لماذا نحن مسلمون ؟؟؟
تأليف
حميد جابر القرشي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول رب العالمين وعلى آله الطاهرين وصحبه الأبرار المنتجبين . أما بعد ....
لا يخفى على أحد هذا التعدد الكبير بالديانات والمعتقدات في كل أنحاء الأرض , ومن الملاحظ أيضاً بأن كل أصحاب دين أو معتقد يدعون بأنهم على حق وغيرهم على باطل . لذا كانت بداية فكرة تأليف هذا الكتاب هي تساؤل خطر ببالي عن السبب من وراء ذلك . وهل من الممكن أن يتعايش كل هؤلاء بسلام مع إحترام كل أصحاب ديانة لغيرهم . وقادني هذا التساؤل أيضاً إلى سبب كوني مسلماً ولله الحمد , هل انا مسلم لأني وجدت قومي مسلمين فقلدتهم أم أنا مسلم لأني تيقنت من صحة كل ما أعتقده وأتعبد به فكنت بذلك مسلماً ؟.
هذا الكتاب هو جهد متواضع , سعينا قدر المستطاع أن نبين من خلاله بعض الحقائق للمسلمين وغير المسلمين ويهدف بصورة رئيسية لفتح الباب أمام الراغبين بالتعرف على الدين الإسلامي من المسلمين وغيرهم . فأما المسلمين فهو بمثابة حافز لهم لأن يكونوا موقنين من عقيدتهم ولا يكونوا مسلمين لأنهم وجدوا آبائهم هكذا يفعلون .أما غير المسلمين فأنه يصحح النظرة التي ينظر بها كثير من غير المسلمين إلى الإسلام . كذلك يبدد القناعة التي تولدت لديهم نتيجة الحملة التي شنها أعداء الإسلام لتشويهه ودعمهم بذلك الجهلة من المسلمين سواء بأفعال أو أقوال أو نظريات نسبت للإسلام وآمن بها العديد من الناس.(1/1)
وأنا هنا لا أدعي بأن هذا الكتاب هو شامل لكل مبادئ الإسلام الحنيف وإنما هو عبارة عن مبادرة آمل من أساتذتي من علماء ومثقفين أن يدعموا الفكرة التي كتب من أجلها الكتاب . لأننا قد تطرقنا لجزء بسيط من المبادئ التي دعا إليها الإسلام . نحن محتاجون لهؤلاء العلماء والمفكرين ليرفدونا بالمزيد. كما حرصنا أيضاً أن ننقل الحقائق بموضوعية ومن مصادر أصحابها . كما ذكرنا في بعض الفصول ما يقوله أصحاب الشأن وما يقوله خصومهم . لا لأجل إثارة الفتن وإنما لنترك للقارئ حرية التقرير والإطلاع . ولا نفرض عليه قناعاتنا الشخصية كما حدث في كثير من الكتب التي تتطرق لنفس الموضوع . فهي إما أن تنقل رأي فئة معينة في موضوع من المواضيع وتغفل عن رأي فئة أخرى , أو تضيق المعنى لبعض المواضيع الحساسة وبالتالي لا يصل القارئ لفهم كافي لتفصيل وحقيقة الموضوع .
كما أن هنالك دعوة للمسلمين أن ينبذوا خلافاتهم ويتجهوا للإلتفاف حول دينهم . وبدل من تكريس الجهود لمحاربة بعضهم البعض , يسعون لتجسيد مبادئ الدين السامية والتي لابد للعالم من معرفتها .
حميد جابر القرشي
" لماذا نحن مسلمون ؟؟؟ "
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
في يوم من الأيام كنت جالساً وأستمع لتلاوات من القرآن الكريم ومرت بي آية قرآنية جعلتني أتأمل في معانيها ومصاديقها وهي قولة عز من قائل (( وإذ قال إبراهيم ربٍ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعياً وأعلم أن الله عزيز حكيم ))(1) صدق الله العظيم.
__________
(1) البقرة :260(1/2)
فتسألت لماذا يطلب نبي الله إبراهيم (ع) مثل هذا الطلب وهو على درجة كبيرة من اليقين بقدرة الله تعالى؟ ولماذا ذكر الله سبحانة هذة الحادثة في القرآن ؟ ولماذا استجاب لطلبه وكان حري بة أن يذكره بأنه لا ينبغي لنبي بما هو عليه من يقين وإيمان بقدرة الله سبحانة أن يطلب مثل هذا الطلب , لأنه أعلم الناس بها.
فأستنتجت حسب فهمي المتواضع بأن المراد من ذكر هذه الأية تذكير الناس ودعوتهم إلا أن يكونوا متيقنين من عقيدتهم ويزدادوا معرفة بها ومطمئنين لصدقها كما فعل نبي الله إبراهيم (ع).وليس مجرد تقليد أو إتباع ماهو سائد في مجتمعاتهم , وليكونوا مستعدين لصد وردع كل من يحاول النيل من تلك العقيدة . كذلك يساعدهم في القراءة الصحيحة للواقع المتغير بما يحمل من تيارات فكرية وعقائدية متعددة وبالتالي يتمكنوا من معرفة مسببات المشاكل والفتن والإنحرافات التي تعصف بمجتمعاتنا الإسلامية . وهنا تبادر لذهني عدة أسئلة :
لماذا هذا التنوع بالأديان وما هي مسبباتة ولماذا يرى أتباع كل دين أنهم على حق وغيرهم على باطل؟
لماذا ينكر بعض الناس وجود خالق ومدبر لهذا الكون ؟ ولماذا يعتقد البعض بوجود آلهة متعددة ؟ وماذا لو أن أحد هؤلاء سألنا لماذا أنتم مسلمون ؟ ترى بم سنجيب ؟
كل هذة الأسئلة تبادرت لذهني , وكان البحث في جواب كل سؤال أمراً يستغرق وقتاً ليس بالقصير . حيث أن البحث في معتقدات الأديان والتيارات الأخرى يوجد حتماً جواباً على الأسئلة السابقة , وهنا بدأت الرحلة ....
الفصل الأول
الأديان
المعسكر المقابل للمسلمين يعج بالمعتقدات والتيارات الفكريه المتضاربه وكلُ يحمل فكراً مغايراً. ولكن يمكن تصنيفهم لعدة فرق وهم :
الوثنيون .
المذاهب اليهودية.
المذاهب المسيحية .
الصابئة .
المذاهب الهندية .
الكونفوشيوسية .
المذاهب الفارسية .
الوثنيون(1/3)
الوثنية هي عبادة الأوثان. والوثن هو الشيء المقيم الراكد الثابت الدائم(1). لو أوردنا مثالاً على هذا الصنف وهم الأقوام الأولى التي سكنت الأرض ومنهم الإنسان القديم , فخلال تلك الفترة كانوا يرون الكثير من الظواهر الطبيعية التي تبهرهم وتحير عقولهم وأخرى تودي بحياة الكثير منهم ومنها الأمراض والوحوش وغيرها , وهم بلا حول ولا قوة . وأدركوا أن هنالك قطعاً من هو مسيطر على ذلك كله . الأمر الذي حدا بهم للبحث عن هذا المقتدر والمتصرف بالكون .وأخذوا بإنشاء رموز لهذا الشيئ الذي لايعرفون صفتة .
فمنهم من صنع تماثيل من الحجارة أو الخشب وغيرها , ومنهم تعبد لبعض الحيوانات سواء كانت موجودة في ذلك الوقت أو هي من نسج خيالهم , ومنهم من عبد الشمس والقمر والنجوم , أو حتى الظواهر الطبيعية كالرعد والبرق , وهنالك نظريات تحاول تفسير هذه الظاهرة وسنشير إليها فيما بعد إن شاء الله . وهنالك أقوام يتبنون أفكاراً مشابه حتى يومنا هذا . وأخذوا يتوددون لهذه الأشياء .
من الملاحظ أن قصور التفكير والإفتقار للمعرفة التي توسع مداركهم وعدم القدرة على الإستدلال الصحيح وصولاً للحقيقة وطبيعة البيئة التي يعيش فيها مثل هؤلاء , هو الذي دفعهم لتبني مثل هذة الأفكار , ومن أتى بعد هؤلاء الأقوام تبنى نفس معتقدات من سلفهم من باب التقليد والخشية من الخروج عن ماهو مألوف من ديانة , وتطورت هذة المعتقدات إلا أن وصل الأمر إلى تكوين أديان وملل مختلفة .
__________
(1) لسان العرب : الفرق بين الوَثَنِ والصَّنَم أَن الوَثَنَ كل ما له جُثَّةٌ معمولة من جواهر الأَرض أَو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تُعمَلُ وتُنْصَبُ فتُعْبَدُ، والصَّنَمُ الصورة بلا جُثَّةٍ؛ ومنهم من لم يفرق بينهما وأَطلقهما على المعنيين(1/4)
وهنالك أناس في وقتنا الحالي يتبنون أفكاراً مشابهه . فالوثنية الجديدة هي مجموعة حركات دينية، خاصة المتأثرين بالديانات القديمة التي كانت في الوجود قبل الديانة المسيحية وأحياناً الديانة اليهودية. عادةً، هذه المجموعة تكون من أصل هندوأوروبي، لكن هناك مجموعة آخرى ضمن الوثنية الجديدة التي لها أصلها في أوروبا، مثل الفينوأوغريكية، و من مناطق آخرى من العالم. كما يوضح الاسم أن هذه الديانات وثنية.
أفكار وطقوس الديانات الوثنية تختلف كثيراً من ديانة الى آخرى. بعض الوثنيين-الجدد قد يمارسون مجموعة من طقوس من ديانات وثنية مختلفة، أما المجددين يحاولون يضلون على أقرب ما يمكنون من ديانة وثنية واحدة. وهناك الوثنيين-الجدد حين يمارسون هؤلاء نوع من الروحانية جديدة ولها أصلها في العصر المتقدم . وكمثال على الدينات الوثنية نورد مثال على ديانة (الويكا ).
ديانة (الويكا )
الويكا هي أشهر ديانة وثنية جديدة، بدأت تحت يد جرلد غاردنر في الثلاثينات، ولكن شُهِّر بها سنة 1951. منذ بدايتها، إنقسمت إلى عدة تقاليد، أصلها الويكا الغاردنيرية(1) ، وهذا التقليد يقلد إعتقادات وعادات غاردنر. ويأتي إسم هذه الديانة من "wicce" من اللغة النرسية وتعني "شخص حكيم"، ولكن يرجع البعض إلى الإستخدام الإنكليزي القديم "wicca" وتعني الساحر أو مشعوذ، أو كلمة "witan" من الإنكليزية القديمة ومعناها حكيم أو حكيمة.
الخصائص
__________
(1) الويكا الغاردنيرية (تنطق گاردنيرية) هي تقليد من ديانة الويكا. هذا التقليد مسمى على جيرلد غاردنر (1884-1964). بعد التقاعد، غاردنر ذهب الى مدينة كريستشرش في ساحل جنوب انكلترا، أين تعرف على مجموعة من الناس الذين حموا الطقوس التقليدية. انبهر غاردنر وبدأ بتجديد ديانة الذي وصفها بالقديمة. بعض الوثنيين-الجدد يعتبرون التقليد الغاردنيري كتقليد أصولي بين التقاليد الويكية، لأنه يتطلب ممارسة صارمة للطقوس الذي تحدث عنها غاردنر.(1/5)
من خصائص هذه الديانة
عبادة إله وإلهة، أو فقط الإلهة.
مراسيم السبت (مثل: سوين، بيلتَين، إمبولك، لاماس، ليثا، يول، أوستارا ومابون) والإسبات (على ظهور كل قمر جديد وبدر).
فعل المراسيم متعرين.
معظم اتباع هذه الديانة يستجدمون كتاب الظل كدفتر يوميات يحتوي على أفكار وتعويذات. وبعض آخر يخصصون كتاب الظل للتعويذات فقط و يستخدمون كتاب آخر يسمى كتاب المرايا للأفكار والتعليق على التجارب.
أخلاق الويكا
كل الأخلاق الوكية تأتي من الـ"نصيحة الويكا" التي تقول: "إذا لن يؤذي دابة، فإفعلوا ما نويتم" وهذا يبين لكل ويكي أن له مسؤلية تامة لما يفعله. الكثير من الويكيين يشهرون قانون الثالوث وهو ما يعني أن ما يفعله المرء يرجع له بثلاث مرات، إن كان خيرا أم شرا. و من أصناف الويكا المختلفة: 1. الويكا الإسكندرية(1) 2. الويكا الدايانية 3. الويكا الغاردنيرية . 4. الوكا الجنية
المذاهب اليهودية
المطلب الأول :تعريف اليهودية
اليهودية: " هي ديانة العبريين المنحدرين من إبراهيم ( ، والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل" .وجاءت تسمية العبريين من العبور ، وسموا عبريين لأن إبراهيم عبر نهري دجلة و الفرات عند هروبه بعد تكسير الأصنام من ( إرم ) متجهاً إلى كنعان. ( فلسطين )(2). أما الأسباط : فالسبط في بني اسرائيل كالقبيلة , والأسباط هم أحفاد يعقوب (ع) وذراري أبنائه الأثني عشر(3)
__________
(1) الويكا الإسكندرية هي تقليد من دين الويكا الوثني، سمي بإسم أليكس ساندرس، الذي مع زوجته ماكسين، أسس هذا التقليد في عقد الستينات. كان ساندرس في ماضيه ناشئ في جماعة غاردنيرية. إجمالاً الجماعات الإسكندرية تركز على التدريب في السحر الشعائري مثل القبالة والسحر الملاكي والإخنوخي. الجماعة الإسكندرية المثلية لها ترتيب هرمي، ويجتمع إسبوعياً، أو على الأقل كل بدر وقمر جديد، والاحتفالات.
(2) "قصة الديانات. سليمان مظهر–صـ302 "
(3) " التفسير الكبير الرازي ج2 ص 565".(1/6)
اليهود : سبب التسمية :
1) قيل : " نسبة لقولهم إنا هدن إليك ". أي من هاد يهود إذا رجع وتاب(1).
2) وقيل : " أنهم مالوا عن دين موسى ( ، أو هم الذين تهودوا , كما جاء في موسوعة الأديان ص141.
3) وقيل بمعنى عادوا إلى الله ، وإما بمعنى أنهم أولاد يهودا وهو أكبر أولاد يعقوب عليه السلام(2).
4) وقال أبو عمرو بن العلاء : " سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة(3) "
اليهودية من المصطلحات التي تسبب اختلافا في دلالتها. يشير اليهود إلى عقيدتهم باسم التوراة (أي القانون، أو الشريعة). ظهر المصطلح للمرة الأولى في العصر الهيليني تمييزا بين عقائد وممارسات اليهود، والعبادات الموجودة في الشرق الأدنى.
وأول من أشار إلى عقيدة اليهود باليهودية هو المؤرخ اليهودي المتأغرق يوسيفوس فلافيوس، وذلك بالمقارنة مع "الهيلينية": عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة هيلاس. فالمصطلحان بدءا اسمين جغرافيين قبل أن يشيرا إلى النسقين العقائديين.
يرى الدارسون أن "اليهودية" كمصطلح لا يشير إلى النسق الديني للعبرانيين قبل تدوين العهد القديم أثناء الهجرة الأولى إلى بابل 578 ق.م.، أي بعد موسى بمئات السنين، واستمر التدوين حتى القرن الثاني قبل الميلاد، في وقت أصبحت فيه العبرية لغة ميتة لا تستخدم إلا في الطقوس الدينية، بينما أصبحت الآرامية لغة اليهود. لذا، قد يكون من الأفضل الحديث عن "عبادة يسرائيل" في المرحلة السديمية التي تسبق بناء الهيكل وتأسيس المملكة العبرانية المتحدة عام 1020 ق.م.، وعن "العبادة القربانية المركزية" بعد تأسيس الهيكل وحتى هدمه عام 70 ميلادية، واليهودية بشكل عام لما بعد ذلك
المطلب الثاني
بنو إسرائيل بعد موت موسى (
__________
(1) " موجز الأديان في القرآن . د.عبدالكريم زيدان ص31"
(2) " كما جاء في كتاب ظلال القرآن لسيد قطب ج1 .ص75 .
(3) " التفسير الكبير للرازي ص536(1/7)
قبل أن يموت موسى ( ترك لليهود شريعة تكفي لجعلهم مؤمنين موحدين ،" على أن موسى قبل أن يموت كان قد رسم لليهود طريقهم السوي.. الوصايا العشر(1) .وكان من أهم هذه الوصايا: الاعتقاد بإلهٍ واحد ؛ ولكن ميل اليهود وحبهم للوثنية جعلهم يتركوا التوحيد ،وتوجهوا لعبادة آلهةٍ أخرى ، لدرجة أنهم عبدوا العجل ، وموسى ( لا يزال موجوداً بين ظهرانيهم . أما بعد أن مات موسى ( فقد تمادى اليهود كثيراً في عصيانهم و وثنيتهم .
دخول بني إسرائيل فلسطين :
ويذكر المؤرخون أن الذين كانوا مع موسى ماتوا كلهم في التيه ، باستثناء اثنين ، كان يوشع واحداً منهما "(2). فتولى يوشع بن نون القيادة بعد موسى عليه السلام . " يوشع بن نون : تولى القيادة بعد موت موسى ودخل ببني إسرائيل عن طريق شرقي الأردن إلى أريحا(3) ,.بعد أن دخل اليهود فلسطين ، قسموها إلى اثني عشر قسماً بين الاثني عشر سبطاً من بني إسرائيل ، وجعلوا حكامهم من القضاة الذين اتفقوا فيما بعد على إقامة مملكة موحدة ." تقسمت الأرض المفتوحة بين اثني عشر سبطاً ، يحكمهم قضاة من الكهنة...آخر القضاة صموئيل شاؤل ، صار ملكاً عليهم ، وهو الذي يسميه القرآن"طالوت"، وهو الذي قادهم في معارك ضارية ضد من حولهم ، وكان داود واحداً من جنوده(4) "؛ لكن المملكة الموحدة لم تستمر طويلاً ؛ إذا لم يحكمها إلا ثلاثة :شاؤول، داود ،سليمان والذي وصلت المملكة في عهده إلى الذروة .
__________
(1) "قصة الديانات"
(2) الموسوعة الميسره ص565
(3) المصدر السابق ص 566
(4) المصدر السابق(1/8)
" والحق لقد كانت أيام حكم سليمان هي أغنى عهود مملكة إسرائيل التي أقامها شاؤول ، وقواها ووسع حدودها الملك داود ، ثم جعلها سليمان أغنى البقاع في المنطقة(1) "،. وبعد موت سليمان ( انقسمت المملكة إلى مملكتين مما أدى إلى ضعف بني إسرائيل ، فتعرضوا للغزو والسبي ، وتعرض هيكلهم الذي بناه سليمان لأداء الشعائر الدينية فيه للهدم على يد (نبو خذ نصر )." وقد دق بنوخذ نصر(بختنصر) أورشليم والمعبد ، وسبى اليهود إلى بابل ، وهذا هو التدمير الأول(2) ".وبعد فترة من السبي عاد البعض إلى فلسطين ، و تم بناء الهيكل من جديد على يد"هيرودوس" ." ومن سنة ( 20ق.م) بنى هيرودوس هيكل سليمان من جديد سنة (70 ) م "(3).
ثم جاء الإمبراطور" تيطس" إلى المدينة وأحرق الهيكل ودمره للمرة الثانية."..حيث دمر الإمبراطور" تيطس" المدينة وأحرق الهيكل . وهذا هو التدمير الثاني " .وبعد ذلك جاء" اوريانوس" سنة 135م ليزيل معالم المدينة تماماً ، ويتخلص من اليهود بقتلهم ، وتشريدهم ، وقد بنى هيكلاً وثنياً أسمه" جوبيتار" مكان الهيكل المقدس ،وقد استمر هذا الهيكل الوثني حتى دمره المسيحيون في عهد الإمبراطور" قسطنطين(4) "." ثم فتح المسلمون فلسطين عام 636 م . وفي عام 1897 م بدأت الحركة الجديدة لليهود ، وهي حركة سياسية شرسة أسسها" هرتزل" الصحفي اليهودي هدفها سياسي.وهو سيطرة اليهود وبسط نفوذهم على العالم بدءاً بإقامة دولة لهم في فلسطين.وقد استمدت الصهيونية فكرها ومعتقداتها من الكتب المقدسة التي حرفها اليهود وصاغت فكرها في " بروتوكولات حكماء صهيون" والبروتوكولات : وثائق محاضرة ألقاها زعيم صهيوني على مجموعة من الصهاينة ليستأنسوا بها ويسيروا عليها في إخضاع العالم والسيطرة عليه ويعتقدون أنها إلهام من الله.(5)
المطلب الثالث
عقائدهم
__________
(1) قصة الديانات ص321
(2) الموسوعة الميسرة ص566
(3) الموسوعة الميسرة ص567
(4) الموسوعة الميسرة ص567
(5) المصدر السابق ص571(1/9)
الإله :
1) عقيدة اليهود في أصلها هي عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى (.ولكن ميل اليهود وحبهم للوثنية جعلهم يبتعدون عن عبادة الله وحده . "لم يستطع ( بنو إسرائيل ) الاستقرار على عبادة الله الواحد الأحد الذي دعا له الأنبياء ، وكان اتجاههم على التجسيم والتعدد والنفعية واضحاً في جميع مراحل تاريخهم"(1) .
3) جعلوا لهم إلهاً خاصاً بهم يطلق عليه أسم " يهوه(2) " ثم وصفوه بصفات لا تليق به . وهو ليس معصوماً بل يخطئ ويثور ويقع في النوم ، وهو يأمر بالسرقة ، وهو قاسٍ ، متعصب، مدمرٌ لشعبه ، إنه إله بني إسرائيل فقط ، وهو بهذا عدوٌ للآخرين ".
4) قالوا إن عزيرٌ ابن الله ،. وذلك لأنه وجد توراة موسى (بعد أن ضاعت ، وأعاد بناء الهيكل . "عزرا هو الذي أوجد توراة موسى بعد أن ضاعت فبسبب ذلك ، وبسبب إعادته بناء الهيكل سمي عزرا ابن الله(3) ". وأيضاً عبدوا العجل والحمل والكبش وقدسوا الحية لدهائها .
ومن معتقداتهم :
1) أنهم أبناء الله وأحباؤه ..
2) عقيدتهم المحرفة لا تتكلم عن اليوم الآخر ولا البعث والحساب،ولكن تأثر اليهود بالديانة ( الزرادشتية) جعلهم يعتقدون باليوم الآخر . والزرادشتية ديانة الفرس , والتي تقوم على أساس أن للوجود إلهين إله الخير وإله الشر وسنرد على ذكرهم فيما بعد ." و( اليهودية ) لا تتكلم عن البعث واليوم الآخر والحساب...غير أنهم اقتبسوا من (الزرادشتية ) الاعتقاد بحياة أخرى بعد الموت.ولأول مرة عرفوا أن هناك جنةً وناراً فنقلوا ذلك الاعتقاد إلى ديانتهم(4) ".
3) ديانة اليهود خاصة بهم ، فلا ينسب إليها من اعتنقها من غيرهم بل ولا يُعترف بمن ولد من أم غير يهودية وإن كان أبوه يهودياً .
__________
(1) الموسوعة الميسرة ص332.
(2) موسوعة الأديان ص151
(3) الموسوعة الميسرة ص 571.
(4) موسوعة الأديان ص154(1/10)
يعتقدون بتابوت العهد الذي يحوي ألواح شريعتهم ؛ " ويعتقد بنو إسرائيل في ( تابوت العهد ) الذي صنعه أسلافهم أن ( موسى ) وضع فيه اللوحين ووضع فيه الذهب و الفضة وبعض المواثيق ، وقال لبني إسرائيل :( إنه في هذا الصندوق توجد روح الإله يهوه ) ولم يكن يسمح لأحد أن يمسَّه(1) " .
5) الماشيح والماشيحانية
الماشيح في المفهوم اليهودى هو مسيح اخر الزمان الذى سيأتى ليقاتل الامميين او غير اليهود و هو في مفهومهم نبى مقاتل و هذا ما جعلهم ينكرون نبوة السيد المسيح و كذلك الرسول محمد ( ص ) نظرا لكون النبيان جاءا بعكس التوجهات العنصرية اليهودية و التى كانت تصور الماشيح بأنه الذى سينتقم لليهود من كل ما تعرضوا له من جهة و لكون الرسولان عيسى و محمد فتحا الباب للجميع للأيمان بالله على عكس اليهودية الديانة المغلقة و الماشيحانية توجه موجود الان بين بعض المتطرفين المسيحيين الامريكيين المتأثرين ببعض المفاهيم التوراتية و التى تؤمن بعودة المسيخ الى الارض و خوضه حرب عالمية ضد الجميع بأسم معركة(2) هرمجدون.
المطلب الرابع
فرق اليهود
1) الفريسيون : أي المتشددون ، يسمون بالأحبار أو الربانيين ، وهم رهبانيون ، لا يتزوجون ، لكنهم يحافظون على مذاهبهم عن طريق التبني ويعتقدون بالبعث ، والملائكة وبالعالم الآخر(3). وكانوا من أشد خصوم المسيح : " كانوا من أشد خصوم المسيح خطراً عليه " الموسوعة الميسرة .
2) الصديقيون : وهي تسمية من الأضداء ، لأنهم مشهورون بالإنكار ؛ فهم ينكرون البعث ، والحساب ، والجنة والنار ، وينكرون التلمود ، كما ينكرون الملائكة ، والمسيح المنتظر (4).
__________
(1) المصدر السابق
(2) راجع كتاب اسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية – هشام آل قطيط.
(3) الموسوعة الميسرة ص 568
(4) موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة . العميد: عبدالرزاق محمود أسود ج1 .ص191).(1/11)
3) القرّاؤن : " تأتي تسميتهم من كفرهم بـ المشنا(وهو أول كتاب جمع روايات التلمود) )(1).
4) المتعصبون : " هم فرقة كانوا في فلسطين على صلة وثيقة بالفريسيين "(2)،" فكرهم من فكر الفريسيين ، لكنهم اتصفوا بهدم التسامح وبالعدوانية "(3) .
5) الكتبة : مهمتهم كتابه الشريعة: " مجموعة من اليهود كانت مهمتهم كتابة الشريعة لمن يطلبها "(4).وكانوا يقومون بوعظ الناس فكسبوا من وراء هذا الوعظ أموالاً طائلة ، " وقد ثروا ثراء فاحشاً على حساب مدارسهم ومريديهم "(5).
المطلب الخامس
كتبهم
أهم كتب اليهود ما يلي :
العهد القديم": هو الذي وصل إلى اليهود بواسطة الأنبياء الذين كانوا قبل عيسى("(6) ، والعهد القديم ينقسم إلى قسمين :
1) التوراة : خمسة أسفار تنسب للأنبياء وهي :(سفر التكوين-سفر الخروج-سفر العدد- سفر التثنية- سفر اللاويين)
__________
(1) موسوعة الأديان ص 194
(2) المصدر السابق ص 184
(3) الموسوعة الميسرة ص 568
(4) المصدر السابق ص 194
(5) المصدر السابق ص 568
(6) موسوعة الأديان ص 155(1/12)
2) التلمود(1) : وهو تفسيرات وإيضاحات للتوراة ، كتبها الحاخامات ، ومنزلته لدى اليهود أهم من منزلة التوراة : " ويحتل التلمود عند اليهود منزله مهمة جداً تزيد منزلة التوراة "(2). جاء في كتاب شاغيجا : "من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت دون من احتقر أقوال التوراة"(3).وهو يتكون من جزأين :
متن : ويسمى ( المشنا ) بمعنى المعرفة أو الشريعة المكررة .
شرح : ويسمى ( جمارا ) ومعناه الإكمال(4) .
المطلب السادس
أعيادهم
1) عيد الفصح : وهو عيد خروج بني إسرائيل من مصر(5) .
2) عيد الظل : وهو عيد زراعي .
3) عيد السبت : ولا يجوز العمل عندهم في هذا اليوم ، لأن الله بزعمهم ارتاح فيه ، بعد أن خلق السماوات والأرض .
4) عيد الحانوكة : عيد له طبيعة سياسية وصهيونية. وهناك عدد آخر من أعياد اليهود كعيد البوريم – وعيد الحصاد – وعيد الأهلة – والهلال الجديد – ويوم التكفير – وزيارة بيت المقدس ،ومعظم هذه الأعياد ليست من أصل الدين اليهودي الذي جاء به موسى (.
المذاهب المسيحية
المطلب الأول
تعريف النصرانية
__________
(1) التلمود كلمة عبرية هي المقابل الحرفي لكلمة "التلمذة" العربية. يحوي التلمود الشريعة الشفوية، وهو سجل للمناقشات التي دارت بين الحاخامات في الحلقات التلمودية عن القضايا الفقهية (هالاخاه)، والوعظية (آجاداه). وباعتباره سجلا للمناقشات كتب على مدى قرون، يحوي التلمود موضوعات تاريخية، وتشريعية، وزراعية، وأدبية، وعلمية...يختلف التلمود الفلسطيني عن التلمود البابلي في أن الجماراه في الأخير أكثر شمولا، بينما يتطابق نص الجماراه في الاثنين.
(2) الموسوعة الميسرة ص 570
(3) حركات هدامة . أحمد عبدالحليم ص21
(4) دراسات في الأديان . سعود بن عبدالعزيز الخلف ص100
(5) دراسات في الأديان . سعود بن عبدالعزيز الخلف.(1/13)
"هي المسيحية التي أنزلت على سيدنا عيسى مكملة لرسالة موسى ، متممة لما جاء في التوراة من تعاليم ، وجهة إلى بني إسرائيل . لكنها سرعان ما فقدت أصولها مما ساعد عل امتداد يد التحريف إليها حيث ابتعدت كثيراً عن صورتها السماوية(1) .
سبب التسمية :
سمو نصارى لأنهم نصروا المسيح(2) .
2) وجاء في تفسير ابن عطية : النصارى لفظة مشتقة من النصر إما لأن قريتهم تسمى "ناصرة " ويقال نصرياً . وإما لأنهم تناصروا .
3) وأما لقول عيسى عليه السلام " من أنصاري إلى الله "(3) .
المطلب الثاني
نبذة تاريخية موجزة
في ظل عهد الرومان عانى اليهود اضطهاداً كبيرا .. فتوقعوا ظهور المسيح المخلص ، الذي وعد بمجيئه عندما يتعرضون للاضطهاد فإنه يجيء مخلصاً لهم من هذا الظلم حاملاً معه الخير العظيم لبني إسرائيل .وكان بالفعل قد قرب مولد المسيح ( ففي بيت لحم " كانت مريم العذراء قد حملت بالمسيح المنتظر من غير أب " حملت به مريم عن طريق الروح القدس الذي تمثل لها بشراً سويا ونفح في درعها وعمرها آنذاك (15عاما) وقيل ( 13عاما)(4). عندما أحست مريم بالمخاض ذهبت بعيداً تحت جذع النخل لتضع وليدها ...وذلك خوفاً من قومها أن يتهموها .ولكن الوليد تكلم بقدرة الله وطلب من أمه أن تذهب به إلى قومها.. فبرأ والدته من البغي وأخبرهم أنه نبي ،
بداية الوحي :
عندما بلغ عيسى ( سن الثلاثين .. نزل عليه " الروح الأمين " فكان ذلك بدء الرسالة السماوية وفاتحة عهد النبوة (5) " فأعلن نبوته وأصبح له أتباع ، وأختار له من بينهم اثني عشر شخصاً سموا بالحواريين أرسلهم لإعلان دعوته وظهوره .
__________
(1) الموسوعة الميسرة ص 499
(2) تفسير الزمخشري ج1 ص164 , عن موجز الأديان في القرآن .د/ عبدالكريم زيدان ص65
(3) تفسير أبن عطية ج1 ص326 عن موجز الأديان في القرآن .د/ عبدالكريم زيدان ص65
(4) موسوعة الأديان والمذاهب . العميد : عبدالرزاق محمد أسود ج1 ص202
(5) قصة الديانات . سليمان مظهر ص356(1/14)
"فلقيت دعوته أشد ما يلقاه دين من مقاومة ، وناصبه القوم العداء ، وكذبه اليهود(1)".مكروا به واتهموه بالكفر والتمرد .. فقبض عليه بهذه التهمة وحوكم بها وكانت عقوبتها الإعدام فحكم عليه بالصلب والقتل(2)".
.وفي قصة الصلب خلاف كبير بين المسيحيين والمسلمين حول حادثة الصلب ؛ فالمسيحيون يؤمنون بأن المسيح ( صُلب ، وهذه من أهم عقائد المسيحيين ... فالصلب جاء لتخليص البشرية من الخطيئة التي ورثتها عن أبيها آدم ( ، حينما عصى الله بأكله من الشجرة التي منع منها ... فصار خاطئاً هو وجميع ذريته ، فاستحقوا العقاب في الآخرة ." ولكن لما كان من صفات الله العدل والرحمة فمن عدله أن لا يترك الجريمة دون عقاب ، وهو موصوف بالرحمة أيضاً فلتحقيق العدل والرحمة أرسل ابنه ليصلب ويقتل حتى يفتدي البشر ويتحمل عنهم خطاياهم ، ولكنه بعد صلبه ودفنه بثلاثة أيام قام من القبر . وظهر لعدد من الناس في أماكن مختلفة ، ثم رفعة الله إلى السماء وهذا ما يسمى بقيامة المسيح ( أي قيامته من قبره بعد صلبه ودفنه)". والحال أنه عندما أراد اليهود القبض على عيسى ( رفعه الله إليه وألقى بشبهه على الذي دلهم عليه وهو "يهوذا الأسخريوطى".والذي كان أحد تلامذته الحواريين الاثني عشر ، ولكنه خان نبيه فعاقبه الله فألقى عليه القبض ، وصلب وقتل على أنه عيسى (3)(.
المطلب الثالث
أهم عقائد المسيحيين
عقيدة التثليث :
__________
(1) المصدر السابق
(2) المصدر السابق ص 371-379
(3) المصدر السابق ص386(1/15)
أي أن الإله ثلاثة : الله ، الابن ، الروح القدس .قال الدكتور يوست" في تاريخ الكتاب المقدس":( طبيعة الله عبارة عن ثلاثة اقانيم (1) الأقنوم : هو الأصل أي ثلاثه جواهر في لاهوت واحد والأصول الثلاثة هي : الأب , الأبن , روح القدس ) متساوية : الله الأب ، والله الابن ، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن ، و إلى الابن الفداء،وإلى روح القدس التطهي(2)" وبولس هو أول من ادعى ألوهية عيسى (، وهو الذي حول الديانة المسيحية من قومية إلى عالمية لأطماع شخصية.
2) عقيدة الخطيئة والفداء :
جاء في العهد الجديد(3) :" ...أن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك .فبمحبته .ورحمته قد صنع طريقاً للخلاص(4)". يقولون هذا : أن الله من صفاته المحبة ، حتى لقد جاء في الكتب المقدسة عندهم : " الله المحبة " ومحبه الله ظهرت في تدبيره طريق الخلاص للعالم ؛ لان العالم من عهد سقوط آدم عليه السلام في الخطيئة ، وهبوطه هو وبنيه إلى الدنيا ، مبتعد عن الله بسبب تلك الخطيئة ، ولكن الله من فرط محبته وفيض نعمته رأى أن يقرب إليه هذا الابتعاد ، فأرسل لهذه الغاية ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم(5).
3) محاسبة المسيح للناس :
يعتقد المسيحيون أن الأب أعطى سلطان الحساب للابن . ذلك لأن الابن بالإضافة إلى ألوهيته و أبديته ؛ ابن الإنسان أيضاً فهو أولى بمحاسبة الإنسان . وأنه بعد أن ارتفع إلى السماء جلس بجوار الأب على كرسي استعداداً لاستقبال الناس يوم الحشر "(6) .
4) غفران الذنوب :
__________
(2) محاضرات في النصرانية . محمد أبو زهرة ص100
(3) أي الإنجيل وفي مقابله العهد القديم وهو التوراة
(4) موسوعة الأديان والمذاهب . العميد : عبدالرزاق محمد أسود ج1 ص218
(5) محاضرات في النصرانية . محمد أبو زهرة ص107
(6) موسوعة الأديان والمذاهب . العميد : عبدالرزاق محمد أسود ج1 ص218(1/16)
عقيدة لا ينكرها إلا طائفة ( البروتستنانت )(1) وهي ما يتم في الكنيسة من الاعتراف والإقرار ، أمام القسيس الذي يملك وحده قبول التوبة ومحو السيئة . " وهذا الاعتراف يسقط عن الإنسان العقوبة بل يطهره من الذنب إذ يدّعون بأن رجل الدين هذا هو الذي يقوم بطلب الغفران من لله(2) " .وهذه العقيدة تؤدي إلى تفشي الأسرار البيتية وانتشارها من قبل القائمين عليها مما يؤدي إلى زعزعه الاستقرار الاجتماعي .
المطلب الرابع
أهم كتب المسيحية
العهد القديم : وهي التوراة والتي تعد أصلاً للديانة المسيحية .
العهد الجديد : وهو الإنجيل والأناجيل المعتبرة عند المسيحيين اليوم هي أربعه أناجيل: (إنجيل متى ، إنجيل مرقس ، إنجيل لوقا ، إنجيل يوحنا) .وهذه الأناجيل ليست من إملاء المسيح عليه السلام مباشرة . " وقد ذكر بعض المؤرخين أنه لم توجد عبارة تشير إلى وجود أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا قبل آخر القرن الثالث ، وأول من ذكر هذه الأناجيل الأربعة ارينيوس في سنه209 "(3) . ويقول القس إبراهيم سعيد : أن إنجيل متى كتب لليهود وإنجيل لوقا كتب لليونان وإنجيل مرقس كتب للرومان ، وإنجيل يوحنا كتب للكنيسه العامة "(4).
إنجيل متى : وقد كتبه متى ، وقيل هو أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر ويسميهم المسيحيون رسلاً(5). ويقال أنه كتب إنجيله في بيت المقدس بالعبرية ، ثم نقل إلى اللغة اللاتينية(6). بينما يتفق المسيحيون على أن متى كتب إنجيله باللغة الآرامية . إلا أن النسخة الآرامية لا وجود لها ، وظهر الإنجيل باللغة اليونانية وقيل أنه مترجم عن الأصل ولكن لم يعرف المترجم ولا تاريخ الترجمة كما لم يعرف تاريخ التأليف(7).
__________
(1) المصدر السابق ص220
(2) الموسوعة الميسرة ص 504
(3) محاضرات في النصرانية . محمد أبو زهرة ج1 ص41
(4) المصدر السابق ص 48-49
(5) المصدر السابق ص42
(6) مقدمة أبن خلدون ص232
(7) موسوعة الأديان والمذاهب ج1 ص231(1/17)
إنجيل ( مرقس): يقول المؤرخون أن اسمه يوحنا ويلقب بمرقس ولم يكن من الحواريين الاثني عشر الذين تتلمذوا للمسيح(1) . وهو من الحواريين السبعين طاف بالبلاد داعياً ، ثم اتخذ ( مصر) مقراً له ثم قُتل. دوّن نسخته مما سمعه من بطرس الرسول بغير ترتيب ..ويتراوح تاريخ كتابتها بين عامي (67–70 م) يخاطب فيها الأمم ولا يتحفظ في سرد الأخبار(2) .
إنجيل ( لوقا ): لوقا طبيب أو مصَّور من اصل يهودي ،كان مرافقاً " لبولس " في حله وترحاله ، وهو ليس من تلاميذ المسيح . ويضم إنجيله الأخبار والوصايا من الوجهة الإنسانية ، وفيه وصف لطفولة المسيح وختانه وتسميته والسفر به إلى بيت المقدس .
إنجيل يوحنا : هو يوحنا الحوري ابن زبدي الصياد الذي كان يحبه المسيح ، حتى انه أستودعه والدته وهو فوق الصليب حسب عقيدة النصارى.ولهذا الإنجيل خطر وشان اكثر من غيره في نظر الباحث لأنه الإنجيل الذي تضمن ذكراً صريحاً لألوهية المسيح .والترتيب المفصل عند المؤرخين أن إنجيل" مرقس" هو أقدم الأناجيل ثم يليه إنجيل" متى" فإنجيل "لوقا"وهي الأناجيل الثلاثة التي اشتهرت باسم " الأناجيل المقابلة " لتقابل ما فيها من الأخبار والوصايا على اختلاف الترتيب ثم يأتي إنجيل يوحنا رابعاً ولا جدال في أن الاختلاف كبير بين الأناجيل الأربعة. يلاحظ على الأناجيل الأربعة أنها ليست من إملاء السيد المسيح ( مباشرة وإن كاتبيها ليسوا على مستوى من الأهلية ليكونوا علماء دين ، كما إن أصولها ضائعة ولا تحمل اقل ما توجبه شروط الرواية التي يستلزمها كتاب سماوي ديني(3) .
المطلب الخامس
أهم فرق النصارى اليوم
الأرثوذكس :
__________
(1) محاضرات في النصرانية . محمد أبو زهرة ج1 ص46
(2) موسوعة الأديان ص 229-230
(3) الموسوعة الميسرة ص 501.(1/18)
ينتمي معظمهم إلى الكنيسة الشرقية التي انفصلت عن الكنيسة الأم في روما ، واتخذت مقراً لها في القسطنطينية ثم في الإسكندرية . وأكثر أتباع هذه الكنيسة من الشرق ، ولهم بطاركة ، ولا يخضعون لرئاسة كنيسة روما(1).
الكاثوليك :
وهم الذين ينتمون إلى الكنيسة الأم في روما . ورئيس كنيستها هو الحبر الأعظم الذي يسمى البابا
البروتستانت :
عندما أشتد عنف الكنيسة الكاثوليكيةعلى المسيحيين طالب عدداً من رجال الدين وغيرهم بالإصلاح مثال : " مارتن لوثر " في روما ،و" زونجلى " في سويسرا ،و" كلفن " في فرنسا ؛حيث انتهى بهم الأمر إلى إعلان انفصالهم عن الكنيسة ووضع نظام خاص بهم ، يخالف في عقائده كثيراً من عقائد كنيسة الكاثوليك .
الصابئة
المطلب الأول : تعريف الصابئة
صبأ : خرج من دين إلى دين ، وبابه خضع، وصبأ أيضاً صار(صابئاً) و(الصابئون) جنس من أهل الكتاب(2).
الصابئون :هم من يتركون دينهم ويدينون بدين آخر ،وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنهم على ملة نوح، وقبلتهم مهب الشمال عند منتصف النهار(3).
الصابئون: قوم يقولون أنهم على دين نوح( وهم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب(4).
وقد قيل عنهم أنهم قوم معروفون ،لهم مذهب يتفردون به، ومن دينهم عبادة النجوم ، وهم يقرون بالصانع والمعاد وببعض الأنبياء(5).
__________
(1) محاضرات في النصرانية ص 161-183
(2) مختار الصحاح محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي .ص341، الطبعة الأولى
(3) المعجم الوسيط ج1 ،قام بإخراجه إبراهيم مصطفى ، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر محمد علي النجار ص(505) ، المكتبة الإسلامية استنبول (تركيا)الطبعة الثانية
(4) لسان العرب لابن المنظور الجزء الأول ص(107)
(5) موسوعة الأديان والمذاهب ، ص(115)(1/19)
وقيل أنهم طائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام ، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها ، فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا أنهم يتعبدون الحنيفية الأولى ( ملة إبراهيم ) ، و اعتزلوا عبادة قومهم . فقال عنهم المشركون أنهم صبأوا أي مالوا عن دين آبائهم ، ومن ثم سمو صابئة ، وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم(1).وقد قيل عنهم غير ذلك ، فقد اختلفت الآراء حولهم ، ولكن الصابئة بفرقها المتعددة قد تلاشت ولم يبق منها إلا فرقة واحدة هي (الصابئة المندائية) "والتي تعتبر يحيى ( نبياً لها،ويقدس أصحابها الكواكب والنجوم"(2).
المطلب الثاني
عقائدهم
" يعتقد ( الصابئون ) أن دينهم أقدم الأديان على وجه الأرض وأنه أنزل بأمر ملك النور على ( آدم وحواء ) وهو باق منذ تلك الأزمنة إلى يومنا هذا "(3).
يعتقدون- من حيث المبدأ- بوجود الإله الخالق الواحد الأزلي الذي لا تناله الحواس ولا يفضي إليه مخلوق ، ولكنهم يجعلون بعد هذا الإله (360 ) شخصاً خلقوا ليفعلوا أفعال الإله .. من رعد وبرق ومطر وشمس وليل ونهار .. وهؤلاء يعرفون الغيب ، ولكل منهم مملكته في عالم الأنوار(4).
بينهم وبين المسيحية عداء ، ولكن عدائهم لليهود شديد لدرجة أنهم يعتبرون موسى ( من رسل الروح الشريرة . " وليس من المحتمل اعتبار العقيدة المندائية إحدى العقائد المسيحية المنشقة ، لأن العداء للكنيسة المسيحية بالذات يبرهن العكس من ذلك . هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن عداءهم الشديد لليهود واعتبارهم موسى من رسل الروح الشريرة مما يدل على اعتبار العقيدة المندائية من العقائد الخارجة على اليهودية الأولى .
__________
(1) المصدر السابق ص(114-115)
(2) الموسوعة الميسرة ص317.
(3) موسوعة الأديان والمذاهب . د/ عبد الرزاق محمد أسود ص 116
(4) الموسوعة الميسرة ص 219 – 320(1/20)
المندى : هو معبد الصابئة وفيه كتبهم المقدسة ، ويجري فيه تعميد(1) رجال الدين(2).
الصلاة : تُؤدَّى ثلاث مرات في اليوم .. فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود(3).
الصوم : صابئة اليوم يحرمون الصوم لأنه من باب تحريم ما أحل الله ، لكنهم يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة لمدة ( 36 ) يوماً متفرقة على طول أيام السنة(4).
يعتقدون بصحة التاريخ الهجري ويستعملونه ، وذلك بسبب اختلاطهم بالمسلمين ، ولأن ظهور النبي محمد (كان مذكوراً في الكتب المقدسة الموجودة لديهم(5).
يعتقد ( الصابئة ) المندائيون بأنهم يتبعون تعاليم ( آدم ) ولديهم كتاب ( الكنزبدا ) أي صحف آدم .. ثم جاء النبي ( يحيى ) لتخليص الدين من الأمور الدخيلة ، وهو لم يكن رسولاً بل نبياً خاصاً بهم(6).
المطلب الثالث
كتبهم
كتب الصابئة ليست مطبوعة ، لقد قام بنسخها باليد الكتاب الكهنوت طيلة قرون عديدة .. وهم يشكون في أن الموجود لديهم منها هي الصورة الأصلية المنزلة .. وتحرص الصابئة على منع الغير من الإطلاع على كتبهم المقدسة منعاً شديداً ، إضافة إلى أنها مكتوبة باللغة المندائية التي كان يتكلم بها ( آدم ) كما يعتقدون "(7) . ومن أهم كتبهم :
1) كتاب كنزه ربه :
أي ( الكنز العظيم ) ،أو ( الكتاب العظيم ) ويقال له ( سدرا - آدم ) أي صحف آدم .. ولا يمكن اعتبار الكتاب متجانساً ، فهو مجموعة فقرات غالباً ما تتناقض(8).
2) ( دراشه أديهيأ ) : أي تعاليم يحيى(9) ، وفيه تعاليم وحياة النبي يحيى ( .
3) ( سدرة إدنشماثا ):
يدور حول التعميد والدفن والحداد ، وانتقال الروح من الجسد إلى الأرض ومن ثم إلى عالم الأنوار(10) .
__________
(1) التعميد : هو الغطس في الماء للتطهير
(2) موسوعة الأديان والمذاهب ص 320
(3) المصدر السابق .
(4) الموسوعة الميسرة ص320
(5) المرجع السابق ص 323
(6) موسوعة الأديان والمذاهب ص 121
(7) المرجع السابق ص122
(8) المرجع السابق
(9) الموسوعة الميسرة ص 318
(10) المرجع السابق(1/21)
4) كتاب ( أسفر ملواشه ) :
أي سفر البروج لمعرفة حوادث السنة المقبلة عن طريق علم الفلك والتنجيم(1).
كتاب ( الديونان ) :
ويسمى كتاب ( الديوان ) . وهو سفر ضخم من أنفس كتب الصابئة كما أنه كتاب نادر(2) ولهم كتب أخرى غير هذه .
المطلب الرابع
فرق الصابئة
الصابئة المندائيون ينقسمون إلى قسمين متميزين :
الأول : هم فئة ( الناموريين ) وهم مسؤولون عن حفظ الدين وإقامة شعائره .
الثاني : هم المندائيون العامة(3) .
المطلب الخامس
أعياد الصابئة
العيد الكبير :
ويسمى عيد ( ملك الأنوار ) أو ( عيد اليوم الجديد ) . ومدته أربعة أيام ، لا يشرب خلاله الكهان والمتقون الشاي الممزوج بالسكر ولا يشربون الماء المعقم ، إنما يشربون ماء النهر مباشرة . ويكون الكهان مستعدين لتعميد الراغبين من أبناء الطائفة(4) .
العيد الصغير :
وهو العيد الصغير الذي جمد فيه ( جبرائيل ) الأرض بعد أن كانت غازاً ومدته الشرعية يوم واحد ، ويجري تعميد المؤمنين ويكثرون من أعمال البر والإحسان(5).
عيد البنجة :
ومدته خمسة أيام ، يقام فيه أكبر عيد عمادي نهري والعيد هذا عيد احتفال ديني أكثر منه بهجة وفرح .
عيد النبي ( يحيى ) :
يقولون إن آدم عُمد في هذا اليوم . وفيه كانت ولادة ( يحيى ) .
المذاهب الهندية
الهندوسية
تعريف الهندوسية
هي ديانة وثنية يعتنقها معظم أهل الهند ، وقد تشكلت عبر مسيرة طويلة منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر كما أنه لا يوجد لها مؤسس معين ، ولا يعرف لمعظم كتبها مؤلفون معينون(6) .
نبذة تاريخية
__________
(1) المرجع السابق
(2) موسوعة الأديان والمذاهب ص 124
(3) موسوعة الأديان والمذاهب ص 124
(4) المرجع السابق
(5) موسوعة الأديان والمذاهب ص 132 باختصار
(6) الموسوعة الميسرة :ص 531(1/22)
تتحدد نقطة البداية في العقيدة الهندوسية مع بداية الخلق ، حيث تبدأ بوجود عملاق في السماء اسمه ( براهما ) يدَّعي أنه (الإله ) حين يقول : ( أنا أقوى من السماء وأعظم من الأرض وأرفع من كل هذه الأجرام والكواكب حولي.. أحتوي كل شيء وأكمن في كل شيء ،لا تدركني الحواس ، لأني أنا حقيقة الحقيقة.. أنا براهما )(1).
ولكن (براهما ) الإله كان غير سعيد لأنه وحيد . فقرر أن يصنع شيئاً( وبأطراف أنامله صنع براهما شيئاً هائلاً كبير الحجم يكاد يعدل جسمه : "عملاقاً وعملاقةً تعانقا")(2).
هكذا عقيدة الهندوس في خلق الإنسان ثم إن الهندوس لا يفوتهم سرد القصص في كيفية وجود الحيوانات والحشرات ،فبعد أن تناسل من العملاقان البشر ( أطلت المرأة إلى رجلها وتساءلت : كيف استطاع ذلك العملاق أن يخرج مني كل هذه الكائنات ..... إنه لشيء رهيب ، خارق ، شيء يجعلني أبتعد عنه وأختفي عن ناظريه !! . فاختفت الزوجة فعلاً ، ولكن كيف؟ اختفت في صورة بقرة ،ولكن الزوج كان في إمكانه أن يصنع نفس الشيء .... فانقلب ثوراً وزاوجها ،وكان بازدواجهما أن توالدت الماشية (3). ثم هربت منه وتحولت إلى فرس فكان هو الآخر تحول إلى جواد وتناسلا. ثم تحولت الزوجة إلى حمارة فحول نفسه الآخر إلى حمار وتناسلا ثم تحولت إلى نعجة ، فتحول كبشاً، لتكون الماعز والخراف ..وهكذا كلما تحولت الزوجة العملاقة إلى صنف معين من أصناف الحيوانات تحول الزوج العملاق هو الآخر إلى نفس الصنف ليتناسلا حتى بلغ وجودهما في التدرج إلى حيث النمل(4)!!، ) .
هكذا بدأت قصة الخلق كما يراها الهندوس .ومرت الهندوسية بفترات تاريخية ، كان لها الأثر في عقائد الهندوس . حددها المؤرخون بثلاث حقب زمنية تمثلت في الأدوار الآتية :
دور الآباء وتوحيد الله :
__________
(1) قصة الديانات ، سليمان مظهر ،ص 68
(2) المرجع السابق ،ص 69
(3) قصة الديانات : سليمان مظهر ص(69) بتصرف
(4) موسوعة الأديان ص 57(1/23)
وكان الهنود الأصليون منقسمين إلى عشائر وجماعات متفرقة ، وكان رب كل بيت هو القاضي والكاهن في منزله(1) .
دور الكهنة :
بعد مرور أجيال عديدة من أصحاب الدور الأول ظهر الكهنة على مسرح الحياة، فأنشأوا الطقوس وأحدثوا الديانة المؤسسة على التثليث . وتوسع نفوذ الكهنة في هذا الدور ، فقسموا المجتمع إلى طبقات وأوجدوا الاختصاصات والامتيازات(2) .
دور الإصلاح :
وعهده قبل المسيح ( بستمائة سنة تقريباً ، حيث ظهر رجلا الإصلاح وهما(بوذا و مهافيرا ) على الأسس البرهمية(3) .
المطلب الثالث
طبقات الهندوس
تميزت الهندوسية بالنظام الطبقي فيها ، وفيما يلي بيان ذلك :
البراهمة : وهم الذين خلقهم الإله (براهما) من فمه فمنهم المعلم والكاهن والقاضي وهم ملجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة ، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم(4) . وسموا براهمة لأنهم لا يؤمنون بالرسل إلا إبراهيم .
الكاشتريا:وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه ، يتعلمون ويقدمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع.
الويش : وخلقوا من فخذ الإله، وهم طبقة التجار والمزارعين وعلى المزارع تربية المواشي وعلى التاجر معرفة قوانين التجارة ويجب عليهم الاعتناء بمهنتهم(5) .
الشوادر :( المنبوذين) : وهم الذين خلقهم الإله من قدميه ، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاثة الأولى(6).
المطلب الرابع
عقائد الهندوس
تتمثل عقائد الهندوس في أربع عقائد أساسية هي :
( الكارما ) ( تناسخ الأرواح ) ( الانطلاق ) ( وحدة الوجود ).
الكارما "( قانون الجزاء ):
__________
(1) الموسوعة ص 534
(2) قصة الديانات وموسوعة الأديان ص 59
(3) الموسوعة ص 534
(4) الموسوعة ص 534
(5) الموسوعة الميسرة ، ص 534
(6) موسوعة الأديان ص 60(1/24)
أي أن نظام الكون إلهي قائم على العدل المحض ، هذا العدل الذي سيقع لا محالة إما في الحياة الحاضرة أو في الحياة القادمة ، وجزاء حياةٍ يكون في حياةٍ أخرى ، والأرض هي دار الابتلاء كما أنها دار الجزاء والثواب (1)".
تناسخ الأرواح :
التناسخ هو رجوع الروح بعد خروجها من جسم إلى العالم الأرضي في جسم آخر(2). فعندما يموت الإنسان تخرج الروح منه وتدخل في جسد مولود جديد ولد لتوه ، فإذا كان الإنسان صالحاً في حياته انتقلت روحه إلى مولود ولد في طائفة أعلى من طائفته أما إذا كان فاسداً في حياته فإن روحه تنتقل إلى مولود ولد في طائفة أدنى ، ثم إذا ظل فاسداً في حياته التالية يولد عليلاً ، ثم إن استمر في الدورة الثالثة فاسداً فإنه سيولد حيواناً ، وإن استمر فاسداً فسوف ينحدر في كل مرة إلى مستوى أدنى في مراتب الحيوانات حتى يولد بعوضة أو برغوثاً .
أما الذي يستمر في حياة صالحة بعد حياة صالحة،فيرتقى كل مرة إلى طائفة أعلى حتى يصل إلى طبقة (البراهمة ) بعدها إن كان صالحاً بعد أن وصل إلى هذه الطائفة ، فإن دورة الحياة تنتهي ولكن روحه تتحد مع ( براهما ) الإله ، وهذا ما يسمى بـ ( النير فانا ) وهذه أعظم سعادة يمكن أن تتمناه روح(3).
الانطلاق :
وهو ما ذكرناه من امتزاج الروح مع (براهما ) واتحادها به .
وحدة الوجود:
وتعني أن الحياة خلقت من الروح ، فالإنسان ليس جسمه وحواسه لإنها تموت وتبلى ، بل الإنسان هو الروح وهي أزلية أبدية مستمرة غير مخلوقة(4).
وقال (سانكرا ) في فلسفة وحدة الوجود (إن الروح الإنسانية هي جزء من الروح العالمية)(5)
عقائد أخرى :
(الإله في فكر الهندوس )
__________
(1) الموسوعة الميسرة ص 535
(2) موسوعة الأديان ص 63
(3) قصة الديانات ، سليمان مظهر ص 72-74 باختصار
(4) موسوعة الأديان ص 64
(5) اديان الهند الكبرى ص 68(1/25)
لقد أعجب الهنود بمظاهر الكون وظنوا أن لها أرواحاً تكمن فيها قوى كامنة ، بيدها أن تمنحهم ، فخلقوا لهم منها آلهة متعددة ، كل آلهة ترمز لظاهرة معينة ، فالمطر له إله وللنار إله وللسماء إله وللأرض إله ، وللعاصفة إله ، وللشمس إله ، وللنبات إله.. الخ وجسدوا لهذه الآلهة أصنام لكي يعبدوها . وللهنود نزعتان فيما يتعلق بالإله ، نزعة الوحدانية ونزعة التعدد . فإذا دعوا إلهاً من هذه الآلهة المتعددة اثنوا عليه وتقربوا إليه ومجدوه وسموه برب الأرباب حتى يغيب عن أذهانهم بقية الآلهة (وكانوا إذا دعوا إلهاً من آلهتهم أو أثنوا عليه أو تقربوا إليه بقربان أقبلوا عليه بكل عواطفهم وجل ميولهم حتى يغيب عن أعينهم سائر الآلهة والأرباب(1) .
الثالوث الهندوسي :
كما يعتقد الهندوس بثالوث الآلهة ، وهي نفس الفكرة لدى النصارى ، حيث اقتبسوها من الديانة الهندوسية . والثالوث الهندوسي هو الذي يسيطر على الكون :
براهما : سيد جميع الآلهة ، فهو القوة الخالقة للطبيعة .
فشنو: إله الحب والذي كثيراً ما ينقلب إلى إنسان ليقدم العون للبشر .
شيفا : إله القسوة والتدمير وهو تجسيد للقوة الكونية التي تعمل على تخريب صورة الكون ، وهو لا يظهر عادةً إلا في ميادين القتال والمعارك الضخمة(2).
الحيوانات المقدسة عند الهندوس :
فكما جعلوا من الظواهر الطبيعية آلهة كذلك جعلوا لبعض الحيوانات قداسة مثل الفيلة والقردة والأفاعي ، أما البقرة فهي أكثر الحيوانات قداسة مما ترتب عليه من إعطائها الحرية المطلقة في التجوال عبر الطرقات كيف شاءت ومتى شاءت ولا يجوز للهندوسي مهما كانت الظروف أن يأكل لحمها ،وقد جعلوا لها تماثيل في كل معبد ومنزل وميدان هذا كله لاعتقادهم أن هذه الحيوانات مصادر قوة ضخمة ترمز جيداً إلى القوة الكبرى التي تسيطر على هذا العالم الكبير(3).
__________
(1) موسوعة الأديان ص 66
(2) قصة الديانات ، سليمان مظهر ص 82-84 باختصار
(3) المرجع السابق ص 86(1/26)
المطلب الخامس
أهم كتب الهندوس
لهم أعداد كبيرة من الكتب ، ولكنها صعبة الفهم غريبة اللغة مما ألجأهم لتأليف كتب كثيرة لشرحها . ومن أهم كتبهم:
الويدا :
وهو يتألف من أربعة كتب ، كل كتاب يختص بشيء .
قوانين (منو ) :
عبارة عن شرح للويدات ، بينت معالم الهندوسية ومبادئها وأسسها(1).
وهناك كتب اخرى أقل مرتبة مما سبق :
مهابهارتا :
ملحمة هندية وهي تصف حرباً بين أمراء من الأسر المالكة(2).
كيتا :
تصف حرباً بين أمراء من أسرة ملكية واحدة(3).
يوجا واسستها :
تحتوي على أربعة وستين ألف بيت بيد مجموعة من الناس ، فيها أمور فلسفية ولاهوتية(4).
رامايانا :
يعتني هذا الكتاب بالأفكار السياسية والدستورية وفيه خطب لملك اسمه (راما)(5).
والديانة الهندوسية هي اليوم أكثر الديانات انتشاراً في الهند وقد اختفت كثير من الطقوس القديمة ماعدا طقوس الزواج والوفاة والحج إلى نهر الجنجز ليتطهروا من الذنوب والآثام .
أما الطوائف بين الهندوس فقد زاد عددها إلى تسع عشرة ألف طائفة ، وكذلك زاد عدد الآلهة من ثلاثة وثلاثين إله إلى مئات الآلهة(6).
الجينيون
المطلب الأول
تعريف الجينية(7)
وتسمى أيضاً ( الجانستية ) وهي ديانة مشتقة عن الهندوسية ، ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد على يد مؤسسها ( مهاويرا ) و مهاويرا : البطل العظيم ، ويزعمون أن الآلهة اختارت هذا الاسم وما تزال إلى يومنا هذا(8).
__________
(1) الموسوعة الميسرة ص 532
(2) المرجع السابق ص 532-533
(3) قصة الديانات سليمان مظهر ، ص 167.ن ص 97
(4) الموسوعة الميسرة ص 532
(5) المصدر السابق .
(6) قصة الديانات سليمان مظهر ، ص 167
(7) و أحدها جيناً : أي القاهر لشهوته والمتغلب على رغباته المادية . الموسوعة الميسرة ص 194
(8) الموسوعة الميسرة ص 193(1/27)
قامت الديانة ( الجينية ) لتحرير حركة ( البراهمة ) من مساوئ نظام الطبقات ، لذلك فهي تشابه إلى حد بعيد تاريخ تطور ( البوذية ) ونشوءها . وتكادان لا تفترقان في شيء غير أن ( الجينية ) تؤمن بتناسخ الأرواح والميل إلى نوع صارم من الزهد والتقشف ، إلا إنها اضطرت بعد فشل مقاومتها ( للبراهمة ) إلى العودة لقبول نظام الطبقات بشكل ما ، فقررت الاعتراف بالبراهمة ، وبذلك استطاعت البقاء في الهند(1) .
مهافيرا زعيم الجينيه وبوذا :
"إن قصة حياة ( مهافيرا ) لا تختلف كثيراً عن قصة حياة ( بوذا) . فقد كانا كلاهما أميراً هندوسياً . وكلاهما درس عقيدته بحماس ، وكلاهما هجر بيته ليصبح راهباً ، وكلاهما وجد عدة عيوب في تعاليم عقيدته ، وكلاهما عاد بعد عدة أيام من التفكير ليبشر بتعاليم جديدة لشعبة الكبير "(2) .
المطلب الثاني
نبذة تاريخية موجزة
بدأ ( مهافيرا ) دعوته في أسرته وأهل مدينته الذين استجابوا لدعوته ، وأخذت دعوته تنمو بين الملوك والأمراء والقواد الذين رأوا في هذه الدعوة تعبيراً عما يجول بنفوسهم من رغبة في الثورة على البرهمانيين . وظلت دعوته تواصل نجاحها حتى قضى نحبه سنة 527 ق . م وحيداً في خلوته ، ويقال أن ( مهاويرا ) كان آخر أربع وعشرين داع للجينيه ،يسمى كل واحد منهم ( جينا ) وأن الجينية مذهب قديم جداً(3) .وقد كانت الجينية فرقة وأحده طيلة حياة ( مهافيرا ) ولم تحدث فيها إلا خلافات بسيطة ليست ذات جذور عميقة وكانت سرعان ما تسوى هذه الخلافات .وبعد وفاة ( مهافيرا ) حدث انقسام خطير شق الفرقة إلى فرقتين :
__________
(1) موسوعة الأديان والمذاهب . العميد / عبد الرزاق محمد أسود . ص 68
(2) قصة الديانات . سليمان مظهر ص 140 باختصار
(3) انظر : الإنسان في ظل الأديان . د/ عماره نجيب ص 206 - 207 وانظر موسوعة الأديان والمذاهب . العميد / عبد الرزاق محمد اسود ص 70(1/28)
إحداها تسمى ( ديجاميرا ) أي أصحاب الزي السماوي . وهم الذين اتخذوا السماء كساء لهم ، يميلون على التقشف معظمهم من الكهان والرهبان .
الأخرى تسمى ( سوتياميرا ) أي أصحاب الزي الأبيض . وهم طبقة العامة المعتدلون ؛ إذ يفعلون كل أمر فيه خير ويبتعدون عن كل أمر فيه شر وإزهاق أرواح كل ذي حياة .ولكل من الفرقتين الرئيسيتين آراء في ( المهافيرا ) .
وقد ظلت الطائفة الجينية قليلة العدد ، وأغلبها من طبقة الصيارفة والتجار ؛ لأن المهن الأخرى ، أو الوظائف الحكومية مما تتعارض وتعاليم الدين(1) .
المطلب الثالث
العقائد
الإله :
لا تعترف الجينية بآلهة الهندوس خصوصاً الثالوث ( براهما – فشنو – سيفا ) . ولكن خُلُق المسالمة والمجاملة دفعهم على الاعتراف بالآلهة الأخرى غير الثالوث . وترتب على عدم اعترافهم بالآلهة ، إنكار الصلاة وإلغاء القرابين ، وعدم الاعتراف بالطبقات ."الجينية في الأصل ثورة على البراهمة ، لذا فإنهم لا يعترفون بآلهة الهندوس وبالذات الآلهة الثلاثة( براهما – فشنو – سيفا ) ومن هنا سميت حركتهم بالحركة الإلحادية(2) " .
النجاة :
"طريق الخلاص توبة تقشفية وامتناع عن إيذاء أي كائن حي مهما كانت ضآلته.. ونبذ للاستمتاع بكل لذة خارجية.. لأن اللذة الحسية خطيئة دائمة"(3). فلا يزرعون الأرض ؛ لأن فيها تمزيق للتربة وسحق الديدان ، ولا يجوز لهم أن يقوموا بغلي الماء حتى لا تقتل الحشرات الموجودة بداخله والتي لا ترى بالعين ، كذلك لا يأكلون العسل لأنه حياة النحل ، ولا يأكلون اللحم فهم يحرمون على أنفسهم كل ما به أذى لأي كائن حي مهما كان صغيراً .
الانتحار نعمة :
__________
(1) انظر موسوعة الأديان والمذاهب . ص 74 ، وانظر الموسوعة الميسرة ص 194
(2) الموسوعة الميسرة ص 195)
(3) قصة الديانات .سليمان مظهر ص 144(1/29)
ابرز ما يميز الجينية هو ظاهرة العري والجوع حتى الموت . " الانتحار مرتبة لا يصل إليها إلا خواص منهم الرهبان الجينيين ، وهم يعملون ذلك رغبة في الخلود والنجاة ، ولا يصلون إلى هذه المرحلة إلا بعد أن يقضوا ثلاثة عشر عاماً في مبادئ الجينية وتعاليمها القاسية(1) "
المطلب الرابع
كتبهم
تعتبر خطب ( مهافيرا ) ووصاياه هي المصادر المقدسة لدى الجينيين ، وقد أنتقل هذا التراث من جيل إلى جيل عن طريق المشافهة ، إلى أن جمع في 46 كتاباً في القرن الرابع قبل الميلاد صارت فيما بعد الكتب الجينية المقدسة .ومن أهم هذه الكتب : كتاب ( الاثني عشر انكا ) . وكتاب ( سوترا - كابت - انكا ) الذي يهدف إلى تحصين الرهبان والأحداث . وترسيخ المعتقدات في نفوسهم(2)
البوذيين
المطلب الأول
نبذة تاريخية
نسبة إلى الأمير (سيد هاتا) والملقب ببوذا والتي تعني المستنير(3). ظهرت الديانة البوذية في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد ، على يد مؤسسها (بوذا) والذي قضى طفولته في ترف، حيث كان والدة ملكاً فنشأ في قصر مترف، ولكنه عندما كبر رأى أن تقسيم الناس إلى طبقات وطوائف غير عادل ، ورأى أن تعاليم الكتب الهندوسية المقدسة غريبة باطلة، فعزم على تخليص الناس من آلامهم والتي كان منبعها الشهوات، فانتهج لنفسه منهجاً تقشفياً، فارق فيه زوجته، وخرج من القصر ليصبح راهباً متنقلاً هنا ونهاك.ومن خلال عزلته وتفكره توصل بوذا إلى أن الآلهة ليس لها القدرة على تغيير الظواهر الطبيعية ، وأنكر أن البرهما هو خالق كل شيء ، ثم اتخذ له بعد ذلك طريقاً ذي الثمان شعب التي تحوي القواعد الثمان للحياة وهي:
الإيمان بالحق
القرار الحق.
الكلام الحق.
السلوك الحق.
العمل الحق.
الجهد الحق.
التأمل الحق.
التركيز الحق.
__________
(1) الموسوعة الميسرة . ص 198
(2) موسوعة الأديان والمذاهب . العميد / عبد الرزاق محمد أسود ص 70 باختصار
(3) الموسوعة الميسرة ص107(1/30)
"انتشرت هذه التعاليم في جميع أنحاء مملكة أبيه، واعتنقها أهل المملكة ، ومع استمرار بوذا في نشر تعاليمه تعدت البوذية حدود الهند حتى أصبحت عالمية ؛ بينما الهندوسية كانت قومية لأهل الهند فقط"(1).
إن بوذا لم يكن نبياً ولا صاحب دين ولم يتلقَّ وحياً ؛إنما هو باحث فيلسوف ومفكر ، ولكن الصفات الجيدة التي كان يتصف بها بوذا سببت لدعوته النجاح دون كثير من الجهد والعناء ، فقد كان بوذا رحيماً يشفق على كل كائن تدب فيه الحياة ، كما كان يترفع عن الكذب والغيبة والنميمة ، ولم يعرف عنه أنه سب أو نطق لسانه بكلمة أو عبارة جارحة(2) وتوفي بوذا عن عمر يناهز الثمانين عام، سنة 470 ق.م، لكن تعاليمه بقيت إلى اليوم وإن كانت قد تغيرت كثيراً .
