كيف سلمت الدولة الإسلامية
من تآمر يهود بني قريظة وخيبر عليها
لفضيلة الدكتور جاد محمد أحمد رمضان
رئيس قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية
عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وادع اليهود الذين كانوا من بين سكانها، وعاهدهم وأمنهم على أموالهم ومواليهم، ومنحهم حرية الاعتقاد؛ فمن تبع المسلمين منهم فله ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات.
واشترط عليهم أن يكونوا مع المسلمين على من هاجم المدينة أو حارب أهلها، على أن يتحملوا نفقتهم ما داموا محاربين، كما يتحمل المسلمون الإنفاق على أنفسهم كذلك.
ولكن اليهود - كما هو شأنهم - نقضوا عهدهم وخانوا حلفاءهم، وكان أول من خان وغدر بنو قينقاع؛ فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وتلاهم في الخيانة والغدر بنو النضير؛ فكان جزاؤهم مثل جزاء من سبقهم.
ولما رأى بنو النضير أنفسهم عاجزين عن منازلة المسلمين في معركة مكشوفة لجئوا إلى التآمر، وراحوا يستعينون بغيرهم من أعداء الإسلام لعلهم ينجحون في الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المسلمين.(1/1)
وذهب حيي بن أخطب وسلاّم بن أبي الحقيق ونفر من زعماء بنى النضير ووجوههم إلى مكة؛ لتحريض قريش على مهاجمة المدينة، وقالوا لهم: سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وكأنما قريش تشككوا في نية اليهود فترددوا في ممالأتهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي مثلهم، أو كأنما تشككوا في أمر دينهم فأرادوا أن يطمئنوا إلى حقيقة أمره، ويوازنوا بينه وبين الإسلام الذي يدعو إلى الوحدانية ومكارم الأخلاق، كما أرادوا أن يتبينوا موقفهم منه صلى الله عليه وسلم، وهل هم على حق في حربهم له أم على باطل؟ فقالوا:" يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ فدفعهم حب الانتقام والرغبة في إغراء قريش بحربه إلى تمويه الحقائق وتشويهها؛ فقالوا: بل دينكم خير من دينه؛ فأنتم أولى بالحق منه".
وهكذا شهد اليهود هذه الشهادة الفاجرة؛ حيث شهدوا بأن الشرك خير من التوحيد، وأنكروا ما جاءت به التوراة من وحدانية الله والنهي عن الإثم والفواحش؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
فلما قال اليهود ذلك لقريش سرّهم وحفوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعدوا لذلك.(1/2)
تم ذهب هؤلاء النفر إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وتعهدوا لزعماء غطفان بأن يعطوهم ثمار خيبر من النخيل سنة إذا تم لهم النصر على المسلمين؛ فاستجابت غطفان بجميع بطونها لهم، ثم أخذوا يحرضون كل من له ثأر عند المسلمين على حربهم حتى بلغ جيش الحلفاء عشرة آلاف مقاتل، وتولى القيادة العامة أبو سفيان بن حرب، وسار الجيش إلى المدينة في شوال لسنة خمس من الهجرة.
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزم قريش ومن معهم على مهاجمة المدينة أخذ برأي سلمان الفارسي، وأمر بحفر خندق في شمال المدينة، وكانت هي الجهة المكشوفة التي يستطيع العدو أن يدخل منها.
وحفر الخندق وراء جبل سلع، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفر بنفسه، وتم الحفر بغاية السرعة، وكانت جهات المدينة الأخرى حصينة منيعة؛ حيث كانت ظهور بيوتها من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة الوبرة ناحية الغرب وحرة داقم ناحية الشرق كالحصن الطبيعي، وكانت آكام بني قريظة في الجنوب الشرقي من المدينة؛ ولا يمكن دخول العدو منها إلا برضى بني قريظة؛ وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أن لا يمالئوا عليه أحدا ولا يناصروا عليه عدوا.(1/3)
ووصل الحلفاء إلى المدينة وضربوا عليها الحصار، ووقف الفريقان أما الخندق وجها لوجه: المسلمون على قلة عددهم وضعف عدتهم، والمشركون على كثرتهم وتمام عدتهم، وطال الحصار ولم ينل الأحزاب منالا من المسلمين، وخاف حيي بن أخطب أن تسأم قريش وغطفان طول المقام فيرجعون إلى ديارهم وبذلك تفلت الفرصة من يده، ورأى أن الأحزاب لن يتمكنوا من دخول المدينة إلا من ناحية بني قريظة وكان هؤلاء لا يزالون على عهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلابد أن يغريهم حيى بنقض العهد حتى يسهلوا للأحزاب مهمة اقتحام المدينة؛ فذهب إلى زعيمهم كعب بن أسد فأغلق كعب دونه باب حصنه؛ فأخذ حيى يحتال عليه حتى فتح له فدخل عليه وقال: "يا كعب إنما جئتك بعز الدهر: جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاهدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه"، فقال كعب "جئتني - والله - بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حيي دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا"، فلم يزل حيى بكعب حتى اتفق معه على خيانة المسلمين والانضمام إلى الأحزاب.
وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى بني قريظة سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج في نفر من أصحابه وقال لهم: "انطلقوا إلى بني قريظة؛ فإن كان ما قيل لنا حقا فألحنوا لنا لحنا(1) ولا تفتوا في أعضاء الناس، وإن كان كذبا فاجهروا به للناس".
فانطلق الوفد إلى محلتهم، فوجدهم قد تغيروا عما كانوا عليه ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "لا عهد له عندنا"؛ فجعل سعد بن معاذ يدعوهم إلى الوفاء ويحذرهم عاقبة الخيانة والغدر، وكان مما قاله لهم: "أخشى عليكم يوم بني النضير وأمرّ منه"، فردوا عليه ردا قبيحا، وشاتموه وشاتمهم، فقال له سعد بن عبادة: "دع عنك مشاتمتهم فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك".
