2003 - { « اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ثُمَّ لاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ فَأَمَرَنِى فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِى. } (د ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِىٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ. قَالَ « اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ثُمَّ لاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ فَأَمَرَنِى فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِى.
(ن) - أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِىٍّ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ فَمَنْ يُوَارِيهِ قَالَ : « اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ وَلاَ تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَوَارَيْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ فَأَمَرَنِى فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِى وَذَكَرَ دُعَاءً لَمْ أَحْفَظْهُ.
الأحاديث المختارة ج: 2 ص: 276
656 أخبرنا عبدالله بن أحمد الحربي بها أن هبة الله أخبرهم أنا الحسن ثنا أحمد ثنا عبدالله حدثني أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس ثنا الحسن بن قال سمعت السدي إسماعيل يذكره عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي قال لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ قد مات قال اذهب فواره ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني قال فواريته ثم أتيته قال اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني قال فاغتسلت ثم أتيته قال فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها قال وكان علي إذا غسل الميت اغتسل إسناده حسن(1/1)
657 وبه حدثنا عبدالله بن أحمد ثنا زكريا بن يحيى زحمويه وحدثنا محمد بن بكار وحدثنا إسماعيل أبو معمر وسريج بن يونس ثنا الحسن بن قال أبو معمر مولى قريش قال أخبرني السدي وقال زحمويه في حديثه قال سمعت السدي عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي قال لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ قد مات قال اذهب فواره ولا تحدث من أمره شيئا حتى تأتيني فواريته قال اذهب فاغتسل ولا تحدث شيئا حتى تأتيني فاغتسلت ثم أتيته فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها قال ابن بكار في حديثه قال السدي وكان علي رضي الله عنه إذا غسل ميتا اغتسل قد روى نحوه في رواية ناجية بن كعب 1 إسناده حسن
745 أخبرنا أبوالقاسم هبة الله بن علي بن سعود الأنصاري البوصيري بقراءتي عليه بالفسطاط قلت له أخبركم أبو صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني قراءة عليه وأنت تسمع أنا محمد بن الحسين النيسابوري أنا محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيويه لفظا ثنا أبو عبدالرحمن النسائي ثنا محمد بن المثنى عن محمد ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت ناجية بن كعب عن علي عليه السلام أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبا طالب مات قال اذهب فواره قال إنه مات مشركا قال اذهب فواره فلما واريته رجعت إليه فقال اغتسلكذا أخرجه النسائي ورواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق إسناده صحيح
746 أخبرنا عبدالله بن أحمد الحربي بها أن هبة الله أخبرهم أنا الحسن أنا أحمد ثنا عبدالله حدثني أبي ثنا وكيع ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ الضال قد مات فقال انطلق فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني قال فانطلقت فواريته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما أحب أن لي بهن ما عرض من شيء ورواه إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق إسناده صحيح(1/2)
747 أخبرنا مؤيد بن عبدالرحيم بن الأخوة بأصبهان أن الحسين بن عبدالملك أخبرهم قراءة عليه أنا إبراهيم أنا محمد أنا أحمد بن علي ثنا عبدالرحمن بن سلام الجمحي ثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق الهمداني عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب قال لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ الضال مات قال اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ففعلت الذي أمرني ثم أتيته فقال اغتسل ثم علمني دعوات هي أحب إلي من حمر النعم رواه أبو داود عن مسدد عن يحيى بن سعيد عن سفيان بنحوه 1 سئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال رواه شعبة والثوري وإسرائيل وشريك وزهير وقيس وورقاء وإبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي وخالفهم الحسين بن واقد وأبو حمزة السكري روياه عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ووهما في ذكر الحارث وذكر فيه من هذا قال والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي وكذلك رواه فرات القزاز عن ناجية بن كعب أيضا 2 وروي نحوه عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن علي 3 إسناده صحيح آخر
سنن سعيد بن منصور ج: 5 ص: 282
1042 حدثنا سعيد قال نا الحسن بن قال سمعت السدي يحدث عن أبي عبدالرحمن عن علي قال لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ قد مات فقال لي اذهب فواره ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني فاغتسلت ثم أتيته فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها وكان علي إذا غسل الميت اغتسل
د(4214) و نص41/110/79 (190و2006 ) وحم 1/97 و129(759و1074) ون(2133 و8534) وعب (9935 و9936) ومنتقى (550) وهق 1/304 و3/398 وف 385 وطيا (120 ) وع(423 و424) وسعد 1/124
صحيح
وفي علل قط :
[(1/3)
475 ] وسئل عن حديث ناجية بن كعب عن علي قال لما مات أبو طالب أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بغسله فلما رجعت قال لي اغتسل فقال هو حديث يريوه أبو إسحاق السبيعي واختلف عنه فرواه شعبة والثوري وإسرائيل وشريك وزهير وقيس وورقاء وإبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي وخالفهم الحسين بن واقد وأبو حمزة السكري روياء عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ووهما في ذكر الحارث ورواه الأعمش وقد اختلف عنه فقال عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي إسحاق عن هاني بن هاني عن علي وقال بن نمير عن الأعمش عن أبي إسحاق عن رجل غير مسمى عن علي وقال يزيد بن زريع عن معمر عن أبي إسحاق عن أبيه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فليغتسل ولا يثبت هذا عن أبي إسحاق والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي وكذلك رواه فرات القزاز عن ناجية بن كعب أيضا حدثنا أحمد بن سعدان قال ثنا شعيب بن أيوب قال ثنا أبو نعيم فضل بن دكين عن سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ان عمك الشيخ الضال قد هلك يعني أباه قال اذهب فواره ولا تحدث حدثا حتى تأتيني فأتيته فقلت له فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني ما عرض بهن من شيء
**********
(( قلت : ناجية بن كعب الأسدى ثقة ))
*************
قوله ( إن عمك ) هو أبو طالب ( ولا تحدثن ) نهى من الأحداث أي لا تفعلن ( فاغتسلت ) مبني على أنه غسله وأن من يغسل الميت ينبغي له أن يغتسل ويحتمل أن يخص ذلك بالكافر لقوله تعالى { إنما المشركون نجس } لكن الأحاديث تقتضي العموم نعم لو قيل أن اغتساله له من جهة المواراة ومواراة الكافر توجب الغسل لنجاسته لكان له وجه والله تعالى أعلم . س
وفي فتح القدير :
((1/4)
وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ ) بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ , لَكِنْ يُغَسَّلُ غُسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَتُحْفَرُ حُفَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّكْفِينِ وَاللَّحْدِ , وَلَا يُوضَعُ فِيهَا بَلْ يُلْقَى .
((1/5)
قَوْلُهُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ ) عِبَارَةٌ مَعِيبَةٌ , وَمَا دَفَعَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَرِيبَ لَا يُفِيدُ , لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى نَفْسِ التَّعْبِيرِ بِهِ بَعْدَ إرَادَةِ الْقَرِيبِ بِهِ , وَأَطْلَقَ الْوَلِيَّ : يَعْنِي الْقَرِيبَ فَشَمَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَالْأُخْتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ .(1/6)
ثُمَّ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيبٌ كَافِرٌ , فَإِنْ كَانَ خُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ مِنْ بَعِيدٍ , هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بِارْتِدَادٍ , فَإِنْ كَانَ يُحْفَرُ لَهُ حُفَيْرَةٌ وَيُلْقَى فِيهَا كَالْكَلْبِ وَلَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِهِمْ , صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ( قَوْلُهُ بِذَلِكَ أَمَرَ عَلِيٌّ ) رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ , حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ { لَمَّا أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بَكَى ثُمَّ قَالَ لِي : اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ , قَالَ : فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ , فَقَالَ لِي اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ , قَالَ : وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَيَّامًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الْآيَةِ { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْحَدِيثَ بِسَنَدِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ { إنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الْكَافِرَ قَدْ مَاتَ فَمَا تَرَى فِيهِ ؟ قَالَ : أَرَى أَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُجِنَّهُ وَأَمَرَهُ بِالْغُسْلِ } .(1/7)
وَإِنَّمَا لَمْ نَذْكُرْهُ نَحْنُ مِنْ السُّنَنِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِمَا { اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ثُمَّ لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي , فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ , فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي } وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِغُسْلِهِ إلَّا مَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ طَرِيقِ الِالْتِزَامِ الشَّرْعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ الْغُسْلُ إلَّا مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ دُونَ دَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ , وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ { كَانَ عليه الصلاة والسلام يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَغُسْلِ الْمَيِّتِ } وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَرَوَى هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ , وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ , وَلَيْسَ فِي هَذَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ عَلِيٍّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ , لَكِنَّ طُرُقَ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَثِيرَةٌ , وَالِاسْتِحْبَابُ يَثْبُتُ بِالضَّعْفِ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ , وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا إذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَيْسَ لَهُ قَرِيبٌ إلَّا كَافِرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ , أَلَا تَرَى { أَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام لِأَصْحَابِهِ تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ } وَلَمْ يُخِلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ , وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ فِي قَبْرِ قَرَابَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَدْفِنَهُ .(1/8)
2003 - { « اذْهَبْ فَوَارِهِ ». قَالَ إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا. قَالَ « اذْهَبْ فَوَارِهِ ». فَلَمَّا وَارَيْتُهُ رَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِى « اغْتَسِلْ ». } (ن ) 190 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِى شُعْبَةُ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ عَنْ عَلِىٍّ رضى الله عنه أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ. فَقَالَ « اذْهَبْ فَوَارِهِ ». قَالَ إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا. قَالَ « اذْهَبْ فَوَارِهِ ». فَلَمَّا وَارَيْتُهُ رَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِى « اغْتَسِلْ ».
(حم) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِىٍّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « اذْهَبْ فَوَارِهِ ». فَقَالَ إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكاً. فَقَالَ « اذْهَبْ فَوَارِهِ ». قَالَ فَلَمَّا وَارَيْتُهُ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِى « اغْتَسِلْ ».(1/9)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبِى الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بنُ يَزِيدَ الأَصَمُّ قَالَ سَمِعْتُ السُّدِّىَّ إِسْمَاعِيلَ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ عَنْ عَلِىٍّ قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ قَدْ مَاتَ. قَالَ « اذْهَبْ فَوَارِهِ ثُمَّ لاَ تُحْدِثْ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِى ». قَالَ فَوَارَيْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ قَالَ « اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ ثُمَّ لاَ تُحْدِثْ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِى ». قَالَ فَاغْتَسَلْتُ - ثُمَّ أَتَيْتُهُ - قَالَ فَدَعَا لِى بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى بِهَا حُمْرَ النَّعَمِ وَسُودَهَا. قَالَ وَكَانَ عَلِىٌّ إِذَا غَسَّلَ الْمَيِّتَ اغْتَسَلَ.(1/10)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى زَحْمَوَيْهِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَبُو مَعْمَرٍ وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ قَالُوا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ الأَصَمُّ قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ مَوْلَى قُرَيْشٍ قَالَ أَخْبَرَنِى السُّدِّىُّ وَقَالَ زَحْمَوَيْهِ فِى حَدِيثِهِ قَالَ سَمِعْتُ السُّدِّىَّ عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ عَنْ عَلِىٍّ قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ قَدْ مَاتَ قَالَ « اذْهَبْ فَوَارِهِ وَلاَ تُحْدِثْ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَوَارَيْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ « اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَلاَ تُحْدِثْ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَدَعَا لِى بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِى بِهِنَّ حُمْرُ النَّعَمِ وَسُودُهَا. وَقَالَ ابْنُ بَكَّارٍ فِى حَدِيثِهِ قَالَ السُّدِّىُّ وَكَانَ عَلِىٌّ إِذَا غَسَّلَ مَيِّتاً اغْتَسَلَ.
((1/11)
هق) 1508- قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ : وَقَدْ رُوِىَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٌ عَنْ عَلِىٍّ هَكَذَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ إِمْلاَءً أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ : إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدُّبَيْلِىُّ بِمَكَّةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ الأَصَمُّ قَالَ سَمِعْتُ السُّدِّىَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ : إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ قَدْ مَاتَ ، فَقَالَ لِى :« اذْهَبْ فَوَارِهِ ، ثُمَّ لاَ تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ ، فَدَعَا لِى بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِى بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ.
6913- أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الرُّوذْبَارِىُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ شَوْذَبٍ الْمُقْرِئُ بِوَاسِطَ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنِ دُكَيْنٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ : إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخُ الضَّالُّ قَدْ مَاتَ يَعْنِى أَبَاهُ قَالَ :« اذْهَبْ فَوَارِهِ ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِى ». فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ فَأَمَرَنِى فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ دَعَا لِى بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِى مَا عَلَى الأَرْضِ بِهِنَّ مِنْ شَىْءٍ.
الأحاديث المختارة ج: 2 ص: 362(1/12)
745 أخبرنا أبوالقاسم هبة الله بن علي بن سعود الأنصاري البوصيري بقراءتي عليه بالفسطاط قلت له أخبركم أبو صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني قراءة عليه وأنت تسمع أنا محمد بن الحسين النيسابوري أنا محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيويه لفظا ثنا أبو عبدالرحمن النسائي ثنا محمد بن المثنى عن محمد ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت ناجية بن كعب عن علي عليه السلام أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبا طالب مات قال اذهب فواره قال إنه مات مشركا قال اذهب فواره فلما واريته رجعت إليه فقال اغتسل كذا أخرجه النسائي ورواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق إسناده صحيح
746 أخبرنا عبدالله بن أحمد الحربي بها أن هبة الله أخبرهم أنا الحسن أنا أحمد ثنا عبدالله حدثني أبي ثنا وكيع ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ الضال قد مات فقال انطلق فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني قال فانطلقت فواريته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما أحب أن لي بهن ما عرض من شيء ورواه إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق إسناده صحيح(1/13)
747 أخبرنا مؤيد بن عبدالرحيم بن الأخوة بأصبهان أن الحسين بن عبدالملك أخبرهم قراءة عليه أنا إبراهيم أنا محمد أنا أحمد بن علي ثنا عبدالرحمن بن سلام الجمحي ثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق الهمداني عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب قال لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ الضال مات قال اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ففعلت الذي أمرني ثم أتيته فقال اغتسل ثم علمني دعوات هي أحب إلي من حمر النعم رواه أبو داود عن مسدد عن يحيى بن سعيد عن سفيان بنحوه 1 سئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال رواه شعبة والثوري وإسرائيل وشريك وزهير وقيس وورقاء وإبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي وخالفهم الحسين بن واقد وأبو حمزة السكري روياه عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ووهما في ذكر الحارث وذكر فيه من هذا قال والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي وكذلك رواه فرات القزاز عن ناجية بن كعب أيضا 2 وروي نحوه عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن علي 3 إسناده صحيح
مسند البزار 1-3 ج: 2 ص: 207
592 حدثنا 2 به حاتم بن الليث قال نا إبراهيم بن أبي العباس 3 قال نا الحسن بن أبي يزيد 4 عن السدي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن عن علي رضي الله عنه قال لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن هذا الشيخ قد مات فقال اذهب فواره ولا تحدثن شيئا قال فواريته ثم أتيته فقال اذهب فاغتسل ولا تحدثن حتى تأتيني فاغتسلت ثم أتيته فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها 5 وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن السدي إلا من هذا الوجه
د(4214) و نص41/110/79 (190و2006 ) وحم 1/97 و129(759و1074) ون(2133 و8534) وعب (9935 و9936) ومنتقى (550) وهق 1/304 و3/398 ( 1508 و6913 ) وف 385 وطيا (120 ) وع(423 و424) وسعد 1/124 والضياء 2/362(745-747) وش(11840) وبز(592)(1/14)
صحيح
قوله ( فقال لي اغتسل ) لعله أمره بذلك لازالة ما أصابه من تراب أو غيره والله تعالى أعلم . س
وفي الأم :
اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما أَبْوَابُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ . ( أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ ) : قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ زَاذَانَ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رضي الله عنه عَنْ الْغُسْلِ فَقَالَ : اغْتَسَلَ كُلَّ يَوْمٍ إنْ شِئْت فَقَالَ : لَا الْغُسْلُ الَّذِي هُوَ الْغُسْلُ قَالَ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ الْفِطْرِ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَاجِبًا , أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ : فِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْكَفَّيْنِ هَكَذَا يَقُولُونَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ .(1/15)
بَابُ الْوُضُوءِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ خُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { : تَوَضَّأَ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه فَغَسَلَ ظَهْرَ قَدَمَيْهِ وَقَالَ : لَوْلَا أَنَّى رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ ظَهْرَ قَدَمَيْهِ لَظَنَنْت أَنَّ بَاطِنَهُمَا أَحَقُّ } , أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ : رَأَيْت عَلِيًّا رضي الله عنه بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ وَصَلَّى ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ رَأَى عَلِيًّا رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَكْتَلَ بْنِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إسْمَاعِيلَ عَنْ مَعْقِلٍ الْخَثْعَمِيُّ أَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ ذَلِكَ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : رحمه الله تعالى وَلَسْنَا وَلَا إيَّاهُمْ وَلَا أَحَدٌ نَعْلَمُهُ يَقُولُ بِهَذَا مِنْ الْمُفْتِينَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ فَتَمُوتُ قَالَ تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ قَالَ وَلَسْنَا وَلَا إيَّاهُمْ نَقُولُ بِهَذَا أَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا } وَأَمَّا هُمْ فَيَقُولُونَ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا .(1/16)
عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ { عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إنَّ أَبِي قَدْ مَاتَ قَالَ اذْهَبْ فَوَارِهِ فَقُلْتُ إنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا قَالَ اذْهَبْ فَوَارِهِ فَوَارَيْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ قَالَ اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ } وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ مَسَّ مَيِّتًا مُشْرِكًا غُسْلٌ وَلَا وُضُوءٌ . عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الْقُبْلَةُ مِنْ اللَّمْسِ وَفِيهَا الْوُضُوءُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلُهُ وَهُمْ يُخَالِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ لَا وُضُوءَ مِنْ الْقُبْلَةِ وَنَحْنُ نَأْخُذُ بِأَنَّ فِي الْقُبْلَةِ الْوُضُوءُ وَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْره وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ . ((1/17)
قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَلَسْنَا وَلَا إيَّاهُمْ نَقُولُ بِهَذَا نَقُولُ : إذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : الْجُنُبُ لَا يَتَيَمَّمُ وَلَيْسُوا يَقُولُونَ بِهَذَا وَيَقُولُونَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِهِ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ الْجُنُبَ أَنْ يَتَيَمَّمَ } وَرَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ } . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْأَزْمَعِ قَالَ : سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : إذَا غَسَلَ الْجُنُبُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَلَا يُعِيدُ لَهُ غَسْلًا وَلَيْسُوا يَقُولُونَ بِهَذَا يَقُولُونَ : لَيْسَ الْخِطْمِيُّ بِطَهُورٍ وَإِنْ خَالَطَهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ إنَّمَا الطَّهُورُ الْمَاءُ مَحْضًا فَأَمَّا غَسْلُ رَأْسِهِ بِالْمَاءِ بَعْدَ الْخِطْمِيِّ أَوْ قَبْلَهُ فَأَمَّا الْخِطْمِيُّ فَلَا يُطَهِّرُ وَحْدَهُ .
وفي المغني :
((1/18)
297 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَعَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّهُمَا قَالَا : مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ . وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ . وَاخْتَارَهُ أَبُو إسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ , وَمَنْ حَمَلَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ , فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ الْكَافِرَ خَاصَّةً ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَغْتَسِلَ لَمَّا غَسَّلَ أَبَاهُ . } وَلَنَا قَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الرَّازِيُّ , قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ } ; وَلِأَنَّهُ غُسْلُ آدَمِيٍّ فَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلَ كَغُسْلِ الْحَيِّ , وَحَدِيثُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَيْسَ فِي هَذَا حَدِيثٌ يَثْبُتُ , وَلِذَلِكَ لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ حَمَلُهُ .(1/19)
وَقَدْ ذُكِرَ لِعَائِشَةِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَمَنْ حَمَلِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ " قَالَتْ : وَهَلْ هِيَ إلَّا أَعْوَادٌ حَمَلَهَا , ذَكَرَهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ , وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ حَمْلِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ أَبُو إسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ غَسَّلَ أَبَا طَالِبٍ , إنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { اذْهَبْ فَوَارِهِ , وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي . قَالَ : فَأَتَيْته فَأَخْبَرْته , فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْت . } وَقَدْ قِيلَ : يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْكَافِرِ الْحَيِّ . وَلَا نَعْلَمُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً تُوجِبُهُ , وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ .
((1/20)
1627 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ غُسْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ ; لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ , وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهَا . وَقَالَ مَكْحُولٌ فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ فِي سَفَرٍ , وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَنِسَاءٌ نَصَارَى : يُغَسِّلُهَا النِّسَاءُ . وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رَجُلٍ مَاتَ مَعَ نِسَاءٍ , لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ , قَالَ : إنْ وَجَدُوا نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا , فَلَا بَأْسَ إذَا تَوَضَّأَ أَنْ يُغَسِّلَهُ , وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ . وَغَسَّلَتْ امْرَأَةَ عَلْقَمَةَ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ . وَلَمْ يُعْجِبْ هَذَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ . وَقَالَ : لَا يُغَسِّلُهُ إلَّا مُسْلِمٌ , وَيُيَمَّمُ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجِسٌ , فَلَا يُطَهِّرُ غُسْلُهُ الْمُسْلِمَ . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهُ لِلْمُسْلِمِ , كَالْمَجْنُونِ . وَإِنْ مَاتَ كَافِرٌ مَعَ مُسْلِمِينَ , لَمْ يُغَسِّلُوهُ , سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَلَا يَتَوَلَّوْا دَفْنَهُ , إلَّا أَنْ لَا يَجِدُوا مَنْ يُوَارِيهِ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ : يَجُوزُ لَهُ غُسْلُ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ , وَدَفْنُهُ . وَحَكَاهُ قَوْلًا لِأَحْمَدَ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اذْهَبْ فَوَارِهِ } .(1/21)
وَلَنَا , أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ , وَلَا يَدْعُو لَهُ , فَلَمْ يَكُنْ لَهُ غُسْلُهُ , وَتَوَلِّي أَمْرِهِ , كَالْأَجْنَبِيِّ , وَالْحَدِيثُ إنْ صَحَّ يَدُلُّ عَلَى مُوَارَاتِهِ لَهُ , وَذَلِكَ إذَا خَافَ مِنْ التَّعْيِيرِ بِهِ , وَالضَّرَرِ بِبَقَائِهِ . قَالَ أَحْمَدُ , رحمه الله , فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مَاتَ , وَلَهُ وَلَدٌ مُسْلِمٌ : فَلْيَرْكَبْ دَابَّةً , وَلْيَسِرْ أَمَامَ الْجِنَازَةِ , وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ رَجَعَ , مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه .
وفي المجموع :(1/22)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى : ( وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ أَقَارِبِهِ مِنْ الْكُفَّارِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت : إنَّ عَمَّك الضَّالَّ قَدْ مَاتَ , فَقَالَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ } وَلَا تُتْبِعْ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ وَلَا نَائِحَةٍ , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : " إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَارٌ وَلَا نَائِحَةٌ " وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه : " أَنَّهُ وَصَّى : لَا تَتْبَعُونِي بِصَارِخَةٍ وَلَا بِمِجْمَرَةٍ , وَلَا تَجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا " ) . ( الشَّرْحُ ) حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ , وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي جُمْلَةِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ . وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَيُقَالُ : مِتُّ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا - لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ . ( أَمَّا الْأَحْكَامُ ) فَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ : لَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ , وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ غُسْلِ الْمَيِّتِ .