فالبوذية القديمة صبغتها أخلاقية ميزتها سذاجة المنطق وإثارة العاطفة ،أما البوذية اليوم فقد اختلطت تعاليم بوذا بآراء دقيقة في الكون ، وأفكار مجردة عن الحياة ، مبنية على نظريات فلسفية وقياسات عقلية يغلب عليها صبغة الفلسفة(3) .
لم يعتني بوذا بالآهة وكان ينهى أصحابه وزوَّاره عن الخوض في هذا الاتجاه، فكان سبباً قوياً لانتشار البوذية ؛ وذلك لعدم تعارضها مع آلهة الهنود ،فكان كثير من الهنود يتبعون البوذية في أخلاقها ، ومع ذلك يحافظون على ولائهم لآلهتهم(4).
البوذية بعد وفاة بوذا :
__________
(1) قصة الديانات سليمان مظهر ، بتصرف ص 94-118
(2) موسوعة الأديان والمذاهب .ص75 ،بتصرف
(3) المرجع السابق ص74
(4) الإنسان في ظلال الأديان د/ عمارة نجيب ص213 بتصرف.(1/31)
بعد أن توفي بوذا ، بدأت البوذية تنكمش ؛ إذ بدأت نقص وفجوة لم يجدلها الناس إجابة لموقع الإلهية(1). ولكن أتباع بوذا بعد مرور سنوات طويلة نسوا تعاليم بوذا واتجهوا إلى تأليه بوذا ، وأقاموا له التماثيل بعد أن كان بوذا ينهى عن الأصنام(2)، وهكذا أصبح بوذا إله بجانب الآلهة المتعددة لدى الهندوس. وبعد أن ضعفت الديانة البوذية عادت الهندوسية إلى قوتها حتى أصبح بوذا ليس إلا واحداً من آلهة الهندوس، ولم يعد يوجد في الهند من أتباع بوذا إلا عدد قليل، إلا أن البوذية انتشرت شرقاً في الصين، واليابان ونيبال وجنوباً إلى نورما وسيام وسيلان(3).
المطلب الثاني
العقائد
بوذا ابن الله ، وهو المخلص للبشرية من مآسيها ويتحمل عنهم جميع خطاياهم(4) ، ويعتقد البوذيون إن هيئة بوذا قد تغيرت في آخر أيامه وأنه قد نزل عليه نور أحاط برأسه، وأضاء من جسده نور عظيم ، فقال الذين رأوه: ما هذا بشراً إن هو إلا إله عظيم(5) .
لما مات بوذا قال أتباعه : صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض(6).
طقوس البوذية:
وللبوذية طقوس أضيفت إلى البوذية مؤخراً ، وقد كانت خالية منها في عهد بوذا مثل :
الصلاة: أمام تمثال بوذا في المعابد جلوساً.
الصيام: وهو الامتناع عن الطعام دون الشراب.
الحج: وهو شد الرحال إلى الهند وسينال لزيارة الأماكن المقدسة(7).
وللبوذية مذهبان كبيران:
المذهب الشمالي: وقد غالى أهله في بوذا حتى ألَّهوه(8) ، وهذا المذهب يشترط للإيمان بالبوذية أن يلتزم البوذي في حياته بترسم خطى حياة بوذا(9).
__________
(1) المرجع السابق ص117
(2) قصة الديانات .سليمان مظهر .ص123
(3) انظر الإنسان في ظلال الأديان .د/عمارة نجيب .ص215-216،وانظر قصة الديانات .سليمان مظهر .ص125
(4) الموسوعة الميسرة ص107
(5) المرجع السابق ص109
(6) المرجع السابق ص108.
(7) المرجع السابق ص109
(8) المرجع السابق ص110
(9) موسوعة الأديان ص79(1/32)
المذهب الجنوبي : وهم أقل غلواً في بوذا(1) وأتباع هذا المذهب يقدسون بوذا على أنه معلم أخلاقي(2).
المطلب الثالث
كتب البوذية المقدسة
لا يدعي البوذيون أن كتبهم المقدسة منزلة ،وإنما هم ينسبونها إلى بوذا ، وهي عندهم بمثابة كتب الحديث عند المسلمين(3) . وتختلف نصوص تلك الكتب بسبب انقسامها . فبوذيو الشمال تشتمل كتبهم على أوهام كثيرة تتعلق ببوذا . أما كتب الجنوب فهي أبعد قليلاً عن الخرافات(4).
وتنقسم كتب البوذيين إلى ثلاثة أقسام :
مجموعة قوانين البوذية ومسالكها(5).
مجموعة الخطب التي ألقاها بوذا(6).
الكتاب الذي يحوي أصل المذهب والفكرة التي نبع منها(7).
السيخية
المطلب الأول
تعريف السيخية
السيخ : كلمة معناها النظام(8). وهم مجموعة من الهنود الذين ظهروا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي ، داعين إلى دين جديد فيه شيء من الديانتين الإسلامية والهندوسية تحت شعار (لا هندوس ولا مسلمون) وقد عادَوا المسلمين خلال تاريخهم ، وبشكل عنيف ، كما عادَوا الهندوس بهدف الحصول على وطن خاص بهم(9).
نبذة موجزة
__________
(1) الموسوعة ص110
(2) موسوعة الأديان ص79
(3) موسوعة الأديان والمذاهب ص81
(4) الموسوعة ص110
(5) الموسوعة ص110
(6) المصدر السابق ص 110
(7) المصدر السابق ص 110
(8) موسوعة الأديان والمذاهب العميد عبد الرزاق أسود ص(92)
(9) الموسوعة الميسرة ص(283)(1/33)
كان الإسلام قد دخل الهند وانتشر فيها وأصبح له أتباع من الهنود ولكن الهندوس أعلنوا عداءهم للمسلمين، فنشأت بينهم عداوة شديدة. ولد (ناناك)- ويدعى(غورو)أي المعلم-مؤسس السيخية في هذه الظروف، من أب هندوسي نبيل. وأهتم (ناناك)-بدراسة الدين ، فكان يقضي معظم وقته في الغابات يفكر في عقيدة شعبه، وعندما بلغ سن الثلاثين أعلن أنه(الجورو) التي تعني الإمام الذي يقود أتباع هذه العقيدة الجديدة التي لا تعترف بالهندوسية ولا بالإسلام(1) وتهدف إلى صهر الديانات للقضاء على الخلافات الطائفية بين الهنود ولهذا شملت عقيدة السيخ أصولاً إسلامية وهندوسية(2).
المطلب الثاني
عقائد السيخ
الدعوة إلى التوحيد وإنكار عبادة الأوثان وإنكار تقديس الأصنام.
إنكار التفرقة الطبقية(3) .
القضاء على المراسم (الهندوسية )في الزواج(4).
تحتفظ بعقيدة التناسخ وتقديس البقر إلى حد ما .
أباح ناناك الخمر وأكل لحم الخنزير(5).
يحرقون موتاهم كالهندوس(6).
تميز (السيخ) من حيث المظهر والزي عن غيرهم من الهنود، ويطلق عليهم اسم حمله(الكافات) أي حرف كاف الخمسة(7) ،ويقصد بذلك:
كيس: وهو شعر الرأس والوجه الذي يطلقونه دون قص أو تهذيب ، ويطوي شعر الرأس تحت عمامة ملونه(8).
أي الخنجر.
أسورة حديد تذكرهم بوحدانية الله .
كريباك: لباس قصير وهو أشبه بلباس السباحة تحت السراويل رمزاً للعفة(9).
كانجا: مشط صغير في شعر رأسه(10).
__________
(1) قصة الديانات ، سليمان مظهر ص(161-160) باختصار
(2) موسوعة الأديان والمذاهب ص(90)
(3) المرجع السابق ص(92)
(4) المرجع السابق ص(92)
(5) الموسوعة الميسرة ص(284)
(6) المرجع السابق ص(289)
(7) موسوعة الأديان ص(92)
(8) المرجع السابق ص(92)
(9) الموسوعة الميسرة ص(284)
(10) المرجع السابق ص(284)(1/34)
يعتقدون بأن روح كل واحد من المعلمين تنتقل منه إلى المعلم التالي له ، وخلال القرون الثلاثة منذ ظهور الدعوة تولى قيادة السيخ عشرة زعماء كان الستة الأول منهم مرشدين روحيين وذلك قبل أن تتحول الدعوة إلى حركة سياسية(1). نسخ البريطانيون فيهم روح العداء للمسلمين تمهيداً لبسط نفوذهم على البنجاب .وأكثر السيخ اليوم تقطن البنجاب إذ يعيش فيها 85% منهم "لهم في مدينة (أمر تيسار) أكبر معبد يحجون إلية".
المطلب الثالث
كتبهم
كتاب(آدي غرانت)هو مجموعة أناشيد دينية ألفها المعلمون الخمسة الأوائل ، ويبلغ نحو من (6000) نشيد ديني.
كتاب (راحت ناما) يحتوي على تقاليد الخاصة وتعاليمهم(2).
الكونفوشيوسية
المطلب الأول
تعريفها
الكونفوشيوسية(3): ديانة أهل الصين ، وهي ترجع إلى الفيلسوف الحكيم ، كونفوشيوس الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد داعياً إلى إحياء الطقوس والعادات والتقاليد الدينية التي ورثها الصينيون عن أجدادهم مضيفاً إليها فلسفته وآرائه في الأخلاق والمعاملات والسلوك القويم(4) .
قصة الخلق :
يعتقد الصينيون بأنه كان لا يوجد شيء ثم وجد شيء ؛هذا الشيء خلق شيء اسمه( بانكو ) وهو غاية في القوة ، له رأس تنين ، وجسد أفعى ، وبعد أن مات تحولت أجزاءه إلى الظواهر الطبيعية من ريح وسحاب ورعد وأنهار وأمطار وصخور ومعادن وأشجار وأرض وجبال وشمس وقمر .. إلخ . أما (القمل) الذي كان يعلق بجسمه فتحول إلى بشر تعاقب على الأرض ملوك مقدسون منهم (فوشي) معلم البشر ( القمل) ومهذبهم ، وكان لفوشي أخت لها جسم ثعبان ورأس آدمي يعتبرها الصينيون منقذة هذا العالم من رب العقاب (هونج كينج)(5).
المطلب الثاني
العقائد
الإله :
__________
(1) موسوعة الأديان ص(93)
(2) المرجع السابق ص(288)
(3) راجع الموسوعة الميسرة ص 417
(4) قصة الديانات . سليمان مظهر ص 173- 172 باختصار
(5) الموسوعة الميسرة ص 423)(1/35)
يعتقدون بالإله الأعظم أو إله السماء ويتوجهون إليه بالعبادة، كما أن عبادته وتقديم القرابين إليه مخصوصة بالملك أو بأمراء المقاطعات(1) .
للأرض إله ، يعبده عامة أهل الصين(2).
للشمس والقمر والكواكب ، والسحاب، والجبال .. لكل منها إله .وعبادتها وتقديم القرابين إليها مخصوصة بالأمراء(3) .
الملائكة :
يقدسون الملائكة ويقدمون إليها القرابين(4) . أرواح الأجداد ! يقدسونها ويعتقدون بقاء أرواحها ويوجد في كل بيت معبد لأرواح الأموات ولآلهة المنزل .
المطلب الثالث
كتبهم
هناك مجموعتان أساسيتان تمثلان الفكر الكونفوشيوسي المجموعة الأولى تسمى الكتب الخمسة ، والثانية تسمى الكتب الأربعة .
الكتب الخمسة :
وهي الكتب التي قام كونفوشيوس ذاته بنقلها عن كتب الأقدمين(5) وهي :
كتاب التغييرات:وأهميته ككتاب تتركز في قيمته الأثرية لأنه يرجع إلى ما قبل ثلاثة وثلاثين قرناً قبل الميلاد(6).
كتاب الأحداث التاريخية : عبارة عن نبذة عن تاريخ الصين(7) .
كتاب ديوان الغزل: وكان كونفوشيوس قد أقتنع أن الإنسان إذا ما تلا الشعر يومياً فإنه لن يقع في الخطأ(8).
كتاب المراسيم .
كتاب الربيع والخريف .
الكتب الأربعة :
التي ألفها كونفوشيوس وأتباعه مدونين فيها أقوال أساتذتهم مع التفسير تارة والتعليق أخرى وهي:
كتاب الأخلاق والسياسة .
كتاب الانسجام المركزي .
كتاب منسيوس(9) .
الكونفوشيوسية : مذهب سياسي وليس ديناً(10) ، ولم يزعم كونفوشيوس انه نبي .
المذاهب الفارسية { الزرادشتية }
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) المرجع السابق ص 422.
(5) موسوعة الأديان والمذاهب ص 423
(6) الموسوعة الميسرة ص 422 (211) (212)(213)
(7) المرجع السابق ص 423)
(8) المرجع السابق ص 423
(9) المرجع السابق ص 423
(10) الموسوعة الأديان ص 97(1/36)
تعاليم زرادشت(1)
" الزرادشتية واحدة من أهم ديانات الشرق القديمة وأكثرها شيوعًا وانتشارًا في الأزمان الغابرة. هي ديانة اخترعها العقلُ المشرقي في رحلة بحثه عن ماهية الحياة والموت والخير والشر؛ ديانة لا تزال تجد مَن يعتنقها ويخلص لها إلى الآن.
الدكتور س.أ. كاپاديا S.A. Kapadia، الذي سعى إلى البحث في تعاليم زرادشت وتدوينها، هو طبيب ورجل قانون إنكليزي من أصل هندي يعتنق الزرادشتية – التي يختلف "زرادشتها" عن "زرادشت" نيتشه (السوپرمان)، بل هو على النقيض منه:
إذ يُحكى أنه حين كان زرادشت (الپارثي، أي "الفارسي") جنينًا بعدُ، حلمت أمُّه التقية دُغدهوفا Dughdhova بعظمة وليدها القادم ومعراجه المرتقب إلى السماوات، حيث قُيِّضَ له أن يتلقى كتابَه المقدس: زند آفستا Zend-Avesta.
زرادشت هذا ولد مبتسمًا. وقبل أن يبلغ سنَّ الرجولة، مسَّتْ مشاعرُ الرَّوْع والمهابة قلوبَ جميع مَن كان على صلة به. وكما فعل البوذا Buddha، وريثُه الشهير الذي ظهر في عصر لاحق، فقد خرج من عزلته، وبدأ بالدعوة إلى اعتناق تعاليمه الدينية المتصلة بالتوحيد، مستنكرًا عبادة الأوثان. ولقد ظهر زرادشت أول ما ظهر أمام قصر الملك فيشتاسْپا Vishtaspa، وبدأ ينشر رسالته الدينية عن طريق المحاججة والإقناع، فأعلن عن تفويض أهورا مزدا Ahuramazda (الرب) له، وذلك ليبعث الروحَ في معتقدات الآريين القديمة، وذلك لإعادتها إلى نقائها العقلي النبيل المتصل بمفهوم التوحيد.
__________
(1) هو زردشت بن يورشب الذى ظهر فى زمان كشتاسب بن لهراسب الملك وابوه كان من اذربيجان وامه من الرى و اسمها دغدوية.( كتاب الملل والنحل، الجزء 1، صفحة 236).(1/37)
يُعتبَر أسفانديار Asfandiar، ابن الملك الحاكم گوشتاسْب Goshtasb، أول من اعتنق الديانة الزرادشتية. ثم أصبح الملك ذاته أحد مريدي هذا النبي (زرادشت) وأتباعه، معتقدًا أن لديه رسالةً دينية يجب تبليغها. فدعا أسفانديار جميع رعاياه إلى اتباع عقائد زرادشت وتعاليمه. أما رستم، بطل سيستان وزعيم سلالة أخرى، فقد رفض أن يتنكر لديانة أسلافه ومعتقداتهم؛ ولذلك زحف أسفانديار لمواجهته، فجَرَتْ معركةٌ طاحنة بينهما، أدت، كما تروي الأساطير، إلى أن يتحول جسم أسفانديار إلى معدن البرونز – باستثناء عينيه. لكنْ على الرغم من هذه العدة الهائلة والخارقة للطبيعة، فقد سَمَلَ رستم عينَي أسفانديار بسهم مزدوج الرأس، فعاد هذا الأخير إلى أبيه ومات بين يديه.(1/38)
مرَّ حتى الآن (بحسب المصادر القديمة) أكثر من 3500 عام على اعتناق كوشتاسْب ملك إيران عقيدةَ زرادشت؛ وهو يُعتبَر بذلك أول من أسَّس عقيدة الدين وأدخلها إلى بنية الدولة. حتى إن القائدين العسكريين المشهورين في إيران بقوتهما، قورش وداريوش، أدخلا الملايين من الناس في هذه الديانة (الزرادشتية)، فازدهرت وانتشرت كثيرًا وطويلاً، حتى جاء الإسلام، فتراجعت وانكفأت أمام الفتح العربي خلال فترة خلافة عمر بن الخطاب بعد معركة نهاوند في العام 642 م. على إثر هذه المعركة، هرب الكثيرون من كهنة المجوس خُلسةً إلى شواطئ الهند الغربية، حيث تمكن الپارثيون (الفارسيون الزرادشتيون)، بفضل هؤلاء الكهنة، من إعادة تجميع أنفسهم ونشر دعوتهم حتى في الغرب. والسبب في ذلك هو أن هذه الديانة تنمِّي أنبل غريزة في الإنسان: "روح الطبيعة" Asha، كما سمَّاها زرادشت (وهي كلمة تتضمن معاني الاستقامة والنظام والحق)؛ إضافة إلى أنها تدعو إلى الإيمان بإله متعالٍ واحد هو "الخالق": ففي العبارات الواردة في الأناشيد المقدسة للـگاثا في الديانة الزرادشتية، نرى فكرة إله الأكوان محبوكةً حبكًا مقنعًا: فهو الإله الذي لا يُعزى إليه أي شكل أو لون أو مظهر، أحد صمد، لا تحيط به العقول، العادل، الغفور، الرحيم، الواحد، الأحد، الذي لا يحدُّه مكان. بل إننا في كتاب صلوات الپارثيين (الفارسيين) خوردا آفستا Khorda-Avesta ("الآفستا الصغير") نقرأ كيف يصف الله ذاته بقوله:
أنا الحافظ، أنا البديع، أنا العليم الخبير، مانح الصحة، أهورا [الرب] مزدا [المحيط بكلِّ علم]، القدوس، الجليل، الملك الذي لا رادَّ لقضائه، الأحد الذي لا يخيب مؤمله، الذي لا يُمكََر به، القاهر لكلِّ شيء، العظيم، النور، الحكيم، خير الحاكمين.(1/39)
وزرادشت ما ينفك في تعاليمه مؤكدًا على الاعتقاد بالقوة الخالقة العظمى، التي لا يتم الوصول إليها إلا عن طريق "العقل الصالح" Voh-Manah. بل إنه حذَّر أتباعه ومريديه من تأثير "روح الشر" Ahriman. وإن أكبر الشرور في زمانه قد يتمثل في ميل العامة إلى عبادة مظاهر الإله وتجلِّياته والعناصر التي ابتدعها. وقد عمد الاعتقاد الخرافي تدريجيًّا – لافتقاره إلى الهداية السليمة – إلى خلق آلهة خيالية متوهَّمة، وجسَّدها في أوثان مادية يعبدها المؤمن بحسب نزوته بها. وفي لغة تلك الفترة التي كانت منتشرة بين الآريين القدماء، فإن كلمة دايفا da?va تفيد معنى "الرب"؛ وهي مشتقة من الجذر الآري ديف div، أي "يشرق". ومن ثم فإن هذه التجليات الطبيعية كلَّها تدعى ديفا deva.
زرادشت، بثاقب بصيرته، أدرك – حين جاء بدعوته – أن ديانة التوحيد القديمة التي كان الآريون يؤمنون بها قد تدهورت ووصلت إلى حالة جعلت الناس يستبدلون بعبادة الإله الواحد عبادةَ الأوثان والتصاوير. لذا دعا أول ما دعا الناس إلى الإيمان بـ"روح الطبيعة"؛ ما اضطره إلى قمع ما يُدعى "أوثانًا" deva، التي تعني بلغة الآفستا "الشر" أو روح الفساد. أما الجذر القديم لكلمة div، الذي يعني "يشرق" أو "يشع"، فإن اللغة اللاتينية اشتقت منه كلمة Deus، واليونانية Zeus، والسنسكريتية deva، والألمانية القديمة Zio (إله النهار) – وكلها كلمات تعني "الرب".(1/40)
وبحسب زرادشت، فإن الصراع بين الخير والشر مستمر منذ لحظة الخلق الأولى. لكن لا ينبغي لفلسفة الخير وروح الشر، الخالقة للعالم المادي، أن تمتزج بفكرة الثنوية dualism. فلقد اتُّفِقَ، كما يرى الباحث كاپاديا، الأستاذ في جامعة لندن، والكثير من المثقفين والكتَّاب المعروفين في أوروبا، على أن زرادشت لا يقول بالثنوية، لأن روح الشر لا تتصف بأية من صفات الله تعالى، فلا يوضع معارِضًا على الضد منه، ولا يكون ندًّا منافسًا لله. بل إن النص الأخير من الفهلوي Pahlavi ينفي الثنوية التي لا تشكِّل أي جزء من العقائد التي بشَّر بها زرادشت، الذي قال له أهورا مزدا، الحكيم المطلق، العليم بكلِّ شيء: لقد جعلتَ كلَّ أرضٍ محبَّبةً إلى قلوب أهلها، وإنْ لم تكنْ عامرةً بالمفاتن."(1)
البهائية
الدين البهائي هو دين عالمي مستقل أسسه الميرزا حسين علي النوري(2) الملقب ببهاء الله في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. والدين البهائي معترف به رسميا في العديد من دول العالم وينتشر في أكثر من 235 بلدا ودولة, وله تمثيل غير حكومي في منظمة الأمم المتحدة منذ بداية نشأتها وكذلك في الاوساط العلمية والدينية والاقتصادية في العالم.
المطلب الأول
النشأة والتأسيس
__________
(1) س.أ. كاپاديا، تعاليم زرادشت وفلسفة الديانة الپارثية، بترجمة خالد جعفر، دار فصلت للدراسات والترجمة، طب 1، 2004.
(2) " ولد الميرزا حسين علي النوري في مدينة طهران في 12 نوفمبر 1817 في منطقة تدعى "بوابة شمران". وكان والده الميرزا عباس النوري الملقب بميرزا بزرگ من نبلاء ايران حيث تنحدر سلالة بهاء الله من السلالة الساسانية العريقة, و كانت عائلته تملك اراض واسعة وعقارات متعدده في اقليم نور في مازندران. شغل افراد اسرة بهاء الله مناصب سياسية هامة في الدولة لعدة اجيال, ولقد شغل والده الميرزا عباس منصب وزير الدولة لشئون منطقة مازندران "(1/41)
يربط البهائيون بداية تاريخهم بوقت اعلان دعوة الباب(1) في مدينة شيراز في إيران سنة 1844م/1260هـ. وكان قد سبق ذلك فترة قصيرة نمت فيها حركات كانت تترقب مجيء الموعود الذي بشرت به الكتب السماوية وأحاديث الانبياء والأئمة . وكانت الفرقة الشيخية(2)
__________
(1) علي محمد رضا الشيرازي الملقب بالباب (1819- 1850) ولد السيد علي محمد سنة 1819 في مدينة شيراز وترجع سلالته إلى فاطمة الزهراء حسب ما يعتقد أتباعه، وتربى في رعاية احد أخواله وقد كان والده قد توفى قبل ولادته. وشارك خاله في مهنة التجارة منذ حداثة سنه. وفي سنة 1844 اعلن السيد علي محمد وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره انه جاء مطبقا للنبؤات والوعود السابقة وبأن مهمته هي تمهيد الطريق والتبشير بوشوك مجيء من سماه بـ (من يظهره الله) الذي سيكون مربي العالم في هذا الزمن. وأطلق على نفسه لقب الباب وجاء بشرائع واحكام وكتاب (البيان) وصار اتباعه يدعون بالبابيين. وكانت اكثر كتابات الباب في ذكر "من يظهره الله" مبشرا ان بمجيئه ستتحقق الوعود الإلهية ونبؤات الأديان السابقة المذكورة في الكتب المقدسة لتلك الاديان.
(2) تعتبر الشيخية جزء من الشيعة الاثني عشرية وليست فرقة مختلفة عنها وإنما نسبت إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي بسبب تبنيه مدرسة خاصة في الحكمة والفلسفة المتماشية مع حكمة وفلسفة أهل البيت ونبذه لكثير من الأفكار المستمدة من الفلاسفة الإغريقيين والرومان (والتي كانت منتشرة ومتبناة لدى أغلبية علماء عصره)والتي يظهر فيها الاختلاف الكبير عن حكمة وفلسفة أهل البيت وقد أطلق خصومه على أتباع هذه المدرسة إسم الشيخية من باب التنابز بالألقاب وإلا فإن الشيخ الاحسائي وتلامذته لم يدعوا تبنيهم لهذه التسمية وقدظهرت هذه المدرسة في اواخر النصف الثاني من القرن الثالث الهجري على يد مؤسسهاالذي يعتبر من أعظم علماء الشيعة الإمامية الإثني عشرية بشهادة أكابر علماء الشيعة الإمامية فقد تمت إجازته من أكابر علماء عصره من أمثال الشيخ حسين آل عصفور والشيخ آل كاشف الغطاء وقد انتشرت أفكار هذه المدرسة في كثير من مناطق الشيعة لقربها من المنابع الرئيسية وهي أقوال وسيرة أئمة أهل البيت حتى أن الشيخ كان المقدم في بلاط الشاه و انقسمت الشيخية بعد زمان الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي إلى الركنية بقيادة الحاج محمد كريم خان الكرماني و الكشفية .(1/42)
التي أسسها الشيخ أحمد الأحسائي احدى تلك الفرق التي اكدت على وشك قدوم الموعود المنتظر و تتلمذ الملا حسين بشروئي (وهو أول من آمن بالباب) على يد الشيخ أحمد الأحسائي ثم على يد السيد كاظم الرشتي بعد وفاة الشيخ أحمد. ان هناك ارتباط وثيق بين البهائية والبابية، التي تأسست في إيران على يد الميرزا علي بن محمد رضا الشيرازي الذي أعلن أنه الباب لـ"من يظهره الله" وأنه هو المهدي المنتظر(1). ويدعي الذين يعارضون البهائية ان هذا تم بمساعدة من روسيا (2)
__________
(1) يعتقد بعض المسملون على مر العصور أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل بيت النبي محمد بن عبدالله يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية بعد أن تملأ الدنيا ظلما و جورا ويسمى بالمهدي , و يواكب ذلك خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام.
(2) وقائع تاريخية عن العلاقة مع روسيا
كان إضطهاد البابيين منذ السنين الأولى لدعوة الباب, من الأخبار الواسعة الإنتشار في إيران والدول المجاورة وكان السفير الروسي من ضمن الذين تأثروا بشدة من جسامة تلك الأحداث وشراسة التعذيب. وفي اليوم التالي لإعدام الباب أخذ السفير الروسي معه أحد الرسامين وطلب منه تسجيل تلك الحادثة المهمة على الورق . وتبقى تلك اللوحة إحدى الصور القليلة التي تعطي فكرة عن ملامح الباب وكان وجه الباب (ووجه رفيقه الذي أعدم معه) الجزء الوحيد من بدنه الذي لم يمسه الرصاص .
بعد إطلاق سراح بهاء الله من سجن السياه جال والأمر بنفيه مع عائلته إلى العراق عرض السفير الروسي على بهاء الله ان يذهب الى روسيا ليعيش مكرما فيها ولكن بهاء الله رفض تلك الدعوة وأعلن عن رغبته في إطاعة أوامر الحكومة الإيرانية وبالفعل نفي الى العراق ولكن السفير أصر ان ترافقه إحدى الفرق الروسية مع باقي المنفيين الى الحدود العراقية عبر جبال كردستان بالإضافة الى الفرقة العسكرية التي أرسلتها الحكومة الإيرانية لمرافقته. خلال ما يقارب المئة وستين سنة منذ نشوء الديانتين البابية والبهائية تحولت الإتهامات ضدهم حسب تطور العلاقات السياسية بين دول الشرق الأوسط وباقي الدول فبعد أن أتهموا بالعمالة للروس في القرن التاسع عشر صاروا يتهمون بالعمالة للأنكليز في بداية القرن العشرين ثم تحولت التهم الى العمالة لليهود منذ أواسط القرن العشرين.(1/43)
. وبعد أن شاع أمر البابية قامت السلطات الإيرانية، وكانت إيران محكومة من قبل أسرة القاجارالتركمانية، بتعذيب البابين والقبض على "الباب" سنة 1847م وأوداعه السجن ولكن أتباعه ظلوا يترددون عليه في السجن وأخذوا يظهرون ايمانهم به وبرسالته على عامة الناس مما زاد من وطأة هذا التعذيب الذي دوّن تفاصيله العديد من المؤرخين الشرقين والغربين. وفي نهاية المطاف أُعدم "الباب"سنة 1849م رميا بالرصاص أمام العامة رغم وساطات بعض الدول الغربية للصفح عنه ومن ضمنها روسيا وبريطانيا وذلك نتيجة التقارير التي ارسلها سفراء هذه الدول الذين شهدوا الاضطهاد العنيف الذي واجهه الباب واتباعه . وكان ممن انضم إلى دعوة الباب المدعو حسين علي النوري مؤسس البهائية التي صارت دينًا مستقلاً فيما بعد.
علاقة الدين البهائي بباقي الأديان
يؤمن البهائيون بوحدة المنبع الالهي لأغلب الديانات العظمى الموجودة في العالم, ويعترفون بمقامات مؤسسيها وبأنهم رسل من الله. ومن هذه الديانات الزردشتية والهندوسية واليهودية والبوذية والمسيحية والإسلام وكلها جائت لتهذيب البشر أينما سكنوا عبر العصور. وقد نشأت هذه الديانات في مجتمعات كانت تدين بديانات سابقة وبنت الواحدة على ألأساس الذي وضعته الأخرى, وكما نجد أن للمسيحية على سبيل المثال جذورا في الديانة اليهودية, نرى جذور الدين البهائي في الإسلام. غير ان هذا لايعني بأن الدين البهائي هو فرع من الديانات السابقة أو فرقة من فرق الإسلام, بل يؤمن اتباعه بأن دينهم هو دين مستقل منذ بداياته وله كتبه وشرائعه المستقلة.
علاقتهم باليهودية(1/44)
يدعي الذين يعارضون الدين البهائي ان البهائيين اتصلوا باليهود في تركيا واحتفى بهم اليهود في عكا. وان عباس أفندي "عبد البهاء" قد قابل الجنرال اللنبي(1) وحصل على لقب سير ومنح عددا من الأوسمة الرفيعة في سنين الحرب العالمية الأولى ويدعون ايضا ان عبد البهاء يؤيد ادعاء اليهود حقهم في فلسطين وانه بعد عباس أفندي تولى زعامة البهائية يهودي أميركي يدعى ميسون وانهم عقدوا مؤتمرا لهم سنة 1968م في فلسطين وجاءت قرارات ذلك المؤتمر موائمة للأفكار والرؤى الصهيونية(2).
__________
(1) ادموند اللنبي، الفايكونت الأول اللنبي (23 ابريل 1861 - 14 مايو 1936) ضابط واداري بريطاني، اشتهر بدوره في الحرب العالمية الأولى حيث قاد قوة التجريدة المصرية في الاستيلاء على فلسطين وسوريا عامي 1917 و1918
(2) وقائع تاريخية
كان اليهود ولحوالي 12 قرنا مطرودين عن الأراضي المقدسة وممنوعين عن الدخول فيها الى أن سمح لهم السلطان عبد العزيز بالعودة اليها عندما أصدر فرمانه بذلك الصدد في سنة 1844م وهو نفس السلطان الذي أرسل بهاء الله الى سجن قلعة عكا.
في الحرب العالمية الأولى قاتل العرب الى جانب الأنكليز لغرض التخلص من الحكم العثماني وجوره وأستقبلوا الجنرال اللنبي بحفاوة حين خسر العثمانيون الحرب وتركوا فلسطين .
تم تأسيس دولة إسرائيل 56 عاما بعد وفاة بهاء الله في عكا سنة 1892م و27 عاما بعد وفاة عبد البهاء في حيفا سنة 1921م. لا تسمح الادارة البهائية للبهائيين إطلاقا ان ينشروا تعاليم دينهم في دولة إسرائيل بين المسلمين او المسيحيين او اليهود او غيرهم(1/45)
ولكن تثبت الوقائع التاربخية ان عباس أفندي قام بشراء أراضي زراعية في بلاد الشام زرع فيها الحبوب من الشعير والحنطة وأستفاد منها في إطعام الناس أثناء مجاعات الحرب ومنح لذلك ولأعماله الخيرية الأخرى لقب الـ"سير" وكان ذلك بعد سقوط فلسطين وخروج العثمانيين منها ودخول الأنكليز. ويقول البهائيون ان معتقداتهم فيما يتعلق بعودة اليهود الى فلسطين لا تختلف ابدا عما جاء في الكتب السماوية الاخرى كالثوراة والانجيل والقران وانه ليس لهم اية علاقة بتأسيس دولة اسرائيل. وان بهاء الله لم يستقبل بحفاوة من قبل اليهود وانما نُفي من قبل الدولة العثمانية في سنة 1868م إلى مدينة عكا في فلسطين ليسجن في قلعتها هناك لغرض التخلص منه بسرعة حيث عرفت هذه المنطقة, وخاصة السجن, بكثرة الأمراض الخبيثة وردائة الهواء والماء والأحوال الصحية. وكان فرمان السلطان قد حذر سكان المدينة من خطورة التعامل مع المساجين البهائيين واتهمهم بالزندقة والإلحاد .
ولقد سمح لبهاء الله في اّخر سنوات حياته بالعيش في احدى المنازل خارج حدود السجن كنتيجة لاعلان التعبئة العامة في فرق الجيش التركي وحاجتهم لتكنات الجيش التي كان يقيم فيها المساجين المنفيين. وخصص لبهاء الله واسرته من قبل الحكومة منزلا في الحي الغربي من المدينة ثم نقلوا الى منازل عديدة بعد ذلك. وبلغت قلة صلاحية بعض هذه المساكن وكفايتها باحتياجاتهم ان اضطر ما لا يقل عن ثلاثة عشر شخصا العيش في غرفة واحدة في بعض الاحيان. وكان اهالي المنطقة في ذلك الحين يشّكون بالمنفيين ويكنّون لهم العداء وحتى انهم كانوا يطاردون اولادهم ويسبونهم ويرمونهم بالحجارة اذا هم تجاسروا وظهروا في الشوارع. ولم تتحسن حال البهائيين الا بعد ان تمكن سكان المنطقة من التعرف على البهائيين واخلاقهم وخاصة نتيجة اعمال البر التي قدمها عباس افندي, الابن الارشد لبهاء الله, لاهل المنطقة.(1/46)
وعند تعيين احمد توفيق بك حاكما جديدا تعرف على اعمال عباس أفندي وقام بقرأة الكثب البهائية الثي رفعها له المعارضون لاثارة غضبه ضد البهائيين ولكن قرأته لهذه الكتب حفزته على زيارة بهاء الله. وادت هذه الزيارة الى تعرف الحاكم ببهاء الله عن كثب ومعرفة ما ينادي به والتاكد من حسن نواياه ونوايا اتباعه مما دفعه الى تخفيف الحضر على البهائيين. وتبع مصطفى ضياء باشا الذي اصبح واليا بعد ذلك سياسة مماثلة تجاه البهائيين المنفيين وحتى انه سمح لهم بالتجول خارج اسوار المدينة وبمقابلة الاخرين من بينهم بعض المستشرقين مثل ا.ج. براون الاستاذ بحامعة كمبردج الذي التقى ببهاء الله عدة مرات ودون احدات هذه اللقاءات في كتبه ومقالاته العديدة, واعيان المنطقة كالشيخ محمود مفتي عكا في ذلك الوقت والشيخ علي الميري الذين ابدوا صداقتهم لعباس أفندي وبالغ الاحترام والتقدير لبهاء الله.
ولقد قام عباس أفندي بعد ذلك بشراء مسكن في ضواحي مدينة عكا حيث عاش بهاء الله الى ان توفى في سنة 1892م و صار مرقده مزارا لأتباعه. وبقى ابنه عباس سجينًا هناك إلى سنة 1908م وبعدها أطلق سراحه بعد ثورة تركيا الفتاة وسقوط السلطان العثماني ولكنه لم يترك المنطقة وعاش في مدينة حيفا في فلسطين الى حين وفاته في سنة 1921م. وبالاضافة الى علاقة عباس افندي بالعديد من اعيان فلسطين من المسلمين والمسيحيين والدروز وغيرهم فلقد توطدت علاقات الصداقة والاحترام المتبادل بين عباس افندي "عبد البهاء" والعديد من مفكري وادباء العصر في ذلك الحين ومن ضمنهم جبران خليل جبران, شكيب ارسلان, امين الريحاني, والشيخ محمد عبده الذي صار فيما بعد مفتي الازهر الشريف.(1/47)
وبعد وفاة عبد البهاء وحسب وصيته قام حفيده شوقي افندي بولاية شؤون الدين البهائي ونشر تعاليمه وأسس المركز الإداري للبهائيين في مدينة حيفا قرب المرقد الأخير للباب وعبد البهاء على سفح جبل الكرمل(1).
ولقد توفي شوقي افندي عام 1957م في مدينة لندن ودفن هناك. وبعد رحيل شوقي أفندي, طمع ميسن ريمي (ميسون) في نفس العام بأن ينتصب مقام ولاية الأمر البهائي رغم إن هذا يخالف تعاليم ووصايا عباس أفندي "عبد البهاء" وبسبب ذلك طرد من الدين البهائي في تلك السنة.
مؤتمر بدشت
أثناء وجود الباب في السجن قام بهاء الله الذي كان على اتصال بالباب عن طريق المراسلة المستمرة بتنظيم مؤتمر للبابية في صحراء بدشت الإيرانية سنة 1848م والاشراف عليه بصورة غير مباشرة. ولقد قام اثنان من أتباع الباب القدوس والطاهرة بالمساعدة بتنظيم المؤتمر وتطبيق برنامجه الذي كان يهدف الى توضيح تعاليم شربعة الباب والفصل الكامل بين البابية والاسلام. ولعبت الطاهرة دورا رئيسيا في تحقيق هذا الهدف.
__________
(1) جبل الكرمل هو جبل ساحلي يطل على البحر الابيض المتوسط وعلى ميناء مدينة حيفا وخليج عكا وهو امتداد لجبال نابلس .. ويأخذ الجبل شكل مثلث ، رأسه في الشمال الغربي وقاعدته في الجنوب الشرقي وأعلى قمة فيه هي قمة عين الحايك ويبلغ ارتفاعها حوالي 550 متراً, ويقع جزء كبير من مدينة حيفا الحالية على جبل الكرمل وكذلك بعض القرى مثل أم الزينات وقرية اجزم وأحراش الكرمل.(1/48)
ويعتبر هذا المؤتمر من اهم الوقائع في التاريخ البابي حيث ادت احداثه الى ايضاح الفرق بين الديانة البابية والاسلام. ولقد ظهرت أم سلمى زرين تاج "الطاهرة" في المؤتمر من دون حجاب على وجهها والقت بيانا بليغا على الحاضرين من الرجال بطلاقة وحماسة. ورغم انها كانت معروفة بالعلم والذكاء وحسن السيرة والسلوك فان سلوكها هذا اعتبر في ذلك الوقت خروجا عن العادات والتقاليد والمباديء الاسلامية وادى الى اضطراب في نفوس بعض الحاضرين الذين تركوا المؤتمر بهلع وفزع لقيامها بما اعتبروه خرقا لما كان متعارف عليه. ولقد دفعهم ما قامت به "الطاهره" الى ادرك الاختلاف الجذري بين البابية والاسلام في السلوك والعبادات. ودعت الطاهره بقية الحاضرين الى الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة لما لها من اثر بالغ على تطور البابية.
المطلب الثاني
العقيدة البهائية
مغزى وهدف الحياة هو عرفان الله, والتقدم والنمو الروحي للفرد, والمساهمة في إزدهار وتقدم الحضارة ألإنسانية.
النمو الذاتي للفرد هو نتيجة السعي في اكتساب الفضائل والمحاسن الاخلاقية في هذه الدنيا وتطبيقها في الحياة اليومية. ورغم ان الفرد لا يأخذ معه شئ من الماديات عند الموت إلا أن الصفات الحسنة, والقوى الروحانية الناتجة عن هذه الصفات, هي ما تحتاجه الروح بعد ارتقائها الى العالم الآخر. ومن تعاليم بهاء الله أن ترقي الروح يستمر بعد الموت ويعتمد على ما يكتسبه المرء من مزايا روحية وكذلك على الحسنات التي يقوم بها في هذه الدنيا وعلى دعاء اهله ومعارفه له بعد موته. أما الجنة والنار فيعتبرها البهائيون حالات ومراحل من القرب من الله أو البعد عنه وليست اماكن مادية.(1/49)
يعتقد البهائيون ان عرفان الله الكامل بعنصره هو مستحيل على البشر ولكن بنفس الوقت يمكن عرفان الله بعرفان صفاته وأسمائه ومزاياه مثل الرحمة والعدل والإنصاف والشفقة وغيرها. وهذه الصفات هي ايضا موجودة الى حد ما في الذات البشرية, ومَثلها هنا كمثل جواهر مكنونة في الروح الإنسانية ولا تظهر للوجود إلا على أيدي المربين الالهيين (الانبياء والرسل) نتيجة ً لإتباع احكامهم ووصاياهم.
ومن اهم مكونات العقيدة البهائية الايمان بثلاثة أنواع من الوحدة, ترتبط ببعضها البعض ارتباطا وثيقا وهي: وحدة الخالق, وحدة الديانات في اصلها ومنبعها واهدافها, ووحدة الجنس البشري. ولهذه المبادئ الثلاثة تأثير عميق على باقي مبادئ الدين البهائي وعقائده. ويرى البهائيون الديانات بصورة عامة على انها دين واحد فتحت طياته شيئا فشيئا على العباد عن طريق المربين السماويين مؤسسي الديانات العالمية من رسل وأنبياء قاموا على تهذيب وتنشئة المجتمعات تدريجيا حسب مراحل تطور هذه المجتمعات وتطور احتياجاتها. ويمثل بهاء الله مؤسس الدين البهائي, احدث الحلقات في تعاقب هؤلاء المربين الإلهيين ولكنه ليس آخرهم فالبهائيون يعتقدون بدوام حاجة البشر الى التربية الالهية ويعتقدون بمجيء رسل آخرين في المستقبل (ولكن بعد الف سنة على الاقل من ظهور الرسالة السابقة) .
من التعاليم والمبادئ البهائية (خلاصة جزئية)
1. الإيمان والاعتراف بوحدانية الخالق , وبوحدة البشرية, وبأن أصل الاديان ومنبعها واحد.
2. ألتحرّي الشخصي للحقيقة وترك التقليد الاعمى والخرافات.
3. النظر الى وحدة جميع العالم الانساني كمحور وخلاصة وغاية لكل التعاليم البهائية.
4. ترك التعصبات بكل انواعها تركا كليا سواء كانت مبنية على اسباب دينية، وطنية، قبلية، عنصرية، أو طبقية.
5. وجوب التآلف بين العلم والدين.(1/50)
6. المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل (جناحي طير الانسانية) فبدون هذه المساواة لايرتقي هذا الطير الى معارجه السامية.
7. التعليم الإجباري للأطفال من الذكور والاناث.
8. إتخاذ لغة عالمية لتسهيل التفاهم بين الشعوب وتآخي سكان المعمورة.
9. ردم الهوة الساحقة بين الفقر المدقع والغنى الفاحش وايجاد الحل الروحي للمسألة الاقتصادية.
10. المشورة في اتخاذ القرارات.
11. تأسيس محكمة عالمية لفصل الخصومات بين الدول.
12. رفع مرتبة الاحتراف والعمل الى رتبة العبادة (عند القيام بالعمل لغرض خدمة المجتمع).
13. العدالة هي العمدة في كل شؤون المجتمع الإنساني وتتعلق عليها سعادة الإنسان ورفاهيته وسلامته.
14. الدين هو العمدة في ضمان أمان الناس وحماية شعوب العالم.
15. إطاعة الحكومة واجبة في كل الامور إلا في انكار العقيدة.
16. عدم التدخل في الأمور السياسية أو الإنظمام الى الأحزاب.
17. تأسيس السلام العالمي الدائم هو الهدف الأسنى لكل البهائيين.
بعض الأحكام البهائية
1الصلاة: هناك ثلاثة انواع من الصلاة البهائية(1) اليومية وعلى الفرد إختيار أحدها.
الصوم: الإمتناع عن الأكل والشرب من الشروق الى الغروب خلال الشهر الاخير في السنة البهائية.
موافقة الطرفين ورضاء الوالدين عند الزواج وقراءة آية معينة وقت عقد القران بحضور شهود العيان (الآية: يقول الزوج "إنا لله راضون" والزوجة "إنا لله راضيات").
تحريم المشروبات الكحولية والمخدرات وكل ما يذهب به العقل.
تحريم النشاط الجنسي إلا بين الزوج وزوجته.
تحريم تعدد الزوجات.
قوانين لتقسيم الإرث (في حالة عدم توفر الوصية).
تحديد عقوبات القتل والحرق والزنا والسرقة ... الخ.
__________
(1) راجع الكتاب الاقدس : بهاء الله ,الناشر : المركز البهائي العالمي 1992(1/51)
وتعزو بعض المصادر المعارضة للبهائية العديد من العقائد المخالفة لما جاء صريحا في كتب البهائية وممارساتهم التي يشهد بها غير البهائيين من مسلمين وغيرهم. وتتلخص هذه الادعاءات وموقف البهائية منها بما يلي:
يعتقد البهائيون أن كتاب "الأقدس" الذي وضعه البهاء حسين ناسخ لجميع الكتب السماوية " .بينما يعتقد البهائيون ان جميع الكتب السماوية كالتوراة والانجيل والقران منزلة من الله سبحانه وتعالى، ويحثون اتباعهم من مختلف الخلفيات والمعتقدات على دراسة هذه الكتب السماوية والتمعن فيها.
يعتقدون بألوهية الفرد وبوحدة الوجود والحلول وأن لا انفصال بين اللاهوت والناسوت للبهاء ولهذا وضع برقعا على وجهه وجاء في كتاب الأقدس : "من عرفني فقد عرف المقصود، ومن توجه الي فقد توجه للمعبود". بينما يؤكد البهائيون ان "بهاء الله" لم يرتدي برقعا على وجهه وان احد الاركان الاساسية للدين البهائي هي الايمان بالله الواحد الاحد الذي لا شريك له. ولان الله سبحانه وتعالى منزها عن الإدراك، فان معرفة مظاهر أمره وهم الرسل الذين يحملون تعاليمه وأوامره هو السبيل للتعرف عليه. ويعتقد البهائيون بأنه بالإضافة إلى بهاء الله فان هذا ينطبق على معرفة الرسل الآخرين كعيسى وموسى ومحمد عليهم السلام وما جاءوا به من مباديء وتعاليم.
يقولون أن الوحي لا يزال مستمرا وبأن المقصود بكون محمد خاتم النبيين هو أنه زينتهم كالخاتم يزين الإصبع " . ويعترف البهائيون انهم يؤمنون بان الوحي الالهي سيبقى مستمرا لان هذا من وعد الله لعباده.(1)
__________
(1) لمزيد من المعلومات راجع موقع الإسلام والدين البهائي.(1/52)
يحرمون ذكر الله في الأماكن العامة ولو بصوت خافت، جاء في كتاب "الأقدس": "ليس لأحد أن يحرك لسانه ويلهج بذكر الله أمام الناس، حين يمشي في الطرقات والشوارع". ويقول البهائيون ان هذه الاية هي للتأكيد على حرمة واهمية الصلاة وذكر الله. وان ذكر الله يحب ان يحاط بالتقديس والاحترام من قبل المتكلم والسامع على حد السواء. ويضيفون ان احكام البهائية لا تمنع ,وانما تؤكد على اهمية ذكر الله في كل الاوقات كضرورة لسعادة الفرد ورقيّه الروحي.
يعتقدون بقدسية العدد 19 في السنة 19 شهرا والشهر 19 يوم". و للرقم 19 مكانة خاصة لدى البهائيين لانه يكوّن محور التقويم البهائي.
لا يؤمنون بالجنة أو النار ". وتشير الكتب البهائية الى انهم لا يؤمنون بالعذاب والثواب المادي بعد الموت وانما يؤمنون بالعذاب والثواب الروحي.
لا يؤمنون بالملائكة والجن ". وتشير الكتب البهائية انهم يؤمنون بوجود الملائكة والحياة الاخرة ولكنهم يفسرونها تفسيرا قد يختلف عن التفسيرات والمعتقدات الشائعة المتعلقة بهذه الظواهر.
" لا يؤمنون بالحياة الاخرة بعد الموت بل يقولون أنها المدة بين نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام والباب الشيرازي ".
بينما تؤكد المراجع البهائية على ايمانهم بالحياة بعد الموت كمرحلة اساسية لاستمرار حياتهم الروحية ولكنهم لا يؤمنون باستمرار الحياة الجسدية او المادية للفرد بعد الموت كالتي يعتقد بها العديد من اتباع الديانات الاخرى.
"يقولون بصلب المسيح عليه السلام" .
" لا يعتقدون بالانتماء للوطن بل للعالم أجمع تحت دعوى وحدة الأوطان وكذلك يدعون إلى إلغاء اللغات والاجتماع على اللغة التي يقررها زعيمهم ".(1/53)
ولكن الكتابات البهائية وتقاريرهم المنشورة على الصعيد العالمي تؤكد على ضرورة حبهم لاوطانهم وخدمة البلاد التي يقيمون فيها بصدق ومحبة واخلاص. وبالاضافة الى ذلك فانهم يسعون لدعم وتأسيس نظام عالمي يضمن العدالة الاجتماعية وكرامة الانسان وحقوقه بغض النظر عن جنسه او عرقه او معتقداته. ولان حب الوطن مسألة طبيعية, فلقد دعى بهاء الله اتباعه لحب جميع البشر قائلا, "ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم". ويعتقد البهائيون بان ايجاد لغة عالمية تتفق عليها الشعوب المختلفة سوف يسهل عملية التواصل بين افراد هذه الشعوب. وهم لا يقولون بترك هذة الشعوب للغتهم الام وانما تبني لغة عالمية يتم الاتفاق عليها كلغة ثانية يتعلمها الجميع بالاضافة الى لغتهم الاصلية.
" ابتدعوا عبادات خاصة بهم من صلوات يتجهون نحو قصر البهجة في عكا عند ادائها وزكاة وصوم على طريقتهم، و حج الى قصر البهجة المذكور ".
ويعترف البهائيون بانهم, كاتباع دين مستقل عن باقي الديانات, لهم عباداتهم وممارساتهم الخاصة بهم والتي تختلف عن عبادات وممارسات الديانات الاخرى، بما فيها الاسلام. والهدف الاساسي لهذة العبادات هو الدعاء والصلاة لله الواحد الاحد وطلب رحمته والتقرب اليه.
المبحث الثالث
طرق العبادة
التربية الدينية للبهائيين تتم عن طريق دراسة النصوص البهائية وقراءة الادعية والمناجاة كل صباح ومساء وكذلك الصلاة والتعبد, اما الرهبنة والتكهن والدروشة والإعتصام في الصوامع والإعتزال عن الناس فممنوع عند البهائيين ويعتقدون ان من واجب الإنسان العمل والإحتراف والتطبيق العملي للوصايا الإلهية في الحياة اليومية ويعتبر العمل لغرض خدمة الآخرين والمجتمع كنوع من العبادة في حد ذاته.
أماكن العبادة(1/54)
الصلاة عند البهائيين انفرادية ويقوم بها الشخص عادة في البيت ولاتمارس صلاة الجماعة إلا في دفن الميت. ويجتمع البهائيون للمشاركة في قراءة الأدعية والمناجاة أو للمشاورة بصورة منتظمة إما في البيوت أو في الأماكن العامة أو في ابنية خاصة لهذه الاغراض. ويوجد ايضا في الوقت الحاضر دور عبادة تسمى بمشارق الأذكار (1)(عددها الحالي سبعة والثامن تحت الانشاء), وهي ابنية مخصصة للعبادة ولها ملحقات مخصصة للمشاريع الخيرية. ومع ان مشارق الأذكار هذه تختلف من حيث التصميم والشكل إلا ان لكل منها قبة وتسعة جوانب وتسعة مداخل مفتوحة للجميع من كل الأديان.
التقويم البهائي
__________
(1) تلعب مشارق الأذكار البهائية دورا هاما في التعبير عن مبادئ الدين البهائي وتستقطب اعداد كبيرة من الزائرين والمصلين من مختلف الاعراق والديانات. ومن المتوقع ان يكون لمراكز العبادة هذه دورا أكثر أهمية في حياة الجامعة البهائية والمجتمع العام في المستقبل. فبالإضافة إلى المعبد المحاط بالحدائق والجنائن والذي يتكون من قاعة بتسعة مداخل تعلوها قبة ترمز لوحدة الأديان من حيث المبدأ والأساس, فانه من المتوقع ان يحيط هذه المعابد في المستقبل مؤسسات فرعية توفر الخدمات الاجتماعية والتعليمية والعلمية كمدرسة للأيتام, ودار للمسنين, ومستشفى, وجامعة, ومراكز أبحاث, وغيرها.(1/55)
للبهائيين تقويم شمسي جديد وللسنة البهائية تسعة عشر شهرا ولكل شهر تسعة عشر يوما. أما الأيام الأربعة (في السنة البسيطة) أو الخمسة (في السنة الكبيسة) اللازمة لإكمال السنة الى 365 يوم, فتسمى بأيام الهاء(1) ولاتحسب ضمن الاشهر بل تقع قبل الشهر الأخير (شهر الصيام). أسماء الأشهر و كذلك أسماء الأيام تحكي عن بعض الصفات الإلهية ومنها شهر العلاء وشهر الجلال وشهر الكمال وغيرها. وتبدأ السنة البهائية يوم الإعتدال الربيعي في النصف الشمالي من الكرة الأرضية (عادة يوم 21 مارس) وهو احد الأعياد البهائية و يسمى يوم النوروز. و يبدأ التقويم البهائي في سنة 1844م/ 1260هـ ويسمى بتقويم البديع و مجموع الأيام المقدسة البهائية (بين الاعياد وأيام التذكر) هو تسعة أيام لايجوز فيها العمل (إلا عند الضرورة).
النظام الإداري
لايوجد في الدين البهائي أية مراكز أو مناصب أو وظائف فقهية, فليس فيه كهنة أو رهبان أو قساوسة أو رجال دين. ويعتقد البهائيون ان على كل شخص مهمة تثقيف نفسه والتعرف والإطلاع الشخصي على تعاليم دينه وتطبيقها في حياته اليومية والسلوك حسب مناهجها. أما أمور المجتمع فتحال إداريا على النطاق المحلي الى مايسمى بالمحافل الروحية المحلية وعلى النطاق الإقليمي الى مايسمى بالمحافل الروحية المركزية . وهذه المحافل سواءا كانت محلية أو مركزية يتم انتخاب اعضائها سنويا بدون حملات دعاية أو اي نوع من الترشيح أو التصويت العلني ولايملك افرادها اية سلطة شخصية أو فردية بل ان السلطة وصلاحية اتخاذ القرارات تعود للمحافل كهيئات إدارية .
__________
(1) حرف الهاء في الحساب الابجدي يساوي الرقم 5(1/56)
بنى النظام الإداري البهائي على اسس موجودة في الكتاب الأقدس وفي وصية عبد البهاء التي عين فيها المؤسسات الادارية ومنصب ولاية الامر الذي عين له حفيده شوقي افندي رباني(1) ليتولاها بعد وفاته وشرح فيها متطلبات وكيفية تأسيس بيت العدل الأعظم وهو الهيئة المنتخبة لإدارة شؤون الجامعة البهائية العالمية . وقام شوقي افندي بترجمة العديد من الكتب البهائية الى اللغة الأنكليزية ووضع وأشرف على تنفيذ الخطط لنشر الدين البهائي في العالم وبدأ بإنشاء المركز البهائي العالمي في مدينة حيفا قرب مرقد الباب, وشيد أركان المؤسسات الإدارية المحلية والإقليمية تمهيدا لإنتخاب بيت العدل الأعظم للمرة الأولى. وبعد وفاة شوقي افندي في سنة 1957م دون ان يترك وصية أو نجل, تَبينَ للبهائيين إستحالة تعيين من يخلفه في ولاية الأمر. ويبقى الآن بيت العدل الأعظم كأعلى هيئة إدارية للدين البهائي ويجري انتخاب اعضائه التسعة كل خمسة سنوات .
المساهمة في أمور المجتمع
__________
(1) شوقي أفندي رباني (1897 - 1957م) تولى ولاية الأمر البهائي من 1921م إلى وفاته في 1957 طبق رغبة جده عبد البهاء عباس التي دونها في وصيته. وقام شوقي افندي بترجمة العديد من الكتب البهائية إلى اللغة الأنكليزية ووضع وأشرف على تنفيذ الخطط لنشر الدين البهائي في العالم وبدأ بإنشاء المركز البهائي العالمي في مدينة حيفا قرب مرقد الباب, وشيد أركان المؤسسات الإدارية المحلية والإقليمية تمهيدا لإنتخاب بيت العدل الأعظم للمرة الأولى. وبعد وفاة شوقي أفندي في سنة 1957م دون ان يترك وصية أو نجل, تَبينَ للبهائيين إستحالة تعيين من يخلفه في ولاية الأمر.(1/57)
للجامعة البهائية العالمية سواء كانت ممثلة في أفرادها أو في هيئاتها الإدارية, نشاطات عدة في شتى المجالات التي تتعلق بخدمة المجتمع ومنها تأسيس العدالة الإجتماعية وترويج مكانة وتأثير الدين في المجتمع ومجالات النمو الروحي للفرد وغيرها. ويدفعهم في هذا مبدأ وحدة العالم الإنساني. وفي العقود الاخيرة ساهم البهائيون في العديد من النشاطات الإجتماعية-الإقتصادية التي ادت الى خدمة المجتمعات التي يعيشون فيها والمساعدة في مشاريع التطوير الاجتماعي والاقتصادي والتقافي وخاصة في العديد من الدول النامية. وللمزيد من المعلومات المتعلقة بهذا الصدد, طالع مجلة دولة واحدة التي تصدر باللغة الانجليزية وتضم العديد من اخبار هذه النشاطات. وقد عبر بهاء الله في كتاباته عن حاجة الدول في الوقت الحاضر للإتحاد مع بعضها في إدارة الأمور وحل المشاكل العالمية. ومنذ بدية نشأة الأمم المتحدة ساهم البهائيون في دعم مشاريعها الإنسانية في محو الأمية ونشر التعليم وتوزيع الأدوية وفي نشاطات صندوق الأطفال الدولي وغيرها. وتعتبر الجامعة البهائية العالمية احدى الهيئات غير الحكومية في الأمم المتحدة ولها ادوار عديدة في التحضير والمساهمة الفعالة في المؤتمرات العالمية مثل مؤتمرات ممثلي الأديان ومؤتمرات حقوق المرأة وحفظ البيئة وغيرها. ومن جملة نشاطاتهم في هذا المجال قاموا بتوزيع بيان موجهة الى رؤساء الأديان في كل أطراف العالم وبيانات عن تحقيق السلام العام قاموا بتوزيعها على كل الحكام ورؤساء الدول بالإضافة الى نشرها في الجرائد وباقي المنشورات.
مانوية(1)
المانوية - أو المنانية كما ذكر النديم في الفهرس- ديانة تنسب إلى ماني بن فتك المولود في عام 216 م في بابل. وقيل أن الوحي أتاه وهو في الثانية عشر من عمره.
__________
(1) المرجع
الزندقة - ماني والمانوية. تأليف جيووايد نغرين، ترجمة وزيادة ملاحق: د. سهيل زكار. دار التكوين، دمشق.(1/58)
حاول ماني إقامة صلة بين ديانته والديانة المسيحية وكذلك البوذية والزرادشتية، ولذلك فهو يعتبر كلاً من بوذا وزرادشت ويسوع أسلافاً له، وقد كتب ماني عدة كتب من بينها إنجيله الذي أراده أن يكون نظيرا لإنجيل عيسى. أتباع المانوية هم من تعارف عليهم أولا بإطلاق لقب الزنادقة.
العقائد
المانوية من الديانات الثنوية أي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة، وكان النور هو العنصر الهام للمخلوق الأسمى وقد نصب الإله عرشه في مملكة النور، ولكن لأنه كان نقيا غير أهل للصراع مع الشر فقد استدعى "أم الحياة" التي استدعت بدورها "الإنسان القديم" وهذا الثالوث هو تمثيل "للأب والأم والابن"، ثم إن هذا الانسان والذي سمي أيضا "الابن الحنون" اعتبر مخلصا لأنه انتصر على قوى الظلام بجلده وجرأته، ومع ذلك استلزم وجوده وجود سمة أخرى له وهي سمة المعاناة، لأن مخلص الإنسان الأول لم يحقق انتصاره إلا بعد هزيمة ظاهرية. و يعد موضوع آلام الإنسان الأول وتخليصه الموضوع الرئيسي في المثيولوجيا المانوية، فالإنسان الأول هو المخلص وهو نفسه بحاجة للافتداء.(1/59)
والملاحظ من ذلك شبه المانوية للغنطوسية (العرفانية)، والغنطوسية هي مصطلح عام يطلق على سلسلة عريضة من نظم التأملات الدينية التي تتماثل في نظرتها إلى أصل الإنسان. وهي تعد هرطقة من الهرطقات المسيحية وهي سابقة على المسيحية. وجميع الديانات الغنطوسية تعتمد عقيدة الخلاص (الفداء) وأداة الخلاص هي (غنطس) التي تعني المعرفة أو (العرفان) وهذه المعرفة تهتم بفهم الأشياء المقدسة وكيفية الخلاص، والغنطسة لا تتحصل عن طريق العقل وإنما من خلال نوع من الإلهام الداخلي. و قوام الخلاص هو تحرير الروح من سجنها الجسدي فبذلك يمكنها أن تصعد لله، هذا وقد سبب لها تعايشها الطويل مع الجسد نسيان أصلها السامي أي سبب لها الجهل، والخلاص من الجهل هو المعرفة، ولذلك هو بحاجة للمخلص والذي سمى "ابن الله" أو "يسوع". والجسد ورغباته شر لأنهما يمنعان الروح من الخلاص ولذلك تشجع المانوية على الزهد والرهبنة.(1/60)
تحرم المانوية كل ما من شأنه تشجيع شهوات الجسد الحسية، وبما أن اللحم ينشأ من الشيطان فلذلك كان محرما، فالمانوية أعدوا ليعيشوا على الفواكه وخاصة البطيخ، كما أن الزيت مستحسن. أما الشراب فقد كان عصير الفواكه هو الاختيار الأول وفرض اجتناب تناول كمية كبيرة من الماء لأنه مادة جسدية، كما حرم عليهم قتل الحيوانات والنباتات ومن يفعل ذلك فإنه سيعاقب بولادته من جديد الشيء الذي قتله، فرض عليهم التخلي عن الزواج والمعاشرة الجنسية التي تعتبر شيئا شريرا كما عد الإنجاب أسوأ منها بكثير. وحدهم «المجتبون» هم الذين تمكنوا من تنفيذ هذه الوصايا، أما «السماعون» فقد أوكل إليهم القيام بالأعمال المحظورة على المجتبين وتزويدهم بالطعام، ويترافق تناول تلك الأطعمة بإعلان براءة المجتبين من ذلك الفعل. مثال على قول أحدهم عند أكله للخبز: «لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي فأنا أتناول دونما إثم.» كما أن ممارسة الاعتراف والتوبة قانون هام. ذكر أيضا وجود التعميد المانوي والعشاء الرباني أو «الوليمة المقدسة» والتي كانت في نهاية الشهر الثاني عشر أو نهاية شهر الصوم المانوي وكان محور هذا العيد هو تذكر وفاة ماني وهذه المعتقدات تشبه مثيلاتها عند المسيحية.
وصف المانويين بالزندقة وكلمة "زنديق" هي كلمة فارسية دخيلة مشتقة من "زنديك" وتعني أتباع "زند"، وتشير إلى النوع الخاص من التقاليد المكتوبة الثابتة التي تنتمي إلى الشكل المجوسي من شيز، وإنما وصف المانوية بهذا الإسم كدلالة على أنهم أتباع تقاليد هرطقية -إذ أن كلمة زنديق قد حازت على هذه الدلالة في العصور الساسانية- ولأنهم ربطوا مع ديانة المجوس.(1/61)
تقهقرت واندثرت الديانة المانوية، أما في الغرب فبسبب عجز المانوية في مناقشاتها مع علماء اللاهوت المتدربين فلسفيا على عكس المانويين، وفي الشرق الأوسط فبانتشار الإسلام وفي الشرق الأقصى فبمعارضة البوذيين والكنفوشيين والمغول لها. هناك رواية للكاتب أمين معلوف بعنوان (حدائق النور ) تدور حول ماني والمانوية وهي مترجمة عن الفرنسية .
الملحدون
المطلب الأول
بدايات الإلحاد
استنادا إلى كارين أرمسترونغ في كتابها «تاريخ الخالق الأعظم» [ A History of God] فإنه ومنذ نهايات القرن السابع عشر و بدايات القرن التاسع عشر و مع التطور العلمي و التكنلوجي الذي شهده الغرب بدأت بوادر تيارات أعلنت أستقلالها من فكرة وجود الخالق الأعظم. هذا العصر كان عصر كارل ماركس و تشارلز داروين و فريدريك نيتشه وسيغموند فرويد الذين بدأوا بتحليل الظواهر العلمية و النفسية و الأقتصادية و الإجتماعية بطريقة لم يكن لفكرة الخالق الأعظم اي دور فيها. ساهم في هذه الحركة الموقف الهش للديانة المسيحية في القرون الوسطى و ماتلاها نتيجة للحروب و الجرائم و الأنتهاكات التي تمت في اوروبا بأسم الدين نتيجة تعامل الكنيسة الكاثوليكية بما اعتبرته هرطقة أو خروجا عن مبادئ الكنيسة حيث قامت الكنيسة بتشكيل لجنة خاصة لمحاربة الهرطقة في عام 1184 م وكانت هذه اللجنة نشيطة في العديد من الدول الأوروبية (1). وقامت هذه اللجنة بشن الحرب على أتباع المعتقد الثنوي في غرب أوروبا, والثنوية هي إعتقاد بأن هناك قوتين أو خالقين يسيطران على الكون يمثل أحدهما الخير و الأخر الشر. إستمرت هذه الحملة من 1209 الى 1229 وشملت أساليبهم حرق المهرطقين و هم أحياء وكانت الأساليب الأخرى المستعملة متطرفة و شديدة حتى بالنسبة لمقاييس القرون الوسطى. وكانت بناءا على مرسوم من الناطق بإسم البابا قيصر هيسترباخ Caesar of
__________
(1) البدع من القرون الوسطى Caesarius of Heisterbach: Medieval Heresies(1/62)
Heisterbach الذي قال «اذبحوهم كلهم»(1) . واستمرت هذه الحملة لسنوات وشملت لأكثر من 10 مدن في فرنسا. وتلا هذه الحادثة الخسائر البشرية الكبيرة التي وقعت أثناء الحملات الصليبية . ولم يقف الأمر عند العلماء فحتى الأدباء اعلنوا وفاة فكرة الدين و الخالق ومن ابرز الشعراء في هذه الفترة هو وليم بلاك (1757 - 1827) William Blake حيث قال في قصائده ان الدين ابعد الأنسان من انسانيته بفرضه قوانين تعارض طبيعة البشر من ناحية الحرية والسعادة وان الدين جعل الأنسان يفقد حريته و اعتماده على نفسه في تغير واقعه(2). وبدأت تدريجيا وخاصة على يد الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788 - 1860) بروز فكرة ان "الدين هو من صنيعة البشر ابتكروها لتفسير ماهو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية او نفسية او اجتماعية وكان الغرض منه تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب مايراه مؤسس الدين مناسبا وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية وانه من المستحيل ان تكون كل هذه الديانات من مصدر واحد فالاله الشديد البطش الذي انزل 12 مصيبة على المصريين القدماء وقتل كل مولود اول ليخرج اليهود من ارض مصر هو ليس نفس الاله الذي ينصحك بان تعطي خدك الآخر ليتعرض للصفع دون ان تعمل شيئا"(3).
__________
(1) الخرافات والأساطير ماركس Marx Myths & Legends] [ Nagel Ernest]
(2) seizures and the Sight of God: Isabella Eguae - Obazee
(3) Chris Harman :The prophet and the proletariat1994(1/63)
وتزامنت هذه الأفكار مع ابحاث تشارلز داروين الذي كان مناقضا تماما لنظرية نشوء الكون في الكتاب المقدس واعلن فريدريك نيتشه من جانبه موت الخالق الأعظم وقال ان الدين فكرة عبثية وجريمة ضد الحياة اذ انه من غير المعقول ان يعطيك الخالق مجموعة من الغرائز و التطلعات وفي نفس الوقت يصدر تعاليم بحرمانك منها في الحياة ليعطيك اياها مرة اخرى بعد الموت(1).
اعتبر كارل ماركس الدين أفيون الشعوب يجعل الشعب كسولا و غير مؤمنا بقدراته في تغيير الواقع وان الدين تم استغلاله من قبل الطبقة البورجوازية لسحق طبقة البسطاء(2), اما سيغموند فرويد فقد قال ان الدين هو وهم كانت البشرية بحاجة اليه في بداياتها وان فكرة وجود الاله هو محاولة من اللاوعي لوصول الى الكمال في شخص مثل اعلى بديل لشخصية الأب اذ ان الأنسان في طفولته حسب اعتقاد فرويد ينظر الى والده كشخص متكامل وخارق ولكن بعد فتره يدرك انه لا وجود للكمال فيحاول اللاوعي ايجاد حل لهذه الأزمة بخلق صورة وهمية لشيئ اسمه الكمال(3).
كل هذه الأفكار وبصورة تدريجية ومع التغييرات السياسية التي شهدتها فرنسا بعد الثورة الفرنسية و بريطانيا بعد عزل الملك جيمس الثاني من إنكلترا عام 1688 و تنصيب الملك وليام الثالث من إنكلترا والملكة ماري الثانية من إنكلترا على العرش .
