لغات الرسل وأصول الرسالات
موسى ـ عيسى ـ محمد عليهم الصلاة والسلام
د. عبد العزيز بن عبد الله
د. أحمد شحلان
د. عبد العزيز شهبر
د. محمد المختار ولد اباه
د. هبة نايل بركات
الفهرس
تقديم
باب تمهيدي : الوحي في حياة البشر / د. عبد العزيز بن عبد الله
ـ تمهيد
ـ سيرة مختصرة عن أشهر الرسل
آدم ـ إدريس ـ نوح ـ هود ـ صالح ـ إبراهيم ـ إسماعيل ـ إسحاق ـ لوط ـ يعقوب ـ يوسف ـ شعيب ـ أيوب ـ موسى وهارون ـ ذو الكفل ـ داود ـ سليمان ـ يونس ـ زكريا ويحيى ـ المسيح عيسى بن مريم ـ محمد، خاتم الرسل والنبيين
ـ الوحي
حقيقة الوحي إلى الرسل
صورة الوحي
مضمون الوحي
الوحي والدين
الأنبياء والرسل
عصمة الأنبياء والرسل
هل ينزل الوحي على غير الأنبياء والرسل
ـ وحدة الأديان السماوية
المصادر والمراجع
الباب الأول : لغة موسى وهارون، ورسالتهما / د. أحمد شحلان
تمهيد
الفصل الأول : معالم حول البلاغ الأصلي وتوثيقه
نبذة مختصرة عن موسى وهارون من خلال مدونة العهد العتيق
ـ موسى، عليه الصلاة والسلام
ـ هارون، عليه الصلاة والسلام
ـ لغة موسى لغة المدونة الأصلية للتوراة
الفصل الثاني : ما بأيدي الإنسانية المعاصرة من وثائق تحدد معالم الرسالة
ـ العهد العتيق كما هو عليه اليوم
ـ طبعات العهد العتيق
ـ ترجمات العهد العتيق
I ـ المرحلة الأولى
1. الترجمة السبعينية
2. الترگوم
3. الترجمة اللاتينية
4. الترجمة السريانية
5. الترجمة القبطية
6. الترجمة الحبشية
7. مدونة التوراة في اللغة العربية
II ـ المرحلة الثانية
ـ التلمود
1. المشنه
2. الگمارة
3. المدرشيم
الفصل الثالث : نقد مدونة التوراة
ـ سبينوزا وابن حزم الأندلسي، وغيرهما
ـ آثار نقد الكتاب المقدس
ـ النصوص المسمارية
ـ الهوامش
ـ المراجع
الباب الثاني : لغة المسيح عيسى ابن مريم، ورسالته/ د. عبد العزيز شهبر
الفصل الأول : معالم حول البلاغ الأصلي وتوثيقه(1/1)
ـ اللغة الشائعة في فلسطين زمن المسيح، عليه الصلاة والسلام
ـ زمن البعثة
ـ مصادر سيرة المسيح، عليه الصلاة والسلام
المصادر المسيحية
المصادر غير المسيحية
الفصل الثاني : ما بأيدي الإنسانية المعاصرة من وثائق تحدد معالم الرسالة
ـ حول تدوين الأناجيل
ـ إنجيل برنابا
ـ الفرق المسيحية
ـ الكنائس
ـ ترجمات الأناجيل المتداولة
ـ كلمة القرآن الكريم في المسيح عيسى ابن مريم
ـ الهوامش
ـ المراجع
الباب الثالث : محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته / د. محمد المختار ولد اباه
الفصل الأول : محمد صلى الله عليه وسلم والوحي
ـ لغة محمد صلى الله عليه وسلم
ـ جبريل ينزل بالوحي
ـ مدة الوحي
ـ لغة الخطاب القرآني
ـ الإعجاز البلاغي للقرآن
الفصل الثاني : جمع القرآن وتوثيقه
ـ حفظ القرآن وكتابته في عهد الرسول
الحفظ الشفاهي
الجمع الكتابي
ترتيب السور والآيات
ـ تطور توثيق القرآن بعد وفاة الرسول
في عهد أبي بكر الصديق
في خلافة عثمان بن عفان
ـ فهرسة الآيات والسور للدراسة
التصنيف وفقاً لتاريخ النزول
التصنيف وفقاً للموضوعات
الفصل الثالث : علوم القرآن
ـ نشأة علم القراءات
ـ التفسير ومناهج المفسرين
ـ نبذة عن فهم القرآن ومعانيه وأحكامه
ـ توجيه الخطاب القرآني
ـ ترجمة معاني القرآن الكريم
ـ نشر المصاحف والتفاسير والترجمات بالطباعة والتقنيات المعاصرة
الفصل الرابع : الخطاب النبوي
ـ السنة النبوية
ـ جمع السنة وتدوينها
ـ الكتب المعتمدة في السنة
ـ مراتب الحديث قوة وضعفاً
ـ مضمون الخطاب النبوي
خاتمة
الهوامش
الباب الرابع : نماذج من المصاحف والمخطوطات القرآنية/ دة. هبة بركات
تمهيد
الفصل الأول : نماذج من القرن الأول الهجري
ـ أولاً : أقدم مجموعات المصاحف
مصحف القاهرة
مصحف طشقند
مصاحف إستانبول
أماكن بعض المخطوطات القرآنية القديمة
ـ ثانياً : المصاحف المنقطة بلون يخالف لون الأحرف
مصاحف القاهرة
أماكن لوثائق أخرى(1/2)
ـ ثالثاً : مجموعة الإصلاح الثاني
الفصل الثاني : المصاحف وتطور الخط العربي بعد القرن الأول الهجري
ـ الوثائق
ـ نماذج من الخطوط القديمة
الفصل الثالث : المصاحف المطبوعة
ـ نماذج من سورة الفاتحة
ـ نماذج من سورة البقرة
ـ خاتمة
مصادر البحث
الخاتمة
تقديم
تهتم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بمعالجة القضايا الثقافية والاجتماعية من منظور إسلامي، وتعمل على عرض قاعدة معلومات إسلامية من خلال موقعها على شبكة الإنترنت، تتدرَّج بالمطلعين عليها نحو فهم الدين الإسلامي الخاتم الحنيف فهماً سليماً واضحاً، مساهمةً منها في تصحيح الأخطاء، ودحض الشبهات، ورفع الالتباسات التي أحاطت بالإسلام، وعملاً على إقامة واجهةٍ معاصرة تليق بالمكانة العالمية التي تحتلها الثقافة الإسلامية الراسخة في ضمير أكثر من مليار وثلث مليار مسلم.
وفي هذا الإطار، يسعد المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، أن تقدم هذا الكتاب "لغات الرسل وأصول الرسالات" الذي يتألف من خمسة أبواب، تتناول : الوحي في حياة البشر ـ لغة موسى عليه الصلاة والسلام، ورسالته، ولغة عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، ورسالته، ولغة محمد، صلى الله عليه وسلم، ورسالته الخاتمة، ونماذج من المصاحف والمخطوطات القرآنية.
ولا يخفى على المفكرين المعاصرين ما ترتكز عليه هذه الموضوعات من أهمية، ذلك أن البحث في أصول الرسالات السماوية وتوثيقها هو حقٌّ للناس كافة، لأن الوثائق التي تمثل أصول الرسالات التي نزلت على الأنبياء تهمّ شعوب الأرض جميعاً، وكذلك الحفاظ عليها هو فرضٌ على البشرية، إذ أن ضياع أصول تلك الرسالات يؤدي إلى ضياع معالم الدين، وتفرق الناس عن الصراط المستقيم. وكيف يرتضي أهل الخير والصلاح ضياع أصول الخطاب الذي نزل إليهم من ربّ العالمين.(1/3)
لذلك، كان من المناسب أن تبدأ قاعدة المعلومات الإسلامية على الإنترنت بمعالجة قضايا الوحي ولغات الرسل وتوثيق الرسالات السماوية، سعياً إلى الحفاظ على الإرث الديني والحضاري الذي هو ملك للإنسانية جمعاء.
ونظراً إلى أهمية هذه الدراسات، رأت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ضرورة إخراجها في هذا الكتاب. ويسرني أن أتقدم بالشكر والتقدير إلى مؤلفيه السادة الأساتذة، الدكتور عبد العزيز بنعبد الله، والدكتور محمد المختار ولد اباه، والدكتور أحمد شحلان، والدكتور عبد العزيز شهبر، والدكتورة هبة نايل بركات.
وندعو الله أن يعمّ بنفع هذا العمل القراء من مختلف الثقافات، وفقاً لدعوة القرآن الكريم : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }.
والله الموفّق.
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
باب تمهيدي
الوحي في حياة البشر
د. عبد العزيز بنعبد الله
تمهيد
قالت الرسل بوجود عالم آخر يخلد فيه الإنسان ـ بعد محاسبته على ما كان يعمل في الدنيا ـ إما في النعيم وإما في العذاب المهين.
لو جاءنا شخص لا نعرفه ليبلغنا بأحداث تجري في مكان ما نتوجه إليه، فإننا نأخذ قوله في الحسبان، فنحتاط لتلك الأمور ولو كانت مظنونة. فإذا كانت صفات الرسل تَنِمُّ عن رجَاحَة عقولهم ورِفْعة خُلُقهم وتَرَفُّعِهِم عن الكذب، فلماذا نُنكر وجود العالم الآخر !(1/4)
وإذا كنا نتوارث المعرفة في مختلف المجالات، جيلاً عن جيل، منذ خلقنا، وقد تلقينا عن الآباء تأكيداً بحقيقة العالم الآخر. فهل نأتي اليوم لنشكك في جميع ما نرثه عن الآباء والأجداد حول العالم الآخر، فننكر الله والحساب والحياة الآخرة ؟ ألم يكن بين أسلافنا رسل كرام ؟ وهل لنا مصادر معرفة أو دليل حاضر بين أيدينا يقطع بعدم البعث بعد الموت ؟ وهل التأمل في الطبيعة من حولنا وعناصرها المترابطة والمنتظمة لا يعطينا دلالة على وجود خالق للكون ؟
إذاً فالحكمة تقتضي الإيمان بالله والتصديق بالعالم الآخر والحساب. وليس على الأرض من شعوب ولا قبائل إلا وتعرف ماذا يعني لفظ الله أو الرب أو الإله، فهو خالق المخلوقات وإليه تُرجَعُ الأمور، وأمامه يكون الحساب في عالم سنصعد إليه بعد الموت. إن قدم تلك العقيدة وشيوعها بين الشعوب والأمم يؤكد بأنها ليست من ابتكار شخص ما، وإنما هي من قبيل الحقائق التي يعرفها الإنسان منذ وجوده، وإن الذين يَشُذُّونَ فيُنْكِرون البعث والعالم الآخر لا يمتلكون أدلّة على مذهبهم الإلحادي، إضافة إلى أنه ما من فرد يُلحِد جهلاً بوجود الله، بل الإلحاد معارضة وتجاهل لعلم كائن في ضمير الملحد، فالملحد يعلم ماذا تعني كلمة الله وصفات الخالق وقدراته على تسيير الكون. إن الله سبحانه وتعالى لم يُقَصِّرْ في حق الخلق أفراداً وشعوباً، فما من إنسان ولا حيوان إلا وقد غرس الله في نفسه إدراكاً فطريا بوجود الله وعظمته ومطلق قدرته ونزاهة صفاته.
سيرة مختصرة عن أشهر الرسل
إن الوحي هو المصدر الأوحد للعقيدة والشرائع السماوية، والموحي هو اللّه، يدعو الخلق إلى الإيمان بألوهيته ووحدانيته وصفاته وملائكته ورسله، والتصديق بما حملته الكتب السماوية من شرع أصيل، ومنها الزبور والتوراة والإنجيل، والقرآن خاتمها.(1/5)
ولقد انبرى أعداء الدين في كل زمان إلى التشكيك في الوحي، فهب العلماء والمفكرون لتفنيد مزاعمهم بالمنطق والحقائق العلمية. وكان الهدف من ترويج هذه المفاهيم الباطلة هو نقض مفهوم الوحي، ولكن الإرادة الإلهية الأزلية تجلت من خلال هذا الوحي، في حكمة عليا تَسَلْسَلَ الداعون إليها وهم الرسل الكرام وفي خاتمتهم سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، الذي توالى الخبر برسالته عبر الرسالات السماوية السابقة ومآثرها المادية الباقية.
إن الهدف من تسلسل الرسالات هو التذكير بالحكمة الإلهية من خلق الكون وكُنْهِ مشيئة اللّه وعِلْمِهِ، ومراعاة تبدل الظروف بتغير الملابسات والأحوال البشرية عبر العصور، والدعوة بالترغيب والترهيب إلى حساب الآخرة. وتلك حِكَمٌ أساسها مفهوم الحركية الدائبة في حياة الإنسانية { ما نَنْسَخ من آية أو نُنْسِها نَأْتِ بخير منها أو مثلها } (سورة البقرة، الآية 105). فهذا النسخ المتلاحق لا يشمل الأسس العقدية الراسخة، وإنما يستهدف بعض المفاهيم والأحكام العملية { شرع لكم من الدين ما وَصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصَّيْنَا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } (سورة الشورى، الآية 11). فشريعة الله واحدة لا تتغير، وإنما الاختلاف بين الرسالات لا يكون إلا في بعض الأحكام العملية تبعاً لما يستجد من أحداث. وقد ظهر معظم الرسل في ظروف تَحَكَّمَتْ خلالها في سلوك البشر عادات وأعراف منحرفة عن المسار الذي شرعه الله سبحانه وتعالى للناس.(1/6)
وجاءت الرسالة المحمدية، التي أشارت إليها من قبل كتب سماوية سابقة، وهي خاتمة الرسالات، كما بَيّن القرآن { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللَّه وخاتم النبيين } (سورة الأحزاب، الآية 40) وفي الحديث الشريف >مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به يعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة ! وقال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين<(1) وسنأتي ضمن هذا البحث بما يعزز ذلك من آيات في بعض الكتب المنزلة.
وهذه الختمية في الرسالة المحمدية تتسم بطابعين اثنين، وهما :
أولاً : أنها موجهة للناس كافة { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سورة سبأ، الآية 28) وقوله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث المتفق عليه : >..وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة<(2).
ثانياً : أنها جاءت بشريعة ميسرة تعتمد على أركان رئيسة هي : الإيمان بالله ووحدانيته وبجميع أنبيائه ورسله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
الرسالات تتواكب مع تاريخ البشر
وقد نتساءل لماذا تعددت الرسالات في مناطق مختلفة، وربما في نفس العصر ونفس المنطقة، ولماذا يتعاقب نزول الوحي، فهل سبب ذلك وفاة الرسل أم ضياع الرسالات وانحراف المفاهيم، فيكون التصحيح برسالات جديدة لازماً ؟
هنا يجب أن نتحرى الحكمة من تعاقب الرسالات وما اختصت به كل رسالة، ومناحي بعث الرسل تتراً لتصل الدعوة إلى جميع البشر.
الإيمان فطرة في النفس البشرية(1/7)
كان الناس في بداية التاريخ البشري على الفطرة التي فطرهم اللّه عليها، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : { كان الناس أمة واحدة فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } (سورة البقرة، الآية 211). ومعنى ذلك أن الناس كانوا، في عهودهم الأولى منذ آدم، على الهدى ودين الحق، ولكنهم اختلفوا عبر الأجيال وتنازعوا فبعث اللّه النبيين.
وهذه الهداية الربانية شاملة لكل البشر لمحبة الحق إياهم جميعاً، فهم مؤهلون بالفطرة لتقبل الخير. عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه<(3)، وذكر ابن عبد البر أن ذلك عام في جميع المولودين. فالتقدير أن كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه مثلاً، فيميل عند بلوغه إلى مايحكم به عليه. ولقد أكد الله أن دين الإسلام هو الفطرة : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (سورة الروم، الآية 29) فالإسلام هو ملَّة التوحيد التي بعث الله جميع الأنبياء للدعوة إليها، والكفر هو تغطية وتعتيم على الفطرة التي فطر الله الناس عليها في التصديق بوجود الخالق والعالم الآخر.
تعاقب الأنبياء والرسل
نبدأ بأسماء الأنبياء والمرسلين وفقا لما جاء في القرآن الكريم، حيث قال تعالى :
{(1/8)
قولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } (سورة البقرة، الآية 135). { إن اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } (سورة آل عمران، الآية 33). { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا. ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكَلَّمَ اللَّه موسى تكليماً. رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللَّه حجة بعد الرسل وكان اللَّه عزيزاً حكيماً } (سورة النساء، الآيات 164-162). { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكُلا فضَّلنا على العالمين } (سورة الأنعام، الآيتان 87-86). { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كُلّ من الصابرين } (سورة الأنبياء، الآية 84).
آدم أبو البشر
إن أول هؤلاء الأنبياء هو آدم أبو البشر. وقد أنزله اللّه من الجنة ليعيش في جزء من المعمورة، فما هي تلك الجنة، هل كانت جنة المأوى أم إحدى جنات الدنيا ؟
يرى الإمام أبو حنيفة، تبعاً لما رواه ابن عباس، وقد أدرجه القاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره : أن آدم كُلِّفَ مع حواء بعدم الأكل من الشجرة، والحياة في جنة المأوى لا تكليف فيها، وكيف يصل إليهما إبليس فيوسوس لهما إذا كانا في جنة المأوى وهي محرمة عليه ؟ وكيف يوسوس لهما أن سبب منعهما هو الحرمان من أن يكونا من الخالدين، ومعلوم أن الحياة في جنة المأوى خالدة ! وذلك المفهوم ورد أيضاً في العهد القديم(4).(1/9)
عن أبي أمامة أن رجلا قال : يا نبي اللّه أوَنَبِيٌّ كان آدم ؟ قال : نعم نبيٌّ مُتَكَلِّمٌّ. قال، قلت : يا رسول اللّه كم وَفَّى عدة الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر، جما غفيراً(5).
وورد في سفر التكوين أن آدم عاش عند منابع دجلة والفرات حيث أسكنه اللّه شرقي جنة عدن، فاضطر للكفاح من أجل الحياة ففلح الأرض وتزوج وَوُلِدَ له، وانطلق منذ ذاك الحين تعمير الأرض(6).
وقد واجه آدم أول محنة عندما قتل أحد ابنيه وهو قابيل أخاه هابيل. وروى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده قوله، عليه الصلاة والسلام : >لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سَنَّ القتل<(7).
إدريس
هو أخنوخ بن يرد بن مهلاييل، أُعْطِيَ النبوة بعد آدم وشيث، وقيل إنه قد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة وثماني (308) سنوات.
ولد ببابل على الأصح، ولما أوتي النبوة انطلق بالدعوة إلى دين اللّه، فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفة شريعة اللّه التي حملها من قبله آدم وشيث، فخالفه جمع غفير. وهنا بدأت الدعوة تنتقل من جهة إلى أخرى من أنحاء المعمور، فرحل إدريس إلى مصر يدعو إلى مكارم الأخلاق طوال اثنتين وثمانين سنة، ثم رفعه اللّه إليه : { ورفعناه مكاناً عليّا } (سورة مريم، الآية 57). وبدأ العلم والحكمة يتبلوران في عهده، فكان أول من كتب بالقلم وبحث في علم الهيئة والتنجيم. وقيل إنه لَقَّنَ الناس علم السياسة المدنية بعد ما أنشأ مائة وثماني وثمانين (188) مدينة. ولعل هذا من الإسرائيليات مما كان يقصّه أهل الكتاب من حكايات توارثوها عبر الأجيال، وظلت على ألسنتهم بعد أن أسلموا، ثم دونت في كتب قصص الأنبياء(8).(1/10)
وقيل إن إدريس هذا هو المسمى إلياس، الذي عرف باسم أخنوخ في سفر التكوين (5-24) وسماه الحكماء "هرميس الهرامسة" وزعموا أنه ولد في منف بمصر ومنها خرج ليجوب في المعمورة. وله آداب ورموز حِِكمية، دعا فيها إلى الاهتمام بعلم الفلك (خاصة رؤية الهلال وحركة البروج). ومن آدابه وحِكَمه ما تناقلته الأجيال من مختلف النحل، مثل : >خير الدنيا حسرة وشرها الندم< و>حياة النفس الحكمة وتحريم الخمر<، وغير ذلك. وقد نُسِبَ إليه زوراً بناء الأهرامات، وزعم المفترون أنه صور فيها جميع الصناعات والآلات حرصاً على تخليدها. وكل هذا مخالف لما ورد في التاريخ(9).
وينقل ابن جرير رواية أخرى، وهي أن إلياس هو ابن ياسين بن فنحاص بن العيزران بن هارون. فيكون على ذلك من أنبياء بني إسرائيل الذين دعوا إلى نبذ عبادة الأصنام، وخلفه اليسع رسول اللّه، وكانت رسالته لأهل بعلبك غربي دمشق الذين كانوا يعبدون صنماً يسمى بعلاً(10).
نوح
هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، ويسمى أبو البشر الثاني. كانت الأوامر أو القوانين السبعة التي أوحيت إلى نوح، عليه السلام، بعد الطوفان تدعو إلى : اجتناب الشرك باللّه، وقتل النفس بغير حق، والقذف، والنكاح الحرام، والسرقة، وأكل اللحم بروحه ودمه(11)، والدعوة إلى إقرار نظام شرعي للإنسانية. فهذه الأوامر قد سبقت الأوامر العشرة التي أوحاها اللّه تعالى إلى موسى، عليه السلام، حسب العهد القديم، عندما كَلَّمَهُ في طور سيناء.
وقد أكد مفكران معاصران يهوديان هما : "Moses Mendelssohn" و"Herman Cohen"، أن أوامر نوح هي الأساس الخُلُقِي للعقلانية الإنسانية، ومنها انطلق Le Décalogue قاعدة التشريع السماوي في الكتب المنزلة، كما في سفر الحُكْمِ، وهو قسم من العهد القديم منسوب إلى سليمان، وكذلك في سفر حُكْمِ أيوب.
ويتساءل العلماء عمّا إذا كان طوفان نوح قد عَمَّ الكرة الأرضية، بالرغم من أن رسالته لم تتجاوز منطقة محدودة ؟(1/11)
بيد أن النوع الإنساني لم يكن منتشراً آنذاك في مجموع الكرة الأرضية، بل كان الناس منحصرين في الناحية التي وصلها الطوفان، حيث استوت سفينة نوح على "الجودي" ويحتمل أن يكون هو ذلك الجبل الذي يقع في نواحي "ديار بكر" من الجزيرة (تركيا حالياً) باتصال مع جبال أرمينية. ولم يتعرض القرآن لبيان الموقع الجغرافي لذلك الحدث.
قال الله تعالى في القرآن : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } (سورة العنكبوت، الآية 13).
هود
هو ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. أرسل إلى عمالقة عاد في أرض الأحقاف جهة اليمن عند حضرموت، وهو الربع الخالي أو الخليج الحالي وفي شرقه عُمان.
ولم يرد ذكر هود في غير القرآن (سورة هود)، ويقال إنه أول من نطق بالعربية، إذ كان العرب أول من سكن غربي الفرات.
صالح
هو ابن عبيد بن ماسح بن حادر بن ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح. لم يُعرف عصره بالضبط، ولا تدل الآثار الموجودة عليه، لأن أكثرها نقوش نبطية على القبور تحمل معنى التبرك، يرجع تاريخها إلى ميلاد المسيح، عليه السلام. ويرجح أنه وقومه كانوا من العرب العاربة من بقايا عاد الذين بنوا مساكنهم بالحجر، بين الحجاز والشام. وتعرف عاد اليوم بـ "فج الناقة" وهي مدائن صالح، متاخمة لخليج العقبة، وسُمِّيَ المكان بذلك الاسم لأن صالحاً جاء بمعجزة على صدق رسالته، حيث خرجت الناقة من صخر أصم، فعاشت ما عاشت، ثم عقروها فأرسل اللّه عليهم الصَّيْحَةَ (الصاعقة) التي دمرتهم.
إبراهيم(1/12)
هو ابن تارخ (ولقبه آزر) بن ناحور بن ساروغ، حتى يصل إلى سام بن نوح، وهو خليل الله ويسمى أبو الأنبياء وأولو العزم من الرسل، موسى وهارون ومحمد، وعيسى عليهم الصلاة والسلام. هو من أهل "فدان أرام" بالعراق، حسب التوراة، وقد انتقل إلى "أور" الكلدانيين، وهي مدينة على الشاطئ الغربي للفرات، ثم قصد حاران ثم فلسطين ثم مصر. وكانت زيارته لمصر في عهد "امنمحات الثاني" (حوالي 2200 قبل الميلاد).
نزل إبراهيم بأرض مكة مع ولده إسماعيل من هاجر التي أهداها له ملك الكنانة (مصر) ثم ترك إسماعيل مع أمه وحدهما في الوادي ورحل، طاعةً لأمر الله تعالى. ولما أصابهما الظمأ، ظهر ماء زمزم تحت رجل إسماعيل معجزةً واستجابةً لدعاء أمه التي كانت تسعى وراء السراب بحثاً عن الماء. وكان ظهور الماء سبباً لاستيطان قبيلة جُرْهُم بمكة، فنشأ إسماعيل فيهم وأخذ لسانُه عربيةَ الجرهميين، وترك سريانية أبيه.
قام إبراهيم مع ابنه إسماعيل ببناء الكعبة على القواعد القديمة لذلك البيت العتيق المتهدم، ثم أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج : { وأَذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } (سورة الحج، الآية 25)، فأصبحت زيارة الكعبة منذ ذاك الحين من المناسك. عاش إبراهيم من العمر حوالي 175 سنة.
إسماعيل
أُرْسِلَ إلى القبائل العربية التي نشأ فيها كما سبق ذكره. وعاش 137 سنة، ومات بمكة ودفن عند قبر أمه هاجر في الحجر، على المشهور الصحيح. وتذكر التوراة أنه مات بأرض فلسطين.
إسحاق
أرسل إلى الكنعانيين من بلاد الشام وفلسطين، وقد ولد وعمر والده إبراهيم مائة سنة. عاش إسحاق من العمر 180 سنة، ودفن في حبرون (الخليل) حيث دفن أبوه. وقد اختلف في الذبيح وقد ورد عن ابن عباس مرفوعاً أن الذبيح هو إسحاق، كما ورد في أثر آخر أنه إسماعيل(12).
لوط(1/13)
هو ابن هارون بن تارخ، فهو ابن أخي إبراهيم. أرسله اللّه إلى أهل "سدوم" شرقي الأردن، وقد انتشر فيهم الشذوذ الجنسي { ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين.إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون } (سورة الأعراف، الآيتان 80-79)، ولما أبوا التوبة والانصياع لما جاء به رسول الله لوط، أهلكهم الله، وكانت زوجته مع الهالكين لأنها كانت تُقِرُّ قومها على فسادهم، وقد نجت معه ابنتاه.
وكانت قرية لوط بمكان البحر الميت الذي يعرف أيضاً ببحيرة لوط، ولما جعل اللّه أعلى الأرض سافلها، صارت الأرض أخفض من سطح البحر فامتلأ المكان بالماء. وقد اكتشفت آثار من مدن قوم لوط على حافة البحر الميت.
ولم تهلك امرأتا نوح ولوط عن ارتكاب فاحشة الزنا أو ما شابه ذلك، وإنما عن كفر برسالة زوجيهما. وكما قال ابن عباس : >ما بغت امرأة نبي قط< لأن بغاء المرأة يحط من كرامة زوجها، وجميع رسل الله وجهاء كرام(13).
يعقوب
هو ابن إسحاق بن إبراهيم، ويسمى "إسرائيل" أي عبد الله. ولد في فلسطين ثم رحل إلى "فدان آرام" في بابل بالعراق عند خاله "لابان" فرأى رؤيا في مكان سمي "بيت إيل" أي بيت اللّه وهو موضع "بيت المقدس" الذي بناه يعقوب بعد ذلك. ثم تابع سفره إلى العراق حيث تزوج بابنتي خاله معا، ولم يكن الجمع بين الأختين محرماً وقتئذ، ثم نسخ ذلك الحكم من بعد ذلك في شريعة التوراة. وولدت له إحداهما، وهي "راحيل" الكبرى، يوسف وبنيامين. وقد دفن يعقوب مع أبيه في مدينة الخليل.
يوسف(1/14)
هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم<(14). وقد عَمَّرَ الإيمان قلبه وتعطرت سيرته، فتجنب المعصية مع امرأة عزيز مصر الذي رَبَّاه وأكرمه. وعند اجتماعه بأبيه بعد الفراق كان عمر يعقوب 130 سنة، ثم توفي بعدها بـ 17 عاماً. أما يوسف فقد عاش من العمر 110 سنوات. مات ودفن بمصر، ثم نقلت رفاته إلى الشام أيام موسى، ودفن بنابلس على الأرجح. وكانت وفاته بعد ميلاد جده الأكبر إبراهيم بـ 361 سنة، وقبل مولد موسى بـ 64 سنة.
شعيب
هو شعيب بن مدين، قيل إنه من سلالة العيص بن إسحاق، والراجح أنه ابن ميكيل بن يشجن بن مدين بن مديان بن إبراهيم، عليهم السلام. ويُسميه المفسرون خطيب الأنبياء لفصاحته.
لقد كانت بعثة شعيب قبل رسالة موسى، وقد التبس الأمر على بعض المؤرخين فظنوا أن شعيباً كان بعد موسى بعدة قرون، ويبدو أنهم خلطوا بينه وبين النبي "إشعيا".
ومساكن أهل مدين كانت في الحجاز من جهة الشام قرب خليج العقبة شمالاً، جنوبي فلسطين. وكان أهل مدين أهل تجارة وزراعة فطففوا في المكاييل والموازين، ولعل ذلك كان بعد انتقال بني إسرائيل إلى مصر، فكان هذا الغش في التجارة سبب بعثة هذا الرسول، عليه السلام، فقد كانوا يكيلون بمكيالين مختلفين، أحدهما للشراء والآخر للبيع. فلما لم يستجيبوا للرسول وأصروا على الاستمرار في الغش، أخذهم عذاب يوم الظُّلَّة بالزلزال والصيحة.
أيوب
هو ابن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، وكان من الروم. كان صاحب ثروة وبنين ابتلاه الله بالغنى، فكان تقياً شاكراً، ثم ابتلي بلاء شديداً في أهله وبدنه وماله، فصبر. ثم أنقذه اللّه من الضر، كما قال تبارك وتعالى : { وأيوب إذ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين } (سورة الأنبياء، الآية 83).(1/15)
ولا يصح ما تنقله الإسرائيليات من أن أيوب حين اشتد به المرض وتعفن جسده، ألقاه الناس في مزبلة خارج بلده (حسب التوراة) لأن في ذلك تحقير يأباه الإسلام. وقد استقطع مرضه 18 سنة من عمره الذي بلغ 93 سنة. ولد له 26 ذكراً منهم "بشر" الذي يقال إنه هو "ذو الكفل" المذكور في القرآن ضمن الرسل.
وقد أرسل أيوب إلى أمة الروم، وكان مقامه بدمشق وأطرافها. وبه اتصلت الرسالة الإلهية بالرومان انطلاقاً من دمشق، ثم إلى بلاد فارس، ثم إلى أرض العجم التي عرفت بعد ذلك ببيزنطة (آسيا الوسطى). وفي ذلك دليل على أن الرسالات الإلهية غمرت آنذاك المناطق الآهلة من المعمورة.
موسى وهارون
هما من أولي العزم، ابنا عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى هو كليم الله { وكلَّم اللَّهُ موسى تكليماً } (سورة النساء، الآية 164). وقصة موسى وهارون معروفة (سنرجع إليها في العلاقة بين التوراة والإنجيل). ولد هارون قبل موسى بثلاث سنين، وكان فصيح اللسان قوي الجنان، عاش من العمر 122 سنة، وتوفي قبل أخيه موسى بأحد عشر شهراً في أرض التيه، قبل دخول بني إسرائيل أرض فلسطين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لا تفضلوا بين أنبياء اللّه فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء اللّه، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بُعِثَ، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي ! ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متَّى<(15).
ذو الكفل(1/16)
أما ذو الكفل فقد رجح ابن كثير نبوته، وإن كان بعض العلماء يرون أنه رجل صالح من بني إسرائيل، حيث اقتصر وصف القرآن له على أنه من الصالحين الأخيار. ولكن ابن كثير يرى أن هذا الوصف هو أيضاً للرسل، كما في قوله تعالى : { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين } (سورة الأنبياء، الآيتان 85-84) { واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار } (سورة ص، الآية 47). ولا ندري الظروف التي دعت إلى بعثته.
داود
هو ابن إبشا بن عويد بن عابر بن سلمون، حتى يصل إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
بعد وفاة موسى وهارون، تولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل، حيث دخل بهم بلاد فلسطين التي وعدوا بها على لسان موسى في التوراة. ولما توفي يوشع، تولى أمرهم قضاة منهم طوال 356 سنة. وقد دب الوهن والضعف في بني إسرائيل بعد أن ضيعوا الشريعة، فغزاهم العمالقة والآراميون والفلسطينيون، وجرؤوا على قتل الأنبياء.
وكان بنو إسرائيل يحملون آنذاك "تابوت الميثاق" أو "تابوت العهد" وفيه ألواح موسى وعصاه، للنصرة ببركته، فانتزعه منهم أهل غزة وعسقلان، فمات ملكهم كمداً، وبقوا كالغنم بدون راع حتى بعث اللّه إليهم نبياً هو "شمويل" (صمويل).
وقد تملك عليهم بعد ذلك "طالوت" بوحي من اللّه، وجاء إليه التابوت الذي انتزع منهم، ثم تمردوا عليه، فامتحنهم اللّه بشدة الظمأ فلم يبق مع طالوت سوى 319 جنديّاً من 80.000، فاكتفى بهم في قتال خصومه الوثنيين الفلسطينيين، وكان قائد جيشهم هو "جالوت" الذي طلب المبارزة، فتقدم إليه فتى صغير من جند طالوت اسمه "داود" وبارزه فقتله، فانتصر بنو إسرائيل وبايعوا داود بعد وفاة طالوت، فأصبح ملكاً عليهم، وكان ابن ثلاثين عاماً، فساس بني إسرائيل بالعدل والمساواة وتحكيم التوراة إلى أن أوحى اللّه إليه "الزبور" بعد أن بلغ الأربعين.(1/17)
وكان حسن الصوت، إذا قرأ الزبور تكف الطير عن الطيران، كما كان يأكل من عمل يديه، يصنع الدروع والسيوف ليكسب عيشه، دون أن يأخذ من المال العام. روى ابن عباس كما في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم : >أحب الصلاة إلى اللّه صلاة داود، وأحب الصيام إلى اللّه صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً<(16).
ومن الافتراءات على ذلك النبي الكريم ما زعم من أمر عشقه لزوجة قائد جنده >أوريا<. فقد قيل إن داود أرسله مراراً إلى الحرب وأمره أن يتقدم إلى أن قتل، وذلك بغية أن يتزوج امرأته. وهذا افتراء وهزء لا يقبل في حق الأنبياء والرسل، قدوة البشرية الذين عصمهم الله من الزلل في الخطايا ومن الغدر والخيانة. وهل يعقل أن نبي الله داود، عليه السلام، يخدع قائد جنده الذي يعينه على الجهاد.
عاش داود، حسب مصادر أهل الكتاب، 77 سنة. وفَنَّدَ ذلك ابن جرير الطبري مؤكداً أنه عاش مائة سنة، لما رواه أحمد من حديث آدم الذي ورد فيه أن اللّه زاد داود أربعين سنة على عمره، فأصبح مائة سنة(17).
سليمان
خلف سليمان أباه داود وكان عمره 12 أو 13 سنة، ومع حداثة سنه كان ذكياً حسن القضاء والتدبير والسياسة، وكان بعيد النظر حكيماً. وهو الذي عَمَّرَ بيت المقدس، تنفيذاً لوصية أبيه داود، بعد أربع سنوات من توليه الملك، وأقام سور "أورشليم". ولما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، كما جاء في حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : >أعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون له الثالثة. فسأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه الله إياه. وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه الله إياه. وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه. فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطاه إياه<(18).(1/18)
ولما انتهى من بناء بيت المقدس بنى الهيكل، أي القصر الملكي، خلال ثلاث عشرة سنة، ومعه "مذبح القربان". وكان له أسطول بحري يجلب به من الهند الذهب والفضة والبضائع، وكان يروض الخيل.
عاش سليمان 52 سنة ولبث في الملك 40 سنة، وكان ملكاً نبياًّ عَلَّمَهُ اللّهُ منطق الطير وسائر لغات الحيوان، وسخر له الجن ومردة الشياطين. ولم ينل أحد من الأنبياء ما ناله سليمان من الملك، كما جاء في قوله تعالى : { قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب. فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بناء وغواص. وآخرين مقرنين في الأصفاد. هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب }، (سورة ص، الآيات 39-34).
وقد روت الإسرائيليات حكايات غريبة حول خاتم سليمان وضياعه في البحر، ولذلك فقد ملكه. وقد فند هذا الزعم ابن كثير والفخر الرازي والبيضاوي، وغيرهم.
يونس(1/19)
هو من بني إسرائيل، من أحفاد بنيامين بن يعقوب، عليهم السلام، ويسميه أهل الكتاب يونان بن أمتاي. أُرْسِلَ إلى أهل نِينَوَى Ninive عاصمة آشوريا Assyrie، التي كانت في أرض العراق، في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانوا يعبدون صنماً يسمونه عشتار. وقد ظل يدعو قومه إلى توحيد اللّه وعدم الشرك به، فلما لم يستجيبوا له، ترك البلدة ورحل مغاضباً لهم متوعداً إياهم، قبل أن يأمره اللّه بذلك ـ خدعه الشيطان ـ فلما خرج يونس ودعا على الظالمين، تحقق القوم من العذاب عند رؤيتهم علاماته، فتابوا واستغفروا إلى أن رفع الله عنهم ذلك العذاب وأعاد إليهم الأمن. وكان يونس وقتئذ راحلاً على ظهر سفينة، فلما اهتزت ورُجَّتْ تشاءم القوم فاقترعوا فوقعت عليه القرعة مراراً، فعلموا أنه سبب فيما يحدث للسفينة على غير العادة، فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت، وأوحى اللّه إلى الحوت أن لا يمسه بسوء. ثم نادى يونس في الظلمات { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } (سورة الأنبياء، الآية 87)، فقذفه الحوت ـ قيل على شاطئ في العراق ـ ثم عوفي، وعرف تسرعه في ترك القوم قبل أن يأمره اللّه بذلك، فعاد إلى قومه فوجدهم مؤمنين. ولكنهم فسدوا ثانية بعد حين، فَسَلَّطَ اللّه عليهم من دمر مدينتهم.
زكريا ويحيى
هو زكريا ابن لدن ـ أو ابن دان ـ بن مسلم بن صدوق، ويحيى ولده، ويصل نسبهما إلى سليمان، عليهم السلام.
بعثه الله قبل عيسى إلى بني إسرائيل فنهاهم عن الفجور والفسق والتفسخ، فقد كانوا يسفكون دماء الصالحين والأنبياء، وكان أعظمهم فتكاً بهؤلاء "هيرودوس" حاكم فلسطين، الذي قيل إنه أمر بقتل يحيى بن زكريا، فجاؤوا برأسه في طبق إرضاءً لرغبة عشيقته.(1/20)
كان عمران والد مريم هو العالم الأكبر لبني إسرائيل آنذاك، فلما توفي كفل زكريا مريم، وهو زوج خالتها. طلب زكريا من الله أن يرزقه ولداً، قيل كان عمره حين طلب الولد 99 سنة، وعمر زوجته 98 سنة، فأنجب يحيى الذي قتل في حياته، ثم قتل زكريا بعده، حسب بعض المؤرخين.
وقد نبئ يحيى وهو ابن ثلاثين سنة، وكان قد ولد قبل عيسى بثلاثة أشهر، فكان في شبابه يأوي إلى القفار ويقتات بالجراد والعشب، وصار عالماً يُرْجَعُ إليه في الفتوى (19). وكان يحيى يدعو بني إسرائيل إلى طاعة اللّه، ويبشرهم باقتراب ملكوت السماوات. وقد ظهر في الأردن وكان يُعَمِّدُ الناس في النهر، وقد عَمَّدَ المسيح عيسى ابن مريم في نهر الأردن(20).
المسيح عيسى ابن مريم
هو ابن العذراء مريم ابنة عمران من سلالة داود، التي قالت : { أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا، قال كذلك قال ربك هو علي هَيِّنٌ ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضيّاً. فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً } (سورة مريم، الآيات 21-19). وكان ميلاد المسيح معجزة، إذ جعله الله يتكلم في المهد ليبرىء أمه مما رماها الناس به {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًّا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا. وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا} (سورة مريم، الآيات 30-28).
بعثه اللّه تعالى بعد قتل يحيى بن زكريا، عليهما السلام، فلما أدى رسالته، كان ما كان من سعي اليهود إلى قتله وصَلْبِهِ. ويعتقد المسيحيون في وقوع ذلك للمسيح نظراً لأن اليهود تمكنوا من قتل وصلب رجل آخر ألقى الله عليه شبهاً بعيسى : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } (سورة النساء، الآية 156).(1/21)
ويتفق المسيحيون والمسلمون على بعثة المسيح من جديد قبل قيام الساعة، غير أن المسلمين يؤمنون بأنه سيحمل مبادئ التوحيد التي جاءت بها المسيحية الأصيلة، وسيهدي الناس وفقاً لشريعة الإسلام الخاتمة.
وقد أرسل سيدنا عيسى إلى بني إسرائيل بعد أن طال عليهم الأمد، ثلاثة عشر قرناً خلت من الأنبياء، قست قلوبهم خلالها فَحَرَّفُوا شريعة اللّه وضَيَّعُوا الكثير من معالمها، فتحرّجوا عن عمل الخير واتخذوا من يوم السبت عطلة، وفَوَّتوا طاعات كثيرة في هذا اليوم، وتهالكوا على المادة وحب المال.
وقد نَزَّهَ القرآن عيسى وأمه مريم عما ألصق بهما من صفات باطلة : { وإذ قال اللَّه يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللَّه قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } (سورة المائدة، الآية 118). وقد أعطى اللَّه نبيه المسيح وأمه قدرهما من التكريم، قال تعالى : { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن اللَّه اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين } (سورة آل عمران، الآية 42). { إذ قالت الملائكة يا مريم إن اللَّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين } (سورة آل عمران، الآية 45). وفي الحديث الشريف، عن أبي هريرة، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : >ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مَسِّ الشيطان، غير مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة، أي يتلو قول الله : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }<(21).
محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والنبيىن
ينتسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى عدنان، فهو :(1/22)
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر (وغالب بن فهر هو الملقب بقريش، وإليه تنتسب القبيلة) بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(22).
ومن عدنان يصعد نسبه إلى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن أُبَيّ بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم. عليهم الصلاة والسلام(23).
وتسمى أسرة محمد صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة، في شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان. ويحتمل ذلك موافقة أحد الأيام 20 أو 21 أو 22 أبريل من عام 571م(24). واشتهر عند أهل السير أنه في الثاني، وقيل التاسع وقيل الثاني عشر من ربيع الأول، وقيل إنه وافق يوم الإثنين.
توفي أبوه قبل ولادته ببضعة أشهر، ثم توفيت أمه حين كان عمره ثلاثة أعوام.
ونكتفي هنا بذكر نسب خاتم الأنبياء والمرسلين اعتباراً إلى أن الباب الثالث من هذا الكتاب يشتمل على دراسة حول رسالة الله إلى محمد، عليه الصلاة والسلام.
الوحي(1/23)
وردت كلمة الوحي في آيات عديدة من القرآن الكريم، قال تعالى : { قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } (سورة الأنبياء، الآية 45). { وما كان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عَلِي حكيم } (سورة الشورى، الآىة 48). { والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى } (سورة النجم، الآيات 4-1).
وعبر القرآن في آيات أخرى عن الوحي بالتنزيل { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل } (سورة آل عمران، الآية 2). فالوحي الحق يتم بواسطة مَلَكٍ يحمل الخطاب الإلهي إلى الرسول الموحى إليه المدعَّم بالمعجزة، فكل رسول يُعَزَّزُ في رسالته بما يليق بمجتمعه وعصره، كالإعجاز الطبي في رسالة عيسى، عليه السلام، حيث أبرأ الأكمه والأبرص، والإعجاز الإحيائي فقد أحيا الموتى بإذن اللّه. واتسم القرآن بإعجاز بلاغي تحدياً لفصاحة العرب. فالقرآن هو الكلام المنزل من عند اللّه بلفظه ومعناه.
والوحي يعني في أحد معانيه الإلهام الفطري عند الإنسان، والغريزي عند الحيوان، كما جاء في قول الله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } (سورة النحل، الآية 68) فالإلهام الفطري وصوت الضمير لدى الإنسان هو نوع من الوحي يختلف عن الوحي إلى الرسل. وكما أن للإنسان نفس تميل إلى الهوى، وحوله شياطين توسوس له بالشر، فإن لديه العقل والقلب والضمير، وحوله ملائكة توحي إليه بالخير.
حقيقة الوحي إلى الرسل(1/24)
وحقيقة الوحي لا تدرك عن طريق العقل المجرد والتصورات الشخصية انطلاقاً من المحسوس وبعيداً عن الغيب، وهي أيضاً لا تدرك بمجرد الرياضة الروحية على هامش عالم المادة. وإذا قلنا إن الوحي إلهام فاض من العقل الباطن أو النفس الروحاني فانعكس على البصر، فمعنى ذلك أن الوحي خارج من نفس الرسول. ولكن الحق هو أن الوحي نازل إلى الرسول من السماء عن طريق ملك هو جبريل.
إن حقيقة الوحي إلى الرسل تختلف عما يذكره "جورج بوست" من أنه >حلول رُوح اللّه في روح الكُتَّاب الملهمين لإطلاعهم على الحقائق الروحية والغيبيات<(25). لقد فتح هذا التصور مجالاً للمنكرين إلى اعتبار الوحي ظاهرة هلوسة وخيال نابعة من أعماق نفس مريضة.
وقد عزز بعض الفلاسفة هذا المنظور فأسندوا الوحي إلى اتصال النفس الإنسانية الناطقة بالنفوس الملكية اتصالاً معنوياً. ولكن ليس عندهم فرق بين الوحي والإلهام.
صورة الوحي
أما صُوَرُهُ فهو : إما إلقاء في الروع (أي القلب) أو إملاء عن طريق الملك أو صلصلة جرس. وقد يتلقى بعض الرسل، مثل موسى، كلاماً من اللّه بغير وحي، ولكن من وراء حجاب(26) ، كما قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحياً أو مِن وراءِ حجابٍ أو يرسل رسولاً فيوحِي بإذنه ما يشاء } (سورة الشورى، الآية 48). ومهما يكن فإن الرسول محمداً، عليه الصلاة والسلام، قد تلقى الوحي بلقاء المَلَكِ جبريل يقظة، كما ورد في أحاديث عائشة، رضي الله عنها(27).
مضمون الوحي
إن للقرآن الكريم في قصص الأنبياء حكمته، فهو يثبت الوحي والرسالة ووحدة الأديان السماوية، ويبين العبرة من دعوة الرسل وموقف الأمم والشعوب منها، مع تحليل الرابطة الوثيقة بين الشرائع والأديان، وإبراز مدى الخير والصلاح الناتجين عن الوحي المعبر عن قدرة اللّه على الخوارق، مع وقوف العبد عند الأسباب(28).(1/25)
يقول اللّه عز وجل : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتقين } (سورة الأنبياء، الآية 48). { ولقد آتينا إبراهيم رُشْدَهُ من قبل وكُنَّا به عالمين } (سورة الأنبياء، الآية 51). { وما جعل عليكم في الدين من حرج مِلَّةَ أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } (سورة الحج، الآية 76).
الوحي والدين
وفكرة الوحي يرتكز عليها مفهوم الدين، إذ الدين جماع ما يوحي به اللّه إلى رسله : { إن الدين عند اللّه الإسلام } (سورة آل عمران، الآية 19)(29).
وعند بعض الفلاسفة هو نوع من الإدراك لما يفوت العلم وينقطع دونه العقل(30).
فتلازم الفلسفة والدين يرمي، كما يقول الشيخ مصطفى عبد الرَّازق(31)، إلى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق والعمل الخيِّر. وهو نفس ما أكده الشهرستاني(32) من أن القسم العملي في الفلسفة هو عمل الخير والقسم العلمي هو علم الحق. وقد قال ابن حزم : >الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود بتعلمها ليس هو شيئاً غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة<.
ولكن "ابن سينا" فَصَّلَ عندما لاحظ أن وجهة الدين عَمَلِيَّةٌ أصالةً، ووجهة الفلسفة نظريةٌ بالأصالة. وأكد على أن مبدأ الحكمة العملية مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، ومبادئ الحكمة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية.
وقد أشار الشيخ مصطفى عبد الرَّازق فيما كتبه حول ابن سينا إلى أنه اقتنى كتاباً لأرسطو في موضوع "ما وراء الطبيعة" فانكب عليه أزيد من شهر وانغلق فهمه عليه، فاتجه صباح يوم إلى المسجد لصلاة الصبح، فلما عاد إلى البيت واستأنف قراءة الكتاب تفتحت مغاليقهُ، فكان للحكمة العملية بذلك أثر قوي في دعم الحكمة النظرية(33).
الأنبياء والرسل(1/26)
الرسول إنسان من البشر أوحى اللّه إليه بشرع وكَلَّفَهُ بتبليغه كرسالة. أما النبي فهو مُكَلَّفٌ بإرشاد قومه وفقاً لرسالة باقية لم تتغير معالمها بالتحريف أو بضياع الأصول، فكل رسول نبي ولا عكس.
وعدد الأنبياء، كما في بعض الآثار، مائة وأربعة وعشرون ألفاً، وعدد الرسل من هؤلاء ثلاثمائة وخمسة عشر، كما في حديث أبي ذر الغفاري الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(34)، وأولو العزم هم أبرز الرسل وأكثرهم قوة وصبراً، ومنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمره الله تعالى أن يحذو حذوهم : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } (سورة الأحقاف، الآية 34). وإنما سُمُّوا "أولو العزم" لقوة عزائمهم وشدة ابتلائهم، >أشد الناس بَلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل<(35).
والنبوة اصْطِفَاءٌ وَهِبَةٌ واخْتِصَاصٌ من اللّه لمن يشاء من عباده، فهي لا تعطى إلا للمؤمن، وهي خاصة بالرجال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } (سورة يوسف، الآية 109).
عصمة الأنبياء والرسل
وقد ورد في كتاب الله من مناقب الأنبياء والرسل ما يستوجب تقديرهم ومحبتهم، والإيمان بما جاؤوا به عن ربهم، وجميع الرسل مُثُل عُليا للمؤمنين.
{ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صِدِّيقاً نَبِيّا } (سورة مريم، الآيتان 41-40) { إن إبراهيم كان أمَّةً قانتا للّه حنيفاً ولم يك من المشركين } (سورة النحل، الآية 120) { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } (سورة الأعراف، الآية 144) { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّا } (سورة مريم، الآية 54) { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار. وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار. واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار } (سورة ص، الآيات 47-44).(1/27)
وهكذا أبرز الله تعالى الصفات المثلى للأنبياء والرسل، وهي كما استخلصها رجال الدين : الصدق والأمانة والعفة والفطنة والسلامة من العيوب المنفرة والعصمة من تعمد المعصية. لقد امتازوا بهذه الصفات على بقية البشر لبعدهم عن المعاصي، وعن كل ما يخل بالمروءة والكرامة، فصاروا صورة للكمال وأهلاً للإمامة ولهداية البشرية.
وينبغي نبذ كل كتابة تنسب النقائص إلى الرسل، إذ أن كل ما ينسب إلى الرسل والأنبياء من أمور مشينة إنما هو من فعل الناس وترويجهم الأباطيل وتحريفهم مضمون الرسالات.
ومعلوم عقلاً أن الأصول الأولى التي دوِّنت بالنقل المباشر عن ألْسِنَة الرُّسل السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم لو كانت موجودة لوجدناها تحفظ للرسل والأنبياء كل معاني النزاهة والكرامة، باعتبارهم قدوة ومثلاً عليا في تاريخ الإنسانية. ولكن تلك الأصول الأولى غير موجودة في عصرنا هذا، ومن الصعب العثور على شيء منها، ولا يوجد في حوزة الإنسانية المعاصرة أصل مرجعيّ يحمل نصّاً لرسالة سماوية أصيلة وكاملة كما بَلَّغَها الرسول، وبقيت لغتها حية إلى اليوم، سوى القرآن الكريم، الذي يحفظ لجميع الأنبياء والرسل العصمة والعزة والكرامة، شأنه شأن سائر الرسالات التي نزلت من عند الله سبحانه وتعالى.
إن الإسلام يحترم جميع الرسل والأنبياء، ويذكر بإمامتهم وبما حملوه من مبادئ لهداية البشر، كما قال اللّه تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } (سورة الأنبياء، الآية 72) فالنبي أو الرسول قدوة لا يمكن أن يوصم بما يتنافى مع الخلق القويم، وإن كان يمكن أن يخطئ في تقديراته واجتهاداته الشخصية، بعيداً عن الوحي، إلا أن خطأه لا يصل بأي حال إلى أن ينزل به عن الخلق الرفيع.(1/28)
إن محمداً هو خاتم النبيئين : { ما كان مُحَمَّدٌ أبا أَحدٍ من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين }، (سورة الأحزاب، الآية 40)، ولا يجوز للناس التفضيل بين الأنبياء والرسل { لا نُفرِّق بين أحد من رسله } (سورة البقرة، الآية 284). والحديث : >لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى<(36). إن اللَّه وحده هو الذي يفضل بينهم : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كَلَّمَ اللَّه ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيِّنات وأيدناه بروح القدس } (سورة البقرة، الآية 251). { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً } (سورة الإسراء، الآية 55). إن بعثة الأنبياء كلها منارة للهدى ومعلمة للفضيلة، وجرت رحمة اللّه أن لا يعاقب أمة قبل أن يبعث إليها رسولاً : { وما كُنَّا معذِّبين حتى نبعثَ رسولاً } (سورة الإسراء، الآية 15). وما من أمة خلت من الرسل : { ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون } (سورة المؤمنون، الآية 44).
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن بعث الرسل من البشر دون الملائكة، وذلك حتى لا يكون للناس حجة إذا ما انحرفوا عن شرع الله ناظرين للملائكة أن طاعة الله تسهل عليهم لفطرتهم النورانية. إن مهمة الرسل ـ إضافة إلى الكشف عن الأمور التي لا يكفي العقل البشري وحده للتفريق بين خيرها وشرها ـ تقتضي البيان العملي بالطاعة، وأن تكون أعمالهم من نوع مايحتمله الناس، فعلى بشريتهم يرتكز التبليغ والهداية والإرشاد، وإنذار الناس بالبعث وحساب الآخرة.
