كشف شبهات
حسن المالكي
كتبه
ناصر بن حمد الفهد
1422
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته أجمعين ، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد ظهر مبتدع زيدي اسمه (حسن بن فرحان المالكي) أخذ ينفث سمومه بين أهل السنة ، وأعانه على ذلك بعض من أضله الله ، فقام بجمع ما تفرق من أقوال أهل البدع في كل باب ، وضم بعضها إلى بعض ، وطرحها بين الناس ثم صاح : هذا هو العلم ، وما درى أنه ينادي بنداء الجاهلين ، وأن فعله هذا رأس مال المفلسين !.
فكل أحد يستطيع الهدم وإثارة الشبه في كل باب! وإذا كان المالكي ـ بفعله هذا ـ يظن أنه يهدم مذهب أهل السنة (الذين يتستر
بتسميتهم حنابلة) ، فإن كل مبطلٍ يستطيع فعل ما فعله على أصل دين الإسلام !. فيأخذ بعض المتشابه من الآيات والأحاديث وأقوال الصحابة والأئمة ويضرب بعضها ببعض ، ويرجف بالعبارات ، ويحرف ألفاظاً ونصوصاً ، ويقول هذا دينكم.!!
ولا يعد هذا الباب من العلم في شيء ، بل هو من أبواب الجهل والضلالة والهوى والزيغ .
واعلم أن المالكي لم يأت بجديد ، وكل ما عمله هو السطو على بدعٍ قيلت قبله ، ثم ساقها مساقاً واحداً على أنها من بنات أفكار (المحقق المدقق!!) – كما سيأتي تفصيله إن شاء الله -.
لذلك فاعلم – وفقك الله – أن كلامي هنا ليس حواراً مع المالكي وزمرته ولا موجهاً إليه ، لثلاثة أمور :
الأول : أن هذا الرجل قد لج في الضلالة والعماية ، فقد خوطب ونصح ، ورد عليه أهل العلم بكتب ورسائل معروفة ، فما زاده ذلك إلا غياً وضلالاً .
الثاني : أن مقام الرجل ، ومحله من العلم أقل من أن ينفرد ببدعة ، وإنما يجتر بدعاً قيلت قبله ويسوقها – على اختلاف أهلها وتباينهم- حرباً على السنة وأهلها ، وكل بدعة من هذه البدع التي اجترها قد رد عليها أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، فلن نأتي بجديد .(1/1)
الثالث : أن أبلغ علاج للمالكي ومن وافقه هو علاج الشافعي رحمه الله لأهل الكلام حيث قال (حكمي على أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم بين العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك كتاب الله وأقبل على الكلام) ، فأجزم أن هذا العلاج سوف يزيل كثيراً من وساوسهم ، فعلى من ولاه الله أمر المسلمين أن يأخذ على يد هذا السفيه وأتباعه ويعزرهم تعزيراً بليغاً ؛ فإن تركهم إفساد للدين وتلبيس على المسلمين .
وليعلم الناظر في هذه الرسالة أن المالكي ملأ الدنيا صياحاً و طلب المناظرة مراراً ، وطبل له أتباعه ، فوافقت عليها وأعلنت له استعدادي للمناظرة على شبكة الإنترنت ولكنه تهرّب بحججٍ واهية ، وكرّرت له طلبي للمناظرة ثمان مرات ، في كل يومٍ مرة ، من يوم الجمعة 12 / 6 / 1422 إلى يوم الجمعة 19 / 6 إلا أن الرجل اختفى وكأنه لم يوجد ، ثم ظهر في بعد الساعة الواحدة من منتصف ليلة السبت – بعد انتهاء المهلة – ووافق على المناظرة ، فوافقت على ذلك مباشرة ، ومع بدء الترتيب لها وبعد أقل من يوم اعتذر عنها بحججٍ أوهى من بيت العنكبوت!!.
إذا تبين هذا فاعلم أنني إنما كتبت هذه الرسالة لإخواني من أهل السنة ، لتكون عوناً لهم في كشف شبهات هذا الدجال .
وبما أن المالكي لم ينفرد ببدعة ، بل جمع من أقوال أهل البدع ما جمع ونشرها بين الناس ، فالرد عليه في كل بدعة ساقها سيكون طويلاً مملاً ، وقد كفانا العلماء رحمهم الله كثيراً من مؤنة الرد على أهل البدع ، لذلك فقد جعلت هذه الرسالة في أربعة فصول :
الفصل الأول : في أصول مذهب المالكي :
وبه يتبين مذهبه ، و على أي شيء أقام بنيانه وشيد أركانه ، ومن أين اجتر بدعه التي لوّح بها في كتبه .
الفصل الثاني : في أصول تكشف شبهات المالكي في التوحيد والشرك:
وقد ذكرت فيه أصولاً تعين طالب الحق إن شاء الله على كشف شبهاته التي بثها في كتاب نقض كشف الشبهات حول دعوة التوحيد .(1/2)
الفصل الثالث :في أصول تكشف شبهات المالكي في السنة والبدعة:
وقد ذكرت فيه أصولاً تكشف شبهات المالكي التي بثها في كتابه (قراءة في كتب العقائد) وفي رسائله الأخيرة .
الفصل الرابع :في أصول تكشف شبهات المالكي في التاريخ والصحابة:
وقد ذكرت فيه أصولاً تكشف شبهات المالكي التي بثها في كتبه التي عن الصحابة والتاريخ .
وأسأل الله تعالى أن يجعل ما كتبته خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به من قرأه ، وصلى الله على نبينا محمد .
كتبه / ناصر بن حمد الفهد
الرياض
جمادى الآخر - 1422
الفصل الأول
أصول مذهب المالكي
سبق أن ذكرت أن المالكي أحقر من أن ينفرد ببدعة ، بل كل البدع التي جاء بها إنما يسرقها من مبتدعة قبله ، لذلك فقد جمع المالكي كثيراً من أصول المبتدعة – على اختلاف فرقهم- ، وسوف أسوق فيما يلي بعضاً من أهل البدع والضلالة الذين تأثر بهم المالكي :
أولاً : مشابهته للزيدية والروافض :
الزيدية مذهبه ودينه الذي تربى عليه ، فهو زيدي الأسرة والمنشأ(1)، وتأثره بهم وبالروافض ظاهر جداً في رسائله وكتبه ، ومن مظاهر هذا التأثر ما يلي :
أولاً : إثارته الكلام حول الصحابة ، وسبه لبعضهم ، وغضه من قدر أبي بكر وعمر ،وإكثاره من الخوض فيما شجر بين الصحابة .
ثانياً : غلوه في علي رضي الله عنه ، حيث لا يكفيه الترضي عنه وذكر مناقبه وحبه ، ولا يقنعه تخطئة من قاتله من الصحابة متأولاً ، بل لابد من الوقيعة فيهم ، ونفي الصحبة عنهم ، وإلصاق المعايب بهم ، بل وصل به الحال إلى تقرير أن لعن بعضهم ليس بالأمر المستنكر عند العلماء .
__________
(1) فالمالكي هذا نسبة إلى (بني مالك) – وهي من منطقة جيزان- بالقرب من الحدود اليمنية ، وهذه المنطقة لا يزال قسم منها على مذهب الزيدية –ومنهم حسن هذا - .(1/3)
ثالثاً : انتقاداته للكتب التي ترد على الروافض و تدافع عن الصحابة ككتاب (العواصم) لابن العربي ، و (منهاج السنة) لشيخ الإسلام(1).
رابعاً : تسميته أهل السنة (ناصبة) ، كجعله شيخ الإسلام ابن تيمية ناصبياً ، وقد ذكر أهل العلم أن من صفات الروافض أنهم يسمون أهل السنة نواصب.
خامساً : أن كلامه في كثير من هذه الأمور مسروق من كتب الروافض والزيدية(2).
سادساً : عداؤه وحقده على أهل السنة والجماعة وأئمة السلف وأئمة الدعوة النجدية(3).
ثانياً : مشابهته للسبئية :
فالمالكي أشبه (عبد الله بن سبأ) في ثلاث خصال :
الأولى : أن (عبد الله بن سبأ) يهودي دخل دين الإسلام لإفساده كما دخل (بولص) دين النصرانية لإفسادها ، و (المالكي) زيدي دخل مذهب أهل السنة لإفساده ، فهو بحق (بولص أهل السنة) .
الثانية : أن (عبد الله بن سبأ) جعل التشيع لآل البيت ستاراً له في الإفساد ، و (المالكي) كذلك .
الثالثة : أن (عبد الله بن سبأ) تدرج في إفساده الدين ، فقد أظهر أول أمره النسك والدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم لم يزل يلقي الشبه في قلوب العامة حتى جمع حوله بعض الجهال ، ثم سعى في قتل عثمان رضي الله عنه ، وحصلت الفتن بعد قتله بسببه ، ثم ادعى أن علياً رضي الله عنه هو الوصي ، ثم ادعى فيه الألوهية .
__________
(1) وكتابه في إنقاذ التاريخ الإسلامي انتقد مجموعة من الكتب منها : خلافة علي ، صحابة رسول الله ، عقيدة أهل السنة في الصحابة ، أثر التشيع على الرواية التاريخية ، تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة ، عبد الله بن سبأ ، ولعلك – أخي الكريم – رأيت أن الجامع بين هذه الكتب هو الكلام حول الصحابة والشيعة !!! .
(2) وانظر تفصيل سرقاته من أهل البدع في كتاب الشيخ سليمان الخراشي وفقه الله (سرقات حسن المالكي) فقد أجاد وأفاد جزاه الله خيرا .
(3) وهذا ظاهر جداً في كتابيه (قراءة في كتب العقائد) ، و (نقض كشف الشبهات) .(1/4)
و (حسن المالكي) أظهر في أول أمره السنة والحرص على دروس أهل السنة كالشيخ ابن باز رحمه الله وغيره ، والحرص على منهج المحدثين ، ثم لم يزل يلقي بعض الشبه في مجالسه وفي صفحات الجرايد ، حتى جمع حوله بعض أهل الأهواء ، ثم صرّح في مجالسه وبعض محاضراته في أماكن مشبوهة بسب معاوية وإخراج مسلمة الفتح من الصحابة ، ثم تدرج به الأمر إلى أن كشر عن أنيابه ، وأظهر ما في نفسه من حقد على أهل السنة والجماعة في كلامه على كتب عقائد أهل السنة ، وعلى الصحيحين وغيرها.(1)
ثالثاً : مشابهته للمنافقين :
فقد أخذ منهم خصلتين أيضاً :
الأولى : أنه إذا حدث كذب :
والأمثلة على كذبه كثيرة ، منها :
1- أنه قال في كتابه (قراءة في كتب العقائد) إنه سني سلفي حنبلي !! مراراً ، وكذب في ذلك ، فهو على أحسن أحواله زيدي من غلاتهم .
2- أنه ادعى في كتابه (قراءة في كتب العقائد) أنه يتكلم على عقيدة غلاة الحنابلة ، وإنما يتكلم في حقيقة الأمر على مذهب أهل السنة والجماعة ، فقد ساق في كتابه هذا كلاماً لرجالٍ – لم يسمهم – هم من أئمة السنة قبل أن يخلق الإمام أحمد ، وقبل أن يوجد الحنابلة ، منهم :
__________
(1) ولعل هذا الشبه القوي بين المالكي وابن سبأ هو الذي جعله يقول : إن ابن سبأ أسطورة!! ، وانظر في الرد عليه كتاب الشيخ سليمان العودة (الإنقاذ من دعاوى الإنقاذ!).(1/5)
عبد الله بن المبارك ، والأوزاعي ، ومالك ، وحماد بن سلمة ، وسفيان بن الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع ، ويزيد بن هارون ، وغيرهم من أئمة السنة رحمهم الله . حيث ساق أقوالهم وكأنها من أقوال (عبد الله بن أحمد) في كتاب (السنة) ، وأقوالهم هذه رواها غير عبد الله بن أحمد كالبخاري في (خلق أفعال العباد) و الخطيب في (تاريخه) والدارمي في ردوده وغيرهم .(1)
3- أنه ادعى أن الشيخ عبد الله السعد يصحّح أحاديث ضعيفة وموضوعة في العقيدة ، وأقسم بالله أنه أول من يعلم كذب هذه الدعوى .
4- أنه ردّد مراراً في (شبكة الإنترنت) وفي مقابلات صحفية أنه يطلب المناظرة من كل من يعارضه ، وكذب في ذلك ، لأن كاتب هذه السطور طلبها منه فتهرّب ورفض بحججٍ واهيةٍ(2).
وأكاذيبه كثيرة جداً ، وهذه أمثلة فقط !.
الثانية : أنه إذا خاصم فجر :
والأمثلة على ذلك ظاهرة في ردوده على من أصدروا فتاوى في التحذير منه ، فقد تكلم على الشيخ حمود الشعيبي والشيخ علي الخضير والشيخ عبدالله السعد – حفظهم الله - ووصفهم بأنهم من غلاة الغلاة ، وأنهم تكفيريون حرورية ، وهابية ، متعصبون .
رابعاً : مشابهته للسوفسطائية :
وهم فرق ؛ منها فرقة (اللا أدرية) وهم الذين يقولون : لا نعرف شيئاً من ثبوت الموجودات ولا انتفائها ، بل نحن متوقفون في ذلك ؛ لأننا سبرنا المذاهب فوجدنا أهل كل مذهب يدعون العلم بصحة مذهبهم وبطلان المذهب الآخر.
