الشهرة فحسب؛ ومالم تتوفر فيه شروط الصحة فليس بصحيح، بل هو ضعيف أوموضوع، فالهذيان بالشهرة والزعم أن مسلما يبني ترتيبه عليها ؛ يدل على هوى وجهل غليظ.
فالطريق الأول التي صدر بها مسلم هذا الباب لا شك أنها دون الطرق التي بعدها ولا سيما الطرق المتفق عليها؛ ذلك لأن فيها أبا خالد الأحمر: مختلف في توثيقه وتجريجه، وابن حجر أعطاه الدرجة التي يستحقها(1)وهي: صدوق يخطئ .
وكتاب التقريب كتاب ممتاز اعتبره أهل الحديث من وقته إلى يومنا هذا ، وعولوا عليه ، ولا يحط من قدره إلا جاهل صاحب هوى. وهل نسمع بعد هذا – أو قبله – للجهلة المتعالين على كل ما يخالف أهواءهم‘‘ انتهى تعقيب الأستاذ(2).
أقول: لنقف هنا قليلا على بعض المسائل التي تضمنها تعليقه.
__________
(1) - لسنا بصدد إنكار ذلك ، لكن السؤال هنا : هل يقاس عليه منهج مسلم في تقسيم الرواة أو تعديلهم وتجريحهم ؟! أعني هل يكون ما قاله الحافظ هو بذاته رأي الإمام مسلم في ذلك؟!
(2) - التنكيل ص: 177 - 178(1/470)
أولا: إن المناسبة تقتضي منه أن ينكر الشهرة عن حديث أبي مالك، ويثبتها لحديث حنظلة بخلاف ما أدعيه، لكنه لم يفعل. بل اتجه مباشرة إلى حال أبي خالد ليقول إنه مختلف في توثيقه وتجريجه، لذا روايته دون رواية الثقات التي ذكرها مسلم في آخر الباب.
ثم إن قوله:
’’إن أبا خالد الأحمر مختلف في توثيقه وتجريجه .. ومسلم ذكر أنه يروي عن هذا النوع ليؤكد بهم صحة أحاديث أهل الدرجة الأولى‘‘
مجرد كلام يرسله على عواهنه. هل ذكر مسلم أبا خالد الأحمر في جملة الضعفاء، وجعله مثل ليث بن أبي سليم وغيره من الرواة الضعفاء، حتى يقول: ’’ذكر مسلم أنه يروي عن هذا النوع ليؤكد صحة أحاديث الثقات‘‘؟!
والواقع أن الإمام مسلمأكان يروي عن أبي خالد الأحمر، كما يروي عن مالك وسفيان وغيرهما من الثقات. لذا قال الذهبي: ’’وحديثه محتج به في سائر الأصول‘‘. والذي يهمنا هنا هو موقف مسلم تجاه هذا الراوي المشهور، بغض النظر عن مدى مصداقية هذا الموقف في ميزان النقد، ومدى موافقة الآخرين له في ذلك.
وما قاله الأستاذ يكون إذن مجرد تخمين ، ولا ينقض ما قلته في العبقرية بهذا الصدد(1).
__________
(1) - أنقل هنا ما ذكرته في العبقرية ، وهذا نصه:
’’ لأن الحافظ ابن حجر لم يصرح أنه يبين طبقات الرواة في كتابه (التقريب) على منهج الإمام مسلم في تقسيم الرواة، حتى يكون قوله دليلا على رأي مسلم ومذهبه في الرواة، بل كان الحافظ يلخص من آراء النقاد جميعا حسب ما فهم هو.
ثم إن الحافظ قسم الرواة في التقريب على اثنتي عشرة طبقة ، والإمام مسلم قسمهم على ثلاث طبقات فقط ، كما مضى مفصلا، فأبو خالد الأحمر في الطبقة الخامسة على تقسيم الحافظ ، وليس من الطبقة الثانية كما زعم الأستاذ، والحق أنه في الطبقة الأولى عند الإمام مسلم ، وكذا عند الإمام البخاري، كما يدل عليه صنيعهما في الصحيحين .
وقد احتج به مسلم والبخاري في صحيحهما في الأصول إذا لم ينفرد بحديث، انظر مثلا صحيح البخاري في كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الإبل 1/527 (فتح الباري)، فقد أخرج حديثه بدون ذكر المتابعة ، معتمدا عليه، لكن الحديث لم ينفرد به أبو خالد، بل تابعه معمر، وأورد حديثه في باب الصلاة إلى الراحلة... 1/580.
وقال المنذري في مختصره لسنن أبي داود: ’’إن أباخالد الأحمر من الثقات الذين احتج بهم البخاري ومسلم‘‘. (1/313)
وأبو خالد وثقه ابن المديني وابن سعد والعجلي وابن حبان فماذا يمنع من أن يكون ثقة عند مسلم ، وقد دل على ذلك صنيعه في صحيحه ؟!
ويقول النسائي وابن معين في رواية عثمان الدارمي: لا بأس به. ويقول الخطيب: كان سفيان يعيب أبا خالد لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث فلم يكن يطعن عليه فيه‘‘
ويقول أبو هاشم الرفاعي: حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين، إلا أن أباحاتم قال فيه : (صدوق )، وقال ابن معين: صدوق وليس بحجة. وقال ابن عدي : إنما أتى من سوء حفظه فيغلط ويخطيء‘‘
هذا وقد دافع الحافظ الذهبي في السير عن ثقته فقال معلقا على ما قاله ابن عدي : ’’تابع ابن عدي ابن معين، فكان موصوفا بالخير والدين ، وله هفوة وهي خروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن وحديثه محتج به في سائر الأصول‘‘
وأبو خالد الأحمر من رجال الأصول عند الإمام مسلم والبخاري ومن شروطهما، وليس هو كما يقول الأستاذ، بل هو من الطبقة الأولى حسب تقسيم الإمام مسلم للرواة، وإن لم يكن في أعلى درجة الثقة. ( العبقرية ص: 94 – 96)(1/471)
ثانيا: كلام الأستاذ هنا عن الشهرة، وتقسيمها، وبيان أحكامها، جيد وسليم، لكن ذكره هنا في غير محله، ذلك لأني لم أجعل مطلق الشهرة من الخصائص الإسنادية، حتى يعطيني هذا الدرس حولها، بل إن شهرة الحديث الصحيح عند الرواة الثقات الذين أوردهم مسلم في صحيحه هي التي جعلتها من الخصائص.
والأستاذ على علم بذلك؛ إذ قلت له: ’’وهذه الروايات كلها صحيحة وثابتة ومذكورة في الأصول‘‘. ولم يتركه دون تعليق عليه فقال :
’’ هذا ما أقرره أنا وأذب عنه وأكف عنه بغيك ‘‘.
إذن كيف انزلق هنا ذهن الأستاذ إلى شهرة عامة حتى يأتي ليعلق عليها كمستدرك مفيد؟!
والشهرة التي تناولناها ضمن الخصائص هي شهرة الحديث الصحيح بين رواته. وعليه فقول الأستاذ:
’’فالهذيان بالشهرة والزعم أن مسلما يبني ترتيبه عليها؛ يدل على هوى وجهل غليظ‘‘، قول باطل ومرفوض. ومن الذي ينكر تقديم الحديث الصحيح المشهور على الحديث الصحيح غير المشهور، أو على الحديث الصحيح الذي هو أقل شهرة ؟! لا أحد.
كيف خفي على الأستاذ اهتمام المحدثين بالحديث الذي يتداوله الثقات وتفضيلهم لما هو أكثر شهرة ؟!
أما سمع قول الإمام أبي داود في رسالته إلى أهل مكة:
’’والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس والفخر بها أنها مشاهير....... فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد‘‘.
والذي يفهمه من هذا كل عاقل أن الحديث الصحيح كلما يكون مشهورا يكون أصح وأقوى وأبعد من الخطأ.
ثم قال الأستاذ :(1/472)
’’ وما زعم من الترتيب حسب الخصائص الإسنادية سفسطة باردة .و هذا من تهاويله، فإن رواية اثنين له من أهل الكوفة لا يلزم منها أنه قد يتناقله أهل الكوفة. ثم إنه خالف ما قرره أئمة الحديث من الثقة بحديث أهل الحجاز(1)، والتحرز – بل والطعن – في أحاديث أهل العراق إلى أن جاء من يغربلها مثل شعبة وتلاميذه؛ فما أكثر الكذابين والمدلسين فيهم حتى من الله عليهم بشعبة وأمثاله فميزوا بين الغث والسمين. وخالف مرة أخرى ما قرره أئمة الحديث من ترجيح الأحاديث التي اتفق عليها الشيخان على مالم يتفقا عليه‘‘.انتهى كلام الأستاذ.
أقول:
أولا: إن ما رواه أهل العراق من الأحاديث التي لها أصل في الحجاز أو هي ثاتبة في العراق ذاتهألم يتركها أحد من النقاد. وأما كلام النقاد في تقديم أهل الحجاز على أهل العراق فإنه يكون في ضوء المعادلة العامة بين مروياتهم، فكثرة تفرد أهل العراق بما لا أصل له عند غيرهم، أو كثرة التدليس في رواياتهم نسبيا لها أثر فاعل في تلك المفاضلة.
وأما ما رواه الأئمة الثقات من أهل العراق مثل ثابت وحميد وقتادة وأيوب وحماد وسفيان وشعبة وأحمد وغيرهم من الثقات فلا صلة له بآثار تلك المفاضلة. فإن المهم هو ثبوت الرواية وصحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بقدر ما تستجمع من الخصائص ما يجعلها أسلم وأنقى من العيوب تكون مقدمة لدى الجميع.
ومن المعلوم أن الحديث الذي نحن في مجال دراسته مما اشترك في روايته أهل العراق وأهل الحجاز وأهل خراسان. وبالتالي فما أثاره الأستاذ بما يتصل بالعراقيين غير مقبول.
__________
(1) - نجد الأستاذ نفسه يخالف هذا الذي ذكره عن أهل الحديث. انظر مثلا الفصل الثالث من الباب الثاني – المثال السادس – من هذا الكتاب.(1/473)
ثم إن قول الأستاذ هذا يصدق أيضا على الرواية التي رجحها هو، ألا وهي رواية عبيد الله عن معاذ العنبري عن عاصم، فإن عبيد الله وأباه معاذا كلاهما عراقي، وكذا حديث محمد بن عبد الله عن ابن نمير عن حنظلة، عراقي أيضا. ولا ينبغي التغافل عن اعتبار شيوخ مسلم وشيوخ شيوخه.
فالحديث المدني إذا جاء عن طريق العراقيين - كما هنا - لا يخرج من الإشكال الذي أثاره الأستاذ، وبمجرد وجود راو مدني في السند لا يحق له القول إنه إسناد مدني، إلا إذا أتى بإسناد مخرجه مدني والراوي عنه أيضا مدني إلى أن يصل إلى الإمام مسلم. لأنه ينبغي الاعتبار في هذا برواة الإسناد بكامله، لا سيما بعد مخرج الحديث ومدار رواته إلى شيوخ المؤلف.
والأستاذ الذي أثنى على حديث المدنيين في هذه المناسبة كان ينبغي أن يثبت مدنية الإسناد الذي يرجحه، لكن الروايات كلها عراقية باعبتار شيوخ مسلم وشيوخ شيوخه. وأما إذا اعتبرنا الراوي الأسبق فتكون الروايات كلها مدنية المصدر لأن ابن عمر مدني.
ثالثا: إنه من الغريب أن يقول إن الطرق التي أخرها مسلم متفق عليها، وما مناسبة ذلك والأستاذ في تعليقه على الشهرة. ثم إن الحديث المتفق عليه ليس دائما أعلى درجة من الصحة، لأنه قد يكون الحديث الذي انفرد به أحدهما أعلى درجة من المتفق عليه لأسباب علمية كالشهرة ونحوها.
وعلى كل فقد وجدنا في حديث أبي مالك الأشجعي الذي صدر به الإمام مسلم هذا الباب من الخصائص الإسنادية ما يجعله أسلم أحاديث الباب وأصحها عنده. والله أعلم.(1)
هذا كله فيما يخص الشهرة ، وأما العلو فيأتي تعليق الأستاذ عليه.
تعقيب الأستاذ على علو الإسناد
__________
(1) - العبقرية ص: 97(1/474)
لقد كان حديث الأستاذ عن العلو مثيرا للاستغراب من حيث الأسلوب ومن حيث المحتوى، بحيث تنعكس فيه تصوراته التي بناها حول هذه المسألة. وقد أثبتنا سابقا أن مما يتميز به حديث أبي مالك الذي قدمه مسلم على حديث عاصم وحديث حنظلة هو علو سنده. لكن الأستاذ أنكر ذلك بطريقة عجيبة، انظر ماذا يقول بهذا الصدد:
يقول:
’’فهذا(1)من أباطيله، فالأسانيد في هذا الباب كلها متساوية في العدد: في كل إسناد أربعة رجال إلى ابن عمر، وإنما أقحم العلو إكمالا لإرجافه بالخصائص الإسنادية‘‘.
أقول: إن هذا التعليق وغيره من التعليقات تدل على وجود خلل في تصوراته العامة حول مسألة العلو ومعاييرها. هذا يجلبنا إلى أن نشرحها بشيء من التفصيل، ومن أحسن ما ينقل هنا ما قاله الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث)(2).
يقول الحاكم(3):
’’ فأما معرفة العالية من الأسانيد فليس على ما يتوهمه عوام الناس، يعدون الأسانيد، فما وجدوا منها أقرب عددا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوهمونه أعلى.... ‘‘
أورد الحاكم بعض الأمثلة لذلك. ثم قال:
’’والعالي من الأسانيد التي تعرف بالفهم لا بعدِّ الرجال غير هذا، فرب إسناد يزيد عدده على السبعة والثمانية إلى العشرة وهو أعلى من ذلك‘‘
ثم أتى ببعض الأمثلة لذلك فقال:
__________
(1) - يعني به الأستاذ ما قلته في العبقرية: (سمعه مسلم من ابن نمير الكوفي، ومن سهل بن عثمان بهذا العلو) والإمام مسلم صدر الباب بحديثهما.
(2) - نقلت في العبقرية ص: 22 عن الخليلي حول تفاصيل العلو ومعاييره ، ومع ذلك فإن الأستاذ لم يهتم بقراءته ، ولو قرأه ما صدر منه هذا التعقيب.
(3) - ص: 9 - 11(1/475)
’’هذا إسناد صحيح مخرج في كتاب مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وقد بلغ عدد رواته سبعة ، وهو أعلى من الأربع الذي قدمنا ذكره، فإن الغرض فيه القرب من سليمان بن مهران الأعمش، فإن الحديث له، وهو إمام من أئمة الحديث، وكذلك كل إسناد يقرب من الإمام المذكور فيه فإذا صحت الرواية إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير فإنه عال.‘‘
ثم ذكر الحاكم في مبحث (الحديث النازل) ما تكتمل به الفكرة حول معايير العلو.
يقول(1):
’’والأحاديث النازلة على أوجه كثيرة؛ فمنها ما يستوي العدد في روايتين إحداهما أعلى من الأخرى‘‘.
وذكر الحاكم بعض الأمثلة لعلو الإسناد ونزوله بناء على تقدم وفاة راويه على آخر، ثم قال:
’’والأصل في ذلك أن النزول عن شيخ تقدم موته واشتهر فضله أحلى وأعلى منه عن شيخ تأخر موته وعرف بالصدق.
ومما يحتاج طالب الحديث إلى معرفته من النزول أن ينظر في إسناد الشيخ الذي يكتب عنه ، فما قرب من سنه طلب أعلى منه. ومثال ذلك: أني نشأت وطلبت الحديث بعد وفاة محمد بن إسحاق بن خزيمة (بعشرين) سنين‘‘(2).
’’فإذا وقع الحديث من حديث أبي كريب وبندار وأبي موسى وعبد الجبار بن العلاء وغيرهم، عندي من حديث أبي بكر الجارودي وإبراهيم بن أبي طالب وأقرانهما عن هؤلاء الشيوخ فإنه لي أعلى من أن يكون عمن يقرب وفاته من ولادتي ونشوئي ، وهذا أصل كبير في معرفة النزول‘‘.
’’وكذلك إذا وقع الحديث لطلابه في عصرنا عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى(3)أو أحمد بن يوسف السلمي أو مسلم بن الحجاج وأقرانهم فإنه أعلى من أن يقع لهم عن ابن الشرقي ومكي وأقرانهما‘‘ .(4)
__________
(1) - ص: 13 - 14
(2) - توفي سنة 311هـ
(3) - توفي محمد بن يحيىسنة 257هـ . وأحمد بن يوسف سنة 264هـ ومسلم سنة 261هـ.
(4) - ذلك لتأخر وفاتهما ؛ توفي ابن الشرقي ، ومكي بن عبد الله سنة 325هـ(1/476)
يعني الحاكم بذلك أن من معايير العلو والنزول أيضا: تقدم سماع أحد الرواة من شيخهم على الآخر. لذا فقول الأستاذ بتساوي عدد الرواة في جميع الأسانيد، منكرا ما يتميز به إسناد أبي مالك من علو، غير مقبول على الإطلاق.
لا يزال الأستاذ يثير شبهات في مسألة العلو، انظر إلى تعليقه على قولي: (وأما حديث عاصم المدني فلم يجده الإمام مسلم عاليا عند أحد من شيوخه المدنيين، وإنما وجده عند غيرهم فرواه عن معاذ العنبري البصري) .
يقول الأستاذ معلقا عليه:
’’وهذه مجازفة لا يقدم عليها إلا مثل هذا الرجل؛ فهل جهل أهل المدينة حديث (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله....) بحيث إن مسلما بحث في المدينة فلم يجد هذا الحديث ، فاضطر إلى أخذه من أهل الكوفة‘‘؟!
أقول: ما الذي جعل الأستاذ يسأل:’’هل جهل أهل المدينة هذا الحديث‘‘؟!
كيف يفهم من قولي (إن مسلما لم يجد هذا الحديث بعلوه عند شيوخه المدنيين)، أن المدنيين يجهلون هذا الحديث؟! هذا غريب، فقد يكون الحديث مشهورا عندهم، لكن رواياتهم بالنسبة إلى الإمام مسلم قد تكون نازلة. وعدم الرواية لا يعني أبدا الجهل وعدم السماع، لأن المحدث يترك رواية الأحاديث التي سمعها(1)لأسباب كثيرة من أهمها النزول. والسماع شيء والرواية شيء آخر.
يقول الأستاذ مبررا عدم رواية مسلم عن المدنيين لحديث ( بني الأسلام ):
’’ولعل عدم روايته عن الحجازيين: أنه لم يكن عنده وقت لأخذ كل ما عندهم من أحاديث، ومنها هذا الحديث لضيق وقته، لأنه حج وهو صغير، فأخذ عنهم ما تيسر له ولم يستوعب حديثهم، وهذا لا يدل على عدم وجوده عندهم. أستغفر الله ، كيف؟! وفيمن لقي بمكة سعيد وأبا مصعب الزهري وغيرهما، وبالمدينة إسماعيل بن أبي أويس وغيره‘‘.
أقول إنها مجازفة واضحة، ذلك لأنه:
__________
(1) - الرواية، غير السماع والتلقي. فربما يسمع الراوي من معاصره أو ممن دونه سنا حديثا لكن لا يرويه لنزوله .(1/477)
أولا: من الذي قال بعدم وجود هذا الحديث عند المدنيين ، وأنهم يجهلونه ؟! حتى يبحث عن المبررات. ولا يلزم من قولي السابق أن الحديث لا يوجد لدى الحجازيين، وأنهم يجهلونه. إذ كان قولي مقيدا بـ ’’أنه لم يجده عندهم عاليا‘‘.
وأما المحدث إذا ضاق عليه وقته في بلد لسماع الأحاديث عالية لكونه غريبا فيه، فإنه يسعى جاهدا إلى سماعها من الغرباء عالية أو نازلة، لا سيما أحاديث الحجازيين التي جعلها الأستاذ أفضل الأحاديث.
وعليه فإن ضيق الوقت لا يشكل سببا لترك سماع المحدث للأحاديث، وإنما يكون سببا لفوات سماع الأحاديث عالية.
ثانيا: إذا تتبعنا الحديث الذي رواه عاصم وجدنا أنه لم يروه أصحاب الكتب المشهورة عن طريق مدنيين أصلا. هذا لا يمنع سماع أهل الحجاز من العراقيين نازلا. ولو أتى الأستاذ برواية أحد من المدنيين عن عاصم لكان ذلك ثورة عظيمة في مجال الاستدراكات، ودونه خرط القتاد.
ثالثا: إن الموضوع الذي نحن بصدده هو أن الإمام مسلما رتب ما أورده هنا من الروايات حسب خصائصها الإسنادية، وليس الترتيب فيما يعرفه الآخرون من الأحاديث. وبالتالي تكون الرواية الأولى التي صدر بها الباب أصح من التي ذكرها ثانية في صحيحه لوجود خصائص إسنادية، وليست هي أصح من جميع الروايات التي يحفظها الآخرون.
ولا ينتهي العجب في تعليقات الأستاذ، فهو لا يدري بماذا يعقب ؟!
لا يركز في حواره على القضايا الأساسية التى بنى عليها الإمام مسلم ترتيبه لروايات حديث ابن عمر (بني الإسلام على خمس)، بل ينشغل الأستاذ بإثارة فتات الأمور، لعل ذلك ليقال إن الشيخ رد على المليباري.
انظر ماذا يقول:
’’ هذا هضم لعاصم وعكرمة بأنهما غير دقيقين وغير ضابطين، أو أنهما غير كاملين في ذلك ، وليس الأمر كذلك فيجوز أن ابن عمر حدث مرارا، فلم يحصل عنده من يقدم ويؤخر في الحديث فلم يقل هذا الكلام ، ولما وقع التقديم والتأخير نبه على الترتيب، ولا يقال: التصحيح، فليس هناك ضعف‘‘.(1/478)
أقول: هذا تعقيب على قولي: ’’ على أن رواية أبي مالك الأشجعي أجود ما في الباب سياقا تدل على دقته البالغة وضبطه الكامل، ذلك أنه حكى ما جرى بين ابن عمر والراوي عنه ، من تصحيح الحديث الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم‘‘.
يدل قوله على وجود خلل في فهم الأستاذ واستيعابه للموضوع.
خطأ الراوي لا يعني أبدا أنه ضعيف يخطئ في جميع الأحاديث، وإذأروى حديثا بمعناه لا يدل على عدم دقته وضبطه في رواية جميع الأحاديث.
ونحن بصدد بيان المفاضلة بين الأحاديث الصحيحة، ومما ذكرنا ضمن أسباب المفاضلة أن الحديث الأول كان مرويا بلفظه كما ورد عن ابن عمر، والحديث الثاني روي بالمعنى.
انظر إلى ما قاله الأئمة بهذا الصدد.
يقول ابن الصلاح في (صيانة صحيح مسلم):
’’وأما مخالفة من خالف من رواة الحديث لما نص عليه ابن عمر الراوي له في قصة الرجل فرواه عنه بتقديم ذكر الحج على ذكر الصوم فكأن ذلك وقع ممن كان يرى الرواية بالمعنى، ويرى أن تأخير الأول أو الأهم في الذكر شائع في اللسان، فتصرف فيه بالتقديم والتأخير لذلك، مع كونه لم يسمع نهي ابن عمر عن ذلك فافهم ذلك فإنه من المشكل الذي لم أرهم بينوه. والله أعلم ‘‘.(1)
ويقول ابن حجر :
’’إن ابن عمر أنكر على من روى عنه الحديث بتقديم الحج على الصيام، وهو - وإن كان ورد عن ابن عمر من طريق أخرى كذلك - فذاك محمول على أن الراوي روى عنه بالمعنى ولم يبلغه نهيه عن ذلك ‘‘.(2)
ويقول ابن منده:
’’وهو مشهور عن أبي مالك، رواه ابن فضيل وأبو خالد الأحمر أتم من هذا‘‘(3)
هذا ابن منده يجعل حديث أبي خالد الأحمر أتم، وهو الذي قدمه مسلم هنا في هذا الباب.
السؤال المطروح هنا: هل يعد الأستاذ قول هؤلاء الأئمة هضما لعاصم وعكرمة بأنهما غير دقيقين وغير ضابطين ؟!
__________
(1) - ص: 146 ( طبعة دار الغرب ، تحقيق موفق ، سنة 1984م)
(2) - مقدمة فتح لباري 1/470
(3) - الإيمان لابن منده 1/186(1/479)
ولا يفهم ذلك من كلامهم أبدا، بل يدل فقط على أن الرواة غير أبي مالك الأشجعي إنما رووا ذلك الحديث بالمعنى، والذي روى باللفظ الذي حدث به ابن عمر مع القصة، أفضل وأتم من الذي روى بالمعنى وبدون القصة.
ولا يزال الأستاذ يكرر قوله إن أبا خالد فيه خلل، وهو الأساس الذي بنى عليه كل اعتراضاته علي، ولا يريد أن يفهم شيئا غير ذلك، بل يرى الخصائص العلمية سفسطة وتلاعبا بالقواعد. فكأن الأستاذ إذا قرر شيئا لا ينبغي لغيره أن يعترض عليه حتى بما اتفق عليه العلماء!!
يقول الأستاذ:
’’هذا الكلام باطل؛ فإن الإسناد الأول فيه أبو خالد الأحمر مختلف فيه، ولا شك أن الإسناد الثاني أرجح من الأول لأن رجاله من الطبقة الأولى، فمدار الرجحان في الدرجة الأولى على العدالة والضبط والإتقان، وهي متوفرة في الثاني، والأول فيه خلل من جهة أبي خالد‘‘.
هذا تعليق على قولي: ’’ونلاحظ أنه (رحمه الله تعالى) رتب أيضا في حديث أبي مالك الأشجعي، إذ قدم حديث محمد بن عبد الله بن نمير على حديث سهل بن عثمان العسكري ، لأن الأول مسلسل بالكوفيين إلا ابن عمر، والثاني إسناده كوفي ثم عسكري ، على أن محمد بن عبد الله بن نمير من أشهر شيوخ مسلم الثقات، وأما سهل فدونه، وهذا يدل على دقة مسلم وتيقظه في الاختيار بين الروايات تقديما وتأخيرا‘‘(1).
أما وجه المجازفة والمغالطة؛ فلحطه أبا خالد من الدرجة التي أعطاه مسلم والبخاري وعلي بن المديني وغيرهم. نعم قال الحافظ ابن حجر في التقريب (صدوق يخطئ)، لعل هذا تلخيصا لأقوال العلماء السابقين جمعا بينها، لكن لا صلة له بموقف الإمام مسلم تجاه هذا الراوي.
__________
(1) - العبقرية ، ص: 94(1/480)
إذا تتبعت الصحيحين وجدت مسلما والبخاري لم يتعاملا مع أبي خالد على أنه ضعيف، بل باعتبار كونه من رجال الطبقة الأولى؛ إذ يوردان أحاديثه مثل ما يورد أحاديث الطبقة الأولى سواء بسواء، أو نقول : إنه من رجال الأصول في الصحيحين، وليس من رجال المتابعات والشواهد الذين يورد مسلم أو البخاري أحاديثهم مقرونين بالثقات.
هذا وقد نقلت سابقا أقوال العلماء، لا سيما توثيق علي بن المديني وغيره من الأئمة، وأما تضعيف ابن معين فلأمر لا صلة له بالحديث وحفظه، كما صرح به الحافظ الذهبي. وبه تضارب قوله مع قول الحافظ في التقريب.
وأما خطؤه الذي ذكره الحافظ ابن عدي فكما يخطئ الآخرون من الثقات. وإلا فإنك إذا تتبعت أحاديث أبي خالد الأحمر في الصحيحين وجدته يوافق كبار الأئمة في الأحاديث، مثل سفيان وشعبة ومالك وأمثالهم.
لماذا يتمسك الأستاذ بقول الحافظ ويترك قول الذهبي الذي يتأيد بأقوال النقاد غير ابن معين الذي اختلف رأيه فيه، كما يتأيد بالتطبيق العملي في الصحيحين؟!
وعلى كل فالسند الأول لحديث أبي مالك الأشجعي استوفى أهم الخصائص واللطائف؛ كثقة الرواة وعلو السند وتسلسل الرواية وجودة المتن وتمامه وضبطه. وأما الأسانيد الأخرى _ وإن كانت صحيحة – فإنهألم تستوف من الخصائص ما استوفاه الإسناد الأول. ولا ينبغي رد هذا الواقع الذي يكون محل اهتمام المحدثين عموما، بناء على أحوال الرواة فقط. فذلك هو عين المجازفة والمغالطة والزلة.
