بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العباد الأتقياء الذين نالهم مكر السفهاء ، وألصق الظالمون بهم تُهماً هم منها أبرياء
فإليهم اعتذاري وسلامي وامتناني
عسى الله أن يعجّل بالفرج فيقولوا كما قالت الجارية المظلومة:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنّه من بلدة الكفر نجّاني
بقلم: محمد بن عمر دولة
شعبان 1421هـ
تُلاقي المرء في أيام كالأعياد، أحاديث عذبة من كلام خير العبادِ صلى الله عليه وسلم عليه وسلم، يهتف على إثرها منشداً: ما أطيب اللقيا بلا ميعاد!!!
ولا غرو فهي كما قال حذيفة رضي الله عنه: أحاديث ما هي بالأغاليط، فيها من تلألؤ الأنوار وعبق الأزهار ونسائم الأسحار ما يُذهب عن النفس وعثاء الأسفار.
ولما كان هذا شأني مع حديث لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة؛ فقد أردت أن أُشرك معي في هذا الخير غيري من المسلمين، فإنه (لا يُؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه)، و(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، كيف والضيافة حازت إشراقة البشرى قبل النزول، وفرح اللقيا والقَبول، وجمعت الخصوبة والعذوبة، فزادت على ضيافة حاتم الطائي:
أُضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب
ما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
وما أحلى أن يجتمع السروران: بمجئ الحبيب الغريب، وحصول الرجاء المطلوب، كما كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في سروره بفتح خيبر وقدوم جعفر[1].
فقد روى البخاري في صحيحه هذا الحديث ثلاث مرات: في أواخر كتاب (العمل في الصلاة) باب (إذا دعت الأم ولدها في الصلاة)، وفي آخر كتاب (المظالم) باب (إذا هدم حائطاً فليبن مثله)، وفي كتاب (أحاديث الأنبياء) باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها).(1/1)
عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جُريج، كان يصلي فجاءته أمه فدعته فقال: أُجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهمّ لا تُمْته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته فتعرّضت له امرأة فكلّمته فأبى. فأتت راعياً فأمكنته من نفسها؛ فولدت غلاماً، فقالت: من جُريج. فأتوْه فكسروا صومعته، وأنزلوه وسبوه، فتوضّأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلاّ من طين. وكانت امرأةٌ ترضع ابناً لها من بني إسرائيل، فمرّ بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهمّ اجعل ابني مثله، فترك ثديها ثم أقبل على الراكب فقال: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصُّه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يمصُّ إصبعه. ثم مرّ بأمَةٍ فقالت: اللهمّ لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها فقال: اجعلني مثلها. فقالت: لِمَ ذاك؟ فقال: الراكب جبّار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون: سرقتِ وزنيْتِ، ولم تفعل).
ففي هذا الحديث من الفوائد ما يلي:(1/2)
[1] مراعاة الأَوْلى من المقاصد: فإنّ إجابة الوالدة المحتاجة أولى من الاستمرار فيما دونها من العبادة، نعم لم يزل أهل العلم يحبون مواصلة الصلاة ويكرهون قطعها كما جاء في قصة عمار رضي الله عنه، حيث لم تمنعه السهام المتتالية على جسده من مواصلة صلاته بالليل وهو ثاني اثنين في حراسة المسلمين[2]، ولكن عُوتب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة بالمدينة إذ جاءه علي بن الحسين رضي الله عنهما وهو يصلي فجلس ينتظره وطوّل عليه لأنه لا يعْجَلُ عنها لأحد[3]. وانظر إلى الرجل من الثلاثة الذين حبستهم الصخرة في الغار كيف كُشِفت عنهم الكُربة، وانزاحت عنهم الصخرة بأمور منها: وقوفه على والديه بإناء اللبن ليسقيهما وأطفاله يتضاغون، فرفع عنه البلاء لأجل بِره بوالديه[4] ، وهذا قد أصابه البلاء بسبب تأخره عن إجابة دعوة أمه.