__________
(1) Nietzsche's initial crisis , New light on the Sterner/Nietzsche question
(2) Marx Myths & Legends))
(3) Sigmund Freud - Life and Work(1/64)
كان الأتجاه السائد في اوروبا هو نحو فصل السياسة عن الدين والغاء العديد من القيود على التعامل و التعبير التي كانت مفروضة من السلطات السابقة التي كانت تاخذ شرعيتها من رجالات الكنيسة. وعندما بدأ الإستعمار الأوروبي للعالم الأسلامي حيث تحولت الجزائر الى مستعمرة فرنسية عام 1830 وتحولت اليمن في عام 1882 الى مستعمرة بريطانية وبين بريطانيا و فرنسا تحولت هذه الدول الى مستعمرات مصر , تونس , سودان , ليبيا , المغرب , وهنا بدأ احتكاك جديد لأول مرة بين قوى متطورة من الناحية العلمية والتكنلوجية و لا تعترف باي دور للدين في السياسة وبين مسلميين ادركوا ان ركب التقدم قد فاتهم ولكنهم في قرارة أنفسهم كانوا لايزالون يؤمنون بانهم "خير أمة أخرجت للناس" وان "الدين عند الله الإسلام" فظهر في الطريق خياران لا ثالث لهما اما اللحاق بالتقدم الغربي من خلال التقليد و المحاكاة و العلاقات الجيدة او القناعة بان ما آل اليه حال المسلمين من خضوع يكمن سببه في الأبتعاد عن إصول الدين الإسلامي . فاختار البعض طريق التأثر بالغرب و العلمانية و اختار البعض الآخر العودة للجذور و من هنا نشأت بدايات ما يسمى الإسلام السياسي ولايزال هذا الأنقسام موجودا الى يومنا هذا.
المطلب الثاني
أنواع الإلحاد
بسبب التعريف الغير واضح المعالم لمصطلح الإلحاد و وجود تيارات عديدة تحمل فكرة الإلحاد , نشأت محاولات لرسم حدود واضحة عن معنى الإلحاد الحقيقي وأدت هذه المحاولات بدورها الى تفريعات و تقسيمات ثانوية لمسطلح الإلحاد.(1/65)
وتبرز المشكلة إن كلمة الإلحاد هي ترجمة لكلمة لاتينية وهي Atheos وكانت هذه الكلمة مستعملة من قبل اليونانيون القدماء بمعنى ضيق وهو "عدم الإيمان بإله" وفي القرن الخامس قبل الميلاد تم إضافة معنى آخر لكلمة إلحاد وهو "إنكار فكرة الخالق الأعظم" ولكن لم يتم تحديد تفاصيل هذا الإنكار وعما إذا كان الإلحاد نتيجة دراسة معمقة او سطحية فهناك البعض ممن ينكرون وجود الخالق الأعظم بمفهوم الديانات السماوية ولكنهم يعيشون في غابات الأمزون وغير مطلعون على الحضارات وهناك اديان روحية مثل البوذية و الطاوية(1) لها مفاهيم يعتبرها اهل الديانات التوحيدية إلحادا وهل يكفي ان يشكك المرء بفكرة الخالق الأعظم ليكون ملحدا ام يجب ان يصاحبه عدم ايمان بأي قيمة روحية ملموسة وإذا كان للملحد قيمة روحية او معنوية غير الدين يؤمن به فلماذا يعتبر هذه القيمة الغير ملموسة بحواس الإنسان اكثر منطقية و عقلانية من فكرة الدين وهل يكفي ان يطلع شخص على دين واحد او دينين او ثلاثة ليقرر الإلحاد ام يجب عليه ان يطلع على جميع الديانات من البدائية الى البهائية وجميع الفلسفات من أرسطو الى سارتر ليقرر ليعلن إلحاده وفي النهاية ماهو الفرق بين شخص إستغرقه عقود من الدراسة ليعلن إلحاده وبين شخص اعلن الإلحاد لأسباب شخصية او نفسية او إجتماعية او سياسية. كل هذه التعقيدات ادت الى محاولات لتوضيح الصورة ونتجت بعض التصنيفات للإلحاد ومن ابرزها:
1. إلحاد قوي أو إلحاد ظاهر وهو شخص ينكر بصورة علنية وجود أي إله (2) .
2. إلحاد ضعيف أو إلحاد مبطن وهو شخص لا يؤمن بوجود أي إله ولكنه لم يعلن ولم ينفي إيمانه هذا على الملأ(3).
__________
(1) "الطاوية هي عقيدة أو مجموعة من المبادئ المشتقة من الفلسفة والديانة الصينية القديمة، ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد. من بين كل المدارس العقلية التي عرفتها بلاد الصين ".
(2) agnosticism \ Atheism)
(3) المرجع السابق .(1/66)
هذين التعريفين كانا نتاج سنين طويلة من الجدل بين الملحدين أنفسهم ففي عام 1965 كتب الفيلسوف الأمريكي من أصل تشيكي أيرنست نيجل (1901 - 1985) "إن عدم الأيمان ليس إلحادا فالطفل الحديث الولادة لايؤمن لأنه ليس قادرا على الإدراك وعليه يجب توفر شرط الإنكار لوجود فكرة الإله"(1).
في عام 1979 قام الكاتب جورج سمث بإضافة شرط آخر الى الملحد القوي الا وهو الإلحاد نتيجة التحليل و البحث الموضوعي فحسب سمث الملحد القوي هو شخص يعتبر فكرة الإله فكرة غير منطقية و غير موضوعية وهو إما مستعد للحوار او وصل الى قناعة في إختياره و يعتبر النقاش في هذا الموضوع نقاشا غير ذكي(2) . وأوضح سمث إن هناك فرقا بين رجل الشارع البسيط الذي ينكر فكرة الإله لأسباب شخصية او نفسية او إجتماعية او سياسية و الملحد الحقيقي الذي و إستنادا الى سمث يجب ان يكون غرضه الرئيسي هو الموضوعية و البحث العلمي وليس التشكيك او مهاجمة او إظهار عدم الإحترام للدين(3) . ولكن و بالرغم من هذه التوضيحات بقيت مسألة عالقة في غاية الأهمية لم تحسم لحد هذا اليوم وهو التطبيق العملي على أرض الواقع و الحياة العملية لفكرة الإلحاد فهناك بعض الصفات و الخصائص الجيدة التي تشجع الأديان الإنسان على إتباعها ويقوم اتباع الدين بمارسة هذه التعاليم إيمانا منهم إن إلها متكاملا امر بها و قد يشترك بعض هذه المفاهيم و التصرفات مع بعض مفاهيم الملحد الحقيقي ومن اهمها ان الملحد الحقيقي و تابع دين معين قد يلتقون في فكرة إحترام وجهة نظر المقابل و عدم إستصغار او تحقير اية فكرة إذا كانت الفكرة مبعث طمأنينة لشخص معين ويجعله شخصا بناءا في المجتمع فالسؤال المطروح و المثير الجدل هو ماهو التطبيقات العملية او إسلوب الحياة الذي يجب على الملحد إتباعه وعما إذا كان هذا الأسلوب فريدا من نوعه ولم
__________
(1) Nagel Ernest
(2) religion & liberty George H. Smith
(3) Defining Atheism by George H. Smith(1/67)
يشر اي دين او فلسفة اليها من قبل.
المطلب الثالث
أسباب الإلحاد
أسباب فلسفية نابعة من التحليل المنطقي والإستنتاج العلمي التي و حسب وصف الملحدين تشير الى إنعدام الأدلة و البراهين على وجود الخالق الأعظم وعدم وجود إشارة لخالق هذا الخالق الأعظم وعدم وجود غرض منطقي لهذا الخالق بخلق البشرية من الأساس(1).
فكرة الشر او الشيطان وكونها منافية لقدرة الخالق على عمل كل شيئ فإذا كان قادرا على إزالة الشيطان او نزعة الشر فإن هذا يوفر البشرية طاقة و وقتا لكي يبدع و إذا كان الخالق متعمدا في إبقاء الشيطان ليختبر العباد فإن الخالق وحسب تعبير الملحدين يبدوا وإنه غير متأكد من قدراته و يحتاج الى إختبار لإثبات ذلك .
أسباب شخصية مصدرها قناعة شخص معين إن حياته ستكون أفضل بدون الدين حسب مقاييس شخصية او مقايس فرضت عليه من المجتمع الذي يعيش فيه او نتيجة تأثره بمجتمع ملحد يعتبره اكثر تحضرا و تقدما(2) ويستشهد هذا التيار عادة بالحروب و المأسي التي حدثت و تحدث بسبب الدين.
أسباب نفسية قد تكون مصدرها حالات نفسية مثل الكآبة او إضطرابات في شخصية الإنسان .
أسباب تأريخية بسبب التناقض في رواية احداث تاريخية معينة في كتب دينية مختلفة يعتقد أتباع كل منها على حدى إن نسختهم هي الحقيقية.
الإلحاد من وجهة نظر الطب النفسي
__________
(1) Personal Gods, Deism, & the Limits of Skepticism . Massimo Pigliucci
(2) The Necessity of Atheism Why not to believe(1/68)
يرى الكثير من علماء وأطباء النفس انه و بالرغم من المحاولات العديدة لتبرير الإلحاد على أسس فلسفية و إجتماعية و سياسية إلا ان الجزء الأعظم من إتخاذ الإلحاد مرتكزا يرجع الى اسباب نفسية(1) وإن الملحد الحقيقي يمتلك قيمة روحية أخرى إبتدعها لنفسه ويعتبره اكثر عقلانية من الديانات السائدة فبعض الملحدين يعتبرون المساهمة في نشر الوعي و إحترام حقوق الإنسان او الأعمال الخيرية او مساعدة المنكوبين او الحد من التطرف او الحد من العنف اكثر موضوعية و عقلانية علما إن أتباع العديد من الديانات يؤمنون بهذه المعتقدات بدون الحاجة الى إنكار وجود الخالق ويرى علماء النفس و الإجتماع هذا كمجرد إستبدال لقيم روحية معينة بقيم روحية اخرى ولا جديد في هذا. فالإنسان و منذ القدم كان يستبدل إله بإله آخر عندما يجد إن الفكرة القديمة ليست مبعث طمأنينة. فعلماء النفس يعتبرون الإيمان بشيئ معنوي او روحي غير ملموس من الغرائز الرئيسية التي تفصل الإنسان عن المخلوقات الأخرى.
هناك إجماع في الطب إن صحة الإنسان هو خليط من 6 أقسام فرعية و هي الصحة البدنية و النفسية و الإجتماعية و الغذائية و المهنية و الروحية. وإن التعريف الضيق لمفهوم الصحة الذي كان مبنيا على إنعدام المرض كشرط للصحة أصبح مفهوما باليا وإن عدم توفر اي جزء من هذه الأجزاء الستة معناه وجود خلل في صحة الإنسان(2) و معنى هذا إن إنسانا سليم البدن و النفس سعيد في مهنته ويحافظ على نظام غذائي معتدل و يملك قيمة روحية او معنوية ولكنه يعاني من مشاكل إجتماعية فإن هذا الإنسان لايعتبر متمتعا بالصحة.
__________
(1) The Psychology of Atheism Professor Paul C. Vitz
(2) BASIC TEXTS Forty-Fourth Edition , Rules of Procedures of the Executive Board. March 2004(1/69)
هناك إجماع على إن المنطقة الجانبية من الدماغ والمسمى الفص الصدغي Temporal Lobe من المحتمل جدا ان يكون مسؤولا عن تنظيم الجانب الروحي في حياة الإنسان وقد تم التوصل الى هذا الإستنتاج عن طريق الأشخاص الذين يعانون من صرع المنطقة الصدغية من الدماغ حيث و لأسباب غير معروفة يزداد النشاط الكهربائي لهذه المنطقة بمعزل عن بقية الدماغ وهذا يؤدي الى ظهور اعراض وعلامات من أهمها أفكار دينية و روحية معقدة وأفكار ميتافيزيقية " علم ما وراء الطبيعة(1) هي أحد فروع الفلسفة التي تهتم بدراسة المبادئ الأولى و الوجود (الأنتولوجيا)" والتعلق بفكرة دينية معينة إلى حد الهوس. هذه الملاحظة البدائية مما حدى بالعلماء الى إجراء تجارب تتركز على قياس نشاط هذا القسم من الدماغ في اشخاص متدينين غير مصابين بالصرع و مقارنته باشخاص ملحدين وتم التوصل في جامعة كاليفورنيا في سان دياغو الواقعة في ولاية كاليفورنيا عام 1997 الى ملاحظة ان النشاط الكهربائي الدماغي في الفص الصدغي هو اعلى في المتدين مقارنة بالملحد(2).
بعد اعوام من هذه التجربة تم إجراء تجربة إستهدفت الملحدين بصورة خاصة وكانت عبارة عن تحفيز منطقة الفص الصدغي لشخص ملحد, لم تأد هذه التجربة الى نتائج ملموسة ولكن الملحدين عبروا عن شعورهم بشيئ ما او شعورهم أثناء تحفيز المنطقة الصدغية من دماغ المساهمين في التجربة, بوجود شخص آخر او شيئ آخر في الغرفة مع إقتناعهم انهم كانوا لوحدهم في غرفة الإختبار(3).
__________
(1) باليونانية meta = بعد/ما وراء و physics = طبيعة أو دراسة الطبيعة )
(2) Seizures and the Sight of God. Isabella Eguae-Obazee
(3) Understanding the Sacred(1/70)
ادت تجارب اخرى ان الطمأنينة الروحية الناتجة من إداء بعض الطقوس الدينية إستنادا الى الطبيب راميش مونوكا في بحثه الذي نشره في المؤتمر العالمي للصحة في أستراليا عام 2000 إن تجاربه ادت الى إستنتاج إن التأمل والطمأنينة النفسية اثناء اداء بعض الطقوس الدينية يزيد من نشاط مجموعة خاصة من الكريات الدم البيضاء والتي تسمى بالمقاتلات الطبيعية Natural Killer Cells والتي لها دور مهم في قتل الخلايا السرطانية(1) .
يمكن الإستنتاج ان أية قيمة روحية و معنوية غير ملموسة يبعث الطمأنية في حياة شخص ما ويجعله شخصا بناءا في المجتمع و يجعله يحترم آراء الغير هو من الناحية النفسية والطبية احد الشروط الرئيسية في تكامل صحة الإنسان وإن على الإنسان ان لايضيع جهدا و وقتا في إثبات ان فكرة ما او دين معين هو أفضل من فكرة أخرى او دين آخر(2) .
الإلحاد في العالم الإسلامي
واجهت فكرة الإلحاد جدارا صعب الإختراق في بداية إنتشار الفكرة أثناء الإستعمار الأوروبي لعدد من الدول الإسلامية ويعتقد معظم المستشرقين و المؤرخين إن الأسباب التالية لعبت دورا مهما في صعوبة إنتشار فكرة الإلحاد الحقيقي في العالم الإسلامي لحد يومنا هذا(3) :
__________
(1) Clinical Applications of Meditation :Dr Ramesh Manocha
(2) The Psychology of Atheismعلم نفس الإلحاد Professor Paul C. Vitz
(3) A History of God: The 4,000-Year Quest of Judaism, Christianity and Islam(1/71)
الإختلاف التأريخي بين الإسلام و الديانات و الأفكار الروحية الأخرى حيث إن الإسلام إستطاع في بداياته من تشكيل نواة دولة وتغلغل الفكر الإسلامي وتخطى حدود مجرد كونه فكرة روحية بل أصبح نظاما إجتماعيا و سياسيا و إقتصاديا حاولت تنظيم كافة الأمور من ابسط الأشياء كإلقاء التحية و طريقة الأكل مرورا بفلسفة الوجود الى الأمور السياسية و الإدارية و كل هذه الأمور أضافت طابعا إجتماعيا و إحتفاليا لطقوس كان غرضها الرئيسي ديني بحت فأصبح صوم رمضان و حج الكعبة و الزكاة تحمل معاني إجتماعية تأصلت في ذاكرة الإنسان المسلم جيلا بعد جيل و أصبحت جزءا من حياته.
الإنتصارات التأريخية العسكرية التي تحققت في عهد الإسلام حيث تحولت قبائل متشرذمة معادية لبعضها الى قوة عظمى فتولدت قناعة لدى المسلم إن الخضوع و التأخر والهزيمة كانت نتيجة الإبتعاد عن مبادئ الإسلام وليس العكس.
إستناد الإستعمار الأوروبي في محاولته لفهم العالم الإسلامي على أفكار معادية للإسلام و لشخصية رسول الإسلام إنتشرت في اوروبا في القرون الوسطى أثناء التوغل الإسلامي في قارة اوروبا فتولدت نتيجة لهذه الأفكار قناعة لدى المستعمر الأوروبي بأنه اكثر تفتحا و تحظرا من المسلم الذي و حسب رأي المستعمر كان صاحب عقلية متحجرة وأدى هذا الفكرة المسبقة عن المسلمين الى إنعدام حوار حقيقي بين الحضارات بل كان حوار من طرف واحد مفاده ان المسلم يجب عليه ان يتغير لكي يواكب ركب التقدم
وأدى هذا الحوار الفردي الى ردود فعل معاكسة و نشوء ظاهرة ما يطلق عليه تسمية إسلام سياسي (1).
__________
(1) "عبارة عن مصطلح سياسي وإعلامي استخدم لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره منهج حياة، واستخدم بكثافة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001".(1/72)
طبيعة المجتمع الشرقي الذي هو عبارة عن مجتمع جماعي بعكس المجتمع الأوروبي الذي يتغلب عليه صفة الإنفرادية فالإنسان الشرقي ينتمي اولا للعائلة ثم القبيلة او العشيرة ثم الطائفة وأي قرار يتخذه يجب ان يراعي فيه مصلحة مجموعة أخرى محيطة به قبل مصلحته او قناعته الشخصية فالإنسان الغربي له القدرة على إعلان الإلحاد كقرار فردي دون ان يتبع هذا القرار "وصمة عار" من قبل المجتمع بعكس الإنسان الشرقي الذي سيصبح معزولا عن اقرب المقربين إليه إذا اعلن الإلحاد لكون دين الإسلام دينا ذات ابعاد إجتماعية يدخل في تفاصيل الحياة اليومية.(1/73)
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية حاول مصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938)(1) بناء دولة علمانية(2) و إلحاق تركيا بالمجتمع الأوروبي فقام بإغلاق جميع المدارس الإسلامية وشملت المحاولة منع إرتداء العمامة او رموز اخرى فيه إشارة الى الدين. في إيران تأثر الشاه رضا خان الذي حكم من 1925 الى 1941 بمبادرة أتاتورك فقام بمنع الحجاب و أجبر رجال الدين على حلق لحاهم وقام بمنع مواكب العزاء أثناء عاشوراء(3)
__________
(1) "ولد في مدينة سلانيك اليونانية وكانت تابعة إلى الدولة العثمانية وقتئذ وتقطنها أغلبية من يهود الدونمة وتلقّى مصطفى كمال دراسة عسكرية وتولى مناصب مهمّة في الجيش العثماني وشارك في الحرب الليبية ضدّ الاحتلال ا?يطالي وقاد حرب التحرير التركية ضد قوات الحلف في الحرب العالمية ا?ولى بمنطقة جاناق قلعة (مضيق الدردنيل) ثم ساهم في الانقلاب ضد السلطان العثماني ا?خير وحيد الدين خان وأعلن في أنقرة قيام جمهورية تركية قومية على النمط ا?وروبي الحديث وله دور كبير في النهضة الاقتصادية التركية ويعتبره الكثيرون أحد أهم رموز التقدم والاصلاح في تاريخ تركيا "
(2) "تأتي كلمة "علمانية" من الكلمة الإنجليزية "Secularism" (سيكيولاريزم) وتعني إقصاء الدين والمعتقدات الدينيةعن امور الحياة. وتُفسّر العلمانية من الناحية الفلسفية أن الحياة تستمر بشكل أفضل ومن الممكن الإستمتاع بها بإيجابية عندما نستثني الدين والمعتقدات الإلهية منها "
(3) " عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم . يصادف هذا اليوم يوم المعركة التي خاضها الحسين بن علي بن أبي طالب ضد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بعد رفضه تقديم البيعة له، وفي هذا اليوم استشهد الحسين بن علي . اعتاد الشيعة في كل عام على أن يحيوه ويحيوا مراسم العزاء والنحيب على سبط النبي محمد (ص) ويستذكرون المبادئ التي ثار من أجلها الحسين كالمطالبة بالعدالة ورفض الظلم والمحافظة على الدين الإسلامي من التحريف وغيرها الكثير , وتنتشر هذه المراسيم بشكل كبير في إيران والعراق والكويت والبحرين ولبنان وباكستان وفي بعض المناطق الصغيرة في البلدان العربية كالسعودية وسوريا ومصر "(1/74)
ولكن هذه المحاولات لكونها مفاجئة و غير تدريجية و متأثرة بافكار اوروبية كانت لها نتائج عكسية ففكرة الإلحاد التي إنتشرت في اوروبا كانت تدريجية و موجهة ضد تدخل الكنيسة الكاثوليكية في السياسة ولم تكن لها نظرة شمولية عن الأديان الأخرى.
أدى إستعمال القوة في فرض الأفكار العلمانية في إيران و تركيا الى نتائج عكسية وتولد نواة حركات معادية لهذه المحاولات وإستقطبت مدينة قم في ايران كل الحركات المعادية لحكومة طهران ومن الجدير بالذكر إن قم(1) كانت لاتزال تمتلك نفوذا كبيرا على صنع القرار السياسي ومن الأمثلة المشهورة على ذلك كان الفتوى التي صدرت في إيران عام 1891 وفيها أفتى محمد حسن الشيرازي الإيرانيين بمقاطعة تدخين التبغ وحدثت بالفعل مقاطعة واسعة النطاق لمدة شهرين حيث اضطر الشاه على أثرها لإلغاء عقود تجارية ضخمة مع عدد من الدول الأوروبية حيث كان الشاه في ذلك الوقت يحاول الانفتاح على الغرب(2) .
نشأت نتيجة محاولة الفكر الإلحادي و العلماني إختراق المجتمع الإسلامي حركات إسلامية إصلاحية كانت تحاول إستعمال الدين لإجراء إصلاحات سياسية و إجتماعية فمن أفغانستان ظهر جمال الدين الأفغاني (1838 - 1887) ومن مصر ظهر محمد عبده (1849 - 1905) وفي الهند ظهر محمد إقبال (1877 - 1938) وشهد القرن العشرين صراعا فكريا بين الفكر الإسلامي و أفكار اخرى مثل الشيوعية و القومية العربية ولكن حتى الشيوعيين و القوميين لم يجعلوا من الإلحاد مرتكزا فكانت هناك ظاهرة غريبة بين بعض الشيوعيين حيث كان البعض منهم يمارسون الطقوس الإسلامية.
__________
(1) " هي أحد مدن الجمهورية الإسلامية في إيران و الحوزة العلمية في قم تعتبر ثاني أهم المراكز العلمية الدينية للشيعة تقع على بعد 147 كم جنوب العاصمة طهران "
(2) الفتوى والحركات الإسلامية الثورية The Fatwa and Revolutionary Islamic Movements(1/75)
لكن المستوى الأقتصادي المتدني لمعظم الدول في العالم الأسلامي حيث بدأت منذ الأربعينيات بعض الحركات الأشتراكية في بعض الدول الأسلامية تحت تاثير الفكر الشيوعي كمحاولة لرفع المستوى الأقتصادي و الأجتماعي للافراد ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي خلف فراغا فكريا في مجال محاولة الأصلاح الأقتصادي و الأجتماعي و يرى المحللون انه من هنا انطلقت الأفكار التي قامت بتفسير التخلف و التردي في المستوى الأقتصادي و الأجتماعي الى أبتعاد المسلمين عن التطبيق الصحيح لنصوص الشريعة الأسلامية وتؤثر حكوماتهم بالسياسة الغربية(1) ولعبت القضية الفلسطينة والصراع العربي - الأسرائيلي واحتلال اسرائيل للضفة الغربية و قطاع غزة كل هذه الأحداث وتزامنها مع الثورة الأسلامية في ايران و حرب الخليج الثانية مهدت الساحة لنشوء فكرة ان السياسة الغربية مجحفة وغير عادلة تجاه المسلمين وتستخدم مفهوم الكيل بمكيالين وأدى كل هذا الى نشوء ظاهرة الإسلام السياسي بدلا من إنتشار الفكر الإلحادي.
ظهرت في السنوات الأخيرة اصوات تحاول تنظيم نفسها وتنشر الفكر الإلحادي في العالم العربي ولكنها لاتزال في مرحلة بدائية جدا ويقتصر نشاطهاعلى شبكة الإنترنت ويتبادل هؤلاء الأشخاص الآراء تحت أسماء غير معروفة ومن الإطلاع على احد المواقع المسمى بإسم منتدى الملحدين العرب يمكن الإستنتاج إن هذه الأصوات لاتزال في مرحلة التشكيك البدائية بالدين والتي مرت بها الفكر الإلحادي في اوروبا منذ قرون حيث إن الإلحاد الأوروبي يركز الآن على جعل الإلحاد يرتقي الى مستوى فلسفة مستقلة لها تطبيقات عملية وغرضها الرئيسي الموضوعية و البحث العلمي وليس التشكيك والطعن بالديانات
الفصل الثاني
ما هو الدين ، وكيف وجد عند الإنسان(2) ?
المطلب الأول
__________
(1) The prophet and the proletariat النبي والطبقة العاملة Chris Harman 1994
(2) راجع كتاب Divine and the concretes The religious trend.(1/76)
المعنى اللغوي للدين
ان كلمة « الدين » تؤخذ تارة من فعل متعدٍ بنفسه نحو « دانه يدينه » . وتارة أُخرى من فعل متعد باللام ، نحو : « دان له » . وتارة من فعل متعد بالباء نحو : « دان به » .
ومن الطبيعي أن الاختلاف في الاشتقاق ينشأ من الاختلاف في المعنى ، فإذا قلنا : « دانه ديناً » عنينا بذلك أنّه ملكه ، وحكمه ، وساسهُ ، ودبره ، وقهره . فهو هنا بمعنى الملك والتصرف ، بما هو شأن الملوك في السياسة والتدبير وغيره . ومن ذلك قوله تعالى : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )(1)، أي مالك يوم المحاسبة والجزاء . وفي الحديث ، « الكيّس من دان نفسه » أي حكمها وضبطها . « والديّان » : الحاكم والقاضي(2). وأما إذا قلنا : « دان له » أردنا بذلك أنّه أطاعه ، وخضع له . فالدين هنا هو الخضوع والطاعة والعبادة .وكلمة « الدين لله » يصح أن ينطبق عليها كلا المعنين ، أي : الحكم لله ،والخضوع والطاعة له .
أمّا إذا قلنا : « دان بالشيء » أي اتخذه ديناً ومذهباً ، أي : اعتقد وتخلق به ، فالدين هنا بمعنى المذهب والطريقة ، الّتي يسير عليها المرء ، نظرياً وعملياً . إذن « ان كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين ، يعظم أحدهما الآخر ويدين له . فإذا وصف بها الطرف الأوّل ، كانت خضوعاً وانقياداً ، وإذا وصف بها الطرف الثاني ، كانت أمراً وسلطاناً ، وحكماً وإلزاماً ، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين ، كانت هي الدستور المُنظِّم لتلك العلاقة ، والمظهر الذي يعبر عنها »(3). هكذا تعرفنا على المعنى اللغوي للدين ، وبقي علينا ان نحدد المعنى الاصطلاحي من أنحاء متعددة .
المطلب الثاني
المعنى الاصطلاحي للدين
__________
(1) سورة الفاتحة : 1|3
(2) لسان العرب | ابن منظور ـ دين ـ 13 : 166
(3) الدين | محمد عبدالله : 31(1/77)
مما ينبغي الاشارة إليه ان التعريفات الاصطلاحية ، لكثير من القضايا الخارجية ، والمفاهيم والمعاني الفكرية وغيرها ، تخضع لفكر الإنسان وفلسفته عن تلك القضايا ، فأولئك الذين يتبنّون المنهج المادي ولا يؤمنون بعالم الغيب ، نجدهم يفسرون الكثير من القضايا تفسيراً ينسجم مع ذلك الإيمان المادي ، في حين أن أصحاب المنهج الالهي لهم تفسير مخالف لاُولئك الماديين ، ومن هنا نشأت تعريفات مختلفة للدين تبين معناه. ونحن سنذكر بعض تلك التعريفات ، مع مناقشة بعضها ، بما يتلاءم مع طبيعة المقام :
1 ـ عرّف المسلمون الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول ـ باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال ، والفلاح في المآل(1).
2 ـ أما العلماء الغربيون والشرقيون ، فقد عرّفوا الدين بتعريفات متعددة ، ومشوشة كثيراً ، وهي كالآتي (2) :
1 ـ يقول سيرون في كتابه ( القوانين ) : الدين هو الرابط الّذي يوصل الإنسان بالله .
2 ـ يقول كانتْ في كتابه ( الدين في حدود العقل ) : الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية .
3 ـ يقول الاب شاتل في كتاب ( قانون الإنسانية ) : الدين مجموعة واجبات مخلوق نحو الخالق ؛ واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة ، وواجباته نحو نفسه . ...
4 ـ يقول تايلور في كتاب ( المدنيات البدائية ) : الدين هو الإيمان بكائنات روحية.
5 ـ يقول جوبوه في كتاب ( لا دينية المستقبل ) : الديانة هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية ، والشعور الديني ، هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أُخرى ، يركزها الإنسان البدائي في الكون.
ولا ريب أن الكثير من هذه الآراء لم يراع فيها الجانب الشمولي لحقيقة الدين ، ولكن سنكتفي بهذا العرض اعتماداً على ما سوف يأتي من بيان حقيقة الدين عند الانسان .
المطلب الثالث
__________
(1) الانباء بما في كلمات القرآن من أضواء | 2 : 285
(2) اقتبسنا هذه التعريفات من كتاب الدين : 34 ـ 36(1/78)
نظريات في سبب تكون الشعور الديني لدى الإنسان(1)
أن البشرية لم تحيَ يوماً من الأيام بلا دين ، ولا وجد مجتمع غير متدين عبر العصور ، كما أثبت ذلك علماء الآثار والانثروبولوجيا(2) ، حيث أثبت هؤلاء العلماء أنّ النزعة الدينية متأصلة في وجود الإنسان ( فإن المصريين ، منذ آلاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام ، بدأوا يسجلون عقائدهم ، ووقائعهم ، وألوان حياتهم ، أقوالأ متفرقة مسطورة في قراطيس البردي ، أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد ، ... فتركوا لكلِّ إقليم حريتهُ في تقديس ما شاء )(3) وهذا الكلام ليس تخرصاً بلا دليل ، بل إن بعض هذه الآثار محفوظ إلى الآن في متاحف العالم ، ( وتدلّ بعض أوراق البردي المخطوطة والموجودة الآن في برلين ، وفي لندن ، على أن المصريين منذ القدم ، كانوا يعرفون الإله الواحد الأزلي ، الّذي لا تصوّرهُ الرسوم ولا تحصره الحدود »(4). وليس المصريون وحيدين في هذا المضمار ، فقد نقل عن اليونانيين في العصر الاغريقي ذلك أيضاً ، حيث وجد العلماء أنّ أقدم الآثار الّتي حصلوا عليها تؤكّد وجود الدين عندهم ، كما هو في الديوانين المنسوبين إلى « هوميروس »: « الإلياذة » ، و« الأوديسا » ، وهما سلسلتان من القصص الشعرية عند قدماء اليونان ، حيث نرى فيها ذكر أسماء آلهتهم ، وآلهة خصومهم ، ووصف القبريات والضحايا والتوسلات .أما في الشرق الأقصى ، فإنّ الأمر واضح جداً ، كما تؤكّد ذلك الأبحاث المعمّقة للانثروبولوجيا ، الّتي تثبت أنّ النزعة الدينية لم تفارق العالم الشرقي أبداً ، هذا ما تؤكّده الأبحاث العلمية .
__________
(1) راجع كتاب Divine and the concretes The religious trend.
(2) مصطلح الاثروبولوجيا يقصد به علم الإنسان بجوانبه العديدة مثل الدين والثقافة والعادات وغيرها من أنشطة الإنسان .)
(3) الدين : 10
(4) موسوعة التاريخ العام للديانات 1 : 251(1/79)
ولكن إذا أردنا وجهة نظر الدين نفسه ، فإنّ الإسلام وغيره من الديانات السماوية ، تؤكّد بأنّ الشريعة الإلهية صاحبت البشرية منذ أول الخليقة آدم ( عليه السلام ) ، وذلك من خلال تعليمه الأسماء الّتي فيها الأحكام المتعلّقة بسلوكه وسلوك بنيه نحو خالقه ، بعد انتهاء فصول تلك المعركة الّتي دارت رحاها ما بين آدم عليه السلام وإبليس ، وما ترتّب عليها من خروج آدم عليه السلام من الجنة ، ثمّ توبته وتلقّيه الكلمات الإلهية ، وأُوضِح له الحلال والحرام وحدود العلاقات الاجتماعية وما شابه ذلك ، قال تعالى : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )(1) .
ان هذه الأسئلة خاطَرَتْ الكثير من العقول المفكرة ، وأصحاب النظريات الفلسفية والاجتماعية ، فأدلى كلٌ منهم بدلوه ، وظهرت نتيجة ذلك نظريات واتجاهات متعددة ، في تفسير الظاهرة الدينية عند الإنسان ، وسوف نعرض قسماً من هذه النظريات محاولين مناقشتها بموضوعية وبشكل مختصر بما يتلائم وطبيعة البحث متجنبين الإسهاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .
أوّلاً : نظرية الجهل
__________
(1) سورة البقرة : 2|38 ـ 39(1/80)
وهي النظرية القائلة : بأنّ ( الدين كان وليد الجهل بالمظاهر الطبيعية ) ، لاَن الإنسان القديم كان يتألم من تلك المظاهر الطبيعية ، كالزلازل ، والصواعق والفيضانات والسيول ... إلى آخره . وهو لا يعلم مصدرها وعلّتها وكيفية تكونها . وحينما لم يستطع أنّ يعلل تلك الظواهر الطبيعية ، ويحللها ويصل إلى أسبابها الحقيقية كان يضنّ أنّ لكل ظاهرة طبيعية روحاً ، وكان يتخذ من هذه الروح إلهاً . وعليه فإذا كان منبع الدين هو الجهل بحقيقة هذه الظواهر ، فإنّه يزول قطعاً عند معرفة الأسباب الحقيقية لها ، ( ولما كان العلم الحديث القائم على أُسس التجربة العينية قد أزال النقاب عن كثير من ألغاز الطبيعة ومجهولاتها ، وعرّف الإنسان الأسباب الطبيعية لهذه الظواهر ... فلم يعد هناك ما يبرّر الإيمان بهذا المبدأ الغيبي ، واستطاع العلم أن يحلّ بكفاءة محلّ التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية .
لقد أثبت « نيوتن » أنه لا وجود لاِله يحكم النجوم ، وأكد « لابلاس » بفكرته الشهيرة أنّ النظام الفلكي لا يحتاج إلى اُسطورة لاهوتية ، وقام بهذا الدور العالمان « دارون » و« باستور » في ميدان البيولوجيا) . والذين يطرحون هذه النظرية عديدون على رأسهم « تايلر » ، و« سبنسر » ، و« راسل »(1).
مناقشة النظرية :
__________
(1) الفطرة : | 138(1/81)
إن هذه النظرية ـ كما هو واضح ـ تجعل جهل الإنسان بالسبب الطبيعي للظواهر الكونية أوالطبيعية ، علة لنشوء واعز الدين في نفسه ، فالجهل هو الذي يشده إلى العالم الغيبي ، طلباً للمعونة ، وخوفاً من الأخطار ، فهو يتصوّر أن في تلك الظواهر روحاً لا بد أنّ يتقرب إليها ، ويتملّق لها كسباً لرضاها ، ودفعاً لغضبها ، وعلى هذا لا بدّ أن يزول الدين بمجرد معرفة الأسباب الطبيعية لتلك الظواهر. لكنّ هذا التفسير لا يصمد أمام النقد ، كما أنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يقدّموا البرهان الواقعي لفكرتهم ؛ لاَننا نرى أن الناس يزدادون تديناً كلما ازدادوا علماً ، بل إن العلماء أكثر تديناً من الجهلاء ، وما ذلك إلاّ لكون العلم لا يؤدّي إلى الالحاد ، في أيّ عصرٍ من العصور ، فالعالم المنقّب عن الحقائق يجد في هذا الوجود عالماً لا حدود له ، يسوده نظام محكم دقيق ، بلا فوضى ولا اختلاف أو تخلف ، فلا يلبث بعد النظر والتأمّل أن يقع ساجداً لله ، الّذي أوجد هذا الكون العظيم وما يحمل من أسرار وحقائق ،
( نشر الدكتور « ديزت » الألماني بحثاً حلل فيه الآراء الفلسفية لاَكابر العلماء ، الذين أناروا العقول في القرون الأربعة الأخيرة ، وتوخّى أن يدقّق في معرفة عقائدهم ، فتبين له من دراسة ( 290 ] منهم ما يلي :
1 ) « 28 » منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما .
2 ) « 242 » منهم أعلنوا على رؤوس الأشهاد الإيمان بالله .
3 ) « 20 » فقط تبين أنهم غير مبالين بالوجهة الدينية ، أو ملاحدة(1).
وبعد هذا ، فهل تصح هذه النظرية الّتي توعز علة نشوء الدين إلى الجهل بالظواهر الطبيعية ؟! وتأكيداً على خطأ هذه النظرية ، ننقل هذه الطائفة المختارة من أقوال أكابر العلماء الغربيين ، والتي تؤكّد بأنّ الإيمان بالله لا يتعارض مع العلم مطلقاً :
__________
(1) روح الدين الإسلامي : 84(1/82)
1 ـ يقول العالم الكبير « باستور » . ـ والذي جعل أصحاب هذه النظرية اكتشافاته البيولوجية تقوم مقام الإيمان بالله تعالى ـ : ( الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ؛ لاَنّ كلّ ترق يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمتُ أكثر مما أعلم اليوم ، لكان إيماني أشد وأعمق مما هو عليه الآن ، ... إنّ العلم لا يمكن أن يكون مادياً ، ولكنه على خلاف ذلك يؤدي إلى زيادة العلم بالله ؛ لاَنّه يدلّ بواسطة تحليل الكون على مهارة وتبصّر وكمال عقل الحكمة الّتي خلقت النواميس المدبّرة للوجود ) .
2 ـ يقول العالم الكيمياوي « وتز » : ـ ( إذا أحسست في حين من الأحيان أنّ عقيدتي بالله قد تزعزعت ، وجهت وجهي إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها ) .
3 ـ يقول الفلكي الكبير « فاني » : ( من الخطأ القول بأن العلم يُفضي بصاحبه إلى نكران وجود الله ) .
4 ـ يقول الجيولوجي الكبير « امون هدبرت » : ( العلم لا يمكن أن يؤدّي إلى الكفر ، ولا إلى المادية ، ولا يفضي
إلى التشكيك ).
5 ـ قال العلاّمة والمؤرخ الطبيعي « فاير » : ( كل عهد له أهواء جنونية ، فإنّي أعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية ، وهو مرض العهد الحالي ، وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي ، من أن ينتزعوا مني العقيدة بالله )(1).
وقد سئل الدكتور « اندرو كوانواي إيفي » من قبل أحد رجال الأعمال هذا السؤال: سمعت أنّ معظم المشتغلين بالعلم ملحدون ، فهل هذا صحيح ؟!
فأجاب الدكتور قائلاً : ( إنني لا أعتقد أنّ هذا القول صحيح ، بل إنني على نقيض ذلك ، وجدت في قراءتي ومناقشتي أنّ معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين ، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم ، أو أساءوا فهمهم ) (2)
__________
(1) أقتبسنا هذا المقطع من كتاب روح الدين الإسلامي | عفيف طبارة : 84 عن مجلة الأزهرالمجلد 19
(2) الله يتجلى في عصر العلم | تأليف جون كلوفر : 152).(1/83)
ولو أردنا إحصاء التصريحات التي أدلى بها العلماء في إثبات وجود الله تعالى ، وضرورة وجود الدين ، لتطلّب ذلك مئات الصفحات(1) .
وبعد هذه الأقوال الّتي صدرت من أساطين العلم وعباقرته ، هل يسع أصحاب نظرية الجهل أن يتحفونا بتعليل لهذه الأقوال ، أو يأتونا بدليل أقوى من أدعائهم السابق ؟
ثانياً : نظرية الخوف
وهي لا تختلف كثيراً عن النظرية الأُولى ، غير أنّها تُركز على عنصر الخوف عند الإنسان من الظواهر الطبيعية ، أو الصراعات ما بين الإنسان والحيوان ، أو ما بين الإنسان وأخيه الإنسان ، ولاَنّه لا ملجأ له إلاّ الاستعانة بقوة غيبية يستمدُّ منها العون والمساعدة ، فيخضع لها لتساعده على كل ذلك . أو أنّه يرى أن سبب هذه الظاهرة قوة خفية تغضب عليه فتعاقبه بتلك الكوارث ، لذلك ونتيجة خوفه منها يتجه إليها بالعبادة والخضوع ، ومن هنا نشأ الدين .
ومن القائلين بهذه النظرية « اك برن وليم كف » في كتابه « مبادىَ علم الاجتماع » حيث يقول : « لقد كان الدين يشبه السحر إلى حدٍ كبير في المراحل المتقدمة من تاريخ الإنسان ، فإن الساحر والمتدين كانا يعملان معاً في إرضاء الطبيعة الساخطة ، وتوفير الأمن لأنفسهم »(2).
ومن هؤلاء أيضاً « برتراند راسل » الفيلسوف الانگليزي المعروف ، الذي يقول: « في عقيدتي ، أن الاقبال على الدين والتدين في تاريخ الإنسان ، ينشأ عن الخوف ، فإن الإنسان يرى نفسه ضعيفاً إلى حدٍ ما في هذه الحياة.. وعوامل الخوف في حياة الإنسان ثلاثة :
أولاً ـ فهو يخاف من الطبيعة الّتي قد تحرقه بصاعقة من السماء ، أو تبتلعه بزلزال في الأرض تحت قدميه .
ثانياً ـ يخاف من الإنسان الّذي قد يسبب له الدمار والخراب والهلاك ، بما يثير من حروب .
__________
(1) هذا المقطع من كتاب روح الدين الإسلامي | عفيف طبارة
(2) دور الدين في حياة الإنسان: 74(1/84)
ثالثاً - يخاف من شهواته الّتي قد ينجرف معها ، وتتحكم في سلوكه ، وتفوّت عليه ما يندم عليه من ساعات استقراره وهدوئه . ويكون الدين سبباً في تعديل هذا الخوف والرعب ، والتخفيف منه »(1).
مناقشة النظرية :
نعلق ـ أولاً ـ على كلام « اك برن وليم كف » الذي شبه الدين بالسحر ، وجعل المتدين كالساحر ، يعملان معاً لارضاء الطبيعة الساخطة فنقول : إنّ من الواضح جداً أنّ هناك فرقاً كبيراً بين ما يعتقده المتدين ويتوجه إليه ، وبين ما يعتقده الساحر ويعمل فيه ، وذلك لاَنّ « القوى السرية الّتي يدعوها الساحر والكاهن أو مُناجي الأرواح ، لا تقع صورتها في أخيلتهم على أنها شيء يعلوهم فيتطاولون إليه ، بل على أنّها قرن ينازلونه ، أو قرين يخاذلونه ، وقد يرون لاَنفسهم من العلو والسلطان على تلك القوى بوسائلهم الخاصة ، ما يستطيعون به أن يقتنصوها ، ويخضعوها لاَوامرهم ، ويسخروها لرغباتهم ، كما يسخر الكيمياوي عناصر الطبيعة المادية لمآربه . أما العابد ، فإنّه يقف من معبوده موقف الخاضع المتواضع ، الساعي في إرضاء سيده المشفق من غضبه وسخطه .فالفاصل الأخير الّذي يتم به تصوير القوة التي يؤمن بها المتدين ، أنها قوة علوية قاهرة ، غير مقهورة ، يخضع هو لها ولا تخضع له )(2).
ولكي نسلط الضوء أكثر على الموضوع ينبغي توضيح معنى السحر(3)
__________
(1) المصدر السابق .
(2) الدين : 45 / راجع Divine and the concretes The religious trend.
(3) هناك العديد من الفرضيات لظاهرة السحر وإستنادا الى هذا التيار فإن السحر قد يمكن تفسيره باحدى هذه العوامل:
قوى طبيعية فيزيائية لم يتم إكتشاف ماهيتها لحد الآن وحسب هذه الفرضية هناك قوة خامسة بالأضافة الى القوى الأربع المعروفة الا وهي الجاذبية , كهرومغناطيسية , التفاعل بين الكواركات و بقية أجزاء الذرة والتي تسمى بالتفاعلات القوية و اخيرا التفاعلات الضعيفة في نواة الذرة والتي يمكن تحليلها عن طريق فيزياء الجسيمات ويعتقد البعض ان نظرية-م ونظرية الأوتار الفائقة قد تلعب دورا في هذه القوة " High Energy Physics"
قوى روحية نابعة من إعتقاد البعض ان الكون يحوي مخلوقات تتصف بالذكاء وليست من جنس الإنسان .
القوة الغامضة الموجودة في كل مكان مثل مانا التي يعرفها البعض بمكون رئيسى لتلك القوى الغامضة و نومينا التي يمكن تعريفها بالقوة الغامضة الموجودة في كل شيئ "Roman Religion ".
الترابط الغامض بين القوى الكونية التي تربط وتنظم الأشياء بصورة منافية لقوانين القوى الطبيعية.
القوة الغير طبيعية الناتجة من التركيز او التأمل العميق التي تؤدي حسب البعض الى تحكم الدماغ بالأشياء مثل مايحدث عند ممارسة اليوغا أو التخاطر " Articles on Om , Om Meditation , and Yoga"
القوة الكامنة في لاوعي الإنسان والتي إن تم تطويعها و تدريبها فإن بإمكانها القيام بنشاطات تخرج عن تفسير الفيزياء.(1/85)
:
السحر : هو صناعة يقصد منها إحداث الخوارق بطرق خفية . وهو فَنٌ قديم جدا ، ورد ذكره في القرآن الكريم ، وهو يتشعب إلى شُعب كثيرة. لكنه على العموم فن يقوم على الاستعانة بالأرواح ، ودعائها لتحقيق مآرب الساحر ، وهذا هو الّذي ينصرف إليه اسم السحر عند إطلاقه ، وهو الّذي قد يشتبه جنسه بالأعمال الدينية ، بخلاف بعض الأعمال السحرية التي تعتمد الوسائل المادية ، فمن هذا القسم نوع يقوم على المهارة وخفّة اليد ، وهو المسمى بالشعبذة ( وهي إراءة غير الواقع واقعاً ، بسبب الحركة السريعة الخارجة عن العادة ). ونوع ينتفع بالخصائص الطبيعية والكيماوية للأشياء ، وهذا هو سحر علماء الصيدلة ونحوهم ، ونوع يعتمد على حساب سير الشمس والقمر ، ومواقع النجوم ، وما يظّن من الارتباط بينها وبين حوادث الكون ، وهو المسمى « التنجيم » .
( أما القسم الروحي ، فالفرق الرئيسي بينه وبين الديانات ، هو أنّ الاستعانة بالأرواح فيه استعانة استخدام وتسخير ، لا استعانة عبودية وتمجيد وتقديس ).
هذا وقد ذكر دور كهايم ومتابعوهُ فروقاً اُخرى فقالوا : إنّ وجه الانفصال بين الحقيقيتن هو : أنّ الأصل في الشعائر الدينية أن تُؤدّى في الجماعة ، وأن الفكرة الدينية تؤلف بين معتنقيها في وحدة معنوية ، ولا كذا السحر الذي هو عمل فردي سري ، فضلاً عن أنّه في الغالب ينتهك حرمة المقدسات الدينية ، ويعكس أوضاعها »(1).
__________
(1) هامش كتاب الدين : 47(1/86)
وبهذا يظهر بطلان هذا الرأي ، الذي شبّه الدين بالسحر ، وأن منشأ تكوّن الدين هو الخوف . ونناقش ـ ثانياً ـ كلام « راسل » في إثبات هذه النظرية ، فراسل يردّد النغمة السابقة في نظرية الجهل من حيث لا يشعر ، لاَن الخوف غالباً ما يكون بسبب الجهل وقد ناقشنا ذلك في النظرية الأولى . ثم إن راسل ذيّل كلامه بقوله : ( وتفوّت عليه ما يندم عليه في ساعات استقراره وهدوئه ) ، فهو يعترف أن في الإنسان بعدين ، هما الجانب الغريزي ، والجانب الإنساني العلوي ، والذي منه استمدّ فكره وشخصيه . ويمكن أن نسأل راسل ، أنّ هذا الندم من أي جانب من جانبي الإنسان يصدر ؟ هل من جانبه الروحي العلوي ، أم من جانبه الغريزي الحيواني ؟.
فإذا كان الثاني ، فلماذا لا نرى هذا الشعور لدى الحيوانات ، على الرغم من الاشتراك ما بين الحيوان والإنسان في هذا البُعد وهذا الجانب ؟ .
وإذا كان الأوّل ـ وهو الجانب الروحي ـ فلماذا لا يكون الواعز الديني ، والانشداد إلى عالم الغيب صادراً منه ، كأيّ نتاج إنساني آخر ، كالفن والفكر والصناعة وغيرها ؟
والعجب من راسل كيف لا يلتفت إلى أن طبيعة الإنسان الفطرية هي البحث عن الحقيقة ، ومحاولة معرفة العلل المحيطة به ، وسبر المجهول والغيب ؟ ألم يفكر الإنسان في ذلك الزمان في سبب وجوده ، ووجود الأشياء من حوله ، فيدرك بعقله النير ، وفطرته التي تهديه ، بأنّه لا بدّ وأن يكون له خالقٌ مدبرٌ حكيم ، فيتوجه إليه بالعبادة والخضوع ؟! أم إن راسل ومن يوافقه يريدون أن يسلبوا من الإنسان الأوّل حتّى التفكير الّذي يميزه عن الحيوان ؟!
وإذا كان كلامه صحيحاً ، فلماذا نرى كبار الفلاسفة والمفكرين ، منذ الزمن القديم ، منشدّين إلى الله بكل وجودهم ، على الرغم من اختلاف تصورهم عن الله ؟ إن نظرة واحدة إلى التاريخ الفلسفي في العصور القديمة تُجلّي الحقيقة بأبهى صورها .(1/87)
ونسأل مرة أُخرى : هل إن الالتجاء إلى الله تعالى ، والاطمئنان به ، تخلّصاً من الخوف الناشيء من الاختلاف أو الكوارث ، فيه ما يعيب ؟! وماذا يقول راسل عندما يقرأ آخر الأبحاث النفسية التي تؤكد أن الإيمان بالله تعالى علاج ناجح جداً ، للتخفيف من المعاناة والعقد النفسية ، الناتجة عن الكوارث وغيرها ؟
إنّ التوجه إلى الله تعالى في حالة الخوف ليس فيه ما يعيب ، لاَنّه من فطرة الإنسان ، التي فطرها فاطر السموات والأرض ، ثمّ إن الالتجاء إلى الله تعالى في حالات الخوف لا يكون دليلاً على أن وجود الواعز الديني عند الإنسان هو نفس الخوف ، وإنما يكون ذلك السلوك من الإنسان دليلاً على أنه لو لم يكن الإنسان قد آمن بهذا الخالق العظيم في طيات نفسه وضميره ، واعتقد ذلك بما لا يقبل الشك ، لما كان قد تعلق قلبه في وقت الشدة والخوف به ، حيث لا منجي إلاّ هو لاَن الإنسان قد يعتريه التكبّر والجحود ، لا لكونه ليس مؤمناً في واقع فطرته ، وإنما بسبب نزعة التمرد عنده ، وهذا ما يشير إليه القرآن صريحاً بقوله: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(1). وقوله : ( وَكَانَ الاِِْنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً )(2).
إذن فالإنسان الذي يلتجىَ في حالات الخوف إلى الله ( إنما يكون تصور الخوف سبباً للانتباه إلى وجود الإله الخالق عبر ذلك الإذعان الفطري ، وذلك البرهان العقلي ، لا سبباً موجداً له في الذهن ، وكم فرق بين كون الشي داعياً إلى أمر بسبب ملازمة عقلية أو عرفية بينهما ، وبين كون الشيء موجداً لذلك الأمر في رحاب الذهن ومبدعاً له ، والصحيح في المقام هو الأول دون الثاني)(3).
ثالثاً : النظرية الماركسية
__________
(1) سورة النمل : 14
(2) سورة الكهف : 54
(3) الله خالق الكون : 34(1/88)
تذهب الماركسية في تعليلها لظهور الدين ، إلى أن الدين من صنع الطبقات البرجوازية التي سيطرت على رؤوس الأموال ، وامتلكت الأراضي ووسائل الانتاج واتخذت من الدين وسيلة لتخدير العمال والفلاحين ، لئلا يقوموا بثورات تحررية ضدهم . فالدين وليد حاجة الطبقة البرجوازية وذلك للاِبقاء على الفوارق الطبقية في المجتمع عن طريق خداع الكادحين بجرعات الأمل الكاذب ، واليأس من السعادة في هذه الدنيا ، من خلال شدّهم إلى عالم الوهم والخيال ، وهو عالم الآخرة .
يقول ماركس : ( إن التعاسة الدينية ، في الوقت الذي تكشف فيه عن التعاسة الحقيقية ، بمثابة اعتراض على هذه التعاسة ، الدين عبارة عن أنين كائن بائس ، وقلب عالم قاسٍ ، وروح وجود لا روح فيه ، الدين أفيون الشعوب . إن اختفاء الدين الذي هو بمثابة سعادة الناس الوهمية ، يعتبر من مقتضيات سعادتهم ، إننا نريد أن نهبَ الناس سعادة حقيقية ، فلا بدَّ من أخذ هذه السعادة الوهمية منهم ، .... وعليه فإن انتقاد الدين يعني ـ حتماً ـ انتقاد بحار الدموع الّتي يؤلف الدين هالة حولها . انتقاد الدين ، يخرج الإنسان من الخطأ ، لكي يستطيع أن يفكر كإنسان أدرك خطأه ، وأصبح متمسكاً في عقله ، فيعمل وفق ذلك ، ويخلق واقعه ، لكي يدور حول الشمس الحقيقية ، أي حول نفسه )(1)
مناقشة النظرية :
إن خواء وهزل هذه النظرية واضحٌ كلَّ الوضوح ، حيث اعتبر ماركس أن الدين عبارة عن مخدر للشعوب المستضعفة ، وهو من صنع طبقة تتحكم برؤوس الأموال ، وتسيطر على مقدرات الشعوب ، وهي الطبقة البرجوازية ، فمن خلال الدين ـ المخدر ـ يستطيع أبناء هذه الطبقة المحافظة على عروشهم ، ومصّ النقمة الجماهيرية الرافضة للاستعباد .
__________
(1) / Marx Myths & Legend)) / Divine and the concretes The religious trend.(1/89)
ولا أدري كيف غفل ـ أو تغافل ـ ماركس عن حقائق مهمة قبل طرح هذه النظرية ، وكيف ساوى بين جميع الأديان بهذه التهمة القاسية ؟! وللجواب على هذا الرأي نقول :
1 ـ إن الدين كما هو ثابت في علوم الآثار والانثروبولوجيا متأصّلٌ في الوجود الإنساني ، وقد أظهرت الآثار الصحيحة للحضارات البالية ، وتلك النقوش التي وجدت على جدران الكهوف ، بما لا يقبل الشكّ ، وجود الدين والتدين منذ أقدم العصور ، وحتّى الشيوعية الأولية أو الأُولى ـ على حد تعبير الماركسيين ـ قبل أن يكون هناك أصحاب رؤوس أموال أو برجوازيين ، وقبل أن تكون هناك طبقة البروليتاريا الثائرة في وجوههم.
فهل لماركس والماركسيين ، أن يوضّحوا لنا سبب وجود ظاهرة التدين في ذلك العصر ؟! ولكنهم لا يستطيعون الإجابة على مثل هذا السؤال ، فليس أمامهم خيار إلاّ التخلّي عن هذا الرأي ، الذي خدعوا به الناس عشرات السنين ، حتّى بان وهنه . أو أن يتغافلوا عن هذه الحقيقة ويخادعون أنفسهم ، وهكذا فعلوا !!
2 ـ ونحن نسأل ثانياً ، هل إنَّ كل الأديان كانت تخدّر أتباعها عن القيام بالثورات التحررية ، وتمنعهم عن التصدي لظلمة ، والمستغلين ، وتُمنّيهِمْ وتبشّرهم بجنات النعيم ؟... عوضاً عن العذاب الذي يلاقونه في هذه الدنيا ، وتلقّنهم أن من الواجب عليهم الصبر والتحمل ، والرضوخ لقضاء الله وقدره ، لاَنّه خلقهم للسعادة والنعيم في الحياة الآخروية .(1/90)
إن مشكلة هؤلاء وأمثالهم هي التغاضي والاعراض عن الحقائق الموضوعية ، وإلاّ ألا يتسنّى لماركس وأتباعه ، الاطلاع على تعاليم الإسلام الّتي أشرقت الأرض بنورها ، والّتي صنعت حضارة تعتزّ الإنسانية بها ؟! علماً أنَّ أساس تلك الحضارة والرقي في كافة الأصعدة ليس إلاّ الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالإسلام لا يقبل بالخنوع والخضوع والتذلل للظلمة وأعوانهم ، بل يضرب بيدٍ من حديد كلّ الأصنام الّتي تريد من الناس أن يكونوا عبيداً لها ، فهذا رسول الإسلام (ص) يقوم بنفسه بمقاتلة الكفرة والظالمين ، حتّى ربتْ غزواته على السبعين ، وتُوّج ذلك بالنصر المؤزّر على كل اُولئك الطغاة ، مع العلم بأن الذين حاربوه لم يحاربوه من أجل الدين بما هو دين وإنّما بسبب كون الدين الإسلامي يساوي بين السيد والعبد ، والفقير والغني ، فما زال شعاره « كلكم لآدم وآدم من تراب » و« المسلمون سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى » ، ونفس المبدأ سار عليه أصحابه من بعده ، حتّى فتحوا الحصون والدول ، فانتشر الإسلام في بقاع الأرض بتعاليمه النيرة ، حتّى بلغ الشرق والغرب .(1/91)
فالإسلام يحرّم القعود والخنوع والتميّع ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الاََْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فُيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً )(1). وقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالاِِْنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ... )(2). وقال تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )(3) .
__________
(1) سورة النساء : 4|97
(2) سورة التوبة : 9|111
(3) سورة الحج : 22|39(1/92)
إنّ الإسلام على خلاف أغلب الأديان ـ إذا لم نقل كلها ـ يجعل التقاعس عن مقارعة الظالمين إثماً ووزراً يعاقب عليه أتباعه ، قال تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار )(1). فالإسلام ليس أفيون الشعوب ، بل نراه يحثّ على الثورة والمجاهدة ، ففي نظر الإسلام أنّ الإنسان إذا تسلط على الغير بالقوة ، وفرض سيطرته على الآخرين بالقهر ، فذلك هو « الطاغوت » الذي لا بدّ من إشعال الثورة ضده ، حتّى يتم تحطيمه وأسقاطه ، فالطاغوت هو من يطغى بنفسه مستكبراً على سنّة ربِّه ، ويريد هو وحفنة من أمثاله أن يفرضوا على الناس طاعتهم ، ويسلّموا مصيرهم إليهم . فعندما يكون في المجتمع شخص أو فئة من هذا القبيل فالإسلام يأمر أتباعهُ حينئذٍ بمحاربته ومقاومته بكلّ ما أُوتوا من قوة ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(2). وقال تعالى : ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى )(3).
إذاً الإيمان بالله وحده غير كافٍ أبداً في نظر الإسلام ، بل لا بد أن يقترن بالكفر بالطاغوت ، بل الكفر بالطاغوت يكون مقدمة للاِيمان بالله تعالى ، لاَنّ من الواجب أوّلاً إزالة الأسباب الّتي تؤدي إلى الكفر ، ثمّ بناء أساس الإيمان والتقوى .
فهل يصحّ بعد هذا كلّه لماركس أن يقول : ( إن الدين الإسلامي أفيون الشعوب ) نعم المسيحية الكنسية واليهودية المحرفة قد يكونا أفيون الشعوب ، فإنّ تلكما الديانتين الّتي عاش ماركس في وسطهما ، وارتضع من ثدييهما ، تدعوان أتباعهما إلى الخضوع والذلة ، إلى درجة لا تجعل للكرامة الإنسانية أي مكان فيهما ، فقد جاء في إنجيل متى ( أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر ) .
__________
(1) سورة هود : 11 | 113
(2) سورة النحل : 16|36
(3) سورة البقرة : 2|256(1/93)
وتجد في بعض النصوص أنهم يذهبون إلى الحرمة القطعية للثورة والنضال ، فقد جاء في أناجيلهم المحرّفة ادعاؤهم أن عيسى عليه السلام قال للقديس بطرس : ( أعد سيفك إلى مكانه ، لاَنّ كل الذين يأخذون السيف بالسيوف يهلكون) بينما نرى الإسلام على عكس ذلك ، حيث يقول : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(1) . وهذا تأريخ الإسلام والمسلمين زاخر بالحروب والثورات الجهادية ، حتّى أتُهِم الإسلام بأنّه ما قام إلاّ بالسيف ، وأنّه دموي النزعة ، والعجيب أن هؤلاء يناقضون أنفسهم ، فبينما يتهمون الدين بأنّه أفيون الشعوب ، يصرّحون بأن الإسلام قوة ثورية في وجه الطغاة ، فقد زار خروشوف ، أحد القادة الشيوعيين في دولة الاتحاد السوفيتي ، الجزائر يوماً ، وقابل ( بن بلاّ ) فشرح له بن بلاّ مكانة الإسلام في هذه المنطقة من العالم ، وكيف استطاع أن يحرّر المسلمين بفضل تعاليمه من الاستعمار الفرنسي ، فقال خروشوف : ( نعم إنّ الإسلام في هذه المنطقة يمثّل قوةً ثورية )(2) .
وهكذا نرى وهن هذه النظرية ، التي لم تقم على أساسٍ موضوعي ، لذلك فهي لا تصلح أبداً لتفسير نشوء ظاهرة الدين والتدين في حياة الإنسانية .ومن خلال استعراضنا لهذه النظريات ـ الغربية والشرقية ـ التي تفسّر علة تكون ظاهرة الدين في حياة الإنسان ونقدها وإثبات خطئها ، يمكن لنا أن نتساءل : إذن ما هي العلة الحقيقية الّتي دفعت الإنسان ، ومنذ أول وجوده على هذه الأرض ، وإلى أن تنتهي الحياة ، إلى أن يعتنق الدين ، ويؤمن بتلك القوة الملكوتية المهيمنة على هذا الوجود ،ويخضع لها بكل جوارحه ؟ .
المطلب الرابع
التوجه الديني في نظر الاسلام
__________
(1) سورة البقرة : 2|194
(2) كتاب الفطرة : 163(1/94)
أما لو رجعنا إلى الدين الإسلامي لرأينا أنه يؤكد على أن التوجّه الديني لا بد أن ينساق مع فكر الإنسان وعلمه لا عن جهله وتقليده ، ومن هنا وردت عشرات النصوص التي تدعو الإنسان إلى التفكّر في ملكوت السموات والأرض ، وهو ما يعبر عنه في علم العقيدة ببرهان النظم الذي يقوم على أساس أن الاهتداء إلى وجود الله سبحانه إنما يكون عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون ، حيث نرى أن القرآن الكريم يلفت نظر الانسان إلى السير في الآفاق والأنفس ويقول: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَْفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )(1). ويقول : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالاََْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الاََْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالاََْرْضِ لاََيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(2) .
ويقول الإمام علي بن أبي طالب : « ألا ينظرون الى صغير ما خلق ؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه ، وخلق له السمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر ، انظروا الى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تُنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة الى جحرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع في حرها لبردها ، وفي وردها لصَدْرها ... فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر »(3).
__________
(1) سورة فصلت : 53
(2) سورة البقرة : 2|164
(3) نهج البلاغة الخطبة 185(1/95)
أول العبر والادلة على الباري جل وعلا ، تهيئة هذا العالم ، وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه ، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك ، وميزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكل شيء فيه لشأنه معد ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت ، والمخوَّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيئة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على ان العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة ، وان الخالق له واحد ، وهو الذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جل قدسه وتعالى مجده » .
النظرية الإسلامية " الدين فطرة إنسانية"
ها نحن نصل إلى أصل المطلب وجوهره ، وهو إثبات النظرية الالهية في نشوء الدين التي تتمثل بكون الدين أمراً فطرياً كامناً في نفس الإنسان لا يختلف ولا يتخلّف ، كما يظهر جلياً من قول الله تبارك وتعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )(1). فمفاد هذه الآية المباركة ، هو المحور الذي سوف يدور عليه موضوع بحثنا ، وإثبات النظرية الإسلامية ، بما يتلاءم مع آراء علماء النفس والانثروبولوجيا ، ويتلاءم مع واقع الطبيعة البشرية كذلك . ولكن لا بد لنا أوّلاً أن نعرف معنى الفطرة ، ونثبت أصل وجودها ، لكي نستطيع أن نجعلها دليلاً وبرهاناً لنا.
المطلب الأول
المعنى اللغوي للفطرة
__________
(1) سورة الروم : 30|30(1/96)
مادة ( فَطَرَ ) وردت كثيراً في القرآن ، وهي تعني في هذه المواضع الخلق والابداع أي الايجاد بغير سابقة . إلاّ أنّ هذه المادة بهذه الصيغة ـ أي بوزن فِعلَة ـ لم ترد إلاّ في آية واحدة هي قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )(1).
وفي اللغة العربية تدلّ صيغة « فِعلَة » على المصدر الدال على هيئة الفعل ونوعه ، وعليه فإن كلمة « فطرة » الّتي ترد بشأن الإنسان وعلاقته بالدين ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) تعني تلك الهيئة الّتي خلق بها الإنسان(2) . أي إن الله قد خلق الإنسان بهيئة خاصة ، بما فيها تلك الخصائص التي أودعها فيه متميزاً عن خلقه ، وهي فطرته(3). وقيل أن : « فطرة الله : الملة ، وهي الدين والإسلام والتوحيد(4) ، التي خُلق الناس عليها ولها وبها ، ومنه قول النبي (ص): « كل مولد يولد على الفطرة ، حتّى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجّسانه » . وجاء في التفسير : « قال الراغب : أصل الفطر الشق طولاً . يقال : فطر فلان كذا ، وأفطر هو فطوراً وانفطر انفطاراً . إلى أن قال : وفطر الله الخلق ، وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال. فقوله : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) إشارةٌ منه تعالى إلى ما فطر ،أي أبدع وركز فيه من قوته على معرفة الإيمان (5)، وهو المشار إليه بقوله : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله )(6).
__________
(1) سورة الروم : 30|30
(2) تفسير الجلالين ص 407
(3) الفطرة | 10 ـ 11
(4) كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن – الشيخ : حسنين محمد مخلوف ( مفتي الديار المصرية السابق وعضو جماعة كبار العلماء ) ص 512
(5) كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن ص 512 - تفسير الجلالين ص 407
(6) سورة الزخرف : |78(1/97)
ومن هذا العرض يتبين لنا : أن الفطرة هي تلك القوة التي أودعها الله في الإنسان وأبدعه عليها ، وهي التي تدفعه نحو الله تعالى(1) ، والقيم والأخلاق والسيرة الفاضلة .
المطلب الثاني
الفرق بين الفطرة والطبيعة والغريزة
ولكي لا يختلط الامر بين الاصطلاحات الثلاثة نوضح كل منها وبشكل مختصر:
1 ـ الطبيعة : « وهي كلمة تطلق على الخصائص الذاتية للاَشياء ، وتستعمل عادةً بشأن الجماد ، وقد تستعمل بشأن الأحياء كذلك ـ فعندما نريد أن نشير إلى طبيعة الأوكسجين مثلاً نقول : إنه قابل للاشتعال. أما الإنسان والحيوان فإن لهما طبيعة تمثل خصائصهما الذاتية ، كما للجماد كذلك »(2).
__________
(1) كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن ص 512-513 - تفسير الجلالين
(2) علم النفس التحليلي | د . بيكدلي : 29 ، علم النفس العام | د . عيسوي : 45.(1/98)
2 ـ الغريزة : « هذه الكلمة تستعمل في الأكثر بشأن الحيوانات ، وفي الأقل بشأن الإنسان ، ولا تستعمل بشأن الجماد والنبات »(1). والغريزة عبارة عن محركات أولية للسلوك ، ومن الغرائز : غريزة التماس الطعام ، والغريزة الجنسية ، وغريزة الهروب من الأمر المخيف ، والغريزة الوالدية ، والتجمعية إلى آخره . ومن الملاحظ أن بعض هذه الغرائز يستهدف إشباع حاجات داخلية للجسم ، كغريزة التماس الطعام ، وبعضها يوجد من أجل التعامل مع البيئة الخارجية ، مثل غريزة السيطرة ، وللغريزة أياً كان نوعها مظهران : مظهر جسمي ، ومظهر نفسي . وإن كان هذان المظهران متكاملين وليسا منفصلين ، فالمظهر النفسي يتمثل بالأنفعال ، والمظهر الجسمي في النزوع أو السلوك(2) . ومن هذا البيان يظهر أن الغريزة يشترك فيها الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء ، إلاّ أن الإنسان مضافاً إلى وجود الغريزة فيه ، فقد منحه الله تعالى الفطرة والعقل ، الذي فيهما يستطيع أن يتكامل ، ويحكم الأرض ويسيطر عليها ، ويسخر ثرواتها من أجل خدمته وراحته وسعادته ، بينما يبقى الحيوان تسيّره الغريزة بلا وعي أو إدراك.