هل ينزل الوحي على غير الأنبياء والرسل ؟(1/29)
إن رؤية المَلَكِ لا تستلزم بالضرورة نبوة أو رسالة، فالنبوة ليست هي مجرد الوحي كما يعتقده الكثير، لحصوله ــ أي الوحي ــ لمن ليس بنبي كريم، بل النبوة عند المحققين هي إيحاء اللّه لرجل بحكم إنشائي(37). ورد في صحيح الإمام البخاري ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثُونَ، فإن يك في أمَّتي أحدٌ فإنه عمر<(38)، ولا تكون مخاطبة هؤلاء بالوحي عن طريق الملك، وإنما يلقي الله إليهم الحق بوحي الإلهام.
وأما أم موسى فقد أوحي إليها ولم تكن نبية : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلين } (سورة القصص، الآية 6).
ومن وحي الله سبحانه ما كان موجهاً إلى غير الإنسان، قوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } (سورة النحل، الآية 68) { وأوحى في كل سماء أمرها } (سورة فصلت، الآية 11)، وذلك يعني العطاء الفطري، فهو بمثابة وحي.
وقد فرق بعض العلماء بين وحي الرسل والأنبياء من ناحية، وإلهام الأولياء، فقالوا : إن وحي الأنبياء يسمَّى كلاماً وإلهام الأولياء يسمى حديثاً. فالكلام يلزم تصديقه ومَن ردَّهُ كَفَر، والحديث من رده لم يكفر(39).
وقد ثبت بالكتاب والسنة أن من المؤمنين من رأى الملائكة دون أن يكون رسولاً ولا نبياً، قال تعالى : { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيا. فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } (سورة مريم، الآيات 17-15).(1/30)
وقال القاضي ابن العربي المعافري، في تفسير قوله تعالى { إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } (سورة فصلت، الآية 29) : قال المفسرون عند الموت، وأنا أقول في كل يوم(40). ويؤيد تصريح ابن العربي ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه قال : >إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد اللّه تعالى على مدرجته مَلَكاً، فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية. قال : هل لك عليه من نعمة تَرُبُّهَا ؟ قال : لا، غير أني أحببته في اللّه عز وجل. قال : فإني رسول اللَّه إليك بأن اللَّه قد أحبك كما أحببته فيه<(41)، قال النووي، في شرحه على مسلم : >وفيه أن الآدميين قد يرون الملائكة<(42).
وحدة الأديان السماوية
يقول الحق تبارك وتعالى : { ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكَلَّمَ الله موسى تكليماً } (سورة النساء، الآية 163). وذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عدة الأنبياء : >مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر، جَمّاً غَفيراً<(43). وذلك يحدونا إلى التساؤل عن هوية بعض الشخصيات من الذين يعدهم التاريخ من الحكماء الصالحين، فربما يكون هؤلاء قد عاصروا أنبياء وتعرفوا على ما صدر عنهم من حكم ومواعظ ثم ألفوا حولها الكتب، مثل Zoroastre زردست في كتابه Avesta (عاش في القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد) وأتباعه هم المجوس الذين اعتبروا من أهل الكتاب الخاضعين لذمة الإسلام(44).(1/31)
على أنك إذا تصفحت بعض كتب كونفوشيوس (القرن السادس ق.م.) تلمس مدونة أخلاقية تتمحور حول فضيلة الإنسانية والعدالة واحترام الشعائر الروحية، مما يؤكد صلتها الوثيقة ببقايا وحي سماوي. وقد صنف >كونفوشيوس< كتاباً بعنوان "المحادثات" وهو عبارة عن مدونة دينية اجتماعية زاخرة بالحكمة والمواعظ والأخلاقيات التي غالباً ما تكون منقولة عن نبي عاصر ذلك الزمان.
وفي نفس العصر (القرن السادس ق. م. تقريباً) ظهر Pythagore الفيلسوف بنظريته في خلود الروح والزهد انتجاعاً لتطهير الجسم والروح.
وسقراط (399 ق.م.) وتلميذه أفلاطون (347-428 ق.م.) ظهرا بالفكر الجدلي القائم على ضرورة التواكب بين النسق الكوني ووجود الكائن المطلق.
كل تلك الآراء والمفاهيم الهادفة إلى التجرد من الماديات غالباً ما تكون لها صلة بإلهام علوي ارتقت فيه الروح لتسمو على ماديات الجسد، كما يقول ابن سينا :
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء دون تمنّع وتنطّع
وكما يروي شيخ الأزهر الأسبق الدكتور مصطفى عبد الرَّازق في كتابه، عن ابن سينا : >أن ابن سينا عكف أربعين يوماً على قراءة بعض المصنفات فانغلق فهمها عليه، فرجع إلى اللّه بيقين كامل وهَبَّ إلى المسجد لصلاة الصبح، فجاء الإلهام الإلهي وانفتحت مغاليق الفهم والإدراك. ويتجلى من مصنفات ابن سينا الفلسفية أن لا وجود لأي تناقض بين معطيات هذه الفلسفة والعقيدة الإسلامية، وهذا التناقض قد يوجد في الظاهر فقط، وهو تخيل يمكن القضاء عليه بالرجوع إلى وحدة الفكر الديني والفلسفي(45). ذلك أن الفلسفة لا تعدو دراسة وسائل التوفيق بين بني البشر ووحدة الخلق العالمي وتصفية النفس والتعرف إلى عيوبها وطريقة تلافيها<(46).(1/32)
وإذا كان "بيتاغور" قد بسط القول في نظرية دوران الأرض حول نفسها، وحركة الأفلاك حول الشمس، فإن ذلك يمكن أن يكون له صلة بالوحي، ولعله استقى مما كان يعلمه رسول الله إدريس، عليه السلام، من حقائق الخَلْقِ، وقد أدى اتساع علم هذا الرسول بالمفاهيم الكونية إلى إلصاق بعض الخوارق في التنجيم بشخصه الكريم، وجَرُؤ البعض على تأليهه، فدعوه إله الشمس التي تكون حسب ادعائهم في السماء الرابعة، حيث رفع اللّه ذلك النبي العظيم.
وجاء القرآن ففند هذا الزعم في قول الله تعالى : { إنا زيَّنَّا السماء الدنيا بزينة الكواكب } (سورة الصافات، الآية 6) بما يؤيد النظرية العلمية الجديدة وهي ما يعرف بالنظام الشمسي القائل بأن الأفلاك كلها، ومنها الشمس، تسبح تحت السماء الدنيا.
ولا نقول إن القرآن كتاب علوم طبيعية، بل هو كتاب رباني يحمل الحكمة والفضيلة، ويتضمن حقائق علمية تدل على أن الكون من خلق اللّه سبحانه وتعالى، وأن آيات الكتاب وحي منزل من عنده وليس من تأليف بشر.(1/33)
والفكر الإسلامي، الذي يتسم بشمولية عالمية، قد رجع إليه الكثيرون ممن حَلَّلُوا معطياته بموضوعية من فلاسفة العصور الوسطى، فالفيلسوف المسيحي توما الإكويني Thomas dصAquin (1225م-1274م) يتقارب فكره مع آراء ابن رشد الواردة في كتابه "فصل المقال فيما بين الحقيقة والشريعة من الاتصال". والكنيسة نفسها أقرت الشمائل والسمات الإسلامية في وثيقة أصدرتها في الستينيات من القرن العشرين، بعنوان "توجيهات" Orientations أكدت فيها أن الإسلام ليس دين الترهيب واللاتسامح، بل هو دين المحبة والإخاء، وفندت الفكر الخاطئ الذي نشره المسيحيون واليهود عن الإسلام مدعين خلوه من فضيلة الخُلُقِ، واستكانته إلى القضاء والقدر والتعصب الديني. فالجهاد في العربية، كما يقول الفاتكان في هذه الوثيقة : >ليس سوى جهاد أي دعوة في سبيل اللّه من أجل نشر الإسلام والدفاع عنه<، وختم الفاتكان توجيهاته مبيناً أن عهد الصليبيين المسيحيين لم يكن المسلمون هم الذين يرتكبون فيه أفظع التقتيلات.
أما مسألة التبشير بالرسول الخاتم، فقد جاء واضحاً في إنجيل برنابا، وكتبت فيه المؤلفات وعقدت حوله المناظرات(47).
المصادر والمراجع
(1) صحيح البخاري، كتاب المناقب، رقم 3271. صحيح مسلم، كتاب الفضائل، رقم 4237.
(2) البخاري، الصلاة، رقم 419. مسلم، المساجد ومواضع الصلاة، رقم 810.
(3) البخاري، الجنائز، رقم 1296. مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.
(4) البداية والنهاية لابن كثير، ج 1، ص 75. العهد القديم، سفر التكوين : الإصحاح الثاني/17-4.
(5) أحمد، باقي مسند الأنصار، رقم 21257. الطبراني، المعجم الكبير، باب الصاد : صدى بن العجلان، معان بن رفاعة السلامي عن علي بن يزيد. المتقي الهندي، كنز العمال، ج 11، رقم 32277.
(6) العهد القديم، سفر التكوين : الإصحاح الثالث/24.
(7) البخاري، أحاديث الأنبياء، رقم 3088. أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، رقم 3450.
((1/34)
8) راجع كتب قصص الأنبياء، مثل "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، لابن أياس الحنفي.
(9) راجع كتاب تاريخ الحكماء.
(10) أكد ذلك ابن خلدون في المقدمة، فصل التفسير.
(11) ورد في العهد القديم، سفر التكوين : الإصحاح التاسع/4 : تحريم أكل اللحم بروحه ودمه.
(12) جمع الفوائد من جامع الأصول لابن سليمان الروداني، حديث رقم 8321.
(13) مذكور عند القرطبي في تفسيره للآية 10 من سورة التحريم. وذكره السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عند تفسير الآيات 10-8 من سورة التحريم. وعلى هذا إجماع المفسرين، فيما ذكره القشيري.
(14) البخاري، أحاديث الأنبياء، رقم 3138. الترمذي، تفسير القرآن، رقم 3041، أحمد، باقي مسند المكثرين من الصحابة، رقم 5454.
(15) البخاري، أحاديث الأنبياء، رقم 3162.
(16) البخاري، الجمعة، رقم 1063. مسلم، الصيام، رقم 1969.
(17) تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، ج 2، ص 116.
(18) أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، رقم 6357. ابن ماجة، إقامة الصلاة والسنة فيها، رقم 1398.
(19) تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، ج 2، ص 152.
(20) إنجيل متى، الإصحاح الأول/21-16.
(21) البخاري، أحاديث الأنبياء، رقم 3177. مسلم، الفضائل، رقم 4363.
(22) سيرة ابن هشام 1/1، 2. الروض العطر الأنفاس، للمباركفوري.
(23) راجع تحقيق محمد سليمان المنصور فوري، رحمة للعالمين 2/14، 15، 16، 17، وفيه بيان للمصادر التاريخية المختلفة.
(24) حقق ذلك محمد سليمان المنصورفوري والمحقق محمود باشا، راجع الروض العطر الأنفاس، مرجع سابق.
(25) جورج بوست، قاموس الكتاب المقدس.
(26) راجع الآية 164 من سورة النساء، والتفاسير بشأن قوله تعالى : { وكَلَّمَ الله موسى تكليماً }.
(27) البخاري، بدء الوحي، رقم 4 وغيره.
(28) راجع عقيدة أهل السنة في كتاب درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ج 8، ص 503.
((1/35)
29) راجع تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، ج 2، الآية 19 من سورة آل عمران.
(30) ومن هؤلاء سبنسر Spencer ومولرMuller .
(31) الدين والوحي والإسلام، طبعة دار القادري، 1413هـ/1993م، ص 47.
(32) الملل والنحل، للشهرستاني.
(33) الدين والوحي والإسلام، مرجع سابق، ص 47 وما بعدها.
(34) أحمد، باقي مسند الأنصار، رقم 21257.
(35) البخاري، كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. الترمذي، الزهد عن رسول الله، رقم 2322. ابن ماجة، الفتن، رقم 4013.
(36) البخاري، أحاديث الأنبياء، رقم 144. مسلم، الفضائل، رقم 4382.
(37) القرافي، تنقيح الأصول.
(38) البخاري، كتاب المناقب، رقم 3413. أحمد، باقي مسند المكثرين، رقم 8114.
(39) ومن هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني.
(40) راجع تفسير ابن العربي، الآية 29 من سورة فصلت.
(41) مسلم، البر والصلة والآداب، رقم 4656. أحمد، باقي مسند المكثرين، رقم 8923.
(42) للحافظ السيوطي كتاب بعنوان >تنوير الحلك في رؤية النبي والملك< يشرح تفصيلات هذه المسألة.
(43) أحمد، باقي مسند الأنصار، رقم 21257.
(44) البخاري، الجزية، 2923. مالك، الزكاة 544.
(45) الفكر الديني لدى ابن سينا، لوي كاردي، طبعة باريس، 1951، ص 43.
(46) كتاب الشفاء La Guérison, Avicenne, traduction latine, éd. des Chamoines de St. Augustin, Venise, 1808. Traduction arabe, éd. 1886.
(47) راجع الفصل الثالث والأربعين من إنجيل برنابا.
الباب الأول : لغة موسى وهارون، ورسالتهما / د. أحمد شحلان
تمهيد
القول في العقيدة أمر لا يخلو من مخاطر ومزالق، لأن أصولها وفصولها إلهية والنظر فيها إنساني.(1/36)
ويكون النظر أكثر عرضة للزلل حينما ينظر الناظر في عقيدة غير عقيدته، لأنه لا يعرف أين يقف بعقله ولا أين يضع حداً لإيمانه، أين يحكم قواعد المنطق وأين يستسلم لنوازع الذات. وهو هنا لا يأمن على نفسه من الزلل ولا على قلمه من الزيغ.
وللتوقي من هذا المنحى انطلقنا في بحثنا هذا من مبدإ أن الرسالات السماوية كلها حق في أساسها ما بقيت مجردة من فعل الإنسان، والإيمان بها جزء أساسي في عقيدتنا، وأن الذي يدخل في حيز النظر هو ما دخل عليها من فعل الإنسان سواء بتعمد التحريف أو بغير تعمده.
ومن هنا فإن نظرنا في العقيدة اليهودية لا يروم المس بأي حيز من أحيازها أو مبدإ من مبادئها، فهي لنا دين سماوي حق نزلت كلماته على سيدنا موسى، عليه السلام، ديناً قيماً ليقوّم مسلك الإنسان في فترة من فترات التاريخ.(1/37)
لذلك اخترنا منهجاً قوامه ألا نناقش العقيدة بالعقيدة، ولا الكتاب بالكتاب، ولا أن نستعمل ثقافتنا العربية ولا موروثنا الحضاري الإسلامي ليبقى الإيمان في القلب ويكون ما للنظر للنظر. وقد رجعنا في هذا البحث إلى مصادر غير إسلامية، ولم نذكر من مصادرنا الإسلامية إلا مصدرين، أحدهما كتاب الفصل بين الملل والأهواء والنحل لابن حزم، وقد أوردناه لأنه كان الرائد في علم مقارنة الأديان، وكان مؤلفه أستاذاً غير مباشر للمدارس النقدية اللاهوتية فيما بعد، ولو لم نذكره لتركنا فتقاً في بناء منهجنا الذي أردنا له أن لا يحيد عن الحق. والمصدر الثاني هو الفهرست لابن النديم، ذلك أن هذا المصدر كان مجمعاً لعلوم أهل العقائد، ولأن صاحبه كان يجمع ولا يصنع. وما عدا هذين المرجعين لم نختر إلا ما كان أشد وثوقاً وأدخل في المجالات الأكاديمية لأعلام من غير ملة أهل الإسلام، منهم أناس لا نعرف نحلهم ومنهم يهود ومسيحيون من أرباب علم اللاهوت والتاريخ والحضارة وعلم الحفريات، والقائمين على خفايا اللغات وأسرار الحرف. وجل هؤلاء قد أطال النظر في مدونة العهد العتيق، وما إليها من علوم التوراة، بتأمل مجرد وبحث دقيق. من مَعين هؤلاء استقينا ومن جهودهم أقمنا أُسَّ هذا البحث، فهو منهم وعلى نِحَلهم.
ولم نرد نحن أن نتخذ لنا وسيطاً للنظر في نص العهد العتيق وإنما وقفنا مباشرة على كل كلمة من كلماته في لسانها وفي أصولها وفروعها، وقلبنا فيها النظر، لأن كثيراً من المزالق في هذا الباب تأتي من اعتماد وسيط غير مدقق أو نظر سطحي وسريع.
ومع ذلك فلا نزعم أو ندعي أننا بلغنا النهاية أو استوفينا ما يجب أن يستوفى، فهذا موضوع لا يسلم من مخاطره إلا العوام الذين لا يلمسون منه إلا ظاهره، أو لِنَقُل لا يسلم منه سوى من لم يقل فيه قولاً البتة.
الفصل الأول
معالم حول البلاغ الأصلي وتوثيقه
نبذة مختصرة عن موسى وهارون من خلال مدونة العهد العتيق(1/38)
اليهودية من الأديان السماوية الموحدة التي وصلتنا آثارها في كتاب، ولم تسم الديانة بهذا الاسم إلا بعد انقسام مُلْكِ بني إسرائيل إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهودا (يهوذا) بعد موت سليمان، ومن النسبة إلى الأخيرة كانت "اليهودية" على أشهر الأقوال. وقد نزلت اليهودية في العبريين، فمن هم هؤلاء العبريون ؟
جاء أصل اسم العبريين في مدونة التوراة(1) (سفر التكوين 10 : 21، 24) وكان علماً على الابن الرابع من سلالة سام بن نوح، إذ كان لنوح ثلاثة أبناء، هم : سام وحام ويافث. ولد سام أرفكشاد وولد أرفكشاد شالح وولد شالح عابر. وعليه فلم يكن للفظ "عابر" ـ الذي ينتسب إليه العبريون ـ في هذا السياق، أي دلالة تخص شعباً بعينه، وإنما كان يطلق على كل نسل "سام". ولم يصبح لهذا اللفظ خصوصيته إلا مع إبراهيم، وهو في الرتبة السادسة من نسل عابر.
بعد أن غادر إبراهيم مدينة "أور" الكلدانيين(2) استقر بحاران التي بين دجلة والفرات، قبل أن يسير في رحلة طويلة قطعت أرض فلسطين واجتازتها إلى أرض مصر (تكوين 11 : 31) فالجزيرة العربية(3).
وفي حاران كان وعد الله لإبراهيم بأن يخص نسله بأرض كنعان، ومن هنا ارتبط اللفظ "عبري" بنسل إسحق بن إبراهيم دون غيرهم، وصار له نسل مبارك، فمن ابنه اسحق وُلِدَ يعقوب، ورزق يعقوب من زوجاته بـ : رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وجادا وأشير ويوسف وبنيامين ودانا ونفتالي(4). وهؤلاء هم أسباط(5) بني إسرائيل الإثني عشر.(1/39)
لقد أرَّخَتِ التوراة في سفر التكوين ـ من الإصحاح الثامن والثلاثين إلى آخر الإصحاح الخمسين وهو آخر إصحاح في السفر ـ لهؤلاء الأسباط ومواليدهم وتنقلاتهم، واستقرارهم بأرض مصر إلي موت يوسف. ولم تذكر موسى إلا في السفر الثاني، أي سفر الخروج. ولم يرد لموسى في مدونة التوراة نسب متواتر بسند متصل يرجعه إلى آدم أو إبراهيم أو إلى أي جَدٍّ أعلى، كما فعلت مع الأسباط، وإنما جاء ذكره في التوراة لأول مرة هكذا : "وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي. فحبلت المرأة وولدت ابناً" (خروج 2 : 2-1).
موسى
تقدَّرُ الفترة الفاصلة بين يوسف و موسى بحوالي أربع مائة سنة. ويُذَكِّرُ سفر الخروج، أي السفر الثاني من مدونة التوراة، بأبناء يعقوب الوافدين على مصر، وبتكاثرهم واكتظاظ الأرض بهم، ثم يقول : "ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. فقال لشعبه : هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا" (خروج 1 : 9-8).
تلخص هذه الجملة أهم الأحداث التي مرت خلال الزمن الطويل المشار إليه. لقد كان ليوسف من السلطان في ظل الهكسوس ما مَكَّنَهُ ومَكَّنَ آله، وازدادوا غنى وعدداً إلى أن سقط حكم الهكسوس. ولم ينس المصريون لبني إسرائيل ـ وربما لغيرهم من الطارئين ـ مؤازرتهم للحكام الهكسوس، بل خافوا إذا تركوهم على حالهم أن يعيدوا الكَرَّةَ بالتحالف مع أية قوة أخرى صاعدة. لذلك تقول التوراة إن الملك الجديد قال لشعبه : "هلم نحتال عليهم لئلا ينموا فيكون إذا حدث حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض" (خروج 1 : 10).
إنها إشارة واضحة إلى تحالف العبريين والهكسوس. ثم يبدأ عهد جديد يأمر فيه فرعون باستعباد بني إسرائيل وتسخيرهم في بناء مدينتي بيتوم ورعمسيس، ويأمر كذلك بقتل كل مولود عبري ذَكَرٍ. وفي هذه الفترة أيضا تلقي أُمُّ صَبِيٍّ عبراني ابنها في اليَم.(1/40)
وتتحدث التوراة عن المولود الذي لم تذكر اسم أبيه : "وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي. فحبلت المرأة وولدت ابناً" (خروج 2 : 2-1) ولم تسمه أمه، بل ابنة الفرعون هي التي سَمَّتْهُ موسى. ويرضع موسى حليباً عبرياً، ويكبر في قصر فرعون، ويتربى فيه، ومع ذلك لم ينس بني جلدته، وقتل من أجلهم مصرياً، وفَرَّ إلى مَدْيَن، حيث تزوج بابنة كاهنها، وظل عنده يرعى الغنم إلى أن تجلى له الرب في جبل حوريب، وأمره بالعودة إلى مصر لتحرير بني إسرائيل، وأيده بالمعجزات، حتى يقنع فرعون عندما يخاطبه. غير أن هذا الأخير يَصُمُّ آذانه ولا يطلق سراح بني إسرائيل، فتتوالى عليه وعلى المصريين بلايا عشر، يفر بنو إسرائيل في آخرتها، ويلحقهم فرعون لأنه ندم على إطلاق سراحهم، فيعبر موسى وأتباعه اليم ويغرق فرعون. ثم يتيهون في الصحراء أربعين سنة، عانوا فيها قلة القوت فأطعمهم الرب مَنّاً وسلوى، واشتد بهم الظمأ، ففجر لهم العيون، ولاقوا أشد الأمم بأساً فغلبوهم. ثم اضطرب أمرهم فتفشت فيهم الأمراض، وابتلوا بالعصيان، فأخضعهم موسى أحياناً، وأحياناً ثاروا عليه. ونظمهم وخَطَّ لهم الخطط، وَعَلَّمَهُمْ سبل النظافة والوقاية، وسلك بهم مسالك الحذر واليقظة، وأحصاهم أولاً ليوزع عليهم الأرض، ثم أحصاهم ثانية ليمتحن قوتهم حتى يعرف مدى استعدادهم للحرب والصبر عليها.
كان موسى يقوم بكل ذلك هداية لقومه، وفي نفس الوقت كان يعاني من شكواهم وتمردهم وإبدائهم المِنَّةَ عليه بأن خرجوا معه وتركوا أرضاً، أصبحت في أعينهم بعد تركها جنة، في حين أن حياتهم كانت فيها جحيماً. ولم يواسه في كل هذا إلا التجلي، وكان هذا التجلي مصدر الشريعة والأحكام. ومع كل نازلة من نوازل التيه الذي دام أربعين سنة، كان موسى يسمع الخطاب من الرب، وينظم مناسك العبادة وطقوسها.(1/41)
كان موسى دقيقاً في كل شيء، في توزيع الغنائم والأرض والمدن والجيوش، وكان بعيد النظر فيما يمكن أن يأتي به الزمان، وكان بارعاً في رسم خطط الهجوم والدفاع، بل والفرار أيضاً. وكان، مع هذا وذاك، حاد المزاج تأتيه فورات غضبية شديدة، ألم يقتل مصريا وكاد يفعل نفس الأمر ثانية ؟ ألم يصارع السقاة عند بئر مدين ؟ ألم يكسر الألواح عندما وجد بني إسرايل قد عبدوا العجل ؟ ألم يُعَنِّفْ أخاه، بل أمر بقتل كل المرتدين في ذلك اليوم ؟ ولعل خطبه الثلاث في آخر أيامه كانت خلاصة الفورة من أجل إنهاء التيه(6).
هذه هي الخيوط التي نسجت بها التوراة حياة موسى، وأضفى عليها مدونوها كثيراً من الخيال وكثيراً من الموروث الشعبي، كما فعلوا بإبراهيم ويوسف وكل الآباء والأحداث التي أَرَّخُوا لها. ولهذا بحث الدارسون لعلهم يجدون لشخصية موسى شبيهاً في الآداب البابلية الأقدم، فوجدوا ذلك في ألواح سومارية كان بطلها سرجون الأكادي، وفي قصة رملس emulus) ورموس (Remus)(7( )
ولتشابه هذه الشخصيات مع شخص موسى، عَدَّ البعض ذلك النبي العظيم في ضروب الخيال.(1/42)
وينطلق فرويد من قريب من هذا التصور في كتابه "موسى والتوحيد"، ليؤسس كل نظريته التي تقول بأن موسى كان مصري المحتد والأصول، وأن الديانة التي دعا إليها هي ديانة مصرية محض، كان يحميها الفرعون أمنحوتب الرابع الذي غير اسمه فصار أخناتون. وبعد موت هذا الأخير، سنة 1350 ق.م، أعاد كهنة مصر الأمر إلى نصابه، ونقموا من كل شيء خلفته السلالة الثامنة عشرة. وكان من خلصاء أخناتون رجل اسمه توتموس (توت + موسى) وكان يشغل منصبا كبيرا، ففر بدينه مع جماعة، شرع لهم شريعتهم بعد أن غير فيها وأزال منها آثار عبادة الشمس. وخرج هذا الرجل وأتباعه من مصر، فاشتد في تربيتهم وإخضاعهم للشريعة، فثاروا عليه وقتلوه، وتخلوا عن عبادة آتون، كما فعل المصريون سابقا. وبعد ذلك اختلطوا بقبائل كانت تقيم بين فلسطين وشبه جزيرة سيناء والجزيرة العربية، وهم قبائل مَدْيَن، فأخذوا عنهم دينهم وإلههم "يهوه " "إله البراكين"، وطوروا فكرة يهوه خلال سنين، حيث ندمت الأجيال اللاحقة على ما فعله أجدادهم بموسى، وصادف أن ظهر رجل مصلح آخر اسمه موسى فتبعوه. وهكذا فعل الزمان من المُوسَوَيْنِ موسىً واحداً. هكذا كان تصور فرويد لموسى(8).
ولنعد نحن إلى اسم "موسى" وهو الاسم الذي سمته به ابنة الفرعون، ولم تسمه إلا بعد أن أرجعته أمه إليها، وقد صار طفلاً يافعاً. ومن الأكيد أن نطق الاسم : "مُشِهْ" لم يكن بالصيغة التي جاء بها في التقليد اليهودي، لأن الصنعة ظاهرة في هذه الصيغة. بل هي صيغة غير سليمة حتى من وجهة اللغة العبرية. لأن صيغة "مُشِهْ" هي صيغة اسم الفاعل لا اسم المفعول، مع أن موسى كان مُنْقَذاً مُنْتَشَلاً أي "نمشه" لا مُنْتَشِلاً(9) "ودعت اسمه موسى وقالت إني انتشلته من الماء" (خروج 2 : 10) وعليه فإن الاسم في مصريته جاء من مُسْ "موسو"، ويعني الابن، كما هو الحال في أسماء تحتمس ورمسيس وأموسيس(10).(1/43)
وتسمية موسى بـ "مُشِهْ" أي مُنْتَشِلْ قد تكون دالة على أنه مُنْقِذُ الإسرائيليين أي هو الذي انتشلهم من فرعون، فإذا كان الأمر كذلك فيكون من أعاره هذه التسمية إنما فعل ذلك بعد اطلاعه على قصته كاملة، منذ ميلاده وحتى إنقاذه بني إسرائيل. فيكون المدوِّن اختار اسماً مقارباً في النطق لكلمة موسى، وفي نفس الوقت يعبر عن شخصية موسى النبي الرشيد الذي انتشل أي أنقذ بني إسرائيل من فرعون. ولو كانت العبرية هي لغة أتباع موسى في عصره، لوجد لموسى اسم في تلك اللغة يطابق كلمة "موسى" في النطق أو في المعنى، إلى جانب الاسم الذي يشير إلى أنه منتَشِلٌ لبني إسرائيل، والذي لم يكن ليتسمى به إلا بعد انتصاره على فرعون، أو على أقل تقدير بعد ظهور نبوته.
إنه من الطبيعي أن يُسَمَّى موسى باسم مصري لأنه نشأ وتربى في بلاط فرعون، ولكن الذي يثير الانتباه هو عبرنة الاسم بطريقة غير سليمة صرفاً ولغة، كما ذكرنا، وبالتالي فإن شخصية موسى الحقيقية أحيطت بضباب(11)، بما أضيف إليها من موروث قديم فيه الكثير من النسيج الروائي الذي يضخم الأحداث بالخيال الخصب اعتزازاً بأصول ذات ماض مجيد.
وإذا كان يوسف قد عاش حوالي 1730 ق.م، واستمر بنو إسرائيل من بعده في مصر مدة مقدارها حوالي 430 سنة حتى الخروج، وكانت مدونة التوراة تحدد سن موسى عندما توجه إلى فرعون بثمانين سنة، فإن مولده يكون حوالي 1370 ق.م وهي الفترة المعاصرة لأخناتون "أمنوفس" (1375ـ1354 ق.م) ويكون الخروج حوالي سنة 1290 ق.م وتكون سنة 1720 ق. م بالتقريب هي تاريخ قدوم يعقوب إلى مصر.
إن فترة بلغ مجموعها 430 سنة، مدة إقامة بني إسرائيل في مصر، إذا ما أنقصنا منها ثمانين سنة عاشها موسى قبل سنة الخروج، لَتَدُلُّ على أن فرعون السخرة كان رمسيس الثاني الذي حكم من 1301 إلى 1234 ق.م(12)، ويكون ذلك الفرعون نفسه هو فرعون الخروج.(1/44)
وشكك بعض الباحثين في واقعة الخروج هذه أصلاً(13). واعتبروا مرنبتاح ابن رمسيس الثاني هو فرعون الصراع فيما بعد مع بني إسرائيل. ذلك أن مرنبتاح هذا سجل انتصاره عليهم في نصب مؤرخ بـ 1230 ق.م، وذكر في هذا النصب أنه قضى على إسرائيل نهائياً. ولكن من غير الواضح هنا ما المقصود بإسرائيل، هل هم الشعب أم الأرض(14) ؟ والفصل بين الأمرين ضروري جداً في هذا المقام، فإذا كانوا هم الشعب، فيكون المقصود أولئك الذين خرجوا مع موسى، وهذا لا يتفق مع ترتيب الأحداث كما رأينا. وإذا كان المقصود بإسرائيل الأرض، فتكون هي أرض فلسطين، بعد أن دخلها بنو إسرائيل.
ونحن نميل إلى ترجيح الفرضية الثانية، ذلك أن الخروج كان، كما سبق أن قلنا، سنة 1290 ق.م أيام رمسيس الثاني، في حين أن النصب مؤرخ بـ 1230 ق.م، ثم إن النصب يتحدث عن القضاء المبرم الذي كان ضحيته بنو إسرائيل، مع أن حدث المعجزة تمثل في القضاء على جيش فرعون لا على أتباع موسى. بل القصة كما ترويها مدونة التوراة تدل على أن الحدث كان في مصر، فبعد أن خاطب موسى وهارونُ فرعونَ لكي يطلق بني إسرائيل، كان جواب الفرعون :"لماذا يا موسى وهارون تعطلان الشعب عن أعماله ؟ اذهبا إلى أثقالكما. وقال فرعون : هُوَ ذا الآن شعب الأرض كثير وأنتما تريحانهم من أثقالهم" ! (خروج 5 : 5-4).
ولعل إلحاح موسى وهارون هو الذي أحدث مراقبة شديدة بين الحدود المصرية وشبه جزيرة سيناء، فما كان يُسْمَحُ لأي من كان بالخروج إلا بعد الحصول على وثيقة من السلطات المركزية(15). وهذا ما يفسر أيضاً نزول بني إسرائيل إلى الجنوب بدلاً من أن يصعدوا إلى الشمال، أي إلى فلسطين التي كانت على مَدِّ البصر.(1/45)
ومما يثير الانتباه أيضا أنه لم يرد في أي سجل من سجلات المصريين إشارة إلى الخروج، مع أن الفراعنة كانوا يسجلون الوقائع والأحداث. وتفسير سكوت هذه الوثائق بسيط، إذ لم يعتد الفراعنة تسجيل هزائمهم بل كانوا يحذفون من تواريخهم ما لا يلائمهم، كحذفهم أسماء معارضيهم السياسيين، ومن اعتبروهم خارجين عن الدولة(16).
وبناء على هذه الوقائع، فإننا نعتقد أن ما جاء في نصب مرنبتاح (أو منوبتاح) كان بعد دخول بني إسرائيل إلى فلسطين، وأن الفرعون الجديد مرنبتاح هذا عزم على إخضاع فلسطين التي أرادت الخروج عن طاعته، وعلى الانتقام ممن كان سببا في هلاك أبيه وجيشه(17). وذلك لا يكون إلا بعد سنين، أي بعد أن أعاد مرنبتاح بناء الجيش من جديد، أي بعد عشرين عاماً من دخول الفارين إلى فلسطين، وبعد أن بدأ الوهن يدب في الجيش الذي أَعَدَّهُ موسى في الصحراء خلال التيه.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه، أنه حدث في هذه الفترة تخريب مدن عديدة في فلسطين. ولا شك أن هذا الخراب كان نتيجة للصدام الذي وقع بين الفرعون مرنبتاح وأهل فلسطين عموماً، عندما أرادوا استقلال بلدهم والتخلص من استبداد حكام فلسطين من الأجانب(18)، وقد يكون هذا الحدث بعد موت يوشع الذي قاد بني إسرائيل. ويشير مُدَوِّنُ سفر القضاة إلى هذا الحدث، ويرد أسبابه إلى عدم احترام بني إسرائيل لعهدهم الذي عاهدوا "يهوه" عليه.
إذاً، فخروج موسى ببني إسرائيل كان في الفترة التي أشرنا إليها، أو على أقل تقدير في زمن قريب منها، وكانت مجريات الأحداث برفقة ومساعدة هارون.
هارون
ولد هارون قبل ثلاث سنوات من ميلاد موسى، وكان ذلك قبل صدور الأمر بقتل كل ذَكَرٍ من أبناء العبريين. وعندما غادر موسى مصر إلى مَدْيَن ترك أخاه هارون مقيماً بها، ولا ندري هل كان هناك اتصال بينهما خلال الأربعين سنة التي قضاها موسى في مدين أم لا ؟.(1/46)
ولم يُذْكَرْ هارون في التوراة إلا عند محاولة موسى الاعتذار عن الرسالة متعللاً بِعَيِّهِ اللساني، فعندها قال له يهوه : "أليس هارون اللاوي أخاك ! أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضاً هاهو خارج لاستقبالك، فحينما يراك يفرح فتكلمه وتلقن فمه الكلمات. وأنا أكون معكما وأعلمكما ماذا تصنعان" (خروج 4 : 15-14).
وتحكي التوراة أن يهوه خاطب هارون في أمر القيام بالرسالة عوناً لأخيه :"وقال الرب لهارون : اذهب إلى البرية لاستقبال موسى" (خروج 4 : 27) ثم جعله الرب رسولاً لفرعون "فقال الرب لموسى : أنا جعلتك كإله لفرعون، وهارون أخوك يكون كَنَبِيٍّ لك" (خروج 7 : 1).
وبعدها أصبح هارون لسان موسى لقومه وإلى فرعون، وعلى يده جرت معجزات موسى، وعلى يده حَلَّت بفرعون وقومه ثلاث بلايا من عشر. وتلقى الكلمات مع موسى، وخاطب معه الرب في خيمة الاجتماع، وقاد معه بني إسرائيل في التيه، وقام بقسط كبير في تنظيمهم، ولامه موسى وعَنَّفَهُ لعدم استطاعته منع القوم من صناعة العجل وعبادته. وبعد أن انصلحت الأمور أصبح هارون أول رئيس لكهنة بني إسرائيل، وصارت الكهنوتية في نسله دون غيره، ونظم طقوس الهيكل تنظيماً محكماً، ولم يَنْسَ في ذلك شاذة ولا فاذة. ثم مات وهو على بعد خطوات من أرض كنعان، لأنه مكتوب أن كل جيل الخروج لا يدخل هذه الأرض.
وليس هناك مصدر يؤرخ لحياة هارون غير مدونة التوراة، وأعاد التلمود ما جاء فيها مع بعض المبالغة في الوصف والأعمال. وقد رأى المحدثون في هارون رجلاً مصرياً، أو على الأقل كان يُسَمَّى باسم مصري. ولا غبار على أن الأسماء التي حملها حفدته كانت أسماء مصرية، مثل "بنحاس"، ولعل الأسماء المصرية كانت شائعة عند اللاويين الذين انحدر منهم موسى وأخوه هارون(19).
لغة موسى، لغة المدونة الأصلية للتوراة(1/47)
وليس هناك أي دليل في مدونة التوراة الحالية على اللغة التي كتبت بها أصولها الأولى. بل تذكر أن ما سمعه موسى من فم يهوه، عند تلقي الألواح، لم يكن كلاماً ولا لغة، إذ تقول التوراة نفسها : "وكان صوت البوق يزداد اشتداداً وموسى يتكلم والرب يجيبه بصوت" (خروج 19 : 19)(20).
ومن الواضح أن "صوت" أو "رعد" أو "ضجيج" هي ألفاظ لا تحمل بياناً محدداً للغة الخطاب. ولعل ذلك ما دفع بعض علماء التوراة إلى القول بأن موسى كان يتلقى معانٍ لا لغة، وكان هو يترجمها إلى لغة الناس(21).
ما هي تلك اللغة التي كان موسى يخاطب بها الناس ؟
لم يرد ذكر في التوراة للفظ عبرية بمعني اللغة.ففي سفر إشعياء حيث تبشر مدونة التوراة بالاستيلاء على مصر وإخضاعها ليهوذا، تقول : "في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان" (إشعياء 19 : 18). والمقصود بطبيعة الحال لغة بني إسرائيل الذين سينتصرون، وتلك اللغة لم يكن لها علاقة باللغة العبرية.
ولما حاصر قائد عسكر الأشوريين أورشليم، بعث إليه الملك حزقيا خدامه فخاطبهم القائد، ثم أجابوه : "خاطب عبيدك بالآرامية لأننا نفهمها ولا تخاطبنا باليهودية في مسامع الشعب الذين على السور" (إشعياء 36 : 11)(22).
يتضح من السياق التاريخي الذي أوردناه، أن البلاغ الأصلي للتوراة كان موجهاً إلى فرعون وإلى بني إسرائيل، فإذا كان القوم قد دوَّنوا البلاغ مباشرة عن لسان موسى، فإن التوثيق الأصلي للتوراة ــ أي المدونة الأولى التي لا وجود لها بين أيدي الإنسانية المعاصرة ـ لا يمكن أن يكون بالحرف العبري الذي نعرفه حالياً.(1/48)
لقد عاش موسى في مصر أربعين سنة تربى خلالها في بلاط فرعون فتكون لغته الأم هي المصرية. ويمكن أن يكون ملمّاً بلغة أخرى إلى جانب المصرية كعادة الملوك في تعليم ذويهم عدة لغات، فربما كان ملمّاً بلغة خاصة بالعبرانيين أو الإسرائيليين ــ ولم يكن بنو إسرائيل آنذاك سوى قلة ضمن شعوب العبرانيين ــ فإذا كان الإسرائيليون يحتفظون بلغة لأنفسهم إلى جانب المصرية التي هي لغة المحل الذي سكنوه لعدة قرون، فإن هذه اللغة الخاصة لا يمكن أن تكون هي اللغة العبرية المعروفة لدينا، فهذه لم تتبلور إلا بعد وفاة موسى بحوالي أربعة قرون. إذاً فهناك احتمال غالب أن تكون لغة البلاغ الأصلي للتوراة هي المصرية دون غيرها، باعتبارها اللغة المشتركة بين جميع سكان مصر. أو يحتمل أن تكون لغة التوراة الأصلية هي لغة هؤلاء الذين هاجروا من فلسطين إلى مصر وهم أخلاط، فتأثروا بعادات مصر واكتسبوا لغتها، ثم رجعوا إلى فلسطين يحملون معهم موروثهم الثقافي والفكري الجديد، فكانت لغتهم على أقل تقدير خليطاً من المصرية والكنعانية الحيثية، فتكون هي اللغة التي دونوا بها التوراة نقلاً عن موسى. وإذا كان موسى قد عاش أربعين سنة في مصر، ثم رحل إلى مَدْيَن وهي قبيلة عربية ـ أو على الأقل ليست إسرائيلية ـ ليعيش فيها أربعين سنة أخرى، فإنه بالتأكيد كان قد ألم بلغة هذه القبيلة قبل عودته إلى مصر رسولاً. ولكن يبقى السؤال : ما حاجة سكان مصر من فراعنة وإسرائيليين لأن يخاطبهم موسى بلغة غير اللغة المصرية التي هي لغة المحل ؟
ونخلص من ذلك إلى القول بأن الوثيقة الأولى للتوراة، التي تحمل البلاغ أصلاً خالصاً كما بلغه موسى، مفقودة في عصرنا الحاضر ولا تتوفر الإنسانية المعاصرة عليها.(1/49)
وما يقال عن لغة موسى يقال عن لغة هارون أخيه، إذ أنه من سلالة الإسرائيليين الذين سكنوا مصر لأكثر من أربعمائة عام، وقد عاش طيلة حياته في مصر، وكان معاوناً لأخيه موسى، عليهما الصلاة والسلام.
ولعل نصوص شمره الغنية تلقي ضوءاً على علاقة وطيدة بين لغة العبرانيين والكنعانيين الذين دَوَّنُوا تراثهم بلغة جديدة، هي خليط من المصرية والكنعانية، أخذوا يستغنون فيها شيئاً فشيئاً عن الدخيل المصري الذي تسرب إلى ألسنتهم، حتى غلب المعجم الحيثي على ما عداه. ولذلك فالكتابات التي اكتشفت في فينيقيا وسوريا، وهي وثائق أكثر عدداً من تلك التي وجدت في فلسطين، كانت تمثل نموذجاً من لغة قديمة تطورت مع الزمان لتُكَوِّنَ بعد قرون اللغة العبرية. وبفضل هذه الاكتشافات زال كثير من الغموض عن معجم ونحو وأسلوب مدونة العهد العتيق بلغتها التي وصلتنا، بل زالت الظلال الضبابية التي غلفت الشخصيات والأحداث والوقائع والحضارات التي تأثر بها مدونو العهد العتيق، وهم غافلون عن ترتيب العهود التاريخية والمواقع الجغرافية(23).
ويجمع اللغويون على أن اللغة الكنعانية هي أقرب اللغات إلى لغة التوراة الأصلية، وأيدوا ذلك بالكتابات التي عثر عليها في تل العمارنة بمصر العليا، وهي رسائل خطت بالحروف البابلية، ويعود تاريخها إلى حوالي 1400 ق.م وكانت عبارة عن مراسلات دبلوماسية كتبت على يد كتبة من بلاد كنعان إلى السلطات المصرية. وكان هؤلاء يستعملون كلمات وصياغات من لغتهم الأصلية التي هي قريبة جداً من أقدم الآثار التي عثر عليها، وأعني نقش سلوان بالقدس (700 ق.م) ونقش ميشع ملك مآب (حوالي 850 ق.م)(24).(1/50)
وهذه اللغة القديمة في شكلها وفي حروفها، كانت هي لغة "يهوديت" الوارد ذكرها في التوراة "ونادى بصوت عظيم باليهودي" (سفر الملوك الثاني 18 : 28)(25). ولم تكن تلك اللغة القديمة متمثلة في قالب واحد، بل كانت لهجات غير موحدة(26). أما اللغة التي خطت بها مدونة التوراة الموجودة بين أيدينا، فهي العبرية الحديثة التي لم تنضج إلا بعد زمن طويل من عهد موسى، وذلك إذا ما اعتبرنا أن ما بين القرن العاشر وسقوط مملكة يهوذا (586 ق.م) هو عهد طفرة اللغة العبرية وتطورها.
وبهذه اللغة العبرية الحديثة حُرِّرَت مدونة العهد القديم الموجودة بين أيدينا اليوم. ولهذا الفارق الزمني والفوارق في اللهجات، صَعُبَ على المختصين كتابة تاريخ دقيق للغة العبرية، يُمَكِّنُ من الرجوع إلى فترة توحيدها، وإلى تحديد منضبط للغة النصوص التوراتية الأصيلة.
ومما يزيد الأمر تعقيداً وغرابة أن اللغة العبرية الحديثة مرَّت بمرحلتين، فبعد أن تشكَّلت معالمها هجرها لسان اليهود إلى اللغة الآرامية، ثم عادت مرة أخرى لتتبلور في شكلها الجديد المعروف في عصرنا. وهذا ما يفسر وجود نصوص من العهد العتيق مكتوبة بالآرامية، وهذه أيضاً ليست من الأصول الأولى التي كتبها أو أملاها موسى، عليه الصلاة والسلام. وذلك يفسر أيضاً وجود الترگوم أو الترجمة الآرامية، وهو ما يفسر كذلك تأليف العمل الضخم المعروف بالتلمود، كما سنرى.
وكل ذلك يوضح أن التدوين الأول للتوراة ـ كما تلقاها الناس مباشرة عن لسان موسى ـ غائب. وتكمن أهمية الحفاظ على المدونات الأولى للكتب السماوية في أمرين : الأمر الأول : أنها ملك للإنسانية لأنها تمثل حقبة هامة من تاريخها. والأمر الثاني : أنها وثائق حاكمة، تفصل فيما هو بين أيدينا من مكتوبات لنعرف ما زاد وما نقص وما انحرف عن الأصل، ونستجلي مضمون ما حمله لنا التاريخ من خطاب سماوي في وضوح وشفافية.(1/51)
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page126.gif http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page128.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page1210.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page1212.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page1214.gif
الفصل الثاني
ما بأيدي الإنسانية المعاصرة من وثائق تحدد معالم الرسالة
العهد العتيق كما هو عليه اليوم
خلصنا مما سبق إلى أن التوراة كانت رسالة سماوية بحق، وقد تمثلت تلك الرسالة في الوصايا والعهد، وأنها كانت مكتوبة بحرف غير الحرف المعروف الآن، ولغة مختلفة جذرياً عن اللغة العبرية الحديثة. وسبق أيضاً أن استشهدنا على كثير من الأحداث بمدونة العهد القديم كما نطلع عليها اليوم في غير لغتها الأصلية. فهل يعد عملنا هذا تناقضاً، أي أننا نحتاط من مدونة التوراة التي بين أيدينا اليوم، وفي نفس الوقت نستشهد بما ورد فيها ؟
لا نعتقد ذلك، لأننا عندما نثبت أن التوراة كانت مكتوبة بكتابة مختلفة وبلغة مختلفة، فهذا لا يعني أن كل ما ورد بمدونة العهد العتيق هو محض خيال لا علاقة له بوقائع التاريخ وبالأزمنة والعهود التي توالت فيها أحداث العبريين وظهرت فيها الديانة اليهودية. بل إن مدونة العهد العتيق تمثل محاولة إعادة تدوين تاريخ بني إسرائيل اعتماداً على آثار وموروث ثقافي، منه ما هو شفاهي ومنه ما هو مدون. ولكن المؤكد أن المدونة الأصلية للتوراة لم تكن بين أيدي مدوني العهد العتيق الذي تعرفه الإنسانية المعاصرة. لذلك لا غرابة في أن مضمونه قد انحرف بكثير من الأحداث التاريخية عن سياقها الحقيقي، وقد ساهم أيضاً في انحراف المدونة عن مضمون البلاغ الأصلي ذلك الخيال الخصب وتلك الرغبة في تعظيم الذات الإسرائيلية وتأكيد سموها.(1/52)
إن الكَتَبَةَ والمدونين وضعوا في العهد العتيق خلاصة معرفتهم بالأزمنة السالفة، فقَلَّصُوا من التدوين مواطن ومسافات تداخلت فيها الحضارات والتواريخ والأزمنة. لقد قصد المدونون جمع وتوثيق الوقائع، ولكنهم لم يعيروا الترتيب الزمني والظروف التي أحاطت بالأحداث اهتماماً كافياً. وكل نقاد العهد العتيق يتفقون على هذا، وتجمع عليه المراجع التي اعتمدناها في هذه الدراسة.
إن العهد العتيق اليوم في لغته العبرية، 24 سفراً في التقليد اليهودي و22 سفراً في التقليد المسيحي. ومن الأحبار من يعتقد أن العهد العتيق كله وحي من الرب(27)، والبعض منهم يرى أن القسم الأول فقط هو معاني الوحي الذي سمعه موسى صوتاً من السماء، واعتبروا القسمين اللاحقين وحياً عن طريق التوارد. وَقَدَّرَ التقليد اليهودي أزمنة متعددة، فالتوراة (الأخماس) ـ حسب رأيهم ـ كتبت في القرن 15 ق.م. والقسم الثاني، أي الأنبياء الأولون : كتب ما بين القرن 14 والقرن 6 ق.م. والأنبياء الثواني : كتب ما بين القرن 9 والقرن 5 ق. م.
وقدروا للمكتوبات، أي القسم الثالث أزماناً مختلفة، فالمزامير التي نسبوها إلى داوود تعود إلى القرن 11 ق. م. والأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد التي نسبوها إلى سليمان، تعود إلى القرن 10 ق. م. وسفر إيخا وإرمياء يعود إلى القرن 6 ق. م. وسفر دانيال يعود إلى القرن 5 ق. م. ونسبوا قصص أيوب وروث وإستير على التوالي إلى موسى، وكتبت في القرن 15 ق. م. وشموئل يعود إلى القرن 11 ق. م. وكهنة الكنيس الأعظم (وهو لمدون أدخله في العهد العتيق) يعود إلى القرن 4 ق. م. ونحميا وعزرا والأخبار الأول والثواني، التي نسبوها إلى عزرا، يعود إلى القرن 4 ق. م(28).
ومعلوم أن هذه التواريخ تختلف اختلافاً كبيراً عن النتائج السابقة التي أشرنا إليها فيما يتعلق بحياة موسى وهارون، والتي توصلت إليها اكتشافات علوم الحفريات والأبحاث التاريخية بالنسبة لأصول العهد القديم.(1/53)
ويُنسب جمع العهد العتيق تقليداً إلى عزرا (القرن 5 ق.م) ويعتقد سبينوزا أن عزرا هذا لم يكن أوَّل من صاغ نص العهد العتيق، وأن ما قام به لا يعدو أن يكون جمعاً لروايات متعددة كانت محررة قبله، وكان ينسخها أحياناً ويثبتها دون فحص أو ترتيب(29). غير أن وجود سفر دانيال ضمن العهد العتيق ينفي أن يكون عزرا هو الذي دون النص كله، لأن سفر دانيال دُوِّنَ تقريباً عام 166 ق.م، أي بعد حوالي ثلاثة قرون من جمع عزرا.
ما هي الظروف التي أحاطت بتدوين العهد العتيق والمناهج التي اتبعت في تدوينه ؟
من الأكيد أن أقدم مدونة نمتلكها للعهد العتيق، والتي تمثل النص المتفق عليه لدى علماء اليهود، قد دونت بالحرف العبري الأول الذي نشأ قبل أن تحل الآرامية محل اللغة العبرية القديمة، ثم كتب فيما بعد بالحرف المربع الذي ورثه اليهود عن الآرامية أيام النفي البابلي. وجرت العادة منذ الهيكل الثاني بمقابلة النسخ (الأخماس/ التوراة) التي كانت شائعة في مدينة "يهوذا" سنوياً بالنسخة النموذج التي كانت مودعة في الهيكل والتي اعتمدت ثلاث نسخ متقاربة جداً. وواضح أن بعض النصوص كانت قد عُدِّلَتْ أيام الهيكل الثاني، خصوصا الفقرات التي ورد فيها تجسيم الذات العليا. وسُمِّيَ هذا التعديل "تقويم الكتبة" ونسب إلى عزرا وسلسلة من الأحبار من بعده. وقد ترجع الاختلافات الموجودة بين النص التقليدي (الماسوري ) من جهة، والترجمة الإغريقية ومخطوطات قمران وتوراة السامريين من جهة أخرى، إلى تقويم أشخاص غير معروفين.
ولم يكن النص الأصلي المشار إليه مشكولاً حتى القرن السادس الميلادي، بل كانوا يستعملون حروف العلة علامات، فالألف علامة للفتح، والواو للضم، والياء للكسر. وفي أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الميلاديين وضع "النقدنيم" (علماء النقط) نظاماً جديداً قوامه النقط والخطوط، وقد تأثروا في ذلك بنظام الحركات لدى السريان والعرب. ونتج عن هذا طريقتان :(1/54)
1. الطريقة البابلية التي وضعها علماء من أصل بابلي، وقوامها وضع علامات فوق الأحرف للرمز إلى أصوات المد القصير.
2. الطريقة الطبرانية بفلسطين، وترمز إلى أصوات المد القصير بنقط وخطوط توضع تحت الحرف أو فوقه، وتشفع بحروف العلة للدلالة على الأصوات المشبعة، وهذه هي الطريقة المتبعة اليوم.
وأتم أهلُ "الماسورة" لنقل النص بطريقة موثوقة، عَمَلَ النقدنيم، فيما بين القرنين 8 و10 الميلاديين. وبرز هذا العمل في تقليدين، تقليد ابن نفتالي، وتقليد ابن أشير (10 ق. م) وهو الذي اختير لتدوين نص العهد العتيق الحالي(30).
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page1316.gif
وفي هذا التقليد قُسِّمَ النص إلى "بيسوقيم" (آيات)، وتفاوتت هذه في عدد الكلمات، وأقصرها لا تقل عن ثلاث كلمات.
أما تقسيم النص إلى إصحاحات فهو تقليد مسيحي ظهر، أول ما ظهر، في الترجمة اللاتينية في القرن 13م. وقد استعمل هذا التقسيمَ الرِّبِّيُّ "نتان" واضع أول فهرس للعهد العتيق، حوالي 1440م. ومنذ ذاك أصبح تقليداً عبرياً متبعاً.
وَقُسِّمَت التوراة ـ أي الأخماس ـ إلى 54 قسماً أو "برَشَه"، تبعا للقراءة السنوية، كما قَسَّمَهَا التقليد في فلسطين إلى 157 برشه، لتقرأ خلال ثلاث سنوات.
وأرفق أهل "الماسورة" النص التوراتي بتعاليق، إما في هامش الصفحة أو بعد كل إصحاح أوفي آخر العهد العتيق(31).
وأهم عمل أهل "الماسورة" في تقليدهم هذا ينحصر في قاعدة "قريئ" (اقرأ) و"كتيب" (اكتب) أي تقويمهم كلمة المتن في الهامش ووضع علامة عليها، للتنبيه بأن الكلمة في المتن تقرأ خلاف لفظها المكتوب، صياغة أو صرفاً أو حركات. مثال ذلك :
1. يكتب اسم الرب " يهوه " في المتن فينبه عليه ليقرأ "أدُناي"(مولاي). ويختلف رسمه أيضا تبعاً للتعريف والإضافة.