[2] أن النية الخالصة الكريمة تنجي صاحبها من المصائب، وتبلِّغه أحسن المراتب: وما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه سهم بدرٍ وهو في بيته ببعيد[5]، ولا قوله صلى الله عليه وسلم في البيعة: (هذه عن عثمان) بعجيب[6]، مصداقاً للهَدْي النبوي ( إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاّ شركوكم في الأجر حبسهم العذر)[7]، ولله درُّ من قال:
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على عجز ومعذرةٍ ومن أقام على عجز فقد راحا(1/3)
فلما كانت نية جريج متنازَعة بين تعظيم حقِّ الله في الصلاة وحقِّ الأمِّ في البرِّ ولم يكن تأخره تعمداً ولا عقوقاً صريحاً (أجيبها أو أصلي)،و جاء في كتاب المظالم قال: (أجيبها أو أصلي؟ ثم أتته فقالت: اللهمّ لا تمته حتى تريَه المومسات)، وفي كتاب العمل في الصلاة بيان أنها نادت ثلاث مرات (نادت امرأة ابنها وهو في صومعةٍ فقالت: يا جريج، قال: اللهم أمي وصلاتي، قالت: يا جريج، قال: اللهم أمي وصلاتي، قالت: يا جريج، قال: اللهم أمي وصلاتي، قالت: اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجوه المياميس)، ولما كان الشاغل جريجاً عن إجابة أمه هي الصلاة وليس أمراً دنيوياً حتى وُجِّهَ فعله بأنه خاف أن تجرّه إلى الدنيا فقد كتب الله له السلامة ونجاه من المصيبة التي حلت به، وهذا شبيه بما رواه أبو سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثمّ أتيته فقال: ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، ولم يعاقبه بالحرمان، بل قال له: لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن[8]. و لم يزل أهل العلم والإنصاف يرون لصاحب التأويل عذراً، كما تراه في قصة حاطب، وفي الطائفتين المتقاتلتين من الصحابة رضي الله عن الجميع وغفر الله لنا ولهم.
[3] أن النية الفاسدة واقتراف الجرائم الشنيعة لا سيّما إذا كان في ذلك ظلم الأبرياء لا بدَّ من افتضاح صاحبها، نسأل الله السلامة: فعلى حين جاء الفرج إلى جريج بالبراءة خذل الشيطان هذه المومس، فأنطق الله ولدها بالحق الدامغ، فإذا بكيدها زاهق (من أبوك يا غلام؟). وفي باب العمل في الصلاة قال: (يا بابوس من أبوك؟ قال: راعي الغنم)، ولاحظ هنا أنّ الذي برَّأ الله به جريجاً هو ولد المومس الكاذبة. وفي قصة يوسف عليه السلام أنطق الله الحكم (وشهد شاهد من أهلها).(1/4)
[4] إنَّ شأن بني إسرائيل الكذب على الأنبياء والعُبّاد، كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذنوا موسى فبرَّأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً)، وقصَّ علينا القرآن ما رموْا به مريم عليها السلام من الإفك: (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغياً). فما ينبغي أن يغترّ المسلمون بوعود اليهود فإنهم لا إيمان لهم ولا أيمان على قراءتيْ الجمهور وابن عامر الشامي.
[5] أن الدنيا كلها تتخلى عن المؤمن إذا ابتلي وظُلم، إلا ما يسخِّره الله له: ليعلم أنّ الرحمة منه (قل الله ينجِّيكم منها ومن كل كرب)، ورضي الله عن عائشة حيث قالت حين برَّأها الله وأبى أبو بكر وأم رومان رضي الله عنهما أن يحدِّثا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعرفانه من حالها وقالا: ماذا نقول؟ وكانت تبيت على الحال التي وصفَتْها " قد بكيت ليليتين ويوماً لا أكتحل بنومٍ ولا يرقأ لي دمع، يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي"، فلما أنزل الله براءتها قالت لها أمها: قومي إليه، قالت: فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزَّ وجلَّ[9].
[6] استحباب الترفق في الدعاء عند الغضب على من تُرجى عافيته وعودته إلى الحقِّ: كما نبّه الحافظ ابن حجر رحمه الله على أنَّ (أمّ جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلاّ بما دعت به خاصة ولولا الرفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة أو القتل)[10]، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ آثر الصبر على البلاء على الدعاء على القرشيين بإطباق الأخشبين رجاء أن يُنصر الدين بهم. وقد كان في إسلام عمر وحمزة عزّة للمسلمين ، وكان في إسلام أبي سفيان فتح، بل كان في مسلمة الفتح خيرٌ كثيرٌ إذ استفاد من حكمتهم عمر في محنة الطاعون.(1/5)
وكل هذا يحتم علينا أن نترفّق بالمسلمين ما لم يبلغوا الكفر، و لا نيأس من رَوْح الله مع مراعاة الأخذ بالرخص والعزائم على حسب أحوال الناس.