__________
(1) وكتابه هذا (قراءة في كتب العقائد) من أكثر الكتب التي رأيتها كذباً وتحريفاً وبهتاناً ، ولو جمعت ما ذكره من الأكاذيب والافتراءات لطال المقام ، وقد جمع أحد طلبة العلم أكاذيبه وافتراءاته في كتابه ذلك في كتاب سيخرج قريباً إن شاء الله تعالى .
(2) وقد سبق التنبيه إلى هذه المناظرة في المقدمة.(1/6)
ومن يقرأ كلام المالكي في الشرعيات –خصوصاً المتأخر منه – يجده مشابهاً لهذه الفرقة –وإن كان كلامهم في العقليات- ، فهو يقول : إنه سبر المذاهب كلها ووجد كل فرقة تدعي أن الحق معها وأن الأخرى ضالة لذلك فهو لا يجزم بأن هذه الفرقة على الحق والأخرى باطلة ، ومن يرى طريقته في الجدال لرد الحق يعلم مدى شبهه بفرقة (اللاأدرية)!!.
وقد أحسن ابن بدران رحمه الله تعالى في وصفه علاج هذه الفرقة حيث قال(1):
(ومن يناظرهم يبقى في حيرة من أمره لأنهم ينكرون حقيقة الدليل ومقدماته وسائر الأشياء ، فلا يقطعهم إلا الضرب حتى يجدوا ألمه ، والإلقاء في النار حتى يقال لهم (ذوقوا مس سقر)).
خامساً : مشابهته للمعتزلة و الجهمية :
ولا غرابة في هذا ؛ فأصول الزيدية هي أصول المعتزلة في أبواب القدر والأسماء والصفات(2)ونحو ذلك ، فقد جاء من منبته فلا عجب !!، وقد وافقهم في خصال منها :
الأولى : كلامه في الأسماء والصفات بنحو كلام الجهمية في كتابه (قراءة في كتب العقائد) .
__________
(1) حاشيته على (الروضة 1/247) .
(2) لذلك تجده في كتابه في العقائد ذكر أن ملوك بني أمية جبرية – إلا يزيد بن الوليد - ، وهذا نفسه كلام المعتزلة فإن يزيد بن الوليد يجعلونه من القدرية في (طبقات المعتزلة) ، والقدرية يسمون أهل السنة جبرية .
وكذلك في كتابه ذلك أثنى على عمر بن عبد العزيز في الدولة الأموية ، وعلى المأمون – فقط – في الدولة العباسية ، ومن المعلوم أن المأمون تميز عن غيره من خلفاء بني العباس بأمرين هما : الاعتزال والتشيع !!.(1/7)
الثانية : وصفه أهل السنة بأنهم مجسمة ومشبهة(1)، ومن صفات الجهمية وصفهم لأهل السنة والجماعة بأنهم (مشبهة أو مجسمة أو حشوية).
الثالثة : حقده على أئمة السنة كالإمام أحمد وابنه عبد الله والبربهاري وشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم الذين ألجموا الجهمية وكبتوهم.
الرابعة : تعظيمه لأئمة الجهمية والقدرية كالجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان القدري ، وتكذيبه لما ينسب إليهم ولو كان الناقل ممن أجمع على عدالته وأمانته.
سادساً : مشابهته لأهل الكلام :
وقد أشبههم في خصلتين :
الأولى : نهمته في التشكيك ، فتجده يشكك دائماً في المسلمات والثوابت ، ويورد الشبه في كثير من المسائل في التوحيد والإيمان والصحابة وأقوال السلف وصحة الأحاديث ومجريات التاريخ وغير ذلك ، فلا يخرج له كتاب أو رسالة إلا في الهدم و التشكيك ، وهذه من صفات المتكلمين الذين ذمهم السلف رحمهم الله .
الثانية : أن رأس ماله من العلم هو الاعتراض ، والقدح في الأدلة ، والجدل المذموم ، وإيراد الشبه ، وهذا رأس مال المتكلمين ، وهو ليس من العلم في شيء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله –عن المتكلمين-(2):
(
__________
(1) والعجيب أنه ببغاء يهرف بما لا يعرف ، فهو يقول عن حديث (خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر ) إنه تجسيم ، وأين التجسيم في ذلك؟! إن كان ذكر الذراعين والصدر تجسيماً فذكر اليدين والعين والوجه والساق والقدم والأصابع وغيرها من الثابت في النصوص تجسيم !! وعليه فكتاب الله كتاب تجسيم – كما نطق به بعض سلفه من الجهمية - . وإنما التجسيم – على فرض صحة العبارة – عندما يقال يد كيد أو وجه كوجه . والكلام على مثل هذه الأحاديث يكون في إثبات الصحة أو الضعف ، لا في هرائه بما لا يفهمه!!.
(2) الفتاوى (4/27) .(1/8)
أنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً وأضعف الناس علماً ويقيناً ، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا . وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل ومن المعلوم : أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة ، وأحسن أحوال صاحبه : أن يكون بمنزلة العامي وإنما العلم في جواب السؤال . ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر).
سابعاً : مشابهته للقبوريين :
ويظهر هذا جلياً في كتابه (نقض كشف الشبهات) حيث أعاد ما قاله أسلافه من علماء القبوريين كابن جرجيس والزهاوي ودحلان ونحوهم ، في الدفاع عن المشركين و عباد القبور ، ورمي أهل التوحيد بالغلو ومذهب الخوارج والتكفير بغير حق ، فأشبه القبوريين في أمور كثيرة منها:
الأول : أنه لا يفرق بين التوحيد والشرك .
الثاني : أنه لا يفرق بين توحيد الربوبية والألوهية .
الثالث : رميه أئمة الدعوة بأنهم خوارج لتكفيرهم عباد القبور .
الرابع : جعله عباد القبور من المؤمنين .
الخامس : جعله طلب الشفاعة من القبر – من الأمور الجزئية اليسيرة - .
ثامناً : مشابهته للمرجئة :
فهو يشبه غلاة المرجئة (الكرامية) الذين يقولون بأن الإيمان هو القول فقط ، فمن نطق بالشهادة فهو مؤمن عندهم .
وتقريرات المالكي في كتابيه (قراءة في كتب العقائد) و (نقض كشف الشبهات) جارية على هذا القول ، حيث يرد تكفير سلفنا من أهل السنة رحمهم الله تعالى لسلفه من أهل البدعة والضلالة بأن سلفه (الجهم والجعد وغيلان ونحوهم) مؤمنون ينطقون الشهادة !!.
ويرد على تكفير أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله لعباد القبور بنحو هذا أيضاً!!.
تاسعاً : مشابهته لليهود :
وهو أنهم قومٌ بهت :(1/9)
كما ثبت في الصحيح عندما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، إن اليهود قومٌ بهت ، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي . فجاءت اليهود ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيّ رجل عبد الله بن سلام ؟. قالوا: خيرنا وابن خيرنا ، وأفضلنا وابن أفضلنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أرأيتم إن أسلم ؟. قالوا : أعاذه الله من ذلك . فأعاد عليهم ، فقالوا مثل ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . قالوا : شرنا وابن شرنا ، وتنقصوه .
وطريقة المالكي مع موافقيه ومخالفيه هي طريقة اليهود في هذا ، وهي منه على وجهين :
الوجه الأول : كلامه على النوع وإن اختلف الشخص:
فمن وافقه على بدعته مدحه ولو كان مبتدعاً ، ومن خالف بدعته سبه ولو كان سنياً ، ومثال ذلك :
أن الشيعي العلوي الصوفي (محمد بن عقيل الحضرمي ) لما ألف كتابين في شتم معاوية – رضي الله عنه وأخزى مبغضيه – وصفه هذا (المحقق المالكي) بأنه (عالم سني)(1).
ولما خالفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا ، وصفه بأنه ناصبي !!.(2)
الوجه الثاني : كلامه على الشخص الواحد :
فهو يتكلم في الشخص الواحد أحياناً كما تكلم اليهود في عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، فإذا وافقه أو سكت عليه مدحه ، وإذا خالف بدعته أو تكلم فيه سبه :
ومن أمثلة ذلك موقفه من الشيخ عبد الله السعد – وفقه الله - ، فإن المالكي أثنى عليه ومدحه في مجالس ، ومدحه على صفحات الجرايد ، ثم بعد أن أصدر الشيخ عبد الله فتواه في المالكي وصفه بأنه تكفيري من غلاة الوهابية ، واتهمه بتصحيح الأحاديث الموضوعة في سبيل نصرة الغلو الحنبلي ..
عاشراً : مشابهته للمستشرقين :
__________
(1) مذكرته في الصحابة) ص 51 .
(2) مذكرته عن الصحابة) ص 74 ، وانظر الرد عليه في كتاب الشيخ سليمان الخراشي – وفقه الله – (ابن تيمية لم يكن ناصبيا) .(1/10)
وقد أشبههم في خصال منها :
الأولى : أن كثيراً من المستشرقين سعوا في بحوثهم إلى زعزعة الثقة بالعقيدة الإسلامية الصحيحة بإيراد الشبهات ، وبحوث المالكي في الصحابة وكتب العقائد والردود على أئمة الدعوة وغيرها هذا مؤداها .
الثانية : أن كثيراً من المستشرقين شككوا في روايات كتب الصحاح والسنن ، وهذه نظرية ينشرها المالكي ، وصرّح بأن الصحيحين فيهما دس وكذب !! .
الثالثة : أن جملة من المستشرقين ذكروا أن كثيراً من الأحاديث الصحيحة والاختلافات العقدية إنما هي من نتاج الصراعات السياسة ، وهذا ما يدندن عليه المالكي خصوصاً في كتابه (قراءة في كتب العقائد) .
الرابعة : أن كثيراً من المستشرقين رموا رجال القرون المفضلة بالكذب في الحديث ، وهذه مرحلة لم يبق على المالكي إلا اليسير جداً ويصلها ، لأنه وصف رجال القرون المفضلة بالظلم والهوى واتباع أهواء السلاطين ، وهذا مؤداه – في الحقيقة – إلى تكذيبهم في نقلهم !!.
وبعد هذا :
فالرد على الشبه التي أثارها إنما يكون بمعرفة أقوال أسياده المبتدعة أصحاب هذه الشبه الأصليين ، ثم الرجوع إلى ردود أهل العلم عليهم :
1- فكلامه على الصحابة والفتن التي جرت بينهم أصله مأخوذ من كتب الروافض والزيدية ونحوهم ، وقد رد عليهم العلماء في كتب كثيرة منها (العواصم) لابن العربي و (المنهاج) لشيخ الإسلام وغيرها ومن أفضل ما ألف في هذا الباب في وقتنا كتاب (تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة) للشيخ محمد أمحزون جزاه الله خيراً.
2-وكلامه على الأسماء والصفات أصله مأخوذ من كتب الجهمية –على اختلاف فرقهم- ، وقد رد عليهم العلماء أيضاً في كتب كثيرة ، ولعل أعظم هذه الكتب وأهمها كتب شيخ الإسلام (درء التعارض) و (نقض التأسيس) و غيرها .(1/11)
3-وكلامه في كتب أئمة الدعوة ووصفهم بالتكفير وقتال المسلمين والغلو إنما أخذه من كتب علماء القبورية كابن جرجيس وغيره ، وقد رد عليهم العلماء كالشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف والألوسي وغيرهم .
4-وكلامه في أئمة السلف وقدحه فيهم ووصفه لهم بالظلم والاعتداء والافتراء إنما أخذه من كتب الكوثري وأمثاله ، وقد رد عليه المعلمي رحمه الله في (التنكيل) .
5-وكلامه على أحاديث الصحيحين وتشكيكه في صحتها مأخوذ من المستشرقين ، وقد رد عليهم كثير من المعاصرين .
وهكذا غيرها من البدع التي تلقفها ونشرها ، فهو ببغاء يردد ما ردده السابقون من أهل البدع ، إلا أن السابقين يتميزون عنه بأنهم يعرفون على أي مذهب هم ، وإن كان مذهبهم باطلاً ، أما هذا الرجل فهو كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، لا يدري ماذا يعتقد ، ولا إلى أي فرقة ينتمي ، ولا بأي برهان يحتج ، يؤصل اليوم ما ينقضه غداً ، رأس ماله معاول هدم ، وإيحاء شياطين ، وزخرف قول .
وبالنظر إلى هذا وأمثاله من شياطين الإنس يعرف المسلم عظيم نعمة الله عليه ، فلله الحمد والمنة :
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن
الفصل الثاني :
في أصول تكشف شبهات المالكي في التوحيد والشرك:
سبق أن ذكرت أن المالكي أحقر من أن ينفرد ببدعة ، وأنه إنما (اجتر) بدعاً قيلت قبله ، فكل رد من أهل العلم على تلك البدع هو في حقيقته رد عليه وعلى أمثاله من السرّاق .
ومن ضمن البدع التي اجترها ممن قبله بدع القبوريين وجهالاتهم في الرد على أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله تعالى في تكفيرهم عباد القبور .
وفي هذا الفصل سأذكر أربعة أصول تكشف شبهاته إن شاء الله تعالى .