__________
(1) فالحنوا لنا لحنا: اذكروه بطريق الكناية.(1/4)
ثم رجع الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي جمع من المسلمين فأخبروا - بطريق الكناية - أن ما بلغه من غدر بني قريظة صحيح.. وعلى الرغم من تكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخبر فإنه وصل إلى المسلمين؛ فاشتد البلاء وعظم الخوف وزاد الكرب وكانت حالهم كما وصفها القرآن { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}.
فلما رأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول لهم: "والذي نفسي بيده ليفرجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".
وقد رجع حيى بن أخطب إلى المشركين وأخبرهم بنجاحه في حمل بني قريظة على الغدر بالمسلمين؛ فقويت روحهم المعنوية.
وكان بنو قريظة قد اتفقوا مع حيى بن أخطب أن يعطيهم مهلة عشرة أيام يستعدون فيها على أن تشتد كتائب الأحزاب في مناوشة المسلمين خلال هذه الفترة حتى يشغلوهم عن بني قريظة، وقد اشتد المشركون في مناوشتهم للمسلمين حتى أجهدوهم.
وتهيأ بنو قريظة للإغارة على المدينة ليلا؛ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من جهة بني قريظة، وكان الخوف على من بالمدينة من النساء والأطفال من بني قريظة أشد من الخوف عليها من قريش وغطفان.(1/5)
وظل الأمر على ذلك بضع عشرة ليلة؛ فتفاوض الني صلى الله عليه وسلم مع زعماء غطفان في أن ينصرفوا عن المدينة على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولم يبت في الأمر حتى يأخذ رأي الأنصار؛ فلما استشارهم في ذلك قالوا: يا رسول الله! أمر تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم(1) من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما"، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك"، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال: ليجهدوا علينا.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرسوله وأصحابه من هذه الشدة فرجا ومخرجا؛ فساق إليهم نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة".
__________
(1) كالبوكم: اشتدوا عليكم.(1/6)
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت! لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره؛ فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة(1) أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: لقد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم؛ فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا ندمنا على ما فعلنا؛ فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين: من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؛ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان! إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني! قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
__________
(1) النهزة: اختلاس الشيء وانتهازه.(1/7)
وكان من حسن الحظ أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة ليلةَ سبتٍ عكرمةَ بن أبي جهل في نفر من قرش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر؛ فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسل بنو قريظة إليهم: إن غدا يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نتاجز محمدا؛ فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا به.
فلما رجعت الرسل إلى قريش وغطفان بما قال بنو قريظة قالوا: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، وأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع لكم رجلا واحدا من رجالنا؛ فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا قاتلوا، فقال بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإذا رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطغان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا؛ فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليالي شاتية باردة شديدة البرد؛ فجعلت تكفأ قدورهم وتقتلع خيامهم؛ فلم يروا بدا من الرحيل عن المدينة ورحلوا عنها.
وهكذا فعلت حيلة نعيم بن مسعود ما لم تفعله الجحافل الكبيرة؛ فشككت كلا من بني قريظة والأحزاب في نوايا بعضهم البعض وحالت بينهم وبين الاتفاق على خطة موحدة يقتحمون بها المدينة ويقضون بها قضاءا مبرما على الدولة الإسلامية الناشئة.(1/8)
إنها رحمة من الله سبحانه وتعالى أن ساق للمسلمين - في أحرج الظروف - نعيم بن مسعود، وإلهام منه جلّ شأنه لنعيم حيث وفقه إلى حيلة فرقت كلمة اليهود والمشركين وأوهنت عزيمتهم، ونجّت المسلمين من شرهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.
لم يكن هناك أي سبب يدفع بني قريظة إلى خيانة المسلمين والغدر بهم إلا الحقد الكامن في نفوس اليهود؛ فقد حافظ المسلمون على عهدهم لبني قريظة ولم يقدموا إليهم أي إساءة ولم تبدر منهم أي بادرة تدل على عدم الوفاء لهم؛ يشهد لذلك رد كعب بن أسد سيدهم على حيى بن أخطب حينما أغراه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول له: ويحك يا حيى دعني! فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا.
فلو كان المسلمون قد حادوا قيد أنملة عن الوفاء لبني قريظة لكان لهم بعض العار أن يغدروا بهم وينحازوا إلى عدوهم، أما وقد وفوا لهم أكمل الوفاء وحافظوا على عهد أتم المحافظة فما كان ينبغي لهم أن يغدروا بهم في أحرج الأوقات وأشد الأزمات غدرا كان فيه فناؤهم والقضاء على دعوتهم وإبادة دولتهم، مع أن نصوص العهد كانت تلزمهم بالدفاع عن المدينة مع المسلمين جنبا إلى جنب؛ لحمايتها من المغيرين وعدوان المعتدين، لا أن يتعاونوا مع الأعداء على اقتحامها ويساعدوهم على الفتك بأهلها.(1/9)
إن موقف بني قريظة من المسلمين كان موقف نقض فاجر للعهد وغدر دنيء بمن وفوا لهم وخيانة آثمة لمن إئتمنوهم؛ حتى لقد استنكره بعض عقلاءهم في حوار لهم مع حيى بن أخطب حيث قالوا: إذا لم تنصروا محمدا فدعوه وعدوه، لكن الأغلبية الغالبة منهم استجابت لوسوسته وطعنت المسلمين من خلفهم طعنة كادت أن تؤدي بكيانهم وتمحوا دعوتهم.