وفي نصب :
((1/23)
وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ ) بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ لَكِنْ يُغَسَّلُ غَسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ , وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ , وَتُحْفَرُ حَفِيرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّكْفِينِ وَاللَّحْدِ , وَلَا يُوضَعُ فِيهَا , بَلَى يُلْقَى .(1/24)
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله : وَإِنْ مَاتَ الْكَافِرُ , وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ , بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ , قُلْت : أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ { عَلِيٍّ , قَالَ : لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ , قَالَ : انْطَلَقْتُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ , قَدْ مَاتَ , قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك , ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي , فَذَهَبْت فَوَارَيْتُهُ , وَجِئْتُهُ , فَأَمَرَنِي , فَاغْتَسَلْت , وَدَعَا لِي } .(1/25)
انْتَهَى وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ فِي " مَسَانِيدِهِمْ " , وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْغُسْلُ وَالْكَفَنُ , إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ : فَأَمَرَنِي , فَاغْتَسَلْتُ , فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ شُرِعَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ , وَلَمْ يُشْرَعْ مِنْ دَفْنِهِ , وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , إلَّا عَلَى الِاغْتِسَالِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ , فَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ { عَلِيٍّ , قَالَ : لَمَّا أُخْبِرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بَكَى , ثُمَّ قَالَ لِي : اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ , وَكَفِّنْهُ , وَوَارِهِ , قَالَ : فَفَعَلْتُ , ثُمَّ أَتَيْتُهُ , فَقَالَ لِي : اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ , قَالَ : وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَيَّامًا , وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } } الْآيَةَ . انْتَهَى . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُصَنَّفِهِ " الْحَدِيثَ بِسَنَدِ السُّنَنِ , قَالَ : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الْكَافِرَ قَدْ مَاتَ , فَمَا تَرَى فِيهِ ؟ قَالَ : أَرَى أَنْ تُغَسِّلَهُ , وَتَجُنَّهُ , وَأَمَرَهُ بِالْغُسْلِ .(1/26)
انْتَهَى وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيَّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ { عَلِيٍّ , قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ , قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ , وَلَا تُحْدِثُ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي , قَالَ : فَوَارَيْته , ثُمَّ أَتَيْتُهُ , قَالَ : اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ , فَاغْتَسَلْتُ , ثُمَّ أَتَيْتُهُ , فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمُرَ النَّعَمِ أَوْ سُودَهَا } . قَالَ : وَكَانَ عَلِيٌّ إذَا غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ . انْتَهَى . وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي " مَسَانِيدِهِمْ " عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ بِهِ , بِلَفْظِ السُّنَنِ , زَادَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا , قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ , وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ , رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ الْوُسْطَى " , ثُمَّ قَالَ : وَنَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ لَا يُعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ أَبِي إسْحَاقَ , قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ .(1/27)
انْتَهَى وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ " حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا مِنْ طُرُقٍ , وَقَالَ : إنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ , وَأَسَانِيدُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ , وَبَعْضُهَا مُنْكَرٌ , وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا , فَلْيَغْتَسِلْ , وَمَنْ حَمَلَهُ , فَلْيَتَوَضَّأْ } , فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ , وَحَسَّنَهُ , وَضَعَّفَهُ , الْجُمْهُورُ , وَبَسَطَ الْبَيْهَقِيُّ الْقَوْلَ فِي طُرُقِهِ , وَقَالَ : الصَّحِيحُ وَقْفُهُ , قَالَ : قَالَ التِّرْمِذِيُّ , عَنْ الْبُخَارِيِّ , عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ , قَالَا : لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ , شَيْخُ الْبُخَارِيِّ : لَا أَعْلَمُ فِيهِ حَدِيثًا ثَابِتًا , وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ , وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمِنْ الْحِجَامَةِ وَغُسْلِ الْمَيِّتِ } , فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/28)
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " التَّحْقِيقِ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَنْعِهِ الْمُسْلِمَ غَسْلَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ وَدَفْنِهِ , بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " , عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : { جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّيَّ تُوُفِّيَتْ , وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ , وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَحْضُرَهَا , فَقَالَ لَهُ عليه السلام : ارْكَبْ دَابَّتَكَ , وَسِرْ أَمَامَهَا , فَإِنَّك إذَا كُنْتَ أَمَامَهَا لَمْ تَكُنْ مَعَهَا } . انْتَهَى وَهَذَا مَعَ ضَعْفِهِ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ , كَمَا تَرَاهُ , ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِخُصُومِهِ بِحَدِيثِ أَبِي طَالِبٍ , وَأَجَابَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ , وَهَذَا أَيْضًا مَمْنُوعٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي البحر الزخار :(1/29)
وَيُغَسَّلُ وَلَدُ الزِّنَا وَالْأَغْلَفُ إنْ لَمْ يَتْرُكْ الْخِتَانَ تَهَاوُنًا , لِقَوْلِ عَلِيٍّ عليه السلام " مَسْأَلَةٌ " ( هـ ك ) وَيَحْرُمُ لِلْكَافِرِ , قُلْت : إذْ هُوَ تَشْرِيفٌ ( ح ش ) يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ , إذْ { أَمَرَ صلى الله عليه وآله وسلم عَلِيًّا أَنْ يُغَسِّلَ أَبَاهُ . } قُلْنَا : أَمَرَهُ بِمُوَارَاتِهِ , وَلَمْ يَذْكُرْ الْغُسْلَ فِي رِوَايَةٍ . سَلَّمْنَا فَلِإِسْلَامِهِ بَاطِنًا إنْ صَحَّ " مَسْأَلَةٌ " ( ى ) وَالْمُتَأَوِّلُ عِنْدَ الْمُكَفِّرِ كَالْمُصَرِّحِ , إلَّا فِي الْخَبَرِ وَالشَّهَادَةِ . " مَسْأَلَةٌ " هـ وَالْفَاسِقُ كَالْكَافِرِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْعَذَابَ , فَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ , وَفِي الْجَوَازِ تَرَدُّدٌ ( م ط ص ى ) يَجُوزُ تَشْرِيفًا لِلْمِلَّةِ ( هَا ) يَجِبُ لِذَلِكَ . لَنَا لَا شَرَفَ مَعَ اسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ , وَالتَّأْوِيلُ فِيهِ كَالتَّصْرِيحِ ( ى ) يُغَسَّلُ الْمُتَأَوِّلُ إذْ لَمْ يُعَامِلْهُمْ عَلِيٌّ عليه السلام مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ فِي الْأَحْكَامِ , لَا مَنْ قُتِلَ بَاغِيًا , إذْ لَمْ يُغَسِّلْ الْخَوَارِجَ عُقُوبَةً .
((1/30)
قَوْلُهُ ) " لِقَوْلِ عَلِيٍّ عليه السلام " إلَخْ . رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : " لَا يُصَلَّى عَلَى الْأَغْلَفِ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِنْ السُّنَّةِ أَعْظَمَهَا , إلَّا إنْ تَرَكَ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ " وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ { أَتَى رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ شَابٌّ , فَأَسْلَمَ وَهُوَ أَغْلَفُ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : اخْتَتِنْ , قَالَ : إنِّي أَخَافُ عَلَى نَفْسِي , فَقَالَ : إنْ كُنْتَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِك فَكُفَّ , فَمَاتَ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَأَهْدَى لَهُ فَأَكَلَ } حُكِيَ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ هَكَذَا فِي مَجْمُوعِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام ( قَوْلُهُ ) " إذْ أَمَرَ صلى الله عليه وآله وسلم عَلِيًّا عليه السلام أَنْ يُغَسِّلَ أَبَاهُ " , قُلْت : هَكَذَا يَحْكِيهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ , وَإِنَّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ : عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ , أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام قَالَ : { لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , فَقُلْتُ : إنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ , قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ , ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي , فَوَارَيْتُهُ فَجِئْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ فَدَعَا لِي } هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد . وَعِنْدَ النَّسَائِيّ أَنَّهُ { أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم , فَقَالَ : إنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ , فَقَالَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ , قَالَ : إنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا , قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ , فَلَمَّا وَارَيْتُهُ رَجَعْتُ إلَيْهِ , فَقَالَ لِي : اغْتَسِلْ } وَأَخْرَجَ أَيْضًا نَحْوَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد .(1/31)
وَفِي التَّلْخِيصِ مَا لَفْظُهُ . ( تَنْبِيهٌ ) لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ غَسَّلَهُ , إلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ } , فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ شُرِعَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ , وَلَمْ يُشْرَعْ مِنْ دَفْنِهِ . ثُمَّ قَالَ : قُلْتُ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ { إنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الْكَافِرَ قَدْ مَاتَ , فَمَا تَرَى فِيهِ ؟ قَالَ : أَرَى أَنْ تَغْسِلَهُ وَتُجِنَّهُ } وَحُكِيَ فِي التَّلْخِيصِ عَنْ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَلِيٍّ قَالَ : { لَمَّا أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بَكَى ثُمَّ قَالَ لِي : اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ , قَالَ : فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ , فَقَالَ : اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ } .
" مَسْأَلَةٌ " : وَيُنْدَبُ اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ لِخَبَرِ الْبَرَاءِ وَيُكْرَهُ الرُّكُوبُ إلَّا لِعُذْرٍ , إذْ لَمْ يَرْكَبْ صلى الله عليه وآله وسلم فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ , وَأَنْكَرَ عَلَى الرُّكْبَانِ , وَيَجُوزُ فِي الرُّجُوعِ كَفِعْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم " مَسْأَلَةٌ " ى وَلِلْمُسْلِمِ اتِّبَاعُ جِنَازَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِعَلِيٍّ عليه السلام فِي أَبِيهِ { اذْهَبْ فَوَارِهِ } وَلَا تُتْبَعْ بِمِجْمَرَةٍ وَلَا نَائِحَةٍ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا تُتْبَعْ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ وَلَا صَوْتٍ } .
((1/32)
قَوْلُهُ ) " كَخَبَرِ الْبَرَاءِ " هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ , وَنَسَبَهُ فِي الْكِتَابِ إلَى عَائِشَةَ , وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ , وَلَهُ شَوَاهِدُ . ( قَوْلُهُ ) { إذْ لَمْ يَرْكَبْ صلى الله عليه وآله وسلم فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ } تَقَدَّمَ . ( قَوْلُهُ ) " وَأَنْكَرَ عَلَى الرُّكْبَانِ " عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي جِنَازَةِ فَرَأَى نَاسًا رِكَابًا , فَقَالَ : أَلَا تَسْتَحْيُونَ , إنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ } أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ : ( قَوْلُهُ ) " وَيَجُوزُ فِي الرُّجُوعِ " فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد , { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أُتِيَ بِدَابَّةٍ وَهُوَ مَعَ الْجِنَازَةِ , فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يَرْكَبَهَا , فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيَ بِدَابَّتِهِ فَرَكِبَ , فَقِيلَ لَهُ , فَقَالَ : الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَمْشِي , فَلَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَهُمْ يَمْشُونَ , فَلَمَّا ذَهَبُوا رَكِبْتُ } وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم اتَّبَعَ جِنَازَةَ أَبِي الدَّحْدَاحِ مَاشِيًا وَرَجَعَ عَلَى فَرَسٍ } أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ , وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مَا يَتَضَمَّنُ نَحْوَهُ . قَوْلُهُ ) " لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ وَلَا صَوْتٍ " لَفْظُهُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : { لَا تَتْبَعُوا الْجِنَازَةَ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ زَادَ فِي رِوَايَةٍ وَلَا تَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهَا } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وفي حاشيتي قليوبي وعميرة :
((1/33)
وَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ ( جِنَازَةَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ) هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ الْأَصْحَابِ : لَا يُكْرَهُ , رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ { : أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت : إنَّ عَمَّك الضَّالَّ قَدْ مَاتَ , فَقَالَ اذْهَبْ فَوَارِهِ } قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ : حَسَنٌ
. قَوْلُهُ : ( وَلَا بَأْسَ ) فَهُوَ مُبَاحٌ , وَعَلَيْهِ حُمِلَ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ . قَوْلُهُ : ( بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ ) لِأَنَّهُ التَّابِعُ لَا بِإِسْكَانِهَا الْمُوهِمُ أَنَّ التَّابِعَ غَيْرُهُ يَأْمُرُهُ مَثَلًا . قَوْلُهُ : ( قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ) وَكَالْقَرِيبِ الزَّوْجُ وَالْجَارُ وَالصَّدِيقُ وَالْوَلِيُّ وَالْعَبْدُ وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ كَذَلِكَ , وَخَرَجَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْأَجَانِبِ فَيَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ , وَبِذَلِكَ فَارَقَ جَوَازَ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ أَيْ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّعَاظِ . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِالْحُرْمَةِ فِيهَا أَيْضًا وَضُعِّفَ .
وفي نهاية المحتاج :
((1/34)
وَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ ( جِنَازَةَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ) لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ " لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت لَهُ : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ , قَالَ : انْطَلِقْ فَوَارِهِ " وَلَا يَبْعُدُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ إلْحَاقُ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ بِالْقَرِيبِ , وَيَلْحَقُ بِهِ أَيْضًا الْمَوْلَى وَالْجَارُ كَمَا فِي الْعِيَادَةِ فِيمَا يَظْهَرُ , وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ تَحْرِيمَ تَشْنِيعِ الْمُسْلِمِ جِنَازَةَ الْكَافِرِ غَيْرَ نَحْوِ الْقَرِيبِ , وَبِهِ صَرَّحَ الشَّاشِيُّ كَابْتِدَاءِ السَّلَامِ , لَكِنَّ قَضِيَّةَ إلْحَاقِ الزَّوْجَةِ وَنَحْوِهَا بِهِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ , وَمَا نَازَعَ بِهِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَيْرِ عَلِيٍّ فِي مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ عَلَى كَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُؤَنَّثَةٌ حَالَ حَيَاتِهِ , يُمْكِنُ رَدُّهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دَلِيلُ الْجَوَازِ إذْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ , وَأَمَّا زِيَارَةُ الْمُسْلِمِ قَبْرَ نَحْوِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ فَجَائِزٌ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ , وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ خَبَرُ { اسْتَأْذَنْت رَبِّي لِأَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي , وَاسْتَأْذَنْته أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي } وَفِي رِوَايَةٍ { فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ }
((1/35)
قَوْلُهُ : بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ ) اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَفِي كَوْنِ الِاتِّبَاعِ بِسُكُونِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ بِمَعْنَى الْمَشْيِ خِلَافٌ فِي اللُّغَةِ , فَفِي الْمُخْتَارِ مَا نَصُّهُ : تَبِعَهُ مِنْ بَابِ طَرِبَ وَسَلِمَ إذَا مَشَى خَلْفَهُ أَوْ مَرَّ بِهِ فَمَضَى مَعَهُ , وَكَذَا اتَّبَعَهُ وَهُوَ افْتَعَلَ , وَأَتْبَعَهُ عَلَى أَفْعَلَ إذَا كَانَ قَدْ سَبَقَهُ فَلَحِقَهُ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ , يُقَالُ أَتْبَعَهُ الشَّيْءُ فَتَبِعَهُ ( قَوْلُهُ : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمَحَلِّيُّ , وَقَوْلُهُ قَالَ : فَانْطَلَقَ عِبَارَةُ الْمَحَلِّيِّ فَقَالَ اذْهَبْ فَوَارِهِ ( قَوْلُهُ : كَابْتِدَاءِ السَّلَامِ ) وَفِي نُسْخَةٍ : لَكِنَّ قَضِيَّةَ إلْحَاقِ الزَّوْجَةِ وَنَحْوِهَا بِهِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ ا هـ يُتَأَمَّلُ وَجْهُ كَوْنِ الْإِلْحَاقِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ ( قَوْلُهُ : وَأَمَّا زِيَارَةُ الْمُسْلِمِ قَبْرَ نَحْوِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ فَجَائِزَةٌ ) مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا كَانَ غَيْرَ نَحْوِ قَرِيبٍ , وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّاشِيِّ فِي اتِّبَاعِ جِنَازَتِهِ , وَلَوْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهِ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ كَرَاهَةُ اتِّبَاعِ جِنَازَتِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا هَذَا , وَسَيَأْتِي لِلشَّارِحِ أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ مُبَاحَةٌ خِلَافًا لِلْمَاوَرْدِيِّ , وَفِي تَحْرِيمِهَا وَهُوَ بِعُمُومِهِ شَامِلٌ لِلْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ , وَقَضِيَّةُ التَّعْبِيرِ بِالْإِبَاحَةِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْحُرْمَةِ , وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِكَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ , أَوْ يُقَالُ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا(1/36)
إذَا قَصَدَ قَبْرًا بِعَيْنِهِ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي عَنْ الْمُنَاوِيِّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ ( قَوْلُهُ : لِأَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي ) أَوْ لِمَوْتِهَا عَلَى الْكُفْرِ . وَلَا يُقَالُ : هِيَ مَاتَتْ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا شَرِيعَةَ ثَمَّ تُخَاطَبُ بِهَا . لِأَنَّا نَقُولُ : شَرِيعَةُ عِيسَى كَانَتْ بَاقِيَةً إذْ لَمْ تُنْسَخْ إلَّا بِبَعْثَتِهِ عليه الصلاة والسلام , هَذَا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَبَوَيْهِ أُحْيِيَا وَآمَنَا بِهِ مُعْجِزَةً لَهُ صلى الله عليه وسلم , وَعَلَيْهِ فَلَعَلَّ عَدَمَ الْإِذْنِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ
وفي كشاف القناع :(1/37)
فَصْلُ ( وَيَحْرُمُ أَنْ يُغَسِّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا وَلَوْ قَرِيبًا أَوْ يُكَفِّنَهُ أَوْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَوْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ أَوْ يَدْفِنَهُ ) . لقوله تعالى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } وَغُسْلُهُمْ وَنَحْوُهُ : تَوَلٍّ لَهُمْ وَلِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُمْ , وَتَطْهِيرٌ فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَفَارَقَ غُسْلَهُ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ ( إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرَهُ فَيُوَارَى عِنْدَ الْعَدَمِ ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم { لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعَلِيٍّ اذْهَبْ فَوَارِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَكَذَلِكَ قَتْلَى بَدْرٍ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ , أَوْ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ وَيَتَغَيَّرُ بِبَقَائِهِ ( فَإِنْ أَرَادَ ) الْمُسْلِمُ ( أَنْ يَتْبَعَ قَرِيبًا لَهُ كَافِرًا إلَى الْمَقْبَرَةِ رَكِبَ ) الْمُسْلِمُ ( دَابَّتَهُ وَسَارَ أَمَامَهُ ) أَيْ : قُدَّامَ جِنَازَتِهِ ( فَلَا يَكُونُ مَعَهُ ) وَلَا مُتَّبِعًا لَهُ ( وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَأْكُولٍ فِي بَطْنِ سَبُعٍ ) قَالَ فِي الْفُصُولِ : فَأَمَّا إنْ حَصَلَ فِي بَطْنِ سَبُعٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ , مَعَ مُشَاهَدَةِ السَّبُعِ ( وَ ) لَا يُصَلَّى عَلَى ( مُسْتَحِيلٍ بِإِحْرَاقٍ ) لِاسْتِحَالَتِهِ . ( وَنَحْوِهِمَا ) أَيْ : نَحْوُ أَكِيلِ السَّبُعِ وَالْمُسْتَحِيلُ بِإِحْرَاقٍ كَأَكِيلِ تِمْسَاحٍ وَمُسْتَحِيلٍ بِصِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا . ((1/38)
وَلَا يُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ , وَ ) لَا لِ ( إمَامِ كُلِّ قَرْيَةٍ - وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ الصَّلَاةُ عَلَى غَالٍّ وَهُوَ مَنْ كَتَمَ غَنِيمَةً أَوْ بَعْضَهَا ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ { : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ , فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ فَقَالَ : إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ حِرْزًا مِنْ حِرْزِ الْيَهُودِ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ , وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ ( وَ ) .
وفي الفواكه الدواني :(1/39)
وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ وُجُوبُ مُوَارَاةِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا وَتَغْسِيلُهُ قَالَ : ( وَلَا يُغَسِّلُ ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ( الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ ) وَأَوْلَى غَيْرُ الْأَبِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ ( وَلَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ ) ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْبِرِّ سَقَطَ بِمَوْتِهِ وَقَبْرُهُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ بَلْ يَتْرُكُهُ إلَى أَهْلِ دِينِهِ ( إلَّا أَنْ يَخَافَ ) عَلَيْهِ ( أَنْ يَضِيعَ ) بِتَرْكِ مُوَارَاتِهِ ( فَلْيُوَارِهِ ) وُجُوبًا بِكَفْنِهِ وَدَفْنِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَعَرَّةِ وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ قِبْلَتَنَا وَلَا قِبْلَتَهُ , وَالنَّهْيُ عَمَّا ذُكِرَ لِلتَّحْرِيمِ , وَالْكَافِرُ يَتَنَاوَلُ الْحَرْبِيَّ خِلَافًا لِبَعْضٍ , وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ { أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا مَاتَ جَاءَ وَلَدُهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ } , وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُوَارَاتِهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ . ((1/40)
تَنْبِيهٌ ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرَ الْقَرِيبِ لَا تَجِبُ مُوَارَاتُهُ عِنْدَ خَوْفِ ضَيْعَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ وُجُوبُ مُوَارَاتِهِ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ عَلَيْهِ عَامٌّ حَتَّى فِي الْأَجْنَبِيِّ , وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ وَغَيْرَهُ كَخَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يُغَسِّلُ مُسْلِمٌ أَبًا كَافِرًا وَلَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ إلَّا أَنْ يَضِيعَ فَلْيُوَارِهِ إنَّمَا نَصَّ الْمُتَوَهِّمُ فَلَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَتْ مُوَارَاتُهُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ فَالْأَجْنَبِيُّ أَحْرَى ; لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ مُوَارَاةِ الْآدَمِيِّ فَافْهَمْ .
وفي الموسوعة الفقهية :(1/41)
دَفْنُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ 7 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفِنَ كَافِرًا وَلَوْ قَرِيبًا إلَّا لِضَرُورَةٍ , بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرُهُ فَيُوَارِيهِ وُجُوبًا . ; لِأَنَّهُ { صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه : اذْهَبْ فَوَارِهِ } وَكَذَلِكَ قَتْلَى بَدْرٍ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ , أَوْ ; لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ وَيَتَغَيَّرُ بِبَقَائِهِ . وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ قِبْلَتَنَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا , وَلَا قِبْلَتُهُمْ ; لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا , فَلَا يَقْصِدُ جِهَةً مَخْصُوصَةً , بَلْ يَكُونُ دَفْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ ; لِوَلِيِّهِ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ , إذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَاسْتِقْبَالِهِ قِبْلَتَهُمْ , وَغَيْرِ ذَلِكَ .
*****************
قلت :
مع وضوح هذه النصوص التي تقطع بأن أبا طالب قد مات كافرا ، فإن الرافضة يدعون أنه قد آمن ولا يخجلون من الكذب ، وكأنهم أحرص من الله على هدايته ، وذلك لكونه أبا لعلي وعما للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يذب عنه
فيقال لهؤلاء الحمقى :
هل كان أبو طالب يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قرابة وعصبية أم تدينا ؟
وهو لم يقل كلمة الحق ولو مرة واحدة فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يهدي عمه ولكنه لم ينطق بشهادة التوحيد كبرا وأنفة ، فلن ينفعه عمله يوم القيامة بتاتا
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد شفع له شفاعة صغرى وذلك بأن له نعلان من نار يغلي منهما دماغه دائما وهو أهون أهل النار عذابا(1/42)
ففي البخاري : عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى طَالِبٍ « يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ) الآيَةَ.(1/43)
و عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ « أَىْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَىْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ ». فَنَزَلَتْ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) وَنَزَلَتْ ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ)
وفي مسلم :(1/44)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ). وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِى أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ).
فالمسالة ليست مسألة عصبية وإنما هي مسألة إيمان أو كفر
فقد قطع الإسلام كافة أمور الجاهلية وجعل الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس إلا(1/45)
وهدد من يكون ولاؤه لغير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الأليم قال تعالى في سورة التوبة { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24}
وقال تعالى في سورة المجادلة { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22}
وفي سنن أبي داود عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ».
بل لو عمل المسلم عملا لا يبتغي به وجه الله تعالى فلا يؤجر عليه يوم القيامة(1/46)
فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حَدَّثَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِىَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِالَّذِى قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِى مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِىءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ».(1/47)
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رُكْبَتِى فَقَالَ « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَقَالَ الْوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ فَأَخْبَرَنِى عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِى دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَحَدَّثَنِى الْعَلاَءُ بْنُ أَبِى حَكِيمٍ أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلاَءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِىَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وأخرج أحمد في مسنده عن مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ ». قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِىَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِى الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً ».
فهل بعد هذا البيان القاطع نحتاج إلى بيان آخر ؟!!(1/48)
ولكن لا عجب في هؤلاء فأبو طالب من كبار المؤمنين وغالب الصحابة الذين قام هذا الدين على أكتافهم مرتدون كفرة لأنهم جحدوا الوصية بالخلافة لعلي !!!