2. الضمير العائد على المؤنث قد يكتب رسماً "هو " ولكن يجب قراءته "هي".(1/55)
3. اللفظ "نَعَر" (طفل) إذا استعمل للدلالة على المؤنث يقرأ "نعرة" بزيادة تاء المؤنث نطقاً فقط.
إلى غير ذلك من المواضع.
وتدل هذه القاعدة على أن هناك في النص الحالي شذوذاً وأغلاطاً وقع فيها النساخ، فحاول أهل "الماسورة" استدراكها(32).
وإذا كان عمل هؤلاء نافعاً من جانب، فإنه كان ضاراً من جانب آخر، لأنهم أعدموا أو أخفوا النسخ التي تختلف عن تقليدهم، فلم يصل إلى الناس إلا نسخ عن نسخ، نسخت لتستعمل في المعابد أو النظر اللاهوتي، وكانت في هيئة لفائف من جلد أو رقائق، ثم حررت في صحف.
ومن المخطوطات الهامة التي عثر عليها، وهي تحتوي على أجزاء من الكتاب المقدس (العهد العتيق والجديد) أربع نسخ، وهي :
النسخة الأولى : نسخة الفاتيكان (كودكس فاتيكانس) وتقع في 720 صحيفة، في كل صحيفة ثلاثة أعمدة، ويظن أن تاريخ نسخها لا يتعدى منتصف القرن الرابع الميلادي.
النسخة الثانية : النسخة السينائية، وسميت بهذا الاسم لأنها اكتشفت في دير القديسة كاترين على سفح جبل سيناء. وعثر على تلك النسخة العالم الألماني قسطنطين تشيندوف سنة 1842م، وكانت عبارة عن 45 رَقاً. ثم عُثِرَ خلال السنوات 1853-1859م على الأجزاء الناقصة في لفيفة ضخمة، وتتضمن هذه العهد الجديد وأجزاء من العهد العتيق.
ويرجح أن عدد صحائفها في الأصل كان 730 صحيفة، أحرق منها الرهبان ـ لجهلهم بمحتواها ـ 340 صحيفة، والباقي يوجد اليوم في المتحف البريطاني وعدد صحائفه 390 صحيفة.
واختلف حول تاريخ هذه النسخة، فهناك من يؤرخها بحوالي منتصف القرن الثاني الميلادي، والبعض يعدها إحدى النسخ الخمسين التي أمر قسطنطين بنسخها لتستعمل في كنائس المدينة، كما أن آخرين يؤرخونها بالقرن السادس الميلادي.
النسخة الثالثة : نسخة الإسكندرية، وتحتوي هذه المخطوطة على 820 صحيفة، بقي منها 773 صحيفة، وتؤرخ بالقرن الخامس الميلادي.(1/56)
النسخة الرابعة : نسخة إفرايم السرياني الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، رممت كتابتها في القرن الثاني عشر. وتعتبر هذه المخطوطة مرتكزاً للترجمة الإنجليزية المعروفة بترجمة جيمس عام 1611م(33 ).
وعثر سنة 1890م في "الگنيزة" (مغارة بالقاهرة) على بضع نتف قديمة، كما عثر سنة 1947م مصادفة على مخطوطات قمران في شمال البحر الميت. ثم أسفرت الكشوفات عن نصوص أخرى، بعضها بالخط الفينيقي وأخرى بالخط المربع، مثل مخطوطات وادي عربات. وأقدم هذه النصوص يعود إلى حوالي 70 ميلادية.
وتجدر الإشارة إلى أن لفيفة إشعياء التي عثر عليها هناك، هي قريبة جداً من التقليد الماسوري، وقد تضمنت تصحيحات تشير إلى الأخطاء والنواقص، وفيها أيضاً تبديل اسم يهوه(34).
وأقدم نص للوصايا العشر هو الذي تضمنته برديات Nash ويرجع تاريخه إلى القرن الثاني ق.م(35).
وأقدم مخطوط ماسوري يرجع إلى ما بين 820 و850م وهو لا يتضمن إلا القسم الأول، أي التوراة.
وأقدم مخطوط لنص جامع هو مخطوط حلب الموجود بـ "لينينجراد"، والذي نسخ في السنوات الأولى من القرن 10م.
ونقلت نسخ الطبعات الحالية عن نسخة يعقوب بن حييم التي أرخت في البندقية (فينيسيا) سنة 1524م.
طبعات العهد العتيق
طبع العهد العتيق الماسوري (نسبة إلى الماسورة أي النص المعترف به تقليداً عند اليهود) عام 1488م. ثم طبع مارتين لوثر طبعة أخرى في البندقية (فينيسيا) عام 1494م. واعتمدت طبعته هذه نص جرسون بن موسى. وأخرج بومبرك أيضاً في البندقية نص يعقوب بن حييم المؤرخ بـ 1524م، وظلت هي الطبعة الأوثق إلى أن ظهرت طبعة Biblia Hebraica التي اعتمدت مخطوطة بن أشير، وهي الطبعة المتداولة اليوم، وقد صَدَّرها Rud Kittel بمقدمة بالألمانية وقعها سنة 1929م. وذيلت صفحات هذه الطبعة بهوامش أشير فيها إلى الزوائد والنواقص في النص، كما قورن فيها بين النص العبري المعتبر أصلاً والترجمة الإغريقية واللاتينية(36).(1/57)
وجدير بالذكر أن التوراة السامرية (الأخماس فقط) والتي يرجع تاريخ تدوينها إلى القرن الرابع ق.م تختلف عن النص الماسوري الموثق في أكثر من ستة آلاف موضع من الصيغة الرسمية، كما تختلف عنه أيضاً في الخط، فهي مكتوبة بالخط الفينيقي القديم، وتتفق مع الترجمة السبعينية في قريب من الثلث. ويمكن أن تفيد تلك المدونة السامرية المكتوبة بالخط الفينيقي القديم في تقويم النص العبري الرسمي، أو على الأقل في إظهار الفروق الموجودة بينهما. كما توجد ترجمة مكتوبة بالخط السامري، ولكنها لا تفيد في جبر الناقص من التوراة بشيء.
ترجمات العهد العتيق
يمكننا أن نقسم ترجمة التوراة (العهد العتيق) إلى مرحلتين :
I. المرحلة الأولى، وتبدأ بالترجمات الآتية :
1. الترجمة السبعينية : ( Septante )
سميت السبعينية بهذا الاسم للزعم القائل بأن بطلميوس الثاني "فيلادلفوس" (283 ـ 247 ق.م) أوفد إلى الكاهن الأعظم "إليعزر" في أورشليم، وطلب منه أن يبعث نسخة من العهد العتيق مع مترجمين أكفاء لينقلوها إلى اللغة الإغريقية، فبعث الكاهن النسخة و72 مترجماً، ستة من كل قبيلة من قبائل بني إسرائيل، إلى الاسكندرية. وقيل إن المترجمين أتموا عملهم في 72 يوماً، ولذلك سميت الترجمة بالسبعينية. وقد أعدت هذه الترجمة أصلاً ليهود الإسكندرية.
وتختلف هذه الترجمة عن النص العبري الموجود حالياً في كثير من المواضع، إذ هناك اختلاف بين سفر إشعيا ودانيال العبريين، وينقص فيها سفر إرمياء بنحو السُّبُع، وسفر أيوب بنحو الربع. وتختلف أيضاً في ترتيب الأسفار وزيادتها ونقصها. كما أن في سياق تلك الترجمة اليونانية ألفاظاً غامضة غير واضحة.(1/58)
ويعتقد أن سبب كل هذه الاختلافات عن النسخة العبرية التي اعتمدها المترجمون، وهي أقدم من نسخة "الماسورة" التي أصبحت هي الرسمية عند اليهود، هو طول الزمن الذي استغرقته هذه الترجمة. إذ ثبت أن الترجمة لم تتم في اثنين وسبعين يوماً كما زعم، وإنما ترجم القسم الأول منها في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو أجود ترجمة من القسمين الآخرين اللذين ترجما بعده بأمد طويل.
ولهذه الترجمة أهمية كبيرة لأنها اعتمدت نصاً أقدم من نص "الماسورة"، ولأن الترجمات القديمة اعتمدتها باستثناء اللاتينية والسريانية، ومع ذلك لم يعترف بها التقليد اليهودي.
ثم أعد Aquila ترجمة جديدة حوالي 130م، وكانت شديدة الحرفية، ولكنها ضاعت فيما بعد، ولم يبق منها إلا نتف. وقد أراد الأحبار بهذه الترجمة أن يفصلوا بين التقليد اليهودي والتقليد المسيحي الذي نقل مضمون الثقافة الهلينية في معاني الترجمة السبعينية. واعتبرت ترجمة Aquila الإغريقية ترجمة يهودية محضاً تعكس التقليد اليهودي العبراني.
وراجع Theodotion الترجمة السبعينية في حوالي نهاية القرن الثاني الميلادي. ثم قَوَّمَهَا مرة ثالثة Symmachus في بداية القرن الثالث الميلادي.
وأعد Origenes بين سنتي 240 و245م نسخة Hexapla (السداسية) التي قابل فيها النصوص الستة، أي النص العبري بدون حركات، والنص العبري بحروف يونانية، والترجمة السبعينية، وترجمة Aquila، ومراجعة Theodotion، ومراجعة Symmachus.
ووضع Origenes نسخة أخرى تعرف بـ Tetrapla (الرباعية) قابل فيها بين الترجمات الأربع، بعد أن حذف النص العبري، والنص العبري المكتوب بالحرف اليوناني.
2. الترگوم : ( Targume )(1/59)
الترگوم لفظ آرامي يعني الترجمة. وأصله أن اليهود، بعد العودة من السبي البابلي سنة 539 ق.م، أهملوا اللغة العبرية، لغة العامة في فلسطين، واتخذوا لهم بديلاً عنها اللغة الآرامية. وأثناء تجمع اليهود في البيع، كان الربي يقرأ التوراة باللغة العبرية وبجانبه مترجم يترجمها بالآرامية، وهذا هو الشائع. ولكن الحقيقة أن نص الترگوم تعدى ترجمة النص الأصلي فأضاف الشرح والتأويل الذي يعبر عن نظرات وتأملات صبغها الأحبار بواقع الحال. ولو وصلت إلينا النصوص الأولى لمكنت مؤرخي العقيدة اليهودية ومذاهبها من التعرف على كثير من الخبايا.
وأقدم "ترگوميم" (الترجمات الآرامية) التي وصلتنا تعود إلى القرن الأول الميلادي، وتتضمن : التوراة والأنبياء والمكتوبات. وأشهر"ترگوميم" ترگوم أنكولوس للأخماس، وينسب إلى أكيلا، وترگوم يونتان للأنبياء، وينسب إلى يونتان بن عزيل، وهو أشهر تلامذة هلل. ويوجد نص الترگوم اليوم مطبوعاً مع الشروح التوراتية الكبرى(37).
3. الترجمة اللاتينية : ( Vulgatus )
كان يطلق على الترجمة اللاتينية الأولى Vetus Itala ، وعليها أعد القديس St-Jérôme ترجمته المعروفة بـ Vulgatus، وتعني هذه الكلمة : النص الشائع.
أنجز St-Jérôme الترجمة في بيت لحم فيما بين سنوات 390 و405م معتمداً في ذلك النص العبري والنص الإغريقي. وأصبحت هذه الترجمة اللاتينية هي الرسمية عند الكاثوليك. وحددت الترجمة النص المعترف به في 39 سفراً، غير أن ترتيب هذه الأسفار يختلف عن النص العبري، بل يتضمن زيادة الأسفار المعروفة بـ Deutérocanniques وهي أسفار : طوبيا ويهوديت وحكمة سليمان والجامعة وبروخ ورسائل أرمياء والموكابيين الأول والثاني، وزيادات أيضاً في سفر دانيال وإستير. هذا ولا يعترف البروتستانت بهذه الأسفار.(1/60)
طبع Gutenberg الترجمة اللاتينية سنة 1496م، ثم ظهرت لها بعد ذلك طبعات أخرى. وأقر مجمع Trente ترجمة لاتينية رسمية بأمر Sixte Quint سنة 1590م، وأصبحت هي المعترف بها، وروجعت بأمر Clément VIII ثم طبعت 1592م. وفي سنة 1907م كلف Piex لجنة من "البندكتيين" (Bénédictins) في روما بإعداد نشرة نقدية لترجمة St-Jérôme(38)(
4. الترجمة السريانية :
هناك ترجمتان سريانيتان، أولاهما أنجزها Paul De Tella بين سنتي 616 و617م، واعتمد فيها الترجمة الإغريقية. أما الثانية فهي الترجمة المعروفة بـ "لبشتا"، ومعناها بالسريانية "البسيطة"، وقد أنجزت في Edesse في القرن الثاني الميلادي وتتضمن العهدين العتيق والجديد.
5. الترجمة القبطية :
تعود إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلاديين.
6. الترجمة الحبشية :
وتخص التوراة وحدها، وترجع إلى عام 320م.
7. مدونة التوراة في اللغة العربية :
جاء في المقالة الأولى من كتاب الفهرست لابن النديم، أن خزانة هارون الرشيد كانت تتضمن نسخة من التوراة. وذكر أحمد بن عبد الله بن سلام، مولى هارون الرشيد، أنه ترجم "صدر هذا الكتاب ـ يعني الذي كان في خزانة هارون الرشيد ـ والصحف والتوراة والإنجيل وكتب الأنبياء والتلامذة، من اللغات العبرانية واليونانية والصابئية، وهي لغة أهل كل كتاب، إلى اللغة العربية، حرفاً حرفاً، ولم أتبع في ذلك تحسين لفظ ولا تزيينه مخافة التحريف، ولم أزد على ما وجدته في الكتاب الذي نقلته ولم أنقص".
غير أن كلام أحمد بن سلام لا يوضح أي قسم ترجم من العهد العتيق، ويرجح أن يكون القسم الأول، أي التوراة. أما كتب الأنبياء التي ذكرها في عبارته فغير مؤكد أن تكون هي القسم الثاني من العهد العتيق، لأن ترتيبه للكتب واللغات فيما ذكره لا ينطبق على هذا القسم.(1/61)
وحديثه أيضاً عن كتب موسى غير واضح، فهو يقول بعد ذكر عدد الأنبياء والكتب : "وجميع ما أنزل الله من الكتب مائة كتاب وأربعة كتب، من ذلك مائة حقيقية أنزلها الله تعالى فيما بين آدم وموسى. فأول كتاب منها أنزله، جل اسمه، صحف آدم، وهي واحد وعشرون صحيفة. والكتاب الثاني أنزله الله على شيث، وهو تسع وعشرون صحيفة. والكتاب الثالث على أخنوخ (إدريس) وهو ثلاثون صحيفة. والكتاب الرابع على إبراهيم، وهو عشر صحائف. والكتاب الخامس على موسى، وهو عشر صحائف. فذلك خمسة كتب، من مائة صحيفة.
ثم أنزل الله تبارك وتعالى التوراة على موسى بعد الصحف بزمان، في عشرة ألواح... فلما نزل من الجبل ووجد أصحابه قد عبدوا العجل، رمى بها فتكسرت. ثم ندم فدعا الله عز وجل أن يردها عليه، فاستجاب الله جل اسمه وردها في لوحين، فأحد اللوحين لوح الميثاق والآخر لوح الشهادة... ثم أنزل الله عز وجل على داود المزامير، وهو الزبور الذي في أيدي اليهود والنصارى، وهو مائة وخمسون زبوراً"(39).
ونفهم من هذا النص أن ما ترجمه أحمد بن سلام لم يكن يتعدى مضمون لوحين، وإلا لكان علَّق على ذلك. وذلك يدل على أن مدونة التوراة زيد فيها وَضُمَّتْ إليها تأليفات وكتب أخرى مع مرور الزمان، لتعطينا مدونة العهد العتيق الضخمة التي بين أيدينا الآن.
ذكر ابن النديم بعد ذلك أقسام العهد العتيق، نقلاً عن ثقة، قال :"سألت رجلا من أفاضلهم (من أفاضل اليهود) عن ذلك الكلام على التوراة في يد اليهود وأسماء كتبهم وأخبار علمائهم ومصنفيهم، فقال : أنزل الله، جل اسمه، على موسى التوراة وهي خمسة أخماس، وينقسم كل خمس إلى سِفَرِين (جمع سفر باللغة الآرامية)، وينقسم السفر إلى عدة فراشات (فصول أي سور)، وتنقسم كل فراشة إلى عدة بسوقات (آيات). قال : ولموسى كتاب يقال له المشنه، ومنه يستخرج اليهود علم الفقه والشرائع والأحكام، وهو كتاب كبير ولغته كسداني (آرامي) وعبري(40).(1/62)
"ومن كتب الأنبياء بعد ذلك، (القسم الثاني من العهد العتيق) : كتاب يهوشع، كتاب "سفطي" (القضاة)، كتاب شموئل، كتاب سفر إشعياء، كتاب سفر إرمياء، كتاب سفر حزقيال، كتاب ملخي وهو سفر داود وأصحابه ويعرف بتفسير ملخي الملوك (هكذا في التحقيق)(41)، كتاب الأنبياء وهو 12 سفراً صغيراً.
"ولهم كتب يقال لها بطارات، مستخرجة من كتب الأنبياء الثمانية. ومن كتبهم : كتاب عزرا، وكتاب دانيال، وكتاب أيوب، وكتاب شرشرين (نشيد الأناشيد)(42). وكتاب أخا (إخا) وكتاب روث، وكتاب كوهلت (الجامعة) وكتاب زبور داود (المزامير) وكتاب أمثال سليمان، وكتاب ديوان الأيام فيه سير الملوك وأخبارهم، وكتاب حشوارش ويسمى المجلة "(43).
ولا نستطيع أن نجزم بأن الترتيب الذي عرضه ابن النديم هو الترتيب الذي كان متبعاً آنذاك، لأننا لا نعرف هل الخبر الذي نقله عن "بعض أفاضلهم" كان نصاً محفوظاً أم كان يتداول بالمعنى الإجمالي !
وعندما تحدث ابن النديم عن إنجيل النصارى وأسماء كتبهم وعلمائهم ومصنفيهم، قال إنه سأل القس، وكان فاضلاً، عن كتب النصارى التي كانت باللسان العربي، فأخبره أن من ذلك : الصورة، وينقسم إلى قسمين : الصورة العتيقة والصورة الحديثة. وأخبره بأن العتيقة هي السند القديم على مذهب اليهود، والحديثة على مذهب النصارى. وذكر له كتب السند القديم، وأولها التوراة وهي خمسة أسفار، ويحتوي السند كذلك على عدة كتب منها : يوشع، الأسباط (شوفطيم) وهو كتاب : القضاة، شموئل، وقضية داود، وأخبار بني إسرائيل، وقضية قصة رعوث، وكتاب سليمان بن داود في الحكم، وكوهلت، وكتاب سير سيرين (نشيد الأناشيد)، وكتاب حكمة هويسيع بن سيرين (يشوع بن سيراخ)، وكتاب الأنبياء الذي يحتوي على أربعة كتب : أشعياء وأرمياء وكتاب الإثني عشر نبيّاً وكتاب حزقيل...(44).(1/63)
والملاحظ من هذا السرد أنه لا يتضمن كل أسفار العهد العتيق، ولا ندري أيضاً من أين أتى الخلل أو النقص في هذا السرد، أو الزيادات في المدونة الموجودة حالياً.
وقد حاولنا أن نستشف مضمون العهد العتيق في اللغة العربية من كتاب"الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم(45)، فتوصلنا إلى أن هذا العالم كان يملك حقًّا نسخة توراتية رِبِّيَّة، ربما لا تتعدى الأخماس، وفهمنا ذلك من قوله عندما تحدث عن التوراة السامرية : " ولم يقع إلينا توراة السامرية لأنهم لا يستحلون الخروج عن فلسطين والأردن أصلا ". والواقع أن نقد ابن حزم لم ينصب إلا على هذا القسم فقط(46).
ونسبت ترجمة لحنين بن إسحاق (تـ : 260هـ/874-873م) قيل إنه اعتمد فيها اليونانية، ولم يذكرها له ابن النديم في ترجمته(47).
* ترجمة سعديه كؤون الفيومي :
ونظراً لطبيعة الثقافة العربية الإسلامية التي صارت مكوناً من مكونات الفكر العبري في دولة الإسلام، في ذروة حضارتها واتساعها، كان لا بد أن يقوم اليهود العرب بترجمة كاملة، أو على أقل تقدير بترجمات لنصوص محددة. ذلك أن اللسان العربي أصبح لسان جمهورهم شرقاً وغرباً، ولسان بعض مذاهبهم مثل المذهب القرائي الذي تشبث بالتحرير باللغة العربية حرفاً ولغة. ولعل الكثير من هذه الترجمات ضاع، أو لم نطلع عليه لأن المخطوطات كانت مكتوبة بالحرف العربي أو بالنطق العربي بحروف عبرية، فأهملها اليهود بعد إهمالهم العربية، ولم يطلع عليها العلماء العرب لأنهم لم يكونوا على علم بمخطوطات اليهود العربية المكتوبة بالحرف العبري.
غير أن أشهر ترجمة عربية على الإطلاق أنجزها عالم يهودي هي ترجمة سعديه كؤون الفيومي الذي ولد وعاش في مصر (882-942م).(1/64)
لقد ترجم الفيومي كتاب التوراة وفسره باللغة العربية، وقصد بذلك أن يقرب النص الديني إلى العامة، سواء أولئك الذين كانوا يحسنون العربية الفُصْحَى، أو أولئك الذين لم يتعد زادهم اللغوي الاستعمال الدارج. وقد كتب تفسيره بحروف عربية ليتمكن حتى أولئك الذين لا يستطيعون قراءة الحرف العبري، يهوداً كانوا أم غير يهود، من الاطلاع على نص التوراة(48).
* ترجمة يوحنا أسقف إشبيليا :
ومن الترجمات العربية القديمة في الغرب الإسلامي، ترجمة يوحنا أسقف إشبيلية، سنة 750م، اعتمد فيها الترجمة اللاتينية التي كانت رائجة آنذاك.
II . ترجمات المرحلة الثانية :
تبدأ هذه المرحلة مع الإصلاحات الدينية الكبرى في المجتمعات الغربية، وقد افتتحها Luther بترجمته الألمانية الأولى التي كان لها أثر كبير، أولاً في تطويع اللغة الجرمانية، وثانياً في كونها مصدر استلهام للترجمات الدنماركية والسويدية والهولاندية، وثالثاً لأنها ستحتل مكانة الترجمة اللاتينية التي كانت هي الأساس والمرجع لترجمات الكتاب المقدس إلى اللغات الأوروبية، ولم يتقلص نفوذها إلا بعد ظهور ترجمة القدس سنة 1955.
ومن أهم ترجمات الكتاب المقدس الحديثة بالفرنسية، ترجمة 'La Pléiade 49 ' والترجمة الموحدة، أي التي تجمع بين التقليد الكاثوليكي والبروتستانتي(50).
ومع ظهورالترجمات ذات الطابع المسيحي، اختار اليهود نهجاً آخر في ترجماتهم للعهد العتيق، إذ ربطوها بالأهداف التي يمكن أن تكون لها فعالية في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، بما في ذلك اللهجات العربية الدارجة، والموروث الماسوري. وهكذا ظهرت ثلاث ترجمات يهودية ـ فارسية، وأخرى باليديش، وهي خليط من العبرية واللهجات الجرمانية (القرن 13-15م) ويهودية ـ إسبانية أو لادينو (القرن 13-18م)(51).
ثم توالت الترجمات العربية المسيحية في مذاهبها المختلفة، بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي، ومنها :(1/65)
ترجمة أحمد فارس الشدياق، طبعت في لندن 1851م، ولم يكتب لها الرواج.
والترجمة البروتستانتية الأمريكية التي أنجزها المرسلون الأمريكيون في بيروت، وطبع منها العهد الجديد سنة 1820م والعهد القديم سنة 1865م، وتضمنت النسخة 39 سفراً.
وأنجز الآباء اليسوعيون ترجمة، تبعاً لتقليدهم الكاثوليكي بعناية أغناطيوس زيادة، مطران بيروت، وظهر الجزء الأول من العهد القديم عام 1876م، وتلاه الجزء الثالث أي العهد الجديد، عام 1877م. ثم صدر الجزء الثاني تكملة للعهد القديم 1879م. ثم أدمجت الأجزاء الثلاثة في الطبعة التي صدرت في بيروت عام 1986م.
ومن ميزات هذه الترجمة التي اعتمدت النسخة العبرية للعهد القديم، والنسخة اليونانية للعهد الجديد، أن ساهم فيها مجموعة من علماء اللاهوت، استفادوا من الترجمات السابقة وأشركوا في عملهم كبار المختصين في اللغة، مثل إبراهيم اليازجي الذي نقح العبارة ورونق الترجمة، كما جاء في غلاف الطبعة.
ومن أحدث الترجمات، ولعلها آخرتها في العربية إلى يومنا هذا، هي الترجمة المعنونة بـ "التفسير التطبيقي للكتاب المقدس"(52) :
وساهم في إعداد النص، تسعة عشر محرراً وثلاثة عشر من علماء اللاهوت، من مختلف الجامعات. ثم عرَّبته شركة مستير ميديا بالقاهرة، وأشرف على هذه الترجمة العربية : وليام وهبه وجوزيف ماجر وصبري بطرس وعاطف سامي وعادل كمال، ولخصوا مجهودهم ومجهود المساهمين في هذا العمل في هذه الفقرة : >قام بإعداد التفسير التطبيقي للكتاب المقدس فريق من الرعاة والمعلمين، من مختلف الطوائف المسيحية وهيئات الخدمة المختلفة. وقد استغرق إعداده سنوات من العمل الجاد، ثم قام بمراجعة مادته عدد من اللاهوتيين من مختلف فروع المعرفة الكتابية واللاهوتية<. إذاً فالتقليد لا يرتبط بمذهب مسيحي معين كما يفهم من هذه المقدمة.(1/66)
وكان هدف معدي الترجمة، وربما هدف الذين أعدوا العمل الأصلي، هو عصرنة العهد العتيق بصورة تجعله مسانداً لمضمون العهد الجديد. وتمثل الاستنتاجات والدروس التي استخرجوها من كل الكتاب وعظاً كنسياً. ولعل هذا هو السبب الذي جعلهم يُبَسِّطُون اللغة، بل أدخلوا في الترجمة أشياء ليست منها لشرح الكلمات وأحياناً العبارات، دون الإشارة إلى ذلك. ولا يمكن أن يعرف غير المطلع على الأصل العبري أنها زيادات.
وإذا كانت هذه الترجمة غنية بالفهارس والخرائط وبترجمة الأعلام وبالتوثيق التاريخي، إلا أن الباحث والفقيه والمؤرخ لا يمكنهم اتخاذها مستنداً، لأن التواريخ التي أرَّخَ بها المؤلفون لأحداث العهد العتيق ونسبة أسفاره، لم توافق ما توصل إليه علم الحفريات ونقد التوراة.
لقد نسبوا كل أسفار التكوين إلى موسى، وأرخوها بتواريخ لم يعتمدها أحد، فأرخوا للتكوين والخروج والعدد بالفترة ما بين 1410-1450 ق.م، وأرخوا لسفر اللاويين بـ 1445-1440 ق. م، وللتثنية بـ 1406-1407 ق. م. ويلاحظ عدم موافقة ترتيب الأسفار للتدرج التاريخي.
كما أنهم نسبوا الأسفار إلى موسى بصفته كاتباً لا متلقياً رسالة، ومن خلال عملهم هذا لا يمكن للقارئ أن يتذكر ما قيل عن الوصايا العشر من أنها هي وحدها التي تحمل معاني رسالة السماء. فعبارتهم : "الكاتب موسى" في مقدمة كل سفر، وعبارتهم "اللاهوتية" هي عبارات غير دقيقة، فهم يصفون الأتقياء، أيام ملكي صادق الذي عاصر إبراهيم، باليهود. ويعتبرون الذين اختتنوا في عهد إبراهيم يهوداً، مع العلم أنه لا وجود لمصطلح اليهودية إلا من بعد موسى. ولا يجب أن يقع عمل من هذا الحجم في مثل تلك الأخطاء الكبيرة، فهي بلا شك تنقص من قيمته.
والخدمة التي قدمها هذا العمل هي تقسيم النص إلى فقرات، وعنونة كل فقرة بعنوان يشير إلى ما تحته.
التلمود(1/67)
يعد التلمود عند معظم اليهود الكتاب المقدس الثاني بعد التوراة، بل يعده بعضهم أقدس من التوراة نفسها. واعتقدوا أيضا أنه وحي، غير أن نقله منذ نزوله ظل شفاهة، حمله موسى ثم أخذه عنه هارون وأبناؤه، وهكذا في سلسلة متواترة إلى أن دُوِّنَ(53).
ويعني لفظ التلمود " التعليم "، وأصله من نفس الجذر العربي (لَمَدَ) وهو قسمان :
1. المِشْنَه :
اللفظ من جذر "شَنَّه"، أي ثَنَّى. والأصل في هذه التسمية أن التوراة تعني الكتاب الأول، وكتاب المشنه هو تثنية له بالشرح، فهو ثان أو تثنية.
وعليه فمضمون "المشنه" يرتبط أساساً بمضمون التوراة وما فيها، تاريخاً أو شريعة، وأضيفت إلى ذلك الأحداث التي حدثت بعد موسى، والفتاوى والتشريعات والاجتهادات والأحكام التي صدرت عن المجامع اليهودية المختلفة على مدى أزمنة طويلة. وكانت كل هذه العناصر غير منسقة ولا مجموعة، إلى أن شرع شمعون بن جملئيل، وهو من كبار فقهاء طبرية، مستعيناً بعلماء طبرية، في عملية التنسيق، فبدأوه سنة 166م بالتبويب والتنقيح والترتيب. وتتابع العمل إلى أن أتمه يهوذا هناسي وتلامذته، حوالي 216م. وسمي العلماء الذين أسهموا في جمع مادة "المشنه" خلال زمن طويل "ثَنَّائِيم" مفرده "ثَنَّاء"، من اللفظ الآرامي" ثَنَّا" أي حَشَّى، من تحشية النص.
حررت المشنه بالعبرية في 63 قسما، وتضمنت هذه الأقسام 524 فصلا، وتناولت هذه الفصول مواضيع مختلفة، منها التاريخي والتشريعي والاجتماعي، وما أحاط بكل هذا من جدل على مر السنين.
وأقسام "المشنه" الكبرى ستة، سمي كل قسم "سِدِر"، وكل سدر انقسم إلى "مَسِّخِتْ" وكل مسخت إلى "بِرَقيم" وكل برق إلى "مِشْنِيوت". وهذه أقسامها :
ü الزروع، وموضوعه التشريعات والقضايا والأحكام الخاصة بالفلاحة والأرض، وما يتصل بذلك من عبادات.(1/68)
ü الأعياد (الفصول)، وموضوعه الأعياد اليهودية والسبت والأيام المقدسة، والأيام التي صادفت مناسبات مفرحة أو محزنة في تاريخ بني إسرائيل، وما يجب فعله في هذه المناسبات.
* النساء، وموضوعه قوانين الزواج والطلاق والوصايا والنذر.
* العقوبات، وموضوعه الأحوال الشخصية والتشريعات المدنية والعقوبات، ونظام الحكم والتنظيمات المدنية.
* المقدسات، وموضوعه القرابين والأضحيات والهيكل والتشريع الخاص بالكهنة والعبادات ووصف هيكل أورشليم.
* الطهارة، وموضوعه الطهارة والنجاسة في المأكولات والمشروبات، والتطهير، وما يتبع ذلك.
وتأثرت لغة المشنه بالأسلوب الآرامي كثيراً، وهو أسلوب مَيَّزَهَا عن العبرية التوراتية، لذلك دعاها الدارسون "اللغة الرِّبِّيَّة" نسبة إلى الرِّبِّيِّين. وتضمنت دخيلاً أجنبياً تبعاً للأنظمة السياسية التي عاصرت مقعديها، ففيها دخيل من الآرامية واللاتينية والفارسية والإغريقية.
2. "الگمارا" :
الگمارا لفظ آرامي يعني الإتمام والتكميل، أي الإتمام بالتدقيق والتفصيل لما جاء في المشنه. وقد كتبت الگمارا بلغة آرامية بها خليط عبري، وساهم في كتابتها شيوخ وطلاب المدارس والأكاديميات، من فلسطين وبابل، وذلك فيما بين السنوات 220 و500م. ويُسَمَّى علماء الگمارا "أَمُورَئِيم" مفرده "أمُورَا" أي "المتكلمون"، للتمييز بينهم وبين علماء المشنه "الثنائيم" أي المُحَشِّين.
و"الگمارا" هي حواشي نص المشنه التي أصبحت بديلاً للتوراة خلال القرنين الثالث والرابع، ولم يخرج "الأمورئيم " فيها عن تقسيم المشنه وفصولها، ولكنهم وسعوا النقاش في قضاياها ودققوا في قواعدها وأحكامها، وطبقوا ما جاء فيها على القضايا الطارئة أو القضايا التي افترضوها، موضحين ذلك بالأمثلة والحكايات، كما قابلوا بين الأحكام الفقهية المتعاقبة ليخلصوها إلى الحكم الفقهي النهائي.
ويمكن أن نقسم التلمود من حيث المضمون تقسيماً آخر، فهو :(1/69)
* " الهَلَخا"، وهي من الجذر "هلخ " أي سار وشرع، فهي إذن التشريع، شَرَّعَ تشريعاً : "هَلَخْ ـ هَلَخَ". وموضوع التلمود بطبيعة الحال هو كل القوانين والتشريعات في جميع فروع الحياة والسلوك.
* " الهگدا"، من الجذر (هَكَدَ)، أي روى وأخبر. فموضوعها كل ما يتعلق بتواريخ وقصص وأخبار بني إسرائيل، وأخبار الممالك والأمم التي عاصروها، وكل ذلك مسبوك في شكل دروس تستنبط من واقع اليهود. ومن هنا تضمن التلمود أيضاً جانباً كبيراً من الأخلاق والسلوكيات كما تصورها اليهود.
والتلمود، تلمودان : تلمود بابلي وهو الذي تحدثنا عنه، وهو الأشمل والأكبر، والأكثر تأثيراً في التشريع والفكر والسلوك اليهودي.
والتلمود الأورشليمي وهو أصغر، ويتضمن 39 مبحثاً من المشنه، وانتهى تهذيبه في أواخر القرن الرابع الميلادي، وهو موجز وأكثر وضوحاً وأسهل أسلوباً(54).
لا يفوتنا هنا أن نذكر بما سبق أن أشرنا إليه، وهو أن التلمود أصبح لدى اليهود في مكانة التوراة، وأحياناً قدموه عليها. غير أنه ظهر في العراق، في القرن الثامن الميلادي، مذهب ترأسه عنان بن داود، وعرف بمذهب القرائين، ورفض هؤلاء التلمود جملة وتفصيلاً. ومن هنا جاء اسم مذهبهم "قراؤون"، لأن يهود العالم الإسلامي كانوا يطلقون على التوراة اسم "الِمقْرا"، ولعل ذلك كان من تأثير الثقافة الإسلامية، فالـ "مقرا"، معنى واشتقاقاً يقابل لفظ القرآن(55) ولأنهم لا يؤمنون إلا بالمقرا أي التوراة فهم القراؤون، ولذلك يرفضون التلمود.
وللتلمود مختصرات وشروح كثيرة، لعل أفضلها بالنسبة للتلمود البابلي هو شرح الرِّبِّي شلموه بن إسحاق، المعروف بـ "رشي". وأجودها اختصاراً وشرحاً للتلمود الأورشليمي، هو شرح موسى بن ميمون، المعروف بـ " مشنه تورا" أو اليد القوية(56).
3. المدرشيم :(1/70)
ومفرده "مِدْرَش" من الجذر "درش" أي درس، وهو نفس الجذر العربي. ويعني المصطلحُ كل الدراسات التفسيرية والتشريعية، والاجتهادات والقواعد الأخلاقية، المبنية على النص المقدس، والتي يذهب فيها أصحابها بعيداً عن ظاهر النص لينفذوا إلى أعماقه، وليستنبطوا منه استنباطات لا تترك جانباً من جوانب الكتاب إلا واستفادت منه. وينقسم بدوره إلى :
* مدرش هلخا : ويتناول النص بالتفسير والبحث والاستنباطات التشريعية. وقد يختص الدرس بجانب معين من جوانب التشريع.
* مدرش هگدا : وهو درس يُتَوسع فيه، في الأخبار والروايات التاريخية، ويستخرج منه الدَّرْشَان (الواعظ أو الفقيه) تفاسير وتأويلات تناسب واقع الحال الذي عليه اليهود إبانها.
وكان للخيال دور كبير في هذه الدراسة، مما جعل الأحداث والوقائع تختلط بالأسطورة وبكل تصور غريب لا يقبله العقل والفكر.
وقد اهتم "المدرشيم" بالأخبار والروايات والمأثورات الشعبية. ومن أشهر "المدرشيم" وأكثرها تميزاً "مدرش هگدا" و"مدرش ربا".
* مدرش ربا، أي التفسير الكبير : ويستند على الروايات والأخبار لشرح الأسفار الخمسة، وكذا نشيد الأناشيد والجامعة والأمثال ومراثي إرمياء وروث وإستير. وجرت العادة بأن يُنْعَتَ كل سفر مُفَسَّرٍ من أسفار العهد العتيق بـ "ربا" (كبير) فتفسير سفرالتكوين هو "بريشيت ربا" والخروج "شموت ربا"... ألخ. وغالبا ما كانت تلقى هذه "الربوت" (التفاسير الكبرى) في الكنيس أو أمام جمع من المستمعين، وينطلق فيها المتحدث من نص توراتي ليتجول بسامعيه في المواضيع المشار إليها.
وجُمعت أدبيات هذه "الربوت" خلال قرون، إذ دونت فيما بين القرن السادس والثاني عشر الميلاديين.
وبعض المدرشيم تنسب إلى أشخاص بعينهم، مثل "مدرش تنحوما" الذي فسر الأخماس كلها (التوراة) وكان ذلك في حوالي القرن الرابع الميلادي.(1/71)
والواقع أن كتابة المدرشيم لم تنقطع أبداً، فهي موجودة أينما وجد اليهود والبيعة، فقد ورث الفكر اليهودي إرثاً كبيراً من هذا النوع من الأدبيات، تركه الأحبار في الشرق والغرب الإسلاميين، ذلك أن أهمية المدرشيم ارتبطت بشهرة مؤلفيها.
ولا يمكننا فصل المضمون الأدبي والفلسفي الذي أنتجه القرَّاؤون، وهم فاتحو المذهب العقلاني اليهودي، والعلماء الربيون، مثل سعديه كؤون الفيومي ويحيى بن بقودا، ويهودا اللاوي، وموسى بن ميمون، وأبراهام بن ميمون، وأسرة بني تبون، وابن عزره، وغيرهم كثير.
لقد اختلط المضمون الأدبي والفلسفي بالنص المقدس، لأن هؤلاء كانوا يشاركون في الاجتماعات الكنسية الكبرى، وكان دورهم الاجتماعي وأحيانا السياسي يفرض عليهم أن يتحدثوا ويخاطبوا الجمهور، فكان مضمون كلامهم هذا "مدرشيم" يعتمد النص المقدس مع النظر في الأحداث والقضايا التي عاصروها.
هذه هي أهم المصادر اليهودية، تاريخاً ومعاصرةً، أوجزناها في هذه الصفحات.
ونعتقد أن الوقوف بموضوعنا عند هذه النقطة، لا يستجيب لهمنا العلمي ورغبتنا المعرفية. لذلك لابد من الرجوع إلى علم له أهميته في الدراسات اللاهوتية والدينية، وله أهميته في الكشف عن أسرار كثير من القضايا التي تحدثنا عنها أعلاه، وأعني بذلك نقد التوراة.
الفصل الثالث
نقد مدونة التوراة
نظراً لطبيعة مضمون التوراة، كتابة ولغة وتاريخاً، ونظراً لتضارب الآراء في نسبة الأسفار، ولاختلاف المذاهب اليهودية والتقاليد المسيحية في ترتيبها وعددها، نظراً لذلك كله ظهرت مدارس نقدية للتوراة، ركزت بعض تلك المدارس على النظر المنطقي والفهم العقلاني، وبعضها اعتمدت التحليل الفيلولوجي، وثالثة اعتمدت المكتشفات الأركيولوجية، ورابعتها جمعت بين كل ذلك.
سبينوزا وابن حزم الأندلسي، وغيرهما(1/72)
يعتبر سبينوزا وابن حزم الأندلسي من أبرز نقاد مدونة التوراة، بل إن الغربيين عَدُّوا سبينوزا رائداً لنقد نصوص التوراة، فقد كان يعتمد العقل واللغة مرتكزاً للنظر والفهم(57). ولم يَدَّعِ سبينوزا الريادة لنفسه في هذا المقام، بل ذكر أستاذه ـ غير المباشرـ إبراهام بن عزره (تـ 1167) الذي أبدى شكوكه في مضمون التوراة عندما شرح التكوين والتثنية.
والواقع يؤكد أن الأستاذ الحقيقي لسبينوزا ولأستاذه ابن عزره كان ابن حزم الأندلسي. وصلة الوصل واضحة، فابن عزره أندلسي الموطن والثقافة، وتتلمذ على علماء المسلمين في الأندلس، وأخذ عنهم مجمل المعارف المعروفة آنذاك، من لغة وتفسير وعلوم رياضيات وفلك... إلخ. وكان ابن حزم من الأعلام الذين كانت لهم الريادة في كثير من المجالات، في فهم المجتمع والناس، وظهر ذلك في كتبه مثل الأخلاق والسِّيَر، وفي الأنساب (جمهرة أنساب العرب) والتواريخ، وفي التجديد في النحو والفقه (مذهب الظاهرية)، وفي الأدب "طوق الحمامة"، إلى غير ذلك. ولكن ريادته كانت أبرز في علوم الأديان ومقارنتها ومناظرة أهلها، وكان يناظر أحياناً بالحسنى، خاصة في مناقشاته مع النصارى واليهود بصفتهم يشاركونه المواطنة، بل والمعارف أيضاً، وأحياناً كان يناظر بشيء من العنف، وذلك عندما يضع النصوص الدينية على محك النقد. لقد ناظر وجادل في قضايا توراتية مختلفة تتعلق بتاريخ الكون وتاريخ البشر وتاريخ الأنبياء، وانتقد الخلط الواقع في الحديث عنهم، ونسبة ما لا يليق بهم، والقول في الله بما لا يوافق العقل، وانحراف بني إسرائيل أيام موسى وبعده، والتغيير الواقع في النص التوراتي.(1/73)
واستخدم ابن حزم في نقده هذا أفضل المناهج الفيلولوجية، وأدق مناهج المقارنات النصية المبنية على المنطق والحساب كما نعرفها اليوم. وكثير من المراجع الحديثة التي اعتمدناها، والتي أرخت لبني إسرائيل وتناولت كتاب العهد العتيق بالنظر، اتبعت منهج ابن حزم دون أن تشير إلى ذلك، بل الأصح أن نقول دون أن تدري بذلك. وذلك لأن مرجعها الأساس كان سبينوزا الذي، وإن لم يشر إلى ابن حزم مباشرة ضمن مصادره، إلا أنه أشار إلى ابن عزره تلميذ ابن حزم الذي شاركه العلم والموطن.
وإذا قلنا إن سبينوزا لم يعرف ابن حزم، فإننا نجزم بأن إبراهام بن عزره وغيره من يهود الأندلس كانوا يعرفونه حق المعرفة، لأن ابن حزم خاصمهم علماً وسياسة في "الرد على ابن النغريلة اليهودي"(58)، وصادقهم وارتبط بهم إنسانياً كما يبدو في كتاب "طوق الحمامة"، ولم يُعَنِّفْ منهم إلا من اعتبره خارجاً عن حدود الشرع علماً، أو خارجاً عن حدود الاستقامة مسؤوليةً.
إن رسائل ابن حزم المنطقية والفلسفية، وكتاباته الجدلية والتاريخية كلها تفصح عن هذا. وحجر الأساس في نقده لليهودية هو كتاب الفَصْل في الأهواء والملل والنِّحَل(59).
ولا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا بأن علماء المسلمين، بدءاً من المفسرين إلى أقطاب علوم الكلام والفلسفة، كلهم كانوا أساتذة ليهود الأندلس في باب النظر في النصوص الدينية بعين العقل، وبالأدوات اللغوية والبلاغية والأصولية. ويمكننا أن نقول إن ابن ميمون نفسه وأبناء تبون وابن جرسون وغيرهم، كلهم أعادوا النظر في فهم التوراة، نظراً لتأثرهم بمناهج علماء الكلام في الأندلس. غير أن منهجهم لم يسر بعيداً ليشكك في النص، وإنما آثروا تأويل النصوص، وهذا ما يدل على رفضهم لمنطق التوراة بظاهرها النصي، ولذلك اعْتُبِرُوا من أقطاب نقد التوراة بعد ابن حزم وقبل أبراهام بن عزره، فنقدهم يصنف ضمن أعمال الخاصة لا العامة(60).(1/74)
ويختلف ابن عزره عن غيره من النقاد لأنه اعتمد ابن حزم الأندلسي الذي انتقد النصوص صراحة ولم يلجأ إلى تأويلها. وفي هذا كان ابن حزم أستاذاً لأبراهام بن عزره ولسبينوزا، لأن نقد هذين الأخيرين لم يتخذ التأويل منهجاً لحل مبهمات العهد العتيق، ولكنه أخذ ينظر في تناقضاته المختلفة، ويناقش عدم توافقه مع صدق الواقع في الأحداث والتواريخ ومستوى اللغة، ويبرز عمل الإنسان الذي أخفى، بما أدخله على النصوص، حقيقة ما جاء في رسالة السماء. بل كانا يناقشان مفاهيم اللغة التي إذا خرجت عن سياقها، أو إذا استعملت بعض الكلمات على أنها مرادفات، تحول المعنى كلية عن المقصود الحقيقي، فلا هو صدق بدلالة العبارة ولا هو ضرب من المجاز.
هذا هو لُب نقد ابن حزم الذي كان فاتحة علم مقارنة الأديان والنظر فيها. وأملنا أن نخصص دراسة نبحث فيها في المصادر اليهودية التي اعتمدها ابن حزم، وخصوصاً نسخ التوراة، وهل كان له نظر في التلمود وتوابعه ؟ آملين من ذلك إبراز جانب لم يهتم به الدارسون كما ينبغي، أو أن الذين اهتموا به لم يسلكوا المسلك الذي يجب أن يتبع لإبراز جهد هذا العالم وريادته في علم مقارنة الأديان(61).
ولا نستطيع أن نتناول بالتفاصيل ردود سبينوزا لنصوص الكتاب المقدس وانتقاداته لمحتواها، لأن هذا يتطلب حيزاً أكبر يخرج عن نطاق دراستنا هذه. ولكن ذلك لا يمنعنا من تلخيص نظريته في خطوط عريضة، فهو يرى أن :
1. ما فهمه مدونو التوراة على أنه خطاب إلهي إلى غير موسى هو أمر غير سليم، لأن الخطاب لم يستعمل إلا مجازاً، كقول التاجر أن الله أعطاه مالاً، في حين أنه هو الذي سعى لكسب هذا المال. ولا يصح أن يدعي أحد بأن الله خاطب نبيّاً من الأنبياء إلا بدليل، لذلك فالمُخَاطَبُ وحده هو موسى.
2. قانون الله وشريعته ووصاياه هداية عامة لكافة البشر، وقانون التوراة خاص ببني إسرائيل دون غيرهم، وهذا غير ممكن.(1/75)
3. الوعد بالجزاء في الديانة الحق هو وعد روحي يعد بالسعادة الأبدية، ووعد التوراة دنيوي لا غير.
4. اللغة مقوم أساس لفهم النص، واللغة العبرية التي وصلتنا يكتنفها كثير من الغموض والتشوش. هذا ولم يترك علماء التوراة واللغة القدماء مصادر تقنن لنحو اللغة وتاريخها وتطورها، ولا معاجم تحدد معانيها، وذلك جعل مدوني التوراة يضيفون المعانيَ للألفاظ ويستعملون بعضها باعتبارها مترادفات، مع أن الأمر قد يكون على غير ذلك في لغة البلاغ الأصلي الذي جاء على لسان موسى، فلغة العبرانيين مرَّت بمراحل تطور فضفاضة وكتابة اللغات السامية متشابهة، فرسم الدال يشبه رسم الراء، ورسم الباء يشبه رسم الكاف، ورسم الهاء يشبه رسم الحاء، ورسم السين يشبه رسم الميم في آخر الكلمة. كما أن الحرف العبري القديم كان خالياً من علامات ترمز للحركات أو للوقف، فنتج عن هذا كله قاعدة، سماها النحاة فيما بعد، قاعدة المقروء والمكتوب. وبمقتضى هذه القاعدة نقرأ 1350 لفظاً قراءة مخالفة لرسمها(62).
5. يؤكد العقل أن البيان الإلهي للحقائق كان في النص الأصلي واضحاً وجلياً، تحمله عبارات وألفاظ لا تحمل ـ في ظل لغة البلاغ الأصلية ـ غماماً يجعل غَسَق الفضفضة يكتنف المعنى. ولكن عندما تكررت كتابة محتوى هذه النصوص في الأسفار المتعددة وترجماتها، اصطبغت معانيها بمقاصد كاتبيها وظروفهم ومواطنهم.
6. كل الأسفار المسماة بأسماء الأنبياء والأشخاص هي منحولة عليهم، وكتبت بعد عهودهم بزمن طويل.
7. الأحداث التاريخية في التوراة مشوشة ولا علاقة لها بالتسلسل الزمني، فهي احتطاب لأحداث ووقائع وضعت في غير سياقها التاريخي.
8. كثير من الأماكن والمواضع جاءت بمسميات لم تكن معروفة حين وقوع الأحداث، فهي أيضاً منحولة، وكل ما تعلق بها من أحداث قد وقع فيما بعد، ثم أقحمه المدونون في غير موضعه.(1/76)
ولا نريد أن نُفَصِّلَ القول في كل ما جاء في كتاب سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة، لأن ذلك سيخرجنا عن غرضنا الذي هو الإشارة إلى سلسلة النقد التوراتي المبني على النظر في النص على ضوء المنطق والحساب والوقائع والأحداث التاريخية، وتحليل أعمال الكتاب والمؤرخين. ولكن لا بأس في هذا الصدد من تلخيص النتائج الأساسية التي توصل إليها سبينوزا فيما يتعلق بالجزء الأول أي التوراة ـ وهو الذي يعنينا في بحثنا هذا ـ وبعض الأسفار الأخرى من العهد العتيق :
يرى سبينوزا أن طريقة الكلام والاستشهادات ومجموع النصوص الخاصة بقصة موسى ونسبة التوراة إليه، كل ذلك يشير إلى أن موسى لم يكن هو كاتب هذه الأسفار، بل كتبها شخص آخر عاش بعد موسى بقرون عديدة(63)، ذلك الشخص هو عزره. والنتيجة أن الجمع كان متأخراً عَمَّا كان يعتقده علماء اللاهوت التقليديون، وكان يختلف أيضاً عَمَّا تصوره سبينوزا، إذ يرى نقاد التوراة أن الأصل فيها قديم، أما نصها الحالي فيرجع تاريخه إلى ما بين القرن الثامن والثاني قبل الميلاد. بل يرى البعض أن ليس في الأسفار ما يرجع إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد(64).
فتح سبينوزا بكتابه المشار إليه، وكذا النزاع الذي أثاره (1638-1722 م) بمؤلفاته في مواجهة البروتستانتية(65) و فتح هؤلاء حركة نقدية لم تقتصر على فرنسا وهولندا فحسب، بل عَمَّتْ أوروبا بأجمعها، لأنها صادفت مخاض الحركة الإصلاحية السياسية والدينية والاجتماعية. ومن أهم نتائج هذه الحركة أنها جعلت النص المقدس شأنه شأن أي نص، يمكن نقده والنظر فيه، على اعتبار أنه كتاب قام بتدوينه أناس كثيرون على مدى القرون. وإن كان مضمونه ينسب إجمالاً إلى رسول الله موسى، عليه الصلاة والسلام، إلا أنه يتضمن عناصر تاريخية ولغوية سبقت بكثير الفترة التي اعتُقِدَ أنها تنتسب إليها، وأخرى تأخرت عنها بكثير.(1/77)
ونتيجة لذلك، اشتعل جدل بين المذاهب المسيحية، وظهرت العديد من الكتابات النقدية واللاهوتية التي جمعت بين الفلسفة والتأمل من جهة، والجدل والنزاعات من جهة أخرى. ويكفي الرجوع إلى المؤلفات التي كتبت في هذه الفترة للدلالة على ذلك(66).
في هذا الجو من النظر والجدل اللاهوتي ظهر كتاب بعنوان : فرضيات حول المدونات الأصلية التي يظهر أن موسى كان قد استعملها لوضع سفر التكوين، مع ملاحظات تؤيد أو توضح هذه الفرضيات، لـ J. Astruc. وكان ظهوره حدثا في تاريخ نقد الكتاب المقدس، فقد اتسم بجرأة كبيرة تعمقت إلى حدٍّ بعيد في الفرضيات، الأمر الذي أدى بمؤلفه إلى تجنب إصداره باسمه، كما انتحل اسم دار للطبع في بلجيكا، مع أنه طبع في باريس(67).(1/78)
انطلقت نظرية J. Astruc من ملاحظة بسيطة، ذلك أنه لاحظ وهو يقرأ سفر التكوين وسفر الخروج، أن اسم "الله" كان يأتي أحيانا بلفظ "إلهيم" وأحيانا بلفظ "يهوه"، فأخذ يفصل بين الفقرات التي تتضمن الاسم الأول وتلك التي تتضمن الاسم الثاني، فحصل على نصين منفصلين ومتوازيين. ولاحظ بعد هذا الفصل غياب التكرار الذي كان موجودا في النص الأصلي، كما لاحظ أيضا زوال الخلط التاريخي (وهذا أمر من الأمور التي كانت وما زالت تحرج قارئ الكتاب المقدس). ثم عزل "أستريك" النص الذي لا وجود فيه لذكر "الله"، وهذا نادر، ثم النص الذي يتعلق بالشعوب الأجنبية غير بني إسرائيل، وهو نص يتألف من ثمانية وثائق صغيرة، وكذا وثيقة تتعلق بغزو الملوك الأربع (تكوين 14) وأخرى خاصة بأحفاد إسماعيل (تكوين 25 :12 ـ18) ووثيقتين تتضمنان قوائم الآدوميين (تكوين 36). ويرى أستريك أن موسى جمع هذه المدونات الإثني عشرة الأصلية وكتبها على أربعة أعمدة، غير أن النساخ فيما بعد صاغوا من هذه نصاً واحداً، بعد أن قرأوا أسطر الأعمدة الأربعة ـ سطراً سطراً ـ متصلة ببعضها أفقياً، دون أن ينتبهوا إلى أنها كانت أعمدة، كل عمود منها مستقل بأسطره عن الآخر، ومن هنا وقع التداخل بين الوثائق المختلفة. وقد شعر أستريك بثقل المهمة التي تعترض الباحث في وثائق الكتاب المقدس بعد اكتشافه هذا(68).