الأصل الأول
أن توحيد العبادة هو أساس دعوة الرسل وهو أصل الأعمال(1/12)
فأساس الدين وأصله وبدايته ومنتهاه هو توحيد الله بأفعال العباد ، فيوحد الله سبحانه ولا يشرك به شيئاً بالدعاء والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة وغيرها من العبادات ، وقد جاءت دعوة الرسل كلهم بهذا ، فقد قال الله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ، وقال تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) ، وقال تعالى عن نوح عليه السلام (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، وقال تعالى عن هود عليه السلام (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، وقال تعالى عن صالح عليه السلام (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، وقال عن إبراهيم عليه السلام ( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه) ، وقال تعالى عن شعيب عليه السلام (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام (يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ) .
وفي الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : إنك تقدم على قوم أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل) .
وفي الصحيح عن أبي مالك عن أبيه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة .(1/13)
فظهر من هذه النصوص أن أصل دعوة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم هو توحيد الله سبحانه وتعالى ، وإخلاص العبادة له وحده ، فلا يشرك معه غيره ، فلا يكون أحد متبعاً الرسل إلا بتحقيق هذا التوحيد.
الأصل الثاني
أن الإيمان بتوحيد الربوبية لا ينفي الشرك
اعلم أن الإيمان بأن الله هو الخالق الرازق المدبر وأنه هو الضار النافع – وهو توحيد الربوبية- لا ينفي الشرك ، ولا يكفي في الدخول في الإسلام ، بل لا بد من توحيد الله بالعبادة (وهو توحيده بأفعال العباد كالدعاء والذبح والنذر وغيرها من العبادات –كما سبق ذكره في الأصل الأول - ) .
والدليل على ذلك أن عامة المشركين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية ولم يدخلهم ذلك في الإسلام ، ولم يخرجهم من كونهم مشركين ، وهذا أمر معلوم بالتواتر .
والأدلة على ذلك كثيرة من النصوص الشرعية ، والتاريخ :
فمن النصوص :
وردت آيات كثيرة في إقرار المشركين بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المدبر ، وهي على أقسام :
القسم الأول :
أن الله سبحانه أخبر أنهم لو سئلوا عن الربوبية لأقروا بها :
كقوله تعالى )قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) .
وكقوله تعالى )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) .
وكقوله تعالى )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) .(1/14)
وكقوله تعالى )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .
وكقوله تعالى )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) .
وكقوله تعالى )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) .
وكقوله تعالى )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) .
وكقوله تعالى )قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) .
القسم الثاني :
أن الله سبحانه ذكر عنهم بعض عباداتهم لله التي يشركون معه فيها غيره:
كقوله تعالى )وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) .
وكقوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) .
قال ابن عباس –في تفسيرها - : من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء ؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله ، وهم مشركون .
وكقوله تعالى ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) .(1/15)
وكقوله تعالى )وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) .
القسم الثالث :
أن الله سبحانه ذكر عنهم أنهم يخلصون العبادة له أحياناً :
كقوله تعالى )فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) .
وكقوله تعالى )وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً) .
وكقوله تعالى )وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وكقوله تعالى )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .
وكقوله تعالى )وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .
وكقوله تعالى )وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) .(1/16)
فإذا تأملت في النصوص السابقة تبين لك – بالضرورة – أن المشركين كانوا يؤمنون بوجود الله سبحانه ويقرون بربوبيته وأنه الخالق الرازق ، وكانوا يعبدونه ، ولكنهم كانوا لا يخلصون العبادة له وحده بل يشركون معه غيره ، فلم يخرجهم هذا من الشرك ، ولم ينجهم من العذاب.
وأما من التاريخ :
فقد تواتر في كتب السير والأدب والشعر والقصص وغيرها عن العرب في جاهليتهم إقرارهم بربوبية الله سبحانه ، وأنهم كانوا يتعبدون له –على شركهم - ، وكانوا يحجون بيته العتيق ، و يحرمون الأشهر الحرم ، ويعظمون البيت ، ويقسمون بالله ، ومن تلبيتهم في حجهم قولهم (لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ، وقصة عبد المطلب مشهورة لما قابل أبرهة لما أراد أن يهدم البيت فقال له (أنا رب الإبل ، وللبيت رب يحميه) ، وهذا أمر مشهور جداً لا ينكره إلا جاهل.
ومن المذكور في أشعار الجاهليين :
قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ، ومهما يكتم الله يعلم
وقول عبيد بن الأبرص في معلقته :
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
وقال أوس بن حجر:
وباللات والعزى ومن دان دينها وبالله إن الله منهن أكبر
وقال عنتر بن شداد:
يا عبل أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
وقال حاتم الطائي :
سقى الله رب الناس سحاً وديمة جنوب السراة من مآب إلى زغر
وقال خداش بن زهير العامري :
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وقال النابغة الذبياني :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب(1)
__________
(1) بهذا التقرير يتبين لك جهل المالكي الفاضح الذي زعم في (نقضه الخبيث على كشف الشبهات) أن مشركي قريش لم يكونوا يؤمنون بربوبية الله سبحانه ، مع ورود ذلك وتواتره في الكتاب والسنة وأشعار العرب وقصصهم ، ولكن كما قال الشاعر :
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها(1/17)
وأخبارهم وأشعارهم كثيرة ، وفيما سبق كفاية لمن طلب الحق .
فتبين لك مما سبق أن مشركي مكة الذين بعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو ربهم وخالقهم ورازقهم ، ولكن ذلك لم يدخلهم الإسلام ، بل كان لا بد من إفراده بتوحيد العبادة وهو الأصل الأول .
الأصل الثالث
أن التوحيد إذا انتقض بطلت جميع الأعمال ولو كثرت
اعلم أنه لا ينفع العبد صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا صلة ولا غيرها من الأعمال إذا فسد توحيده وانتقض بالشرك أو غيره من نواقضه ، كما أنه لا ينتفع المصلي بصلاته وخشوعه وطول ركوعه وسجوده وقراءته إذا انتقض وضوؤه ولو بمثل رأس الإبرة من البول !!.
والأدلة على ذلك كثيرة منها :
قوله تعالى عن أعمال الكفار (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) .
وقوله تعالى (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) .
فإن قال قائل : ولكن هذا في الكفار الأصليين .
قيل : بل ذكر الله سبحانه ما هو أبلغ من ذلك ، فقد ذكر عن أنبيائه عليهم السلام وهم أفضل الخلق وأكرمهم وأعظمهم أعمالاً أنهم لو أشركوا لحبطت أعمالهم :
فإن الله سبحانه لما ذكر الأنبياء (نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وزكريا ويحيى وإلياس وداود وسليمان و أيوب ويوسف وهارون واليسع ويونس ولوطاً) عليهم السلام قال (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) .
بل وقال تعالى عن سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) .
فإذا كان الأنبياء وهم معصومون من الشرك ذكر الله ذلك عنهم ، فغيرهم من باب أولى .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت :
قلت : يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذاك نافعه؟.(1/18)
قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين(1).
إذا تبين لك هذا ، فاعلم أن الرجل إذا كان يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويعتمر ويجاهد ويصل الرحم ويفعل الخير ولكنه يصرف بعض عباداته للأولياء أو الأنبياء أو القبور أو الأشجار أو الأحجار من دعاء – يسميه توسلاً – أو ذبح أو نذر أو غيره فهو مشرك لا ينفعه هذا العمل كما لم ينفع سلفه من المشركين ، و إن مات على ذلك فهو ممن قال الله فيهم (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فحعلناه هباء منثورا) ، فإن الله سبحانه لا يغفر هذا الشرك أبداً كما قال تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وكما قال تعالى (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) .(2)
الأصل الرابع
أن التوحيد ينتقض بناقض واحد فأكثر
__________
(1) المقصود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا هو التنبيه إلى أنه لم يخلص العبادة لله سبحانه وتعالى ، لأن الكافر لو قال هذه الكلمة (رب اغفر لي خطيتئ يوم الدين) - فقط - لم يخرج من الشرك بإجماع السنة والزيدية والروافض والخوارج والمعتزلة وغيرهم ، لأنه لا بد أن يأتي بالشهادتين ، فتبين أن المراد من ذكر هذه الكلمة هو التنبيه إلى أصل العبادة .
(2) إذا فهمت هذا الأصل تبين لك جهل المالكي الذي دافع عن عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون إلى آخر هرائه ، و يقال له أيضاً : ما تقول في رجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدي الأركان وغيرها ، ولكنه يسب الله والرسول ويطأ المصحف ؟!.
إن قلت : هو مؤمن فقد خرجت عن إجماع المسلمين كلهم – حتى سلفك من الجهمية والزيدية والمعتزلة – فإنهم يقولون إن فعله هذا كفر .
وإن قلت : هذا كفر ، قلنا : فلم لم تنظر إلى نطقه بالشهادة وقيامه ببقية الأركان؟؟!! .
إن قلت : لأنه أتى ناقضاً من نواقض الإسلام . قلنا : وكذلك من صرف عبادة لغير الله ولا فرق.(1/19)
اعلم أن التوحيد ينتقض بناقض واحد فأكثر من نواقض الإسلام ؛ كالشرك مثلاً ، أو إنكار النبوة ، أو الاستهزاء بالدين ، أو جحد البعث ونحو ذلك ، فمن أشرك فقد انتقض توحيده ، ومن أنكر النبوة أو شيئاً منها فقد انتقض توحيده ، ومن أنكر المعاد فقد انتقض توحيده ، ومن سب الله أو رسوله أو دينه فقد انتقض توحيده وهكذا ، و ذلك كما أن الطهارة تنتقض بناقض واحدٍ من نواقضها كبول أو غائط أو ريح أو غيره ، وكما أن الصيام يبطل بناقض واحد كالأكل أو الشرب أو الجماع ، فيكفي لنقض الأصل ناقض واحد من نواقضه.
ويدل على هذا إجماع المسلمين –على اختلاف فرقهم من أهل السنة والأشعرية والخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرهم - في أن من صدر عنه ما ينقض الإسلام فإنه يرتد بذلك ولا يلزم أن يجتمع فيه عدد من النواقض حتى يحكم عليه بالكفر ، وهذا ما يقرره العلماء في كتب الفقه في أبواب حكم المرتد.
فإذا فهمت هذا الأصل تبين لك جهل من يقول : إن شرك العرب ليس فقط بسبب اتخاذ الوسطاء بينهم وبين الله ، بل هم مع ذلك ينكرون النبوة والبعث !!(1).
__________
(1) قاله المالكي في (نقضه الخبيث) ، حيث ردّ على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الذي قرّر أن كفار قريش كانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ومع ذلك لم ينفعهم لأنهم أشركوا في العبادة وجعلوا بينهم وبين الله وسائط .
فردّ هذا الأحمق بقوله : إن كفار مكة كانوا ينكرون البعث أيضاً ويكذبون النبي - صلى الله عليه وسلم - !! . فعلى قياسه لا يكفر المسلم حتى يجتمع فيه كفر قريش كله من عبادة الأصنام وإنكار البعث والنبوة !!!!.
ومقتضى كلامه أن مشركي قريش لو أقروا بالنبوة والبعث فإنهم يدخلون بذلك في الإسلام وإن لم يتركوا عبادة الأوثان واتخاذها وسائط وشفعاء .(1/20)
فإن هذا القول من أفسد الأقوال وأبطلها ؛ إذ يلزم عليه أن لا يحكم بالردة على أحد حتى يجمع ما عند الكفار من نواقض ، فيشرك وينكر البعث والنبوة ، وهذا باطل بالإجماع ، فإن هناك من يقر بالبعث ممن بعث فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كأمية بن أبي الصلت واليهود ، وهناك من كفره باتخاذ الوسائط بينهم وبين الله وهؤلاء هم عامة الكفار الذين بعث إليهم الرسل ، فلو أخلص أحد العبادة لله ولكنه أنكر البعث كفر ، ولو أقر بالبعث وأنكر النبوة كفر ، ولو أقر بالنبوة والبعث وأشرك في العبادة كفر ، وهذا أمر ظاهر ولله الحمد.
الفصل الثالث :
في أصول تكشف شبهات المالكي في السنة والبدعة :
من بدع المالكي وشبهاته التي نشرها في كتابه (قراءة في كتب العقائد) وغيره الدفاع عن أهل البدع والضلالات ، ورمي أئمة أهل السنة والجماعة بالظلم واتباع أهواء السلاطين والافتراء على الخصوم وغير ذلك ، والتحذير من كتب عقائد أهل السنة والجماعة ككتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد و (السنة) للخلال و غيرهما ، والزعم بأن الخلاف بين الفرق الإسلامية خلاف محتمل لا يقتضي تبديعاً ولا تفسيقاً ولا تكفيراً .
وفي هذا الفصل سأذكر اثني عشر أصلاً تكشف شبهاته في هذه المسائل .
الأصل الأول :
أن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية
وسوف أذكر ها هنا أربع مقدمات :
المقدمة الأولى : إثبات تفرق الأمة وتغييرهم سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
المقدمة الثانية : إثبات أن هذا التفرق مذموم :
والمقدمة الثالثة : إثبات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بين الفرقة الناجية :
والمقدمة الرابعة : إثبات أن هذه الفرقة باقية في جميع الأعصار :
المقدمة الأولى :
إثبات تفرق الأمة وتغييرهم سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
والدليل على حصول هذا التفرق من الشرع والواقع :
أما من الشرع :(1/21)
فقد قال الله تعالى عن أهل الكتاب )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وقال تعالى عنهم )وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) .
وقال تعالى أيضاً )إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
وقال تعالى )مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) .