ثم بالمقارنة بين ابن نمير وبين سهل - كما سبق في سياق كلامي السابق - نجد تفاضلا كبيرا، إذ الأول من أشهر شيوخ مسلم ، والثاني أقل منه شهرة ورواية له في الصحيح.(1/481)
وبهذا تتبين خصائص الإسناد ولطائف الرواية التي كانت محل اهتمام المحدثين، والتي تشكل أهم محاور تاريخهم العلمي في جانب تلقي الأحاديث وروايتها، كما تشكل معلما مهما وبارزا من معالم منهج النقاد في الترجيح والتفضيل. وعلينا إحياء منهج المحدثين النقاد ، وحفظ تاريخ تلقيهم للأحاديث وروايتها.
ومن مجازفات الأستاذ أن يقول:
’’ نعوذ بالله من كثرة الهراء ومن اتباع الهوى والتقول على أي مسلم بالباطل، فكيف على مثل هذا الإمام‘‘
’’فطريق عاصم أصح من طريق أبي خالد عند من يعقل :
أولا : لأن رجالها من الطبقة الأولى.
ثانيا : أنه حديث مدني ، وأحاديث المدنيين لها ميزة على سائر أحاديث البلدان، إذ ليس في الإسناد غير مدني إلا شيخ مسلم(1).
__________
(1) - لا ينبغي أن ننسى أننا بصدد تحليل طريقة مسلم وصنيعه في الصحيح، وبالتالي فعلينا الاعتبار بمن سمع منه مسلم الحديث أو رواه عنه، وننظر هل هو مدني أو غير مدني. ولا يكفي في ذلك أن شيخ شيخه مدني ليصبح الإسناد مدنيا؛ لأن أمر الرواية يقوم على أول الإسناد إلى آخره بدءا بشيخه.
لذا فإن جميع الروايات التي ذكرها مسلم هنا عراقية باعتبار شيوخ مسلم، وحتى الذي اعتبره الأستاذ مدنيا أصبح عراقيا؛ إذ شيخه عبيد الله، وشيخ شيخه معاذ العنبري، كلاهما بصري ، فبطل ما قاله الأستاذ إن الإسناد الثاني مدني.
وما علينا إلا أن نبدأ بإسناد المؤلفين، وإلا فمخرج هذا الحديث في جميع الروايات مدني، وهو عبد الله بن عمر، ولذا أصبح هذا الحديث أصح الأحاديث التي رويت في هذا الموضوع عموما، لأنه اشتهر في المدينة وخارجها في عواصم العلم كمكة والكوفة والبصرة وخراسان وغيرها. وإذا تتبعنا طرق جميع الأحاديث الواردة في هذا الموضوع من خلال كتب الأئمة المتوفرة لدينا وجدنا دقة البخاري ومسلم في اختيار حديث ابن اعمر بأسانيده النظيفة العالية ، وأنهما لم ينجرفا وراء العلو المطلق ، ثم لم يكونا يرويان الحديث بأي إسناد، غريبأكان أو معلولا، كما يحدث ذلك في الكتب الأخرى التي لم يلتزم أصحابها بشروط الصحة. والله أعلى وأعلم.(1/482)
وثالثا: من جهة الخصائص التي يرجف بها المليباري: أنه مسلسل بالعمريين المدنيين الحفاظ.(1)
فعلى منهج المليباري يكون لرواية عاصم من المزايا والخصائص ما لا يلحقه إسناد أبي خالد ، فأين إرجافه بالخصائص الإسنادية والحديثية والعلمية‘‘.
ثم بدأ الأستاذ يهول كعادته فقال:
’’فهذه مزايا عظيمة حقا لهذا الطريق، (يعني طريق عاصم) فهل يحظى بالاحترام والقبول عند الأستاذ المليباري ، فيسلم أن مرجحات وخصائص كثيرة يفوق بها طريق أبي خالد الأحمر ، أو سيظل ثابتا كالجبل الأشم على قوله (وبهذا يتبين أن الأحاديث مرتبة ترتيبا علميا روعيت فيه الخصائص الإسنادية والحديثية) وهل سيسلم للحافظ ابن حجر في قوله في أبي خالد (صدوق يخطئ) أو سيرفع أبا خالد فوق رجال الطبقة الأولى أهل الحفظ والإتقان انتصارا لوساوسه وأراجيفه؟!
وسيهمل كل ما للطرق التي جاءت بعد طريق أبي خالد من الخصائص والمزايا التي ذكرها وتعلق بها انتصارا لتلك الأراجيف ‘‘.
والحاصل: أنه أكثر من التهاويل ليشغل القارئ وليصرفه عن القضية الأساسية في الخلاف بيني وبينه، ألا وهو التعليل بالترتيب والتقديم والتأخير؛ فعلى منهجه يكون ما بعد حديث أبي خالد من الطرق كلها معلة ، كما قعد وطبق وناضل ويناضل‘‘.
أقول:
أولا : ما أنكرت صحة حديث عاصم ولا حنظلة، ولا خصائصهما، بل قلت في البداية إن جميع الروايات التي أوردها مسلم صحيحة، لا إشكال في صحتها.
ثانيا: نجد فيما قدمه مسلم من حديث أبي مالك مالم يستوفه حديث عاصم وحديث حنظلة ، وقد سبق بيان ذلك .
__________
(1) - أقول: من الذي يرجف بكلامه الخيالي ؟! أين تسلسل حديث عاصم بالعمريين الذي رواه مسلم عن عبيد الله عن معاذ عن عاصم عن أبيه عن جده ابن عمر؟! هل عبيد الله عمري . وهل معاذ العنبري عمري أيضا؟! تكتب لمن: للمغفلين أم طلبة العلم ؟!(1/483)
ثالثا: أنكر الأستاذ ما تميز به حديث أبي مالك من الخصائص، بل اعتمد فقط على ثقة الراوي. أما أنا فأقر بوجود خصائص في كل الأسانيد مع وجود التفاضل بينها.
رابعا: لم يستطع الأستاذ أن ينقض ما قلت مع سعيه الحثيث إلى ذكر الروايات. وتبين بذلك أن حديث عاصم لم يأت عن أحد من المدنيين، وكذا حديث حنظلة، لم يأت الأستاذ برواية المكيين عنه، فتجلى ما قلت سابقا إن حديث ابن عمر تسلسل بالكوفيين إلى مسلم مع كونهم ثقات وهذا أفضل من كونه مدنيا ثم بصريا، أو من كونه مدنيا ثم مكيا ثم بصريا أو خراسانيا.
ثم إن ما يتميز به الحديث الأول أنه مروي بلفظه، كما حدث به ابن عمر، وهذا من أهم الخصائص المتعلقة بالمتن، بينمأكانت ألفاظ الآخرين مروية بالمعنى كما صرح بذلك الأئمة. والغاية من الضبط والإتقان هو التأكد من أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم قد روي بلفظه كما حدث به، ولو روي بالمعني الصحيح فلا غبار على قبوله، كما أقره العلماء. ومهمأكان الأمر أن الأفضل هو الأول.
خامسا: لم نرفع أبا خالد فوق ما يستحق، وإنما قلنا بحقه الذي أعطاه كل من الإمام مسلم والبخاري وعلي بن المديني، وهو أنه من القسم الأول من الرواة حسب منهج مسلم في التقسيم، مع تفاوت مراتب رجال القسم الأول. ولم يكن أبو خالد من رجال القسم الثاني على رأي مسلم لأن هذا القسم خاص بالضعفاء .
سادسا : كما أوضحت سابقا أنني لم أقل إن بيان العلل في صحيح مسلم بالترتيب، وما زعمه الأستاذ كذب مكشوف لجأ إليه الأستاذ لإيذائي بالسب والشتم كجائزة كبرى على تنبيهي له بأخطائه العلمية الفادحة في كتابه ( بين الإمامين) . والعجيب أنه يصر على ذلك مع وجود كتاب تطبيقي لمنهج الترتيب في صحيح مسلم، بعنوان: ( عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح) وهو برهان ساطع مثل الشمس في وضح النهار يقطع ببطلان جميع مبرراته للكذب علي .(1/484)
سابعا : أن الأستاذ يرتكز على أحوال الرواة في الترجيح، دون اهتمامه بالجوانب الأخرى العلمية التي تكون أكثر ظهورا في منهج النقاد في التصحيح والتعليل والترجيح. وبهذا أصبح الأستاذ في واد بعيد عن الوادي الذي فيه المحدثون النقاد. والله تعالى الموفق.
المثال الثاني، ورد الشبهات حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
من الأحاديث التي اعتمدها الأستاذ في إنكاره عن مسلم عنايته بترتيب الأحاديث في صحيحه، حديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ...) الذي رواه مسلم في كتاب الإيمان 2/18(شرح النووي)، من طرق مختلفة عن أبي هريرة وأبي شريح، مرتبا إياها حسب الأصحية، وقد شرحت في العبقرية وجه أصحية الرواية الأولى .
لكن الأستاذ لم يعجبه ذلك فذكره في كتابه التنكيل ليعلق على دراستي لهذا الحديث، مدعيا بأن الإمام مسلما لم يقدم ما هو أصح على غيره. وننظر ما الذي اكتشفه من جديد ، وما الذي يفيدنا في هذا المجال. لذا نعرض تفاصيل الحوار حول هذا الحديث في الفقرات الآتية:
أولا: نوضح للقارئ الروايات التي ذكرها مسلم في هذا الباب من خلال رسم شجرة الأسانيد:
أسانيد الحديث الأول :
أبو هريرة
أبو سلمة بن عبد الرحمن أبو صالح
الزهري أبو حصين الأعمش
يونس أبو الأحوص عيسى بن يونس
ابن وهب أبو بكر بن أبي شيبة إسحاق بن إبراهيم
حرملة بن يحيى
الإمام مسلم
أسانيد الحديث الثاني :
أبو شريح الخزاعي
نافع بن جبير
عمرو
سفيان
زهير بن حرب ابن نمير
الإمام مسلم
ثانيا: أورد مسلم هنا حديثين: حديث أبي هريرة وحديث أبي شريح. روى حديث أبي هريرة من طريق أبي سلمة وأبي صالح. وحديث أبي شريح رواه مسلم هنا من طريق نافع بن جبير، ومن خلال المقارنة بينهما نجد رواية أبي سلمة وأبي صالح أشهر من رواية نافع بن جبير عن أبي شريح.(1/485)
إن كان حديث أبي شريح قد اشتهر من طريق سعيد المقبري فإنه لم يشتهر من طريق نافع بن جبير الذي رواه هنا مسلم في آخر الباب ، إذ لم يعرف حديث نافع بن جبير إلا برواية عمرو بن دينار عنه(1). وحديث سعيد المقبري عن أبي شريح هو الذي أخرجه البخاري دون حديث نافع بن جبير(2).
هذا الترتيب العلمي بالنسبة إلى حديث أبي هريرة وحديث أبي شريح. أما بالنسبة إلى روايات أبي هريرة فهي أيضا مرتبة حسب الأصحية(3).
علق الأستاذ على هذه الدراسة بما يلي:
’’ أولا : إن محل النزاع بيني وبينك هو المنهج المدمر الذي اخترعته لصحيح مسلم ، وهو: الترتيب المشتمل على بيان العلل ووجوه الاختلاف والاضطراب ، ذلك المنهج الخبيث الذي تكافح وتنافح عنه بالتمويه والمخرقة، ولا تزال‘‘
أقول : هذا كذب مكشوف، كما أوضحت ذلك من قبل. وبه سقط حوار الأستاذ منذ البداية. والأستاذ عند ما يفقد في كلامي ما يساعده على الشغب يلجأ مباشرة إلى قوله : ’’إن محل النزاع هو الترتيب المشتمل على بيان العلل‘‘.
__________
(1) - صحح لي الأستاذ مشكورا قولي في (العبقرية ) ’’لم يعرف حديث نافع عن أبي شريح إلا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن نافع عن أبي شريح‘‘، واستدرك علي قائلا ( ورواه عن نافع عمرو بن دينار ، وعنه سفيان وزكريا بن إسحاق ). جزاه الله خيرا.
ومن الجدير بالذكر أن حديث سفيان أشهر حيث إنه روي في معظم الكتب التي راجعناها عن طريق الحاسب الآلي عن سفيان بن عيينة عن عمرو به .
(2) - قال الشيخ في كتابه الأول هذا الحديث الذي رواه مسلم أخرجه البخاري ، وفي الكتاب الجديد قال بحيث يوهم ذلك؛ فقال – بعد ذكر رواية نافع : (وهو حديث اتفق على إخراجه الشيخان : البخاري ومسلم ). والصواب : أن البخاري لم يخرج حديث نافع عن أبي شريح، وإنما رواه من طريق سعيد المقبري عن أبي شريح.
(3) - راجع كتاب العبقرية ص: 97 - 102(1/486)
والذي بدا لي من خلال الحوار معه أنه لا يهمه أن يكون النقاش علميا وموضوعيا، يرتكز على مناقشة أدلة الخصم، بقدر ما يهمه الشغب والهجوم والتعنيف. فحين أبين وجوه التفاضل بين الأحاديث الصحيحة كان يتهمني بأني أهضم فلانا وفلانا.
والإمام مسلم إذ روى الحديث في صحيحه من طريق نافع بن جبير عن أبي شريح فإنه أعطى لحديث أبي شريح حقه الذي يليق به. وليس في كلامي ما يدل على ضعفه، حتى يتهمني بأنني أنتقص منه.
انظر ماذا يقول الأستاذ بهذا الصدد:
يقول: ’’ لماذا تهضم حديث أبي شريح هذا الهضم، وتشتت شمل طرقه، وتنكر شهرته – تلك الشهرة التي تتلاعب بها - ؟؟! فهو لا يقل شهرة عن حديث أبي هريرة ، فقد رواه اثنان ....‘‘
ذكر الأستاذ روايات عن سعيد المقبري عن أبي شريح ليبرهن على شهرته. هكذا يهتم بأمور لا يقتضيها موضوع الحوار. ثم قال بأسلوبه الساخر:
’’ثم واصل تمويهه بما تمجه الأسماع من هضم لحديث أبي شريح بكتمان رواته الذين اشتهر عنهم الحديث ، حتى يتم له الغلب – مع الأسف - ، فلم يذكر الرواة عن سعيد المقبري ، وزعم أنه لم يروه عن عمرو بن دينار إلا سفيان بن عيينة ؛ وقد علمت أنه قد شاركه في الرواية عن عمرو زكريا بن إسحاق. وهل ينتظر الصدق والإنصاف من المموهين؟! ويكفي العاقل المنصف بعض هذه الدراسة لبيان تلون هذا الرجل ، وتلون مناهجه وبيان تلبيسه وتمويهه....‘‘ اهـ
أقول: يبدو أنه ليس لدى الأستاذ ما يناقشني به في الموضوع، سوى التهويل والمجازفة والمغالطة والتجريج، باستثناء تصحيحه الموفق لما وقع مني من الخطأ كما أشرنا إلى ذلك في الهامش. ولم يقدم لنا شيئا يدل على أن حديث نافع عن أبي شريح أصح من حديث أبي هريرة، سوى قوله بأن حديث أبي شريح رواه اثنان.(1/487)
وقد ذكرناه من قبل أننا بصدد بيان ترتيب حديث أبي هريرة وحديث أبي شريح بالروايات التي أوردها مسلم هنا، فلماذا قدم حديث أبي سلمة وأبي صالح عن أبي هريرة على حديث نافع بن جبير عن أبي شريح. ومع ذلك فقد أبى الأستاذ إلا أن يخلط بين الأمور المتفرقة.
ومن مجازفات الأستاذ تقليله من قدر حرملة الذي أعطاه مسلم والنقاد، لا سيما أنه في حديث ابن وهب يعد من أوثق الناس وأثبتهم، فما أطلقه الأستاذ في حديثه عن ابن وهب بأنه في الطبقة الثانية لم يكن سوى مجازفة وتضليل تمجه فطرة الإنسان المنصف الواعي.(1)
وفي ضوء ما سبق فقول الأستاذ معلقا على رواية حرملة عن ابن وهب: ’’إن حرملة صدوق، وهو من رجال الدرجة الثانية‘‘، غير مقبول، لمعارضته لما قاله الأئمة في حقه، من كونه أثبت الناس في ابن وهب. لا سيما وقد روى مسلم في صحيحه عن حرملة 174 مرة ، كلها عن ابن وهب، وكثير منها صدر بها الأبواب.
أما ما ذكره الأستاذ المدخلي من شهرة حديث أبي شريح من طريق سعيد المقبري للرد على قولي، فقد أوضحته أنا من قبل. لكننا هنا بصدد ما أورده مسلم في آخر الباب من حديث نافع بن جبير عن أبي شريح. وحديثه عن أبي شريح لم يشتهر كما اشتهر حديث سعيد عن أبي شريح وهذا أمر وذاك أمر آخر.
إن كنت قد أوضحت شهرة حديث سعيد عن أبي شريح ، وعدم شهرة رواية نافع عنه إلا عن طريق سفيان عن عمرو عن نافع أي بعد تلميذ تلميذ نافع، فلا أظن أنني قد هضمت حديث شريح هضما تمجه الأسماع إلا سماع الأستاذ .
أود أن أنقل هنا ما ذكرته في العبقرية ليكون القارئ على بصيرة مما أقوله، قلت :
__________
(1) - هذا أسلوب كثير من الباحثين المعاصرين ، حيث يهتمون بترجمة الرواة ويلخصون فيها ما ذكره الحافظ عموما في التقريب، دون اهتمام بربط ما يلخصونه بالإسناد الذي هم بصدد دراسته، أو ربط ترجمته بكيفية الرواية. وبهذا الأسلوب يصبح عملهم في واد والواقع الذي من أجله قاموا بدراسته في واد آخر.(1/488)
’’ أما حديث أبي شريح فلم يشتهر من طريق نافع بن جبير الذي ذكره مسلم في آخر الباب ، وإنما اشتهر من طريق سعيد المقبري ، الذي اتفق البخاري ومسلم على روايته ، ولم يورده مسلم هنا لكن أورده في كتاب اللقطة‘‘.
ثم ذكرت: ’’فبهذا عرفنا أن الشهرة هي التي جعلت حديث أبي هريرة أصح وأقوى من حديث أبي شريح الذي ذكره مسلم من طريق نافع بن جبير، ومن هنا قدم مسلم حديث أبي هريرة ، وصدر به الباب ‘‘اهـ.
وهذه النصوص واضحة جلية لكنهألم تعجب الأستاذ، وهنا أود أن أسأله في ضوء ما سبق آنفا من التهويل:
لماذا يهضم الأستاذ حديث أبي هريرة هذا الهضم وينكر شهرته التي جاءت من طريق أثبت أصحابه؟! ولماذا يقلل من شأن حرملة الذي يفضله مسلم في ابن وهب على غيره ويجعله من أوثق الناس فيه ؟! وهل يجوز له ما يحرمه على الآخرين؟!
وقبل أن أختتم الحوار حول المثال الثاني أحب أن أعلق على فهمه العجيب والغريب، الذي يفتخر به أمام القراء، ويرمي خصمه إلى حضيض المبتدعة.
يقول الأستاذ: إنه لم يقدم حرملة بن يحيى على زهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير لأنه يفوقهما حفظا وإتقانا، كلا، ولا يدعي هذا إلا مجازف لا يعرف أقدار الرجال. فمسلم الذي قال ( فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته ، ولا يرفع متضح القدر في العلم فوق منزلته؛ ويعطى كل ذي حق فيه حقه ، وينزل منزلته) هل يقدم حرملة بن يحيى على هذين الإمامين الحافظين ، وكل منهما عال القدر، رفيع المنزلة عنده وعند العلماء ..‘‘(1)
أقول : كلامي واضح في ذكر الوجوه التي من أجلها قدم حديث أبي هريرة على حديث أبي شريح، ولم أذكر في ضمنها أحوال الرواة أصلا. بل يكفيني أن حرملة ثقة بل من أوثق الناس في حديث ابن وهب. إذن كيف فهم الأستاذ مما شرحنا أن تقديم حرملة بناء على ثقته وإتقانه أكثر من زهير بن حرب وابن نمير؟!
__________
(1) - ص: 185 – 186 من التنكيل(1/489)
لو كانت الموازنة بين هؤلاء الرواة، بغض النظر عن أمور أخرى قد تثقل جانب أحدهم على الآخرين، فإن زهير وابن نمير مقدمان على حرملة. الثقة المتفق على ثقته يكون أفضل ممن اختلف على ثقته. لكن قد يحيط برواية من اختلف فيه ما يرجح كفته من الخصائص فحينئذ يكون هو المقدم على المتفق عليه، وهذا أمر لا يختلف فيه أحد.
كما أن الأوثق يقدم على الثقة، لكن قد يكون مع الثقة ما يرجحه على الأوثق، فحينئذ يقدم الثقة عليه. والحديث المتفق عليه أفضل مما انفرد به أحد الشيخين، لكن قد يكون مع ما انفرد به أحدهما ما يثقل كفته فيقدم على المتفق عليه.
مع كل ذلك فموقف الأستاذ غريب؛ إذ لا ينظر في السند حسب مقتضى الرواية، والقرائن. وأسأل هنا: ماذا يقول الأستاذ عن تقديم مسلم حديث سويد بن سعيد على حديث الثقات؟! فهل يتهمه أيضا بأنه هضم حقوق الثقات؟! وهو الذي قال بتقديم من يستحق أن يقدم.
ثم إن الموازنة التي ذكرها الأستاذ هنا أمر آخر يثير الغرابة. مثلا: إنه لا يوازن ولا يقارن بين حرملة وبين زهير وابن نمير في ضوء روايتهم لهذا الحديث؛ لأن مصدرهم فيه مختلف، فرواه حرملة عن ابن وهب، وهو في حديثه عنه من أثبت الناس. وأما زهير وابن نمير فقد رويا عن ابن عيينة عن عمرو عن نافع عن أبي شريح. وبالتالي تكون المقارنة بين زهير وبين ابن نمير.
نعم تقارن بين الإسنادين: إسناد حرملة وإسناد زهير وابن نمير. وعند المقارنة ينبغي النظر في أيهما أسلم من العيوب، والعيوب كثيرة؛ منها ما هو راجع إلى حال الراوي، ومنها ما يرجع إلى الاتصال ، ومنها ما يرجع إلى خلو الحديث من الشذوذ والعلة. وأما أن يعتبر في ذلك حال الراوي غاض الطرف عن جوانب أخرى فخلل منهجي واضح.
وفي النهاية أتساءل ما النتائج التي وصل إليها الأستاذ ؟!
فهل أثبت بالدليل مأكان يدعيه؟! وهل أتى بأدلة جديدة أو معلومات دقيقة في ذلك؟!(1/490)
لكن الذي رأيناه هو إعادة قوله القديم أن حرملة من الدرجة الثانية، وأن حديث أبي شريح مشهور أيضا. وكلا الأمرين تبين بطلانه في ضوء الأدلة الواضحة. فبقي الترتيب واضحا وجليا.
المثال الثالث، ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
المثال الثالث الذي وجد فيه الأستاذ طلبته هو حديث (نهى أن يبال في الماء الراكد ) رواه مسلم من طرق مختلفة عن جابر وأبي هريرة .
بعد أن أوضحت الصورة الحقيقية لكيفية ترتيب الإمام مسلم لما أورده في صحيحه من طرق هذا الحديث، وبينت كيف أصبح حديث جابر أصح من حديث أبي هريرة، يطرح الأستاذ سؤاله القديم الساقط الذي يلجأ إليه كلما أعوزه أمر الحوار ، وهو:
’’أين الترتيب الدقيق الذي ينطوي على شرح العلل‘‘؟!
ثم ذكر أشياء سبقت أكثر من مرة ، وليس فيها شيء جديد إلا الدعاوى والشتائم التي تتجدد وتتطور !!
لماذا يضلل الأستاذ القارئ، ويموه له الباطل ؟!
ماذا يستفيد من التلبيس والتمويه والتجريج والتشكيك في النيات؟! أليس ذلك في الآخرة خسارة وندامة؟!.
من الذي قال للأستاذ إن بيان العلل في صحيح مسلم بالترتيب ؟!
العجب أن يصر على هذا الكذب الرخيص وأمامه تلك الأمثلة التي قمت بدراستها دراسة تحليلية لبيان أوجه الترتيب وبلورة الخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية التي تشملها قواعد علوم الحديث نظريا في كتب المصطلح وتطبيقيا في كتب المحدثين.
أعد الأستاذ خمس صفحات تقريبا ليتدفق فيها سيل من الشتم والسب والاتهام، مكررألما سبق نقاشه حول حديث ابن عمر، بلا مناسبة تدعوه إلى ذلك. وقد مللت إعادتها وتكرارها. دعني أنظر ماذا عند الأستاذ من جديد. فهل استدرك علي بشيء لم أفهمه أو أخطأت فيه.
يقول الأستاذ :(1/491)
’’ يكفي حديث أبي الزبير أن مسلما رواه، ولكنه ليس بمشهور لا على العرف الذي اخترعته ولا على عرف المحدثين، بل هو حديث عزيز على عرف المحدثين لأنه روي من طريق صحابيين اثنين: جابر وأبي هريرة. أما على اصطلاحك: فحديث أبي هريرة أشهر بكثير وكثير: إذ حديث جابر لم يروه عنه إلا أبو الزبير ، ولم يروه عنه إلا الليث(1).
أما حديث أبي هريرة فقد رواه عنه ثمانية من التابعين، وهم : الإمام محمد بن سيرين ، والإمام همام بن منبه وروايتهما في الصحيحين. ومن طريق الثقة الفقيه الإمام عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، ومن طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري ، وعن خلاس وعن عطاء بن ميناء ومن طريق عجلان والد محمد ، ومن طريق أبي مريم، كلهم عن أبي هريرة.
أ - فرواه عن ابن سيرين : أيوب السختياني(2)، ويحيى بن عتيق(3)
__________
(1) - كلا، لم ينفرد ، بل رواه ابن لهيعة ( أحمد 3/341) وابن أبي ليلى (مصنف ابن أبي شيبة 1/141) كلاهما عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا، وروايتهما صحيحة لموافقتهما لليث بن سعد .
(2) - اختلف أصحابه في الرفع والوقف ، انظر سنن النسائي 1/197 ، والمنتقى 1/25 لابن الجارود، ، ومع ذلك فقد اختلفت ألفاظه ، قال بعضهم عنه ( ثم يغتسل منه) وقال عوف : (ثم يتوضأ منه).
(3) - روى يحيى بن عتيق عنه موقوفا ، ولم يصح رفعه في روايته ، لأنه تفرد به يعقوب الدورقي عن إسماعيل عن يحيى بن عتيق عن ابن سيرين عن أبي هريرة .
انظر تفصيل ذلك في تاريخ بغداد 14/ 278 - 279، وسنن النسائي 1/49، ومصنف ابن أبي شيبة 1/141، والمعجم الأوسط للطبراني 3/254. ولفظهم ( ثم يتوضأ منه).
وفي ضوء ذلك وبعد الترجيح يبقى حديث هشام عن ابن سيرين - كما جاء في الصحيحين - أنظف مما سواه من الروايات عن ابن سيرين عن أبي هريرة.(1/492)
ب - وعن الأعرج : أبو الزناد ، وعنه شعيب(1)وسفيان ومحمد بن عجلان(2).
ج - وعن همام: معمر بن راشد ، وعنه : عبد الرزاق(3)، وعبد الله بن المبارك(4).
د - وعن حميد بن عبد الرحمن الحميري : أبو عوانة وداود الأيدي.(5)
هـ - وعن خلاس : عوف ، وعنه عبد الواحد ، وعيسى بن يونس(6).
و – وعن عطاء بن ميناء : الحارث بن أبي ذباب.
ز – وعن عجلان : ابنه محمد(7)، وعنه يحيى القطان ، وأبو خالد الأحمر(8).
ط – وعن أبي مريم : معاوية بن صالح، وعنه حماد بن خالد(9)، وزيد بن الحباب(10).
فعلى منهج المليباري، هذا تواتر عن أبي هريرة، لا شهرة فحسب. وهل اطلع المليباري المحقق المدقق العميق البعيد عن السطحية على كل طرق هذا الحديث عن أبي هريرة ثم أخفاها؟! أو أنه كان سطحيا في بحثه فلم يطلع عليها.
__________
(1) - لفظه في البخاري ( ثم يغتسل فيه ) 1/94، ولفظ سفيان ( ثم يغتسل منه)، وبين الكلمتين فرق أدى إلى اختلاف المسائل الفقهية، وتفصيلها في كتب التخريج أو كتب أحاديث الأحكام . راجع مثلا كتاب سبل السلام.