لقد فتح هذا العمل عهداً لقرنين من البحث النقدي في التوراة (أخماس)، فهو أول محاولة تعتمد نظرية المصادر المتداخلة، ولم يختلف عمل أستريك كثيراً في تقسيماته عن عمل Welhausen (69. ومنذ ذاك الحين أصبح اعتماد الفروق في اسم "الرب"( معياراً للتفرقة بين المصادر.
أثارت هذه النظرية ردود فعل متضاربة، فاستقبلت في فرنسا بعدم المبالاة، وانقسمت الآراء حولها في ألمانيا، وكان Eichhorn من مؤيدي Astruc وتجلى ذلك في كتابه مدخل إلى العهد العتيق الذي أصدره سنة 1781م(70).(1/79)
لقد وطد "إشهورن " النظرية بأن أضاف إلى معيار اسم الرب أموراً أخرى، مثل الأصول والأنواع الكتابية والمعاني الدينية، وفرق بين المصادر المتداخلة، وحاول إرجاع النص إلى حقيقته الأصلية باستخراج الإضافات وإظهار النواقص.
ونشر Hupfeld سنة 1853م دراسة حول مصادر التكوين(71) بَيَّنَ فيها أن المصدر الذي بَيَّنَهُ أستريك باسم "إلهيم" هو في حقيقة أمره مصدران أو روايتان أو وثيقتان مختلفتان أسلوباً ومضموناً. فأطلق على المصدر الأول " التشريع الكهنوتي "، وترك للثاني اسم "إلهيم".
وبعد سنة من ذلك التاريخ أصدرRiehm كتاباً بعنوان تشريع موسى في بلاد مؤاب(72)، وتناول فيه بالدرس سفر تثنية الاشتراع، واعتبره مصدراً قائماً بذاته.
وبهذا تتكامل نظرية المصادر الأربعة في عمومها : "اليهوي" و"الألوهي" و"الكهنوتي" و"تثنية الاشتراع".
لقد أصبحت نظرية المصادر الأربعة أساساً في نقد التوراة، ولكنها صارت في نفس الوقت محلاً للنقد، سواء بالرفض أو بالوسم بالقصور وعدم التوصل إلى كل العناصر التي يتركب منها أصل الكتاب المقدس، أو عدم الدقة في تحديد التواريخ... إلخ.
آثار نقد الكتاب المقدس
لقد تسبب نقد الكتاب المقدس في أمرين اثنين :
1. زاد من شك أتباع الكنيسة المسيحية، بمذاهبها المختلفة، في أمر نسبة التوراة كلها إلى موسى، وأكد لهم ما كانوا يشعرون به من اضطراب في سرد الأحداث وعرض الوقائع في الكتاب.
2. حث كبار علماء اللاهوت من المسيحيين على النظر في الخلل الواقع في الكتاب المقدس والبحث عن أسباب وقوعه، حفاظاً على العقيدة المسيحية ودفاعاً عن مبادئ الكنيسة، بعيداً عن كل انفعال أو جدل عقيم.(1/80)
Albert Lagrange (1855-1938، ونذكر في هذا الصدد اللاهوتي الفرنسي( الكاثوليكي الذي لم يرفض النقد باعتبار أن في الكتاب 'Bible" ما هو إلهي وفيه ما هو بشري، ولكنه نبه إلى وجوب النظر في كل هذا انطلاقاً من الإيمان العميق والفحص المتأني، لا بالاعتماد على النقد الفقهي اللغوي والتاريخي وحدهما، ولا انطلاقاً من صراع مذهبي. ورأى أن النظر في النص المقدس وشرحه لا يجب أن يكون منافياً لعلم اللاهوت، بل يجب أن يلتقي وإياه في المعطيات العلمية الحقيقة. وشعر أيضاً بأن الدراسات والبحوث اللاهوتية في حاجة إلى مؤسسة تجمع بين الإيمان العميق وقواعد العلم الصحيح، فأسس في 15 أكتوبر 1890م "المدرسة التطبيقية لدراسة الكتاب المقدس" وفي سنة 1892م أنشأ مجلة للمدرسة بعنوان مجلة الكتاب المقدس La Revue Biblique. وقضى Lagrange ثلاثين سنة، منذ تأسيس المدرسة إلى أن توفي، وهو يدرِّس جاهداً لتكوين طلابه تكويناً حيادياً، ولم يتوان عن الكتابة في المجلة بانتظام خلال هذه المدة.
وفي سنة 1900م قام Lagrange بنشر مشروع التفسير الكامل للكتاب المقدس، ودعا العديد من المختصين للمساهمة فيه بقصد إعداد تفسير كاثوليكي يرتكز على ترجمات الأصول ترجمة جيدة وعلى النشرات العلمية المحققة. وافتتح هو المشروع سنة 1903 بتفسيره لسفر القضاة(73).(1/81)
وقد أرَّخَ عالم اللاهوت المشهور R. De Vaux في كتابه الشرق والكتاب المقدس(74) لـ Lagrange ولهذه الحركة النقدية اللاهوتية. وعَبَّرَ في كتابه هذا عن رأيه في هذه المسيرة الطويلة، خصوصاً في الفصلين المعنونين بـ "نظر في الحال التي عليها نقد التوراة اليوم" و"هل في الاستطاعة الكتابة في علم لاهوت العهد العتيق ؟". وعرض في الكتاب لأعلام علم نقد الكتاب المقدس وأعمالهم، سواء أولئك الذين تبنوا نظرية المصادر المختلفة أو أولئك الذين رفضوها. وقد تردد هو نفسه قبل أن يتبنى هذه النظرية نهائياً، ورأى أن صياغة التوراة ــ الأخماس أو الأسداس ــ(75) لا يمكن أن تتصور إلا في شكل عمل أعيدت صياغته اعتماداً على مصادر أو روايات أو وثائق كان لها وجود حقيقي، وظلت محفوظة في أماكن العبادات التي كان يجتمع فيها بنو إسرائيل ليستمعوا إلى الوعظ أو أخبار الرواة الذين كانوا يذكِّرون بالأحداث والوقائع الكبرى التي جرت في عهد الآباء، وكانوا يمزجون قصصهم بذكر كرامات وأفعال إلهية تخص الشعب المختار. وأدرجت كل هذه القصص في تدوين طقوس الأعياد للتدليل على عناية الرب ببني إسرائيل.
واعتبر'De Vaux' الكتابات التشريعية نتاجاً من عمل كهنة المعابد، لأن هؤلاء وضعوا لحياتهم وعملهم قوانين وتشريعات صاغوها في دستور يحدد حقوقهم وواجباتهم، كما وضعوا تشريعاً بمقتضاه يقوم المؤمنون بدينهم. بل أكثر من ذلك أن هؤلاء كانوا هم أنفسهم مصدر الأحكام والفتاوى، وكانوا المرجع في السلوك الأخلاقي الذي ينبغي على بني إسرائيل التزامه، وهذا ما يمثل مفهوم التوراة أو التعاليم أو الشريعة.
ويرى'De vaux' أننا إذا كنا نستطيع استنتاج أن هذه الأعمال كانت ثمرة المعابد، إلا أننا لا نستطيع أن نستنتج أي شيء يدلنا على هذه المعابد نفسها وأين كانت.(1/82)
ويظهر أن منبت الرواية أو المصدر "اليهوي" هو مملكة يهودا، ومصدر الرواية "الإلوهية" هو إفراييم، أما التثنية فهي شبيهة بأسلوب تقاليد الشمال، حملها اللاويون بعد سقوط مملكة إسرائيل، فأضافوا إليها من اعتقاداتهم بعد أن استقروا في أورشليم. أما التقليد الكهنوتي، فهو يرتبط بالهيكل والكهنة وأورشليم.
ولقد تداخلت الأحداث فيما بعد في هذه الروايات لتصبح جزءاً منها، فَدُوِّنَ كل ما يتعلق بالتشريع في إطار، وَدُوِّنَتْ القصص والأخبار في إطار آخر. وفي مرحلة لاحقة من التدوين أدمجت كل هذه فصارت ركاماً من التشريعات الخاصة بالعبادات، والأخرى المتعلقة بالمؤسسات (نظم الكهنة ونظم الدولة ) والروايات التاريخية، وظلت الرواية الشفوية موازية لهذا التقليد المكتوب تتفاعل وإياه على مدى قرون وفي أماكن مختلفة.
ولا يعرف بالتدقيق مسار التقليد الشفوي الذي اندمج في آخر المطاف مع التدوين السابق عليه، من أجل هدف معين هو الحفاظ على روح النص المدون وطريقة تأليفه، دون أن يأخذ بعين الاعتبار الترتيب الزمني ومصداقية وقوع الأحداث في سياقه(76).
إن مكونات التوراة ـ التي بين أيدي الناس في عصرنا هذا ـ لغة وكتابة ومضموناً، وتقاليد وعادات وأعرافاً، كانت كلها تُسْتَقَى من حضارات قديمة وآداب سابقة، بل وعقائد متقدمة عن زمن موسى بكثير، صاغها المدونون لتكون تاريخاً مسترسلاً يبدأ بالخلق، ثم يتناول تاريخ العبريين في مصر، ثم خروجهم منها تحت إمرة موسى، ثم موت هذا الرسول العظيم.
هذه هي الصيغة في بساطتها، ويمكن ردها إلى عناصرها الأولى على ضوء علم الحفريات والنقد اللاهوتي، فكل سفر يتركب من عناصر تجد أصولها في أعمال سابقة تعلقت بالأحداث والشرائع، ثم صيغت على عِلاتِها صياغة متأخرة، لِتُكَوِّنَ هذا الذي أصبح توراتاً أو أخماساً. فمصادر تلك التوراة متداخلة، ومنها :(1/83)
1. المصدر "اليهوي" : وفيه استعمل الكتبة أو المدونون في النص لفظ "يهوه" عَلَماً على اسم الرب.
2. المصدر "الإلوهي" : وفيه استعملوا لفظ " إلهيم" عَلَماً على اسم الرب.
وقد جمعت أساسيات هذين المصدرين في بدء حكم سليمان.
3. تثنية الاشتراع، وتؤرخ بنهاية عهد الملكية : وهي في حقيقة أمرها إعادة لصياغة التشريعات التي نظَّم موسى بمقتضاها بني إسرائيل في منطقة موآب، والمرتفعات التي تتاخم الحدود الشرقية لفلسطين. وهي أيضاً إعادة نظر في كل التشريعات التي عمل بمقتضاها العبريون في شبه جزيرة سيناء، وواحة قديش.
4. المصدر الكهنوتي : ويتضمن كل التشريعات الكهنوتية الخاصة بالكهنة والهيكل والأحداث التاريخية من الوجهة الطقوسية. واكتملت بنية هذا المصدر في فترة السبي البابلي.(1/84)
ولنبسط الأمر أكثر لكي نفهم معنى تداخل هذه المصادر، يمكننا أن نتصور أن رواية لأحداث قد دَوَّنَهَا مُدَوِّنٌ على حدة ورمز لها بـ J.E (يهوه)، ورواية أخرى منفصلة عنها وفي نفس الموضوع، دونها مدون آخر على حدة ورمز لها بـ (إلهيم)، ثم ثالثة دونها آخر على حدة ورمز لها بـ (تثنية الاشتراع)، ورابعة دونها رابع أيضا على حدة ورمز لها بـ (كهنوت)، وكلها تدور حول نفس الأحداث وتتضمن نفس المواضيع. وبعد حقب من الزمان قام مُحَرِّرٌ أو جماعة من المؤرخين بدمج الروايات بعضها في بعض، ووضعوا في العبارة الواحدة قسماً من رواية يهوه، وآخر من رواية إلهيم، وفقرة من مصدر التثنية، ورابع من المصدر الكهنوتي، وذلك لأسباب قد تكون قومية أو شخصية أو ثقافية... إلخ. وتكون من هذا الخليط مدونة التوراة الموجودة بين أيدينا، متجردة عن الشفافية اللازمة لبيان معاني الرسالة التي نزلت على موسى، عليه الصلاة والسلام. ذلك أن أصل تلك الرسالة كان لا يتعدى مقدار كتابة لوحين، ثم بدأ التدوين بعد زمان تعرضت فيه ذاكرة المدونين لتراكم الأحداث وتداخل التواريخ وتشابه الوقائع واضطراب ترتيبها، فطرأت زيادات على النصوص الأصلية وإسقاطات منها، وجاءت المعاني متناقضة، وورد في النص ما لا يقبله العقل، كالتجسيم وبعض الصفات التي وصف بها الآباء والأنبياء(77).
هكذا إذاً توصل نقد التوراة إلى هذه الحقيقة التي بدأ البحثَ فيها ابن حزم الأندلسي، وتتلمذ عليه فيها أبراهام بن عزره وسلسلة أعلام اليهود الأندلسيين ومن سار على طريقهم فيما بعد، ثم Spinoza وWelhausen وAstruc وEichhorne وRiehm وLagrange وVaux De. والمكتشفات التي عثر عليها في تل العمارنة (بمصر) ورأس الشمرة والبحر الميت وجزيرة سيناء، وفي غيرها من الأماكن، كلها أدلة على أن أصل الرسالة لم يعد يمثل في التوراة إلا آثاراً باهتة الصورة.(1/85)
والكشوف الغزيرة التي أبانت عن تقاليد وعادات وأشخاص لم تكن على عهد موسى، بل كانت في عهود سابقة عليه بزمان طويل، وَلَّدَت لدى علماء اللاهوت نظراً حائراً. ولكن التقليد المسيحي رأى أن من واجبه أن يقول كلمته الأخيرة، ولعل هذه الفقرة تلخصها : "إن التقليدين اليهودي والمسيحي ينسبان إلى موسى وضع التوراة، وترى لجنة الكتاب المقدس في روما أنه لحد الساعة لا يمكن للبراهين التي قدمها نقد القرن التاسع عشر والتي بمقتضاها أَرَّخُوا للمصادر الأولى للتوراة بعهد مملكة إسرائيل (ق 9 و 8 ق.م) لا يمكن أن تكون كافية لتغيير ما كان عليه اعتقاد التعاليم الكاثوليكية. ولا تزال هذه التواريخ في الحقيقة لا تتعدى الفرضيات، غير أن لجنة الكتاب المقدس تعترف بأن تدوين التوراة يمكن أن يتصور أنه قد كان بواسطة جماعات من الكتبة تحت إمرة موسى، وكان يُسْمَحُ بالنظر في عمل كل جماعة من هذه الجماعات على حدة. وربما حدث فيما بعد أن دمجت هذه الأعمال وصيغت من جديد في عمل واحد هو التوراة (الأخماس) وربما كان ذلك متأخراً".
ويرى 'P.Brcker' أنه ليس بمستبعد أن تلك المصادر الثلاثة أو الأربعة ظلَّت منفصلة زمناً طويلاً، وليس هناك ما يمنع من تأخير ضمها كاملةً ونهائياً حتى السبي البابلي، أو إلى عهد ابن عزره(78).
النصوص المسمارية
إن التسلسل التاريخي للأحداث والمعطيات اللغوية التي تعرضنا لها في هذه الدراسة تحمل دلالة قاطعة على غياب التوراة الأصلية. ومع ذلك، فقد تحرك الباحثون لعلهم يجدون، فيما اكتشف من آثار أركيولوجية تعود إلى عهود قديمة جداً، ما يساعدهم على استجلاء ما أضيف من أثر إنساني وموروث شعبي إلى نصوص التوراة، لتعطينا المدونة التي بين أيدي الناس اليوم. وبمناسبة ذلك تردد السؤال الآتي :
هل تؤكد النصوص المسمارية التوراة أم تفندها ؟(79).(1/86)
إن النصوص المسمارية هي ألواح مكتوبة بالخط المسماري يرجع تاريخها إلى عهد قديم يسبق بعثة موسى وهارون بكثير، وقد رأى E. Chiera أن ما جاء في هذه النصوص المسمارية يوافق بعض ما جاء في التوراة حقاً، ذلك أن التوراة لا تمثل كتاباً واحداً وإنما تمثل كتباً عدة، لم يضعها ـ في رأيه ـ مؤلف واحد، وإنما اشترك في وضعها مؤلفون، وما تتضمنه لا يعود إلى عهد واحد، بل إلى عهود عديدة، وفيها القضايا الدينية والتاريخية والكونية، والشعر وتأملات الفلاسفة وغير ذلك من الآداب. وهذه المضامين التوراتية طرحت السؤال السابق، إذ لم يعد الأمر يتعلق بتأكيد هذه النصوص لحقيقة التوراة، وإنما الحقيقة هي أن التوراة الحالية ليست إلا جماع الكتابات الأشورية وغيرها مما خلفته الشعوب السابقة(80). بل جل مضامينها ما هو إلا "التوراة الكنعانية"، ذلك العنوان الذي وضعه H.E. Del Medico 81 على كتابه، مع ما في ذلك من مجاز بلاغي تشفه الحقيقة كما سنرى.
فما هي قصة النصوص المسمارية ؟
في تل رأس شمرة، الواقع على بعد 12 كم من أنطاكية على الساحل السوري، اكتشف أحد الفلاحين صدفة، سنة 1928، عندما ارتطم محراثه بغطاء مغارة، موقعاً أثرياً اشتهر فيما بعد لأنه كان يتضمن تراثاً إنسانياً غَيَّرَ محتواه كثيراً من معارف الناس حول تاريخ المنطقة ومعتقداتها. بل غَيَّرَ رأي الباحثين فيما تضمنته مدونة التوراة التي كانت في نظر الناس إلى ذلك الحين، أكثر الكتب قدماً وشهرة وتأثيراً.(1/87)
وفي سنة 1929 أشرف' M.M Claude Schaeffer & George Chenet' على الحفريات في رأس شمرة. ومن بين ما عثرا عليه ألواح مكتوبة بنوع من الخط المسماري وبلغة لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت. وانكب عدد من علماء اللغات السامية على هذه النصوص، كل على حدة. من هؤلاء Charles Virdleaud الذي نشر أول نص أوغاريتي، وهذا هو اسم لغة النصوص التي عثروا عليها في موقع رأس شمرة، نسبة إلى مدينة أوغاريت القديمة(82) (في سوريا)، وتوالت الترجمات والدراسات، منها ما قام به : Hans Bauer83 و E. Dhorme84 و 85. Del Medico وCh.Gordon 86 و Ernest Doblhofer 87 و M.Dahood 88 و Aistleitner 89 Virdleaud 90 و 'Sznycer' وغيرهم كثير (92,91).
ارتبط النص الأوغاريتي بالتوراة واللغة العبرية منذ بدء اكتشاف الألواح في رأس شمرة. وكان ذلك انطلاقاً من اعتماد أولئك الذين سهروا على فك رموز هذه اللغة القديمة على اللغة العبرية، وتقريبهم معجم هذه من تلك. وكان من الطبيعي أن يجدوا، وهم يقارنون بين اللغتين، كثيراً من المفاهيم والوقائع والأحداث والشخصيات والمعتقدات المتشابهة، لأن هذه النصوص المسمارية تمثل كتاباً دينياً قديماً، لذلك جعلها الباحثون من أهم مصادر العهد العتيق(93 ). بل اعتبرها H.E. Del Medico "توراة كنعانية" حقاً وليست مجازاً، فقال : >لم تأت تسمية هذا الكتاب بالتوراة الكنعانية لأن كثيراً من مكونات قصص رأس شمرة ترددت في كتاب العهد العتيق العبري، بل هناك كثير من الأسباب تفرض أن هذه النصوص كانت عند الكتبة الكنعانيين توراة...<. وإذا كان لدى هذا الباحث استعداد لإطلاق توراة على أي كتاب يحمل نصوصاً مشابهة لما هو مدون في العهد العتيق، فإننا نذكر بأن أصول الكتب السماوية واحدة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يصدر عنه التناقض، ولكننا في بحثنا هذا نبحث عن أصول التوراة باعتبارها رسالة أنزلت على موسى وهارون دون سواهما(94).(1/88)
وتتضمن نصوص رأس شمرة أساطير وأخباراً ومزامير وصلوات ونصوصاً تشريعية، وجد الدارسون كثيراً مثلها في العهد العتيق، ولا تخلو ترجمة من ترجمات هذه النصوص من إشارات إلى ذلك. وتعتبر ترجمة A. Caquot وM. Sznycer وA. Herdner : نصوص أوغاريتية، ملاحم وأساطير(95) من أهم الترجمات الفرنسية، نظراً لاعتمادها أوثق الدراسات وأكثرها جدية، ونظراً للجهد الذي بذلوه في فقه اللغة لرد الألفاظ إلى أصولها، ونظراً للمقارنات التي عقدوها بين النص التوراتي والنص الأوغاريتي(96). لقد أثارت هذه الصلات الوطيدة بين النص الأوغاريتي والنص التوراتي الباحثين، مما أدى إلى خلق مؤسسة، مهمتها تعميق النظر في المكتشفات الأثرية والذهاب بعيداً في المقارنات الأوغاريتية ـ التوراتية، هذه المؤسسة هي : The Ugaritic and Hebrew Parallels Project 97. والملفت للنظر أن كل الدراسات والترجمات والمعاجم التي وضعت حول الأوغاريتية كانت تثبت دوماً هذا التداخل وهذه العلاقة بين هذه اللغة الأوغاريتية واللغة العبرية والتوراة. إن النصوص الأوغاريتية تعتبر حقاً رافداً من روافد العهد العتيق ومصدراً من مصادره التي لم تأت عرضاً، وإنما كانت حضوراً في اللغة والمعتقد والمفاهيم، ولعل هذا هو السبب الذي جعل هذه النصوص أكثر إثارة من الناحية الأكاديمية وأكثرها أهمية لدى المشتغلين بعلم الآثار.
ونختم دراستنا هذه بكلمة مؤلفي "Litterature" : >... إن الجديد في شريعة الرب هو الوحدانية والتأكيد على الجانب الخُلُقي الذي غَيَّر نهائياً روح القوانين السالفة ] وفرض احترام الضعيف، والعطف على الفقير من ذوي القربى والأرحام. هذا هو الجديد وإلا لكان هذا التشريع بدون ثورة تشريعية، وهذا هو الوحي الإلهي<(98).
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page1418.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page1420.gif
الهوامش
((1/89)
1) سفر التكوين إصحاح 10 : 21 و41، سنشير في باقي البحث للإصحاح بالرقم الأول وللآية أو الآيات بالرقم الموالي بعد نقطتين متراكبتين.
(2) يعني لفظ " أور" مدينة، والغالب أنه كان في الأصل "عور". واسم المدينة في الآكادية والأوغاريتية والعبرية هو "عير". ولعل العين انقلبت حرفا حلقيا آخر، هو الألف، لكتابتها بالخط المسماري في اللغة الآكادية. ومعروف أن حرف العين لم يكن له رسم مقابل في المسمارية.
(3) لم تشر التوراة الى رحلة إبراهيم وإسماعيل الى الجزيرة العربية.
(4) انظر معاني ودلالات هذه الأسماء في بحثنا : أسماء الأعلام ودلالالتها التاريخية في التوراة، في أعمال ندوة التاريخ واللسانيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط ـ 1992، ص 44-66.
(5) معنى " السبط " في العبرية القبيلة، ولذلك لا يمكن أن يطلق لفظ السبط على يوسف أو بنيمين مثلا، فهم أبناء فقط، أما اسم السبط فلم يطلق عليهم إلا بعد أزمان، أي بعد أن صاروا قبائل.
(6) جاءت تفاصيل كل هذا في أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية.
(7) Histoire des Religions, Encyclopédie de la Pléiade ed. Gallimard, Paris, 1970, t.1, p. 376. Emran (Adolphe), LصEgypte des Pharaons, (Traduction de Henry Wild) Payot, Paris, 1952, p. 224.
(8) Freud (Sigmund), Moïse et le Monothéisme, (Traduit de lصallemand par Anne Berman), Gallimard, Paris, 1948, Première partie et ss.(1/90)
ترجم كتاب فرويد الى اللغة العربية على الأقل مرتين، إذ ترجمه عبد المنعم الحفني، الدار المصرية، ط. 2 1978 (عن الترجمة الإنجليزية) وترجمه جورج طرابيشي، دار الطليعة، ط. 3 1979 (عن الترجمة الفرنسية). وفضلنا نحن أن نعتمد الترجمة الفرنسية لأنها نقلت مباشرة عن الألمانية (اللغة الأصل). وتجدر الإشارة الى أن فرويد في كتابه هذا إنما يحلل تحليلاً نفسياً يعتمد كثيرا من التصورات، لذلك فأسلوب الكتاب هو أسلوب حوار بين فرويد ونفسه يعرض فيه مقاصده ويناقشها. ولا يقف عند اليهودية، وإنما يتعدى ذلك الى الإسلام، وفي هذا القسم يظهر عدم توازن فرويد في دراسته. وكيفما كان الحال ففرويد يوضح خلال الكتاب أن ما يقوم به هو فرضيات تسعى إلى الاستفادة من التاريخ والوثائق القديمة لملء الفراغ الذي تركه نص التوراة. انظر في فرضيات تأثير حَمِا موسى "يِتَرُون" (أب زوجته) في عبادة بني إسرائيل.
H.Ringgren, La religion d'Israël, Payot, Paris, 1966, p. 42.
(9) ورد في المدونة العبرية الاسم من الجذر "م ش هـ" ومعناه انتَشَل وأَنْقَذَ، واسم المفعول القياسي المعروف في اللغة العبرية هو "نِمْشَه" (المُنْتَشَل) لا "مُشِه" فهذه صيغة اسم الفاعل (المُنْتَشِل)، والأَوْلَى أن تطلق على ابنة فرعون لا على موسى لأنها هي المنقِذة والمنتَشِلة.
(10). Werner-Keller, La Bible arrachée aux sables, p. 98.
(11) H. Ringgren, p. 43.
((1/91)
12) اضطربت آراء الباحثين في كل ما يتعلق بحياة وتواريخ أحداث موسى، كما ذهبوا مذاهب في الفراعنة الذين عاصروه والذين سخروا بني إسرائيل. فمنهم من اعتبر سيتي الأول (1312 ـ 1398 ق.م) هو فرعون السخرة، خصوصاً وأنه بنى أبراجاً على الحدود الشرقية لحماية الدلتا من الغزو، وأن ابنه رمسيس الثاني (1301-1234) هو فرعون الخروج. وهذا ما ذهب إليه Bloch Raymond et Alain مؤلفا Les Conquêtes de lصArchéologie, ed. Hachette, Paris, 1968 وأرخ محررو التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، لأحداث موسى كالآتي : مولده 1526 ق.م، الخروج 1446. وبنوا رأيهم هذا على ما جاء في سفر الملوك الأول، الذي ذكر بأن سليمان شرع في بناء الهيكل سنة 480 ق.م بعد الخروج، ومعظم العلماء يجمعون على أن سليمان بدأ بناء الهيكل سنة 966 ق.م، وعليه فالخروج حدث 1446 ق. م. ويظهر أن محرري التفسير التطبيقي لا يتفقون كل الاتفاق مع هذا الرأي، لأنهم أثاروا أيضا فرضية الخروج سنة 1290 ق.م. (التفسير التطبيقي ص. 227) ويشير Pirenne في كتابه :
La Société hébraïque d'après la Bible, éd. Albin Michel, Paris, 1965.
إلى معظم الفرضيات المتعلقة بفرعون الخروج، فقد تساءل ألا يمكن أن يكون مرنبتاح هو هذا الفرعون، خصوصاً وأن له نصباً يذكر فيه انتصاره على إسرائيل ؟ أو يكون هو أمنوفس الثاني (1447ـ1420) ؟ ويتبنى هو الفرضيات التي تقول بظهور موسى أيام رمسيس الثاني والخروج أيام مرنبتاح الذي التقى بني إسرائيل في الصحراء. (p. 34, 3).
(13) Erman (Adolphe), LصEgypte des Pharaons, (Traduction de Henry Wild), Payot, Paris 1952, p. 224.
(14) تاريخ بني إسرائيل...ج.1، ص. 47 ـ48.
Histoire des Religions, op. cit - T.1 (15 ,المرجع السابق، ص p. 378-48.
(16) Erman (Adolphe), op. cit, pp. 201-202.
((1/92)
17) تصطدم الفرضية القائلة بأن فرعون الخروج هو رمسيس الثاني ـ بحقيقة تاريخية مفادها أن الخروج وقع سنة 1290ق.م ورمسيس الثاني لم يمت إلا سنة 1235ق.م، ومعنى هذا أن رمسيس لم يغرق وهو في أعقاب بني إسرائيل. لم يهتم الباحثون بهذه الجزئية الدقيقة، ربما لأنهم لا يأخذون غرق رمسيس ومعجزة انشقاق البحر في الحسبان Bloch (Raymond et Alain) op. cit, p. 204. Werner-Keller, La Bible arrachée aux sables, les Presses de la Cité, Paris, 1962, p. 97. ونعتقد أن المسألة قد تفسر بأمور ثلاث : إما أن يكون تاريخ فرعون إجمالا ًغير معروف بالتدقيق، ورأينا اختلافات في هذا الأمر. وإما أن الخروج وقع في زمن طويل تتابعت فيه أمواج الهجرات، وأن هؤلاء المهاجرين كانوا يتجهون إلى معسكر موسى في الصحراء الذي كان يكون جيشاً منظماً، ومن الأكيد أنه كان على أفضل الطرق المصرية، فبلغ الفرعون خبر هذا الاستعداد العسكري، فتوجه لإخماده وعندها غرق. وإما أن نظام السنوات إذ ذاك كان يختلف بعض الاختلاف، خصوصاً وأن الشهور القمرية تترك كسورا في كل دورة سنوية.
(18) Histoire des Religions, op. cit. T1, p. 397.
(19) Ibid, T1, p. 377.
(20) لفظ صوت في العبرية هو " قول" ولهذا اللفظ معاني متعددة، منها صوت وضجة ورعد، ولهذا اختلفت الترجمات فيه اختلافاً كبيراً، غير أن هذا لا يعني في أي معنى، لغة واضحة جلية النطق والمنطوق.
(21) شخوص العهد العتيق ص. 293.
(22) وانظر أيضا سفر الملوك الثواني 18 : 26. وسفر إشعياء 36 : 11 و13. وسفر نحميا 14 : 24.
(23) Le P.P. Dhorme, O.P., Langues et écritures Sémitiques. Librairie Orientaliste, Paul Geuthner, Paris, 1930, pp. 24-25 et note 1 (25), et Avi-Yonah (Michael), La vraie histoire de la Bible, pp. 7-8.
((1/93)
24) انظر هامش 73، وانظر نقش سلوان ونقش ميشع، وترجمتهما إلى العربية لدى إسرائيل ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت، 1980، ص 82-83 وص106 -110.
(25) Naville (Edouard), LصEvolution de la langue egyptienne et les langues sémitiques, Paris, 1920, pp. 159-160.
(26) ج. برجسطرسر، نحو اللسان العبري، ط. سفريم أورشليم،1972، ص 16-17 (بالعبرية).
(27) شرح أخبار التلمود، الآية : "وقال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وأقم هنا حتى أعطيك لَوْحَيْ الحجارة والشريعة والوصايا التي تثبتها لتعليمهم"، فقالوا إن المقصود بِلَوْحَي الحجارة، الوصايا العشر، وبالشريعة التوراة (الأخماس)، وبالوصايا الأنبياء والمكتوبات، أي القسم الثاني والثالث من العهد العتيق (عن شخوص التوراة ص. 295).
((1/94)
28) ظهرت أحدث طبعة عربية للعهد العتيق سنة 1997، وعلى الرغم من أن أصحابها أرخوا للنص وللأحداث، فإنهم، فيما يخص تاريخ الأسفار، لم يدرجوا إلا ما كان معروفاً قديماً قبل الكشوف الأثرية ودراسة الكتاب المقدس النقدية. وهذا ما جاء فيها في هذا الباب، فقد نسبت الأسفار وأرخت لها كالآتي : التوراة (الأخماس) : موسى 1450-1410 ق.م. التثنية : موسى ويشوع 1407-1406. سفر يشوع : بنحاس 1407-1406. القضاة : شموئل، تَرْجِيحا ـ 1385 ]. راعوت : شموئل، ويؤرخ لأحداث 1375-1050. شموئل 1 : شموئل وغيره ـ 1060]. شموئل ثاني : مجهول 930 ق.م. الملوك 1 إرمياء، تَرْجِيحا 1010 ـ ] الملوك 2 : إرمياء 930 ـ ] أخبار الأيام 1 : عزره أحداث 1000-960 ] أخبار 2 : عزره، حوالي 430. عزره : عزره ترجيحا، حوالي 450. نحميا : نحميا وعزره 445-432. إستير : مردخاي، ترجيحا، 483-471. أيوب : أيوب، سرد أحداث 2000-1800. مزامير : داود وغيره ما بين 1440-586 ق.م (أحداث). الأمثال : سليمان، بداية ملكه. الجامعة : سليمان، حوالي 935. نشيد الأناشيد : سليمان حوالي فترة حكمه. إشعياء : إشعياء حوالي 700. إرمياء ـ 627 ] حزقيال : حوالي 571. دانيال : دانيال حوالي 535. هوشوع : هوشوع، حوالي 715. يوئيل : يوئيل 835-796. عموس : عموس حوالي 760-750. عوبديا : عوبديا 841-803. يونان : يونان 785-760. ميخا : ميخا، 742-687. نحوم : نحوم، حوالي 663-654. حبقوق : حبقوق، حوالي 612-589. صفنيا : صفنيا، 640- 621. حجي : حجي، 520. زكرياء : زكرياء 520-518. ملاخي : ملاخي، 430.
وانظر في اختلاف الأسفار بين النص العبري والترجمة السبعينية : La Bible, (la Pléiade), op. cit. T. 1. pp. xv-xvi
(29) سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي] دار الطليعة بيروت، 1994، ص. 283.
((1/95)
30) يعني لفظ "الماسورة" التقليد أو التواتر الذي نقلت بواسطته قواعد قراءة التوراة وكتابتها ونطقها خلال الزمان. انظر :
Mireille Hadas-Lebel, Histoire de la langue hébraïque, Publications Orientalistes de France, Paris, 1977, pp.59-61. P. Paul Jo on S.J. Grammaire de l'hébreu biblique, Institut biblique pontifical, Rome, 1923, pp. 18-46.
(31) نحو اللغة العبرية ص. 80-96.
(32) وقع في نص العهد العتيق كثير من الأخطاء وذلك لأسباب عدة منها : 1. أن النساخ عندما كانوا ينسخون، كانوا يفعلون ذلك لأنفسهم، وكانوا هم الأقدر على قراءة كتابتهم، فلما تناول من جاء بعدهم هذه النصوص التي نسخوها، لم يتوصل إلى قراءة كثير من العبارات والألفاظ قراءة سليمة. 2. أن ندرة مواد الكتابة وغلاءها دعت النساخ إلى ملء كل فراغ متناً وحاشية، وكان أصحابها قادرين على تمييز ذلك، غير أن من جاء بعدهم لم يتوصل إلى ذلك السر، فدمج البعض في البعض. 3. كان بعض النساخ يعلقون على النص داخل المتن دون الإشارة إلى ذلك، فعندما جاء مَنْ بعدهم اعتبر التعاليق أصولاً. 4. كان بعض النساخ يغير ما لا يروقه لسبب من الأسباب. 5. كان بعض الفراغ في النص الأصلي فملأ ذلك الفراغَ الكتبةُ كما اتفق لهم. (Del Medico, p. 12).
(33) عزت زكي، الأحجار تتكلم، ط. دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية، القاهرة (د. ت) ص. 126-131.
(34) نشرت المدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية هذا النص سنة 1950. وكان طول الرق الأصلي حوالي 7 م، وهو مدون بالخط العبري القديم (الكنعاني)، ويرجح أنه منسوخ في القرن الثاني ق.م عن نسخة أصلية ؟].
((1/96)
35) Avi-Yonah (Michael) la vraie histoire de la Bible, ed. Mouton, 1962, p. 52 وAlbright (William Foxwell) Lصarchéologie de la Palestine, Traduit de lصanglais par R. Alapetit, Les éditions du Cerf, Paris, 1955, p. 241. وهنا حديث مفصل عن الكتابات التوراتية وغيرها من المكتشفات الحديثة. للمزيد من المعلومات انظر :
H.E Del Medico, Deux manuscrits hébreux de la Mer morte, Librairie Orientaliste Paul Geuthner. Paris, 1951.
Vincent (Albert), Les manuscrits hébreux du Désert de Juda, Librairie Arthèm Fayard, 1955.
Burrows (Millar), Les manuscrits de la Mer morte, Bibliothèque des grandes énigmes. Paris, 1977.
(36) Kittel (Rud), éd. Biblia Hebraica, Textum masoreticum curarvit P. Kahle. Wurttembergische Biblanstalt Stuttgart, 1973.
(37) انظر مقدمة القراءات الكبرى : خمس أخماس التوراة، الربي بنينيم، ط. سفريم، أورشليم، 1974، ويوجد نص أنكلوس ونص يونتان بجانب المتن العبري (خمسة أجزاء) (بالعبرية والآرامية).
(38) انظر المقالات الخاصة بكل ترجمة في :
Encyclopedia Universalis - France...CD 1995.
(39) ابن النديم، الفهرست، تحقيق يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996، ص. 35 وما بعدها.
(40) يقصد مجيب ابن النديم التلمود الذي سنتحدث عنه، والغريب أنه ذكره بعد التوراة مباشرة أي بعد القسم الأول، فهل الترتيب لابن النديم ؟ انظر ص. 36 من الفهرست.
(41) لم ينتبه المحقق الى الكلمات التي تركها ابن النديم في لفظها العبري ولم يفسرها. فعبارة "ملخي ملوك"، تعني أن مجيب ابن النديم يشرح اللفظ العبري "مَلخي"أي ملوك. والملاحظ أن المحقق لم يُعرّب كذلك "سُفْتِي" شفطي ] وهو سفر القضاة. القوسان من وضعنا لشرح الألفاظ الواردة في أصلها العبري أو الواردة محرفة.
((1/97)
42) نشيد الأناشيد بالعبرية "شِير هَشِّيرِيم" ولم يكلف المحقق نفسه عناء البحث عن اسم السفر ص 37.
(43) ابن النديم، الفهرست، ص 37. والمقصود بكتاب "حشوارش" سفر إستير.
(44) لخصنا هذه الفقرة، وفيها كثير من التحريف، من ذلك "الصورة" ولعلها " الصيغة " أو من لفظ Forma اللاتينية. كتاب "محتوى" ولا معنى لها هنا، ولعلها قراءة سيئة للفظ عبري هو "نفيئيم" أي أنبياء. كتاب "الأسباط " اللفظ مقروء قراءة محرفة والمقصود به "شفطيم" أي قضاة، لأنه لا علاقة لهذا السفر بالأسباط. أما عبارة "قضية داود "فلم نتوصل الى حقيقتها. سير سيريم (نشيد الأناشيد)، "هوسع" بن سيرين هوشع بن سيراخ]. ولانظن أن ابن الند يم هو الذي وقع في هذه الأخطاء ، فلعلها للنساخ، وكان على المحقق أن يقوم بما يعنيه لفظ تحقيق.
(45) سنرجع إلى ابن حزم وكتابه "الفصل في الأهواء والملل والنحل" فيما بعد.
(46) نأمل أن نخصص بحثاً للمصادر التي اعتمدها ابن حزم وللنسخ التي كانت بين يديه، وقد بدأنا هذ العمل في محاضراتنا الخاصة بوحدة "المناظرات الدينية" بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية آداب الرباط.
(47) ابن النديم، الفهرست، ص 464-463.
(48) لم تنشر الأعمال الكاملة المتعلقة بالتوراة. وقد بدأ إنجاز العمل :
J. et H. Derembourg, Oeuvres complètes de Saadia Ben Iosef Al-Fayyoumi, Paris, 1893.
وكان المشروع يتضمن اثني عشر جزءاً لم تظهر منه إلا الأجزاء 'I,III,V,VI,IX J. Derembourg et Lambert الأمثال وأيوب إلى الفرنسية. Paris, V, 1889. Paris, VI, 1894.
ونشر قافح النص العربي مع ترجمة عبرية لنشيد الأناشيد، القدس 1962، والمزامير، القدس 1966 وأيوب، القدس 1973 والأمثال 1976.(1/98)
لـ U.R.A. 1078, C.N.R.S ووضعت وحدة البحث التابعة التي كان يشرف عليها حييم الزعفراني، في إطار بحوثه : اليهودية في أرض الإسلام (الأدب المكتوب والشفوي ولغات اليهود في أرض الإسلام)، مشروعا لنشر أعمال سعديه التوراتية، وقد صدر أول جزء بإخراج الزعفراني وكاكو، تضمن كتابي الزهد وسفر الجامعة. وقد شاركنا في هذا العمل.
H. Zafrani, A. Caquot, La version arabe de la Bible de Saadiya Gaon. L'Ecclésiaste et son commentaire زle livre de l'Ascèseس, Maisonneuve et Larose, Paris, 1989.
(49) La Bible, Ancien Testament, Traduction Edouard Dhorm et autres. Bibliothèque la Pléiade. Tome I. 1956. Tome II. 1959.
(50) La Bible, Ancien Testament, (A.T) T. I-II, 1975, (N.T), 1972. Traduction دcuménique, (Le Livre de Poche), 1997.
(51) انظر هامش 100.
(52) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، التعريف والجمع التصويري والمونتاج والأعمال الفنية شركة Master Media القاهرة (Printed in Great Britain, 1997) عدد صفحات العهد القديم والجديد والشروح والفهارس 3038 صفحة.
(53) شخوص العهد العتيق ص. 291.
(54) طبع التلمود مئات الطبعات في أكثر من عشرين جزءاً ضخاماً، منها الطبعات الشعبية والطبعات الخاصة، وفيه طبعات صدرت في البلاد المسيحية فيما بعد، ولم تتضمن كثيراً من الفقرات الأصلية.
(55) كان كثير من شراح التوراة اليهود الذين كتبوا بالعربية، سواء في المشرق أو الغرب الإسلامي يسمون التوراة "القرآن"، وكان ذلك خصوصا عند العلماء القرائين.
((1/99)
56) سمى ابن ميمون شرحه هذا "اليد القوية" لأنه يتكون من 14 فصلاً، فالياء في العبرية تساوي 10 والدال تساوي 4 فهو 14، وهي المقابلة للفظ يد في العبرية وكذا في العربية. و"مشنه تورة" هو الكتاب الوحيد الذي حرره أصلاً بالعبرية. وطبع شرح ابن ميمون مراراً، ونال شهرة في عالم اليهود لأنه جمع بين نظر الفيلسوف واجتهاد الفقيه، واشتهر بشهرة صاحبه.
(57) بروخ سبينوزا (1632-1677) فيلسوف هولندي مشهور، استفاد من ثقافته اليهودية ومعارفه الفلسفية ليضع أسس النقد الحديث للتوراة.
(58) الرد على ابن النغريلة اليهودي، تحقيق إحسان عباس، مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1960.
(59) الفصل في الملل والأهواء والنحل، للإمام أبي محمد بن أحمد المعروف بابن حزم الظاهري، تحقيق محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت (د.ت) (5 أجزاء) الجزء المدروس هو الأول.
(60) انظر أطروحتنا : ابن رشد وأثره في الفكر العبري الوسيط. المطبعة الوطنية، مراكش 1999م.
(61) أشار د.حسن حنفي في مقدمة ترجمته لكتاب رسالة في اللاهوت والسياسة، ص 27 حاشية 1، إلى عمل ابن حزم، غير أنه لم يربطه بهذه السلسلة التي أشرنا إليها.
(62) اعتبر رسم التوراة مقدساً، لذلك حرم التغيير فيه ولو كان مخالفاً للقياس اللغوي، مثلاً قد يكون المسمى مذكراً فيعود عليه الضمير رسماً بـ "هي". والمفروض أن يكون "هو"، فهنا تطبق القاعدة المشهورة "المقروء" و"المكتوب" المشار إليها سابقاً.
(63) سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، الفصل 8 و9.
((1/100)
64) يرى إسرائيل ولفنسون أن أغلب أسفار العهد القديم دونت في عصر القضاة وعصر الملوك إلى السبي البابلي (586 ق.م)، وكملت في عصر المكابيين (140-36 ق.م)، ففي هذا العهد كتب سفر أيوب، وتحت حكم اليونانيين حرر سفر الجامعة (حوالي القرن الثالث ق.م). وفي عصر المكابيين ظهرت الشعبة اليهودية المعروفة بـ "الفروشيم"، وهم أول من أطلق اسم حبر على كل متعلم من اليهود، وهم الذين جمعوا صحف العهد القديم. تاريخ اللغات السامية، ص 88-97.
(65) Simon Richard (1638-1722 من أعمال (
- Histoire critique du texte de Vieux Testament, 1678.
- Histoire critique du texte de Nouveau Testament, 1689.
- Histoire critique des Versions de Nouveau Testament, 1690.
(66) A. H. Amack.
- Histoire des dogmes (1886-1889).
- Histoire de l'ancienne littérature chrétienne jusqu'à Eusèbe (1906-1916).
- Etudes sur le Nouveau Testament (1906-1916).
A. Loisy (1857-1940). Revue de l'Enseignement Biblique.
Histoire du Canon de l'Ancien Testament 1890.
Histoire du Canon du Nouveau Testament 1891.
Histoire critique du texte et des versions de l'Ancien Testament 1892.
L'Evangil et l'Eglise (1902) Traductions critiques des livres Saints.
(67) Conjectures sur les Mémoires originaux dont il parait que Moyse est servi pour composer le livre de la Genèse avec des Remarques qui appuient ou qui éclaircissent ces conjectures.
جاء في الكتاب أنه طبع في :
Bruxelles, chez Fricx, Imprimeur de sa Majesté, vis-à-vis l'Eglise de la Madeleine, MDCCLIII, in 12!, 525 pages.
(68) A. Lods, زJean Astruc et la critique Biblique au XVIIIs , Cahiers de la Revue dصHistoire de Philologie religieuse, ns 11. Strasbourg et Paris, 1924. R. de Vaux, op. cit., p. 42.
((1/101)
69) R. De Vaux, p. 43انظر .
(70) J.G. Eichhorn, Introduction à lصAncien Testament (Einleitung in das Alte testament) 410.
(71) H. Hupfelt, Die Qullen der Genesis und die Art ihrer Zusammensetz ung, Berlin, (1853.
(72) E. Riehm, Die Gesetzebung. Mosis im Lande Moab. Gotha, 1854.
(73) R. de Vaux, pp. 14-15.
(74) R. De Vaux انظر مؤلفات وأعمال لاگرانج وترجمة له في كتاب
Bible et Orient, Les éditions du cerf, 1967, pp. 9-22.
(75) "الأخماس" على اعتبار من عد سفر التثنية هو نهاية التوراة، مع أن السفر يستمر بعد موت موسى. وهناك من عد سفر يهوشوع هو نهاية التوراة، باعتباره خاتمة لمضمون التوراة، خصوصاً وأن جزءا منه يدخل في سفر التثنية.
R. De Vaux, op. cit., p. 54. (76(
(77) Chaine Joseph, René Grousset : "Littérature religieuse انظر تفصيل هذه المصادر وكيفية تداخلها لدى المصادر "اليهوية" ص. 22 هامش 1. المصدر "الإلوهي" ص 42 هامش. مصدر التثنية ص 54. المصدر الكهنوتي ص 66 حاشية.
(78) المرجع السابق، ص 22، هامش 1.
(79) E. Chiéra, Les tablettes babiloniennes, ce quصon écrivait sur lصargile, Payot, Paris, 1939, p. 116.
(80) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(81) - H. E. Del Medico, La Bible cananéenne
(82) Les inscriptions cunueiformes de Ras Chamra, Syria, X, 1929, pp. 304-310
(83) Entzifferung der Keilschrifttaeln von Ras Schamra, Halle/Saale, 1930
(84) - Le déchiffrement des tablettes de Ras Shamra, Journal of the Palestine Oriental Society, 1931 ; Recueil Edouard Dhorme, Paris, 1951, pp. 531-536
(85) - H. E. Del Medico, La Bible cananéenne
((1/102)
86) - Ugaritic Handbook, Rome, 1947 ; Ugaritic Literature, Rome, 1949, pp. 3-103 ; Ugaritic Manual, Rome, 1955 ; Ugaritic Textbook, Rome, 1965 ; Ugaritic and Minoon Crete, New York, 1966, pp. 40-143
(87) - Le déchiffrement des écritures, Paris, 1959 et Sui
(88) - The Linguistic Posion of Ugaritic, Light of Recent Discoveries, Sacra Pagina, 1959, pp. 267-279
(89) - Worterbuch der Ugaritischen Sprache, Berlin, 1963
(90) - Le Palais royal dصUgarit II, Paris, 1957, V Paris, 1965
(91) - Quelques aspects des relations lexicales entre l'hébreu et l'ugaritique, Problèmes et méthodes ', Paper of the Fourth Congress of Jewish Studies, vol. I, 1967, pp. 109-112
(92) ظهرت الكثير من الدراسات المتعلقة باللغة والنصوص الأوغاريتية منذ اكتشاف رأس شمرة، فاقت 1300 عنوان، بل ظهرت دورية قارة تعنى بالبحوث في الأوغاريتية هي Ugarit-Forschungen. انظر مقدمة Textes ougaritiques وهو مصدر سنتعرض له فيما بعد.
(93) - R. Dassaud, Les découvertes de Ras Shamra et lصAncien Testament, 1973, 2ème éd. Paris, 1941
(94) - La Bible cananéenne, p. 16
(95) - Textes ougaritiques, Mythes et Légendes, ed. Cerf, Paris, 1974
(96) انظر إحالاتهم على نص التوراة التي وضعوها في الفهرس، المرجع السابق، ص 609-605.
(97) - Ras Shamra Parallels, Rome, 1972, 537 pages
(98) - Littérature religieuse, op. cit, p. 55, n!1
المراجع
1. مراجع أجنبية
- La Bible, Ancien Testament, Traduction édouard Dhorm et autres. Bibliothèque la Pléiade.Tome I. 1956. Tome II, 1959.
- La Bible, Ancien Testament, (A.T) T. I-II, 1975, (N.T), 1972, Traduction oecuménique, (Le Livre de Poche).(1/103)
- La Sainte Bible,version établie par les Moines de Maredsous, Brepols. Paris - Turnhout (1968).
- Albright (William Foxwell), L'archéologie de la Palestine, (Traduit de l'anglais par R. Alapetit), Les éditions du cerf, 1955.
- Avi-Yonah (Michael), La vraie histoire de la Bible, éd. Mouton, 1962.
- Bloch (Raymond et Alain), Les Conquêtes de l'archéologie , éd. Hachette, 1968.
- Botté (Luce), Encyclopédie de la Bible, éd. Sequoia-Elsevier, Paris-Bruxelles, 1961-1967.
- Bottéro (Jean), "Le problème des Habiruس éd.à l'Imprimerie nationale, rencontre assyriologique internationale, MDCCCCLIV, Paris.
- Burrows (Millar), Les manuscrits de la Mer morte, Bibliothèque des grandes énigmes. Paris, 1970.
- Caquot (André), Maurice Szyncer, André Herdner, Textes ouagaritiques, Tome I.Mythes et légendes, (Introduction, Traduction, Commentaire), Les éditions du cerf, 1974.
- Cazelles (Henry), Hébreu, Ubru, Hapiru, (Extrait de la Revue Syria XXXV c.3-4 (Librairie Orientaliste, Paul Geuthner, Paris, 1958.
- Chaine Joseph, René Grousset, Littérature religieuse, Librairie Armand Colin.Paris, 1949.
- G.L Della Vida, Les Sémites et leur rôle dans l'histoire religieuse, Librairie Orientaliste, Paul Geuthner.Paris, 1938.
- Le P.P. Dhorme , O.P., Langues et écritures sémitiques, Librairie Orientaliste Paul Geuthner, 1930.
- H.E Del Medico, La Bible cananéenne (Découverte dans les textes de Ras-Shamra) Payot. Paris, 1950.
- H.E Del Medico, Deux manuscrits hébreux de la Mer morte, Librairie Orientaliste Paul Geuthner. Paris, 1951.
- R.De Vaux, Bible et Orient, Les éditions du cerf, 1967.(1/104)
- Dussaud (René), "Nouveaux textes égyptiens d'exécration contre les peuples syriensس (extrait de la revue Syria,1940, fasc. 2) (1940) la Librairie Orientaliste Paul Geuthner, 1940.
- Erman (Adolphe), L'Egypte des Pharaons, (Traduction de Henry Wild), Payot, Paris, 1952.
- Fleg (édmond), Anthologie juive des origines à nos jours, Flammarion Paris, 1951.
- Freud (Sigmund), Moïse et le Monothéisme, (Traduit de l'allemand par Anne Berman), Gallimard, 1948.
- Mireille Hadas-Lebel, Histoire de la Langue hébraïque, Publications Orientalistes de France, 1977.
- Charles-F. Jean, La littérature des babyloniens et des assyriens, Librairie Orientaliste, Paul Geuthner, 1924.
- P. Paul Jo on S. J, Grammaire de l'hébreu biblique, Institut biblique pontifical, Rome, 1923.
- Werner-Keller, La Bible arrachée aux sables, Les presses de la Cité, Paris, 1962.
- Kittel (Rud), Biblia Hebraica, Textum masoreticum curarvit P.Kahle, Wurttembergische Biblanstalt Stuttgart, 1937.
- Adolphe Lods, Israël des origines au milieu du VIIIe siècle, éd. Albin Michel, 1949.
- Adolphe Lods, Les Prophètes d'Israël et les débuts du Judaïsme, éd. Albin Michel, 1950.
- J. Mathieu-Rosay, Dictionnaire éthymologique, les nouvelles éditions marabout, Belgique, 1985.
- S. Moscati, Histoire et Civilisation des peuples sémitiques, Payot. Paris, 1955.
- Naville (édouard), L'Evolution de la Langue egyptienne et les Langues sémitiques, Paris, 1920.(1/105)
- P. Pevimeux, Essai sur les procédés littéraires dont il parait que Moïse s'est servi pour composer le livre de la Genèse. Fascicule I (les onzes premiers chapitres ou les neuf premiers poèmes), Librairie Orientaliste Paul Geuthner, 1922.
- Pirenne (Jacques), La Société hébraïque d'après la Bible, éd.Albin Michel .Paris, 1965.
- Puech (Henri-Charles) (Sous la direction...), Histoire des Religions, Encyclopedie de la Pléiade éd.Gallimard, 1970.
- Renan (Ernest), Histoire du peuple d'Israël, Calman Lévy. Paris (Tome I et tome II) Ancienne maison Lévy Fréres, 1889.
- H.Ringgren, La religion d'Israël, Payot, Paris, 1966.
- Sollberger (édmond), Kupper (Jean-Robert), Inscriptions royales Sumeriennes et Akkadiennes, Les éditions du cerf, 1971.
- Touati (Charles), La pensée philosophique et théologique de Gersonide, les éditions de minuit, 1973.
- C. Toussaint, Les origines de la religion d'Israël (1 ancien Jahvisme), Librairie Orientaliste Paul Geuthner, 1931.
- Touzard J., Grammaire hébraïque abrégée Précédée de premiers éléments, Librairie Lecoffre, Paris, 1905.
- Touzard J., Grammaire hébraïque abrégée, Librairie Lecoffre, Paris, 1969.
- Maurice (Vernes), Les emprunts de la Bible hébraïque au grec et au latin, Ernest Leroux, Paris, 1914.