__________
(1) كتاب الفطرة : 21
(2) علم النفس العام | د . عيسوي : 48(1/99)
3 ـ الفطرة : وهي تلك الحالة الواعية في شخصية الإنسان التي من خلالها يهتدي إلى الاشياء ، ويحبّ الخير والعدل والاحسان ، والإيمان بالله تعالى ، فهي مجموعة من الأمور كانت ولا تزال تعرف باسم الإنسانية ، أي إنّها أصيلة في الإنسان وليست مكتسبة ، وهي أقرب إلى الوعي ، فالإنسان يستطيع أن يعرف الشيء الذي يعرفه من خلال الفطرة التي تتعلق بأُمور نطلق عليها : الأُمور الإنسانية ، باعتبارها أُموراً تتجاوز شؤون الحيوان(1) . والنتيجة المستخلصة هي : « أنّ الفطرة في الإنسان هي خلقته بكيفية معينة ، تنطوي على مجموعة من الميول والمعارف ، وهذه الميول والمعارف رُكّبت وركّزت في أعماق الإنسان ، بمقتضى خلقته ، فتكون الفطرة هي مقتضى الخلقة ، والأُمور الفطرية هي ما تقتضيه خلقة الإنسان ، بما هو إنسان ، لو خُلِّي وطبعه »(2).
نعم أنّ المقصود من « فطرة الله » التي فطر الناس عليها هو الحال ، أو الكيفية الّتي خلق الناس وهم متصفون بها ، والتي تعدّ من لوازم وجودهم ، ولذلك تخمّرت طينتهم بها في أصل الخلق . والفطرة الإلهية من الألطاف التي خصّ الله تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات ، إذ إن الموجودات الأُخرى ـ غير الإنسان ـ إما أنّها لا تملك مثل هذه الفطرة المذكورة ، وإمّا أن لها حظاً ضئيلاً منها .
المطلب الثالث
الدين والتدين من الأُمور الفطرية
إلى هنا وصل بنا المقام لبيان وإثبات أنّ مصدر الدين والتدين عند الإنسان هو فطرته ، التي تدفعه نحو الإيمان بالله . ففي فطرة كلّ إنسان نزوع نحو التوجّه إلى الله بالعبادة والدعاء والصلاة . وذلك بسبب كون الإنسان ذا طموح لا حدّ له في نيل الكمال والسعادة ، الذي هو من أقوى الدوافع الفطرية عنده ، لذلك نجد أنّ كل أعمال الإنسان تنصبّ في هذا الاتجاه .
__________
(1) الفطرة | : 23 ـ 24
(2) الفطرة : 128(1/100)
إذن فكل إنسان يبحث عن كماله وسعادته ، ويسلك الطرق التي تؤدي إلى ذلك الكمال ، ولكن ربما يخطأ في تشخيص الطريق الموصل إلى ذلك الكمال ، أو يظنّ أن شيئاً آخر هو الهدف ، وهو الغاية التي يبحث عنها . أننا نرى أن أُناساً هدفهم في الحياة هو جمع المال فيعيشون لذلك الهدف ، وآخرين هدفهم هو الوصول إلى المقامات الاجتماعية والسياسية بل والعلمية إلى غير ذلك . والمدهش حقاً أن هؤلاء رغم كونهم قد يصلون إلى ما يطمحون إليه إلاّ أنّهم يبقون يتلهفون إلى عالم أسمى ، لاَن الإنسان وإن حقق حلمه وهدفه في هذه الدنيا وفي محيطها ، إلاّ أنّه يدرك بعد ذلك أنّه كان على خطأ ، وأن السعادة والغاية ليست هذه الدنيا التي حصل عليها ، لذلك نجد أنّ الذين يسعون جاهدين لتحقيق مثل هكذا أهداف ، بمجرد أن ينالوها فإنهم يملّون منها بسرعة ويبدأون بحثاً جديداً ، ومشواراً آخر ، وسبب ذلك أنهم لم يجدوا الكمال الذي تطلبه نفوسهم في تلك الأشياء التي حققوها . هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى ، فإن الإنسان بما أتاه الله تعالى من قدرات وفكر ، يرى أنّ عمره قصير ومتعته محدودة ، وأهدافه الكثيرة لا يمكن أن يحققها في هذه النشأة ، فلا بد ـ بمقتضى فطرته ـ أن يبحث عن حياة أُخرى ، وعالم آخر مختلف عن هذا العالم ، يكون فيه سعيداً ، أو على الأقلّ لا ينتاب حياته الألم ، ولا تعكّر صفو وجوده الصدمات وفقد الأعزة والأحبة ، فيه يأخذ المظلوم حقه من الظالم ، وتتحقق العدالة الّتي لا يمكن أن تتحقق في هذا العالم الذي تحكمه النفوس الشريرة ، كل ذلك دفعه بقوة إلى ذلك العالم الغيبي ، فيدرك أن تلك القدرة التي أوجدته من العدم ، هي وحدها التي تستطيع أن تحقّق له ذلك الكمال المنشود . ثمّ إنّه لعلّ البراهين العقلية التي يقضي بها العقل من الأمور الفطرية ، لذا صح أن نقول أن كل ما قضى به العقل قضت به الفطرة أيضاً ، وبما أن العقل يقطع بوجود الخالق ، من خلال البراهين العديدة ،(1/101)
فالفطرة تدين لذلك الخالق ، وتتوجه اليه بالعبادة ، بمقتضى هذا العنصر في وجوده . وهكذا نستطيع أن نقول أيضاً : إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذه الدنيا ، بلا عقيدة تشدّه إلى ذلك العالم ، وحتى وإن أنكر ذلك ظاهراً في بعض الاحيان إلاّ أنّه قطعاً يعترف بوجودها في أعماق نفسه ، ولا يمكن أن يتجرّد عنها في يوم من الأيام ، لذا نرى أنّ القرآن الكريم يورد صفة هؤلاء المنكرين وحالهم من خلال قوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاََْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ )(1). فهؤلاء لو تُرِكوا وفطرتهم لقالوا : إنَّ الخالق لا يمكن أن يكون مادة عمياء ، والخلق لا يمكن أن يكون صدفةً أبداً ، ولكنهم طمسوا هذه الفطرة ، من خلال الظلم والعلوّ ، كما يصور ذلك القرآن بأجمل تعبير بقوله : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(2) وكدليل على أنّ الدين أمر فطري ، أنّ البشرية ما انفكت يوماً عن اعتناق الدين ، أو عاشت بدونه على مرّ الدهور ، ومنذ أن كان الإنسان يعيش في الكهوف ، إلى أن بلغ درجة التحضّر والتمدّن والرُّقي ، وإلى أن تقوم الساعة . نعم ، هناك مظاهر متعددة من التدين ، أي إن هناك أديان متعددة ، وذلك ناتج من اختلاف الناس ، وعدم دقّة تشخيصهم للخالق الحقيقي ، وهذا لا يضرّ بأصل فكرة الدين والتدين ، وإنما يضرّ في توجيه هذه الفكرة التوجيه الصحيح ، فمن الناس من يعبد الله تعالى ويعتقد بأنّه الخالق وحده ، ولا شريك له في الوجود ، وفي فُسّرت الفطرة على أنّها تعني « الإسلام » . و فُسّرت « بالمعرفة » . وفي الحديث المعروف : « كل مولود يولد على الفطرة » جاءت في قبال « التهوّد » و« التنصّر » و« التمجّس »
__________
(1) سورة العنكبوت : 61
(2) سورة النمل : | 14(1/102)
وعليه ، فالفطرة ليست مقصورة على التوحيد ، بل إن جميع المبادىَ الحقّة هي من الأُمور الّتي فطر الله تعالى الإنسان عليها ». وربما يتصوّر أنّ التوجّه إلى تلك القوة الغيبية ، من قبيل التوجه إلى الوهم والخيال ، ولكننا نقول : إنّه لا يمكن أن يكون توجّه الخلائق كلّها نحو تلك القوة الغيبية وليد الوهم والخيال ، وأنّ جميع البشر قد أخطأوا في هذا الأمر الواضح؛ لاَنّ الوهم والاشتباه لا يمكن أن يتصوّر في كلّ الإنسانية . ولماذا يكون الدين فقط من الوهم والخيال والاشتباه ، لماذا لا يكون الحبّ أيضاً وهماً وخيالأ ؟! . ولماذا لا تكون القيم والمبادىَ والعدالة أيضاً وهماً وخيالأ.(1/103)
لقد برهنا سابقاً على بطلان تلك النظريات الوضعية واخفاقها في تفسير ظاهرة التدين. وما أجمل تلك القصة الّتي أوردها الله تعالى في القرآن ، لاِثبات أنّ الدين أمر فطري ، وهي قصة تصور رحلة الإيمان التي خاضها إبراهيم الخليل عليه السلام ، ليُعرِّف قومه أنّ التوجّه إلى الله أمر فطري . إن قصة إبراهيم في القرآن تشير إلى هذه الطريقة في الاستدلال ، وإنّ من جوانب إعجاز القرآن أنّه اختار قصة إبراهيم هذه ، فإبراهيم عليه السلام كان من أقدم الأنبياء ، قبل المسيحية واليهودية ، والقصة قصة إبراهيم نفسه . شاب يرى نجماً منيراً فيقول : « هذا ربي » ، وقد يقولها بلهجة استفهام ،أو تقرير ، ثمّ يرى أنّه أفل ، فيدرك أن ما يجده في نفسه من الربوبية والمقهورية ، وأنّه مسخّر ، هو موجود ـ نفسه ـ في ذلك النجم الذي ظنّه الله ! ثمّ يرى القمر أكبر حجماً ، وأسطع نوراً ، فيقول : « هذا ربي » وإذا به يرى بعد ذلك في القمر ما رآه في النجم ، وفي نفسه يرفضه كربّ. ثمّ يرى الشمس فيقول : « هذا ربي هذا أكبر » . ولكن هذا أيضاً أفل . فغسل يده من كلّ هذه الأُمور ، واستنتج استنتاجاً بسيطاً ، وهو أن كلّ هذا الذي أراه متحرك ، ومسخّر ، وفي حالة دوران ، أي إنّ هناك من يحركه ويُسخّره ، فرأى العالم كلاً مربوباً واحداً .
يبين القرآن أنّ تفكير الإنسان الأوّل ، قادرٌ على الوصول إلى أنّ كل ما يراهُ حُكِمَ بحكم المربوبية ، وأنّ الربّ هو الذي لا يتّصف بما تتّصف به أشياء العالم ، عندئذ يقول : ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ). وهكذا نرى إبراهيم عليه السلام يسبح في فكرٍ صافٍ ، مدفوعاً من قبل نفسه وفطرته ، باحثاً عن مصدر وجوده في هذا الكون الرحيب . لأن روح البحث ، والتطلع إلى ذلك الخالق الأزلي ، قد جُبلَ عليها الإنسان وعجنت بفطرته.(1/104)
ولكن لا بدّ من التنويه بأن إبراهيم عليه السلام إنما كان يحاجج قومه من خلال هذا الاستدلال وينزل نفسه منزلة المستفهم حتى ينبّه عقول قومه إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّه لا يوجد ربّ مدبّر لهذا العالم إلاّ الله تعالى الخالق لكلّ ما في الكون ، ويريد بهذه الطريقة إبطال ما كانوا يعتقدون من تأثير الكواكب في حياة الإنسان من خلال التدبير ، فلا تكون حينئذ مستحقة للعبادة ، ولذا نرى أن الله تعالى بعد أن ذكر بأن إبراهيم وصل الى رؤية ملكوت السموات والأرض من خلال قوله ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )(1). وبعد أن حذّر قومه من خلال مخاطبة آزر الذي كان على عقيدة قومه من عبادة الأصنام والكواكب كما في قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) (2)وبعد هذا التحذير والبيان أراد إبراهيم عليه السلام أن يثبت لهؤلاء أن عبادة غير الله ليست صحيحة ، لاَن كلّ ما عداه آفل زائل لا يملك لنفسه الثبوت والوجود ، فكيف يثبت لغيره ذلك ، فضلاً عن التدبير ومقام الربوبية ؟!
__________
(1) سورة الأنعام : 6|75
(2) سوره الأنعام : 6|74(1/105)
وهكذا اتخذ إبراهيم عليه السلام هذا الاسلوب البليغ لايصال الناس إلى التوحيد ، وهي تشبه طريقته في كسر الأصنام وإبقاء صنم واحد ، وإرجاع قومه اليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *قَالُوا مَن فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمَ *قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ *
فرجعوا إلى أنفسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمَتَ مَا هؤُلاَءِ يَنطِقُونَ *
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَالا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )(1) ، وكذلك محاججته لنمرود المعبّر عنها في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِيْ وَيُمِيتُ .قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ .قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ .فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(2). ...
المطلب الرابع
علّة توجّه البشر إلى الله
__________
(1) سورة الأنبياء : 21|56 ـ 67
(2) سورة البقرة : 2|258(1/106)
هل إنّ ما ذكرناه كافٍ في إثبات علّة توجّه البشر نحو الله ؟ أم لا يزال السؤال قائماً عن هذا التوجّه ، لاَيّ سبب كان ، ولماذا يتّخذ الإنسان ديناً وعبادةً وطقوساً ؟
وفي معرض الجواب على مثل هذا السؤال ، الذي يتطلب الكثير من الكلام ، وصياغة براهين عقلية ونفسية معمّقة ومتعددة ، إلاّ أننا سوف نقتصر على اليسير منه طلباً للاختصار . وعليه نقول إن ذلك ناتج بسبب قانونين أساسيين في الفكر البشري ،" أحدهما قانون السببية ، والآخر قانون الغائية(1)" .
أولاً ـ قانون السببية :
ويتلخّص هذا القانون في أنّه لا يوجد شيء من الممكنات من دون علّة أوجدته ، بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، وذلك ناشيء من كون الممكن ( أي الشيء الموجود ) لا يحمل السبب الكافي لوجوده ، وكذا لا يستقلّ بإحداث شيء ، فكما أن الممكن لا يستطيع إيجاد نفسه ، فبطريق أولى لا يستطيع أن يوجد غيره ، بحسب القاعدة التي تقول: « فاقد الشيء لا يعطيه » . لذلك لا بد أن يقضي العقل الإنساني بوجود سبب وعلّة لوجوده .
__________
(1) راجع Divine and the concretes The religious trend.:(1/107)
وهذه العلّة لا بد أن تكون حكيمة ، ـ خلافاً لنظرية الصدفة ـ لما نرى من الاتساق والتنظيم الذي يكتنف الوجود برمّته ، من الذرّة إلى المجرّة ، فهذا الوجود المتناسق لا يمكن إيعاز علّته إلى أساس فوضوي عشوائي . وكذا يقطع العقل البشرى ، أنّ هذه العلّة ذات حياة ، وعلم ، وقدرة ، وإرادة . ولو تخلّف ذلك ـ بمقتضى قاعدة العلية ـ لا نقطع الوجود وأصبح عدماً.إذن فمدبّر هذا الوجود ، والمسيطر عليه والمؤثّر فيه ، هو الله تعالى ،لذلك لا بدّ للاِنسان أن يدين بالاعتراف به ، والخضوع إلى أوامره ،التي جاءتنا عن طريق أنبيائه ، وهذا هو الدين . وكما قيل : « البعرة تدلُ على البعير ، والروثة تدلّ على الحمير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، لا يدلاّن على اللطيف الخبير ؟! »
ثانياً ـ قانون الغائية :
وموجبه أنّ كلّ نظام مركّب متناسق مستقرّ ، لا يمكن أن يحدث من غير قصد ، وأن كلّ قصد لا بدّ أن يهدف إلى غاية ، وأنّ هذه الغاية إذا لم تحقّق إلاّ مطلباً جزئياً إضافياً منقطعاً ، تشوّقت النفس من ورائها إلى غاية أُخرى ، حتّى تنتهي إلى غاية كلية ثابتة ، هي غاية الغايات ، وذلك لاَنّ الإنسان ما انفكّ يوماً عن السؤال عن ثلاثة أشياء ، أرّقت مضجعه ، وحيّرت عقله ،وجعلته في فكر دائم وهي :
إنّه من أين أتى ؟ وإلى أين هو قاصد ؟ ولماذا خُلِق ؟
أترى أن هذا الإنسان يعيش في هذه الحياة بلا غاية ولا هدف يسير نحوه وإليه ؟ أتراه قائماً على وجهه يتخبّط في سير حياته ، لا يدري إلى أين يسير ، ولماذا وجد ، ولماذا يموت ؟!(1/108)
إنّ من السخف أن يفكر الإنسان بأنّ وجوده عبث؛ لاَنّه بذلك يسلب إنسانيته وفكره وحضارته ، وكلّ نتاج بشري في جميع الأصعدة ، فلا تستقيم حكمة الوجود إلاّ بضرورة وجود غاية لهذا الوجود ، وهنا يبحث هذا الإنسان عن الغاية . ولكن ربما أخطأ الإنسان في معرفة تلك الغاية ، فتصوّر أن الخالق هو ذلك الصنم الذي يرمز إلى قوة خفية ، أو أن الخالق هو الشمس أو القمر أو النجوم أو غيرها ، ولكن الذي ينبغي قوله : إن الإنسان لا يصل إلى هذه المراحل الخسيسة إلاّ بعد أن يعجز ـ بحكم أشياء عديدة ـ عن الوصول إلى الحقيقة ، لذلك نراه يتعلق بهذه الأشياء ليسدّ هذا الفراغ والحاجة النفسية والفكرية لديه.
أما الإنسان الحرّ والمتفتّح على الوجود بكل كيانه ، والذي تدبّر بعقله هذا الصنع العظيم ـ كما في قصة إبراهيم عليه السلام ـ فإنّه يقطع أن الغاية لا بدّ أن تكون متناسقة مع هذا الوجود العجيب ، وهذه الحكمة الكبيرة ، قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... )(1). وقال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ )(2).
__________
(1) سورة فصلت : 41|53
(2) سورة المؤمنون : 23|115 ـ 116(1/109)
فلا يمكن أن يكون هذا الخالق صنماً يصنعه الإنسان بيديه ، أو يكون شيئاً من الأفلاك والنجوم ، أو الأشخاص ، أو المظاهر الطبيعية وغيرها؛ لاَنّ كل أُولئك محدود وموجود ومخلوق وناقص ، ولاَن من الأُمور الفطرية التي فطِر الناس عليها هو النفور من النقص ، والاتجاه نحو الكمال ، لذلك فإنّ الإنسان ينفر من كلّ نقص وعيب . فمبدأ الغائية هو من ثمار التوحيد ، ولا يمكن أن يستقيم إلاّ من خلاله ، وأنى لهذه المعبودات الناقصة من تحقيق الكمال لنفسها ، فضلاً عن إعطائه لغيرها ، على قاعدة : « أنّ فاقد الشيء لا يعطيه » ، وصدق الله تعالى إذْ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ )(1).
ملاحظتان قد ترد:
الملاحظة الأولى : هنا قد ترد علينا ملاحظة مفادها : أنّه إذا كان الدين الحق هو التوجه إلى الله وحده ، وهو دين الإسلام ، وأن مقتضى الفطرة يؤكّده ، ـ أي إن الفطرة هي الإسلام ـ ألا ترون أنّ هذا الكمّ الغفير من البشرية على مرور الأيام ، والتي قضت حياتها تعبد الأصنام والكواكب والمظاهر الطبيعية وحتّى الأشخاص ، يسيرون على غير الفطرة ، بينما ذكرتم بأن الدين بصورته الشمولية الكلية هو أمر فطري ، ألا يوجد تعارض ومنافاة ما بين كون الدين الحقّ هو الفطرة ، وكون مطلق الدين ـ الذي فيه الشرك أيضاً ـ من الفطرة أيضاً ؟!
ويمكن أن نجيب على هذه الملاحظة ، من خلال البيان التالي :
__________
(1) سورة الحج : 22|73(1/110)
لا ريب أن الذي بيناه سابقاً كان منصباً نحو نقطة جوهرية ، وهي: كون التوجه إلى الله الذي هو من الغيب الخارج عن نطاق الحسّ هو أمر فطري ، ولكن الإنسان تختلط عليه الأُمور ، ويدور في دوامة الأفكار ، فيضلّ طريقه في خضمّ البحث عن الله تعالى لاَسباب كثيرة؛ أهمها الغفلة ، والشبهة ، والفطرة لا تتنافى معهما . بل الذي ينافيهما في الواقع إنّما هو البغي والجحود ، الذي هو انحراف عن الصراط المستقيم ، وقد عبرّ القرآن عن هؤلاء الذين اختلط عليهم الأمر ولم يكن لهم مُوضّح أو مرشد ، بأنّهم مستضعفون لا يملكون حيلة ، قال تعالى : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوَّاً غَفُوراً )(1)
__________
(1) سورة النساء : 4|98 ـ 99(1/111)
أمّا الصنف الثاني من الناس ، وهم الذين أُوتوا البينات ، وبُعث إليهم النبيّون ، مبشرين ومنذرين ، ثمّ بعد كلّ ذلك يصرّون مستكبرين ومعاندين ، لا يؤمنون بالله ولا يوحدونه ، فأولئك هم البُغاة الذين قال الله فيهم : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... )(1). وعليه فإنّ عبادة غير الله ليست منافية لفطرية الدين ، لاَنها ناشئة عن الغفلة والشبهة . وأمّا البغي فإنّه ينافي الفطرة ، وهو شذوذ عنها ، وهذا ليس غريباً ، حيث نرى أن بعض الناس قد شذّوا عن أُمور فطرية كثيرة ، أمثال العزوف عن الزواج أو راحة الجسد والمحبّة لبني الإنسان .
الملاحظة الثانية : ومفاد هذه الملاحظة هو : أنكم قلتم إنّ الإنسان بفطرته يتوجّه إلى مصدر غيبي وقوة أزلية تتجاوز الحسّ والعيان ، ولكننا نجد أن عبادة الأصنام ، أو الأفلاك ، أو ما شابه ذلك ، إنما هي عبادة أشياء محسوسة ، وحقائق مادية ، فكيف توفّقون بين كلامكم السابق وهذه الحقيقة ؟
وفي معرض الاجابة عن هذا السؤال ، نورد النصّ التالي : يقول الدكتور محمد عبدالله : « فاعلم أنّ كلمات الباحثين في تقسيمات المتدينين وعقلياتهم قد تطابقت على أن ليس هناك دين ، أياً كانت منزلته ، من الضلال والخرافة ، وَقَفَ عند ظاهر الحسّ ، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها ، وأنّه ليس أحد من عبّاد الأصنام والأوثان كان هدف عبادته في الحقيقة هياكلها الملموسة ، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم .
__________
(1) سورة البقرة : 2|213 .(1/112)
وكلّ أمرهم ، أنهم كانوا يزعمون أنّ هذه الأشياء مهبطاً لقوة غيبية ، أو رمزاً لسرٍّ غامض ، يستوجب منهم هذا التقديس البليغ ، فهي في نظرهم أشبه شيء بالتمائم والتعويذات ، التي يتفاءل أو يتبرك بها ، أو يستدفع بها شيء من الحسد أو السحر ، لا على أن لها خاصية ثابتة كامنة فيها كمون النار في الرماد ، أو أن لها قوة طبيعية كقوة المغناطيس ، بل على أن وراءها أو حولها روحاً عاقلاً مدبراً مستقلّ الارادة ، يستطيع أن يغير بمشيئته سير الأُمور ، ومجرى العادات ، وأن تلك المواد المشاهدة ما هي في اعتقادهم إلاّ مظهر ومطلع يطلّ منه الروح الخفي ، ويبارك من يتمسّح بتلك الهياكل التي اتخذها له مظهراً ومزاراً »(1). ...
والدليل على ما ذكره الدكتور محمد عبدالله ، قوله تعالى : ( أَلاَ للهِِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى ... )(2).
فهؤلاء يتصورون أنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله تعالى بشكل مباشر ، لذلك جعلوا هذه الأشياء رمزاً أو واسطةً لعبادتهم ، معتقدين أن هذه الأشياء هي المظهر الإلهي ، وأن الله تعالى يتجلّى فيها ، وهذه الفكرة تنطبق إلى حدّ ما مع معتقدات المسيحية ، أو الدروز والنصيرية ، حيث جعلت المسيحية عيسى عليه السلام هو المظهر الإلهي ، وجعلت الدروز الحاكم بأمر الله الفاطمي كذلك ، وجعلت النصيرية علي أبن أبي طالب كذلك . وبهذا البيان يندفع الاشكال المذكور .
بعد كل ما ذكرنا إذن مالدليل على وجود الله ؟
__________
(1) الدين | د . محمد عبدالله : 42
(2) سورة الزمر : |3(1/113)
ما انفك الإنسان يوماً من الأيام يبحث لمعرفة الحقيقة الكونية ، فيجول بفكره آفاق الكون الواسع ، متأملاً في مظاهره وأحواله وعجائبه ، نجومه وكواكبه ، وليله ونهاره ، والكثير من خصائصه العجيبة ، ثم يهبط بنظره إلى الأرض وما فيها من الغرائب والعجائب ، من بحارها ، وأنهارها ، وأشجارها ، وثمراتها ، وحيواناتها ، وكيفية معيشتها ، وتنظيمها وغيرها من الأُمور ، ثم يرجع إلى نفسه وشخصه ، ليجد فيها من القدرات الكامنة والطاقات المتفجرة ، في حركة وجوده الدائبة ما يذهل العقول ويحيّر الألباب . وأمام كل تلك المظاهر ، الكونية والأرضية والانفسية ، لم يفت ذلك الإنسان أن يتساءل عن الذي صنع كل هذا ودبره ، وخلقه ونظّمه ، فهل وجدت هذه الأشياء بهذا الاتساق العجيب صدفة من تلقاء نفسها ؟ ...
ثم يعود مرة أُخرى إلى نفسه ويناجيها بأنواع المناجاة ، ويخوض معها حواراً طويلاً حول وجوده ، ووجود كل هذه الأشياء حوله ، فيقول لها : ما هو المصدر ؟! ولماذا أنا هنا في هذا الوجود ؟! والى أين سوف أصير ؟! وبينما هو في هذه الحيرة والتفكر ، وإذا بالجواب يأتيه من أعماق نفسه ووجدانه ، بأن الصدفة مستحيلة ، فلا بد أن يكون لك ولكل هذا الكون خالق ومدبر ، فوق ما تراه من الأُمور المحسوسة ، ولا بد أنّه خلق كل هذا العالم من أجل غاية عظيمة ، وهي أنت أيها الإنسان ، فكل هذا العالم من أجل خدمتك وسعادتك ورقيك . ووصولك إلى الكمال المنشود ، وعلى هذا فلا بد أن يكون لوجودك ووجود كل ما حولك معنىً وحكمة ، والذي يتوجب عليك حنيئذٍ ان تبحث عن هذه الحكمة .
ثم ان العقل والفطرة تدعوان الإنسان للتأمل من جديد ليحكم بعد ذلك بحتمية ان يكون لهذا الخالق منهج وقانون يتحتم على الإنسان السير عليه ، لكونه غير شاذ عن كلِّ الموجودات الّتي حوله ، حيث يحكمها قانون الله سبحانه بدون ان تتخلف عنه أبداً ، وتحقق بذلك كمالها ، وتصل إلى حقيقتها .(1/114)
فلحبة الحنطة مثلاً في مسيرها الحياتي طريق خاص بها ، وفي داخل بنيتها الوجودية ثمة انظمة وتحضيرات معينة ، تكون فعّالة في شرائط خاصة ، تعمل على جذب ما تحتاج إليه من عناصر ومواد تناسب مقدارها ، مع ما تحتاجه نبتة الحنطة في نموها ، وما تقدر على استهلاكه ، وتقودها إلى غايتها المحددة. إن النظام الخاص الّذي يتحكم بمسير ونمو حبة الحنطة ، وسط محيط من تنوّع العوامل الداخلية والخارجية ، لا يمكن ان يتخلف أبداً ؛ إذ لم يحصل أبداً أن تغير مسار حبة الحنطة ، بعد شوط من النمو ، ليتماثل مع بيئة الحياة الخاصة ، لشجرة التفاح مثلاً ، حيث لم نشاهد ـ إلى الآن ـ حبة حنطة ، تحولت بعد جهد إلى شجرة لها جذوع وأغصان وفروع ... وهذه القاعدة تجري في جميع أنواع الوجود ، والإنسان بدوره غير مستثنى من هذه الضابطة الكلية ، فله في حياته مسيره الطبيعي الفطري ، وغاية مقصودة تمثل سعادته وكماله ، بالاضافة إلى أنّ بنيتهُ الوجودية مجهزة بأدوات تشخص له مسيره الفطري الطبيعي ، وتهديه إلى منافعه الواقعية .(1/115)
إلى هنا اكتمل الشوط الأوّل من مسيرة الإنسان الفكرية والتطلعية ، فبعد أن ثبت له أن له خالقا ، وثبت كذلك حتمية وجود المنهج والبرنامج الّذي لا بد أن يسير عليه ، أخذ يبحث عن هذا الخالق وهذا المنهج . والحق أن الإنسان عاش في دوامة كبيرة في ذلك البحث ، والتنقيب ، فقسم من الناس هداه عقله النيّر ، وفطرته السليمة فتوصل إلى الواقع ، ولكن الكثير ضلوا طريق الهداية ، وساروا بشكل متخبط في متاهات بعيدة ، وهم على قناعة في قرارة أنفسهم أنهم تائهون ضالون لم يصلوا إلى الواقع الذي يبحثون عنه ، فعبدوا الاصنام والكواكب والمظاهر الكونية وغيرها ، وكثر الفساد في الأرض ، وسالتْ الدماء ، واستُعبد الأحرار ، وانتهكت الأعراض . كل ذلك كان في حياة البشر ، وتاريخ البشرية زاخر بألوان كثيرة من ذلك الواقع المؤلم ، ولا زالت الآثار تعطي صورة ولو مجملة عن فصول تلك المسرحية المأساوية ، بل ان واقعنا المعاصر خير دليل على همجية الإنسان المنفصل عن الله تعالى ودينه القيم .
من أجل ذلك كله ـ وغيره ـ كان لازماً على ذلك الخالق أن يبعث لهذا الإنسان من يأخذ بيده نحو طريق النجاة والسلام ، ويُعرّفه مطلوبه وهدفه الّذي يبحث عنه ، ويبرمج له حياته بكل أبعادها ، ويؤمّن له طريق الوصول إليه سبحانه ، فكان الأنبياء والرسل هم سفراء الخالق للاِنسان الظلوم الجهول ، ولم يترك الله سبحانه اُمّةً إلاّ وبعث فيها نبياً أو رسولاً لهداية الناس إلى صراطه المستقيم ، قال تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ )(1). ...
__________
(1) سورة فاطر : 35|24(1/116)
وقد بلغ عدد الأنبياء مع نبينا محمد (ص) ـ الّذي هو خاتمهم وسيدهم ـ مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ورسول ، إضافة إلى الكتب الأربعة ، الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن ، وعشرات الصحف والتعليمات ، وكان جميع هؤلاء الأنبياء يدعون إلى دين واحد ، وعقيدة واحدة ، وهي : « لا إله إلاّ الله » ، فهو التوحيد الّذي من خلاله تثبت كل المبادئ الحقة ، الّتي من أهمها النبوة والمعاد ، المتمثلة بالإسلام الّذي هو دين الله كما قاله سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الاِِْسْلاَمُ )(1). ...
فالدين منهج تقتضيه فطرة الإنسان وعقله ، لذلك لا نجد قوماً من الأقوام ، وعلى مرور الأزمان ، ليس لهم دين يدينون به ، ومعبود يعبدونه . ولا يضر بهذه القاعدة العامة اولئك الذين انحرفوا عن هذا الأمر الفطري ، حيث أنكروا الله في ألسنتهم إلاّ أن قلوبهم مطمئنة به قطعاً ، ولكن الظلم والتكبّر هو السبب الكامن وراء ذلك الانكار الظاهري ، ثم إنّ انحراف هؤلاء لا يضر بفطرية الدين أو كون التصديق بالمعبود وعبادته أمراً فطرياً .
الفصل الثالث
المسلمون
من هم المسلمون ؟
الإسلام احدى الديانات السماوية مع دين عيسى ( ع ) و دين موسى ( ع ) أو ما يدعى بالديانات الإبراهيمية ، وهي ثاني أكثر الديانات أتباعا في العالم.
يؤمن المسلمون أن الإسلام آخر الديانات، وأنه ناسخ لما قبله , ويؤمنون بوجود إله واحد، وأنهم يتبعون الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة و السلام وتعني الحنيفية "الميل" في اللغة، واصطلاحاً الميل عن الشرك إلى التوحيد(2).
أما "الإسلام" ان يُسْلم الإنسان كل شؤون حياته لله , -أي- الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. وذلك لأن التشريع الإسلامي شمل جميع نواحي الحياة الدينية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية وغيرها.
__________
(1) سورة آل عمران : 3|19
(2) القموس المحيط " الفيروز آبادي(1/117)
بدأ الدعوة للإسلام النبي محمد بن عبد الله(1) ( ص ) ، وقد قام بتبليغ الناس عن هذا الدين وأحكامه ونبذ عبادة الاصنام وغيرها مما يعبد من دون الله كالأنبياء والأولياء والكواكب والنجوم والتي كان يقوم بها العرب في الجزيرة العربية في ذلك الوقت . وساوى بين الناس فلا فرق بين العبد والسيد فالناس في الإسلام كلهم سواء ولا يميزهم إلا العمل الصالح والتقوى .
__________
(1) هو رسول الله محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله الطاهرين وصحبه اللأبرار المنجبين ) بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر(وهو الملقب بقريش) بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .= اشتهر أن الرسول كان يقف في نسبه عند عدنان إلا ان بعض النسابين يتابع واصلا النسب إلى آدم أبو البشر: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تارخ بن يعرب بن يشجب بن نابت بن اسماعيل (عليه السلام ) بن إبراهيم (عليه السلام ) بن تارخ بن تاخور ابن شارخ (شاروخ) بن أرغو ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح (عليه السلام ) بن لامك ابن متوشلخ بن اخنوخ ( و هو إدريس ) (عليه السلام ) بن يرد بن مهلائيل بن قنين (قينان) بن يافث بن شيث بن آدم (عليه السلام ).
أما أمه فهى أمنة بنت وهب بن زهرة بن كلاب وهى تعد أفضل امرأة فى قريش نسباً وموضعاً, فهو عربي قرشي تعرف أسرته بالأسرة الهاشمية نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف وكانت من أعظم أسر العرب وذات مكانة عالية.(1/118)
الإسلام هو الدين الذي يؤمن المسلمون بأنه الدين المنزل من الله خالق السموات و الأرض على لسان نبيهم محمد بن عبد الله ( ص ) ,موجها للبشرية كافة بغية تحقيق العدل و المساواة للبشر كافة , بالنسبة للمسلمين فإن رسالتهم هي خاتمة الرسالات السماوية, فلا رسول بعد الرسول محمد ( ص ) كما يذكر القرآن , و هم يؤمنون بكافة الرسل قبل محمد : كنوح وابراهيم ويعقوب واسحق و يوسف و موسى وداوود وسليمان و عيسى (عليهم السلام أجمعين) .
يؤمن المسلمون أن عقيدة الإسلام كتوحيد و إيمان هي دين و اعتقاد الأنبياء جميعاً و بعث بها الله إلى جميع الأنبياء لإخلاص العبادة لله،
المطلب الأول
عقائد المسلمين
العقيدة لغة : من ( العَقْدِ ) وهو الربط والشدّ بقوة ، ومنه الإحكام والإبرام، والتماسُك والمراصَّة ، والإثبات والتوثق .(1) ويطلق على العهد وتأكيد اليمين ( عَقْدٌ )
وما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به فهو ( عقيدة ) .
أما العقيدة في الاصطلاح العام فهي : "الإيمان الجازم بالله ، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين وأمور الغيب وأخباره ، والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع ، ولرسوله ( ص ) بالطاعة والتحكيم والاتباع(2)" .
أدلة المسلمون على وجود الله
نقتصر في التحدث عن أدلة المسلمين لإثبات وجود الله تعالى بغض النظر عن وحدانيته على بعض البراهين ضمن منهجين:
أوّلاً: المنهج الفلسفي،
ثانياً: المنهج العلمي.
أوّلاً: المنهج الفلسفي لإثبات وجود اللّه تعالى
__________
(1) - انظر : لسان العرب ( عقد ) 3 / 295 – 300 .* والقاموس المحيط ( عقد ) 1 / 327 – 328 . والمعجم الوسيط ( عقد ) 2 / 620 – 621 .
(2) مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة / الشيخ د. ناصر بن عبدالكريم العقل . الطبعة الأولى 12 / 9 / 1412 هـ . دار الوطن للنشر .(1/119)
يستفيد من المنهج الفلسفي لإثبات الصانع من يدرك بعض الدقائق الفلسفية، ونذكر في هذا المنهج عدداً من البراهين:
البرهان الأوّل ـ برهان الإمكان الذاتي(1):
وهذا البرهان مؤلّف من ثلاث مقدّمات:
الاُولى: أنّ عالمنا هذا بما يزخر به من المادّيات المختلفة ممكن الوجود(2)، أي: يمكن أن يوجد ويمكن أن ينعدم.
الثانية: أنّ كلّ ما كان ممكن الوجود ـ أي كانت نسبته إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ـ احتاج في وجوده إلى علّة.
الثالثة: أنّ تلك العلّة يجب أن تنتهي إلى واجب الوجود(3)، وذلك قطعاً للدور أو التسلسل.
أمّا المقدّمة الاُولى فتوضيحها: أنّ كلّ ما يزخر به عالمنا من الاُمور التي نحسّها له ماهيّة ثابتة في عالم التقرر، ووجود مرتبط بها في لوح الخارج، وهناك بعض الاُمور تعتبر من لوازم الماهية، فتكون ذاتية لها يستحيل انفكاكها عنها من قبيل الزوجية للأربعة، وآية ذلك: أنّها لا تنفكّ عنها حتى في الوجود الذهني، فلو كانت الزوجية من لوازم الوجود لا الماهية، أو كانت من المقارنات من دون ملازمة لما كان إيجاد الماهية في الذهن غير قابل للانفكاك عن الزوجية. وهناك من الآثار ما قد يعتبر من لوازم الوجود ـ كالإحراق بالنسبة للنار ـ وليس من لوازم الماهية، وآية ذلك: أنّه لا يترتب على الوجود الذهني للماهية، فليس تصوّر النار مثلاً محرقاً، ولو كان من لوازم الماهية لترتّب على تصوّر النار كما يترتّب على وجودها الخارجي; لأنّ الماهية مشتركة بين الوجود الذهني والوجود الخارجي حسب التصوّر المعروف في الفلسفة.
__________
(1) و هو أن تكون نسبة الوجود و العدم إلى الماهية على حد سواء، و يطلق عليه الإمكان الماهوي.
(2) نقصد بممكن الوجود : الحادث المحتاج لعلة توجده
(3) واجب الوجود : الشيء المتحقق وجوده بلا علة ، الأزلي غير المسبوق بالعدم(1/120)
يبقى الكلام في النسبة بين نفس الوجود والماهية، وطبعاً لا معنى لافتراض كون الوجود من لوازم وجود الماهية كالإحراق بالنسبة للنار مثلاً; لأنّ الوجود هو هو والملازمة فرع نوع من الاثنينيّة، وعليه فيتّجه السؤال إلى أنّ الوجود: هل هو من لوازم الماهية ولا ينفكّ عنها كما أنّ الزوجية لا تنفك عن ماهية الأربعة، أو لا؟ ومجرّد تصوّر ذلك كاف في الإجابة عنه بالنفي لوضوح عدم دخل الوجود في الهويّة التقررية للماهية، ولهذا لا يتحقق ـ أعني الوجود الخارجي ـ بمجرد تصوّرها ذهناً، وعليه فكل ماهية نفترضها يمكن أن توجد ويمكن أن لا توجد.
ولا أرغب في الاستشهاد لعدم كون الوجود من لوازم أيّ ماهية ممّا حولنا من الماهيات بما قد نحسّ به من حدوثها وتحققها بعد أن لم تكن كما فعله بعضهم(1); لأنّ الحدوث وحده كاف في مقابل الإمكان كنقطة بدء للاستدلال على وجود الله تعالى، كما سيأتي إن شاء الله في ما نسمّيه ببرهان الحدوث، فلا نرغب في الخلط والتركيب بينهما.
وأمّا المقدّمة الثانية: فتوضيحها: أنّه اذا كانت نسبة الماهية إلى الوجود والعدم على حدّ سواء فترجيح كلّ واحد من كفّتي الوجود والعدم على الاُخرى من دون علّة وبدون سبب مرجّح غير معقول، واستحالة الترجيح بلا مرجّح من بديهيات العقل، وعلّة العدم عبارة عن عدم علّة الوجود.
__________
(1) راجع كتاب The theologies 1: 68(1/121)
وأمّا المقدّمة الثالثة: فتوضيحها: أنّ ما فرضناه علّة لإيجاد الماهية لو لم يكن واجب الوجود ولا منتهياً إلى واجب الوجود للزم التسلسل أو الدور، وكلاهما مستحيلان: أمّا استحالة الدور فلرجوعه إلى توقّف الشيء على نفسه، واستحالته من بديهيات العقل، وأمّا استحالة التسلسل فإمّا لبداهتها أو لبعض البراهين من قبيل برهان لزوم كون تمام السلسلة قد وجدت بلا مرجح. ثم إننا إنّما احتجنا في برهان الإمكان الذاتي إلى المقدّمة الاُولى وهي إثبات أنّ المادّة ممكنة الوجود; لأننا كنّا نهدف لإثبات أنّ المادّة ليست هي الله تعالى.
أمّا لو اُريد الاقتصار على إثبات واجب الوجود من دون هدف تعيين المصداق هل هو المادّة أم غيرها فالمقدّمة الاُولى يُستغنى عنها. ثم الواقع أنّ هذا البرهان مع ما سيأتي إن شاء الله من البرهان الرابع يمكن أن يكونا برهاناً واحداً; وذلك لأنّ هذا البرهان يناسب أصالة الماهية، وما سيأتي إن شاء الله من البرهان الرابع يناسب أصالة الوجود. إذن بإمكاننا أن نضمّ دليلاً على وجوده سبحانه على مبنى أصالة الماهية في المادّة إلى دليل على وجوده سبحانه على مبنى أصالة الوجود، ونعتبر مجموع الدليلين دليلاً واحداً على المقصود مستوعباً لكلا الاحتمالين.(1/122)
ولعلّ الفهم الأوّلي للعوام هو أصالة الماهية، بمعنى تمايل أذهانهم إلى واقع أصالة الماهية من دون أن يعرفوا المصطلحات. فإن كانت الماهية أصيلة صحّ أن يقال: هل الوجود ينبع منها أو يلازمها، أو أنّ له علّة مستقلّة عن هذا الشيء؟ ويكون الإيجاب بالثاني; لأنّ العقل يرى أنّ الماهية بما هي لا يكمن فيها الوجود. أمّا على القول بأصالة الوجود وكون الماهية حدّاً للوجود ولو حدّاً وجودياً ـ فضلاً عن القول بكونها حدّاً عدمياً ـ فلا معنى للتساؤل عن كون الوجود لازماً لحدّه أو نابعاً عنه وعدمه، بل لابدّ عندئذ من تفسير إمكان الوجود ووجوبه بتفسير آخر ينسجم مع أصالة الوجود، كما سيأتي إن شاء الله في الدليل الرابع.
البرهان الثاني ـ برهان الحدوث(1)
وهذا البرهان أيضاً مؤلّف من ثلاث مقدّمات:
الاُولى: الحدوث.
الثانية: احتياج الحادث إلى علّة.
الثالثة: ضرورة الانتهاء في سلسلة العلل إلى القديم; وذلك لاستحالة الدور والتسلسل.
أمّا المقدّمة الاُولى: وهي حدوث العالم، فلإثبات حدوثه طرق عديدة منها مايلى:
1 ـ الحركة الجوهريّة:
لا إشكال في كون العالم مليئاً بالحركة الظاهرية، والحركة: هي الخروج من القوّة إلى الفعل تدريجاً، أو قل: هي الزوال والحدوث المستمرّ، وهذه الحالة حسّيّة لنا في البشر في نموّه وبلوغ أشدّه ثم انتكاسه، وكذلك في الحيوانات، والأشجار، وكذلك التغيّرات الاُخرى: من الحرّ والبرد والليل والنهار وحركة السيّارات وما إلى ذلك.
__________
(1) و هذه النظرية منسوبة الى علماء الكلام، و مفادها هو ان سرّ ارتباط المعلول بعلته حدوثه، فكل حادث محتاج فى حدوثه الى علة الحدوث، و هذه النظرية لاتخلو من نظر، لأنّ لازمها استغناء الحادث بعد حدوثه عن علته الُمحْدِثة له.(1/123)
والمادّة عموماً ـ وفقاً لاكتشاف العلم الحديث ـ يتألّف كلّ مليمتر واحد منها من ملايين الذرّات، والذرّة: هي الجزء الصغير الذي يفقد بانقسامه خصائص عنصره البسيط، وكلّ ذرّة تحتوي على نواة مركزية وعلى الكترونات التي تدور حول النواة، والالكترون: هو وحدة الشحنة السالبة(1)، وقد أصبح تبدّل العناصر بعضها إلى بعض ـ بل وتبدّل المادّة إلى الطاقة وبالعكس تلقائياً تارة وبالطرق العلمية اُخرى ـ من واضحات العلم الحديث.
إذن فالعالم كلّه حركة في ذاته وليست الحركة إلاّ حدوثاً وزوالاً باستمرار، ولا يعني هذا سكونات مترادفة أو وجودات متتالية يستقلّ بعضها عن بعض، بل يعني وجوداً واحداً يتحرّك من القوّة إلى الفعل دائماً.
2 ـ العالم متغيّر وكل تغيّر حادث:
لئن لم نقبل بالحركة الجوهريّة فالتغيّر السطحي الظاهري واضح كما أشرنا إليه في تقريب الحركة الجوهريّة، وعندئذ نقول: إنّ التغيّر سواء فرض جوهريّاً ـ كما هو مبنى القائلين بالحركة الجوهريّة ـ أو سطحياً ـ كما هو مبنى المنكرين لها ـ يكون حركة عارضة على المادّة، والتغير خروج تدريجي من القوة إلى الفعل، فلو كان قد مضى على العالم أو قل على المادّة وقت لا أمد له لكان المفروض انتهاء كل ما بالقوّة إلى الفعل، ووصول المادّة أو العالم إلى الفعل الكامل منذ أمد طويل، وهذا يعني انتهاء التغيّر والحركة والوصول إلى السكون المطلق .
3 ـ العلم الحديث:
أثبت العلم الحديث أنّ للعالم بداية، وحسب عمر الأرض والشمس والقمر وكثيراً غيرها، وهي أعمار متقاربة تناهز ستة مليارات سنة(2) وكان إثباته لحدوث العالم بأحد طريقين:
__________
(1) راجع The philosophy: 318
(2) نقلاً عن العالم الفلكي استونتر(1/124)
"الأوّل: أنّ هناك انتقالاً حراريّاً مستمرّاً من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة ولا يمكن العكس، ومعنى ذلك أنّ الكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام، بل إلى نضوب معين الطاقة والحياة; لأنّ الحرارة إذا انحدرت إلى الأجسام الباردة وتساوت فُقد المستوى من الحرارة اللازم للحياة والطاقة، فإذن لا يمكن أن يكون هذا الكون أزلياً وإلاّ لاستهلكت طاقاته منذ زمن بعيد، ولو لم تكن اليوم عمليات كيمياوية أو طبيعية لتوقف كلّ نشاط في الوجود، ولتساوت جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض من الصفر المطلق".
"الثاني: يتعلّق بالعناصر التي يكون وزنها الذرّي أكثر من (80)، فهي تشتمل على شحنات موجبة أكثر من (80) وتوازيها أيضاً شحناتها السالبة، والعناصر التي تكون من هذا القبيل تشعّ من نفسها اشعاعات ذرّيّة تتحوّل بالتدريج إلى عنصر أخفّ في وزنه الذريّ، حتى تصل إلى عنصر ثابت لا يشعّ من نفسه شيئاً، وعلى هذا الأساس ينتهي مثلاً عنصر اليورانيوم إلى عنصر الرصاص(1)، فلو كان العالم أزلياً لانتهت العناصر التي يزيد وزنها الذريّ على الثمانين منذ أمد بعيد".
وأمّا المقدّمة الثانية: وهي أنّ الحادث بحاجة إلى علّة، فيقال في ذلك بحكم العقل البديهي.
__________
(1) راجع The philosophy: 320(1/125)
وقد تقول: إنّ هذا يعني المصير إلى كون سرّ الحاجة إلى العلّة يكمن في الحدوث، في حين أنّ الوجه الفلسفي في بيان سرّ الحاجة إلى العلّة لا ينحصر بالقول بكمون سرّها في الحدوث، بل هناك نظريتان اُخريان وهما: الإمكان الذاتي والإمكان الوجودي، أمّا الإمكان الذاتي فهو ما مضى بيانه في البرهان الأوّل ووضّحنا تفرّعه على مبنى أصالة الماهية. وأمّا الإمكان الوجودي فهو ما سيأتي بيانه إن شاء الله في البرهان الرابع، وهو بيان متفرّع على أصالة الوجود; وعليه فهذا البرهان الثاني وهو برهان الحدوث مبتن على أحد المباني الفلسفية: وهو كون سرّ الحاجة إلى العلّة يكمن في الحدوث، كما أنّ برهان الإمكان الذاتي مبتن على مبنى أصالة الماهية، وبرهان الإمكان الوجودي مبتن على مبنى أصالة الوجود. ولكن الواقع أنّ برهان الحدوث أوسع من برهان الإمكان بكلا معنييه، وأنّ العقل يدرك بالبداهة أنّ الحادث بحاجة إلى علّة، غاية الأمر أننا تارةً نلتفت إلى كمون نكتة الحاجة إلى العلّة في الإمكان بأحد معنييه فيصحّ لنا الرجوع إلى برهان الإمكان الذاتي أو الوجودي، واُخرى نغضّ النظر عن ذلك ولكنّا نقول: إنّ الحادث بحاجة إلى محدث ببداهة العقل سواء أكانت نكتة الحاجة هي الحدوث ـ كما هو أحد الوجوه التي تذكر ـ أو هي الإمكان بأحد المعنيين، فإنّ الحدوث سيستبطن الإمكان لا محالة; إذ لو كان واجباً لكان أزلياً ولو كان ممتنعاً لما حدث، وعليه فبرهان الحدوث أوسع من برهان الإمكان بكلا معنييه.(1/126)
وأمّا المقدّمة الثالثة: وهي ضرورة الانتهاء في سلسلة العلل إلى القديم فلما مضت في البرهان الأوّل الإشارة إليه من استحالة الدور والتسلسل. وإنّما عبّرنا هنا بكلمة " القديم " لا بكلمة " واجب الوجود"; لأننا إن التفتنا إلى أنّ سرّ الحاجة إلى العلّة وعدمها يكمن في الإمكان والوجوب لانتهى الأمر إلى برهان الإمكان. فهنا نكتفي بالقول بأنّ العلل الحادثة يجب أن تنتهي إلى القديم سواء أكان سرّ الحاجة إلى العلّة الحدوث فالعلّة الأصلية يجب أن تكون غير حادثة، أو الإمكان لأنّ كلّ حادث ممكن، فالعلة الأصلية يجب أن تكون أيضاً غير حادثة كي يعقل أن يكون واجباً.
ومن المحتمل أن يكون مما يشير إلى برهان الحدوث قوله سبحانه عزّ وجلّ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)(1) ، (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(2) ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(3) ، (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(4).
البرهان الثالث ـ برهان الحركة أو التغير
__________
(1) س 52 الطور، الآية: 35.
(2) س 7 الأعراف، الآية: 191
(3) النحل، الآية:20.
(4) الفرقان، الآية: 3.(1/127)
مضت ضمن البرهان الثاني الإشارة إلى إثبات الحركة الجوهرية أو التغير السطحي على أقل تقدير إلاّ أننا كنّا ننظر إلى ذلك هناك كمقدّمة لإثبات حدوث المادّة; كي يصبح حدوث المادّة بدوره دليلاً على وجود الله تعالى، أمّا هنا فننظر إلى ذلك كدليل مباشر على وجود الله تعالى; لأنّ نفس الحركة أو التغير أمر حادث فيحتاج إلى محدث أي إلى محرّك ومغيّر، ولا يمكن أن يكون المحرّك أو المغيّر نفس المتحرّك أو المتغيّر; لأنّ الحركة أو التغير إن هما إلاّ الخروج بالتدريج من القوّة إلى الفعل، والمتحرّك أو المتغير يكون قبل تحرّكه أو تغيرّه فاقداً لتلك الفعلية وناقصاً بلحاظها فكيف يوجدها؟!
البرهان الرابع ـ برهان الإمكان الوجودي(1)
__________
(1) و قد نسبت هذه النظرية الى الفلاسفة الاسلاميين و مفادها: ان سرّ ارتباط المعلول بعلته هو امكانه و افتقاره الذاتي الوجودي. فالممكن فى حد ذاته خلو من كل وجود، و اذا ما وجد فانّ وجوده فيض من غيره، فسرّ ارتباط المعلول بعلته امكانه وافتقاره اليها. واليك توضيح الفكرة بأمثلة بيانية: إن العلاقة القائمة بين العلة و المعلول علاقة ارتباطية لااستقلالية، فانك حين تقرأُ كتاباً أو تنظر الى صورة جميلة أو تصافح صديقا لك، فانه سوف توجد بينك و بين كل ما تقدم علاقة، و هذِهِ العلاقة تنتفى بمحض اعراضك عن تلك الاشياء، الا ان انتفاء علاقتك بها لايوجب انتفاء وجودها او وجودك بل يبقى وجودك و وجودها على ما هو عليه، و هذا يعنى ان وجود كلٍّ من الطرفين مستقل عن الآخر، و هذا هو معنى العلاقة الاستقلالية القائمة بين الطرفين. بينما تجد العلاقة القائمة بين حركة اليد و حركة القلم علاقة تعلقية، بمعنى ان حركة القلم تنتفى بمحض قطع علاقتها بحركة اليد، و هذا يعنى ان العلاقة الحاكمة بين حركة اليد و حركة القلم علاقة ارتباطية، أى ان حركة القلم مرتبطة في وجودها بحركة اليد، فلا وجود لحركة القلم من دون حركة اليد، و هذِهِ العلاقة(1/128)
وهذا البرهان مبتن على أصالة الوجود، ويمكن تأليفه من أربع مقدمات ـ بعد التسليم بأصل الإيمان بالواقع الخارجي ورفض السوفسطائية، وهو مقدمة مفروضة في كلّ البراهين; ولذلك حذفناها منها ـ:
المقدّمة الاُولى: إنّ الارتباط بين كلّ شيئين في المألوف عبارة عن نوع علاقة بين أمرين مستقلين، أي أنّ أحدهما مستقل عن الآخر، فالرسّام مثلاً مستقلّ عن اللوحة وبينهما نوع علاقة وارتباط، وكذلك الكاتب بالقياس للقلم والمطالع بالنسبة للكتاب، والأسد بالنسبة لما طوّق به من سلسلة الحديد، وما إلى ذلك. ولكنّه يستثنى من هذا القانون العام ارتباط واحد وهو الارتباط بين العلّة والمعلول الحقيقيين، أعني حينما يكون أصل وجود أحد الطرفين مديناً للطرف الآخر ـ كالوجودات الذهنية التي تخلقها نفوسنا ـ ففي هذا القسم يستحيل افتراض وجود مستقلّ للمعلول في مقابل العلّة كي تعرض عليهما علقة الربط كما في العلاقات الاُخرى; إذ لو كان الأمر كذلك لما كان أصل وجود المعلول منبثقاً من العلّة وهذا خلف، وبكلمة اُخرى: إن لم يفرض وجود المعلول في المرتبة السابقة على علقة العلّية والمعلولية فعلى ماذا عرضت هذه العلقة المفروض كونها ذات طرفين؟ وان فرض وجوده في المرتبة السابقة على هذه العلقة إذن كان مستقلاً عن العلّة وموجوداً بلا علّيّة، فانحصر الأمر في أن يفترض أنّ هذه العلقة ليست ذات طرفين بل لها طرف واحد وهو العلة، فالمعلول هو عين العلقة والربط ويكون وجوداً متقوّماً بوجود العلّة.(1/129)
وهنا ينبغي الالتفات إلى مغزى ما نقصده بالإمكان والوجوب، فلقد كان المقصود بهما في ما مضى من البرهان الأوّل بيان نسبة الوجود إلى الماهيّة بمعنى أنّ الوجود هل هو ذاتيّ للماهيّة وهذا هو الوجود الواجب، أو منبثق من شيء آخر لا من نفس الماهيّة ولهذا يحتاج إلى العلّة وهذا هو الوجود الممكن؟ أمّا هنا فلا نقيس الوجود بالماهيّة بل نلحظ ذات الوجود كي نقسّمه إلى الوجود الربطي ـ وهو الربط المحض والتعلق المحض ـ والوجود الاستقلالي، فالأوّل هو الممكن وليس إلاّ مظهراً من مظاهر الثاني ووجوداً إشراقياً له أو قل: تجلّياً من تجلّياته، والثاني هو الواجب ولا يحتاج إلى علّة لفرض استقلاله لذاته، في حين أنّ الأوّل ليس له تحقق بذاته لأنّه عين التعلق والربط.
المقدّمة الثانية: إنّ وجود المادّة متى ما كان فهو دائماً من القسم الأوّل، أعني ممكن الوجود أو الوجود الربطي أو التعلّقي دون واجب الوجود أو الوجود القائم بذاته; وذلك لما مضى شرحه من أنّ المادّة متحرّكة ومتغيرة، وليس التحرّك والتغيّر إلاّ الحدوث المستمر، ومن الواضح أنّ ذلك لا ينسجم مع الوجود الذاتي والمستقل.
المقدّمة الثالثة: إنّ الوجود الربطي أو التعلقي بحاجة لا محالة إلى ما يرتبط به أو يتعلّق به، أو قل: إنّ الوجود الإشراقي بحاجة إلى ما يشرق به، أو قل: إنّ الوجود الانبثاقي بحاجة إلى ما ينبثق منه.
المقدّمة الرابعة: إنّ هذا الانبثاق أو الربط أو الإشراق لا يمكن أن يتسلسل أو يدور فلابدّ من الانتهاء إلى واجب الوجود.
والمقدّمة الثانية من هذه المقدّمات إنّما احتجنا إليها لأننا كنّا بصدد أنّ المادّة ليست هي الواجبة الوجود، أمّا لو لم نكن بهذا الصدد وكنّا فقط بصدد إثبات واجب الوجود لم نحتج إلى المقدّمة الثانية وكفتنا المقدّمات الثلاث الاُخرى.
وربّما تسمّى تلك المقدّمات الثلاث الاُخرى ببرهان الصديقين، لكنّني اُفضّل بقاء هذا الاسم وقفاً للبرهان الخامس.(1/130)
البرهان الخامس ـ برهان الصديقين
وقد سمّي بذلك لأنّه خال من الاستدلال بغير واجب الوجود عليه بسبب بطلان الدور والتسلسل، بل هو استدلال بنفسه عليه، وهذا مبتن على أصالة الوجود وتحليل الوجود بالذي مضى في البرهان الرابع من وجود ذاتيّ مستقل، ووجود ربطيّ وتعلّقي وأنّ الأوّل هو الواجب والثاني هو الممكن.
وعندئذ نقول: إنّنا تارةً لا نؤمن بوجود أصلاً ونرى رأي السوفسطائيين ومعه لا معنى للوصول إلى واجب الوجود، واُخرى نبني على ما هو واضح لدينا من تحقق أصل الوجود خلافاً لأهل السفسطة; وذلك إمّا ببداهة أو ببرهان أو بحساب الاحتمالات أو بأيّ سبب من الأسباب التي رفضنا بها السوفسطائيّة، وعندئذ نقول: إنّ هذا الوجود إمّا هو واقع وعينيّ بذاته وبالاستقلال أو هو عين الربط والتعلق الذي لا يستغني عن الوجود المستقل لا لاستحالة الدور والتسلسل; بل لأنّ الفقير لا يغني الفقير وما ليس له وجود ذاتي لا يعطي وجوداً ربطياً وتعلقياً، فعلى كلا الحالين يثبت الوجود الذاتي الذي يكون بذاته طارداً لنقيضه وهو العدم فهو واجب الوجود.
وهذا المقدار من البيان يكفي لإثبات المقصود إن كان المقصود مجرّد إثبات واجب الوجود.
وأمّا لو قصد زائداً على ذلك نفي كون المادّة واجبة الوجود فيضاف إلى ما مضى أنّ الوجود الذاتي الذي يطرد العدم يطرد لا محالة كلّ حدّ من الحدود, لأنّ الحدود إنّما تكون بلحاظ ما يقابل الوجود من العدم، فإحساسنا في كلّ مادّة بمحدوديتها يبطل عندنا كونها واجبة الوجود
المنهج العلمي لإثبات وجود اللّه تعالى لدى المسلمين (برهان النظم)(1) .
المنهج العلمي لإثبات الصانع لدى المسلمين هو منهج حساب الاحتمالات وتجميع قرائن الحكمة ودلائل القصد أو قل: برهان النظم، ولعلّه أكثر الأدلّة بروزاً في القرآن الكريم وفي الروايات،
مميّزات المنهج العلمي
يمتاز هذا البرهان عن البراهين الفلسفية بعدّة مميّزات:
__________
(1) راجع كتاب أصول الدين ص46(1/131)
الاُولى: إنّ البراهين الفلسفية تملأ العقل، وهذا البرهان يملأ الوجدان والعقل.
الثانية: إنّ البراهين الفلسفية قد تبتعد عن فهم الناس الاعتياديين وتختصّ بأصحاب التفكير الدقيق، في حين أنّ هذا البرهان لايختلف فيه الساذج البسيط عن المفكّر العبقريّ.
الثالثة: إنّ البراهين الفلسفية ربّما لا تخلو من جفاف الابتعاد عن مخاطبة العواطف، في حين أنّ هذا البرهان يمتلك الطرواة والنداوة والتجاوب مع العواطف والأحاسيس.
الرابعة: إنّ هذا البرهان في نموّ مستمرّ; لأنّ دلائل القصد تكتشف في كلّ يوم بأكثر ممّا كانت مكتشفة من ذي قبل; وذلك ببركة تقدّم العلم والتجارب. وعلى هذا الأساس يعتقد المسلمون أنّ العلم ـ بمعنى علم الطبيعة ـ يدعو إلى الإيمان،
تحليل برهان النظم(1)
وبرهان النظم يمكن تحليله إلى مقدّمتين:
المقدّمة الاُولى:
أنّه لا إشكال في أنّ آثار العقل والشعور ونتائج النظم والحكمة تدلّ على عقل الفاعل وحكمته، ولا يحمل كلّ ما صدر عنه من الحركات المعقولة الحكيمة على مجرّد الصدفة.
المقدّمة الثانية:
إنّ النظم الحاكم في العالم وقرائن الحكمة والقصد فيه تفوق كلّ علامات العلم والعبقريّة في تصرّفات أيّ عبقريّ في العالم بشكل لو قسنا علامات نبوغ هذا العبقريّ أو ذاك في أفعاله إلى نظم العالم وإتقانه وحكمته لكانت النسبة أصغر من نسبة القطرة إلى البحر، فلا يبقى شكّ في أنّ العالم مصنوع لعليم حكيم خبير.
أمّا المقدّمة الاُولى: فلها أحد جذرين:
__________
(1) المرجع السابق ص48 – 49 . The philosophy(1/132)
الأوّل: ما يذكر في المنطق الصوري من أنّ الصدفة يستحيل بالبداهة أن تكون أكثرية، فلئن كان الفاعل إنساناً مجنوناً لا يعي ما يفعل ولا يقصد هدفاً معقولاً من وراء فعله، ومع ذلك لم تر في آلاف من تصرّفاته إلاّ ما يناسب القصد والشعور لكان معنى ذلك أنّ الصدفة أصبحت أكثرية أو دائمية، وقد قلنا: إنّ هذا محال. إرجاع ذلك إلى حساب الاحتمالات على أساس أنّ احتمال الصدفة في كلّ جزئيّ من جزئيات تصرّف هذا الشخص يساوي النصف مثلاً، فلو ضرب في قيمة احتمال ما يماثله في جزئي آخر تنزّل احتمال مجموع الصدفتين إلى الربع، وهكذا يزداد ضرب الاحتمال بعدد الجزئيات التي تفوق ملايين المرّات، وبالنتيجة يضعف احتمال الصدفة إلى ما يصعب حسابه ويكاد أن يسمّى بما لا نهاية له، وبالتالي يضمحلّ هذا الاحتمال من النفس وفق نُظم وقوانين مشروحة في كتب الاُسس المنطقية، ولا مجال لنا هنا لشرحها وإنّما نكتفي بوجدانيّة ذلك في نفس كلّ إنسان في مجموعة حياته ومواقفه باتجاه اُمور تكتشف ليل نهار عن طريق حساب الاحتمالات.
وعلى كلّ واحد من هذين الفرضين ـ أعني فرض استحالة أكثرية الصدف بداهةً، أو فرض حساب الاحتمالات ـ فالمهم أنّه لا شك لدى كلّ عاقل سويّ متعارف في صحّة هذه المقدّمة.
وأمّا المقدّمة الثانية: وهي نظم العالم وإتقانه ودلائل القصد والحكمة والحنكة فيه، فهذا الأثر أمر واضح ومحسوس بالعيان في الآفاق والأنفس جميعاً، وحمل ذلك على الصدفة الحاصلة من الطبيعة العمياء يفوق في سخفه وغرابته آلاف المرّات سخف من يجد ديواناً ضخماً من أروع الشعر وأرقاه أو كتاباً علميّاً زاخراً بالأسرار والاكتشافات، فيزعم أنّ طفلاً كان يلعب بالقلم على الورق فاتّفق أن ترتّبت الحروف فتكوّن منها ديوان شعر، أو كتاب علم.
أمثلة على حكمة الخالق(1) .
1 ـ ظاهرة الحياة فوق الأرض:
__________
(1) لمزيد من اللإطلاع راجع كتاب روح الدين الإسلامي – عفيف طبارة ص ( 48-64)(1/133)
تكوّنت الحياة فوق الأرض نتيجة لاجتماع شروط كثيرة كلّ واحد منها بمنزلة جزء علّة للحياة وتستحيل الحياة بفقدانه، وهذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك، ومنها ما يرتبط بالهواء والغازات، ومنها ما يرتبط بالأرض وما فيها من نبات وحيوان وجماد، وهذه الشروط من الكثرة بدرجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب والتنسيق الذي يؤدّي إلى استقرار الحياة عن طريق الصدفة احتمالاً واحداً في مقابل ما لا يحصى من الاحتمالات، وبالغاً في الضئالة ما لا يقبل الانحفاظ في الوجدان البشري. وهنا نشير إلى أقلّ القليل منها:
1 ـ تبتعد الأرض عن الشمس 93 مليون ميل فتكون الحرارة التي تصلها من الشمس بمقدار يلائم الحياة ومتطلّباتها، فقد لوحظ علمياً أنّ المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس لو كانت ضِعف ما عليها الآن لما وجدت الحرارة بالمقدار الذي يتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى درجة لا تطيقها الحياة.
2 ـ "يحيط بالأرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمّى بالغلاف الجوّي يبلغ سمكه ثمان مئة كيلومتر، وهو بمنزلة مظلّة واقية تصون الكرة الأرضية من التعرّض لخطر النيازك التي تنفصل يومياً من الكواكب وتتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليوناً من السنين، ولولا هذا الغلاف لسقطت على كلّ بقعة من الأرض ملايين النيازك المحرقة".
"نلاحظ أنّ الهواء كمّيّة محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكميّة بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض، فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلّت لتعذّرت الحياة أو تعسّرت; فإنّ زيادتها تعني ازدياد ضغط الهواء على الإنسان الذي قد يصل إلى ما لا يطاق، وقلّتها تعني فسح المجال للشهب التي تتراءى في كلّ يوم لإهلاك من على الأرض واختراقها بسهولة".(1/134)
3 ـ إنّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتّى منها: النيتروجين 78%، والاُوكسجين 21%، فلو تغيّر المقدار وصارت نسبة الاُوكسجين في الهواء 50% لتبدّلت جميع الموادّ القابلة للاشتعال إلى موادّ محرقة، ولبلغ الأمر إلى درجة لو أصابت شرارةٌ غابةً لاحترقت جميع ما فيها دون أن تترك غصناً يابساً، ولو تضاءلت نسبة الاُوكسجين في الهواء لتعذّرت الحياة أو صعبت ولما توفّرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهمّاتها، ولولا أنّ الأرض تحتجز قسماً كبيراً من الاُوكسجين على شكل مركبات لكانت نسبة الاُوكسجين في الهواء أكثر بكثير مما هو الآن، ولكن قشرة الأرض والمحيطات تحتجز ـ على شكل مركبات ـ الجزء الأعظم من الاُوكسجين حتى إنّه يكوّن ثمانية من عشرة من جميع المياه في العالم، ويبقى جزء محدود من الاُوكسجين طليقاً يساهم في تكوين الهواء، وهذا الجزء يحقّق شرطاً ضرورياً من شروط الحياة عن طريق التنفّس.(1/135)
4 ـ هناك تبادل طريف بين الحيوانات بما فيها الإنسان من ناحية، والنباتات من ناحية اُخرى في مساعدة كلّ منهما على حياة الآخر، فلولا الأوّل لانعدم الثاني ولولا الثاني لانعدم الأوّل. وتوضيح ذلك: أنّ النباتات بحاجة إلى التنفّس بثاني اُوكسيد الكربون، والحيوانات بحاجة إلى التنفّس بالاُوكسجين، والحيوان عموماً حينما يتنفّس الهواء ويستنشق الاُوكسجين يتلقّاه الدم ويوزّع في جميع أرجاء الجسم، ويباشر هذا الاُوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني اُوكسيد الكربون الذي يتسلّل إلى الرئتين ثم يلفظه الإنسان أو الحيوان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار والذي يكون شرطاً ضرورياً لحياة كلّ نبات. والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني اُوكسيد كربون يحلّله إلى كربون واُوكسجين، ويحتفظ النبات بالكربون ليصنع منه ومن غيره من الموادّ الفواكه والأثمار والأزهار، ويلفظ الاُوكسجين ليعود نقيّاً صالحاً لاستنشاق الإنسان والحيوان من جديد، ولولا الحيوان بمعناه العامّ لنفدت المواد الكربونية باستنشاق النباتات، ولولا النبات لنفد الاُوكسجين باستنشاق الحيوانات، ومعنى ذلك انقراض كلا النسلين في وقت سريع. فسبحان من راعى هذه الموازنة واحتفظ بها
5 ـ لو كانت الأرض أكثر سمكاً ممّا هي الآن لامتصّت الاُوكسجين وثاني اُوكسيد الكربون أكثر ممّا عليه، ولهلك النبات والحيوان والإنسان، ولو كانت الأرض أقلّ سمكاً ممّا هي الآن لفاض الاُوكسجين أو ثاني اُوكسيد الكربون وأدّى ذلك إلى أضرار زيادتهما.(1/136)
6 ـ ظاهرة الزوجية على العموم والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لاُنثاه في الإنسان، وأقسام الحيوانات والنبات هي الاُخرى مظهر كونيّ للتوافق بين الطبيعة ومهمّة تيسير الحياة. وقبل أن يكشف العلم النقاب عن شمول ظاهرة الزوجية لغير الحيوانات كشف القرآن النقاب عن ذلك فقال: (وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)(1)، وقال: (وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْن)(2). والتلقيح بين الزوجين قد يتمّ بصورة إرادية أو غريزية كما في الإنسان والحيوان، وكان هذا أمراً محسوساً منذ اليوم الأوّل، وقد يتمّ عن طريق الرياح، وهذا ما كشف عنه القرآن قبل أن يصل العلم إليه على ما يظهر لنا من قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح)(3)، وقد يتمّ عن طريق الحشرات، وقد لوحظ أنّ الأزهار التي ترك تلقيحها للحشرات قد زوّدت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح، بينما لا تتميز الأزهار التي يحمل الهواء لقاحها عادة بعناصر الإغراء.