(2) - اختلف عليه في لفظ الحديث ؛ قيل: ( ثم يغتسل فيه من الجنابة ) ، وقيل: ( ولا يغتسل فيه جنب )، وقيل: (ولا يغتسل فيه) دون كلمة ( جنب).
(3) - في رواية مسلم ( ثم يغتسل منه) ، وقيل ( ثم يتوضأ منه).
(4) - لفظه: ( ثم يغتسل منه أو يتوضأ ).
(5) - الصواب : أبو عوانة عن داود الأيدي ، ولفظه : ( ثم يغتسل منه).
(6) - لفظه ( ثم يتوضأ منه ) ، سنن النسائي 1/49
(7) - لفظه : ( ولا يغتسل فيه من الجنابة ).
(8) - لم يذكر الغسل فيه.
(9) - لفظه ( ثم يتوضأ منه ).
(10) - اختلف في رواية أبي مريم عن أبي هريرة ، قال : حماد بن خالد بالعنعنة ، وقال زيد بن الحباب : ( يذكر عن أبي هريرة) وعلى هذا تكون رواية أبي مريم عن أبي هريرة منقطعة.(1/493)
فلا يستبعد عن الإمام مسلم وقوفه على هذه الطرق(1)، لأنه اختار أحاديث صحيحة من ثلاثمائة ألف حديث. وعلى هذا: فلماذا أخر حديث أبي هريرة وهذا حاله؟!.
أما على ما نعرفه من منهج مسلم: فالسبب في ذلك أنه لم يلتزم الترتيب ولم يبن كتابه على مراعاة الخصائص الإسنادية التي افتعلها المليباري، ثم يسيء في استخدامها إلى مسلم وإلى كتابه، ويسيء إلى السنة وعلومها، ومنها العلو والشهرة؛ لأنه يتلاعب بها لنصرة وساوسه وتمويهاته.
وإذن فحديث أبي هريرة أصح طرقا وأكثرها(؟!) وأشهرها، وبعض طرقه متفق عليه. وهذه الأمور لها اعتبار لدى أهل العلم بالحديث، فلماذا يهدرها المليباري؟!. أهكذا يكون التعمق والتدقيق والتحرير والتحقيق؟؟!
انتهى كلام الأستاذ الذي يخيل إلى القارئ أنه يريد بهذا الأسلوب نصرة السنة والدفاع عنها، وأن خصمه يسيء إلى السنة وعلومها والعلو والشهرة وأنه يتلاعب بها لنصرة وساوسه وتمويهاته. وكان على الأستاذ المحاور إذا كان يريد النصيحة أن يشرح ما عنده من العلم، ويقدم للقارئ ما اكتشفه من الخصائص، من غير أن يحكم على خصمه مسبقا. وهذا من آداب الحوار.
إذا كان بيان التفاضل بين الأحاديث الصحيحة مما يسيء إلى السنة وعلومها، فإن جميع من قام بالتفاضل في التاريخ مسيء إلى السنة كذلك! فقد اشتهر في الكتب عن الأئمة مثل الإمام أحمد والبخاري وعلي بن المديني والدارقطني وغيرهم ترجيحهم للأحاديث. انظر إلى الإمام الترمذي في سننه كان يقول بصراحة: أصح شيء في الباب وأحسن كذا.
كيف يكون ذلك التفاضل إساءة؟! هل فيه تضعيف للحديث المرجوح ؟! كلا، فإن معنى هذا الترجيح بيان مدى استيفاء الحديث الصحيح من الخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية.
__________
(1) - هكذا يقول الأستاذ هنا ، لكن قال في موضع آخر : البخاري لا يعرف إلا ما ذكره في التاريخ لأنه لم يذكر فيه إلا رواية واحدة(1/494)
دقة مسلم في تقديم حديث جابر على حديث أبي هريرة إنما تظهر جلية من خلال المقارنة بين الروايات التي أوردها في الصحيح، فكان مسلم يرى حديث جابر أصح، وأعلى من حديث أبي هريرة الذي رواه من طريق ابن سيرين.
نعم اشتهر حديث أبي هريرة من خلال رواية أصحابه الكثيرين، لكن إذا تتبعت ألفاظ أحاديثهم وجدت دقة النظر في صنيع مسلم في تقديم حديث جابر على حديث أبي هريرة. إذ كانت ألفاظه مختلفة، ولم يتفقوا على لفظ واحد. وكان اختلافهم يتراوح بين لفظ: (ثم يغتسل منه)(1)، ولفظ : (ثم يتوضأ منه) ، ولفظ: (ثم يغتسل فيه)(2)، ولفظ : (ولا يغتسل فيه) ، ولفظ: (ولا يغتسل منه ) كما فصلنا ذلك في الهامش عند كل رواية، وقمنا بعزو كل لفظ منها إلى صاحبه.
إن الفرق بين هذه الألفاظ، وما له من أثر واضح في الاستنباطات الفقهية يعرفه أهل العلم. فمثلا لفظ ( ثم يغتسل منه) لا يقتضي النهي إلا عن الغسل منه، وهو غير الغمس.
فهل ينجس الماء باغتسال الجنب باغترافه منه الماء؟!
وعلى لفظ ( ثم تتوضأ منه) هل يفيد أن الماء ينجس بمجرد الوضوء منه ؟!
أما لفظ ( ثم يغتسل فيه ) فيقتضي الغمس. وبالتالي هل يجوز الغسل منه وأنه لا شيء فيه؟!.
وأما لفظ ( ولا يغتسل فيه) فيقتضي النهي عن البول والغسل على الانفراد، بينما الألفاظ السابقة يحتمل أن يكون المنهي عنه فيها الجمع بينهما، ويحتمل النهي فيهما بالانفراد. ولفظ ( ولا يغتسل منه) يلزم منه عدم الغسل مغترفا منه الماء.
ولهذا التفاوت بين ألفاظ حديث أبي هريرة اختلف الفقهاء في مسألة اغتسال الجنب في الماء الراكد.
__________
(1) - كمأروى سفيان عن أبي الزناد
(2) - كمأروى البخاري (1/94) من طريق شعيب عن أبي الزناد .(1/495)
ثم رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة بعضها موقوفة(1)، والأخرى مرفوعة، و يحيى بن عتيق روايته موقوفة على أبي هريرة، ولم يرو عن إسماعيل بن علية مرفوعا إلا يعقوب الدورقي انظر تفاصيله في تاريخ بغداد، ترجمة يعقوب الدورقي، 14/271 ، وسنن النسائي 1/49.
والشهرة بأي طريقة كانت لا تكفي لتفضيل الحديث وتقديمه على حديث يتميز بعلوه وسنده النظيف وشهرته بعيدا عن الاختلافات وجودة متنه. إذا كان حديث جابر استوفى هذه الخصائص فإن حديث أبي هريرة كما رأيت لم يستوفها، ومهمأكان الأمر فالحديثان صحيحان.
هذا إلى جانب ما يتميز به لفظ حديث جابر: ’’نهى أن يبال في الماء الراكد‘‘، من حيث كونه أكثر صراحة في إفادة التحريم، من حديث أبي هريرة الذي يحتمل لفظه ’’لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم تغتسل منه‘‘ التحريم، ويحتمل الكراهة .
هنا يتجلى استعجال الأستاذ الذي يقوم على النظر السطحي في الحكم على الأحاديث من غير مراعاة ملابسات رواياتها وتدقيق ألفاظها واختلافات الرواة فيها، فطار بالشهرة فرحا ثم استغل هذه الفرحة في السب والشتم.
وماذا يقول الأستاذ في تقديم مسلم رواية سويد بن سعيد عن حفص بن ميسرة على رواية الثقات لعلوها حسب ما صرح به مسلم؟!
هل ذلك عند الأستاذ مما يسيء إلى السنة ؟!
وماذا يقول في حق العلماء الذين قالوا متفقين بترتيب مسلم حسب الأصحية ؟!
ومن الذي ينكر من العلماء منهج مسلم في الترتيب؟!
وماذا يقول في الشيخ عبد الرحمن المعلمي الذي قال:’’من عادة مسلم في صحيحه أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة, يقدم الأصح فالأصح, فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمال أو خطأ فتبينه الرواية المقدمة‘‘(2)؟!
__________
(1) - انظر سنن النسائي 1/197 ، والمنتقى لابن الجارود 1/25 .
(2) - الأنوار الكاشفة ص 230(1/496)
وفي ضوء ذلك فما يقوله الأستاذ مرفوض لشذوذه ومخالفته ما صرح به الإمام مسلم بأنه يقدم العلو على النزول في الحديث الصحيح، حتى وإن كان راويه ضعيفا.
هكذا تتجلى دقة مسلم، بل عبقريته في ترتيب أحاديثه في الصحيح.
وفي النهاية فإن الأستاذ في دراساته التى أعادها مرة أخرى لا يزال سطحيا، وأكثر بعدا عن الواقع، ولم يستطع أن يثبت للقارئ المنصف صحة ما يدعيه، بل راح كلامه كله أدراج الرياح. وكيف لا ! لقد قال مسلم في المقدمة : ’’.. نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى‘‘
المثال الرابع(1)ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
هذا المثال عبارة عن مجموعة من الأحاديث، وإن كانت تتفق كلها في موضوعها العام ، وهو الاستطابة، لكنها تتفاوت بعضها عن بعض في جزئياتها، بحيث تشكل ثلاث مجموعات مستقلة. وهذا هو الذي نقتنع به عند إمعان النظر فيها.
__________
(1) - من الصعوبة بمكان أن نرى الأستاذ في هذا الحوار يتحكم في نفسه، ويثري الحوار بعلمه. ومن ذلك أن الأستاذ كتب في الهامش ما يلي: ’’إنه قد خذلك الله لسوء قصدك ، فيجب أن تتوب إلى الله ، ولا تظن أن الذي أنت فيه من فضل الله عليك، بل هو من إهانته لك؛ فهل هذا التلاعب والتمويهات من فضل الله عليك‘‘؟! !
أقول: هذه ثقافة الأستاذ !
كأن الأستاذ يريد أن يري أصحابه أنه قد رد على المليباري ردا قويا. ولسان حاله يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بسوء فما أدري لمن أنا قائله.
نترك الأستاذ يتحدث بما يشاء ، ويدون ما يريد. لكن ننظر ماذا يقول عن النتائج التي ذكرتها في العبقرية فيما يخص الروايات التي استدل بها الأستاذ على عدم عناية مسلم بترتيب أحاديثه في الصحيح؟! وهل استدرك علي بمالم أفهمه أو أخطأت فيه؟!(1/497)
وبذلك يظهر منهج الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث، ويطابق ذلك صنيع معاصريه من الأئمة في كتبهم من التبويب الفقهي. غير أن الأستاذ نظر إلى تلك المجموعات نظرة سريعة فوجدها في بعض النسخ المطبوعة من صحيح مسلم مجموعة واحدة تندرج تحت عنوان (الاستطابة)، ولم ينتبه إلى ما بينها من تفاوت وزيادات فقهية .
قلت في العبقرية(1)حول هذا المثال:
’’هذه مجموعة من الأحاديث تضمنت موضوعات مختلفة، جمعها مسلم حسب الموضوعات، دون أن يبوب لها كعادته في صحيحه ، أما ما نراه من تراجم الأبواب فصنع الشراح تسهيلا لهم وللقارئ على الفهم ، ولهذا اختلفت عباراتهم من شارح لآخر.
وعليه فليس من المنطق أن يعتمد في معرفة وضع الأحاديث وتنسيقها وترتيبها في صحيح مسلم على الأبواب والعناوين التي وضعها الشراح في شروحهم له، والذي يتعين في ذلك هو النظر في موضوع الحديث.
’’وإذا نظرنا إلى مفردات هذه المجموعة تبين لنا أن الصواب تفريقها بالعناوين حسب الموضوعات التي تحتويها، كما فعل ذلك الأئمة المعاصرون لمسلم ؛ كالبخاري والنسائي والترمذي وأبي داود وابن ماجه، وكما يقتضي ذلك الترتيب الخاص للإمام مسلم في صحيحه بحسب الخصائص الإسنادية. هذا وقد وضع الإمام النووي لهذه المجموعة من الأحاديث ثلاثة عناوين : الاستطابة ، وآداب قضاء الحاجة ، وآداب الاستنجاء وكراهة استقبال القبلة وقت قضاء الحاجة ، كما في شرح النووي بطبعته القديمة .
إلا أن الطبعة الجديدة المرقمة - ناشرها دار القلم ، بيروت - خلت عن تلك العناوين المفصلة، إلا عنوان الاستطابة ، فاعتمد عليها الأستاذ ، وخلط بين هذه الأحاديث وجعلها تحت باب واحد ، أي الاستطابة‘‘.اهـ
لما اطلع الأستاذ على هذه الحقيقة صعق فقال :
__________
(1) ص:114(1/498)
’’ أولا : لما عجز منهج المليباري أن يسعفه بشيء مما يلهج به لجأ إلى هذه الحيل الباطلة ليصرف القارئ عن إدراك فشله الذريع(1).
فنقول له: أين منهجك وترتيبه الدقيق الذي لا بد لنا بسببه أن نرجع إلى كتب العلل لنعرف دقة مسلم في ترتيبه الذي يدس فيه العلل(2)؟! وأين التقديم والتأخير الذي لا يؤخر مسلم إسنادا كان يقدمه إلا لأنه أدرك فيه شيئا؟!. إلى آخر تلك الترهات والتمويهات(3). لقد تبخرت أمام عرض منهج مسلم عرضا صحيحا, فها أنت تسلم في كل باب بصحة ما فيه من أحاديث. وموضوع النزاع هو المعلل في الأحاديث التي يؤخرها مسلم(4).
ثانيا: لعل عملك هذا يتضمن دعوة إلى تخريب كتب السنة والتلاعب بها؛ فنأتي إلى صحيح مسلم ونعترض على تبويبه – وإن كان واضع العناوين هو النووي – بتبويب أبي داود والبخاري والترمذي.
وهكذا نفتح الباب على مصراعيه إلى التلاعب بالكتب وعناوينها لأنها لا توافق أمثال المليباري.
__________
(1) - كم كان رجاءنا في الأستاذ أن يبين لنا وجه الفشل، إما في جو هادئ ، أو جو مشحون بالغضب والانفعال ، المهم أن يبين لنا ذلك.
(2) - ليس بالضرورة أن يكون كذلك ، بل ليعرف أيضا مدى دقة مسلم في اختيار الأحاديث الصحيحة ، إذ يشرح في كتب العلل، علل الحديث والراجح منه.
(3) - مراعاة المحدثين خصائص الإسناد وحبهم لعلو الإسناد وشهرة الحديث وتفضيله على النازل، وتطبيق مسلم لذلك في ترتيب الأحاديث ليس من الترهات ولا من التمويهات ، وكيف إذا وجدنا ذلك بجلاء .
(4) - هذا كذب. لأني لم أخاطبك به، بل النزاع بيننا هو ترتيب مسلم لأحاديثه حسب الأصحية، وبيان العلل بذكر وجوه الاختلاف ، وهذا ما كنت أقوله لك منذ بداية الحوار إلى هذا اليوم.(1/499)
ثالثا: تختلف طريق مسلم عن طريق البخاري والنسائي ؛ مثلا: ......(1)
رابعا: مع تلاعبك ودعوتك إلى هذا التلاعب لم تخرج بالأحاديث عن باب الاستطابة؛ فسقط اعتراضك الداعي إلى التلاعب بالكتب .
خامسا: كأنك لم تسمع بطبعة محمد فؤاد عبد الباقي الممتازة التي امتازت بجودة الطباعة وترقيم كتب (صحيح مسلم) وأبوابه وأحاديثه التي اعتمدتها في بحثي ....(2)
ثم يسأل:
أيحترم المؤلفات ويحافظ على نصوصها وأبوابها المسلمون وغيرهم ، ويأتي هذا الجاهل بأقدار الرجال والكتب وقدر السنة فيدعونا إلى التلاعب والتغيير لمالم يوافق هواه ومنهجه الفاسد. كفى بك وبمنهجك شرا أن يصل بك وتصل به إلى هذه الهاوية المردية..... إلى آخر كلامه اهـ.(3)
أقول: مهمأكان الأمر فإن الإمام مسلما لم يضع عناوين محددة لكل مجموعة من الأحاديث، لكنه جمع الأحاديث بأسانيدها وطرقها حسب موضوعها دون أن يضع لها عناوين خاصة.
__________
(1) - سرد فيه الأستاذ ما يخص ميزة البخاري في الجانب الفقهي ، وتقطيع الحديث لكثرة اهتمامه بذلك ، وكذا ما يدل على اهتمام مسلم بالجانب الإسنادي وجمع روايات الحديث في موضع واحد وعدم تكرار الحديث ، هذا كله ليس مما نختلف فيه ، ولا صلة له بالموضوع الذي نحن بصدده، وكذا ما يتصل بتكرار النسائي بخلاف مسلم ، ومنهج الترمذي في ذكر الأحاديث ، وليس في ذلك ما يمنع تطابق العناوين الفقهية ، ووضع عنوان مناسب لموضوع الحديث مستفيدا من صنيع البخاري أو غيره من الأئمة.
(2) - ثم مدح هذه النسخة وهو ليس مما تقتضيه المناسبة فإن تحقيق النسخة ليس له صلة بدقة التبويب ، وقد يبوب شارح بما يراه مناسبا ، وإذا نقلناه عن ذلك الشارح فليس لنا تغييره .
(3) - ص: 199 - 203(1/500)
لذا فإن العنوان الذي يكون أقرب إلى موضوع الحديث يكون أحق بالاختيار، وكلما كان أدق وأكثر انسجاما بصنيع مسلم في الترتيب كان أولى من غيره من العناوين. فما وضعه الشراح إنما هو لشروحهم وليس لصحيح مسلم، فقد تختلف العناوين حسب اختلاف نظرهم، ولذا لا يكون بعض العناوين أولى من بعض إلا بقدر تطابق عنوانه بموضوع الحديث.
وفي ضوء ذلك فما اعتمده الشيخ من العناوين التي اختارها الإمام النووي لشرحه لا يكون دليلا يحل به النزاع بيننا، فكيف إذا وقع في ثبوت العنوان عنه إشكال باختلاف النسخ فيه. وبالتالي لا يكون ما ذكره الأستاذ دليلا على أن مسلما لم يرتب الأحاديث، لا سيما إنه عنوان عام – كما ترى - يندرج تحته أكثر من موضوع.
وهذا لا يمنع أحدا أن يضع عنوانا أكثر تطابقألمحتوى الحديث، مع مراعاة صناعة الإسناد التي يتميز بها الإمام مسلم، ولا مانع في ذلك من أن نستفيد من عناوين معاصريه من المحدثين.
وأما قول الأستاذ :
’’ وأسأل المليباري عن كتاب عظيم لقي هذه العناية بما في ذلك فهرسة الكتب والأبواب ، إذا استجاب أحد لرأيك فوضع مثل هذه العناوين التي اقترحتها ؛ أيلزمه تخريب هذه الجهود العظيمة التي بذلت لخدمة صحيح مسلم وغيره ، خاصة ما يتعلق بصحيح مسلم ... إلى آخر ما قاله.
أقول: من الذي يفهم أن عمل باحث يخرب عمل غيره، إلا إذا كان باطلا؛ فإن الباطل كان زهوقا. واختيار شرح من شروح مسلم أو عنوان من العناوين التي وضعها الشراح لشروحهم لا يعني تخريبا أو تدميرا لجهود الآخرين.
في ضوء ما ذكره الأستاذ من الإشكال يمكن أن أسأله عن تحقيق المعاصرين لكتب المتقدمين أو المتأخرين التي خدمها بعض علمائنا بوضع فهارس لها، أيلزم منه تخريب جهودهم ، إذ يؤدي التحقيق إلى تغير فهرستها تقديما وتأخيرا ؟!
كيف ينصرف ذهن الأستاذ إلى أشياء لا يفهمها أحد؟!(2/1)
فترتيب مسلم هنا في تلك المجموعات - التي جعلها الأستاذ تحت باب واحد مع تفاوت موضوعاتها الجزئية – وتنسيقها حسب الأصحية واضح مما شرحنا في العبقرية. ولم نجد في تعقيب الأستاذ شيئا جديدا ينقض ذلك.
كما أننألم نر في تعقيبه ما يدل على أن تلك الأحاديث كلها لا تنسجم إلا مع العنوان العام الذي اعتمده الشيخ، مع أنهألم تكن متفقة في موضوعها الجزئي؛ إذ بعضها في النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار، وبعضها في النهي عن الاستنجاء بعظم وروث، وبعضها في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وبعضها - وهي الأخيرة من هذه المجموعة - في الرخصة في الاستقبال.
بعد تعقيبات الأستاذ واعتراضاته على ما شرحنا في العبقرية فإن موضوع الترتيب في تلك المجموعات من الأحاديث بقي أكثر وضوحا.
المثال الخامس، ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في الصحيح
هذا المثال من الأمثلة التي توسع فيها الأستاذ بأسلوبه الساخر، ونشط فيه هواه في تلبيس الحقائق وتمويه الأباطيل، لكن للأسف انتهت معركته الكلامية بلا نتيجة ترضي المنصفين من القراء، فبقي منهج الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث كما وعد به في المقدمة، وكما فهمه العلماء.
مما يستدعي الغرابة أمور، منها :
1 - أن الأستاذ خلط بين حديثين مختلفين في الموضوع؛ أحدهما ناسخ، والثاني منسوخ، فجعلهما حديثا واحدا عن الزهري، دون أن يفقه ذلك، فضم المشهور إلى غير المشهور، ثم أخذ يصرخ بأن حديث الزهري أكثر شهرة، ومع ذلك أخره مسلم في آخر الباب .
2 – يقدم حديثا انفرد به مسلم على الحديث المتفق عليه. وكان سابقا يعمل بالعكس.
3 – يقدم حديثا مختلفا في صحته على حديث لم يختلف النقاد في صحته.
4 – يرفض ما قاله النقاد.
إلى جانب انحرافه عن آداب الإسلام في الحوار .(2/2)
لذا أستسمح من القارئ أن أتوسع قليلا في هذا الحوار من أجل ملاحقة الأستاذ في جميع نقاطه التي أثارها، حتى تكون الصورة واضحة وجلية، وينكشف عوار الشيخ أكثر مما سبق.
أولا : أسرد الروايات التي أوردها مسلم في الصحيح.
قال الإمام مسلم :(1)
’’وحدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر- قال يحيى بن يحيى: ’’أخبرنا‘‘ وقال الآخرون: ’’حدثنا‘‘ إسماعيل ( وهو ابن جعفر) عن شريك ( يعني ابن أبي نمر) عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال:
خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عِتبانَ، فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل. فقال عتبانُ: يا رسول الله! أرأيت الرجلَ يُعجَل عن امرأته ولم يُمْن، ماذا عليه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الماء من الماء .
حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا المعتمر حدثنا أبي حدثنا أبو العلاء بن الشِّخِّير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينسخ حديثُه بعضُه بعضا، كما ينسخ القرآنُ بعضُه بعضا.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة ح وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن ذكوان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار، فأرسل إليه، فخرج ورأسُه يقطُرُ فقال: لعلنا أعجلناك. قال: نعم، يا رسول الله! قال: إذا أُعْجلتَ أو أَقْحطتَ فلا غُسْلَ عليك وعليك الوضوء. وقال ابن بشار: إذا أُعجلتَ، أو أُقحِطتَ
__________
(1) - في كتاب الطهارة ، باب بيان أن الجماع كان في أول الإسلام لا يوجب الغسل .. 4/36 – 39 (شرح النووي)(2/3)
حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد حدثنا هشام بن عروة ح وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء واللفظ له حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام عن أبيه عن أبي أيوب عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكْسلُ، فقال: يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ، ويصلي.
وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن هشام بن عروة حدثني أبي عن المَلِيِّ عن المَلِيِّ يعني بقوله: (الملي عن الملي) أبو أيوب عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال في الرجل يأتي أهلَه ثم لا يُنْزِل، قال: يغسل ذكره ويتوضأ.
حدثنا هارون بن سعيد الأَيْلِيُّ حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب حدثه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الماء من الماء.
وحدثني زهير بن حرب وعبد بن حميد قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ح وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد - واللفظ له - حدثني أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان عن يحيى بن أبي كثير أخبرني أبو سلمة أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال قلت: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يُمْنِ. قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثني أبي عن جدي عن الحسين قال يحيى وأخبرني أبو سلمة أن عروة بن الزبير أخبره أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانيا أرسم شجرة الأسانيد:
ثالثا: أنقل هنا بعض الفقرات من كتاب (العبقرية)، وهي:(2/4)
’’أن الإمام مسلما رتب هذه المجموعة من الأحاديث التي تتفق في المعنى الفقهي – وهو عدم وجوب الغسل بالجماع على من لم ينزل – فذكر حديث أبي سعيد أولا ثم حديث أبي بن كعب، وأورد بعدهما الأحاديث الباقية لبيان الخلاف على أبي سلمة، فإن حديث أبي سعيد أصح وأسلم من حديث أبي بن كعب ، ذلك أنه معروف من طريقين – طريق ابنه عبد الرحمن وطريق ذكوان - .
أما حديث أبي بن كعب فلم يعرف إلا عن طريق هشام بن عروة، فالحديث الذي روي من طريقين في أول الإسناد(1)، وعرف بهما، ثم اشتهر في آخره أولى من الحديث الذي له طريق واحد ، ثم اشتهر في آخره ، من هنأكان تقديم مسلم لحديث أبي سعيد وتأخيره لحديث أبي بن كعب‘‘.اهـ
وعلق عليه الأستاذ في كتابه التنكيل، وخلط بين حديثين مختلفين أحدهما في النسخ وهو حديث مشهور عن الزهري ، والثاني منسوخ لم يشتهر عن الزهري، وقال :
’’هذا تقول على مسلم؛ فليس حديث أبي سعيد بأصح من حديث أبي بن كعب ولا أشهر، وليس مداره على عروة فحسب – كما ادعى - .
فقد رواه الإمام أحمد (رحمه الله) : حدثنا عثمان بن عمر ، أنا يونس ، عن الزهري قال سهل الأنصاري – وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم – وهو ابن خمس عشرة سنة في زمانه -: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء رخصة، كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها.
حدثنا علي بن إسحاق أنا عبد الله – يعني : ابن المبارك – أخبرني يونس عن الزهري عن سهل بن سعد الأنصاري حدثني أبي بن كعب‘‘ .
وأورد المدخلي رواية يونس ومعمر وابن جريج وشعيب مع اختلافهم في صيغ الأداء للزهري عن سهل.
أقول: هذه الروايات عن الزهري كلها حول موضوع النسخ، لكن الأستاذ لم ينتبه إلى ذلك، فأخذ يستهزئ بقوله:
’’فهذه شهرة على اصطلاح المليباري‘‘.
__________
(1) - أعني بذلك أنه روى عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أبي سعيد وذكوان، وثبت عنهما الحديث .(2/5)
’’ والزهري أجل من عبد الرحمن بن أبي سعيد ومن ذكوان بن أبي صالح‘‘.
ثم أورد المدخلي حديث الزهري من طريق عمرو بن الحارث ويونس ومعمر عنه، ومن طريق أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب.
وواصل الأستاذ سرد الروايات، وقال :
’’وأخرجه ابن خزيمة من عدة طرق عن الزهري، وفي إحدى طرقه عن معمر عن الزهري قال أخبرني سهل .
قال ابن حبان بعد أن رواه من طريق يونس عن الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب : قال أبو حاتم – رضي الله عنه –(1)روى هذا الخبر معمر عن الزهري من حديث غندر فقال: أخبرني سهل بن سعد. ورواه عمرو بن الحارث عن الزهري قال : حدثني من أرضى عن سهل بن سعد ....‘‘
وقال الشيخ المدخلي بعد سرد هذه الروايات:
’’وعلى كل فحديث أبي بن كعب قد اشتهر عنه على منهج المليباري، ولا سيما من طريق الزهري فقد رواه عنه جماعة من الأئمة، وليس كما يزعم المليباري أن حديث أبي بن كعب لم يعرف إلا من طريق هشام بن عروة... إلخ فإن هذا القول من المجازفات الباطلة‘‘ .
أقول: أتعب الشيخ نفسه بدون فائدة؛ لأن الحديث الذي أورده الأستاذ غير الحديث الذي نحن بصدده كما أشرنا إليه آنفا.
الحديث الذي أخرجه مسلم في آخر الباب: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلى قباء حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عِتْبانَ فصرخ به فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل. فقال عِتْبان: يا رسول الله! أرأيت الرجل يُعجَل عن امرأته ولم يمن، ماذا عليه؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الماء من الماء ).