[7] أنّ الإنسان لا بدّ أن تلحقه الفتن، ولو اعتزل الناس في صومعة: وأن الإساءة تبلغه ولو كان خير الناس، فجريج (كان في صومعته فتعرّضت له امرأة فكلّمته) وفي كتاب المظالم (قالت امرأة: لأفتننّ جريجاً) وهذا يفيد أن الشرّ إذا استشرى فإنه يلحق أهل الصوامع لانحسار الحق وانتشار الباطل (يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثُر الخبث)[11] وفي النص من الفائدة أن أهل الحق لا بدّ أن يصلحوا الناس ويعملوا على محاربة الباطل حتى لا تكسر صوامعهم بعد أن تُدك الحصون الأخرى كلها.
[8] أن اجتناب الكبائر مظِنّة لجبر ما يقع فيه المرء من اللمم : كما قال تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ونُدْخلكم مدخلاً كريماً) وقال (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم) فجريج لمّا اتقى الله (وتعرضت له امرأة فكلمته فأبى) (ولم يلتفت إليها) وقاه الله سيئات ما مكروا (ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله) وهذا يذكرنا بحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاّ ظله منهم (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)[12] وقد جاء أنّ هذه المومس راعية الغنم التي تأوي إلى صومعته) إنما هي بنت الملك تتنكر لإغوائه فالتعفف مظنة الرحمة والظل الظليل في حرّ الهواجر وكرب النوازل كما يبيّنه أيضاً حديث الثلاثة الذين حبستهم الصخرة.(1/6)
[9] أنّ الانحراف وراء الشهوات يؤدي بالمرء إلى الانحراف والوقوع في هفوات عدّة, وانظر إلى المومس كيف جرّها كلامها جُريجاً إلى الزنا بغيره ثم إلى الكذب في القول واتهام الأبرياء وظلم الأولياء فكان عاقبتها الفضيحة والخسارة التامة. ولم يزل أهل العلم يقولون: إن الذنوب على القلب تتنادى والنكت على القلب تتوالى حتى يكون المصير وبالاً والعياذ بالله تعالى .
[10] أنّ من لم يوُطِّن نفسه على التّوقُّف والتّثبُّت وتمحيص الأخبار قد يؤسّس قواعد على شفا جُرُف هارٍ, فيظلم نفسه وغيره إذ يصيب قوماً بجهالة ولا يبلغ إلاّ الندامة. فهؤلاء القوم سارعوا إلى تصديق المومس, وما نظروا إلى عبادة الرجل وهي قرينة يتوقف عندها العقلاء, وتكون مدعاة للتبين والتثبت ولهذا قال تعالى (فتبينوا) وفي قراءة حمزة والكسائي (فتثبتوا). ولكن انظر إلى هؤلاء كيف صنعوا بهذا الرجل الصالح (أتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوُّه) ثم لما حصحص الحق ندموا على تسّرعهم.
[11] أنّ الجاهل يلحقه الطيش ولا يسلم غالباً من الفساد ولهذا قال لوط عليه السلام: (أليس منكم رجل رشيد) وقال تعالى:(ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) فهؤلاء من قوم جريج لجهلهم وسفاهتهم ما قنعوا بإنزال جريج وسبّه حتى كسروا الصومعة. وكذلك فعل سفهاء الطائف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفوا بالإصرار على الكفر وردِّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضربوا النبي صلى الله عليه وسلم وآذوه (ولا يفلح قوم أدموا وجه نبيهم).(1/7)
[12] أنّ شأن الظالمين الجاهلين تحيّن الذرائع وانتظار خطأِ الدعاة إلى الله ليهبّوا إلى هدّ الصوامع وهدم الجوامع (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات يذكر اسم الله فيها كثيرا) وليت شعري إنّ هذا الخُلق السيئ لم يزل شائعاً في واقع المسلمين الذين لبّس عليهم شياطين الإنس والجن فابتكروا (خطط تجفيف منابع التديُّن) وصاروا أشدّ من اليهود حرباً على المساجد وأيّ هدم للصوامع أكبر من منع مدارسة الكتاب والسنة فيهما (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
[13] أنّ العقول الخبيثة تحنّ إلى إشاعة الفواحش وإثارة التهم بين المطّهرين كالجمل الأجرب لا يهدأ باله حتى يُعدي الأصحاء. كما قال ربنا (يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) وقال سبحانه (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) وقال تعالى (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)فهاهنا لم يتهم جريجاً بالفساد إلاّ المومس وهي أخس القوم.