ولو قصرنا النظر على ظاهرة الزوجية التي يفهمها كلّ أحد في الإنسان والحيوان، وافترضنا عدم كشف العلم عن هذه الظاهرة في النباتات أو في أيّ شيء آخر لكفت نفس تلك الظاهرة بمقدارها الذي يدركه كلّ أحد آيةً لحكمة الله تعالى.
2 ـ جهاز الإبصار:
__________
(1) الذاريات 49
(2) الرعد 3
(3) الحجر 22(1/137)
يشبّه جهاز الإبصار في الإنسان عادة بجهاز التصوير المادّي الصناعي، في حين أنّ جهاز التصوير في العالم لو قيس بجهاز الإبصار كان بمنزلة أداة لعب من ألعاب الأطفال في مقابل جهاز حقيقي. وجهاز التصوير يشتمل على عدسة ثابتة لابدّ لتصوير الظواهر المختلفة من تحريكها من قبل المصوّر بدقّة كاملة في إتقان هذا التحريك وتطبيقه على حالة تلك الظواهر، ولكن عدسة العين الواقعة خلف عين الإنسان تتحرّك بذاتها وتتغيّر تبعاً لما يناسب وضع الظاهرة التي اُريد إبصارها; لأنّها عضو حيّ ويصغر قطرها لحدّ واحد ونصف ميليمتر ويتّسع لحدّ ثمانية ميليمترات لقرب أو بعد الظاهرة التي اُريد إبصارها، وهذه العدسة تعكس النور على شبكة مؤلّفة من سبع طبقات منفصلة عن بعضها، ولا يبلغ سمك مجموعها ما يزيد على ورقة رقيقة، وتلك الطبقات هي المعروفة بالصلبية ـ وهي بياض العين ـ والعنبيّة والمشيميّة والجلديّة والزلاليّة والزجاجيّة والشبكيّة، ولكلّ واحدة منها بناؤها المتقن الدقيق، وأقل إخلال في أيّ واحدة منها يفسد الإبصار. وآخر طبقات هذه الشبكة تتكوّن من ثلاثين مليوناً من الأعواد وثلاثة ملايين من المخروطات، وقد نظّمت هذه الأعواد والمخروطات تنظيماً محكماً رائعاً إلاّ أنّ الأشعّة الضوئية ترتسم عليها بصورة معكوسة، فزوّد جهاز الإبصار وراء تلك الشبكة بملايين من خويطات الأعصاب، وعندها تحدث بعض التغييرات التي يتدارك بها ما أشرنا إليه من انعكاس الصورة بشكل مقلوب، وأخيراً يتمّ إدراك الصورة بوضعها الصحيح. وهذا جزءٌ من كلّ في مقام توضيح عمليّة الإبصار، فهل يكون هذا الجهاز الجبّار الذي يضمن عملية الإبصار بأفضل وجه من فعل المادّة على غير هدى وقصد مع أنّ مجرد كشفه يحتاج إلى جهود فكريّة جبّارة.
3 ـ الخليّة.
قد كشف العلم الحديث النقاب عن الخليّة، وعن تكوّن جسم الإنسان في المعدّل المتوسّط من عشرة ملايين مليار خليّة حيّة.(1/138)
وأوّل من كشف الخليّة هو عالم يسمّى هوك في القرن السابع عشر الميلادي، ولم يكن يعرف وقتئذ أنّ الخليّة التي اكتشفها تحتوي الواحدة منها على نظام ملتو معقّد محيّر للعقول، والعلماء الذين جاءوا بعده وحذوا حذوه في كشف أسرار الجسم عرفوا أنّ كلّ خليّة لا ترى بغير المجهر ممكن تشبيهها ببلد يحتوي على آلاف المعامل والتأسيسات لتبديل الموادّ الغذائية إلى الموادّ التي يحتاجها الجسم، ولا يمكن أن يقاس أعظم وأحدث المصانع البشرية بهذا المصنع. وهذا البلد الصغير حجماً، العظيم نظماً ـ الخليّة ـ مؤلّف من ثلاثة أقسام:
الأوّل: القشر وهو بمنزلة جدار البلد.
الثاني: مادّة بيضاء داخل الخليّة.
الثالث: نواتها(1) التي تنظّم كلّ أوضاع الخليّة.
وقشر الخليّة يبلغ من الدقّة والرقّة ما لو ضوعف حجمه خمس مئة ألف مرّة لا يزيد حجمه عن ورقة اعتيادية، وهذه القشرة الرقيقة الدقيقة تقاوم هجوم العوامل الخارجية المزاحمة وكأنّها أحكم من جدار برلين. وهذا السدّ الخفيف مؤلّف من ثلاثة جدران، أو قل: من قشور ثلاثة، ففي كلّ من طرفيه شبكة من البروتين، وما تحتها مملوء بمادّة دهنية تمنع عن ورود أيّ وارد إلى هذا البلد إلاّ الذي يحمل كلمة السّر، وهي أن يقدر ذاك الوارد على تذويب تلك المادّة فذلك آية أنّه صديق وليس عدوّا فيسمح له بالدخول. وفي داخل هذا البلد قنوات تبدأ من الجدار وتنتهي إلى أطراف النواة، تجري فيها الموادّ الغذائية وتتحوّل إلى بروتينات، ويدخل في هذه القنوات ثلاثة وعشرون نوعاً من الأسيد ويتحصّل البروتين من تركيب عدد من تلك الأنواع.
__________
(1) نواة الخلية هي إحدى أهم أعضاء الخلية الحيوانية حقيقية النوى و لا تتواجد في كاذبات النوى. تقوم نوى الخلايا بتنظيم التفاعلات الكيميائية الحيوية في الخلية كما تقوم بحفظ المعلومات الوراثية ضمن مورثات موجودة في المادة الصبغية (الكروموسومات).(1/139)
أمّا النواة المركزية لهذه الخليّة فهي مؤلّفة من طبقات لو قيست إليها ناطحات السحاب في العالم المكوّنة من آلاف الطبقات لعدّت تلك القصور بيوتاً محقّرة. وتلك النواة مؤلّفة من غشاء وماء وخيوط دقيقة لكلّ واحد منها تكليف معيّن يقوم به. وهذه النواة مشتملة على جينات تصل في عددها إلى خمسة وعشرين ألفاً، وهي المسيطرة على أعمال الخليّة وعلى أعمال البدن أجمع، ومنها تنقل الصفات الوراثية إلى النسل. وكلّ واحد من هذه الجينات مؤلّف من ثلاثين ألفاً إلى خمسين ألف طبقة،.
4 ـ اللسان:
من الوظائف المحيّرة للسان ما يلي:
1 ـ إرسال الغذاء تحت الأسنان; ولولا ذلك لكان بعض أجزاء اللقمة منفلتاً عن مضغ الأسنان، ولكنّا بحاجة إلى تحريك أجزاء اللقمة في الفم بواسطة الإصبع كي تصل تحت الأسنان، ولكن اللسان يتكفّل هذه المهمّة بمهارة كاملة من دون أن يقع هو تحت ضربات الأسنان، وقد يتفق نادراً بسبب غفلة الإنسان أن يقع اللسان تحت الأسنان وينجرح بضغط الأسنان، ولعل الله يريد بذلك أن تتضح لنا عظمة مهارة اللسان التي لولاها لاستفحلت مصيبة اللسان تحت ضغط الأسنان.
2 ـ خلط اللقمة ببزاق الفم المؤثّر في سهولة بلع الغذاء من ناحية، والمولّد لفعل كيماويّ مساعد على الهضم من ناحية اُخرى.
3 ـ الاستعانة به في بلع الغذاء بل والماء، ولولا اللسان لتعسّر أو تعذّر بلع لقمة واحدة.
4 ـ تذوّق الطعام لتشخيص كثير من الأغذية الفاسدة أو المضرّة كي يمتنع الإنسان عن أكلها.
5 ـ تنظيف الفم بعد الانتهاء من الأكل.
6 ـ التكلّم، وهو يتمّ بالتعاون بين المخّ والشفة واللسان والحنجرة(1).
__________
(1) راجع Pinker Words and Rules, Basic Books, 1999, s. 1 s - "Eve spoke : Human Language and Human Evolution, P. Lieberman, w. w. norton & company, 1998, s. 126-128(1/140)
فالفكر يختار أوّلاً من بين مئات الآلاف أو الأكثر من الكلمات أوّل كلمة يريد الشخص أن يلفظها، فيأمر اللسان أن يتحرّك بكلّ سرعة ودقّة على مخارج حروف تلك الكلمة، ثم يختار بالسرعة نفسها الكلمة الثانية ويعيد العملية بواسطة اللسان، وهكذا إلى أن تنتهي الجملة المقصودة وبمعونة الشفة والحنجرة وأوتار الصوت، وحينما يقع صدفة أقلّ خطأ للفكر في اختيار الكلمات أو اللسان في طريقة التحرك تخرج الجملة ملحونة.
5 ـ المخّ(1):
لا نستطيع أن نتحدّث عن عظمة المخّ وعن أقسامه المرتبطة بالفكر والإدراك والذاكرة والإرادة والعواطف، ثم سيطرته الكاملة على أعصاب البدن كافّة بوظائفها الخاصة حتى إنّ الخلل في بعض أجزائه يتنتج عنه الشلل في قسم من الأعصاب.
ولكنّنا نكتفي بالقول بأنّ مِن أبدع ما صنعه البشر، وكان صنعه هذا بواسطة مخّه الجبّار الذي آتاه الله إياه، هو ما يسمّى بالعقل الالكتروني والذي يفترض عملاً جبّاراً وهو يفقد الإرادة والعواطف وإدارة الأعصاب، كما أنّه ليس له الإدراك ولا الذاكرة إلاّ ما يكون شبيهاً بهذا أو بذاك ممّا يكون مؤشِّراً إعدادياً لإدراك الناس أو تذكّرهم للاُمور بمخّهم الذي أكرمهم الله تعالى به.
__________
(1) راجع مجلة "العلوم" (1994) - الترجمة العربية لمجلة Scientific American عدد خاص (العقل والدماغ) المجلد 10، العدد 5 (مايو) مؤسسة الكويت للتقدم العلمى . كذلك تمبل.ك.(2002) المخ البشرى.مدخل إلى دراسة السيكولوجيا والسلوك. ترجمة أحمد.ع. العدد 287( نوفمبر). عالم المعرفة. المجلس الوطنى للثقافة والفنون. الكويت.(1/141)
وقد روي عن مصمّم العقل الالكتروني كلودم هزاوي قوله: "طُلب منّي قبل عدّة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائيّة تستطيع أن تحلّ الفرضيات والمعادلات المعقّدة ذات البعدين، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الالكتروميكانيكيّة، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو العقل الالكتروني، وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل وتحمّل شتّى المصاعب، وأنا أسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليّ أن أتقبّل هذه الفكرة وهي: أنّ الجهاز هذا يمكن أن يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمّم فلئن كان العقل الالكتروني الذي ليس في مقابل المخّ إلاّ كجهاز من أجهزة لعب الأطفال لا يمكن أن يوجد من تلقاء نفسه فما رأيك في المخّ الذي أبدعه الله تعالى بهذا الإبداع الرائع؟
التوحيد
يعتبر التوحيد عند المسلمين أصل معرفة الله و أساسها و أول خطوة في طريق عبادته ، و الهدف الأول في دعوة الأنبياء , أما المقصود من التوحيد لديهم فهو معرفة أن الله سبحانه و تعالى واحد في الربوبية و لا شريك له في العبودية ، و هو واحد أحد ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل و لا يزال ، و هو الأول و الآخر ، عليم حكيم عادل حي قادر غني سميع بصير و لا يوصف بما توصف به المخلوقات ، فليس هو بجسم و لا صورة ، و ليس جوهرا و لا عرضا ، و ليس له ثقل أو خفة و لا حركة أو سكون و لا مكان و لا زمان ، و لا يشار إليه ، و لا ندّ له و لا شبه و لا ضد ، و لا صاحبة له و لا ولد ، و لم يكن له كفوا أحد ، لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار.
و يلزم توحيد الله سبحانه و تعالى من جميع الجهات وإن أختلفت المسميات عند بعض الفرق الإسلامية إلا أن في النهاية ما تطرق له أغلب المسلمين هو توحيد الله تعالى من الجهات التالية جميعها :
أولاً : التوحيد في الذات(1) .
ومعنى هذا التوحيد على الإجمال أنّه في ذاته واحد لا شبيه له ولا نظير.(2)
__________
(1) راجع روح الدين الإسلامي ص 93
(2) اصول الدين ص 87(1/142)
ثانياً: التوحيد في الصفات(1).
ومعناه على الإجمال أنّ صفات ذاته عين ذاته لا ثنائيّة بينها وبين ذاته ولا في ما بين نفس الصفات.
ثالثاً: التوحيد في العبادة(2) ( أو الربوبية ).
ومعناه على الإجمال أنّه لا تجوز عبادة أحد سواه
رابعاً: التوحيد في الأفعال(3) .
ومعناه على الإجمال أنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، أي الإعتقاد بأن الله وحده هو الخالق البارئ المصور المالك المدبر المحيي المميت(4) , وهذا لا ينافي ترتّب الأسباب على المسببات كالإحراق على النار، أو القتل على السيف، أو الزرع على البذر والمطر، أو ما إلى ذلك، كما لا ينافي اختيارية الإنسان. ويذكر للتوحيد في الأفعال أغصان كثيرة لعلّ أهمّها ما يلي:
الأوّل: التوحيد في الخلق، قال الله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين)(5)..
الثاني: التوحيد في الربوبيّة، قال الله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْء)(6).
أدلة التوحيد
الأدلة على التوحيد الذاتي
نحن نتعرّض هنا لثلاثة أدلّة: دليل فلسفي، ودليل علمي :
الدليل الفلسفي:
__________
(1) روح الدين الإسلامي ص 93
(2) المصدر السابق
(3) المصدر السابق ص 94
(4) كتاب دراسات في الثقافة الإسلامية والفكر المعاصر – محمود عبدالحميد الأحمد ص 40
(5) الأعراف، الآية: 54.
(6) الأنعام، الآية: 164(1/143)
مضى في ما سبق الدليل الخامس من أدلّة وجود الله سبحانه وتعالى ـ وهو برهان الصدّيقين ـ وحاصله: أنّنا لا نتصوّر شيئاً بعد افتراض كون الماهيّات أعداماً وحدوداً للوجودات إلاّ الوجود المستقل، والوجود التبعي، والعدم، ولا يتصوّر وجود تبعي إلاّ تبعاً للوجود الذاتي; لأنّ الوجود التبعي عين الربط، والوجود المستقل هو عين الوجود بذاته لا يدخله العدم ويكون واجب الوجود، ومضى أنّ الوجود المستقل والذاتي يطرد لا محالة كلّ حدّ من الحدود; لأنّ الحدود إنّما تكون بلحاظ ما يقابل الوجود من العدم.
وهذا كما ترى ينتهي بالضرورة إلى طرد الشريك واستحالة تعدّد واجب الوجود; إذ لو تعدّد لشكّل كلّ واحد منهما حدّاً للآخر; لأنّ أحدهما يجب أن ينتهي منذ أن يبدأ الآخر، نعم الوجود التبعي ـ وهم المخلوقات ـ لا يشكّل حدّاً لوجود الخالق; لأنّ وجود الخالق وجود ذاتي وعيني ومستقل، وهو يختلف سنخاً عن الوجود التبعي، فانتفاء الوجود التبعي المخلوق لايحقّق امتداداً لوجود الخالق; إذ لو كان يحقق نفي الوجود التبعي امتداداً لوجود الخالق لكان هذا الامتداد وجوداً تبعيّاً، وهذا خلفٌ، فكذلك ثبوت الوجود التبعي لا يحقّق حدّاً لوجود الخالق; وعليه فالتوحيد الذاتي ـ بمعنى نفي تعدّد واجب الوجود ـ يكون من لوازم وجوب الوجود وذاتيّته واستقلاله.
فإن مشينا على هذا الاصطلاح فما ذكرناه من البرهان يتكفّل بإثبات التوحيد: أمّا الأوّل فقد أوضحناه، وأمّا الثاني فلأنّ الوجود المستقل الذي لا حدّ له ولا ماهيّة بل هو صرف الوجود لا يعقل له جزء، وإلاّ لتمّ برهان الإطلاق على كل جزء منه فلم يبق مجال للجزء الآخر، وهو خلف.
الدليل العلمي:
ونذكر فيما يلي عدّة تقارير للدليل العلمي على التوحيد الذاتي:
التقرير الأوّل:(1/144)
إنّ مراجعة كتاب ما بالدقّة تكشف لنا عن أنّ مؤلّفه واحد أو متعدّد، فوحدة الاُسلوب والطريقة والتناغم الكامل بين مطالب الكتاب وإعمال الفهم الواحد والذوق الواحد والمنهج الواحد دليل على وحدة المؤلّف; لأنّ الأذواق مختلفة والسلائق متباينة والمباني والأفهام متعدّدة، فكذلك التنسيق والترابط والتناغم الوثيق بين أجزاء عالم الوجود ـ من الأرض والسماء والشمس والقمر والنبات والأنهار والمخلوقات والمجرّات وغير ذلك مما جعل كلّ عالم الوجود وحدة متكاملة متناسقة ـ دليل على وحدة الله تبارك وتعالى، وليس الترابط والتنسيق في أجزاء منظومتنا الشمسيّة فحسب، ولا في مفردات مجرّتنا فحسب، بل في ما بين المجرّات أيضاً، فكلّ هذه الاُمور مجموعة متوحّدة يحكمها نظام الجذب والدفع اللذين جعلا كلّ شيء في محلّه لا يندكّ بعضها ببعض ولا يتناثر بعضها عن بعض.
والنظام الحاكم على المنظومة الشمسيّة هو بعينه النظام الحاكم على كلّ ذرّة، فجزَيئاتها تدور حول نواتها بنفس الجذب والدفع اللذين يجعلان كوكبنا يدور حول الشمس والتماثل والتناسق الحاكمان على العالم جعل العلماء قادرين على الوصول إلى قوانين عامّة عالميّة باختبار ضئيل مختصر، يجرى على جزء يسير في قطعة صغيرة من العالم، كما كشف نيوتن قانون الجاذبيّة للعالم أجمع بسقوط تفّاحة من شجرة على الأرض. ولو زاد سمك الهواء أو نقص لاختلّ النظام، ولو قربت الشمس أو بعدت عن الأرض لهلكنا، وقد مضى منّا بحث في أدلّة وجود الله في شرح الحكمة المسيطرة على العالم ما ينفع كثيراً هنا.
قد تقول: لعلّ هذا الترابط والتناسق والنظم الحكيم نتيجة الكمال المطلق لكلّ واحد من الآلهة المتعدّدة ممّا جعلهم يسلكون جميعاً مسلكاً حكيماً واحداً في خلق العالم وإدارته.(1/145)
ولكنّا نقول: إنّ الكمال المطلق يعني نفي الحدّ عن الوجود على الإطلاق، وهذا يؤدّي بنا إلى الرجوع إلى ما مضى من البرهان الفلسفي على وحدانية الله، ومفروضنا في الوقت الحاضر التنازل عن ذلك، وهو مساوق للتنازل عن الكمال المطلق.
وقد تقول: إنّ هؤلاء الآلهة المتعدّدين وغير الكاملين توافقوا بتفاهم مسبق في ما بينهم على طريقة معيّنة في الخلق والتدبير سنخ توافق عدد أعضاء هيئة معيّنة على طريقة إيجاد شركة معيّنة وإدارتها.
ولكنك ترى دائماً شيئاً من الفطور والخلل ولو يسيراً في المؤسّسات المدارة من قبل هيئة لا تجده في ما يرأسها شخص واحد، بالرغم من أنّ نسبة تلك الشركة أو المؤسّسة إلى العالم أضأل من نسبة القطرة إلى البحر.
التقرير الثاني:(1/146)
نحن إذا غضضنا النظر عن البرهان الفلسفي، أي عن برهان الصدّيقين، في ما انتهى إليه: من أنّ الوجود المستقل بما أنّه كامل مطلق فلا يقبل التعدّد، بأن افترضنا تعقل تعدّد الوجود المستقل، ولكن لم نغضّ النظر عن أنّ ما عدا الوجود المستقل وهو المخلوق وجود ربطيّ، لا محالة كانت نتيجة ذلك: هي أنّ فرض إسناد هذا العالم إلى إلهين يعني كونه وجوداً ربطياً لهذا ولذاك في وقت واحد، وهذا يعني تصرّف أحدهما في حيطة السلطان الذاتي للآخر، وليس كتصرّف شريكين في مال الشركة المستقل في الوجود عنهما كي يتعقّل توافق مسبق لهما على ذلك، بل يكون التصادم هنا واقعاً لا محالة، ولو فرض أنّ هذا العالم الذي شرحنا في التقرير الأوّل وحدته وتماسكه وترابطه كان نصفه مثلاً وجوداً ربطيّاً لهذا، والنصف الآخر وجوداً ربطيّاً لذاك، لأدّى ذلك إلى الانصداع الذاتي بين النصفين; لما قلنا من أنّه ليس العالم وجوداً مستقلاً يفترض توافق الإلهين على صنعهما أو إدارتهما كتوافق شخصين على بناء دار أو التصرف في الدار، بل هو عين الربط بهما: (إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون)(1)، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون)(2).
وعلى هذا الأساس صحّ أن يقال: إن كانا قويين تدافعا وفسد العالم، وإن كان أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً استفرد القويّ بالاُلوهيّة، وإن كانا ضعيفين عاجزين لم يكن أحد منهما إلهاً، ولا يبقى هنا مجال لفرض كون الحكمة والحنكة المطلقة أو الكمال المطلق هو الذي أوجب عدم الانصداع والفساد; لأنّ المسألة لم تكن مسألة جهل الشركاء.
التقرير الثالث:
__________
(1) المؤمنون، الآية: 91.
(2) الأنبياء، الآية: 22.(1/147)
إنّ أحد الإلهين قد أكثر من إرسال الرسل وإنزال الكتب ونسبة جميع آيات الآفاق والأنفس إلى نفسه، فما بال الآخر ـ الذي هو شريكه في الخلق والتدبير ـ ساكت عن ذلك سكوت من يقتنع بفعل صاحبه أو يهمل خلقه؟
ولا يخفى أنّ هدفنا من الدليل العلمي كان أيضاً إثبات التوحيد الذاتي، وإن اختلف عن الدليل الفلسفي الذي أوردناه في أنّ الأوّل كان منصباً ابتداء على التوحيد الذاتي، ولكن هذا الدليل العلمي أثبت التوحيد الذاتي عن طريق التوحيد في الخلق أو التدبير.
التقرير الرابع:
إنّ الدليل العلمي على التوحيد بالتقارير الثلاثة التي ذكرناها إنّما يثبت التوحيد بلحاظ العالم الذي نحن فيه، ولا ينفي افتراض إله آخر لعالم آخر يفرض مستقلاً عن هذا العالم تماماً، بخلاف الدليل الفلسفي الذي يثبت التوحيد حتى في مقابل مثل هذا الاحتمال.
إلاّ أنّه قد يقرّر ما أسميناه بالدليل العلمي بتقرير رابع يقترب أكثر إلى البيان الفلسفي، فيثبت أيضاً التوحيد حتى في مقابل مثل هذا الاحتمال، وذلك كأن يؤخذ أوّلاً من الفلسفة استحالة تركّب واجب الوجود من عدد من الأجزاء; للزوم حاجة كلّ جزء إلى الآخر، وهو مستحيل في واجب الوجود أو في الوجود المستقل، أو قل: للزوم حاجة الكلّ إلى أجزائه مثلاً، ثم يقال: إنّ الإلهين إمّا أن يتماثلا من كلّ الجهات فلا يميّز أحدهما عن الآخر فلا يتمّ التعدّد، أو يتماثلا في بعض الجهات ويتباينا في بعض فيلزم التركّب وهو محال حسب الفرض، أو يتباينا كلّياً فيتناقضان في الأثر فيفسد بذلك العالم وبذلك قد يفسّر قوله تعالى: (لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض)، وقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا). وبناءً على هذا التقرير أيضاً لا يبقى موضوع لطرح إشكال: أنّ الحكمة والكمال منعا عن الفساد والانصداع، أو إشكال: أنّ التوافق المسبق منع عن ذلك كما في مشتركين متعددين على مؤسّسة واحدة.
الدليل على التوحيد في الصفات(1/148)
المقصود بالصفات هو صفات الذات، كالعلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك، وليست صفات الفعل كالخلق والرزق(1).
فصفات الذات عين الذات ولا تغاير بينها وبين الذات ولا فيما بين أنفسها.
وهذا يثبت بنفس الدليل الفلسفي الذي أثبت التوحيد، فإن شئت فتكلّم بلغة دليل الواحديّة، أي: أنّه واحد لا مثيل له، وإن شئت فتكلّم بلغة دليل الأحديّة، أي: أنّه أحد بسيط لا جزء له.
فتقول بلغة الواحديّة: إنّ صفات الذات لو تغايرت مع الذات أو تغاير بعضها مع بعض لتعدّد الوجود المستقل، وقد مضى إثبات أنّ الوجود المستقل لا يعقل تعدّده.
وتقول بلغة الأحديّة: إنّ تصوير صفات الذات مع حفظ تغاير بينها وبين الذات أو حفظ تغاير في ما بينها يؤدّي إلى التركيب، وقد مضى توضيح استحالته في الوجوب المستقل، أو قل: في واجب الوجود.
الدليل على التوحيد في العبادة
العبادة والتي هي كمال الخضوع لا ينبغي أن تكون للإنسان الحرّ إلاّ بأحد ملاكات ثلاثة:
1 ـ الاحتياج الحقيقي إلى المعبود.
2 ـ والأشرف من ذلك أن تكون العبادة بملاك المالكيّة الحقيقيّة للمعبود.
3 ـ والأشرف منهما أن تكون بملاك الكمال المطلق للمعبود.
وكلّ هذه الملاكات الثلاثة منحصرة في الله سبحانه وتعالى، فإنّ المخلوقين هم المحتاجون، والغنيّ الحقيقي المطلق هو الخالق، وهل يرحم المخلوق إلاّ الخالق؟ وكذلك الملكية الحقيقيّة بمعنى الواجديّة الحقيقيّة لله سبحانه المالك لجميع ما خلق، وكذلك من هو أهل للعبادة لأنّه الكمال المطلق إنّما هو واجب الوجود سبحانه وتعالى.
والنصوص المحرّمة في الكتاب والسنّة لعبادة غير الله لعلّها فوق حدّ الإحصاء.
الدليل على التوحيد في الطاعة
__________
(1) أصول الدين .(1/149)
ونعطف على التوحيد في العبادة التوحيد في الطاعة، فإنّ كلامنا فيه مشابه لكلامنا في توحيد العبادة، فإنّ حكم العقل بمولويته سبحانه وتعالى وطاعته لا يكون إلاّ لأحد سببين: إمّا لكونه هو المنعم الحقيقي الذي منه نعمة الوجود أوّلاً ثم النعم المتفرّعة على الوجود التي إن تعدّوها لا تحصوها فيجب شكره بطاعته; وإمّا لكونه مالكاً حقيقيّاً لنا وللعالم بخلقه إيّانا وخلقه للعالم على الخصوص بناءً على ما مضى في برهان الصدّيقين على وجود الله: من أنّ ما سواه ليس إلاّ ربطاً وإشعاعاً وتجلّياً، وأنّ الوجود المستقل لا يوجد إلاّ له سبحانه وتعالى، فهو الموجد والواجد لا غيره، وتجب على المملوك إطاعة المالك.
وكلا هذين السببين لوجوب الطاعة مخصوص بالله عزّ وجلّ:
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)(1)، (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين)(2).
الدليل على التوحيد في الأفعال
التوحيد في الأفعال بمعنى أنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، وعمدة النقض الذي يورد على ذلك عبارة عن أفعال الإنسان بناءً على كونه فاعلاً مختاراً، ومن هنا قد يتورّط من يتورّط في الجبر بتخيّل أنّ هذا هو الذي يؤدّي إلى التنزيه من الشرك غفلة عن أنّ الجبر يؤدّي إلى توصيف الله تعالى بالظلم; لأنّ العقاب على ما ليس بالاختيار ظلم وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
والجمع بين اختيار الإنسان والتوحيد في الأفعال يذكر بأحد وجهين:
الوجه الأوّل:
__________
(1) لقمان، الآية: 20.
(2) الأعراف، الآية: 54.(1/150)
هو الوجه العامّ ـ أي القريب من ذهن العموم ـ وهو أنّه على الرغم من اختيارية الإنسان في الأفعال تكون الوسائل التي بها يحقق العبد الفعل من الأعضاء والجوارح والوسائط الماديّة التي قد يحتاجها لتحقيق ذاك الفعل والحياة والقدرة والشعور وما إلى ذلك، كلّها من الله تعالى وبفيض دائم منه، ولو انقطعت إحدى هذه الفيوضات آناًما لما أمكن للعبد إيجاد ذاك الفعل، إذن فالتأثير الحقيقي كان من الله سبحانه وتعالى بالرغم من اختيار العبد.
والوجه الثاني:
هو الوجه الفلسفيّ الخاص، وهو أنّه بعد أن كان وجود العبد مجرّد وجود ربطيّ; إذ لا وجود له بغضّ النظر عن هذا الربط، فجميع أفعاله لا يعقل أن يفترض لها وجود استقلالي، وإلاّ لكان فعل الإنسان أعلى مرتبة في الوجود من نفس الإنسان، وإذن كلّ أفعاله توجد بوجود ربطي، وتكون مرتبطة بالوجود المستقل وإشعاعاً من إشعاعات الوجود المستقل.
النبوة
النبوة لغة: النبوة و النباوة الارتفاع ، أو المكان المرتفع من الأرض(1).
و"النبى": العلم من أعلام الأرض التى يهتدى بها، ومنه اشتقاق "النبى" لأنه أرفع خلق الله ، وذلك لأنه يهتدى به. النبأ: الخبر، يقال: نَبِأ، ونَبأ وأنباء: أخبر، ومنه: النبى ، لأنه أنبأ عن الله. "النبوءة" و"النبوة": الإخبار عن الغيب ، أو المستقبل بالإلهام ، أو الوحى.
المبحث الأول
علة بعثة الأنبياء
__________
(1) لسان العرب ابن منظور(1/151)
يدور الأمر بالنسبة للإنسان ـ ويلحق به الجنّ ـ بين: أن يهمله الله تعالى ولا يهتم بتكميله، وحاشاه سبحانه وتعالى عن إهماله لأشرف مخلوقيه، أو يدبّر أمره عن طريق الجبر أو الغريزة، وهما ينافيان الهدف الذي لأجله ركّبت الإرادة والشهوات والعقل في الإنسان، وهو فتح باب رقيّه لمدارج الكمال ونيله لاستحقاق الجزاء الأوفى، أو يرسل الرسل إليه; لأنّ عقل البشر وحده عاجز عن ارتقاء تلك الدرجات; لعدم إدراكه لكثير من الاُمور من ناحية، ولمغلوبيّة العقل للشهوات في ما يدرك إلاّ بمعونة الشرع وبالوعد والوعيد والإرشاد من ناحية اُخرى، ولو أنّ الله تعالى أهمل الناس بعدم إرسال الرسل إليهم فسيضلّون عن سلوك طريق الكمال، وفي الوقت نفسه لا يكون لله عليهم الحجّة، ولم يكن من الصحيح أن يفرّق الله بين سعيدهم وشقيّهم في يوم القيامة بالثواب والعقاب; لعدم إتمام الحجّة عليهم، بل كانت لهم الحجّة على الله كما أشارت إلى هذا الأمر الآيات التي استهللنا البحث بها كقوله تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل).
ومع هذا الهدف الأصلي لإرسال الرسل يوجد هدفان آخران:
الأول : إقامة العدل في العالم، وهذا هدف في ذاته من ناحية، ومقدمة لرقيّ مدارج الكمال من ناحية اُخرى وإقامة العدل في العالم لا يمكن إلاّ بالتوفيق بين المصالح الفرديّة والمصالح الاجتماعيّة، فإنّ الإنسان بطبيعته ميّال عادة إلى مصالحه الفرديّة وهي ـ في إطار المادّيات الدنيويّة وبقدر فهم الإنسان الاعتيادي ـ في تعارض شديد مع المصالح الاجتماعيّة، وهذا التوفيق هو الذي يحقّقه الأنبياء عن طريق فتح باب الالتذاذ بالقيم الخلقيّة من ناحية، وتوضيح مصالح عالم الآخرة للناس من ناحية اُخرى.(1/152)
والهدف الثاني: إسعاد الحياة الدنيا المادّية ورفاهيّتها; إذ ليس الدين ينشد إسعاد الحياة الآخرة فحسب، ولا ترقية الإنسان مراقي الكمال فحسب، بل يهدف إلى تحقيق الرفاهيّة المادّية في الحياة الدنيا أيضاً.
الخلاصة:
أنّ الناس لو اتّبعوا الرسول لأصبحوا سادة الدنيا والآخرة، وإلاّ فلا يكون الأمر أفضل ممّا ترى اليوم من نشوب الحروب وألوان الظلم والجور والاستهتار بالقيم الإنسانيّة والخلقيّة، وتفشّي ألوان البؤس والشقاء والحرمان، والسبب كلّه يعود إلى ما أشرنا إليه من ضعف عقل البشريّة من ناحية، وغلبة الشهوات والأهواء عليه من ناحية اُخرى، فالسيادة والملوكيّة الحقيقيتان في الدنيا والآخرة مرتبطتان باتّباع رسالة السماء.
المبحث الثاني
لماذا يؤمن المسلمون بالرسول وبالقرآن
بعد أن ذكرنا الأسباب التي دعت المسلمين للإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له وبأنه موجود كذلك كان للمسلمين أسبابهم التي دعتهم للإيمان بالرسول وإعتناق الدين الإسلامي ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أولاً : معجزات النبي (ص).
المعجزة باللغة هي : الأمر الخارق للعادة(1) . ويتخطى كل القوانين الطبيعية في هذا الكون . و الإعجاز أعمّ الأدلة وأشملها لفهم الناس. ولرسول الله(ص) معاجز كثيرة، والخالد منها والباقي حتّى زماننا هذا وإلى يوم القيامة هو القرآن. ونقلاً عن الأستاذ عفيف عبدالفتاح طبارة في كتابه " روح الدين الإسلامي " فقد ذكر عدة أسباب تدعم نبوة الرسول ومن ضمنها" "
1. سيرة النبي :
__________
(1) القاموس المحيط(1/153)
: " لم تثبت نبوة نبي في شريعة من الشرائع بالبرهان العقلي القاطع كما ثبتت نبوة محمد بن عبدالله , فقد ثبت أنه نشأ عليه الصلاة والسلام أمياً بين قوم أميين , لم يقرأ كتاباً ولا قال شعراً ولا أرتجل خطبه , ولا ترأس قبيلة , ولا أنتحل كهانه , ولا عرف شيئاً من شرائع الأمم وأديانها (1)" ويضيف الكاتب " جل ما أتصف به هو الأمانة والعزوف عن مخالطة قومه في المجون واللهو وعبادة الأصنام(2) "
ولا إشكال في أنّ مضمون الدعوة يلقي ضوءاً واضحاً على صدق الرسالة وكذبها، فبقدر ما يكون المضمون مشتملاً على مفاهيم ونُظُم وأخلاقيّات رفيعة وعالية ونظيفة، يكون ذلك شاهداً على كونها سماويّة وإلهية، ولو كانت مشتملة على الخرافات أو الأخلاقيّات الخسيسة أو النُظُم الساقطة عقلاً تبرهن بذلك على كذب مدّعي الرسالة.
ولا استغراب من بلوغ رقيّ المضمون حدّاً لا يحتمل صدوره من سلطان من سلاطين الأرض، بل الواقع هو ذلك. فما ظنّك بدين مشتمل على نماذج كثيرة من مفاهيم وأحكام وأخلاقيّات لا يمكن أن يتصوّر أرقى منها، من قبيل: الاهتمام الجدّي بالالتزام بأرقى مستويات الخلق الرفيع حتّى مع أعدى عدوّه، فهل هناك عدوّ لله وللإسلام أكبر وأشدّ عداءً من المشرك؟ في حين أنّ الإسلام يؤكّد على ضرورة إيجار المشرك الذي استجارك ثمّ إبلاغه مأمنه عملاً بعهد الإيجار معه، في حين أنّه بمجرّد وصوله إلى مأمنه قد يحارب الإسلام بالسيف، وأيّ سلطان من سلاطين الأرض يحتمل ـ بحسب نُظُم الطبيعة ـ وصوله إلى هذا المستوى من رحابة الصدر في التمسّك بالأخلاق الرفيعة؟!
__________
(1) روح الدين الإسلامي ص 449
(2) المصدر السابق .(1/154)
إنّ القرائن المختلفة من ظروف الرسول وبيئته وحالاته، وما إلى ذلك قد يورث بعضها أو مجموعها القطع بصحّة الرسالة وصدق الرسول، فمثلاً كون الرسول صادقاً وأميناً لدى الناس مدّة حياته الطويلة قبل البعثة، وكذلك خروجه من بيئة جاهلة ضالّة منهمكة في الخرافات والحروب والرذائل، وعدم تلمّذه لدى أيّ عالم من العلماء وعدم قراءته وكتابته وإتيانه على الرغم من كلّ ذلك بأرقى برنامج كامل شامل للحياة السعيدة، وكذلك كون القريبين منه والمؤمنين به من المتّسمين بالصلاح وسلامة النفس، وما إلى ذلك من القرائن يوجب بمجموعه بل ببعضه اليقين بالصدق.
وقد نقل عن قيصر ملك الروم استناده إلى هذا الدليل في تصديق النبيّ(ص)، فإنّه عندما كتب إليه الرسول محمّد(ص ) رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به، أخذ ـ بعد استلامه الرسالة ـ يتأمّل في عبارات الرسول وكيفية الكتابة حتّى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجوّل في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب وله اطّلاع على أخلاقه ونفسيّاته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فاُحضروا إلى مجلس قيصر فطرح عليهم الأسئلة التالية:
قيصر: كيف نسبه فيكم؟
أبو سفيان: محض أوسطنا نسباً.(يعني أعلانا نسباً).
قيصر: أخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول فهو يتشبّه به؟
أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.
قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟
أبو سفيان: لا.
قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟
أبو سفيان: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء، وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.
قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟
أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.
قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟
أبو سفيان: سجال، يدال علينا وندال عليه.(1/155)
قيصر: أخبرني هل يغدر؟
أبو سفيان: ـ لم أجد شيئاً ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت ـ: لا ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره (وأضاف أبو سفيان بأنّ قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه).
ثمّ إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الاُمور السابقة، وأنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبيّ صادق بقوله:
سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبيّ إذا أخذه لا يأخذه إلاّ من أوسط قومه نسباً.
وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبّه به، فزعمت أن لا.
وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه، فزعمت أن لا.
وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنّهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء، وكذلك أتباع الأنبياء في كلّ زمان.
وسألتك عمّن يتبعه أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه.
وسألتك هل يغدر، فزعمت أن لا، فلئن صدقتني عنه ليغلبنّي على ما تحت قدميّ هاتين، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه، انطلق لشأنك.
قال أبو سفيان: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالاُخرى وأقول: إي عباد الله! لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة، أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام(1).
2. عصمة النبي :
عصمة الأنبياء عن الذنب لا تعطي معنى الانجبار على ترك الذنب، بل ذلك ينفي العصمة; إذ مع الجبر لا معنى للتكليف ولا فخر في ترك الذنب ولا قيمة له.
وكذلك لا تعني العصمة مجرّد العدالة; فإنّ العدالة إن هي إلاّ ملكة الاعتصام عن الذنب في حالات الإغراءات الاعتياديّة، أمّا إذا اشتدّت الإغراءات أو ضعفت النفس بسبب طارئ ـ فوق ما يتصوّر عادة ـ فقد تزل قدم من كان عادلاً ويهوى إلى مكان سحيق، نعم لو تاب بعد ذلك وكانت الملكة موجودة أو رجعت، رجعت العدالة.
__________
(1) تاريخ الطبري 2: 290 ـ 291(1/156)
فالعصمة تعني: قوّة الرادع الإلهي إلى حدّ يقف أمام كلّ إغراءات العالم لو اجتمعت، فلا تضعُف النفس أمام جميع تلك الإغراءات فضلاً عن أن تضعف بسبب آخر.
دليل العصمة
الدليل الأول :
إن من شهد عظمة الربّ بالمقدار الممكن للإنسان المخلوق يكون مانعاً قطعيّاً عن المعصية، وكذلك شهد حقيقة المعصية وقذارتها ونجاستها ودناءتها، وكلا هذين الأمرين موجودان لدى كلّ نبيّ يوحى إليه; لأنّ مقام الوحي هو أعلى مقام من مقامات الاقتراب إلى الربّ والاطّلاع على عظمته . وأيضاً الوحي أعلى مقام من مقامات كشف الحقيقة لا يناله عقل العقلاء مهما كانوا عباقرة، فالذي حظي بهذا المقام فقد حُظي بأعلى ما يمكن أن يتصوّر بشأن الإنسان من درك عظمة الربّ وجماله وجلاله، ومن درك حقيقة الطاعة وحقيقة المعصية، وخاصّة إذا كان الوحي بالتجلّي المباشر.
وأيضاً إنّ من يتّصل بالله تعالى بأقرب وسائل الاتّصال ـ ألا وهو الوحي ـ يتمكّن حبّ الله تعالى في قلبه بأعلى مستوى معقول، وقد قلنا: إنّ من يكتمل في حبّ الله يستحيل صدور المعصية منه.
وكذلك نقول: إنّ المتّصل بمنبع الوحي يكون اطّلاعه على الغيب ـ أعني عالم الآخرة ـ بأقوى مستوى ممكن للبشريّة من الاطّلاع، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، فكيف يمكن لهكذا اُناس أن يعصوا؟
الدليل الثاني:(1/157)
إنّ الغرض المتوخّى من بعثة الأنبياء لهو هداية البشريّة ونشر نور الله تعالى في أرضه، وممارسة خلافة الله في أرضه بأكمل ما يكون، وهذا أمر يختلف عن مستوى الهداية التي تصدر من القادة الروحانيين الاعتياديين كالفقهاء العظام والعلماء الأعلام; فإنّهم لا يمارسون إلاّ إعانة الخلق على الاستفادة من المنهل الإلهي العذب الذي فتح الله بابه للناس عن طريق الأنبياء، في حين أنّ أصل فتح باب تلك المناهل للناس إنّما هو بيد الأنبياء، وأصل الهداية إلى الله وإلى دينه وإلى رضوانه إنّما هو بهم، وليس العلماء إلاّ اُولئك الثلّة الذين اغترفوا غرفة من بحر معرفة الأنبياء ليسقوا العطاشى بماء المعرفة بقدر إمكاناتهم . أمّا الأنبياء فلا تكفي العدالة بشأنهم; لأنّ مفاتيح الهداية الأصليّة بيدهم، ولولا أن يستطيعوا جلب ثقة الاُمّة بأعلى مستوى الثقة لما تحقّق الهدف من إرسالهم، ولا يمكن جلب الثقة بهذا المستوى إلاّ بالعصمة، فيكون عدم منحهم العصمة من قبل الله تعالى نقضاً للغرض، ونقض الغرض من قبل الله تعالى مستحيل.
وأيضاً لايمكن للأنبياء أن يكونوا قدوة عمليّين للبشر بشكل كامل إلاّ بالعصمة، كما أنّه لا يمكن للفقهاء أن يكونوا قدوة عمليّين بالمستوى المترقّب منهم إلاّ بالعدالة.
الدليل الثالث:(1/158)
التمسّك بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين)(1)، فانّه لا شكّ في أنّ النبوّة مصداق بارز من مصاديق عهد الله تعالى، ولا شك في أنّ المعصية ظلم، ولا إشكال في أنّ مناسبة الحكم والموضوع وجلالة مقام النبوّة تعطيان للكلام ظهوراً في كون المقصود بعنوان الظالم التلبّس بمبدأ الظلم ولو آناً مّا، فظهور الكلام في المقارنة بين الحكم والوصف العنواني أو كون المشتق حقيقة في المتلبّس بالفعل بحثان بعيدان عن مورد هذه الآية المباركة بالخصوص.
أخبار الأنبياء السابقين :
التوارة :
سفر التثنية جاء في النص :
"أقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه "(2)
وجاء أيضاً :
" جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم"(3)
إنجيل يوحنا :
" إن لي أموراً كثيرة أيضاً لا أقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما سمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني "(4)
إنجيل برنابا :
__________
(1) البقرة، الآية: 124.
(2) سفر التثنية ( 18 \ 18 –19 )
(3) سفر التثنية 33: 1-2
(4) يوحنا (16\12-14)(1/159)
"لقد وجدت نسختان من إنجيل برنابا في أول القرن الثامن عشر وهما نسختان أسبانيتان وقد فُقدتا ، إذا كان المتعصبون من النصارى يتلفون كل ما عثروا عليه من هذا الإنجيل وغيره من الأناجيل التي تعدها الكنيسة غير قانونية ، وأما النسخة الأخرى فهي باللغة الإيطالية القديمة وكانت في خزانة كتب (الفاتيكان)فسرقها منها راهب اسمه (مرينو)في أواخر القرن السادس عشر ويظن أنها النسخة الموجودة الآن في خزانة كتب بلاط (فينا) وقد ترجمت هذه النسخة بالإنجليزية في هذا العصر فسعينا إلى ترجمتها بالعربية سنة 1325هـ وطبعناها طبعاً دقيقاً في مطابع المنار(1)" وجاء فيه :
" فأراد بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب الموت يهوذا ، ويظن كل شخص أني صلبت لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس(2) "
جاء في الفصل الثاني والسبعين أن أن المسيح أخبر الحواريين أنه سينصرف عن هذاالعالم ثم قال :
" (7)فبكى حينئذٍ الرسل قائلين : يا معلم لماذا تتركنا ، لأن الأحرى بنا أن نموت من أن تتركنا(8 )أجاب يسوع : لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا .(9 )لأني لست أنا الذي خلقكم بل الله الذي يخلقكم يحميكم.(10 )أما من خصوصي فإني قد أتيت لأهيئ الطريق لرسول الله الذي سيأتي بخلاص للعالم .(11 ) ولكن احذروا أن تغشوا لأنه سيأتي أنبياء كذبة (66) كثيرون يأخذون كلامي وينجسون إنجيلي .(12 )حينئذٍ قال اندراوس :يا معلم اذكر لنا علامة لنعرفه (13)أجاب يسوع : أنه لا يأتي في زمنكم بل يأتي بعدكم بعدة سنين حينما يبطل إنجيلي ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمناً .
__________
(1) تفسير المنار ، الإمام محمد رشيد رضا ،ج9/293
(2) تفسير المنار ،محمد رشيد رضا ،ص (292)(1/160)
(14) في ذلك الوقت يرجم الله العالم فيرسل رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء ، يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم.
(15) وسيأتي بقوة عظيمة على الفجار ويبيد عبادة الأصنام من العالم.
(16)وأني أسر بذلك ، لأنه بواسطته سيعلن ويمجد الله ويظهر صدقي .
(17) وسينتقم من الذين سيقولون أني أكبر من إنسان .
(18) الحق أقول لكم :إن القمر سيعطيه رقاداً في صباه .
(19) فليحذر العالم أن ينبذه لأنه سيفتك بعبده الأصنام .
(20) فإن موسى عبد الله قتل أكثر من ذلك كثيراً ، ولم يبق يشوع على المدن التي أحرقوها وقتلوا الأطفال
(21) لأن القرحة المزمنة يستعمل لها الكي .
(22) وسيجيء بحق أجلي من سائر الأنبياء وسيوبخ من لا يحسن السلوك في العالم .
(23) وسيحيي طرباً أبراج مدينة آبائنا بعضها بعضاً .
(24) فمتى شوهد سقوط عبادة الأصنام إلى الأرض ، واعترف بأني بشر كسائر البشر .فالحق أقول لكم : إن نبي الله حينئذٍ يأتي "(1).
إنجيل يوحنا الإصحاح (14-26) والعهد الجديد (2)143
وقال يوحنا التلميذ :" إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطاً آخر , يثبت معكم إلى الأبد و الحق الذي لم يطق العالم أن يقتلوه لأنهم لم يعرفوه ، ولست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم عن قريب "(3) والعهد الجديد (4)143.
وقال أيضاً :" إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي وهو يشهد لي ، قلت لكم هذا ، حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه "(5) والعهد الجديد 144.
سفر أشعيا
جاء في (سفر أشعيا 42: 11-13) الذي يقول
__________
(1) متى 24:11
(2) انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية ج/5 ص 284.
(3) يوحنا الإصحاح (14: 15-19)
(4) انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية ج/5ص 284
(5) يوحنا الإصحاح (15: 26-27)(1/161)
" لترفع البرية ومدها صوتها ، الديار التي سكنها قيدار ، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الرب مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر " تبين الفقرة أن هذا النبي يأتي من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فقيدار هو الابن الثاني لإسماعيل " كما في (سفر التكوين 25: 13).
وقوله " لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ..." إن في دينه هتاف من رؤوس الجبال وتسبيح وتكبير ومؤتمر عالمي يعقد سنوياً والإسلام هو الدين الوحيد الذي يحدث فيه هذا ،إذ يجتمع كل الحجيج من ملوك وشعوب ومن مختلف البيئات والأعمار لا يجتمعون في القصور وإنما في رؤوس الجبال ،إن هذا ما يحدث في الإسلام فقط في ركنه الخامس وهو الحج "(1) .
سفر النبي حبقوق
وجاء في بشارة حبقوق النبي بشارة قريبة من ذلك :
" الله جاء من يتمان والقدوس من جبال فاران ،سلاه جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور من يده شعاع ، وهناك استتار قدرته ".
فقوله ( الله جاء من يتمان ) تبشير إلى بلد في جنوب شرقي تبوك قرب المدينة المنورة .
وقوله ( القدوس من جبل فاران ) إنما هي إشارة إلى مكة المكرمة . وحينما يقول ( جلاله غطى السماوات) هي صيحات "الله أكبر " التي تتردد في الآفاق في كل الأرض التي يسكنها المسلمون قلوا أو كثروا . إنها جلال الله الذي يغطي السماوات والأرض، فهي لا يمكن أن تشير إلى كنيس اليهود الذي يستخدم البوق ، ولا تشير إلى كنيسة النصارى التي تستخدم الجرس )(2) .
__________
(1) اللواء احمد عبد الوهاب ، كتاب مناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 234-235
(2) مناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 225(1/162)
أما قوله ( امتلأت من تسبيحه ) إشارة إلى إقامة الصلاة وما في الصلاة من تسبيح وتكبير وتعظيم لله عز وجل ، "ولا يحدث شيء من هذا لا في كنيس اليهود ولا في كنيسة النصارى فلا تمتلئ الأرض بتسبيح الله إلا في صلاة المسلمين ، بل وفي غير صلاتهم فهم دائماً أهل التسبيح والتحميد )(1)
ثانياً : إعجاز القرآن.
إنّ إعجاز القرآن من عدّة جهات: البلاغة والفصاحة، والكشف عن قسم من أسرار الطبيعة، والإخبار عن بعض الاُمور الغيبية وغير ذلك، ووجوه إعجاز القرآن غير البلاغة والفصاحة أو قسم من هذه الوجوه أهمّ وأعظم من مسألة البلاغة والفصاحة، إلاّ أنّ مسألة البلاغة والفصاحة كانت هي القابلة للإدراك لعرب الحجاز وقتئذ، ونحن نذكر هنا ثلاثة من وجوه إعجاز القرآن:
1. بلاغة القرآن وفصاحته(2)
الواضح من وجوه إعجاز القرآن لدى عامّة الناس السذّج في زمن الرسول(ص) هي الفصاحة والبلاغة; لأنّ العرب الحجازيين كانوا قد نبغوا فيهما،
فجاء إعجاز القرآن من سنخ ما كانوا فنّانين فيه.
وهذا الوجه من الإعجاز ربّما لا يدركه من لا يعرف اللغة العربيّة، بل ربّما لا يدركه قسم من العارفين للّغة العربيّة وغير الملتفتين والمتذوّقين لنكات الفصاحة والبلاغة، ولكن هؤلاء بإمكانهم أن يعتقدوا بإعجاز القرآن البلاغي عن طريق ما ورد فيه من تحدّي أبلغ البلغاء بالإتيان بمثل سورة من القرآن، وما ثبت في التاريخ من أنّهم عجزوا عن ذلك، ولو لم يكونوا قد عجزوا عن ذلك لفعلوه، ولو كانوا قد فعلوه لأسقطوا رسول الله(ص) عن الاعتبار لدى عامّة الناس، وكان ذلك أسهل عليهم من إسقاطه بخوض الحروب ضدّه، في حين أنّه لم يكن شيء من هذا القبيل.
2 : الكشف عن بعض أسرار الطبيعة
__________
(1) المرجع السابق ص 226
(2) لمزيد من الإطلاع راجع كتاب " إعجاز القرآن " للرافعي.(1/163)
كشف القرآن الستار عن عدد من أسرار الطبيعة التي لم تكن قابلة للدرك وقتئذ لأعظم ما يفترض من المجتمعات العريقة في العلوم والمعارف، فضلاً عن مجتمع منهمك آنئذ في الجهل المطبق كالمجتمع الحجازي، ولم يكتشف العلماء بعد ذلك تلك الأسرار إلاّ بعد قرون من بيانها على لسان الوحي في القرآن الكريم. وهذا كما ترى أعظم بكثير من مسألة الفصاحة والبلاغة. ولا يخفى أنّ القرآن ليس كتاباً في علوم الطبيعة حتّى يتوقّع منه ذكر كلّ التفاصيل، وإنّما هو كتاب هداية للبشريّة ضُمّن بقدر اللزوم الإشارة إلى بعض أسرار الطبيعة فمنها:
ـ قوّة الجذب والدفع:
وهما القوّتان اللتان قامت بهما السماوات والأرض، ولو رجح الجذب على الدفع لاندكّت الكواكب بعضها ببعض وتصدّعت، ولو رجح الدفع على الجذب لخرج كلّ كوكب عن مداره وهرب وانفرط العقد وتلاشت بعضها عن بعض، ولكنّها جميعاً مرتبط بعضها ببعض، يدور كلّ في فلكه بسبب تعادل القوّتين (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون)(1)، شبيها بإناء يدار حول اليد التي تمسكه بخيط متّصل بينهما.
وقد اكتشف العلماء ذلك بعد قرون من نزول القرآن وبمستوى الحسّ الذي لا ينكر، والقرآن سبقهم بقرون في قوله عزّ وجلّ: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُّسَمًّى)(2)، وهذا ينطبق على الجاذبة والدافعة أو تعادلهما.
ـ حركة الأرض:
__________
(1) الأنبياء، الآية: 33.
(2) الرعد، الآية: 2.(1/164)
وقد اكتشفها العالم الإيطالي المعروف غاليلو، فعارضته الكنيسة ولاحقته حتّى حكمت عليه بالإعدام بعد سجن طويل; ولأجل ذلك كان العلماء يكتمون اكتشافاتهم خوفاً من الكنيسة، ولكن القرآن الكريم قد كشف اللثام عن هذه الحقيقة قبل قرون من وصول غاليلو إلى ذلك بقوله عزّ وجلّ: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون)(1).
ومن الواضح أنّ سير الجبال يلازم سير الأرض; لوضوح أنّ الجبال لا تسير في دائرة الأرض، فإن كانت تسير فإنّما تسير ضمن سير الأرض، أمّا أنّه نسب السير إلى الجبال لا إلى الأرض مباشرة فبنكتة أنّ الجبال هي الجانب البارز في النظر من الاستقرار والسكون والثقل، فهي أوتاد الأرض.
ـ بعض حركات الشمس:
اُشير في القرآن الكريم إلى بعض حركات الشمس التي لم تكن مكشوفة للعلم وقتئذ:
__________
(1) النمل، الآية: 88.(1/165)
قال الله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون)(1). وهذا المقطع القرآني المبارك بصدد الإشارة إلى الآيات العظيمة الدالّة على وجود الله سبحانه، وعظمته ووحدانيّته وحكمته وعلمه وقدرته، ونحن الآن لسنا بهذا الصدد; لأنّ هذا ما بحثناه في فصول وجود الله وتوحيده وصفاته، وإنّما نحن بصدد الإشارة إلى أنّ بعض الآيات التي ذكرت في هذا المقطع القرآني كان غير معروف أو محسوس، وإنّما كشف العلم عنه بعد قرون متمادية. وقد كانت تحمل هذه الآيات المباركات قديماً على الحركة الظاهريّة للشمس والقمر التي ترى بالعين من قبيل قوله تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب)(2).
__________
(1) يس، الآية: 38 ـ 40.
(2) يونس، الآية: 5.(1/166)
وفي الوقت الذي كان الناس يعتقدون أنّ الدوران وتبدّل الأبراج ناتج من حركة الأفلاك أو حركة هذه الأبراج السماوية، وأنّ الأرض ساكنة في محلّها، كانت هذه الآيات تحمل على ذلك، وحينما كشف العلم بعد قرون أنّه ناتج من حركة الأرض التي كان قد أشار إليها القرآن في وقت نزوله بقوله: (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب)(1) اُوّلت الآيات على أنّها جريٌ وفق الإحساس الظاهري كما هو متعارف لدينا اليوم من أنّنا ـ برغم علمنا بأنّ حدوث الليل والنهار يكون نتيجةً لحركة الأرض حول نفسها دون حركة الشمس ـ نعبّر بـ"طلعت الشمس" و "غربت الشمس" في حين أنّ الشمس لا تطلع ولا تغرب، وإنّما الأرض هي التي تدور، فيتراءى لنا أنّ الشمس تطلع وتغرب. فحينما كان علم الهيئة المسيطر على عقول الناس ما يسمّى بالهيئة البطلميوسيّة(2) كان الاعتقاد السائد أنّ الشمس ملصقة بالسماء الرابعة ومعلّقة بها، وتلك السماء وباقي السماوات ـ التي كانت تفترض من قبيل قشور البصل المطبق بعضها على بعض ـ تدور حول الأرض، فدوران الشمس حول الأرض ـ الذي يتمّ به الشروق والغروب ـ ليس في الحقيقة سبحاً للشمس بل الشمس ثابتة في محلّها من الفلك، والأفلاك أو السماوات هي التي تدور حول الأرض، وحينما انكشف أخيراً بالعلم أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس ظلّت الشمس أيضاً راكدة، إلى أن انكشف بعد ذلك أيضاً بوقت متأخّر أنّ للشمس عدّة حركات: حركتين ظاهريّتين وحركتين واقعيّتين:
أمّا الظاهريّتان: فإحداهما ما يتمّ به الشروق والغروب، والاُخرى ما يتم به طيّ المنازل الاثني عشر ضمن سنة كاملة، وبه يحدث الربيع والصيف والخريف والشتاء، وهاتان الحركتان ظاهريّتان; لأنّ واقعهما عبارة عن حركة الأرض حول نفسها بالقياس لحدوث الليل والنهار أو حول الشمس بالقياس لتبدّل الأبراج.
__________
(1) النمل، الآية: 88.
(2) بطلميوس : هو صاحب المجسطى الذي تكلم في هيئات الفلك وأخرج علم الهندسة من القوة إلى الفعل.(1/167)
وأمّا الواقعيّتان: فإحداهما حركة الشمس حول نفسها وقد تسمّى بالحركة الوضعيّة، والاُخرى حركتها مع منظومتها الشمسيّة ضمن المجرّة إلى نقطة معيّنة تسمّى اليوم بنجمة فوكا، وقد تسمّى هذه الحركة بالحركة الانتقاليّة، وهذه ليست حركة دوريّة بل حركة في خط مستطيل.
أمّا القمر فيطوي منازله الثمانية والعشرين التي تكون له قبل المحاق مع أيّام المحاق في شهر كامل، أي إنّ الحركة الدوريّة للقمر في منازلها أسرع من الحركة الدورية التي ترى للشمس في منازلها باثنتي عشرة مرّة; لأنّ الشمس تطويها في سنة أي في اثني عشر شهراً، بينما القمر يطويها في شهر.
ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: (لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَر)هو هذا المعنى: أي إنّ الشمس لا تدرك القمر في سرعة حركته(1).
ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: (وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَار) أي الليل لا يلتهم النهار ولا يبلعه فيفنيه، بل مدار الليل والنهار يبقيان إلى أن تقوم الساعة.
أمّا قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم) فكأنّه يشير ـ والله العالم ـ إلى أنّ القمر قدّر له السير في منازله إلى أن يعود في آخر الشهر قبل المحاق بشكل العرجون القديم، وقد فسّر العرجون بالعود الأصفر المتّصل به عذق التمر(2)، فإذا أصبح قديماً ومضت عليه شهور أصبح ذابلاً واشتدّ اصفراره، فشبّه القرآن الهلال في أواخر الشهر به.
أمّا شاهدنا من هذه الآية المباركة في المقام فيمكن أن يكون أحد مقطعين:
أحدهما:
قوله تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون)، فعلى رأي هيئة بطلميوس لا معنى لسبح الشمس والقمر ضمن الفلك; لأنّهما معلّقان ومتّصلان بالفلك أو بالسماء حسب اعتقادهم، وإنّما الذي يسبح في اعتقادهم هو نفس الفلك أو السماء.
__________
(1) راجع كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن : ص 560
(2) المرجع السابق.(1/168)
ولعلّه يجاب على ذلك بأنّ الآية قد تكون جرت وفق الحسّ العادي للإنسان من حركة الشمس والقمر ضمن الفلك أو السماء، ولم يعلم كونها حكاية عن أمر لم يكن قد كشف عنه العلم.
ثانيهما:
قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم)، فهذا أيضاً ظاهره نسبة الحركة إلى ذات الشمس لا إلى الفلك أو السماء.
ولعلّه يجاب على ذلك أيضاً بأنّ التعبير في الآية قد يكون جارياً على ما هو محسوس للإنسان الاعتيادي من الحركة الدوريّة للشمس حول الأرض، ولم يعلم كونه حكاية عمّا لم يكن منكشفاً ذاك اليوم، فهي تحكي عن شروق الشمس وغروبها حول الأرض المستمرّين إلى يوم القيامة، وذاك يوم استقرارها; لأنّها تسكن من حركتها.
إلاّ أنّه يجاب على ذلك بأنّ هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة جدّاً، وذلك:
أوّلاً: لأنّ الجري غير الدوران، فالجري يحكي عن الحركة المستقيمة أو الطوليّة، والدوران يحكي عن الحركة الدائريّة، والآية تشير إلى الحركة الدائريّة للشمس بقوله: (لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون) ولكن قوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا) إنّما يحكي عن الحركة الطوليّة.(1/169)
وثانياً: لأنّ حمل كلمة (مستقر) في الآية على يوم القيامة خلاف الظاهر جداً، فإنّ السياق يدل على أنّها اسم مكان وليست اسم زمان، فإنّ الجريان في قوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) كان ظاهراً في التحرّك المكاني لا في البعد الرابع الذي يعني الحركة الزمانيّة أو الجري الزماني، فمعنى الآية والله العالم هو أنّ الشمس تسير سيراً طوليّاً في الفضاء إلى نقطة معيّنة تستقرّ فيها، وينتهي السير إليها، وهذا يطابق تماماً ما اكتشفوه أخيراً من سير الشمس بمنظومتها إلى نجمة وكا أو إلى الجاثي على ركبتيه، فمن أين جاء القرآن بهذه المعلومة قبل أربعة عشر قرناً لولا كونه من قِبل الله سبحانه وتعالى الخالق لهذا العالم وما فيه والعالِم بكلّ شيء؟
ـ الحياة على كواكب اُخرى غير الأرض:
إنّ الحياة على كواكب اُخرى غير الأرض ما زالت غير مكشوفة كشفاً قطعيّاً للعلم إلى زماننا هذا، ولا يوجد حتى الآن أكثر من بعض الحدوس وإرهاصات الكشف.
قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير)(1).
__________
(1) الشورى، الآية: 29.(1/170)
والذي يظهر لنا من هذه الآية المباركة هو الإخبار عن الحياة المادّية في السماوات كما هي في الأرض، ولا يصحّ حمل ذلك على الملائكة كما قد يتصوّر، فإنّ الدابّة تعني ما يدبّ ويتحرّك من الموجودات المادّية دون مثل الملك أو الجنّ، ولا يصحّ حمل الآية على الطيور التي تطير في الهواء; فإنّها إمّا أن تعتبر من دوابّ الأرض، أو تعتبر بين السماء والأرض، لا في نفس السماء، في حين أنّ ضمير التثنية في الآية يرجع إلى نفس السماوات والأرض، والدابّة تشمل كلّ ذي حياة وحركة من أصغر الذرّات إلى أكبر الحيوانات جثّةً. ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: (أَ لاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْض)(1) حاكياً عن بعض إرهاصات الحياة في السماوات وهو النبات، فإنّ الآية وإن كانت تفسّر بإخراج ما هو مخبوء في الأرض وهي النباتات وما هو مخبوء في السماوات وهي الأمطار، ولكنّ هذا التفسير يبدو بعيداً عن الذهن; فإنّ الأمطار ليست مخبوءة في السماوات، بل هي البخار الذي صعد من الأرض ثمّ سال على شكل ماء، وأكبر الظن أن يكون المقصود بالمخبوء في السماوات أيضاً هي النباتات التي تُعدّ من إرهاصات الحياة وعلاماتها.
وذيل الآية كأنّها تخبر عن جمع كلّ الدوابّ سواء ما في الأرض أو ما في السماء ليوم يجمع فيه الناس وهو يوم القيامة; وذلك لأنّ الآية لم تعبّر بتعبير: "وهو على جمعهم إن شآء قدير" كي يقال: إنّ (إن) أداة شرط، ولا تحكي عن أنّه سوف يشاء، وإنّما عَبّر بقوله: (إِذَا يَشَاء) و(إذا) أداة ظرف، فكأنّ أصل المشيئة مفروضة وانّما الآية تقول: إنّ جمعهم في ظرف مشيئة الله مقدور.
__________
(1) النمل، الآية: 25.(1/171)
والأصرح والأوضح من ذلك في حشر جميع الدوابّ وذوات الحياة بخصوص كرتنا قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون)(1)، والأوضح من هذه بخصوص الوحوش قوله تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(2).
وقد انجرّ كلامنا هنا إلى ما هو خارج عن بحثنا وهو حشر الوحوش والحيوانات جميعاً في يوم المعاد على ما يظهر لنا من هذه الآيات المباركات.
وهذا ما يجعلنا نحدس ـ والله العالم ـ بثبوت نوع من الحساب والجزاء لهم بالرغم من عدم امتلاكهم للفهم والإدراك بالمستوى الذي نحن نمتلكه ممّا تتبعه التكاليف الشرعيّة بالمعنى المفهوم لنا في الفقه، وتكاليف عرفانيّة بالمعنى المفهوم لنا في العرفان، ولكن يبدو أنّ لهم فهماً وشعوراً بمستوى يؤهّلهم لمسؤوليّات بحدودهم ولو بمقدار معرفة قبح ظلم بعضهم لبعض. ويدعم ذلك عدّة اُمور:
أوّلاً: ما هو محسوس لنا في بعض الحيوانات من نظم مذهل في اُمورها، ممّا يدلّ على مدى إدراكها كما في النحل والنمل ممّا يستبعد كونه ـ على ما قد يقال ـ غريزة بدون عقل، وكذلك ما نراه من تشخيص كثير من الحيوانات لأعدائها من دون تجربة مسبقة، كما يُرى من فرار الشاة من الذئب حتّى لأوّل مرّة من رؤيته إيّاه، وكذلك ما نراه من وفاء بعض الحيوانات كالكلب لصاحبه الذي أنعم عليه، بل ولباقي أهل البيت من الأولاد والأطفال والنساء، وكذلك ما نراه من تعليم البشر لبعض الحيوانات لأداء خدمات كثيرة كتعليم كلب الصيد للصيد وتعليم الطير لإيصال الرسائل وأدائها لما يطلب منها بدقّة فائقة.
__________
(1) الأنعام، الآية: 38.
(2) التكوير، الآية: 5.(1/172)
ثانياً: حكاية القرآن بعض القصص المذهلة عن بعض الحيوانات، كقصّة النمل: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا)(1).
وكقصّة الهُدهُد، وتفقّد سليمان(ع) للطير فقال: (مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُّبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإ بِنَبَإ يَقِين * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُون)(2)، وفي هذه الآية الثانية نرى أنّ سليمان(عليه السلام) قدّر للهُدهُد نوع مجازاة لو لم يأته بسلطان مبين.
ثالثاً اً: تصريح القرآن بثبوت الخشية من الله في بعض الجمادات والأحجار بقوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه)(3)، فلئن كان الجماد ـ الذي يشكّل في تصوّراتنا الظاهريّة أدنى مرتبة من المراتب المادّية في عدم الإحساس والشعور ـ يمتلك بصريح القرآن إحساس الخشية من الله، فما الذي يبعدّ وجود مستوى من الشعور لدى الحيوانات ممّا يجعلها مسؤولة تجاه بعض نكات الحسن والقبح العقليين؟!