فما الذي كان ينبغي أن يقابل به الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الغدر وهذه الخيانة من جانب بني قريظة، إنه لم يكن من المعقول أن يترك هؤلاء يعيثون في المدينة فسادا أكثر مما عاثوا، ومن يُدري النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لن يحاولوا إثارة الأعداء على المسلمين مرة أخرى، ويدعوهم إلى مهاجمة المدينة في غير فصل الشتاء الذي كان له بعض الأثر في تقصير أمد حصارها وإحباط الخطة التي دبروها لاقتحامها؟! كان لابد أن يحاسب النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة على ما اقترفوه من جرم وارتكبوه من إثم؛ فلم تمض ساعات على جلاء الأحزاب عن المدينة حتى أمر أصحابه بالتوجه إلى حصونهم في الجنوب الشرقي المدينة، ودفع اللواء إلى علي بن أبي طالب وأمره أن يتقدم بين يديه إلى بني قريظة في نفر من المهاجرين والأنصار؛ فأساء اليهود استقبالهم وأخذوا يشتمون رسول الله وأزواجه فلم يردّ عليهم المسلمون بأكثر من قولهم: السيف بيننا وبينكم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه - إلى بنى قريظة؛ فأدركوا من كان هناك من المسلمين، فلما رأى اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم تحصنوا بحصونهم؛ فحاصرهم الرسول والمسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم وما حملت الإبل من أموالهم كما خرجت بنو النضير؛ فأبى عليهم ذلك فأرسلوا إليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم بلا مال ولا سلاح فأبى صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينزلوا على حكمه.(1/10)
وأشار عليهم زعيمهم كعب بن أسد أن يدخلوا في الإسلام، وذكرهم بما عندهم من العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يقبلوا مشورته فأشار عليهم أن يخرجوا ليلة السبت والمسلمون آمنون فيبيتوهم؛ فقالوا: لا نحل السبت، ولم يتفقوا على رأي.
ولما اشتد الحصار عليهم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن أبعث أبا لبابة لنستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم.
وأبو لبابة هو رفاعة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس.
فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش له النساء والأطفال بالبكاء؛ فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقة؛ يشير بذلك إلى أنهم إن نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم سيذبحون، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانها حتى عرفت أني قد خنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله وذهب إلى المسجد وربط نفسه إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله ألا يدخل محلة بنى قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا.(1/11)
فلما بلغ رسول الله خبره - وكان قد استبطأه - قال: "أما أنه لو جاءني لاستغفرت له؛ فإذا قد فعل ما فعل فما أنا بالذي يطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"، ومكث أبو لبابة ست ليال لا يذوق طعاما ولا شرابا، وكانت امرأته تأتيه في كل وقت صلاة فتحله حتى يصلى، ثم تربطه إلى عمود المسجد كما كان، حتى خرّ مغشيا عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى توبته على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل بشأنه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فأقبل الناس على أبي لبابة يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه فأبى حتى يكون رسول الله هو الذي يحله بنفسه؛ فلما ذهب الرسول إلى المسجد حله، فقال يا رسول الله: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي.. فقال صلى الله عليه وسلم: "يجزيك الثلث أن تتصدق به".
أما بنو قريظة فقد نزلوا حكم رسول الله؛ فشفع فيهم الأوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت، يشيرون إلى معاملة رسول الله لبنى قينقاع وبني النضير؛ فقال رسول الله صلى الله وسلم "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم"؟.. قالوا: بلى، قال رسول الله: "فذاك إلى سعد بن معاذ".(1/12)
وكان سعد قد أصيب في ذراعه بسهم وقت حصار المدينة فقع أحد عروقه؛ فنقل إلى خيمة امرأة تدعى (رفيدة)، كانت لها خيمة في المسجد تداوي بها جرحى الصحابة احتسابا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعوده، فلما حكمه في بني قريظة أتاه رجال من الأوس حملوه على حمار فقدموا به إلى رسول الله وأخذوا يقولون له في أثناء سيرهم: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومة لائم.
ولما انتهى سعد إلى مجلس رسول الله قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "قوموا لسيدكم"، فقاموا إليه وقالوا له: يا أبا عمرو! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن أحكم فيهم بما حكمت، قالوا: نعم، ثم التفت إلى الناحية التي فيها رسول الله وهو خافض الطرف إجلالا للرسول وقال: وعلى من هنا، قال رسول الله: نعم، ثم قال سعد لبنى قريظة: أترضون بحكمي؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به، ثم قال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".
ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة وأمر أن تحفر فيها خنادق،ثم أمر بإحضار رجال بنى قريظة، فجيء أرسالا، فضربت أعناقهم ودفنوا في الخنادق، ولما جاء دور حيى بن أخطب - وكان قد دخل مع بنى قريظة حصونهم - نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ألم يمكن الله منك يا عدو الله"، قال: بلى أبى الله إلا أن يمكنك منى، والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله؛ كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.(1/13)
وقد اختلف المؤرخون في تقدير عدد من قتل من بنى قريظة؛ فمنهم من قدرهم بأربعمائة، ومنهم من قدرهم ما بين الستمائة والسبعمائة، ومنهم من قدرهم ما بين الثمانمائة والتسعمائة، وقد أسلم من بني قريظة ثلاثة رجال؛ فأمنهم رسول الله على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
وأمر رسول الله بالذرارى والنساء فنقلوا إلى المدينة، وأمر بالسلاح والأموال فحملت إليها، أما الإبل والغنم فتركت حيث هي ترعى في المراعى، ثم قسم الأموال والنساء والذراري على المسلمين، ولم يفرق في القسم ولا في البيع بين النساء والذرية، وقال: "لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا"، وأرسل بعض السبايا إلى نجد والشام؛ فبيع واشترى بثمنه سلاح وخيل للمسلمين.
لقد جرّ بنو قريظة أنفسهم إلى هذا الحكم الذي حلّ بهم؛ فأودى بحياة رجالهم وسلبت نسائهم وأولادهم نعمة الحرية، ولو أنهم ثبتوا على عهدهم لما أصابهم ما أصابهم، ولظلوا آمنين في ديارهم، لكنها الأحقاد تدفع الناس إلى الهلاك وتسوقهم إلى الفناء.