[14] أن النفوس المريضة سريعة التصديق بوقوع الفواحش لشدّة اعتيادها ولأنها استمرأت الخبائث حتى غلبت على أسماعها وأبصارها وقلوبها. ولله در الشعر حيث قال:
ليس يخلو المرء من ضدِّ ولو بمقام الوصل والقرب اتّصل
كل من قد ساء فعلا ظنه ساء في كل جليل وأجلّْ(1/8)
على حين تجد أن المؤمن غافل القلب واللسان والسمع عن ذلك , كما قالت زينب (أحمي سمعي وبصري)[13] بل تجده يتعجب من وقوع الجرائم بحيث يقدِّم رجلا ويؤخر أخرى في تصديقها. وأما العلماء والصالحون النبلاء فلا يقبل فيهم صرفاً ولا عدلاً كما هو شأن أبي أيوب وزوجه في تبرئة عائشة كما حكاه القرآن بالثناء (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) وجاء اللوم والتوبيخ لمن صدّق عليهم إبليس ظنه وصدّقوا أن الصّدّيقة رضي الله عنها أم المؤمنين يقع ذلك منها, ومن سارع في نقل تلكم الأخبار الكاذبة (إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم)( يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين) فهاهنا سارع قوم جريج إلى عابدهم فكسروا صومعته, وقد جاء في (مسند أحمد) كما أفاد ابن حجر (ذكر بنو إسرائيل عبادة جريج, فقالت بغيّ منهم إن شئتم لأفتننّه قالوا قد شئنا. فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها) وما زال الناس يكيدون للصالحين بالكذب والزور و يُتبعون التهمة بالتهمة (ومكر أولئك هو يبور).
[15] أنّ المفزع في الأمور المهمة إلى الله يكون بالتوجه إليه في الصلاة كما أفاد ابن حجر رحمه الله تعالى. ورضي الله عن جُريج وخُبيب وسعيد بن جُبير حيث فوضوا أمرهم إلى الله كما قال يعقوب عليه السلام (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله) هذه الآية التي بكى عندها عمر كما أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب إذا بكى الإمام (وقال عبد الله بن شداد سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله) وقد وصله سعيد بن منصور كما قال الحافظ في الفتح [14].(1/9)
[16] أنّ حسن التوكل على الله سلاح العبد الصالح (وما لنا ألاّ نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) قال ابن حجر: (فيه أنّ صاحب الصدق مع الله لا تضرّه الفتن,وفيه قوة يقين جريج المذكورة وصحة رجائه لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق, ولا صحّة رجائه بنطقه ما استنطقه)[15].
[17] أن المحرومين من ملكة النقد وميزان الاعتدال يظلّون في تخبّط وتخليط ومبالغة من النقيض إلى النقيض كما تراه ها هنا في موقف قوم جريج إذ تحوّلوا من إرغام أنف هذا العابد في الطين وكسر صومعته إلى طلبهم بناء الصومعة من ذهب.