وبهذا البيان يتّضح مدى ظلم الإنسان وجهله الذي حمل الأمانة التي لم تحملها السماوات والأرض والجبال، ثمّ لا يخشى الله ويخون الأمانة ويوقع نفسه في مستوى أنزل من الحيوانات ومن الجمادات،
الرسل والكتب السماوية
__________
(1) النمل، الآية: 18 ـ 19.
(2) النمل، الآية: 20 ـ 24.
(3) البقرة، الآية: 74.(1/173)
يؤمن المسلمون بجميع الرسل والأنبياء الذين بعثم الله قبل الرسول محمد ( ص ) وكذلك فهم يؤمنون بالكتب السماوية المنزلة عليهم وقد جاء في القرآن : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )(1).
وهنا قد ترد في ذهن البعض ملاحظة وهي : لماذا نلاحظ التعدد في الرسل في الفترة الواحدة ؟ ولماذا هذا التتابع بالرسل خلال الأزمنة المختلفة ؟ ولماذا لا يبقى الناس على دين واحد وشريعة واحدة ويبعث الله بين الفترة والأخرى رسولاً ليجدد ويحفظ ذلك الدين ؟
للجواب على هذة التساؤلات نقول :
أثبتت علم النفس و الدراسات بأن السلوكيات و طريقة التفكير عند الإنسان بالإضافة إلى جوانب أخرى هي في تغير مستمر وبحسب عوامل متعددة . فسلوكيات الإنسان القديم و طريقة تفكيره وقناعاته تختلف عن سلوكيات و طريقة تفكير الإنسان وقناعاته في العصور اللاحقة .. كذلك فأن تطور المعرفة لدى الإنسان يكون له الأثر الكبير في سلوكيات الإنسان وإهتماماته . فلو تصورنا بأن هناك شخصين أحدهما عالم والآخر جاهل فهل نتوقع من العالم أن تكون له نفس إهتمامات وقناعات وتوجهات الجاهل؟
من بعد هذةالمقدمة نقول :
__________
(1) البقرة : 136(1/174)
إذا كان الإنسان عبر العصور متغير السلوك والتفكير والإهتمامات وغيرها . وكما هو معلوم بأن الرسالات السماوية جاءت لتنظم حياة البشر من مختلف الجوانب وتلبي حاجاتهم الفطرية والمتمثلة بالعبادة والحاجات الإجتماعية والإنسانية وغيرها. لذلك كانت كل رسالة سماوية متناسبة مع ثقافة ومستوى المجتمع في ذلك العصر. ودليل ذلك أننا نرى بعض المعجزات جاءت بالشيء المشهور عند تلك الأمم . فمثلاً نرى معجزة موسى هي السحر لأنه كان مشهوراً بزمنه. وعيسى أحيى الموتى وشفى الأكمه و الأبرص وهو ما كان مستحيلاً على الطب رغم تطوره الكبير في ذلك الوقت فكانت المعجزة . وكذلك نبينا الأكرم حيث أعجز العرب بفصاحة القرآن رغم أنهم مشهورين بالبلاغة والفصاحة .
فإذا بعث الله تعالى نبياً من الأنبياء لأمة من الأمم في عصر ما , بعثه من نفس تلك الأمة أولاً : لأنه يتكلم بلغتهم ويعرف ثقافتهم وإهتماماتهم وطريقة تفكيرهم وكذلك يعرف سلبياتهم وإيجابياتهم فيسهل عليه بعد ذلك إحداث الإصلاح فيهم . وثانياً : يرسله بشريعة تلائم متطلبات ذلك العصر في مختلف الميادين . وثالثاً : تكون هذه الشريعة موافقة للبشر في ذلك العصر وتلبي إحتياجاتهم وميولهم وسلوكياتهم المختلفة ولا يكون التشريع فوق طاقتهم الإحتمالية ونحوها .(1/175)
فلا نتصور بأن نبي الله آدم ( ع ) يبعث بشريعة محمد ( ص ) بماتحتوية من أحكام وقوانين قد لا توجد لها تطبيقات في عصر آدم ( ع ) . كما أن طريقة تفكير الناس في عصر ابراهيم ( ع ) تختلف عن طريقة تفكير الناس في عصر عيسى ( ع ) لذا كان من الواجب أن يبعث ابراهيم ( ع ) بشريعة تناسب عصره . نعم هنالك أمور مشتركة كثيرة دعى إليها الرسل جميعاً. ولكن هنالك واجبات تشريعية على سبيل المثال تصلح لعصر من العصور دون الآخر . كما قال تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ )(1). فقد ذكر الله على لسان عيسى أن الأمور الثابتة في التشريع هي باقية على مر الأزمان من توحيد وإخلاص العبادة لله تبارك وتعالى ولكن الأمور الفرعية في الرسالات السماوية يمكن أن تغير وفق متطلبات ذلك العصر .
وبعد ما ذكر سابقاً يتبين لنا لماذا نرى هذا التعدد والتتابع بالرسل والرسالات السماوية سواء كان الرسل في وقت واحد أو بفترات مختلفة , أما بخصوص السؤال القائل : لماذا لا يبقى الناس على دين واحد وشريعة واحدة ويبعث الله بين الفترة والأخرى رسولاً ليجدد ويحفظ ذلك الدين؟؟ فقد ذكرنا فيما مضى أن الشريعة إنما تأتي وفق متطلبات العصر بلا زيادة أو نقصان فإن مضى عليها عصر وتغيرت الظروف والناس فإنهم سيحتاجون لشريعة أوسع وأشمل وهذا يتطلب إنزال تعاليم جديدة وفي هذة الحالة فإن الله سيبعث تلك التعاليم بواسطة نبي أو رسول . وهذا ما حصل بالفعل فلا معنى لأن نقول بأن هذة الشريعة هي نفسها التي إنزلت على النبي الأول .
__________
(1) آل عمران : 50(1/176)
ومن هنا نخلص لنتيجة وهي أن تعدد الرسالات السماوية وتتابع الرسل (عليهم صلاوت ربي ) ما هو إلا رحمة بالناس من حيث تكليفهم بشريعة تناسب زمانهم وقدراتهم وحتى ميولهم لكي لا يكون لهم حجة من بعد ذلك .
أما بخصوص إيمان المسلمين بأن الرسول الأكرم ( ص ) هو خاتم الرسل وشريعته خاتمة الشرائع فهو ليس بإفتراء . وإنما لكون الإسلام إشتمل على شرائع ونظم إجتماعية وأخلاقية وإقتصادية وسياسية وعلمية وغيرها شاملة تصلح لأن تطبق في كل عصر إلى قيام الساعة . فهو بذلك أستعوب كل الأديان السماوية . وكدليل واحد على ذلك الإعجاز العلمي في القرآن حين أخبرنا عن حقائق وقوانين علمية أكتشفها الإنسان حديثاً ولكن القرآن تحدث عنها قبل أكثر من 1400 سنة. كما أن الإسلام جاء قبل 1400 سنة بنظريات إقتصادية تعتبر الحل الأمثل والأساس المتين لإقتصاد الدول فيما لو طبقت ز كما سيرد خلال الكتاب أن شاء الله . كذلك كمال النظم الإجتماعية والأخلاقية وغيرها في التشريع الإسلامي من غير الممكن أن يأتي تشريع يفوقها بالكمال. كما أن الله أختار للدين الإسلامي سيد الخلق أجمعين فهل يعقل أن يأتي من هو أفضل عند الله منه وهو من بلغ سدرة المنتهى التي لم يبلغها حتى الملائكة والأنبياء السابقين ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . فبعد هذا المقام وبعد ما أشرنا إليه من إخبار الكتب السماوية والأنبياء السابقين عنه ( ص ) هل من الممكن أن يبعث الله من هو أشرف وأكرم منه ليكون خاتماً للرسالات السماوية.
قد تكون بعثة الرسول إلى قومه خاصة ولا تشمل دعوته الأمم الأخرى . وبذلك يبعث الله لهم نبياً آخر ليدعوهم إلى الإيمان بالله ، وقد صرح بها النبي ( ص ) في حديثه الشريف قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي..... وذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ).(1) ، فتعدد الرسل لتعدد الأمم التي يبعثون إليها.
__________
(1) متفق عليه.(1/177)
أنه قد يبعث الرسول بلسان قومه ولغتهم وثقافتهم ، كما قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )(1)، فاحتيج إلى تعدد الرسل في الفترة الواحدة لتعدد اللغات بين المجتمعات. فيكون الرسول هو أعلم بالطرق التي يستخدمها بالدعوة إلى رسالة الله سبحانه . سواء كان باللغة التي يفهمها هؤلاء الناس أو بطريقة التفكير والثقافة التي يتبنونها.
إحتياج الرسول إلى العون والمساندة من شخص يتمتع بعصمة فيضمن بذلك أنه لن يخطئ أو ينسى بتبليغ الرسالة السماوية . ودليل ذلك قصة سيدنا موسى وهارون عليهما السلام . حيث قال تعالى : ( وأجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري * وأشركه في أمري )(2) .
الحساب واليوم الآخر
المعاد هو من مادة العود ويعني الرجوع حيث يتم إرجاع الروح مرة أخرى إلى البدن . والمعاد من الأصول الإعتقادية المقدسة عند المسلمين فيجب الإعتقاد بأن كل شخص سوف يبعث بعد موته إلى الحياة مرة أخرى لينال جزاء أعماله وعقيدته.
وليس بالإمكان إدراك المعاد ومقدماته من الموت والقبر وعالم البرزخ ثم القيامة الكبرى ونهاية الجنة والنار بهذه الحواس الظاهرية . مع أن أصل المعاد ثابت بدليل العقل لدى المسلمين كما سيأتي . وللتعليق على هذا الموضوع نقول :
أن من المستحيل أن يستطيع الإنسان لوحده أن يفهم حوادث مابعد الموت ( بعد ثوبتها كما سيرد ) لأن إدراكات كل شخص في أي مقام كانت محدودة بحدود ذلك المقام فقط . فمثلاً : من المستحيل على الطفل الذي يعيش في رحم الأم أن يفهم الكيفية التي يكون عليها العالم الخارجي ومظاهره المتعددة ومن المحال أن يدرك الفضاء الغير متناهي والكائنات التي فيه.
__________
(1) إبراهيم:4
(2) طه :29 - 32(1/178)
وهكذا بالنسبة للإنسان الذي يعيش في عالم الملك والذي هو أسير المادة والطبيعة . كيف يمكنه أن يفهم عالم الملكوت والذي هو باطن عالم الملك ومنتهاه بعد الرحيل من هذا العالم.وعلى أي حال فالأمور التي تختص بعوالم ما بعد الموت تعتبر من الأمور الغيبية بالنسبة إلى عالم الدنيا ولا طريق لمعرفتها إلا بالتصديق بما أخبرنا به الله تعالى عنها. وإن كان بالإمكان الإستدلال عليها بطريق عقلي أو منطقي . ونعني بالإستدلال عليها ليس تصور ما يحدث فيها وفهم القوانين السائدة هناك وإنما إثبات أنها ممكنة .
إذن فلو أن أحد إدعى بأنه من المستبعد عقلاً أن يحدث الشيء الفلاني بعد الموت فإن كلامه غير منطقي وغير مقبول عقلاً .لن خصوصيات ذلك العالم لا ربط لها بالعقل. فلو إجتمع العقلاء بأجمعهم وأتفقوا وتعاونوا لما فهموا شيئاً مما يحدث في العالم الآخر . ولابد لهم من حواس غير مادية كتلك التي لديهم ليصلوا إلى نتيجة وهذا محال.
وهناك شبهات يثيرها البعض على أحداث ما بعد الموت مثل الحساب والعقاب , حيث يقولون أن بدن الإنسان يصبح بعد موته كالخشبة اليابسة ويتحول بعدها لهيكل عظمي ومن ثم إلى تراب . فكيف سيعاقب وهو بهذه الحال ؟
وجواب ذلك هو مثال بسيط :
فالإنسان عندما ينام في كل ليلة تمر عليه أحلام يسافر فيها و يمشي فيها ويتحرك ويتكلم ويسمع ويرى دون أن يتحرك لسانه أو قدميه او ينتقل من مكانه ودون أن يحس به من هو جالس بجانبه ( هذا المثال لتقريب الصورة فقط ). وكذلك يحدث مع الموتى فهم يحاسبون دون أن يشعر بهم الأحياء . ثم أن الأجوبه على الأسئلة أثناء الحساب لا تعني أن يتكلم كما يتكلم في هذة الحياة وذلك لأن النطق باللسان هو مختص بالحياة الدنيا وليس للروح أن تنطق كنطقنا هذا.
حقيقة الموت :(1/179)
حقيقة الموت هو إنفصال الروح عن الجسد ويمكن تشبيه كيفية إرتباط الروح بالجسد إنهما كالسفينة والملاح فالموت هو الذي يخرج السفينة عن سيطرة الملاح . إذن عندما تقول أنت : يدي وقدمي و عيني فهل أنت " يدك " أو " قدمك " أو " عينك " ؟ بالطبع لا فأنت لست بيد أو قدم أو عين ونحوه .
عندما تقول ذهبت لمكان ما , فهذا يعني أن الذاهب هو أنت إلا أن أقدامك هي التي مشت وذهبت أنت معها وأنت غير تلك الأقدام . وتقول رأيت وسمعت شيئاً ما : فهذه الأشياء ترجع لشخص واحد وهذا الشخص هو روحك التي تظهر أفعالها من خلال جسدك . فالروح هي التي ترى وتسمع وتمشي ونحوها ولكن من خلال وسائل مثل العين واقدم والأذن وغيرها. فمثلاً الناظر هو الروح والعين هي أداة النظر وهكذا بالنسبة لبقية الحواس. فالموت يعني إذن يعني إنتقال هذة القوة والتي تسمى الروح من مكان لآخر. ويعتقد المسلمين بأن علاقة الروح بالجسد لاتكون نابعة من الحلول أي أن الروح تكون في داخل الجسد . بل أن الروح جوهر مجرد وليست بجسم مادي فليس لها دخول وخروج , لكنها مرتبطة فقط بالجسم بنحو من أنحاء الإرتباط وتهتم بالبدن بصورة كاملة والموت يعني قطع علاقة الروح بالبدن.
الروح
الروح عبارة عن مصطلح يختلف تعريفه وتحديد ماهيته في الأديان و الفلسفات المختلفة ولكن هناك إجماع على إن الروح عبارة عن ذات قائمة بنفسها، ذات طبيعة معنوية غير ملموسة ويعتبرها البعض مادة اثيرية اصلية , من الخصائص الفريدة للكائنات الحية, وإستنادا الى بعض الديانات و الفلسفات فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في عالم الموجودات وهو أساس الإدراك والوعي و الشعور. ويختلف الروح عن النفس حسب الإعتقادات الدينية فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعين ويرى البعض الآخر إن النفس قد تكون او لا تكون خالدة و لكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد.(1/180)
هناك جدل في الديانات و الفلسفات المختلفة حول الروح بدءا من تعريفها ومرورا بمنشأها و وظيفتها الى دورها أثناء و بعد الموت حيث إن هناك إعتقاد شائع إن للروح استقلالية تامة عن الجسد وليس لها ظهور جسدي او حسي، ولا يمكن مشاهدة رحيلها ويعتقد البعض إن مفارقة الروح للجسد هي تعريف للموت و يذهب البعض الآخر الى الإعتقاد إن الروح تقبض فى حالتى الموت و النوم ففى حالة الموت تقبض الروح وتنتهى حياة الجسد ، وفى حالة النوم تقبض الروح ويظل الجسد حيا.
قام أفلاطون (427 - 347 قبل الميلاد) بإعتبار الروح كأساس لكينونة الإنسان و المحرك الأساسي للإنسان وإعتقد بأن الروح تتكون من 3 أجزاء متناغمة وهي العقل والنفس و الرغبة وكان أفلاطون يقصد بالنفس المتطلبات العاطفية او الشعورية وكان يعني بالرغبة المتطلبات الجسدية وأعطى أفلاطون مثالا لتوضيح وجهة نظره بإستخدام عربة يقودها حصان, فللحصان حسب أفلاطون قوتان محركتان و هما النفس و الرغبة ويأتي العقل ليحفظ التوازن(1). بعد أفلاطون قام أرسطو (384 - 322 قبل الميلاد) بتعريف الروح كمحور رئيسي للوجود ولكنه لم يعتبر الروح وجودا مستقلا عن الجسد او شيئا غير ملموس يسكن الجسد فإعتبر أرسطو الروح مرادفا للكينونة ولم يعتبر الروح كينونة خاصة تسكن الجسد وإستخدم أرسطو السكين لتوضح فكرته فقال إنه إذا إفترضنا إن للسكين روحا فإن عملية القطع هي الروح وعليه و حسب أرسطو فإن الغرض الرئيسي للكائن هو الروح وبذلك يمكن الإستنتاج إن أرسطو لم يعتبر الروح شيئا خالدا فمع تدمير السكين ينعدم عملية القطع (2)
__________
(1) Plato
(2) Aristotle (384-322 BCE): General Introduction(1/181)
حاول رينيه ديكارت (1596 - 1650) وفي خطوة مهمة إثبات إن الروح وتنظيم الإعتقاد بالروح تقع في منطقة محددة في الدماغ (1) اما إيمانويل كانت (1724 - 1804)(2) وفي خطوة جريئة قال إن مصدر إندفاع الإنسان لفهم ماهية الروح هو في الأساس محاولة من العقل للوصول الى نظرة شاملة لطريقة تفكير الإنسان اي بمعنى ان العقل الذي يحاول تفسير كل شيئ على اساس عملي سوف يضطر الى التساؤل عن الأشياء المجهولة الغير ملموسة وبذلك فتح كانت الباب على مصراعيه لرعيل من علماء النفس ليفسروا الروح على اساس نفسي(3).
أما المعتقدات الدينية لقدماء المصريين فإن روح الإنسان مكونة من 7 أقسام :
رين , هو مصطلح قديم يعني الإسم الذي يطلق على المولود الجديد.
سكم , وتعني حيوية الشمس
با , وهو كل ما يجعل الإنسان فريدا و هو أشبه بمفهوم شخصية الإنسان.
كا , وهو القوة الدافعة لحياة الإنسان وحسب الإعتقاد فإن الموت هو نتيجة
مفارقة كا للجسد.
آخ , وهو بمثابة الشبح الناتج من إتحاد كا و با بعد الموت
آب , وهو "قطرة من قلب الأم"
شوت او خيبيت وهو ضل الإنسان(4).
__________
(1) Descartes' Life and Works
(2) إمانويل كانت (22 أبريل ، 1724 - 12 فبراير ، 1804) فيلسوف وعالم ألماني برز في المجالات التالية : (فيزياء فلكية، رياضيات، جغرافية، علم الإنسان) من بروسيا، إعتبرَ عموماً أحد أكثر المفكّرين المؤثرينِ في المجتمع الغربي و الأوروبي الحديث والفيلسوفِ الرئيسيِ الأخيرِ لعصر التنوير. عرّفَ كانت التنوير، في مقالته الفائزة ما التنوير؟ ، على أنه عصر تشكل تحت شعارِ : "الجرأة من أجل المعرِفة". مما نمى نمط من التَفْكير الداخلي خال من قواعد السلطة الخارجية.
(3) Kant's Critique of Metaphysics
(4) From Wikipedia Egyptian soul(1/182)
في بدايات القرن العشرين حاول الطبيب الأمريكي دنكن ماكدوغل Duncan MacDougall قياس وزن الروح وذلك بقياسه وزن شخص قبل و بعد الموت وإستنتج إن روح الإنسان تبلغ من الوزن 21 غراما ولكن محاولاته وصفت بأنها عديمة المعنى و غير علمية(1). في الخمسينيات كتب الفيزيائي Francis Crick فرانسس كرك (1916 - 2004) الذي كان عضوا في الفريق العلمي الذي إكتشف الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين بإن دراسة الدماغ كفيل بإكتشاف مصدر إعتقاد الإنسان بوجود الروح(2), وتلاه عالم الحشرات و البيئة الأمريكي إدوارد ولسن Edward Osborne Wilson قائلا إن الجهد في دراسة الروح يجب ان ينصب على دراسة المورثات التي تجعل الإنسان مؤمنا بفكرة الروح(3).
وكذلك يعتقد المسلمون بأن الموت يكون بإذن الله فالذي جعل هذة الرابطة بين الروح والجسد في بطن الأم حتى اليوم الآخر هو نفسه الذي يقطع هذه الرابطة ولا أحد سواه. وقد وكل الله عزرائيل بقيض أرواح الخلائق وهو مأمور من قبل الله تعالى بذلك .
ويشكل البعض على المسلمين في هذة المسألة حيث يقولون بأن الله تعالى قد نسب قبض الأرواح لنفسه تارة لعزرائيل تارة وفي مكان آخر نسبه إلى الملائكة من أعوان عزرائيل .
وهذة النسب الثلاثة صحيحة لأن عزرائيل وأعوانه إنما يقبضون الأرواح بأمر الله عز وجل كما نقول عند فتح الملوك للبلدان الأخرى بواسطة الجيش فعندما يقال أن الملك الفلاني قام بذلك العمل فهذا صحيح فالفاتح بالحقيقة هو الملك الذي يأمر الجيش ويقوم بتدبير أمره ( هذا المثال لتقريب المعنى وإلا فالمطلب أعلى من ذلك ).
__________
(1) The Physical Properties of Cytoplasm
(2) Professor EdwardO.Wilson on the relation of scienceandthe Humanities December 11th, 2002
(3) Seizures and the Sight of God" Isabella Eguae-Obazee"(1/183)
وعلى أية حال فالله هو من يقبض الأروح ولكن ينبغي التنبه إلا أن الله تعالى قد جعل أمور الدنيا تجري بأسبابها الطبيعية . ومن تلك الأمور الموت فقد عين له سبباً وهو سبب الوفاة كالقتل أو تناول السم أوالأمراض الفتاكة وغيرها. وهذة الأسباب ظاهرية فقط وإلا فكم من المرضى بأشد أنواع الأمراض ومع ذلك لم يموتوا , وكم من الناس ماتوا وهم في كامل صحتهم ., إذن فهذة الأمور وحدها لا توجب الموت ويقبض الله عز وجل بالروح عندما ينتهي أجل الإنسان .
كذلك يعتقد المسلمون بأن الإنسان يسأل في قبره عن أعماله ومعتقداته . فإن كانت سيئة فإنه يعذب وإن كان العكس فينعم بالجنة إلى يوم القيامة. وهنا قد ترد ملاحظة وهي :
عندما كان الله تعالى يعلم المؤمن والكافر فلماذا يعتقد المسلمون بأن الإنسان يسأل في قبره ولا يقتصر موضوع الحساب على يوم القيامة ؟
وجوابه : القبر يعكس بداية المصير المحتوم للإنسان و أن الإنسان المؤمن يكون مسروراً وسعيداً برؤية الملكين بتلك الطلعة البهية الجميلة ويشم منهما رائحة أزهار الجنة وعطورها . وعلى العكس من ذلك الكافر . وهذا الأمر يكون فيه شيء من التهيئة التدريجية لإستيعاب طبيعة ذلك العالم الجديد . فنعيم القير يكون مقدمة وتهيئة لنعيم الجنة الأكبر والأعظم . وكذلك الأمر بالنسبة لعذاب القبر حيث يكون مقدمة لعذا ب النار . كما يحدث مع الطفل المولود حديثاً حيث يأخذ بإستيعاب عالم الدنيا شيئاً فشيئاً.
والشيء الآخر : هو أن المؤمن يفرح من نفس السؤال والجواب كما نرى تلامذة المدارس كيف يكونون مسرورين عندما يسألهم الأستاذ وهم قد درسوا وحضروا ماهو مطلوب منهم جيداً ويفخرون بالجواب عليه. فكذلك يفرح المؤمنون عندما يسألون عن ربهم فيجيبون بكمال اليقين والإطمئنان ويخبرهم بوحدانيته ويشهد بنبوة نبية.
البرزخ والقبر(1/184)
" البرْزخ: ما بين كل شيئين، وفي الصحاح: الحاجز بين الشيئين. والبَرْزَخُ: ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر من وقت الموت إِلى البعث، فمن مات فقد دخل البَرْزَخَ. وفي حديث المبعث عن أَبي سعيد: في بَرْزَخِ ما بين الدنيا والآخرة؛ قال: البَرْزَخُ ما بين كل شيئين من حاجز، وقال الفراء في قوله تعالى: ومن ورائهم بَرْزَخٌ إِلى يوم يُبْعَثُون؛ قال: البَرْزَخُ من يوم يموت إِلى يوم يبعث. وفي حديث عليّ : أَنه صلى بقوم فأَسْوَى بَرْزَخاً؛ قال الكسائي: قوله فأَسْوَى بَرْزَخاً أَجْفَلَ وأَسْقَط؛ قال: والبَرْزَخ ما بين كل شيئين؛ ومنه قيل للميت: هو في بَرْزخ لأَنه بين الدنيا والآخرة؛ فأَراد بالبَرْزَخ ما بين الموضع الذي أَسقط عليٌّ منه ذلك الحرف إِلى الموضع الذي كان انتهى إِليه من القرآن. وبَرازِخُ الإِيمان: ما بين الشك واليقين؛ وقيل: هو ما بين أَول الإِيمان وآخره. وفي حديث عبدالله: وسئل عن الرجل يجد الوسوسة، فقال: تلك بَرازِخُ الإِيمانِ؛ يريد ما بين أَوّله وآخره، وأَوَّلُ الإِيمان الإِقرار بالله عز وجل، وآخره إماطة الأَذَى عن الطريق. والبَرازخ جمع بَرْزَخ، وقوله تعالى: بينهما بَرْزَخٌ لا يبغيان؛ يعني حاجزاً من قدرة الله سبحانه وتعالى؛ وقيل: أَي حاجز خفيّ. وقوله تعالى: وجَعَلَ بينهما بَرْزَخاً أَي حاجزاً. قال: والبرزخ والحاجز والمُهْلَة متقاربات في المعنى، وذلك أَنك تقول بينهما حاجزٌ أَن يَتزاوَرا، فتنوي بالحاجز المسافةَ البعيدة، وتنوي الأَمر المانع مثل اليمين والعداوة، فصار المانع في المسافة كالمانع من الحوادث، فوَقَعَ عليها البَرْزَخُ"(1).
__________
(1) راجع لسان العرب.(1/185)
القبر في معتقد المسلمين روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، جعله الله - تعالى -برزخا بين حياتين، وفاصلا بين مرحلتين، فهو بمثابة محطة للوقوف والانتظار، يقف فيها من مات - معذباً أو منعماً - ريثما تنقضي أعمار الناس في حياتهم الدنيا، لينتقلوا بعدها جميعا إلى الدار الآخرة حيث يجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.
الدليل على ثبوت المعاد :
على الرغم من أن الإيمان بالمعاد نابع من الفطرة البشرية ومنسجم معها لما يراه الإنسان في نفسه من حب للخلود في هذه الحياة التي لا خلود فيها، فإننا سنذكر دليلين على أصل ثبوت المعاد:
الدليل الأول:
علمنا فيما مر أن الله تعالى حكيم وعادل، فلا يمكن أن يظلم العباد ولا يقبل أن يظلموا بعضهم البعض لذلك حرم عليهم الظلم ونهاهم عنه. ومع كل ذلك فإننا نرى في هذا الوجود ظالماً ومظلوماً وصالحاً وشريراً ومطيعاً وعاصياً ومؤمناً وكافراً، ونرى أنهم جميعاً يموتون دون أن ينال الظالم جزاءه ودون أن ينتقم منه للمظلوم، ويموت المطيع والعاصي دون أن ينال الأول ثواب طاعته ولا الثاني عقاب معصيته. وبما أن عدل الله تعالى وحكمته لا يمكن أن يتركا الظالم ينجو بفعلته دون حساب ويترك المظلوم دون انتصاف، فلا بد أن يكون هناك عالماً اخر غير هذا العالم يعاقب فيه المسيء على إساءته ويثاب فيه المحسن على إحسانه ذلك هو يوم الجزاء المسمى يوم القيامة والمعاد. قال تعالى مرشداً إلى هذا الدليل: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون"(1)
الدليل الثاني:
__________
(1) سورة القلم، الاية/36.(1/186)
الروح مخلوق غير مادي، يعني مجرد عن المادة ( كما سيرد لاحقاً )، لذلك هي غير قابلة للفناء كالمادة، بل هي خالدة ما شاء الله تعالى. وهذا الوجود الذي نعيشه هو وجود مادي ومحدود من حيث الزمن مهما طالت مدته، خصوصاً فيما لو نظرنا إلى البدن الذي تسكنه الروح فإنه لا يبقى أكثر من عشر سنوات، ثم يتغير كلياً، وهكذا حتى يموت ويفنى وتبقى الروح على ما هي عليه.
من هنا نتساءل: أليس معنى ذلك أن الروح مؤهلة لتعيش حياة أخرى غير هذه الحياة القصيرة، وإلا فما هي الحكمة من خلقها غير قابلة للفناء؟ ألا يكون ذلك ضرباً من اللغو والعبث؟
تخيل لو أنك نزلت في بلد لمدة يوم واحد على أن تغادره في اليوم التالي، فهل من الحكمة أن تشتري لنفسك قصراً عظيماً متيناً لتقيم فيه هذا اليوم، ثم تتركه هكذا وترحل؟
أثر الإيمان بالمعاد على الأفراد والمجتمعات في نظر المسلمين :
عندما يتيقن الإنسان أنه سوف يحاسب على كل ما يقوم به في حياته إن خيراً فخير وإن شراً فشر فإنه يرتدع عن كثير من المعاصي والشرور، ويتوجه إلى فعل الخير رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه. فالإيمان بالمعاد يساعد كثيراً على تهذيب النفس من شوائبها.
ومما لا شك فيه أن صلاح الأفراد يؤدي مباشرة إلى صلاح المجتمع، حيث ينتشر فيه فعل الخير، وتترعرع فيه القيم والأخلاق والإحسان إلى الاخرين، وهذا ما يحييه ويقويه ويجعله في طليعة المجتمعات المتحضرة.
الملائكة
الملائكة هم مخلوقات يؤمن أتباع الديانات التوحيدية بها ، ويؤمن المسلمون بأنها مخلوقات خلقهم الله من نور وأنهم يعبدون الله وحده لا غير له ولا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يأمرهم به. وهي فكرة قديمة قدم الأديان، لكنها بصورة عامة، في الإسلام وفي الأديان كلها، تختلف عما ورد في آراء الفلاسفة باسم أرباب الأنواع، وباسم المُثل الأفلاطونية، أو الأنوار الاستفهدية.(1/187)
وقد نوقش موضوع الملائكة في الإسلام، في كتب الباحثين من الشرق والغرب، مناقشات مفصّلة. وساعدهم على هذه المناقشات، كلمات علماء الكلام والسير من الأساطير حول الملائكة، وحول المقربين منهم، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بالذات. " والملائكة وإن كانوا غير مرئيين لنا لا ينفي العقل وجودهم(1) , فالعلماء اليوم لا يدعون أن الإنسان قد أحاط بعلم كل شيء . ففي كل يوم يكشف لنا العلم عن كائنات حية لم نكن نعلمها من قبل , فهل كانت قبل إكتشافها غير عدماً ثم وجدت يوم أكتشفها الإنسان(2)؟ "
وأثبت البحث العلمي قصور العين البشرية عن رؤية الأجسام التي تسير بسرعة معينة وكذلك فقد ثبت علمياً أن العين البشرية لا ترى إلا في حدود معينة هي ألوان الطيف. فالضوء الأحمر الذي نراه بالعين له ذبذبة ( 4×10 10) = 400 ألف مليون ذبذبة / ثانية...
أما الضوء ( تحت الأحمر infra red)فهو أقل من ذلك فلا تراه العين، والضوء البنفسجي له تردد ( 7× 10 10 ) = 700 ألف مليون ذبذبة / ثانية فإنه زاد عن ذلك في فوق البنفسجية فلا تراها: وقد قدروا الأرواح بأنها ذبذبة أعلى من فوق البنفسجية وأقل من الذبذبة (ray×).
ونفس الشيء بالنسبة للأذن البشرية التي تسمع فقط من 20 ذبذبة / ثانية وحتى 000 و20 ذبذبة وما زاد عن ذلك فلا تسمعه، وقد ثبت بالتجربة أن بعض الحيوانات كالكلاب والقطط والخيل تسمع أكثر مما يسمعه الإنسان، ولذلك تراها تجفل أو تصرخ فجأة لأنها تسمع ما لا نسمعه نحن...
__________
(1) نقلاً عن هامش كتاب روح الدين الإسلامي ص 140/ كتاب الدين الإسلامي لمولاي محمد علي
(2) روح الدين الإسلامي : ص 140(1/188)
و قدر العلم الحديث أن نسبة ما تبصره العين البشرية إلى ما لا تبصره هو 1: 10 مليون وهذه نسبة مهولة ما كان أحد يتصورها أو يعقلها وقت نزول القرآن وهذا هو مغزى القسم العظيم في قوله تعالى : (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون )(1) . وقد أور القرآن حقيقة مهمة في قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون)(2).ومعنى هذه الآية: أن المسافة التي يقطعها ( الأمر الكوني ) في زمن يوم أرضى تساوي في الحد والمقدار المسافة التي يقطعها القمر في مداره حول الأرض في زمن ألف سنة قمرية، وقوله: مما تعدون. أي: في الكون المشاهد لكم وفي الأمور الخاضعة لقياسكم. وبحل هذه المعادلة القرآنية الأولى ينتج لنا سرعة 299792.5كم / ث مساوية تماماً لسرعة الضوء في الفراغ المعلنة دولياً، والمتفقة مع مبدأ اينشتاين.
أما الآية الثانية : (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)(3) فتتحدث عن سرعة الروح والملائكة في عالم الغيب وتقدرها بأنها تعادل خمسين مرة × السرعة السابقة أي: خمسين مرة سرعة الضوء .ومعنى ذلك: أن سرعة الروح تساوي 299792.5 × 50 كم / ث والله أعلم.(4) والعين البشرية لا تستطيع أن ترى الأجسام التي تسير بهذة السرعة .
__________
(1) الحاقة: 38 ـ 39
(2) السجدة: 5
(3) المعراج :4
(4) توصل الدكتور منصور حسب النبي أستاذ علم الفيزياء بجامعة عين شمس في كتابه ( الإعجاز العلمي في القرآن ) على معادلة حسابية من الآيتين المذكورتين أعلاه.(1/189)
وأهم أعمال الملائكة وأبرزها هي إبلاغ الوحي الآلهي إلى الرسل . كذلك من وظيفة الملائكة تثبيت الرسل وتأييدهم والتهوين عليهم في الشدائد . كذلك فالملائكة تتنزل على المؤمنين لتواسيهم وتبشرهم وتؤيدهم عند قتالهم أعداء الله كما أشارت الآيات العديدة على هذة الحقيقة وكذلك فهي تستغفر لهم وتكتب أعمال الإنسان في الحياة الدنيا . والملائكة يتوفون المؤمنين ويقبضون أرواحهم عند الموت(1).
الجن
الإعتقاد بوجود الجن قديم جدا ، وهو في الميثولوجيا(2) العالمية موجود بصورة الأرواح المحتجبة عن عيون البشر . تتحدث الأدبيات العربية القديمة عن الجن وأنواعه فيذكر البيان والتبيين منها: (جن , عامر , شيطان , مارد , عفريت ) . وأورد الدميري ان الجن أجناس ، منها الجن الخالص الذي لا يأكل ولا ينام ولا يشرب في الدنيا ولا يتوالد ، ومنها أجناس تأكل وتشرب وتتناكح ذكر منها ولم يحصرها في : السعالي , الغيلان , القطارب . قال أبو المطراب :
فلله در الغول أي رفيقة لصاحب قفر حالف ، وهو معبر
ارنت بلحن بعد لحن وأوقدت حوالي نيرانا تلوح .. وتزهر
ويجتمع المسلمون في إقرار وجوده وقد ورد في القرآن { وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ}(3). و أثبت القرآن الكريم في مواضع متعددة وجود عالم الجن، فوجب الإيمان بوجود الجن إيماناً جازماً.
__________
(1) راجع كتاب روح الدين الإسلامي : ص141-143
(2) الميثولوجيا علم الأساطير عند الإغريقين و تكون عادةً متصلة بالآلهة.
(3) الحجر:27.(1/190)
الجن لهم قدرات كبيرة ومهارات عالية، وقد أخبر سبحانه عن قوة الجن، وأن منهم العفاريت الأشداء الأقوياء، فسخر لسليمان جنوداً قوية من الجن تعمل بين يديه يقومون له بأعمال البناء والغوص في البحار والأعمال الصناعية كالجفان الكبيرة والقدور الراسية والأعمال الفنية كالتماثيل والمحاريب إلى غير ذلك من أعمال كبيرة مختلفة. قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}(1) .و قال الله تعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}(2). وذلك أن سليمان عليه السلام لما أراد إحضار عرش بلقيس(4) إلى مقام سليمان من مسافات بعيدة، انبرى عفريت من الجن أنه هو يأتيه به قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فهذا التعهد من العفريت الجني والتزامه إحضار ذلك العرش مع قطعه تلك المسافات الشاسعة دليل على شدته وقوته وقدرته الكبيرة.
__________
(1) سبأ: 13
(2) النمل: 39(1/191)
وعموماً فأن قولنا الجن موجود يحتاج إلى واسطة في الإثبات ، هذا إن كان المقابل لايؤمن بالأدلة المعتمدة عند المسلمين والمتمثلة في القرآن والأحاديث النبوية. فهو تصديق نظري اكتسابي والمقصود بالتصور النظري أو الاكتسابي هو ما يحتاج إلى تعريف ، أي تتوقف معرفته على معرفة شيء آخر فهو تصور نظري اكتسابي محتاج إلى التعريف ولتوضيح الفكرة أكثر : عندما نقول مثلاً بأن الإنسان ( حيوان ناطق ) ، فمعرفة الإنسان تتوقف على معرفة ماهو الحيوان) و معرفة معنى ( الناطق ) ، وكذلك معرفة الجسم والجوهر ، فلا يمكن تصور الإنسان إلا بعد تصور تلك الأمور ، فالمجهول هنا ينقلب بعد التعريف إلى معلوم تصوري . وأما الذي لا تتوقف معرفته على معرفة شيء قبله فهو تصور بديهي ضروري . ومفهوم الوجود لا تتوقف معرفته على معرفة شيء قبله ، بل إن تصور الوجود سابق على أي تصور آخر ، وتصور أي أمر في الذهن تصور لاحق لمعرفة الوجود ومتوقف عليه لأنه لا يمكن تصور شيء إلا بعد إيجاده في الذهن . فالوجود مفهوم بديهي حتى لدى الصغار ، بديهي موجود في فطرة الإنسان ولا يحتاج تصوره لأي واسطة .(1/192)
إنَّ المفاهيم التي تحتاج إلى تعريف هي مفاهيم نظرية لمكان تركُّبها، لأنَّ التعريف إنَّما هو بسط المفهوم بذكر أجزائه الذاتيَّة التي هي الجنس والفصل وأمّا المفهوم البسيط حيث لا جنس له و لا فصل فلا تركيب فيه فهو واضح مبسوط لا يفتقر إلى شرحٍ وبسط وتعريف، بل لا يمكن تعريفه. ثمَّ: إنّ المعرِّف يعني التفكير في مجال التصوُّرات النظريَّة كما أنَّ الحجَّة هي التفكير في مجال التصديقات النظريَّة، أما التصورات البديهية والتصديقات البديهية فلا تحتاج لا إلى المُعرَّف ولا إلى الحُجّة، وعليه كلُّ من تمكَّن من تعريف المفاهيم تعريفاً صحيحاً فهو الذي بإمكانه أن يفكِّر في مجال التصورات، وكلُّ من تمكَّن من إقامة الحُجَّة بنحو صحيح من غير أن يتورَّط في الخطأ والانحراف، فهو الذي يتيسَّر له التفكير بنحو صحيح في مجال التصديقات النظريَّة حيث يُبدل المجهولات التصديقيَّة إلى معلومات تصديقيَّة. ومن هنا قسَّم المنطقيون أبحاث هذا العلم -الذي يعلمنا كيف نفكِّر- إلى قسمين:
قسمٌ يرتبط بالمفاهيم التصوريّة وهذا ما يسمى بالمعرِّف.
و قسم يرتبط بالمفاهيم التصديقية وهذا ما يسمى بالحُجّة.
المطلب الثاني
أركان الإسلام
يتكون الإسلام من أركان خمسة أساسية يؤمن الإنسان بها كلها ويعمل بها حتى يصبح مسلماً حقيقياً. وهذه الاركان هي:
الشهادتين .
الصلاة .
الزكاة .
الصوم .
الحج .
1. الشهادتين :(1/193)
الشهادتين في الإسلام هما شهادة "لا إله إلا الله" وشهادة "محمد رسول الله". وبحسب الشريعة الإسلامية فإن الشخص يدخل الإسلام بمجرد شهادته بهذا القول أي قوله "أشهد أن" وإتباعها بنص الشهادة. والمعنى الذي يقصده الإسلام من هذه الجملة هو أنه لا إله يستحق أن يعبد سوى الله الذي هو الخالق أي أنَّه لا معبود بحق إلا الله -سبحانه وتعالى-. و أنَّ محمداً هو الرسول الذي أرسله الله إلى البشر لينشر بينهم الإسلام ويتبعوا رسالته. وتعد الشهادتين من أركان الإسلام . وتتضمن الشهادتان إجمالاً شيئان أساسيان يقوم عليهما دين الإسلام، ألا وهما ((الإخلاص)) و ((الاتباع))، الإخلاص لله في العقائد والعبادات والأعمال، واتباع سنة رسوله محمداً ( ص) . ومن مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألاَّ يُعبد الله إلا بما شرع.
2. الصلاة :
الصلاة في الأديان هي حلقة الوصل بين الإنسان والإله، إذ تخاطب الإنسان أو توجهه لربه عن طريقها. عرفت الصلاة منذ فجر التاريخ، إذ يعود أول ذكر للصلاة في مخطوطات يزيد عمرها عن 5000 عام. تختلف الصلاة في طريقتها وعدد مراتها وأسبابها وأحكامها. ففي الإسلام تؤدى الصلاة خمس مرات يومياً فرضا على كل مسلم بالغ عاقل خالي من الأعذار ، بالإضافة لأنواع أخرى من الصلاة تمارس في مناسبات مختلفة مثل صلاة العيد، وصلاة الجنازة، وصلاة الاستسقاء.
يقوم المسلم على أداء الصلاة خمس مرات في اليوم والصلوات الخمس هي :
الفجر أو الصبح، ووقتها من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس.
الظهر، ووقتها إذا زالت الشمس عن وسط السماء إلى مصير ظل كل شيء مثله غير ظل الاستواء.
العصر، وقتها من بعد وقت الظهر حتى مغيب الشمس.
المغرب، ووقتها من بعد مغيب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.
العِشاء، ووقتها من بعد وقت المغرب حتى طلوع الفجر الصادق.(1/194)
لكي يتسنّى للمسلم أداء الصلوات، يجب عليه أن يكون طاهراً، وتتأتى الطهارة عن طريق الوضوء للصلاة وهو غسل أطراف الجسم والوجه.
الشروط اللازمة لصحة الصلاة ودوامها:
الإسلام.
التمييز ( أو البلوغ ) .
الطهارة من الحدث(1) والنجس(2).
الطهارة من الحدث الأصغر.
الطهارة عن النجاسة (غير المعفو عنها) في البدن والثوب والمكان.
ستر العورة(3).
استقبال القبلة(4).
دخول الوقت(5).
العلم بفرضيتها.
ألا يعتقد فرضا من فروضها سنة.
عند ترك أي من هذه الشروط قبل الصلاة أو فقدها بعد الدخول في الصلاة, لا تصح صلاته وعليه إعادتها.
الأركان التي تقوم عليها الصلاة(6):
النية قبل الشروع في الصلاة.
تكبيرة الإحرام.
القيام في الفرض للقادر.
القراءة (سورة الفاتحة) وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها .
الركوع.
القيام من الركوع الإعتدال والطمأنية فيه.
السجدتين.
الجلوس بين السجدتين.
القعود الأخير قدر التشهد.
التسليمة الأولى ونية الخروج من الصلاة .
ومن ترك واحداً من هذه الأركان عامداً أو ساهياً بغير عذر بطلت صلاته وعليه إعادتها.
وفي شتّى بقاع العالم، يجب على المسلم استقبال القبلة في تأديته للصلاة ؛ والقبلة هي الكعبة المشرّفة الواقعة في مكّة المكرّمة في المملكة العربية السعودية. ولا تصّح الصلاة إلا في مكان طاهر خالٍ من النّجاسة فلا يجوز قضاؤها في أماكن عادة ما تكون أماكن نجاسة، كدورات المياه وخلافها. كما لا تصحّ الصلاة إلا بارتداء المسلم ثياباً طاهرةً، ويجب على المسلم ستر عورته حينما يؤدّي الصلاة.
__________
(1) جنابة, أو حيض, أو نفاس , ..).
(2) كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار – ص 113
(3) المصدر السابق – ص 116
(4) المصدر السابق – ص 118
(5) المصدر السابق – ص 117
(6) المصدر السابق – ص ( 126/127/128/130/133/134/135/136/137)(1/195)
في حال صلاة الجماعة، يؤُمّ المسلمين رجل واحد في أداء الصلاة ويسمّى الإمام. ويقوم الإمام بمثابة القائد في الصلاة ويتبعه المصلّون في تأديتهم للصلاة. فعلى سبيل المثال، لا يبدأ المصلون الصلاة إلا عندما يعلن الإمام بداية الصلاة عن طريق إطلاق تكبيرة الإحرام ؛ فإن كبّر الإمام كبّر المصلون من ورائه ؛ وإذا قام الإمام بالقراءة في الصلوات الجهريّة كالفجر، والمغرب، والعشاء يقوم المصلون من ورائه بالاستماع فقط. وإذا ركع الإمام قام من ورائه المصلون بالرّكوع. وإذا سجد الإمام، قام وراءه المصلون بالسّجود، وهكذا إلى أن يعلن الإمام انتهاء الصلاة بالتسليم.
تتكون كل صلاة من الصلوات الخمس المفروضة من ركعات، ويختلف عددها حسب توقيتها، فالفجر ركعتان ؛ ويقوم الإمام بالقراءة بصوت مسموع وتسمى بالصلاة الجهرية ؛ والظهر أربع ركعات، ولا يقرأ الإمام بصوت مسموع وتسمّى الصلاة السّريّة ؛ فالعصر أربع ركعات سرّيّة ؛ والمغرب ثلاث ركعات، الأوليين جهريّتين والثالثة سرية ؛ والعِشاء أربع ركعات، الأوليين جهريتين والباقي بالسر. في كل ركعة يقوم المصلّي بقراءة سورة الفاتحة ويعقبها بسور قصيرة أو ما شاء له أن يقرأ. يقوم الإمام في الغالب، بالتّخفيف في الصلاة لعدم الإطالة على المصلّين .
الصلاة عند المسلمين هي عمود الدين وأن أعمال الفرد لا تقبل إلا إذا قبلت صلاة . ولا شك فأن الصلاة فيها غايات عظيمة وهي عنوان ودليل الإنقياد لله وتلبية أوامره . والصلة بين الإنسان وخالقة . يطلب منه ما يشاء . كما أن لها آثار دنيويه على الفرد منها ما يصحح السلوك الشخصي للإنسان .
الزكاة .(1/196)
هي فرض ديني لدى المسلمين وهو دفع جزء من المال للفقراء والمحتاجين و الزكاة لغة تعني البركة والطهارة والنمو والبركة وكثرة الخير والصلاح (1). وسميت الزكاة لأنها بحسب المعتقد الإسلامي تزيد في المال الذي أخرجت منه، وتقيه الآفات . وتجب الزكاة عند المسلمين في خمسة أشياء : ( المواشي , الأثمان , الزرع , والثمار وعروض التجارة )(2)
وفسفة الزكاة عند المسلمين هي أنها تُصلح أحوال المجتمع ماديًا ومعنويًا فيصبح جسدًا واحدًا، وتطهر النفوس من الشح والبخل، وهي صمام أمان في النظام الاقتصادي الإسلامي ومدعاة لاستقراره واستمراره، وهي عبادة مالية، وهي أيضا سبب لنيل رحمة الله تعالى , وهي صفة من صفات المجتمع المؤمن وبينت السنة مكانة الزكاة فعن ابن عمر (رض)أن رسول الله (ص)قال : ( أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله , وأنّ محمدًا رسول الله , ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة . ) (3) , وعن جرير بن عبد الله (رض)قال : ( بايعت رسول الله ( ص) على إقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , والنصح لكل مسلم . ) أخرجه البخاري ومسلم , وعن ابن عمر ( رض ) أن رسول (ص) قال : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمدًا رسول الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا , وصوم رمضان . ) (4). أما بالنسبة لمقدار الزكاة فهو كالاتي :
__________
(1) كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار – كتاب الزكاة ص 207 . فقه العبادات- محمد بشير الشقفة ص 327
(2) المرجع السابق. فقه العبادات- محمد بشير الشقفة ص 327-328
(3) أخرجه البخاري ومسلم
(4) أخرجه البخاري ومسلم(1/197)
أول نصاب الزكاة في الإبل خمس(1) ويخرج عنها شاة عمرها سنة (جذعة ضأن) واول نصاب البقر ثلاثون(2) و يخرج عنها ذكر من البقر عمره سنة (تبيع من البقر) و اول نصاب الغنم أربعون و يخرج عنها شاة عمرها سنة(3). و اول نصاب الذهب عشرون مثقالا(4) ( 84.875 غراما من الذهب الخالص) و اول نصاب الفضة مائتي درهم(5) ( 594.124 غراما من الفضة الخالصة).
الصوم(6) .
الصيام لغة: الإمساك و في شرع الإسلام إمساك مخصوص بنية مخصوصة في وقت مخصوص. يجب على الصائم تبييت النية قبل دخول الفحر و الإمساك عن إدخال عين الى الراس او الجوف من منفذ مفتوح من الفجر و حتى غروب الشمس. كذلك يجب على الصائم الإمساك عن الجماع في نهار رمضان و الإستمناء كذلك يفطر الصائم والإستقائة عمدا و الردة كذلك. اما القبلة بشهوة فحرام الا اذا حصل انزال للمني فانها مفطرة. واذا جن الشخص ولو للحظة فإنه يبطل صيامه كذلك الإماء كل النهار يبطل الصيام.
ويبدا صيام الفرض لدى المسلمين عند رؤية هلال شهر رمضان، وفي مناسبات وأيّامٍ أُخرى قضاءً أو تطوعاً. ويمكن للمسلم أن يُفطر في عدة حالات:
1- كأن يكون مسافراً.
2- كأن يكون مريضاً.
3- الحامل او المرضعة اذا كان في الصيام مشقة لا تحتمل.
وويجب على من افطر في رمضان قضاء الأيام التي أفطر فيها، و من افطر لغذير عذر شرعي فعليه اضافة للقضاء التوبة عن تلك المعصية الكبيرة.
لماذا يصوم المسلمون ؟
__________
(1) راجع كتاب فقه العبادات- محمد بشير الشقفة ص393-395
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق
(4) فقه العبادات- محمد بشير الشقفة ص 355
(5) الرجع السابق.
(6) كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار – كتاب الصوم ص ( 241-255)(1/198)
الصوم عامل فعال لتربية روح التقوى في جميع المجالات والابعاد. وله اثاره التربوية والاجتماعية والصحية . و للصوم ابعاد متعددة وآثار غزيرة مادية ومعنوية في وجود الانسان , واهمها البعد الاخلاقي , التربوي . من فوائد الصوم الهامة تلطيف روح الانسان , وتقوية ارادته , وتعديل غرائزه . وعلى الصائم ان يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه , وهكذا عليه ان يكف عن ممارسة العمل الجنسي , ليثبت عمليا انه ليس بالحيوان الاسير بين المعلف والمضجع , وانه يستطيع ان يسيطر على نفسه الجامحة وعلى اهوائه وشهواته .
الاثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل اعظم جانب من فلسفة هذه العبادة .مثل الانسان الذي يعيش الى جوار انواع الاطعمة والاشربة , لا يكاد يحس بجوع او عطش حتى يمد يده الى ما لذ وطاب كمثل شجرة تعيش الى جوار نهر وفير المياه , ما ان ينقطع عنها الماء يوما حتى تذبل وتصفر.اما الاشجار التي تنبت بين الصخور وفي الصحاري المقفرة , وتتعرض منذ اوائل انباتها الى الرياح العاتية ,وحرارة الشمس المحرقة حينا, وبرودة الجو القارصة حينا آخر, وتواجه دائما انواع التحديات , فانها اشجار قوية صلبة مقاومة . والصوم له مثل هذا الاثر في نفس الانسان , فبهذه القيود المؤقتة يمنحه القدرة وقوة الارادة وعزيمة الكفاح , كمايبعث في نفسه النور والصفاء بعد ان يسيطر على غرائزه الجامحة . بعبارة موجزة : الصوم يرفع الانسان من عالم البهيمية الى عالم الملائكة وعبارة (لعلكم تتقون ) تشير الى هذه الحقائق .(1/199)
والاثر الاجتماعي للصوم لا يخفى على احد. فالصوم درس المساواة بين افراد المجتمع . الموسرون يحسون بمايعانيه الفقراء المعسرون , وعن طريق الاقتصاد في استهلاك المواد الغذائية يستطيعون ان يهبوا لمساعدتهم . قد يمكن تحسيس الاغنياء بما يعانيه الفقراء عن طريق الكلام والخطابة , لكن المسالة حين تتخذ طابعا حسياعينيا لها التاثير الاقوى والابلغ , الصوم يمنح هذه المسالة الهامة الاجتماعية لونا حسيا,
لو اننا تخيلنا الدول الغنية في العالم صامت عدة ايام في السنة وذاقت مرارة الجوع , فهل يبقى في العالم كل هذه الشعوب الجائعة ؟
أما بالنسبة للفوائد الصحية للصوم فالبحوث الطبية لا تخلو عادة من الحديث عن هذه المسالة . وتذكر المراجع الطبية أن جميع الأطعمة تقريبًا في هذا الزمان تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده أو حفظه؛ كالنكهات، والألوان، ومضادات الأكسدة، والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان كمنشطات النمو، والمضادات الحيوية، والمخصبات أو مشتقاتها. وتحتوى بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة، كما أن عددًا كبيرًا من الأطعمة يحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة التي تفرز سمومها فيه وتعرضه للتلوث.(1/200)
هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء مع عوادم السيارات وغازات المصانع وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضابط إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر. وأخيرًا مخلفات الاحتراق الداخلي، والتي تسبح في الدم؛ كغاز ثاني أكسيد الكربون، واليوريا، والكرياتينين، والأمونيا، والكبريتات، وحمض اليوريك... إلخ. ومخلفات الغذاء المهضوم والغازات السامة التي تنتح من تخمره وتعفنه، مثل: الندول، والسكاتول، والفينول. فيقوم الكبد -وهو الجهاز الرئيسي في تنظيف الجسم من السموم- بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قد يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليرويا، والكرياتنين، وأملاح الأمونيا. غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودين، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية أو لأسباب طبيعية كتقدم السن، فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، خصوصًا في المخازن الدهنية. فالكبد يقوم بتحويل مجموعة واسعة من الجزيئات السمية -والتي غالبًا ما تقبل الذوبان في الشحوم- إلى جزيئات غير سامة تذوب في الماء، يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي أو تخرج عن طريق الكلى.
في الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسد وينتفع بها ويسترد منها السموم الذائبة فيها وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد، كما أن هذه الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد والقادمة من مخزونها المختلفة يساعد ما فيها من الكوليسترول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة والتخلص منها مع البراز.(1/201)
ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية بأكسدته للأحماض الدهنية فيخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا، وتقوم بدورها خير قيام فتعادل كثيرًا من المواد السامة بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم.
كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم ببلع جزيئاتها بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا "كوبفر"، والتي تبطن الجيوب الكبدية، ويتم إفرازها مع الصفراء.
وفي أثناء الصيام يكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدل كفاءتها؛ للقيام بوظائفها، فتقوم بالتهام البكتريا بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة.
وبما أن عمليات الهدم في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة.
وهكذا يُعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة. انظر إلى الدكتور "ماك فادون" -وهو من الأطباء العاملين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره- وهو يقول: "إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضًا؛ لأن سموم الأغذية والأدوية تتجمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بها من قبل".
الحج(1) .
__________
(1) راجع كتاب فقه العبادات- محمد بشير الشقفة – كتاب الحج(1/202)
الحج يمثل القاعدة الخامسة من القواعد الخمسة التي بني عليها الاسلام. وهذا الركن الأساسي فرض على كل مسلم قادر على أدائها. ويكون الحج في موعدا محددا وهو في اليوم التاسع 9 من شهر ذي الحجة (الشهر 12) من كل سنة هجرية ويأتي فيه الكثير من المسلمين بمعدل 3-5 ملايين الى "مكة المكرمة" من كل انحاء العالم بلباس ابيض وبدون ملابس داخلية وفقط بقطعتي قماش تستر الجسد وبدون لبس اي غطاء على الرأس بالنسبة للرجال والنساء يلبسن ملابسهن الاعتيادية ولكن بدون عطور او اي مكياج فقط بطبيعتهن لتأدية هذه الفريضة والتي تتكون من التالي :
الطواف حول الكعبة سبعة مرات وذلك تحية للحرم المكي.
الذهاب الى عرفة (منطقة بمكة المكرمة) والمكوث بها الى الربع الاخير من النهار (وعرفة هي المنطقة التي التقى بها سيدنا ادم والسيدة حواء بعد هبوطهما مغاضبين الى الارض).
(النفره) وهي الخروج من عرفة الى المزدلفة (وهي ايضا منطقة بمكة المكرمة) والمبيت بها الى شروق الشمس وفي المزدلفة يفضل جمع عدد 49 من الحصيات ذات الحجم الصغير(بحجم حب الحمص) وذلك لكل شخص.
التوجة الى منى (وهي منطقة بمكة المكرمة ايضا) وهناك يوجد ما يسمى بالعقبات الثلاث وترجع تلك التسمية الى المرات الثلاث التي اعترض فيها الشيطان سيدنا ابراهيم عندما هم ان يذبح ابنه سيدنا اسماعيل حيث وسوس الشيطان له بان لايذبحه وان سيدنا اسماعيل هو ابنه وان رؤيته غير صحيحة.
رمي الجمار (اي رمي 7 من الحصيات على الجمرة الاولى (جمرة العقبة)).
الحلق او التقصير (وهو حلق شعر الرأس او تقصيره للرجل وقص جزء بسيط من الشعر للمرأة) ويجوز بعده لبس الثياب والتطيب ويحرم مضاجعة زوجته.
الذبح (وهو ذبح شاة او بقرة او جمل) وغالبا شاة (خروف/نعجة) وهو ما فعلة سيدنا ابراهيم حيث افتدى الخالق سيدنا اسماعيل بذبح عظيم (شاة) عندما هم سيدنا ابراهيم بذبحه.(1/203)
يوم العيد اي العيد بنجاة سيدنا اسماعيل وهو عيد رسمي لكل الدول المسلمة ويشرع فيه التكبير (قول الله اكبر والدعاء لله).
طواف الافاضة ويكون بالطواف 7 اشواط حول الكعبة المشرفة مرة اخرى بعدها يحل للمسلم مضاجعة زوجته وكذلك للمرأة اي انه يحل له كل شيء (عدا ما هو حرام عليه كمسلم).
السعي وهو 7 اشواط ايضا بين الصفا والمروة وهما منطقتين بداخل الحرم المكي وشرع هذا حيث كانت السيدة "هاجر" زوجة سيدنا ابراهيم ووالدة سيدنا اسماعيل تجري بين الصفا والمروة لعلها تجد ماء بعد ما تركهاسيدنا ابراهيم هي وابنهما سيدنا اسماعيل والذي كان رضيعا آنذاك وبعد شوطها السابع تفجرت عين ماء المسماة "بئر زمزم" تحت قدمي سيدنا اسماعيل وسميت بماء "زمزم" لكون السيدة "هاجر" كانت تغرف الماء بيديها خوفا من اهدارها وهي تقول "زمي زمي" اي اجتمعي.
ثم الرجوع للمبيت بمنى مرة اخرى ولمدة يومين او ثلاث، ويقوم في كل يوم برجم الجمرات ولكن هذه المرة (7 لكل جمرة اي 21 حصوة يموميا).
بعد مرور ايام منى يقوم بطواف الوداع وهي تحية البيت لكي يستطيع الخروج من مكة المكرمة والعودة الى بلدة.
يتضمن الحج زيارة الكعبة المشرفة في مدينة مكة، والقيام بشعائر الحج خلال الأيام العشرة الأول من شهر ذي الحجة، الشهر الأخير من السنة الهجرية
لماذا يحج المسلمون ؟
لو أردنا إلقاء الضوء على المنافع المتصورة للحج لوجدناها كثيرة و متنوعة لا تكاد تجتمع في غيرها من العبادات ، و هذه المنافع بعضها عبادية و بعضها تربوية ، و أخرى إقتصادية و تربوية و سياسية و إجتماعية و وحدوية .(1/204)
الحج ليس عملاً عبادياً فحسب ، بل يُعَدُّ من أحد أهم الشعائر الإلهية التي أنعم الله بها على الأمة الإسلامية خاصة دون غيرها من الأمم ، و هو بحكم الجهاد بالنسبة إلى الضعفاء من المسلمين , و الحج مؤتمر إسلامي كبير ، و مصدر عظمة الإسلام و إتحاد المسلمين و تقوية شوكتهم ، فهو من جانب يُرعب أعداء الإسلام و يفشل خططهم الاستعمارية ، و من جانب آخر فهو يبُثُ في نفوس المسلمين كل عام روح الإيمان و التقوى و الجهاد و الإلتزام الديني ، و الوحدة الإسلامية ، و يُبصِّرَهم هموم الأمة ، كما و يُشعرهم بقوتهم و عزتهم ، الأمر الذي يُرعب الأعداء و ينغص عيشهم و يربك مخططاته التآمريَّة تجاه الأمة الإسلامية .
و هناك كلمة مشهورة تُنسب لأحد الساسة الأجانب تكشف عن أهمية الجانب السياسي للحج في تقييم الساسة غير المسلمين ، حيث يقول : " ويل للمسلمين إذا لم يعرفوا معنى الحج ، و ويلٌ لأعداءِ الإسلام إذا أدرك المسلمون معنى الحج ! " .
هذا و ينبغي على علماء الإسلام المخلصين ، و الساسة المفكرين ، و رجال الأعمال و الإقتصاديين ، و الخبراء و أصحاب القرار في العالم الإسلامي التنسيق فيما بينهم لأجل عقد المؤتمرات المختلفة المختصة خلال موسم الحج لتبادل الأفكار و تلاقيها و بلورتها و صياغتها ، و التشاور فيما بينهم في قضايا الأمة الإسلامية بهدف تنمية الرؤى و الأفكار الكفيلة بوضع الحلول الناجعة لمعالجة آلام الأمة الإسلامية و مشاكلها المتزايدة .
المطلب الثالث
النظم الحياتية والأخلاقية في الإسلام(1/205)
الأخلاق هي شكل من أشكال الوعي الإنساني يقوم على ضبط وتنظيم سلوك الإنسان في كافة مجالات الحياة الاجتماعية بدون استثناء في المنزل مع الأسرة وفي التعامل مع الناس، في العمل وفي السياسة، في العلم وفي الأمكنة العامة. وضع الدين الإسلامي أساسا لتنظيم حياة الإنسان وعلاقته مع الناس، وعلاقته مع نفسه، ومن جملة هذه العلاقات تتكون الأخلاق والقيم، حسب خصوصية كل دولة. فمنذ القدم تسعى كل أمة لأن تكون لها قيما، ومبادئ تعتز بها، وتعمل على استمرارها، وتعديلها بما يوافق المستجدات، ويتم تلقينها وتدريسها، وتعليمها، وينبغي عرفيا، وقانونيا عدم تجاوزها، أو اختراقها. أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة". وكلمة أخلاق ETHIC مستخلصة من الجدار اليوناني ETHOS، والتي تعني خلق. وتكون الأخلاق ETHIC طقما من المعتقدات ، أو المثاليات الموجهة، والتي تتخلل الفرد أو مجموعة من الناس في المجتمع. وباللغة الأجنبية فيتخلف لفظ ETHIC عن لفظ Deontology، حيث تم اشتقاق هذا الأخير من الجدر اليونانيDEONTOS والذي يعني ما يجب فعله. وLogos والتي تعني العلم. وتعني اللفظتين معا العلم الذي يدرس الواجبات. كما تعرف « la Deontology » أنها مرادف للأخلاق المهنية لمهنة معينة(1).
أن الفضائل الإنسانية والأخلاق السامية التي حث عليها الإسلام من الصعب أن يسعها هذا الكتاب المتواضع . والتي شهد بها حتى غير المسلمون أمثال ( الدكتور : جوستاف لوبون ) حيث قال : ( أن أصول الخلاق في القرآن عالية علو ما جاء في كتب الديانات الأخرى جميعها )(2). ولكننا سوف نعرض بشكل سريع جزء من هذة الأخلاقيات. ومنها :
الأوّل ـ شكر المنعم:
__________
(1) ويعتبر الامام علي بن ابي طالب اول من تكلم عن الاخلاق كعلم قائم بحد ذاتة.
(2) حضارة العرب ) ص 454 نقلاً عن هامش كتاب روح الدين الإسلامي ص 204.(1/206)
قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)(1)، وقال عزّ وجلّ: (وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون)(2).
ولتوضيح رقي التصوير القرآني لمسألة شكر المنعم ـ بما لا يصل إليه العقل البشري من دون الاستعانة بمبدأ الوحي وبالتربيّة القرآنيّة ـ نبرز هنا عدّة نقاط:
__________
(1) الإسراء، الآية: 23 ـ 24.
(2) لقمان، الآية: 14 ـ 15(1/207)
النقطةة الأولى: لئن كان احترام الأبوين إلى حدّ التذلّل لهما والاهتمام بمداراتهما وبقضاء حوائجهما يعتبر أمراً طبيعيّاً في المجتمع الإسلامي، فهذا أمر مأخوذ من القرآن ومن مبدأ الوحي والإسلام، ولو أردنا أن نعرف ما هو الذي يترشّح في هذا الموضوع من عقل الإنسان غير المستنير بنور القرآن يجب أن ننظر إلى المجتمع الغربي الذي لم يتربّ ولو بمقدار تربيتنا الناقصة على يد القرآن. وها نحن نرى أنّ البارّ من أولادهم غاية ما يفعل لأبيه أو اُمّه العجوزين العاجزين هو أن ينقله إلى دار العجزة أو المستوصف الحكوميين، ولن يعود الشابّ إلى ذاك المكان عادةً إلاّ بعد إبلاغه خبر موته، فيعود بهدف بيع جثمانه للمستشفى. كما نرى كثيراً منهم يفضّل تربية كلب وتبنّيه على تربية ولد واحتضانه; لأنّ الكلب له صفة الوفاء والولد لا وفاء له ولو بمقدار وفاء الكلب، هذا هو مستوى إدراك من لم يتربّ تربية قرآنيّة.
النقطة الثانية: إنّ الله تبارك وتعالى قرن الإحسان بالوالدين بعبادته سبحانه وتعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أنْ لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ويبدو لنا في سرّ ذلك أنّ الله هو المنعم الحقيقي، وأوّل نعمه علينا هو نعمة الوجود، فهو الخالق لنا، والأبوان لهما دخل أيضاً في خلقنا وإيجادنا في حين أنّ ذلك خلق وإيجاد مجازي لا حقيقي; إذ ليسا إلاّ من المقدّمات الإعداديّة التي كانت مقدّميتهما أيضاً من إفاضات الله سبحانه، وقد يتّفق أنّهما لم يعملا ما عملا لأجلنا بل لأجل شهوتهما الجنسيّة، وقد لا تتحمّل الاُم مشاقّ الحمل والوضع والرضاعة إلاّ لمشتهياتها النفسيّة أيضاً، ولكن مع هذا كلّه أوجب هذا المقدار من الدخل لإيجاد الأولاد شكرهم لهما إلى حدّ خفض جناح الذل لهما من الرحمة.(1/208)
ولئن كان الشابّ الغربي البعيد عن تعاليم القرآن لا يتحمّلهما لدى الكبر إلاّ بمقدار النقل إلى المستشفيات ثم عيادتهما بعد موتهما لبيع جسدهما، فإنّ القرآن يربيّ أتباعه على عدم إبراز التضجّر من احتضان الأبوين لدى الكبر ولو بأبسط شيء، وهي قولة (اُفّ) بل أوجب عليهم خفض جناح الذلّ لهما من الرحمة.
والملاحظ أنّ الأمر بخفض جناح الذلّ للأبوين من الرحمة صدر من شريعة نهت على العموم عن التذلّل لغير الله، فنهت عن السجود لغير الله، وعن تقبيل اليد إلاّ يداً اُريد بها وجه الله ، وعن السلام على الغنيّ بغير وجه السلام على الفقير لاعتبار ذلك نوع تذلّل للغنيّ.
النقطة الثالثة: إنّك لا ترى قانوناً مفروضاً من قبل سلطان أرضيّ، يطلب من الرعيّة احترام عدوّه والعطف عليه والتعاطف معه بالرحمة والحنان لا لشيء إلاّ لحقّ الاُبوّة على الولد، في حين أنّك ترى القرآن قد أمر الولد بذلك بشأن أبويه حتّى ولو كانا مشركين، نعم استثنى عدم طاعتهما في نفس الشرك، وأنت تعلم أنّ من أعدى أعداء الله تعالى هو المشرك به عزّ وجلّ. وأمّا ما ورد في الروايات بصدد احترام حقّ الاُبوّة فقد بلغ مستوى أنّه لا يقاد الوالد بقتل الولد، في حين أنّه يقاد الولد بقتل الوالد ، ويقاد أيّ شخص ولو كان عزيزاً بقتل أيّ شخص ولو كان وضيعاً.
الثاني ـ الوفاء بالعهد:
قال الله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)(1).
وقال عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود)(2).
__________
(1) الإسراء، الآية: 34
(2) المائدة، الآية: 1.(1/209)
وقال عزّ مِن قائل: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)(1). وقال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين)(2). وقال عزّ مِن قائِل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون)(3). وقال عزّ وجل: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين)(4).