والآيات التي تثبت تفرق أهل الكتاب وتفرقهم من بعد ما جاءتهم البينات وتذمهم على ذلك كثيرة جداً .
وقد ورد في السنة عدد من الأحاديث التي تثبت أن هذه الأمة ستسلك مسلك أهل الكتاب ؛ منها :
ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟. قال : فمن ؟.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع . فقيل : يا رسول الله ، كفارس والروم . فقال : ومن الناس إلا أولئك ؟.
وقد جاء في السنة أيضاً التصريح بتفرق هذه الأمة واختلافها بعده ، ومن ذلك :
ما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم : ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : سحقاً ، سحقاً ).
وفي الصحيحين نحوه هذا اللفظ أيضاً من حديث أنس وأبي سعيد وغيرهما رضي الله عنهم.(1/22)
و في السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة .
وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو ثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) وصححه الترمذي ، وروي من حديث ابن عمرو بن العاص (كلهم في النار إلا ملة واحدة) قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي . رواه الترمذي وحسنه .
وغير ذلك من النصوص .
وأما الواقع :
فيدل عليه ما نراه من تفرق هذه الأمة ، والعيان يغني عن البرهان ، فقد تفرقت الأمة إلى أشاعرة وماتريدية وزيدية وإباضية ورافضة ونصيرية وإسماعيلية ودروز وبهائية وقاديانية وغيرها من الفرق .
والمقدمة الثانية :
إثبات أن هذا التفرق مذموم :
فقد سبق ذكر الآيات التي تحذر من التفرق والاختلاف في الدين :
كقوله تعالى أيضاً )إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
وقوله تعالى )مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) .
وقوله تعالى)وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وسبق في حديث العرباض حثهم على ترك الاختلاف والتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين ، وحديث السبعين فرقة وفيها أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة .(1/23)
وسيأتي مزيد من الأدلة إن شاء الله تعالى في المقدمة الثالثة وفي الأصل الثاني.
المقدمة الثالثة :
إثبات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بين الفرقة الناجية وأنها أهل السنة والجماعة:
والدليل على ذلك من العقل واللغة والشرع :
أما من العقل:
فمن ثلاثة وجوه :
الأول : أنه لا يمكن أن يبين الله سبحانه لنا أمور الدنيا كالفرائض والمواريث ولا يبين لنا الحق فيما نعتقده ونؤمن به ، حتى يقال : إننا لا ندري أين الحق في هذا الاختلاف والتفرق لأن كل فرقة تدعي أن الحق معها وأن من خالفها فهو ضال ، لا شك أن هذا من باب سوء الظن برب العالمين وأنه لم يتم نعمته علينا .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته هم الذين خوطبوا بالوحي ، وهم الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة ، ووعدهم الله بالحسنى ، وهم الذين نشروا الإسلام ، ورووا السنن ، فعلم أن الحق معهم ، وأن من اتبعهم واهتدى بهديهم فهو على طريقهم وصراطهم لم يفرّق دينه ويفارق الجماعة ، وهؤلاء هم أهل السنة والجماعة.
الثالث : أنه لا يوجد نص من الكتاب أو السنة أو أمر اتفق عليه الصحابة والتابعون وخالفه أهل السنة والجماعة ، بينما لا تجد فرقة من أهل البدع إلا وخالفت نصوصاً وأصولاً .
وأما من اللغة :
فلفظ : (الفرقة) و (التفرق) إنما يأتي بعد (اجتماع) ، فلا يقال : فارق فلان فلاناً إلا إذا كانا مجتمعين ثم تفارقا .
ومن المعلوم أن أول الفرقة حصلت بعد الفتنة في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، فمن أراد الحق وتجنب الفرقة بقي على ما كان عليه المسلمون قبل حصول الافتراق ، وهذا ليس لغير أهل السنة والجماعة فإنهم هم الذين حرصوا على اتباع هدي الصحابة رضوان الله عليهم.
وأما من الشرع :
فقد دل على ذلك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة :
فمن الكتاب :
قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وهذه الآية تدل على وضوح السبيل من وجوه :(1/24)
الأول : أن الله سبحانه قد أكمل الدين ، فمن ابتدع فيه فزاد أو نقص فقد انحرف عن هذا الدين بحسب بدعته ، ومن بقي على ذلك الدين الكامل فهو على الصراط المستقيم ، وليس هناك جماعة متبعة غير مبتدعة في أمورها كلها غير أهل السنة والجماعة.
الثاني : أن الله قال (وأتممت عليكم نعمتي) ومن أعظم النعم معرفة الحق عند الاختلاف.
الثالث : أن الله قال (ورضيت لكم الإسلام دينا) والإسلام الذي رضاه هو ما أنزله على رسوله وعمل به الصحابة رضوان الله عليهم .
وقال تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ، وهذه الآية تدل على أن إقامة الدين كله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق ، وأن من ترك بعضه أو غير بعضه فقد تفرق فيه ، ولم يقم بالدين كله غير أهل السنة والجماعة.
وقال تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) ، فدلت هذه الآية على أن الافتراق في الدين مذموم ، ولا يكون الحق إلا مع ترك الفرقة ، وذلك لا يكون إلا بالبقاء على الدين المنزل كما جاء .
وقوله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ، وهذه تدل على أن البقاء على الصراط المستقيم هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأن من خالفه أو خالف بعضه أو غيره فقد اتبع السبل ، وقد قال مجاهد : السبل : البدع والشبهات.
وقال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) ، ومن المعلوم أن أولى الناس بالدخول في المؤمنين هم الصحابة رضي الله عنهم ، فمن شاق الرسول في بعض ما جاء به وخالف ما عليه الصحابة فهو داخل في الوعيد .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وأما من السنة :(1/25)
ففي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم) .
وهذا ظاهر بأن خير الجماعات ما اهتدت بهدي القرن الأول ، وليس هذا لغير أهل السنة والجماعة .
وما ورد في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه السابق قال : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة .
فقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحق عند الاختلاف يكون بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين.
وفي المسند عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده ، ثم قال : هذا سبيل الله ، وخط عن يمينه وشماله ، ثم قال : هذه السبل ، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) .
فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا أن البقاء على الصراط المستقيم وترك السبل – وهي البدع والشبهات – هو سبيل الله .
وروى ابن جرير أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم؟. قال : تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جوادّ ، وعن يساره جوادّ ، ثمّ رجال يدعون من مر بهم ، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).(1/26)
وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو ثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) وصححه الترمذي ، وروي من حديث ابن عمرو بن العاص (كلهم في النار إلا ملة واحدة) قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي . رواه الترمذي وحسنه .
فقد ذكر هنا الفرقة الناجية وأنها ما كانت على هديه هو وأصحابه ، وهذا موافق لما سبق من النصوص ، وأقوال الصحابة والتابعين في بيان هذا كثيرة جداً ، وفيما سبق كفاية لطالب الحق.
وسوف أنقل هنا كلاماً لرجلٍ لا يتهم بمحاباة أهل السنة ولا يقال إنه من غلاة الحنابلة أو من الحنابلة ، بل وليس مذهبه قريباً من مذهب السنة ، فهو فيلسوف من الفلاسفة وأعني به أبا الوليد ابن رشد حيث قال في كتابه (مناهج الأدلة في عقائد الملة) ص 181 – بعد كلام سبق عن تأويلات الفرق:
(وهذه هي حال الفرق الحادثة في الشريعة مع الشريعة ، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى ، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع ، حتى تمزق الشرع كل ممزق ، وبعُد جداً عن موضوعه الأول ، ولما علم صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال : "ستفترق أمتي على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" يعني بالواحدة : التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله ، وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح ، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم : الخوارج ، ثم المعتزلة بعدهم ، ثم الأشعرية ، ثم الصوفية ، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى).
المقدمة الرابعة :
إثبات أن هذه الفرقة باقية في جميع الأعصار :(1/27)
إذا تبين لك من المقدمات السابقة أن التفرق مذموم ، وأن الجماعة التي على الحق واحدة ، فاعلم أنه قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها باقية في جميع الأعصار :
ويدل عليه ما رواه الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)
وفي الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ).
وفي مسلم عن ثوبان (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ).
وهذا يبين لك أنه لا يخلو زمان من هذه الطائفة ، ولتعلم أن الله سبحانه أجل وأعظم وأحكم من أن يجعل أمر هذه الطائفة ملتبساً فلا ندري أين هي ؟ ولا على أي هدي ؟ بل قد أقام الدلائل التي تبين ذلك كله كما سبق في المقدمة الثالثة .
وهذه الأحاديث تدل على أن الحق لايعدوا هذه الطائفة الظاهرة على الحق والقائمة بأمر الله ، وأن ماسواها من الطوائف قد تخطئ في شيء وتصيب في شيء ، لكن لايجوز أن يكون عند إحدى هذه الطوائف حق فات الطائفة الظاهرة جميعها ، وإن جاز أن يفوت الحق بعض أفرادها.
وبهذا يتبين بطلان مايلبس به المالكي من دعوى أن جميع الطوائف ـ بما في ذلك أهل السنة ـ عندهم حق وباطل ، فيجعل أهل السنة بمنزلة غيرهم ، ويجوِّز أن يكون ثمة حق فاتهم جميعاً ، وأصابه مخالفوهم ممن ضل الطريق .
الأصل الثاني :
أن أهل السنة والجماعة يعرفون بموافقة الكتاب والسنة وهدي الصحابة(1/28)
اعلم أن الطريق لمعرفة من هم أهل السنة والجماعة هو عرض أقوالهم وأفعالهم وهديهم على الكتاب والسنة وهدي الصحابة ، فأي عالم عرف بتعظيم الكتاب والسنة وهدي الصحابة فهو من أهل السنة والجماعة ، ومن خالف شيئاً من ذلك ففيه من البدعة بحسب مخالفته – وإن كان لا يعد من أهل البدع إلا إذا خالفهم في أصولهم - .
لذلك فقد أجمع أهل العلم على الثناء على أئمة معروفين بالاتباع والاقتداء ، ووصفوهم بأنهم أئمة أهل السنة والجماعة كالإمام مالك وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه والشافعي وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأبي داود والترمذي ونحوهم رحمهم الله تعالى .
ومما يميز أهل السنة عن غيرهم ، أن مذهبهم لا يعرف له مؤسس ابتدعه ، وليس لنشأته بداية متأخرة عن عصر النبوة ، بل مذهبهم هو الأصل ، وعنه تفرقت سائر الفرق . وجميع النحل الضالة معروفة نشأتها وكيف أحدثت أقوالها ، ومن أول من قال بضلالاتها :
فالتشيع نشأ بالكوفة ، ومذهب الخوارج نشأ بحروراء ، ومذهب النواصب نشأ بالشام ، وجميع هذه المذاهب نشأت بعد الفتنة .
ومذهب المعتزلة أسسه واصل بن عطاء ، ومذهب الجهمية أسسه الجهم بن صفوان ، ومذهب الأشاعرة أسسه أبو الحسن الأشعري ، ومذهب الكلابية أسسه عبدالله بن سعيد بن كلاب ، ومذهب الكرامية أسسه محمد بن كرام ، ومذهب الزيدية أسسه إلى زيد بن علي .
وهكذا سائر الفرق ، لا تجد منها فرقة إلا وهي منسوبة إلى بلد ، أو مؤسس ، أو تاريخ نشأة.
وأما أهل السنة والجماعة ، فمذهبهم هو الأصل الذي انشقت عنه تلك الفرق ، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ في الوقت الفلاني , أو البلد الفلاني .
كما لايمكن أن ينسب مذهب أهل السنة إلى عالم مهما بلغت رتبته ، بل هو مذهب مبني على منهاج النبوة ، وماكان عليه الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ .(1/29)
وإذا تقرر هذا ، تبين لك مكر المالكي في نسبته أقوال أهل السنة إلى الحنابلة ، مع أنها معروفة قبلهم ، فهو يريد بهذا أن يجعل مذهب أهل السنة كغيره من سائر المذاهب والفرق الحادثة ، ليتسنى له بعد ذلك نقده ونقضه بحجة كونه اجتهاداً كغيره من اجتهادات الفرق الأخرى .
الأصل الثالث
أن أفراد أهل السنة والجماعة غير معصومين
اعلم أننا إذا قلنا : إن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية ، وهم أهل الحق ، فلا يعني ذلك أن أفرادهم معصومون لا يقعون في الخطأ ، بل لا تكاد تجدا أحداً منهم إلا وقد أخطأ في مسائل ، ولا يضره ذلك ، فإن النقص صفة للبشر .
وذلك مثل الصحابة تماماً ، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في مسائل كثيرة ، وخالف بعضهم بعضاً في أمور ، وأخطأ بعضهم في الاجتهاد ، إلا أنهم لا يتفقون على خطأ ، وإذا اتفقوا على أمرٍ فقولهم هو الحق .
لذلك فخطأ الإمام من أهل السنة والجماعة مردود ، ولا ينسب هذا الخطأ لأهل السنة والجماعة ، كما أن الخطأ من الواحد من المسلمين لا ينسب للإسلام .
الأصل الرابع :
أن أهل السنة يتفقون في الأصول وإن اختلفوا في بعض فروع هذه الأصول
إن أهل السنة والجماعة تتفق أصولهم في التوحيد والإيمان ، ولكن قد يختلفون في بعض فروع هذه الأصول لاختلافهم في تحقيق المناط أو لاختلافهم في تصحيح حديث وتضعيفه ونحو ذلك .