إن الجزاء الذي حل ببني قريظة من جنس عملهم؛ فلو قدر للأحزاب أن ينجحوا في اقتحام المدينة لصار المسلمون إلى هذا المصير الذي صار بنو قريظة إليه، وهل كان في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع وبنى النضير من قبل؛ فيكتفي بإبعادهم عن المدينة كما أبعد أولئك؟ لا! لم يكن في إمكانه ذلك لأن التجربة أثبتت أن الإبعاد لا يكفي؛ فقد يجيّشون الجيوش ويستعدون القبائل على الرسول وأصحابه كما حدث في المرة السابقة.(1/14)
ثم إن طبيعة الجريمة التي اقترفها بنو قريظة تختلف عن جريمة كل من بنى قينقاع وبنى النضير؛ نعم إن الجرائم كلها جرائم خيانة وغدر لا مبرر لها، غير أن جريمة بنى قريظة كانت أشد خطرا من الجريمتين السابقتين؛ لأن المسلمين كانوا في كل منها في حال تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، أما موقفهم وقت جريمة بنى قريظة فقد كان محفوفا بالخطر من جراء الحصار المحكم الذي ضربه الأحزاب حول المدينة؛ فلم يكن في إمكانهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولولا عطف الله بهم لأبيدوا عن آخرهم.
لذلك لم يكن في الإمكان الإبقاء على هؤلاء؛ حتى يرسموا خطة أحكم ويدبروا مكيدة أنكى يقضون بها على دولة الإسلام، ويفتنون الناس عن دينهم ويعيدونها جاهلية كما كانت قبل ظهور النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كان في وسع هؤلاء الذين عرضوا أنفسهم للقتل، وأسلموا نسائهم وأولادهم للسبي، وعرضوا أموالهم للضياع؛ كان في وسعهم ألا يتعرضوا لما تعرضوا له لو أنهم أسلموا كما أسلم الثلاثة من منهم؛ فأمنهم الرسول عليه الصلاة والسلام على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، لكنه الغي المودى بأهله في النار والعناد المفضي بأصحابه إلى الدمار.
ليتهم ثابوا إلى رشدهم كما ثاب هؤلاء الثلاثة، وأقلعوا عن غيهم كما أقلعوا، وتخلّوا عن عنادهم كما تخلوا؛ إذن لعصموا دماءهم وأموالهم من رسول الله، وكان أجرهم على الله، ولما عرّضوا نساهم وأولادهم للرق وساقوهم إلى الذل وأسلموهم للهوان أبد الدهر.
إن قوانين الحرب وقوانين السلم على السواء تقرّ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ببني قريظة؛ لأنه عقاب عادل وإجراء وقائي سليم لحماية المسلمين من شرهم ووقايتهم من كيدهم، حتى يتمكنوا من نشر دعوة الحق وإقرار الأمن والسلام على ربوع الأرض، وإزالة الفحشاء والمنكر من جميع أصقاعها.(1/15)
إن المسؤول الأول عما أصاب هؤلاء التعساء من كوارث، وما حلّ بهم من نكبات هو حيى بن أخطب؛ فهو الذي زين لهم الخيانة وأغراهم بالنكث وحملهم على الغدر، ولا يعفيه من المسؤولية أنه قتل معهم؛ فهو سبب هلاكهم ومعول خرابهم، كما أنه تسبب في إساءتهم الظن بمن بعده من اليهود.
هذا ما صرح به سلاّم بن مشكم أحد بنى النضير عندما بلغه خبر بنى قريظة، حيث قال: هذا كله عمل حيى بن اخطب، لا قامت يهودية بالحجاز أبدا.
وما تنبأ به كعب بن أسد حينما دق عليه حيى بن أخطب بابه يغريه بنقض العهد؛ فأجاب: ويحك يا حيى! إنك امرؤ مشئوم؛ جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه.
ومهما يكن فقد قضت هذه الغزوة القضاء الأخير على قبائل اليهود في المدينة، وحرمت المنافقين من حليف كان يؤازرهم في الإساءة إلى المسلمين؛ فكسرت شوكتهم وخفت حدتهم وقل خطرهم، وقوي جانب المسلمين بما خلفه لهم بنو قريظة من أدوات القتال، واستغنوا بما امتلكوه بعدهم من أموال؛ فتمكنوا من توسيع أفق الدعوة الإسلامية، ونشطوا لنشر النور والهداية بين البرية.
غزوة خيبر
تقع خيبر في شمال المدينة على بعد مائة ميل منها، وهى واحة كبيرة خصبة، بها نخل كثير ومزارع واسعة وحصون عالية مقامة بين النخيل والحقول، على مرتفعات من الأرض تزيدها حصانة ومناعة؛ لذلك ظن اليهود أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يستطيع غزوها.
وقد اتخذها اليهود وكرا لهم بعد غزوة بنى قريظة؛ يدبرون منه المكائد ويحيكون المؤامرات ويوجهون الدسائس إلى قبائل العرب يحرضونهم على حرب المسلمين؛ يدفعهم إلى ذلك الحقد المتأصل في نفوسهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، والغل في قلوبهم للإسلام والمسلمين، وغريزة الأخذ بالثأر لمن قتل من بنى قريظة.(1/16)
ولم يعتبر أهلها بما حلّ بمن سبقهم من ذل وما نزل بساحتهم من كرب وغم، ولم يزدجروا بما أصابهم من قتل وفناء؛ لأن عداوة الرسول ودعوته كانت نزعة سيطرت على مشاعرهم وفكرة تمكنت من عقولهم؛ فلم يقبلوا أن يعيشوا في وئام وسلام مع المسلمين، وتواصى سادتهم وزعماؤهم على الكيد للإسلام والتنكيل بالمسلمين، وكان دستورهم في ذلك ما قاله زعيمهم حيى بن أخطب حين سئل عن موقفه من رسول الله حين وصوله إلى المدينة: عداوته والله مما بقيت.