فبالله عليك هل تعرف سلطاناً أرضيّاً غير متربٍّ في مدرسة القرآن عندما أعطى الأمان لأعدى أعدائه في حالة الحرب لكي يوضّح له حججه، فلم يقتنع بها، يأمر بإرجاعه إلى مأمنه وفاءً بعهد الأمان، وبعد ذلك يُجوّز محاربته؟ أو يحتمل بشأن ما يترشّح من العقل الذي لم ير نوراً من القرآن والوحي غير أن يقول: مادام هذا العدوّ المحارب المسلّح لم يقتنع بحججنا فعليكم أن تقطّعوه إرباً إرباً، وإيّاكم أن تفسحوا له المجال للوصول إلى مأمنه؟
__________
(1) النساء، الآية: 21
(2) التوبة، الآية: 4.
(3) التوبة، الآية: 6.
(4) التوبة، الآية: 7(1/210)
وفي نقل آخر: "المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم"(1)، ومعنى سعي أدناهم بذمّتهم أنّ الأمان المعطى من قبل أدناهم يجب تنفيذه حتّى على أعلاهم، كما أنّ العالي والداني يتكافأ دمهما، فيقتل العالي وهو في أعلى مستوى اجتماعي بأدناهم نسباً وحسباً. فهل يتصوّر إمكان إدراك المجتمعات الغربيّة لهذا المستوى الأخلاقي في حين أنّ من أبرز مشاكلهم هو التمييز العنصري بين البيض والسود، وكأنّما الأسود عندهم في مرتبة أدنى من البشريّة ومتوسطة بين الإنسان والحيوان، بل أقلّ من الحيوان; لأنّهم لا يحترمون الأسود بقدر ما يحترمون الكلب؟
الثالث ـ العفو والصفح:
أفترى مخلوقاً غير متربّ بتربية القرآن يعفو عن مجرم ارتكب بحقّه شتّى ألوان الظلم والطغيان والإجرام على طول حياته، ثمّ تاب وطلب منه العفو في آخر لحظة؟!
__________
(1) ورد في أبي داود(1/211)
ولكنّك ترى القرآن وهو يخاطب المذنبين ـ حتّى مرتكبي الكبائر ومضيّعي أعمارهم بالانهماك في المعاصي ـ بتعبير عاطفي بليغ لو لم يكن يمتلك إلاّ حلاوة عطفه على عدوّه الذي أراد التوبة لكفاه عظمةً وجمالاً، وها هو قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم)(1) يعبّر عن هذا الخطاب الذي يجسّد مفهوم الرحمة بأجمل صورها. والسبب في هذا العطف وهذا القبول للتوبة واضح، وهو أنّ الله تعالى خلق عباده لكي يرحمهم كما يظهر من قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(2)، وخير رحمة للربّ هو تمكينهم من التكامل ومساعدتهم لذلك، والتوبة عبارة عن بداية الرجوع إلى خطّ التكامل وسدّها سدّ لباب التكامل; فلهذا فتح الله هذا الباب على عباده ولو كانت ذنوبهم كالجبال الرواسي. إلاّ أن انفتاح هذا الباب موقّت، وينتهي بمعاينة اُمور الآخرة لدى الموت وحضور السكرات كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(3). والسرّ في انغلاق باب التوبة بالمعاينة واضح أيضاً; لأنّ هكذا توبة ليست طريقاً للتكامل.
الرابع : الحث على العلم وإكرام العلماء :
__________
(1) الزمر، الآية: 53.
(2) هود، الآية: 118 ـ 119.
(3) النساء، الآية: 17 ـ 18.(1/212)
جاء في القرآن الكريم ترغيباً في العلم وحاثاً على طلبه ( يرْفعِ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنكمْ والذينَ أوتوا العلْمَ دَرجات )(1). كما أعلن النبي الكريم براءته من كل مسلم لا يسعى في طلب العلم ,فقال عليه الصلاة والسلام : «ليس مني إلا عالم أو متعلم»(2) بل أعلن النبي العربي براءة الإنسانية من كل من يؤثر الجهل. ويزهد في العلم النافع والثقافة المفيدة. كما اعتبر الإسلام الجاهل من فصيلة الحيوان الأعجم، قال ( ص ) : «الناس رجلان، عالم أو متعلم، ولا خير فيمن سواهما»(3).
كما نجد الرسول الكريم ( ص ) كان يهتم بالجانب التعليمي حتى في أصعب الضروف فنجده في معركة بدر عندما أسر المسلمون عدداً من المشركين طلب منهم الرسول أن يعلموا عشرة من المسلمين القرأة والكتابة مقابل إطلاق سراحهم . وفي ذلك دليل على أهمية العلم بالنسبة للإسلام فلم يطلب الرسول منهم أموالاً أو غيره بل طالبهم فقط بتعليم المسلمين الذين لا يعرفون القرأة ولا الكتابة .
__________
(1) المجادلة الآية: 11
(2) رواه الديلمي عن ابن عمر.
(3) رواه الشيخان والترمذي.(1/213)
وفي ظل فهم قيمة العلم بحقيقته وفروعه نبغ المسلمون في العلوم كلها وتتبعوا كتب المعارف فترجموها. في ظل فهم القرآن والإسلام، اخترع جابر بن حيان علم الكيمياء ، واستأثر دون العلماء كافة بأسرار الكيمياء، وفي ظل فهم القرآن والإسلام نبغ المسلمون ، فكانوا أول بناة المراصد الفلكية في العالم، وأول صانعي التلسكوبات، في ظل دولة الإسلام، تمت المباحث الروحية والنفسية والفلسفية ومن علمائها ابن سينا والغزالي، وابن رشد والفارابي، وابن مسكويه وغيرهم. وفي ظل دولة الإسلام قامت فنون الهندسة المختلفة، وحاول المسلمون الطيران في السماء، وأولهم عباس بن فرناس. في هذه الحضارة والعلوم، منشؤها تعليم القرآن وفهم الإسلام، الذي يأمر أهله باستعمال العقل والفكر في الاستدلال. ودراسة أنفسهم، ودراسة الظواهر الجوية والطبيعية، والقرآن الكريم أول من ذكر للإنسان، أطوار تخلق الجنين، قبل أن يعرفها أي عالم في الأرض.
الخامس : الصدق .(1/214)
الصدق نقيض الكذب، وهو قول الحق ، والمطابق للواقع والحقيقة، والصادق هو المخبر بما يطابق اعتقاده، والصديق المبالغ في الصدق(1). قال الله تعالى : ( ليسأل الصادقين عن صدقهم )(2) . يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)(3) و يقول المولى عزوجل: ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه وذلك هو الفوز العظيم)(4). ويقول الرسول ( ص ) : " عليكم بالصدق فإنّه مع البر ، وهما في الجنة ، وإياكم والكذب فإنّه مع الفجور ، وهما في النار ، وسلوا الله اليقين والمعافاة، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، و لا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً، كما أمركم الله "(5). بلاشك فأن الصدق هو من أهم الدعائم التي يجب أن تقوم عليها المجتمعات المتحضرة . ففيه إشاعة الثقة والأمن وتردد الحقوق وبفقدانه تنعدم الثقة ويصبح العالم كالغابة .
السادس : الرحمة .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور ج 1ص193
(2) الأحزاب: 8
(3) التوبة : 119
(4) المائدة: 119
(5) رواه أحمد والبخاري وابن ماجة.(1/215)
موضوع الرحمة هو أساس من الأسس التي قام عليها الإسلام كما ورد في القرآن:( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(1) والعالمين يأتي من بعض معانيها التي فسرت بها هو جميع أصناف الخلق ( جميع الخلق من الأنس والجن والملائكة والدواب وغيره لكل منها يطلق عليه عالم )(2) . وهنا يتضح شمول الرحمة في الإسلام ليس فقط على بني البشر وإنما حتى الحيوانات صغيرة كانت أم كبيرة . وحياة الرسول كلها شاهد على ذلك . حتى عندما أوذي من قومه بشكل مروع لم يدع عليهم بل كان يطلب من الله دوماً أن يهديهم .وكان يقول ن نفسه : ( إنما أنا رحمة مهداة )(3) وقال ( ص ) لعائشة أم المؤمنين ( رض ) : ( يا عائشة أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف ومالا يعطي على سواه )(4) وغيرها الكثير من الأحاديث الشريفة.
كما وحث الإسلام على الرفق بالنساء والأطفال حيث قال في الحديث المعروف ( .. رفقاً بالقوارير) وقد روي عن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس أبصر النبي ( ص ) يقبل الحسن أبن علي أبن أبي طالب ( رض ) فقال : أن لي عشرة من الولد ماقبلت واحداً منهم . فقال الرسول ( ص ) : ( من لا يرحم لا يرحم )(5) . ومن خلق النبي ( ص ) أنه كان أرفق الناس بالبهائم حيث روي عنه أنه قال : ( عذبت أمرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )(6).
وقد ترد ملاحظة من البعض والذين يتصورون أن الدين الإسلامي هو دين دموي وأن المسلمون أبعد ما يكونوا عن الرحمة والرأفة وذلك بسبب ممارسة بعض المنسوبين للأسلام . والذين يستبيحون دماء الناس .
والرد على ذلك هو :
__________
(1) الأنبياء الآية 107
(2) تفسير الإمام جلال الدين المحلي .
(3) أخرججة مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً أنظر تفسير أبن كثير ج3 ص201
(4) صحيح مسلم ج1 ص 22
(5) صحيح مسلم ج7 ص 77
(6) صحيح مسلم ج8 ص 35(1/216)
أولاً: بأن الأديان وحتى التيارات الفكرية وغيرها لا تحمل على تصرفات متبعيها إن لم تكن تلك التصرفات نابعة من المبدئ الأساسي لتلك الأديان أو التيارات . بل أن الدين يحمل على فكرته الأساسية وما يحمل من أفكار وتوجهات ومبادئ . وبالتالي فالإسلام ليس مسؤولاً عن تصرفات بعض الأشخاص الذين أدعوا بأنهم حاملي راية الإسلام الحقيقي وأن المسلمين جميعاً خارجين عن الإسلام أو كفرة . وراحوا يقتلون وسيتحلون الدماء والأعراض. فأصبحوا بذلك هم الخارجون عن الإسلام وما بقي شيء منه في قلوبهم إلا ما تردده ألسنتهم.
ثانياً: أن ضحية مثل هؤلاء لم يكونوا فقط من غير المسلمين بل أن أغلب ضحايا هؤلاء هم من المسلمين . وفي ذلك دليل على أنهم لا يحملون شيء من روح الإسلام سوى الكلام الذي ترددة شفاههم . وبالتالي من الظلم أن ننسبهم للإسلام .
ثالثاً : في العادة أن من يدافع عن فكر أو دين معين يسعى جاهداً لعمل كل ما يصب في مصلحة ذلك الدين أو الفكر , ويسعى جاهداً لإبعاد كل أمر يسيء لفكره أو دينه . ولكننا نجد أن الحال غير ذلك مع هؤلاء المحسوبين , فهم يقومون بأعمال بإسم الإسلام والدفاع عن الإسلام لكي يطعن بها الإسلام ويهدم بها الإسلام ولا نعلم أهم يقصدون ذلك أم هم ممن ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال : (قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )(1) . وكانت النتيجة بعد ذلك أن شوهت صورة الإسلام في العالم . فهل يصح أن ننسب هؤلاء للإسلام؟؟؟.
بعد أن تعرضنا لمقتطفات من أخلاق الإسلام والمسلمين وكما أشرنا سابقاً إلى أننا تعرضنا لهذا الموضوع بإختصار شديد .
الخلاصة :
__________
(1) الكهف : 103 – 104(1/217)
قد يتصور شخص ما بأن الأخلاق إنما هي مثل بسيطة وأن الأمم ليست بحاجة ماسة لها وأن الحياة ممكن أن تستمر من دون التمسك و الإلتزام بالأخلاق . ولنبدأ لتوضيح الفكرة بالإشارة إلى مشكلة الإنسانيّة المعذّبة والحلّ الذي أتى به القرآن والإسلام لذلك، ونفتتح الحديث بإلقاء نظرة مختصرة على بعض بديهيّات الساحة التي نعيشها في الوقت الحاضر والتي وصلتنا بشكل قاطع من وقتنا القريب، وانتهت إلينا أيضاً من التاريخ المتحدث عن الوقت البعيد، أو من الكُتب السماويّة التي تكلمت عمّا قبل التاريخ:
إنّ البشريّة المعذّبة لم تر حتّى الآن حياة اجتماعيّة طيّبة وهنيئة على وجه الأرض، ابتداءً بالمجتمع الأوّلي الصغير الذي وقعت فيه مشكلة هابيل وقابيل، وانتهاءً بزماننا هذا الذي تعتبر فيه الصهيونيّة من مفردات مشاكله وويلاته البارزة، فقد شكّلت مصدراً للظلم وهدر الحقوق بالنسبة للعرب والمسلمين معاً، وهم يقفون في وجهها مضحّين بالغالي والنفيس في سبيل ردء الظلم عن أنفسهم واسترجاع حقوقهم. ويعتقد المسلمون أنّ الحلّ الوحيد لجميع المصائب الاجتماعيّة والظلم والمحن والاضطهاد هو الإسلام. إلاّ أنّ الإسلام لم يطبّق حتّى يومنا هذا على وجه الأرض سوى في عهد الرسول والعهد الراشدي . وحتى في عهد الرسول والخلفاء من بعده لم تترسخ مفاهيم ومثل الإسلام في نفوس الناس كافة حتى تقطف الثمار الحقيقية لحكومة الإسلام . والدليل على ذلك أن هنالك من أرتد عن الإسلام بمجرد وفاة الرسول ( ص) . ذلك لأن المجتمع آنذاك كان مليئاً بالمنافقين والذين أخفوا كفرهم . وكان لهم فيما بعد الدور الأكبر في معاناة الشعوب وجلب الويلات لهم من حروب وغيرها إما بإدارة مباشرة منهم وفي حياتهم أو من خلال معتنقي فكرهم المغلف بالإسلام في العصور التالية .
والداء الذي سبّب هذا العذاب للبشريّة واضح، وهو مؤلّف من أمرين:(1/218)
أحدهما: محدوديّة وضيق النعم الدنيويّة وملاذّها في نظر هذا الإنسان الذي خلق هلوعاً بالرغم من أنّنا لو عددنا تلك النعم لا نحصيها،
والثاني حبّ الذات في الإنسان ممّا أدّى إلى تكالبه على ما يمكن أن يقع بيديه من النعم واللذائذ المادّيّة، فمجموع هذين الأمرين هو الذي خلق هذا التنافس المحموم على الدنيا والصراع من أجلها ممّا سبّب التعارض والتسابب والتقاتل وسائر أنواع الظلم والاضطهاد والحيف وما إلى ذلك.
وعلى أثر ذلك قدّم العالَم حلّين نظريّين لهذه المشكلة التي هي اُمّ المشاكل المادّيّة، ولا ثالث لهما:
أحدهما:
نزع حبّ الذات بالتدريج من النفس البشريّة، وتبديله بحبّ المجتمع عن طريق تطبيق نُظُم الاشتراكيّة إلى أن ينتهي الأمر إلى الشيوعيّة. وهذا الحلّ لايمكن تطبيقه لتعارضه مع أمر ذاتيّ يستحيل نزعه من البشريّة، وهو حبّ الذات. وكان على رأس أصحاب هذه النظريّة المعسكر الاشتراكي الذي كان مسيطراً على إحدى القوّتين المتنافستين للهيمنة على العالم الثالث، وقد انهار في زماننا شرّ انهيار، وليس ذلك إلاّ لكون نظريتهم خياليّة بحتاً لا تقبل التطبيق.
ثانيهما:
عكس الأوّل تماماً، وهو نظريّة إعطاء الحرّيات الأربع ـ الحرّية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والشخصيّة ـ بأقصى ما يمكن. وهذه هي النظرية التي أخذ بها المعسكر الآخر في العالم في مقابل المعسكر الاشتراكي وهو المعسكر الرأسمالي، وكانت نتيجتها تصاعد التنافس المحموم في العالم على أثر الحرّيات المفروضة ممّا أدّى إلى تعقّد مشكلة البشريّة بأقصى ما يمكن أن يكون. أمّا العلاج المطروح من قبل القرآن أو الاسلام فهو عبارة عن تضافر أمرين:
الأوّل:(1/219)
دلالة الإنسان على عدم انحصار النعم والملاذّ المادّيّة من المأكولات والمشروبات وما إلى ذلك التي هي أقرب إلى نفس الإنسان الساذج والبسيط بالنعم المحدودة في الدنيا، وأنّ هناك أمثالها بل أعلى منها بمراتب لا تحصى في العالم الآخر، والتنافس الظالم في هذا العالم يمنع عن التنافس في تلك، فالأفضل ـ حتّى لمن لا يدرك إلاّ الملاذّ المادّيّة ـ صرف عنان التنافس إلى تلك النعم الخالدة; اذ لا يخلق التنافس فيها أيّ مشكلة من المشاكل، بل التنافس فيها يجرّ الإنسان إلى الأعمال الفاضلة والحميدة لا إلى الشرّ والظلم. ألا وهي الجنّة التي عرضها السماوات والأرض اُعدّت للمتّقين. والآيات التي تشير إلى نعم الجنّة اللامتناهية كثيرة، نكتفي هنا بالإشارة إلى واحدة منها، قال الله تعالى: (إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاء لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ ءَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * ءَإِذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا ءَإِنّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَل الْعَامِلُون)(1)
__________
(1) الصافات، الآية: 40 ـ 61(1/220)
.
ولم ينفِ القرآن حالة التنافس الموجودة في ذات البشريّة ـ التي هي مثار الفتن بالنسبة لنعم الدنيا ـ ولم يردع عنها، بل صرفها من النعم الضيّقة والفانية التي يؤدّي التنافس فيها إلى التكالب والتضارب إلى تلك النعم التي لا يكون طريق الوصول إليها إلاّ ترك الظلم والطغيان، وأمر بالتنافس فيها ورغّب البشريّة في ذلك كما قال: (إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيم * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون)(1)، و التنافس هنا ليس كالتنافس في اُمور الدنيا مثاراً للمشاكل لأنّ ازدياد أحد من تحصيل تلك النعم لا يَنقص شيئاً من الآخر.
الثاني:
فتح بصيرة الإنسان على اللذائذ المعنويّة التي تفوق للعارف بها اللذائذ المادّيّة بمراتب لا تحصى، وتزيد تلك المراتب وتنقص بقدر زيادة المعرفة في الإنسان ونقصانه.
وشرح ذلك يطول ولكنّنا أشرنا إشارة سريعة فيما مضى إلى النظم الإجتماعية والأخلاقية في الإسلام التي تهذب النفس البشرية وتكون العامل الأساسي في سعادة الإنسان في كل زمان ومكان .
شذرات من أخلاق الرسول(ص):
__________
(1) المطفّفين، الآية: 22 ـ 26.(1/221)
وما دمنا قد طرقنا باب أخلاقيّة الإسلام بمقدار تعرضنا لبحار الأخلاق الواردة في دين الإسلام، فلا بأس بأنّ نبحر ببحر أخلاق رسول الله(ص)الذي قال الله تبارك وتعالى بشأنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم)(1)، (فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين)(2)، ونذكر هنا مقتطفات من أخلاقه(ص) الرفيعة والتي تمثّل أجلى صورة للأخلاق الإسلاميّة السامية:
الأوّل: حينما فتح مكّة عفا عن كلّ الأعداء ومجرمي الحروب التي شنّوها عليه(ص)، ووقف ـ بأبي وأمي ـ قائماً على باب الكعبة فقال: "لا إله إلاّ الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا إنّ كلّ مال ومأثرة ودم يدّعى تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما... ألا لبئس جيران النبيّ كنتم، لقد كذّبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلوني! إذهبوا فأنتم الطلقاء". فخرج القوم وكأنّما نُشروا من القبور ودخلوا في الإسلام، وقد كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمّي أهل مكّة بالطلقاء(3).
الثاني: حينما دخلوا مكّة نادى سعد بن عبادة أحد آمري اللواء: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً. ولكن نادى رسول الله(ص): "يا أبا سفيان، بل اليوم يوم الرحمة، اليوم أعزّ الله قريشاً". وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء.
__________
(1) القلم، الآية: 4.
(2) آل عمران، الآية: 159.
(3) تاريخ الطبري : 2|337(1/222)
الثالث: حينما دخل النبيّ(ص) مكّة غلق عثمان بن أبي طلحة العبدي باب البيت وصعد السطح، فطلب النبيّ(ص) المفتاح منه، فقال: لو علمت أنّه رسول الله لم أمنعه. فصعد علي بن أبي طالب السطح ولوّى يده، وأخذ المفتاح منه وفتح الباب، فدخل النبيّ(ص) البيت فصلّى فيه ركعتين، فلمّا خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، فنزل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(1)، فأمر النبيّ(ص) أن يردّ المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال له عثمان: يا علي، أكرهت وآذيت ثمّ جئت برفق؟ قال: لقد أنزل الله عزّ وجلّ في شأنك وقرأ عليه الآية، فأسلم عثمان فأقرّه النبيّ (ص) في يده.
أخلاق ومميزات الرسول ( ص ) لا يسعها هذا الكتاب أو غيره وحسبنا قول الله تعالى فيه : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
المطلب الرابع
الإقتصاد في الإسلام
النظام الاقتصادي في الإسلام هو جزء من الدين الإسلامي الذي شمل جميع مجالات الحياة . كما أن الإقتصاد الرأسمالي هو جزء من الديمقراطية الرأسمالية التي شملت كل جوانب الحياة ( حسب فهمهم ) , والإقتصاد الماركسي هو جزء من المذهب الماركسي الذي تطرق لشتى جوانب الحياة ( في إطاره الخاص ).
ولكن هذة الانظمة الإقتصادية هي نتاج جهد بشري تبلورت على أثره النظريات التي قامت عليها تلك الأنظمة. لكن فيما يتعلق بالإقتصاد الإسلامي فهو من إبداع الخالق عز وجل . وأصبح بذلك نظام متميز متكامل لا يماثله أي نظام سواء كان قديم أو حديث لأنه نظام كامل لا نقص فيه .
__________
(1) النساء، الآية: 58.(1/223)
ولا يجد الباحث في الإقتصاد الإسلامي تناقض بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع , لأن الدولة في الإسلام جهاز يكفل تنظيم المجتمع وحمايته، وتوضح هذة الحكومة دور كل فرد وواجبه تجاة الأفراد والمجتمع . والدولة في الإسلام لا تقوم على مبدء الأكثرية والأقلية أو على أساس الطبقات الإجتماعية إذ إن نظام الحكم في الإسلام هو فوق القوميات والعصبيات الجاهلية، وفوق التكتل على أساس روابط العرق واللون أو الطائفية. وبذلك نضمن عدم إنفراد فئة معينة بالسلطة وبالتالي تسخر ها لمصالحها كما حصل في النظام الديمقراطي الرأسمالي . حيث أنفرد أصحاب النفوذ والمال بالسلطة وأخذوا يسنون القوانين التي تطلق لهم العنان في كل وسائل كسب الثروة على حساب الفئة الضعيفة .
الجانب الاقتصادي في الإسلام يقوم على النص الإلهي في القرآن الكريم فإن الرسول (ص) لا يصدر تشريعاً أو سنة إلا في إطار التخطيط الرباني. فالقرآن هو الأصل (الدستور) والسنة (يقصد بها ما صدر عن الرسول(ص) من قول أو فعل أو تقرير فيكون هذا تشريعاً)، وهكذا كانت السنة بمثابة ما يدعى اليوم بالقوانين. وقد اشتملت حكومة الرسول (ص) في الجانب الاقتصادي على الأحكام العامة وأحكام الصدقات والإنفاق والزكاة والفيء والخراج والجزية والحسبة والموازنة بين نفقات الدولة ومواردها وغير ذلك.
ولايسعنا في هذا المقام أن نسرد التفاصيل التي ألف فيها المختصون المئات من المجلدات.
الفصل الرابع
المذاهب الإسلامية
أولاً : السنة .(1/224)
أهل السنة و الجماعة أو المذهب السني هو مذهب عدد كبير من المسلمين أطلقت على نفسها اسم أهل السنة والجماعة. يتبعون القرآن وسنة الرسول ( الثابتة لديهم في كتب السيرة المعتمدة لديهم التي سيرد ذكرها إ شاء الله ) . ويقرون بالخلافة الراشدية لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي . هذا المصطلح يختزن مفهوما عقديا دينيا في كلمة السنة بأن هذا المذهب هم متبعو السنة النبوية (أقوال و أفعال و تقارير رسول الإسلام محمد بن عبد الله ) و مفهوما سياسيا يتبدى من خلال تأكيد فقهاء هذه الجماعة دوما على وحدة الجماعة و منع الفتنة ووجوب طاعة الحاكم أيً كان ( ولي الأمر كما يسمونه ) , و هو موقف بدأت بوادره في موقف الكثير من الصحابة عندما اعتزلوا الفتنة (الصراع بين علي ومعاوية ) من ثم قبلوا بحكم معاوية بعد أن استتب له الأمر .
مؤخرا تحاول الكثير من الجماعات الإسلامية جعل هذا المصطلح اسما للفرقة الناجية ( المذكورة في أحد الأحاديث النبوية و الذي يقول أن الاسلام يفترق على احدى و سبعين فرقة لا تنجو منهم الا فرقة واحدة ) و بالتالي تحاول الكثير من هذه الجماعات احتكار هذا الاسم لها مثل الكثير من الجماعات الاسلامية , رغم ان المفهوم التاريخي لهذا المصطلح كان يشمل جميع المذاهب المتبعة لسنة الرسول محمد بن عبد الله ( ص ).
الفقه السني(1/225)
تعود نشأة المذاهب الفقهية الى الفترة مابعد وفاة الرسول ( ص) . وذلك لأن المسلمون كانوا يتلقون الفقة والعلوم الشرعية من رسول الله ( ص) مباشرة ولم يكن لأحد أن يجتهد في مسألة معينة والرسول حي يرزق . بعد وفاة رسول الإسلام محمد ( ص ) بفترة ليست بالقصير ة اجتهد صحابته و أتباعه و المسلمين عامة في تطبيق أقواله و أفعاله كلاً حسب فهمه. ومع انتشار الإسلام و توسعه و تعرضه للكثير من القضايا الجديدة الدينية و التشريعية كانت هناك حاجة ملحة للخروج باجتهادات لهذه القضايا الفقهية المستجدة و تلبية حاجات الناس و الإجابة عن تساؤلاتهم و من هنا نشأت جماعة من المتفقهين (العالمين) في الدين تعلم الناس في كل إقليم شؤون دينهم و دنياهم .
إن التوسع الجغرافي للإسلام و تنوع البيئات التي انتشر بها , و أيضا قابلية الكثير من النصوص الشرعية الإسلامية للاجتهاد فيها حسب الظروف و الحالات أديا إلى نشوء مدارس فقهية منتشرة في الأمصار الإسلامية , و أصبح لكل عالم فقيه أتباع يعملون على نشر فتاواه و حتى العمل ضمن القواعد التي يضعها لإصدار فتاوى جديدة .
أصول الفقه لأهل السنة تقوم علي القرآن الكريم والسنة النبوية (حديث نبوي) المطهرة والإجماع والقياس. السنة النبوية مجموعة في كتب السنة العشرة ومنها صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن الأربعة كسنن أبي داود وسنن النسائي والمسانيد كمسند أحمد بن حنبل وغيرها كمصدر للاعتقاد والتشريع. وهذه المذاهب ما هي إلا مدارس فقهية ولا يوجد بينها اختلاف في العقيدة , كما أن هناك مذاهب فقهية أخرى غير هذه الأربعة .(1/226)
تعد هذة المذاهب أكثر المذاهب الإسلامية أتباعا وسعة انتشار, حيث يبلغ عدد متبعيه حوالي 80% من مسلمي العالم. كما يعد المذهب الرسمي لمعظم الدول الإسلامية اليوم وقديما كان المذهب الرسمي للعديد من دول الإسلام السابقة شرقا وغربا, فعلى سبيل المثال اعتمدت الدولة العثمانية المذهب الماتريدي السني كمذهب رسمي كما اعتمدت المدرسة الحنفية كمصدر لأحكام وتشريعات الدولة, مع االاعتراف بالمذاهب الأخرى وتعيين قضاة ومدرسين لها. المذاهب الفقهية الأربع التي انتشرت بشكل و اسع عند اهل السنة و أصبحت رسمية في معظم كتبهم هي حسب ظهورها:
مذهب أبي حنيفة النعمان(1) ( المذهب الحنفي )(2).
__________
(1) هو النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة سنة ولد في مدينة الكوفة في سنة 80 هـ وتوفى في 11 من جمادى الأولى 150هـ حيث قضى معظم حياته متعلما وعالما. وهو فارسي الأصل من تابعي التابعين وهو امام أهل الرأي وفقيه أهل العراق . يقع قبره في مدينه بغداد في منطقة الأعظمية على الجانب الشرقي من نهر دجلة.
(2) من المراجع التي تم الرجوع إليها : الامين، شريف يحيى، معجم الفرق الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار الاضواء، ط1، 1406 هـ. ق ـ 1986 م ) / احمد امين، ظهر الاسلام (بيروت ـ لبنان، دار الكتاب العربي، ط 5، 1373 هـ. ق ـ 1953 م( / الاشعري، علي بن اسماعيل، مقالات الاسلاميين / ابن كثير، البداية والنهاية، (القاهرة ـ مصر، دار الحديث، 1992 م، ط1) / محمد ابو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر العربي(. / ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والاهواء والنحل (بيروت ـ لبنان، دار الجيل، 1405 هـ ـ 1985 م .((1/227)
أصول المذهب الحنفي كما يقول عنها أبو حنيفة {إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا}. وكان هذا المذهب الإجتهادي أثر كبير لكثرة الأخذ فيه بالرأي المستند إلى روح الشريعة ومبادئها سواء ما كان منه قياساً أو أستحساناً أو مصالح مرسلة وأطلق على هذا المذهب ( مذهب أهل الرأي )(1) واعتمد في مذهبه على الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاستحسان والعرف وقول الصحابي وشرع من قبلنا. وله في علم العقيدة كتاب الفقه الأكبر.
عندما اشتد الخلاف في زمن الدولة الاموية بين اهل الرأي وأهل الحديث وكانت الدولة الاموية تدعم في ذلك اهل الحديث، واستمر هذا الخلاف حتى سقوط الامويين وقيام الدولة العباسية التي اخذت تعتمد الموالي وتقربهم حتى تبلور تيار الحنفية، والتف حوله الموالي واصبح المذهب الرسمي للدولة العباسية. اخذت الدولة العباسية تغدق بالعطاء والهدايا على اهل الرأي فحاول بعض علماء هذا الاتجاه تأييد وجهة نظر الدولة ودعمها في بروز هذا التيار (الحنفية) ونشوئه.. مؤسس هذا المذهب هو ابا حنيفة حيث خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية العقل واستعمال الرأي والقياس، وقد تميز بمقدرة فائقة الاستنباط فأحدثت افكاره تياراً استقطب الكثير من المؤيدين له.
اعتمد هذا المذهب افكاراً ومعتقدات من أهمها :
الاصول عند الحنفية هي : ( الكتاب والسنة واجماع الصحابة والقياس والاستحسان والعرف).
.اهم مصادر التشريع عندهم هو الاخذ بالقياس حتى عرفوا به وتميزوا عن بقية المذاهب.
__________
(1) كتاب دراسات في الثقافة الإسلامية والفكر المعاصر – محمود الأحمد ص 142.(1/228)
ان الايمان هو المعرفة بالله ورسوله والاقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير.
أغلقوا باب الاجتهاد مكتفين باجتهاد الائمة السابقين وصار عصرهم عصر تقليد واختيار من كتب السابقين.
قالوا في الكفر والشرك هما اسمان واقعان على معنيين وان كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً، وقالوا : لاشرك الا من جعل لله شريكا، واما اليهود والنصارى فكفار لامشركون وسائر الملل كفار مشركون.
كان من مبدئهم اعمال عقولهم فيما اذا روي في المسألة قولان او اكثر في الصحابة فيختارون منها أعدلها أو اقربها الى الاصول العامة وعدم الاعتداد بأقوال التابعين.
قالوا انه لايكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد ، وان كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى انه الحق، فهو مأجور على كل حال، ان اصاب الحق فله اجران وان أخطأ فأجر واحد.
كان لهم في الحديث مسلك خاص وهو التشديد في قبول الحديث والتحري عنه وعن رجاله حتى يصح، وكانوا لايقبلون الخبر عن رسول الله الا اذا رواه جماعة عن جماعة.
أبرز الشخصيات:
النعمان بن ثابت (ابو حنيفة).
ابو يوسف (قاضي القضاة).
محمد بن الحسن الشيباني.
محمد بن شجاع الثلجي.
زفر بن هذيل.
محب الدين بن محمد الهندي.
الحسن بن زياد اللؤلئي الكوفي.
جمال الدين الحصيري الحنفي.(1/229)
مذهب مالك بن أنس(1) ( المذهب المالكي )(2).
__________
(1) هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن حارث , ينتهي نسبه إلى عمرو بن الحارث ذي أصبع الحميري من ملوك اليمن .العربي الصريح . ولد في ربيع الأول سنة ثلاث و تسعين من الهجرة (كتاب أئمة الحديث النبوي , للدكتور عبد المجيد الحسيني ).
(2) من المراجع التي تم الرجوع إليها: الزاوي ، مناقب مالك. / الممالك في مناقب الإمام مالك , الإمام السيوطي ( ط1 , دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع ) / ابن عبد البر يوسف بن عبد الله المزي القرطبي ، الانتقاء (بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية) / ابن قتيبة الدنيوري ، عبد الله بن مسلم ، الامامة والسياسة / السيوطي ، تزين المسالك. / الامين ، شريف يحيى ، معجم الفرق الاسلامية ، (بيروت ـ لبنان ، دار الاضواء ، ط1 ) / للمقرئ التلمساني ، نفح الطيب / احمد امين ، ضحى الاسلام (بيروت ـ لبنان ، دار الكتاب العربي .(1/230)
وهو من اوسع المذاهب الاسلامية انتشاراً في القديم ، ويتبني على الآراء الفقهية والعقائدية والسياسية للامام مالك بن أنس. تبلور مذهباً واضحاً ومستقلاً في القرن الثاني الهجري. أهم أفكاره إغلاق باب الاجتهاد ، وعدم جواز الخروج على الحاكم. تأسس المذهب المالكي على يد مالك بن أنس بعد اتصاله بالخليفة العباسي المنصور، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري ، وتطورت معالمه على يد تلاميذه من بعده. وارتفع شأنه وصار له صيت شائع نتيجة للدعم اللامحدود الذي أولاه اياه العباسيون، حتى ان المنصور قال له يوماً : ( أنت والله اعلم الناس وأعقلهم. لئن بقيت لاكتبن قولك كما تكتب المصاحف ، ولا بعثن به الى الآفاق فأحملهم عليه(. . توسعت قاعدة المذهب المالكي في الحجاز والمدينة المنورة بسبب دعم العباسيين لهم وكان سببا في كسب الناس. وبناءاً على طلب المنصور والمهدي صنف مالك كتاب (الموطأ) ، وما إن فرغ منه حتى فرضه العباسيون على الناس بحد السيف.ـ منح مالك اضافة لسلطة القضاء صلاحيات أخرى ، فكان يسجن ويجلد وقد ذكرت كتب مناقب مالك كثيرا من ذلك.
في عام (237 هـ) اخرج قاضي مصر اصحاب ابي حنيفة والشافعي من المسجد ، فلم يبق سوى أصحاب مالك ، وكان للقاضي الحارث بن سكين الأثر الفاعل في نشر المذهب هناك.(1/231)
أصدر المنصور أوامره الى ولاته بأن يكونوا طوع إرادة مالك ، فاصبح مهاباً عند الولاة والناس على السواء. وفي المغرب العربي كان لـ (يحيى بن يحيى) ، وهو من تلاميذ الإمام مالك ، الأثر الفعال في نشر المذهب هناك وكسب المؤيدين له ، فقد كان مكيناً عند السلطان ، وقد استغل هذه لمكانة فكان لا يولي القضاء الا من كان على مذهبه. تبنت دولة المرابطين ومن بعدها دولة الموحدين في المغرب الاقصى مذهب مالك ونشروا الكتب التي تحوي آراءه. ـ توسع المذهب ورسخت قواعده بسبب دعم السلطة له ، قال ابن حزم : « مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان ، الحنفي في المشرق ، والمالكي بالأندلس » وفي عهد الرشيد حصر الإفتاء بيد مالك بن أنس. يعتقدون بصحة ايمان من وحد الله واعترف بالرسول (ص) وإن لم يصل ولم يصم.و يقولون بجواز الرؤية البصرية على الله تعالى في يوم القيامة ، مستدلين بقوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة ) وكذلك يقولون بأن الخلافة لا تصح في غير قريش. و يعتقدون بعدالة الصحابة وحجية اقوالهم جميعا.ولايجوز في نظرهم الخروج على الحاكم.
و يرون طهارة الكلب وطهارة ماولغ فيه. يجيزون دخول المشرك الى المساجد عدا المسجد الحرام.
يعتقدون بصحة الصلاة الى جنب المراة وان كانت اجنبية. و يعتقدون بأن الخليفة يصبح شرعياً إذا بايعه أهل الحرمين (مكة والمدينة) ، ولا تصح حتى لو بايعته كل الاقاليم إذا لم يبايعه أهل الحرمين.ـ اصول التشريع عندهم هي الكتاب ، والسنة ، وقول الصحابي ، والقياس ، والاستحسان، والعرف ، والعادة ، والاجماع ، والمصالح المرسلة وقيل اكثر من ذلك. ...
من أبرز شخصيات المذهب :
مالك بن انس (93 ـ 179 هـ ( :
عبدالرحمن بن القاسم العتقي (132 ـ 191 هـ ( :
عبدالله بن وهب المصري (125 ـ 197 هـ (:
أشهب بن عبدالعزيز بن داود المصري ( 145 ـ 204 هـ (:
عبدالله بن الحكم المصري (155 ـ 214 هـ ( :(1/232)
اصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع (151 ـ 225 هـ )
من أبرز المؤلفات في هذا المذهب:
الموطأ للإمام مالك.
المدونة وهي آراء الإمام مالك الفقهية جمعها ودونها سحنون بن سعيد التنوخي .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن أحمد بن رشد القرطبي .
مختصر خليل أهم مختصر عند المالكية وله شروحات كثيرة.
مذهب محمد بن ادريس(1) الشافعي ( المذهب الشافعي )(2).
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن عبد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطّلبي الشافعي الحجازي المكي يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. ولد في سنة مائة وخمسين وهي السنة التي توفي فيها ابو حنيفة. ولد بغزة , وقيل : بعسقلان, ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين.
(2) من المراجع التي تم الرجوع إليها: الشنتناوي، خورشيد، دائرة المعارف الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار المعرفة). / احمد امين، ضحى الاسلام /احمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1) / بوجينا غيانه، تاريخ التشريع الاسلامي / الخضري، تاريخ التشريع الاسلامي (بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية ط9 ) / السبكي، طبقات الشافعية (القاهرة ـ مصر، مطبعة عيسى البابي، ط 1) / الزلمي، مصطفى ابراهيم، اسباب اختلاف الفقهاء، (بغداد ـ العراق، ط2( / الغزالي، محمد بن محمد ، المهذب في فقه الشافعي (القاهرة ـ مصر، دار احياء الكتب العربية الكبرى، ط 2( / الامين، شريف يحيى، معجم الفرق الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار الاضواء، ط1) / النديم، الفهرست، (القاهرة ـ مصر( / ياقوت الحموي البغدادي، معجم الادباء، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر، ط3) / محمد ابو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر العربي)(1/233)
ويعد المذهب الشافعي متأثراً بالمذهبين الحنفي والمالكي وذلك لأنه أخذ العلم عن الإمام مالك كما أنه سافر إلى العراق وأتصل بأصحاب أبي حنيفة . ومزج في مذهبه بين طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث وخرج بمذهبه المستقل والذي أعتبر فيه الإجتهاد أصل من أصول الشريعة(1). ومما يذكر أن الإمام الشافعي يعد أول من دون كتاباً متكاملاً في العلم المعروف بأصول الفقه وذلك من خلال كتابه الشهير (الرسالة)، كما دون كتباً أخرى منها:(الحجة) وهو الكتاب الفقهي الذي دونه أولاً في العراق ثم أعاد تأليفه وغير مذهبه في بضع عشرة مسألة فقهية فيه عندما سكن القاهرة وسماه(الأم).
تلقى محمد بن ادريس الشافعي الفقه والحديث على يد مالك، والرأيَ على يد محمد بن الحسن الحنفي، ونظراً لتمتعه بالثقافة الواسعة والقدرة الفائقة على الجدل فقد استطاع أن يرسم لنفسه منهجاً وسطاً جمع فيه بين مدرستي الرأي والحديث، تمخض عنهما المذهب الشافعي. ولعل أهم العوامل التي هيأت للإمام الشافعي أسباب النجاح في مصر هي :
أ ـ كان معروفاً بأنه تلميذ لمالك وخريج لمدرسته، وكان لمالك هناك ذكر ولمذهبه انتشار، فقوبل الشافعي بالعناية.
ب ـ نشاط الشافعي وعلّو همته وتفوقه بالأدب ومعرفته باللغة واحاطته بأقوال مالك وأقوال أهل الرأي وانتصاره لمذهب أهل الحديث ج ـ اشتهار قرشيته، واحتجاجه بالانتساب للنبي (ص) وهذا له أثره في قلوب المسلمين.
د ـ صلته بحاكم مصر الجديد عبد الله بن العباس بن موسى.
ه - اهتمام الخليفة العباسي هارون الرشيد بالشافعي.
و ـ الدعم الاعلامي المتمثل بكثرة الروايات المنسوبة للنبي (ص) بحق الشافعي أو
سرد الرؤيا « الاحلام » من قبل انصاره.
__________
(1) كتاب دراسات في الثقافة الإسلامية والفكر المعاصر – محمود الأحمد ص 144.بتصرف .(1/234)
الشافعي ( رحمه الله ) هو الذي نشر مذهبه بنفسه، وسبب انتشار مذهبه ما قام به من الرحلات المتعددة بين بغداد والمدينة حيث ينتشر مذهب أهل الرأي وأهل الحديث، فاخذ الشافعي منهجاً وسطاً بين الفريقين فأوجب العمل بالحديث اذا كان صحيحاً وان لم يكن مشهوراً، وكذلك أخذ بالقياس في المسائل التي لم يكن فيها نصّ. فبذلك أقبل عليه أهل الحديث ورضى عنه أهل الرأي. حظي المذهب الشافعي بتأييد الحكام الايوبيين، ولما خلفت دولة المماليك البحرية * دولة الايوبيين لم تنقص حَظوة هذا المذهب فقد كان اغلب سلاطينها من الشافعية. كان للمذهب الشافعي رجالات حملوا على عاتقهم نشره في بقاع العالم الاسلامي، امثال خالد بن اليمان البغدادي، والحسن بن محمد الصباح الزعفراني، ويوسف بن يحيى البويطي المصري. طريقتهم في الاستنباط هي احتجاجهم بظواهر القرآن حتى يقوم الدليل على ان المراد بها غير الظاهر ثم بعد ذلك يستدلون بالسنّة، ثم بعمل الاجماع، وان لم يجدوا فبالقياس. قالوا : بجواز رؤية الله يوم القيامة مستدلّين على ذلك بجواب الامام الشافعي الى أهل الصعيد عند ما سألوه عن قوله تعالى : « كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون »، فأجابهم : لما حجب قوماً بالسخط دل على ان قوماً يرونه بالرضا، وسئل : أو تدين بذلك ؟
قال : والله لو لم يدن محمد بن ادريس انه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا.
عملوا بخبر الآحاد مادام الراوي ثقة ومادام الحديث متصلاً بالرسول الكريم.
قالوا بأن صلاة الجمعة لا تنعقد الا بأربعين نفساً. وهم لايؤمنون بحجية الاستحسان ورفضوا الأخذ به. كذلك قالوا بوجوب معرفة احكام الايمان والاسلام في الجملة وقالوا أصل الايمان المعرفة والتصديق بالقلب وفي الامامة رووا ان القرشي العادل اذا تغلب فبايعه المسلمون بيعة صحيحة راضين مرضيين تكون بيعته صحيحة وان تأخرت عن الولاية التي نالها بالغلبة واعتمدوا في الحديث على الصحاح الستة.(1/235)
من أبرز رجال المذهب :
محمد بن ادريس الشافعي
يوسف بن يحيى البويطي المصري
اسماعيل بن يحيى المزاني المصري
الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي
حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي
محمد بن احمد المعروف بالحداد
خالد بن اليمان البغدادي
الحسن بن محمد الصباح الزعفراني
مذهب أحمد بن حنبل(1) ( المذهب الحنبلي )(2) .
__________
(1) هو أحمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المزوزي ولد في بغداد وتنقّل بين الحجاز واليمن ودمشق. سمع من كبار المحدثين ونال قسطاً وافراً من العلم والمعرفة،
(2) من المراجع التي تم الرجوع إليها في هذا الموضوع :الشنتناوي ، خورشيد ، دائرة المعارف الاسلامية ، ( بيروت ـ لبنان ، دار المعرفة)/ ابن الجوزي ، عبد الرحمن ، مناقب الامام احمد ( بيروت ـ لبنان ، الناشر خانجي وحمدان ، ط 2 )./ الزلمي ، مصطفى ابراهيم ، اسباب اختلاف الفقهاء ، ( بغداد ـ العراق ، ط2 ، 1986 م ) / (5 القاضي الحنبلي ، طبقات الحنابلة ، ( بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1997 م(.6 / محمد بن احمد بن عبد الهادي ، العقود الدرية في مناقب ابن تيمية ، ( بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية ، 1356 هـ ـ ق / 1938م) / ابن قيم الجوزية ، اعلام الموقعين ، ( القاهرة ـ مصر ، مكتبة الكليات الازهرية ، 1388 هـ. ق ـ 1968).(1/236)
مذهب الأمام ابن حنبل ( رحمه الله ) من أكثر المذاهب السنية محافظة على النصوص وابتعاداً عن الرأي(1). لذا تمسّك بالنص القرآني ثم بالبيّنة ثم بإجماع الصحابة، ولم يقبل بالقياس إلا في حالات نادرة. إشتُهِرَ الإمام أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه . و ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط وذلك لأنه كان محدِّث عصره وقد جُمِعَ له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره، فقد كتب مسنده من أصل سبعمائة وخمسين حديث، و كان لا يكتب إلا القرآن والحديث من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل صحابياً كان أو تابعياً أو إماماً. وإذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحداً من هذه الأقوال وقد لا يترجَّح عنده قول صحابي على الآخر فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولين. وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأي . أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة ، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: " الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص "، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.
__________
(1) كتاب دراسات في الثقافة الإسلامية والفكر المعاصر – محمود الأحمد ص 144.(1/237)
أسس الأمام احمد بن حنبل مذهبه بعد خروجه من السجن في ايام المعتصم العباسي ، وذلك على اثر قضية خلق القرآن، ثم تطورت معالم هذا المذهب على أيدي تلاميذه من بعده. وجاء المتوكل للحكم فقرب احمد بن حنبل كثيراً ، واعطاه مطلق الحرية في ابداء آرائه . فاغدق عليه العطاء لينفق على طلابه الذين كثر عددهم . رحلات الأمام احمد بن حنبل بين عدد من المدن الاسلامية ساعد على رواج مذهبه. تولى ابنه صالح القضاء في أصبهان ، مما ساهم في نشر افكار المذهب الجديد. حرب المتوكل لعباسي للشيعة والمعتزلة ، وأمره قضاته على المدينة وغيرها باخراج اصحاب ابي حنيفة والشافعي من المسجد ، فخلا الجو لأحمد بن حنبل بنشر آرائه. في عام ( 381 هـ ) تبلورت آراؤه مذهباً له اصول ومعالم واضحة ، وذلك عندما أمر القادر بالله العباسي أربعة من فقهاء المذاهب الاربعة أن يصنف كل منهم مختصراً على مذهبه. في عام ( 645 هـ ) صدر أمر عن المستعصم لأساتذة المدرسة المستنصرية بأن لا يتعدوا كلام السابقين. وفي عام ( 665 هـ) أمر الملك الظاهر أحد ملوك المماليك بمصر بغلق باب الاجتهاد ، فتوقف الاجتهاد عندهم منذ لك الحين.اتسعت رقعة هذا المذهب بشكل كبير على يد الشيخ ابن تيمية ، الذي عمل لنشره في الشام ومصر. ولد المذهب الحنبلي من جديد على يد محمد بن عبدالوهاب في نجد والجزيرة العربية.
ومن أبرز ما تميزوا به وأنكر البعض عليهم ذلك أنهم :(1/238)
يقولون بالتجسيم ، ويقولون أن لله تعالى يداً ورجلاً ووجها ولكن ليس كوجوه المخلوقات. يقولون بعدم الحاجة الى العقل في الاعتقادات ، بل تكفي الآيات و الروايات في ذلك. اجازوا للمكلف ان يتبع في الاصول. يعتقدون بأن القرآن الكريم غير مخلوق. يقسمون الايمان الى قول وعمل ، ومرتكب الكبيرة في نظرهم خارج من الايمان ، واذا تاب عاد الى ايمانه. لا يكفرون مرتكب الكبيرة مادام موحداً.يعتقدون بأن قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبها كيف يشاء ويودعها ماأراد. لاتجوز الامامة في نظرهم الا في القرشي وان كان ظالماً فاسقاً. الخلفاء الراشدون مرتبون في الفضل حسب ترتيبهم في الخلافة. عدم جواز الخروج على الحاكم الجائر. يؤمنون بعدالة الصحابة حتى من اشتهر منهم بغيرة . جوزوا المسح على العمامة و الجورب وقالوا بجواز الجمع بين الصلاتين في اماكن مشهورة وقالوا ان مني الآدمي ومني مايؤكل لحمه طاهر. جوزوا الوضوء بكل مايسمى ماء ، مطلقا كان او مضافاً. يرجعون في استنباطهم الشرعي الى النص والاجماع وفتوى الصحابة ، وإن اختلفوا اختير مايوافق الكتاب والسنة. وهم يأخذون بالاحاديث الضعيفة و المرسلة ، ويعتمدون القياس والاستحسان في بعض الحالات. يعتقدون بأن الله تعالى يخرج قوماً من أهل النار بيده في يوم القيامة. يعتقدون بأن الموت يذبح يوم القيامة بين الجنة والنار. يعتقدون بأن الحوض حق ترده أمة محمد (ص) و له آنية يشربون بها. حرموا زيارة القبور. يجيزون صلاة الجمعة قبل الزوال. يجيزون قتل من ترك الصلاة تهاوناً غير جاحد لها ، و يعتقدون بأنه مشرك ويدفن في مقابر المشركين. طواف الحائض جائز إذا لم يمكنها الطواف حال طهرها ، ولاشيء عليها. يجوز جلوس المأمومين في الصلاة مع عدم عجزهم عن القيام ، اذا كان الامام جالساً بسبب عدم قدرته على القيام.
من أبرز رجال المذهب :
احمد بن حنبل الشيباني المروزي ( 164 ـ 241 هـ ((1/239)
صالح بن احمد بن حنبل ( 203 ـ 266هـ )
عبدالله بن احمد بن حنبل
ابن تيمية ( 661 ـ 728 هـ (
ابن قيم الجوزية ( 691 ـ 751 هـ (
القاضي أبو يعلى بن الفراء ( 380 ـ 458 هـ (
مذاهب أخرى :
ويتشعب السنة إلى عدة فرق تختلف عقائديا عن بعضها البعض. منها:
السلفية(1) .
السلفية هي منهج و ليست جماعة و ليست طريقة مثل الطرق الصوفية، هذا المنهج هو منهج أهل السنة و الجماعة، فالأصل هي كلمة متبع للمنهج السلفي أو منهج السلف الصالح ، و منهج السلف الصالح (المقصود بهم جيل الصحابة و التابعين و أتباع التابعين)
__________
(1) المراجع : عارف تامر، معجم الفرق الاسلامية (بيروت ـ لبنان، دار المسيرة، 1990 م)،/ السيد ابو العلى، الفرقة الوهابية في خدمة من ؟، (بيروت ـ لندن، الارشاد) / الزركلي، خير الدين، الاعلام، (بيروت ـ لبنان، دار العلم للملايين، ط 7، 1986 م) / ابن القيم الجوزية، محمد بن ابي بكر، زاد المعاد في هدي خير العباد (بيروت ـ لبنان، دار احياء التراث العربي) / محمد بن عبد الوهاب، الاصول الثلاثة وادلتها (الرياض ـ المملكة السعودية، دار الوطن، 1993 م ) / ابن تيمية، كتاب الزيارة والاستنجاد بالقبور (الرياض ـ المملكة السعودية، دار المسلم للنشر والتوزيع، ط2، 1414 هـ. ق) /عبد العزيز بن باز، العقيدة الصحيحة (القاهرة ـ مصر، دار ابن الجوزي 1413 هـ. ق ـ 1993 م) / ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (الرياض، العربية السعودية، جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، ط1، 1406 هـ. ق ـ 1986 م).(1/240)
أدخل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عقول أتباعه مبدأ الجهاد المقدس باعتباره أهم الفروع الدينية مستغلاً طبائع المجتمع البدوي ورغبته في الغزو والغنيمة، فصارت القبائل تتهافت على الأنضمام الى الدعوة الجديدة، وكان كل نصر تناله الدعوة الوهابية في غزواتها يزيد من عدد أتباعها ومن حماسهم لها. عندما نادى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن دعوته هي حركة نهضة دينية وصلاحية قائمة على منهج السلف الصالح تدعو الى التوحيد الخالص ونبذ البدع وتحطيم ما علق بالاسلام من أوهام، ناصره أمير العينية عثمان بن حمد بن معمر في دعوته وروّج لها. استغل الوهابيون العداء الموجود لدى العشائر ضد الحكومة العثمانية ووالي بغداد، فأخذوا يحاولون نشر دعوتهم الجديدة في اوساط العشائر بشعارات الاصلاح والعودة الى اصول السلف.
كان للحكام الدور الاكبر في نشوء هذه الفرقة وذلك لأن مؤسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يدعو الى طاعة الحاكم واتباعه وعدم الخروج عليه مما وفّر الارضية المناسبة لبروزه واستقطاب الناس حوله.
في عام « 1153 هـ » استطاع محمد بن عبد الوهاب استثمار وفاة أبيه الذي كان يعارض افكاره بشدة فراح يعلن عن عقائده ويستنكر على الناس ما يمارسونه من الشعائر الدينية ويدعوهم للانخراط في حركته وتحت لوائه فاشتهر أمره في المدينة فلاقى دعماً ومناصرة من حكام العينية والدرعية. عندما اصبح النظام الديني للوهابية قائماً على ان يتولى الملك السعودي امامة الوهابيين ساعد هذا التوجه على احترامها من قبل الحكام السعوديين المتعاقبين على السلطة ووفر لها فرص الديمومة والاستمرار.(1/241)
بعض من الذين أنتسبوا للمنهج السلفي وضعوا بعض المفاهيم الخاصة بهم البعيدة عن التعريف الصحيح للمنهج السلفي، فمنهم من يطالب بالتطبيق الحرفي لآراء السلف و غالبا وفق فهمه الخاص لهذه الآراء و أبرز ممثلي هذا الفهم الحرفي لآراء السلف هو الحركة الوهابية . بالمقابل يعارض رجال الدين المسلمين المذهبيين التوجه السلفي لأنهم يعتقدون انه امتداد لدعوة ابن تيمية و بأنه يعارض بنية المذاهب الفقهية التي يدافعون عنها و يتهمون السلفيين بأنهم يهدمون الفقه الذي بناه فقهاء عظام مثل الشافعي و أبو حنيفة و مالك و ابن حنبل و أن أي فقيه معاصر لن يصل لدرجة من الفقه تسمح له بمعارضة آراء الأئمة الكبار الأربعة و تلاميذهم او استنباط الأحكام مباشرة من القرآن و السنة التي هي وظيفة المجتهدين و العلماء.
لكن المنهجية التي ينظر بها إلى الاقتداء بالسلف تختلف اختلافا كبيرا بين العلماء و المدراس التي تصف نفسها بأنها سلفية فمع أن المصطلح ظهر أساسا في وصف بعض العلماء المجددين في الإسلام الذين أرادوا تحرير الشعوب من كوارث التعصب المذهبي الذي كان شائعا في أيام الدولة العثمانية , هذه الشخصيات لا ترفض الاجتهاد كمبدأ و تحاول اتباع منهج السلف في العقائد غالبا أما الفقه فتعتقد أنه يجب أن يخضع دوما لعملية تجديد ليناسب العصر و من هنا كانوا من اهم من ركز على فكرة مقاصد الشريعة و إعادة إحياء البحوث الشرعية فيها . فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه واقرّوا به..(1/242)
من الناحية الفقهية يعتبر الكثيرون ان الوهابية قامت باختصار الفقه الإسلامي الى نظرة الحديث الصحيح ,كما قامت باحياء علم الحديث(1) , لكن على حساب علم أصول الفقه الذي يسمح بالجمع بين الأحاديث المتعارضة و مقارنة الأسانيد و المتون مما قد يسمح بتنوع الآراء في العديد من القضايا الفقهية , فقام الوهابيون باختصار معظم الفقه الاسلامي في الفقه الحنبلي و آرائهم الحديثية مؤسسين بذلك لمذهب جديد خامس لأهل السنة يتعصب له أصحابه كأصحاب المذاهب الأربع , مما يعكس عدم التغير في الذهنية التي تعتبر رأيها الرأي الصحيح الوحيد . لكن الوهابية يؤكدون أن التزامهم يقوم فقط على ما ثبت من الحديث الشريف و انه لا داع لما يدعى أصول الفقه و أساليب مثل الاستحسان و المصالح المرسلة التي قد تؤدي إلى تمييع الدين .
لم تستطع الوهابية في نظر البعض أيضا التخلص من الاهتمام الفقهي بالجزئيات بل لقد رفعت العديد من الأمور الجزئية في الشريعة لتصبح من صلب العقيدة مثل إطلاق اللحية وتقصير الثوب وتفصيلات في الصلاة، وبهذا أصبحت هذه المظاهر أساسية في تحديد المظهر الإسلامي في رأي الوهابية. لكن بالنسبة للوهابيين هذه الجزئيات تشكل جزءا لا يتجزأ من الإسلام فكل ما يقوله الرسول و يدعو له و يأمر به هو واجب , أي ان الوهابية يرفضون التمييز بين واجب و مندوب و سنة كما حدث في الفقه الذي تطور في أقاليم مثل الشام و مصر و العراق.
__________
(1) على سبيل المثال راجع كتاب الكفاية في علم الرواية وكتاب الرحلة في طلب الحديث لمزيد من الإطلاع على أهمية الحديث عندهم.(1/243)
على صعيد العقيدة قام الوهابيون باحياء النقاش الأشاعرة برفض فكرة التأويل و مع الصوفية برفض بعض ممارساتهم التعبدية . و احياء النقاش في مواضيع العقيدة الإسلامية الناتجة أساسا من الصدام مع الفلسفات اليونانية و الهندية القديمة كمسائل الصفات و خلق القرآن و طبيعة الخالق . و هكذا تم احياء النقاشات الفكرية التي تعود للقرون الاسلامية الاولى و عادت النقاشات من جديد بين أهل الحديث و أهل الفقه و كذلك مع الصوفية و الأشاعرة .(1/244)
الصوفية (1)
__________
(1) من مراجع الموضوع : الشنتناوي، خورشيد، دائرة المعارف الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار المعرفة) / الجرجاني، محمد بن علي، التعريفات (بيروت ـ لبنان، مكتبة لبنان، 1996 م ) / محمد جواد مشكور، موسوعة الفرق الاسلامية./ ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون (بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط1) / عارف تامر، معجم الفرق الاسلامية (بيروت ـ لبنان، دار المسيرة، 1990 م) / النقشبندي، الشيخ امين، ماهو التصوف (بغداد ـ العراق، الدار العربية، 1988.) / الكلاباذي، محمد بن اسحاق، التعرف لمذهب اهل التصوف (القاهرة ـ مصر، ط1، 1352 هـ. ق ـ 1933 م) / الزركلي، خير الدين، الاعلام، (بيروت ـ لبنان، دار العلم للملايين، ط7، 1986) / د. حسن ابراهيم حسن، تاريخ الاسلام (مصر ـ القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط7، 1965 م) / الجامي، عبد الرحمن، نفحات الانس. / عبد المنعم حنفي، معجم المصطلحات الصوفية (بيروت ـ لبنان دار المسيرة) / اليازجي، كمال، وانطوان غطاس، اعلام الفلسفة العربية (بيروت ـ لبنان، مكتبة لبنان، ط4، 1990 م) / الزركلي، خير الدين، الاعلام، (بيروت ـ لبنان، دار العلم للملايين، ط 7، 1986 م) / احمد امين، ظهر الاسلام (بيروت ـ لبنان، دار الكتاب العربي، ط 5) / ابن خلكان، أحمد بن محمد، وفيات الاعيان، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر) / احمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1) / ترجمة فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق، الموسوعة الفلسفية المختصرة (بيروت ـ لبنان، دار القلم، 1983 م) / الامين، شريف يحيى، معجم الفرق الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار الاضواء، ط1) / الحسني، هاشم معروف، بين التصوف والتشيع (بيروت، لبنان، دار القلم، ط1) / الاشعري، علي بن اسماعيل، مقالات الاسلاميين (دار النشر فرانزشتاينر بفسبادن، ط3). / ابن عربي، محي الدين، فصوص الحكم (نينوى ـ العراق، مكتبة دار الثقافة، مطبعة الديواني، ط2) / ابن عربي، محي الدين، الفتوحات المكية (بيروت ـ لبنان، دار الفكر) / الزين، سميح عاطف، الصوفية في نظر الاسلام، (بيروت ـ لبنان، دار الكتاب العالمي، ط 4) / السيد محمود ابو الفيض، جمهرة الاولياء.(1/245)
.
تؤلف الصوفية مجموعة من الطرق و الأذكار التي يتلوها المريد في أوقات مختلفة حسب توصيات مشايخ الطريقة بغية تنقية النفس و تطهيرها ليرتقي في المراتب الروحية التي يمكن أن توصله الى درجة الولاية. الصوفية أو التصوف ليست دين أو مذهب إنما هي منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله عز و جل, كما يعرفها أصحابها. أما معارضيها فيعتبرونها ممارسة تعبدية لم تذكر لا في القرآن ولا في السنة و لا يصح أي سند لإثباتها. تقوم الصوفية على فكرة الولاية, حيث يعتبر الولي عارفا بالله الذي يمنحه كرامات تماثل المعجزات مثل شفاء المرضى و كشف الغيب, كما جاء في قول أبي العباس المرسي: ((ما من وليّ كان أو هو كائن إلا أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحظه من الله تعالى))(1). وقول ابن عطاء الله السكندري: ((كل من كان مراعياً لحق الله تعالى ، لا يُحدِثُ اللهُ حدثاً في المملكة إلا أعلمه. نظر بعضهم إلى جماعة فقال لهم: هل فيكم من إذا أحدث الله سبحانه وتعالى في المملكة حدثاً أعلمه.؟ قالوا: لا. فقال لهم: ابكوا على أنفسكم))(2).
وجاء كتاب (كنوز السعادة الأبدية ) ما نصه: ((إن الشيخ عبد القادر الجيلاني رأى شخصاً يطوف بالكعبة على رجل واحدة ، فقال من هذا الطائف على رجل.؟ فقالت له أنا إمرأة من بغداد جئت أطوف بالبيت وتركت بنتي نائمة على الرجل الأخرى ، فتعجب من كونها في بغداد ولم يعلم بها ، فقال لها: أنا أتصفح اللوح المحفوظ كل يوم كذا كذا مرة ، وما رأيتك فيه.؟!! فقالت له: اللوح المحفوظ لك ولأمثالك وأما أنا فقبلك في أم الكتاب))(3).
__________
(1) معراج التشوف لابن عجيبة: صفحة: 88
(2) تاج العروس: صفحة: 36 . طبعة دار ابن القيم دمشق الطبعة الأولى سنة: (1999 م) .
(3) كنوز السعادة الأبدية صفحة: 152 : جمع وترتيب محسن بن عبد الله علوي السقاف.(1/246)
و هذا ما عرضها في بداية القرن الماضي لهجوم المتعلمين في الغرب باعتبارها ممثلة للثقافة الدينية التي تنشر الخرافات, ثم بدأ مع منتصف القرن الماضي الهجوم من قبل المدرسة السلفية وأعتبروها بدعة دخيلة على الإسلام . حركة التصوف انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة , ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة معروفة باسم الصوفية ، ويتوخى المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة.
تختلف الآراء في أصل تسمية الصوفية , حيث يعيدها البعض الى اسم أهل الصفّة و هم مجموعة من المساكين الفقراء كانوا يقيمون في المسجد النبوي الشريف و يعطيهم رسول الله ( ص) من الصدقات و الزكاة طعامهم و لباسهم . لكن الرأي الأرجح يعيد التسمية ببساطة الى الصوف الذي كان الزهّاد يلبسونه تقشفا و زهدا بالحياة . وابن الجوزي في ( تلبيس ابليس ) ينسب الصوفيين إلى (صوفة بن مرة) والذي نذرت له والدته أن تعلقه بأستار الكعبة فأطلق إسم (صوفي) على كل من ينقطع عن الدنيا وينصرف إلى العبادة فقط .وللصوفيين في أصل التسمية مقالات وأراء يطول شرحها من حيث الاشتقاق والأصل والاصطلاح فيرجعها البعض للصفاء وغيرهم للصوف والبعض لبني صوفة والآخرون لأهل الصفة.(1/247)
وعلى كل فالفكر الصوفي ببعض جوانبه الذي يظهر بارزا في أقوال الحارث المحاسبي يعتمد على مقام الإحسان المذكور في السنة المطهرة وهو أن تعبد اله تعالى كأنك تراه ولهم في ذلك تخريجات مفيدة ومن حيث الاصطلاح يجمع علماء التصوف في كتبهم ما يقارب الألف من التعريفات التي تضع له الحدود وترسم له المعالم وتفسره وتشرحه وتأصله وكلها يدور حول (تزكية القلوب بمعنى تطهيرها من جميع ما يتعلق بها من الأسباب والعلائق الدنيوية والنظر للأمور من حيث لاوجود مستقل بذاته عن الله ولا قدرة لإنسان ولا قوة إلا من حيث يسر الله له وهذا يقودهم لمبدأ ألا وجود حقاً سوى لله ). لكن نقطة الخلاف مع بعض الفرق الإسلامية الأخرى تكمن في مدى شرعية الطرق و الأوراد التي يمارسها المتصوفة.
إن الصوفية مثلهم مثل أي فرقة اسلامية أخرى تأخذ مرجعيتها من العصر النبوي الذي يعتبر المرجع الأساسي الشرعي في مجمل التاريخ الإسلامي, وبالتالي فإن كل طريقة صوفية تربط أورادها بسند رجال يعيدها الى أحد الصحابة أو الى الرسول الكريم (ص) بذاته.
تعتمد الصوفية بشكل عام على مجموعة ممارسات تقوم على نبذ الدنيا والعمل والتفرغ التام للطاعة والعبادات بالإضافة إلى مجموعة من الأوراد والأذكار يتوارثها الصوفيون من شيخ إلى آخر,وإتباع شيخ شئ أساسي في الفكر الصوفي (من لا شيخ له فالشيطان شيخه),
ومن أهم الطرق الصوفية :
الطريقة الجعفرية و تنسب لسيدي الشيخ صالح الجعفري الحسيني شيخ الأزهر الشريف.
2- الطريقة الأحمدية الإدريسية: طريقة سيدي أحمد بن إدريس.
3-الطريقة الرفاعية: والتي تنسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي.
4-الطريقة القادرية: وتنسب إلى الشبخ عبد القادر الجيلاني.
5-الطريقة الشاذلية : وتنسب إلى الشيخ ابو الحسن الشاذلي.
6-الطريقة التيجانية :
وتتفرع عن هذه الطرق العديد من الطرق الصوفية الأخرى.(1/248)
يقول الشيخ أحمد زروق :( محتسب العلماء ، الجامع بين الحقيقة والشريعة ) حين قال ( التصوف هو صدق التوجه إلى الله فيما يرضاه بما يرضاه ) أو لفظاً قريباً لهذا ومدار قوله وقولهم حقيقة الإخلاص ..
7- الطريقة العلية القادرية الكسنزانية : وتنسب الى السادة الشيخ عبد الكريم شاه الكسنزان والشيخ عبد القادر المهاجر والسلطان حسين الكسنزان والشيخ عبد الكريم وشيخها الحاضر الشيخ محمد الكسنزان .
الطريقة القادرية وتسمى الجيلانية: أسسها عبدالقادر الجيلاني المتوفى سنة 561هـ , يزعم اتباعه انه أخذ الخرقة والتصوف عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهما,
الطريقة الرفاعية: تنسب إلى ابي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ويطق عليها البطائحية نسبة إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق, وجماعته يستخدمون السيوف ودخول النيران في اثبات الكرامات. قال عنهم الشيخ الألوسي "وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة مبتدعة الرفاعية, فلا تجد بدعة الا ومنهم مصدرها وعنهم موردها فذكرهم عبارة عن رقص وغناء وعبادة مشايخهم".
البدوية: وتنسب الى احمد البدوي 634هـ ولد بفاس, حج ورحل الى العراق, واستقر في طنطا حتى وفاته, له فيها ضريح مقصود, حيث يقام له كغيره من اولياء الصوفية احتفال بمولده سنويا يمارس فيه الكثير من البدع والانحرافات العقدية من دعاء واستغاثة وتبرك وتوسل ما يؤدي الى الشرك المخرج من الملة, واتباع طريقته منتشرون في بعض محافظات مصر, ولهم فيها فروع كالبيومية والشناوية واولاد نوح والشعبية وشارتهم العمامة الحمراء.
الطريقة الدسوقية: تنسب الى ابراهيم الدسوقي 676هـ المدفون بمدينة دسوق في مصر, يدعي المتصوفة انه احد الاقطاب الاربعة الذين يرجع اليهم تدبير الامور في هذا الكون.(1/249)
الطريقة الأكبرية: نسبة الى الشيخ محيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر 638هـ, وتقوم طريقته على عقيدة وحدة الوجود والصمت والعزلة والجوع والسهر, ولها ثلاث صفات: الصبر على البلاء, والشكر على الرخاء, والرضا بالقضاء.