مثال ذلك :
أن أصل أهل السنة في الأسماء والصفات معروف وهو الإيمان بجميع ما ثبت في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ثم إنهم بعد هذا قد يختلفون في مسائل معينة وردت لاختلافهم في كونها صفة – مثلاً – أو لا .
فمثلاً : لفظ (ساق) في قوله تعالى (يوم يكشف عن ساق) نكرة غير مضافة ، فلا يظهر من هذه الآية – بمجردها – أنها من آيات الصفات ؛ لذلك فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بأنها : شدة الأمر .(1/30)
ولما كان عند أبي سعيد رضي الله عنه من العلم بهذه الآية ما ليس عند ابن عباس رضي الله عنهما فإنه فسرها بتفسير آخر كما في الصحيحين حيث قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً .
فقول ابن عباس في الآية ليس من باب تحريف الجهمية في شيء ، بل قوله هو ظاهر الآية لولا ما دل عليه الحديث ، ولم يكن عنده علم بالحديث المفسر للآية ، فاختلافهما في الآية ليس بسبب الاختلاف في أصل الصفات .
وكذلك قوله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله ) قال مجاهد والشافعي : قبلة الله ، وجعلها ابن خزيمة من آيات الصفات ، وقول مجاهد والشافعي هذا ليس منازعة في أصل أهل السنة في الأسماء والصفات ، بل لأنهم لا يرون أن هذه الآية من آيات الصفات ، بل هي عندهم من قولهم : قصدت هذا الوجه أي : الجهة ، وقولهم هذا رجحه شيخ الإسلام رحمه الله.
وكذلك أصل أهل السنة في الإيمان معروف وهو أنه قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ثم إنه قد ورد عن الإمام مالك رحمه الله أنه أثبت الزيادة وتوقف في مسألة النقصان ، وليس قوله هذا موافقة منه لقول المرجئة الذين يرون الإيمان شيئاً واحداً ، بل لأنه ورد وصف الإيمان بالزيادة في النصوص الشرعية ولم يرد وصفه بالنقصان .
الأصل الخامس :
أنه لا يوجد خطأ لأحد من أهل السنة إلا وقد رد عليه آخرون من أهل السنة :
اعلم أنه ما من خطأ أخطأ فيه أحد من أهل السنة إلا ورد عليه آخر منهم ، سواء كان الخطأ في أصل أو في فرع أو في استدلال ، فأهل السنة لا يقرون أحداً على خطأ ، وإذا رأيتهم اتفقوا كلهم على قول فهو الحق .
والأمثلة على ذلك كثيرة :(1/31)
فمن ذلك ما رواه الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما بإسناد صحيح عن شريح أنه أنكر قراءة (عجبتُ) - بالضم - ويقول : إن الله لا يعجب ، وإنما يعجب من لا يعلم . قال الأعمش : فذكرته لإبراهيم النخعي فقال : إن شريحاً كان معجباً برأيه ، وإن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم وهو أعلم منه .
وورد عن أبي ثور رحمه الله أنه فسر قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله خلق آدم على صورته) أي على صورة آدم ، فرد عليه الإمام أحمد وغيره .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، وبه يتأكد ما سبق تقريره من أنه لا يمكن أن يفوت الحق أهل السنة جميعهم ، ويكون هذا الحق عند فرقة من الفرق الحادثة المبتدعة دونهم! ، وسيأتي مزيد تفصيل في الأصل الثاني عشر إن شاء الله.
الأصل السادس :
أن الرد عند التنازع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح :
وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) والرد إلى الله الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول الرد إلى سنته – كما قاله المفسرون - .
وأما الأدلة على تقييد فهم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح فكثيرة منها:
أولاً : أن الله سبحانه وتعالى يقول (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ، ومن المعلوم أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم قومه الذين بعث إليهم ، فكان فهمهم له هو الفهم الصحيح .
ثانياً : أن الصحابة رضوان الله عليهم هم المخاطبون بالكتاب والسنة ابتداء ، وكثير من أسباب النزول كانت بسببٍ منهم .
ثالثاً : أن لسانهم وفهمهم للغة كان صحيحاً ، بخلاف من جاء بعدهم فقد فسد لسان العرب بسبب اختلاطهم بالأعاجم .(1/32)
رابعاً : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض – (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، وقوله عن الفرقة الناجية (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ، وقوله (خير القرون قرني ) ، وغيرها من النصوص التي تبين أن الحق مع الصحابة ، ولا يحصل اتباعهم في هديهم إلا إذا فهمنا الكتاب والسنة بفهمهم.
خامساً : أن الله سبحانه وتعالى أقر الصحابة على فهمهم للكتاب والسنة بالإجماع ، وفهمهم له كان واحداً – من حيث الجملة - ، ثم لما افترقت الأمة ادعت كل فرقة أن لها فهماً خاصاً هو الصواب ، ومن المعلوم أن أي فرقة من هذه الفرق لا تستطيع أن تأتي بدليل واحد تثبت فيه أن فهمها أقره الشارع .
فثبت بهذا أن فهم الصحابة قد قام الدليل الشرعي على اعتباره دون غيره.
سادساً : أن أحداً من الناس – بعد فساد لسان العرب – لا يستطيع فهم الكتاب والسنة بمجرد معرفته للسان قومه ، بل لا بد له من الرجوع إلى كتب الشروح والتفسير والغريب واللغة ، بخلاف ما كان عليه الصحابة – في الجملة – فإنهم كانوا يفهمون الكتاب والسنة على سليقتهم – وكثير منهم أميون – دون حاجة إلى مفسّر أو شارحٍ .
سابعاً : أن كل فرقة ضالة تدعي أنها تفهم الكتاب والسنة ، وأنها تستدل بالكتاب والسنة ، مع اختلافهم وتفرقهم ، ولو كان قول هؤلاء الضلال صحيحاً لم يحصل اهتداء بالكتاب والسنة مطلقاً ، ولا يكون الرجوع إليهما قاطعاً للتنازع بين الأمة ، ولا كان لقوله تعالى (فردوه إلى الله والرسول ) أي فائدة ، وهذا باطل .
الأصل السابع
أن الكلام في أئمة أهل السنة والجماعة هدم للإسلام(1/33)
فمن تكلم في أئمة أهل السنة والجماعة كالإمام مالك وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشعبة وسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان والشافعي وأبي عبيد وابن أبي شيبة وأحمد وابنه عبد الله وإسحاق والبخاري والترمذي وأبي داود وأبي حاتم وابنه وأبي زرعة وغيرهم رحمهم الله جميعاً(1)فقد أعان على هدم الإسلام – شعر أم لم يشعر .
وذلك أن الله سبحانه قد سخر هؤلاء لحمل دينه وحفظه وتبليغه للناس ، فهؤلاء هم الذين نقلوا لنا الشرائع ، والأحكام ، والتفسير ، والحديث ، والسنن ، والعقائد ، وهم أئمة الجرح والتعديل ، و أئمة التصحيح والتضعيف ، وهم أساطين الفقه والأحكام ، فمن قدح فيهم فقد قدح في دين الإسلام .
فأي مسلم يستطيع أن يؤدي عباداته لله من غير طريق هؤلاء ؟؟!! .
وأي مسلم له طريق إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحكامه من غير طريق هؤلاء ؟؟!!.
وأي مسلم له طريق لمعرفة الصحيح والضعيف من الحديث من غير طريق هؤلاء؟؟!! .
وأي مسلم يستطيع فهم كتاب الله من غير طريق هؤلاء ؟؟!! .
فمن قدح فيهم فهو رجل زنديق خبيث ، له خبيئة سوء ، إنما يريد هدم الإسلام وشرائعه عن طريق التشكيك في نقلته وحملته.
فإن قال : أنا لا أقدح في أي شيء من ذلك ، ولكني أقدح في كتبهم ورسائلهم في (الاعتقاد) .
__________
(1) وأعني بالكلام هنا هو الكلام على دينهم وعدالتهم ، أما الكلام في حفظ بعضهم أو غلطه في بعض الروايات ونحو هذا فليس مراداً هنا كما هو ظاهر .(1/34)
فيقال له : فمن المعلوم أن أهم أمور المسلم وأعظمها هو اعتقاده وإيمانه بالله ، فإن فسد الاعتقاد فما دونه أعظم فساداً ، وإذا كانوا أصحاب اعتقادات باطلة ، يفتون بالهوى ، ويقتلون محاباة للسلاطين ، وينقلون الكذب نصرة لمذهبهم في الاعتقاد ، فكلامهم في الأحاديث الأخرى ونقلهم لها ، وكلامهم في الجرح والتعديل ، والتصحيح والتضعيف ، كله مبني على اعتقادهم أيضاً ، وإذا كان اعتقادهم فاسداً فلا ثقة في شيء مما نقلوه ، فيعود الأمر إلى ما قيل سابقاً بأن مثل هذا القول هدم للإسلام.
ولا يُشغب على هذا الأصل بجواز الخطأ على الواحد منهم ، فهذا أمر لاينكره عاقل ، فضلاً عن عالم ، لكن فرق بين تخطئة العالم بالدليل ، وبين التشكيك في حملة الشريعة بالظنون الفاسدة ، والتخرصات الكاسدة.
الأصل الثامن
أنه لا اختصاص للحنابلة بعقيدة دون أهل السنة والجماعة
اعلم أن عقيدة أهل السنة قد ظهرت وعرفت قبل ظهور الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، فهي ما عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وإنما رفع الله الإمام أحمد رحمه الله تعالى بسبب قيامه بالسنة ونصرته لها فسمي إماماً لأهل السنة والجماعة ، ولم ينفرد بأي قول من الأقوال أو الاعتقادات دون من سبقه ، كيف وهو القائل (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام)!!.
فالجعد بن درهم كان قتله أيام خالد القسري في ولاية بني أمية قبل ولادة الإمام أحمد . والجهم بن صفوان كان قتله أيام بني أمية أيضاً قبل ولادة الإمام أحمد . وغيلان القدري كان قتله أيام هشام بن عبد الملك قبل ولادة الإمام أحمد . وعمرو بن عبيد إنما تكلم فيه معاصروه من التابعين وتابعيهم قبل ولادة الإمام أحمد . وكذلك القول في واصل بن عطاء ومعبد الجهني وبشر المريسي وغيرهم .(1/35)
وكذلك تشنيع الأئمة على الأقوال المحدثة، كله محفوظ عنهم قبل الإمام أحمد رحمه الله ، فمسألة خلق القرآن والصفات والإنكار على الجهمية قد تكلم فيها من هم أشياخ الإمام أحمد وأشياخ أشياخه كوكيع وعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد ومالك بن أنس وجرير بن حازم وعبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهم وهؤلاء كلهم قبل الإمام أحمد .
وتكلم فيها معاصرو الإمام أحمد كأبي عبيد وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة والبخاري والذهلي والدارمي وغيرهم ، وهم ليسوا حنابلة .
وتكلم فيها من جاء من بعد الإمام أحمد وليس من أصحابه كالدارقطني والسجزي وابن أبي زيد القيرواني والآجري وابن خزيمة والصابوني والإسماعيلي والأشعري وغيرهم .
وإنما أراد بعض الحمقى من أهل البدع كالمالكي وأذنابه أن يتكلم في عقيدة أهل السنة والجماعة فما وجد سبيلاً إلى ذلك إلا أن ينسب هذه العقيدة إلى الحنابلة .
الأصل التاسع
أن كتب العقيدة المسندة كغيرها من كتب الرواية
اعلم أن كتب العقيدة المسندة ككتاب السنة لعبد الله بن أحمد والسنة للخلال والسنة لابن أبي عاصم وكتاب اللالكائي والآجري ونحوها شأنها في الرواية كغيرها من كتب الحديث والتفسير والسنن والآداب والتاريخ ونحوها من الكتب - التي لم يشترط فيها مؤلفوها الصحة – تجمع الأحاديث في الباب الواحد بالإسناد على اختلافها في الصحة والضعف ، وقد كان هذا هو الغالب في عرف أهل العلم ومسلكهم في التصنيف تلك الأزمان.
فمن أراد أن يحذّر من كتب العقيدة من أجل بعض الروايات التي لا تصح فيها فإنه يلزمه أن يحذّر أيضاً من كتب التفسير والسنن والآداب والمصنفات والمسانيد والمعاجم ونحوها من الكتب التي تسوق الأسانيد الصحيحة والضعيفة.
فإن قيل : إن كتب العقيدة لا يتسامح فيها بخلاف غيرها من الكتب .
فالجواب من وجهين :(1/36)
الأول : أنه لا يتسامح في غيرها أيضاً ، فكتاب الله سبحانه أعظم الكتب ، وعلى تفسيره تؤسس العقائد والأحكام والآداب وغير ذلك ، ومع ذلك توجد بعض الأحاديث الضعيفة – بل والموضوعة – في ثنايا كتب التفسير ، والحق في هذا : أن يحذر من هذه الأحاديث دون الكتب !!.