وقد بذل حيي كل ما يستطيع من الكيد للإسلام ولبني الإسلام، ولكنه لم ينل ما أراد، وحاق به أشد العقاب مع من استجاب له من بنى قريظة، فقاد بعده حملة الكيد أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، وبذل ماله واستخدم نفوذه ليكوّن حلفا ضد المسلمين؛ فلم تتحقق أمنيته، ولما لقي مصرعه حمل الراية بعده أسير بن رزام؛ فاتبع خطواته وتفاوض مع غطفان ليتحالف معهم ضد المسلمين.(1/17)
وهكذا كانت حياة اليهود مع المسلمين سلسلة من الأحقاد والضغائن لا تنقطع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجاري اليهود في عداوتهم، وكان يحاول مخلصا أن يصلح ما بينه وبينهم؛ فلما علم أن أسير بن رزام يعدّ لحرب المسلمين أرسل إليه يدعوه إلى السلم والموادعة، لعله يثوب إلى رشده ويرجع إلى صوابه فيجنب قومه ويلات الحرب وما تجره من الخراب والدمار، وكان الوفد الذي بعثه إليه مكونا من ثلاثين رجلا من الأنصار بزعامة عبد الله بن رواحة؛ فلما قدموا خيبر دخلوا عليه وقالوا له: هل نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟.. قال: نعم! ولي منكم مثل ذلك، قالوا: نعم، ثم عرضوا عليه أن يترك ما عزم عليه من حرب، وأن يقدم إلى رسول الله ليحالفه ويوليه خيبر، ويعيش أهلها في سلام مع المسلمين؛ فاستجاب لذلك أول الأمر وخرج مع المسلمين في ثلاثين رجلا من اليهود متجها إلى المدينة، ولما قطع مرحلة من الطريق ندم على خروجه وهمّ بالغدر بمن معه من المسلمين، وأهوى إلى سيف عبد الله بن رواحة يريد أن ينتزعه منه ليقتله؛ ففطن لذلك عبد الله وقال له: أغدرا يا عدوّ الله؟ تم نزل فضربه بالسيف ضربة أطاحت فخذه بساقه فسقط عن بعيره، ولم يلبث أن هلك، ومال المسلمون على من كان معه من اليهود فقتلوهم.
وخلفه في زعامة خيبر سلام بن مشكم؛ فكان رأيه كرأي سلفه في معاداة المسلمين والتأهب لحربهم؛ وهكذا ظلت فكرة الغدر مبيتة عند اليهود.
فلما عقدت هدنة الحديبية بين رسول الله وبين قريش وأمن كل منهما جانب الآخر يئس اليهود من محالفة العرب ضدّ المسلمين، وأحسوا بالخطر يتهددهم؛ فبادروا إلى تأليف حلف منهم يجمع خيبر ووادي القرى وتيماء، وعزموا على مهاجمة المدينة.
بلغ رسول الله ما اعتزمه اليهود فقرّر أن يفاجئهم قبل أن يباغتوه.(1/18)
ويقول بعض الرواة إن عبد الله بن أبي أرسل إليهم بما يعتزمه النبي صلى الله عليه وسلم من حربهم؛ فأعدوا عدتهم لصدّه وأدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون (الكتيبة)، وحشدوا المقاتلين في حصون (النطاة).
وكانت بلاد خيبر مقسمة إلى ثلاث مناطق حربية، في كل منطقة عدة حصون منيعة:
الأولى: منطقة النطاة، وأهمّ حصونها حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ وحصن الزبير.
والثانية: منطقة الشق، وأهمّ حصونها حصن أبي وحصن البريء.
والثالثة: منطقة الكتيبة وأهم حصونها حصن الوطيح وحصن السلالم وحصن القموص.
وكان يهود خيبر أقوى الطوائف الإسرائيلية وأكثرها سلاحا وأوفرها مالا، لكنهم - ككل اليهود - يغلب عليهم الجبن ولا يجرؤن على القتال في الميادين المكشوفة ولا يحاربون إلاّ أمام حصونهم، حتى إذا انهزموا تسللوا إلى الداخل وأغلقوا عليهم.
وقد عرف الرسول فيهم هذه الطبيعة فأعد للأمر عدته، واتجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر في المحرم من السنة السابعة على رأس ألف وستمائة من المسلمين، بينهم مائتان من الفرسان، وجدّ في السير حتى قطع المسافة بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ووصل إليها في فجر اليوم الرابع، ونزل بوادي يسمى (الرجيع) على طريق غطفان؛ ليحول بينهم وبين إمداد أهل خيبر؛ لأنهم كانوا محالفين لهم.
وعسكر النبي عليه الصلاة والسلام قريبا من حصون النطاة، فقال له الحباب بن المنذر: إن أهل النطاة ليس قوم أبعد منهم مدى ولا أعدل منهم رمية، وهم مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط رميهم، ولا نأمن بياتهم يدخلون في ممر النخيل؛ فتحول يا سول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشرت بالرأي، وتحوّل إلى مكان بعيد عن مدى النبل فعسكر به.(1/19)
ولم يكن أهل خيبر يتوقعون وصول السلمين بهذه السرعة فباتوا ليلتهم آمنين مطمئنين، حتى إذا كان الصبح خرج العمال إلى الحقول كعادتهم ومعهم مساحيهم ومكاتلهم؛ فلم يرعهم إلاّ المسلمون وقد نزلوا بساحتهم؛ فارتدوا على أعقابهم يصيحون: محمد والخميس! محمد والخميس! ينذرون قومهم بالخطر الداهم والهلاك المحقق، ورأى رسول الله أن يزيد القوم فزعا ويملأ قلوبهم رعبا؛ فرفع صوته مكبرا: "الله أكبر خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"، وردّد أصحابه التكبير؛ فدوى صوتهم في الفضاء وتردد صداه فملأ الجو رهبة ورعبا.
واستيقظ أهل خيبر على هذا الصوت فزعين؛ فأسقط في أيدهم ورأوا ألاّ مفر من القتال أو التسليم، وعزّ عليهم أن يسلموا بسهولة فآثروا الدفاع، ولما كانوا - كغيرهم من اليهود - جبناء بطبيعتهم اعتصموا بحصونهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
ولما كان حبّ المال غالبا على اليهود، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم من هذه الناحية؛ فهددهم بإتلاف أموالهم وأمر أصحابه بقطع النخيل، وهاجم حصن ناعم الذي احتشد فيه المقاتلون تحت قيادة زعيمهم سلام بن مشكم.