فتأمل أيها العاقل على هذا الإفك المبين
ولذا أستطيع الجزم بأن هؤلاء أخطر على الإسلام من كل أعدائه الآخرين
وذلك لأنهم يطعنون بالدين باسم الدين ويصدقهم السذج والمغفلون من الناس ولا سيما الذين تأخذهم العواطف دون عقل وتروي ، فيجب الحذر منهم ومن ألاعيبهم **************
هذا وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة في المرتبة الرابعة يعني أنه غير صحابي وسأنقل كلامه وأناقشه
[ 10169 ] أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية اشتهر بكنيته واسمه عبد مناف على المشهور وقيل عمران وقال الحاكم أكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وثلاثين سنة ولما مات عبد المطلب أوصى بمحمد صلى الله عليه وسلم الى أبي طالب فكفله وأحسن تربيته وسافر به صحبته إلى الشام وهو شاب ولما بعث قام في نصرته وذب عنه من عاداه ومدحه عدة مدائح منها قوله لما استسقى أهل مكة فسقوا
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ومنها قوله من قصيدة
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
قال بن عيينة عن علي بن زيد ما سمعت أحسن من هذا البيت
(( قلت : يحتاج لإثبات أنه قاله حيث أن كثيرا من الأشعار التي أوردها ابن إسحاق في السيرة لم تصح نسبتها لأصحابها ))(1/49)
وأخرج أحمد في مسنده حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِى هَاشِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلَمَةَ - يَعْنِى ابْنَ كُهَيْلٍ - قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِىِّ قَالَ رَأَيْتُ عَلِيًّا ضَحِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ لَمْ أَرَهُ ضَحِكَ ضَحِكاً أَكْثَرَ مِنْهُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَبِى طَالِبٍ ظَهَرَ عَلَيْنَا أَبُو طَالِبٍ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نُصَلِّى بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَقَالَ مَاذَا تَصْنَعَانِ يَا ابْنَ أَخِى فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الإِسْلاَمِ فَقَالَ مَا بِالَّذِى تَصْنَعَانِ بَأْسٌ أَوْ بِالَّذِى تَقُولاَنِ بَأْسٌ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَعْلُونِى اسْتِى أَبَداً. وَضَحِكَ تَعَجُّباً لِقَوْلِ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ لاَ أَعْتَرِفُ أَنَّ عَبْداً لَكَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَبَدَكَ قَبْلِى غَيْرَ نَبِيِّكَ - ثَلاَثَ مِرَارٍ - لَقَدْ صَلَّيْتُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ النَّاسُ سَبْعاً.
(( قلت :
هذا الحديث بطوله ولكن الحافظ ابن حجر رحمه حذف السند وذكره من عند حبة العرني وسكت عليه وهذا يشعر أنه حسن أو صحيح عنده
ولكن عندما ننظر في سنده نجد أن فيه يحيى بن سلمة بن كهيل وهو متروك كما قال عنه الحافظ ابن حجر نفسه في التقريب وهو مجمع على تركه
بل نص هذا الحديث يدل على أنه من وضع يحيى بن سلمة بن كهيل وكان غاليا في التشيع
فتعليل أبي طالب بعيد جدا يكذبه رواية البخاري عند موته بأن الذي منعه الكبر وكلام الناس وليس أن تعلو إسته أبدا(1/50)
كما أن آخره كذب قطعا فكيف يصلي علي رضي الله عنه قبل الناس سبع سنين ؟؟ بل ولا سنة ولا شهرا لأن خديجة رضي الله عنها أسلمت قبله وسواء قلنا بأنه أسلم قبل أبي بكر رضي الله عنه أو بعده فقد أسلم أبو بكر رضي الله عنه منذ البداية وأسلم على يديه خلق ودخل في الإسلام في الفترة السرية عدد من الصحابة فكيف يصلي علي رضي الله عنه سبع سنين قبل الناس ؟؟؟!!!
فهذا أمر مقطوع بكذبه
ومما يدل على وضعه تفرد يحيى به وإلا كيف يحدث علي رضي الله عنه على المنبر بحديث بعد ضحكه ليبين سبب ضحكه ثم لا يروي عنه هذا الحديث إلا حبة العرني وحده وحبة كان غاليا في التشيع وسلمة بن كهيل بالرغم أنه ثقة إلا أنه يتشيع فهذا الخبر مردود جملة وتفصيلا ))
*********
وأخرج البخاري في التاريخ من طريق طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة عن عقيل بن أبي طالب قال قالت قريش لأبي طالب إن بن أخيك هذا قد آذانا فذكر القصة فقال يا عقيل ائتني بمحمد قال فجئت به في الظهيرة فقال إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم فانته عن أذاهم فقال أترون هذه الشمس فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك فقال أبو طالب والله ما كذب بن أخي قط
(( قلت:هذا الخبر بطوله من مسند أبي يعلى 6804 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة حدثنا عقيل بن أبي طالب ثم قال جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا إن بن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا فانهه عن أذانا فقال يا عقيل ائتني بمحمد فذهبت فأتيته به فقال يا بن أخي إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانته عن ذلك قال فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فقال أترون هذه الشمس قالوا نعم قال ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة قال فقال أبو طالب ما كذبنا بن أخي فارجعوا ((حسن ))(1/51)
وقال عبد الرزاق حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع بن عباس في قوله تعالى وهم ينهون عنه وينأون عنه قال نزلت في أبي طالب كان ينهى عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم وينأى عما جاء به
(( فيه جهالة وورد نحوه مرسلات أخرى فيقوى المرسل دون الموصول))
وأخرج بن عدي من طريق الهيثم البكاء عن ثابت عن أنس قال مرض أبو طالب فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا بن أخي ادع ربك الذي بعثك يعافني فقال اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال يا بن أخي إن ربك ليطيعك فقال وأنت يا عماه لو أطعته ليطيعنك
(( قلت الهيثم بن جماز البكاء متروك قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان ج: 6 ص: 204
[(1/52)
727 ] الهيثم بن جماز الحنفي البكاء بصري معروف عن يحيى بن أبي كثير وثابت البناني وعنه شجاع بن أبي نصر وآدم بن أبي إياس وجماعة قال يحيى بن معين كان قاضيا بالبصرة ضعيف وقال مرة ليس بذاك وقال أحمد ترك حديثه وقال النسائي متروك الحديث علي بن الجعد أخبرني الهيثم بن جماز قال قال رجل عند الحسن يهنيك الفارس فقال الحسن وما يدريك لعله أن يكون حمارا أو بقارا ولكن قل شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب وبلغ أشهد ورزقت بره أبو مسعود السوسي عن الهيثم بن جماز وكان قاضيا عن ثابت عن أنس رضى الله تعالى عنه مرفوعا يؤتى بعمل المؤمن يوم القيامة يوضع في كفة الميزان فلا ترجح حتى يؤتى بصحيفة مختومة من عند الرحمن فتوضع في الكفة فترجح وهي لا إله إلا الله هشيم عن الهيثم بن جماز عن ثابت عن أنس رضى الله تعالى عنه مرفوعا أن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا يا رب قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين قال فيقول سمائي مملوة من ملائكتي وأرضي مملوة من خلق يطيعوني اذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبراني وهللاني واكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة آدم بن أبي إياس حدثنا الهيثم بن جماز عن عمران القصير عن نافع عن بن عمر رضى الله تعالى عنهما مرفوعا لا تكلموا في القدر فإنه سر الله فلا تفشوا لله سره شبابة حدثنا الهيثم بن جماز عن يزيد الرقاشي عن أنس رضى الله تعالى عنه مرفوعا شاهد الزور يلعنه الله فوق سبع سماواته انتهى قال بن عدي وأحاديثه إفراد غراب وفيها ما ليس بالمحفوظ وقال أبو زرعة وأبو حاتم ضعيف زاد أبو حاتم منكر الحديث قال البزار لا يحتج بما انفرد به وقال الجوزجاني كان قاضيا ضعيفا روى عن ثابت معاضيل وقال الساجي متروك جدا ذكره البرقي في الكذابين
))
(( فكيف يوردها ويسكت عليها وهي لايحتج بها أصلا ؟؟!!))
**************(1/53)
وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي عن يونس بن عمرو عن أبي السفر قال بعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أطعمني من عنب جنتك فقال أبو بكر إن الله حرمها على الكافرين
(( قلت : يونس بن عمرو مجهول وأبو السفر تابعي ويغني عنه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه
34175-حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ : لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ ، قَالَوا : أَرْسِلْ إلَى ابْنِ أَخِيك هَذَا فَيَأْتِيك بِ، عَنْقُودٍ مِنْ جَنَّتِهِ , لَعَلَّهُ يَشْفِيك بِهِ ، قَالَ : فَجَاءَ الرَّسُولُ ، وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ ، فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ .
(( وهذا إسناد صحيح مرسل ))
***************
وذكر جمع من الرافضة أنه مات مسلما وتمسكوا بما نسب إليه من قوله
ودعوتني وعلمت أنك صادق ولقد صدقت فكنت قبل أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
(( قلت : حتى هذه الأبيات لا تثبت أصلا فتسقط الحجة من أصلها ))
***************
قال ابن عساكر في صدر ترجمته قيل إنه أسلم ولا يصح إسلامه ولقد وقفت على تصنيف لبعض الشيعة أثبت فيه إسلام أبي طالب منها :
ما أخرجه من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن سعيد بن عباس عن بعض أهله عن بن عباس قال لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه قال له يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة قال يا بن أخي والله لولا أن تكون سبة علي وعلى أهلي من بعدي يرون أني قلتها جزعا عند الموت لقلتها لا اقولها إلا لأسرك بها فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس فسمع قوله فرفع رأسه عنه فقال قد قال والله الكلمة التي سأله عنها (( لا يصح هذا الخبر ففيه مجهولان ))(1/54)
ومن طريق إسحاق بن عيسى الهاشمي عن أبيه سمعت المهاجر مولى بني نفيل يقول سمعت أبا رافع يقول سمعت أبا طالب يقول سمعت بن أخي محمد بن عبد الله يقول إن ربه بعثه بصلة الأرحام وأن يعبد الله وحده لا يعبد معه غيره ومحمد الصدوق الأمين
(( لا يصح إسحاق فمن دونه مجاهيل ))
ومن طريق بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن أبي عامر الهوزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معارضا جنازة أبي طالب وهو يقول وصلتك رحم
(( قلت : هذا حسن مرسل ولكنه لا يدل على إيمان أبي طالب حيث ذكر بصلة الرحم فالكل يذكر بأعماله وهذه ليست صفة إيمانية فلا حجة فيه ))
*************
ومن طريق عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن علي أنه لما أسلم قال له أبو طالب الزم بن عمك
(( عبد الله بن ضميرة وأبوه مجهولان والذي في كتب الجرح والتعديل الحسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه وهو متهم فهذا الخبر كذب ولو صح لا حجة فيه ))
****************
ومن طريق أبي عبيدة معمر بن المثنى عن رؤبة بن العجاج عن أبيه عن عمران بن حصين أن أبا طالب قال لجعفر بن أبي طالب لما أسلم قبل جناح بن عمك فصلى جعفر مع النبي صلى الله عليه وسلم
(( قلت رؤبة وأبوه فيهما كلام وحتى لوصحت هذه الرواية فليس فيها ذكر لإسلام أبي طالب فلا حجة فيها ))
******************
ومن طريق محمد بن زكريا الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي عن الكلبي عن أبي صالح عن بن عباس قال جاء أبو بكر بأبي قحافة وهو شيخ قد عمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تركت الشيخ حتى آتيه قال أردت أن يأجره الله والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك
(( هذا كذب من طريق سلسلة الكذب ))
وأسانيد هذه الأحاديث واهية(1/55)
وليس المراد بقوله في الحديث الأخير إثبات إسلام أبي طالب فقد أخرج عمر بن شبة في كتاب مكة وأبو يعلى وأبو بشر سمويه في فوائده كلهم من طريق محمد بن سلمة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس في قصة إسلام أبي قحافة قال فلما مد يده يبايعه بكى أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قال لأن تكون يد عمك مكان يده ويسلم ويقر الله عينك أحب إلي من أين يكون وسنده صحيح
وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وقال صحيح على شرط الشيخين
وعلى تقدير ثوبتها(( قلت : كيف تثبت وهي مسلسلة بالكذابين ؟؟!!))
فقد عارضها ما هو أصح منها
أما الأول ففي البخاري حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ « أَىْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَىْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ ». فَنَزَلَتْ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) وَنَزَلَتْ ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ)(1/56)
وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ). وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِى أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ).
(( فهذا هو الصحيح فيرد الرواية التي ذكرها بن إسحاق إذ لو كان قال كلمة التوحيد ما نهى الله تعالى نبيه عن الاستغفار له ))
وهذا الجواب أولى من قول من أجاب بأن العباس ما أدى هذه الشهادة وهو مسلم وإنما ذكرها قبل أن يسلم فلا يعتد بها(1/57)
وقد أجاب الرافضي المذكور عن قوله وهو على ملة عبد المطلب بأن عبد المطلب مات على الإسلام واستدل بأثر مقطوع عن جعفر الصادق وسأذكره بعد ولا حجة فيه لانقطاعه وضعف رجاله
وأما الثاني وفيه شهادة أبي طالب بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب عنه وعما ورد من شعر أبي طالب في ذلك أنه نظير ما حكى الله تعالى عن كفار قريش وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فكان كفرهم عنادا ومنشؤه من الأنفة والكبر وإلى ذلك أشار أبو طالب قوله لولا أن تعيرني قريش
وأما الثالث وهو أثر الهوزني فهو مرسل ومع ذلك فليس في قوله وصلتك رحم ما يدل على إسلامه بل فيه ما يدل على عدمه وهو معارضته لجنازته ولو كان أسلم لمشى معه وصلى عليه وقد ورد ما هو أصح منه وهو ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق ناجية بن كعب عن علي قال لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الضال قد مات فقال لي اذهب فواره ولا تحدثني شيئا حتى تأتين ففعلت ثم جئت فدعا لي بدعوات وقد أخرجه الرافضي المذكور من وجه آخر عن ناجية بن كعب عن علي بدون قوله الضال
(( قلت : هذا ديدن الرافضة يحرفون الكلم عن مواضعه وهكذا كان شيوخهم اليهود لعنهم الله تعالى ))
وأما الرابع والخامس وهو أمر أبي طالب ولديه باتبعاه فتركه ذلك هو من جملة العناد وهو أيضا من حسن نصرته له وذبه عنه ومعاداته قومه بسببه
وأما قول أبي بكر فمراده لأنا كنت أشد فرحا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي أي لو أسلم ويبين ذلك ما أخرجه أبو قرة موسى بن طارق عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن بن عمر قال جاء أبو بكر بأبي قحافة يقوده يوم فتح مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تركت الشيخ حتى نأتيه قال أبو بكر أردت أن يأجره الله والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام أبي طالب لو كان أسلم مني بأبي (( فيه ضعف ولكن ما سبق يؤيده ))(1/58)
وذكر بن إسحاق أن عمر لما عارض العباس في أبي سفيان لما أقبل به ليلة الفتح فقال له العباس لو كان من بني عدي ما أحببت أن يقتل فقال عمر أنا بإسلامك إذا أسلمت أفرح مني بإسلام الخطاب يعني لو كان أسلم
(( قلت وأخرج ابن سعد نحوه بإسناد صحيح مرسل : الطبقات الكبرى ج: 4 ص: 22
أخبرنا محمد بن حرب المكي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي ان العباس جاء الى عمر فقال له ان النبي صلى الله عليه وسلم أقطعني البحرين قال من يعلم ذلك قال المغيرة بن شعبة فجاء به فشهد له قال لم يمض له عمر ذلك كأنه لم يقبل شهادته فأغلظ العباس لعمر فقال عمر يا عبد الله خذ بيد أبيك وقال سفيان عن غير عمرو قال قال عمر والله يا أبا الفضل لأنا باسلامك كنت أسر مني بإسلام الخطاب لو أسلم لمرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
****************
ثم ذكر الرافضي من طريق راشد الحماني قال سئل أبو عبد الله يعني جعفر بن محمد الصادق من أهل الجنة ؟ فقال: الأنبياء في الجنة والصالحون في الجنة والأسباط في الجنة وأجل العالمين مجدا محمد صلى الله عليه وسلم يقدم آدم فمن بعده من آبائه وهذه الأصناف يحدثون به ويحشر عبد المطلب به نور الأنبياء وجمال الملوك ويحشر أبو طالب في زمرته فإذا ساروا بحضرة الحساب وتبوأ أهل الجنة منازلهم ودحر أهل النار ارتفع شهاب عظيم لا يشك من رآه أنه غيم من النار فيحضر كل من عرف ربه من جميع الملل ولم يعرف نبيه ومن حشر أمة وحده والشيخ الفاني والطفل فيقال لهم إن الجبار تبارك وتعالى يأمركم أن تدخلوا هذه النار فكل من اقتحمها خلص إلى أعلى الجنة ومن كع عنها غشيته أخرجه عن أبي بشر أحمد بن إبراهيم بن يعلى بن أسد عن أبي صالح الحمادي عن أبيه عن جده سمعت راشد الحماني فذكره وهذه سلسلة شيعية غلاة في رفضهم
(((1/59)
قلت بل كلهم مجاهيل لا يعرف أحد منهم ولذا تجد الرافضة يعتمدون على هؤلاء الكذابين الذين لا يعرفون ويبنون دينهم على كذابين ، وحتى لو صح فلا حجة فيه لأن أبا جعفر تابعي وقوله ليس بحجة فالخبر مختلق من أصله على أبي جعفر الصادق وكذلك هذا لا يعرف إلا بالوحي الصحيح وليس بالترهات والأكاذيب ))
****************
والحديث الأخير ورد من عدة طرق في حق الشيخ الهرم ومن مات في الفترة ومن ولد أكمه أعمى أصم ومن ولد مجنونا أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ ونحو ذلك وأن كلا منهم يدلي بحجة ويقول لو عقلت أو ذكرت لآمنت فترفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن امتنع أدخلها كرها هذا معنى ما ورد من ذلك وقد جمعت طرقه في جزء مفرد
(((1/60)
قلت : وهذا حديث أخرجه أحمد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَصَمُّ لاَ يَسْمَعُ شَيْئاً وَرَجُلٌ أَحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرَمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِى فَتْرَةٍ فَأَمَّا الأَصَمُّ فَيَقُولُ َبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلاَمُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً وَأَمَّا الأَحْمَقُ فَيَقُولُ َبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلاَمُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِى بِالْبَعْرِ وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ رَبِّى لَقَدْ جَاءَ الإِسْلاَمُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً وَأَمَّا الَّذِى مَاتَ فِى الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ َبِّ مَا أَتَانِى لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ - قَالَ - فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلاَماً ». (( صحيح))
***********
ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعا فينجو
لكن ورد في أبي طالب ما يدفع ذلك وهو ما تقدم من آية براءة
وما ورد في صحيح البخاري - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضى الله عنه - قَالَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ « هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ».
فهذا شأن من مات على الكفر(1/61)
فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلا
والأحاديث الصحيحة والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك وقد فخر المنصور على محمد بن عبد الله بن الحسن لما خرج بالمدينة وكاتبه المكاتبات المشهورة ومنها في كتاب المنصور وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وله أربعة أعمام فآمن به اثنان أحدهما أبي وكفر به اثنان أحدهما أبوك
ومن شعر عبد الله بن المعتز يخاطب الفاطميين
وأنتم بنو بنته دوننا ونحن بنو عمه المسلم
وأخرج الرافضي أيضا في تصنيفه قصة وفاة أبي طالب من طريق علي بن محمد بن متيم سمعت أبي يقول سمعت جدي يقول سمعت علي بن أبي طالب يقول تبع أبو طالب عبد المطلب في كل أحواله حتى خرج من الدنيا وهو على ملته وأوصاني أن أدفنه في قبره فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهب فواره وأتيته لما أنزل به فغسلته وكفنته وحملته إلى الحجون فنبشت عن قبر عبد المطلب فوجدته متوجها إلى القبلة فدفنته معه قال متيم ما عبد علي ولا أحد من آبائه إلا الله إلى أن ماتوا أخرجه عن أبي بشر المتقدم ذكره عن أبي بردة السلمي عن الحسن بن ما شاء الله عن أبيه عن علي بن محمد بن متيم وهذه سلسلة شيعية من الغلاة في الرفض فلا يفرح به
(( قلت : كلهم مجاهيل وأفاكين ووضاعين))
وقد عارضه ما هو أصح منه مما تقدم فهو المعتمد
(( قلت: لا نقول عارضه ما هو أصح منه حيث يشعر ذلك بأنه صحيح والأخبار التي استدل بها هذا الرافضي الأفاك كذب لا أصل لها ))
(( وأقول أيضا: كان عليك أيها الحافظ الكبير أن تقول وقد عارض هذا الخبر المفترى حديث صحيح وليس ما هو أصح منه لكي لا يشعر أحد أنه صحيح ))
***************(1/62)
ثم استدل الرافضي بقول الله تعالى في سورة الأعراف { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
قال وقد عزره أبو طالب بما اشتهر وعلم ونابذ قريشا وعاداهم بسببه مما لا يدفعه أحد من نقلة الأخبار فيكون من المفلحين انتهى
وهذا مبلغهم من العلم وإنا نسلم أنه نصره وبالغ في ذلك لكنه لم يتبع النور الذي أنزل معه وهو الكتاب العزيز الداعي إلى التوحيد ولا يحصل الفلاح إلا بحصول ما رتب عليه من الصفات كلها قال المرزباني مات أبو طالب في السنة العاشرة من المبعث وكان له يوم مات بضع وثمانون سنة
وذكر ابن سعد عن الواقدي أنه مات في نصف شوال منها
وقد وقعت لنا رواية أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الخطيب في كتاب رواية الآباء عن الأبناء من طريق أحمد بن الحسن المعروف بدبيس حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم العلوي حدثني عم أبي الحسين بن محمد عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي قال سمعت أبا طالب يقول حدثني محمد بن أخي وكان والله صدوقا قال قلت له بم بعثت يا محمد قال بصلة الأرحام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة قال الخطيب لم أكتبه بهذا الإسناد إلا عن هذا الشيخ ودبيس المقرىء صاحب غرائب وكثير الرواية للمناكير
(( قلت : هذا الخبر كذب
فأولا الحسين بن علي لم يكن مخلوقا فكيف يحدث عن جده ؟؟
وكذلك دبيس ففي الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج: 1 ص: 68(1/63)
167 أحمد بن الحسن بن علي أبو علي المقرىء المعروف بدبيس
يروي عن محمد بن عبد النور قال الدارقطني ليس بثقة
وكذلك محمد بن إسماعيل شبه مجهول ففي تاريخ بغداد ج: 2 ص: 37
429 محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب أبو على العلوي سكن بغداد وحدث بها عن عمى أبيه عبد الله والحسن ابنى موسى بن جعفر وعن احمد بن نوح الخزاز وغيرهم روى عنه محمد بن خلف وكيع أخبرنا على بن محمد بن الحسين الدقاق قال قرأنا على الحسين بن هارون الضبي عن أبى العباس بن سعيد قال محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب أبو على سكن بغداد وسمع عبد الله والحسن ابنى موسى بن جعفر وأحمد بن هلال وهذا الضرب
حيث لم يذكر روايا عنه سوى محمد بن خلف
قلت والحسين بن محمد بن موسى بن جعفر مجهول
وعلي بن الحسين لم يسمع من عمه الحسن فسقط الخبر برمته ))
**************8
وقال الخطيب أيضا أخبرنا أبو نعيم حدثنا محمد بن فارس بن حمدان حدثنا علي بن السراج البرقعيدي حدثنا جعفر بن عبد الواحد القاص قال قال لنا محمد بن عباد عن إسحاق بن عيسى عن مهاجر مولى بني نوفل سمعت أبا رافع أنه سمع أبا طالب يقول حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه أحد ومحمد عندي الصدوق الأمين
قال الخطيب لا يثبت هذا الحديث أهل العلم بالنقل وفي إسناده غير واحد من المجهولين وجعفر ذاهب الحديث
وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا عبد الله بن عون عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب قال كنت بذي المجاز مع بن أخي فأدركني العطش فشكوت إليه ولا أرى عنده شيئا قال فثنى وركه ثم نزل فأهوى بعصاه إلى الأرض فإذا بالماء فقال اشرب يا عم فشربت
(((1/64)
قلت لا يصح هذا فعمر بن سعيد من صغار التابعين لم يسمع إلا من أنس بن مالك فخبره لا يصح فلا حجة فيه ولو صح لا حجة فيه لأنه ليس فيه ذكر لإيمان أبي طالب ))
**************
ومما لم يذكره الرافضي من الأحاديث الواردة في هذا الباب ما أخرجه تمام الرازي في فوائده من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الله بن عمر رفعه أنه إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية وقال تمام الوليد منكر الحديث
(( أقول : بل كذب مفترى قبح الله واضعه ))
قال ابن عساكر والصحيح ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ « لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِى ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِى مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ ».