الثاني : أنه ليس عند أهل السنة عقيدة ولا أصل قد أسس على حديث باطل ، وإنما تكون الأحاديث الضعيفة ونحوها من باب ذكر ما في الباب من أحاديث – وإن كان بعضها ضعيفاً - ، مثل نقل كلام الأئمة من التابعين ومن تبعهم في أبواب العقائد ، فهو ليس من باب التأصيل ، بل من باب الاستشهاد ، لذلك فأهل السنة والجماعة لا يضللون من نفى صفة لله سبحانه لأن الحديث المروي فيها لا يصححه ، وإنما يضللون من نفى ذلك بناء على شبه الجهمية المبنية على أقوالهم في : التجسيم والحشو والتشبيه !! .
إذا تبين لك هذا ، علمت أن دعوة المالكي إلى ترك كتب عقائد أهل السنة بهذه الحجة إنما يرمي وراءها إلى أمرين :
الأول : زعزعة ثقة المسلم بدينه وعقيدته ، فهو يحذر من عامة كتب عقائد أهل السنة لعدد محدود من الأحاديث الضعيفة !!.
والثاني : أنه سيتدرج – والله تعالى أعلم – بعد ذلك إلى التحذير من جميع كتب السلف ، ومنها الصحيحان – ، وقدشكّك فعلاً – في مقابلته مع قناة الجزيرة – بأحاديث الصحيحين وذكر أن فيهما دساً وكذباً .
الأصل العاشر
أن أهل البدع مذمومون بحسب قربهم وبعدهم عن الكتاب والسنة
اعلم إن من ابتدع وخالف السنة فهو مذموم بحسب مخالفته لها ، وهذا ثابت في الأدلة الصريحة الواضحة ، وأهل السنة والجماعة رضوان الله عليهم عندما يتكلمون في أهل البدع ويحذرون منهم ويشنعون عليهم ما فعلوا ذلك إلا امتثالاً للنصوص الشرعية ، والأدلة على ذلك كثيرة وهي على قسمين :
القسم الأول : ذم البدع :(1/37)
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم ، ويقول : أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) . وفي النسائي (وكل ضلالة في النار) .
وفي حديث العرباض بن سارية الذي سبق (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود .
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من رغب عن سنتي فليس مني) .
وغيرها من النصوص ، وهي تظهر أن البدع ضلالة ، وأن الضلالة في النار ، وأن البدعة مردودة على صاحبها.
القسم الثاني : ذم أهل البدع :
فإن إنكار البدع وذم أهلها والتحذير منهم أمر ثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ، ولم يقم أهل السنة والجماعة بالإنكار على أهل البدع والتشنيع عليهم إلا اتباعاً لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم ، فأهل السنة لا يقولون بشيء من تلقاء أنفسهم ، بل هم متبعون.
و أول بدعة حصلت في الإسلام هي بدعة الخوارج ، ولذلك ورد ذمهم الشديد في السنة النبوية ومن أقوال الصحابة رضوان الله عليهم :
فمن ذلك ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر - وذكر الحرورية - فقال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية .(1/38)
وقد روي من أكثر من أربعين وجهاً ذم الخوارج –روى مسلم في صحيحه عشرة أوجه وخرج بعضها البخاري- ، وقد ورد في وصفهم (يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) ، وورد في وصف آخر (يقولون من قول خير الناس ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) ، وقال عنهم (شر قتلى تحت أديم السماء) ، وفي لفظ آخر (لئن لقيتهم لأقلتنهم قتل عاد) ، وفي آخر (شر الخلق والخليقة) ، وفي آخر (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم) وغيرها من الألفاظ .
وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله والطيالسي والترمذي وغيرهم من طرق عن أبي غالب – صاحب أبي أمامة- قال : لما أتى برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق ، جاء أبو أمامة فلما رآهم دمعت عيناه ، فقال : كلاب النار - ثلاث مرات - ، هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء ، وخير قتلى قتلوا تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء . قال : فقلت : فما شأنك دمعت عيناك ؟. قال : رحمة لهم ، إنهم كانوا من أهل الإسلام . قال : قلنا : أبرأيك قلت هؤلاء كلاب النار ؟. أو شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟. قال : إني لجرئ ، بل سمعته من رسول الله غير مرة ولا ثنتين ولا ثلاث . قال : فعد مراراً .
وفي مسند الإمام أحمد عن عاصم بن شميخ قال : فرأيت أبا سعيد بعدما كبر ويداه ترتعش يقول : قتالهم أحل عندي من قتال عدتهم من الترك.
فقد حذر منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحث على قتالهم – والقتال أعظم من اللعن والتحذير- مع وصفه لهم بشدة العبادة والقراءة ، واتفق الصحابة رضوان الله عليهم على قتالهم –هذا والخوارج خير من الروافض والقبوريين ونحوهم- .
ولما خرجت الغالية في وقت علي رضي الله عنهم قام بتحريقهم – كما في الصحيح - .(1/39)
ولما خرج صبيغ يسأل عن المتشابه قام إليه عمر فنزع عمامته وقال : لو رأيتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ، ثم ضربه بالعراجين ونفاه .
ولما خرجت القدرية في أواخر وقت الصحابة أنكر ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عليهم ذلك :
فقد روى البيهقي وغيره عن مجاهد قال : أتيت ابن عباس برجلٍ ، فقلت : يا ابن عباس ، هذا يكلمك في القدر . قال : ادنه مني . فقلت : هو ذا ، تريد أن تقتله . قال : إي والذي نفسي بيده ، لو أدنيته مني لوضعت يدي في عنقه فلم يفارقن حتى أدقها .
وللبيهقي وغيره في رواية أخرى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال (أولئك شرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ، ولا تصلوا على موتاهم ، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين) .
وفي صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر قال : أول من تكلم في القدر معبد الجهني . قال : فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حتى أتينا المدينة ، فقلنا : لو لقينا رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما أحدث هؤلاء القوم . قال : فلقينا عبد الله بن عمر وهو خارج من المسجد . قال : فاكتنفته أنا وصاحبي . قال : فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ . فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، إن قوماً يقرؤون القرآن ، ويتقفرون العلم ، ويزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف . قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم برئ وأنهم مني برءاء ، والذي يحلف به عبد الله لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً ما قبل ذلك منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره .(1/40)
وروى الدارمي عن عمرو بن سلمة قال : كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة ، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد ، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال : أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد ؟. قلنا : لا . حتى خرج ، فلما خرج قمنا إليه جميعاً ، فقال له أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته ، ولم أر والحمد لله إلا خيراً . قال : فما هو ؟. فقال : إن عشت فستراه . قال : رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة ، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصا ، فيقول : كبروا مائة فيكبرون مائة ، فيقول : هللوا مائة فيهللون مائة ، ويقول : سبحوا مائة فيسبحون مائة . قال : فماذا قلت لهم ؟. قال : ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك . قال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء .ثم مضى ومضينا معه ، حتى أتى حلقة من تلك الحلق ، فوقف عليهم ، فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟. قالوا : يا أبا عبد الله ، حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح .
قال : فعدوا سيئاتكم ، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم ، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلي ملة هي أهدي من ملة محمد ، أو مفتتحو باب ضلالة.
قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير .
قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم . ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.(1/41)
فيظهر فيما سبق أنه لم تظهر بدعة على عهد الصحابة وعلموها إلا قابلوها بالإنكار ، فمن أراد أن ينهج صراطهم ويقتفي أثرهم فعل مثلهم(1).
الأصل الحادي عشر :
أنه لا يوجد باطل عند أحد من الناس إلا وهو مشوب بشيء من الحق
وذلك أنه لا ينفق الباطل المحض عند أحدٍ من العقلاء ، فإن النفوس مجبولة على رد الباطل ، لذلك لا بد لكل من أراد أن ينفق باطله أن يشوبه بشيء من الحق.
وهكذا البدع والضلالات فإنها لا بد أن يكون معها شيء من الحق ، فبهذا الحق تنفق عند أهلها ، وبهذا الحق يلبس أصحابها على الناس .
وذلك كبدعة الحرورية فإنها خرجت أولاً بسبب تحكيم الرجال في صفين فقالوا مقولتهم المشهورة : (لا حكم إلا لله) ، وهذا كما قال علي رضي الله : حق أريد به باطل. وهم مع ذلك من أشد الناس اجتهاداً وعبادة حتى قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - (يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم وصيامه عند صيامهم) .
وكبدعة الجهمية فإنها ظهرت –كما يزعم أصحابها - تنزيهاً لله أن يشبه شيئاً من المخلوقات .
وكبدعة القدرية فإنها ظهرت –كما يزعم أصحابها- تنزيها لله سبحانه أن يخلق أفعال العباد ويقدرها عليهم ثم يجازيهم بها .
وهكذا بقية البدع : فبدعة التشيع ظهرت لنصرة آل البيت ، وبدعة النصب ظهرت لنصرة عثمان .
__________
(1) إذا تقرر لك هذا الأصل علمت أن كلام أهل السنة في الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان القدري وغيرهم من أئمة الضلالة إنما هو خارج من مشكاة النبوة واقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم ، وأن قول المالكي – قاتله الله – إن قتل هؤلاء المبتدعة كان سياسياً يلزم منه أن يقال : إن قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج كان سياسياً ، ويلزم منه تكذيبه أيضاً ؛ فإنه روى حديث الخوارج بعد قتاله لهم – كما في الصحيح – وإذا كانت مسألة التسييس تسير على نهج المالكي فإن أولى الناس بذلك هو علي رضي الله عنه وحاشاه من ذلك.(1/42)
لذلك فمن أراد من أهل الباطل أن يدافع عنهم فإنه يستدل بما معهم من هذا الحق الذي أرادوا به الباطل ، فيشبّه بذلك على الناس .
وإذا علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) مع أن البدع لا تظهر إلا مشوبة بشيء من الحق ، وعلمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما قال في الخوارج ، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة ، وأنهم كلاب النار ، وأمر بقتالهم وقتلهم ، وحذر منهم ، مع أنهم – في ظاهر أمرهم – ما قصدوا إلا الحق ، وما أرادوا إلا تعظيم كتاب الله وتعظيم حرماته ، وعلمت أن الصحابة صاحوا بأهل البدع الذين ظهروا في وقتهم من حرورية وقدرية وغيرهم – مع أن معهم شيئاً من الحق – ، علمت أن ما مع أهل البدع من الحق لا يزيل وصف الضلالة عنهم .
الأصل الثاني عشر :
أنه لا يوجد حق عند فرقة من الفرق إلا وهو موجود عند أهل السنة
اعلم أنه كما تقدمت الإشارة إليه فإنه لا تنفرد أي فرقة من الفرق بحق ليس عند أهل السنة ، كما أن أهل السنة لا يتفقون على باطل ، فما كان من حق عند فرقة من الفرق فهو موجود عند أهل السنة نقياً مما شابه من الباطل .
فحب أهل البيت الذي يزعمه الروافض والزيدية وغيرهم من فرق الشيعة موجود عند أهل السنة ، فهم يحبون أهل البيت ويجلونهم ويترضون عنهم ويتقربون إلى الله بحبهم والدفاع عنهم ، إلا أن حب أهل السنة لهم سالم من أباطيل الشيعة : كغلوهم فيهم أو تأليههم أو سبهم الصحابة الآخرين و نحو ذلك.
وحب عثمان ومعاوية الذي يزعمه النواصب ونحوهم موجود عند أهل السنة أيضاً ، إلا أنه سالم من أباطيل الناصبة : كسبهم أهل البيت أو وضع الأحاديث في فضائل معاوية أو غير ذلك .
وتنزيه الله سبحانه الذي تزعمه الجهمية موجود عند أهل السنة ، فهم ينزهون الله عن مشابهة المخلوقات ، ويثبتون صفاته بغير تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ، إلا أنهم سالمون من أباطيل الجهمية كتعطيلهم الصفات.(1/43)
وإثبات القدر الذي تزعمه الجبرية موجود عند أهل السنة ، فهم يثبتون القدر بمراتبه الأربعة التي دلت عليها النصوص : العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، إلا أنهم سالمون من أباطيل الجبرية كنفيهم قدرة العبد ومشيئته .
وهكذا بقية الفرق ، فلا تجد حقاً عند فرقة من الفرق في مسألة أصلية ولا فرعية – دلت عليها النصوص – إلا وهي عند أهل السنة سالمة من أباطيلهم .
الفصل الرابع :
في أصول تكشف شبهات المالكي في التاريخ والصحابة:
أكثر ما يكتبه المالكي وينشره – بطبعه الزيدي – هو أحاديث الفتن والحروب التي جرت بين الصحابة – رضوان الله عليهم – والكلام على تصنيف الصحابة ، والقدح في بعضهم كمعاوية رضي الله عنه ، والغض من مقام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وغير ذلك من أمور تاريخ الصحابة مما هو مدون في كتبه ( بيعة علي ) ومذكرته عن الصحبة وغيرها ، وكلامه على عبد الله بن سبأ والقعقاع ونحوه مما سرقه من الروافض والمستشرقين .
وفي هذا الفصل سأذكر سبعة أصول تكشف شبهاته في هذا الباب إن شاء الله تعالى .
الأصل الأول :
أن الصحابة كلهم عدول وإن اختلفوا في الفضل
اعلم أن كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مؤمن به ومات على ذلك فهو من أصحابه ، وأصحابه كلهم عدول وإن اختلفوا في الفضل ، لذا فالكلام هنا على ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى : في إثبات أن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مؤمن ومات على ذلك فهو من أصحابه :
والدلائل على ذلك كثيرة ، منها :
أولاً : من الكتاب :
الدليل الأول :
قوله تعالى (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم ، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) فقد نص الله سبحانه وتعالى هنا على فضل المهاجرين والأنصار ، ثم ذكر أن الذين تأخر إسلامهم وهجرتهم بعد ذلك فهم منهم .