__________
(1) - هل يظن الأستاذ أن ابن حبان ينقل عن أبي حاتم؟! هكذا يفهم من السياق . لكن الصواب: أن أبا حاتم هو نفسه ابن حبان. وليس شخصا آخر يحكي عنه ابن حبان.(2/6)
أما الحديث الذي أتى به الأستاذ من طرق مختلفة، هو : (حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون : الماء من الماء رخصة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها).
بينهما فرق كبير يفهمه كل طالب علم، لأن الحديث الثاني إنما هو في النسخ، ومع ذلك فإنه موقوف، إذ يجعل جملة (الماء من الماء) من فتيا هؤلاء الصحابة. والحديث الأول المرفوع الذي رواه الزهري عن أبي سلمة، هو الذي نحن بصدده.
لكن الأستاذ جعل الحديثين حديثا واحدا، ثم جعل الحديث الثاني الذي لم يخرجه الشيخان أصح من حديث أبي سعيد المتفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر(1):
’’والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد. صححه ابن خزيمة وابن حبان.
وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري. كذا قال. وكأنه لم يطلع على علته، فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل. نعم أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق أبي حازم عن سهل. ولهذا الإسناد أيضا علة أخرى ذكرها ابن أبي حاتم. وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يحتج به وهو صريح في النسخ‘‘اهـ.
هذا رأي الحافظ ابن حجر في حديث الزهري عن سهل، فالحديث المختلف في صحته لا يقدم على الحديث الذي لم يختلف في صحته.
انظر إلى الحوار الآتي.
قلت في العبقرية ما نصه:
’’ثم رتب بين رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد ورواية ذكوان اعتبارا منه لمرجحات التقديم وهي كثيرة ؛
منها : أن رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد عالية والأخرى نازلة، لأن الرواة في الأولى خمسة ، وفي الثانية ستة.
__________
(1) - فتح الباري 1/397(2/7)
ومنها: أن الأولى رواتها مدنيون إلى شيوخ مسلم دون الثانية؛ فإن الذي سمعه من ذكوان أبي صالح المدني هو الحكم بن عتيبة الكوفي ، ثم تسلسل بالكوفيين .
ومنها: أن رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد الأولى اشتهرت في بلاد مختلفة: فقد سمعها مسلم في بلده وخارجه، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري وقتيبة بن سعيد البغدادي وعلي بن حجر البصري‘‘.اهـ
أجاب عليه الأستاذ قائلا:
أولا: إن هذه تهاويل لم تخطر ببال مسلم؛ لأنه ألف كتابه جوابا لمن سأله من طلاب العلم ، وألفه – كما ذكر – ليستفيد منه عوام المسلمين، ولم يؤلفه للفلاسفة(1).
ثانيا: أن من أهم المميزات إنما هي الإتقان والحفظ والعدالة، وعليها مدار الصحة، ومنها ما اتفق عليه الشيخان؛ وقد أهدرهما المليباري ففي الإسناد الذي صدر به مسلم هذا الباب شريك بن أبي نمر تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ووثقه آخرون؛ وفرق بين من تكلم فيه ومن لم يتكلم فيه من الثقات الحفاظ.
فلو أراد مسلم الالتزام بالترتيب لما قدم على الحفظ والإتقان شيئا؛ فإن الشهرة والعلو لا يلزم منهما الصحة، فقد يكون الحديث مشهورا، وهو ضعيف أو موضوع، وقد يكون عاليا وهو كذلك؛ فإذا كانت الشهرة والعلو في إسناد يوجد فيه من تكلم في رجاله فلا يرجح بهما عالم على إسناد توفرت فيه شروط الصحة مثل محمد بن شهاب الزهري جبل العلم وإمام الدنيا.
ثم من سبقك إلى القول بأن قتيبة بغدادي؟!‘‘(2).اهـ.
__________
(1) - سبق الرد على هذا الاكتشاف الجديد. لا ينبغي قياس ما عند الإمام مسلم من العلم على ما عندنا، وبيننا وبينه بعد المشرق والمغرب. ومالم يخطر ببالنا لا يعني أنه لم يخطر أيضا ببال الإمام مسلم. ووصف الأستاذ ذلك بأنه تهاويل إن دل على شيء فإنما يدل على مدى علم الأستاذ بمنهج مسلم وبعده عن دقته. يكفينا قول الإمام النووي الذي نقلناه أكثر من مرة في الرد على الأستاذ.
وهل يكون كل من قال بخصائص الإسناد من الفلاسفة ؟!
(2) - هذا خطأ وسبق قلم .(2/8)
أقول: نحن لسنا بصدد الموازنة بين الرواة، وإنما بصدد الموازنة بين الروايات لحديث (الماء من الماء). فإذا نظرنا إلى التفاضل بين الرواة، فإننا نقدم الثقة على الصدوق وعلى الضعيف والمتروك، فإذا تعارض حديثهم فإن حديث الثقة هو المقدم، ولا يشك فيه أحد. وكذا يقدم الأوثق على الثقة.
لكن المسألة هنا في التفاضل بين الروايات الصحيحة، و كان الإمام مسلم يفضل ما هو أجمع للخصائص وأسلم من العيوب وأنقاها. لذا قدم مسلم رواية سويد بن سعيد على رواية الثقات بعد أن صح الحديث عنهم، مع كون سويد ضعيفا متفقا على ضعفه.
كأن الأستاذ لا يعرف في مجال التصحيح والترجيح سوى شيء واحد، ألا وهو كون الراوي ثقة من أهل الدرجة الأولى وفلان في الدرجة الثانية، معتمدا فيها على كتاب التقريب. وعليه يقيس الأمور العلمية الدقيقة، وبه يجري الموازنة والمحاكمة بين النقاد، وعليه يبني كل شيء يتصل بالتصحيح والتعليل والتحسين والترجيح.
من الذي قال: إن مدار الصحة هو الحفظ والإتقان والعدالة فقط؟! ومعنى ذلك أن جميع ما رواه الثقة صحيح، وما رواه الضعيف ضعيف كله!! هذا الأسلوب السطحي هو الذي نحاربه.
أما النقاد فمدار الصحة عندهم خلو الحديث من شذوذ وعلة مع عدالة الراوي والاتصال.
يقول الحافظ ابن حجر:
’’مدار الصحيح الإتقان والاتصال والخلو من العلة‘‘.
وكلما يكون الحديث أسلم من العيوب وأنقى يكون في القمة من الصحة.
من قال إن الشهرة وحدها تكفي في الصحة حتى تقول: إن الشهرة والعلو لا يلزم منهما الصحة؟! ونحن هنا في التفاضل بين الأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم فقط. والحديث الصحيح المشهور العالي أولى من الحديث الصحيح النازل غير المشهور.
وأما قول الشيخ :
’’لو أراد مسلم الالتزام بالترتيب لما قدم على الحفظ والإتقان شيئا‘‘(2/9)
فأقول: إن الإمام مسلما يرد عليه قولا وعملا. بل النقاد كلهم يردون عليه. ولسنا بعيدا عن تقديم مسلم رواية سويد بن سعيد على رواية الثقات، لا لشيء، وإنما لنزول روايتهم(1).
ولا تنس أن هذا التفاضل الذي نحن بصدده هو التفاضل بين الروايات الصحيحة، وليس بين الرواية الضعيفة والرواية الصحيحة. وليس من الإنصاف الخلط بين الحقائق، والمزج بين محل الاتفاق ومحل النزاع.
قلت له :
’’فما سمعه مسلم متسلسلا بالمدنيين أحق بالتقديم، وهذه الدقائق العلمية التي أودعها مسلم في ترتيب أحاديثه في صحيحه ، ولله الحمد‘‘
قال الدكتور المدخلي معلقا عليه:
’’سبحان الله ! من من أئمة الإسلام قدم إسنادا فيه شريك بن أبي نمر على إسناد في قمة الصحة، فيه محمد بن شهاب الزهري ؟! إن في هذا لإهدارا لأمور تدور عليها الصحة، وركضا وراء التهاويل . فالعلو والشهرة إذا خلتا من الصحة فلا قيمة لها عند علماء الحديث وعند من يعقل ما يقول ، وإن سماها المثرثرون دقائق علمية ؛ فلا يقدمها على الصحة إلا الثرثارون الذين لا يقيمون للصحة وما اتفق عليه الشيخان وزنا‘‘
أقول: للأسف الشديد، كيف أصبح الالدكتور المتخصص في الحديث سطحيا بهذه الدرجة!
لماذا يستعجل في الحكم؟!
هل يعني أن ما رواه الثقة صحيح دائما، وما رواه الضعيف أو الرواي الذي قال فيه الحافظ (صدوق يخطئ) ضعيف دائما؟!
وما الأمور التي تدور عليها الصحة؟!
إن خلو الحديث من العلة والشذوذ من أهم عناصر الصحيح(2).
__________
(1) - كان النقاد يرجحون حديث الثقة على الأوثق ، وحديث الصدوق على الثقة ، وحديث الذي قال فيه الحافظ صدوق يخطئ على حديث الذي قال فيه ثقة . كل ذلك سبق في المقدمة مع الأمثلة.
(2) - يقول الخليلي: ’’وإذا أسند لك الحديث عن الزهري او عن غيره من الائمة فلا تحكم بصحته بمجرد الاسناد فقد يخطى الثقة ‘‘. (الإرشاد 1/202)(2/10)
لذا فإن الصحيح في لغة المحدثين النقاد هو ما تبين لهم أنه تم نقله من غير خطأ ولا وهم، سواء رواه ثقة أو إمام أو ضعيف. هذا لا يعني التسوية فيما بينهم؛ فإن مراتبهم مختلفة، ويظهر تفاوت المراتب جليا في حال تفردهم، بعيدا عن القرائن التي تدل على خلاف ما تقتضي أحوالهم العامة.
وإذا سمع المحدث ذلك الحديث الصحيح بإسناد عال من رواية الثقات واشتهر بينهم فذلك يعتبر في القمة من الصحة، وإذا سمعه بإسناد عال من رواية راو ضعيف وكان مشهورا بين الثقات فهو أولى وأصح مما رواه الثقة بنزول، كما رأينا ذلك فيما سبق عن مسلم نفسه.
ولم يقدم الإمام مسلم هنا ما تفرد به شريك على ما تفرد به الزهري، وما مدى قيمة المعادلة بينهما؛ فهل اشتركا في رواية الحديث عن مصدر معين، ثم اختلفا عليه فيما رواه كل منهما؟! كلا.
وما صح من حديث شريك قدمه مسلم على غيره لعلوه وتسلسله، وليس على ما رواه الزهري. كأن الأستاذ لا يفرق بين الأسانيد بمخارجها ومداراتها، وهذا خلل منهجي آخر نراه في عمله دائما .
وهل يقدم الإسناد بمجرد وجود إمام فيه بأي شكل كان، على الإسناد الصحيح المشهور المتفق عليه بين الرواة الثقات؟! كلا .
والعجب أن الأستاذ قدم معلومات مهمة حول الشهرة، فإذا هو يتناقض، بل ينتهكها بعمله؛ إذ قدم حديث الزهري عن سهل عن أبي أيوب بمجرد شهرته، مع كونه منقطعا أو مختلفا في انقطاعه، على حديث متفق على صحته.
ثم قلت له :
’’أما الأحاديث الثلاثة في آخر الباب فأراد بذكرها بيان الاختلاف على أبي سلمة؛ إذ شرح الاختلاف على أبي سلمة؛ فرواه الزهري عنه عن أبي سعيد ، ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عطاء عن زيد عن عثمان ، وفي رواية أخرى عنه عن عروة عن أبي أيوب . والواقع أن مسلما لم يعتمد على هذه الروايات.(2/11)
ومما يدلنا على أن مسلما أراد به بيان الاختلاف أنه أتى بحديث أبي سعيد برواية الزهري عن أبي سلمة عنه مع ذكر حديث أبي سعيد في صدر الباب، ولو كان يصححه لذكره في جملة روايات حديث أبي سعيد.
تبين بذلك أن حديث الزهري وجه من وجوه الاختلاف على أبي سلمة، لكن الأستاذ اتجه اتجاها معاكسا؛ إذ جعله أصح من حديث شريك، نظرا لكون الزهري أوثق منه دون اعتبار الجوانب العلمية التي اعتمدها النقاد، ومنهم الإمام مسلم، في التصحيح والترجيح، والأستاذ لم يعتبر الاختلاف بين الزهري و يحيى بن أبي كثير شيئا، بل اعتبره تعدد الطرق‘‘ انتهى ما قلته في العبقرية.
أقول: كأن الأستاذ لم يعجبه ذلك، فركب الصعب والذلول من أجل الاعتراض، انظر ماذا يقول:
’’إن الدارقطني لم يتعرض لرواية الزهري بحال من الأحوال، ولكن المليباري يريد أن يضرب الروايات الصحيحة بعضها ببعض لشر في نفسه، ثم يخرج في النهاية بتعليل الكل وتضعيفها‘‘(1).
أقول: هذه مجازفة معهودة في أسلوب الأستاذ.
__________
(1) - في كتاب العلل للدارقطني:
’’ سئل عن حديث زيد بن خالد عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم (الماء من الماء ) فقال : هو حديث يرويه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد ، وأسنده عن عثمان وطلحة والزبير وأبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم حدث به عن يحيىحسين المعلم وشيبان؛ وهو صحيح عنهما. وفي حديث شيبان أن زيدا سأل عليا وطلحة والزبير وأبيا فأمروه بذلك ولم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم‘‘.
’’ورواه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد أنه سأل خمسة أو أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث حسين المعلم عن يحيىقال قال أبو سلمة وأخبرني عروة أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما سمعه من أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال ذلك هشام بن عروة : عن أبيه عن أبي أيوب عن أبي بن كعب ‘‘.(2/12)
كان كلامي واضحا في بيان ترتيب مسلم لأحاديث هذا الباب حسب الخصائص، ولم أضرب الروايات الصحيحة التي اتفق على صحتها العلماء النقاد بعضها ببعض.
وأنا أنقل هنا مضطرا ما قلته حول الروايات الأخيرة في (العبقرية) وهذا نصه :
’’ فبين (مسلم ) بعد أن ذكر الأحاديث الصحيحة أن الرواة مختلفون على أبي سلمة؛ أروى عن أبي سعيد مباشرة أم عن أبي أيوب بواسطة عثمان أم عن عثمان بينهما راويان؟! يعني: أن الإمام الزهري خالف فيه يحيى بن أبي كثير، وهما إمامان، وعليهما (تدور) أحاديث أهل الحجاز.
وكشف لنا بصنيعه ( أي مسلم) أن في الحديث علة كما ذهب إليه غير واحد من أهل الحديث..‘‘
فأين في قولي ما زعمه الأستاذ من ضرب الروايات الصحيحة بعضها ببعض لشر في نفسي، ثم خروجي في النهاية بتعليل الكل وتضعيفها؟!
ليس فيه إلا تعليل حديث يحيى بن أبي كثير بناء على ما أعله النقاد، ولذلك قلت: ’’إن الإمام الزهري خالف فيه يحيى بن أبي كثير، وهما إمامان وعليهما (تدور) أحاديث أهل الحجاز‘‘. اهـ
ثم نقل الأستاذ ما قاله الحافظ ابن حجر ورده على الإمام الدارقطني(1)، وهذا نصه :
’’قال الحافظ ابن حجر : الظاهر : أن أبا أيوب سمعه منهما لاختلاف السياق، لأن في روايته عن أبي بن كعب قصة ليست في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أن أبا سلمة – وهو ابن عبد الرحمن بن عوف – أكبر قدرا وسنا وعلما من هشام بن عروة ، وروايته عن عروة هي من باب رواية الأقران، لأنهما تابعيان فقيهان من طبقة واحدة. وكذلك رواية أبي أيوب عن أبي بن كعب لأنهما فقيهان صحابيان كبيران. وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الدارمي وابن ماجه.
وأجاب الحافظ عن تعليل الأئمة(2)
__________
(1) - قال الدارقطني : هو وهم ؛ لأن أبا أيوب إنما سمعه من أبي بن كعب كما قال هشام بن عروة عن أبيه .
(2) - يعني الإمام أحمد وعلي بن المديني . يقول الحافظ ابن حجر:
"قد حكى الأثرم عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول ؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.
وقد حكى يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني : أنه شاذ . ..‘‘(2/13)
لحديث زيد بن خالد بقوله:
’’ والجواب عن ذلك: أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته؛ وقد روى ابن عيينة – أيضا – عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة عن عطاء. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره ؛ فليس هو فردا.
وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه؛ وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية‘‘.اهـ
ثم أخذ الأستاذ يدلي دلوه بناء على ما قاله الحافظ واستغله في شغبه وقال ما يأتي:
’’ فقد ارتكب المليباري أشياء منكرة:
أولها : ضربه لحديث الزهري بحديث يحيى بن أبي كثير، والعكس بتعليل أحدهما بالآخر ، ثم بإسناد ذلك إلى عمل مسلم.
ثانيا: أنه لم يذكر جواب الحافظ ابن حجر، ورده على الإمام أحمد الذي نقله محقق العلل عن الحافظ.
وثالثا: لم يبين مصدره لما نقله عن الإمام أحمد وابن المديني والدارقطني؛ لأنه لو ذكر مصدره لانكشف زيف كلامه؛ وهذه خيانة لا تصدر من مسلم مخلص لله في عمله، وإنما تصدر عن أهل الباطل والأهواء(1).
وأخيرا: فإن ما يقوله عن ترتيب مسلم لهذه الأحاديث وغيرها على الوجه الذي يصوره هو ويتصوره؛ باطل دافعه الهوى وقصد الشغب والفتن، ولو كان قصد وجه الله، ولو كان يحترم كتاب مسلم وأحاديثه بل والبخاري لما قصد إلى أحاديث صحيحة متفق عليها فيعللها بوساوسه وترهاته الباطلة.(2)
__________
(1) - ننظر هل الأستاذ ذكر مصدر كل ما نقله من النصوص أيا كانت هذه النصوص، فإذا لم يفعل هذا فهي إذن خيانة لا تصدر من مسلم مخلص لله في عمله، وإنما تصدر من أهل الباطل والأهواء، بحجة قول الأستاذ نفسه وحسب تفكيره وحكمه.
(2) - قد نقل الأستاذ آنفا عن الإمام أحمد وعلي بن المديني والدارقطني تعليلهم وتضعيفهم لحديث عثمان . وأما حديث الزهري عن أبي سلمة فلم أعله وإنما نقلت تعليل هؤلاء الأئمة ، وقلت إن مسلما بين الاختلاف على أبي سلمة .(2/14)
ثم يدعي بعد كل هذا أنه ينصر السنة ويرد على المستشرقين، وهو يفتح للمستشرقين والمستغربين الباب على مصراعيه للطعن في كتب السنة وأحاديثها، وعلى رأس ذلك الصحيحان وأحاديثهما؛ فيا لها من سفسطة وشنشنة نعرفها من أخزم(؟!).
رابعا: ما فائدة قوله عن الزهري وابن أبي كثير أنهما يدور عليهما أحاديث أهل الحجاز وهو يعامل أحاديثهما هذه المعاملة؟! ويقدم على حديثهما حديث من تكلم فيه، ويصف أسانيدها بعدم النظافة .
خامسا: يرى القارئ أن تعليل المليباري(1)هنا لحديث الزهري و يحيى بن أبي كثير مبني على منهجه الباطل في الترتيب والتعليل به وبالتقديم والتأخير. وهذا هو مكمن الخطورة التي نحاربها ونحارب من يأخذ منها معولا لهدم أركان صحيح مسلم. ليتفطن القارئ اليقظ إلى تناقض هذا الرجل واضطراب فكره: فتراه حينا يزعم أن مسلما يشرح العلل بالكلام، ثم يغلب طبعه فيعود إلى خرافة التعليل بالترتيب والتقديم والتأخير، ثم يهرع أحيانا إلى ما يزعمه من الخصائص الإسنادية ويؤكد ذلك بالتهاويل ‘‘.
إلى أن قال:
__________
(1) - ليتق الله تعالى في القول والعمل . ألم ينقل الأستاذ عن الأئمة: أحمد وابن المديني والدارقطني تعليلهم لحديث عثمان الذي رواه يحيى بن أبي كثير ؟! وأنا أيضا نقلت ذلك مثل ما نقلت أنت. إذن كيف تنسب إلي التعليل ؟! ومن قال لك إن حديث الزهري معلول ؟! وأين النص الذي يفيدك بأن التعليل مبني على التقديم والتأخير والترتيب ؟!
ولم يذكر أحد ولم يخطر ببال أحد أن التعليل بالتقديم والتأخير ، فالذي نعرفه هو أن التعليل إنما يكون بمخالفة الأرجح والتفرد بما ليس له أصل أو بالاضطراب، أما التعليل أو بيانه بالتقديم والتأخير فمن مخيلات الأستاذ ولا وجود له أصلا. ثم العجب أن يعد نفسه لمحاربة الشيء الذي تخيله من مخيله !.(2/15)
’’أما قول الدارقطني (لأن أبا أيوب لم يسمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما سمعه من أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم) ففيه نظر ؛ وقد أشار الحافظ إلى ما يضعف قول الدارقطني؛ وذلك أن الإمام أحمد والدارمي قد رويا متابعة لرواية أبي سلمة. .. فالصواب إذن قول الحافظ ابن حجر ( رحمه الله تعالى ) في أن أبا أيوب سمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم‘‘.(1)
زلل الأستاذ وتضليله ومجازفته في التعقيب
حوار الأستاذ يكون دائما استفزازيا، لا يعتمد على الفهم ولا على الدليل، ولا على الاحترام، بل يقوم على المجازفة والمكابرة والعناد، بعيدا عن الطرح الموضوعي والرد العلمي.
وفي الفقرات الآتية الإجابة عن الأشياء التي وصفها الأستاذ بأنها منكرة :
أما الجواب عن الشيء الأول: فمجازفة الأستاذ فيه واضحة لأنني لم أضرب حديث الزهري بحديث يحيى بن أبي كثير، وهذا لا يفهم إلا إذا قلت إن حديث أبي سلمة مضطرب. والذي قلته هو : إن صنيع مسلم المتمثل في جمع الوجوه المختلفة على أبي سلمة في آخر الباب، وذكر إسناد الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد مفصولا من المجموعة التي قدمها في أول الباب دل على أن الحديث فيه علة، ثم نقلت عن الأئمة ما يبين وجه العلة.
ولم يعل أحد ممن ذكرتهم حديث الزهري، ولم أسند ذلك إلى الإمام مسلم أيضا، وكل ما قاله الأستاذ مجازفة واضحة.
والجواب عن الإشكال الثاني:
أن قول الحافظ في تأييد رأي البخاري ليس مما تقتضيه المناسبة التي نحن بصددها، لأن رده لا يدل على عدم ثبوت التعليل عن الأئمة، وأنا في صدد بيان تأخير مسلم لحديث أبي سلمة وسببه، بغض النظر عن مدى صحة تعليل الأئمة لحديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. أما لو كنت في دراسة حديث أبي سلمة ومدى صحته عموما لكان مما ينبغي علي نقل ما ورد عن الأئمة في ذلك الحديث من الآراء.
__________
(1) - ص: 218 - 220 من التنكيل.(2/16)
وأما أن يجعل الأستاذ ذلك من الأشياء المنكرة، دون تأمل في مدى مناسبة ذكره هنا فمن مجازفاته المعهودة .
والجواب عن الثالث:
صحيح أنني لم أوثق أقوال الأئمة، لكن لم يأت الأستاذ بما يدل على وجود خطأ فيما نقلته عنهم، ولا على زيفه. ولو أتى بذلك لكان له أن يقول ما شاء من التهويل. وأما أن يصفني بالخيانة بمجرد أني لم أوثق تلك الأقوال، ودون أن يأتي بشيء يدل على الخطأ فغير منهجي(1).
والجواب عن الرابع: أن نظافة الإسناد ليست فقط بوجود إمام فيه، بل إنها تتوقف أساسا على مدى خلوه من شذوذ وعلة وسلامته من العيوب. وكلما كان الإسناد العالي أبعد من الاختلاف، وأكثر شهرة بين الثقات كان الإسناد أنظف وأصح وأفضل. والشيء الوحيد الذي في جعبة الأستاذ لدراسة الأسانيد هو النظر السريع في أحول الرواة؛ فلان في الدرجة الأولى وفلان في الدرجة الثانية، معتمدا في ذلك على تقريب التهذيب، الذي لا صلة له بالإمام مسلم ولا بمنهجه في الصحيح.
والجواب عن الخامس: اتق الله يا أستاذ ! إني لم أقل إن حديث الزهري معلول لكونه مذكورا في آخر الباب، ولم أدع أن وجوه الاختلاف كلها معلولة، وإنما يكون المعلول هو ما يكون مخالفا للراجح.
ومن خلال ما ذكرنا من تعليل الأئمة لحديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة يتبين أن حديث الزهري أصح ، لكن حديثه عن أبي سلمة عن أبي سعيد دون حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد وذكوان عن أبي سعيد للخصائص التي شرحناها، ومن أهمها الشهرة.
وحاول الالدكتور أن يثبت لنا أن حديث الزهري مشهور فإذا هو حديث آخر يرويه الزهري عن سهل عن أبي أيوب في النسخ مع ما فيه من كلام النقاد حول انقطاعه. ولم يستطع الأستاذ أن يبين لنا طريقا آخر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد .
__________
(1) - إذا أثبتنا هذا الأمر في نصوص الأستاذ فهل يمكن وصفه بالخيانة؟!(2/17)
ثم من العجب أن يوهم القارئ بأني أعل حديث الزهري وابن أبي كثير بالتقديم والتأخير، ويصفه بالخطورة التي من أجلها يحارب، وينصح القارئ بالتفطن إلى تناقضي واضطرابي الذي يزعمه من دون دليل.
لكن الواقع غير ذلك.
إذا كان الأئمة قد أعلوا حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، ثم وجدنا الإمام مسلما يرويه في آخر الباب، فإن هذا الحديث لا يكون أبدا أصح من الذي صدر به الباب، وهو حديث أبي سعيد الذي لم يختلف في صحته أحد حسب علمنا. وبالتالي لا معنى لرمي التهم بأني أعل الحديث الصحيح بمجرد تأخيره، وما ذنبي أنا إذا أعله النقاد ؟! هذا كله من المغالطات التي لا ينبغي وقوعها من المسلم التقي الصالح.
إن كان الصواب هو ما قاله الحافظ في رأي الأستاذ فإننا نرى أن الصواب هو ما قاله الدارقطني لما ذكره من الدليل، أما ما قاله الحافظ ابن حجر مجرد احتمال لم ينكره أحد.
وأما قول الأستاذ فيما يخص شريكا، فأقول إن كان التفاضل بين راو متكلم فيه وبين راو متفق عليه، بغض النظر عن أمور قد تثقل جانب أحد الطرفين وترجحه فكما قال الأستاذ. لكن لسنا هنا بصدد هذه الموازنة المجردة بين الراويين. وإنما في الموازنة بين حديث شريك الذي شاركه فيه الثقات، واستوفى من الخصائص الإسنادية شهرة الرواية وعلوها وتسلسها، وبين حديث الزهري الذي لم يستوفها مثل حديث شريك.
إذا كان مسلم قدم حديث أبي سعيد على حديث أبي أيوب حسب الأصحية كما وضحنا سابقا، فإنه لا يعني أن مسلما قدم شريكا على غيره من الثقات، وإنما قدم رواية شريك لاستيفائها خصائص علمية.
وبهذا أصبح الأستاذ بعيدا عن الواقع، وشاذا في رأيه، وتبين أن جميع تهمه وتهاويله ذهبت أدراج الرياح.
المثال السادس، ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم(2/18)
كان الشيخ ربيع يستعجل في فهم النصوص والحكم على الآخرين، دون روية ولا تحفظ ولا تثبت، ثم يجعل ذلك قاعدة عريضة للهجوم ورمي التهم، كما سبق في معظم الأمثلة السابقة. وهذا ما سنراه في هذا المثال أيضا. يخلط بين مسائل الترجيح فيجعل التفاضل بين الروايات تفاضلا بين الرواة. لذا لا بد من التذكير أننا في جميع الأمثلة ، بصدد التفاضل بين الروايات الصحيحة التي أوردها مسلم في أبواب صحيحه، وليس بين رواتها، وأنه لا يلزم من التفاضل إنكار الخصائص عن الروايات الأخرى، ولا تضعيفها.