وشدد المسلمون الهجوم على الحصن، واستمات اليهود في الدفاع عنه؛ كلما اقترب المسلمون منه ارتدوا إلى داخله ورموهم بالنبل من فوق أسواره، واستمر الحال على ذلك سبعة أيام، في كل يوم يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء لواحد من أصحابه؛ فيظل طول يومه يقاتل ثم يرجع دون أن يتمكن من اقتحامه، حتى فتحه الله سبحانه وتعالى على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(1/20)
وفي أثناء حصار هذا الحصن استشهد محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رضى من فوق جدار الحصن وهو يستظل بظله في يوم شديد الحرّ، وفي أثنائه أيضا توفي سلام بن مشكم زعيم اليهود وقائدهم، وخلفه في الزعامة والقيادة الحارث بن أبي زينب.
احتشد اليهود بعد سقوط حصن ناعم بحصن الصعب بن معاذ الذي يليه؛ فاعتصموا به وقاتلوا المسلمين قتالا عنيفا، وحملوا عليهم حملة شديدة فتقهقر المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله وهو واقف قد نزل عن فرسه، وثبت الحباب بن المنذر رضي الله عنه، فحضهم رسول الله على الجهاد؛ فعادوا إلى الحصن وزحف بهم الحباب بن المنذر فتقهقر اليهود حتى دخلوا الحصن وأغلقوه عليهم، وشدد المسلمون الحملة حتى فتحوا الحصن بعد أن قتلوا عددا من اليهود وأسروا عددا.
وقد وجد المسلمون في ذلك الحصن شيئا كثيرا من التمر والشعير والسمن والزيت والعسل والمتاع، وكانوا قد أصابتهم مجاعة شديدة حتى أكلوا لحوم الخيل، وخشي رسول الله على المسلمين أن تشغلهم الغنيمة عن القتال فأمر مناديا ينادى في الناس: "أن كلوا واعلفوا ولا تحملوا".
وقد وجد المسلمون في سرداب تحت الأرض بذلك الحصن مجانيق ودبابات ودروعا وسيوفا وشيئا كثيرا من أدوات الحرب؛ دلّهم عليها أسير يهودي فأفادتهم في افتتاح بقية حصون خيبر.
ثم تقهقر اليهود إلى حصن الزبير، وهو حصن منيع مبني على قمة عالية؛ فحاصره المسلمون ثلاثة أيام واليهود معتصمون به يدافعون من فوق أسواره؛ فاستعصى على المسلمين فتحه حتى علم رسول الله أن مَن بالحصن يستقون من جدول وراءه؛ فأمر بسد الجدول عنهم؛ فلما قطع عنهم الماء خرجوا من الحصن وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا حتى قتل نفر منهم، وقتل من اليهود عشرة، ثم فتحه الله على المسلمين.
وبسقوط هذا الحصن تم للمسلمين فتح منطقة النطاة.(1/21)
وفرّ اليهود إلى منطقة الشق؛ فاعتصموا بأول حصونها، وهو حصن أُبَيّ على جبل يسمى (شمران)؛ فشدد المسلمون عليه الحصار، واشتبكوا مع اليهود اشتباكا عنيفا، ثم حملوا على الحصن حملة صادقة بقيادة أبي دجانة الأنصاري حتى فتحوه.
وهرب من به من اليهود؛ فاقتحموا الجدر إلى حصن البريء وتحصنوا به، وزحف رسول الله إليهم بأصحابه، وكان المعتصمون في ذلك الحصن أمهر أهل الشق في رماية النبل والحجارة، وقد واصلوا الرمي حتى أصاب النبل ثياب رسول الله وعلق بها؛ فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليه المنجنيق؛ فوقع الرعب في قلوب أهله فتركوه وهربوا، وبذلك سقطت منطقة الشق، كما سقطت من قبل منطقة النطاة.
تقهقر اليهود بعد ذلك إلى منطقة الكتبة، وتحصنوا فيها بحصن بني الحقيق، ويسمى حصن القموص، وهو من الحصون المنيعة، وكان به نساء بني الحقيق؛ فحاصره المسلمون عشرين ليلة، ثم فتحه الله على يد على بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقد سبي من هذا الحصن عدد من النساء والذراري من بينهم السيدة صفية بنت حيي بي أخطب، وقد اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين السبايا؛ فأعتقها وتزوجها؛ فشرفها الله بهذا الزواج وكانت من أمهات المؤمنين.
تم انتهى المسلمون إلى حصن الوطيح والسلالم، وهما آخر حصون خيبر؛ فحاصرهما رسول الله بضع عشرة ليلة فلما أحس من بهما من اليهود بعجزهم عن المقاومة وأيقنوا بالهلاك إن اقتحمها المسلمون عليهم؛ لما أحسوا بذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسلموا على أن تحقن دماؤهم، ونزل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحقن دماء من في حصونهم من المقاتلين ويترك لهم الذرية يخرجون بها من خيبر تاركين أرضهم ومالهم وخيلهم وسلاحهم لرسول الله؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتوني شيئا".(1/22)
وبتسليم حصني الوطيح والسلالم انتهت مقاومة أهل خيبر وسقطت خيبر كلها في أيدي المسلمين، وغنموا ما كان فيها من الأموال والأسلحة وآلات الحرب.
عزّ على أهل خيبر أن يهاجروا من وطنهم؛ فرجوا رسول الله أن يسمح لهم بالبقاء في بلدهم، وأن يقوموا بزراعة الأرض على أن يكون لهم نصف ثمارها وللمسلمين نصفها، وقالوا له: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها؛ فصالحهم رسول الله على المناصفة.