[18] أن العباد الصالحين لا يعدلون بالتواضع شيئاً بل يرون الطين خيراً لهم من الذهب إذا جرّ عليهم الفتنة وذهاب الدين، ورحم الله جريجاً حيث قالوا له: ( نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلاّ من طين)، وما ازداد المرء علماً إلاّ ازداد تواضعاً كما قال التقي السبكي وهو شيخ دار حديث الأشرفية:
وفي دار الحديث لطيف معنى على بسُطٍ لها أصبو وآوي
عسى أني أمسّ بحرِّ وجهي مكاناً مسه قدم النواوي(1/10)
[19] أنّ المؤمن الفطن يؤسس عمله على التقوى وينأى به عن قرناء السّوء فهؤلاء أرادوا المشاركة في بناء الصومعة ليكون لهم بها سلطة على هذه المؤسسة العبادية وقدرة على هدمها من داخلها وهو ما عناه القرآن بقوله (وأنّ المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا) ورحم الله جُريجا فقد أدرك أنّ الصوامع لا تعمرها القلوب الفارغة (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) ولله درّه كيف حفظ أساس صومعته أن يُقوَّض، ومقصده العبادي أنْ يُحرَّف من قِبَل هؤلاء، لئلا يكون مع الذين (اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله) وصنيع جُريج في رفضه إشراك الأيدي المتنجّسة في بناء أساس صومعته يذكرنا بهدم النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار والنفاق كما جاء عن القرآن (لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحبّ المطّهرين. أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيٌر أمّن أسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين).(1/11)
[20] أنّ المساجد والصوامع عند الجهلة إنما هي زخارف مُفرَغة من كل معاني التديّن وهي أشبه بالمتاحف. فهاهنا جاء قوم جريج يطلبون أن تُبْنى الصومعة المكسورة من ذهب, يظنّون أن بناءها من ذهب يجبر ما كُسر منها. كأنما يريدون أن يعوّضوه عمّا أوذي بالذهب. وهذه محنة المادّيين في كل زمان ومكان يحسبون دفع الذهب وتشييد المباني يُعيد الاعتبار لما ذهب من المعاني. وصدق الله العظيم حيث أشار إلى فراغ القلوب والجدران (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسنّدة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم والله عليم حكيم) ومن هنا ورد النهي عن زخرفة المساجد لئلا تُذْهِب الوقار والخشوع وتُفرغ المسجد من دواعي تذكّر الآخرة.
[21] أنّ أصحاب الشبهة إذا أعانوك على دينك فإنّ أقصى ما يلحقك منهم هو بعض الأموال كما يفيده هنا تعبير قوم جريج (نبني صومعتك من ذهب) وأما تحمُّل أعباء الدين والقيام بحق الرسالة فإليه وحده ولهذا نسبوا الصومعة إلى جريج (صومعتك) وأما البناء ودفع الذهب فنسبوه لأنفسهم فهذا شان من يعبد الله على حرف نسأل الله السلامة. وانظر داء بني إسرائيل من الاكتفاء بدفع المال وتضييع أمانة التكليف كيف تسرّب إلى أمتنا, فأصبح بناء المساجد مُغنياً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[22] أنّ شكر الله تعالى يقتضي دوام العبودية ورعاية العهد مع الله والمبالغة في التخلّي عن القواطع كما قال جريج (لا إلاّ من طين) وقال صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)[16]، ولم يزل الحكماء يخشون أن يقال لهم (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها).(1/12)
[23] أنّ الاغترار بالظواهر والزخارف شان الجهلة, وأنّ المرء قد يدعو على نفسه وولده من حيث لا يدري. فهذه المرأة المرضع دعت على أبنها أن يكون جباراً من الجبابرة لانخداعها بهذا الرجل الراكب صاحب الشارة, حتى أنطق الله ولدها فنقض دعاء أمه (اللهم لا تجعلني مثله).
[24] أنّ الحق لا يدرك دائماً بقوة أهله وغلبتهم, بل يكون ذلك بحسب حالهم فقد تدور الدائرة – كما في زماننا – على أهل الحق فيكونون كهذه الأمَة يضربونها ويقولون (سرقتِ زنيتِ) ولم تفعل. وكم من مضروب هو خير من الضارب.
[25] أنّ العاقل البصير يؤثر رضى الله تعالى على رضى الناس, والسلامة عنده على السلامة عندهم ولذلك وفّق الله الغلام فقال (اجعلني مثلها) مع أنها مضروبة متهمة. ومطلب هذا الغلام أشبه بمطلب ولد المرأة التي تردّدت من أصحاب الأخدود فأمرها بالتقدُم وبشّرها بأنها على الحق كما ورد في صحيح مسلم.