وما أخرجه مسلم عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَىْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ « نَعَمْ هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ».
(( قلت : فبان بشكل يقيني أنه مات على الكفر ولم يسلم ))
وهذه بعض النقول عن العلماء والتي تقطع بموته على الكفر :
وفي منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية :
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظمون أنساب الأنبياء آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم كل ذلك عصبية واتباع هوى حتى يعظمون فاطمة والحسن والحسين ويقدحون في عائشة أم المؤمنين فيقولون أو من يقول منهم إن ازر أبا إبراهيم كان مؤمنا وإن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم كانا مؤمنين حتى لا يقولون إن النبي يكون أبوه(1/65)
4 ... 350 ... كافرا فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنه كافرا فلا يكون في مجرد النسب فضيلة وهذا مما يدفعون به أن ابن نوح كان كافرا لكونه ابن نبى فلا يجعلونه كافرا مع كونه ابنه ويقولون أيضا إن أبا طالب كان مؤمنا ومنهم من يقول كان اسمه عمران وهو المذكور في قوله تعالى إن الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان ففيه من التناقض وعدم حصول حقصودهم مالا يخفى وذلك أن كون الرجل أبيه أو ابنه كافرا لا ينقصه ذلك عند الله شيئا فإن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحى ومن المعلوم أن الصحابة أفضل من ابائهم وكان اباؤهم كفارا بخلاف من كونه زوج بغى قحبة فإن هذا من أعظم ما يذم به ويعاب لأن مضرة ذلك تدخل عليه بخلاف كفر أبيه أو ابنه وأيضا فلو كان المؤمن لا يلد إلا مؤمنا لكان بنو ادم كلهم مؤمنين وقد قال تعالى واتل عليهم نبأ ادم بالحق إذقربا قربانا فتقبل من
4 ... 351 ... أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين إلى اخر القصة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل وأيضا فهم يقدحون في العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تواتر إيمانه ويمدحون أبا طالب الذي مات كافرا باتفاق أهل العلم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ففي الصحيحين عن المسيب بن حزن قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/66)
4 ... 352 ... يعرضها عليه ويعود له وفي رواية ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب اخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبي أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين امنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا وقال فيه قال أبو طالب لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت وفي الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فقال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار
4 ... 353 ... وفي حديث أبي سعيد لما ذكر عنده قال لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ معيبه يغلى منهما دماغه أخرجاه في الصحيحين وأيضا فإن الله لم يثن على أحد بمجرد نسبه بل إنما يثنة عليه بإيمانه وتقواه كما قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن كان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح فالمعدن هو مظنة حصول المطلوب فإن لم يحصل وإلا كان المعدن الناقص الذي يحصل منه المطلوب خيرا منه(1/67)
... 304 ... الرابع أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم فان بني عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة العباس وأبو طالب والحارث وأبو لهب وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة العباس وحمزة وأبو طالب وأبو لهب فآمن اثنان وهما حمزة والعباس وكفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وعان أعداءه وهو أبو لهب وما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين طالب وعقيل وجعفر وعلي وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى ارض الحبشة ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته ننزل غدا في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من دار
و فيه أيضا ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات كما قال تعالى و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو و من تكون عليه ديون و فروض و غير ذلك أداها و لا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات و لو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء و هذه الآية يحتج بها من ترد صدقته لأن الله إنما أثنى على من اتى ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه إن يجزيها قبل إن يؤتي ماله يتزكى فإما إذا آتى ماله يتزكى قبل إن يجزيها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله عليه الصلاة والسلام من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد الثالث انه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر و قال إن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر بخلاف علي رضي الله عنه فإنه لم يذكر عنه النبي(1/68)
7 ... 384 ... صلى الله عليه و سلم شيئا من إنفاق المال و قد عرف إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله في أول الإسلام و فعل ذلك ابتغاء لوجه ربه الأعلى لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب الذي أعان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل نسبه وقرابته لا لأجل الله تعالى و لا تقربا إليه و إن كان الأتقى اسم جنس فلا ريب انه يجب أن يدخل فيه اتقى الأمة و الصحابة خير القرون فأتقاها اتقى الأمة وأتقى الأمة إما أبو بكر وإما علي وإما غيرهما و الثالث منتف بالإجماع و علي إن قيل انه يدخل في هذا النوع لكونه بعد أن صار له مال اتى ماله يتزكى فيقال أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه فيكون اكمل في الوصف الذي يكون صاحبه هو الأتقى و أيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يقدم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة كاستخلافه في الصلاة و الحج و مصاحبته وحده في سفر الهجرة و مخاطبته و تمكينه من الخطاب و الحكم والإفتاء بحضرته و رضاه بذلك إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها
7 ... 385 ... و من كان اكمل في هذا الوصف كان اكرم عند الله فيكون احب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة إن أبا بكر هو اكرم الصحابة في الصديقية و افضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون و من كان اكمل في ذلك كان افضل و أيضا فقد ثبت في النقل الصحيح عن علي انه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر و استفاض ذلك و تواتر عنه و توعد بجلد المفتري من يفضله عليه و روي عنه انه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن عليا لا يقطع بذلك إلا عن علم و أيضا فإن الصحابة اجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر افضل منه و أبو بكر افضل منهما و هذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع(1/69)
... 244 ... والمقصود هنا أن الحديث الذي فيه ذكرالاثنى عشر خليفة سواء قدر أن عليا دخل فيه أو قدر انه لم يدخل فالمراد بهم من تقدم من الخلفاء من قريش وعلي أحق الناس بالخلافة في زمنه بلا ريب عند أحد من العلماء فصل إذ تبين هذا فما ذكره من فضائله التي هي عند الله فضائل فهي حق لكن للثلاثة ما هو أكمل منها وأما ما ذكره من الفضيلة بالقرابة فعنه أجوبة أحدها أن هذا ليس هو عند الله فضيلة فلا عبرة به فإن العباس أقرب منه نسبا وحمزة من السابقين الأولين من المهاجرين وقد روى أنه سيد الشهداء وهو أقرب نسبا منه وللنبي صلى الله عليه وسلم من بني العم عدد كثير كجعفر وعقيل وعبد الله وعبيد الله والفضل وغيرهم من بني العباس وكربيعة وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب(1/70)
8 ... 245 ... وليس هؤلاء أفضل من أهل بدر ولا من أهل بيعة الرضوان ولا من السابقين الأولين إلا من تقدم بسابقته كحمزة وجعفر فإن هذين رضي الله عنهما من السابقين الأولين وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر وحينئذ فما ذكره من فضائل فاطمة والحسن والحسين لا حجة فيه مع أن هؤلاء لهم من الفضائل الصحيحة ما لم يذكره هذا المصنف ولكن ذكر ما هو ذكب كالحديث الذي رواه أخطب خوارزم أنه لما تزوج علي بفاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سموات وكان الخاطب جريل وكان إسرافيل وميكائيل في سبعين ألف من الملائكة شهودا وهذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذلك الحديث الذي ذكره عن حذيفة الثاني أن يقال إن كان إيمان الأقارب فضيلة فأبو بكر متقدم في هذا الفضيلة فإن أباه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الناس وأبو طالب لم يؤمن وكذلك أمة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأولاده وأولاد وأولاده وليس هذا لأحد من الصحابة غيره فليس في أقارب أبي بكر ذرية أبي قحافة لا من الرجال ولا من النساء إلا من قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته وكانت أحب أزواجه إليه وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر ولكن لم تكن حفصة(1/71)
8 ... 246 ... ابنته بمنزله عائشة بل حفصة طلقها ثم راجعها وعائشة كان يقسم لها ليلتين لما وهبتها سودة ليلتها ومصاهرة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على وجه لا يشاركه فيه أحد وأما مصاهرة علي فقد شركه فيها عثمان وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنتا بعد بنت وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان ولهذا سمى ذو النورين لأنه تزوج بنتي نبي وقد شركه في ذلك أبو العاص بن الربيع زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب وحمد مصاهرته وأراد أن يتشبه به علي في حكم المصاهرة لما أراد علي أن يتزوج بنت أبي جهل فذكر صهره هذا قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وأسلمت زينب قبل إسلامه بمدة وتأيمت عليه حتى أعادها إليه النبي صلى الله عليه وسلم قيل أعادها بالنكاح الأول وقيل بل جدد لها نكاحا والصحيح أنه أعادها بالنكاح الأول هذا الذي ثبته أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد تنازع الناس في مثل هذه المسألة إذا أسلمت الزوجة قبل زوجها على أقوال مذكورة في غير هذا الموضع(1/72)
8 ... 500 ... الثالث أن الصديق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب يواليه لأجله ويخرج ماله إلا الإيمان ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة وكان عمله كاملا في إخلاصه لله تعالى كما قال إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى سورة الليل وكذلك خديجة كانت زوجته والزوجة قد تنفق مالها على زوجها وإن كان دون النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لو قدر أنه أنفق لكان أنفق على قريبه وهذه أسباب قد يضاف الفعل إليها بخلاف إنفاق أبي بكر فإنه لم يكن له سبب إلا الإيمان بالله وحده فكان من أحق المتقين بتحقيق قوله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى سورة الليل إستثناء منقطع والمعنى لا يقتصر في العطاء على من له عنده نعمة يكافئه بذلك فإن هذا من باب العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة وهو واجب لكل أحد على أحد فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعاوضة فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه بها فإنه يحتاج أن(1/73)
8 ... 501 ... يعطيه مجازاة على ذلك وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى في معاملته للناس دائما يكافئهم ويعاوضهم ويجازيهم فحين إعطائه ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى وفيه أيضا ما يبين أن الفضل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجب من المعاوضات كما قال تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو سورة البقرة فمن عليه ديون من أثمان وقرض وغير ذلك فلا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ولو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء فهذه الآية يحتج بها من صدقته لأن الله تعالى إنما أثنى على من آتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزى بها قبل أن يؤتى ماله يتزكى فإذا آتى ماله يتزكى قبل أن يجزى بها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
وفي مجموع الفتاوى :
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدى الساعة بشيراً ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد فى الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
ففرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه . فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله .(1/74)
وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه فى باطنه وظاهره . والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله، وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التى أمر الله بها عباده فى قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [ المائدة : 35 ] . فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه .
وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد، باطناً وظاهراً، فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، فى مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق فى حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار . ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته .
وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاها عند الله، وقد قال تعالى عن موسى : {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} [ الأحزاب : 69 ] ، وقال عن المسيح : {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [ آل عمران : 45 ] . ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاها من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بدعائه وشفاعته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
ولفظ التوسل فى عرف الصحابة كانوا يستعملونه فى هذا المعنى . والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغنى عنهم شفاعة الشافعين فى الآخرة .(1/75)
/ولهذا نهى عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهى عن الاستغفار للمنافقين وقيل له : {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [ المنافقون : 6 ] ، ولكن الكفار يتفاضلون فى الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان فى الإيمان، قال تعالى : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [ التوبة : 37 ] .
فإذا كان فى الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته فى تخفيف العذاب عنه لا فى إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : قلت : يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشىء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : ( نعم هو فى ضحْضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرْك الأسفل من النار ) ، وفى لفظ : إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك ؟ قال : ( نعم، وجدته فى غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح ) ، وفيه عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : ( لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعْبيه يغلى منهما دماغه ) ، وقال : ( إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه ) .
وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يُعجل عليهم العذاب فى الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول : ( اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون ) . وروى أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب فى الدنيا؛ قال تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [ فاطر : 45 ] .(1/76)
وأيضا، فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبى هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال : ( اللهم اهد دوساً وائت بهم ) ، فهداهم الله، وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقى لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك .
وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم يوجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمنا بالله ورسوله مطيعاً لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعاً .
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ـ ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً ـ فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال تعالى عنه : {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [ إبراهيم : 41 ] ، وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبى طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [ التوبة : 113 ] .(1/77)
ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [ التوبة : : 114، 115 ] ، وثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يلْقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصنى ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب، أنت وعدتنى ألا تُخْزنى يوم يُبْعثون، وأي خزْى أخْزى من أبى الأبعد ؟ فيقول الله عز وجل : إنى حرمتُ الجنة على الكافرين، ثم يقال : انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ مُتلطخ [ الذيخ : ذكر الضباع ، وأراد بالتلطخ : التلطخ برجيعه أو بالطين . انظر : النهاية فى غريب الحديث 2 174 ] ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار ) ، فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ الممتحنة : 4، 5 ] .(1/78)
فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا فى قول إبراهيم لأبيه : {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فإن الله لا يغفر أن يشرك به .
وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم ، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى ) . وفى رواية : أن النبى صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال : ( استأذنتُ ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى، فزروا القبور، فإنها تُذكر الموت ) . وثبت عن أنس فى الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله، أين أبى ؟ قال : ( فى النار ) ، فلما قفى دعاه فقال : ( إن أبى وأباك فى النار ) . وثبت أيضاً فى الصحيح عن أبى هريرة : لما أنزلت هذه الآية : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [ الشعراء : 214 ] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال : ( يا بنى كعب ابن لؤى، انقذوا أنفسكم من النار . يا بنى مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة، أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها [ أى أصلكم فى الدنيا، ولا أُغنى عنكم من الله شيئاً، والبلال جمع بلل، وقيل : هو كل ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره، انظر : النهاية فى غريب الحديث 1 351 ] ) ، وفى رواية عنه : ( يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإنى لا أغنى عنكم من الله شيئاً . يا بنى عبد المطلب، لا أغنى عنكم من الله شيئاً . يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً .(1/79)
يا فاطمة بنت رسول الله، سلينى من مالى ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئا ) . وعن عائشة لما نزلت : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [ الشعراء : 214 ] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا . سلونى من مالى ما شئتم ) .(1/80)
وعن أبى هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم فذكر الغُلُول فعظمه وعظم أمره ثم قال : ( لا أُلْفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير لهُ رُغاء [ الرغاء : صوت الإبل . انظر : النهاية فى غريب الحديث 2 240 ] يقول : يا رسول الله، أغثنى . فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمْحمة [ الحمحمة : صوت الفرس دون الصهيل . انظر : النهاية فى غريب الحديث 1 436 ] فيقول : يا رسول الله، أغثنى . فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء [ الثغاء : صياح الغنم . انظر : النهاية فى غريب الحديث 1 214 ] ، فيقول : يا رسول الله، أغثنى . فأقول : لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق [ أراد بالرقاع : ما عليه من الحقوق المكتوبة فى الرقاع، وخفوقها : حركتها . انظر : النهاية فى غريب الحديث 2251 ] . فيقول : يا رسول الله، أغثنى . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت [ صامت : يعنى الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان . انظر : النهاية فى غريب الحديث 3 52 ] . فيقول : يا رسول الله، أغثنى . فأقول : لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك ( أخرجاه فى الصحيحين ، وزاد مسلم : ( لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح . فيقول : يا رسول الله، أغثنى، فأقول : لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك ) . وفى البخارى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( ولا يأتى أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار [ اليُعار : صياح الشاة . انظر : النهاية فى غريب الحديث 5 297 ] . فيقول : يا محمد، فأقول : لا أملك لك شيئاً، قد بلغت .(1/81)
ولا يأتى أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رُغاء فيقول : يا محمد، فأقول : لا أملك لك شيئاً، قد بلغت ) . وقوله هنا صلى الله عليه وسلم : ( لا أملك لك من الله شيئا ) كقول إبراهيم لأبيه : {لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} [ الممتحنة : 4 ] .
وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهى نافعة فى الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة فى زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين . وقد قيل : إن بعض أهل البدعة ينكرها .
وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء : من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم فى الشخص الواحد ثواب وعقاب . وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم، فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قوماً بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوماً بلا شفاعة .(1/82)
واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى : {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [ البقرة : 48 ] ، وبقوله : {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [ البقرة : 123 ] ، وبقوله : {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [ البقرة : 254 ] ، وبقوله : {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يطاع} [ غافر : 18 ] ، وبقوله : {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [ المدثر : 48 ] .
وجواب أهل السنة أن هذا يراد به شيئان :
أحدهما : أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى فى نعتهم : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [ المدثر : 42 : 48 ] ، فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفاراً .
والثانى : أنه يراد بذلك نفى الشفاعة التى يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع، من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة شافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة .(1/83)
فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون : هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصّهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة .(1/84)
فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى : {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [ البقرة : 255 ] ، وقال : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [ النجم : 26 ] ، وقال عن الملائكة : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [ الأنبياء : 26 : 28 ] ، وقال : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [ سبأ : 22، 23 ] ، وقال تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ يونس : 18 ] ، وقال تعالى : {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [ الأنعام : 51 ] ، وقال تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [ السجدة : 4 ] ، وقال تعالى : {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ(1/85)
إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ الزخرف : 86 ] ، وقال تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] ، وقال تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ َسْتَبْشِرُونَ} [ الزمر : 43 : 45 ] ، وقال تعالى : {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا َمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [ طه : 108، 109 ] ، وقال صاحب يس : {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [ يس : 22 ـ 25 ] .(1/86)
فهذه الشفاعة التى أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين حتى صوروا تماثيلهم وقالوا : استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا : نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوَّروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله ورسوله وذم المشركين عليها وكفرهم بها . قال الله تعالى عن قوم نوح : {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضلالا} [ نوح : 23، 24 ] قال ابن عباس وغيره : هؤلاء قوم صالحون كانوا فى قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، وهذا مشهور فى كتب التفسير والحديث /وغيرها كالبخارى وغيره، وهذه أبطلها النبى صلى الله عليه وسلم وحسم مادتها وسد ذَرِيعتها، حتى لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها، وإن كان المصلى فيها لا يستشفع بهم، ونهى عن الصلاة إلى القبور وأرسل على بن أبى طالب فأمره ألا يدع قبراً مُشْرفًا إلا سَوَّاه، ولا تمثالا إلا طَمَسَه ومَحَاه، ولعن المصورين . وعن أبى الهياج الأسدى، قال لى على بن أبى طالب : لأبعثك على ما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته . وفى لفظ : ولا صورة إلا طمستها . أخرجه مسلم .
فصل
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور . يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين :
أحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته .(1/87)
والثاني : دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضًا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين . ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا . ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة .
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضًا كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد .
أما دعاؤه وشفاعته فى الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة .
وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة ـ وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم ـ أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر . ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون، دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محبًا له معظمًا له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يُقِرُّوا بالتوحيد الذى جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها .(1/88)
وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة أنه قال : قلت : يا رسول الله، أى الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : ( أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصًا من قلبه ) . وعنه فى صحيح مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لكل نبى دعوة مستجابة، فَتَعَجَّل كل نبى دعوته، وإنى اختَبَأْتُ دعوتى شفاعة يوم القيامة، فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا ) ، وفى السنن عن عوف ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتانى آت من عند ربى فخيرنى بين أن يُدْخِل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهى لمن مات لا يشرك بالله شيئًا ) ، وفى لفظ قال : ( ومن لقى الله لا يشرك به شيئًا فهو فى شفاعتى ) .
وهذا الأصل ـ وهو التوحيد ـ هو أصل الدين الذى لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى : {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [ النحل : 36 ] ، وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [ المؤمنون : 32 ] .(1/89)
/وفى المسند عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت بالسَّيف بين يَدَى الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رُمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .
والمشركون من قريش وغيرهم ـ الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبى صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار ـ كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض كما قال : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [ لقمان : 25 ] ، وقال : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [ العنكبوت : 61 ] ، وقال : {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 84 : 91 ] .(1/90)
وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ يونس : 18 ] ، وقال تعالى : {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [ الزمر : 1 ـ 3 ] ، وكانوا يقولون فى تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك .(1/91)
وقال تعالى : {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُو} [ الروم : 28 : 32 ] .
بين ـ سبحانه ـ بالمثل الذى ضربه لهم أنه لا ينبغى أن يجعل مملوكه شريكه فقال : {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [ الروم : 28 ] يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضا، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم ؟(1/92)
وهذا كما كانوا يقولون : له بنات، فقال تعالى : {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} [ النحل : 62 ] ، وقد قال تعالى : {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ َيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ النحل : 58 : 60 ] .
والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم نصفان :
قوم نوح، وقوم إبراهيم . فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم .
وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر . وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا فى الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [ سبأ : 40- 41 ] .(1/93)
والملائكة لا تعينهم على الشرك لا فى المحيا ولا فى الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم فى صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم : أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا على، أنا الشيخ فلان . وقد يقول بعضهم عن بعض : هذا هو النبى فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئكَ كلهم جِنًا يشهد بعضهم لبعض . والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصى وفيهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخا فيتزيّا [ فيتزيّا : يظهر فى هيئته . انظر : القاموس المحيط، مادة ( زىى ) ] . فى صورته ويقول : أنا فلان . ويكون ذلك فى برية ومكان قفر [ مكان قفر : الخلاء من الأرض، لا نبات فيه ولا ماء . انظر : لسان العرب، مادة [ قفر ] ] ، فيطعم ذلك الشخص طعامًا ويسقيه شرابًا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك /الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحى فعل ذلك، وقد يقول : هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان .
وقد قال الله تعالى : {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [ الإسراء : 56، 57 ] ، قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين .(1/94)
والمشركون من هؤلاء قد يقولون : إنا نستشفع بهم أى نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله ـ والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى فى كنائسهم ـ قالوا : فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله . فيقول أحدهم : يا سيدى فلان، أو يا سيدى جرجس، أو بطرس، أو يا ستى الحنونة مريم، أو يا سيدى الخليل، أو موسى بن عمران أو غير ذلك، اشفع لى إلى ربك .
وقد يخاطبون الميت عند قبره : سل لى ربك . أو يخاطبون الحى وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرًا حيا، وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها : يا سيدى فلان ! أنا فى حسبك، أنا فى جوارك، اشفع لى إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا، وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة . أو يقول أحدهم : سل الله أن يغفر لى .
ومنهم من يتأول قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [ النساء : 64 ] ، ويقولون : إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحدًا منهم لم يطلب من النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئًا، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين فى كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخرى الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك ـ رضى الله عنه ـ سيأتى ذكرها وبسط الكلام علىها ـ إن شاء الله تعالى .(1/95)
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفى مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود فى المشركين من غير أهل الكتاب، وفى مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى . قال الله تعالى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [ الشورى : 21 ] .
فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم، وفى مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم فى هذه الحال، ونصب تماثيلهم ـ بمعنى طلب الشفاعة منهم ـ هو من الدين الذى لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولا، ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان .
وفيهم من ينظم القصائد فى دعاء الميت، والاستشفاع به، والاستغاثة، أو يذكر ذلك فى ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تَعَبَّدَ بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع، بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب .
وكثير من الناس يذكرون فى هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأى أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك .
وجواب هؤلاء من طريقين : أحدهما : الاحتجاج بالنص والإجماع .
والثانى : القياس والذوق والاعتبار ببيان ما فى ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يُظن فيه من المصلحة .
أما الأول فيقال : قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب .(1/96)
وعلِمَ أنه لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله، شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا فى مغيبهم، فلا يقول أحد : يا ملائكة الله، اشفعوا لى عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا .
/وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين : يا نبى الله، يا رسول الله، ادع الله لى، سل الله لى، استغفر الله لى، سل الله أن يغفر لى أو يهدينى أو ينصرنى أو يعافينى، ولا يقول : أشكو إليك ذنوبى أو نقص رزقى أو تسلط العدو على، أو أشكو إليك فلانا الذى ظلمنى، ولا يقول : أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به .
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرًا أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى فى كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو فى مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته .
وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة، لا فى مناسك الحج ولا غيرها، أنه يستحب لأحد أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين .(1/97)
وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجَدْب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصى، ولم يكن أحد منهم يأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول : نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول : سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التى لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين .
وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهى بدعة سيئة، وهى ضلالة باتفاق المسلمين، ومن قال فى بعض البدع : إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعى أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب، فلا يقول أحد من المسلمين : إنها من الحسنات التى يتقرب بها إلى الله .
ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمرَ إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود : خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال : ( هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) ثم قرأ : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [ الأنعام : 153 ] .
فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه فى بدعته إمام من أئمة المسلمين، ولا مجتهد يعتمد على قوله فى الدين، ولا من يعتبر قوله فى مسائل الإجماع والنزاع، فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته .(1/98)
ولو قدر أنه نازع فى ذلك عالم مجتهد لكان مخصومًا بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعى، وإنما اتبع من تكلم فى الدين بلا علم، و {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [ الحج : 8 ] . بل إن النبى صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجبًا ولا مستحبًا، فإنه قد حرَّمَ ذلك وحرَّمَ ما يفضى إليه كما حرَّمَ اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد . ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ قبل أن يموت بخمس ـ : ( إن من كانوا قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك ) . وفى الصحيحين عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ قبل موته ـ : ( لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا .
واتخاذ المكان مسجدًا، هو أن يتخذ للصلوات الخمس، وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجدًا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين .
فحرم صلى الله عليه وسلم أن تُتَّخَذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله .
والفعل إذا كان يفضى إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة فى الأوقات الثلاثة لما فى ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذى يفضى إلى الشرك . وليس فى قصد الصلاة فى تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع فى غير ذلك من الأوقات .(1/99)
ولهذا تنازع العلماء فى ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم فى هذه الأوقات، وهو أظهر قولى العلماء؛ لأن النهى إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه فى هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله فى غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهى عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهى عنه .
فإذا كان نهيه عن الصلاة فى هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضى ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها ـ كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها ـ كان معلومًا أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم فى نفسه، أعظم تحريمًا من الصلاة التى نهى عنها لئلا يفضى إلى دعاء الكواكب .
كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ـ فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضى ذلك إلى دعائهم والسجود لهم ـ كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد .
ولهذا؛ كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين : زيارة شرعية، وزيارة بدعية .(1/100)
فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له . فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى فى المنافقين : {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} [ التوبة : 84 ] ، فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون . فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهى الكفر، دل ذلك على انتفاء هذا النهى عند انتفاء هذه العلة . ودل تخصيصهم بالنهى على أن غيرهم يُصلى عليه ويُقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع فى حق أحد لم يخصوا بالنهى ولم يعلل ذلك بكفرهم؛ ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول : ( سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل ) . رواه أبو داود وغيره .
فصل
وتلخيص النكتة : أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها، وإذا علموها، فإما أنه كان يمكنهم بيانها بالكلام والكتاب، أو لا يمكنهم ذلك، وإذا أمكنهم ذلك البيان، فإما أن يمكن للعامة وللخاصة، أو للخاصة فقط .
فإن قال : إنهم لم يعلموها، وإن الفلاسفة والمتكلمين أعلم بها منهم، وأحسن بيانًا لها منهم، فلاريب أن هذا قول الزنادقة المنافقين . وسنتكلم معهم بعد هذا ؛إذ الخطاب هنا لبيان أن هذا قول الزنادقة، وأنه لا يقوله إلا منافق أو جاهل .(1/101)
وإن قال : إن الرسل مقصدهم صلاح عموم الخلق، وعموم الخلق لا يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة، فخاطبوهم بضرب الأمثال؛ لينتفعوا بذلك، وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية، فتضمن خطابهم عن الله وعن اليوم الآخر، من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد . وذلك يقرر في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يحض النفوس على عبادة الله، وعلى الرجاء والخوف؛ فينتفعون / بذلك، وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم؛ إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية الإمكان في كشف الحقائق لعموم النوع البشرى، ومقصود الرسل حفظ النوع البشري، وإقامة مصلحة معاشه ومعاده .
فمعلوم أن هذا قول حُذَّاق الفلاسفة، مثل : الفارابي، وابن سينا وغيرهما، وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث .
فالفارابي يقول : إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة أو نحو هذه العبارة .
وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع، ويقول : ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمد مع أولئك العرب الجفاة، أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه؛ لأنهم لايرون فيه من العلم ما يقتضي العمل .
وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله، ومن بعده طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء، وكذلك في كلام الرازي .
وأما الاتحادية ونحوهم من المتكلمين، فعليه مدارهم، ومبنى كلام الباطنية والقرامطة عليه، لكن هؤلاء ينكرون ظواهر الأمور العملية / والعلمية جميعًا، وأما غير هؤلاء فلا ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة، لكن قد يجعلونها لعموم الناس لا لخصوصهم، كما يقولون مثل ذلك في الأمور الخبرية .(1/102)
ومدار كلامهم على أن الرسالة متضمنة لمصلحة العموم علماً وعملاً، وأما الخاصة فلا . وعلى هذا يدور كلام أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] وسائر فضلاء المتفلسفة .
ثم منهم من يوجب اتباع الأمور العملية من الأمور الشرعية، وهؤلاء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلاء فلاسفتهم . وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا؛ إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية، فإن قدماء الفلاسفة كانوا يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلاد، فلأن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى . فإنهم ـ كماقال ابن سينا : اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي .
وكل عقلاء الفلاسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري، وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلاسفة المشاهير، ثم قد يزعمون أن الرسل والأنبياء حكماء كبار، وأن الفلاسفة الحكماء أنبياء صغار، وقد يجعلونهم صنفين . وليس هذا موضع شرح ذلك، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع .
وإنما الغرض أن هؤلاء الأساطين من الفلاسفة والمتكلمين، غاية /ما يقولون هذا القول، ونحن ذكرنا الأمر على وجه التقسيم العقلي الحاصر لئلا يخرج عنه قسم؛ ليتبين أن المخالف لعلماء الحديث علما وعملاً، إما جاهل، وإما منافق، والمنافق جاهل وزيادة، كما سنبينه ـ إن شاء الله ـ والجاهل هنا فيه شعبة نفاق، وإن كان لا يعلم بها فالمنكر لذلك جاهل منافق .
فقلنا : إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق، وأحسن بيانًا لها، فهذا زنديق منافق إذا أظهر الإيمان بهم باتفاق المؤمنين، وسيجىء الكلام معه .
وإن قال : إن الرسل كانوا أعظم علمًا وبيانًا، لكن هذه الحقائق لا يمكن علمها، أو لا يمكن بيانها مطلقًا، أو يمكن الأمران للخاصة .
قلنا : فحينئذ لا يمكنكم أنتم ما عجزت عنه الرسل من العلم والبيان .
إن قلتم : لا يمكن علمها .
قلنا : فأنتم وأكابركم لايمكنكم علمها بطريق الأولى .(1/103)
وإن قلتم : لا يمكنهم بيانها .
قلنا : فأنتم وأكابركم لا يمكنكم بيانها .
وإن قلتم : يمكن ذلك للخاصة دون العامة .
قلنا : فيمكن ذلك من الرسل للخاصة دون العامة .
/ فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنهم فهم ذلك، جعلوا السابقين الأولين دون المتأخرين في العلم والإيمان . وهذا من مقالات الزنادقة؛ لأنه قد جعل بعض الأمم الأوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عقلاً وتحقيقًا للأمور الإلهية وللعبادية من هذه الأمة، فهذا من مقالات المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متفقون على أن هذه الأمة خير الأمم وأكملهم، وأن أكمل هذه الأمة وأفضلها هم سابقوها .
وإذا سلم ذلك، فأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم : أهل الحديث وأهل السنة؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك : أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، والسنة عندنا : آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، أي : دلالات على معناه .
ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقًا زنديقًا، وهو عبد الله بن سَبَأ؛ فإنه إذا قدح في السابقين الأولين فقد قدح في نقل الرسالة، أو في فهمها، أو في اتباعها . فالرافضة تقدح تارة في علمهم بها، وتارة في اتباعهم لها ـ وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود .(1/104)
والزنادقة من الفلاسفة والنصيرية وغيرهم، يقدحون تارة في النقل، وهو / قول جهالهم، وتارة يقدحون في فهم الرسالة، وهو قول حُذَّاقهم، كما يذهب إليه أكابر الفلاسفة والاتحادية ونحوهم، حتى كان التلمساني مرة مريضًا، فدخل عليه شخص ومعه بعض طلبة الحديث، فأخذ يتكلم على قاعدته في الفكر أنه حجاب، وأن الأمر مداره على الكشف، وغرضه كشف الوجود المطلق، فقال ذلك الطالب : فما معنى قول أم الدرداء : أفضل عمل أبي الدرداء التفكر ؟ فتبرم بدخول مثل هذا عليه، وقال للذي جاء به : كيف يدخل عليَّ مثل هذا ؟ ثم قال : أتدري يا بني ما مثل أبي الدرداء وأمثاله ؟ مثلهم مثل أقوام سمعوا كلامًا وحفظوه لنا، حتى نكون نحن الذين نفهمه ونعرف مراد صاحبه، ومثل بريد حمل كتابًا من السلطان إلى نائبه، أو نحو ذلك، فقد طال عهدي بالحكاية، حدثني بها الذي دخل عليه وهو ثقة يعرف ما يقول في هذا . وكان له في هذه الفنون جَوَلانٌ كثير .
وكذلك ابن سينا، وغيره، يذكر من التنقص بالصحابة ما ورثه من أبيه وشيعته القرامطة، حتى تجدهم إذا ذكروا في آخر الفلسفة حاجة النوع الإنساني إلى الإمامة، عرضوا بقول الرافضة الضلال، لكن أولئك يصرحون من السب بأكثر مما يصرح به هؤلاء .
ولهذا تجد بين [ الرافضة ] و[ القرامطة ] و [ الاتحادية ] اقترانًا واشتباهًا . يجمعهم أمور :(1/105)
منها : الطعن في خيار هذه الأمة، وفيما عليه أهل السنة والجماعة، وفيما / استقر من أصول الملة وقواعد الدين، ويدعون باطنا امتازوا به واختصوا به عمن سواهم، ثم هم مع ذلك متلاعنون، متباغضون مختلفون، كما رأيت وسمعت من ذلك ما لا يحصى، كما قال الله عن النصارى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ المائدة : 14 ] ، وقال عن اليهود : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وكذلك المتكلمون المخلطون الذين يكونون تارة مع المسلمين ـ وإن كانوا مبتدعين، وتارة مع الفلاسفة الصابئين، وتارة مع الكفار المشركين، وتارة يقابلون بين الطوائف وينتظرون لمن تكون الدائرة، وتارة يتحيرون بين الطوائف، وهذه الطائفة الأخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى الإسلام من العلماء والأمراء وغيرهم، لاسيما لما ظهر المشركون من الترك على أرض الإسلام بالمشرق في أثناء المائة السابعة . وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين .(1/106)
فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم، وهذان هما مقدمتا الزندقة ـ كما قدمناه ـ ثم يعتمد فيما أقر به من أمور الإسلام على ما علم بالاضطرار من دين الإسلام، مثل العبادات والمحرمات الظاهرة، وكذلك الإقرار بمعاد الأجساد ـ بعد الاطلاع على التفاسير والأحاديث ـ يجعل العلم بذلك مستفادًا من أمور كثيرة، فلا يعطل تعطيل/ الفلاسفة الصابئين، ولا يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين . وكذلك [ الصحابة] ، وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه وبعلمهم في الجملة لكن يزعم في مواضع : أنهم لم يعلموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثورًا عنهم التكلم بلغة الفلاسفة، ويجعل هذا حجة له في الرد على من زعم . . . [ بياض ] .
وكذلك هذه المقالات لا تجدها إلا عند أجهل المتكلمين في العلم، وأظلمهم من هؤلاء المتكلمة والمتفلسفة والمتشيعة والاتحادية في الصحابة، مثل قول كثير من العلماء والمتأمرة : أنا أشجع منهم، وإنهم لم يقاتلوا مثل العدو الذي قاتلناه، ولا باشروا الحروب مباشرتنا، ولا ساسوا سياستنا، وهذا لا تجده إلا في أجهل الملوك وأظلمهم .
فإنه إن أراد أن نفس ألفاظهم، وما يتوصلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه، فهذا لا يضرهم؛ إذ العلم بلغات الأمم ليس مما يجب على الرسل وأصحابهم، بل يجب منه ما لا يتم التبليغ إلا به، فالمتوسطون بينهم من التراجمة يعلمون لفظ كل منهما ومعناه . فإن كان المعنيان واحدًا كالشمس والقمر، وإلا علموا ما بين المعنيين من الاجتماع والافتراق، فينقل لكل منهما مراد صاحبه، كما يصور المعاني ويبين ما بين المعنيين من التماثل، والتشابه، والتقارب .(1/107)
/فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول، وفيما جاء به بيان الحجة على بطلان كفر كل كافر، وبيان ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانًا من مقاييس أولئك الكفار؛ كما قال تعالى : { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 33 ] ، أخبر ـ سبحانه ـ أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم .
وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار ـ من حكم أو دليل ـ يندرج فيما علمه الصحابة .
وهذه الآية ذكرها الله تعالى بعد قوله : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [ الفرقان : 30، 31 ] ، فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول، وأن هذه العداوة أمر لابد منه، ولا مفر عنه، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا } [ الفرقان : 27-29 ] .
والله ـ تعالى ـ قد أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالمين، وضرب الأمثال فيما أرسله به لجميعهم، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ الزمر : 27 ] ، فأخبر أنه ضرب لجميع الناس في هذا القرآن من كل مثل .(1/108)
/ ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في المحاربات . فإذا كان عدو المسلمين ـ في تحصنهم وتسلحهم ـ على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة .
وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك، لا لفضل قوته وشجاعته، ولكن لمجانسته لهم، كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب ـ وهم خيار العجم ـ أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي، وكما يكون العربي المتشبه بالعجم ـ وهم أدنى العرب ـ أعلم بمخاطبة العرب من العجمي .
فقد جاء في الحديث : ( خيار عجمكم المتشبهون بعربكم، وشرار عربكم المتشبهون بعجمكم ) .
ولهذا لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم [ الطائف] رماهم بالمنجنيق، وقاتلهم قتالاً لم يقاتل غيرهم مثله في المزاحفة كيوم بدر وغيره، وكذلك لما حوصر المسلمون عام [ الخندق ] اتخذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير الحصار . وقيل : إن سلمان أشار عليهم بذلك، فسلموا ذلك له ؛ لأنه طريق إلى فعل ما أمر الله به ورسوله .
وقد قررنا في قاعدة [ السنة والبدعة ] : أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه / الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك . وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته .(1/109)
ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله . ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا .
فسنة خلفائه الراشدين هي : مما أمر الله به ورسوله، وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها .
فكما أن الله بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب، وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلام رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما في كتبهم من ذلك، وما حرفوه وبدلوه من دينهم، وصدق بما جاءت به الرسل قبله، حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان .
/والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف، وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، وهو المسفسط والمقرمط، أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم، وهو المعرض عن النظر والاستدلال . فكما أن الإحساس الظاهر لا يحصل للمعرض ولا يقوم للجاحد، فكذلك الشهود الباطن لا يحصل للمعرض عن النظر والبحث، بل طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهدًا، كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهدًا، كما قال بعض السلف : ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيهم، وقال أبي ابن كعب وابن مسعود : اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) ، وقال معاذ بن جبل، ويروى مرفوعًا، وهو محفوظ عن معاذ : عليكم بالعلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة . فجعل الباحث عن العلم مجاهدًا في سبيل الله .(1/110)
ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل، قال تعالى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] ، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن .
وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب، الذين علموا ما عندهم بلغتهم، وترجموا لنا بالعربية، انتفع بذلك في مناظرتهم ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سلام، / وسلمان الفارسي، وكعب الأحبار، وغيرهم، يحدثون بما عندهم من العلم، وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكون حجة عليهم من وجه، وعلى غيرهم من وجه آخر، كما بيناه في موضعه .
والألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة، كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر . وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيرًا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية .
والمعاني الصحيحة، إما مقاربة لمعاني القرآن، أو مثلها، أو بعينها، وإن كان في القرآن من الألفاظ والمعاني خصائص عظيمة .(1/111)
فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أوعقل، مثل أن ينقل عما في كتبهم عن الأنبياء ما يخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو خلاف ما ذكره الله في كتبهم، كزعمهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بتحميم [ أي : جعل وجهه أسود . يقال : حَمَمْتُ وجهه تحميمًا : إذا سودته بالفحم ] الزاني دون رجمه، أمكن للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة، كعبد الله ابن سلام ونحوه، لما قال لحبرهم : ارفع يدك عن آية الرجم، فإذا هي تلوح، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم الزانيين منهما، بعد أن قام عليهم الحجة من كتابهم، وذلك أنه موافق لما أنزل الله عليه من الرجم، وقال : ( اللهم إني / أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) ، ولهذا قال ابن عباس في قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } [ المائدة : 44 ] ، قال ـ : محمد صلى الله عليه وسلم، من النبيين الذين أسلموا، وهو لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] .
وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية، قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين، أو ممن يعلم خطهم منا، كزيد بن ثابت، ونحوه، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم ذلك، والحديث معروف في السنن، وقد احتج به البخاري في ] باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان ؟ [ ، قال : وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت : أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود، حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه .(1/112)
والمكاتبة بخطهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد، وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، مثل كتابة اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط الأعاجم، وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي، وقيل : يكتفي بذلك؛ ولهذا قال سبحانه : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ]
فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلاوتها، إن كانوا صادقين في نقل / ما يخالف ذلك، فإنهم كانوا : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } [ آل عمران : 78 ] ، و { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ } [ البقرة : 79 ] ، ويكذبون في كلامهم وكتابهم؛ فلهذا لا تقبل الترجمة إلا من ثقة .
فإذا احتج أحدهم على خلاف القرآن برواية عن الرسل المتقدمين، مثل الذي يروى عن موسى أنه قال : ( تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض ) أمكننا أن نقول لهم : في أي كتاب هذا ؟ أحضروه ـ وقد علمنا أن هذا ليس في كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب وعندهم النبوات التي هي مائتان وعشرون، و [ كتاب المثنوي ] الذي معناه المثناة، وهي التي جعلها عبد الله بن عمرو فينا من أشراط الساعة، فقال : لا تقوم الساعة حتي يقرأ فيهم بالمثناة، ليس أحد يغيرها، قيل : وما المثناة ؟ قال : ما استكتب من غير كتاب الله .
وكذلك إذا سئلوا عما في الكتاب من ذكر أسماء الله وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم، بموافقة الأنبياء المتقدمين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوا الكلم عن مواضعه، أمكن معرفة ذلك، كما تقدم .(1/113)
وإن ذكروا حجة عقلية فهمت ـ أيضًا ـ مما في القرآن بردها إليه، مثل إنكارهم للنسخ بالعقل، حتى قالوا : لا ينسخ ما حرمه، ولا ينهي عما أمر به، فقال تعالى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] . / قال البراء بن عازب ـ كما في الصحيحين : هم اليهود ؛ فقال سبحانه : { قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 142 ] .
فذكر ما في النسخ من تعليق الأمر بالمشيئة الإلهية، ومن كون الأمر الثاني قد يكون أصلح وأنفع، فقوله : { يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } بيان للأصلح الأنفع، وقوله : { مَن يَشَاء } رد للأمر إلى المشيئة .
وعلى بعض ما في الآية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا : التكليف إما تابع لمحض المشيئة، كما يقوله قوم، أو تابع للمصلحة، كما يقوله قوم، وعلى التقديرين فهو جائز .
ثم إنه ـ سبحانه ـ بَيَّنَ وقوع النسخ بتحريم الحلال في التوراة، بأنه أحل لإسرائيل أشياء ثم حرمها في التوراة، وأن هذا كان تحليلاً شرعيًا بخطاب، لم يكونوا استباحوه بمجرد البقاء على الأصل، حتى لا يكون رفعه نسخًا، كما يدعيه قوم منهم، وأمر بطلب التوراة في ذلك . وهكذا وجدناه فيها، كما حدثنا بذلك مسلمة أهل الكتاب في غير موضع .(1/114)
وهكذا مناظرة الصابئة الفلاسفة، والمشركين، ونحوهم، فإن الصابئ الفيلسوف إذا ذكر ما عند قدماء الصابئة الفلاسفة من الكلام ـ الذي عُرِّب وتُرْجم بالعربية وذكره ـ إما صرفًا، وإما على الوجه الذي تَصَّرف فيه متأخروهم بزيادة أو نقصان، وبَسْطٍ واختصار، ورد بعضه وإتيان بمعان / أخر، ليست فيه ونحو ذلك ـ فإن ذكْر ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل[ الطب ] و[ الحساب ] المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل محمد بن زكريا الرازي، وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء ما غايته، انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز . كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وكما استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر ـ لما خرجا من مكة مهاجِرَيْن ـ [ ابن أُريْقط ] رجلاً من بني الديِّل هاديًا خِرِّيتًا، والخريت : الماهر بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما، ووعداه غار ثور صبح ثالثة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم، وكل هذا في الصحيحين، وكان أبو طالب ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويَذُبُّ عنه مع شركه، و هذا كثير .
فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } [ آل عمران : 75 ] ، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلمُ الكافرَ إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة، كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة، مثل ولايته على المسلمين، وعلوه عليهم ونحو ذلك .(1/115)
فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، / بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك .
وإن ذكروا ما يتعلق بالدين، فإن نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالا، وإن أحالوا معرفته على القياس العقلي، فإن وافق ما في القرآن فهو حق، وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال تعالى : { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 33 ] ، ففي القرآن الحق، والقياس البين الذي يبين بطلان ما جاؤوا به من القياس، وإن كان ما يذكرونه مجملاً فيه الحق ـ وهو الغالب على الصابئة المبدلين، مثل [ أرسطو] وأتباعه، وعلى من اتبعهم من الآخرين ـ قبل الحق ورد الباطل، والحق من ذلك لا يكون بيان صفة الحق فيه كبيان صفة الحق في القرآن . فالأمر في هذا موقوف على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته .
والترجمة والتفسير ثلاث طبقات :
أحدها : ترجمة مجرد اللفظ، مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف، ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلاء، فهذا علم نافع؛ إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ، فلا يجرده عن اللفظين جميعًا .
/ والثاني : ترجمة المعنى وبيانه، بأن يصور المعنى للمخاطب، فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ، كما يشرح للعربي كتابًا عربيًا قد سمع ألفاظه العربية، لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها، وتصوير المعني يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى، إما تحديدًا وإما تقريبًا .(1/116)
الدرجة الثالثة : بيان صحة ذلك وتحقيقه، بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى، إما بدليل مجرد وإما بدليل يبين علة وجوده .
وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى، كما يحتاج في [ الدرجة الثانية ] إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى . وقد يكون نفس تصوره مفيدًا للعلم بصدقه، وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى قياس، ومثل، ودليل آخر .
فإذا عرف القرآن هذه المعرفة، فالكلام الذي يوافقه أو يخالفه ـ من كلام أهل الكتاب والصابئين والمشركين ـ لابد فيه من الترجمة للفظ والمعنى أيضًا، وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالى : { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } [ يوسف : 111 ] ، وقال : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] .
ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن ؛ لفظه ومعناه، كما أمر بذلك / الرسول، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العَجَم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة .
وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين، بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم، لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه، فلأن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلا، وأحسن حديثًا، ولغتهم أوسع، لاسيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه .(1/117)
فإذا سئلنا عن كلام يقولونه : هل هو حق أو باطل، ومن أين يتبين الحق فيه والباطل قلنا ـ من القول : بالحجة والدليل، كما كان المشركون وأهل الكتاب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، أو يناظرونه، وكما كانت الأمم تجادل رسلها؛ إذ كثير من الناس يدعي موافقة الشريعة للفلسفة .
مثال ذلك : إذا ذكروا [ العقول العشرة ] ، و [ النفوس التسعة ] وقالوا : إن العقل الأول هو الصادر الأول عن الواجب بذاته، وإنه من لوازم ذاته ومعلول له، وكذلك الثاني عن الأول، وإنَّ لكل فلك عقلاً ونفسًا .
/ قيل : قولكم : [ عقل، ونفس] لغة لكم، فلابد من ترجمتها، وإن كان اللفظ عربيًا فلابد من ترجمة المعنى .
فيقولون : [ العقل ] هو الروح المجردة عن المادة ـ وهي الجسد وعلائقها ـ سموه عقلاً ويسمونه مفارقًا، ويسمون تلك المفارقات للمواد؛ لأنها مفارقة للأجساد، كما أن روح الإنسان إذا فارقت جسده كانت مفارقة للمادة التي هي الجسد و[ النفس ] : هي الروح المدبرة للجسم، مثل نفس الإنسان إذا كانت في جسمه، فمتى كانت في الجسم كانت محركة له، فإذا فارقته صارت عقلاً محضًا، أي : يعقل العلوم من غير تحريك بشيء من الأجسام، فهذه العقول والنفوس .
وهذا الذي ذكرناه من أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس، وأكثرهم لا يحصلون ذلك .
قالوا : وأثبتنا لكل فلك نفسًا؛ لأن الحركة اختيارية، فلا تكون إلا لنفس، ولكل نفس عقلاً؛ لأن العقل كامل لا يحتاج إلى حركة، والمتحرك يطلب الكمال فلابد أن يكون فوقه ما يشبه به، وما يكون علة له، ولهذا كانت حركة أنفسنا للتشبه بما فوقنا من العقول، وكل ذلك تشبه بواجب الوجود بحسب الإمكان .