ولما بلغ أهل (فدك) خبر الصلح بين الرسول وبين أهل خيبر عدلوا عما كانوا يعتزمونه من حرب المسلمين، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالحوه على ما صالح عليه أهل خيبر؛ فأجابهم إلى ذلك، وعقد الصلح بينهم وبين رسول الله من غير حرب؛ فكانت (فدك) خالصة لرسول الله؛ لأنها أخذت صلحا من غير حرب، أما خيبر فإنها كانت غنيمة للمسلمين؛ لأنهم فتحوها عنوة.
ثم توجه النبي في أصحابه إلى وادي القرى؛ فحاصرها حتى استسلم أهلها وأذعنوا للصلح؛ فصالحهم صلى الله عليه وسلم على مثل ما صالح عليه أهل خيبر، وبادر أهل (تيماء) فأعلنوا قبولهم لدفع الجزية من غير حرب ولا حصار.
وبهذا تم إخضاع جميع اليهود في جزيرة العرب وانتهى سلطانهم، ولم تعد لهم أي قوة ولا نفوذ، وأصبح المسلمون آمنين من جهة الشمال إلى حدود الشام، كما غدوا – بعد صلح الحديبية - آمنين من ناحية الجنوب إلى حدود اليمن.(1/23)
على أن خضوع اليهود لم يتم مرة واحدة بعد هزيمتهم أمام المسلمين، بل كانت نفوسهم تنطوي على حقد شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما اضطرهم إلى الخضوع عجزهم عن المقاومة؛ فهذه زينب بنت الحارث - امرأة سلام بن مشكم - أهدت شاة مسممة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد توقيع الصلح بينه وبين أهل خيبر واطمئنانه إليهم؛ فلما جلس هو وأصحابه ليأكلوها أخذ قطعة من ذراعها ولاكها؛ فلم يسغها فلفظها وقال: "إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم"، وكان بشر بن البراء قد تناول منها قطعة فساغها وازدردها؛ فدعا رسول الله بزينب فجاءت واعترفت وقالت: "لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك؛ فقلت إن كان ملكا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر، ومات بشر من أكلته هذه".
وقد اختلف الرواة في شأن زينب؛ فقال أكثرهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنها والتمس لها العذر على فعلتها؛ لتأثرها بما أصاب زوجها، وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسموما.
ويغلب على الظن صحة الرواية الأولى؛ لأنها تتفق وما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبول العذر، خصوصا من الضعفاء والرأفة بهم، ومن حبه للعفو إيثارا للسكينة والسلام، وتحرجا من سفك الدماء، واختيار أكثر الرواة لها.
و بمضي الزمن استسلم اليهود شيئا فشيئا، واعتادوا الخضوع والانقياد لحكم المسلمين الذين تركوهم على يهوديتهم وأباحوا لهم أداء شعائرهم، ولم يحاولوا أن يردوهم عن دينهم أو أن يتدخلوا في شؤونهم الخاصة، ولم يتعرضوا لحريتهم الشخصية، وحكموهم حكما عادلا نزيها.
وقد خمّس الرسول صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر؛ فقسم أربعة أخماسها بين المجاهدين، وأعطى جميع من حضر الحديبية سواء حضر خيبر أم لم يحضرها، وأعطى من خمسه ما أراه الله؛ فأعطى أهله رجالا ونساء من بني عبد المطلب، وأعطى اليتيم والفقير والمسكين وابن السبيل، وقد أعطى من شهد خيبر من النساء والعبيد شيئا من الغنيمة ولم يسهم لهم.(1/24)
هذا عرض موجز لموقف اليهود من النبي صلى الله علب وسلم ودعوته والمسلمين، يتبين منه أن اليهود كانوا دائما هم البادئين بالشر؛ فقد كانوا يصدون عن سبيل الله ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويحرضون المشركين عليهم ويحالفونهم ضدهم، ولم يحافظوا على عهدهم مع الرسول ولم يرعوا ما بينهم وبين المسلمين من حقوق الجوار.
فلم يكن رسول الله إذن متعديا عليهم، بل كان يدافع عن نفسه وأتباع دعوته أذى قوم أكل الحسد قلوبهم وأعمى الحقد أبصارهم؛ فدأبوا على الكيد للإسلام والمسلمين، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام طامعا في أموالهم كما يزعم كثير من المستشرقين، أمثال مرجليوث وغيره، الذين يزعمون أن المسلمين إنما غزوا خيبر طمعا في الحصول على ما فيها من الغنائم، وأن الحجة التي تذرعوا بها هي أن أهلها ليسوا على الإسلام.
إن الذي دفع مرجليوث ومن هو على شاكلته من المستشرقين إلى هذه المغالطة المفضوحة إنما هو التعصب الأعمى والحقد المجنون على الإسلام وبني الإسلام، وإنا لنعجب لهذا الأسلوب الذي اتبعه مرجليوث ومن لفّ لفه من المستشرقين في فهم الأحداث التاريخية؛ فإذا روى المؤرخون أن علي بن أبي طالب قبض على أحد يهود (فدك)؛ فاعترف له بأنه مبعوث من قبل أهلها إلى خبير يعرض على أهلها معونة فدك على مهاجمة المدينة على أن يجعلوا لهم جزءا من ثمار خيبر؛ إذا قيل لهم ذلك شكوا واتهموا المؤرخين بتزييف الحقائق؛ لأن ذلك سيبطل دعواهم ويدحض حجتهم في اتهام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه بالإغارة على اليهود لسلب أموالهم.(1/25)
وإذا ذكر المؤرخون الأسباب الحقيقية لكل عزوة غزاها المسلمون، والدوافع الواقعية لكل عقاب أنزله الرسول عليه الصلاة والسلام بأعداء دعوته، ورووا وقائع ثابتة تدل على وفائه بعهوده وحرصه على المسالمة وكراهية لسفك الدماء ومحافظته على حقوق الحوار؛ وإذا سمعوا ذلك كله وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصروا على اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قد غير سياسته: سياسة المسالمة لليهود التي أعلنها في أيامه الأولى عقب هجرته إلى المدينة.