- Vincent (Albert), Les manuscrits hébreux du désert de Juda, Librairie Arthèm Fayard, 1955.
2. مراجع عربية
ـ التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، التعريف والجمع التصويري والمونتاج والأعمال الفنية شركة Master Media، القاهرة، 1997 Printed in Great Britain، عدد صفحات العهد القديم والجديد والشروح والفهارس 3038 صفحة.(1/106)
ـ الكتاب المقدس، العهد العتيق، بعناية أغناطيوس زيادة مطران بيروت، مكتبة دار المشرق، بيروت 1986.
ـ ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق محمد إبراهيم مصر وعبد الرحمن عميرة ] دار الجيل ـ بيروت لبنان ـ (د.ن). ج.1.
ـ أحمد شحلان، "أسماء الأعلام ودلالالتها التاريخية في التوراة"، أعمال ندوة التاريخ واللسانيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط ـ 1992.
ـ عزت زكي، (مترجم)، الأحجار تتكلم، علم الآثار يؤيد الكتاب المقدس لجون إلدر، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة (د.ت).
ـ ابن النديم، الفهرست تحقيق د. يوسف علي طويل ] دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، 1996.
ـ إسرائيل ولفنسون، (أبو ذؤيب)، تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت، لبنان، 1980.
الباب الثاني : لغة المسيح عيسى ابن مريم، ورسالته/ د. عبد العزيز شهبر
الفصل الأول
معالم حول البلاغ الأصلي وتوثيقه
اللغة الشائعة في فلسطين زمن المسيح ، عليه الصلاة والسلام
إن تلقي الخطاب من الله سبحانه وتعالى هو أمر يجري في مرتبة تسمو على المجرى العادي للأمور، والله سبحانه وتعالى يخاطب رسله عن طريق الوحي، ومنهم من كلَّمه الله دون وساطة مَلَكٍ، ولكن من وراء حجاب. وإذا سلَّمنا بأن الخطاب السماوي ينزل لهداية الناس، فيلزم عملاً أن يصلهم ذلك الخطاب على لسان الرسل بلغة يفهمونها(1).
ولما كان عيسى، عليه السلام، رسولاً مرسلاً من قبل الله، كان من اللازم أن يبلغ الناس الرسالة، وأن يكون بيانه بلغة هؤلاء الناس.
فما عساها تكون لغة عيسى، عليه السلام ؟ هل تحدث المسيح عيسى ابن مريم بالآرامية ؟ هل كان يتقن الإغريقية ؟ هل كان ملماً باللاتينية ؟
لقد ردد كثير من الباحثين المسيحيين هذه التساؤلات، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين الذي شهد تطوراً ملموساً في علم الآثار التوراتية.(1/107)
وكان الغرض من إثارة تلك الأسئلة تحديد مدى تأثير عيسى، عليه السلام، في الساكنة الفلسطينية، والبحث في نسبة الأناجيل المدونة إليه. إذ كيف يمكن أن نتصور الإنجيل بصيغته الإغريقية إذا كان عيسى، عليه السلام، ألقى بشارته بالآرامية ؟ وكيف نتصور إغريقية الإنجيل ونحن نعلم أن المسيح، عليه السلام، ما جاء لينقض الناموس، بل ليتممه، أي إنه بعث في سياق أنبياء بني إسرائيل، وفي سياق "العهد القديم" ! وكيف نتصور كل ذلك حين نقرأ في كتب التاريخ أن فلسطين كانت في زمان عيسى، عليه السلام، خاضعة للحكم الروماني، مع ما يقتضيه ذلك الخضوع لزمن طويل من أن تصير اللغة اللاتينية هي لغة الغالبية من الناس.
يجمع الباحثون على أن فلسطين زمن بعثة عيسى، عليه السلام، كانت بمثابة لوحة فسيفسائية، كَوَّن سكانها خليطاً من كل أمة ولسان، وكانوا يتكلمون بدرجات متفاوتة، العبرانية، والآرامية بلهجاتها، والإغريقية واللاتينية. ولكن الاختلاف يقوم بين هؤلاء الباحثين حين يسعون إلى تلمس الحدود الجغرافية لكل واحدة من تلك اللغات، وحين يريدون حصر الخصائص المميزة لتلك اللغات وتحديد نسبة تأثر بعضها ببعض.
إن فرضية بلاغ عيسى، عليه السلام، بالإغريقية دافع عنها فوسيوس Vossius هنريش باولوس Heinrich Paulus وهوغ Hug في القرن التاسع عشر، وقد عرض آراء هؤلاء دييز ماتشو Diez Macho في بحثه عن اللغة التي تحدث بها عيسى المسيح. ولقد عزز موقف هؤلاء ما ثبت من خضوع فلسطين في تلك الآونة للتأثير الهليني.
ولكن الجدال انبعث حين أعلن أرجيل W. argyle أن عيسى، عليه السلام، كان يتحدث الإغريقية، وأن مستمعيه لم يكونوا يفهمون إلا الآرامية(2).(1/108)
وإذا كان بعض الباحثين أمثالRussel J.K & R. Drapper قد تقبلوا هذا الزعم، فإن آخرين أمثال Mel Wilson عارضوه بشدة(3)، ولكنهم متفقون جميعاً على قوة تأثير الهلينية في فلسطين زمن بعثة المسيح، عليه السلام. ومرد هذا الاتفاق أن عدداً كبيراً من المكتوبات والنقوش التي عثر عليها هناك كتبت بالإغريقية، كما أن نتفاً من وثائق البحر الميت كتبت بتلك اللغة. ويدخل ضمن هذا التأثير الهليني ما يمكن ملاحظته من تأثيرات إغريقية في الأدب الربي، ومن شيوع ترجمات إغريقية للتوارة في القرن الثاني الميلادي.
وأبرزت دراسات ليبرمان . وسونتز . وميليك . . وغودناف . وغوندراي وسفنستر J. وسبيربير مظاهر متنوعة من التأثير الإغريقي في فلسطين في تلك المرحلة، وساعدت على تحديد مدى انتشار اللغة والثقافة الهلينية في فلسطين.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن اليهودية قاومت الهلينية في بعض المناطق، وأن الحواضر كانت أكثر هلينية من البوادي، ثم تغير الأمر بعد القومة اليهودية الثانية (135 ميلادية) حين تعاظم تيار الهلينية والرومانية(4).
أما اللاتينية، فقد ذكرنا أنها كانت لغة الغالب المحتل، وكانت لغة الإدارة هي الرومانية(5) التي تركت بصماتها في بعض المكتوبات وإهداءات المباني والمحلات العمومية، وبعض البرديات التي تم العثور عليها في البحر الميت. وبرز تأثير اللاتينية في اللغة العبرانية في مواضع ذات دلالة هامة.
أما الآرامية، فلا أحد يشك في انتشارها في الجهة السورية ـ الفلسطينية، ابتداء من النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد، واستمر انتشارها في المنطقة كـ Lingua Franca في القرن السابع الميلادي.(1/109)
لقد استبدل سكان فلسطين آنذاك العبرانية بالآرامية في الفترة من 721 إلى 500 قبل الميلاد، كما شاع بين الدارسين أن عيسى، عليه السلام، كان يعرف الآرامية، وأن تلاميذه ومعاصريه كانوا يتحدثونها ويكتبونها، وأن المسيحية انتشرت في فلسطين وسوريا وكل منطقة ميزوبوتاميا اعتماداً على هذه اللغة السامية.
ويرى A. Meyer أن لغة عيسى كانت الآرامية، وأن جانباً كبيراً من الكتابات كتبت في الأصل بهذه اللغة، ثم ترجمت بعد ذلك(6).
ونجد من بين الباحثين من يؤكد شيوع اللغة الآرامية بين الطبقات الشعبية زمن عيسى، وأن هذه اللغة هي التي تحدث بها المسيح وغيره من الرسل(7). ويؤكد باحثون آخرون على أن الآرامية حلت محل العبرانية منذ بداية المرحلة الهلينية(8).
ويرى آخرون أن الآرامية انقسمت إلى لهجات متعددة انحصرت في آرامية وسيطة وآرامية متأخرة. ويدرج G.Y Kutsher ضمن لهجات الآرامية الوسيطة بعض المكتوبات التي عثر عليها في منطقة القدس، وبعض وثائق البحر الميت، أما الآرامية المتأخرة فقد انقسمت إلى الآرامية السامرية والآرامية الفلسطينية المسيحية.
وتكتسي آرامية الجليل مكانة خاصة بين لهجات الآرامية المتأخرة، فبها كتبت الأقسام الآرامية من التلمود الفلسطيني، وإليها ترجمت التوراة، وبها كتبت بعض كتب المدراس. وعلى العموم فالآرامية الفلسطينية وفقاً لهذا الاتجاه هي أقرب اللغات التي يعتقد أن تكون بشارة المسيح عيسى ابن مريم قد كتبت بها ابتداء. وقد كانت تلك اللغة شائعة شيوعاً واسعاً يفوق انتشار الإغريقية.
ويرى آخرون أمثال H. Birkeland أن الفئات الشعبية في فلسطين كانت تتحدث زمن عيسى بالعبرانية، وعبرانيتها لم تكن بالضرورة عبرانية ربية، بل كانت لهجة شعبية تطورت انطلاقاً من العبرانية التوراتية. ولقي هذا الرأي انتقاداً شديداً من قبل كثير من الدارسين(9).(1/110)
أما العبرانية الرِّبِّيَّةُ فقد انتشرت كلغة أدبية في القرنين الأول والثاني الميلاديين، وقد بدأ تطور هذه اللغة، في إطار بانوراما اللغات المتحدث بها في فلسطين، بعد النفي وفي بدايات العصر المسيحي.
والخلاصة أن اللغات الثلاث، العبرانية والآرامية والإغريقية، تحدثت بها شرائح واسعة من الساكنة الفلسطينية، واختلفت حدود انتشارها وتقاطعت فيما بينها، وقد انتشرت اللاتينية إلى جانب تلك اللغات الثلاث. أما لغة الإدارة في فلسطين فكانت الرومانية.
وقد رجعنا إلى كتب "العهد الجديد" باحثين عن لغة عيسى وتلاميذه، فكان ما يلي :
جاء في إنجيل يوحنا :
>أما مريم، فوقفت عند القبر تبكي، وانحنت إلى القبر وهي تبكي، فرأت ملاكين في ثياب بيضاء جالسين حيث كان جسد يسوع، أحدهما عند الرأس والآخر عند القدمين. فقال لها الملاكان، لماذا تبكين يا امرأة ؟ قالت لهما : إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فرأت يسوع واقفاً، وما عرفت أنه يسوع، فقال لها يسوع : لماذا تبكين يا امرأة، ومن تطلبين ؟ فظنت أنه البستاني، فقالت له : يا سيد إن كنت أنت قد حملته، فقل لي أين وضعته وأنا آخذه. فقال لها يسوع : يا مريم. فعرفته وقالت له (بالعبرية) "ربوني" أي يا معلم...<(10).
ونقرأ في إنجيل مرقس، في قصة عيسى، عليه السلام، مع ابنة يايروس رئيس المجمع :
> فأخذ بيدها وقال لها : طليثا قومي، أي يا صبية أقول لك قومي، فقامت في الحال وأخذت تمشي<(11).
ونقرأ في إنجيل يوحنا :
>وعلق بيلاطس على الصليب لوحة كُتِبَ فيها : "يسوع الناصري ملك اليهود". فقرأ هذا العنوان كثير من اليهود، وكان مكتوباً بالعبرية واللاتينية واليونانية، فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس : لا تكتب ملك اليهود، بل اكتب : إن ذاك قال : أنا ملك اليهود. فأجاب بيلاطس : ما كتبته قد كتبته<(12).
وفي إنجيل لوقا :
>وكان فوق رأسه لوحة مكتوب فيها : "هذا ملك اليهود"<(13).(1/111)
وفي إنجيل مرقس :
>وألبسوه أرجواناً، وضفروا إكليلاً من الشوك ووضعوه على رأسه...كتبوا في عنوان الحكم عليه : "ملك اليهود"<(14).
وفي إنجيل لوقا :
>وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية : هذا هو ملك اليهود<(15).
ونقرأ في إنجيل متى :
>ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم، وقال : إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني، فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا : إنه ينادي إيليا<(16).
ونقرأ في أعمال الرسل، من الإصحاح الثاني :
>ولما حضر يوم الخميس كان الجميع معاً بنفس واحدة. وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كُلَّ البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. وكان يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم. فلما صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد منهم كان يسمعهم يتكلمون بلغته. فبهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض : أترى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين، فكيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التي ولد فيها ! فرتيون وماديون وعيلاميون والساكنون ما بين النهرين واليهودية وكبدوكية وبنتس وآسيا وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية التي نحو القيروان والرومانيون المستوطنون، يهود ودخلاء كريتيون، وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله. فتحير الجميع وارتابوا قائلين بعضهم لبعض : ما عسى أن يكون هذا !<(17).
ونقرأ كذلك في أعمال الرسل عن طلب بولس من قائد القلعة بأورشليم مخاطبة الشعب، وسؤال القائد له إن كان يعرف اليونانية، وجواب بولس بأنه يهودي من طرسوس. وحديثه إلى الشعب بالعبرية، حسب النص العربي لأعمال الرسل، وبالآرامية، حسب الترجمات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية(18).(1/112)
ونقرأ أن شاول كان يخاطب اليهود المتكلمين باللغة اليونانية ويجادلهم : >وكان يخاطب ويباحث اليونانيين فحاولوا أن يقتلوه<(19).
هذه جملة من نصوص العهد الجديد وردت فيها إشارات إلى لغات ساكنة فلسطين زمن البعثة، وبعدها. ونحن حين نقرأ سيرة عيسى في الأناجيل الأربعة، نجده يخاطب فئات مختلفة من الناس، فقد خاطب عامة الناس من مختلف المدائن والبوادي، وخاطب أعضاء المجلس الأعلى ومعلمي الشريعة والقائمين على تسيير الهيكل وإدارة الشؤون الدينية اليهودية. كما خاطب الحاكم الروماني لفلسطين، وكانت لغة هذا الحاكم اللاتينية، وهو الذي كتب، حسب إنجيل يوحنا، عبارة "هذا ملك اليهود" باللاتينية واليونانية والعبرية على أعلى الصليب.
وقد خاطب أيضاً المرأة الكنعانية التي توسلت إليه أن يشفي ابنتها. وتوجه بالآرامية إلى ابنة رئيس المجمع قائلا : "طليثا قومي" أي يا صبية قومي، والطليثة الصبية الضعيفة(20).
كما خاطب الناس بالأمثال(21) مع ما يقتضيه هذا الفن من الحديث من دقة العبارة، وإلمام واسع باللغة لدى كل من المنشئ والمتلقي.
وحسب الرؤية الإنجيلية، توجه عيسى إلى ربه وهو على الصليب بالآرامية : >إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني<(22). كما خاطبته مريم المجدلية بالعبرانية.
هذه المعطيات جميعها تبين أن أغلب حديث عيسى كان باللغة الآرامية، وهي اللغة الشعبية التي كانت شائعة أكثر من غيرها. ثم يتلوه حديثه باللغة العبرانية، لغة العهد القديم، سيما وأنه هو القائل : "ما جئت لأنقض الناموس، بل لأكمله"(23). وقد جاءت الأناجيل الأربعة حافلة بإشاراته إلى كلام الأنبياء وبخاصة إشعياء وأرمياء.
كما يبدو أنه كان مثقفاً باللاتينية والإغريقية، وذلك من الشائع في عصره، وتدل على ذلك قصة ترجمة عبارة "هذا ملك اليهود" التي حرص بيلاطس على أن تكون بالعبرية (أو الآرامية، حسب بعض الترجمات).(1/113)
أما قصة تعليم الروح القدس اللغات للرسل والتلاميذ ليكلموا الناس، كلاًّ بلغته الخاصة، فهي من قبيل الأسطورة. وإذا ما سلمنا جدلاً بصحتها، فسنفهم منها أن الناس، إذا كانوا حريصين على تدوين ما يسمعون من الرسل، فإن بشارة عيسى (إنجيل عيسى الأصلي) تكون قد دُوِّنت في سبعة عشر لساناً.
حقاً لقد خضعت المنطقة التي شهدت بعثه المسيح عيسى، عليه السلام، لتأثير هلينيٍ واضحٍ، أرسى قواعده هيرودس. ولكن عيسى أرسل إلى قوم محددين، قال : "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"(24).
وبالتالي فرسالته كانت بلسان قومه، وكذلك كان كلامه في المهد أيضاً بلغة قومه، لأن المقصود من ذلك الحدث إشهاد القوم معجزة، فلابد وأن يكون قد تكلم بلغة يفهمونها.
زمن البعثة
شاء الله تعالى أن يبعث عيسى، عليه السلام، رسولاً إلى بني إسرائيل، مبشراً ونذيراً، فقد كان بنو إسرائيل منقسمين آنذاك إلى طرائق قدداً، وأحدثوا في الشريعة وبدلوا كلام الله عن مواضعه، واستغل أحبارهم علوم الدين فاستثمروها لملء خزائنهم.
كانت بعثته، عليه السلام، في أرض فلسطين المباركة التي كانت في ذلك الحين مسرحاً تجاذبته تأثيرات الإمبراطوريات العظيمة. وكان من نتائج ذلك أن فقدت فلسطين استقلالها السياسي، فخضعت للمصريين في المائة الثانية قبل الميلاد، ثم استسلمت للحكم الروماني، حينما وطئت سنابك خيل "بومبي الروماني" القدس سنة 63 قبل الميلاد.
وتحت مظلة الحكم الروماني قامت دويلة يهودية، خضعت إدارياً للحاكم الروماني المقيم في قيصرية على البحر الأبيض المتوسط، بينما بقي ملكها مسيِّراً للشؤون الدينية فيها(25)، حتى إنه لما طلب القيصر وضع تمثاله داخل الهيكل والنسر على بابه، قام ملك اليهود بتهدئة الشعب الذي هاله هذا التدخل الروماني في أمر الديانة(26).(1/114)
وتصف المصادر شخص هيرودس الأكبر، ملك هذه المملكة اليهودية زمن ميلاد عيسى، عليه السلام، أنه كان شديد الولع بالثقافة الهلينية، وأنه كان رجلاً محارباً لا يقدر أحد على مبارزته، وقد كبر في عين الإمبراطور أغسطس فأخذ يمده بالأقاليم إقليماً إقليماً. وكان أن عَظُمَ شأن هيرودس، فبنى مملكته على نموذج روماني وثقافة يونانية ونمط عيش هليني. وقد جعل من الهيكل المؤسسة الدينية الكبرى في مملكته، وأحاط بمجلسه الكهنة ورجال الدين من اليهود. ولكن افتتانه بالنموذج الأجنبي وتفضيله إياه على ثقافة اليهود، التي لم يعد لها مكان إلا في البوادي وفي قلوب الضعفاء، أثار عليه الأحقاد فكثرت محاولات اغتياله وكثرت الدسائس في قصره.
وبعد وفاته تنازع أبناؤه فيما بينهم، فجمعهم الإمبراطور الروماني وقَسَّمَ عليهم المملكة حسب وصية أبيهم، فكان أن : أخذ "انتباس" الجبل حيث الناصرة وطبرية وأزدريلا، وأخذ كذلك الأرض الواقعة وراء ظهر الأردن. وأخذ "فيليب" إقليم بنتانيا. وكانت لأرخيلاوس منطقة اليهودية، حيث القدس وبيت لحم وغزة وقيصرية ويافا، كما كانت له منطقة إيدومية.
واشتد الصراع بين مجتمعات هذه الأقاليم الثلاثة الواقعة تحت حكم أبناء هيرودس، وتباينت درجة ولائها للدين اليهودي، كما تباينت درجات هلينيتها وخضوعها للحاكم الروماني. ويبدو أن إقليم أرخيلاوس كان أهم هذه الأقاليم بالنسبة للرومان، فظلوا يوجهون الأمور الإدارية فيه انطلاقاً من مدينة قيصرية. إن وجود الهيكل الذي أنفق الملك هيردوس على إنشائه وتزيينه الكنوز التي لا تحصى، جعل من هذا الإقليم مركزاً تجارياً تهوي إليه أموال بني إسرائيل من كل حدب وصوب، وهو أمر له دلالته بالنسبة لروما.
وظل الهيكل تحت إشراف مجلس أعلى مكون من واحد وسبعين عضواً يمثلون السلطة الدينية لليهود، ولكن سلطتهم لم تكن هي العليا، فالأحكام الصادرة عن المجلس كانت لا تنفذ إلا بالتصديق عليها من الإدارة الرومانية.(1/115)
وتباينت سلطة الفرق اليهودية(27)، فكان الصدوقيون منهم ينكرون العمل بالتلمود، وينكرون البعث واليوم الآخر، ويعتقدون أن الجزاء والعقاب دنيويان.
قال متى في إنجيله :
>وفي ذلك اليوم جاء إلى يسوع بعض الصدوقيين، وهم الذين ينكرون القيامة< وبعد أن سألوه سؤالاً، قال لهم : >أنتم في ضلال لأنكم لا تعرفون الكتب ولا قدرة الله<(28).
ونقرأ في أعمال الرسل، أن الصدوقيين >لايؤمنون بقيامة الأموات ولا بوجود الملائكة والأرواح<(29).
ولم تكن هذه الفرقة تهتم بأمور الديانة أكثر من اهتمامها بمركزها المؤثر داخل المجتمع اليهودي.
أما الفريسيون أو المنشقون، فهم، حسب فلافيوس يوسيفوس : شيعة من اليهود رأوا أنهم أكثر تمسكاً بالشريعة من غيرهم من أبناء ملتهم، وأنهم أكثرقدرة على تفسير شريعتهم. آمنوا بالتلمود، واعتقدوا في عصمة الكهنة، وآمنوا بالبعث، ولم يِؤمنوا بتقديم القرابين إلى المعابد، ورفضوا الإيمان بالأنبياء المتأخرين، وكانت للمسيح عيسى ابن مريم معهم أكثر من جولة. نقرأ في إنجيل مرقس :
>وأقبل إليه بعض الفريسيين، وأخذوا يجادلونه طالبين آية من السماء ليجربوه، فتنهد من أعماق قلبه وقال : "ما لهذا الجيل يطلب آية ! الحق أقول لكم : لن يعطى هذا الجيل آية. ثم تركهم ورجع في القارب إلى الشاطىء المقابل"<(30).
وكانت فرقة الفريسيين من أكثر الفرق اليهودية احتكاكا بالشعب، فكانوا يُعَلِّمُونَهُ ويعظونه، ونالوا مكانة رفيعة في أوساط الطبقة المتوسطة اليهودية. وبعد تخريب الهيكل من قِبَلِ تيتوس سنة سبعين ميلادية، اضطلع الفريسيون بمهمة تعليم الشعب في المنافي وبقوا ينتظرون المسيح.
أما فرقة الحسيديين، فقد انحسر دورها في زمن بعثة عيسى، عليه السلام، وقد كانوا يُحَرِّمُونَ القرابين، ويحرصون على الطهارة، ويعملون بالزراعة، ويحرمون الرق.(1/116)
أما فرقة الأسينيين التي اهتم بها المؤرخون القدماء، أمثال بلين وصولينو ويوسيفوس، فقد تمسكوا بالتوراة المكتوبة والتوراة الشفهية (التلمود) وحققوا نوعا من شيوعية الأملاك، ومالوا إلى حياة الزهد.
وإلى الصدوقيين والفريسيين توجه يوحنا المعمدان قائلاً :
>يا أولاد الأفاعي، من عَلَّمَكُمْ أن تهربوا من الغضب الآتي. أَثْمِرُوا ثمراً يبرهن على توبتكم، ولا تقولوا لأنفسكم إن أبانا هو إبراهيم. أقول لكم : إن الله قادر أن يجعل من هذه الحجارة أبناءً لإبراهيم، ها هي الفأس على أصول الشجر، فكل شجرة لا تعطي ثمراً جيداً تقطع وترمى في النار<(31).
ومن هنا نقول إن زمن بعثة رسول الله عيسى ابن مريم إلى قومه، بني إسرائيل، كان زمناً استدعى رسالة وبياناً وإرشاداً، فكان أن أنزل الله عليه الإنجيل، بعد أن أشهدهم من قبل معجزة ميلاده من غير أب.
لقد عاش المسيح عيسى، عليه السلام، في أرض فلسطين في زمن خضعت فيه هذه الأرض المباركة للحكم الروماني. ورغم التغيير الذي أحدثته بعثته، عليه السلام، في الخريطة الدينية للشرق الأوسط في ذلك العصر، فإن تفاصيل حياته قليلة الورود في المصادر المعاصرة له، باستثناء حدث ميلاده المعجز وفترة صدوعه بالرسالة. ولم تهتم المصادر المسيحية بمرحلة شبابه، اللهم تلك الإشارة الخاطفة إلى أنه كان يعمل نَجَّاراً في الناصرة(32).
وعلى كثرة ما أُلِّفَ حول عيسى، عليه السلام، فإن كثيراً من حلقات سيرته بقيت مفقودة. لقد انصرفت أغلب سير حياته إلى الاهتمام بالقضايا العقدية الكنسية، سواء بتأكيدها أو بنفيها، أكثر من الاهتمام بشخصه، عليه السلام(33).
وينبغي الإشارة هنا إلى أن جانباً مما أُلِّفَ قد شكك في كل شيء، حتى في بعثة المسيح نفسه، عليه السلام(34).
مصادر سيرة المسيح ، عليه الصلاة والسلام
وتنقسم المصادر التي تطرقت إلى حياة عيسى ابن مريم، عليه السلام، إلى قسمين اثنين :
القسم الأول : المصادر المسيحية :(1/117)
وبصفة خاصة الأناجيل المتوافقة : متى، ولوقا، ومرقس. فقد عرضت هذه المصادر لحياة المسيح عيسى ابن مريم زمن البشارة، مع إشارة إلى ميلاده المعجز. وأغفلت إغفالاً يكاد يكون تاماً حياته في مصر، وعودته من أرض مصر بعد وفاة هيرودس، وحتى تبليغ الرسالة. وما عرض في هذه الأناجيل المتوافقة خضع للتطويع ليلائم اعتقادات الكنيسة الأولى والمجامع المتتالية التي خطت النهج العقدي للمسيحية، ومطت الروايات تبعاً لتطور اعتقاد المسيحيين في عيسى، عليه السلام.
القسم الثاني : المصادر غير المسيحية :
وهي تنقسم بدورها إلى قسمين :
أ) مصادر رومانية غير مسيحية : أشارت تلك المصادر إلى عيسى، عليه السلام، كشخصية من الشخصيات المؤثرة في عصرها، وكطرف في الأحداث التي عرفتها فلسطين تحت حكم الإمبراطور الروماني تيبيريوس وولاية بيلاطس. وعمدت هذه المصادر إلى التعريف به كلما تحدثت عن " المسيحية " أو عن تصرفات أتباعه، أتباع كريستوس Christus أو Chrestos. يقول بلين الأصغر (عاش حوالي 110م) في الرسالة العاشرة ما معناه :
كان المسيحيون يلتقون في أوقات محددة من كل يوم قبل الفجر، يرددون أناشيد للمسيح كما لو كانت موجهة إلى الله، ويذكرون أنفسهم بالموت...(35).
إن ما كتبه بلين الأصغر هو استشارة لتراخان Trajan عن الأسلوب الذي ينبغي أن تتم به معاملة المسيحيين أتباع المسيح.
أما المؤرخ الروماني تاسيتس Tacitus فقد أشار في حولياته إلى ملاحقات الإمبراطور نيرون للمسيحيين. وهو في نفس السياق يردد أن المسيحيين هم أتباع المسيح الذي تمت معاقبته بشدة من طرف الحاكم بيلاطس في طبرية(36).(1/118)
وهذه المصادر لم تهتم بتفاصيل الديانة التي دعا إليها المسيح عيسى، عليه السلام، ولم تول كبيرعناية للإصلاحات التي رام إحداثها في الشريعة الموسوية، بل اهتمت بذكره كطارئ سياسي جديد، طرح معادلة جديدة في منطقة حيوية بالنسبة للإمبراطورية الرومانية. وحتى في حديثها عنه لم تضعه في مرتبة الثوار الذين دعوا إلى الخروج عن إمرة الإمبراطورية الرومانية والذين شَقُّوا عصا الطاعة ضد القيصر، من أمثال يوغرطة. لقد أكدت هذه المصادر الرومانية على تنامي عدد المسيحيين وانتشارهم في كل مدن الإمبراطورية، بشكل يوحي بأنهم فصيل جديد في المجتمع الروماني.
ويبدو أن أباطرة الرومان وحكام أقاليم إمبراطوريتهم اختلفت مواقفهم من شخص عيسى، عليه السلام، والرسالة التي جاء بها. لقد عكست الأناجيل المتوافقة موقف بيلاطس من عيسى، فقد بدا هذا الحاكم متردداً في إصدار حكم على هذا الشخص الذي ترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ويبدو موقفه المتردد كذلك من جهود زوجته التي حاولت أن تثنيه عن أن يصدر حكماً قاسياً على هذا الرجل المسالم، فما كان منه إلا أن ترك أمره للمجمع اليهودي، واستصدر الحكم من استفتاء شعبي نقلت الأناجيل أخباره، ذلك أن بيلاطس لم يكن قادراً على مواجهة تيار من وسمهم المسيح بخراف بيت إسرائيل الضالة. ولكن هذا الموقف شبه المحايد تجاه شخص المسيح عيسى ابن مريم قد تغير عندما أصبحت المسيحية تياراً يحتضن موقفاً سياسياً، فقد أذكى ذلك نار الملاحقات التي طالت الأفراد والمذاهب المسيحية(37).(1/119)
غير أن ندرة ما كتبه الرومان عن المسيح في عصره يرجع إلى أن الحاكم الروماني، الذي كان يقيم في القيصرية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، كان يدير منطقتي اليهودية والسامرة، بينما كان تحرك عيسى، عليه السلام، في الفترة الأولى من الدعوة في منطقة الجليل. كما أن مرامي دعوته لم تتضح للرومان إلا عندما دخل القدس وواجه القائمين على الشريعة اليهودية من سدنة الهيكل. وحينما بدا احتمال أن تجذب دعوته ساكنة فلسطين في شكل معارضة سياسية ضد الرومان والحاكم اليهودي الموالي لهم، فعندئذ اهتم الرومان بأخباره.
ب) مصادر يهودية : قُدِّمَ المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، في المصادر اليهودية بصور مختلفة، فهو في قسم منها لقيط "ممزير" ابن زنا، وأن الخوارق التي تحققت على يديه ليست معجزات، بل هي مما تَعلَّمَهُ من السحر في أرض مصر، وأن إدانته كانت شعبية، وأن الإنجيل ليس إلا وثيقة كذب وخداع، وأن أمه مريم كانت مُصَفِّفَةَ ضفائر النساء، وأنه ليس المسيح الذي ينتظرونه، لأن المسيح المنتظر علامته معلومة لديهم، حيث ستطرح الأرض فطيراً وقمحاً حَبُّهُ بقدر كُلَى الثيران، وتخدمه كل الشعوب، وينقضي حكم الخارجين عن دين بني إسرائيل.
وفي التلمود البابلي ــ في باب السنهدرين 43 ــ نقرأ أن يشوع كان يزاول السحر وأنه انحرف بشعب إسرائيل. وفي كتاب الأضرار ــ سدر نزقين ــ الذي ضم القوانين الجنائية اليهودية، نقف على موقف اليهود من عيسى، فقد أمعن هذا السفر في الحط من شخصه، عليه السلام.(1/120)
أما المؤرخ اليهودي ذو النزعة الهلينية والولاء الروماني "فلافيوس يوسيفوس" فقد تحدث عن عيسى ابن مريم في إشارات سريعة، بدا فيها تأثره بالموقف الروماني من عيسى، ولم يبد تأثراً بموقف اليهود، أهل دينه. ولعل ذلك ما دفع الدارسين إلى الاعتقاد بأن ما جاء في كتاب "الحروب اليهودية" هو من إنشاء كاتب مسيحي جاء من بعد يوسيفوس. ولكننا نرى في ذلك أمراً آخر، فيوسيفوس وإن كان يبدو مشايعاً للرومان، إلا أنه كان يحن إلى زمن ما قبل تعظيم الهيكل، فقد رجا أن يكون عيسى حقاً هو المسيح المخلص للشعب، يقول :
>وكان في هذا الوقت رجل صالح يدعى عيسى، وهو رجل صالح إذا حق أن نسميه كذلك، كان يأتي بأعمال عجيبة ويتلقى الحقيقة باغتباط، واجتمع حوله كثير من اليهود وكثير من الأمميين. لقد كان هو المسيح<(38).
وترسم الأناجيل مسيرة حياة المسيح عيسى ابن مريم، كما يلي :
1. ميلاد عيسى في بيت لحم.
2. رحيل يوسف النجار ومريم به إلى مصر، خوفاً من بطش هيرودوس.
3. الرجوع إلى فلسطين بعد وفاة هيرودوس، والاستقرار في الناصرة خوفاً من بطش أرخيلاوس.
4. انطلاق البعثة وظهور عيسى المعلم. وكان عمره ثلاثين سنة، حسب لوقا.
نقرأ في إنجيل متى :
>وكان يسوع في أنحاء الجليل يُعَلِّمُ في المجامع ويعلن إنجيل الملكوت، ويشفي الناس من كل مرض وداء<.
5. عيسى يتعمد على يد يوحنا المعمدان.
6. عيسى يدعو في الجليل وكفر ناحوم.
7. خبر عيسى ينتشر في كل بلاد فلسطين :
تبعته جموع كبيرة من الجليل والمدن العشر وأورشليم واليهودية وعبر الأردن.
8. عيسى يعلن موقفه من الشريعة : فقد جاء متمِّماً للناموس، جاء ليرشد خراف بيت إسرائيل الضالة.
9. عيسى يجمع حوارييه.
10. عيسى يأمر رسله أن يبشروا في كل المدن باقتراب ملكوت الرب.
11. الدعوة في الجليل ـ الناصرة ـ وكفرناحوم، ونابين ـ بيت صيدا ـ وفي المدن والقرى، وأريحا والقدس.
12. تفاصيل المعجزات وحوار الفرق اليهودية ورؤساء المجمع.(1/121)
13. المحاكمة.
هذه محطات بارزة من حياة عيسى، عليه السلام، ودعوته. أما عن مواقفه من ظروف عصره، فقد كانت هي مواقف كل نبي. لقد كان عليه أن يبلغ الرسالة ضمن منهج مرسوم ومنضبط :
>وفي ذلك اليوم دنا بعض الفريسيين من يسوع وقالوا له : انصرف من هنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك، فقال لهم : اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب : ها أنا أطرد الشياطين وأشفي المرضى اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أتمم كل شيء، ولكني يجب أن أسير في طريقي اليوم وغداً وبعد غد، لأنه لا ينبغي أن يهلك نبي في خارج أورشليم. أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك مثلما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فما أردتم، وها هو بيتكم يترك لكم خراباً، لا تَرَوْنِي حتى يجىء يوم تهتفون فيه : تبارك الآتي باسم الرب<(39).
ونقرأ حين دخوله الهيكل :
>ودخل يسوع الهيكل وطرد جميع الذين يبيعون ويشترون فيه، فقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، وقال لهم : مكتوب أن يدعى بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص<(40).
ونقرأ قوله ـ في جوابه للهيرودوسيين الذين سألوه بإيعاز من الفريسيين : هل يحل دفع الجزية للقيصر أم لا :
>لماذا تجربونني يا مراؤون ؟ أروني نقد الجزية. فناولوه ديناراً.
فقال لهم : لمن هذه الصورة والكتابة ؟
قالوا : للقيصر.
فقال لهم : أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للَّهِ للَّهِ<(41).
الفصل الثاني
ما بأيدي الإنسانية المعاصرة من وثائق تحدد معالم الرسالة حول تدوين الأناجيل
نقرأ في إنجيل مرقس :
>وبعد اعتقال يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يعلن بشارة الله، فيقول : تم الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل<(42).
ونقرأ في رومة، الإصحاح الأول :(1/122)
>وأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، فهو قدرة الله لخلاص كل من آمن، لليهودي أولاً ثم لليوناني، لأن فيه معلن بِرُّ الله بإيمان لإيمان، كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا<(43).
يقول ابن حزم، في كتابه الفصل في الأهواء والملل والنحل :
>ولسنا نحتاج إلى تكليف برهان في أن تلك الأناجيل وسائر كتب النصارى ليست من عند الله عز وجل، ولا من عند المسيح، عليه السلام. وأما النصارى فقد كفونا هذه المؤونة كلها، لأنهم لا يدعون أن تلك الأناجيل منزلة من عند الله على المسيح، ولا أن المسيح أتاهم بها. بل كلهم، أولهم وآخرهم، أريوسيهم وملكيهم ونسطوريهم ويعقوبيهم ومارونيهم وبولقانيهم، لا يختلفون من أنها أربعة تواريخ، أَلَّفَهَا أربعة رجال معروفين في أزمان مختلفة<(44).
والمصادر الغربية تؤكد غياب الأصول الأولى التي كتبت بأيدي هؤلاء الرجال الأربعة : يوحنا ولوقا ومتى ومرقس، وأن ما هو منسوب إليهم من أناجيل ليس من تحريرهم، ولا تستند تلك الأناجيل إلى محررات أصلية(45).
وقبل تفصيل الحديث في الأناجيل الأربعة، نذكر أن جميعها وعلى مَرِّ تاريخها خضعت لخمسة أشكال من النقد :
1. النقد التاريخي : حلَّلَ فيه الباحثون أحداث هذه الأناجيل وقارنوها. وقد أسفر ذلك عن أن معاني النصوص الإنجيلية تعكس عقلية مؤلفيها وتصوراتهم، في حدود درايتهم التي كانت محدودة، في علم التاريخ.
2. النقد الفيلولوجي : وقد اتخذ طريقاً خاصاً في تفهم لغة مؤلفي الأناجيل، ومقارنتها بالمعطيات التي قدمها فقه اللغات السائدة، زمن تأليف تلك الأناجيل.(1/123)
كما ركز هذا النقد على التساؤل عن لغة عيسى، ومدى قدرة اللغة الإغريقية على ترجمة الكلام الآرامي، خاصة وأن أغلب الأبحاث المقدمة في هذا المجال تقطع بأن عيسى كان يتحدث الآرامية، وفَهِمَ اللاتينية في عصر هليني سادت فيه اللغة والثقافة الإغريقيتان. ومَكَّنَ هذا النوع من النقد من مقارنة لغة نصوص الأناجيل بلغات واضعيها في الأزمنة البعيدة، خاصة وأنه في إطار نفس اللغة كانت معاني بعض الألفاظ تتغير من إقليم إلى آخر.
3. النقد العقلاني : وقد أسفر عن بيان ما لا يمكن للتأويل أن يجعله موافقاً للعقل. والتمس هذا النوع من النقد معطيات من التاريخ، وتاريخ اللغة الإغريقية والآرامية، والتراث الثقافي للشرق القديم وللعالمين الإغريقي واللاتيني.
4. النقد المعياري : استعان هذا الضرب من النقد بمعطيات خارجية، من أجل إثبات توافق أو عدم توافق النصوص الإنجيلية مع القناعات اللاهوتية والأخلاقية التي تبنتها الفرق المسيحية.
5. نقد علماء المسلمين : إذا كانت أنواع النقد التوراتي المذكورة تنطلق من النص الإنجيلي بهدف تَعَقُّلِهِ، أو إثبات المعطيات التي جاء بها، أو تبرير مضمونه إن استدعى الأمر ذلك، فإن نصوص الإنجيل حظيت باهتمام خاص من علماء المسلمين، أمثال الجاحظ، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن حزم، والأنصاري، وأفوقاي الحاجري، وغيرهم.
لقد نظر هؤلاء العلماء إلى الأناجيل في سياق نظرتهم إلى أن الدين عند الله الإسلام، منذ آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فعرفوا الأفكار الكنسية التي تبلورت بعد عيسى، عليه السلام، وأدرجها الكُتَّابُ في أناجيلهم، وتَعَقَّلُوا النصوص الإنجيلية في سياق الإنجيل الأصلي المنزل على عيسى، عليه السلام، ونظروا إلى الأناجيل الأربعة على أنها محرفة، ووقفوا على مواطن التحريف فيها وناقشوا سندها. وقاموا بمناقشة الاعتقادات التي بنيت عليها تلك الأناجيل، من التثليث وألوهية عيسى، وبنوته لله تعالى... إلخ.(1/124)
لقد وضع علماء الإسلام العديد من التصانيف في باب مجادلة النصارى، وبيان ما في كتبهم من الأوهام. وتعددت مناهجهم في دراسة المسيحية، فمن واقف على جمل الأناجيل لإيضاح تناقضها، ومن ناقد لسندها، إلى جامع بين كل ذلك، ومن أشهر هذه الكتب ما يلي : :
الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل للإمام الغزالي(46). أجوبة الحيارى في الرد على اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية(47). الفصل في الأهواء والملل والنحل لابن حزم. الرسالة المختارة في الرد على النصارى، لأبي عثمان الجاحظ(48). جواب أبي الوليد الباجي على رسالة راهب فرنسا إلى المسلمين(49). ديشبوته كونترا خودييوش، أي كريستيانوش، لعبد الله الكاتب(50).
وليس هناك أي دليل على توفر إنجيل كامل وأصيل، أي مُدَوَّن بالأخذ المباشر عن لسان المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام.
لقد صرح كل كُتَّاب الأناجيل بأن أناجيلهم هي سِيَرٌ لعيسى، عليه السلام، عرضت بشارته، فهي روايات لأخبار حول هذا الرسول الذي أرسله رب العالمين إلى بني إسرائيل ليبين لهم الدين، ولم يدَّعُوا أن تلك الأناجيل تحمل الرسالة السماوية نصاً كاملاً كما بلَّغها عيسى، عليه السلام.
ونقرأ في الرسالة الثانية إلى تيموثاوس :
>فأنت منذ طفولتك عرفت الكتب المقدسة القادرة على أن تزودك بالحكمة التي تهدي إلى الخلاص، في الإيمان بالمسيح يسوع. فالكتاب كله من وحي الله، يفيد في التعليم والتقويم والتوبيخ والتأديب في البِرِّ، ليكون رجل الله كاملاً مستعداً لكل عمل صالح<(51).(1/125)
جاء هذا في رسالة بولس إلى ابنه تيموثاوس، ويستخلص منها أن الكلام يتعلق بكتب مقدسة، مجموعة عرفها تيموثاوس بن بولس منذ طفولته. وقد يقال إن الكتب المقدسة المذكورة هنا هي كتب العهد القديم، التوراة وكتب الأنبياء السابقين، ولكن ظاهر النص يجعلنا نرجح أن الأمر يتعلق كذلك بالإنجيل، وإنجيل عيسى على الخصوص، ولعل عبارة >فالكتاب كله من وحي الله يفيد في التعليم والتقويم والتوبيخ والتأديب...إلخ< تفيد أن النقاش كان حول الكتاب الذي هو من وحي الله، أي المدونة التي تحمل تسجيلاً مباشراً لما نطق به الرسول من بلاغ، لتمييزه عن الكتب التي ليست من هذا الوحي، أي التي لا تحمل الخطاب منضبطاً كما بَلَّغَهُ الرسول الكريم.
وقد ترجم هذا النص بصيغة أخرى تنحرف بمعناه إلى معنى آخر >كل كتاب من وحي الله يفيد...إلخ< كما في الترجمة الفرنسية التي أصدرتها الجمعية التوراتية الفرنسية سنة 1996 :
Toute éctiture inspirée de Dieu est utile pour enseigner la vérité, refuter l'erreur, corriger les fautes et former à une juste manière de vivre....
وإذا كنا نقرأ في إنجيل يوحنا إشارة يستنتج منها معرفة عيسى، عليه السلام، بالكتابة، فليست هناك أية عبارة تشير إلى أنه قام بتدوين الإنجيل أو أمر تلاميذه بذلك. فقد يكون عيسى، عليه السلام، قد اكتفى بخطاب الناس مشافهة، لما كانت عليه المجتمعات القديمة من اعتماد على الخطاب الشفاهي أكثر من الكتابة، والمعروف أن زمان عيسى كان زمن خطابة وخطباء.
ونقرأ في إنجيل يوحنا :(1/126)
>أما يسوع فخرج إلى جبل الزيتون. وعند الفجر رجع إلى الهيكل فأقبل إليه الشعب كله. فجلس وأخذ يُعَلِّمُهُم. وجاء الكَتَبَة والفريسيون بامرأة، أمسكها بعض الناس وهي تزني، فأوقفوها وسط الحاضرين، وقالوا له : يا مُعَلِّم، أَمْسَكُوا هذه المرأة في الزنى، وموسى أوصى في شريعته برجم أمثالها، فماذا تقول أنت ؟ وكانوا في ذلك يحاولون إحراجه ليتهموه، فانحنى يسوع يكتب بأصبعه في الأرض. فلما ألحوا عليه في السؤال، رفع رأسه وقال لهم : من كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر. ثم انحنى ثانية يكتب<(52).
ونقرأ في إنجيل لوقا : أن عيسى، عليه السلام، حينما التقى بتمليذين من تلاميذه كانا متوجهين إلى قرية عمواس : "شرح لهما ما جاء في جميع الكتب المقدسة، من موسى إلى سائر الأنبياء". و في نفس الإصحاح نقرأ : "ثم فتح أذهانهم ليفهموا الكتب المقدسة، وقال لهم ما جاء فيها"(53).
لقد كان تعليمه لتلاميذه مشافهة، وكذلك تعليم تلاميذه للناس : "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم"(54)، وليس هناك ما يدل على تدوين الإنجيل في عهده، عليه السلام.
وبعد عهود استدعت الظروف ضرورة الكتابة، دوَّن الناس الأناجيل اعتماداً على الموروث الشفاهي وليس اعتماداً على وثائق أصلية محررة. وهذه الأناجيل والكتابات لم تهتم بالإنجيل المنزل على عيسى، عليه السلام، ككتاب مُنَزَّل. وتبدو من قراءة العهد الجديد الإشارة إلى إنجيل عيسى، عليه السلام، على أنه "بشارة" Gospel وليس كتاباً مُنَزَّلاً(55).
إن كلمة إنجيل استعملت للدلالة على الرسالة التي كُلِّفَ بها عيسى، عليه السلام، لا على الكتاب المنزل. نقرأ في مدخل الكتاب المقدس :(1/127)
>وقد وضعت هذه الكلمة أصلاً للدلالة على الرسالة التي كُلِّفَ الآب يسوع تأديتها، وقوام هذه الرسالة أن يُرَسِّخَ المسيح يسوع ملكوت الله بين البشر. فهي إذاً ملازمة ليسوع المسيح، إلى درجة يمكن معها القول : إن يسوع نفسه هو الإنجيل، البُشْرَى السارة التي أُعْلِنَتْ للناس أجمعين<(56).
وهنا تبدو وجاهة الحكم الذي أطلقه ابن حزم منذ شروعه في مناقشة الأناجيل، قال :
>إنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال من المشاهير في أزمان مختلفة. فأولها تاريخ متى اللاواني، تلميذ المسيح، ألَّفَهُ بعد تسع سنين من رفع المسيح، عليه السلام، وكتبه بالعبرانية في بلد يهوذا بالشام، ويُكَوِّنُ ثماناً وعشرين ورقة بخط متوسط.
والآخر تاريخ ألَّفَهُ مرقس الهاروني، تلميذ شمعون بن توما المسمى "باطرة"، بعد اثنين وعشرين عاماً من رفع المسيح، عليه السلام، وكتبه باليونانية في بلد أنطاكية من بلاد الروم. ويقولون إن شمعون المذكور هو الذي ألفه ثم محا اسمه من أوله ونسبه إلى تلميذه مرقس. ويُكَوِّنُ أربعاً وعشرين ورقة بخط متوسط، وشمعون المذكور تلميذ المسيح.
والثالث تاريخ ألَّفَهُ الطبيب الأنطاكي، تلميذ شمعون باطرة، أيضاً كتبه باليونانية في بلد أقاية بعد تأليف مرقس المذكور. ويكون من قدر إنجيل متى.
والرابع تاريخ ألَّفَهُ يوحنا بن سيداي، من تلاميذ المسيح، بعد رفع المسيح ببضع وستين سنة، وكتبه باليونانية في بلد إيشينية. ويكون أربعاً وعشرين ورقة<(57).
إن ابن حزم يتحدث عن تواريخ سميت أناجيل. وفي كلامه وجاهة تأكدت حتى في كتابات بعض الباحثين المسيحيين.
منذ سنة سبعين ميلادية شهد المجتمع توسعاً في الكتابة والتأليف، فوضعت الأناجيل والرسائل وسائر الكتب السبعة والعشرين، وهي كتب العهد الجديد. وتضم هذه الكتب (حسب الرؤية المسيحية) رواية لتعاليم عيسى، عليه السلام، والأحداث التي عاشها. وضمت أعمال الرسل تاريخ المسيحية في فلسطين وخارجها.(1/128)
أما الرسائل، فقد وجهها بولس إلى الجماعات المسيحية خارج فلسطين. على أن أصحاب الأناجيل لم يَدَّعُوا أنهم كتبوا كل ما أتى به عيسى، عليه السلام، أو أنهم دَوَّنُوا كل ما قام به من أعمال، بل إن كتاباتهم، على حد تعبيرهم، هي سير مختصرة(58). نقرأ في إنجيل يوحنا :
>وهناك أمور كثيرة عملها يسوع، لو كتبت واحدة واحدة لضاق العالم كله بالكتب التي تحتويها<(59).
ويفيد هذا الكلام أن هذه الأناجيل ليست مطابقة للرسالة المنزلة على رسول الله عيسى ابن مريم، عليه السلام.
وفي القرن الثاني الميلادي اعتبرت الأناجيل الأربعة أنها :
>إعلان لرسالة المسيح بفم وقلم كل من متَّى ومرقس و لوقا و يوحنا، الذين دونوا كتبهم بوحي من (روح الله) فغدت هذه الكتب بفضل هذا الوحي، كلام الله المكتوب. وهذا الكلام يكشف لنا عن حقيقة يسوع (كلمة) الله الحية<(60).
ومعنى هذا القول أن الله عدَّل في رسالته، فأنقص وأضاف، لينزلها مرة أخرى منقحة على أشخاص آخرين غير عيسى ابن مريم، وذلك لا يجوز على الله الذي يعلم حقيقة رسالته، وكيف ينزلها تامة، وإلى من يوكلها من الرسل. فإذا قيل إن وحياً نزل على متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا، فإن ذلك يعتبر إشارة إلى رسالات جديدة غير الرسالة التي أوحيت إلى المسيح، عليه السلام. وبحثنا هذا يتحرى رسالة السماء الأصلية كما نزلت على المسيح عيسى ابن مريم، وكما بلَّغها هو بلسانه إلى الناس.
ثم إنه إذا حق القول بأن وحياً نزل على هؤلاء، أو حدَّثهم الله بأي طريق كان، فلماذا ينزل الوحي بأربعة أناجيل في زمان واحد، أو أزمنة متقاربة، ويكون بينها اختلافات وفروق ! إن ذلك يستحيل وروده عن الله. وإذا كان موسى وهارون رسولين قد اشتركا من قبل في رسالة واحدة، إلا أنه لم يدَّع أحد أن كلاً منهما نزلت عليه نسخة من الرسالة التي نزلت على الآخر، فالله لا يُرْسِلُ بازدواج لا طائل من ورائه.(1/129)
إن شيئاً من الإنجيل الأصيل ظل يتناقل شفاهةً إلى زمن كتابة ما اصطلح على تسميته بالبشارة، فكان أن تصرف الرواة في النص فأدخلوا عليه ما ليس منه، فحرفت الصياغة وتغيرت المعاني. وجاء زمن الأناجيل الأربعة (إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا) التي وافقت عليها الطوائف المسيحية واعتمدتها، وكانت تلك الأناجيل بمثابة تسجيل للمعرفة التي كانت تتناقل شفهياً بما تحمله من انحرافات عن الأصل.
وإلى جانب تلك الأناجيل كانت أناجيل أخرى قد تم إعدامها لقربها من عقيدة التوحيد، ولنفيها ألوهية عيسى، عليه السلام. وإنجيل برنابا، إن صحت نسبته و لم ينقطع سنده، يدخل في هذا الإطار.
وقد انقسم الباحثون المسيحيون حول التاريخ الذي أُلِّفَتْ فيه الأناجيل الثلاثة المتوافقة، وإنجيل يوحنا.
لقد ذهب البعض إلى أن الأناجيل الثلاثة المتوافقة كتبت قبل سنة 70 ميلادية، وأن إنجيل يوحنا كان آخر ما أُلِّفَ من الأناجيل الأربعة.
ورأى آخرون أن بعض الأناجيل كتب قبل سنة 70 ميلادية، وبعضها كتب فيما بعد، وأن هناك إنجيلين لمتَّى، أحدهما كتب بالآرامية والآخر كتب بالإغريقية، ولكن إنجيله الأول بالآرامية ضاع.
وذهب فريق ثالث إلى أن إنجيل مرقس كتب قبل سنة 70 ميلادية وتلته الأناجيل الأخرى، وأن هناك إنجيلاً واحداً بالإغريقية لمتَّى.
ورأى فريق رابع من الدارسين أن كل الأناجيل كتبت بعد خراب الهيكل.(1/130)
ويرى الدارسون المسيحيون أن كتاب العهد الجديد استقر على الحالة التي هو عليها الآن في سنة 367 ميلادية، حيث حُصِرَتْ المكتوبات التي يشتمل عليها في سبع و عشرين كتاباً. غير أن معطيات أخرى توحي بأن هذا "العهد الجديد" قد آل إلى الاستقرار على الصورة الحالية حوالي سنة 150 ميلادية، فالأناجيل الأربعة كانت قد اعتمدت منذ ذلك التاريخ و لم يحتدم النقاش إلا حول بعض الرسائل، وعلى رأسها رسالة العبرانيين. كما أن رسائل أخرى أشير إليها في العهد الجديد ولم يبد لها أثر. نقرأ في كولوسي :
>سلموا على الإخوة الذين في لاودكية وعلى نمفاس وعلى الكنيسة التي تجتمع في بيتها. وبعد قراءة هذه الرسالة عندكم، أرسلوها إلى كنيسة لاودكية لتقرأها، واطلبوا رسالتي إلى لاودكية لتقرأوها أنتم أيضاً<(61).
كما أن مارسيانو Marciano الغنوصي دعا المسيحيين حوالي سنة 110 ميلادية إلى نبذ العمل بالعهد القديم، وكل ما له صلة باليهود واليهودية في الكتابات المسيحية، فحوكم على ذلك. ثم أقرَّ القسيسون بأن العهد القديم وحي.
وقد حصرت لائحة موراتوري Muratori ـ وهي اللائحة التي تحمل اسم المكتبي الذي اكتشفها بميلانو سنة 1740 ميلادية، في مخطوط من القرن الثامن الميلادي ـ الكتب التي اشتمل عليها كتاب العهد الجديد قبل سنة 180 ميلادية، وهذه اللائحة هي محل نقاش كبير بين الباحثين(62).