غير أن الأستاذ يفهم دائما خلاف ذلك، ثم ينفعل ويتهم خصمه ويجرحه بأقبح الألفاظ وأعنف الأساليب، بل يتدخل في نيته وقصده، بعيدا عن سلوك السلف في الحوار والمناظرة. ونرى ذلك مرة أخرى في نقاشه حول هذا المثال، وهو حديث (ويل للأعقاب من النار).
أولا : نرسم شجرة أسانيد هذا الحديث على الترتيب الذي اختاره مسلم.
ثانيا: إن هذه الشجرة تعطينا بكل وضوح أن حديث عائشة وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة مشهور، غير أن حديث عائشة أكثر شهرة، مع بعده عن اختلاف الرواة. وهذا كما ترى - أيها القارئ الكريم - ليس فيه إنكار شهرة بقية الأحاديث والروايات.
أما الأستاذ فله نظرة أخرى مخالفة لما سبق، لكونه يرتكز على أحوال الرواة من خلال تقريب التهذيب ، ساخرا من الخصائص الإسنادية، بوصفها أسطورة لم يقل بها أحد؛ لذا نراه متمسكا بأن مسلما لم يرتب أحاديثه حسب الأصحية ولا حتى على مراتب الرواة أيضا.(2/19)
من هنأكان يقول: حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو أشهر وأوفر للخصائص الإسنادية من حديث عائشة مبرهنا به على عدم اهتمام مسلم بترتيب الأحاديث في صحيحه(1).
وما هي هذه الخصائص التي استوفاها كل من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة حسب رأي الأستاذ؟!
يقول الأستاذ :
__________
(1) - الأستاذ كعادته يهتم بالاستهزاء بخصمه وتجريجه ؛ يقول الأستاذ ص: 226 – 227: ’’ يريد ( أي المليباري ) أن يشعر القراء بأنه متبحر وصاحب نظرات متبحرة ومن علماء الأسرار، وأن غيره سطحيون بعيدون عن معرفة الأسرار وبعيدون عن التبحر في العلوم التي يجيدها كهنة الصوفية . ونحن يسرنا أن نكون على طريقة علماء الظاهر من المحدثين والمفسرين وفقهائهم. ونعوذ بالله أن نكون على طريقة الباطنية المدعين لمعرفة الأسرار واكتناه الغيوب وهم لا يعدون المشعوذين في الأكاذيب والترهات والأساطير‘‘.
ما مناسبة هذا الكلام ؟! ونحن في حوار علمي تخصصي بحت ! وما يستفيد الأستاذ من هذا التجريج واللمز وإيهام القارئ بأن خصمه من المبتدعين الضالين ؟! والحمد لله نحن برآء مما يقوله الأستاذ ، وبعيدون عن مذهب الظاهرية الذي يتمسك بالحرفية ويرفض ما دل عليه الدليل ، وينكر الواقع الذي يفهمه العالم من خلال خبرته.
هذا وقد أبرز الأستاذ حقيقة لونه وما ينطوي عليه قلبه ، يكون حينا رجلا حكيما لا يعتمد ألفاظ النصوص ، وإنما يعتمد معانيها وبواطنها. وحين يترجح جانب الخصم يعتمد الظاهر ويتمسك بحرفية النص .
وهل يعني أن كل ما يجهله الأستاذ من الأمور الباطنية؟!(2/20)
’’ بينت أن طرق حديث عائشة التي صدر مسلم بها الباب رجالها من الدرجة الثانية بكلام الإمام أحمد وابن معين وعلي بن المديني وابن حجر. وبينت أن بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة من الدرجة الأولى ، ومن الأحاديث المتفق عليها. وهذا البيان شاف وكاف عند من يحترم هؤلاء العلماء وأقوالهم ومناهجهم. وأما مثل المليباري فهذا لا يكفيه ولا يلزمه‘‘(1)
هكذا يقوم الأستاذ بإطلاق الدعاوى، دون أن يحرص على أن يكون رده علميا ومنهجيا ومؤسسا على أدلة. فأين قال الأئمة إن طرق حديث عائشة التي صدر مسلم بها الباب رجالها من الدرجة الثانية؟! هذه من المجازفات التي تعود عليها الأستاذ.
ثم سألني: متى قال مسلم إنه يراعي هذه الخصائص الإسنادية في ترتيب صحيحه ؟! ومتى قال إنها إذا وجدت هذه الخصائص فإنه يقدم بها رجال الطبقة الثانية المتكلم فيهم على رجال الطبقة الأولى؟!(2)
ألأجل ما ارتكبته من الأكاذيب والأساطير حول منهج مسلم في الترتيب تريد أن تخرب علوم الحديث التي دان بها أهل الحديث وساروا – ويسيرون – عليها؟؟!!(3)
أقول : سبق لنا تحقيق هذا الموضوع، فليرجع إليه .
وأما قوله ’’ تريد أن تخرب علوم الحديث..‘‘ فخال من الصحة، بل زلل وتضليل. كيف يكون التطبيق العملي في الأحاديث لمصطلح الصحيح والعلو والتسلسل والشهرة والغرابة والمعلول والشاذ، حسب تعاريفها خراب لعلوم الحديث؟!
وهل يعد تقديم العلو على النزول، والمشهور على الغريب ، والصحيح على المعلول، والمتفق على صحته على المختلف فيه، أسطورة؟!
أليس العمل الذي يقوم على تصحيح حديث بمجرد كون راويه ثقة هو الذي يخرب تعريف الصحيح بل قواعد علوم الحديث؟!.
قول الأستاذ في ص: 230:
__________
(1) - التنكيل ص: 227 - 228
(2) - حسب تقسيم مسلم للرواة فإن أغلب الرواة لحديث عائشة ثقات من أهل القسم الأول ، وليسوا من الطبقة الثانية ، كما شرحنا ذلك في العبقرية.
(3) - التنكيل ص: 228(2/21)
’’إن طرق حديث عائشة كلها مدارها على سالم بن عبد الله النصري – مولى شداد - ، قال فيه أبو حاتم : شيخ. ولم يعرفه جيدا مسلم ولا العجلي ولا ابن حبان، ولا أبو سلمة مع كونه يساكنه في المدينة، ومع ذلك لم يوثقه إلا العجلي وابن حبان. وبهذا يعلم أن ابن حجر لم يهضمه في قوله عنه ( صدوق)‘‘.
أقول :إن سالما أبا عبد الله مولى شداد ليس ممن أكثر رواية الأحاديث، مثل سعيد بن المسيب وأبي سلمة ونافع وغيرهم. لكن اتفاق الرواة الأجلاء من الثقات على رواية حديث (ويل للأعقاب من النار) عن سالم مع ذكر القصة والمناسبة، دون اضطراب ولا اختلاف دليل على أن حديثه صحيح، وأنه قد ضبطه وأتقنه عند الرواية.
وتقديم مسلم حديثه لا يلزم منه أن سالما أولى وأوثق من غيره من الثقات، كما لا يلزم من تقديم حديث سويد بن سعيد على الثقات، أن الإمام مسلما قدم سويدا على الثقات . وهذا فهم مغلوط غير مقبول.
وقد رأينا من خلال شجرة الأسانيد شهرة حديث سالم عن عائشة بين الثقات في مناطق مختلفة، ولم نر هذه الشهرة في الأحاديث الأخرى التي ذكرها مسلم بعد حديث عائشة.
ثم إن قول الحافظ ابن حجر في سالم إنه ( صدوق)، لا يعني أنه من أهل القسم الثاني عند مسلم ، وهذا خطأ فادح. وأهل القسم الثاني عند مسلم هم الضعفاء غير المتروكين أمثال ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد. وكيف يستوي هؤلاء الضعفاء مع الصدوقين؟! يفهم الأستاذ أن كل من قال الحافظ فيه صدوق أو صدوق مختلط أو صدوق يخطيء أو ضعيف من أهل القسم الثاني عند مسلم؟! والأستاذ بحاجة ملحة إلى هذه التصورات الغريبة والمفاهيم المغلوطة وقلب الحقائق وتمويه الأباطيل ليدافع عن أخطائه وأوهامه، أما الحق والصواب فغني بالأدلة، ولا حاجة إلى الكذب والاتهام.(2/22)
وأما قوله ’’ وأن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يعرفه حق المعرفة وهو يساكنه في المدينة ‘‘ فمن غرائب تفكيره وفهمه. ومن نظر في هذه الروايات التي ذكرناها علم أنه لم تثبت روايته عن سالم، وما ورد في بعض الأسانيد من روايته عنه فخطأ، وإنمأروى سالم عن عائشة مرسلا. هذا وقد كان الأستاذ معجبا بقول النقاد بأن ذكر أبي سلمة في الحديث خطأ من الراوي عمر بن يونس. يعني أن الأستاذ كان يقر بأن أبا سلمة لم يرو عن سالم(1).
ثم إن معرفة أبي سلمة لسالم وعدم معرفته له لا تخدم الأستاذ هنا، في الوقت الذي يسجل التاريخ(2)أن سالمأكان معروفا لدى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، حتى وصفته بالأمانة.. وإذا لم يعرفه أبو سلمة فإن عائشة عرفته بأمانته وهذه أولى .
ويمكن أن نسأل الأستاذ: إذا لم يعرف مسلم سالما مولى شداد كيف احتج به في صحيحه؟! وكيف قال الحافظ فيه صدوق؟! والثقة والصدوق قريبان، بل من أهل القسم الأول عند مسلم حسب تقسيمه للرواة.
وتوثيق ابن حبان والعجلي لسالم مولى شداد معتمد لا يرفض، لأن توثيقهما إنما هو قائم على سبر مروياته، وليس من نوع توثيق المجاهيل الذين لا يعرفون إلا من طريق واحد أو اثنين. ثم إن هذا التوثيق يتأيد بموقف النقاد عندما قبلوا ما رواه سالم من الأحاديث. وخاصة الإمام مسلم.
وأما ما قاله الأستاذ من أن ابن حبان والعجلي وغيرهمالم يعرفوا سالما ففهم مغلوط. لأنه لا يلزم من مجرد ذكر الراوي في أكثر من موضع في كتب التراجم حسب ما ورد في الأسانيد بأكثر من كنية أو نسبة أنه غير معروف عندهم. نعم يدل من غير شك على أنه غير مشهور بالرواية.
__________
(1) - انظر ص: 233 – 234 من (التنكيل) = ظلمات الأكاذيب والأباطيل
(2) - التاريخ الكبير 4/110(2/23)
وهنا لا بد أن نتذكر أن من التابعين رواة اعتمدهم البخاري ومسلم في الأصول، ثم وافقهم الدارقطني من خلال كتابه (الإلزامات)، بل أضاف رواة آخرين على منهجهما. وهؤلاء الرواة لم يُعرَفوا إلا من خلال راو واحد، وإذا نظرنا فيهم من زاوية ما نملكه من الخلفية العلمية وجدناهم مجاهيل حسب تعريف الجهالة. وبناء على ذلك هل يناسب أن نقول إنهم مجاهيل، ونرفض ما صححه البخاري ومسلم من أحاديثهم؟! كلا ثم كلا.
الواقع أننا لا نعرف مضامين المصطلحات إلا بتعريفاتها المذكورة في كتب المصطلح، التي قد تكون غير مغطية لجميع جوانب معانيها.
وأما الروايات وما يتعلق بها من الملابسات فتتوقف معرفتها وفهمها على الممارسة والخبرة والحفظ والفهم، وإن سماها الأستاذ أمورا باطنية لجهله بها.
وأما ما قاله الأستاذ عن مخرمة فصحيح؛ أخذ الأحاديث من أبيه وجادة، والوجادة ليست معتمدة في الرواية؛ لكون الراوي يتعرض للتصحيف والتحريف إذا اعتمد الكتاب بلا قراءة أو سماع. لكن إذا تأكد من خلال الجمع والتتبع أن هذا الراوي لم يحرف شيئا في الحديث الذي رواه، بل رواه صحيحا، ووافقه الثقات، يكون الحديث مقبولا ومحتجا به. لا سيما إذا اعتمده النقاد.
وأما هنا فقد قال العلماء بصحة الأحاديث عن مخرمة إذا جاءت عن طريق ابن وهب ، ومسلم لم يعتمد إلا على ذلك.
وعلى كل فتقديم مسلم حديث عائشة على حديث ابن عمرو وأبي هريرة كان منهجيا روعي فيه ما سبق من الشهرة الواسعة، ولا يعترض عليه بما في بعض الروايات من إشكال، لأنه لم يقدمه باعتبار ذلك السند فقط.
وعند ما ننظر في ترتيب أحاديث عائشة نجد فيه من الخصائص ما يستوفيه، فلم يقدم ما أعل من حديث عمر بن يونس ، بل أخره.
ومن الجدير بالذكر أن الإمام مسلما إنما يختار من روايات الحديث الصحيح ما هو أعلى بالنسبة إليه وأفضل وأصح ، وليس ما هو أصح وأعلى غيره.
تلون الأستاذ في الترجيح(2/24)
من المفارقات العجيبة أن الأستاذ كان يفضل حديث المدنيين على العراقيين، حتى وإن لم يكن الإسناد مسلسلا بالمدنيين، كما سبق في بعض الأمثلة(1)، أما هنا فتلون، فقال: حديث تسلسل بالعراقيين أصح من الحديث الذي رواه المدنيون.
إن كان حديث عائشة غريبا تفرد به سالم فإن كل ما سيأتي من الروايات التي تفرد بها الرواة إلى طبقة متأخرة يكون أولى بالغرابة .
وقد أهمل الأستاذ اختيار مسلم وغيره رواية ابن وهب عن مخرمة الثقة الذي لم يتكلم فيه إلا من أجل روايته عن أبيه وجادة، وقد صرح بذلك ابن عدي .
وقد تعامل الأستاذ مع حديث سالم مولى شداد الذي اشتهر بين الثقات قبولا واحتجاجا، ووضعه في غير محله حين قال: ’’إنه من شروط المتابعة‘‘ بناء على قول الحافظ فيه بأنه ( صدوق )، ومتى كان حديث الصدوق من شروط المتابعة؟!.
ثم كيف يكون الراوي الذي قال الحافظ فيه ’’صدوق‘‘ من رواة القسم الثاني(2)عند مسلم، أي قسم الضعفاء الذين هم من أهل الستر والصدق ؟! أ وليس هذا تقولا على مسلم ؟!
__________
(1) - انظر الفصل الثاني من الباب الثاني - المثال الأول -
(2) - قال مسلم واصفا لهذا القسم الثاني: ’’من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم‘‘. وبأسماء الرواة الذين ذكرهم مسلم نماذج لهذا القسم تبين مراده به هم الضعفاء. ويزداد ذلك وضوحا من وصفه لأهل القسم الأول بأنهم ’’أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش‘‘.
وعليه فكل من لم يوجد في روايته اختلاف شديد ولا تخليط فاحش فهو من القسم الأول عند مسلم ، وبالتالي يكون الصدوق الذي خف ضبطه قليلا أولى بدخوله في القسم الأول.(2/25)
قوله : ’’إن الرجل لجهله يضرب بما قرره علماء الحديث عرض الحائط إذا خالف هواه: فمسلم قرر أنه ينزل الناس منازلهم؛ وهذا يرفض ما قرره مسلم فيرفع من شاء بهواه ولنصرة باطله في الترتيب المدعى، ويخفض من رفعه الله وعرف له ذلك العلماء .
فالرجال الذين اتفق الإمامان البخاري ومسلم على الاحتجاج بهم وخرجا لهم هذا الحديث وغيره ، وهم عند مسلم من الطبقة الأولى يجعلهم دون منزلتهم ، فلا يجعل اعتبارا لكونهما احتجا بهم ولا لكونهما اتفقا على تخريج حديث ابن عمرو وأبي هريرة ، فلا يلوي على اعتبار مسلم إياهم من رجال الأولى ومثل سالم من رجال الطبقة الثانية.
ويعبث بالمقررات والمسلمات عند أئمة الحديث عبث الصبيان والمعتوهين . فأي جناية على صحيح مسلم وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصول علوم الحديث أشد من هذا العبث والتلاعب ‘‘اهـ.
أقول: هل يمكن أن يفهم من قول مسلم: ’’كيف آتي بنسخة حفص بن ميسرة ؟!‘‘ - الذي قاله ردا على من اعترض عليه برواية حديث سويد بن سعيد الضعيف- أنه قدم سويد بن سعيد الضعيف على الثقات الآخرين؟! وأنه لم ينزل الناس منازلهم؟!
وهل يفهم من قول مسلم:(1)
’’ وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية من أوثق منهم بنزول فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات‘‘
أنه لم ينزل الناس منازلهم لسبب تقديم المتكلم فيه على الثقات؟!
وهل يفهم من قول الحافظ ابن حجر:
’’فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس، إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فردا غريبا، فيكون ذلك أقوى منه‘‘
أنه كان يقدم الحديث الذي انفرد به أحدهما على الحديث المتفق عليه بلا سبب ؟!
__________
(1) - سؤالات البرذعي 1/676، تاريخ بغداد 4/272(2/26)
وهل يفهم من قول الترمذي في حديث ابن عمر لا تقبل صلاة بغير طهور الذي رواه سماك المتكلم فيه(1): ’’ هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن ‘‘ ، أن الترمذي قدم سماكا على الرواة الثقات ؟!
والجدير بالذكر أن حديث أبي هريرة متفق عليه، وحديث ابن عمر انفرد به مسلم من دون البخاري، وسماك الذي يدور عليه الحديث متكلم فيه.
وهل يفهم من قول الترمذي :
’’لا اعرف حديث تعجيل الزكاة من حديث إسرائيل عن الحجاج بن دينار إلا من هذا الوجه وحديث إسماعيل بن زكريا عن الحجاج عندي أصح من حديث إسرائيل عن الحجاج بن دينار وقد روي هذا الحديث عن الحكم بن عتيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ‘‘،(2)
أنه قدم إسماعيل على إسرائيل ؟!
وإسماعيل قال فيه الحافظ: ’’صدوق يخطيء‘‘، وقال في إسرائيل: ’’ثقة تكلم فيه بلا حجة‘‘.
أمثلة كثيرة جدا في سنن الترمذي وحده. وهي تدل على أن رواية الثقة تقدم على رواية الأوثق، كما تقدم رواية الضعيف على الصدوق أو على الثقة لسبب العلو وغيره. وتفكير الأستاذ وتصوره في هذا المجال غير سديد(3). ولا داعي للتهجم والسب، والتدخل في النيات، وهذه وسائل رخيصة يلجأ إليها الضعفاء في الحوار.
__________
(1) - أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور
(2) - كتاب الزكاة ، باب تعجيل الزكاة 3/63
(3) - لعل منشأ هذا الخلل هو التضييق في مفهوم الشاذ بأنه ما خالف فيه الثقة الأوثق. فظن أن كل ما رواه الأوثق يكون صحيحا ومقدما على غيره، وهذا خطأ. راجع كتاب علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين للمؤلف(2/27)
إن تقديم حديث على حديث لا يعني أبدا تقديم راو على راو؛ لأن التقديم والترجيح له اعتبارات كثيرة، يعرفها من يشتغل بالحديث وعلومه، أما حصرها جميعا في أحوال الرواة فعمل مناقض لما عليه أهل الحديث حتى الفقهاء والأصوليين، الذين يعتمدهم الأستاذ في علوم الحديث، حتى إنهم لا يحصرون أسباب الترجيح والتقديم في أحوال الرواة.
أما قوله : ’’والجدير بالذكر أن لحديث يوسف بن ماهك مزايا – على مذهبه – كتمها المليباري انتصارا لباطله ، منها :
1 – العلو : إذ يصل مسلم إلى عبد الله بن عمرو بأربعة من الرواة بينما هو لا يصل إلى عائشة إلا بخمسة أو ستة من الرواة
2 – ومنها أنه مخرج في الصحيحين.
3 – ومنها أن رجاله من الطبقة الأولى عند مسلم.
4 – ومنها : تسلسله بالعراقيين.
فأين الإنصاف والأمانة أيها المتبحر؟؟! إنك لا تجني من الشوك العنب، ولا تجد عند أهل الأهواء الجامحة إلا الكذب والخيانة والتلبيس ‘‘.
فأقول: سيرى الأستاذ الفاضل مرة أخرى أين الإنصاف والأمانة.
إنه لا يتحدث بشيء إلا وقد اتهم خصمه بما يخفف عليه انفعاله وخوفه. ما الذي يمنعه في الحوار من أن يركز على العلم، ويتأدب بآداب الإسلام مع خصمه؟!
صحيح إن لحديث يوسف بن ماهك مزايا، لم أكتمها كما يزعم الأستاذ الفاضل، انظر قولي في العبقرية :
’’فقدم حديث الربيع بن مسلم لأنه عال باعتبارين؛ الأول: قلة العدد لأن الرواة فيه أربعة ، أما إسناد البقية فنازل لأن الرواة فيه خمسة .
والاعتبار الثاني هو القرب إلى محمد بن زياد الذي يدور عليه الحديث الأول والثاني برقم 8، و9 فإن الأول قرب فيه الإمام مسلم إلى محمد بن زياد بواسطتين، أما الثاني ففيه ثلاثة من الرواة شعبة ووكيع وشيوخ مسلم‘‘(1).
__________
(1) - ص: 131(2/28)
أما أنه مخرج في الصحيحين فيكون سببا للترجيح بالنسبة إلينا، لكن فقط إذا لم يتميز الحديث الذي انفرد به أحدهما بخصائص أخرى، فعندئذ يقدم على المتفق عليه كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه النكت الذي حققه الأستاذ لنيل درجة الدكتوراه.
والغريب أن الأستاذ يجعل من قال فيه الحافظ (صدوق) ومن قال فيه (صدوق يخطىء) في مرتبة واحدة، ليعدهما من أهل القسم الثاني عند مسلم. وهذا غير صحيح؛ لأن الذي قيل فيه (صدوق يخطئ) يعد ضعيفا، أو أقرب إلى الضعيف وإن لم يكن ضعيفا. وأما الأول فمن قسم الثقات عند مسلم بلا شك.
ومع كون حديث أبي هريرة متميزا بعلو الإسناد الذي لم أكتمه في (العبقرية) ولا في مسودته، فإن حديث عائشة أشهر مع علو الإسناد. ومن المعلوم أن العلو له اعتبارات كثيرة ، كثير منها لا يعرفها إلا المحدثون الحفاظ.
ثم قول الأستاذ بتسلسل حديث يوسف بن ماهك بالعراقيين لم يكن إلا من ذر الرماد في عيون القراء، لأنه في الواقع إسناد مكي ثم بصري ثم واسطي ثم مصري وبصري كما شرحنا في العبقرية، فهل هذا يكون أفضل، أو الحديث الذي رواه مسلم بإسناد مدني ثم مصري؟!
هذا وقد أنكر علي الأستاذ تقديم إسناد مسلسل بالكوفيين على إسناد فيه راو مدني ولم يكن مسلسلا بالمدنيين، فإذا هو يفضل هنا ما رواه العراقيون على ما رواه المدنيون ؟!
تناقض عجيب !
هذا ولم أنكر شهرة حديث عبد الله بن عمرو ، لقد قلت في العبقرية :
’’ أما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخذه عنه أبو يحيى الأعرج ويوسف بن ماهك ، وهما حجازيان لكن الحديث لم يشتهر عنهما شهرة حديث عائشة ؛ إذ روى عن أبي يحيى الأعرج المدني هلال بن يساف الكوفي ، وكذا حديث يوسف بن ماهك الذي شاركه أبو يحيى الأعرج فقد سمعه منه أبو بشر البصري. بيد أن حديث عبد الله بن عمرو اشتهر في الطبقات المتأخرة .. ..‘‘(2/29)
وقوله ’’ فحديث عبد الله بن عمرو يمتاز على حديث عائشة بالصحة ثم الشهرة ثم العلو، ولو كان الإمام مسلم يلتزم بالترتيب على حسب مزايا الطبقتين اللتين شرط الإخراج عنهما لقدم حديث عبد الله بن عمرو على حديث عائشة‘‘(1)
أقول: إن الحديث صحيح من جميع الطرق التي ذكرها مسلم في هذا الباب، إلا ما يخص رواية عمر بن يونس عن عكرمة عن يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن سالم عن عائشة، الذي أعله النقاد وقالوا بخطأ ذكر أبي سلمة في الإسناد ، وجعله الخطيب البغدادي مثالا للمزيد في متصل الأسانيد،(2)يعني إقحام ذكر أبي سلمة في الإسناد، إذ سمعه يحيى من سالم.
والخلاصة أن جميع الروايات مشهورة، لكن شهرة حديث عائشة بدأت في الطبقات المتقدمة والمتأخرة وبين أهل المدينة أيضا، وأما حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة فاشتهر في الطبقات المتأخرة، ولم يشتهر في المدينة ولا في مكة كما اشتهر حديث عائشة. وهذا هو الفرق العلمي الذي يبرز في المفاضلة بين هذه الأحاديث الصحيحة المشهورة.
وكلام الأستاذ يوهم أن حديث عائشة لم يكن صحيحا، ولم يكن مشهورا ولا عاليا، بناء على أحوال الرواة، فهذه مجازفة واضحة.
ثم تحدث الأستاذ عن حديث عائشة بالأسلوب نفسه فقال:
’’ وأما حديث أبي هريرة فهو أشهر وأذكر وأصح من حديث عائشة ( رضي الله عنها) فقد رواه عنه الثقة الثبت محمد بن زياد الجمحي المدني ثم البصري، والإمام الثقة : عطاء بن أبي رباح المكي رواه عنه موقوفا، والثقة الثبت ذكوان بن صالح السمان.
ولقد اشتهر هذا الحديث وذاع على أيدي هؤلاء الأئمة في المدينة ومكة وخارجهما أكثر بكثير من شهرة حديث عائشة. ثم بعد أن اشتهر في المدينة ومكة طار به محمد بن زياد إلى البصرة فاشتهر وذاع بها.
__________
(1) التنكيل ص : 239-238
(2) - انظر كتاب موضح أوهام الجمع والتفريق 1/285(2/30)
وممن رواه عن محمد بن زياد من أئمة البصرة الإمام شعبة الواسطي ثم البصري ، والإمام حماد بن سلمة ، والثقة الربيع بن مسلم البصري ، والإمام معمر بن راشد البصري، ثم طار به إلى اليمن فحدث به عبد الرزاق وغيره، ثم شاع هذا الحديث واشتهر في البلدان‘‘اهـ(1)
أقول : هذا من مجازفات الأستاذ ، يحكي من خياله. أين رواية المدنيين والمكيين حتى يزعم أن حديث أبي هريرة اشتهر وذاع في المدينة ومكة وخارجهما أكثر بكثير من شهرة حديث عائشة، ثم طار به محمد بن زياد إلى البصرة فاشتهر وذاع بها؟!.
ينبغي أن نكون واقعيين، نعم اشتهر حديث أبي هريرة في البصرة وواسط واليمن وعليه تدل رواية كبار الأئمة في هذه البلاد ، وهو أمر مسلم لا نختلف فيه مع الأستاذ ، وقد ذكرت ذلك في العبقرية.
وأما اشتهاره في المدينة ومكة في عصر محمد بن زياد وبعده فمما يحلم به الأستاذ. وإلا فأين رواية المدنيين والمكيين؟! ولم يوجد سوى رواية عطاء موقوفة على أبي هريرة، انفرد بها عبد الرزاق عن ابن جريج عنه. هل يدل هذا على أنه اشتهر في مكة؟! إذن الأستاذ لا يفرق بين الغريب والمشهور!
انظر إلى المصنف ترى عبد الرزاق يحكي(2)عن ابن جريج أنه قال: قلت لعطاء: لم لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس، وقد قالهما جميعا. قال: لا أراه إلا مسح الرأس وغسل القدمين، إني سمعت أبا هريرة يقول: ويل للأعقاب من النار، قال عطاء: وإن أناسا ليقولون هو المسح ، وأما أنا فأغسلهما‘‘.
ألا يدل هذا النص على عدم شهرة حديث أبي هريرة في مكة ؟!.
وأنت إذا تتبعت مصادر الحديث لن تجد فيها ما يثبت شهرة الحديث في المدينة ومكة.
__________
(1) - ص: 239 – 240 من (التنكيل) = ظلمات الأكاذيب والأباطيل
(2) - مصنف عبد الرزاق 1/20(2/31)
ولو كان الأمر كما زعم الأستاذ ما أهمل مسلم رواية حديث أبي هريرة في صدر الباب . بينما نجد حديث عائشة قد تناقله المدنيون، فكل من أخذ عن سالم مدنيون ثم اشتهر حديث كل منهم في بلاد شتى كما شرحنا ذلك في (العبقرية) .