والأول لا يصدر عنه إلا عقل ؛ لأن النفس تقتضي جسمًا، والجسم فيه / كثرة، والصادر عنه لا يكون إلا واحدًا . ولهم في الصدور اختلاف كثير ليس هذا موضعه .(1/118)
قيل لهم : أما إثباتكم أن في السماء أرواحًا، فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب الله، ولكن ليست هي [ الملائكة ] ، كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول، وما أنزل من قبله، ويقولون : ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة والفلسفة، فإنهم قالوا : العقول والنفوس عند الفلاسفة هي الملائكة عند الأنبياء، وليس كذلك، لكن تشبهها من بعض الوجوه .
فإن اسم الملائكة والملك يتضمن أنهم رسل الله، كما قال تعالى : { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } [ فاطر : 1 ] ، وكما قال : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } [ المرسلات : 1 ] ، فالملائكة رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والأرض، كما قال تعالى : { حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] ، وكما قال : { بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وأمره الديني الذي تنزل به الملائكة، فإنه قال : { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [ النحل : 2 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] .(1/119)
وملائكة الله لا يحصى عددهم إلا الله، كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [ المدثر : 31 ] .
وقيل لهم : الذي في الكتاب والسنة، من ذكر الملائكة وكثرتهم، أمر لا يحصر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك قائم أو قاعد، أو راكع، أو ساجد ) ، [ الأطيط : صوت الأقتاب، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها، أي : أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت . وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى] وقال الله تعالى : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الشورى : 5 ] .
فمن جعلهم عشرة، أو تسعة عشر، أو زعم أن التسعة عشر الذين على سَقَر هم العقول والنفوس، فهذا من جهله بما جاء عن الله ورسوله، وضلاله في ذلك بين؛ إذ لم تتفق الأسماء في صفة المسمى ولا في قدره، كما تكون الألفاظ المترادفة، وإنما اتفق المسميان في كون كل منهما روحًا متعلقًا بالسموات .(1/120)
وهذا من بعض صفات ملائكة السموات، فالذي أثبتوه هو بعض / الصفات لبعض الملائكة، وهو بالنسبة إلى الملائكة وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القلة، أقل مما يؤمن به السامرة من الأنبياء بالنسبة إلى الأنبياء؛ إذ هم لا يؤمنون بنبي بعد موسى ويُوشَع .
كيف وهم لم يثبتوا للملائكة من الصفة إلا مجرد ما علموه من نفوسهم مجرد العلم للعقول، والحركة الإرادية للنفوس ؟
ومن المعلوم أن الملائكة لهم من العلوم، والأحوال، والإرادات، والأعمال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، ووصفهم في القرآن بالتسبيح والعبادة لله أكثر من أن يذكر هنا، كما ذكر ـ تعالى ـ في خطابه للملائكة، وأمره لهم بالسجود لآدم .
وقوله تعالى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [ فصلت : 38 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] ،
وقوله تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 26 : 29 ] ،(1/121)
وقوله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] ، وقوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [ غافر : 7 ] ، وقوله تعالى : { كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقوله تعالى : {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 124 ،125 ] ، وقوله تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] ، وقوله تعالى : { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 26 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] ، وقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ الأنفال : 50 ] ، وقوله تعالى : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ(1/122)
تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] ، وقوله : { حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] ، وقوله تعالى : { فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 : 16 ] .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10 : 12 ] .
وقوله تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وقوله تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ، وقوله تعالى : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } [ الصافات : 1-3 ] .
وقوله تعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } إلى قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [ الصافات : 149-166 ] .(1/123)
وفي الصحيحين عن جابر بن سَمُْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصف الأول، ويتراصون في الصف ) ، وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعْصَعَة في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر صعوده إلى السماء السابعة ـ قال : ( فرفع لي البيت المعمور؛ فسألت جبريل، فقال : هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم ) .
وقال البخاري : وقال همَّام عن قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أمَّنَ القارئ فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، وفي الرواية الأخرى في الصحيحين إذا قال : ( آمين، فإن الملائكة في السماء تقول : آمين ) .
وفي الصحيح أيضًا عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده، فقولوا : اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) . وفي / الصحيح عن عروة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الملائكة تنزل في العَنَان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ) .(1/124)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن لله ملائكة سيارة فضلاء، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله ـ وهو أعلم ـ من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك ويحمدونك، ويسألونك . قال : وما يسألوني ؟ قالوا : يسألونك جنتك . قال : وهل رأوا جنتي ؟ قالوا : لا أي رب، قال : فكيف لو رأوا جنتي ؟ قالوا : ويستجيرونك . قال : ومم يستجيرونني ؟ قالوا : من نارك . قال : وهل رأوا ناري ؟ قالوا : يا رب لا . قال : فكيف لو رأوا ناري ؟ قالوا : ويستغفرونك . قال : فيقول : قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا، وأجَرْتُهم مما استجاروا، قال : يقولون : رب، فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم . قال : فيقول : وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) .(1/125)
/ وفي الصحيحين عن ُعرْوَة ،عن عائشة حدثته؛ أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العَقَبَة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم على، ثم قال : يا محمد، فقال : ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأَخْشَبَيْن [ الأخشبان : هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان . والأخشب كل جبل خشن غليظ الحجارة ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ) .
وأمثال هذه الأحاديث الصحاح مما فيها ذكر الملائكة الذين في السموات وملائكة الهواء والجبال، وغير ذلك كثيرة .(1/126)
وكذلك الملائكة المتصرفون في أمور بني آدم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ـ حديث الصادق المصدوق ـ إذ يقول : ( ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال : اكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ) وفي الصحيح حديث البراء ابن عازب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان : ( اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك ) ، وفي الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( أجب عني، اللّهم أيده /بروح القُدُس ) ، وفي الصحيح عن أنس قال : ( كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل ) ، وفي الصحيحين عن عائشة : أن الحارث بن هشام قال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي ؟ قال : ( أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشده علي، فَيُفْصِم عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول ) [ وقوله : فيُفْصِم : أي فيقْلِع ] .
وإتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورة أعرابي، وتارة في صورة دحْيَة الكلبي، ومخاطبته وإقراؤه إياه كثيرًا، أعظم من أن يذكر هنا .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون ) .(1/127)
وفي الصحيحين عن عائشة قالت : حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل، كأنها نمرقة فجاء فقام، وجعل يتغير وجهه، فقلت : ما لنا يا رسول الله ؟ قال : ( ما بال هذه الوسادة ؟ ) قالت : وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال : ( أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، إن من صنع الصور يعذب يوم القيامة يقال : أحيوا ما خلقتم ) ، وفي الصحيحين /عن ابن عباس قال : سمعت أبا طلحة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لاتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة تماثيل ) .
وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : ( وعد النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال : إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة ) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مُصَلاَّه الذي صلى فيه : اللّهم اغفر له، اللّهم ارحمه، ما لم يحدث ) .
وأمثال هذه النصوص، التي يذكر فيها من أصناف الملائكة وأوصافهم وأفعالهم، ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه من [ العقول، والنفوس ] أو أن يكون جبريل هو [ العقل الفعال] وتكون ملائكة الآدميين هي القوى الصالحة، والشياطين هي القوى الفاسدة، كما يزعم هؤلاء .
وأيضًا، فزعمهم أن العقول والنفوس ـ التي جعلوها الملائكة، وزعموا أنها معلولة عن الله صادرة عن ذاته صدور المعلول عن علته ـ هو قول بتولدها عن الله، وأن الله ولد الملائكة، وهذا مما رده الله ونزه نفسه عنه، وكذب قائله، وبين كذبه بقوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(1/128)
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3، 4 ] وقال تعالى : { أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الصافات : 151 - 157 ] ، وبقوله : {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26- 28 ] ، وقال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 -95 ] .(1/129)
فأخبر أنهم معبدون، أي : مذللون مصرفون، مدينون مقهورون، ليسوا كالمعلول المتولد تولدًا لازمًا لا يتصور أن يتغير عن ذلك . وأخبر أنهم عباد لله، لا يشبهون به كما يشبه المعلول بالعلة، والولد بالوالد، كما يزعمه هؤلاء الصابئون، وقال تعالى : { وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ البقرة : 116، 117 ] ، فأخبر أنه يقتضي كل شيء بقوله : [ كن] لا بتولد المعلول عنه .
وكذلك قال سبحانه : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 100، 101 ]
/ فأخبر أن التولد لا يكون إلا عن أصلين،كما تكون النتيجة عن مقدمتين، وكذلك سائر المعلولات المعلومة لا يحدث المعلول إلا باقتران ما تتم به العلة، فأما الشيء الواحد وحده فلا يكون علة ولا والدًا قط، لا يكون شيء في هذا العالم إلا عن أصلين، ولو أنهما الفاعل والقابل، كالنار والحطب، والشمس والأرض، فأما الواحد وحده فلا يصدر عنه شيء ولا يتولد .
فبين القرآن أنهم أخطؤوا طريق القياس في العلة والتولد، حيث جعلوا العالم يصدر عنه بالتعليل والتولد، وكذلك قال : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] خلاف قولهم : إن الصادر عنه واحد . وهذا وفاء بما ذكره الله ـ تعالى ـ من قوله وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 33 ](1/130)
إذ قد تكفل بذلك في حق كل من خرج عن اتباع الرسول، فقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] ، [ فذكر] الوحدانية والرسالة إلى قوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا } [ الفرقان : 27 ـ 29 ] ، فكل من خرج عن اتباع الرسول فهو ظالم بحسب ذلك . والمبتدع ظالم بقدر ما خالف من سنته : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 30-33 ] .
وهؤلاء الصابئة قد أتوا بمثل، وهو قولهم : الواحد لا يصدر عنه ويتولد عنه إلا واحد، والرب واحد فلا يصدر عنه إلا واحد يتولد عنه . فأتى الله بالحق وأحسن تفسيرًا، وبين أن الواحد لا يصدر عنه شيء ولا يتولد عنه شيء أصلا، وأنه لم يتولد عنه شيء، ولم يصدر عنه شيء، ولكن خلق كل شيء خلقًا، وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين . ولهذا قال مجاهد ـ وذكره البخاري في صحيحه ـ في الشفع والوتر : ( إن الشفع هو الخلق، فكل مخلوق له نظير، والوتر هو الله الذي لا شبيه له ) ، فقال : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } [ الأنعام : 101 ] .(1/131)
وذلك أن الآثار الصادرة عن العلل والمتولدات في الموجودات لابد فيها من شيئين أحدهما : يكون كالأب، والآخر : يكون كالأم القابلة . وقد يسمون ذلك الفاعل والقابل كالشمس مع الأرض، والنار مع الحطب، فأما صدور شيء واحد عن شيء واحد،فهذا لا وجود له في الوجود أصلا .
وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس،وبالصوت ـ كالطنين ـ مع الحركة والنقر، فهو أيضًا حجة لله ورسوله والمؤمنين عليهم . وذلك أن الشعاع إن / أريد به نفس ما يقوم بالشمس، فذلك صفة من صفاتها، وصفات الخالق ليست مخلوقة، ولا هي من العالم الذي فيه الكلام .
وإن أريد بالشعاع ما ينعكس على الأرض، فذلك لابد فيه من شيئين، وهما الشمس التي تجري مجرى الأب الفاعل، والأرض التي تجري مجرى الأم القابلة، وهي الصاحبة للشمس .
وكذلك الصوت لا يتولد إلا عن جسمين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه، فيتولد الصوت الموجود في أجسام العالم عن أصلين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه .
فمهما احتجوا به من القياس، فالذي جاء الله به هو الحق وأحسن تفسيرًا، وأحسن بيانًا وإيضاحًا للحق وكشفًا له .
وأيضًا، فجعلها علة تامة لما تحتها، ومؤكدة له، وموجبة له حتى يجعلوها مبادئنا، ويجعلوها لنا كالآباء والأمهات، وربما جعلوا العقل هو الأب، والنفس هي الأم، وربما قال بعضهم : ] الوالدان [ : العقل والطبيعة، كما قال صاحب الفصوص في قول نوح { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ نوح : 28 ] ، أي : من كنت نتيجة عنهما،وهما العقل والطبيعة . وحتى يسمونها الأرباب والآلهة الصغرى، ويعبدونها . وهو كفر مخالف لما جاءت به الرسل .
/ وبهذا وصف بعض السلف الصابئة بأنهم يعبدون الملائكة، وكذلك في الكتب المعربة عن قدمائهم، أنهم كانوا يسمونها الآلهة والأرباب الصغرى، كما كانوا يعبدون الكواكب أيضًا .(1/132)
والقرآن ينفي أن تكون أربابًا، أو أن تكون آلهة، ويكون لها غير ما للرسول الذي لا يفعل إلا بعد أمُرِ مُرْسِلِه، و لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له في الشفاعة، وقد رد الله ذلك على من زعمه من العرب والروم وغيرهم من الأمم، فقال تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } ؟ [ آل عمران : 80 ] وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ { [ الأنبياء : 62، 72 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 22، 32 ] .
وقد تقدم بعض الأحاديث في صعق الملائكة إذا قضى الله بالأمر الكوني أو بالوحي الديني .(1/133)
وقال تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } [ النجم : 62 ] ، وقال تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } الآية [ الأنبياء : 26 ] ، /وقال تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [ مريم : 64 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] ، نزلت الآية في الذين يدعون الملائكة والنبيين .
واستقصاء القول في ذلك ليس هذا موضعه .
فإن الله ـ سبحانه ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم . فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة، كلية عامة لما كان متفرقًا منتشرًا في كلام غيره، ثم إنه يسمى كل شيء بما يدل على صفته المناسبة للحكم المذكور المبين، وما يبين وجه دلالته .
فإن تنزيهه نفسه عن الولد والولادة واتخاذ الولد، أعم وأقوم من نفيه بلفظ العلة؛ فإن العلة أصلها التغيير، كالمرض الذي يحيل البدن عن صحته، والعليل ضد الصحيح . وقد قيل : إنه لا يقال : [ معلول] إلا في الشرب، يقال : شرب الماء علا بعد نَهَل، وعللته : إذا سقيته مرة ثانية .(1/134)
وأما استعمال اسم [ العلة] في الموجب للشيء أو المقتضى له، فهو من عرف أهل الكلام، وهي ـ وإن كان بينهما وبين العلة اللغوية مناسبة من جهة التغير ـ فالمناسبة في لفظ [ التولد] أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهر . يقول الناس : /هذا الأمر يتولد عنه كذا، وهذا يولد كذا، وقد تولد عن ذلك الأمر كيت وكيت، لكل سبب اقتضى مسببًا من الأقوال والأعمال، حتى أهل الطبائع يقولون : [ الأركان والمولدات ] ، يريدون ما يتولد عن الأصول الأربعة ـ التراب، والماء، والهواء، والنار ـ من معدن، ونبات، وحيوان .
فنفيه ـ سبحانه ـ عن نفسه أن يلد شيئًا اقتضى ألا يتولد عنه شيء، ونفيه أن يتخذ ولدًا يقتضى أنه لم يفعل ذلك بشيء من خلقه على سبيل التكريم، وأن العباد لا يصلح أن يتخذ شيئًا منهم بمنزلة الولد . وهذا يبطل دعوى من يدعي مثل ذلك في المسيح وغيره، ومن يقول : { نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ } [ المائدة : 18 ] ، ومن يقول : الفلسفة هي التشبه بالإله، فإن الولد يكون من جنس والده ويكون نظيرًا له، وإن كان فرعًا له، ولهذا كان هؤلاء القائلون بهذه المعاني من أعظم الخلق قولاً بالتشبيه والتمثيل، وجعل الأنداد له والعدل والتسوية؛ ولهذا كانت الفلاسفة الذين يقولون بصدور العقول والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل يجعلونها له أندادًا، ويتخذونها آلهة وأربابًا، بل قد لا يعبدون إلا إياها، ولا يدعون سواها، ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها .
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، و { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 1، 2 ]
[(1/135)
بهامش الأصل هنا متروك محل خمسة أسطر . قال في المسودة : يتلوه الوريقة، ولم نجدها ]
فإن هؤلاء جعلوا لله شركاء الجن وخلقهم، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، و [ الجن ] قد قيل : إنه يعم الملائكة، كما قيل في قوله : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } [ الصافات : 158 ] ، وإن كان قد قيل في سبب ذلك : زعم بعض مشركي العرب أن الله صاهر إلى الجن فولدت الملائكة، فقد كانوا يعبدون الملائكة أيضًا، كما عبدتها الصابئة الفلاسفة، كما قال تعالى : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [ الزخرف : 19 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 ،41 ] ، يعني : أن الملائكة لم تأمرهم بذلك؛ وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم ، كما يكون للأصنام شياطين .
وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها، حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه، وهو شيطان من الشياطين .
ولهذا قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60-62 ] ،
وقال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } [ الكهف : 50 ] ، فهم وإن لم يقصدوا عبادة الشيطان وموالاته، ولكنهم في الحقيقة يعبدونه ويوالونه .(1/136)
فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المبتدعة مؤمنون بقليل مما جاءت به الرسل في أمر الملائكة، في صفتهم وأقدارهم .
وذلك، أن هؤلاء القوم إنما سلكوا سبيل الاستدلال بالحركات الفلكية والقياس على نفوسهم، مع ما جحدوه وجهلوه من خلق الله وإبداعه .
وسبب ذلك : ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم : أن أساطينهم الأوائل، كفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم، ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بأثارة الأنبياء ما عند سلفه . وكان عنده قدر يسير من الصابئية الصحيحة، فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية، وصارت قانونًا مشى عليه أتباعه، واتفق أنه قد يتكلم في طبائع الأجسام، أو في صورة المنطق أحيانًا بكلام صحيح .
وأما الأولون، فلم يوجد لهم مذهب تام مبتدع بمنزلة مبتدعة المتكلمين في المسلمين، مثل : أبي الهذيل، وهشام بن الحكم، ونحوهما، ممن وضع مذهبًا / في [ أبواب أصول الدين ] فاتبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمة المسلمين ـ مثل مالك، وحماد بن زيد، والثوري، ونحوهم ـ إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء، فمن لم يكن له علم بطريق المسلمين، يعتاض عنه بما عند هؤلاء، وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة، وهو خفاء سنن المرسلين فيهم، وبذلك يقع الهلاك .
ولهذا كانوا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة، قال مالك ـ رحمه الله : السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك . وهذا حق . فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين . واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله، فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطنًا وظاهرًا . والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح ـ عليه السلام ـ وركوب السفينة معه .(1/137)
وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبينين لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله . والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك، كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ،كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله / لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
فأخبر عنهم بكمال بر القلوب، مع كمال عمق العلم، وهذا قليل في المتأخرين، كما يقال : من العجائب فقيه صوفي، وعالم زاهد ونحو ذلك . فإن أهل برّ القلوب وحسن الإرادة وصلاح المقاصد يحمدون على سلامة قلوبهم من الإرادات المذمومة، ويقترن بهم كثيرًا عدم المعرفة، وإدراك حقائق أحوال الخلق التي توجب الذم للشر والنهي عنه، والجهاد في سبيل الله، وأهل التعمق في العلوم قد يدركون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في أنواع الغى والضلالات، وأصحاب محمد كانوا أبر الخلق قلوبًا وأعمقهم علماً .
ثم إن أكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن بتعمقهم التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين، وهو القول والعمل بلا علم، وطلب ما لا يدرك . وأصحاب محمد كانوا ـ مع أنهم أكمل الناس علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ـ أقل الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف، ما يهدي الله بها أمة، وهذا من منن الله على هذه الأمة . وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلفات والشطحات، ما هو من أعظم الفضول المبتدعة، والآراء المخترعة، لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين .(1/138)
/ويروى أن الله ـ سبحانه ـ قال للمسيح : إني سأخلق أمة أفضلها على كل أمة، وليس لها علم ولا حلم، فقال المسيح : أي رب، كيف تفضلهم على جميع الأمم، وليس لهم علم ولا حلم ؟ قال : أهبهم من علمي وحلمي، وهذا من خواص متابعة الرسول . فأيهم كان له أتبع كان في ذلك أكمل، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الحديد : 28 ،29 [ .
وكذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى وعبد الله بن عمر : ( مثلنا ومثل الأمم قبلنا، كالذي استأجر أجراء، فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ فعملت النصارى . ثم قال : من يعمل لي إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ فعملت المسلمون، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجرًا . قال : فهل ظلمتكم من حقكم شيئًا ؟ قالوا : لا، قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء ) .
فدل الكتاب والسنة على أن الله يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤته لأهل الكتابين قبلهم، فكيف بمن هو دونهم من الصابئة ؟ دع مبتدعة الصابئة من المتفلسفة ونحوهم .
/ ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل .(1/139)
فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان، أو اليد والسِّنَان [السِّنان : الرُّمْح] ، وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام .
والمقصود التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله : أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم، والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث، فهو ـ إن كان من المؤمنين بالرسل ـ فهو جاهل، فيه شعبة قوية من شعب النفاق، وإلا فهو منافق خالص من الذين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] وقد يكون من : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } [ غافر : 35 ] ، ومن { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الشورى : 16 ] .
وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه ـ وإن كان ذلك ظاهرًا بالفطرة لكل سليم الفطرة ـ فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم / بالحقائق وأقومهم قولاً وحالاً، لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك، وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق .
ولايقال : هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان، لأنه يقال : إن ذلك في غيرهم أكثر والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم، هذه هي المقابلة العادلة .(1/140)
وإنما غيَّر الفطرة قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك،مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم، وإحسان لبعض العمل، فيكون ذلك شبهة في قبول غيره، وترجيح صاحبه، ولا غرض لنا في ذكر الأشخاص، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب [ مختلف الحديث ] وغيره من العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من الأمور المبينة لما ذكرناه .
وإنما المقصود ذكر نفس الطريقة العلمية والعملية، التي تعرف بحقائق الأمور الخبرية النظرية، و توصل إلى حقائق الأمور الإرادية العملية، فمتى كان غير الرسول قادرًا على علم بذلك أو بيان له أو محبة لإفادة ذلك، فالرسول أعلم بذلك وأحرص على الهدى، وأقدر على بيانه منه، وكذلك أصحابه من بعده وأتباعهم .
وهذه صفات الكمال والعلم والإرادة والإحسان والقدرة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة :
/ ( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب ) .
فعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نستخير الله بعلمه، فيعلّمنا من علمه ما نعلم به الخير، ونستقدره بقدرته، فيجعلنا قادرين؛ إذ الاستفعال هو طلب الفعل، كما قال في الحديث الصحيح :
يقول الله تعالى : ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم ضالُّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم ) .
فاستهداء الله طلب أن يهدينا، واستطعامه طلب أن يطعمنا، هذا قوت القلوب، وهذا قوت الأجسام، وكذلك استخارته بعلمه واستقداره بقدرته . ثم قال : ( وأسألك من فضلك العظيم ) ، فهذا السؤال من جوده ومَنِّه، وعطائه وإحسانه الذي يكون بمشيئته ورحمته وحنانه؛ ولهذا قال : ( فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم ) ولم يقل : إني لا أرحم نفسي؛ لأنه في مقام الاستخارة يريد الخير لنفسه ويطلب ذلك، لكنه لا يعلمه ولا يقدر عليه، إن لم يعلّمه الله إياه ويقدره عليه .(1/141)
فإذا كان الرسول أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية، وأحب الخلق للتعليم والهداية والإفادة، وأقدر الخلق على البيان والعبارة، امتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواصه معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه،/فامتنع أن يكون عند أحد من الطوائف من معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث .
وإذا لم يكن في الطوائف من هو أعلم بالحقائق وأبين لها منه، وجب أن يكون كل ما يذمون به من جهل بعضهم هو في طائفة المخالف الذام لهم أكثر، فيكون الذام لهم جاهلا ظالمًا، فيه شعبة نفاق، إذا كان مؤمنًا . وهذا هو المقصود .
ثم إن هذا الذي بيناه مشهود بالقلب، أعلم ذلك في كل أحد ممن أعرف مفصلاً .
وهذه جملة يمكن تفصيلها من وجوه كثيرة، لكن ليس هذا موضعه .
سُئلَ الشَّيخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك ؟
فَأَجَاب :
لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر ـ يعني الخطيب ـ في كتابه [ السابق واللاحق ] ، وذكره أبو القاسم السهيلي في [ شرح السيرة] بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد اللّه القرطبي في [ التذكرة] ، وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة من وجهين :
/من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب .(1/142)
والخطيب البغدادي هو في كتاب [السابق واللاحق] مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد، سواء كان الذي يروونه صدقًا أو كذبًا، وابن شاهين يروي الغَثَّ والسَّمِين، والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل .
ثم هذا خلاف الكتاب، والسنة الصحيحة والإجماع . قال اللّه تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 17، 18 ] .
فبين اللّه تعالى : أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [ غافر : 85 ] .
فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت ؟ ونحو ذلك من النصوص .
وفي صحيح مسلم : أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أين أبي ؟ قال : ( إن أباك في النار ) . فلما أدبر دعاه فقال : ( إن أبي وأباك في النار ) .
وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ أنه قال : ( استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، /فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكِّر الآخرة ) .
وفي الحديث ـ الذي في المسند وغيره ـ قال : ( إن أمي مع أمك في النار ) ، فإن قيل : هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره، وبهذا اعتذر صاحب التذكرة، وهذا باطل لوجوه :(1/143)
الأول : أن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ، كقوله في أبي لهب : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 3 ] ، وكقوله في الوليد : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } [ المدثر : 17 ] . وكذلك في : ( إن أبي وأباك في النار ) و ( إن أمي وأمك في النار ) ، وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم اللّه إيمانهما لم ينهه عن ذلك، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنا فإن اللّه يغفر له، فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه؛ لأنها كانت بطريقه بالحَجُون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك، ولم يزره؛ إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه، فكيف يقال : أحيى له ؟
الثالث : أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع، كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه : حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم، /من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت .
ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء ؟ فقال : ( وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) .
هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره، فإنه كان آخر شىء قاله : هو على ملة عبد المطلب، وأن العباس لم يشهد موته، مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة ـ خلفًا عن سلف ـ أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة، والعباس، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين ـ رضي اللّه عنهم ـ كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب .(1/144)
الرابع : أن اللّه تعالى قال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ } إلى قوله : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } الآية [ الممتحنة : 4 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] .
فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه، إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه . واللّه أعلم .
فَصْل
فإذا تبين هذا، فلفظ [ الإيمان ] إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ [ البر ] وبلفظ [ التقوى ] وبلفظ [ الدين ] كما تقدم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول : لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) فكان كل ما يحبه اللّه يدخل في اسم الإيمان، وكذلك لفظ [ البر ] يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ [ التقوى ] وكذلك [ الدين ] ، أو [ دين الإسلام ] وكذلك روى أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل اللّه هذه الآية : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } الآية [ البقرة : 177 ] ، وقد فسر البر بالإيمان، وفُسِّر بالتقوى، وفسر بالعمل الذي يقرب إلى اللّه والجميع حق، وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان .(1/145)
قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقري والملائي قالا : حدثنا المسعودي، عن القاسم قال : جاء رجل إلى أبي ذَرٍّ فسأله عن الإيمان، فقرأ : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية، فقال الرجل : ليس عن البر سألتك . فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلتَ /لي . فلما أبي أن يرضى قال له : ( إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سَرَّتْهُ ورَجَا ثوابها،وإذا عمل السَّيِّئَة ساءته، وخاف عِقَابَها ) .(1/146)
وقال : حدثنا إسحاق،حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن مجاهد؛ أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقرأ عليه : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية، وروى بإسناده عن عِكْرِمَة قال : سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } ، وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال : قلت لسالم الأفطس : رجل أطاع اللّه فلم يعصه، ورجل عصى اللّه فلم يطعه، فصار المطيع إلى اللّه فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى اللّه فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان ؟ قال : لا . قال : فذكرت ذلك لعطاء فقال : سلهم : الإيمان طيب أو خبيث ؟ فإن اللّه قال : { لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأنفال : 37 ] ، فَسألتهم فلم يجيبوني، فقال بعضهم : إن الإيمان يبطن ليس معه عمل، فذكرت ذلك لعطاء فقال : سبحان اللّه ! أما يقرؤون الآية التي في البقرة : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } قال : ثم وصف اللّه على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } ـ إلي قوله ـ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، فقال : سلهم : /هل دخل هذا العمل في هذا الاسم ؟ وقال : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] ، فألزم الاسم العمل، والعمل الاسم .(1/147)
والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال عن عمل، فإذا عرف أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعاً لفظيًا مع أنهم مخطئون في اللفظ، مخالفون للكتاب والسنة، وإن قالوا : إنه لا يضره ترك العمل فهذا كفر صريح، وبعض الناس يحكى هذا عنهم،وأنهم يقولون : إن اللّه فرض على العباد فرائض،ولم يرد منهم أن يعملوها،ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون : لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيناً أحكى عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يُعَيِّنُون قائله، وقد يكون قول من لا خَلاقَ له؛ فإن كثيراً من الفساق والمنافقين يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا .(1/148)
ويدل على ذلك قوله تعالى في آخر الآية : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] . فقوله : { صَدَقُوا } أي : في قولهم : آمنوا،كقوله : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } إلي قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14 ،15 ] ، أي : هم الصادقون في قولهم : آمنا باللّه، بخلاف الكاذبين الذين قال اللّه فيهم : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وقال تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون: 8 : 10 ] . وفي { يكذبون } قراءتان مشهورتان، فإنهم كذبوا في قولهم : آمنا باللّه واليوم الآخر، وكذبوا الرسول في الباطن وإن صدقوه في الظاهر،وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 : 3 ] ، فبين أنه لابد أن يفتن الناس أي : يمتحنهم ويبتليهم ويختبرهم .(1/149)
يقال : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتميزه مما اختلط به، ومنه قول موسى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ الأعراف : 155 ] ، أي : محنتك واختبارك وابتلاؤك،كما ابتليت عبادك بالحسنات والسيئات ليتبين الصبار الشكور من غيره، وابتليتهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليتبين المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، والمنافق من المخلص، فتجعل ذلك سبباً لضلالة قوم وهدي آخرين .
والقرآن فيه كثير من هذا يصف المؤمنين بالصدق، والمنافقين بالكذب؛لأن الطائفتين قالتا بألسنتهما : آمنا، فمن حقق قوله بعمله فهو مؤمن صادق ومن قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو كاذب منافق، قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [ آل عمران : 166 ،167 ] ،/فلما قال في آية البر : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] دل على أن المراد : صدقوا في قولهم : آمنا؛ فإن هذا هو القول الذي أمروا به وكانوا يقولونه .(1/150)
ولم يؤمروا أن يلفظوا بألسنتهم ويقولوا : نحن أبْرَارٌ أو بَرَرَةٌ؛ بل إذا قال الرجل : أنا بر فهذا مُزَكٍّ لنفسه؛ ولهذا كانت زينب بنت جَحْش اسمها بَرَّة فقيل : تُزَكِّى نفسها، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، بخلاف إنشاء الإيمان بقولهم : [ آمنا ] فإن هذا قد فرض عليهم أن يقولوه، قال تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 136 ] ، وكذلك في أول آل عمران : { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } [ آل عمران : 84 ] .
وقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ،فقوله : { لاَ نُفَرِّقُ } دليل على أنهم قالوا : آمنا ولا نفرق؛ ولهذا قال : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فجمعوا بين قولهم : آمنا وبين قولهم : سمعنا وأطعنا، وقد قال في آية البر : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فجعل الأبرار هم المتقين عند الإطلاق والتجريد، وقد ميز بينهما عند الاقتران والتقييد في قوله : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [ المائدة : 2 ] ، ودلت هذه الآية على أن مسمى الإيمان ومسمى البر ومسمى التقوى عند الإطلاق واحد، فالمؤمنون هم المتقون وهم الأبرار .(1/151)
/ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة الصحيحة : ( يخرج من النار من في قلبه مِثْقَال ذَرَّةٍ من إيمان ) ، وفي بعضها : ( مثقال ذرة من خير ) ، وهذا مطابق لقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] ، وذلك الذي هو مثقال ذرة من خير هو مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المؤمنون الأبرار الأتقياء هم أهل السعادة المطلقة، وهم أهل الجنة الذين وعدوا بدخولها بلا عذاب، وهؤلاء الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من غَشَّنَا فليس مِنَّا، ومن حَمَل علينا السِّلاحَ فليس منا ) فإنه ليس من هؤلاء، بل من أهل الذنوب المعرضين للوعيد أسوة أمثالهم .
/فَصْل :(1/152)
وهذا النوع من نمط ( أسماء اللّه، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء دينه ) قال الله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] ،وقال تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } [ الأعراف : 18 ] ، وقال الله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر : 23، 24 ] ، فأسماؤه كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة،ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته، ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر، فالعزيز يدل على نفسه مع عزته، والخالق يدل على نفسه مع خلقه، والرحيم يدل على نفسه مع رحمته، ونفسه تستلزم جميع صفاته، فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن، وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم .(1/153)
وهكذا أسماء كتابه : القرآن، والفرقان، والكتاب، والهدى، والبيان، والشفاء، /والنور، ونحو ذلك هي بهذه المنزلة، وكذلك أسماء رسوله : محمد، وأحمد، والماحِي، والحاشر، والمُقَفِّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملْحَمَة، كل اسم يدل على صفة من صفاته الممدوحة غير الصفة الأخرى، وهكذا ما يثنى ذكره من القصص في القرآن كقصة موسى وغيرها، ليس المقصود بها أن تكون سَمَرًا، بل المقصود بها أن تكون عبراً كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، فالذي وقع شيء واحد وله صفات،فيعبر عنه بعبارات متنوعة،كل عبارة تدل على صفة من الصفات التي يعتبر بها المعتبرون،وليس هذا من التكرير في شيء .
وهكذا أسماء دينه، الذي أمر اللّه به ورسوله يسمى إيماناً، وبراً، وتقوى، وخيراً، وديناً، وعملاً صالحاً، وصراطاً مستقيماً، ونحو ذلك، وهو في نفسه واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ،والباقي كان تابعاً لها لازماً لها،ثم صارت دالة عليه بالتضمن، فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين : تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته . ويقال لهذا : قول القلب، قال الجنيد بن محمد : التوحيد : قول القلب . والتوكل : عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب، وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه، وحب ما يحبه اللّه ورسوله، وبغض ما يبغضه اللّه ورسوله،وإخلاص العمل للّه وحده، وتوكل القلب على اللّه وحده،وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها اللّه ورسوله وجعلها من الإيمان .(1/154)
/ثم القلب هو الأصل،فإذا كان فيه معرفة وإرادة سَرَى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ألا وإن في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحت صَلَح لها سائر الجسد، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، إلا وهي القلب )
وقال أبو هريرة : القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده، وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بياناً، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار، قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب؛فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد )
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث : قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد؛ ولهذا قال : من قال من الصحابه عن المصلي العابث : لو خَشَع قَلْبُ هذا لخشعت جوارحه . فلابد في إيمان القلب من حب اللّه ورسوله وأن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما،قال اللّه تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حباً للّه من المشركين لأندادهم .(1/155)
وفي الآية قولان : قيل : يحبونهم كحب المؤمنين اللّه، والذين آمنوا أشد حباً للّه منهم لأوثانهم . وقيل : يحبونهم كما يحبون اللهّّ، والذين آمنوا أشد حباً للّه منهم، وهذا هو الصواب، والأول قول متناقض وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين للّه، وتستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل، فيمتنع أن يكون الإنسان محباً للّه ورسوله، مريداً لما يحبه اللّه ورسوله إرادة جازمة، مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته،دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه اللّه عليه .
ومن هنا يظهر خطأ قول جَهْم بن صَفْوان ومن اتبعه،حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب اللّه ورسوله، ويعادي اللّه ورسوله، ويعادي أولياء اللّه، ويوالي أعداء اللّه، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا : وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند اللّه مؤمن قالوا : وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم /بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا : فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون : هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو ؟(1/156)
وهذا القول،مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة . وقد كفَّر السلف ـ كوَكِيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم ـ من يقول بهذا القول .
وقالوا : إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم، لا لكونه كذب خبراً . وكذلك فرعون وقومه، قال اللّه تعالى فيهم : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ] ، وقال موسى ـ عليه السلام ـ لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } بعد قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا } [ الإسراء : 101، 102 ] .(1/157)
فموسى وهو الصادق المصدوق يقول : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } . فدل على أن فرعون كان عالماً بأن اللّه أنزل الآيات وهو /من أكبر خلق اللّه عناداً وبغيًا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه . قال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 4 ] ، وقال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } ، وكذلك اليهود الذين قال اللّه فيهم : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } [ البقرة : 146 ] . وكذلك كثير من المشركين الذين قال اللّه فيهم : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .
فَهَؤلاء غلطوا في أصلين :(1/158)
أحدهما : ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل، وحال، وحركة، وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقًا، فإن [ أعمال القلوب ] التي يسميها بعض الصوفية أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى اللّه أو مقامات العارفين أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه اللّه ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين، وذلك مثل حب اللّه ورسوله، بل أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، بل أن يكون اللّه ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله، ومثل خشية اللّه وحده دون خشية المخلوقين، ورجاء اللّه وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل علي اللّه وحده دون المخلوقين، والإنابة إليه/مع خشيته،كما قال تعالى : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ ق : 32 ،33 ] ، ومثل الحب في اللّه والبغض في اللّه والموالاة للّه والمعاداة للّه .(1/159)
والثاني : ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مُخَلَّد في النار، فإنما ذاك؛ لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق . وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السَّلِيمِي الفطرة وجماهير النظار، فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوي النفس، يحمله ذلك الهوى على أن يعتدى عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك، فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم فيكونون من أكفر الناس كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق .(1/160)
ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] ، ومعلوم أن اتباع الأرذلين له لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك،/كما طلب المشركون من النبي صلىالله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وخَبَّاب بن الأرَتّ، وعمار بن ياسر،وبلال ونحوهم، وكان ذلك بمكة قبل أن يكون في الصحابة أهل الصُّفَّة، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 52،53 ] .(1/161)
ومثل قول فرعون : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] ، وقول فرعون : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ الشعراء : 18، 19 ] ، ومثل قول مشركي العرب : { إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } قال الله تعالى : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] ، ومثل قول قوم شعيب له : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } [ هود : 87 ] ومثل قول عامة المشركين : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
وهذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم . فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار، بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلىالله عليه وسلم ويحبون علو كلمته، وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون أن في /متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة واحتمال هذا الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بصدق الإيمان به، بل لهوى النفس، فكيف يقال : إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه باللّه ؟(1/162)
ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلاً بالحق حتى قالوا : هو لا يعرف أن اللّه موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين، ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم،وإما خوفهم إذا آمنوا ألا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل . وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعه ويدفع عنه مضرة . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } [ المائدة : 51 : 53 ] .(1/163)
/والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يغلب أهل الإسلام فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون . وأشهر النقول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال : يا رسول اللّه،إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى اللّه من ولاية يهود، فقال عبد اللّه بن أبيّ : لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية .
والمرجئة الذين قالوا : الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه . وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح ـ أيضا ـ فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم، فإنهم رأوا أن اللّّه قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 30 ] ورأوا أن اللّه خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [ المائدة : 6 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة : 9 ] .(1/164)
/وقالوا : لو أن رجلاً آمن باللّه ورسوله ضَحْوَةً ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان . وقالوا : نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كان كلما أنزل اللّه آية وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل اللّه ما بقى الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما .
والمرجئة، المتكلمون منهم والفقهاء منهم، يقولون : إن الأعمال قد تسمى إيماناً مجازاً؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه، ويقولون : قوله : ( الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شُعْبَة أفضلها قول : لا إله إلا اللّه،وأدناها إمَاطَةُ الأذَى عن الطريق ) : مجاز .
والمرجئة ثلاثة أصناف : الذين يقولون : الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة،كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه . والقول الثاني : من يقول : هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكَرَّامية . والثالث : تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه :(1/165)
/أحدها : ظنهم أن الإيمان الذي فرضه اللّه على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن اتباع الأنبياء المتقدمين أوجب اللّه عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك . وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر، وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل؛ لموته قبل أن يبلغه شيء آخر .
وأيضاً لو قدر أنه عاش، فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين .(1/166)
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم : خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال . فنقول : / إن قلتم : إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين؛ ولهذا قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ آل عمران : 97 ] ؛ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له : ضِمَام بن ثَعْلَبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلىالله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء اللّه متى فرض الحج ؟
وكذلك قولهم : من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، فصحيح؛لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن يعرف، فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين .
فإذا قيل : الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئًا واحداً في حق جميع الناس . وأهل السنة والحديث يقولون : جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان، أي : من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب . ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل/ بالمستحبات، كما يقول الفقهاء : الغُسْل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ : ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل : ما أتى فيه بالمستحبات . ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب .(1/167)
وأما قولهم : إن اللّه فرق بين الإيمان والعمل في مواضع . فهذا صحيح . وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل اللّه ورسوله فيه الأعمال المأمور بها . وقد يقرن به الأعمال . وذكرنا نظائر لذلك كثيرة . وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب . والأعمال الظاهرة لازمة لذلك . لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة .(1/168)
ثم للناس في مثل هذا قولان : منهم من يقول : المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصاً له، لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا : هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام، كقوله : { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } [ محمد : 2 ] ، فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا } وهذه نزلت في الصحابة/ وغيرهم من المؤمنين، وقوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] ،وقوله : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } [ البينة : 5 ] ، والصلاة والزكاة من العبادة، فقوله : { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } كقوله : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } [ البينة : 5 ] .(1/169)
فإنه قصد أولاً : أن تكون العبادة للّه وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما، وكذلك يذكر الإيمان أولاً؛لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح فإنه ـ أيضاً ـ من تمام الدين لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح، وكذلك قوله : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 1 : 5 ] .
وقد قيل : إن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل على من قبله، كابن سلام ونحوه، وأن هؤلاء نوع غير النوع المتقدم الذين يؤمنون بالغيب، وقد قيل : هؤلاء جميع المتقدمين الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب وهم صنف واحد، وإنما عطفوا لتغاير الصفتين كقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى } [ الأعلى : 1 : 5 ] ، فهو ـ سبحانه ـ واحد وعطف بعض صفاته على بعض، وكذلك قوله : { الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ } ، وهي صلاة العصر .(1/170)
والصفات إذا كانت معارف كانت للتوضيح، وتضمنت المدح أو الذم . تقول : هذا الرجل هو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا تعدد محاسنه؛ ولهذا مع الاتباع قد يعطفونها وينصبون، أو يرفعون، وهذا القول هو الصواب؛ فإن المؤمنين بالغيب إن لم يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله لم يكونوا على هدى من ربهم ولا مفلحين ولا متقين، وكذلك الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله إن لم يكونوا من الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم اللّه ينفقون، لم يكونوا على هدى من ربهم، ولم يكونوا مفلحين، ولم يكونوا متقين، فدل على أن الجميع صفة المهتدين المتقين الذين اهتدوا بالكتاب المنزل إلى محمد، فقد عطفت هذه الصفة على تلك مع أنها داخلة فيها، لكن المقصود صفة إيمانهم، وأنهم يؤمنون بجميع ما أنزل اللّه على أنبيائه، لا يفرقون بين أحد منهم، وإلا فإذا لم يذكر إلا الإيمان بالغيب، فقد يقول : من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، نحن نؤمن بالغيب .(1/171)
ولما كانت سورة البقرة سَنَام القرآن، ويقال : إنها أول سورة نزلت بالمدينة، افتتحها اللّه بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فإنه من حين هاجر النبي صلىالله عليه وسلم /صار الناس ثلاثة أصناف : إما مؤمن، وإما كافر مظهر للكفر، وإما منافق، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فإنه لم يكن هناك منافق؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره : لم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار؛ فإن مكة كانت للكفار مستولين عليها . فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن ليس هناك داع يدعو إلى النفاق، والمدينة آمن بها أهل الشوكة، فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار . فمن لم يظهر الإيمان آذوه، فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان، مع أن قلوبهم لم تؤمن، واللّه ـ تعالى ـ افتتح البقرة ووسط البقرة وختم البقرة بالإيمان بجميع ما جاءت به الأنبياء، فقال في أولها ما تقدم، وقال في وسطها : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } الآية [ البقرة : 136، 137 ] ، وقال في آخرها : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } والآية الأخرى [ البقرة : 285 ] .(1/172)
وفي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( الآيتان من آخر سورة البقرة : من قرأ بهما في ليلة كفتاه ) والآية الوسطى قد ثبت في [ الصحيح ] أنه كان يقرأ بها في ركعتي الفجر : وبـ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الآية [ آل عمران : 64 ] ، تارة . وبـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ،/و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تارة . فيقرأ بما فيه ذكر الإيمان والإسلام، أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص .
فعلى قول هؤلاء يقال : الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطف عليه عطف الخاص على العام، إما لذكره خصوصاً بعد عموم،وإما لكونه إذا عطف كان دليلاً على أنه لم يدخل في العام . وقيل : بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلىالله عليه وسلم، فإذا عطفت عليه ذكرت، لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال الصالحة اللازمة للإيمان يوجب الوعد، فكان ذكرها تخصيصاً وتنصيصاً ليعلم أن الثواب الموعود به في الآخرة ـ وهو الجنة بلا عذاب ـ لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً، لا يكون لمن ادعى الإيمان ولم يعمل،وقد بين ـ سبحانه ـ في غير موضع أن الصادق في قوله : آمنت،لابد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم .(1/173)
وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب [ الموجز ] وهو أن القرآن نفي الإيمان عن غير هؤلاء، كقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] ، ولم يقل : إن هذه الأعمال من الإيمان، قالوا : فنحن نقول : من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمناً، لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه .
والجواب عن هذا من وجوه :
/أحدها : أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءًا، نزاع لفظي .
الثاني : أن نصوصاً صرحت بأنها جزء، كقوله : ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة )
الثالث : أنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل إيمان، كان قولكم قول الخوارج، وأنتم في طرف، والخوارج في طرف؛ فكيف توافقونهم ؟ ومن هذه الأمور : إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد، والإجابة إلى حكم اللّه ورسوله، وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه، وإن كفرتموه كان قولكم قول الخوارج .
الرابع : أن قول القائل : إن انتفاء بعض هذه الأعمال يستلزم ألا يكون في قلب الإنسان شيء من التصديق بأن الرب حق، قول يعلم فساده بالاضطرار .
الخامس : أن هذا إذا ثبت في هذه ثبت في سائر الواجبات، فيرتفع النزاع المعنوي .
فصل
إذا عرف أن أصل الإيمان في القلب، فاسم [ الإيمان ] تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه وموجباته ودلائله، وتارة على ما في القلب والبدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه، وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلامًا، وأنها تدخل في مسمى الإيمان تارة، ولا تدخل فيه تارة .(1/174)
وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين،وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه، وكذلك لفظ المعروف والمنكر إذا أطلقا، كما في قوله تعالى : { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [ الأعراف : 157 ] دخل فيه الفحشاء والبغي، وإذا قرن بالمنكر أحدهما، كما في قوله : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] أو كلاهما كما في قوله تعالى : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] كان اسم المنكر مختصًا بما خرج من ذلك على قول، أو متناولاً للجميع على قول ـ بناء على/ أن الخاص المعطوف على العام هل يمنع شمول العام له ؟ أو يكون قد ذكر مرتين . فيه نزاع ـ والأقوال والأعمال الظاهرة نتيجة الأعمال الباطنة ولازمها .
وإذا أفرد اسم [ الإيمان ] فقد يتناول هذا وهذا، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ) . وحينئذ فيكون الإسلام داخلا في مسمى الإيمان وجزءًا منه، فيقال حينئذ : إن الإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة والظاهرة . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتؤدوا خمس المغنم ) أخرجاه في الصحيحين .(1/175)
ففسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام؛ لأنه أراد بالشهادتين هنا أن يشهد بهما باطنًا وظاهرًا، وكان الخطاب لوفد عبد القيس، وكانوا من خيار الناس وهم أول من صلى الجمعة ببلدهم بعد جمعة أهل المدينة، كما قال ابن عباس : أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بـ [ جُواثي ] ـ قرية من قرى البحرين ـ وقالوا : يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فَصْلٍ نعمل به وندعو إليه من وراءنا، وأرادوا بذلك أهل نَجْد، من تَمِيم وأسَد وغَطَفَان وغيرهم، كانوا كفارًا، فهؤلاء كانوا صادقين راغبين في طلب الدين، فإذا أمرهم النبي /صلى الله عليه وسلم بأقوال وأعمال ظاهرة فعلوها باطنًا وظاهرًا فكانوا بها مؤمنين .
وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإسلام عَلانِيَة، والإيمان في القلب، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . ومتى حصل له هذا الإيمان،وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان، والصلاة والزكاة والصيام والحج، لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنًا ولا يحصل ذلك في الظاهر، مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد .(1/176)
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانًا جازمًا امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام، وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه، في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبًا جازمًا وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك .
وأبو طالب إنما كانت محبته للنبي صلى الله عليه وسلم لقرابته منه، لا لله وإنما/ نصره وذب عنه لحَمِيَّة النَّسَب والقرابة؛ ولهذا لم يتقبل الله ذلك منه، وإلا فلو كان ذلك عن إيمان في القلب لتكلم بالشهادتين ضرورة، والسبب الذي أوجب نصره للنبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو الحمية ـ هو الذي أوجب امتناعه من الشهادتين، بخلاف أبي بكر الصديق ونحوه، قال الله تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ الليل : 17 : 21 ] ، ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه :
أحدها : أن العلم والتصديق مستلزم لجميع موجبات الإيمان .
الثاني : ظن الظان أن ما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه .
الثالث : ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه .(1/177)
الرابع : ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق،وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح . والصواب أن القلب له عمل مع التصديق، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن . والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب ـ أيضًا ـ وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين، ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن، /فبقى النزاع في أن العمل الظاهر : هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان ؟
والتحقيق أنه تارة يدخل في الاسم، وتارة يكون لازمًا للمسمى ـ بحسب إفراد الاسم واقترانه ـ فإذا قرن الإيمان بالإسلام كان مسمى الإسلام خارجًا عنه، كما في حديث جبريل، وإن كان لازمًا له، وكذلك إذا قرن الإيمان بالعمل، كما في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البينة : 7 ] فقد يقال : اسم الإيمان لم يدخل فيه العمل وإن كان لازمًا له، وقد يقال : بل دخل فيه وعطف عليه عطف الخاص على العام، وبكل حال فالعمل تحقيق لمسمى الإيمان وتصديق له؛ ولهذا قال طائفة من العلماء ـ كالشيخ أبي إسماعيل الأنصاري،وغيره ـ : الإيمان كله تصديق، فالقلب يصدق ما جاءت به الرسل،واللسان يصدق ما في القلب، والعمل يصدق القول،كما يقال : صدق عمله قوله . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( العينان تزنيان وزناهما النظر،والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليد تزني وزناها البَطْش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفَرْج يصدق ذلك أو يكذبه ) ، والتصديق يستعمل في الخبر، وفي الإرادة، يقال : فلان صادق العزم وصادق المحبة، وحملوا حملة صادقة .(1/178)
والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة، لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا : إن الإيمان يتماثل الناس فيه،ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس/ من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة .
وأيضًا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب ـ أيضًا ـ وهذا باطل قطعًا، فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعًا بالضرورة، وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطؤوا ـ أيضًا ـ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن .
وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه، هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه، وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول ؟ فمن المعلوم أن هذا ممتنع، فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من الإيمان،وكان عدمه دليلاً على انتفاء حقيقة الإيمان، بل قد ثبت في الصحيح عنه : ( من مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق ) ،وفي الحديث دلالة على أنه يكون فيه بعض شعب النفاق، مع ما معه من الإيمان، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] .(1/179)
وأيضًا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : / ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) ،وفي رواية : ( وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل ) . فهذا يبين أن القلب إذا لم يكن فيه بغض ما يكرهه الله من المنكرات كان عادمًا للإيمان، والبغض والحب من أعمال القلوب، ومن المعلوم أن إبليس ونحوه يعلمون أن الله ـ عز وجل ـ حرم هذه الأمور ولا يبغضونها، بل يدعون إلى ما حرم الله ورسوله .
وأيضا، فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر، ليس هو كفرًا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفًا بالله، موحدًا له، مؤمنا به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنًا وظاهرًا، قالوا : هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك، فيقال لهم : معنا أمران معلومان .
أحدهما : معلوم بالاضطرار من الدين .
والثاني : معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل .(1/180)
أما الأول : فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعًا بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعًا غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله، فهو/كافر باطنًا وظاهرًا، وأن من قال : إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنًا بالله وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين . وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن، وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر، لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبًا، بل كان ينبغي ألا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة، وهذا كقوله تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ، { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [ المائدة : 72 ] وأمثال ذلك .
وأما الثاني : فالقلب إذا كان معتقدًا صدق الرسول، وأنه رسول الله، وكان محبًا لرسول الله معظمًا له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانًا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب .(1/181)
وأيضًا، فإن الله سبحانه قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [ النساء : 51 ] ، وقال : { الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ } [ البقرة : 156 ] ، فتبين أن الطاغوت يؤمن به ويكفر به . ومعلوم أن مجرد التصديق بوجوده وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر؛ فإن الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر، وقد قال الله تعالى في السحر : { حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } إلى قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 102 ] فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة، ومع هذا فيكفرون .(1/182)
وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت،إذا كان عالمًا بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من الجبت، وكان عالمًا بأحوال الشيطان والأصنام، وما يحصل بها من الفتنة، لم يكن مؤمنا بها مع العلم بأحوالها . ومعلوم أنه لم يعتقد أحد فيها أنها تخلق الأعيان، وأنها تفعل ما تشاء ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوع من المطالب، كما كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام وتخبرهم بأمور، وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين والترك وغيرهم، وكان كفرهم بها الخضوع لها والدعاء والعبادة واتخاذها وسيلة ونحو ذلك، لا مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار، فإن هذا يعلمه العالم من المؤمنين ويصدق بوجوده، لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة فيبغضه، والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر .(1/183)
يبين ذلك قوله : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } [ النحل : 106 : 109 ] فقد ذكر ـ تعالى ـ من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } وبين ـ تعالى ـ أن الوعيد استحقوه بهذا . ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون : إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق .
وأيضًا، فإنه ـ سبحانه ـ استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه .(1/184)
وقوله تعالى : { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي : لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا،ويمسي مؤمنا ويصبح كافرًا، يبيع دِينَهُ بعَرَضٍ من الدنيا ) ، والآية نزلت في عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وأمثالهما من المؤمنين/ المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعَمَّار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه، لم يتكلم إلا وصدره منشرح به .
وأيضًا، فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي، فقالوا : نشهد إنك لرسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله،قال : ( فلم لا تتبعوني ؟ ) قالوا : نخاف من يهود،فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم .
فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا كفارًا في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد عنه :
ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينًا
لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة حبًا لدين سلفه، وكراهة أن يعيره قومه، فلما لم يقترن بعلمه الباطن الحب والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمنًا .
/وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد منع من حب الله، وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار في القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرًا لا ينفع معه العلم .
فصل(1/185)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب ) فهو من أصح الأحاديث . وقال أنس : فما فرح المسلمون بشىء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أحشر / معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك ( أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله ) لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله ومن يحب الله، فيحب أنبياء الله كلهم، لأن الله يحبهم ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم كالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان .
فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة، فقد قال طائفة من أهل العلم : لا نشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه، وقال طائفة : بل من استفشى من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه،كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي [ هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل : الفيروزان، وقيل : علي الكرخي الصالح المشهور، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم، وهو صبي، فكان المؤدب يقول له : قل : ثالث ثلاثة، فيقول معروف : بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضربًا مبرحًا فهرب منه .(1/186)
وكان أبواه يقولان : ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه . فرجع فدق الباب فقيل : من بالباب ؟ فقال : معروف، فقيل له : على أي دين ؟ فقال : على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورًا بإجابة الدعوة، توفى سنة مائتين، وقيل : إحدى ومائتين، وقيل غير ذلك . [ وفيات الأعيان 5/132-332 ] وعبد الله بن المبارك ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، شهدنا لهم بالجنة؛ لأن في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال : ( وجبت، وجبت ) ، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال : ( وجبت، وجبت ) . قالوا : يا رسول الله، ماقولك : وجبت، وجبت ؟ قال : ( هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت : وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت : وجبت لها النار ) ، قيل : / بم يا رسول الله ؟ قال : ( بالثناء الحسن، والثناء السيّئ ) .
وإذا علم هذا فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان، قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء . وهؤلاء في الجنة،والتجار والفلاحون وغيرهم من هذه الأصناف .(1/187)
إذا كان كذلك فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالًا، بل عليه أن يأخذ بما يعلم، فيطلب أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده . كما قال الله تعالى : وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] ، وقال الله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 55، 56 ] ، وعلى هذا فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا دخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلال والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين : كأبي بكر وعمر وعثمان /وعلي وغيرهم، فمحبة هؤلاء من أوثق عرى الإيمان، وأعظم حسنات المتقين .
ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله، أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله .
وكثير من الناس يدعى المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، قال بعض السلف : ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك، كان أعظم درجة عند الله .(1/188)
وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي /أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير .
وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيل الله . وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله .
والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهر، فأهل الشرك يتخذون أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون ذلك، لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه، ومن أحبه الله، فمحبوب المحبوب محبوب، ومحبوب الله يحب الله، فمن أحب الله فيحبه من أحب الله . وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا أو شفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .(1/189)
وقال الله تعالى : { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ يس : 22 : 25 ] وقال الله تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 51 ] وقال الله تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 79، 80 ] .
والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدين كله لله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ) فالدين واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] وقال الله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .(1/190)
ومن حين بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما يقبل من أحد بلغته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به؛ فإن دعوته عامة لجميع الخلائق قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [ سبأ : 28 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) قال الله تعالى : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ الأعراف : 156 : 158 ] .(1/191)
فعلى الخلق كلهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يعبدون إلا الله ويعبدونه بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا بغيرها قال الله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 18، 19 ] ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله وكمال الذل لله فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك .(1/192)
والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه [ بمحبته وعن رجاء ما سواه ] برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به؛ ولهذا كان وسط الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال : الله حمدني عبدي . فإذا قال : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } قال : أثنى علي عبدي وإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال : مجدني عبدي . وإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال : هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل وإذا قال : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) .(1/193)
فوسط السورة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فالدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا إياه والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله كما قال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 172، 173 ] فالحب لغير الله كحب النصارى للمسيح وحب اليهود لموسى وحب الرافضة لعلي وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم : مثل من يوالي شيخا أو إماما وينفر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد : الذين يوالون [ بعض ] الشيوخ والأئمة دون البعض . وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان . قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 9 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ) - وقال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .(1/194)
وقال عليه السلام : ( لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) . ومما يبين الحب لله والحب لغير الله : أن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم مخلصا لله وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله . فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ الليل : 17 : 21 ] وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله؛ بل أدخله النار؛ لأنه كان مشركا عاملا لغير الله . وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق لا من النبي ولا من غيره؛ بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه بنفسه وماله متقربا بذلك إلى الله وطالبا الأجر من الله .(1/195)
ورسوله يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] . والله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو سبحانه مسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه . والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه فهذا يسلك وأما ما ينهى عنه نهيا خالصا أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها فهذا لا يسلك . قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ثم بين أنه لا شركة لهم ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق . كما يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة استوصي الشيخ فلان فإنك تجده أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده يا شيخ يقضي حاجتك وهذا غلط لا يحل فعله وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا فذلك شيطان تمثل له . كما وقع مثل هذا لعدد كثير .
ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده . والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ويقوى الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت لما قضيت حاجته . فهذا حرام فعله . ويقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ .(1/196)
وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته ولا يقدر على قضائها وحده ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفى وهو على كل شيء قدير . فالأسباب منه وإليه وما من سبب من الأسباب إلا دائر موقوف على أسباب أخرى وله معارضات . فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا فلا تحرق السمندل وإذا شاء الله منع أثرها كما فعل بإبراهيم عليه السلام . وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره ولا مانع لها بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها : يحسن إليهم ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم وافتقارهم إليه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] . فنفى الرب هذا كله فلم يبق إلا الشفاعة . فقال : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] وقال : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها فالجميع منه وحده وكلما كان الرجل أعظم إخلاصا : كانت شفاعة الرسول أقرب إليه . قال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : ( من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) .(1/197)
وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى ويتعلقون بفلان فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى . قال الله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 43، 44 ] وقال الله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } [ السجدة : 4 ] وقال : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] . قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى أن هؤلاء الملائكة والأنبياء عباده كما أن هؤلاء عباده وهؤلاء يتقربون إلى الله وهؤلاء يرجون رحمة الله وهؤلاء يخافون عذاب الله .(1/198)
فالمشركون اتخذوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله؛ واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله ففيهم محبة لهم وإشراك بهم وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به؛ والمؤمنون أشد حبا لله : فلا يعبدون إلا الله وحده ولا يجعلون معه شيئا يحبونه كمحبته لا أنبيائه ولا غيرهم؛ بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله؛ وأخلصوا دينهم لله وعلموا أن أحدا لا يشفع لهم إلا بإذن الله؛ فأحبوا عبد الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لحب الله وعلموا أنه عبد الله المبلغ عن الله فأطاعوه فيما أمر وصدقوه فيما أخبر ولم يرجوا إلا الله؛ ولم يخافوا إلا الله ولم يسألوا إلا الله وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله فلا ينفع رجاؤنا للشفيع ولا مخافتنا له وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله وتوكلنا عليه فهو الذي يأذن للشفيع فعلى المسلم أن يفرق بين محبة المؤمنين، ودينهم ومحبة النصارى، والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان .(1/199)
ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ) . وقال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] وقال الله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] وهذا باب واسع ودين الإسلام مبني على هذا الأصل والقرآن يدور عليه .
الوجه السادس(1/200)
أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا . وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه . ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج . ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد . ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد . ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد . ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه . وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين . ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم : أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام :
أحدها : إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق .(1/201)
والثاني : أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول : اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين . وكذلك أبو طالب كان مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] وقال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق .
والثالث : أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا . وهنا قسم رابع وهو : أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع ؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا .(1/202)
وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا . يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا . وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم . وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه : وإن لم يكن محاربا . فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه . وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة : مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال : إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى .(1/203)
الثاني : أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه .(1/204)
الثالث : أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى : { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [ المائدة : 32 ] وقالت الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } [ البقرة : 30 ] . فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل . فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين . وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع . وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة . وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور .(1/205)
وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا : فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه . وأما تارك الصلاة والزكاة : فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة . فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم .
وفي القرطبي :
لآية: 26 {وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون}.(1/206)
قوله تعالى: "وهم ينهون عنه وينأون عنه" النهي الزجر، والنأي البعد، وهو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن إذاية محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عن الإيمان به؛ عن ابن عباس أيضا. وروى أهل السير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل - لعنه الله - : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته. فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: (يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي) فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبدالله بن الزبعرى؛ فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم؛ فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون؛ فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: (عبدالله بن الزبعرى)؛ فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول؛ فنزلت هذه الآية (وهم ينهون عنه وينأون عنه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم نزلت فيك آية) قال: وما هي؟ قال: (تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي) فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا(1/207)
فقالوا: يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته؟ قال: (نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار في رجليه يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا). وأنزل الله على رسوله "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل" [الأحقاف: 35]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) قال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك؛ فأنزل الله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" [القصص: 56] كذا الرواية المشهورة (الجزع) بالجيم والزاي ومعناه الخوف. وقال أبو عبيد: (الخرع) بالخاء المنقوطة والراء المهملة. قال يعني الضعف والخور، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه). وأما عبدالله بن الزبعرى فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل عذره؛ وكان شاعرا مجيدا؛ فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره؛ منها قوله:
منع الرقاد بلابل وهموم والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها عيرانة سرح اليدين غشوم
إني لمعتذر إليك من الذي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فاليوم آمن بالنبي محمد قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما زللي فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم(1/208)
ولقد شهدت بأن دينك صادق حقا وأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى مستقبل في الصالحين كريم
قرم علا بنيانه من هاشم فرع تمكن في الذرى وأروم
وقيل: المعنى (ينهون عنه) أي هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن (وينأون عنه). عن قتادة؛ فالهاء على القولين الأولين في (عنه) للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قول قتادة للقرآن. "وإن يهلكون إلا أنفسهم" (إن) نافية أي وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم.
وفي الفتح :
الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ
الشرح: قوله: (عن يحيى) هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، وعبد الملك هو ابن عمير، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس عم جده.
قوله: (ما أغنيت عن عمك) يعني أبا طالب.
قوله: (كان يحوطك) بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة، وفيه تلميح إلى ما ذكره ابن إسحاق قال: " ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الإسلام يسكن إليها، وكان أبو طالب له عضدا وناصرا على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فعمر على رأسه ترابا: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته يقول ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب".(1/209)
قوله: (ويغضب لك) يشير إلى ما كان يرد به عنه من قول وفعل.
قوله: (هو في ضحضاح) بمعجمتين ومهملتين هو استعارة، فإن الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب، ويقال أيضا لما قد قرب من الماء وهو ضد الغمرة، والمعنى أنه خفف عنه العذاب.
وقد ذكر في حديث أبي سعيد ثالث أحاديث الباب أنه " يجعل في ضحضاح يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".
ووقع في حديث ابن عباس عند مسلم " إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه " ولأحمد من حديث أبي هريرة مثله لكن لم يسم أبا طالب، وللبزار من حديث جابر " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل نفعت أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها " وسيأتي في أواخر الرقاق من حديث النعمان بن بشير نحوه وفي آخره " كما يغلي المرجل بالقمقم " والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم الإناء الذي يغلي فيه الماء وغيره، والقمقم بضم القافين وسكون الميم الأولى معروف وهو الذي يسخن فيه الماء.
قال ابن الأثير: كذا وقع " كما يغلي المرجل بالقمقم " وفيه نظر.
ووقع في نسخة " كما يغلي المرجل والقمقم " وهذا أوضح إن ساعدته الرواية، انتهى.
ويحتمل أن تكون الباء بمعنى مع، وقيل: القمقم هو البسر كانوا يغلونه على النار استعجالا لنضجه فإن ثبت هذا زال الإشكال.
(تنبيه) : في سؤال العباس عن حال أبي طالب ما يدل على ضعف ما أخرجه ابن إسحاق من حديث ابن عباس بسند فيه من لم يسم " أن أبا طالب لما تقارب منه الموت بعد أن عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى، قال فنظر العباس إليه وهو يحرك شفتيه فأصغى إليه فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها " وهذا الحديث لو كان طريقه صحيحا لعارضه هذا الحديث الذي هو أصح منه فضلا عن أنه لا يصح.
وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود من حديث علي قال " لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره.(1/210)
قلت: إنه مات مشركا، فقال: اذهب فواره " الحديث.
ووقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب ولا يثبت من ذلك شيء، وبالله التوفيق.
وقد لخصت ذلك في ترجمة أبي طالب من كتاب الإصابة.
وفي الفيض :
2773 - (أهون أهل النار عذاباً أبو طالب) عم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم (وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه) هذا وما قبله يؤذن بموته على الكفر وهو الحق ويزعم بعض الناس أنه أسلم قال الزمخشري: يا سبحان اللّه أكان أبو طالب أخمل أعمامه حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس ويخفى إسلامه؟ انتهى وأما ما رواه تمام في فوائده من حديث ابن عمر إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي وأخ لي كان في الجاهلية فتناوله المحب الطبري في حق عمه على أنها شفاعة في التخفيف كما في مسلم
قال ابن حجر: ووقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب ولا يثبت منها شيء
وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة عن علي قال: لما مات أبو طالب قلت: يا رسول اللّه إن عمك الشيخ الضال قد مات قال: اذهب فواره قال: إنه مات مشركاً قال: اذهب فواره وفيه أن عذاب الكفار متفاوت وأن الكافر قد ينفعه عمله الصالح في الآخرة. قال ابن حجر: لكنه مخالف للقرآن، قال تعالى {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} وأجيب باحتمال أن هذا من خصائص المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وبأن منع التخفيف إنما يتعلق بذنب الكفر لا غيره وبذلك يحصل التوفيق بين هذا [ص 69] الحديث وما أشبهه وبين قوله تعالى {لا يخفف عنهم العذاب}.
(حم م عن ابن عباس) وفي الباب أبو سعيد وجابر وغيرهما.
وفي البداية والنهاية :
فصل في وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها.(1/211)
وقيل: بل هي توفيت قبله والمشهور الأول، وهذان المشفقان؛ هذا في الظاهر وهذه في الباطن، هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، وبهلك عمه أبي طالب وكان عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه.
وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.
فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك)).
ويقول بين ذلك: ((ما نالتني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)).
وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أن أحدهم ربما طرح الأذى في برمته إذا نصبت له.
قال: فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله، عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول: ((يا بني عبد مناف أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق)).
قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشاً ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه - وهم أشراف قومه - عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم.(1/212)
فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه. (ج/ص: 3/152).
فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم)).
فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات.
قال: ((تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه)).
فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد: أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحداً ؟! إن أمرك لعجب.
قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.
قال: فقال أبو طالب: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططاً.
قال: فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له: ((أي عم فأنت قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة)).
فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها.
قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه، قال فقال: يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم أسمع)).
قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1-2] الآيات. وقد تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.(1/213)
وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلماً بقول العباس هذا الحديث؛ يا ابن أخي، لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها - يعني لا إله إلا الله -
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن في السند مبهماً لا يعرف حاله وهو قوله عن بعض أهله وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد.
وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن جرير نحواً من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير فذكره، ولم يذكر قول العباس.
ورواه الثوري أيضاً عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس.
ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير أيضاً.
ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
مرض أبو طالب فجاءت قريش، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب، فجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك وشكوه إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟
فقال: ((يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة)). (ج/ص: 3/153).
قال: ما هي؟
قال: ((لا إله إلا الله)).
قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب !
قال: ونزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} الآيات إلى قوله: {إِلَّا اخْتِلَاقٌ}[ص: 1-7].
ثم قد عارضه - أعني سياق ابن إسحاق - ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلاً: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال: ((أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله)).(1/214)
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفر لك مالم أُنهَ عنك)).
فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
ورواه مسلم: عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد الله، عن عبد الرزاق.
وأخرجاه أيضاً من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما لأستغفرن لك مالم أُنهَ عنك)).
فأنزل الله - يعني بعد ذلك -: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}
ونزل في أبي طالب: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}
وهكذا روى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة)).
فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك.
فأنزل الله عز وجل: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص: 56].(1/215)
وهكذا قال عبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال: هو على ملة الأشياخ، وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب.
ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ (ج/ص: 3/154)
قال: ((هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)).
ورواه مسلم في (صحيحه): من طرق عن عبد الملك بن عمير به.
وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)). لفظ البخاري.
وفي رواية: ((تغلي منه أم دماغه)).
وروى مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه)).
وفي (مغازي) يونس بن بكير ((يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه)). ذكره السهيلي.
وقال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): حدثنا عمرو - هو ابن إسماعيل بن مجالد - حدثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر.
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قيل له - هل نفعت أبا طالب؟
قال: ((أخرجته من النار إلى ضحضاح منها)).
تفرد به البزار.
قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: ((لم أسمع)) لأن العباس كان إذ ذاك كافراً غير مقبول الشهادة.(1/216)
قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم.
ومما يدل على ذلك: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفساً إيمانها والله أعلم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت ناجية بن كعب يقول: سمعت علياً يقول: لما توفي أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك قد توفي.
فقال: ((اذهب فواره)).
فقلت: إنه مات مشركاً.
فقال: ((اذهب فواره)) ولا تحدثن شيئاً حتى تأتي.
ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.
ورواه النسائي: عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة.
ورواه أبو داود، والنسائي من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي: لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله: إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟
قال: ((اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني)). فأتيته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء. (ج/ص: 3/155).
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال: ((وصلتك رحم، وجزيت خيراً يا عم)).
قال: وروي عن أبي اليمان الهوزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وزاد ولم يقم على قبره.
قال: وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه.
قلت: قد روى عنه غير واحد منهم: الفضل بن موسى السيناني، ومحمد بن سلام البيكندي، ومع هذا قال ابن عدي: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.(1/217)
وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربياً مقاربتها ولا معارضتها.
وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه.
وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من (صحيح البخاري) وشاهد ذلك قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}
وقال تعالى في قوم فرعون: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}
وقال موسى لفرعون: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً}
وقول بعض السلف في قوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.
فقد روي عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم.
والأظهر والله أعلم: الرواية الأخرى عن ابن عباس؛ وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به.
وبهذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضاً به.(1/218)
ولهذا قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 25-26]. (ج/ص: 3/156).
وهذا اللفظ وهو قوله (وهم) يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام.
وقوله: {وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} يدل على تمام الذم، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها.
ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه.(1/219)