وفي مجمع هيبونيا، سنة 393 ميلادية، تم إقرار كتاب العهد الجديد في شكل قريب من صيغته الحالية. وتمت مراجعته مَرَّةً أولى في مجمع قرطاج سنة 397 ميلادية، ثم مَرَّةً ثانية في قرطاج 419 ميلادية.
ويرجع الباحثون المسيحيون تأخر الكنيسة في حصر لائحة أسفار العهد الجديد إلى الملاحقات التي طالتها، فلما أمَّنَهَا الإمبراطور قسطنطين قامت بذلك الحصر.(1/131)
وقد تم تبني لائحة الكتب السبعة والعشرين من قِبَلِ الكنيسة الإغريقية، كما تبنتها الكنيسة اللاتينية في ترجمة "جيروم" اللاتينية للكتاب المقدس Vulgate، واستعملت كنيسة الشمال الإفريقي النسخة اللاتينية ابتداء من نهاية القرن الثاني الميلادي.
ولكن الاختلاف بقي منصباً بين الباحثين حول التاريخ المنضبط الذي أُلِّفَتْ فيه الأناجيل، وحول تحديد الإنجيل الأقدم.
إن جافييه ليون دوفور في معجم العهد الجديد يجعل إنجيل مرقس أقدم الأناجيل، ويقطع بأنه ألف بروما بين سنتي 64 و70 ميلادية، ويرى أن إنجيل متَّى كتب بالإغريقية مباشرة انطلاقاً من روايات فلسطينية، وأن ذلك كان ما بين سنتي 80 و90 ميلادية. أما إنجيل لوقا، فقد أُلِّفَ حسب رأيه فيما بين سنتي 70 و90 ميلادية، بينما كان تأليف إنجيل يوحنا من سنة 90 ميلادية إلى ما بعد نهاية القرن الأول بقليل.
أما جان گـروسجان فيرى في مقدمته للعهد الجديد، طبعةLa pléade ، أن الأناجيل المتوافقة ألفت قبل تخريب تيتوس Titus للهيكل سنة سبعين ميلادية. فإنجيل متَّى أُلِّف أصلاً بالآرامية بين سنتي 50 و60 ميلادية، أما إنجيل متَّى باللغة الإغريقية فقد وُضِعَ قبل سنة 67 ميلادية، وبعده أُلِّفَ الإنجيلان الآخران المتوافقان، إنجيلا مرقس ولوقا.
وأياً ما كان الأمر فإن الخلاف ظاهر حول زمن التدوين، كما أن هناك اتفاقاً على أن هذه الأناجيل ليست إلا سِيَراً لعيسى كتبت بعده. وذلك يوضح أنها وضعت بعد أن اختلط أمر العقيدة التي دعا إليها عيسى، عليه السلام، وأن هذه الأناجيل لا تكشف بشفافية صادقة عن الرسالة المنزلة على رسول الله عيسى ابن مريم، وإن كان في تلك الكتابات شيء من الإنجيل الأصلي الموحى به، فهو ذلك الذي يتوافق مع شريعة التوحيد.
وخلاصة الأبحاث حول أصول الأناجيل أوردتها الموسوعة الفرنسيةEncarta في الحقيقة التالية :(1/132)
>يتكون العهد الجديد من سبع وعشرين وثيقة كتبت في الفترة 150-50 بعد ميلاد المسيح.. وإذا كان هناك ادعاء بأن بعض هذه الوثائق يرتكز على أصول آرامية، إلا أن جميعها ترجمت إلى اليونانية، وهي لغة يتأكد أن بها كتبت الأصول الأولى.. والمخطوطات اليونانية للعهد الجديد تكون حالياً حوالي خمسة آلاف مخطوطة، ليس من بينها واحدة أصلية (كتبت بيد من تنسب إليه). وقطعة من الإنجيل، وفقاً ليوحنا، ترجع إلى الفترة 140-120 بعد ميلاد المسيح، يحتمل أن تكون هي أقدمها<(63). ومن هذا البيان يبدو واضحاً أنه ليس بحوزة الإنسانية أناجيل أصلية يقطع بأنها كتبت بيد (أو بإملاء من) يوحنا أو مرقس أو لوقا أو متَّى(64).
وحسب الإحصائيات التي قام بها الدارسون المسيحيون يتبين أن مجموع كتب العهد الجديد وترجماتها إلى اللغات المختلفة، يزيد عن 24 ألف مخطوط، 5300 منها بالإغريقية و10000 باللاتينية و9300 بلغات أخرى(65).
وتحظى بعض المخطوطات مثل المخطوط الإسكندراني Alexandrinus والمخطوط الفاتيكاني Vaticanus ومخطوط سيناء Sinaitinus بأهمية خاصة لدى الكنيسة والباحثين المسيحيين.
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page2222.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page2224.gif
إنجيل برنابا
إن الواقف على إنجيل برنابا يقرأ في البداية مقدمة تترجم للمؤلف وتعرض لسبب تأليف هذا الإنجيل، وهو أمر ـ باستثناء إنجيل لوقا ـ لا يتردد بنفس الشكل في الأناجيل الأخرى التي أتت مكتفية بعبارة "البشارة كما دونها فلان" أو "الإنجيل حسب فلان".
إن إنجيل برنابا يطرح منذ البداية إشكال الإنجيل الصحيح و الأناجيل المحرفة المنحولة، فنقرأ فيه :
>الإنجيل الصحيح ليسوع المسمى المسيح، نبي مرسل من الله إلى العالم، بحسب رواية برنابا رسوله<.(1/133)
إن هذه العبارة وإن بدت في ظاهرها مألوفة في مقدمات الأناجيل، إلا أنها تنبه إلى نقطة تعارض بين هذا الإنجيل والأناجيل الأخرى، إذ أنه :
ــ إنجيل صحيح في مقابل الأناجيل الأخرى التي شابها التحريف.
ــ إنه منسوب إلى يسوع المسيح، النبي المرسل من الله إلى العالم.
ــ هذا الإنجيل هو بحسب رواية برنابا، أحد أصحاب المسيح عيسى ابن مريم.
لقد أشرنا سابقاً إلى أن المسيحيين يعرفون كلمة "إنجيل" بـ "البشارة السارة"، ويقولون إنها الرسالة التي كُلِّفَ الأب يسوع تأديتها لشعبه. وقيل إن يسوع هو نفسه الإنجيل، البشرى السارة التي أعلنت للناس.
ويقولون أيضاً : إن الكلمة اتسعت في القرن الثاني لتشمل الكتب الأربعة التي تعرض حياة المسيح و موته وقيامته، فهي >إعلان لرسالة المسيح<.
إن هذا الكلام يتسع ليشمل إنجيل برنابا أيضا، فهو إعلان لرسالة المسيح وحياته بحسب رواية برنابا. إنه إذن مؤلف في إطار التصور المسيحي العام لطبيعة "الإنجيل"، ألَّفه صاحبه لسبب محدد وهو رفع الزيف والخلط الذي وقع في الأناجيل الأخرى فانحرف بها عن عقيدة التوحيد. وهنا يمكن أن نقارن كلام برنابا بكلام لوقا.
قال لوقا :
>عزيزي ثاوفيلس،
لأن كثيراً من الناس أخذوا يدونون رواية الأحداث التي جرت بيننا، كما نقلها إلينا الذين كانوا من البدء شهود عيان وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً بعدما تتبعت كل شيء من أصوله بتدقيق أن أكتبها إليك، يا صاحب العزة ثاوفيلس، حسب ترتيبها الصحيح، حتى تعرف صحة التعليم الذي تلقيته<.
ونقرأ في إنجيل برنابا :(1/134)
>أيها الأعزاء، إن الله العظيم العجيب قد تفقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثير بدعوى التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر به الله دائماً، مُجَوِّزِينَ كل لحم نجس، الذين ضل في عدادهم أيضا بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع، لكي تخلصوا ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله، وعليه فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لما أكتبه لتخلصوا خلاصاً أبدياً، وليكن الله العظيم معكم وليحرسكم من الشيطان ومن كل شر. آمين<.
نفهم من الافتتاحيتين : افتتاحية إنجيل لوقا وافتتاحية إنجيل برنابا، أن الأمر يتعلق بروايات متعددة لبشارة السيد المسيح عيسى، عليه الصلاة والسلام، وأن الداعي الذي دفع الرجلين إلى إعداد مؤلفيهما، هو الرغبة في تقديم رواية صحيحة بعيدة عن التبديل والتحريف. فقد شاعت فوضى تدوين البشارة في الأوساط المسيحية بعد أن رفع الله المسيح عيسى ابن مريم إليه، وشاب هذه الفوضى حملة لتزوير ما يدُوَّن على أنه الإنجيل، وقد تردد صدى هذا التزوير في كثير من المواضع في العهد الجديد. وانتشر حتى زمن المصطلح على تسميتهم بالرسل. فهذا بولس نفسه يقول في الرسالة الثانية إلى أهل كرونثوس :
>نحن لا نتاجر مثل كثير من الناس بكلام الله، بل نتكلم في المسيح كلام الصادقين، كلام رسل الله أمام الله<(66).
>بل ننبذ كل تصرف خفي شائن ولا نسلك طريق المكر ولا نزور كلام الله..<(67).
ونقرأ في رؤيا يوحنا :(1/135)
>وأنا أنذر كل من يسمع الأقوال النبوية في هذا الكتاب أن لا يزيد عليها حرفاً وإلا زاده الله من النكبات الموصوفة في هذا الكتاب. ومن حذف حرفاً من الأقوال النبوية في هذا الكتاب، حذف الله نصيبه من شجرة الحياة ومن المدينة المقدسة، وهما اللتان جاء وصفهما في هذا الكتاب...<(68).
إن افتتاحية إنجيل برنابا إذاً متسقة مع السياق العام لمقدمات الأناجيل الأخرى، ولا يصح أن ينظر إليها فقط من وجهة نظر الذين أشاعوا أن هذا الإنجيل موضوع من طرف مسلمين موريسكيين بهدف الاحتجاج. إن الافتتاحية المذكورة تشير ضمناً إلى أن إنجيل برنابا كتبه برنابا نفسه، الحواري الذي جاء ذكره في الأناجيل الأخرى. وتأليف هذا الإنجيل جاء في سياق الدفاع عن المسيحية التوحيدية الأصيلة، وهو أمر يبرر سر اختفائه القسري، لأنه وثيقة ضد المسيحية الصادرة عن مجمع نيقية، وضد أطروحة بولس المشركة بالله.
جاء في الفصل الحادي والعشرين بعد المائتين من إنجيل برنابا ما يلي :
>والتفت يسوع إلى الذي يكتب، وقال : "يا برنابا عليك أن تكتب إنجيلي حتماً، وما حدث في شأني مدة وجودي في العالم، واكتب أيضا ما حل بيهوذا ليزول انخداع المؤمنين ويُصَدِّق كل أحد الحق".
حينئذ أجاب الذي يكتب : "إني لفاعل ذلك إن شاء الله يا معلم، ولكن لا أعلم ما حدث ليهوذا لأني لم أر كل شيء".
أجاب يسوع : "ههنا يوحنا وبطرس اللذان قد عاينا كل شيء فهما يخبرانك بكل ما حدث...".
إن هذا النص يعود بنا إلى المنطلق. إن المسيح عيسى، حسب ما ورد في إنجيل برنابا، طلب كتابة ثلاثة أشياء :
1. الإنجيل،
2. سيرته و ما حدث في شأنه مدة وجوده في العالم،
3. ما حل بيهوذا ليزول انخداع المؤمنين و يصدق كل أحد الحق.
إن الأمر إذن يتعلق بثلاث نقاط معينة، جاءت مختلطة في الأناجيل.
اختلط فيها الإنجيل (كتاب الله المنزل على عبده و نبيه عيسى، عليه الصلاة والسلام) بسيرة هذا النبي والأحداث التي حدثت له، خاصة مع يهوذا.(1/136)
وهذا الخلط امتد حتى إلى إنجيل برنابا نفسه، ولكن بفارق طفيف عن الأناجيل الأربعة الأخرى المعتمدة من طرف الكنيسة.
لقد غَلَّبَ برنابا سيرة عيسى في إنجيله، ولكنه انفرد بتأكيد نبوة المسيح، وخلال ذلك عكس تعاليم المدونات الأخرى، فأنكر ألوهية عيسى، عليه الصلاة والسلام، وقرر بشريته.
نقرأ في نهاية الفصل الثالث والتسعين وبداية الفصل الرابع والتسعين ما يلي :
>...لأ ن فريقاً يقول : إنك الله. وآخر : إنك ابن الله. ويقول فريق : إنك نبي.
أجاب يسوع : وأنت يا رئيس كهنة الله لماذا لم تخمد الفتنة ؟ هل جننت أنت أيضاً ؟ هل أمست النبوات وشريعة الله نسياً منسياً، أيتها اليهودية الشقية التي ضللها الشيطان...
ولما قال يسوع هذا، عاد فقال :
إني أَشهد أمام السماء وأُشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشر مولود من امرأة وعرضة لحكم الله<.
ونقرأ في الفصل الثاني والخمسين :
>الحق أقول لكم متكلماً من القلب : إني أقشعر لأن العالم سيدعوني إلها. وعَلَيَّ أن أقدم لأجل هذا حساباً. لعمر الله الذي نفسي واقفة في حضرته أني رجل فانٍ كسائر الناس. على أني وإن أقامني الله نبياً على بيت إسرائيل لأجل صحة الضعفاء...<.
لقد أكد برنابا على الوظيفة النبوية التي بعث من أجلها عيسى، عليه الصلاة والسلام، حيث جاء في الفصل السابع والأربعين :
>ونزل يسوع في السنة الثانية من وظيفته النبوية من أورشليم، وذهب إلى نابين، فلما اقترب من باب المدينة كان أهل المدينة يحملون إلى القبر ابناً وحيداً لأمه الأرملة، وكان كل أحد ينوح عليه. فلما وصل يسوع علم الناس أن الذي جاء إنما هو يسوع نبي الجليل فلذلك تقدموا وتضرعوا إليه لأجل الميت طالبين أن يقيمه، لأنه نبي، وفعل تلاميذه كذلك. فخاف يسوع كثيراً ووجه نفسه لله، وقال : خذني من العالم يا رب لأن العالم مجنون وكادوا يدعونني إلهاً. ولما قال ذلك بكى...<.(1/137)
إن برنابا يؤكد أن عيسى، عليه الصلاة والسلام، نبي مرسل من عند الله. وانفرد بذكر تلقي عيسى للوحي لأول مرة :
>ولما بلغ يسوع ثلاثين سنة من العمر، كما أخبرني بذلك نفسه، صعد إلى جبل الزيتون مع أمه ليجني زيتوناً، وبينما كان يصلي في الظهيرة وبلغ هذه الكلمات : "يا رب برحمة.." وإذا بنور باهر قد أحاط به وجوق لا يحصى من الملائكة كانوا يقولون : "ليتمجد الله"، فقدم له الملاك جبريل كتاباً كأنه مرآة بَرَّاقَةٌ فنزل إلى قلب يسوع الذي عرف به ما فعل الله وما قال الله وما يريد الله، حتى أن كل شيء كان عرياناً ومكشوفاً. ولقد قال لي : صدق يا برنابا أني أعرف أن كل نبي وكل نبوة وكل ما أقوله، إنما قد جاء من ذلك الكتاب<.
بقي أن نشير إلى أن هناك توافقاً بين إنجيلي برنابا ولوقا بخصوص سن عيسى، عليه الصلاة والسلام، حين تلقى الوحي من ربه.
قال لوقا : >وكان يسوع في نحو الثلاثين من العمر عندما بدأ رسالته<(69).
وفي سياق الحديث عن النبوة حرص برنابا على إيراد كلام عيسى، عليه الصلاة والسلام، في التبشير بالمخلص الآتي من سلالة إسماعيل، عليه الصلاة والسلام.
نقرأ في الفصل الثامن بعد المائتين :
>أجاب رئيس الكهنة : إنما أسألك هذا ولا أطلب قتلك، فقل لنا : من كان ابن إبراهيم هذا ؟
أجاب يسوع : إن غيرة شرفك يا اللَّه تؤججني ولا أقدر أن أسكت. الحق أقول : إن ابن إبراهيم هو إسماعيل الذي يجب أن يأتي من سلالته مسيا، الموعود به إبراهيم، أن به تتبارك كل قبائل الأرض.
فلما سمع هذا رئيس الكهنة حنق وصرخ : لنرجم هذا الفاجر لأنه إسماعيلي وقد جَدَّفَ على موسى وعلى شريعة الله<.
ونجد برنابا يذكر إسماعيل ابناً للموعد بدلاً من إسحاق في جميع السياقات، ففي الفصل الثالث عشر نقرأ :(1/138)
>فأجاب الملاك جبريل : انهض يا يسوع واذكر إبراهيم الذي كان يريد أن يقدم ابنه الوحيد إسماعيل ذبيحة لله، ليتم كلمة الله. فلما لم تقو المدية على ذبح ابنه قدم عملاً بكلمتي كبشاً. فعليك أن تفعل ذلك يا يسوع خادم الله.
فأجاب يسوع : سمعاً وطاعة.
ونقرأ في الفصل الثالث والأربعين :
>الحق أقول لكم : إن كل نبي متى جاء فإنه يحمل لأمة واحدة فقط علامة رحمة الله، ولذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذي أرسلوا إليه. ولكن رسول الله متى جاء يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم يده، فيحمل خلاصاً ورحمة لأمم الأرض الذين يقبلون تعليمه، وسيأتي بقوة على الظالمين ويبيد عبادة الأصنام بحيث يخزي الشيطان لأنه هكذا وعد الله إبراهيم قائلاً : انظر فإني بنسلك أبارك كل قبائل الأرض وكما حطمت يا إبراهيم الأصنام تحطيماً هكذا سيفعل نسلك.
أجاب يعقوب : يا معلم قل لنا بمن صنع هذا العهد ؟ فإن اليهود يقولون : بإسحاق، والإسماعيليون يقولون بإسماعيل.
قال يسوع : ابن من كان داود ومن أي ذرية ؟
أجاب التلاميذ : من إسحاق لأن إسحاق كان أبا يعقوب ويعقوب كان أبا يهوذا الذي من ذريته داود.
فحينئذ قال يسوع : ومتى جاء رسول الله، فمن نسل من يكون ؟
أجاب التلاميذ : من داود.
فأجاب يسوع : لا تغشوا أنفسكم لأن داود يدعوه في الروح رباً قائلاً هكذا : قال الله ربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك. يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك. فإذا كان رسول الله الذي تسمونه مسياً ابن داود فكيف يسميه داود رباً. صدقوني لأني أقول لكم الحق : إن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق.
إن هذا الكلام لبرنابا عن الذبيح إسماعيل ساقه للحديث عن الرسول الآتي والبشارات المحيطة به، عليه الصلاة والسلام. وإن كانت الصيغ التي ورد فيها الحديث عن الرسول الآتي مغايرة شيئاً ما للصيغة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم.(1/139)
إن التبشير بنبي يأتي بعد عيسى يحمل رسالة إلى كل قبائل الأرض، قد حمل حقيقة مطابقة لما بينّه القرآن الكريم في قول الله تعالى : { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } (سورة الصف، الآية 6).
ولقد تنكر الباحثون في الغرب لإنجيل برنابا واعتبروه منحولاً، لأن ما ورد فيه مخالف لعقيدتهم، ولأنه كباقي الأناجيل ليس أصلاً وإنما عثر عليه في صورة ترجمتين إلى الإيطالية والإسبانية، ثم ترجم من هاتين الترجمتين إلى لغات أخرى.
إن هذه الافتراضات لا تنقص من قيمة هذا الإنجيل، إذ أنه إنجيل متماسك، سواء في تناسق الأخبار التي ساقها، أو في موافقته لأغلب الأحداث التي ورد ذكرها في الأناجيل المتوافقة. إن توافق إنجيل برنابا مع أحداث تلك الأناجيل لا يعمم على فحوى تلك الأحداث، خاصة وأن هذا الإنجيل مخالف للأناجيل الأخرى في موضوع الوحدانية و نبوة عيسى، عليه الصلاة والسلام.
إن المسيحية حسب إنجيل برنابا، حلقة من سلسلة رسالة التوحيد، وهو إنجيل ألفه صاحبه من أجل الدفاع عن الدين الصحيح الخالص بطلب من المسيح نفسه. ومهما كان من أمر تاريخ النسخ التي وصلت إلينا منه، فإنه يبقى أقرب الأناجيل إلى روح الإسلام. ولعل مناهضته للتثليث ومحاجته للمثلثين كان مسوغاً كافياً لما تعرض له من ملاحقات، إنه إنجيل دعا إلى نبذ ألوهية المسيح، إنه إنجيل ضد الذين جَوَّزُوا أكل اللحم النجس ورفضوا الختان، إنه إنجيل يجعل المسيحية لا تشذ عن سياق الوحدانية.(1/140)
هذا، ولم يكن إنجيل برنابا وحده هو الذي ضاع من التداول، وإنما هناك أناجيل أخرى مثل إنجيل توماس Thomas ويرجع تاريخ تدوينه إلى القرن الثاني الميلادي(70). لقد اختفى هذا الإنجيل منذ بداية القرن الرابع وتلاشى من ذاكرة المسيحيين، إلى أن تم العثور على نسخة منه مكتوبة باللغة القبطية عام 1947م في صعيد مصر.
وهناك نصوص في ذلك الإنجيل دفعت الأوروبيين إلى الوقوع في الخطأ الفاحش بسبب الترجمة. لقد قام جون ديروس Jean Derosse بترجمة هذا الإنجيل إلى الفرنسية، وجاء فيه أن سالومي Salomé، وهي راقصة غنية من أصل عربي تزوجت مراراً قبل أن تعرف عيسى، عليه الصلاة والسلام، قالت له : >من أنت يا رجل... كي تصعد فراشي وتأكل من مائدتي !<. ونظراً لأن كلمة الفراش قد تستعمل لدى الأوروبيين كناية عن العلاقة الجنسية، فقد نسبت بعض التفسيرات إلى المسيح الزنا بهذه المرأة. بينما كلمة الفراش لدى الشرقيين وأهل اللغات السامية تعني من بين معانيها الكرم، فيقولون : >ركضت في فراشه وأكلت من معاشه< كناية عن كرمه(71).
والذي يتأمل في منطق الكلام الوارد في النص يستطيع أن يستجلي بسهولة براءة عيسى، عليه الصلاة والسلام، مما نسب إليه، إذ لو كانا خليلين لما استغربت منه أن يشاركها الفراش والمعاش ـ على المعنى الخبيث ـ فذلك مما يجري مجرى العادة بين الأخلاء في جميع المجتمعات. والواضح من النص أنه تعظيم وتفخيم لعيسى، عليه السلام، بمعنى أنها تقول له إن مقامك العظيم دفعني إلى فتح أبوابي لك على مصراعيها وذلك لم أفعله مع أحد غيرك بهذا القدر، فأي رجل أنت وما هو قدرك. فيقول لها في موضع آخر : >أنا الآتي من عند السَّويِّ<. ثم تقول له هي : >أنا تبيعتك<، بمعنى تلميذتك : Je suis ta disciple<.(1/141)
إن مثل هذه الأخطاء الفاحشة التي تنحرف بمفهوم النصوص الدينية في ذهن عامة الناس، بل وخاصتهم، لتدل بالقطع على أن الحقيقة تكمن دائماً في لغة البلاغ الأصلية للرسالات السماوية، ومعرفة دلالات عبارات الخطاب لدى أهل تلك اللغة.
الفرق المسيحية
إن تاريخ المسيحية كان تاريخ انقسامات.
لقد أحصى المتقدمون من علما ء الإسلام، الذين اهتموا بالتأريخ للفرق ومناقشة آرائها، جملة من الفرق المسيحية. ونورد هنا تلخيصاً لما جاء عند بعضهم(72) :
* الأريوسيون، وهم أصحاب أريوس، ويقولون بـ :
ـ التوحيد المجرد.
ـ عيسى عليه السلام مخلوق.
ـ عيسى عليه السلام كلمة الله تعالى، بها خلق السماوات والأرض.
* أصحاب بولس بطريق أنطاكية، ويقولون بـ :
ـ التوحيد المجرد الصحيح.
ـ عيسى رسول كباقي الأنبياء، عليهم السلام، خلقه الله تعالى في بطن مريم من غير ذكر، وهو إنسان لا ألوهية فيه. وكان بولس يقول لا أدري ما الكلمة ولا أدري ما روح القدس.
* أصحاب مقدونيوس وهو بطريق القسطنطينية بعد ظهور النصرانية، وكان يقول بـ :
ـ التوحيد المجرد.
ـ عيسى عبد مخلوق، إنسان.
ـ عيسى نبي رسول كسائر الرسل والأنبياء، عليهم السلام.
ـ عيسى هو روح القدس وكلمة الله عز وجل.
ـ وقال إن كلمة الله وروح القدس مخلوقان.
* البربرانية، قالوا إن عيسى وأمه إلهان من دون الله عز وجل.
ومن البربرانية ظهرت الملكانية، مذهب جميع الملوك النصارى في الحبشة والنوبة، وجميع نصارى إفريقية والأندلس وجمهور الشام، حسب ابن حزم.
* الملكانيون، قالوا :
ـ إن عيسى إله تام كله وإنسان تام كله، ليس أحدهما غير الآخر.
ـ إن الإنسان منه هو الذي صُلِبَ وقتل، وإن الإله منه لم ينله شيء من ذلك.
ـ إن مريم ولدت الإله والإنسان وهما معاً شيء واحد.
* ومن الملكانية ظهرت النسطورية، ويقولون :
ـ إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان.
ـ إن الله لم يلد الإنسان بل ولد الإله.(1/142)
* ومنها أيضاً اليعقوبية، وسميت بذلك نسبة إلى يعقوب البرذعاني، ويقولون :
ـ إن المسيح هو الله تعالى.
ـ وإن الله مات وصلب وقتل.
ـ وإن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدير، والفلك بقي بلا مُسَيِّر، ثم قام الإله ورجع كما كان.
ـ ويرون أن الله عاد مُحْدَثاً، والمُحْدَثُ عاد قديماً.
يقول ابن حزم عن هذه الفرقة الأخيرة : >إنها فرقة نافرت العقل والحس منافرة وحشة تامة، لأن الاستحالة نقلة، والنقلة والاستحالة لا يوصف بهما الأول الذي لم يزل، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ولو كان كذلك لكان مخلوقاً، والمُحْدَثُ يقتضي مُحْدِثاً خالقاً له.
ويكفي لبطلان هذا القول دخوله في باب المحال والممتنع الذي قد أوجب العقل والحس بطلانه<.
ولقد ازدادت الانقسامات العقدية بين فرق المسيحيين بشكل واضح عكسته المجامع التي عقدتها كنائسهم، سواء مجامعهم المسكونية التي حج للمشاركة فيها بطارقتهم وقساوستهم من كل العالم المعمور، أو تلك التي أخذت طابعاً إقليمياً مثل مجامع الكنائس الشرقية.
ونقدم فيما يلي نماذج من تلك المجامع :
أول تلك المجامع كان مجمع نيقيه Nicée سنة 325 ميلادية، حضره قسيسون من كل من آسيا الوسطى ومصر وسوريا، ومن الأقاليم الإغريقية وإن كان تمثيلها فيه قليلاً، وكذلك من أوروبا.
احتدم النقاش في ذلك المجمع حول ألوهية عيسى، عليه السلام، وتنكر الحاضرون لمذهب أريوس الذي قدمناه(73).
ومن أشهر قرارات هذا المجمع ما يلي :
ـ إعلان ألوهية عيسى، عليه السلام.
ـ القول بأن صلبه كَفَّر خطيئة البشر.
ـ حصر لائحة الكتب المقدسة.
ـ تدمير الرسائل والأناجيل التي لا تتوافق مع هذا القرار العقدي.
وتم خلال هذا المجمع إخضاع الدين للسلطة الدنيوية.
وفي المجامع اللاحقة انتقلوا إلى مناقشة أقنوم الروح القدس، وعذرية مريم بعد ميلاد المسيح، ثم ناقشوا عصمة البابا وحدود سلطته وسلطة الكنيسة. واتسمت أعمال تلك المجامع بروح إقصاء المخالفين.(1/143)
ويرى بعض الباحثين أمثال (74 Jean Rochette) أن هناك طريقتين لرؤية تاريخ المسيحية :
طريقة الكنيسة الكاثوليكية التي ترى تاريخ المسيحية بمثابة شجرة جذعها الكنيسة الكاثوليكية وأغصانها الأقسام الأخرى (الكنائس الأخرى). وحسب هذا الرأي فإن الكنائس الأخرى حادت عن الحقيقة، لأن الكنيسة الحقيقية أو كنيسة المسيح في نظرهم هي الكنيسة الكاثوليكية.
أما الأقسام الأخرى فترى أن كنيسة المسيح هي جذع الشجرة وليست الكنيسة الكاثوليكية، ولكن هذه الكنيسة خانت منذ البداية رسالة المسيح.
الكنائس
* الكنيسة الكاثوليكية :
ـ وهي تؤمن برئاسة البابا و تقر بسلطته، وترى :
ـ أن البابا يتربع على مؤسسة من القسيسين والرهبان بصفته وزيراً، ووزارته مبنية على الكرسي الرسول لبطرس وبولس.
ـ أنه بمجرد مبايعة البابا تحصل له قمة السلطة العقدية والأخلاقية.
ـ أن تصريحاته منزهة عن الخطإ و ملزمة لجميع الكاثوليكيين.
* الكنيسة البروتستانتية :
تحولت محاولة مارتن لوثر في إصلاح الكنيسة إلى قطيعة مع روما، وذلك عندما أعلن سلطة التوراة في مادة العقيدة والحياة الكنسية، وأزاح القداسة عن الكنيسة الكاثوليكية، وأطلق حق التأويل للجميع، وأصبح البروتستانت أحراراً في تأسيس كنائس جديدة، كلما أحسوا بعدم إخلاص كنيستهم للخطاب التوراتي. وداخل هذه الكنيسة أعلن كالفن calvin عصر رئاسة الكتابات.
وقد خالف البروتستانت الكاثوليك في مسألة الصلاة على الأموات والصلاة على الصلحاء، وفي مسألة عصمة البابا، وعذرية مريم بعد ميلاد عيسى، عليه السلام.
* الكنائس الأرثوذوكسية :
انفصلت الكنائس الشرقية عن الكنيسة الكاثوليكية سنة 1054 ميلادية لسببين :
ـ النظرة إلى الكنيسة و هيكلتها، فلكل أسقف الحرية الرسولية. وهذه الكنيسة مكونة من مجموعة من الكنائس المستقلة يمثلها جميعاً بطريق القسطنطينية.(1/144)
ووحدة هذه الكنائس حسب الأورثوذوكس يضمنها الروح القدس والإخلاص للعقيدة، وليس وحدة المذهب.
ـ اختلفت هذه الكنيسة مع الكنائس الغربية منذ القرن الثامن الميلادي حول مسألة البنوة Le Filioque.
ولهذه الكنيسة قُدَّاسُهَا الخاص.
* الكنائس الشرقية :
انحدرت من تيارين اثنين عارضا مجامع القرن الخامس، و هما :
ـ النسطورية التي ترى أن المسيح يضم شخصين مختلفين، إنساني وإلهي.
ـ والمعتقدون بالطبيعة المنفردة للمسيح، الذين يرون أن المسيح من طبيعة واحدة.
ولا يجب الخلط بين هذه الكنائس والكنيسة الأورثوذوكسية، وإن كان بعضها الآن تابع لها.
* الكنيسة الأنجليكانية :
تم تأسيسها سنة 1534 ميلادية، وأعلنت الملك هنري الثامن Henri VIII رئيساً لها. وذلك بعد أن أراد الملك الزواج للمرة الثانية بسبب عدم إنجابه من زواجه الأول، فلما عارضت روما أعلن الانشقاق. وأضفى هذا الأمر طابع الوطنية الإنجليزية على هذه الكنيسة في مواجهة سلطة البابا.
وبالإضافة إلى هذه الكنائس جميعاً، احتلت بعض الفرق المسيحية مكانة خاصة بين جمهور المسيحيين في القرن العشرين. وأعني هنا المورمونيون الذين يرون أنهم فتحوا باب الرسولية من جديد، فأصبح العهد عندهم يتكون من : العهد القديم المكون من توراة موسى وكتابات الأنبياء والمكتوبات. والعهد الجديد، بأناجيله الأربعة وكتبه الأخرى (أي ما مجموعه 27 كتاباً).
وأضافوا إلى ما سبق كتاب مورمون. وهم يزعمون أن كتابهم هذا مقدس، فك الروح القدس أسراره لنبيهم يوسف سميث سنة 1833م. ويتكون كتاب مورمون من خمسة عشر قسماً رئيساً، وكل كتاب منها يحمل اسم مؤلفه الأصلي.(1/145)
وهم يعتقدون أن موروني Moroni قام في سنة 421 بعد ميلاد المسيح بإخفاء الكتب التي اشتمل عليها كتاب مورمون حفاظاً عليها حتى تكون حجة في آخر الزمان. وهذا الشخص بعث فيما يدعون، وزار يوسف سميث المتنبئ وأعطاه أسرار هذه الكتب وفك له رموزها، ذلك أنها كانت كتبت بلغة ولسان اليهود من سكان أمريكا الأقدمين الذي أتوا من الشرق، ومنهم حسب زعمهم من عايش المسيح.
جاء في بيان العقيدة عند المورمونيين : >إننا نعتقد بحشر بني إسرائيل وإعادة تنظيم القبائل العشر، ونؤمن بأن صهيون (أورشليم الجديدة) ستبنى في القارة الأمريكية، وأن عيسى سيحكم الأرض بنفسه، وأن الأرض ستتجدد<.
ومن بين الفصائل المسيحية الحالية المؤثرة، فرقة شهود يهوه(75).
وحسب روشيت فإن عدد المنتسبين إلى هذه الكنائس هو كما يلي :
المنتسبون إلى الكنيسة الكاثوليكية 840 مليون نسمة.
المنتسبون إلى الكنائس الشرقية مليونان ونصف نسمة.
المنتسبون إلى الكنائس الأورثوذوكسية 100 مليون نسمة.
المنتسبون إلى الكنيسة الأنجليكانية 60 مليون نسمة.
المنتسبون إلى الكنائس البروتستانتية 300مليون نسمة.
وعليه يقدر عدد المسيحيين في العالم بمليار ومليونين ونصف مليون مسيحي.
ترجمات الأناجيل المتداولة
لقد استدعى الانتشار الواسع للمسيحية على اختلاف مذاهبها، ترجمة الأناجيل إلى لغات متعددة.
وبالإضافة إلى الترجمات التي ذكرناها في البحث، نرى أنه من المناسب الإشارة إلى الترجمات المعاصرة ومواقعها في الأنترنيت.
مواقع الإنترنيت التي ضمت بعضاً من ترجمات الإنجيل :
www.thechistian.org/bible/bible.html
ضم هذا الموقع الترجمة الإغريقية :
Byzantine Greek Text 1991
Wescott 1881
Textus receptus 1550/1894
وترجمتين إسبانيتين :
Reina Valera 1909
Reina Valera 1989
وترجمتين بالألمانية :
Luther 1912
Original Elbergelder 1905
وترجمتين باللغة الفرنسية :
Darby 1991
Louis Second 1920(1/146)
وخمس ترجمات إنجليزية :
New King James Version
King James Version
Revised Standart Version
Translation, John Darby
Translation, Young
كما ضم الموقع ترجمة روسية و مدخلاً للبحث.
انظر الترجمة الفيتنامية في :
www.cathlic.org.tw/vntaiwan/vietbibl.html
والترجمة الصينية في :
www.ifcss.org/Ftp.pub/org/bcec/cbible/bible.html
والترجمة الأندونيسية في :
http://Kcm.co.kr/bible/bible.html
والترجمة اليابانية في :
www.ee.uts.ed.au/~hajime/homepage/njb/newtestament.html
والترجمة النرويجية في :
www.menfak.no/bible
وتوجد بعض المحاولات لإيراد الترجمات المتقابلة للإنجيل في بعض المواقع مثل الموقع الذي أعده الباحث مارك دفيس Mark Davies الذي قدم إنجيل لوقا في ثلاثين (30) لغة :
http://madavies.for.ilstu.edu/redirect.html
هذه بعض المواقع التي عرضت ترجمات للإنجيل على الإنترنيت، ويضاف إليها ما عرض في المواقع الخاصة بالكنائس المسيحية ومواقع المكتبات العامة والجامعية الإلكترونية.
وبالإضافة إلى الترجمات، أوردت بعض المواقع معاجم الإنجيل المتخصصة مثل معجم الأسماء التوراتية Bible names Dictionary لهيتشكوك Hitchcok ومعجم مصطلحات Dictionary of prophecy terms لجاك فان إيمبي Jack Van Impe والمعجم الإنجيلي لبيكر Baker.
كلمة القرآن الكريم في المسيح عيسى ابن مريم
يقول الله تبارك وتعالى :
{ ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوءة والكتاب. فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } (سورة الحديد، الآيتان 26-25).
{(1/147)
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين } (سورة المائدة، الآية 48).
{ إذ قال اللَّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمَنَّا واشهد بأنَّنا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّكَ أن يُنَزِّلَ علينا مائدة من السماء قال اتقوا اللَّه إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللَّهم ربَّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال اللَّه إني مُنَزِّلُهَا عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين وإذ قال اللَّه يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللَّه قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قُلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا اللَّه رَبِّي ورَبَّكُمْ وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما تَوَفَّيْتَنِي كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } (سورة المائدة، الآىات 112-120).
{(1/148)
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } (سورة الزخرف، الآيات 63-65).
{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يُدْعَى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين } (سورة الصف، الآيتان 6-7).
{(1/149)
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّاً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً قال إنما أنا رسول ربِّك لأهب لك غلاماً زكيّاً قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُـ بغيّاً قال كذلك قال ربّك هو على هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منَّا وكان أمراً مقضيّاً ü فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً وهزي إليك بجذع النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جنيا فكلي واشربي وقَرِّي عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرَّا بوالدتي ولم يجعلني جبَّاراً شقيّاً والسلام عَلَيَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان للَّه أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } (سورة مريم، الآيات 15-34).
ولقد رأيت أن أختم البحث عن لغة البلاغ الأصلية، في رسالة عيسى، عليه الصلاة والسلام، بما عرضته من آيات من القرآن الكريم، فهي المشكاة التي ترفع الاختلاف والمراء عن هذه الحلقة من رسالة السماء، فترة بعثة رسول الله عيسى ابن مريم كلمة الله، وروح القدس.
وفيما قدمناه من آيات ورد فيها ذكر عيسى ابن مريم، يتجلى وصف القرآن لرسالة التوحيد المسيحية، وما جاء في الإنجيل الذي أنزله الله على رسوله عيسى ابن مريم من حجة وهدى ونور، ودعوة وتبشير وإنذار.
الهوامش
((1/150)
1) إنجيل متى، الإصحاح الخامس : 17.
2. Expository Times 67, 1955/1956, pp. 92-93)
3. Ibid. p. 246, p. 317)
4. Historia de la lengua hebrea angel saenz Badillos. pp. 170-171 )
5. Fitzmyer, C.B.Q. 32-1970, pp. 504-505)
6. Dalman, G. JESU Mutter sprache, leipzig 1896)
7. A. Dupont -Sommer les Araméens, p. 99, Paris 1949) وانظر : Les langues araméennes du Ghabot
8. Jesus der Galiliس en Die arber in der Altern Welt. Berlin 1966)
9. Segert. s. en Aror 25 et 1957, pp. 21-37)
(10) إنجيل يوحنا، الإصحاح العشرون : 11.
(11) إنجيل مرقس، الإصحاح الخامس : 42-41.
(12) إنجيل يوحنا، الإصحاح التاسع عشر : 22-19.
(13) إنجيل لوقا، الإصحاح الثالث والعشرون : 38.
(14) إنجيل مرقس، الإصحاح الخامس عشر : 13. إنجيل متّى، الإصحاح السابع والعشرون : 37.
(15) إنجيل لوقا، الإصحاح الثالث والعشرون : 38.
(16) إنجيل متى، الإصحاح السابع والعشرون : 46-45.
(17) أعمال الرسل، الإصحاح الثاني : 12-1.
(18) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(19) أعمال الرسل، الإصحاح التاسع : 29.
(20) أعمال الرسل، الإصحاح الحادي والعشرون : 37-40.
(21) إنجيل متى، الإصحاح الثالث عشر : 34.
(22) إنجيل متى، الإصحاح السابع والعشرون : 46.
(23) إنجيل متى، الإصحاح الخامس : 17.
(24) إنجيل متى، الإصحاح الخامس عشر : 24.
25. Le christianisme des origines au concile de Nicée : Encyclopédie de la pléiade - Histoire des Religions, t. 2, p. 190
(26) انظر تفاصيل هذا الحدث عند فلافيوس يوسيفوس في تاريخ الحروب اليهودية الباب الخامس عشر من المجلد الرابع المخصص للحديث عن هيرودس الأكبر.
(27) في كرم الإمبراطور أغسطس ورضاه عن الملك هيرودوس، راجع يوسيفوس، المجلد الرابع، ص 87-84.
((1/151)
28) إنجيل مرقس، الإصحاح الثاني عشر : 24. حول تفاصيل الصراع، راجع يوسيفوس، المرجع السابق : الأبواب من الرابع الى الثامن، وتفاصيل تقسيم الامبراطور أغسطس المملكة اليهودية على الابناء الثلاثة لهيرودوس.
(29) أعمال الرسل، الإصحاح الثالث والعشرون : 8. عن الفرق اليهودية راجع : Fray hieronimo Roman republicas del mundo. Republica christiana, Folio 69, 73 Tomo I. Salamanca 1579.
(30) إنجيل مرقس، الإصحاح الثامن : 13.
(31) إنجيل متى، الإصحاح الثالث : 10-7.
(32) إنجيل متى، الإصحاح الثالث : 29.
33. V. Taylor : The Lige and Ministry of Jésus, London 1954. Goguel M. jésus, Paris, 1950.
(34) راجع : حياة المسيح، لدافيد ستراوش David strauss. حياة يسوع، لإرنست رينام Ernest Renam.
(35) انظر على سبيل المثال ما كتبه الفيلسوف نتشه وما كتبه فولني Volney حول هذا الموضوع. واقرأ على الانترنيت : Did Jesus really live ?
www.south com.com.au/..^cam river /didjes.
Christians were in the habit go meeting on a certain fixed day before et was light, when thez sang in altermate verse of a hymn to Christ as to a God, an bound themseves to a solemn dath, not to do any wicked deeds, and never to deny a truth chen they when thez should be called upon to deliver it up.
36. He falsely charged with the guilt, and punished with the most exquisite tortures, the persons commonly called christians, who hated for their enormities. Christus, the founder of the name, was put to death by Pontius Pilate, procurator of judea and the reign of Tiberius : but the pernicious superstition, repressed for a time broke out again, not only through judea where the mischief originated, but through the city of Rome also (annals XV)(1/152)
انظر الرسالة العاشرة من رسائل بلين الأصغر : 96.
(37) راجع ما كتب عن المسيحية الدوناتية، وما حدث من ملاحقات للمسيحيين في عهد نيرون.
38. Wow, there was about this time, Jesus a wise man. If be lowgue to call him a man. gor he wos ader of wonderful works... a eracher of such men as receive the truth with pleasure. He drew ever to him both many of the jews and many gentiled. He was the Christ.
(39) إنجيل لوقا، الإصحاح الثالث عشر : 35-31.
(40) إنجيل متى، الإصحاح الحادي والعشرون : 12.
(41) إنجيل متى، الإصحاح الثاني والعشرون : 21.
(42) إنجيل مرقس، الإصحاح الأول : 15-14.
(43) رومة، الإصحاح الأول : 16.
(44) الفصل في الأهواء والملل والنحل، لأبي محمد بن أحمد بن حزم الظاهري، المطبعة الأدبية ـ مصر، 1317هـ، الجزء الثاني، ص 2.
(45) راجع الموسوعتين الفرنسية Encarta والإنجليزية Britanica، مادة العهد الجديد.
(46) تحقيق محمد الشرقاوي، ط. دار الهداية، القاهرة، 1986.
(47) مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المدينة المنورة، بدون تاريخ.
(48) تحقيق الباحث محمد الشرقاوي، 1405هـ.
(49) نشرة دار الصحوة، 1986.
(50) مخطوط بالخزانة الوطنية بمدريد، رقم 4499.
(51) الرسالة الثانية إلى تيموثاوس، الإصحاح الثالث : 17-15.
(52) إنجيل يوحنا، الإصحاح الثامن : 8-1.
(53) إنجيل لوقا، الإصحاح الرابع والعشرون : 46-44.
(54) إنجيل متى، الإصحاح الثامن والعشرون : 19.
55. Gospel a word of anglo-saxon origin and meaning زGodصs spellس i.e word of god or rather, according to others زgood spellس i.e good news. It is the rending of the Greek evangelion i.e زGood messageس... s Bible Dictionary, Eston
www.biblestools.netLLdictionaries / eatonbibledictionary.
((1/153)
56) النشرة الرابعة الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس، بيروت، لبنان، 1992م.
(57) ابن حزم، الفصل في الأهواء والملل والنحل، مرجع سابق.
58. J. W Mc.Garvy, A guide to Bible study
www.Mc.garvey.a guide to bible study.html
(59) إنجيل يوحنا، الإصحاح الحادي والعشرون : 25.
(60) انظر مدخل الإنجيل ـ جمعية الكتاب المقدس، لبنان، الطبعة الأولى، 1995.
(61) كولوسي، الإصحاح الرابع : 16-15.
62. Lagrange, M.J. M : Histoire ancienne du nouveau Testament, Paris 1933
63. Encarta Nouveau Testament الموسوعة الفرنسية العهد الجديد.
64. الموسوعة الإنجليزية Britanica New Testament : canon, texts and versions.
65. Emmanuel Bozzi : La Bible nous est-elle parvenue sans erreur ?
www.bibliste.com/manuscrit.html
(66) الرسالة الثانية إلى أهل كرونثوس، الإصحاح الثاني : 17.
(67) الرسالة الثانية إلى أهل كرونثوس، الإصحاح الرابع : 2.
(68) رؤيا يوحنا، الإصحاح الثاني والعشرون : 19-18.
(69) إنجيل لوقا، الإصحاح الثالث : 23.
70. Robert Amblain, Jésus ou le mortel secret des templiers, Paris 1970, pp. 371-389
71. Cheikh Si Hamza Boubakeur, Traité moderne de Théologie islamique, Paris 1993, pp. 143-144.
72. Les rameaux du christianisme Lisa Telfizian Le nouvel Observateur، : Un juif nommé Jesus il aurait 2000 ans، 1998.
73. Le Christianisme jusqu’a 325" Etienne Trocmé في Histoire des religions La Pléiade 365-351.
74. www.geocties.com/athens/acropolis/ch5htm
75. Razonamiento à partir de las escrituras, pp. 380-38 ed. Rome 1989
هذه لائحة بأهم المراجع التي ناقشت لغة عيسى، عليه السلام، حتى يتمكن الواقف على هذا البحث من الرجوع إليها عند الاقتضاء، وقد أوردنا في بحثنا عرضاً لوجهات نظر أصحابها ومناقشاتها، باختصار.
- Argyle, A. W,(1/154)
Did Jesus speak Greek ?
ET 67, 1955/1956, pp. 92-93.
- Badillos, A. S,
Historia de la lengua hebrea
Editorial Ausa. Sabadell
Coleccion : Estudios Orientales
Sabadell 1988.
- Barr, J.
Which language did Jesus speak ? Some remarks of a semitist
B.J.R.L, 53, 1970, pp. 9-29.
- Cantineau, J.
Quelle langue parlait le peuple en Palestine au premier siècle de notre ère ?
Semitica, 5, 1955, pp. 99-101.
- Cavalletti, 5.
Ebraico biblico ed Ebraico mishnico
Sefarad 17, 1957, pp. 122-129.
- Chomsky, W.
What was the jewish vernacular during The second common wealth
JQR 42, 1951/1952, pp. 193-212.
- Dalman, G.,
Gramatic des J disch-Plastinschen aramaisch, 1950.
Jesus-Jeshua, dei drei sprachen Jesus, Leipzig, 1922.
- Diez Macho Alejandro,
La lengua hablada por Jesucrito. OrAnt 2, 1963, pp. 95-132.
La lengua hablada por Jesucrito. Buenos Aires, 1963, Reed. Madrid 1976.
- Draper, H. M.
Did Jesus speak Greek ? ET 67, 1955/1956, p. 317.
- Fitzmyer, J.
The Language of Palestine in the first century a.d. CBQ 32, 1970, pp. 501-531.
- Goodenough, E.R
Jewish symbols in the Greco-Roman Period 12 vol. New york, 1955/1965.
- Gundry, R.H
The language Milieu of first century, Palestine JBL, 83, 1964, pp. 404-408.
- Kutscher, E.Y
Das Zur Zeit jesu gesprochene Aramaïsch Zeitsschrift fïrdie, ZNM 51, 1960, pp. 54-56.
- Lieberman, 5.
Greek in Jewish Palestine, New York 1942.
- Ott, H.
Un die Muttersprache jesu ; Forschungen seit Gustaf Dalman, NT 9, 1967, pp. 19-24.
- Rabin, H.(1/155)
Hebrew and Aramaic in the first century, the Jewish people in the first century. S. Safari - M. stern eds. Assen / Amsterdam. V. II 1007-1009.
- Russel, J. K.
Did Jesus speak Greek ?
ET 67, 1955/1956, p. 246.
- Sevenster, J. N.
Do you know Greek ? How much greek could the first Jewish christians have know ? leiden 1968.
- Sperber, D.
Greek and latin words in Rabbimic literature prolegomena to a new dictionary of classical words in Rabbimic literature.
Bar Illan, 14/15, 1977, pp. 9-60 ; 16/17, 1979, pp. 9-30.
- Wilson, R. Mc. L.
Did Jesus speak Greek ? ET 68, 1956/1957, pp. 121-122.
الباب الثالث : محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته / د. محمد المختار ولد اباه
الفصل الأول
محمد صلى الله عليه وسلم والوحي
لما قاربت سن محمد صلى الله عليه وسلم الأربعين(1)، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور ـ على مبعدة نحو ميلين من مكة، وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا سبيل قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له، وَلِيُعِدَّهُ لما ينتظره من الأمر العظيم. ولابد لأي روح، يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهمومها، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.(1/156)
وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء ذلك الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله(2).
لغة محمد صلى الله عليه وسلم
نشأ محمد وتربى في المجتمع العربي المكي. وكانت لغة ذلك المجتمع العربية، واشتهر فيه فصحاء وبلغاء وشعراء، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم شاعراً، ولم يكن يحب منتدى الشعراء. وقد اشتهر بأنه محمد "الصادق الأمين".
وكان المجتمع المكي يرتكز على ثقافة شفوية، وكان من أشد المجتمعات فقراً في عدد من يلِمُّون بالقراءة والكتابة. ولم يكن محمد يعرف الكتابة ولا القراءة من كتاب. لم يغادر محمد مكة قبل الوحي إلا في رحلتين قصيرتين : الأولى برفقة عمه وكان عمره 13 سنة. والرحلة الثانية كانت السيدة خديجة قد اختارته للإشراف على تجارة لها إلى الشام، وكان عمره تقريباً 25 عاماً. وكانت مدة كل من الرحلتين لا تتجاوز شهراً.
لذلك لم يكن لمحمد أن يلم بلغة أخرى إلى جانب العربية من خلال هاتين الرحلتين القصيرتين.
جبريل ينزل بالوحي
ولما تكامل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل : ولها تبعث الرسل ـ بدأت آثار النبوة تلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة. وتلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت (تحققت) مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر، >ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة<(3). فلما كان رمضان من السنة الثالثة من ارتياده صلى الله عليه وسلم لغار حراء، شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن(4).(1/157)
وقد اختلف المؤرخون في الشهر الذي نزل فيه الوحي، وأقوى الآراء أنه شهر رمضان، لقوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } (سورة البقرة، الآية 184) و{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } (سورة القدر، الآية 1) ومعلوم أن ليلة القدر تكون في شهر رمضان.
ومن ذلك نستطيع تحديد تاريخ بدء نزول الوحي إلى محمد بأربعين سنة قمرية، وستة أشهر و12 يوماً (نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و12 يوماً)، مضت منذ ميلاده(5).
مدة الوحي
نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في بضع وعشرين سنة.
كان محمد صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء الليالي ذات العدد قرب مكة، فكان يبقى فيه الساعات الكثيرة، يتعبد ويتفكر ويدعو، حتى نزل عليه جبريل في اليقظة قائلاً : { اقرأ } فيجيبه محمد : ما أنا بقارئ. ويراجعه المَلَكُ، ويَشُدُّ على صدره حتى يبلغ منه الجهد، فيعي منه أول سورة من القرآن نزلت من السماء إلى الأرض، وهي سورة العلق. وأول آية أوحيت إلى خاتم المرسلين من هذا الكتاب الذي أُنْزِلَ داعياً إلى التي هي أحسن، مبشراً للمحسنين، ونذيراً للمجرمين الظالمين، وهي : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } (سورة العلق، الآية 1).(1/158)
نزل هذا القرآن على مُكْثٍ وليُقْرَأ على الناس مرتلاً ترتيلاً، فهو { كتاب أحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير } (سورة هود، الآية 1). نزل بلسان عربي مبين { آلر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربيا لعلكم تعقلون } (سورة يوسف، الآيتان 2-1)، لينذر { أم القرى ومن حولها } (سورة الأنعام، الآية 93) { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه لِيُبَيِّنَ لهم } (سورة إبراهيم، الآية 4)، ثم أمر الله رسوله بأن ينذر الناس جميعاً { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (سورة سبأ، الآية 28) فجاهد هو وأصحابه لينذر كل من يمكنه أن يوصِلَ إليه البلاغ بتلك الرسالة العالمية، التي يعتبر العلم بها حقاً من حقوق الإنسان. أما الإيمان بما جاء فيها فلا يكون إلا طواعية. فالإنسان عليه أن يختار بين الإيمان وجني ثمراته أو الكفر مع تحمل تبعاته. وإذا كان المسلمون قد جاهدوا لإيصال العلم بتلك الرسالة العالمية الخاتمة إلى الشعوب والأمم، وحاربوا من أجل كسر شوكة الحكام الذين يعترضون طريق الدعوة، إلا أنهم لم يجبروا أحداً على دخول الإسلام، فالإيمان لا إجبار فيه. يقول الحق سبحانه وتعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين } (سورة يونس، الآية 99).
لقد كان نزول القرآن يوافق الأحوال والظروف التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحياها في تبليغ رسالته، فكانت السور الأولى منه تثبت فؤاده وتخبر بأن رَبَّهُ أرسله إلى قومه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى عبادة إله واحد لا شريك له، هو خالق السماوات والأرض، ومسخر الليل والنهار والقمر والنجوم، ومسخر الفلك في البحر، ومبدئ الخلق ومعيده.(1/159)
ولكن الملأ من قريش لا يريدون التخلي عن عبادة آلهة الآباء، فكذبوا محمداً وقالوا إنه مجنون، لم يأت إلا بأساطير الأولين. ويكبر على الرسول تكذيبه، ويستوحش، ويتعب، وتحاصره قريش ويؤذونه في الصلاة، ويقاطعون قومه، وترفض بقية العرب نصرته على قريش، وتسخر منه صبيان ثقيف في الطائف، وترميه بالحجارة حتى تدمي رجلاه فيضطر إلى الجلوس من الألم والتعب(6). ولكن القرآن لا يتركه إلى اليأس، فما ودعه ربه وما قلاه، وما أقوى إيمان الرسل !