وكأن في الحديث إشارة إلى أنّ الفاضل لا يسلم من التهمة. وهل سلم أحمد ومالك وأبو حنيفة فقهاء الأمّة؟ أم هل سلم أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبل؟؟ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر)[17]. بل ما سلم من السفهاء ربّ العالمين سبحانه وتعالى فنسبوا له الصاحبة والولد. ففي هذا عزاء للمظلومين. , وقال خبيب كما في البخاري:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي
[26] أن الوجوه علامات على القلوب، وأدلة على الحال والمآل، كما قال تعالى (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)، (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذٍ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة)، ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)، ولذلك كثيراً ما يوصف أهل العباد بحسن السمت والدّل، ويراد بذلك ما تورثهم الأعمال الصالحة من الأنوار لا سيما ساعات الأسحار فقول أم جريج: (حتى تريه وجوه المومسات) قول عالمة بأن الوجه يؤثر في الإنسان.(1/13)
[27] أن النساء أشد الفتنة على العباد لا سيما المومسات اللاتي لا حياء لهنّ بل يدفعهن غرورهن حتى يصرِّحن بفتنة أهل العبادة، ولذلك تجد التنظيمات اليهودية كالماسونية وغيرها تدس سمومها في ضحاياها بالنساء.
[28] أن الظالمين وأهل الباطل لا يقصرون في نصرة باطلهم والتمكين لشرهم بكل الأساليب،ولو تأملت عبارة النبي صلى الله عليه وسلم :( فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه) لأدركت الإرهاب النفسي الذي يعتمد على التخويف والمباغتة والاجلاب بالخيل والرجل الذي تستنبطه عبارة (فأتوه) إلى جانب الأذى المادي الذي يُفهم من (فكسروا صومعته) وهذا هو شأن الظالمين في انتهاك الحرمات والاعتداء على حقوق الناس وملكياتهم، بالإضافة إلى الأذى البدني الذي يتفنن فيه زبانية الدنيا، تنكيلاً بدعاة الإسلام والذين هم علامة على انقضاء الدنيا، وقيام الحساب بين الناس (رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) وهذا نفهمه من لفظة (فأنزلوه) وكم تدق أعناق، وترفس أجساد، وتضرب وجوه، طالما توجهت لله بالعبادة (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون) ، وأما الأذى اللفظي وعبارات الفجور وألفاظ البذاءة فهي قاموس الطغاة والمنافقون إذا خاصموا فجروا، وانظر إلى هؤلاء كيف لم يكتفوا بكل أنواع الأذى حتى التي سلطوها على هذا العابد حتى (سبّوه) .
[29] أن أساليب أهل الشر لا تقتصر على الترهيب فحسب، بل إنها قد تدخل على الداعية قوي الشكيمة، فتتسرب إليه من الاغراءات المادية، وهي مستعدة أن تغدق عليه الذهب حتى يتخلى عن دينه وصلى الله على نبينا محمد كيف كفّ أطماع المشركين في استمالته بأنه لا ينفعه مالهم ولا يضره كيدهم.(1/14)
[30] إن منظومة الباطل وأخطبوط الشر لا يقبل أن يخالفه أحد أو يستقل عنه فرد شرذمة قليلون بل لا يرجون أن يبقى معهم على صعيد واحد رجل طاهر في ضميره (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) وهو ما يذكر المؤمن ويزرع في نفسه اليقين بقول الله (ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، والمعصوم من استمسك بالقرآن والسنة وسار على هدي السلف واستظل بمجالس العلماء ونأى بنفسه عن الفتن (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم ).
نسأل الله السلامة في الدين والدنيا والآخرة.
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع صحيح البخاري – كتاب المغازي – غزوة خيبر.
[2] كتاب الصلاة من البخاري.
[3] انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 79.
[4] متفق عليه
[5] البخاري في الصحيح في مناقب عثمان رضي الله عنه.
[6] البخاري في الصحيح في مناقب عثمان رضي الله عنه.
[7] البخاري في الصحيح في مناقب عثمان رضي الله عنه.
[8] رواه البخاري في كتاب التفسير- الأنفال- (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله).
[9] البخاري كتاب التفسير – سورة النور.
[10] فتح الباري 7: 155
[11] رواه البخاري باب الفتن.
[12] متفق عليه.
[13] رواه البخاري
[14] فتح الباري 2/441.
[15] فتح الباري 7/153.
[16] رواه البخاري.
[17] رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء.(1/15)