ويكفي للرد على ما زعمه مرجليوث وغيره من متعصبي المستشرقين من أن المسلمين لم يهاجموا خيبر إلا طمعا في الاستيلاء على أموالها؛ يكفي للرد على هذا الزعم ما أجمع عليه المؤرخون من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راغبا عن حطام الدنيا مكتفيا منها بما يقيم الأود ويحفظ النفس، وأن أصحابه كانوا يسيرون على نهجه ويتبعون خطاه، ولعل في فرار المهاجرين بدينهم من مكة وتخليهم على أموالهم وإيواء الأنصار لهم وإعالتهم إياهم وتحملهم جميعا آلام الفقر والجوع وصبرهم على الحرمان؛ لعل في ذلك كله ما يثبت عزوفهم عن الدنيا وإعراضهم عن زخرفها ويدحض تلك التهمة التي رمى مرجليوث غيره من المسلمين بها.
ومن الحجج الدامغة لافتراء هؤلاء المتعصبين ما رواه المؤرخون من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد استنفر من حوله من الأعراب ممن شهد الحديبية للغزو؛ فجاءه جماعة من الذين تخلفوا عن الحديبية ليخرجوا معه إلى خيبر طمعا في الغنيمة؛ فقال لهم: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أما الغنيمة فلا".(1/26)
ثم إنّ رِضى النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء اليهود في خيبر - بعد أن ألقوا سلاحهم وأمن المسلمون جانبهم وترك أرضها تحت أيديهم يمنحونها وينمون نخيلها وأشجارها، على أن لهم نصف المحصول - يثبت بما لا يحتمل الشك أن الدافع للغزو لم يكن الرغبة في الحصول على الأموال، كما يزعم مرجليوث ومن نحا نحوه؛ لأن الرغبة في الحصول على الأموال كانت تقتضي الاستئثار بها كلها من دون اليهود.
إن فيما ترك لليهود من نصف محصول أرض خيبر ما يكفيهم ويسد حاجتهم، أما أن يترك المحصول كله لهم - يلوّحون به لقبائل العرب تارة وليهود تيماء وفدك ووادي القرى تارة أخرى؛ ليستعدوهم به على المسلمين ويغروهم به لغزو المدينة وتهديد أمنها - فلا..
ثم إن المسلمين قد ملكوا هذه الأرض بحق الفتح؛ فليس كثيرا عليهم نصف محصولها الذي كان يبذل لإغراء الأعداء بحربهم، ولو كانت الرغبة في الحصول على المال هي التي دفعت المسلمين إلى غزو خيبر - كما يزعم المتعصبون - لاستولوا على الأرض واستأثروا بكل خيراتها من دون اليهود.
وفي الحوادث التالية ما يشهد بعدالة النبي صلى الله عليه وسلم وعفته عن أموال اليهود:
- فقد شكا أهل خيبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين يقعون في حرثهم وبقلهم(1) بعد الصلح؛ فأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بجمعهم، ثم قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن يهود شكوا أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم التي في أيديهم من أراضيهم وعاملناهم(2)، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها"؛ فكان المسلمون لا يأخذون من بقلها شيئا إلا بثمنه.
__________
(1) يقعون في حرثهم وبقلهم: ينزلون حقولهم دون إذنهم.
(2) عاملناهم: عاهدناهم على أن تكون الأرض تحت أيديهم يعملون فيها، ولنا نصف ثمارها وغلاتها.(1/27)
- وروى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا(1) بين المسلمين ويهود؛ فيحرص عليهم؛ فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا؛ فتقول يهود: بهذا ما قامت السموات والأرض.
- وروى البخاري بسنده.. إلى أبي سعيد الخدرى وأبي هريرة أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب(2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا؟"، قال: "لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، أو الصاعين بالثلاثة"، فقال: "لا تفعل! بِع الجميع بالدراهم، ثم ابتع(3) بالدراهم جنيبا".
أفبعد كل هذا يموه المتعصبون من المستشرقين على الناس، ويتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الذي دفعهم إلى غزو خيبر إنما هو لرغبة من الحصول على المال؛ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً}!.
ومهما يكن من الأمر فقد كان من نتائج فتح خيبر القضاء على قوة يهود الحجاز الدينية والسياسية والإقتصادية، وأخذت شمسهم تميل إلى الغرب شيئا فشيئا؛ فقد ظل اليهود يعملون في الأرض على عهد رسول الله صلى الله عامه وسلم، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى أقرهم أبو بكر رضى الله عنه على ما أقرهم عليه رسول الله، وكذا فعل أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه مدة من خلافته، ثم نقل إليه الثقاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: "لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان".
__________
(1) الخارص: الذي يخرص ما على النخل والكرم، وهو من (الخرص) أي الظن؛ لأنه تقدير للتمر والعنب بظنه.
(2) الجنيب. أجود التمر.
(3) ابتع: اشز.(1/28)
فبعث عمر إلى اليهود يقول: "إن الله عزّ وجل قد أذن في إجلائكم؛ فقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان"؛ فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عامه وسلم من اليهود فليأتين أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء.
وقد أجلى عمر رضي الله عنه من ليس عنده عهد من الرسول عليه الصلاة والسلام من يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما من أرض الشام، وكان أمير المؤمنين يرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وما وراء ذلك الشام.
وقد ظل اليهود يكوّنون أغلب السكان في وادي القرى إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وشوهدت طوائف منهم في نواحي تيماء في القرن الثالث عشر، ثم أخذ اليهود في كلتا البلدين يقلون تدريجيا، ثم اندمجت البقية الباقية منهم في محيط العرب ولم يبق لهم كيان خاص بهم هناك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الخير، ويوفقهم إلى تطهير الوطن الإسلامي من رجس الصهيونية وحمايته من كيدها.. إنه سميع مجيب.. والحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين..(1/29)