وكان التنزيل في السنوات الأولى يحث الرسول على متابعة الرسالة، وينذر الناس ويأمرهم بعبادة الرحمن وحده، وينهاهم عن عبادة أوثان لا تنفع ولا تضر، ويُحَذِّرُهُم من عذاب الآخرة بعد البعث. وتستمر قريش في التكذيب وجحود النشأة الثانية بعد الموت والحياة الآخرة، قائلين إنهم لن يبعثوا بعد أن يكونوا رفاتاً وعظاماً نخرة.
ولكن القرآن يمضي في النذر وضرب الأمثال، فالله الذي خلق السماوات والأرض، وخلقهم من قبل، قادر على أن يبعثهم مثل ما أَحْيَى الأرض بعد موتها، وكذلك النشور. وكما ضرب القرآن هذه الأمثلة لقريش، فقد ضرب كذلك الأمثال للرسول، عليه الصلاة والسلام، وقص عليه قصص الأنبياء السابقين الذين عُذِّبُوا في سبيل دينهم، وأوذوا في تبليغ رسالاتهم، ولكنهم صبروا لأنهم كانوا على يقين بأن الله سوف ينصرهم ويذل عدوهم وعدوه من المجرمين الظالمين.(1/160)
وتطلب قريش من النبي أن يعطيهم آية تدل على صحة ما يقول، ومنهم من يستغرب أن الملائكة لم تأت معه، وأن ليست معه الكنوز، وأنه ليس إلا رجلاً مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ومنهم من يقول له، كما جاء في القرآن : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تُفَجِّرَ لنا من الأرض ينبوعاً. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كِسفاً أو تأتي باللَّه والملائكة قِبَيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيِّك حتى تنزِّل علينا كتاباً نقرؤه } (سورة الإسراء، الآيات 93-90). فيضيق صدر الرسول ويحزن، ولكن الله يوحي إليه أن يقول لهم : { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } (سورة الإسراء، الآية 93)، وإنما الآيات من أمر الله وحده، وليس للبشر أن يأتي بآيات الله وفقاً لهواه، ولو ابتغى نفقاً في الأرض أو سلَّماً في السماء. ولو شاء الله لجمع الناس على الهدى، ولكن الله يفعل ما يريد.
ويحث الله تعالى رسوله على متابعة الرسالة، وعلى الثبات عليها وعدم الامتراء فيها، والصبر على أذى الكفار وكيدهم، والعاقبة للمتقين.
كان هذا في المرحلة المكية، وبعد الهجرة استمر الوحي لبيان الشريعة وتنظيم أحوال الأمة الإسلامية، ديناً ودنيا.
لغة الخطاب القرآني
إن هذا الخطاب وصلنا عن طريق وسيلة واحدة وبلغة واحدة، فوسيلته محمد ابن عبد الله، النبي الرسول، عليه الصلاة والسلام، الذي بَلَّغَ عن الله تعالى القرآن الكريم، وهو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى، بألفاظه وما تحمله من معانٍ.
يقول الحق سبحانه وتعالى : { إنا أنزلناه قرآناً عربيا لعلكم تعقلون } (سورة يوسف، الآية 2).
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } (سورة إبراهيم، الآية 5).(1/161)
والقرآن هو الكتاب الذي { لا ريب فيه هدى للمتقين } (سورة البقرة، الآية 1)، والله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم أنزل عليه كذلك الحكمة (السُّنَّة) التي نطق بها لسانه وعَلَّمَهَا أمته ليبين لهم أمور دينهم، وليزكيهم ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون.
والكتاب نزل بلسان عربي مبين، والحكمة النبوية نطق بها محمد الذي آتاه الله جوامع الكلم، فكان أفصح من نطق بلسان الضاد.
الإعجاز البلاغي للقرآن
أجمع العرب في ماضيهم وحاضرهم، وسيظلون على ذلك في مستقبلهم، أن البلاغة القرآنية فريدة وتأتي في أعلى مراتب اللغة العربية. ولم يستطع أحد من البشر ولن يستطيع أن يأتي بمثل آيات القرآن وسوره، ولا يقدر على ذلك أفصح الناس لساناً وأبلغهم حجة وبرهاناً.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب من كتاب، وإنما عُرِفَ قبل الرسالة بـ "الصادق الأمين". وذلك يعني أن القرآن نزل لفظاً ومعنى من عند الله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } (سورة الإسراء، الآية 88).
الفصل الثاني
جمع القرآن وتوثيقه
حفظ القرآن وكتابته في عهد الرسول
كان القرآن ينزل منجماً بمناسبة الأحداث التي تجري في المجتمع، والاستفسارات التي يطرحها الناس حول الوقائع والأحكام والعبادات... إلخ. فكيف جمع القرآن ورتبت آياته وسوره ؟
الحفظ الشفاهي :(1/162)
كان الحفظة من الصحابة يحفظون الآيات شفاهة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : >خذوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود، فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأُبَيِّ بن كعب<(7). فالحديث يشير إلى كمال ودقة حفظ هؤلاء للقرآن، فهم الذين كانوا يسمعون ويحفظون عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة. أما ترتيب الآيات والسور، فقد كان الوحي يراجع القرآن على الرسول. وفي هذا الإطار يتم ترتيب الآيات والسور بمعرفة الوحي، ثم يبلغه الرسول إلى الكتبة والحفظة ويواليهم بالتوجيه والإرشاد. >عن عائشة عن فاطمة، عليهما السلام : أسرَّ إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مَرَّةً، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أَجَلِي<(8).
الجمع الكتابي :
حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال : >جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار : أُبَيُّ ـ بن كعب ـ ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد بن ثابت، قلت لأنس : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي<(9)، هذا الأثر يشير إلى من كانوا يكتبون الوحي بإملاء مباشر من الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن من الصحابة غير هؤلاء من كانوا يكتبون القرآن من ذاكرتهم الحافظة، أو بإملاء من غيرهم من الحافظين، وبذلك بلغ عدد من جمع القرآن كتابة من الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة، ذكرهم ابن النديم(10).
ترتيب السور والآيات(1/163)
ذكر ابن وهب في جامعه، قال : سمعت سليمان بن بلال يقول : سمعت ربيعة يسأل : لِمَ قُدِّمَتْ البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة ؟ فقال ربيعة : قد قدمتا وأُلِّفَ القرآن على علم ممن ألَّفهُ، وقد اجتمعوا على هذا بذلك، فهذا ما ننتهي إليه ولا نسأل عنه. وقد ذكر سنيد قال : حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين، عن قتادة قال : قال ابن مسعود : من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا أبَرَّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم(11).(1/164)
وقال قوم من أهل العلم : إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان على توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبيٍّ وعبد الله، فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن أبي وهب، قال : سمعت مالكاً يقول : إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذكر الأنباري في كتاب الرد أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فُرِّقَ على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جواباً لمُسْتَخْبِرٍ يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيىن، عليه الصلاة والسلام، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات وغيَّر الحروف والكلمات، ولاحجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام والأنعام نزلت قبل البقرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخِذَ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول ضعوا هذه السور موضع كذا وكذا من القرآن، وكان جبريل، عليه الصلاة والسلام، يقف على مكان الآيات(12).
وهناك قول ضعيف في احتمال أن يكون ترتيب السور ـ دون الآيات ـ كان باجتهاد من الصحابة، وليس في ذلك ما يقلل من قدر القرآن لأن كل سورة منه تتسم بالكمال والاستقلال.
أما ترتيب الآيات داخل كل سورة، فإن جميع المسلمين متفقون على أن ترتيب الآيات داخل السور كان بتوقيف من الوحي، وفي ذلك أخبار كثيرة(13).(1/165)
قال ابن الطيب : إذا قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد ــ أي الفاتحة ــ ومنهم من جعل في أوله اقرأ باسم ربك وهذا أول مصحف علي، رضي الله عنه. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله : مالك يوم الدين ــ أي الفاتحة ــ ثم البقرة ثم النساء على ترتيب مختلف. ومصحف أبيّ كان أوله الحمد لله ــ أي الفاتحة ــ ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة، ثم كذلك على اختلاف شديد. قال القاضي أبو بكر الطيب :
فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وذكر ذلك مكي، رحمه الله، في تفسير سورة براءة.
وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما لم يأمر بذلك في أول سورة براءة، تركت بلا بسملة(14). ونرى أن الأمر كذلك أيضاً في ترتيب السور، وعليه أهل العلم(15).
وقد روي عن عائشة، رضي الله عنها، أن عراقياً سألها : >قال : يا أم المؤمنين أريني مصحفك. قالت : لِمَ ؟ قال : لعلي أُوَلِّفُ القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوَّل شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل : لا تزنوا، لقالوا : لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وإني لجارية ألعب { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ }، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. قال : فَأَخْرَجَتْ له المصحف فأملت عليه آي السور<(16).
تطور توثيق القرآن بعد وفاة الرسول(1/166)
في عهد أبي بكر الصديق : تم الوحي بنزول آخر آية قبل التحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى (11هـ/632م) ولكنه ترك كتاباً كاملاً لا يضل من استمسك به ورعاه حق رعايته، فكانت عناية المسلمين به بالغة : حفظوه في صدورهم أولاً بأول منذ أن كان ينزل وإلى أن اكتمل، وكتبوه في الأدم والأكتاف والحجارة، فكان من الصحابة، رضي الله عنهم حفاظ وقراء وكُتَّاب.
وتدل الآثار الصحيحة على أن الرسول ترك مصحفاً بعد وفاته، ربما كان مصحف أحد الصحابة من كتبة الوحي مثل زيد بن ثابت. وعائشة، رضي الله عنها، كان لديها مصحف(17).
ولما استَحَرَّ القتل في حفظة القرآن خلال معارك الردة في خلافة أبي بكر، أجمع الصحابة الكرام على إخراج مصحف يشتمل على صحف متناسقة، ويكون ملكاً للدولة في عناية ولاة الأمور، لأن أغلب ما بيد الناس من صحف مطهرة كان مدوناً على رقاع الجلد وسعف النخل، وهو إن كان مكوناً لمصاحف متكاملة، إلا أنه عرضة للضياع والتفرق.
كان ذلك رأي عمر بن الخطاب، فألحَّ على أبي بكر في ذلك، فاستدعى أبو بكر زيد بن ثابت لهذه المهمة. وبذلك تم إخراج مصحف منسق ومتكامل وأصبح ملكاً للأمة، فكان عند أبي بكر إلى أن مات، ثم صار عند عمر إلى أن مات، ثم أصبح عند حفصة أم المؤمنين(18)، إلى أن طلبه الخليفة عثمان بن عفان ليقدمه إلى الصحابة الذين كَلَّفهم بكتابة "مصحف إمام" كما سيأتي بيانه.
في خلافة عثمان بن عفان (35-23هـ/656-644م) : بعدما انتشرت رقعة الإسلام، وتفرق الحُفَّاظ في الأمصار، وكان الناس يكتبون المصاحف بالسماع من هؤلاء الحفظة، ويدونونها وفقاً للهجات أوطانهم، وكان بين الناس خلافات في قراءة بعض الألفاظ وكتابتها، فقال حذيفة بن اليمان للخليفة عثمان بن عفان : >أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى<(19)، أي قبل أن تستفحل تلك الاختلافات لتصل إلى معاني الآيات ودلالاتها فيتسرب التحريف إلى كتاب الله.(1/167)
لقد انتشر الإسلام في ذلك العصر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى آذربيجان، وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف، وليست قرية ولا محلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها(20). وقد أخذ الخليفة بنصيحة حذيفة بن اليمان فأمر بإخراج مصحف مكتوب برسم تتوحد عليه أقلام وألسنة العرب، ونُسِخَ منه عدد لفائدة الأقاليم. ثم أُذِّنَ في الناس بإحراق ما خالف ذلك المصحف، ليس لأن ما بأيدي الناس من مصاحف كان يحتوي الخطأ، ولكن إيذاناً بأن الوقت قد حان لالتفاف المسلمين حول نص كتابي برسم واحد يكون هو "المصحف الإمام"، فيقرأ بنطق سليم من مختلف شعوب العرب، ويعتمد عليه في نقل المصاحف، وإليه يكون المرجع عند الشك والاختلاف.
أما من حيث قوة التوثيق، فإن المصحف الإمام يعلو ما كان منتشراً بأيدي الناس من مصاحف وقتئذ، فهذه كان أصحابها يكتبونها منفردين بالسماع من القراء، بينما المصحف الإمام تم نقله من المكتوبات الأصلية وروجع على ما في صدور حفظة القرآن، وأخرج على يد جمع من الصحابة، هم : زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن الحارث بن هشام(21).
وكان رسمه (كلماته المكتوبة) خالياً من الشكل والتنقيط اللذين أُحْدِثَا على يد أبي الأسود الدؤلي، مؤسس علم النحو العربي، ونصر بن عاصم الليثي، فكانت النقطة فوق الحرف للدلالة على الفتحة وتحته للدلالة على الكسرة، وبلون مختلف عن لون الأحرف(22).
أما التشكيل النهائي كما هو على حروف الكتابة القرآنية الآن، وبلون الأحرف، فقد تم على يد عالم اللغة الشهير "الخليل بن أحمد الفراهيدي" (تـ 170هـ/789م)(23).
فهرسة الآيات والسور للدراسة
تتوفر فهرسات للآيات والأحكام القرآنية منشورة بهدف تقديم العون والتيسير للعلماء والباحثين، ومنها :
التصنيف وفقاً لتاريخ النزول (الترتيب الزمني للوحي) :(1/168)
إن ترتيب القرآن وفقاً لزمن النزول أمر يهم الفقهاء والباحثين، فهو يفيد في إيضاح مسائل هامة، مثل معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام وفقاً لتدرج التشريع.
ومن أشهر المصنفات ما قام به محمد عزة دروزة، من تفسير القرآن مرتباً وفق تاريخ النزول(24)، وتوجد كذلك أسطوانات حاسوب خاصة بالقرآن الكريم بها إمكانية التعرف على فهرسة السور وفقاً لترتيب نزولها(25).
التصنيف وفقاً للموضوعات :
لا تخفى أهمية ترتيب الآيات وفقاً للموضوعات، فذلك يساعد على حصر الآيات ومعرفة الأحكام الخاصة بكل موضوع على حدة. وأشهر الأعمال المطبوعة في هذا الصدد، ما قام به "جيل لابوم" من تصنيف موضوعي لمعاني آيات القرآن الكريم المترجمة إلى الفرنسية. ثم تبنى العمل نفسه وعرضه بالعربية "محمد فؤاد عبد الباقي"(26).
ودفع هذا العمل القيم الباحثين إلى الاهتمام بالتصنيف الموضوعي لآيات القرآن الكريم، فأعد هنري ميرسيه ترجمة لمعاني القرآن الكريم مصنفة تصنيفاً موضوعياً وطبعت باللغتين العربية والفرنسية(27). ثم انتشرت بعد ذلك التصنيفات الموضوعية بالعربية(28)، ويتوالى صدور أعمال جديدة في هذا المجال.
وجل هذه الأعمال مطبوعة ومتداولة، وتعاد طبعاتها، وهي مصنفات قرآنية ولكنها لا تُسَمَّى مصاحف، لأن ترتيب السور والآيات كما هي في المصحف قد تم، كما سبق أن أوضحنا، بتوقيف من الوحي(29).
الفصل الثالث
علوم القرآن
تَعَرَّضَ المسلمون لما أُشْكِلَ وما تشابه من آيات القرآن، فتناوله الصحابة والراسخون في العلم من بعدهم بالتأويل والتفسير، فنشأت عن هذا كله مجموعة من العلوم تعرف بـ "علوم القرآن"، وقد لخصها الزركشي في كتاب البرهان، وجلال الدين السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرآن(30).(1/169)
لقد اصطلح العلماء على أن بعض القرآن مكي وبعضه مدني، ولكنهم اختلفوا في معنى هذا الاصطلاح، فمنهم من يقول إن كل ما نزل قبل الهجرة إلى المدينة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو المدني. والبعض يقول إن كل آية نزلت في موضع يجب أن تنسب إلى ذلك الموضع، لأن القرآن لم ينزل في مكة وحدها ولا في المدينة وحدها، وبعض الآيات نزلت في "منى" مثل قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوَفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } (سورة البقرة، الآية 280). والبعض في عرفات، مثل قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (سورة المائدة، الآية 4). والبعض في الجحفة... إلخ.
وفريق ثالث من العلماء يقول إن ما يتعلق بأهل مكة فهو مكي، وما يتعلق بأهل المدينة فهو مدني، وبمقتضى هذا الاصطلاح يكون كثير من القرآن ليس بمكي ولا بمدني، مثل سورتي القصص والأحكام.
وقد ارتضى الجمهور الاصطلاح الأول، والمهم في هذا الصدد أن للمكي خصائصه من حيث المعاني والأغراض، فهو في غالب الأمر دعوة إلى التوحيد وخطاب للناس كافة ووعد ووعيد ينطقان بالإيمان وينددان بالكفر، وقصص للعبرة والذكرى. وأما المدني ففيه خطاب للمؤمنين، وتشريع للعبادات وأحكام للمعاملات، وحث على الجهاد، وتنديد بالمنافقين، وفيه جدال أهل الكتاب، مع استمرار الوعد والوعيد.
نشأة علم القراءات(1/170)
إن من آيات إعجاز القرآن حفظه الذي تكفل به الحق سبحانه وتعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (سورة الحجر، الآية 9). ولقد تمثل هذا الحفظ في نقله متواتراً عبر الأجيال، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ففي عهد النبوءة كان جبريل ينزل بآيات القرآن وسوره كُلَّمَا أمره الله بذلك، وكان يتعهد ما نزل من القرآن بالمراجعة مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان من كل سنة. وفي آخر سنة من حياته عرضه عليه مرتين إيذاناً بأنها العرضة الأخيرة(31). وحفظها عنه مجموعة من علماء الصحابة، منهم : الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ومشاهير القراء المعروفين، ومنهم : عبد الله بن مسعود، وأبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن أبي السائب المخزومي.
وبعد هؤلاء اشتهرت مجموعة ممن وقفوا حياتهم على قراءة القرآن وإقرائه، منهم : عبد الله بن عياش المخزومي، والمغيرة بن أبي شهاب، وعبد الله بن حبيب السلمي، وأبو العالية الرياحي، ويزيد بن القعقاع المدني، وشيبة بن نصاح، وشيوخ أئمة القراءة في الأمصار، والذين تواترت قراءاتهم وحروفهم، بعدما دونها ابن مجاهد البغدادي في كتاب السبعة.
وكان من شدة اعتناء القراء بحفظ القرآن وضبط نقله وروايته، أن وضعوا في القراءات علماً مستقلاً، ألفت فيه مئات المصنفات التي تتضمن قواعده الأساسية التي بني عليها تدقيق النص القرآني عن طريق اللغة، وصحة النقل الشفهي في الإسناد، وتوثيق الرسم في المصاحف. وهذه الأصول الثلاثة حررها المحقق ابن الجزري في قوله :
وكل ما وافق وجه النحو وصار للرسم احتمالاً يحوي
وصح إسناداً هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان
* الركن الأول : سلامة اللغة :(1/171)
نظراً لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكان معجزاً لكفار العرب أهل الفصاحة والبلاغة، فقد تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، مصداقاً لقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً }. (سورة الإسراء، الآية 88).
ومن أجل ذلك استبعد القُرَّاء كل ما يخالف قواعد العربية، فاعتبروا من القراءات الشاذة قراءة { الحمد للَّه رب العالمين } (سورة الفاتحة، الآية 1) بكسر الدال، أو بضم لام الجر. غير أنهم قبلوا كل ما له وجه نحوي إذا صح إسناده، مثل قراءة حمزة بن حبيب الزيات، { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } (سورة النساء، الآية 1) بخفض الأرحام، لجواز العطف على ضمير الجر.
ويدخل في هذا الركن قبول القراءات المتنوعة بحسب صيغ أداء القبائل العربية للحروف، استناداً إلى الحديث الصحيح القائل بأن القرآن أُنْزِلَ على سبعة أحرف. ومن روايات هذا الحديث ما رواه الإمام مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال : >سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أُنْزِلَتْ، ثم قال لي : اقرأ، فقرأت، فقال : هكذا أُنْزِلَتْ. إن هذا القرآن أُنْزِلَ على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه<(32).(1/172)
وحديث الأحرف السبعة متفق على صحته، مختلف في لفظه وتفسيره. وقد روى الشيخان من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف<(33). وله روايات وطرق أخرى متقاربة في المتن والمعنى(34).
واتفق العلماء على أن القصد هو التخفيف على الأمة، ولكنهم اختلفوا كثيراً في معنى الأحرف، فكان كل فريق من العلماء يفسر حديث الأحرف السبعة حسب تخصصه :
الأصوليون يقولون : المطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والنص والمؤول، والمجمل والمفسر، والخبر، والاستثناء وأقسامه.
والفقهاء يقولون : الحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي، والدعاء والخبر، والاستخبار، والزجر والوعد والوعيد.
ويقول أهل البيان : إنها : الحذف والصلة والتقديم والتأخير والاستعارة والتكرار والحقيقة والمجاز والمجمل والمقيد والظاهر والمضمر.
أما اللغويون، فيقولون : لغات القبائل، ويذكرون سبعة منها : وهي لغة قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن. ونسب هذا القول إلى ابن عباس. وأورد اللغويون الكلمات الخاصة بلغات هذه القبائل مثل "اللهو" ويعني المرأة عند أهل اليمن، "ييأس" أي يعلم، في لغة هوازن.
ولعلماء القراءات آراء متقاربة تتناول اختلاف أوجه الأداء في القراءات الثابتة، وقد بسطها أبو عبيد الله بن سلام وأبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وأبو الفضل الرازي، وابن الجزري الذي يقول : ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة، حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صواباً، إن شاء الله، وذلك أنني تتبعت القراءات : صحيحها وشاذها، وضعيفها ومنكرها... فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها(35) :
الأول : اختلاف في الحركات بلا تغير في المعنى أو في الصورة، نحو : البُخل والبَخل، ويَحْسِبُ ويَحْسَبُ.(1/173)
الثاني : اختلاف في الحركات يؤدي إلى تغير في المعنى دون الصورة، مثل : > فتلقى آدَمُ من ربِّه كلمات < (سورة البقرة، الآية 36) > فتلقى آدَمَ من ربه كلمات <.
الثالث : اختلاف في الحروف بتغير المعنى لا الصورة، نحو : تبلو وتتلو، ونُنَجِّيكَ ونُنْجِيكَ.
الرابع : اختلاف في الحروف بتغير الصورة لا المعنى، نحو : بسطة وبصطة، والصراط والسراط.
الخامس : تغير المعنى والصورة، مثل : > أشد منكم < و> أشم منهم < و>يأتل< و>يتأل<، و> فامضوا إلى ذكر الله < و> ... واسعوا <.
السادس : التقديم والتأخير، نحو : { فيَقتُلُون ويُقْتَلون } (سورة التوبة، الآية 112) و>فَيُقْتَلُون ويَقْتُلُون<. { وجاءت سكرة الموت بالحق } (سورة ق، الآية 19) و>وجاءت سكرة الحق بالموت<.
السابع : الزيادة والنقصان، نحو : ووصى وأوصى، { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى } (سورة الليل، الآيات 1-3) بحذف >ما<.
وقد يكون من أسرار حديث الأحرف السبعة أنه نفسه روي على >سبعة أحرف< فاتسعت معانيه لتتحمل كثيراً من الأقوال والآراء التي لم تستنفد إلى الآن مضامينه ومراميه.
وهكذا بَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم جواز تعدد أوجه القراءة، فرفع بذلك عن الأمة حرجاً لا طاقة لها بتحمله. فهذا الحديث من معجزات حفظ القرآن، ومن مظاهر رحمة الله تعالى التي أنزلها على لسان خاتم الأنبياء والمرسلين. فتنوع أحرف هذا الحديث، واختلاف العلماء في فهمه، يدل على سعة تحمله.
* الركن الثاني : موافقة المقروء ـ الثابت في ذاكرة حفظة القرآن ـ لنطق حروف المصحف العثماني :(1/174)
لقد اختلف في عدد المصاحف التي نسخت نقلاً عن "المصحف العثماني" عند تمام كتابته في عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، والمشهور أنها كانت خمسة، وقيل كانت سبعة، أرسلت إلى : مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة، واسْتُبْقِيَ واحد في المدينة. وقد عرف منها المصحف المدني والكوفي والشامي والمكي والبصري، فصار كل مصحف منها هو ما يعرف بـ "المصحف الإمام" الذي يرجع إليه في تصحيح القراءة.
ولوحظ على هذه المصاحف بعض التباين في الكتابة، وهو تنوع محدود ليس فيه اختلاف تضاد أو تناقض، وإنما هو توسعة على أهل الأداء، لأن الرسم العثماني كان خالياً من الشكل والنقط، فاحتمل تعدد أوجه القراءة، وفقاً لحديث الأحرف السبعة المذكور آنفاً.
وكانت عناية العلماء بالحفاظ على صورة الرسم العثماني بالغة، فمنعوا إجراء أي تغيير عليه بزيادة أو حذف، أو تطبيق ما جدّ من قواعد الإملاء عليه، واحتفظوا بكتابة الكلمة، ولو كانت مغايرة للنطق. فظهر ذلك في كتابتهم : { والسماء بنيناها بأييد } (سورة الذاريات، الآية 47) بيائين. وكتبت >نشاء< مرة بالألف بعد الهمزة، ومرة >نشؤا<. ورسمت >أيها< تارة بالألف، وأخرى دون ألف.
واحتفظ كذلك بكل ما جاء موصولاً أو مقطوعاً، لمنع أي تبديل في الرسم العثماني، المصطلح عليه بالسواد.
وفي أول الأمر تحرج العلماء من زيادة النقط والشكل، إلا أنهم في أواخر القرن الأول اضطروا لهذه الزيادة دفعاً لضرر آخر وهو الخطأ في القراءة، وهذا ما حدا بـ "أبي الأسود الدؤلي" أن يضيف شكلاً في صورة نقاط لضبط حركات الكلمة في البناء والإعراب، فجعل النقطة بين يدي الحرف للضم، وفوقه للنصب، وإذا كانت تحته فهي على الكسر. وجاء بعده "نصر بن عاصم" الذي أتى بنقط الإعجام للفصل بين الحروف المتشابهة، مثل الباء والتاء والثاء، وبين الجيم والحاء والخاء، ونحو ذلك.(1/175)
وقد اصطلح على هذه الزيادات بمصطلح "الإعجام"، واجتهد العلماء الأوائل أن يستعملوا للشكل والنقط حبراً يخالف لون الرسم الأسود للكلمات، ولكيلا يُظَنُّ أنه منها. ثم تطور هذا الضبط في القرن الثاني الهجري، فأدخلت على الحروف علامات الهَمْزِ والمَدِّ والإمالة على يد "الخليل بن أحمد الفراهيدي" (تـ 170هـ/789م) فبقي الرسم محفوظاً مُمَيَّزاً، دون حاجة لمخالفة لونه للون الشكل والنقط.
وقد أَلَّفَ القُرَّاء في خط المصحف عدة مصنفات، منها كتب : أبي عمرو الداني في الرسم والنقط، وأنظام الخراز المغربي، ورسم الطالب لعبد الله الشنقيطي.
لقد حافظ المسلمون على رسم المصحف وضبطه وتفننوا في كتابته وزخرفتها، فأبدعوا روائع من خطوط المصاحف، واشتهر منهم نساخ مرموقون، أمثال : ابن البواب وابن مقلة والرفاعي المغربي.
* الركن الثالث : صحة الإسناد :
وهو أهم أركان ثبوت القرآن لأن كل ما صح سنده فهو عربي، ومرسوم في المصحف.
لقد كان القراء من الصحابة، ومن جاء بعدهم، يعطون الأولوية لصحة الإسناد. ففي مرحلتي الجمع وتطور التوثيق السابق ذكرهما، لم يقبلوا إلا ما أثبته العدول وتعدد رواته، وبذلك تكون الرواية بالتواتر ثابتة ومستقرة لكل ما جمع من القرآن في المصاحف. وتشددهم في الرواية جعلهم يستبعدون بعض الجُمَلِ الواردة في مصاحف خاصة، انفرد بها قراء معروفون، من أمثال عبد الله بن مسعود وأُبَيِّ ابن كعب، لأنه تبين بعد التدقيق والمقارنة أنها زيادات إيضاحية وتفسيرية، أدخلها أصحابها قبل أن تنضج لديهم ملكة تنظيم الكتابة إلى الدرجة التي يفصلون فيها بين منطوق الوحي والشروح التي أضافوها.(1/176)
ثم إن الأمة أجمعت على تواتر قراءة سبع من الأئمة المذكورين في كتاب ابن مجاهد، وهم : نافع بن عبد الرحمن المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وعبد الله بن عامر الدمشقي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وعاصم بن بهدلة، وحمزة الزيات، والكسائي. ثم إن القراء اتفقوا على تواتر ثلاثة آخرين، وهم : أبو جعفر المدني، وخلف البزار، ويعقوب الحضرمي.
وهذه القراءات محفوظة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وانتشرت عند علماء الأمصار وجمهور القراء، ودونت في مجموعة من المصنفات، مثل : كتاب ابن مجاهد، وكتب القاسم الشاطبي، وقصيدة حرز الأماني التي نظمت مضمون كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، ثم أكملها المحقق ابن الجزري بقصيدة سماها الدُّرَّة، وهي على منوال قصيدة الشاطبي، وصارت كلا القصيدتين مرجعاً رئيساً في تدريس القراءات.
ثم كان من صنيع القراء أن وضعوا أسساً دقيقة لنقد الروايات، وبَيَّنُوا درجاتها من صحة الإسناد، ولم يجيزوا ما شذَّ منها عن الأصول الثلاثة، بحيث يقول ابن الجزري :
وحيثما يختل ركن أثبت شذوذه لم أنه في السبعة
التفسير ومناهج المفسرين
يتضمن الخطاب القرآني آيات محكمة واضحة الدلالة، وآيات مجملة لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وآيات متشابهة استأثر الله وحده بعلمها. ولهذا فإن عامة المسلمين يحتاجون إلى بيان القرآن بما يؤثر من السُّنَّة والحديث النبوي المفسر للقرآن، وما نقل عن أعلام الصحابة والتابعين.
ولقد اهتم العلماء بعلوم التفسير وسلكوا مذاهب متنوعة بسبب اختصاصهم. فاللغويون تناولوا مسائل المعاني والإعراب، مثل ما فعل أبو عبيدة والفراء والسراج. وتناول بعضهم مسائل البلاغة ووجوه الإعجاز، مثل ما جاء في كشاف الزمخشري وتفسير البيضاوي. أما الفقهاء فقد اعتنوا بأدلة الأحكام وأصولها، نحو كتب ابن العربي المعافري المالكي، وأبي بكر الجصاص الحنفي.(1/177)
ومن العلماء من حاول أن يكون تفسيره جامعاً شاملاً للمأثور من الحديث وأقوال الصحابة وعلماء اللغة وأئمة المذاهب الفقهية. ومن أشهر التفاسير الجامعة تفسير محمد بن جرير الطبري قديماً، ومحمد الطاهر بن عاشور حديثاً، وغيرهم. ومن أجودها تفسير عبد الحق بن عطية، وتفسير محمد بن أحمد القرطبي، وتفسير أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، وتفسير شهاب الدين الألوسي، وغيرهم. وتوجد كتب تعنى بشرح مناهج التفسير مثل التفسير والمفسرون للذهبي.
* معجم التفاسير القرآنية :
تهتم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالتعريف بأشهر مفسري القرآن الكريم، لذلك أصدرت الجزء الأول من "معجم التفاسير" ويتضمن تراجم لثمانين مفسراً ومعلومات أساسية عن أعمالهم ومناهجهم في التفسير، وتتصدر هذا المعجم مقدمة تعرف بنشأة التفسير وتطوره وازدهاره(36)، وسيصدر الجزء الثاني من هذا العمل قريباً، ويتضمن حوالي مائة تفسير.
نبذة عن فهم القرآن ومعانيه وأحكامه
يمكن تقسيم الخطاب القرآني إلى أربعة أقسام من حيث البيان(37) :
المحكم : أي واضح الحكم والدلالة، مثل قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } (سورة البقرة، الآية 184)، وهو الغالب الأعم من آيات القرآن.
المتشابه : وهو ما استأثر الله بعلمه، مثل قوله تعالى : { الم } (سورة البقرة، آل عمران، العنكبوت، الآية 1). و{ حم } (سورة الشورى، الزخرف، الدخان، الآىة 1) ونظائرها في فواتح السور.
الظاهر : وهو ما يحتمل معنيين وهو راجح في أحدهما، مثل قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } فالصلاة قد تعني الدعاء، ولكنها هنا تعني العبادة المعروفة. ومن قبيل الظاهر ما ورد في العموم والإطلاق.
المجمل : وهو الذي يحتاج إلى تفسير، كألفاظ المشترك، ومن أمثلتها قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } (سورة البقرة، الآية 226) لأن القرء قد يعني الطهر وقد يعني المحيض.
توجيه الخطاب القرآني(1/178)
يتوجه الخطاب في القرآن الكريم إلى محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم إلى الذين آمنوا من الناس، ثم إلى أهل الكتاب، ثم إلى جميع الناس عامة.
يقول الله تعالى مخاطباً النبي : { يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بَلَّغْتَ رِسَالاتِهِ } (سورة المائدة، الآية 69). وخطاب التبليغ فرض على الرسول، ليكون { مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } (سورة الأحزاب، الآيتان 46-45) فعليه بمقتضى هذا الخطاب دعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، والتصديق برسله، وهي أمانة قال الله فيها : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } (سورة المزَّمِّل، الآية 4) وأمر الله في هذا الخطاب الرسول أن يبين للناس شريعة الحق، فأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم في الجاهلية بعد انحرافهم عن مِلَّة إبراهيم، فأبلغهم الدين الخاتم الذي ليس فيه حرج ولا مشقة، فقال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج مِلَّة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبل } (سورة الحج، الآية 76) وقال سبحانه : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد مِنَ الْغَيِّ } (سورة البقرة، الآية 255).
أما الخطاب الموجه إلى المسلمين فإنه يدعوهم أن يأخذوا بما أمرهم به الرسول، وأن يجتنبوا ما نهاهم عنه، فقال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (سورة الحشر، الآية 7).(1/179)
كما أمر الله بمراعاة وحدة الأمة والحفاظ على كيانها وعزتها وأخوة الإسلام، فقال تعالى : { إن هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون } (سورة الأنبياء، الآية 91). و{ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلَّكم ترحمون } (سورة الحجرات، الآية 10). { واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تَفرَّقوا } (سورة آل عمران، الآية 103). و { ولا تكونوا كالَّذين تَفَرَّقُوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البَيِّنات وأولئك لهم عذاب عظيم } (سورة آل عمران، الآية 105). و { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن اللَّه مع الصابرين } (سورة الأنفال، الآية 47).
وألزم الله المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : { كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } (سورة آل عمران، الآية 110). كما بيَّن أن على المؤمنين أن يكونوا أمة وسطاً تحمل الرسالة الخاتمة التي جاءت بالخير إلى الناس كافة { وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } (سورة البقرة، الآية 142).(1/180)
ثم نجد في القرآن الكريم خطاباً موجهاً إلى أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وهؤلاء لهم في الإسلام وضع خاص يميزهم عن سائر غير المسلمين. فقد خاطبهم القرآن، يدعوهم إلى تصحيح كلمة التوحيد، ويبين لهم أن المؤمن هو من آمن بجميع الرسل، لا يفرق بين أحد منهم، ويصحح ما وقع في عقائدهم من تبديل وتحريف، يقول تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بَيْنَنَا وبينكم ألا نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } (سورة آل عمران، الآية 63). فإذا كانت شرائع الأنبياء مختلفة في الأحكام العملية، فإن الدين من حيث العقيدة واحد، وقد نهى الله عن التفرقة فيه، فقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وَصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تَتَفَرَّقُوا فيه } (سورة الشورى، الآية 11). هذا، ويجب على الناس اتباع آخر شريعة نزلت من السماء.
لقد تردد خبر موسى كليم الله في القرآن حتى قيل إن القرآن موسوي، يقول الله تعالى : { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبيا. وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } (سورة مريم، الآيتان 51-52). ويؤكد القرآن أن عيسى كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، فهو عبد الله ورسوله، جعله ربُّهُ هو وأمه آية للعالمين : { يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا في دينكم ولا تقولوا على اللَّه إلا الحقَّ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم وَرُوحٌ منه فآمنوا باللَّه ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما اللَّه إله واحد سبحانه أن يكون له وَلَدٌ له ما في السماوات وما في الأرض وكفى باللَّه وكيلاً } (سورة النساء، الآية 170).(1/181)
أما الخطاب القرآني الموجه إلى عموم الناس، مؤمنهم وكافرهم، فإنه يدعوهم أن يوحدوا خالقهم وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ليس له والد ولا صاحبة ولا ولد : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وَكُنَّا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } (سورة الأعراف، الآيتان 172-173). وأمرهم أن يرجوا رحمته، وأن يتقوا عذابه، ولم يكلفهم إلا ما هو في طاقتهم، فقال تعالى : { لا يكلف اللَّه نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (سورة البقرة، الآية 285) { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (سورة الإسراء، الآية 15).
ثم أمرهم أن يراعوا الحقوق وأن يتواصلوا فيما بينهم على الخير، وأن يجتنبوا الظلم والفواحش، فيقول الحق سبحانه وتعالى : { إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلَّكم تَذَكَّرُونَ } (سورة النحل، الآية 90). { يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن اللَّه عليم خبير } (سورة الحجرات، الآية 13).
هذا هو مجمل الخطاب الموجه إلى الناس عموماً، إلى المشركين ليؤمنوا وإلى المؤمنين ِليُحْسِنُوا، ففيه مراعاة حقوق الله بالتوحيد والعبادة والطاعة، وحقوق الرسل بالتصديق والاتباع، وحقوق الناس بالتعارف والتراحم والتعاون.
ترجمة معاني القرآن الكريم(1/182)
إن القرآن مُنَزَّلٌ بلسان عربي، وهو موجه إلى الناس كافة. ولما دخلت في الإسلام أمم من غير العرب، جدُّوا في حفظ القرآن للتعبد، ومعرفة معانيه للتدبر والامتثال. فمنهم من درس اللغة العربية وبرع فيها، والملاحظ أن كثيراً من علماء العربية كانوا من أصل غير عربي، مثل سيبويه وأبي علي الفارسي والزمخشري، ومنهم من استعان بترجمة معاني القرآن التي بدأت في عهد مبكر، فيذكر أن سلمان الفارسي ترجم سورة الفاتحة إلى الفارسية، وأن أبا حنيفة أجاز قراءة ترجمة معانيها في الصلاة لمن لا يعرف العربية. وقيل إن معاني القرآن الكريم ترجمت إلى السريانية في عهد الحجاج بن يوسف.
والواقع أنه مع انتشار الإسلام كثرت الترجمات، حتى جاوزت الآلاف، فترجمت معاني القرآن إلى أكثر من ستين لغة، من أبرزها : الفارسية والتركية اللتين تداخلتا مع العربية في نمط الخط وفي كثير من الألفاظ، بسبب التمازج بين علماء العرب والفرس والترك، الذين جمعتهم وحدة العقيدة والثقافة. كما أن هناك ترجمة إلى اللغة الأردية، وهي لغة كثير من علماء الإسلام، كما ترجمت معاني القرآن الكريم إلى الصينية واليابانية.
وترجمت في إفريقيا إلى عدة لغات مثل السواحيلية والبولارية.
وفي أوروبا ترجمت معاني القرآن إلى اللاتينية في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، وتوالت الترجمات إلى اللغات الحية، مثل : الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية، وبدأت طباعاتها في القرن السادس عشر. إلا أن تلك التراجم الأوروبية كانت في أغلبها مشوهة، إما عن جهل أو عن سوء نية، إلى أن ظهرت في العصر الحديث تراجم تعاون عليها علماء عرب مسلمون ولغويون مختصون، فصححت كثيراً من الأخطاء التي امتلأت بها الترجمات الأولى.
نشر المصاحف والتفاسير والترجمات بالطباعة والتقنيات المعاصرة(1/183)
لقد اخْتُرِعَتْ الطباعة في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي، وصدرت أول طبعة للمصحف الشريف خارج العالم الإسلامي بمدينة البندقية (فنيسيا) في إيطاليا، في أوائل القرن السادس عشر.
ويرجع تأخر طباعة القرآن الكريم عن بداية اختراع المطابع إلى سببين اثنين : أحدهما أن العالم الإسلامي لم يعرف نهضة الطباعة إلا في عهد متأخر عن تاريخ اختراع المطابع. والسبب الثاني هو تردد علماء الإسلام في بادئ الأمر حول إجازة طباعته، خشية الإخلال بقواعد الرسم والضبط التي يجب الحفاظ عليها، كما كانوا يخشون أيضاً احتمال إجراء عملية الطباعة في ظروف يصعب فيها احترام قداسة المصحف الذي لا ينبغي أن يَمَسَّهُ إلا المُطَهَّرُونَ. وكان لموقفهم ما يبرره، فقد كانت طبعة البندقية التي أصدرها "ألساندرو باكنيوا" مليئة بالأخطاء الفادحة حتى في سورة الفاتحة، ثم تلتها طبعة هامبورج في ألمانيا، وكانت مشوهة كذلك، لأنها نسبت القرآن الكريم إلى محمد، دون ذكر نبوَّته ورسالته.
ولكن مع التقدم العلمي، ومشاركة الأمَّة الإسلامية في تسخير الطباعة لنشر العلم، استطاع المسلمون أن يجدوا الحلول المناسبة لطباعة القرآن الكريم، مع مراعاة قواعد رسمه ونقطه، وقواعد حرمته.
وتوالت الطبعات، فبلغت طباعة المصاحف أعلى مستوى في الجودة والإتقان. وقد طبعت مصاحف من قراءة نافع في رواية ورش وقالون، ومن قراءة عاصم في رواية حفص، ورواية الدوري عن ابن عمرو بن العلاء... إلخ.
ومن أهم المؤسسات الإسلامية المعاصرة المتخصصة في طباعة المصاحف وترجمات معاني القرآن "مجمع الملك فهد" بالمدينة المنورة، الذي ينشر ملايين النسخ من المصاحف، تصدر بعد مراجعة مشاهير علماء القراءات والتجويد. وكذلك وزارات الأوقاف بالدول الإسلامية، والأزهر بمصر، وغير ذلك من المؤسسات العامة والخاصة القائمة على نشر المطبوعات القرآنية بعد تدقيق مراجعتها.(1/184)
واليوم نجد القرآن ـ وتفاسيره وترجمات معانيه ـ مدخلاً في أسطوانات الحاسوب، ويمكن الاطلاع عليه عبر شبكة الأنترنيت، مع الأخذ في الحسبان أن بعض المواقع، البعيدة عن إشراف المسلمين وأصحاب التخصص، تحتوي عروضها على أخطاء طباعية
الفصل الرابع
الخطاب النبوي
السنة النبوية تشمل ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقريرات، وهي القسم الثاني من الخطاب الديني في الإسلام، فهي الحكمة التي أنزلت مع الكتاب على الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول الله تعالى : { وأنزل اللَّه عليك الكتاب والحكمة وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم وكان فضل اللَّه عليك عظيماً } (سورة النساء، الآية 112). وبين الله صدق رسوله في كل ما يُبَلِّغُ، فقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى. إنْ هو إلا وَحْيٌ يُوحَى } (سورة النجم، الآيتان 3-4).
السنة النبوية
السنة النبوية تشمل عامة أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته، ودورها يتمثل في بيان : مجمل القرآن، وتفصيل بعض أحكام الشريعة التي جاءت مجملة في القرآن. وقد تأتي السنة بأحكام جديدة، فهي وحي إلى الرسول بالمعنى لا باللفظ، إلا ما كان يصدر عنه صلى الله عليه وسلم ، في أمور جِبِلِّيَّةٍ كطريقة مشيه، أو اجتهادات شخصية كرأيه في تأبير النخل.
وموضوعات السنة النبوية عديدة، فمنها أوامر ونواهي تشريعية، ومنها إرشاد وتوجيه، ومنها أذكار ودعوات يتعبد بها... إلخ. وجميع أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته هي امتداد وتوضيح للمبادئ الإسلامية المرتكزة على القرآن الكريم.
وتنقسم أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث الصياغة إلى نوعين :(1/185)
الحديث القدسي : وهو الذي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وكأن المتحدث هو الله، مثل حديث : >أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبرٍ تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة<(38). وهذا النوع من الحديث ليس قرآناً متلواً، فالقرآن لفظاً ومعنى من عند الله، وهو المحفوظ في الصدور والمُدَوَّن بين دفتي المصحف، والمجمع على إعجازه.
والنوع الثاني من الحديث هو أقوال الرسول، عليه الصلاة والسلام، التي يبين من سياقها أن المتحدث هو الرسول نفسه.
جمع السنة وتدوينها
لم يكن الحديث يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما كان يكتب القرآن، بل ورد النهي عن كتابته خشية أن تلتبس نصوصه بالنص القرآني. وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وَحَدِّثُوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ ـ قال همام : أحسبه قال متعمداً ـ فليتبوأ مقعده من النار<(39).
ولكن هناك روايات تُبَيِّنُ أنه صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب الحديث، فقد روى الإمام البخاري عن أبي هريرة أنه كان لا يكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يحفظه، وأن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتبه(40). كما أن أنس بن مالك كان يكتب الحديث، وكان لجابر بن عبد الله تقييد في الحج، وكان للإمام علي بن أبي طالب صحيفة ـ مدون فيها أحاديث ـ كانت في قراب سيفه(41). وروى الدارمي أخبرنا الوليد بن شجاع حدثنا المبارك بن سعيد قال : >كان سفيان يكتب الحديث بالليل في الحائط فإذا أصبح نسخه ثم حَكَّهُ<(42).(1/186)
وهذه الأخبار وإن كانت صحيحة، إلا أنها لا تدل سوى على التدوين الجزئي للحديث، ولا تكفي للدلالة على أن السنة دُوِّنَت تدويناً شاملاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما دُوِّنَ القرآن.
ولا يفهم من عدم تدوين الأحاديث بكاملها أنها ضاعت من ذاكرة الحُفَّاظِ في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، بل إن جمهور الصحابة حرصوا على حفظ حديث رسول الله نصاً، وعلى استظهار ألفاظه ومعانيه، وحدَّثوا به، ولقنوه للجيل، ومن هؤلاء : أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس... إلخ.
وفي السنوات الأخيرة من القرن الأول الهجري انطلقت حركة تدوين السنة، بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم بالإشراف على تدوين الحديث وقضاء الصحابة. ومن أشهر من قام بدور رائد في التدوين، محمد بن شهاب الزهري وصالح بن كيسان. وبدأت حركة التدوين بجمع الأحاديث وكتابتها في شبه مجامع عامة.
وفي النصف الأخير من القرن الثاني الهجري ظهرت التصنيفات. ويذكر ابن حجر(43) من أصحاب المؤلفات الأولى : الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروية البصري. وبعد ذلك صنف الإمام مالك موطأه في المدينة، ومزج جمعه للحديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين. وصنف عبد الملك بن جريح بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بن بشير بواسط، ومعمر بن راشد الصنعاني باليمن، وعبد الله بن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري، وهم جميعاً في عصر واحد، لا ندري أيهم هو الأول.
وتطورت عملية التدوين على يد أعلام من كبار الحفاظ، أمثال شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن مهدي، الذين أسهموا في وضع أسس علوم الحديث من حيث التثبت والتوثيق.
الكتب المعتمدة في السنة(1/187)
واصل الناس عملية التدوين إلى أن ظهرت المسانيد الجامعة في القرن الثالث الهجري، على يد الإمام أحمد بن حنبل، وابن أبي شيبة. وصنف الأئمة كتبهم المشهورة كصحيح محمد بن إسماعيل البخاري، وصحيح مسلم بن الحجاج. ثم جوامع أهل السنن، مثل أبي داوود والترمذي وابن ماجة والنسائي.
وهذه الكتب لم يزعم أهلها حصر كل الأحاديث الصحيحة، إذ ليس في صحيح البخاري سوى نحو من سبعة آلاف حديث، منها ما كان نصه مكرراً. ولقد جمع الطبراني من الحديث الكثير، وكذلك السيوطي في جامعه الكبير، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة والأحاديث الضعيفة.
وقد جرى مدونو السنة النبوية الشريفة على جمعها وتصنيفها وفقاً لأبواب الموضوعات : العبادات، الطهارة، الصلاة، الصوم، الزكاة، المعاملات، الجنايات...إلخ.
مراتب الحديث قوة وضعفاً
ينقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف. وقد وضع الفقهاء ضوابط للتمييز بين الحديث الصحيح والحسن والضعيف، وتعارفوا على مصطلحات وتقسيمات في هذا الشأن :
* الصحيح :
الحديث الصحيح عند أهل الصنعة هو الذي اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله بدون شذوذ أو علة قادحة. فالإسناد هو نسبة الحديث إلى رواته بتراجع التسلسل الزمني حتى الوصول إلى مصدره، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم . ومن أمثلة الحديث الصحيح الذي لم ينقطع إسناده، حديث : >لا يبع أحدكم على بيع أحد، ونهى عن النجش، ونهى عن بيع حبل الحبلة، وعن المزابنة<(44).(1/188)
وقد يتصل إسناد الحديث برواية العدول، ومع ذلك يكون شاذاً. والشذوذ عند علماء الحديث أن يروي الثقة خبراً متصل الإسناد، لكنه يخالف فيه جمهور الثقاة. ومن أمثلته ما رواه همام بن يحيى عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِقٍ (فضة) ثم ألقاه(45). فرواة هذا الحديث ثقاة وإسناده متصل، ولكن الخبر نفسه شاذ، لأن رواية الجمهور أن الخاتم الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم كان من ذهب وليس من وَرِقٍ(46). فالشذوذ مما يضعف به الحديث. كما يضعف الحديث بالعلة القادحة، مثل حديث الافتتاح بالبسملة في الصلاة الذي عُلِّلَ باختلاف نقل ألفاظه.
وقد نبه علماء الحديث إلى أن المقصود بالصحيح هو ما استوفى الشروط الخارجية، وذلك يعني أن توفر شروط الصحة المتعلقة بالسند لا تعني القطع بصحة مضمون الحديث، وذلك لإمكان تعرض الثقة للخطأ والنسيان، فنسيان كلمة أو إبدالها، وإسقاط حرف أو إضافته، قد يغير معنى الخطاب.
* الحَسَنُ :
والقسم الثاني من الحديث هو ما اصطلح عليه بالحسن : وهو ما اشتهرت روايته من غير المتهمين بالكذب، وسَلِمَ من الشذوذ، وهو دون رتبة الصحيح، أي لم تكتمل فيه شروط الصحة، إلا أن العلماء قبلوه وعملوا به لوجود أحاديث صحيحة تعضد معناه، أو لأن مضمونه يتفق مع روح شريعة الإسلام. وفيما عدا البخاري ومسلم اللذين اهتمَّا بجمع الأحاديث الصحيحة، اعتبرت أكثر أحاديث أهل السنن من الأحاديث الحسان، لأن أهل السنن والمسانيد يتساهلون في شروط الرواية، على خلاف البخاري ومسلم.
* الضعيف :
أما الحديث الضعيف فأنواعه كثيرة، يقال إنها تزيد على الأربعين، ومجمل المعنى أن كل حديث لم تتوفر فيه الشروط المذكورة آنفاً فهو ضعيف.
ومن أشهر أنواعه :(1/189)
المنقطع السند، وقد يكون معضلاً إذا سقط اثنان من سلسلة رواته، أو موقوفاً على راوٍ معين. وإذا ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعرف بالمرسل، وله حكم خاص، لأن بعض العلماء يلحقه بالصحيح.
ومن أنواع الضعيف الحديث المروي بالعنعنة إذا كان في رواته من يعرف بالتدليس. والتدليس إيهام بصحة السند بحذف بعض الرواة، أو ذكر الراوي باسم لا يعرف به.
ومن الحديث الضعيف ما يعرف بالموضوع، وهو الحديث المختلق كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم ، والوضَّاعون كُثر، وقد أُلِّفَتْ فيهم كتب عديدة تحذِّر من افترائهم وزورهم.
وأسباب الوضع معروفة، ذكر علماء الحديث منها : أعمال الزنادقة والمنافقين أعداء الإسلام، وما وضعه أهل البدع والأهواء لنصرة نِحَلِهِم بغير الحق، وكذلك أحاديث وضعت في فضائل الأقاليم. ومن الأحاديث الضعيفة التي تسربت إلى المؤلفات الإسلامية ما يعرف بالإسرائيليات، وهي قصص مروية عن أناس جهلة أو مجاهيل.
وقد بذل نقاد الحديث وصيارفته جهوداً كبيرة في وضع ضوابط للحديث، والكشف عن مواطن الزيف وأعمال المنتحلين، فأقروا قواعد الإسناد التي لولاها لقال من شاء ما شاء. وألفوا الكتب في أحوال الرواة وسيرتهم، وصنفوا الدرجات لتعديلهم وجرحهم، فقالوا إن منهم : الحجة، والثقة، والصدوق، ومن ليس به بأس. وإن منهم : الوضاع، والكذاب، ولين الحديث. وإن منهم : من يقبل حديثه عن جماعة معينة ولا يقبل عن غيرهم، ومثلوا لذلك بإسماعيل بن عياش الذي يُرْتَضَى حديثه عن الشاميين ويُتَحَرَّزُ منه إذا رَوَى عن الحجازيين. وذكروا أن من الرواة من اختلط في آخر زمنه، وأعطوا تاريخ اختلاطه، فمن رَوَى عنه في صحته أجازوه، ومن رَوَى عنه في زمانته، أي اختلاطه، تركوه.(1/190)
ثم قَرَّرُوا ضوابط الرواية، لمعرفة إمكان تَحَمُّلِ الخبر وأدائه، والألفاظ الدالة على السماع، ففرقوا بين : أنبأنا، وأخبرنا، وحَدَّثَنَا، وقال، وفلان عن فلان. كما بَيَّنُوا شروط الإجازة في مجال الرواية.
كل هذه الجهود التي بذلت في تصحيح الأحاديث، سواء على مستوى الجمع والتصنيف والتبويب أو على مستوى النقد والتقويم، أنشأت علماً دقيقاً، اختص به علماء الإسلام لتنقية الخطاب النبوي وإبرازه في الإطار الذي يليق به.
وقد ساعد المحدثين في هذا العمل ما قام به اللغويون من شروح لكتب الآثار وبيان غريبها ومشكلها. كما أفادوا أيضا من نقد علماء الفقه الذين اعتنوا بمضمون الخطاب التشريعي، فنقدوا المتون، وبحثوا في اختلاف الحديث، وبَيَّنُوا ما صاحبه العمل وما لم يصاحبه، وما كان ثابت الحكم وما نسخ حكمه بحديث مثله أو بالقرآن.