الطريقة الشاذلية: وهي طريقة صوفية تنسب الى ابي الحسن الشاذلي يؤمن اصحابها بجملة الافكار والمعتقدات الصوفية وان كانت تختلف في اسلوب سلوك المريد او السالك وطرق تربيته, اضافة الى اشتهارهم بالذكر المفرد "الله" او مضمرا "هـ", ويفضلون اكتساب العلوم عن طريق الذوق وهو تلقي الارواح للاسرار الطاهرة في الكرامات وخوارق العادات, كذلك معرفة الله تعالى معرفة يقينية ولا يحصل ذلك الا عن طريق الذوق او الكشف. كما ان من معتقداتهم السماع وهو سماع الاناشيد والاشعار التي قد تصل الى درجة الكفر والشرك كرفع الرسول الى مرتبة ليست موجودة في الكتاب والسنة.
الطريقة البكداشية: كان الاتراك العثمانيون ينتمون الى هذه الطريقة, وهي لا تزال منتشرة في البانيا, كما انها اقرب الى التصوف الشيعي, وكان لهذه الطريقة اثر بارز في نشر الاسلام بين الاتراك والمغول.
الطريقة المولوية: انشأها الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي 672هـ والمدفون بقونية, اصحابها يتميزون بادخال الرقص والايقاعات في حلقات الذكر, وقد انتشروا في تركيا وغرب آسيا, ولم يبق لهم في الايام الحاضرة الا بعض التكايا في تركيا وحلب وفي بعض اقطار المشرق.
الطريقة النقشبندية: تنسب الى الشيخ بهاء الدين محمد بن البخاري الملقب بشاه نقشبند 791هـ وهي طريقة تشبه الطريقة الشاذلية, انتشرت في فارس وبلاد الهند.
الطريقة الملامتية: مؤسسها ابوصالح حمدون بن عمار المعروف بالقصار 271هـ اباح بعضهم مخالفة النفس بغية جهادها ومحاربة نقائصها, وقد اظهر الغلاة منهم في تركيا حديثا بمظهر الاباحية والاستهتار وفعل كل امر دون مراعاة للأوامر والنواهي الشرعية.(1/250)
الطريقة التيجانية: طريقة صوفية يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية ويزيدون عليها الاعتقاد بامكانية مقابلة النبي مقابلة مادية واللقاء به لقاء حسيا في هذه الدنيا, وان الرسول قد خصهم بصلاة "الفاتح" التي تحتل لديهم مكانة عظيمة هذه الطريقة اسسها ابو العباس احمد التيجاني 1230هـ , الذي ولد بالجزائر ويدعي انه التقى النبي لقاء حسيا ماديا وانه تعلم منه صلاة الفاتح وانها تعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة. ويلاحظ على اصحاب هذه الطريقة شدة تهويلهم للامور الصغيرة وتصغيرهم للامور العظيمة على حسب هواهم ما أدى الى ان يفشو التكاسل بينهم لما شاع بينهم من الأجر العظيم على اقل عمل يقومون به, ويرون ان لهم خصوصيات ترفعهم عن مقام الناس الآخرين من أهمها: ان تخفف عنهم سكرات الموت وان الله يظلهم في ظل عرشه وان لهم برزخا يستظلون به وحدهم., وقد بدأت هذه الطريقة في مدينة فاس وصار لها أتباع في السنغال ونيجيريا وشمال افريقيا ومصر والسودان.(1/251)
الطريقة الختمية: وهي طريقة صوفية تلتقي مع الطرق الصوفية الاخرى في كثير من المعتقدات مثل الغلو في شخص رسول الله وادعاء لقياه واخذ تعاليمهم واورادهم واذكارهم التي تميزوا بها, عنه مباشرة. وقد اسس هذه الطريقة محمد عثمان الميرغني ويلقب بالختم اشارة الى انه خاتم الاولياء, ومنه اشتق اسم الطريقة الختمية, كما تسمى الطريقة الميرغنية ربطا لها بطريقة جد المؤسس عبدالله الميرغني المحجوب.. وقد بدأت هذه الطريقة من مكة والطائف, وارست لها قواعد في جنوب وغرب الجزيرة العربية, كما عبرت الى السودان ومصر, وتتركز قوة الطريقة من حيث الاتباع والنفوذ الآن في السودان.. وعلى هذا فان الطريقة الختمية طائفة صوفية تتمسك بمعتقدات الصوفية وأفكارهم وفلسفاتهم حيث تبنوا فكرة وحدة الوجود التي نادى بها ابن عربي وقالوا بفكرة النور المحمدي, واستخدموا مصطلحات الوحدة والتجلي والانبجاس والظهور والفيض وغيرها من المصطلحات الفلسفية الصوفية, واسبغوا على الرسول من الاوصاف ما لا ينبغي ان يكون الا لله تعالى, ويدعي مؤسس الطريقة بانه خاتم الأولياء وان مكانته تأتي بعد الرسول , والطريقة الختمية تهتم باقامة الاحتفالات الخاصة باحياء ذكر مولد النبي واقامة ليالي الذكر أو الحولية.(1/252)
الطريقة البريلوية: وهي فرقة صوفية نشأت في شبه القارة الهندية الباكستانية في مدينة بريلي بالهند ايام الاستعمار البريطاني وقد اشتهرت بمحبة وتقديس الانبياء والأولياء بعامة, والنبي بخاصة. مؤسس هذه الطريقة هو احمد رضا خان 340هـ ولقد سمى نفسه عبدالمصطفى!, ويعتقد أبناء هذه الطائفة بان الرسول لديه القدرة التي يتحكم بها في الكون, ولقد غالوا في نظرتهم إلى النبي حتى اوصلوه الى قريب من مرتبة الألوهية, يقول احمد رضا خان "اي يا محمد لا استطيع ان اقول لك الله, ولا استطيع ان افرق بينكما, فامرك الى الله هو اعلم بحقيقتك" كما ان هذه الطائفة لديها عقيدة الشهود حيث ان النبي في نظرهم حاضر وناظر لافعال العباد في كل زمان ومكان, كما انهم يشيدون القبور ويعمرونها ويتبركون بها, ويؤمنون بالاسقاط وهي صدقة تدفع عن الميت بمقدار ما ترك من صلاة او صيام او سائر العبادات وهي مقدار صدقة الفطر. وأعظم اعيادهم هو ذكرى المولد النبوي. وهم يكفرون المسلمين لأدنى سبب مثل الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق و ابن تيمية و محمد بن عبدالوهاب.
ومن أهم علمائهم :
الحافظ أبو نُعَيمٍ، والمحدث المؤرخ أبي القاسم النصرَاباذي، وأبي علي الرَوذباري، وأبي العباسْ الدَينوري، وأبي حامد الغزالي، والقاضي بكارِ بن قتيبةَ، والقاضي رُوَيمْ بن أحمد البغدادي، وأبي القاسمِ عبد الكريم بن هوازن القشيري الجامع بين الشريعة والحقيقة، والشيخ الفقيه محمد بن خَفيفٍ الشيرازي الشافعي، والحافظ ذي المصنفات في الحديث والرجال أبي الفضل محمد المقدسي، والشيخ عز الدين بن عبد السلام المالكي، والحافظ ابن الصلاح، والنووي، وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين السبكي، وأبي الحسن الهِيكاري، والفقيه نجم الدين الخَبوشاني الشافعي، والفقيه المحقق سراج الدين أبي حفص عمر المعروف بابن الملقِّن الشافعي، والحافظ جمال الدين محمد بن علي الصابوني،(1/253)
المعتزلة(1) .
وهي فرقة كلامية من أهل السنة ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري، واعتمدت على العقل في تأسيس عقائدها، وتميزت بثرائها الفكري والعلمي واطلقت عليها مسميات متعددة كالعدلية والموحدة والمفوضة والقدرية والمعطلة وغيرها ويرجع سبب تسميتها بالمعتزلة حسب تصور المؤرخين إلى أمرين لأمرين :
الاول يتعلق بالاعتزال السياسي الذي قام به مجموعة من الصحابة في الخلاف بين الامام علي ومعاوية.
والثاني : يتعلق باعتزال واصل بن عطاء عن شيخه الحسن البصري في مسائل فقهية فكرية.
لما انتشرت افكار المجبرة التي ساعدت على تحجيم دور العقل وتغييبه، وتبني السلطة الرسمية لفكرة الجبر برزت المعتزلة كتيار يدعو الى حرية العقل واستقلالية الانسان في سلوكه، ساعد هذا العامل على تعاطف الناس مع تيار المعتزلة.
ان تأكيد المعتزلة على التوحيد وعلى العدل الاجتماعي اعطاهم أهمية كبرى لدى الناس في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الالهية.
من افكارهم ومعتقداتهم القول بأن الفاسق من المسلمين بالمنزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وقالوا ان العبد قادر خالق لافعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة.
ان الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلها حتى يكون الله سبحانه آخر لا شيء معه كما كان أول لا شيء معه.
باستحالة رؤية الله سبحانه وتعالى بالابصار.
ان أول ظهور للمعتزلة في كان البصرة في العراق ثم انتشرت افكارهم في مختلف مناطق الدولة الاسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وارمينيا اضافة الى بغداد.
__________
(1) من المراجع التي إعتمدت : كتاب الملل والنحل للشهرستاني / موسوعة جدل الأفكار(1/254)
واختلفوا فى الامامة والقول فيها نصا واختيارا كما سياتى عند مقالة كل طائفة والان نذكر ما يختص بطائفة طائفة من المقالة التى تميزت بها عن اصحابها اصحاب ابى حذيفة واصل بن عطاء الغزال الالثغ كان تلميذا للحسن البصري يقرأ عليه العلوم والاخبار وكانا فى ايام عبدالملك بن مروان وهشام بن عبدالملك وبالمغرب الان منهم شرذمة قليلة فى بلد ادريس بن عبدالله الحسنى الذي خرج بالمغرب فى ايام ابى جعفر المنصور ويقال لهم الواصلية واعتزالهم يدور على اربع قواعد:
القاعدة الاولى:
القول بنفى صفات البارى تعالى من العلم والقدرة والارادة والحياة وكانت هذه المقالة فى بدئها غير نضيجة وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الاتفاق على استحالة وجود الهين قديمين ازليين قال ومن اثبت معنى صفة قديمة فقد اثبت الهين وانما شرعت اصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها الى رد جميع الصفات الى كونه عالما قادرا ثم الحكم بانهما صفتان ذاتيتان هما اعتباران للذات القديمة كما قال الجبائي او حالان كما قال ابو هاشم
القاعدة الثانية:(1/255)
القول بالقدر وانما سلكوا فى ذلك مسلك معبد الجهنى وغيلان الدمشقى وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة اكثر مما قرر قاعدة الصفات فقال انن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز ان يضاف اليه شر ولا ظلم ولا يجوز ان يريد من العباد خلاف ما يامر ويحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه فالعبد هو الفاعل للخير والشر والايمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازى على فعله والرب تعالى اقدر على ذلك كله وافعال العباد محصورة فى الحركات والسكنات والاعتمادات والنظر والعلم قال ويستحيل ان يخاطب العبد بافعل وهو لا يمكنه ان يفعل وهو لا يحس من نفسه الاقتدار والفعل ومن انكره فقد انكر الضرورة واستدل بايات على هذه الكلمات ورأيت رسالة نسبت الى الحسن البصري كتبها الى عبد الملك بن مروان وقد ساله عن القول بالقدر والجبر فاجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدل فيها بايات من الكتاب ودلائل من العقل ولعلها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف فى ان القدر خيره وشره من الله تعالى فان هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم والعجب انه حمل هذا اللفظ الوارد فى الخبر على البلاء والعافية والشدة والرخاء والمرض والشفاء والموت والحياة الى غير ذلك من افعال الله تعالى دون الخير والشر والحسن والقبيح الصادرين من اكتساب العباد وكذلك اورده جماعة من المعتزلة فى المقالات عن اصحابهم
القاعدة الثالثة:(1/256)
القول بالمنزلة بين المنزلتين والسبب فيه انه دخل واحد على الحسن البصري فقال يا امام الدين لقد ظهرت فى زماننا جماعة يكفرون اصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون اصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الايمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الايمان ولا يضر مع الايمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الامة فكيف تحكم لنا فى ذلك اعتقادا فتفكر الحسن فى ذلك وقبل ان يجيب قال واصل بن عطاء انا لا اقول ان صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر ثم قام واعتزل الى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما اجاب على جماعة من اصحاب الحسن فقال الحسن اعتزل عنا واصل فسمى هو واصحابه معتزله ووجه تقريره انه قال ان الايمان عبارة عن خصال خير اذا اجتمعت سمى المرء مؤمنا وهو اسم مدح والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمنا وليس هو بكافر مطلقا ايضا لان الشهادة وسائر اعمال الخير موجودة فيه لا وجه لانكارها لكنه اذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من اهل النار خالد فيها اذ ليس فى الاخرة الا فريقان فريق فى الجنة وفريق فى السعير لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد بعد ان كان موافقا له فى القدر وانكارالصفات
القاعدة الرابعة:(1/257)
قوله فى الفريقين من اصحاب الجمل واصحاب صفين ان احدهما مخطىء لا بعينه وكذلك قوله فى عثمان وقاتليه وخاذليه قال ان احد الفريقين فاسق لا محاله كما ان احد المتلاعنين فاسق لا محاله لكن بعينه وقد عرفت قوله فى الفاسق واقل درجات الفريقين انه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين فلا يجوز قبول شهادة على وطلحة والزبير على باقة بقل وجوز ان يكون عثمان وعلى على الخطا هذا قوله وهو رئيس المعتزلة ومبدا الطريقة فى اعلام الصحابة وائمة العترة ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه وزاد عليه فى تفسيق احد الفريقين لا بعينه بان قال لو شهد رجلان من احد الفريقين مثل على ورجل من عسكره او طلحة والزبير لم تقبل شهادتهما وفيه تفسيق الفريقين وكونهما من اهل النار وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث معروفا بالزهد وواصل مشهورا بالفضل والادب .(1/258)
وظهرت عدة محاولات لاحياء فكر المعتزلة في مواجهة التردي الذي تعيشه الأمة الاسلامية. ولكن معظم هذه المحاولات كانت تعاني من التأئر بالفكر الغربي. وبالتالي بدت هذه المحاولات وكأنها تلحق الحضارة الاسلامية بالحضاره الغربية. ولكن جهود الشيخ أمين نايف ذياب(1) (1931-2006) أدت الى بعث الاعتزال كفر سياسي شعبي نابع من حضارة الاسلام.
__________
(1) ولد الشيخ أمين نايف ذياب عام 1931م من أبوين بدوييْن أمييْن لكنهما مثقفان بالمعنى الحقيقي الذي تدل عليه كلمة مثقف، في قرية المنسي قضاء حيفا. .أتم الدراسة الابتدائية في بلدته ثم في جنين وانقطع عن الدراسة إذ واجه سفر النكبة عام 1948م· تقدم عام 1953-1954 لامتحان المعلمين الأدنى، دراسة في البيت وحصل عليه وشهادة الأدنى مؤهل يعامل معاملة الدراسة الثانوية لأغراض التعيين وليس له أية قيمة للانتقال للتحصيل الجامعي. عمل مدرساً في الوكالة والحكومة والسعودية· سجن عام 1957 لانتسابه لحزب التحرير وتتابع السجن 1959، 1970، 1972. مارس العمل التجاري فالمقاولات من 1973-1986م. متزوج وله خمس أولاد اثنان ذكور وثلاث إناث. توفي في عمان فجر الخميس 15 حزيران 2006.(1/259)
ثانياً : الشيعة(1).
__________
(1) مصادر تم الرجوع إليها : الشنتناوي ، خورشيد ، دائرة المعارف الاسلامية ، ( بيروت ـ لبنان ، دار المعرفة( / عرفان عبد الحميد ، دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية ( بغداد ـ العراق ، مطبعة اسعد ، دار التربية( / الامين ، شريف يحيى ، معجم الفرق الاسلامية ،(بيروت ـ لبنان ، دار الاضواء ، ط1 ، 1406 هـ . ق ـ 1986 م) / د. حسن ابراهيم حسن ، تاريخ الاسلام (مصر ـ القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية ، ط7 ، 1965 م)./ الاشعري ، سعد بن عبد الله ، المقالات والفرق ( طهران ـ ايران ، مركز انتشارات علمي وفرهنكي ، ط 3 ) / د . فرهاد دفتري ، تاريخ وعقايد اسماعيليه ( طهران ـ ايران ، ترجمة فريدون بدره أى ، مط سهند ، ط 1) / مذاهب اهل سنت وفرقة اسماعيليه / الزين ، محمد خليل ، تاريخ الفرق الاسلامية , بيروت ـ لبنان ، مؤسسة الاعلمي ، ط 2 1985 م( / جويني ، محمد ، تاريخ جهانكشاي جويني ( طهران ـ ايران ، دنياي كتاب ) / محمد جمال الدين سرور ، الدولة الفاطمية في مصر./ الامين ، حسن ، الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي ( قم ـ ايران ، مركز الغدير للدراسات الاسلامية ، ط2 1997 م( / الغزالي ، ابو حامد ، فضائح الباطنية ( القاهرة ، مصر ، المكتبة العربية ، الدار القومية ، 1964 م( / ابن الجوزي ، عبد الرحمن ، تلبيس ابليس ( بغداد ـ العراق ، مكتبة الشرق الجديد ، ط2 ،1982 م ) / بدوي ، عبد الرحمان ، مذاهب الاسلاميين ، ( بيروت ـ لبنان ، دار العلم للملايين ، 1971 م ( / مصطفى غالب ، اعلام الاسماعيلية ، ( بيروت ـ لبنان ، دار اليقظة العربية ، 1964 م( / عارف تامر ، اربع رسائل اسماعيلية ( بيروت ـ لبنان ، دار مكتبة الحياة ، ط2 ، 1978 م) / ابن الاثير ، الكامل في التاريخ ، ( بيروت ـ لبنان ، دار صادر ، 1385 هـ . ق ـ 1965 م((1/260)
الشيعة يقصد بهم أنصار وأتباع . وقد أطلق على هذة الطائفة شيعة علي بن ابي طالب . تأتي كلمة شيعة أساسا من تشيع لشخص أي ناصره و أيده , و قد أطلقت الكلمة أساسا على أنصار علي بن أبي طالب و مناصريه ثم امتدت لتطلق على مناصري حق علي و أولاده في الخلافة بعد علي بن أبي طالب , بالتالي و لم يكن هناك من خلاف عقائدي بين باقي المسلمين وبين الشيعة سوى بعقيدة الإمامة و كان الكثير من شيوخ البخاري يطلقون عليهم لقب متشيع و هم من أئمة الحديث المحسوبين على المذهب السني الآن , و هذا ما أدى إلى كثير من اللغط حول اعتبار بعض المحدّثين و المؤرخين شيعة حسب كتب الرجال الحديثة.
في المقابل يرجع الشيعة هذااللقب "شيعة" الى أنصار علي من أبي ذر و سلمان الفارسي وعمار بن ياسر و غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم, و يذكرون انه بعد وفاة الرسول اجتمع شيعة علي يريدون مبايعته ولكنه أراد دفن الفتنة ولم يرد شق صف المسلمين وهم في تلك الفترة الحرجة. يعتمد الشيعة في عقيدتهم على أن النبي ( ص ) قد نص في حياته حسب ما يفهموه من الأحاديث المتواترة والموثقة في حديث الغدير(1) على أن الإمام والخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب ومن جملة ما ينقلوه : قال ( ص ) : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) , جاء في شرح سنن أبن ماجة للسندي ( حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو معاوية حدثنا موسى بن مسلم عن ابن سابط وهو عبد الرحمن عن سعد بن أبي وقاص قال : " قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد فذكروا عليا فنال منه فغضب سعد وقال تقول هذا لرجل سمعت رسول الله ( ص ) يقول من كنت مولاه فعلي مولاه وسمعته يقول أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وسمعته يقول لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله " ) .
__________
(1) اوردوا اسانيد كثيرة ومصادر متعددة من السنة أمثال : (ابن حزم الأندلسي في فصله : " وأما من كنت مولاه فعلي مولاه " ابن حزم : الفصل - ج 4 - ص 148.(1/261)
قالوا هذا التعيين نصا وتبليغا من الرسول عليه السلام على خلافة علي بن أبي طالب على جميع المسلمين بعد الرسول وهم يرون أن النبي محمد بن عبد الله ( ص ) إنما أراد بأمر من الله أن يخلفه علي بن ابي طالب ابن عمه وزوج ابنته، ولا يقرون بالخلافة عن طريق الشورى التي انتهت بتولي أبوبكر الخلافة . والخلافة عندهم هي جزء من الإمامة لذا يقول الشيعة ان الخلفاء الثلاثة أبوبكر، عمر و عثمان قد اغتصبوا القيادة من علي بعكس ما يعتقده السنة من ان الخلافة انتقلت إلى ابو بكر بإختيار مجموعة من الصحابة ثم انتقلت إلى عمر ثم عثمان ثم علي وليس هنالك ضرورة لتعيين الخليفة من قبل الرسول. يؤمن الشيعة أن عليا و أبنائه أئمة في الناس بعد رسول الله بالنص ورثوا عنه العلم و العصمة و طاعتهم واجبة بدليل قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراَ )(1). وقوله ( ص) : ( انا مدينة العلم وعلي بابها ) . وهم المرجعية الصحيحة التي لابد للمسلمين من أن يأخذوا العلوم المختلفة منهم ويرجعون إليهم في أمور دينهم ودنياهم ، وأن إمامتهم و خلافتهم لرسول الله منصوص عنها بالوحي في أصل القرآن حيث يستشهدون بالآية الكريمة : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وهم راكعون )(2) ويستشهدون بما رواه الكثير من المفسرين أمثال الثعلبي وغيره من المفسرين السنة والشيعة في تفسير قوله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله " الاية .. ومن بعض ما جاء في هذا الصدد مانصه " قال : السدي وعتبة بن أبي الحكيم وغالب بن عبد الله : إنما عنى بهذه الاية عليي بن أبي طالب عليه السلام لانه مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه " , ورواه أيضا الزمخشري في كتاب الكشاف في تفسير الاية. وأيضاً يستشهدون بآيات كثيرة من هذا القبيل. الشيعة هم القائلون بوجوب الإمامة والعصمة ، ووجوب النصِّ من
__________
(1) الأحزاب : 33
(2) المائدة : 55(1/262)
الله سبحانه وتعالى على خليفة الرسول بواسطة النبي ( ص ) وأنه ما تركت أمة من الأمم من غير تعيين خليفة لرسولها , وذلك حسب إعتقادهم يقي الأمة من مخاطر تحريف الشريعة والسنة النبوية بما يتلائم مع أهواء الناس . وقد ألفوا كتباً ومجلدات عديدة لتوضيح هذة الفكرة.
يطلق على مذهبهم الفقهي اسم المذهب الجعفري لذلك يعرفون أيضا باسم الجعفرية , نسبة للإمام جعفر(1) أبن محمد أبن علي أبن الحسين أبن علي أبن أبي طالب الملقب بالصادق .
مباشرة. ويأخذ الشيعة بالمذهب الفقهي الجعفري الذي ينسب للإمام جعفر الصادق . يعتمد الشيعة في علومهم وفي تلقي الدين على ما تم توارثه من أئمة آل البيت، ولا يعتمدون على صحة جميع الأحاديث الواردة في الصحاح إلا بعد تتبع مصادرها ومراجعة سيرة الرواة الذين نقلوا الحديث فإن وجد أن أحد الرواة مطعون بعدالته رفضوا ذلك الحديث . وقد عرف عنهم تشددهم في هذا المجال . ولا يؤمن الشيعة بعدالة جميع الصحابة وبذلك فإنهم لا يصححون كثيرا مما صح عند أهل السنة في كتب الحديث السنية من أمثال صحيح البخاري أو صحيح مسلم. ولكن نجدهم يعتمدون على أحاديث قليلة في تلك الصحاح . إلا أن لهم في ذلك مصادر أخرى متعددة من كتب الحديث أمثال كتاب من لايحضره الفقيه و كتاب الاستبصار وكتاب الكافي للإمام الكليني وغيره.
__________
(1) هو الأمام أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن فاطمة الزهراء بنت النبي محمد (ص).و هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت. و يعد المؤسس الحقيقي للفقه الشيعي و لذلك يسمى بالفقه الجعفري. استطاع أن يؤسس في عصره مدرسة فقهية خرج منها الكثير من الطلاب، وقد خرج ما يقارب الالفي طالب . ولد الإمام الصادق يوم الأحد،ويقال: يوم الاثنين، لسبعة عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين من الهجرة، وهو يطابق يوم ولادة نخند رسول الاسلام(1/263)
عرف عن الشيعة رفضهم للحكومات المتعاقبة إبتداء من العصر الأموي مروراً بالعصر العباسي وحتى العصر الحديث . حيث أشترطوا أن يكون الحاكم عادلاً وملتزم بتوجيهات الشرع . لذلك أشاروا إلى أن أولي الأمر الذين أوجب الله طاعتهم في كتابه هم أئمة أهل البيت وليس أحد سواهم على إعتبارهم معصومين وهم ورثة علم الرسول. وأن الولاية لا تعني عندهم فقط القيادة السياسية وإنما تكون مرجعية شاملة في كل أمور الحياة الدينية والدنيوية. وأن قولهم هو الفيصل لو أختلفت الأمور .
ويستندون بذلك على ديث عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري ( رضوان الله عليه ) لمَّا نزلت الآية الشريفة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ )(1). قلت يا رسول الله : قد عرفنا الله ورسوله ، فمن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟
فقال ( ص ) : ( هُمْ خُلَفائي وأئمَّة المُسلِمين بَعدي ، أوَّلُهُم عليُّ بن أبي طَالب ثمَّ الحَسَنُ والحُسَينُ ، ثمَّ عَليُّ بن الحسينِ ، وثمَّ مُحمَّدُ بن عليِّ المعروفُ في التوْرَاةِ بالباقر ، وسَتُدرِكه يا جَابر ، فإذا لَقيتَهُ فأقْرِأه عَنِّي السَّلامَ ، ثُمَّ الصَّادقُ جَعفَرُ بن مُحمَّدٍ ، ثمَّ مُوسَى بن جَعفَرٍ ، ثمَّ عليُّ بن مُوسَى ، ثمَّ مُحمَّدٌ بْن عَليٍّ ، ثمَّ عَليُّ بن مُحمَّدٍ ، ثمَّ الحَسنُ بن عليٍّ ، ثمَّ سَميِّي وكنيِّي حُجَّةُ اللهِ في أرضِهِ ، وبقيَّتُه في عِبَادِه ، ابنُ الحَسَنِ بن عَليٍّ )(2) .
أصول الدين لا يجوز فيها التقليد عندهم , بل على كل مكلّف أن يعرفها بأدلّته وهي اعتقاد وايمان:
التوحيد :
__________
(1) النساء : 59.
(2) منتخب الأثر : 101(1/264)
وهو ان يعرف الانسان إلها خلقه, واوجده من العدم وبيده كل شئ, فالخلق , والرزق والاعطاء والمنع, والاماته , والاحياء , والصحة , والمرض, كلها تحت ارادته ( انما امره اذا اراد شيئا يقول له كن فيكون) وهو الله جل جلاله . كما يعتقدون بأن الله ليس بجسم من أي نوع ولا يمكن إدراك ماهيته تبارك شأنه . ولا تدركه الأبصار لذلك فلا يمكن حسب رأيهم أن يُرى يوم القيامة.
النبوة :
وهو الايمان بنبوة الرسول الكريم محمد ابن عبد الله (ص ) كخاتم للرسل واتباعه واجب كما قال الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم(ومن يتبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين)(1) . وهو معصوم عصمة مطلقة من الخطأ والزلل والسهو والغفلة .
العدل :
ان الله جل جلاله عادل لا يظلم احدا ولايفعل ما ينافي الحكمة, فكل خلق او رزق او عطاء او منع , صدر عنه هو لمصالح , وان لم نعلم بها ,كما ان الطبيب اذا داوى احد بدواء علمنا ان فيه الصلاح , وان لم نكن نعرف وجه الصلاح في ذلك الدواء.
الإمامة :
تؤمن فرق الشيعة كافة بوجود إمام يرث العلم عن النبي محمد (ص) و هو المسؤول عن قيادة الأمة الإسلامية وهو بالإضافة للقرآن والأحاديث الصحيحة لديهم , المصدر الذي يجب الرجوع له بعد النبي في كل أمور الدين والدنيا بتكليف من الله عز و جل عن طريق الرسول ( ص ) , ففي الاعتقاد الشيعي ان الله تعالى لن يترك الأمة الإسلامية بدون قائد مكلف يكون مرجعهم إذا عصفت بهم الفتن والآراء المختلفة. .
المعاد :
ان الله تعالى يحيي الانسان بعد ما مات ليجزي المحسن بما احسن و يجزي المسيئ بما اساء فمن امن وعمل الصالحات , يجزيه الله بالجنة, ومن كفر وعمل السيئات , يجزيه بجهنم .
فروع الدين التي يمكن فيها التقليد:
الصلاة
الزكاة
الصوم
الحج
الخمس
الجهاد
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
الولاء لاولياء الله
البراء من أعداء الله
__________
(1) آل عمران : 85(1/265)
يتركز تواجد الشيعة الإثنا عشرية بنسبة كبيرة في ايران والعراق وأذربيجان والبحرين, و بنسبة مهمة في كل من الكويت ولبنان وفي مناطق عدة كالقطيف والأحساء والمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية وفي مسقط و الباطنة في سلطنة عمان، وباقي دول الخليج و باكستان وافغانستان والهند وفي دول آسيا الوسطى. ويتواجد الشيعة الإسماعيلية في نجران في المملكة العربية السعودية و الهند , أما الشيعة الزيدية فيتركز تواجدهم في اليمن.ويتواجد العلويون في منطقتي تركيا و سوريا
فرق أخرى
أنقسم الشيعة الى عدة مذاهب فرعية و فرق أساسية تعتقد الشيعة الإمامية ( الأثني عشرية الذين تم التطرق لعقائدهم فيما سبق ), بأنهم جميعاً مخالفون لها ببعض المعتقدات ومن هذة الفرق :
النصيرية(1):
__________
(1) مصادر تم الرجوع إليها : شرف الدين، تقي، النصيرية دراسة تحليلية (بيروت ـ لبنان، 1983 م) / العسكري، عبد الحسين مهدي، العلويون او النصيرية (1400 هـ. ق ـ 1980 م) / الشهرستاني، ابو الفتح، موسوعة الملل والنحل (بيروت ـ لبنان، مؤسسة ناصر للثقافة ، ط 1، 1981 م) / الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة (طهران ـ ايران، مكتبة نينوى الحديثة، 1398 هـ ) / الزين، محمد حسين، الشيعة في التاريخ (صيدا، لبنان، مط العرفان، ط 2، 1357 هـ. ق ـ 1938 م ) / وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين، (بيروت ـ لبنان، دار المعرفة ط3 1971 م ) / الزبيدي، مكي خليل، الحركة الباطنية المنطلقات والاساليب (بغداد ـ العراق، مطبوعات منظمة المؤتمر الاسلامي الشعبي (ط1، 1989 م)(1/266)
هي فرقة من الغلاة أسسها محمد بن نصير النميري في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وسميت بهذا الاسم نسبة اليه، وكان من أصحاب الامام الحسن العسكري . ادعى النبوة والرسالة وغالى في حق الائمة فنسب اليهم الالوهية، ولما بلغت مقالته الامام الحسن العسكري برئ منه ولعنه وحذر اتباعه من فتنته، ويعيش أغلب اتباع هذه الفرقة في الجنوب والشمال من سورية، ولهم وجود في جنوب تركيا والاطراف الشمالية من لبنان وفارس وتركمنستان الروسية وكردستان.
"لقد قاسى الشيعة في أيام الحسن العسكري وابيه الهادي الامرّين، فساءت احوالهم المادية والاجتماعية والسياسية من جراء النكبات الشديدة التي انزلها بهم حكام وسلاطين الجور ومنهم المتوكل العباسي الذي روّع الامام الهادي , وهدم قبر الحسين بن علي ومنع من زيارته أشد المنع، والمعتمد، وفي ايام المعتمد توفي الامام الحسن العسكري ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد المهدي . الذي لم يتجاوز عمره عند وفاة أبيه خمس سنين وهو الامام الثاني عشر للشيعة لأن أباه نص على إمامته بحضور الخلص من شيعته، ولكنه أمرهم بالكتمان خوفاً عليه وعليهم.(1/267)
كان الشيعة في تلك الظروف القاسية ـ التي اوجبت على الامام الثاني عشر ان يتستر ويغيب عن أعين الحكام، في فوضى واسعة النطاق تنتابهم النكبات وتتقاذفهم الوشايات والدعايات وكان المخلصون للإمام قليلين جداً وظهرت ـ يومئذ ـ مقالة ابن نصير وتلقاها البسطاء وتقبلوا منه ادعاءه بأنه الباب للإمام الثاني عشر وأمينه ووكيله في بث الاحكام وجمع الاموال أولاً، وثانياً بأنه رسول ونبي ثم إله، ولوجود التناقض في افكاره التي منها انه وكيل الامام وامينه ثم انه رسول ونبي واله، كانت مزاعمه تلك لا تنطلي الا على البسطاء، اما الذين لهم صلة بالامام او الذين لهم معرفة بعقيدتهم فلم يصدقوا باقواله التي هي في محتواها تدعو الى الكفر"(1).
الأفكار والمعتقدات :
عقائدهم باطنية وينظرون الى الامام علي بن ابي طالب نظرة العصمة والتقديس، ويأتي بعده « سلمان الفارسي » وخمسة آخرون من الايتام وهم : عثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة، وقنبر مولى الامام علي والمقداد بن الاسود، وعمار بن ياسر. يقرأون القرآن ويؤمنون بما جاء فيه، ولكنهم يعتمدون « التأويل » كباقي الفرق الباطنية..
يؤمنون بعقيدة الحلول وذلك بأن يهبط الاله ليحل في المخلوق، أو يرقى المخلوق عن عالم المادة ليتحد بالله تعالى في عالم التنزيه.
ويؤمنون بعقيدة التناسخ أيضا، ويراد بالتناسخ انتقال الروح من بدن الى آخر.
لا يأكلون أنثى الحيوانات الأهلية حفاظا على النسل.
يحافظون على قبور موتاهم وزياراتهم، وخاصة طبقة المشايخ.
لديهم تعاليم وطقوس معينة في تلقين اتباعهم العهود والمواثيق الدينية الخاصة بهذه الفرقة.
__________
(1) راجع شرف الدين، تقي، النصيرية دراسة تحليلية ,العسكري، عبد الحسين مهدي، العلويون او النصيرية ,الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة .(1/268)
أقاويل المؤرخين عنهم كثيرة كبقية الأقاويل التي ابتدعت على الفرق الشيعية والتي كتبها اعداؤهم، لهذا لا يمكن الأخذ بها أو تصديقها.ولكن نكتفي بهذا القدر مما نص عليه الثقاة والمحايديين من الكتاب والباحثين.
الإسماعيلية(1) :
"تشعبت عن الشيعة في منتصف القرن الثاني وانتسبت الى اسماعيل ابن الأمام جعفر الصادق , ودعت الى امامته متبنية في تحركها نهج الدعوة السرية واظهرت افكاراً غالت فيها كثيراً لاعتمادهم الرأي في فهم بعض الروايات.
__________
(1) مصادر تم الرجوع إليها : الامين ، شريف يحيى ، معجم الفرق الاسلامية ،(بيروت ـ لبنان ، دار الاضواء ، ط1 ، 1406 هـ . ق ـ 1986 م) / د. حسن ابراهيم حسن ، تاريخ الاسلام (مصر ـ القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية ، ط7 ، 1965 م)./ الاشعري ، سعد بن عبد الله ، المقالات والفرق ( طهران ـ ايران ، مركز انتشارات علمي وفرهنكي ، ط 3 ) / د . فرهاد دفتري ، تاريخ وعقايد اسماعيليه ( طهران ـ ايران ، ترجمة فريدون بدره أى ، مط سهند ، ط 1) / مذاهب اهل سنت وفرقة اسماعيليه / الزين ، محمد خليل ، تاريخ الفرق الاسلامية , بيروت ـ لبنان ، مؤسسة الاعلمي ، ط 2 1985 م( / جويني ، محمد ، تاريخ جهانكشاي جويني ( طهران ـ ايران ، دنياي كتاب ) / محمد جمال الدين سرور ، الدولة الفاطمية في مصر./ الامين ، حسن ، الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي ( قم ـ ايران ، مركز الغدير للدراسات الاسلامية ، ط2 1997 م( / الغزالي ، ابو حامد ، فضائح الباطنية ( القاهرة ، مصر ، المكتبة العربية ، الدار القومية ، 1964 م( / ابن الجوزي ، عبد الرحمن ، تلبيس ابليس ( بغداد ـ العراق ، مكتبة الشرق الجديد ، ط2 ،1982 م ) / بدوي ، عبد الرحمان ، مذاهب الاسلاميين ، ( بيروت ـ لبنان ، دار العلم للملايين ، 1971 م ((1/269)
عمد حكام العباسيين على تشديد الخناق على الشيعة باعتبارهم التيار المعارض للحكم العباسي والموالي لأهل البيت ولاجل هذا التوجه لاقى الشيعة عامة شتى أنواع الاضطهاد فاضطرت طائفة الإِسماعيلية الى مغادرة سلمية مركز دعوتهم ومواصلة جهودهم في بلاد اكثر أمانا لبث الدعوة وهكذا نجح احد دعاة الإِسماعيلية المعروف بابي عبد الله الشيعي في نشر تعاليم الإِسماعيلية في بلاد المغرب ولم يمض وقت طويل حتى غدا الشيعة الإِسماعيلية اصحاب السلطان المطلق في جميع الجهات الواقعة الى الغرب من مدينة القيروان ، وقد تميزت بمنهج خاص وفلسفة مكنتها من بسط نفوذها وجذب الاتباع والمؤيدين. و أدى دخول الشبهات على الكثير من المسلمين والتفسير الخاص لبعض الروايات كالقول بان الامامة لا تنتقل من اخ الى اخ بعد الحسن والحسين وأولوا قوله تعالى :{ وجعلها كلمة باقية في عقبه بان معنى الكلمة هي الإمامة بعد ان نص أبوه الصادق ( على ذلك فلابد ان تتسلسل الإمامة في ابنه محمد بن إسماعيل) ومن ناحية اخرى كان محمد بن إسماعيل أكبر سنا من عمه الإمام موسى الكاظم ، من دون ان تترك الفرصة للأئمة ليبينوا الحقائق ويكشفوا الزيف لعناصر التحرك الاسلامي مما مهد الطريق الى نشوء معتقدات الإِسماعيلية" .
تبني دعاة الإِسماعيلية الدعوة السرية وتحركهم في الخفاء بعيداً عن عيون الحكام العباسيين ساعد بشكل فعال على نمو دعوتهم وانتشارها حتى انهم اطلقوا على تحركهم القاباً جذابة كالدعوة او الدعوة الهادية . والباطنية واهل التأويل واصحاب التعليم والسبعية.
الافكار والمعتقدات :
يعد الامام المظهر الاول والمثل الاعلى ، وللائمة درجات ومقامات ولهم صلاحيات محدودة لا يتجاوزونها وهي: الامام المقيم والامام الاساس والامام المستقر والامام المستودع .
ان للقرآن ظاهراً وباطناً وان الاعتماد على الظاهر دون الباطن مخالف لروح العقيدة الإِسماعيلية .(1/270)
اعتقد فرع منهم يدعى بان ادوار الامامة سبعة وان الانتهاء الى السابع هو اخر الدور وهو المراد بالقيامة اما الإِسماعيلية التعليمية ـ وهي فرع آخر ـ فبدأ مذهبهم ابطال الرأي وابطال تصرف العقول ودعوة الخلق الى التعليم من الامام المعصوم وانه لامدرك للعلوم الا التعليم .
ان الارض لا تخلو من امام حي قائم اما ظاهر مكشوف واما باطن مستور ، فاذا كان الامام ظاهراً يجوز ان تكون حجته مستورة واذا كان الامام مستوراً لابد ان تكون حجته ودعاته ظاهرين.
نفَوْا جميع الصفات عنه سبحانه وتعالى ، لان كل صفة وموصوف مخلوق ، بل ذهبوا الى نفي التسمية عنه وانه لا موجود ولا غير موجود .
يقسم العالم الى اثني عشر قسماً مثله مثل السنة الزمنية فالسنة مقسمة الى اثني عشر شهراً ، وسَّموْا كل قسم جزيرة ، وجعلوا على كل جزيرة داعياً ، وسموه داعي دعاة الجزيرة أو حجة الجزيرة .
ينبغي ان يكون المرشد قد بلغ حد الأربعين ولا يجوز لمن هو دون ذلك ان يفاتح او يسلم الى احد المواعظ والارشادات والهداية.
الوحي ما قبلته نفس الرسول ( ص ) من العقل وقبله العقل من امر باريه ولم يخالفه علم تؤالفه النفس الناطقة بقواها.
ان الله لم يخلق العالم خلقاً مباشراً وانما ابدع العقل الكلي بعمل من اعمال الارادة وهو ( الامر ) وان العقل الكلي محل لجميع الصفات الالهية وهو عندهم الاله ممثلاً في مظاهره الخارجية .
الجنة رمز الى حالة النفس التي حصلت العلم الكامل ويرمز الى الجحيم بحالة الجهالة .
ان الله تعالى لم يحكم على نفس قط بالجحيم الأبدي ، ولكن النفس تعود الى الأرض ثانية بالتناسخ الى ان تعرف الامام الموجود في العصر الذي عادت فيه وتأخذ عنه المعارف الدينية .
ان النبي ( ص ) انقطعت عنه الرسالة في اليوم الذي أمر فيه بنصب الامام علي بن ابي طالب للناس بغدير خم .(1/271)
ضرورة وجود الامام المعصوم المنصوص عليه من نسل الامام علي بن ابي طالب ، والنص على الامام يجب ان يكون من الامام الذي سبقه بحيث تتسلسل الامامة في الاعقاب أي ينص الامام الاب على امامة احد ابنائه .
على راس الثلاثمئة تطلع الشمس من مغربها ، واوّلوا هذا بخروج المهدي ، وقالوا يكون بين محمد بن اسماعيل وظهور المهدي ثلاثة ائمة من أهل الستر .
البهرة :
البهرةامتداد لإحدى فرق الشيعة الإسماعيلية، وهي فرقة انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، و تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر.وتصنف الإسماعيلية البهرة، بأنها مستعلية نسبة إلى الإمام المستعلي ومن بعده الآمر، ثم ابنه الطيب، وهي طائفة ترفض العمل في السياسة وتركز على العمل بالتجارة، وانطلقوا إلى الهند واختلط بهم الهندوس الذين أسلموا وعرفوا بالبهرة وتعني كلمة البهرة في اللغة الهندية(التاجر) وذلك لاشتغالهم بالتجارة عن غيرها من المهن. وينقسم البهرة إلى ثلاثة أقسام:
بهرة علوية
بهرة داوودية
بهرة سليمانية: وتوجد أساساً باليمن.
يوقر البهرة زعيمهم بشكل يزيد بكثير عن توقير السنة للمشايخ أو الأزهريين المعممين ، ويسمونه البرهان. يتسم البهرة بوحدة الزي للنساء كما أن هناك زي موحد للرجال ، ويتميزون بأنهم مسالمون ولا يختلطون كثيراً إلا مع أتباع طائفتهم وإن كان الاختلاط لا يمكن تجنبه نظراً لعملهم بالتجارة. يقوم أعضاء الطائفه بجمع مبلغ شهري من كل الأعضاء للإنفاق على المشاريع المشتركة وذلك يعتبر مصدر التمويل. وقد زاد من الصدع بين البهرة والناس السماح باختلاط الرجال والنساء في الصلاة مما دعى جماعات البهرة إلى اتخاذ ركن في المسجد للصلاة وان كان الناس قد تعودوا عليهم وألفوهم.
الزيدية :(1/272)
واتخذت من زيد بن علي الشهيد رمزا لتحركها وانتسبت إليه. وعملت على الاقتداء بنهجه وسيرته في النهوض والثورة بوجه الحكام المستبدين فكان زيد اماماً لهم انتسبوا اليه وسموا باسمه، ولم يكن زيد مفكراً كلامياً غارقاً في البحوث الكلامية بل كان رجلاً ثورياً له صلة بتفسير القرآن وجمع الروايات وعظة الناس وهدايتهم الى الطريق المستقيم. فزيد لم يقم بالثورة كي يوجد مذهباً مقابلاً للتشيع الذي يتبناه الائمة من أهل البيت .
تشعبت الفرقة الزيدية الى عدة فرق، وقد اختلف المؤرخون في عددها، فعدهم الاشعري ست فرق وهي الجارودية والسليمانية والبترية والنعيمية وفرقة ينكرون رجعة الاموات قبل يوم القيامة واخرى ينكرون رجعة الاموات ويتبرأون ممن دان بها وهم اليعقوبية، وحصرهم المسعودي بثماني فرق وهي الجارودية والمرئية والابرقية واليعقوبية والعقبية والابترية والجريرية واليمانية وذهب نشوان الحميري الى رآي ثالث فقال الزيدية ثلاث فرق بترية وجريرية وجارودية..
اهم الافكار والمعتقدات : :
1 - قالوا ان الامامة رئاسة عامة وتعد من افرض الفرائض تأتي عن طريقين:
أولهما: التعيين ولا تكون الامامة الا في اهل البيت .وثانيها: الترشيح ومعناه ان يختار من آل البيت ممن تتوفر فيه شروط الامامة من أولاد الحسن والحسين أبناء علي على السواء.
2 ـ انكروا على اللذين حاربوا علي وقالوا انه (أي علي) كان مصيباً في حربه مع طلحة والزبير وغيرهما وان جميع من حاربه وقاتله كان على خطأ وجب على الناس محاربتهم.
3 ـ اشترطوا في الامام ان يكون شجاعاً وقالوا: ليس بامامٍ من جلس في بيته وأرخى ستره وثبط بل الإِمام من قام من آل البيت يدعو الى كتاب الله وسنة رسوله (ص) وجاهد على ذلك فاستشهد ومضى وقام آخر بعده يدعو الى ما دعا اليه الى ان تنقضي الدنيا. .(1/273)
4 ـ جوزوا مبايعة امامين في اقليمين بحيث يكون كل واحد كل واحد منهما اماماً في اقليمه ما دام جامعاً لأوصاف الامامة. .
5 - فسروا التوحيد بأنه عدم شرك الغير بالله تعالى وليس المراد به الوحدة العددية التي تتركب بها الاعداد، ومعرفة الله على وجهين اثبات ونفي، فالاثبات هو اليقين بالله والاقرار به، والنفي هو نفي التشبيه عنه تعالى وان الله واحد ليس كمثله شيء كما انه ليس بجسم، ولا له حدود ولا اقطار، ولا يجوز عليه النقل من مكان الى مكان ولا من حال الى حال، وانه سميع بصير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وانه واحد في ذاته لاقسيم له ولا صلة، وواحد في افعاله لا شريك له فلا قديم غير ذاته ولاقسيم له في افعاله.
6 ـ قالوا في الوعد والوعيد ان الله لا يخلف ما وعد به. ومعنى الوعد اخبارٌ بالثواب فلا يجوز خلف الوعد على الله، والوعيد اخبار بالعقاب، والله قادر على ما يشاء من معرفة وقادر على تعذيب خلقه ممن عصى واذنب لأنه لو لم يعذب من وعده بالعذاب من اهل الكبائر لانها مخالفة لوعد الله لقوله تعالى (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) واثبتوا الشفاعة للمؤمنين من اهل الجنة برفعهم درجة الى اعلى منها. .
7- وحكموا على مرتكبي الكبائر من المسلمين بالفسق، وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين فشارب الخمر وفاعل الزنى والسارق لحقوق الناس يسمون فساقاً، أي لا كفرة ولا مؤمنين بل هم في درجة بين الكفر والايمان. وليسوا بمؤمنين لأن المؤمن في الشريعة يجب مدحه وتعظيمه بخلاف الفاسق فانه لا يجوز مدحه لأن الشرع ورد فيه تعظيم المؤمن وذم الفاسق، ولا يسمون كفاراً حيث ان الاحكام تعاملهم معاملة المؤمنين من جواز مناكحتهم وموارثتهم ودفنهم في مقابر المسلمين. كما انهم حكموا على مرتكب الكبيرة اذا مات وهو مصر عليها فهو خالد في النار لا يخرج منها باستثناء الاطفال لانهم غير مكلفين.(1/274)
8 ـ قالوا بقبح التكليف بما لا يطاق، وان فعل العبد غير مخلوق فيه، والمعاصي الصادرة من العباد ليست بقضاء الله سبحانه، ولا يطلق على الباري عزوجل انه يضلهم. .
9 ـ قالوا بحجية القياس والاستحسان والاجماع بما هو دون كونه كاشفاً عن قول المعصوم وحجية قول الصحابي وفعله.
10 ـ اعتقدوا بامامة علي والحسنين بالنص الجلي وقالوا ان تقدم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.
الخلاف السني الشيعي:
يعود تاريخ الخلاف الذي يعرف اليوم بالخلاف السني-الشيعي في أصوله إلى خلاف سياسي ظهر مع عصر الخلفاء الراشدين الأربعة ، وهو يدور اليوم بشكل رئيسي حول إمامة علي بن أبي طالب و أحقيته بالخلافة والصزاع الذي دار بين علي و معاوية من جهة و علي و أصحاب الجمل من جهة أخر بعد مقتل عثمان .
إلا أن هذا الخلاف ما لبث ان تعمق بعد ذلك وخاصة بعد ما لقي الشيعة على يد الحكام الأمويين والعباسيين والذين بذلوا كل ما يستطيعون لتضييق الخناق على الأئمة من أهل البيت وأتباعهم مما زاد من الهوة بين الحكام و الشيعة و زاد من احساس الفرق الشيعية بالظلم .
و رغم أن الخلاف بدأ سياسيا وعقائديا يتناول مسألة الإمامة و أحقية الخلافة إلا أنه تحول بعد ذلك الى خلاف عقائدي و فقهي أعمق عندما ظهرت تيارات فكرية أنبرت لمحاربة الشيعة ناهيك عن ظهور المذاهب الفقهية الأخرى المخالفة . و كان الشيعة يخطئون كل من ساهم بإبعاد أهل البيت عن قيادة الأمة و ليس معاوية وحده(1).
__________
(1) كان الكثير من أئمة أهل السنة يؤيدون نظرة الشيعة في تخطئة معاوية في خروجه على علي بن أبي طالب.(1/275)
ومما يجدر ذكره أن الخلاف بين الطائفتين هو في أصول الدين الذي يكتمل بها الإيمان . و حقيقة ذلك، أنه بسبب خلاف الفرقتين في عدالة الصحابة الذين رضوا بخلافة من سبق الإمام علي بن أبي طالب ، فإن الشيعة لا يعتقدون بصحة كل ما يثبته أهل السنة من رواية الحديث ويأخذون بروايات محدودة بعد أن ثبتت صحتها بحسبهم ، أو نقل وفهم نصوص القرآن، أو نقولاتهم في مسائل العقيدة أو الفقه أو التفسير أو غيرها و كذلك بالنسبة للسنة فهم يضعفون من إتهموهم بالمغالاة في التشيع ويردون حديثه . وهذا ما زاد عمق الهوة بين الطرفين . ونسبت إليهم عقائد كثيرة لا توجد لديهم أصلاً .
كلمة أخيرة للمسلمين
قد عرفت الآن لماذا نحن مسلمون ...
ولكني لم أعرف بعد لماذا نحن مسلمون ونفعل كل مانفعل ؟
أنحن مسلمون .. ليكون الدين لعق بألسنتنا ؟
أنحن مسلمون .. للنادي بأخلاق الإسلام ونحن بلا خلق ..؟
أنحن مسلمون ..لنقرأ القرآن ولا نعمل به ..؟ وننادي بأن علوم الكون مودعة فيه ولا نكتشفها ؟
أنحن مسلمون .. لنقرأ في القرآن (( وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )) لنفترق بعدها شيعاً وقبائل ؟
أنحن مسلمون .. لنُنهى عن الظلم ونظلم بعضنا بعضا ؟
أنحن مسلمون .. لننسى لقاء ربنا وحسابه .. ونفعل ما نفعل ..؟ أم لننسى الله فيُنسينا أنفسنا ؟
أنحن مسلمون .. لنقتل بعضنا بعضا ؟ ويكفر بعضنا بعضا ؟
أنحن مسلمون .. لنكون كمثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ؟
أنحن مسلمون .. لنعين أعدائنا على أنفسنا من حيث لا نشعر ؟
عجبت كثيراً عندما عرفت أن لدينا هذا المنهج العظيم وهو القرآن الذي لم تطاله يد التحريف ولا الأهواء البشرية . رغم المحاولات الكثيرة لدس بعض العقائد والأفكار المنحرفة , ولكنها ما لبثت أن أصبحت واضحة وضوح الشمس.(1/276)
ورغم ذلك كله , ورغم هذا اللطف الإلهي بنا ونحن لا نقدر مالدينا من دين وعقيدة . والتي لم تترك صغيرة ولا كبيرة في هذة الحياة إلا وجهتنا فيها للوجهة الصحيحة الصالحة.
عجبت لهذا التناحر والعداء بين الفرق الإسلامية ومهاجمة البعض للبعض الآخر . وكم تمنيت بأن هذا الحماس والجهد الذي يبذله كل طرف لمحاربة الآخر يكون في عمل يعود بالنفع في الميادين العلمية أو الإجتماعية أو الإقتصادية في المجتمع الإسلامي.
فإن كان الإختلاف ناتج بمسألة شرعية أو عقائدية أو غيرها , فلماذا لا نجلس سوياً ونتحاور بكل موضوعية وشفافية لنصل بالنتيجة لحل مشترك نتفق عليه جميعاً . وإن لم نصل لنتيجة فنحن أخوة بالدين يحترم كل منا صاحبه ولا يلعنه ولا يسبه ويسفهه أو يكفره.
وإن كان الإختلاف ناتجاً عن تعارض في المصالح الشخصية , فلماذا لا نضع الله نصب أعيننا وبأنه يرانا ويعلم ما تخفي صدورنا . وأننا نسوف نقف أمامه عاجلاً أ م آجلاً ليجزينا بما كنا نعمل . ولماذا ننادي بأن ما عند الله خير وأبقى ونحن نتصارع على الدنيا والمصالح الذاتية . ويكفر ويفسق بعضنا بعضاً ...؟
ولماذا نظن بأننا لو بادرنا للمصالحة والتقرب من المعارض لنا , بأننا سوف نرتكب جريمة كبرى وإن ذلك هدر للكرامة أو (خروج عن الدين) ؟
ونحن غافلون بأن الصفح والتجاوز من شيم الكرام وهذا هو خلق الإسلام . فإن كان المقابل مقدراً لذلك فهو خير ... وإن كان العكس سنكون أفضل وأكرم منه عند الله . لأننا إنما أردنا التقرب لله تعالى بجمع شمل المسلمين للإعتصام بحبل الله . ونكون بذلك كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. ولا ندع فرصة لأعدائنا بأن يستغلوا خلافاتنا لمصالحهم وليضربوا الإسلام بنا كما حدث .
مالذي يجعل المريض يتحمل مرارة الدواء غير رغبته بالشفاء . ومالذي يجعل العالم يصبر على الجاهل غير رغبته بنشر العلم . مالذي يجعل الأم تتحمل صعوبات تربية وليدها غير حنانها وحبها له .(1/277)
وكل هؤلاء يجزيهم الله من فضله ولا ينقص منهم شيئاً . لأنهم سعوا بما فيه مصلحة . فكيف بنا ونحن نتحمل كل الصعوبات التي قد نواجهها ونحن نحاول تقريب وجهات النظر ؟ كل هذا في سبيل الله . فماذا تتوقعون أن يكون جزائنا عند رب العالمين ؟
إننا بهذا التناحر والعداء لا نضيع إلا ديننا ولا نطعن إلا أكبادنا ولا نقتل إلا أنفسنا ونحقق ما يخطط له أعدائنا من غير إيعاز منهم . بل هم الان يشاهدون بأن مخططاتهم تتحقق من غير أن يبذلوا جهداً بذلك.
وعجبت أيضاً من أننا موقنون بأن القرآن هو مصدر لكل علوم الكون ومع ذلك لم نشمر السواعد ونحفز العقول لإكتشاف تلك العلوم قبل أن يسبقنا إليها غيرنا كما حصل بالفعل . بل كان العكس عطلنا العقول . و نسكت كل رأي إسلامي إذا كان من غير طائفتنا ونتهمه بشتى أنواع التهم .
هل عجزت النساء أن تلد رجال كالعلماء السابقين من أبناء الإسلام ؟أو من هم الآن من غير المسلمين ويكتشفون العلوم المختلفة ؟
ندعي بأننا مقيدو الأيدي بلا حول أو قوة , وأن القوى الكبرى تقف حائلاً أمام التقدم والرقي في الدول . فلماذا لم تقف تلك القوى بوجه اليابان بعد أن كانوا يتقاتلون ؟ أو بعض حركات التنمية وإن كانت محدودة في بعض الدول الإسلامية ؟
وأنا هنا لا أنكر أن للقوى الكبرى في العالم يداً في تأخرنا , لا بالمنع المباشر وإنما بطرق أخرى لا يسعها المقام . وكان لنا نحن الدور الأكبر في تأخرنا وتخلف دولنا الإسلامية.
نحن بارعون جداً في أن نشتم بعضنا وظلم بعضنا . وكذلك فنحن بارعون بالإستخفاف بعقلياتنا الإسلامية . وأصبحنا على يقين بأن لا عالم ولا خبير ولا مثقف ولا .. غير ( الأجنبي ) .(1/278)
أعلموا أيها الأخوة أنه لابد لنا من إعادة النظر في قناعاتنا وأن ننظر لأنفسنا في كل يوم وساعة في كل حركة وسكون وفي كل قول , نظرة الناقد . مجردين من كل عاطفة أو ميل شخصي وعنصري أو طائفي . بل نجعل من مصلحة الدين والمجتمع هدفنا الأسمى . هذا إن كنا نعي ونفهم غايات وروح الدين الإسلامي.
المصادر
قصة الديانات. سليمان مظهر - سنة النشر :1997.
التفسير الكبير الرازي - دار الفكر . 2002.
موجز الأديان في القرآن . د.عبدالكريم زيدان ،(ط1 ، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع , 1998).
كتاب ظلال القرآن لسيد قطب (دار الشروق ).
الموسوعة الميسره في الأديان والمذاهب المعاصرة (الندوة العالمية للشباب الإسلامي تاريخ النشر1989 )
موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة . العميد: عبدالرزاق محمود أسود (الدار العربية للموسوعات تاريخ النشر( 2000.
حركات هدامة . أحمد عبدالحليم
دراسات في الأديان . سعود بن عبدالعزيز الخلف
تفسير الزمخشري
تفسير أبن عطية
محاضرات في النصرانية . محمد أبو زهرة (دار الفكر العربي 1998)
مقدمة أبن خلدون ( ط 1 , دار الأرقم تاريخ النشر ( 2004
مختار الصحاح محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ( ط1 , دار الكتب العلمية تاريخ النشر ( 1994
المعجم الوسيط , ترجمة، تحقيق: عطية – أمين ( ط 2 , دار الحديث )
لسان العرب لابن المنظور , ( ط1 , دار صادر للطباعة والنشر تاريخ النشر ( 1997
اديان الهند الكبرى - تأليف: احمد شلبي ( ط1 , مكتبة النهضة المصرية )
الإنسان في ظل الأديان . د/ عماره نجيب
تعاليم زرادشت وفلسفة الديانة الپارثية، بترجمة خالد جعفر، دار فصلت للدراسات والترجمة
الكتاب الاقدس : بهاء الله ,الناشر : المركز البهائي العالمي 1992
الزندقة - ماني والمانوية. تأليف جيووايد نغرين، ترجمة وزيادة ملاحق: د. سهيل زكار. دار التكوين، دمشق
البدع من القرون الوسطى Caesarius of Heisterbach: Medieval Heresies(1/279)
[ الخرافات والأساطير ماركس Marx Myths & Legends] [ Nagel Ernest]
Seizures and the Sight of God: Isabella Eguae – Obazee
Chris Harman :The prophet and the proletariat1994
Nietzsche's initial crisis , New light on the Sterner/Nietzsche question
Marx Myths & Legends
Sigmund Freud - Life and Work
Agnosticism \ Atheism
Religion & liberty George H. Smith
Defining Atheism by George H. Smith
Personal Gods, Deism, & the Limits of Skepticism . Massimo Pigliucci
The Necessity of Atheism Why not to believe
The Psychology of Atheism Professor Paul C. Vitz
Seizures and the Sight of God. Isabella Eguae-Obazee
Understanding the Sacred
The Psychology of Atheismعلم نفس الإلحاد Professor Paul C. Vitz
A History of God: The 4,000-Year Quest of Judaism, Christianity and Islam
الفتوى والحركات الإسلامية الثورية The Fatwa and Revolutionary Islamic Movements
The prophet and the proletariat النبي والطبقة العاملة Chris Harman 1994
Divine and the concretes The religious trend
الدين | د . محمد عبدالله
الانباء بما في كلمات القرآن من أضواء
موسوعة التاريخ العام للديانات
روح الدين الإسلامي – عفيف طبارة
الله يتجلى في عصر العلم | تأليف جون كلوفر
دور الدين في حياة الإنسان
الله خالق الكون
نهج البلاغة
تفسير الجلالين
كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن – الشيخ : حسنين محمد مخلوف
علم النفس التحليلي | د . بيكدلي :
علم النفس العام | د . عيسوي
مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة / الشيخ د. ناصر بن عبدالكريم العقل . الطبعة الأولى 12 / 9 / 1412 هـ . دار الوطن للنشر .
The Theologies
The Philosophy
اصول الدين
كتاب دراسات في الثقافة الإسلامية والفكر المعاصر – محمود عبدالحميد الأحمد
تاريخ الطبري(1/280)
تفسير المنار ، الإمام محمد رشيد رضا
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية
اللواء احمد عبد الوهاب ، كتاب مناظرة بين الإسلام والنصرانية
إعجاز القرآن " للرافعي
Seizures and the Sight of God" Isabella Eguae-Obazee
Professor EdwardO.Wilson on the relation of scienceandthe Humanities December 11th, 2002
The Physical Properties of Cytoplasm
Descartes' Life and Works
كتاب الدين الإسلامي لمولاي محمد علي
كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار
فقه العبادات- محمد بشير الشقفة
تفسير الإمام جلال الدين المحلي
صحيح مسلم
تفسير أبن كثير
احمد امين، ظهر الاسلام (بيروت ـ لبنان، دار الكتاب العربي، ط 5، 1373 هـ. ق ـ 1953 م(
الاشعري، علي بن اسماعيل، مقالات الاسلاميين
ابن كثير، البداية والنهاية، (القاهرة ـ مصر، دار الحديث، 1992 م، ط1)
محمد ابو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر العربي(.
ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والاهواء والنحل (بيروت ـ لبنان، دار الجيل، 1405 هـ ـ 1985 م .(
الزاوي ، مناقب مالك.
الممالك في مناقب الإمام مالك , الإمام السيوطي ( ط1 , دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع )
ابن عبد البر يوسف بن عبد الله المزي القرطبي ، الانتقاء (بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية)
ابن قتيبة الدنيوري ، عبد الله بن مسلم ، الامامة والسياسة
السيوطي ، تزين المسالك.
الامين ، شريف يحيى ، معجم الفرق الاسلامية ، (بيروت ـ لبنان ، دار الاضواء ، ط1 )
للمقرئ التلمساني ، نفح الطيب
احمد امين ، ضحى الاسلام (بيروت ـ لبنان ، دار الكتاب العربي .
احمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1)
بوجينا غيانه، تاريخ التشريع الاسلامي
الخضري، تاريخ التشريع الاسلامي (بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية ط9 )
السبكي، طبقات الشافعية (القاهرة ـ مصر، مطبعة عيسى البابي، ط 1)(1/281)
الزلمي، مصطفى ابراهيم، اسباب اختلاف الفقهاء، (بغداد ـ العراق، ط2(
الغزالي، محمد بن محمد ، المهذب في فقه الشافعي (القاهرة ـ مصر، دار احياء الكتب العربية الكبرى، ط 2(
النديم، الفهرست، (القاهرة ـ مصر(
ياقوت الحموي البغدادي، معجم الادباء، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر، ط3)
ابن الجوزي عبد الرحمن ، مناقب الامام احمد ( بيروت ـ لبنان ، الناشر خانجي وحمدان ، ط 2 )
) القاضي الحنبلي ، طبقات الحنابلة ، ( بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1997 م(.6
محمد بن احمد بن عبد الهادي ، العقود الدرية في مناقب ابن تيمية ، ( بيروت ـ لبنان ، دار الكتب العلمية ، 1356 هـ ـ ق / 1938م)
ابن قيم الجوزية ، اعلام الموقعين ، ( القاهرة ـ مصر ، مكتبة الكليات الازهرية ، 1388 هـ. ق ـ 1968).
عارف تامر، معجم الفرق الاسلامية (بيروت ـ لبنان، دار المسيرة، 1990 م
السيد ابو العلى، الفرقة الوهابية في خدمة من ؟، (بيروت ـ لندن، الارشاد)
الزركلي، خير الدين، الاعلام ، (بيروت ـ لبنان، دار العلم للملايين، ط 7، 1986 م)
ابن القيم الجوزية، محمد بن ابي بكر، زاد المعاد في هدي خير العباد (بيروت ـ لبنان، دار احياء التراث العربي)
محمد بن عبد الوهاب، الاصول الثلاثة وادلتها (الرياض ـ المملكة السعودية، دار الوطن، 1993 م )
ابن تيمية، كتاب الزيارة والاستنجاد بالقبور (الرياض ـ المملكة السعودية، دار المسلم للنشر والتوزيع، ط2، 1414 هـ. ق
عبد العزيز بن باز، العقيدة الصحيحة (القاهرة ـ مصر، دار ابن الجوزي 1413 هـ. ق ـ 1993 م)
ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (الرياض، العربية السعودية، جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، ط1، 1406 هـ. ق ـ 1986 م).
كتاب الكفاية في علم الرواية
كتاب الرحلة في طلب الحديث
محمد جواد مشكور، موسوعة الفرق الاسلامية
الجرجاني، محمد بن علي، التعريفات (بيروت ـ لبنان، مكتبة لبنان، 1996 م )(1/282)
النقشبندي، الشيخ امين، ماهو التصوف (بغداد ـ العراق، الدار العربية، 1988.)
الكلاباذي، محمد بن اسحاق، التعرف لمذهب اهل التصوف (القاهرة ـ مصر، ط1، 1352 هـ. ق ـ 1933 م)
د. حسن ابراهيم حسن، تاريخ الاسلام (مصر ـ القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط7، 1965 م)
اليازجي، كمال، وانطوان غطاس، اعلام الفلسفة العربية (بيروت ـ لبنان، مكتبة لبنان، ط4، 1990 م)
ابن خلكان، أحمد بن محمد، وفيات الاعيان، (بيروت ـ لبنان، دار الفكر)
الموسوعة الفلسفية المختصرة (بيروت ـ لبنان، دار القلم، 1983 م)
الحسني، هاشم معروف، بين التصوف والتشيع (بيروت، لبنان، دار القلم، ط1)
ابن عربي، محي الدين، فصوص الحكم (نينوى ـ العراق، مكتبة دار الثقافة، مطبعة الديواني، ط2)
ابن عربي، محي الدين، الفتوحات المكية (بيروت ـ لبنان، دار الفكر)
الزين، سميح عاطف، الصوفية في نظر الاسلام، (بيروت ـ لبنان، دار الكتاب العالمي، ط 4)
السيد محمود ابو الفيض، جمهرة الاولياء
معراج التشوف لابن عجيبة
تاج العروس طبعة دار ابن القيم دمشق الطبعة الأولى سنة: (1999 م)
كنوز السعادة الأبدية
كتاب الملل والنحل للشهرستاني
موسوعة جدل الأفكار
عرفان عبد الحميد ، دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية ( بغداد ـ العراق ، مطبعة اسعد ، دار التربية(
الاشعري ، سعد بن عبد الله ، المقالات والفرق
د . فرهاد دفتري ، تاريخ وعقايد اسماعيليه ( طهران ـ ايران ، ترجمة فريدون بدره أى ، مط سهند ، ط 1)
مذاهب اهل سنت وفرقة اسماعيليه /
محمد جمال الدين سرور ، الدولة الفاطمية في مصر
الامين ، حسن ، الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي
الغزالي ، ابو حامد ، فضائح الباطنية ( القاهرة ، مصر ، المكتبة العربية ، الدار القومية ، 1964 م(
ابن الجوزي ، عبد الرحمن ، تلبيس ابليس ( بغداد ـ العراق ، مكتبة الشرق الجديد ، ط2 ،1982 م )(1/283)
بدوي ، عبد الرحمان ، مذاهب الاسلاميين ، ( بيروت ـ لبنان ، دار العلم للملايين ، 1971 م (
مصطفى غالب ، اعلام الاسماعيلية ، ( بيروت ـ لبنان ، دار اليقظة العربية ، 1964 م(
عارف تامر ، اربع رسائل اسماعيلية ( بيروت ـ لبنان ، دار مكتبة الحياة ، ط2 ، 1978 م)
ابن الاثير ، الكامل في التاريخ ، ( بيروت ـ لبنان ، دار صادر ، 1385 هـ . ق ـ 1965 م(
منتخب الأثر
شرف الدين، تقي، النصيرية دراسة تحليلية (بيروت ـ لبنان، 1983 م).
العسكري، عبد الحسين مهدي، العلويون او النصيرية (1400 هـ. ق ـ 1980 م)
الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة (طهران ـ ايران، مكتبة نينوى الحديثة، 1398 هـ )
الزين، محمد حسين، الشيعة في التاريخ (صيدا، لبنان، مط العرفان، ط 2، 1357 هـ. ق ـ 1938 م )
الزبيدي، مكي خليل، الحركة الباطنية المنطلقات والاساليب (بغداد ـ العراق، مطبوعات منظمة المؤتمر الاسلامي الشعبي (ط1، 1989 م)(1/284)