وجدنا عند ابن عبد البر ما يسر به الأستاذ ، وهو قوله : ’’وأصح حديث في هذا الباب من جهة الإسناد حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وحديث عبد الله بن عمرو ثم حديث عائشة فهو مدني حسن‘‘.(1)
لكن فيه ما يدل على أن الأصحية ليست مطلقة، إذ قيدها ابن عبد البر بقوله ’’من جهة الإسناد‘‘. يعني من حيث أحوال الرواة. والأمر كذلك. لكن نحن بصدد تقديم الحديث من حيث الرواية وليس من حيث الإسناد والرواة فقط.
واستمر الأستاذ يحكي من خياله:
’’وأما حديث عطاء بن أبي رباح فقد أشاعه عطاء، ولا يبعد أن يكون قد اشتهر عن طريقه في بلدان العالم الإسلامي؛ لأن مكة مهوى قلوب الناس ، وهو إمام شهير ومفت كبير يرتاده الناس لمكانته وفضله؛ فلا يبعد أن يكون أشاعه فيهم وشهره بينهم ‘‘
هذا المنطق نرفضه تماما، وليس هذا من آداب الحوار، بل ينبغي أن نبني الأمور على الأدلة الملموسة، وأما بناؤها على الخيال فيعد تلاعبا بالحوار .
وقوله: ’’ وأما حديث أبي صالح فقد أخذه عنه ابنه سهيل المدني، وأخذه عنه الأئمة الأعلام ، منهم الإمام معمر بن راشد البصري، والإمام وهيب بن خالد البصري، والإمام جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، والثقة عبد العزيز بن المختار البصري، والصدوق عبد العزيز بن محمد الدراوردي المدني. فأشاعه هؤلاء المذكورون في البلدان في المدينة والبصرة والكوفة .
__________
(1) - التمهيد 24/248(2/32)
فأشاعه هؤلاء الأئمة المؤلفون في دواوينهم العظيمة عن رجال من المشرق مثل قتيبة بن سعيد البغلاني وزهير بن حرب النسائي وأحمد بن حنبل البغدادي، ومحمد بن إسحاق النيسابوري، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، والإمام محمد بن عيسى الترمذي.
وهذا الحديث على مذهب المليباري يتمتع بكثير من الخصائص الإسنادية: فطريق محمد بن سلام الجمحي فيه خصيصة العلو؛ إذ يصل مسلم إلى أبي هريرة بثلاثة فقط، وهم:
عبد الرحمن بن سلام عن الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، وهو مسلسل بالبصريين، إذ هؤلاء كلهم بصريون ومحمد بن زياد مدني بصري.
والطريق الثاني لحديث أبي هريرة يمتاز بمزايا كبيرة منها :
1 - العلو : فإن الإمام مسلما يصل إلى أبي هريرة بأربعة فقط شيوخ مسلم ثم وكيع ثم شعبة ثم محمد بن زياد عن أبي هريرة . أما حديث عائشة فلا يصل إليها إلا بخمسة في بعض الطرق وفي بعضها لا يصل إلا بستة .
2 – ومنها أن رجال هذين الطريقين من الطبقة الأولى عند مسلم .
3 – ومنها أن طريق شعبة عن محمد بن زياد متفق عليه .
فلماذا أخفى المليباري كل هذه المزايا لحديث أبي هريرة ولحديث عبد الله بن عمرو ، وذهب ينتحل مزايا لحديث عائشة لا لأجل أنه حديث عائشة ولا لتفوقه فعلا على حديث ابن عمرو وأبي هريرة وإنما لنصرة هواه‘‘ اهـ .
أقول: لا يمل الأستاذ من الكذب على خصمه ويموه بما يوهم القارىء أنه على حق بين. والواقع أنني ذكرت هذه المزايا لحديث أبي هريرة، أثناء بيان ترتيب مسلم لرواياته، ولم أخفها كما افترى علي الأستاذ.
أما الترتيب فكما قلت في العبقرية إنما يكون أولا بين حديث عائشة وحديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة. وليس بين طريق لحديث وأخرى لحديث آخر.
كي يكون القارئ على بينة واضحة من أن حديث عائشة أكثر شهرة من حديث
عبد الله بن عمرو وحديث أبي هريرة أرسم هنا شجرة جميع أسانيد أحاديثهم حسب ما وقفنا عليه عند التخريج .
سلمة(2/33)
موقوفا موقوفا موقوفا
المثال السابع ، ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
روى الإمام مسلم حديث (لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) عن ابن عمر أولا ، وأبي هريرة ثانيا. هذا الحديث من الأحاديث التي اختارها الأستاذ لدراستها من جديد ليرد علي نتائج دراستي حول تلك الأحاديث، التي تتمثل في تجلية الغموض حول منهج مسلم في ترتيب الأحاديث في الصحيح كما وعد مسلم في المقدمة، وكما فهمه العلماء منذ القاضي عياض إلى يومنا هذا.
غير أن الذي اكتشفناه من خلال الحوار أن هناك مشكلة منهجية واضحة، تشكل تباينا حقيقيا بين دراسة الأستاذ للأحاديث وبين منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل والترجيح. حيث ينظر الأستاذ في الأحاديث من زاوية ضيقة ومحددة، وهي أحوال الرواة ومراتبهم في سلم الجرح والتعديل كما في التقريب.
وأما النقاد فنظرهم دائما يكون في مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة إلى جانب عدالة الراوي واتصال السند، وكلما يكون الحديث أكثر استيفاء لما يضمن لهم ذلك من الشروط والخصائص والمزايا يكون الحديث أصح وأقوى.
هذا الذي فهمنا من قول الإمام مسلم:’’أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى‘‘.
لكن الأستاذ ينظر من زاوية أحوال الرواة فوجد حديث أبي هريرة أصح .
يقول:
’’إن حديث أبي هريرة أصح من حديث ابن عمر‘‘.
بينما يقول الترمذي:
حديث ابن عمر أصح وأحسن من حديث أبي هريرة. هذا وقد وافقه عمليا الإمام مسلم؛ حين قدم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة.
كيف يمكن أن يفهم الأستاذ دقة الإمام الترمذي في هذا الترجيح إذا كان الأستاذ معلقا على كتاب التقريب، ويجعله أساسألمعرفة درجات الحديث ؟!
لذا لم يجد الأستاذ هنا بعد دراسته إلا الأمور الآتية:
1 - رواة حديث أبي هريرة ثقات من الدرجة الأولى.
2 - حديث ابن عمر فيه سماك، وهو متكلم فيه.
3 - حديث أبي هريرة متفق عليه.(2/34)
ثم وجد المباركفوري والشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني – رحمهم الله تعالى - يقولون القول ذاته.
أقوال هؤلاء العلماء – مع كونهم محترمين ومقدرين لدينا – لا تكون حجة على النقاد،(1)وسبب ذلك واضح ومنهجي، وهو أن هؤلاء الأئمة نظروا إلى ظاهر السند، كما نظر الأستاذ.
لكي يتضح الأمر أكثر نسجل فيما يأتي تفاصيل الحوار حول هذا الحديث .
قلت له:
’’إن الترمذي قال إن حديث ابن عمر أصح في هذا الباب وأحسن، وهذا يؤيد تقديم مسلم لحديث ابن عمر على حديث أبي هريرة‘‘.(2)
قال الأستاذ :
__________
(1) - قال الحافظ ابن كثير:
’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘(اختصار علوم الحديث ص: 79)
وقال الحافظ ابن حجر:
’’ ... فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيىل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث‘‘( النكت 2/711).
ونقل السخاوي عن العلائي قوله:
’’فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدألما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح‘‘ . ( فتح المغيث 1/237)
(2) - العبقرية ص: 148، ملاحظة: ورد في كتاب العبقرية نقل عن الترمذي قوله ’’وحديث أبي هريرة حسن صحيح غريب ‘‘ . وحين أعدت النظر في السنن فلم أجد له أثرا، ولا أدري من أي مصدر نقلته. لذا أحببت أن أشطب عليه هنا في هذا الكتاب .(2/35)
’’إن تعلقه ( حمزة المليباري) بكلام الإمام الترمذي مشوب بهوى وغرض باطل(1). وفي قول الترمذي نظر، فهو معذور مأجور فيما قال، وليس كذلك المليباري صاحب الهوى والبغي والتطاول بالباطل(2):
فحديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أصح وأشهر من حديث ابن عمر (رضي الله عنهما)، ودعك تهاويل هذا الذي يردد بغباء ألفاظ ( الدقيقة)، و( الدقة) و (العلمية)، و(الدراسة النزيهة ) - جعدعة من غير طحن - .
وذلك لأن حديث أبي هريرة متفق عليه، ورجاله من الطبقة الأولى، وهاتان ميزتان عظيمتان لا توجدان في حديث سماك‘‘.اهـ(3)
أقول: إن الأستاذ لم يقدم دليلا كافيا ليبرهن على خطأ الإمام الترمذي في قوله بأصحية حديث ابن عمر، موافقا لرأي الإمام مسلم ، حين قدمه على حديث أبي هريرة .
__________
(1) - اتق الله يا رجل .
(2) - هذه ثقافة الأستاذ ، سجلها الأستاذ بقلمه للأجيال ! ومن هو حتى يحاسب الأحياء والأموات ثم يصدر الأحكام فيهم ! ألم يقرأ قول الله تعالى: + يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم،ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" .
والغريب : أنه لا يعرفني شخصيا، لا بالمجالسة ولا بالاتصال المباشر، حتى إنه لم يرني ، ولم يكن بيني وبينه صلة علمية ولا دنيوية، إلا هذا الحوار الوحيد عن طريق المراسلة غير المباشرة. إذن كيف يعيرني بهذه الألفاظ النابية : صاحب الهوى والبغي والتطاول بالباطل .
لا تحقرن غريبا كي تجربه فرب محتقر يغني غناه فيه
أين هذا الأسلوب من ثقافة الإسلام الذي يعلمنا الصبر والتحمل ، وأن لا نتحدث في حال الغضب ، وأن لا نتهم بعضنا بعضا بالهوى والبغي وعدم الإخلاص وسوء النية دون دليل ملموس، ولماذا لا نتعظ بما قال النبي
صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد: (أفلا شققت عن قلبه ؟!)
(3) - ص: 245 – 246 من التنكيل(2/36)
وأما ما قاله فليس دليلا معقولا في رفض قول الإمام الترمذي. لأن كون الحديث متفقا عليه إنما هو بالنسبة إلينا. ثم إن هذا المصطلح لم يظهر إلا بعد أن صار اعتماد الناس في التصحيح والتضعيف على النقاد وعلى كتبهم وصحاحهم ، على أن الترجيح بذلك غير مطرد أيضا كما قال الحافظ ابن حجر.
وأما الأمر الثاني فكون الرواة من الطبقة الأولى فكما سبق أن قلت أكثر من مرة : إن التصحيح والتضعيف والتحسين والترجيح لم يكن تابعا لأحوال الرواة ، كما قرره الحافظ ابن حجر. بل تابع لمدى خلو الحديث من شذوذ وعلة إلى جانب عدالة الرواة واتصال السند. وكلما يكون أبعد عن شذوذ وعلة فهو أصح، وليس بشرط أن يكون الرواي في قمة الدرجة الأولى .
ثم إن سماك بن حرب من الدرجة الأولى من الرواة عند مسلم، كان يحتج بأحاديثه ويذكرها في الأصول، وليس من رجال القسم الثاني، قسم الضعفاء، وقد سبق في كتاب (العبقرية) ما يدل على ذلك بجلاء .
ثم إننا قد أوضحنا سبب تقديم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة، وهو أن حديث ابن عمر أصح لشهرته بين الثقات الأجلاء، وليس بناء على أن سماكا أفضل من معمر أو من همام .
فأين في رواية حديث أبي هريرة عدد الثقات الأجلاء الذين اشتركوا في رواية حديث ابن عمر؟!. وحديث أبي هريرة الذي أورده مسلم مما تفرد به همام عن أبي هريرة، ثم تفرد عن همام معمر ثم عن معمر عبد الرزاق، وعنه اشتهر الحديث. أما حديث ابن عمر فقد اشتهر عن سماك برواية المشاهير من الثقات.
يقول الحافظ ابن حجر(1): ’’لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح، لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني ووجودها في الأول، أو كثرة المتابعات وتوافرها على الثاني دون الأول ‘‘.
__________
(1) - النكت 1/247 – 248(2/37)
قلت له: ’’والذي ينظر إلى ظاهر الإسناد يتخيل أن حديث أبي هريرة هو الأصح لكونه متفقا عليه، وأن رواته كلهم ثقات. لهذا اعترض على الإمام الترمذي كل من المباركفوري والشيخ أحمد شاكر ( رحمهما الله ) ‘‘(1)
قال الأستاذ :
’’وهذا الذي قالوه لا ينازع فيه إلا أهل الأهواء من أمثال الكوثري الذين لا يرون للصحيحين ميزة على غيرهما؛ ولا يبعد أن يكون المليباري من هذا الصنف، وقد نازع أحمد شاكر والمباركفوري؛ ولو عرف قدر نفسه لما اعترض عليهما، لا سيما وهو مبطل‘‘.
أقول: لو كان الأستاذ منصفا ومنهجيا في الحوار لاستفاد القراء من كلامه. أما وهو في هذا الأسلوب المتمثل في إطلاق الدعوى ورمي التهم فإنه يكون قد منع القراء من الاستفادة مما عنده من العلم.
ثم إن الغريب أنه لا يرى في منازعته إماما من أئمة النقد، وهو الترمذي، شيئا من الخطورة، وفي الوقت ذاته يرى الخطورة كلها في منازعتي المباركفوري وأحمد شاكر؟!
فما تعليق الأستاذ على تقديم الحافظ ابن حجر ما انفرد به أحد الشيخين على ما اتفقا عليه لسبب علمي؟! أفيكون الحافظ بذلك التقديم من أهل الأهواء الذين لا يرون للصحيحين ميزة ؟! لماذا ينزلق الأستاذ دائما هذا الانزلاق الغريب عند النقاش؟!
قلت له: ’’وهذه الخصائص الإسنادية هي التي تتبلور عند الموازنة بين الحديثين؛ إذ ما رواه ابن عمر اشتهر من طريق سماك بن حرب، فقد رواه عن سماك أبو عوانة وشعبة وزائدة وإسرائيل وغيرهم من الكوفيين والأجانب‘‘.
قال الأستاذ: ’’أين هي الموازنة المزعومة ؟! الجواب : لا شيء وإن كان فهو الباطل . من هم هذا الغير من الكوفيين ومن هم الأجانب‘‘؟!
__________
(1) - العبقرية ص: 149(2/38)
أقول: إن الموازنة بين الروايات - كما رأيت - كانت علمية ومنهجية تتبين من خلالها دقة الإمام الترمذي ومسلم في ترجيح وتقديم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة. أما الرواة من الكوفيين والأجانب ، فأعني بالأجانب غير الكوفيين؛ كشعبة وأبي عوانة الواسطيين وإبراهيم بن طهمان الخراساني ممن رووا عن سماك حديث ابن عمر.
قلت: ’’إن حديث أبي هريرة صحيفة معروفة تفرد بها عن أبي هريرة همام بن منبه ، وتفرد بروايتها عنه معمر ، وتفرد عنه عبد الرزاق ثم اشتهر عنه الحديث(1)‘‘
قال: ’’إن الحديث ليس هو الصحيفة؛ وهذا الحديث لم يتفرد به همام عن أبي هريرة، فقد رواه عن أبي هريرة : محمد بن سيرين ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ويحيى بن
عبيد الله عن أبيه، والوليد بن رباح. فهؤلاء مع همام بن منبه خمسة رووا هذا الحديث عن أبي هريرة؛ وعليه فإن الحديث اشتهر عن أبي هريرة ، وليس بغريب أصلا.
أما حديث ابن عمر فإنه طرأت عليه الشهرة من بعد سماك بن حرب فهو في الأصل غريب ثم طرأت عليه الشهرة .
فماذا يقول الآن صاحب الدراسة العلمية العميقة الدقيقة ؟! ألم ينقلب عليه الأمر رأسا على عقب‘‘.اهـ
أقول: هذا الكلام بهذا الأسلوب يكفي لذر الرماد في عيون القراء، ولتمويه دعاويه الباطلة بما يوهم أنها حق وصواب، فإن كثيرا من القراء لا يتوفر لديهم وقت كاف لتدقيق ما يقرؤونه، ومعرفة حقيقة هذه الروايات، فيصدقون ما يقوله الأستاذ.
الواقع أن هذه الدراسة ونتائجها ستؤدي لا محالة إلى طمس معالم النقد عند المحدثين أمام الجيل القادم من الباحثين، وتلغي كثيرا من مصطلحات علوم الحديث وقواعدها، سواء شعر الأستاذ بذلك أو لا.
__________
(1) - يسأل الأستاذ: كيف تقول (معروفة) ثم تقول : (تفرد بها همام) ؟!. المعنى: الصحيفة معروفة برواية
عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة ، ولا يعرفها الناس إلا بهذا السند. وأين وجه السؤال إذن؟! لأن الشيء الغريب يكون معروفا بين الناس بغرابته.(2/39)
كما أنها تؤكد مصداقية قول العلماء بضرورة تسليم الأمور النقدية في مجال الحديث لنقاد الحديث، وهم في ذلك كما قال الشاعر:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
وأود أن أستغل انزلاقات الأستاذ في فهمه لقضايا نقد الحديث، وأستخدم أوهامه وأخطاءه كنماذج حية، لإفهام الشباب منهج المحدثين النقاد في نقدهم، ودقتهم المتناهية في التصحيح والتضعيف والتحسين والترجيح، وأسباب تلك الأخطاء، ليأخذوا تصورهم الصحيح حول قواعد علوم الحديث ومنهج المحدثين النقاد في تطبيقها عند النقد، بعيدا عن جميع أسباب الشبهات التي أدت إلى وقوع الأستاذ في أخطائه، حتى لا يعترض على نقاد الحديث بظواهر السند التي قد تكون بخلاف ما وصل إليه نظرهم من الأحكام. ولا أريد استغلال ذلك للقدح والطعن في شخصية الأستاذ .
وشأن هذا الحديث شأن كثير من الأحاديث الصحيحة التي حكم النقاد بغرابتها مع وجود روايات شاذة غير ثابتة؛ مثل حديث (إنما الأعمال بالنيات)، اتفق النقاد على تفرد يحيى بن سعيد به عن محمد، وتفرد محمد عن شيخه علقمة، وتفرد علقمة عن شيخه عمر، مع أنه مروي من حديث أنس وحديث أبي هريرة؛ ذلك لأن هذه الروايات غير ثابتة، بل عبارة عن أوهام بعض الرواة، ولا يعترض بمثل هذه الروايات الشاذة على قول النقاد بالتفرد، كما لا يعترض عليهم بما ورد عن عبد العزيز عن محمد بن عمرو عن علقمة عن عمر، فإنه غير محفوظ عن محمد بن عمرو.
وأغرب من ذلك أن الحافظ السيوطي جعل حديث عمر (إنما الأعمال بالنيات) من الأحاديث المتواترة. والشيخ المدخلي يكفيه مثل هذا ليرد على النقاد قولهم بالتفرد، ويتهم خصمه بتقديس النقاد ، إذا قبل قولهم ورفض قوله!!.(2/40)
وأما ما أورده الأستاذ من الروايات لينفي الغرابة عن حديث أبي هريرة، فمن أوهامه؛ ذلك لأن حديث ابن سيرين عن أبي هريرة غير ثابت، بل قال الإمام ابن عدي في الكامل بعد أن أورده في ترجمة أحمد بن محمد بن حرب: حدثنا الترجماني حدثنا هقل بن زياد عن الأوزاعي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)، قال (رحمه الله):’’وهذا أيضا باطل بهذا الإسناد‘‘، ثم أنهى ترجمته بقوله: ’’وكان أحمد بن محمد يحدث مثل هذه البواطيل التي ذكرت بعضها‘‘.(1)
وله طريق آخر، وهو ما رواه أبو عوانة من طريق هقل عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، رواته كلهم ثقات، لكن جاء عن عبد الرزاق أنه روى عن هشام بن حسان عن الحسن قولا له(2).
ولم أجد في حدود تتبعي رواية هقل هذه عند أحد من أصحاب المصنفات غير أبي عوانة.( والله أعلم)
وأما رواية أبي سلمة عن أبي هريرة فغير ثابتة أيضا؛ لأنها مما تفرد به غسان بن عبيد الموصلي، يقول ابن خزيمة عن إسناد هذا الحديث : ’’ غريب الإسناد‘‘(3). لذا أورده ابن عدي في ترجمة غسان بن عبيد في الكامل، وكذا الذهبي في ميزان الاعتدال(4), والحافظ ابن حجر في لسان الميزان(5).
مما قاله ابن عدي : ’’وهذا لا أعلم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا غسان بن عبيد عن عكرمة عن يحيى بن كثير عن أبي سلمة، وروي عن أبي حذيفة عن عكرمة مرفوعا أيضا، وغيرهما أوقفوه على أبي هريرة ، ولغسان غير ما ذكرت من الحديث، والضعف على حديثه بين‘‘ .(6)
__________
(1) - ابن عدي في الكامل 1/201
(2) - مصنف عبد الرزاق 5/244
(3) - ابن خزيمة 1/8
(4) - 5/404
(5) - 4/418
(6) - الكامل 6/8(2/41)
وقال: ’’وكذأروى عبد العزيز بن عبد الله القرشي بصري يكنى أبا وهب ثنا عون بن حيان عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل صدقة من غلول ولا صلاة بغير طهور. ولعون بن حيان عشرون حديثا بأسانيد مختلفة‘‘.(1)
وأما حديث الوليد بن رباح فتفرد به كثير بن زيد عنه عن أبي هريرة، وكثير بن زيد ضعيف تفرد به. يقول العقيلي: ’’ وقد روى هذا الحديث سليمان بن بلال وابن أبي حاتم وغيرهما عن كثير بن زيد عن وليد بن رباح عن أبي هريرة، وهذا أصلح من حديث عكرمة، ثم أشار إلى رواية سماك وقتادة .(2)
ورواية يحيى بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة نسخة، وهي مناكير .(3)
وفي ضوء هذه الحقائق فقول الأستاذ ’’إن الحديث اشتهر عن أبي هريرة وليس بغريب أصلا‘‘ باطل مرفوض(4)، بل يبقى حديث أبي هريرة صحيحا غريبا.
قلت له: ولا يختلف اثنان أن الحديث الذي اشتهر برواية الأئمة المعروفين أولى من غيره.
قال الأستاذ: ’’هذا يصدق على حديث أبي هريرة مع اتفاق الشيخين على تخريجه ، لو كان مسلم يلتزم ما قلته‘‘.
أقول: لا ينبغي إرسال الكلام على عواهنه، والأستاذ لم يثبت شهرة حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عنه، وعليه أن يتذكر أن الذي قدم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة، هو مسلم ثم وافقه الترمذي؛ حين صرح بقوله ’’حديث ابن عمر في هذا الباب أصح وأحسن‘‘ .
قلت له : اتفاق الشيخين على رواية الحديث لا يخرجه من غرابته .
__________
(1) - المصدر السابق 5/293
(2) - العقيلي 3/378 ، وليس معنى قوله : هذا أصلح من حديث عكرمة ، أنه صحيح . وإنما هو أقل ضعفا منه .
(3) - كتاب الضعفاء 1/161، الضعفاء للعقيلي 4/415 ، والكامل لابن عدي 7/250
(4) - انظر المحور السادس من القسم الأول(2/42)
قال الأستاذ: ’’أتهدر ميزة الاتفاق عليه المعتبرة عند أئمة الحديث، وتهدر ميزته العظيمة، ألا وهي تلقي الأمة له بالقبول ؟! وهذا التلقي وحده أقوى من مجرد كثرة الطرق كما قال الحافظ ابن حجر(1)، والذي يوافقه عليه كل عاقل منصف من أهل الحديث وغيرهم‘‘ .
أقول: تلقي الأمة بالقبول شامل لأحاديث مسلم أيضا، ولا مجال لإثارة هذا القول ونحن في معرفة وجه التفاضل بين الأحاديث الصحيحة، الذي أعلنه الترمذي وطبقه مسلم في صحيحه، ولا أحد هنا أهدر ميزة الاتفاق عليه، ولا ميزة تلقي الأمة له بالقبول. وإنما جاء الترجيح من قبل النقاد وليس مني، وما عملته هنا هو بيان مصداقية هذا الترجيح في ضوء الأدلة.
ولا معنى لقول الأستاذ الفاضل ’’ وهذا التلقي وحده أقوى من مجرد كثرة الطرق ‘‘، لأن حديث ابن عمر تلقته الأمة بالقبول أيضا.
يقول الحافظ ابن حجر:
’’ قد يكون في ذلك الجانب أيضا قوة من جهة أخرى، وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة، فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي ، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فردا غريبا فيكون ذلك أقوى منه‘‘.
هل هذا يعني عند الأستاذ أن الحافظ أهدر ميزة اتفاق البخاري ومسلم، وميزة تلقي الأمة لهما بالقبول ؟!
ولما قلت له: فقدم الإمام مسلم حديث ابن عمر وصدر به الباب لأنه مشهور ، وأخر حديث أبي هريرة لأنه غريب، وهو الترتيب العلمي الذي تميَّز به صحيح مسلم عن صحيح البخاري.
__________
(1) - الأستاذ لم يذكر مصدر هذا القول ، وقد اتهمني به .(2/43)
قال: ’’انظر كيف يتعلق بالشهرة ولو كانت مفتعلة، ويقدمها على الصفات المعتبرة عند أهل الحديث من كون الحديث جاء من أصح الطرق حفظا وإتقانا وضبطا. ولو كان في الطريق التي يدعي لها الشهرة من هو متكلم فيه ومن الدرجة الثانية، وإن كان قد خاب أمله وتحطم باطله من دعواه أنه لا يؤخر مسلم إلا ما فيه علة(1). ثم قد عرفت أن الشهرة الحقيقية من أول الإسناد إنما هي لحديث أبي هريرة ‘‘.
أقول: دع القارئ يفهم الحقيقة العلمية بكل حرية وصفاء ووضوح، وتكلم بما لديك من العلم بأدب واحترام، وأما الخزعبلات والترهات فلا قيمة لها في الحوار العلمي، ونحن مؤمنون بأن الله تعالى وحده يعلم السر وأخفى، وأن الحق والصواب لا يتعطلان بتلبيس ولا بتمويه ولا بإرهاب، بل سيظهران وبقوة، بإذن الله تعالى، إما عاجلا أو آجلا.
+ وقل جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا" .
وأما ما أثاره الأستاذ من الشهرة الحقيقية - سواء من أول السند إلى آخره أو من مدار الروايات إلى عصر المؤلفين - فلا تتحقق بالدعاوى الفارغة، ولا بالترهيب ولا بالروايات الغريبة والشاذة والمنكرة. وما جلبه الأستاذ هنا للبرهنة على شهرة حديث أبي هريرة كله منكر شاذ، ولا يعرف شيء منه إلا بإسناد واحد.
لقد ظهر لنا من خلال ما سبق أن الأستاذ الفاضل جمع الروايات الغريبة والمنكرة، ليزعم أن الشهرة الحقيقية إنما هي لحديث أبي هريرة، وليست لحديث ابن عمر، والواقع أن غرابة كل إسناد لا تتحول إلى شهرة.
والشهرة الحقيقية إنما هي أن تتعدد الطرق عن كل واحد من الرواة، إما من أول السند إلى آخره، أو من مدار الروايات إلى عصر المؤلفين، كما رأيت لسماك حيث أخذ عنه كبار الحفاظ، ثم اشتهر عن كل واحد منهم.
__________
(1) - هذا من أمنية الأستاذ يحاول أن يقنع القارئ بأسلوبه في التلبيس دون دليل .(2/44)
وما زعمه الأستاذ في ضوء تصوره العجيب من شهرة حديث أبي هريرة فمزيف وليس بحقيقي؛ فإنه أتى برواية ابن سيرين وهي لم تعرف إلا بإسناد واحد من أول السند إلى أبي عوانة.
ثم أتى الأستاذ برواية أبي سلمة، وهي أيضا لا تعرف إلا بإسناد واحد، ثم أتى برواية يحيى بن عبيد الله، وهي غريبة بل منكرة أيضا. وأخيرا أتى برواية الوليد بن رباح، وهي أيضألم تعرف إلا بإسناد واحد، تفرد به كثير بن زيد عن شيخه .