كل هذه الأعمال المتضافرة تعطي الناس اليوم صورة واضحة من معالم الخطاب الديني في الحديث النبوي الشريف.
والملاحظ أن انتشار الخطاب النبوي في الناس عامة ظل محدوداً، لأنه يكاد يقتصر على ذوي الاختصاص، فبقي محصوراً في اللغة العربية، ولم يترجم من مدوناته إلا القليل، وقد أخذت بعض اللغات الأوروبية مثل الإنجليزية والفرنسية حظّاً من ترجمة أهم جوامع الأحاديث مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم.
أما عن نشر الحديث النبوي بالطباعة والوسائل التقنية المعاصرة، فله حظ وافر في ذلك. فجوامع الأحاديث والسنن الشهيرة تطبع في الكتب وتتداول على أقراص الحاسوب، ومن أشهرها : صحيح البخاري، صحيح مسلم، موطأ مالك، مسند أحمد، سنن ابن ماجة، سنن الترمذي، سنن الدارمي... إلخ. ومن أفضل الشروح للحديث النبوي الشريف، فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، وغيره.
وقد انتشرت في الآونة الأخيرة الموسوعات الحديثية في أقراص حاسوب. وللحديث الشريف مواقع على الأنترنيت، أشهرها موقع "المُحَدِّث" : www.muhaddith.com.(1/191)
مضمون الخطاب النبوي
وعلى ذلك، فمضمون الحديث يشمل :
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي توجه به إلى ربه، يسأله التوفيق إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات وحب المساكين، ويدعوه ويستغفره ويلتجئ إليه، ويناجيه بالتحميد والتمجيد.
كما يشمل الحديث أيضاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته ليُفَصِّلَ لهم ما أنزل اللَّه من الأحكام المذكورة في القرآن إجمالاً، ويُعَلِّمُهُمْ أركان الإسلام الخمسة، وشعب الإيمان المتعددة، ودرجات الإحسان، ويرشدهم إلى طريق الهدى والتقوى، فيقول لهم : >إن الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ وبينهما مُشَبَّهَاتٌ لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبُهَاتِ كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه<(47).
ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أيضاً بفروض الوحدة والأخوة، فمثلهم في تراحمهم وتوادِّهِمْ وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمَّى(48). وأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه(49). وأنه لا ضرر ولا ضرار(50). وأن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نَوَى(51).
ثم يأمرهم على مستوى الإنسانية أن يفشوا السلام، >عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : تُطْعِمُ الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف<(52)، وأن يفعلوا الخير، وأن يقسطوا في الحكم، وأن يبتعدوا عن الخيانة والغدر والغيبة والنميمة والبهتان.
خاتمة(1/192)
إن الخطاب الديني في الإسلام، يأتي في قسميه : القرآني والنبوي، تعبيراً عن العهد بين الإله الباري وبين البشر، فذلك الخطاب هو امتداد لرسالة النبوَّة الخالدة، التي تعرب عن تكريم ابن آدم بالعقل وبمسؤولية الأمانة التي عرضت عليه، كما جاء في قول الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } (سورة الأحزاب، الآية 72). فمن صان الأمانة فله الجزاء الأوفى، ومن ضيعها وجهل قدرها فقد ظلم نفسه، وصار { ظلوماً جهولاً } { ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (سورة هود، الآية 118).
وتكريم الإنسان بالعقل، وتكليفه بتحمل الأمانة، يستلزم الوفاء بما أرشد إليه الخطاب الديني، وذلك يقتضي تدبر هذا الخطاب وفهمه واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفقاً لمبادئ واضحة يلخصها الأصوليون في الأمور التالية :
ـ حفظ النفس : التي استودعها الله في الإنسان، وجعل حرمة واحدة منها كحرمة البشر كله : { من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } (سورة المائدة، الآية 34).
ـ حفظ العقل : الذي هو مناط التكليف، فَحَرَّمَ على الإنسان كل ما يمس به من مسكر أو مخدر.
ـ حفظ الدين : وفيه صلاح الدنيا، ويكون ذلك بالتمسك بآدابه وقيمه، وفيه صلاح الآخرة بأداء الفروض الشرعية، فالدين ينجي المؤمن من العذاب، ويوصله إلى جنة النعيم.
ـ حفظ المال : الذي به قوام الأبدان، ومنه يكون الإحسان، وبه تكون عمارة الأرض التي استخلف اللَّهُ الإنسَانَ فيها.
ـ حفظ النسب والعرض : وفيهما مقومات كرامة الإنسان، وصيانة قيمه الاجتماعية، وما تتضمنه من توازن على مستوى الفرد والأسرة، وعلى مستوى الأمة.(1/193)
هذا ومن أسرف على نفسه فارتكب المعاصي، فليعلم { أن اللَّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن اللَّه هو التواب الرحيم } (سورة التوبة، الآية 105). { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } (سورة النساء، الآية 18).
الهوامش
(1) في بداية الكتاب باب تمهيدي حول "الوحي في حياة البشر"، من تأليف فضيلة الشيخ عبد العزيز بنعبد الله، فيه نبذة عن أشهر الأنبياء في تاريخ الإنسانية، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ويعرض لميلاده ونشأته، لذلك نحيل إليه لعدم التكرار، ونكمل الحديث عن ظروف حمله الرسالة الخاتمة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى إلى الناس كافة.
(2) رحمة للعالمين 1/47، والسيرة النبوية لابن هشام 1/235، 236، في ظلال القرآن، الجزء 29/166.
(3) صحيح البخاري، كتاب التعبير، حديث رقم 6472. صحيح مسلم، كتاب الرؤيا، حديث رقم 4201. سنن أبي داود، كتاب الأدب، حديث رقم 4364.
(4) قال ابن حجر : وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة في رمضان (فتح الباري 1/27).
(5) للاستزادة راجع مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي، ص 75. ومعلوم أن ليلة القدر في رمضان، وهي المراد بقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين } (سورة الدخان، الآية 3)، ولأن جواره صلى الله عليه وسلم بحراء كان في رمضان، وكانت وقعة نزول جبريل فيهما كما هو معروف.(1/194)
ثم اختلف القائلون ببدء نزول الوحي في رمضان في تحديد ذلك اليوم، فقيل : هو اليوم السابع، وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر (انظر المختصر السابق لسيرة الرسول، ص 75، ورحمة للعالمين، ج 1، ص 49). وقد أصدر الخضري في محاضراته على أنه اليوم السابع عشر (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/69).
وإنما رجحنا أنه اليوم الحادي والعشرون مع أنَّا لم نر من قال به، لأن أهل السيرة كلهم أو أكثرهم متفقون على أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين، ويؤيدهم ما رواه أئمة الحديث عن أبي قتادة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال : فيه ولدت وفيه أنزل عَلَيَّ، وفي لفظ : ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه (صحيح مسلم 1/368، أحمد 5/297، 299، البيهقي 4/286، 300، الحاكم 2/602). ويوم الإثنين من رمضان في تلك السنة لا يوافق إلا اليوم السابع والرابع عشر والحادي والعشرين والثامن والعشرين.
(6) راجع كتب السيرة النبوية، ومن أشهرها : السيرة النبوية لابن هشام. ومن المختصرات، الرحيق المختوم للمباركفوري. ومختصر السيرة النبوية لعبد الوهاب النجار. وأسطوانات حاسوب : موسوعة السيرة النبوية، إصدار المركز الهندسي للأبحاث التطبيقية R.D.I، القاهرة. ومكتبة السيرة النبوية، إصدار مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمّان، الأردن.
(7) صحيح البخاري، المناقب، 3524. مسلم، فضائل الصحابة، 4506.
(8) صحيح البخاري، كتاب المناقب، 3353. مسلم، فضائل الصحابة، 4487.
(9) صحيح البخاري، المناقب، 3526. مسلم، فضائل الصحابة، 4507.
(10) الفهرست، لابن النديم، ط. دار المعرفة، بيروت، 1398هـ/1978م، ج 1، ص 41.
(11) تفسير القرطبي، باب ما جاء في ترتيب سور القرآن، ط. دار الشعب، القاهرة، 1372هـ/1962م، ج 1، ص 59.
(12) المرجع السابق، ج 1، ص 60.
((1/195)
13) الترمذي، تفسير القرآن، 3011. أبو داود، الصلاة، 668. أحمد، مسند العشرة، 376.
(14) أحمد، مسند العشرة، 468. الترمذي، تفسير القرآن، 3011. أبو داود، الصلاة، 668.
(15) راجع تفسير القرطبي، مرجع سابق، باب ما جاء في ترتيب سور القرآن، ص 60-59.
(16) البخاري، فضائل القرآن، 4609.
(17) البخاري، فضائل القرآن، 4631.
(18) البخاري، فضائل القرآن، 4603.
(19) البخاري، فضائل القرآن، 4604. الترمذي، تفسير القرآن، 3029.
(20) الإحكام، لابن حزم، ط. دار الحديث، القاهرة، 1404هـ، ج 4، ص 552.
(21) البخاري، المناقب، 3244، فضائل القرآن، 4604-4601. أحمد، مسند الأنصار، 20657.
(22) راجع كتاب المصاحف، لأبي بكر السجستاني، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ/1985م، ص 162.
(23) راجع المحكم في نقط المصاحف، لأبي عمرو الداني، تحقيق د. عزت حسن، ط. دار الفكر، دمشق، 1407هـ/1986م،المقدمة 31-28.
(24) ويقع في حوالي 12 مجلداً من الحجم المتوسط، وصدرت منه الطبعة الأولى في دمشق عام 1365هـ/1946م. وطبعة ثانية عن دار نشر عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1367هـ/1948م. وطبعة ثالثة عن دار النشر نفسها، القاهرة، 1376هـ/1956م.
(25) أسطوانة القرآن الكريم، 6.31 من إصدار صخر لبرامج الحاسب الآلي، 1996-1991.
(26) طبع عام 1924م وعام 1935، وتعاد طبعات هذا التصنيف وأشهر ناشر له بالعربية دار الكتاب العربي اللبناني، بيروت، ومعه في مجلد واحد فهرسة "المستدرك"، أعدها إدوار مونتيه.
(27) Le Coran : Traduction et présentation nouvelles (exemplaire n! 741) Rabat, 1956
(28) من التصنيفات المعاصرة المعجم المفصل لمواضيع القرآن المنزل إعداد محمد خليل عيتاني، ط. دار المعرفة، بيروت، 2000م.
(29) راجع سابقاً ترتيب السور والآيات، ص 164 وما بعدها.
(30) تلك عناوين لكتب شهيرة من كتب التراث الإسلامي التي لا تتوقف إصداراتها.
((1/196)
31) البخاري، المناقب، 3353. مسلم، فضائل الصحابة، 4487.
(32) البخاري، الخصومات، 2241. مسلم، صلاة المسافرين وقصرها، 1354. مالك، النداء للصلاة، 423.
(33) البخاري، فضائل القرآن، 4607. مسلم، صلاة المسافرين وقصرها، 1355.
(34) راجع النسائي، الافتتاح، 932. أبو داود، الصلاة، 1262. أحمد، مسند الأنصار، 20238-20234.
(35) راجع تفاصيل أوردها ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ط. دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، ج 9، ص 28 وما بعدها. المناوي، فيض القدير، ط. القاهرة، 1356هـ، ج 3، ص 54 وما بعدها.
(36) معجم تفاسير القرآن الكريم، تأليف ذ. عبد القادر زمامة، د. عبد الوهاب التازي، ذ. فاضل عبد النبي، د. محمد الكتاني، ط. الإيسيسكو، 1417هـ/1997م.
(37) لمزيد من التفصيل والتعمق راجع مؤلفات أصول الفقه، باب الأدلة الشرعية "القرآن". ومن المختصرات المبسطة في المادة : علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ط. دار القلم، الكويت، 1398هـ/1978م. أصول التشريع الإسلامي علي حسب الله، ط. دار المعارف بمصر، 1396هـ/1976م.
(38) البخاري، التوحيد 6856. مسلم، الذكر والدعاء 4832. الترمذي، الدعوات 3527.
(39) مسلم، الزهد والرقائق 5326. أحمد، باقي مسند المكثرين 10663.
(40) صحيح البخاري، باب العلم.
(41) مسلم : الحج 2433، العتق 2774. أحمد، مسند العشرة المبشرين بالجنة 946.
(42) الدارمي، المقدمة 508.
(43) هو أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري، في 13 مجلداً.
(44) فتح المغيث، شرح ألفية العراقي للمؤلف، ص 10. فهذا الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك... إلخ.
(45) مسلم، اللباس والزينة 3906، شرح ألفية العراقي للمؤلف، ص 89.
(46) البخاري، اللباس 5416. مسلم، اللباس والزينة 3898.
(47) البخاري، الإيمان، 50. مسلم، المساقاة 2996.
((1/197)
48) البخاري، الأدب، 5552. مسلم، البر والصلة والأدب، 4685.
(49) البخاري، المظالم والغصب، 2262، مسلم، البر والصلة والأدب، 4677.
(50) ابن ماجة، الأحكام، 2332. أحمد، ومن مسند بني هاشم، 2719.
(51) البخاري، بدء الوحي، 1.
الباب الرابع : نماذج من المصاحف والمخطوطات القرآنية/ دة. هبة بركات
تمهيد
حظي القرآن الكريم بعناية خاصة فى البلاد الإسلامية، فنسخ وكتب ورسمت حروفه وحقق وزخرف، فظهر على أتم وجه. وقد راعى المسلمون على مدى العصور نسخ المصاحف من أصول يعتمد عليها، فتباهوا بالنسخ من المصاحف العثمانية، وقد ظهرت فى العديد من الأمصار مصاحف من تلك التي كتبت فى المدينة المنورة فى خلافة عثمان، واعتمد عليها فى نسخ المصاحف ونشرها في الأمصار منذ ذلك العهد.
ويسرنا في هذه الدراسة إبراز نماذج مصورة من المخطوطات القديمة، وتتبع تطور نسخ القرآن الكريم على مدى العصور، ومقارنة المصحف المطبوع بالأصول الأولى. ولكي ندرك قيمة تلك المصاحف ينبغي لنا معرفة تاريخ جمع القرآن وتدوينه، ولكننا نحيل في هذا الشأن إلى الباب الثالث تفادياً للتكرار، ونتناول في دراستنا هذه الفصلين التاليين :
الفصل الأول : أشكال الكتابة المختلفة المستخدمة فى العصور الإسلامية الأولى، وعرض نماذج من مخطوطات القرآن الكريم التى نسخت فى صدر الإسلام، وأماكن وجودها الآن وحالتها، وصور فوتوغرافية لها.
الفصل الثاني : مقارنة نماذج من المصاحف المنسوخة مع المطبوعات القديمة والحديثة للقرآن الكريم.
الفصل الأول
نماذج من القرن الأول الهجري
نتساءل في هذا الفصل عن المصاحف المخطوطة الأصلية، ومما لا شك فيه أن المصاحف الأولى العثمانية ظلت كلها متواجدة في المجتمع الإسلامي فى مساجده الجامعة، وكانت تحظى برعاية واحترام خاصة من الحكام والأئمة، وكانت محل فخر المسلمين وعائلاتهم ومساجدهم.(1/198)
وقد تعرضت الكثير من المصاحف للنهب فى بداية القرن العشرين، ونُقلت على أيدي المستعمرين والمستشرقين إلى الغرب. نذكر من ذلك ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى حينما نقلت مجموعة من المخطوطات القديمة من القاهرة، على أيدي الجيش الروسي إلى المكتبة الأهلية فى سان بطرسبرج.
كما نقل الأتراك من الحرم النبوى بالمدينة المنورة إلى استانبول مجموعة من المصاحف القديمة، يقال إنها مكتوبة بيد الإمامين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، رضى الله عنهما.
وتنقسم المخطوطات القديمة إلى مجاميع، أقدمها المخطوطات المجرّدة من أي علامة من علامات الإعراب والنقط والزخرفة. والتى عرفت بخط الحجاز أو الخط الكوفي القديم. ولاشك أن هذه المصاحف منقولة من المصحف الإمام الذي نسخ في خلافة عثمان. وبعض هذه المجاميع كانت نسخاً من المصحف الإمام ثم أضيفت إليها علامات تنقيط الأحرف وإعجام الكلمات في عصور تالية، واتخذت نماذج ينقل الناس منها نسخاً جديدة مُنَقَّطة ومُشكّلة. ولا شك أن جل هذه المصاحف كان مدوّناً خلال الخمسين عاماً الأولى من تاريخ نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ، أي إن هذه المصاحف قد دُوّنت في القرن السابع الميلادي / الأول الهجري.
أولاً : أقدم مجموعات المصاحف
وبعض المصاحف القديمة نسبت إلى عثمان وعلي بشخصيهما، أي مدونة بخطيهما، نقلاً عن المصحف الإمام. ونعرف من هذه المجموعة :
مصحف القاهرة (مصر) :
مصحف كريم : ( لوحة رقم 1)
يوجد فى دار الكتب المصرية فى قسم المخطوطات، سجل رقم 139 مصاحف.
الملاحظات
الخط الكوفي مجرد من الشكل والنقط، وتوجد زخرفة قليلة عند بعض أسماء السور. وللتفريق بين نهاية السُّورة وبداية التي تليها، يوجد فراغ بمسافة سطر على الأقل.(1/199)
ويلاحظ إضافة بعض الزيادات فى عصور أخرى بأحبار مختلفة. والأحرف ممدودة على سطرين والمسافة ما بين الأسطر متساوية. وتحتفظ دار الكتب المصرية بميكروفيلم لتيسير الاطلاع على هذا المصحف دون مساس بهذه المخطوطة النفيسة.
آيات من المصحف الشريف : ( لوحة رقم 2)
الملاحظات
ـ ممدودة الأحرف والأحرف على سطرين.
ـ ليس بها نقط على الأحرف.
ـ الرق من اللون الأزرق والكتابة ذهبية.
مصحف طشقند (أوزبكستان) :
ومن ضمن المصاحف الأولى، مصحف طشقند بجمهورية أوزبكستان، وهو بنفس الخط الكوفي القديم، ومجرد من النقط ومنسوب إلى عثمان بن عفان. ويوجد له ميكروفيلم فى دار الكتب المصرية (سجل مصاحف رقم 204) وحجم هذا المصحف50 70 x سم وعدد أوراقه، على الأرجح، 253 ورقة، وفى كل صفحة اثنا عشر سطراً، وهو مكتوب على الوجهين. وتوجد بعض الفراغات بعد انتهاء السورة، مع زخرفة خفيفة.
مصاحف إستانبول (تركيا) :
وبإستانبول توجد مصاحف كاملة يرجع تاريخها إلى القرن الأول الهجري، منها :
ــ مصحف شريف بالخط الكوفي، منسوب نسخه إلى عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بمكتبة نور عثمانية برقم 23.
ــ مصحف شريف منسوب إلى علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، بمكتبة نور عثمانية تحت رقم 25.
ــ مصحف شريف بالخط الكوفي، منسوب نسخه إلى علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، بالسليمانية (حميدية) برقم 3.
ــ مصحف شريف بالخط الكوفي، منسوب نسخه إلى علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، بمتحف طوبقا بوسراي برقم A-2 8 ، عدد أوراقه 300 وتاريخ كتابته 29هـ .
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page424.gif
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page426.gif
ويبين من ذلك أن الصحابة من أمثال علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه نسخوا بأيديهم نسخاً من المصحف الإمام.
أماكن بعض المخطوطات القرآنية القديمة :
المكتبة الوطنية بباريسKFQ 53 مجموعة خليلي للفن الإسلامي.(1/200)
المركز القومي للفنون والتنقيب ـ تونس 197 Rutbi M.s R.N .
متحف الفنون الجميلة فى مدينة بوسطون 686. 33. MS
متحف الفن بجامعة هارفارد 23.1967.MS .
مكتبة الشستر بيتى رقم 1405.MS .
6. مجاميع خاصة :
* مجموعة رفعت شيشي العرب ـ باريس.
* مجموعة الأمير صدر الدين أغاخان ـ جنيف.
* وبيع بعضها فى صالات المزادات مثل صالة Sotherby's سنة 1984م Lot 147
ثانياً : المصاحف المنقطة بلون يخالف لون الأحرف
إن هذه النقاط إن كانت فوق الحرف فهو على الفتح، وان كانت على جانب الحرف فهو مضموم، وإن كانت في أسفله فهو على الكسر، وهي الطريقة المعروفة عن أبى الأسود الدؤلي. والمصاحف القديمة بهذا النمط من النقاط تكون على الأرجح مُدَوَّنة قبل وفاة أبي الأسود الدؤلي (تـ 99 هـ). وأهم النماذج هي :
مصاحف القاهرة (مصر) :
1. مصحف شريف (لوحة رقم 3)
الملاحظات
كانت هذه النسخة ضمن مجموعة الأمير عمر سلطان، ثم نُقلت إلى دار الكتب، ومنها إلى المتحف الإسلامي بالقاهرة، وهي غير مجلدة، وأجزاء من صفحاتها الأولى متآكلة، وليس لها ميكروفيلم ولا دراسة دقيقة.
2. أوراق متفرقة بالخط الكوفى ( لوحات رقم 6,5,4) :
أماكن وجود وثائق أخرى :
1. مكتبة السليمانية سجل رقمMS.23 .
2. مجموعة خليلي للفن الإسلامى رقم KFQ64 .
3. متحف الفن الإسلامى فى القيروان.
4. مكتبة التوب كابي سراي. سجل رقم Ms.E.H. 30 .
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4210.gif
5. المكتبة الوطنية بتونس. سجل رقم Ms.Rutbi,198
6. المكتبة الوطنية بباريس. سجل رقم Ms.Arab.5178 F III 73
7. المكتبة الوطنية بباريس. سجل رقم : عربي 342 من 8 ق ـ 9 رقم 158، من آخر سورة يونس ومن سورة هود (لوحة رقم 7).
الملاحظات
الخط الكوفي تتوسطه زخارف على شكل ورد صغير بين كل آيتين، ويوجد به زخارف أخرى نباتية تحتوي على أسماء السّور مدونة باللون الذهبي.
ثالثاً : مجموعة الإصلاح الثاني(1/201)
والمجموعة التالية هي التي يوجد بها تنقيط الأحرف المتشابهة لتمييزها، وهو ما تم فى ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي على بلاد العراق سنة (75-95 هـ). وهذا ما يعرف بالإصلاح الثانى، وكان نقطه في بداية الأمر بلون مختلف عن نقط أبي الأسود الدؤلي، ويختلف عن لون أحرف الكتابة، إلا أن اتباع هذا الأسلوب كان صعباً فاستخدم التشريط بدلاً من نقاط أبي الأسود.
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4213.gif
الفصل الثاني
المصاحف وتطور الخط العربي
بعد القرن الأول الهجري
مع استمرار المسيرة التاريخية لتطور الخطوط التي كتبت بها رسالة الله الخاتمة كما أنزلت، قرآناً عربياً محفوظاً من التحريف، استمر تعلق الناس باقتناء المصاحف ونسخها ونشرها لتثري حياة الناس علماً ومعرفة بشريعة السماء.
بعد القرن الأول الهجري، أصبح القرآن يكتب وعلى حروفه النقط والتشكيل وتوضع زخارف تفصل بين آياته.
الوثائق
1. أقدم هذه الوثائق أوراق من القرآن الكريم محفوظة بمكتبة جامع السليمانية بتركيا تحت سجل رقم 23، ويرجع تاريخ تحريرها إلى القرن الثانى الهجرى/التاسع الميلادي. وهى مكتوبة بالخط الكوفي في خمسة أسطر في الصفحة، على الرق، وتظهر بها النقاط الحمراء والشرط السوداء والوردة الزخرفية ما بين الآيات ( لوحة رقم 8).
2. ورقة واحدة من المصحف الشريف ( لوحة رقم 9) كانت قد استخدمت فى ألبوم المرقعات، فى عصر الصفويين بإيران، وهي الآن ضمن مجموعة خليلي للفن الإسلامى، وتحمل آيات من سورة النمل، كتبت على الرق فى خمسة عشر سطراً في الورقة، وحجم الورقة18 x 13 سم، وهى بالخط الكوفي ممدود الأحرف، وبها نقاط باللون الأسود والأحمر لتمييز الأحرف والإعراب.
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4315.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4317.gif(1/202)
مجموعة من أوراق القرآن الكريم فى حجم 37*27 سم، وعدد أسطرها خمسة عشر سطراً في الصفحة، وهي مدونة على الرق، باللون الذهبي وبالخط الكوفي الممدود، ومنقطة ومشرطة بالأحمر والأسود. وهي فى بعض الأماكن تنسب إلى الإمام علي. موجودة فى مجموعات خاصة بالدول العربية والأوروبية، وفي :
* مكتبة النور العثمانية فى استانبول ( لوحة رقم 10) سجل رقم MS27 .
* وضمن مجموعة خليلي للفن الإسلامي ( لوحة رقم 11).
وبعد القرن الثالث الهجرى/العاشر الميلادي، أدخلت إضافات على أحرف القرآن الكريم، كالسّكون والشّدة والمَدّ والصِّلَة والهمزة، وانتشرت أشكال الخطوط وسُمي خطّ كُلِّ مدينة باسمها، وكانت اختلافاتها قليلة، إلا فى نقوشها وزخرفتها.
وهكذا تطور الخط من الكوفي إلى خط النسخ في الدولة الأموية. وكان تطور الأقلام وحضارات البلاد من أهم أسباب تطور الخط، ففي القاهرة ظهر الكوفي المزخرف، ثم فى العصر المملوكي استخدموا خط الثلث. وفى تركيا ابتكروا الخط الديواني والخط الهمايوني الملكي الذي يَدُلُّ على العظمة والفخامة. واشتهر الفرس في إيران بخط التعليق وخط النستعليق على أيدي "مير علي التبريزي" وغيره من الخطاطين فى القرنين التاسع والعاشر الهجريين.
نماذج من الخطوط القديمة
ورقة من المصحف بالخط الكوفي المنقط والمزخرف ( لوحة رقم 13) من القرن الثالث الهجري.
ورقة من مصحف كريم كتب على الورق بالخط الكوفي كتابة مائلة، من العراق، كُتب سنة 1092هـ. وتحمل سورتي العلق والقدر. ويلاحظ فيها الزخرفة والنقوش الجميلة، وأدوات الضبط، كالسكون والشدة والمدَّة (لوحة رقم 14) وهي الآن جزء من مجموعة ا. ق مهدي كاشاني بطهران.(1/203)
ومن المغرب العربى نجد صفحات من القرآن الكريم بخط مغربى، كتبت سنة 1142هـ /1730م لأحد سلاطين المغرب الأقصى، وهي الآن بحيازة دار الكتب المصرية بالقاهرة، قسم المخطوطات (مصاحف 25) والورقة تحمل سورتي النصر والمسد. ويلاحظ وجود زخارف دقيقة وجميلة ( لوحة رقم 15).
ومن إيران نموذج للخط الكوفي الشرقي، بالحبر والذهب، على الورق، وتحمل سورة الأنعام. وهذه الورقة مشتراة من مجمع Sotherby's للمزادات بإنجلترا سنة 1980م Lot 159 وهي الآن ضمن مجموعة هاشم خسروفاني الخاصة (لوحة رقم 16).
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4319.gifhttp://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4321.gif
الفصل الثالث
المصاحف المطبوعة
اخترعت آلات الطباعة فى القرن الخامس عشر الميلادي حين كان السلاطين والأمراء المسلمون يتباهون بنسخ مصاحف كبيرة وجميلة، ويوقفونها فى مدارسهم ومساجدهم. وفي ذلك الحين شهدت مدينة فينيسيا بإيطاليا أول مصحف مطبوع وهو ما عرف بمصحف "باجانينو دي باجيناتي والأرجح أنه طبع فى منتصف القرن السادس عشر الميلادى. ويتبعه مصحف بادوا الذي طبع أيضاً فى مدينة فينيسيا بإيطاليا سنة 1698م، وهي طبعة في مجلدين باللغة العربية، وترجمة مختصرة باللغة اللاتينية.
أما في هامبورج بألمانيا، فعرف في هذا الوقت المصحف المطبوع فى مطابع هنكلمان، والذي يوجد منه نسختان : نسخة في دار الكتب المصرية (مصاحف 176) والأخرى في مكتبة جامعة القاهرة. وهذه الطبعة مكونة من 560 صفحة، في كل صفحة ستة عشر (16) سطراً، بها مقدمة في 80 صفحة.
ثم طبعة سان بطرسبرج بالقيصرية الروسية، سنة 1787م. ثم طبعة كازان فى 1803م، وطبعة ليبزج سنة 1834م.
وبالطبع لم تكن المصاحف المطبوعة خالية من الأخطاء، ولكن ذلك لم يكن يشير بالضرورة إلى التعمد وسوء النية، والظاهر أن سببها كان عدم كفاية المعرفة باللغة العربية، وصعوبة هذا النوع من النسخ آنذاك.(1/204)
وتوالت طباعة المصحف الشريف في البلاد الإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين. واشتهر فى القاهرة مصحف بخط الشيخ محمد علي خلف الحسيني، طبع سنة 1923م، ثم سنة 1970م، وقد أشرفت على طباعته لجنة من علماء الأزهر الشريف. وأصدرت "لجنة الإفتاء" فى الأزهر فتوى بعدم جواز طبع المصحف الكريم إلا بعد المراجعة والتحقيق والضبط.
ولهذا المصحف طبعات حديثة، يوجد فى آخرها تعريف به وإرشادات للتعرف على اصطلاحات الضبط وعلامات الوقف. وبعض الطبعات ترفق نصاً مصوراً لقرار اللجنة التى وافقت على طباعته.
والطباعة الحديثة أتاحت نشر القرآن في مختلف أنحاء المعمورة، كما أتاحت ترجمة معانيه إلى العديد من لغات العالم. وطبع المصحف بجميع الأحجام، كما أنه يُسَجَّلُ على شرائط سمعية " كاسيتات" للاستماع إلى تلاوته، وعلى أقراص ضوئية لقراءته وللاستماع إليه بواسطة الحاسوب.
وحين نقارن المطبوعات الحديثة والمصاحف الأولى المخطوطة، نلاحظ جمال ودقة خط اليد، وروائع الزخرفة الإسلامية، ولكننا نتذكر الأيام والأشهر والسنين التي استغرقت لإتمام كتابة مصاحف للقرآن الكريم الذي يحتوي على ثلاثين جزءاً. ولا يفوتنا في هذا الصدد التنويه بدور الخطاطين واستمرار الحاجة إليهم حتى في عصر الطباعة (الحجرية والآلية)، إذ لا غنى للمطابع عن نماذج للمصاحف مكتوبة بقلم الخطاطين، وذلك لخصوصية رسم الحروف القرآنية.
نماذج من سورة الفاتحة : من مصاحف كتبت وطبعت فى عصور مختلفة
1. "قرآن كريم" للسلطان شعبان سنة 1369م، بدار الكتب المصرية (مصحف 7) (لوحة رقم 17).
2. "قرآن كريم" للسلطان يرسباي سنة 1425م، بدار الكتب المصرية (مصحف 96) (لوحة رقم 18).
3. قرآن كريم بخط محمود النيسابوري سنة1560 م، بمكتبة جامعة استانبول سجلF.1426 (لوحة رقم 19).
4. نموذج لمخطوط قرآني من القرن التاسع عشر الميلادي، مكتبة توب كابي سراي، رقمF.1426 (لوحة رقم 20 ).(1/205)
5. نموذج مطبوع فى المدينة المنورة (لوحة رقم21).
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4423.gif
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4425.gif
نماذج من سورة البقرة
1. مخطوط عثماني نسخ سنة 1543م، بقلم أحمد كرا حيصاري، مكتبة توب كابي سراي، رقم 999 (لوحة رقم 21) .
2. مخطوط من تركمانستان نسخ سنة 1830م، بحيازة مجموعة سعيد ذو الفقار، جنيف ـ سويسرا (لوحة رقم 22).
3. نموذج مطبوع في المدينة المنورة (لوحة رقم 23).
هذه المقارنة أمكنتنا أن نتتبع تطور رسم المصحف، وأكدت لنا أن الكلمة لم تتغير وإنما التطور كان فى طريقة الهجاء وضبط الإعراب على مدى العصور، وأن الفارق بين المصاحف الأولى والمطبوعات الحديثة جاء فقط لتيسير قراءة القرآن الكريم، وتيسير انتشاره بين الأمة الاسلامية وغيرها من الأمم، لأنه كتاب أنزل للناس كافة مبشراً ونذيراً. وما زالت اللغة العربية تمر فى مراحل تطور، ولكن هذا التطور لا يؤثر بأي حال على سلامة نص القرآن الكريم، الذي قال فيه الحق سبحانه وتعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (سورة الحجر، الآية 9). فالأغلبية فى الدول العربية يكتبون العربية بدون تشكيل، كما أنهم يكتبونها بخط الرقعة الذي يساعد على سرعة نسخ الأحرف، ولكنه يخفي سنون الأحرف ويوصل نقاطها.
وعلى أي حال لا يخفى على أحد من علماء اللغة أن وجود القرآن الكريم يضمن للغة العربية قدراً مؤكداً من الثبات يحفظها من التغيّر أو التبدّل الجذري. وإذا كان هناك اختلاف حول بعض كلمات القرآن، فذلك في مواضع قليلة جداً، وهو لم يأت نتيجة الكتابة والاستنساخ، وإنما كان منذ البداية في القراءة الشفاهية، ويدخل في حديث الأحرف السبعة. ولقد آثر العلماء أخيراً تدوين القراءات وطباعتها لأن الفوارق بينها لا تتعدى كلمات محدودة، ونطق بعض الأحرف لا يؤثر على وحدة آيات القرآن الكريم وسوره ومعانيه.(1/206)
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4427.gif
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/page4429.gif
خاتمة
وفي الختام نود أن نشير إلى أن كثيراً من المصاحف القديمة المخطوطة يحظر الاطلاع عليها بدعوى الحفاظ عليها من التلف، وهي مبثوثة فى مكتبات العالم ومبعثرة فى مجاميع هواة جمع الآثار القديمة. ومن المصاحف القديمة ما هو متفرق الأجزاء، فجزء يوجد في باريس وآخر فى روما، وأجزاء متفرقة عَبَرَت الأطلنطى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وشتات متفرقة في بلاد الإسلام، إضافة إلى المصاحف التامة الكاملة.
ولتفرق المخطوطات القرآنية وتناثر أجزاء المصاحف أسباب تاريخية عديدة، وهي تنم عن جهل الكثيرين ممن كانوا يحوزون مصاحف متكاملة بالقيمة العلمية والتوثيقية لهذه المخطوطات التي تشهد لأصالة رسالة اللّه الخاتمة. إنها أصول تحمل الخطاب الإلهي للبشر، فلابد من الحفاظ عليها وتجميع شتاتها، لفائدة الإنسانية كلها والأجيال المقبلة. ولابد كذلك من إيجاد طرق تحمي المخطوطات الأولى من التلف دون أن تمنع المثقفين والباحثين من الاطلاع عليها والاستفادة منها. ومن الممكن أن يتم ذلك عن طريق تطوير جميع المصاحف القديمة وحفظها في أفلام وأقراص حاسوب. ذلك أن وجود الحاسوب يوفر لنا فرصة الاطلاع على هذه النماذج وتكبيرها والتدقيق فيها وفي تفصيلاتها كما نشاء، وينبغي أيضاً عرض هذه الأصول عبر شبكات الأنترنت العالمية.
وفى الخاتمة أود أن أقترح إدماج مادة مختصرة ومبسطة عن تاريخ تدوين القرآن، مصحوبة بعرض نماذج من المخطوطات القرآنية الأصلية، في مراحل الدراسة الإلزامية فى الدول الإسلامية. وذلك لكونها وثائق مرجعية لنا كمسلمين وللإنسانية كلها، ولبث الوعي بأهميتها المرجعية والتوثيقية في الثقافة العالمية.(1/207)
كما أود أن أناشد المكتبات والمتاحف في جميع أنحاء العالم، التعاونَ فيما بينها لتجميع ونشر ما تحتويه خزاناتها من المخطوطات القرآنية القديمة، لأن يوماً سيأتي لا محالة، تبحث فيه الأجيال القادمة عن كل مصادر الهداية، وتحتاج إلى توثيق المعرفة الدينية الأصيلة.
مصادر البحث
1. المخطوطات الموجودة فى دار الكتب المصرية (على الميكروفيلم).
2. المخطوطات المحفوظة فى معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (على الميكروفيلم).
3. كارل بروكلمان : تاريخ الأدب العربي (بالإنجليزية والعربية)، دار المعارف، القاهرة، 1959م، ترجمة د. عبد الحليم النجار.
4 . From the world of Arabic Papayri, El-maarif Press, Cairo 1952.
. جروهمان أدولف
5. غانم قدورى الحمد : رسم المصحف : دراسة لغوية تاريخية، بغداد 1982.
6. سعاد ماهر : مشهد الإمام علي في النجف، دار ا لمعارف، 1388هـ، القاهرة.
7. عبد الصبور شاهين : تاريخ القرآن، دار القلم، 1966.
8. محمد حميد الله الحيدرآبادي : مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، القاهرة، 1941.
9. ناصر النقشبندي : "المصحف الكريم فى صدر الإسلام"، مجلة سومر، المجلدالثانى عشر، بغداد، 1956.
10. ناصر النقشبندي : "منشأ الخط العربي وتطوره لغاية عهد الخلفاء الراشدين"، مجلة سومر، المجلد الثالث، بغداد، 1947.
الخاتمة
يتبين من الدراسات السابقة، أن الرسل قد اصطفاهم الله، سبحانه وتعالى، وسطاء يحملون خطابه إلى الناس. وما من رسول إلا وقد بلَّغَ الناس بلغة يفهمونها.(1/208)
ولكل رسالة سماوية جانب عقدي وجانب عملي. فالعقيدة تذكير بالله والعالم الآخر، لتعزيز الفطرة الإيمانية لدى الإنسان أمام المغريات وقوى الشر التي تلِحُّ عليه دوماً لتدفعه إلى الإعراض عن الإيمان وتُغْرِيه بالكُفر وتضلله بدعوى أن في ذلك تحرراً من قيود يفرضها الدّين عليه، وأنه، بعيداً عن تلك القيود، يجد راحته وحريته. ولكن ذلك لا يعدو أن يكون وهماً، فالإفراط في ملذات الدنيا وشهواتها، يصيب الفرد بالملل، وذلك قيد، والغنى والفقر محنتان دنيويتان تصيبان المؤمن والكافر. والحكمة تقول إن القيود التي تلقاها النفس بعيداً عن طريق الله هي المرارة بعينها، ومن لم يذق حلاوة الإيمان لن تجني نفسه سوى هموم الحياة وتُرَّهاتها التي تنتهي إلى السأم والملل.
ومحال على الله سبحانه وتعالى أن يُنَزِّلَ على الأرض رسالات تحمل تناقضاً في الجانب العقدي، فمن قبيل الهراء أن يتصور الإنسان أن الله يُذَكِّر في رسالة ما بأنه سبحانه وتعالى واحد، بينما في رسالة أخرى يقول بأن على رأس العالم إلهين أو آلهة متعددة. ذلك بأن الله خالق الكون له الذات الأزلية التي لا تخضع للتغيير والتبديل اللذين هما من خواص المخلوقات.(1/209)
أما الجانب العملي في الرسالات السماوية، فيشمل العبادات وأشكالها، والمعاملات ومسالكها، وفعل الخيرات واجتناب ما حَظَرَهُ الله مِن أعمال مُفسدة. وتلك تختلف بعض تفصيلاتها من شريعة لأخرى، ليس اختلافَ تناقض، وإنما هو اختلاف يراعي ظروف المجتمعات ويتلاءم مع اختلاف الحياة البشرية وتطورها. أما مسائل الخير والشر الأساس من سرقة وزنا وقتل النفس بغير حق... إلخ، فهي على التحريم دوماً في مختلف الشرائع السماوية. وعلى الإنسان الإيمان بجميع الرسل والرسالات التي نزلت من عند الله، وذلك يقتضيه البحث عن أصول الرسالات ليستطيع الاطلاع على أصل الخطاب السماوي في صفائه ووضوحه، فيرتفع التناقض الذي بثته أيدي الناس وألسنتهم وَنَسَبَتْهُ إلى الله عز وجل.
من أين جاء التناقض فيما هو بين أيدينا من علم بالرسالات السماوية ؟
إن التناقض ليس في الرسالات ذاتها وإنما هو فيما حَصَّلْنَاهُ من معرفة بتلك الرسالات. ولو كانت الوثائق الأصيلة لجميع الرسالات السماوية موجودة بين أيدينا لأفصحت عن نفسها، ولظهر للناس بيقين، أنها كلها تُعَرِّف بالله الواحد الأحد الذي لا شريك له.
كانت المجتمعات الإنسانية قديماً تعتمد على الخطاب الشفاهي أكثر من اعتمادها على الكتابة، فقد كان للكتابة وجود وتداول في حدود ضيّقة. ونظراً لأن الرسالة التي حملها كل رسول كانت تبدأ في قومه، فقد كان أول ما يهم الناس هو حفظ ما قاله الرسول شفاهة. ومن المعلوم أن قدرات الناس على الحفظ تختلف، فمنهم من يختزن البلاغ منضبطاً في ذاكرته، ومنهم من يختزنه غير منضبط فيكون ناقصاً، أو تنقلب بعض أحرفه، أو يختلط بشيء أضافه الفكر والخيال.(1/210)
ويبقى فيما بين الناس قاسم مشترك هو من طبيعتهم البشرية، ويتمثل في أن الغالبية العظمى من الأفراد يُفْرِطُونَ في الثقة بحصيلتهم المعرفية، ويَشُكُّون فيما لدى غيرهم من علوم ومعارف. وقليل من الناس من يَلمس عيوبَه الشخصية التي تدفعه في بعض الأحيان والظروف إلى الخلط أو الفهم الخاطئ.
لذلك لم يكن الحفظ الشفاهي وحده كافياً لتوثيق الرسالات، لأن الناس يختلفون ويجادل بعضهم بعضاً، وقد يصعب على أصحاب الذاكرة القوية الذين يختزنون المعلومات منضبطة أن يجعلوا من الصحيح فكراً سائداً بين الناس. فما أن يفارق الرسل الحياة إلا وتجد معارف الناس قد تغيرت وتناقضت حول الرسالة، إذ أن الأمر لا ينحصر في قوة الذاكرة لدى بعض الناس وضعفها لدى البعض فحسب، بل يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك، فبعد موت الرسل يَتَخَفّف المنافقون والكافرون من هيبة كانت تضيق عليهم حدود نواياهم وتصرفاتهم، فتتسع أمامهم إمكانات ترويج الأكاذيب، ويسهل عليهم نسبة الباطل إلى الرسل وأتباعهم، فيبقى الكافر أو المنافق مطمئناً بعد موت الرسول، فلن تُحْرَم أفعاله من أن تَلْقَى أثراً في العديد من النفوس الضعيفة، وتتسع أمامه فرصة أن يفعل ما يشاء، وتضيق فرص محاسبته.
والجهلاء من ناحية أخرى، قد يُغيّرون قوالب المعرفة بالدّين، فيُدخلون على النصوص ما ليس منها، معتقدين أنهم بذلك يُقرّبون الناس من الشرع، ويُيَسّرون لهم تعلُّمه، فيخلطون الأدب والخيال والأساطير بنصوص رسالة السماء.
إذاً فالتوثيق الكتابي بالتدوين مباشرة عن الرسل كان أمراً مهماً للحفاظ على البلاغ السماوي منضبطاً كما نزل من عند الله على لسان رسوله، فإذا اختلفت أقوال الناس ومؤلفاتهم حول الرسالة، فعليهم أن يرجعوا إلى الأصل المكتوب في المدونة الأولى المسجلة مباشرة عن الرسول الذي بلَّغها، فَيُفْرَقُ الحق عن الباطل.
بأي لغة بلغت الرسل، وماذا دون الناس عنهم ؟(1/211)
إن للكتابة وجوداً قديماً، ولكن تعليمها وتداولها كان في الأزمنة البعيدة بين الخاصة دون العامة، فهل من هؤلاء الخاصة من دوَّن مباشرة بلاغ موسى وبلاغ عيسى وبلاغ محمد، صلى الله عليهم وسلم ؟
إذا قال بعض الناس إن الألواح التي كانت مع موسى، عليه الصلاة والسلام، حملت إعجازاً من الله سبحانه وتعالى، فكانت تلوح منها المعاني المرسلة بمجرد أن ينظر فيها موسى أو أخوه هارون، فإننا لن نجادل في ذلك، وإنما يبقى سؤالنا الآتي : هل كانت تلك المعجزة تعني موسى وهارون وحدهما باعتبارهما نَبِيَّين، أم كانت عامة يستطيع كل الناس أن يَتَعَرَّفوا على معاني الخطاب الإلهي بمجرد النظر في تلك الألواح ؟
فإن كان الاعتبار الأول، فالسؤال يبقى : ماذا دَوَّنَ الناس نقلاً مباشراً للخطاب الإلهي الذي بَلَّغَهُ موسى إليهم بلغتهم هم ؟ وما هي لغة الخطاب المتداولة بين الناس آنذاك ؟ أكانت الآرامية أم المصرية القديمة، أم كانت هناك لغات أخرى في موقع الرسالة وقتئذ... إلخ ؟
وإذا كان الاعتبار الثاني، فالسؤال : أين تلك الألواح ؟ فالناس جميعهم سيتشوقون إلى النظر فيها ليلوح لهم الخطاب السماوي في تلك الرسالة على أصله الصافي، فَيَعِيه كل الناس على اختلاف ألسنتهم.
وما يقال عن عيسى، عليه الصلاة والسلام، من أنه بُعِثَ في قوم متفرقين إلى جماعات من حيث العِرْقُ واللغة والثقافة، فكان من المعجزات التي عزَّزهُ اللُه بها أنه كان يخطب بصوت، فيسمعه مباشرة كل سامع بلغته ـ أي بلغة السامع ـ ولو لم تكن هي اللغة التي يخطب بها عيسى. فالسؤال يبقى أيضاً : ماذا دوّن الناس عن عيسى مباشرة كل بحسب اللغة التي سمع بها، سواء بالآرامية أم بالعبرية أم بالسريانية... ؟
لماذا نبحث عن تلك الأصول ؟(1/212)
إن أصول الرسالات السماوية هي ملك للإنسانية جمعاء، وكان يجب على الأجيال السابقة الحفاظ على الأصول الأولى لجميع الرسالات السماوية، ولكن مرور الزمان وما ينتاب المجتمعات من ظروف متقلبة، أدى إلى فقدان الوثائق الأصلية الأولى للرسالات السماوية قبل الإسلام، ولم يبق لرسالات السماء وثائق أصيلة مدونة سوى الأصول القرآنية. فالقرآن يمثل أصح وأكمل وثيقة لرسالة سماوية دونت مباشرة كما سمعها الكُتَّاب من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بلغها. بل إنه يمثل الوثيقة الأصلية الوحيدة الباقية لنص سماوي، لم يصبه تغيير بزيادة أو نقصان. تلك هي الرسالة الخاتمة التي هي ملك للإنسانية كلها وتخاطب كل الناس والمجتمعات.
ونحن أبناء هذا القرن، عصر الكتابة والطباعة والحاسوب والأنترنيت، تقتضينا قواعد البحث العلمي، طلب أصول جميع الرسالات السماوية والتحري عنها بالبحث والتدقيق، فلو اختلف مترجمان لكتاب مُعيَّن حول بعض محتوياته، فإنه يجب الرجوع إلى الكتاب الأصل وأن تكون لغة هذا الكتاب حيّة، حتى يتمكن المُطّلعون عليه من أن يفرقوا بين الصواب والخطأ.
إذاً، فلكي تكون الأصول الأولى لبلاغ الرسل ذات فائدة بين الناس، يجب أن تكون قد سجّلت خطاب الرسل مباشرة وكاملاً كما بلَّغوه، وأن تكون اللغة التي دونت بها تلك الأصول لا تزال من اللغات الحية، كي لا يكون على الناس مشقة في فك رموزها والتعرف على مضمون المكتوب.
وأهمية التدوين الكتابي تبدو جلية دون نزاع، إذ أننا جميعاً نعلم أن الحفظ الشفاهي يدخله مع الوقت النسيان والتغيير والتبديل، وكذلك الترجمات كثيراً ما تنحرف بالمعاني عن تلك التي قصدتها كلمات الخطاب الأصلي.(1/213)
وإذا انطلقنا من مُسَلَّمة أن الله، سبحانه، لا يصدر عنه التناقض، وأنه لا يمكننا الآن جمع كل الأصول الأولى للرسالات السماوية، فإنه يكفينا وجود رسالة مدونة مباشرة عن الرسول الذي بلغها، بلغة ما زالت حية، لم تنقرض أو تتبدل أصلاً، فتكون تلك الرسالة مرجعاً صادقاً للتعرف على حقيقة الخطاب السماوي وسلامة المعتقد.
هذا هو المنطق العقلاني الذي يستند إليه المسلمون في عقيدتهم بوحدانية الله، وإيمانهم الصادق بما نَزَّلَ الله من رسالات وبمن أرسل من الرسل الكرام جميعاً.
أما عن الأحكام العملية، فإن الإيمان بجميع الرسل والرسالات لا يتنافى مع وجوب اتباع الأحكام العملية الواردة في أحدث رسالة نزلت من عند الله من حيث التاريخ. وهذا شبيه بمنطق الناس في اتباع القوانين الوضعية، فالمواطن يتبع أحدث قانون صدر في بلده عن السلطات الرسمية، وليس له اتباع قانون سابق عليه اعتماداً على أن السابق كان أيضاً صادراً عن السلطة الرسمية. وكذلك الأمر في اتباع أحكام الدين، فالأرض لله، والناس كلهم عباد الله، والخطاب الإلهي لا يفرق بين الناس من حيث الموطن أو الجنس أو اللون.(1/214)
بينما كانت الكتابات قديماً قاصرة على الخاصة من طلاب العلم وأبناء علية القوم، وكان تعليمها وقفاً على المعابد والأديرة وعلماء الدين واللاهوت، وكان المجتمع في الجزيرة العربية من أكثر المجتمعات فقراً في عدد من يعرفون الكتابة. ومع ذلك كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يعرف الكتابة ـ يحرص على استدعاء زيد بن ثابت ليدوّن ما أوحى الله إليه من آيات القرآن. ولم يكن زيد وحده يدوّن، بل قام بالتدوين مباشرة عن الرسول غيره من الصحابة، طواعية منهم وتقديراً لأهمية التدوين، ومن أمثال هؤلاء أُبَيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل ورجل يقال له أبو زيد، وبعض الروايات تذكر أبا الدرداء. كما أن بعض الصحابة كان ينسخ مصحفاً من ذاكرته الحافظة للقرآن، وبعضهم كان ينقل من وثائق كتبها غيره... إلخ.
وبإلهام من الله الذي أنزل القرآن رسالة خاتمة، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم الصغار القراءة والكتابة. وتوسع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلى الحد الذي دفعه، في صراعه مع الكافرين، إلى الإفراج عن الأسير من أسرى بدر إذا ما عَلَّمَ عدداً من الصبية الكتابة والقراءة.
وكان من أثر ذلك أنه لم يمض وقت قصير على المسلمين بعد وفاة الرسول، حتى صار القرآن المكتوب في المصاحف يتداول باتساع كبير وكأن المجتمع يعيش في عصر الطباعة والنسخ. فظل للرسالة السماوية الخاتمة توثيقها الكتابي ـ السليم الكامل والمنقول نقلاً مباشراً ومتواتراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ـ محفوظاً. وبات الحفظ الشفاهي ينبثق من المكتوب في المصاحف ويراجع عليه، فبقي القرآن المحفوظ في الصدور في مأمن من النقص والزيادة والتغيير والتبديل، وأصبح تعليم اللغة العربية ينطلق من القرآن ويتأسس عليه.(1/215)
والقرآن منذ أن نزل به الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم حفظته جموع من الناس شفاهة، وتناقلته جيلاً عن جيل بالتوازي مع النشر الكتابي للمصاحف. وهل نجد عدداً غفيراً يفوق الحصر من حافظي ومرتلي نص رسالة سماوية في كل جيل من أجيال الإنسانية غير قُرَّاء القرآن الكريم ! وكل جيل من المسلمين في كل زمان يصلي بنصوص من تلك الرسالة. هذا والقرآن لم تتغير لغته العربية إلى اليوم، فلغته ما زالت حية بين الشعوب، ولا يشق على الناس في مجتمعاتنا الحاضرة الاطلاع على القرآن بالعربية، أو على معانيه المترجمة إلى اللغات الأخرى.
ونحن ننتصر للقرآن ابتداءً من هذا المنطق العلمي والتوثيقي الذي أوضحناه. إضافة إلى أن بلاغة النص، أعجزت العرب عن الإتيان بمثله، أو حتى بمثل سورة واحدة منه. وأن القارئ غير العربي يجد في مضمون معانيه المترجمة الحكمة والموعظة والاتزان والتناسق، وجميع الصفات اللائقة بالله عز وجل في خطابه للناس. فالقرآن يعظ ويرشد ويَعِدُ ويُوعِد، ويحفظ لجميع الرسل ما يليق بهم من حسن الصفات. لذلك تجد ملايين من غير الناطقين بالعربية يؤمنون به، رسالة خاتمة من الله إلى الناس أجمعين.
أما كوننا من المسلمين، فإن ذلك لا ينفعنا كثيراً في الحياة الدنيا، ما لم نعمل بما في القرآن من أحكام فنتبع أوامره ونجتنب نواهيه. فنحن نعلم أن هذا القرآن رسالة سماوية موجهة إلى الناس كافة، وليست قاصرة على المجتمع العربي، وأن أي مجتمع، أياً ما كانت لغته وأصوله العرقية، إذا عمل بصدق بمضمون القرآن وحمل معانيه كرسالة إنسانية، ستكون له الصدارة والريادة في إحياء الدين والنهضة بالمجتمع، لأن الله سيؤازره، فهو القائل : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } (سورة الحجرات، الآية 13). والتاريخ يشهد لأمم حملت لواء الإسلام ولم تكن ذات لسان أو أصل عربي.(1/216)
والسنة النبوية الشريفة تُعَضِّد القرآن، فهي تشرح ما جاء فيه من أحكام، وتُفَصِّلُ مجمل آياته، وتُبَيِّنُ تطبيقاتها... إلخ. والسنة وحْيٌ مِنَ الله إلى رسوله بالمعنى لا باللفظ، وتظهر في أقوال الرسول وتصرفاته وتقريراته المتعلقة بالشريعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتابَ الله وسنةَ نَبِيِّهِ< (محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 171، رقم 318. مالك، الموطأ، كتاب الجامع، رقم 1395).
هذا ومن أنكر أن القرآن خطاب إلهي كامل ومحفوظ، وأن المصحف سِجِلٌّ يحمل بصدق ذلك الخطاب الذي يمثل رسالة الله الخاتمة خالصة كما أنزلت، فقد أنكر على الإنسانية المعاصرة امتلاكها لأصل أي رسالة جاءت من السماء بإطلاق.(1/217)