ومن المضحك المبكي أن يدعي الأستاذ أن الشهرة التي رأيناها برواية الحفاظ الثقات عن سماك بن حرب عن مصعب عن ابن عمر هي مفتعلة، وأن الشهرة الحقيقية لحديث أبي هريرة الذي تبينت لنا بجلاء غرابته.
إن سماك بن حرب ثقة من أهل القسم الأول لدى الإمام مسلم ، وأما من تكلم فيه فإنما هو لسبب اختلاطه الذي وقع في آخر عمره، وخاصة في روايته عن عكرمة. وليس له أي أثر هنا في هذا الحديث؛ لأنه رواه قبل اختلاطه، وعن غير عكرمة. هكذا ينبغي أن يكون الباحث حكيما متزنا يزن الأمور بميزانها الحقيقي، ويترك ما فيه خلل، ويأخذ ما سلم منه، وينزل الناس في منازلهم. وليس بظاهر ماقيل فيه من الاختلاط، ثم يعمم ذلك في جميع شيوخه ومروياته، وهذا ظلم حقيقي للرواة.
وعلى كل فالنتيجة التي نخرج بها في نهاية هذا الحوار هي أن الإمام مسلما قام بترتيب الروايات التي أوردها، فقدم الأصح فالأصح .
ثم دخل الأستاذ في مثال آخر بعنوان ساخر ، وهو (بيان بعض من تلاعب المليباري).
المثال الثامن، ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في الصحيح
الأستاذ كعادته لا يهمه إلا أن يشاغب بأحوال الرواة ومراتبهم في الجرح والتعديل، بحيث يسيء التعامل معها، كما يسيء الأدب مع خصمه في الحوار، وينغمس في الدعاوى الفارغة القديمة، ولا أريد أن أرد عليها وأتركه يعمه في أسلوبه الجاهلي، من شتم وسب واستهزاء وإيذاء واستخدام ألفاظ نابية لا تليق بأهل العلم.(2/45)
وأنا واثق تماما بأن الحق سينجلي، - إما عاجلا أو آجلا – فعلينا الصبر، ونسأل الله تعالى أن يكرمنا بالصبر والإخلاص .
الحديث هو (لا ينظرالله إلى من جر ثوبه خيلاء) رواه مسلم بأنظف أسانيده وأعلاها وأتى بروايات كثيرة وكلها صحيحة منسقة تنسيقا علميا يتبلور من خلاله ما تتميز به كل رواية، من الخصائص الإسنادية؛ كالعلو والشهرة .
قلت له بهذا الخصوص(1): أورد مسلم هنا في باب (تحريم جر الثوب خيلاء)، من كتاب اللباس (14/60 – 63) اثني عشر حديثا، معظمها عن ابن عمر، والباقي عن أبي هريرة ، وكلها مرتبة بحسب القوة والسلامة؛ فذكر حديث ابن عمر أولا، وثنى بحديث أبي هريرة ؛ لأن حديث ابن عمر أشهر من حديث أبي هريرة، كما يبدو ذلك جليا من التخريج، مع كونه عاليا، إذ إن الرواة في حديث ابن عمر أربعة.
وذكر مسلم حديث ابن عمر من عدة طرق، وهي كلها مرتبة، فقد قدم طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم جميعهم عن ابن عمر، على غيره لعلوه وشهرة رواية نافع، وجلالة مالك، ثم أتبعها برواية (عبيد الله بن عمر)(2)وعبد الله بن نمير وأبي أسامة وأيوب والليث لأن هؤلاء كلهم دون مالك ، ومن هنا تعرف شهرة حديث نافع دون غيره .
ثم ذكر مسلم رواية مسلم بن يناق، فرواية مسلم بن يسار، وبعدهما حديث عبد الله بن واقد لأن هؤلاء جميعا دون مالك في حديث نافع.
ومن هنا قدم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة، وحديث نافع على غيره من أصحاب ابن عمر، وحديث مالك على غيره من أصحاب نافع، فأصبحت هذه الطرق كلها مرتبة بتقديم الأصح فالأصح، واتضح بطلان القول: بأن مسلما لا يبني شيئا على التقديم والتأخير‘‘.
فرد علي الأستاذ بقوله(3):
__________
(1) العبقرية ص : 153- 154
(2) - سقط هنا ذكر حديث عبيد الله بن عمر سهوا .
(3) التنكيل ص : 254(2/46)
’’أين العلل أيها المعاند؟! وأين بيان وجوه الاختلاف التي تنطوي على العلل ؟! والتأخير من أجل العلل ؟! وأين الترتيب من أجل العلل؟! فهذه هي مواطن الخلاف والنزاع بيني وبينك فلماذا تلجأ إلى التهريج بعيدا كل البعد عن مواضع النزاع بيننا ؟! ولماذا التلبيس ؟! أيفعل مثل هذا من يحترم نفسه ويحترم عقول الناس(1)؟؟!!
إن هذه الأحاديث كلها صحيحة من الدرجة الأولى، ولم يقدم مسلم طريقا منها على طريق لأجل ما ذكره المليباري . ثم لنأت إلى ما يدعيه لنفنده على منهجه الأخير الذي لجأ إليه لما كشف زيف منهجه‘‘.
أقول: إن الأستاذ إذا لم يجد ما يرد به من الروايات - حتى ولو كانت شاذة – كان يلجأ إلى استخدام سلاحه المعروف، وهو أكذوبته القديمة. ولم أدع بعد أن بيان العلل في صحيح مسلم بالترتيب حتى يلزمني به هنا، ثم يتساءل أ يفعل مثل هذا من يحترم نفسه ويحترم عقول الناس؟!
ثم قال في سبيل رده علي وإنكاره الترتيب:
’’إن طريق عبيد الله أصح من طريق مالك على منهج المليباري، لأن عبيد الله أجل من مالك وأحفظ وأتقن لحديث نافع من مالك‘‘.
__________
(1) - من الذي يدعي وجود العلل في هذه الروايات ؟! من الذي يقول بوجود اختلاف فيها ينطوي على العلة ؟! من الذي يقول بأن الترتيب لبيان العلل ؟! لا أحد.
اعلم أيها الأستاذ الفاضل ! أن نصوصي واضحة وجلية في تركيزها منذ بداية الحوار إلى يومنا هذا على موضع الخلاف والنزاع بيني وبينك، وهو أمران؛ الأول: ترتيب مسلم لأحاديثه في الصحيح حسب الخصائص الإسنادية ، وهي كثيرة. والثاني: شرح العلل أحيانا بذكر وجوه الاختلاف. ولماذا إذن التلبيس وجعل النزاع بيني وبينك في أمر لم أقله لك ولم يخطر ببالي ؟! وقد شاهد القراء من خلال الأمثلة التي ذكرناها في العبقرية ، والتي تم نقاشها حتى الآن، أنه ليس فيها ما يدعيه الأستاذ علي.(2/47)
أقول: الإمام مالك أجل وأتقن وأفقه وأحفظ من عبيد الله، حتى قال البخاري: ’’مالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد‘‘. ومن الأئمة من قدمه على عبيد الله في نافع، وفيهم من ساوى بينهما، لكن فقه مالك وإتقانه يقدمه على عبيد الله بن عمر مع جلالته وإمامته في الحديث.
وعلى كل فحديث مالك عن نافع أعلى من حديث عبيد الله عن نافع، لكونه متميزا بإتقانه وفقهه وحفظه.
وهذا لا يعني أنني أضع عبيد الله دون منزلته بكثير كما اتهمني بذلك؛ حين قال الأستاذ(1):
’’وإني لأعرف جلالة الإمام مالك ( رحمه الله ) ولكن هذا الأهوج وضع عبيد الله بن عمر دون منزلته بكثير انتصارا لهوسه‘‘ .
إذا كان الأستاذ قدم عبيد الله على مالك، مع وجود الخلاف بين الأئمة القدامى في الترجيح بينهما فلماذا لا يجيز لخصمه أن يقدم مالكا على عبيد الله بناء على رأي الأئمة كالبخاري وعلي بن المديني.
هل هذا الذي عملته من تقديم مالك على عبيد الله ذنب يستحق الوصف بالأحمق؟!
وهل كل من قدم مالكا على عبيد الله يكون أهوجا؟!
وأما إذا قدم الأستاذ من يريد فلا شيء عليه!!، وإذا قدم خصمه مالكا على عبيد الله يصبح أهوجا! كفى عنادا وبطرا للحق وغمطا للناس!
اعلم يا أستاذ أن العلم ليس حكرا عليك !
وكل ما يعتمده الأستاذ في رده علي هو أحوال الرواة، وتوزيعهم على جداول المراتب المسجلة في التقريب. ومع ذلك لم يتم له تقديم عبيد الله على مالك، فإن مالكا أجل وأفقه ، ثم إن حديثه وصل إلى مسلم عاليا بخلاف حديث عبيد الله.
وأما اهتمام الأستاذ بنقل ما يتعلق بعبيد الله وترك ما قيل في مالك فذلك من أدوائه التي كثيرا ما يتهم خصمه بها.
على كل فتقديم حديث مالك هنا على حديث عبيد الله ليس لكونه أجل من
عبيد الله فحسب، بل لأن حديثه وصل إلى مسلم بواسطة واحدة، بينما حديث عبيد الله وصل إليه بواسطتين.
__________
(1) - التنكيل ص:55(2/48)
لوكان حديث عبيد الله قد وصل إلى مسلم بواسطة واحدة لكان أعلى وأصح بدون شك. وذلك لكون عبيد الله أقدم من مالك. وحديث مالك لم يكن غريبا بل كان مشهورا أيضا كما يتبين جليا من خلال التخريج.
ولشهرة رواية نافع من خلال أشهر تلاميذه؛ مثل مالك وعبيد الله وأيوب وغيرهم، قدم حديث نافع على غيره، كما أن تقديم مالك على غيره لعلو حديثه.
ثم نأتي للحوار مع الأستاذ في فصله الرابع ، وهو عبارة عن أمثلة جديدة
الفصل الرابع
فيه دراسة لثلاثة أحاديث جديدة، استدل بها الأستاذ على عدم عناية مسلم بالترتيب، والرد على شبهاته في ذلك
الحديث الأول ورد شبهات الأستاذ في ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
هذه محاولة أخرى قام بها الأستاذ ليبرهن على أن الإمام مسلما لم يلتزم بترتيب الأحاديث في صحيحه؛ فأتى بثلاثة أحاديث جديدة، وبعد دراسته لها كالعادة أوهم القارئ أن ما يزعمه هو الصواب، وما يقوله خصمه هو الباطل.
لكن ليس في هذه المحاولة جديد يذكر، يعتمد فيها أحوال الرواة ومراتبهم التي ذكرها الحافظ ابن حجر ( رحمه الله ) في كتابه التقريب، ويجعل كل من ذكر الحافظ فيه ( صدوق ) أو (صدوق يخطيء) أو (مقبول) في الدرجة الثانية أي من رجال المتابعة، ثم يسند ذلك إلى مسلم الذي قسم الرواة إلى ثلاثة أقسام ، وهي : ثقة وضعيف ومتروك.
وبهذا الأسلوب الذي يرتكز على أحوال الرواة أصبح الأستاذ بعيدا عن منهج المحدثين الذي يقوم أساسا على أحوال الرواة ومدى خلو رواياتهم من شذوذ وعلة، إلى جانب مراعاة الخصائص الإسنادية. لذا قد يروي مسلم عن بعض الضعفاء في المتابعات والشواهد ما صح من أحاديثهم، بل قد يجعله في الأصول لوجود خصائص إسنادية فيه.(2/49)
أليس من المجازفة والتضليل أن يقول الأستاذ في حق الثقات ’’ هذا من الدرجة الثانية ورواة المتابعات والشواهد ‘‘، لمجرد قول الحافظ فيه (صدوق) ؟! والحافظ لم يقصد حط الرواة في المرتبة التي وضعهم فيها الأستاذ، وإنما قصد به فقط أن هذا الراوي فيه خلاف بين النقاد وقد لا يضر ذلك فيه أصلا، ويحاول أن يوفق به بين أقوال النقاد حول ذلك الراوي بقوله (صدوق). فإذا أطلقه الحافظ في حق راو، لا يلزم منه أن حديثه ضعيف وأنه من رواة المتابعات والشواهد.
ومهمأكان الأمر فإن هذه الأحاديث الثلاثة التي أتى بها الأستاذ من جديد، كالأحاديث السابقة التي شغب بها وضلل بدراستها وقلب الحقائق رأسا على عقب تحولت جميعها – بإذن الله تعالى - بعد الحوار إلى أدلة ناصعة على دقة مسلم في ترتيب الأحاديث وتقديم ما هو أسلم من العيوب وأنقى. ذلك لأن الأستاذ لم ينظر إليها إلا من زاوية ضيقة محددة، ولم يدرسها دراسة علمية، بل درسها دراسة ظاهرية وسطحية، ولم ينفعه فيها رمي التهم ولا السب والشتم والاستهزاء والسخرية، وذهبت كلها بإذن الله تعالى أدراج الرياح.
أما الحديث الأول فهو حديث فاطمة بنت قيس في قصة طلاقها .
قال الإمام مسلم في باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها(1):
(
__________
(1) - كتاب الطلاق 10 / 94 - 107(2/50)
1) حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس؛ أن أبا عمرو بن حفص طلقها البَتَّة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسَخِطتْه، فقال: والله! ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. فقال: ليس لك عليه نفقة. فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي. اعتدّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنينى. قالت: فلما حللت، ذكرت له؛ أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصُعْلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد فكرهته. ثم قال: انكحي أسامة. فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت.
(2) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز (يعني بن أبي حازم) وقال قتيبة أيضا حدثنا يعقوب ( يعني بن عبد الرحمن القاري) كليهما عن أبي حازم عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وكان أنفق عليها نفقةَ دُونٍ. فلما رأت ذلك قالت: والله! لأُعلمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني. وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لا نفقة لك ولا سُكْنى.
(3) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة أنه قال سألت فاطمة بنت قيس فأخبرتني؛ أن زوجها المخزومي طلقها، فأبى أن ينفق عليها. فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفقة لك، فانتقلي فاذهبي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده.
((2/51)
4) وحدثني محمد بن رافع حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن يحيى(وهو بن أبي كثير) أخبرني أبو سلمة، أن فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا. ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة. فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فقالوا إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا، فهل لها من نفقة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليست لها نفقة وعليها العدة. وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك، وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك. ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون. فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى. فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فانطلقت إليه. فلما مضت عدتها أنكحها
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة.
(5) حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حُجْر قالوا: حدثنا إسماعيل (يعنون ابن جعفر) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس ح وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن فاطمة بنت قيس قال كتبتُ ذلك مِن فيها كتابا، قالت: كنت عند رجل من بني مخزوم فطلقني البتة. فأرسلتُ إلى أهله أبتغي النفقة. واقتصوا الحديث، بمعنى حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. غير أن في حديث محمد بن عمرو (لا تفوتينا بنفسك).
(6) حدثنا حسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد جميعا عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنهأكانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات. فزعمت أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في خروجها من بيتها. فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدقه في خروج المطلقة من بيتها. وقال عروة: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس.
((2/52)
7) وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا حُجَين حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله، مع قول عروة : إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة.
(8) حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد واللفظ لعبد قالا أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن. فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله! ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما. فقال: لا نفقة لك. فاستأذنته في الانتقال فأذن لها. فقالت: أين ؟! يا رسول الله! فقال: إلى بن أم مكتوم وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث. فحدثته به. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة. سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها . فقالت فاطمة: حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن. قال الله عز وجل +لا تخرجوهن من بيوتهن" قالت هذا لمن كانت له مراجعة. فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟! فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا؟! فعلام تحبسونها ؟!
(9) حدثني زهير بن حرب حدثنا هشيم أخبرنا سيار وحصين ومغيرة وأشعث ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد وداود كلهم عن الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. فقالت: طلقها زوجها البتة. فقالت: فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة. قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة. وأمرني أن أعتد في بيت بن أم مكتوم.
(10) وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم عن حصين وداود ومغيرة وإسماعيل وأشعث عن الشعبي أنه قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بمثل حديث زهير عن هشيم.
((2/53)
11) حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث الهُجَيْمي حدثنا قرة حدثنا سَيَّار أبو الحكم حدثنا الشعبي قال دخلنا على فاطمة بنت قيس فأتحفتنا برُطبِ ابنِ طابٍ وسَقَتْنا سَويقَ سُلْتٍ. فسألتها عن المطلقة ثلاثا أين تعتد؟! قالت: طلقني بعلي ثلاثا، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي .
(12) حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا. قال: ليس لها سكنى ولا نفقة.
(13) وحدثني إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا عمار بن رزيق عن أبي إسحاق عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي ثلاثا. فأردتُّ النُّقْلَة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انتقلي إلى بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم فاعتدِّي عنده.
(14) وحدثناه محمد بن عمرو بن جَبَلة حدثنا أبو أحمد حدثنا عمار بن رزيق عن أبي إسحاق قال كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كفّا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك! تحدث بمثل هذا. قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة قال الله عز وجل +لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة".
(15) وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا أبو داود حدثنا سليمان بن معاذ عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحو حديث أبي أحمد عن عمار بن رزيق بقصته.
((2/54)
16) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم بن صُخير العدوي قال سمعت فاطمة بنت قيس تقول: إن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حللت فآذنينى فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أما معاوية فرجل ترب لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضَرَّاب للنساء، ولكن أسامة بن زيد فقالت بيدها هكذا : أسامة أسامة. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة الله وطاعة رسوله خير لك. قالت: فتزوجته فاغتبطت.
(17) وحدثني إسحاق بن منصور حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم قال : سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أرسل إلي زوجي، أبو عمرو بن حفص بن المغيرة، عياشَ بن أبي ربيعة، بطلاقي. وأرسل معه بخمسة آصع تمر، وخمسة آصع شعير. فقلت: أما لي نفقة إلا هذا؟! ولا أعتد في منزلكم؟! قال: لا. قالت: فشددت علي ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: كم طلقك؟! قلت: ثلاثا. قال: صدق. ليس لك نفقة. اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم. فإنه ضرير البصر. تلقى ثوبك عنده. فإذا انقضت عدتك فآذنينى. قالت: فخطبني خُطَّاب؛ منهم معاوية وأبو الجهم. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: إن معاوية تَرِبٌ خفيف الحال. وأبو الجهم منه شدةٌ على النساء. أو يضرب النساء أو نحو هذا. ولكن عليك بأسامة بن زيد.
(18) وحدثني إسحاق بن منصور أخبرنا أبو عاصم حدثنا سفيان الثوري حدثني أبو بكر بن أبي الجهم قال: دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة بنت قيس. فسألناها، فقالت: كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة. فخرج في غزوة نجران. وساق الحديث بنحو حديث ابن مهدي. وزاد : (قالت: فتزوجته فشرفني الله بأبي زيد، وكرمني الله بأبي زيد ).
((2/55)
19) وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة حدثني أبو بكر قال دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس زمن ابن الزبير. فحدثتنا أن زوجها طلقها طلاقا باتا. بنحو حديث سفيان.
(20) وحدثني حسن بن علي الحلواني حدثنا يحيى بن آدم حدثنا حسن بن صالح عن السُّدِّيِّ عن البَِهِيِّ عن فاطمة بنت قيس. قالت: طلقني زوجي ثلاثا. فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سُكنى ولا نفقة.
(21) وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن هشام حدثني أبي. قال تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنتَ عبد الرحمن بن الحكم، فطلقها فأخرجها من عنده. فعاب ذلك عليهم عروة. فقالوا: إن فاطمة قد خرجت. قال عروة: فأتيت عائشة فأخبرتها بذلك. فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث.
(22) وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا حفص بن غياث حدثنا هشام عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسول الله! زوجي طلقني ثلاثا، وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت.
(23) وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت: ما لفاطمة خير أن تذكر هذا. قال: تعني قولها: لا سكنى ولا نفقة .
(24) وحدثني إسحاق بن منصور أخبرنا عبد الرحمن عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال قال عروة بن الزبير لعائشة ألم تري إلى فلانة بنت الحكم؟! طلقها زوجها البتة فخرجت. فقالت: بئسما صنعت. فقال: ألم تسمعي إلى قول فاطمة؟! فقالت: أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك .
هذه مجموعة كبيرة من الأحاديث في قصة طلاق فاطمة بنت قيس أتى بها مسلم في هذا الباب ، وهي ثلاثة وعشرون حديثا عن فاطمة بنت قيس إلا حديثين أخيرين وهما رقم (23) و (24) عن عائشة بإيجاز، وألجأني الأستاذ إلى ذكرها هنا كاملة.(2/56)
جاء الأستاذ إلى هذه المجموعة الكبيرة فأخذ من وسط الباب بعض الأحاديث فقام بترجمة رواتها فقال : انظروا هنا، لم يرتب مسلم هذه الأحاديث، إذ قدم حديث محمد بن عمرو على حديث الزهري، ومحمد بن عمرو ضعيف، والزهري إمام.
ركز على ظاهر السند، كما سبق، دون مراعاة الجوانب العلمية المتصلة برواية القصة.
كي يكون الحوار في أوضح صورة فإني أود رسم شجرة هذه الأسانيد حسب الترتيب الذي ذكره مسلم :
يقول الأستاذ تحت عنوان :
’’أمثلة جديدة تؤيد الأمثلة التي ذكرتها في (منهج مسلم ) بأن مسلما لم يلتزم الترتيب في صحيحه على الوجه الذي يدعيه المليباري:
أولا : (كتاب الطلاق ، حديث : 1480) قدم الإمام مسلم حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس في قصة طلاقها على الإمام محمد بن شهاب الزهري عن أبي سلمة به ، وعلى الشعبي عن فاطمة بنت قيس . ومحمد بن عمرو مختلف فيه : قال الحافظ: (صدوق له أوهام ) ، وقال الذهبي فيه: ( قال أبو حاتم : صالح الحديث ، يكتب حديثه ، وهو شيخ). وقال النسائي وغيره : ( ليس به بأس ) ، وقال في موضع آخر: (ثقة). وقال ابن معين : (ما زال الناس يتقون حديثه ) ، خ م متابعة. وقال الحاكم: أخرج له مسلم ثمانية أحاديث في الشواهد . فهو إذن من الطبقة الثانية.
أما ابن شهاب الزهري فهو من أجل وأعلى رجال الطبقة الأولى ، وروى مسلم هذا الحديث بأسانيد كلها من الطبقة الأولى. الأول من طريق صالح بن كيسان . والثاني : من طريق عقيل عنه عن أبي سلمة ، والثالث : من طريق معمر.
ثم رواه عن زهير بن حرب : حدثنا هشيم أخبرنا سيار وحصين ومغيرة وأشعث ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد وداود كلهم عن الشعبي ، قال : دخلت على فاطمة بنت قيس ... وذكر الحديث. ثم ساقه عن الشعبي من طرق أخرى كلها من الطبقة الأولى.(2/57)
فكيف نفسر عمل مسلم هذا ؟! وأين الخصائص الإسنادية التي يراعيها مسلم في ترتيب أحاديث صحيحه، وأين الترتيب الدقيق؟! ، وأين التقديم والتأخير ؛ فإذا أخر ما هو مستحق أن يقدمه عرفنا أن مسلما أدرك فيه شيئا؟؟!
تلك التهاويل والأباطيل التي اخترعها المليباري مكابرة وعنادا؛ ليجحد بها حقائق أجلى من الشمس، في أن الإمام مسلما لم يلتزم الترتيب في كتابه ، ولم يشرح العلل من خلال هذا الترتيب. والأمثلة كثيرة وكثيرة جدا في أن الإمام مسلما لا يلتزم الترتيب؛ مما يبطل القول بأنه قد التزمه. فالقول بالتزام الترتيب لا يعدو أن يكون من باب الظن والتخمين . غفر الله لمن قاله ورحمه ، فلقد فتح الباب للمتهوكين أن يتقولوا ويفتروا على (صحيح مسلم) بمالم يحصل ضد أي كتاب من كتب الحديث النبوي‘‘(1).
هذا آخر كلام الأستاذ في دراسة حديث فاطمة في قصة طلاقها.
أما أنا فأقول : إن الإمام مسلما رتب هذه المجموعة الحديثية ترتيبا رائعا يتبلور فيه ما يتميز به كل منها من الخصائص الإسنادية واللطائف الحديثية. وإذا غابت هذه الحقائق عن إدراك الأستاذ لا يعني ذلك عدمها.
ولا داعي لغرور الأستاذ بما وصل إليه نظره، حتى يتهم خصمه بأنه مكابر ومعاند يجحد حقائق أجلى من الشمس.
ثم يطلق الدعاوى الفارغة، مثل قوله: ’’الأمثلة كثيرة وكثيرة جدا‘‘.
ثم يطمئن أصحابه بأن الذي قاله العلماء المتأخرون متفقين من باب الظن والتخمين. لكنه تبين من خلال الحوار أن الذي زعمه الأستاذ من باب الظن والتخمين ، ولم يسعفه مثال واحد من الأمثلة التي أتى بها متبجحا بدراستها السطحية، بل تحولت كلها إلى أدلة ناصعة على دقة مسلم في ترتيب الروايات والأحاديث.
ثم تظاهر الأستاذ أمام القارئ بأنه منصف وحريص على السنة، حين قال:
’’فلقد فتح الباب (يعني هؤلاء الأئمة) للمتهوكين أن يتقولوا ويفتروا على صحيح مسلم بمالم يحصل ضد أي كتاب حديثي‘‘!!.
كبرت كلمة تخرج من فمه!!
__________
(1) - ص: 257 - 258(2/58)
فليست المشكلة في كلام الأئمة، لكن المشكلة في الذين لا يفهمون كلامهم.
وعلى كل فإننا نركز على بيان أوجه الترتيب في هذه المجموعة الكبيرة .
أورد الإمام مسلم قصة فاطمة بنت قيس في الطلاق من طريق أبي سلمة وعبيد الله بن عبد الله، والشعبي وأبي بكر بن أبي الجهم العدوي والبهي وعروة ؛ فصدر الباب بحديث أبي سلمة عن فاطمة، ثم ذكر بقية الروايات على الترتيب الذي ذكرنا، وذلك لأن حديث أبي سلمة أشهرها وأعلاها وأجودها متنا. كما يظهر ذلك جليا من شجرة الأسانيد.
ويظهر من قول الأستاذ أن مسلما صدر الباب بحديث محمد بن عمرو على الزهري والشعبي. وهذا فيه نوع من التمويه. وليس الأمر كذلك، والإمام مسلم صدر الباب بحديث أبي سلمة على غيره كما ذكرنا آنفا.
ثم إذا نظرنا بإمعان في الروايات التي تدور على أبي سلمة نجد بينها تفاوتا واضحا من حيث العلو وجودة المتن. فحديث مالك عن عبد الله بن يزيد الذي صدر به الباب أعلى وأجود متنا .
أما تقديم حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة على حديث الزهري عن أبي سلمة فلأن الحديث الذي رواه محمد بن عمرو موافقا لغيره من الثقات أعلى وأتم مما رواه الزهري؛ إذ لم يتضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم ’’ليس لك عليه نفقة‘‘، كما أنه لم يتضمن قصة نكاح أسامة بن زيد.
هذا التفاضل العلمي من حيث العلو وجودة المتن يكفي لمعرفة دقة مسلم في ترتيب أحاديث هذا الباب . نعم الإمام الزهري إمام يقدم على الثقات لو كنا في التفاضل بين الرواة ، أما نحن في مجال آخر، ألا وهو التفاضل بين الروايات الصحيحة. ويتوقف هذا على مراعاة خصائص إسنادية ولطائف حديثية؛ كالعلو والشهرة وجودة المتن، ولا يكفي فيه اعتبار أحوال الرواة وحدها.
هكذا تحول دليله إلى دليل ناصع يبين منهج مسلم في ترتيب الأحاديث حسب الخصائص الإسنادية.
الحديث الثاني الجديد ودحض شبهاته في ترتيب أسانيده في صحيح مسلم(2/59)
أتى الشيخ ربيع بحديث (من أراد أهل المدينة بسوء إذابه الله) الذي أورده مسلم عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة، وعن سعد، ليقنع القارئ بعدم اهتمام مسلم بترتيب الأحاديث حسب الخصائص الإسنادية، وأن هذا الترتيب أسطورة .
قال الشيخ:
’’ثانيا : صدر مسلم هذا الباب بحديث من أراد أهل المدينة بسوء إذابه الله ، من طريق حجاج بن محمد وعبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن أبي عبد الله القراظ : أشهد على أبي هريرة أنه قال: (قال أبو القاسم × ...) وساق الحديث.
عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس في هذا الإسناد : قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب : (مقبول/م،4) . وقال الذهبي في الكاشف: وثق؛ وذلك أنه لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو له مسلم إلا هذا الحديث.
ثم ساق مسلم من طريق عبد الرزاق وحجاج بن محمد كلاهما عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن يحيى بن عمارة أنه سمع القراظ ( وكان من أصحاب أبي هريرة ) أنه سمع أبا هريرة يقول (....) وساق الحديث.
وهذا الإسناد من الطبقة الأولى؛ فأين أسرار التقديم والتأخير؟! وأين الخصائص الإسنادية ؟! .
ثم ساقه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان عن أبي هارون موسى بن أبي عيسى ، وعن الدراوردي عن محمد بن عمرو ؛ جميعا سمعا أبا عبد الله القراظ سمع أبا هريرة به .
ثم ساقه من طريق قتيبة بن سعيد عن حاتم بن إسماعيل. ثم عن إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نبيه أخبرني دينار القراظ سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: قال رسول الله × : من أراد أهل المدينة بسوء إذابه الله كما يذوب الملح في الماء. وفي إسناده عمر بن نبيه : قال الحافظ ( لا بأس به )، وقال يحيى بن سعيد : (لا بأس به) . وقال ابن المديني : (شيخ ثقة). فهو أشهر وأقوى من عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس .(2/60)
ثم ساقه في آخر الباب فقال: ( حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا أسامة بن زيد عن أبي عبد الله القراظ، قال سمعت أبا هريرة وسعدا يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم بارك لأهل المدينة في مدهم ) . وساق الحديث ، وفيه: ( من أراد أهلها بسوء إذابه الله كما يذوب الملح في الماء)
وفي إسناد هذا الطريق أسامة بن زيد الليثي: قال الحافظ: (صدوق يهم)؛ وهو أقوى وأشهر من ابن يحنس، وحديثه أطول وأشهر. وهذه على مذهب المليباري من الخصائص التي يراعيها مسلم في الترتيب ، فيقدم بسببها الحديث الذي تتوفر فيه هذه الخصائص .
أما الشهرة فلأن حديث سعد رواه عنه أبو عبد الله القراظ كما هنا.
ورواه عنه ( أي عن سعد ) عامر بن سعد ، أخرجه مسلم في صحيحه (15 – كتاب الحج ، حديث 1363) ، وأخرجه البخاري في : ( كتاب فضائل المدينة ، حديث : 1877) عن الجعيد عن عائشة بنت سعد عن أبيها سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه - .
وأما الطول فقال مسلم: بهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهم بارك لأهل المدينة في مدهم )، وساق الحديث ؛ وفيه ( من أراد أهلها بسوء إذابه الله كما يذوب الملح في الماء )، هذا لفظ مسلم. فأين ما زعمه المليباري من اعتبار مسلم لهذه الخصائص في ترتيب كتابه (الصحيح)؟!.(1)
انتهى كلام الأستاذ الذي لم يكن في معظمه مرتكزا إلا على نقل كلام الحافظ من التقريب.
__________
(1) - ص: 258 - 262 من (التنكيل) = ظلمات الأكاذيب والأباطيل(2/61)
أقول: طريقة الأستاذ في التصحيح والترجيح لم تتغير ولم تتطور، وبناء الحكم على مراتبهم في الجرح والتعديل التي بينها الحافظ ابن حجر في التقريب لم يتغير أيضا. بل الأستاذ مستقر على ذلك الحال منذ عشرين سنة، خلالها درس وخرج وألف ونشر ورقي إلى درجات أكاديمية عليا. وبعد كل هذه المراحل العلمية فإن تخصصه الحديثي لم يتحرك من حال إلى حال. كلامه في مرحلة الماجستير هو ذاته نقرؤه اليوم، ولم يستطع أن يعمل في مجال دراسة الأحاديث وأسانيدها أكثر مما عمله في مرحلة الماجستير قبل شهادات الترقيات.
فأين نتيجة الترقية في مجال البحث والعطاء والإبداع ؟!
ومن الجدير بالذكر أننا لسنا في التفاضل بين الرواة، وإنما بين الأحاديث ورواياتها. وإن كان لأحوال الرواة صلة في تلك الأحكام لكن جوانب علمية أخرى تؤثر في ذلك. لذا فإن الترجيح والتصحيح والتحسين والتضعيف إنما يرجع لجميع تلك الأمور، ومنها أحوال الرواة، ومنها الاتصال وخلوه من شذوذ وعلة، وعلوُّ السند وشهرتُه وتسلسلُه وجودة متنه. ولم تكن هذه الأمور: العلو والشهرة والتسلسل وجودة المتون إلا عناصر تقوي شعور الناقد بأن الحديث أسلم من العيوب وأنقى .
لذا فإن اعتماد الشيخ مراتب الرواة وأحوالهم دون جوانب أخرى استرواح وخروج واضح من المنهج الصحيح الذي انتهجه المحدثون النقاد.
نعود إلى الحديث الذي ذكره الأستاذ:
إن كان هؤلاء الرواة - باستثناء أسامة بن زيد - من أهل القسم الأول عند مسلم، مع وجود تفاوت بينهم فإن بعض الخصائص الإسنادية أثرت فعلا على ميزان الترجيح، هذا ما رأيناه في صنيع الإمام مسلم( رحمه الله تعالى ).
ولظهور وجه التفاوت بين هذه الروايات التي أوردها مسلم في جانب الشهرة أنقل هنا أولا ما ذكره مسلم في صحيحه، وهذا نصه :
((2/62)
1) حدثني محمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار قالا حدثنا حجاج بن محمد ح وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن أبي عبد الله القراظ أنه قال أشهد على أبي هريرة أنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم من أراد أهل هذه البلدة بسوء يعني المدينة إذابه الله كما يذوب الملح في الماء.
(2) وحدثني محمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار قالا حدثنا حجاج ح وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق جميعا عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن يحيى بن عمارة أنه سمع القراظ وكان من أصحاب أبي هريرة يزعم أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أهلها بسوء يريد المدينة إذابه الله كما يذوب الملح في الماء قال ابن حاتم في حديث بن يحنس بدل قوله "بسوء" شرا.
(3) حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي هارون موسى بن أبي عيسى ح وحدثنا بن أبي عمر حدثنا الدراوردي عن محمد بن عمرو جميعا سمعا أبا عبد الله القراظ سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
(4) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم يعني ابن إسماعيل عن عمر بن نبيه أخبرني دينار القراظ قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أهل المدينة بسوء إذابه الله كما يذوب الملح في الماء.
(5) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر عن عمر بن نبيه الكعبي عن أبي عبد الله القراظ أنه سمع سعد بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بدهم أو بسوء.
(6) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا أسامة بن زيد عن أبي عبد الله القراظ قال: سمعته يقول :سمعت أبا هريرة وسعدا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأهل المدينة في مدهم وساق الحديث وفيه من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء. اهـ
ثانيا : أرسم هنا شجرة الأسانيد.(2/63)
من خلال هاتين الشجرتين نرى أشهر الروايات رواية أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة.
بما أن رواية ابن جريج أوردها مسلم من ثلاث طرق فإنها تصبح بذلك أفضل من رواية الدراوردي عن محمد بن عمرو، وسفيان عن موسى بن إسماعيل عن القراظ لأنه لم يوردهما إلا عن ابن أبي عمر.
كما أن الإمام مسلما قدم رواية ابن يحنس على عمرو بن يحيى لأنها تضمنت تأكيده على أن الحديث عن أبي هريرة مرفوع، وهو قوله: ( أشهد على أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). وبذلك تكون روايته أفضل مما سواه بلا شك. ومع ذلك أرى مسلما يجعلهما في مستوى واحد، لأنه أشار إلى اختلاف رواة ابن يحنس في نهاية الحديث الثاني، وهذا دليل على اعتبارهما في درجة واحدة ، وإلا فمجال ذكر التفاوت إنما يكون عادة بعد ذكر الحديث الذي فيه ذلك الاختلاف مباشرة .
أما طول الحديث فليس بمفرده يكون خصيصة ولا ميزة علمية أينما وقع وكيفما وقع. بل إن تفرد أسامة به هو بذاته يشكل نقطة تأمل في مدى صحة ما تفرد به دون غيره من الثقات.
ومن الملاحظ أن الإمام مسلما لم يورد لفظ حديث أسامة بكامله هنا. والراوي الضعيف إذا أتى بزيادة لا تعد صحيحة، فضلا أن تعد ميزة علمية. وأسامة هنا متكلم فيه وأورد عن القراظ مالم يذكره غيره من الثقات أو من هو أفضل حالا منه. وفي هذه الصورة التي ينفرد بها راو ضعيف مخالفا لغيره من الثقات يكون ما رواه الثقات أرجح دون شك، إذ المفاضلة تكون بين الرواية الضعيفة والرواية الصحيحة. ونحن بصدد المفاضلة بين الروايات الصحيحة حسب الخصائص واللطائف.(2/64)
ثم إن كلام الأستاذ يوهم أن حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: (من أراد ....) مشهور، وليس الأمر كذلك. فالبخاري ومسلم رويا من طريقين مختلفين عن سعد كما ذكرهما الأستاذ، لكن لفظ (من أراد أهل هذه البلدة بسوء يعني المدينة إذابه الله كما يذوب الملح في الماء) لم يشتهر، إذ لم يتفق الرواة عن عثمان بن حكيم على هذا اللفظ؛ فلم يذكره عبد الله بن نمير عن عثمان، والذي ذكره عن عثمان هو مروان بن معاوية.
وعلى كل فما أورده مسلم هنا من الروايات كلها صحيحة، صرح بصحتها الإمام الدارقطني في العلل(1).
__________
(1) - في العلل: ’’سئل عن حديث روي عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل المدينة وأهلها من أراد أهل المدينة بسوء إذابه الله في النار كما يذوب الملح الحديث.
فقال اختلف فيه على أبي عبد الله القراظ ؛
فرواه إبراهيم بن عقبة وعبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس وعمرو بن يحيى بن عمارة وموسى بن أبي عيسى الحناظ أبو هارون المديني ومحمد بن عمرو بن علقمة ومحمد بن موسى بن عبد الله بن يسار وأبو محمد بن معبد وأبو معشر، فرووه عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة مرفوعا.
ورواه أبو مودود واسمه عبد العزيز بن أبي سليمان عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة موقوفا .
وروي عن مالك عن القراظ عن أبي هريرة مرفوعا .
وخالفهم عمر بن نبيه، رواه عن أبي عبد الله القراظ عن سعد بن أبي وقاص، ورواه أسامة بن زيد عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص. قاله عثمان بن عمر وحاتم بن إسماعيل عنه
وقيل عن أبي بكر الحنفي عن أسامة بن زيد عن القراظ عن أبي هريرة وسعيد بن العاص. وذلك وهم من راويه، وإنما هو عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص‘‘. ( العلل 8/265. انظر التاريخ الكبير 3/244)(2/65)
ورواية عمر بن نبيه وأسامة لم يوردها مسلم لبيان الاختلاف، وإنما على سبيل الاحتجاج . وكذا أشار إلى صحتها الإمام البخاري في التاريخ الكبير(1).
الحديث الثالث، ورد شبهات الأستاذ حول ترتيب أسانيده في صحيح مسلم
أما المثال الثالث الجديد – وهو الأخير - فيقول الشيخ(2)فيه:
__________
(1) - قال البخاري في التاريخ الكبير : ( 1/237)
’’محمد بن موسى بن عبد الله بن يسار سمع أبا عبد الله القراظ المدني سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال من أراد المدينة بسوء فأذابه كما يذوب الملح في الماء. قاله لي ابن منذر سمع أبا ضمرة سمع محمدا.
وقال لي أبو مصعب قال ثنا عبد الله بن سفيان سمع محمدا.
وقال لي إسماعيل: حدثني أخي عن سليمان عن عمرو بن عبيد الله عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن شريك بن عبد الله عن عمر بن نبيه عن أبي عبد الله عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال يحيى وحاتم عن عمر بن نبيه سمع أبا عبد الله سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال لي عبد الله بن محمد: قال حدثنا عثمان بن عمر حدثنا أسامة عن أبي عبد الله القراظ عن سعد بن مالك وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو مودود ومحمد بن عمرو وأبو محمد بن معبد وعمرو بن يحيى بن عمارة وإسحاق بن يحيى
وعبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن أبي عبد الله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‘‘
وفي 4/298 من علل الدارقطني:
’’وسئل عن حديث أبي عبد الله القراظ عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أهل المدينة بسوء إذابه الله كما يذوب الملح في الماء. فقال يرويه عمر بن نبيه عن أبي عبد الله القراظ عن سعد ورواه محمد بن موسى بن يسار المدني عن أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة ورواه أسامة بن زيد عن القراظ عن سعد وأبي هريرة فصحت الأقاويل كلها والله أعلم.
(2) - التنكيل : 260-262(2/66)
ثالثا : ( 35 – كتاب الأضاحي 7 – باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره وأظفاره شيئا ، صدر الباب ، حديث : 1977) :
قال مسلم ( رحمه الله ) حدثنا ابن أبي عمر المكي ، حدثنا سليمان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا)
وفي إسناده : ابن أبي عمر : قال الحافظ فيه ( صدوق، صنف المسند، وكان لازم ابن عيينة ، لكن قال أبو حاتم : كانت فيه غفلة ؛ من العاشرة )
وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه ، قال : ( كان رجلا صالحا، وكان به غفلة ، ورأيت عنده حديثا موضوعا ، حدث به عن ابن عيينة، وهو صدوق )
ثم قال مسلم (رحمه الله): وحدثناه إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا سفيان ، حدثني عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ) به ، وليس فيه لفظ (وبشره)، وهذا الإسناد من الدرجة الأولى.
ثم ساقه من طريق شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن ابن المسيب؛ به بنحوه. وعمرو بن مسلم قال الحافظ فيه (صدوق) وقال ابن معين : ثقة ، ومرة قال: (لا بأس به)
ثم ساقه من طريقين مدارهما على محمد بن عمرو بن وقاص وهو صدوق له أوهام؛ وقال الذهبي: قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال النسائي وغيره: ( ليس به بأس ) ، عن عمرو بن مسلم به .
ثم ساقه من طريق سعيد بن أبي هلال: وثقه ابن سعد والعجلي وأبو حاتم وابن خزيمة والدارقطني وابن حبان وآخرون. وشذ الساجي فذكره في الضعفاء ، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: ( ما أدري أي شيء حديثه؟! يخلط في الأحاديث ).
وتبع أبو محمد بن حزم الساجي فضعف سعيد بن أبي هلال مطلقا، ولم يصب في ذلك . والله أعلم. احتج به الجماعة، وقال الذهبي في الميزان : (ثقة معروف حديثه في الكتب الستة).
انتهى كلام الأستاذ، مستدلا بهذا المثال على عدم مراعاة مسلم للترتيب.(2/67)
أقول: أولا أنقل هنا الروايات التي أوردها مسلم.
قال الإمام مسلم في موضوع (نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا)(1):
1 - حدثنا بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا. قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه؟! قال: لكني أرفعه.
2 وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا سفيان حدثني عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ترفعه قال إذا دخل العشرُ وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعرا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرا .
3 - وحدثني حجاج بن الشاعر حدثني يحيى بن كثير العنبري أبو غسان حدثنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمر بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليُمْسِك عن شَعره وأظفاره
4 - وحدثنا أحمد بن عبد الله بن الحكم الهاشمي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمر أو عمرو بن مسلم بهذا الإسناد نحوه
5 - وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو الليثي عن عمر بن مسلم بن عمار بن أكيمة الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له ذِبْحٌ يذبحه فإذا أُهِلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي.
__________
(1) - كتاب الأضاحي 13/138 - 140 ( شرح النووي )(2/68)
6 - حدثني الحسن بن علي الحلواني حدثنا أبو أسامة حدثني محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال كنا في الحَمَّام قبيل الأضحى فأَطْلَى فيه ناسٌ فقال بعض أهل الحمَّام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه. فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له. فقال: يا ابن أخي هذا حديثٌ قد نُسِيَ وتُرِكَ، حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث معاذ عن محمد بن عمرو.
7 - وحدثني حرملة بن يحيى وأحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب قالا حدثنا
عبد الله بن وهب أخبرني حيوة أخبرني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمر بن مسلم الجندعي أن ابن المسيب أخبره أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديثهم.
ثانيا: أرسم شجرة الأسانيد:
والحديث - كما ترى - رواه سعيد بن المسيب عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وأورده مسلم من طريق عبد الرحمن بن حميد وعمرو بن مسلم. فقدم حديث
عبد الرحمن على حديث عمرو بن مسلم، إذ حديث عبد الرحمن سمعه مسلم بعلو بخلاف حديث عمرو بن مسلم؛ فإن معظم ما أتى به هنا نازل بالنسبة إلى حديث عبد الرحمن، مع تفاوت كبير بين الراويين من حيث المرتبة. ثم إن الرواة عن عمرو بن مسلم قد اختلفوا في اسمه؛ فقال بعضهم: عمرو بن مسلم ، وقال آخر: عمر بن مسلم(1). ثم اختلف في رفعه ووقفه لكنه ترجح رفعه.
وأما حديث عبد الرحمن بن حميد فلم يقع فيه اختلاف من هذا النوع، ومن المعلوم أنه كلما يكون الحديث أبعد من شذوذ وعلة يكون أصح وأفضل من غيره، وإن كانت جميع الروايات صحيحة.
هذا وقد تميز حديث عبد الرحمن في هذا الجانب حين قال سفيان بن عيينة: ’’أما أنا فأرفعه‘‘، ردا على من استشكل عليه بقوله: ’’إن غيره يرويه موقوفا على أم سلمة‘‘.
وهذا من أهم مميزات الإسناد وخصائصه.
__________
(1) - انظر موضح أوهام الجمع والتفريق 2/231(2/69)
كما رتب مسلم أحاديث عبد الرحمن فقدم رواية ابن أبي عمر عن سفيان عن
عبد الرحمن على رواية إسحاق بن إبراهيم لكونها أعلى، إلى جانب كون هذا الإسناد مدنيا ومكيا، بينما الإسناد الثاني تكون من مدني ومكي ومروزي.
أما ابن أبي عمر فقد أورده مسلم مقرونا بإسحاق بن إبراهيم، ومع ذلك فهو ثقة عند مسلم، بل من رجال الأصول، لا سيما إذا روى عن سفيان، كما تقدم تفصيله.
وحديث عمرو بن مسلم رواه مسلم من عدة طرق أيضا مما يدل على شهرة حديثه، مرتبا لها حسب الخصائص الإسنادية، وهي أن الإمام مالكا أثبت من محمد بن عمرو الليثي وأبي أسامة وسعيد بن هلال؛ فروى مسلم حديث مالك من طريقين، وهما :
حجاج بن الشاعر عن يحيى بن كثير .
وأحمد بن عبد الله بن الحكم عن محمد بن جعفر.
ويروي كلاهما ( أي يحيى بن كثير ومحمد بن جعفر غندر) عن شعبة عن مالك.
وبهذا أصبح حديث مالك بالنسبة إلى مسلم أولى من حديث الآخرين .
ورواية شعبة عن مالك تعد نازلة لأن شعبة أقدم وفاة من مالك؛ توفي شعبة 167هـ وتوفي مالك 179هـ . ورحل إلى المدينة بعد وفاة نافع مولى ابن عمر، فسمع من مالك وكان له حلقة في المسجد. وقد سبق أن اختلف في رفعه ووقفه، ثم اختلف أيضا في اسم عمرو بن مسلم .
كما أشرنا سابقا إلى أن المفاضلة هنا إنما هي بين الروايات الصحيحة من حيث استيفاء كل منها خصائص الإسناد ولطائفه. ومن هذه الخصائص واللطائف ما يرجع إلى أحوال الرواة ودرجاتهم، ومنها ما يرجع إلى الرواية والأسانيد، بل كل ما يدل على أن الرواية أبعد من شذوذ وعلة يعد من الخصائص الإسنادية التي ينبغي اعتبارها.
وأما حصر الخصائص كلها في أحوال الرواة، ومراتبهم، وجعل الترجيح والتصحيح والتعليل تابعا لها، فهذا هو الغلط الذي وقع فيه الأستاذ من بداية الحوار إلى نهايته. وسعينا من خلال هذا الحوار أن نفهمه ذلك، لكن للأسف أبى إلا أن يستمر على منهجه السطحي، ويوازن قضايا الأسانيد على مراتب الرواة دون غيرها.(2/70)
نسأل الله تعالى العافية والسلامة .
وبهذا ننهي الحوار العلمي مع الشيخ ربيع المدخلي بنتائج مهمة في مجال علوم الحديث، سنلخصها في الخاتمة إن شاء الله تعالى . ولله الحمد، وهو الموفق وأهل التقوى والمغفرة .
الخاتمة
لقد كانت فصول هذا الكتاب لمناقشة أخطاء الأستاذ ربيع وأوهامه، في ردوده الثلاثة، اثنان منها مطبوعان؛ وهما: (منهج الإمام مسلم..)، و(التنكيل)، وأما الثالث فغير مطبوع، وتوصلت بعد التتبع والمناقشة إلى أن من أهم أسباب هذه الأخطاء والأوهام أنه جعل التصحيح والترجيح والتعليل تابعا لأحوال الرواة ومراتبهم، مع خلطه بين منهج النقاد المتقدمين ومنهج الفقهاء المتأخرين في ذلك.
إن ما كتبته في هذا الكتاب كله حق فيما أرى، ولم أكذب على أحد ولم أظلمه ولم أتحايل ولم أخف شيئا أعرفه خوفا منه، وأن جميع ما خالف فيه الأستاذُ جهابذةَ الأئمة - من تصحيح وتضعيف وترجيح - باطل. وأن كل ما اتهمني به في ردوده الثلاثة وخواتمها زور وبهتان.
كما حاولت أن يكون الكتاب علميا ومنهجيا بعيدا عن التزكية والتجريج والجدال العقيم. وما وقع مني فيه خلاف ذلك فاعتذاري فيه أني غير متعمد فيه، أو أني مكره لذلك دفاعا عن منهج المحدثين النقاد في التصحيح والترجيح والتعليل، بعد أن شوهه غضب الأستاذ وانفعاله ، وقد قال تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما } النساء:148.
وأرجو من الله تعالى أن يغفرلي زلتي، ويقيني من شرورها، وأن يقبل مني هذا الجهد ومن جميع من ساعدني فيه، ويجعله عملا صالحا وخالدا. كما أشكر الأستاذ ربيعا، حيث أتاحت لي أوهامه وسبابه وقلب الحقائق فرصة إعداد هذا الكتاب لبلورة منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف والترجيح، وتِبْيَان دقتهم المتناهية في التمييز بين الحق والباطل في أحاديث الرواة، والصواب والخطأ فيها. ذلك فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء ليبلوه أيشكر أم يكفر.(2/71)
أما النقاط العلمية التي أحب استخلاصها في هذه الخاتمة دون مبالغة ومجازفة، فهي:
? لم يفهم الأستاذ قبل الحوار سبب تعليل النقاد لحديث ابن عمر الذي رواه مسلم في أواخر باب فضل الصلاة في المسجد النبوي، فذهب إلى تصحيحه. ولم يقتنع بعد الحوار بدقة النقاد في ذلك التعليل، فجازف بقوله: إنه أصح من حديث أبي هريرة الذي صدر به مسلم الباب، على الرغم من كونه متفقا عليه، بخلاف القاعدة التي كان يطلقها الأستاذ، وهي: تقديم ما اتفق عليه الشيخان على ما انفرد به أحدهما.
? تعامَلَ الإمامُ مسلمٌ مع حديث ابن عمر بحيث يطابق موقف النقاد ورأيهم فيه، فأورده في آخر الباب مع بيان وجوه الاختلاف فيه، الذي من أجله أعلوه.
? صرح النقاد بأن ذكر ابن عباس في سند حديث ميمونة لا يصح.
? وما وقع في نسخة صحيح مسلم من ذكر "ابن عباس" في سند حديث ميمونة تصحيف قديم. لكن الحافظ المزي ذهب إلى أن ذكره هو الصواب.
? إن الإمام مسلما يرتب الأحاديث في صحيحه؛ فيقدم الأصح فالأصح في نظره.
? كما أنه يشرح فيه العلل على سبيل الندرة استطرادا بذكر وجوه الاختلاف، ولم ينفرد به مسلم، بل إنه أسلوب جميع المحدثين النقاد في كتبهم، ومنهم البخاري.
? إن هذين الأمرين الأخيرين مستقلان ولا صلة بينهما. اللهم إلا أن المعلول المنتقد لا يذكره مسلم في أول الباب، إلا إذا رأى صحته بخلاف غيره من النقاد، فيصدر به الباب اقتناعا منه بأنه أسلم وأصح.
? لم أقل للأستاذ - لا قبل الحوار ولا بعده ولا في أثنائه - إن مسلما يشرح العلل في صحيحه بالترتيب والتقديم والتأخير، كما أني لم أضعف حديثا في صحيح مسلم من تلقاء نفسي بناء على هذا الترتيب.
? دعوى الأستاذ أن الإمام مسلما لم يرتب الأحاديث غريبة لم يسبقه فيها أحد، بل مناقضة لما صرح به مسلم في المقدمة، وعملِه في الصحيح، وأقوال العلماء السابقين في ذلك.(2/72)
? إن التصحيح والتعليل والترجيح كل ذلك تابع لما يحتف بالحديث من القرائن، وليس تابعا لأحوال الرواة، إلا إذا خلا الحديث من القرائن، فحينئذ يُنظر في أحوالهم ومراتبهم وما هو الأغلب فيها والأظهر ليكون الحكم تابعا لمقتضى ذلك.
? كان الأستاذ ينهج في ذلك منهج الفقهاء المتأخرين، فصال وجال في معظم حواره بالاحتمال والتجويز العقلي مصاحبا بأحوال الرواة ومراتبهم في الجرح والتعديل. وبمقتضاها كان يصحح الأحاديث ويضعفها ويرجحها ويرد بها على النقاد؛ كالبخاري والنسائي والترمذي والدارقطني وابن عدي وغيرهم، ثم يُفضّل في ذلك قول الإمام المزي والزيلعي وابن التركماني والشيخ أحمد شاكر والألباني وغيرهم من المتأخرين والمعاصرين. نعم لكل منهم فضل واجتهاد، لكن ينبغي أن ننزل الناس منازلهم. ورحمهم الله تعالى جميعا.
? تبين لنا بجلاء وجود تباين منهجي بين النقاد المتقدمين والفقهاء المتأخرين في التصحيح والتضعيف والترجيح. لذا نرى المتقدمين يصححون ويضعفون الحديث بناء على مدى خلوه من شذوذ وعلة، وسلامته من جميع العيوب، بينما يصحح ويضعف المتأخرون سند الحديث بناء على مراتب رواته وأحوالهم.
? معرفة هذا التباين المنهجي أمر ضروري لمن يدرس علوم الحديث ويطبقها، وإلا فمصيره إلى الخلط بين المناهج المتباينة وقلب الحقائق رأسا على عقب، وطمس معالم النقد عند المحدثين النقاد.
? إن ربط الروايات بمدارها يشكل خطوة منهجية مهمة تتوقف عليها أساسا عملية المقارنة بينها ونقدها تصحيحا أو تضعيفا. ومن خلالها تمكن النقاد من معرفة أحوال الرواة وتمييز مراتبهم بدقة متناهية.
? إن منهج المحدثين النقاد في نقد الأحاديث موحد عموما، وأن مصطلحاتهم ونصوصهم فيه يفسر بعضها بعضا في حال اتفاقهم في الحكم.(2/73)
? من أهم القضايا المنهجية لكتابة الأبحاث أن يتحلى صاحبها بالصدق والعدل والإنصاف والشفافية في معالجة المسائل العلمية واحترام الحق والصواب فيها أيا كان مصدره، وعدم الخلط بين الأمور المسلمة التي لا يختلف فيها طرفا الحوار، وبين الأمور التي تشكل محل نقاش ونزاع بينهما.
اللهم إني قصدت الحق والدفاع عنه ونشره في الأجيال، وإن أخطأت فيه فاغفرلي وأعوذ بك من شره. وإن أصبت فمن توفيقك، واجعله عملا صالحا وخالدا لي ولكل من ساعدني فيه.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
1/ 1/1425هـ أبو محمد حمزة بن عبد الله المليباري
5/3/2004م كلية الدراسات الإسلامية والعربية دبي(2/74)