الدليل الثاني :(1/44)
قوله تعالى ( لا يستوي مِنكُم من أَنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظمُ درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكُلا وعد الله الحُسنى والله بما تعملون خبير) .
والفتح هنا هو قيل : هو صلح الحديبية ، وقيل : فتح مكة ، فقد أثبتت هذه الآية فضل الصحابة كلهم بقوله تعالى (وكلا وعد الله الحسنى) ، وأثبتت تفاضلهم بقوله تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة) .
الدليل الثالث :
وقوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه..الآية) وهذا عام يشمل جميع الصحابة.
الدليل الرابع :
... وقال تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) ، وهذه الآية نزلت في آخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة تبوك ، وقد ذكر الذين اتبعوهم بإحسان – وأولى الناس بها من تأخر إسلامهم من الصحابة - وذكر رضاه عنهم . ...
وغير ذلك من الآيات .
ثانياً : من السنة :
الدليل الأول :
ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس ، يقال لهم: فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟. فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس ، فيقال لهم : فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟. فيقولون: نعم ، ثم يغزو فئام من الناس ، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ . فيقولون: نعم ، فيفتح لهم).
فقوله هنا أولاً (فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، ثم قوله في الذين يلونهم : (فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، نص في هذه المسألة ، فإنه جعل الصحبة بمجرد الرؤية .
الدليل الثاني :(1/45)
ما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء فقال : ( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهب النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
وهذا دليل على عموم الصحبة من ثلاثة وجوه :
الأول : أن الراوي أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ما هاجر إلى المدينة إلا بعد فتح خيبر – في السنة السابعة - ، وقد قال هنا (صلينا المغرب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) فدل على أنهم كلهم مخاطبون بهذا الخطاب وأنهم داخلون في مسمى الصحبة .
الثاني : أنه ذكر لفظ (أصحابي) على العموم ولم يفصل أو يستثن .
الثالث : أنه ذكر أنه إذا مات أتى أصحابه ما يوعدون ، فدل على أن كل من صاحبه قبل موته فهو داخل في هذا الخطاب .
الدليل الثالث :
ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا) . قالوا: أو لسنا إخوانك؟ . قال : ( أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ) .
وهذا أيضاً ظاهر في عموم خطابه ، وراوي هذا الحديث وهو أبو هريرة رضي الله عنه أسلم عام خيبر السنة السابعة – بعد الفتح (صلح الحديبية) - .
الدليل الرابع :
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (قريش ، والأنصار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع ، مواليّ ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله) .
وهذا الحديث دليل على عموم الصحبة وأنها لا تختص بالمهاجرين والأنصار ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر المهاجرين والأنصار ثم عطف عليهم باقي القبائل .
الدليل الخامس :(1/46)
ما رواه ابن أبي شيبة عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني ، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني(1).
ثالثاً :من أقوال الصحابة :
الدليل الأول :
ما رواه مسلم عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال : أي بني ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن شر الرعاء الحطمة ، فإياك أن تكون منهم . فقال له : اجلس ، فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . فقال : وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم .
الدليل الثاني :
ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .
وهذا دليل على أن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها فضل عظيم ولو كانت مدتها يسيرة ، فلو صاحبه أحد ساعة فقد حظي بمرتبة الصحبة.
الدليل الثالث :
ما رواه البخاري عن ابن أبي مليكة قال : أوتر معاوية رضي الله عنه بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس ، فأتى ابن عباس فقال : دعه ، فإنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذا ومعاوية رضي الله عنه قد أسلم عام فتح مكة .
الدليل الرابع :
ما رواه البخاري عن معاوية رضي الله عنه قال : إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليها ولقد نهى عنهما ، يعني الركعتين بعد العصر .
والأدلة على ذلك كثيرة ، وما سبق فيه الكفاية لمن أراد الحق .
المقدمة الثانية : في إثبات تفاوتهم في الفضل :
__________
(1) انظر كلام الشيخ عبد الله السعد على هذا الحديث في مقدمة (الإبانة لما للصحابة من المنزلة والمكانة ) للشيخ حمد الحميدي .(1/47)
فهذا أمر معروف ، فأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وبقية العشرة المبشرين بالجنة ، ثم البدريون وأهل بيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ثم من أسلم وهاجر بعد الحديبية وقبل فتح مكة ، ثم مسلمة الفتح والذين أسلموا عام الوفود .
وفي بعض ذلك تفصيلات ، وما سبق له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة تركت ذكرها اختصاراً ، فمن أرادها فليراجع مظانها .
المقدمة الثالثة : في إثبات عدالتهم كلهم :
ويدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع :
أما من الكتاب :
فما سبق من قوله تعالى – عن الذين عملوا قبل الفتح وبعده- (وكلا وعد الله الحسنى) – والحسنى هي الجنة - .
وقوله تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) .
... وقوله تعالى : ( مُحَمدٌ رَسُولُ الله والذين معه أشداء على الكُفارِ رُحماءُ بينهم تراهم رُكعاً سُجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهُم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكُفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ) .
وقوله تعالى عن الذين اتبعوه في ساعة العسرة في غزوة تبوك عام تسعة للهجرة )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ومن السنة :
ما في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) .(1/48)
وما في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) .
وفي الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه ذكر خطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع – وهي في السنة العاشرة للهجرة – وقال مخاطباً المسلمين : (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) .
قال ابن حبان رحمه الله على هذا الحديث :
(وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" أعظم الدليل على أن الصحابة كلهم عدول ، ليس فيهم مجروح ولا ضعيف ؛ إذ لو كان فيهم مجروح أو ضعيف لاستثنى في قوله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " ألا ليبلغ فلان وفلان منكم الغائب " ، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول وكفى بمن عدله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرفاً) .
ويدل على هذا الأحاديث التي سبق ذكرها في المقدمة الأولى .
ومن أقوال الصحابة :
ما رواه أحمد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه .
وما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .
وما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم .
وغيرها من النصوص .
ومن الإجماع :
قال ابن عبد البر رحمه الله في (التمهيد) 22/47 :
(الصحابة كلهم عدول ، مرضيون ، ثقات ، أثبات ، وهو أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث) .
وقال القرطبي رحمه الله (تفسيره) 16 / 299 :
((1/49)
فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى ، وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه ، بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة ، من أئمة هذه الأمة) .
قال النووي رحمه الله (شرح مسلم 15 / 149 ) (ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) .
وقال ابن حزم (المحلى) 5 /92 :
(والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم لثناء الله تعالى عليهم) .
وقال ـ أيضاً ـ في (جوامع السيرة) : (وكان المؤلفة قلوبهم ـ مع حسن إسلامهم ـ متفاضلين في الإسلام ، فمنهم الفاضل المجتهد : كالحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام. وفيهم خيار دون هؤلاء : كصفوان بن أمية ، وعمرو بن وهب ، ومطيع بن الأسود ، ومعاوية بن أبي سفيان . وسائرهم لانظن بهم إلا خيراً).
وقال الحافظ العلائي ـ رحمه الله ـ في (تحقيق منيف الرتبة ص43) : (من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ، ولم يصحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا زمناً يسيراً ، اتفق العلماء على أنهم من جملة الصحابة).
وقال الصنعاني في (سبل السلام) 1/ 21 – وهو متأثر بالزيدية- :
(الصحابة كلهم عدول عند المحدثين) .
وقال ابن الوزير – وهو من أصل زيدي !! – في (العواصم) 1/395 :
((1/50)
كل مسلمٍ ممن عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يُعلم(1)جرحه فإنه عدل عند الجلة من علماء الإسلام : من الزيدية ، والمعتزلة ، والفقهاء ، والمحدثين ، وأن هذه المسألة مما لا ينكر ).
الأصل الثاني :
أن القول بعدالة الصحابة لا ينافي الوقوع في الخطأ
اعلم أننا إذا قلنا بأن الصحابة كلهم عدول فإن هذا لا يعني أنهم معصومون من الخطأ والذنوب ، بل قد تقع منهم بعض الأخطاء والذنوب التي قد تقع من غيرهم ، و ما يحصل من أحدهم من أعمال فهي بين ثلاثة أمور :
1- إما أن يكون اجتهاداً صحيحاً فله أجران .
2- أو اجتهاداً خطأ فله أجر واحد .
3- أو يكون ذنباً فهو ذنب مغفور إن شاء الله لسبقه وفضله وجهاده.
وقد كانت لهم من الصحبة و السابقة والفضل والجهاد وتبليغ الدين ونشره بين الناس وغير ذلك من أعمال الخير ما تغمر أخطاءهم لو وجدت .
__________
(1) ومراده بالمعاصرة الرؤية كما يدل على ذلك سائر كلامه في كتابه ، وقوله : (ممن لا يعلم جرحه) يدل على أن الأصل في من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - العدالة إلا من رمي بنفاق ولم يحسن إسلامه ، وهؤلاء نفر معدودون ، وقد قال الله تعالى لنبيه (ولتعرفنهم في لحن القول) ، فكانت أخلاقهم وأعمالهم تدل على نفاقهم ، وقد عصم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أن يلتبس أصحابه بأهل النفاق ، ومن زعم أنه يجوز أن يكون في الصحابة الذين ثبت إسلامهم وجاهدوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورووا عنه الأحاديث التي قبلتها الأمة وعملت بها ، من جوّز أن يكون في هؤلاء منافقون فقد شكّك في حفظ الله لشرعه.(1/51)
ومن الأدلة على أن الفضل والعدالة لا ينافي الوقوع في الخطأ ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو من أهل بدر ومن السابقين الأولين – لما كاتب كفار مكة – فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
فيظهر جلياً – هنا – أن سابقة وفضل حاطب لم تمنعه من الوقوع في الخطأ ، ويظهر جلياً أيضاً أن خطأه هذا مغفور له بسبب سابقته .
وهكذا القول في بقية الصحابة رضوان الله عليهم ، فإن سابقتهم وفضلهم وعدالتهم لا تعني عصمتهم من الأخطاء ، ولكنها تعني أن أخطاءهم مغمورة في بحر حسناتهم ، وسيأتي مزيد تفصيل في الأصل الخامس إن شاء الله تعالى.
الأصل الثالث :
القول في بعض الصحابة كالقول في البعض الآخر .
اعلم أن الكلام في بعض الصحابة يلزم منه الكلام في البعض الآخر ، وذلك أنهم مجتمعون في الفضل – على اختلاف مراتبهم - ، مشتركون في العدالة ، فإذا قدح في بعضهم فإنه يلزم القادح أن يقدح بالآخرين ، وبيان ذلك كما يلي :
إذا كان القادح رافضياً يكفر الصحابة رضوان الله عليهم إلا أفراداً منهم على رأسهم علي رضي الله عنه ، ففعله هذا يلزم منه تكفير علي رضي الله عنه نفسه من وجوه :
الأول : أن علياً كان وزيراً ونصيراً وعضداً لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وإذا كان هؤلاء كفاراً – كما يزعمه هؤلاء– فيلزم منه كفر علي رضي الله عنه لأنه معين مناصر لهم .
الثاني : أن علياً كان يصلي وراء هؤلاء ، وإذا كان هؤلاء كفاراً – وحاشاهم – فصلواته باطلة كلها .
الثالث : أنه زوج ابنته (أم كلثوم) من (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه ، وإذا كان كافراً – وحاشاه – فإنه يكون زوج ابنته من كافر وهذا استحلال منه لذلك وهو كفر –أعاذهم الله من ذلك ولعن مبغضهم -.(1/52)
وإذا كان المتكلم ليس رافضياً ولكنه يقول : إن علياً أفضل من أبي بكر وعمر ، فإن قوله هذا يلزم منه القدح في علي رضي الله عنه وتكذيبه :
فقد ثبت في الصحيح عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه : أي الناس خير بعد رسول الله؟.
فقال : أبو بكر . قال ابن الحنفية : ثم من ؟.فقال : عمر .
وثبت عنه من أكثر من ثمانين وجهاً أنه قال (خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) .
ومن فضّله عليهما فقد ترك اتباعه في قوله ، بل ورماه إما بالكذب أو الجهل وكلاهما قادح.
ويلزم من ذلك أيضاً القدح في بقية الصحابة الذين ذكروا تفضيل الشيخين على غيرهما ، كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنخيرّ أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان .
وإذا كان المتكلم يقول : لا أفضل علياً على الشيخين ولكني أفضله على عثمان رضي الله عن الجميع ، فيقال له : ففي قولك هذا إزراء بالمهاجرين والأنصار الذين اجتمعوا بعد وفاة عمر على بيعة وتفضيل عثمان على علي ، كما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال بعد مبايعة عثمان : إنا اجتمعنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم نأل عن خيرنا ذي فوق فبايعنا أمير المؤمنين عثمان .
وثبت في صحيح البخاري في قصة بيعة عثمان أن عبدالرحمن بن عوف قال لعلي بن أبي طالب : إني نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً .
ومن فضّل علياً على عثمان فهو مكذب لابن عمر الذي قال – كما في الصحيحين - : كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنخيرّ أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان .
فإن أراد من فضل علياً على عثمان رضي الله عنهما : أن يقدح بعثمان ، فيقال له : لا تتكلم على عثمان بشيء إلا لزم علياً – رضي الله عنهما – مثل ذلك أو أشد منه .
فإن قال : إن عثمان رضي الله عنه تأول في الأموال .(1/53)
فيقال له : وعلي رضي الله عنه تأول في الدماء –والدماء أعظم من الأموال- .
فإن قال : و لكن عثمان رضي الله عنه ولى كثيراً من أقاربه على المسلمين.
فيقال : وعلي رضي الله عنه ولى كثيراً من أقاربه على المسلمين.
فإن قال : ولكن علي رضي الله عنه كان مجتهداً معذوراً.
فيقال له : وعثمان رضي الله عنه كان مجتهداً معذوراً.
فالقول الصحيح فيهما رضي الله عنهما أنهما أفضل المسلمين بعد الشيخين، وعثمان أفضل من علي ، وما فعلاه في زمن خلافتهما فهما فيه بين الأجرين والأجر .
وسوف يأتي مزيد من هذا إن شاء الله في الأصل الرابع أيضاً .
وهكذا ، فإنه لا يتكلم مبتدع في أحد من الصحابة إلا لزمه أن يتكلم في غيره ، وإن عذر أحداً منهم لزمه أن يعذر الجميع ، فإن عذر بعضهم ولم يعذر الآخرين فقد تناقض وفرق بين متماثلين .
وقد نبه على هذا الحافظ العلائي ـ رحمه الله ـ فقال في كتابه (تحقيق منيف الرتبة ص85) :
(كلما قدح به المبتدعة في الصحابة الذين أسقطوا عدالتهم ، يتصور مثله في الصحابة الذين لم يقدحوا في عدالتهم . فإن تأولوا أفعال من وافقوا على عدالته وحسنوا لهم المخارج في أمورهم كانوا مقابلين بمثله فيمن خالفونا في عدالته ، ولايجدون فرقاً قاطعاً بين الطائفتين بالنسبة إلى انقداح التأويل ، وإحسان الظن بهم ، وانسداد ذلك في حق الجميع).
الأصل الرابع
أن معاوية رضي الله عنه ستر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن تكلم عليه اجترأ على ما وراءه
وهذه كلمة قالها بعض السلف رحمهم الله ، وقد صدق في ذلك ، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية رضي الله عنه إلا تجرأ على غيره من الصحابة رضوان الله عليهم ، وانظر هذا في أحوال الزيدية ؛ فإنهم طعنوا في معاوية رضي الله عنهم ثم تجرأوا على عثمان رضي الله عنه ، ثم تكلموا في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى صرح بكفرهما بعض الزيدية ، وصدق من قال : جئني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً .(1/54)
والسبب في ذلك أنه إذا تجرأ على معاوية رضي الله عنه فإنه يكون قد أزال هيبة الصحابة من قلبه فيقع فيهم ، لأنه لا يعلل كلامه في معاوية بشيء إلا ويلزمه مثل هذا في غيره – كما سبق بيانه في الأصل الثالث- .
فإن كان الذي يتكلم في الصحابة يشتم معاوية رضي الله عنه ويتنقصه ، فيقال له : ما حملك على ذلك ؟.
فإن قال : قتاله لعلي رضي الله عنه .
فيقال له : فيلزمك أن تشتم الزبير وطلحة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة لأنهم قاتلوا علياً .
فإن قال : ولكن أولئك اجتهدوا في الأخذ بثأر عثمان .
فيقال له : ومعاوية ومن معه كذلك .
فإن قال : ولكن الزبير وطلحة وعائشة ونحوهم لهم سوابق تدل على فضلهم .
فيقال له : ولمعاوية سوابق تدل على فضله :
فقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالصحبة ابن عباس –كما في صحيح البخاري – الذي قاتل مع علي ضده.
وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حنيناً والطائف وغيرها .
وكتب الوحي – كما في الصحيح - .
ودعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وصح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا) وكان هذا الغزو بقيادة معاوية رضي الله عنه .
وقد ولاه عمر وعثمان رضي الله عنهما الشام .
وقد رضي الحسن بن علي رضي الله عنهما أن يتنازل له عن الخلافة ، وأثنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على فعله ذلك بقوله (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) ، وإذا كان معاوية رضي الله عنه ليس عدلاً فهذا قدح في الحسن الذي رضي أن يتولى الأمة غير عدل !!. وتولى الخلافة عشرين سنة كان فيها ملكه ملك رحمة و عدل .
فإن قال : ولكن معاوية ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا يتكلمون فيه .(1/55)
فيقال له : فيلزمك على هذا أن تتكلم في كثير من الصحابة ، فقد تكلم عمار في عثمان رضي الله عنهما ، وتكلم العباس في علي رضي الله عنهما ، وتكلم سعد بن عبادة في عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وتكلم عمر في حاطب رضي الله عنهما ، وتكلم أسيد بن حضير في سعد بن عبادة رضي الله عنهما ، وكل هؤلاء من السابقين الأولين رضي الله عنهم ، فإن كان كلام أحدهم في الآخر يبيح أن يتكلم فيه الآخرون جاز الوقوع فيهم كلهم كما هو دين الروافض قبحهم الله.
فإن قال : ولكن معاوية ثبت عنه بعض الأخطاء .
فيقال له : وثبت عن غيره من الصحابة أيضاً بعض الأخطاء ، فإن كان الوقوع في الخطأ مبيحاً للشتم فاشتم من وقع منهم في الخطأ.
فإن قال : ولكن أخطاء أولئك مغفورة بجانب سبقهم وفضلهم وجهادهم.
فيقال له : وأخطاء معاوية مغفورة بجانب سبقه وفضله وجهاده .
وهكذا ، فإذا تجرأ أحد على معاوية رضي الله عنه هان عليه غيره من الصحابة ، وبدأ يتكلم في الواحد منهم تلو الآخر لطرد مذهبه الباطل .
الأصل الخامس :
أن تاريخ الصحابة ثلاثة أقسام : كذب و محكم ومتشابه .
اعلم أن تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما كان غير صحيح لكذب الناقل أو لضعف الإسناد أو لجهالة المصدر أو لغير ذلك من الأسباب ، وهذا كثير في الأخبار التاريخية ، وكثير من النقلة هم من الضعفاء والمتروكين كأبي مخنف والواقدي وابن أعثم وغيرهم ، و أخبار هؤلاء على قسمين أيضاً :
الأول : إذا كان قادحاً في أحد من الصحابة ونحوهم فيحرم نشره إلا لبيان عدم صحته .
الثاني : أن يكون الخبر غير قادح في أحدٍ منهم ، بل هو من الأخبار التاريخية ، فالأصل في ذلك جواز روايته – كما يأتي في الأصل الأخير - .
فلا بد من الحذر عند قراءة الروايات التاريخية المتعلقة بالصحابة كما قال القحطاني رحمه الله :
لا تقبلن من التوارخ كلما جمع الرواة وخط كل بنان(1/56)
القسم الثاني : ما كان منه صحيحاً ، فهذا على قسمين أيضاً :
القسم الأول : محكم : وهو ما ورد من فضائلهم وجهادهم وفتوحاتهم للأمصار ونشرهم للإسلام وعلمهم وعباداتهم وغيرها من مناقبهم ، فهذه هي الأصل في أخبارهم .
القسم الثاني : متشابه : وهو ما حصل بينهم من الفتنة ومن الأحوال التي تعتري البشر من كلام أحدهم في آخر أو فعله ما يستنكر ونحو ذلك .
فاعلم أن أهل السنة والجماعة يردون المتشابه إلى المحكم ، ويعلمون من نظرهم في المحكم أن ما تشابه من أحوالهم هي أمور هم فيها بين أجرين أو أجر واحد أو أن خطأهم في ذلك مغفور ، فلا يطيلون النظر في المتشابه ، بل يجملون النظر فيه ، بينما يفصلون القول في المحكم .
وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه من أحوالهم ابتغاء الفتنة ، بل ويردون المحكم من مناقبهم لما تشابه منها.
فإذا رأيت شيئاً من أخبار عثمان رضي الله عنه مما أثاره الروافض أو الزيدية أو جهلة السنة ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو أنه من المبشرين بالجنة ، و زوّجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه رقية وأم كلثوم ، وشهد المشاهد معه ، وهو أفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر – كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر - ، وهو الذي اشترى الجنة مرتين ؛ يوم بئر رومة ، ويوم العسرة لما جهزه ، وغير ذلك من مناقبه ، فيعرف أن من كانت هذه مناقبه فلا يمكن أن يكون ما فعله إلا باجتهاد يؤجر عليه – أصاب أو أخطأ - ، ولو كان ذنباً فذنبه يسير بجانب هذه السوابق .(1/57)
وإذا رأيت شيئاً من أخبار علي رضي الله عنه مما أثاره الناصبة أو جهلة السنة ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو أنه من المبشرين بالجنة ، وأول من أسلم من الصبيان ، وزوّجه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيدة نساء الجنة فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو من أفضل الصحابة ، وولداه سيدا شباب أهل الجنة ، وغير ذلك من مناقبه ، فيعرف أن من كانت هذه مناقبه فلا يمكن أن يكون ما فعله إلا باجتهاد يؤجر عليه – أصاب أو أخطأ - ، ولو كان ذنباً فذنبه يسير بجانب هذه السوابق .
وإذا رأيت شيئاً من أخبار معاوية رضي الله عنه مما أثاره الروافض والزيدية وجهال السنة ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو أنه أول من قاد غزواً في البحر وفي الحديث الصحيح عن أم حرام رضي الله عنها أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا) – يعني وجبت لهم الجنة - ، وقد شهد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حنيناً والطائف وما بعدها ، و كتب الوحي للرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح ، وولاه عمر وعثمان رضي الله عنهما الشام ، واجتمعت الأمة عليه برضا الحسن بن علي رضي الله عنهما ، وفتحت كثير من الأمصار في وقته ، وكان ملكه ملك رحمة على المسلمين ، وغير هذا من مناقبه ، فيقال في هذا ما قيل في علي وعثمان رضي الله عنهم.
وإذا رأيت شيئاً من أخبار عمرو بن العاص رضي الله عنه مما أثاره هؤلاء ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو إسلامه قبل فتح مكة ، وهجرته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتولية الرسول - صلى الله عليه وسلم - له على جيش ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر - كما في الصحيحين - ، وقد ثبت في المسند وغيره أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهد له بالإيمان ، وهو قائد الجيش الذي فتح مصر ، وولاه عمر عليه ، وغير ذلك من مناقبه ، فيقال في هذا ما قيل فيمن سبق .(1/58)
وهكذا في غيرهم من الصحابة .
وأما طريقة أهل الزيغ فإنهم يتبعون ما تشابه من أحوالهم ويردون المحكم بها فيردون بها النصوص :
فيقول الروافض ونحوهم عن مناقب عثمان ومعاوية إنها من وضع النواصب ، ويقول النواصب ونحوهم عن مناقب علي إنها من وضع الشيعة ، وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلله الحمد والمنة .
والأصل في رد المتشابه إلى المحكم من أحوال الصحابة رضوان الله عليهم من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وهي أدلة عامة ، وأدلة خاصة :
أما الأدلة العامة :
فمن ذلك :
قوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) فهذا فيه النهي عن الغيبة – وهي ذكرك أخاك بما يكره كما عرفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح – والصحابة هم أولى الناس بهذه الأخوة.
ومن الأدلة العامة :
ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) .
وما رواه الترمذي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) .
وما رواه الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه) .
وما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) .
وما فيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) .
وغيرها من النصوص التي تنهى عن سب المسلمين والوقيعة فيهم .
وأما الأدلة الخاصة في الصحابة رضوان الله عليهم :
فمن الكتاب :(1/59)
قوله تعالى : ( للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ، والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، والذين جآؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) .
فذكر الله سبحانه الصحابة – المهاجرين والأنصار – في الآيتين الأوليين ، ثم ذكر من جاءوا من بعدهم من أهل الفيء ووصفهم بخمسة أوصاف :
الأول : أنهم دعوا لمن سبقهم بالمغفرة .
الثاني : سموا من سبقهم إخواناً .
الثالث : اعترفوا لهم بالسبق.
الرابع : شهدوا لهم بالإيمان .
الخامس : دعوا الله أن لا يجعل في قلبهم غلاً للذين آمنوا .
فيظهر من هذا أنهم اعترفوا بالفضل ، ووصفوهم بالإيمان ، ودعوا لهم ، وتركوا ما تشابه من أحوالهم ، ودعوا الله بأن لا يجعل في قلبهم غلا للذين آمنوا ، وهذا لا يحصل إلا بترك ما يؤدي إلى وجود هذا الغل وهو البحث في المتشابه من أحوالهم وإثارته.
وما سبق ذكره من نصوص عدالة الصحابة هي أيضاً تدل على هذا .
ومن السنة :
يدل عليه أحاديث كثيرة منها :
ما في الصحيح من حديث أبي الدرادء رضي الله عنه من قصة ما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي الحديث : فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم - مرتين - .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي - مرتين - فما أوذي بعدها .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر سابقة أبي بكر رضي الله عنه مع قول أبي بكر رضي الله عنه : أنا كنت أظلم.
ومن ذلك :(1/60)
ما في الصحيحين من قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه - لما كاتب كفار مكة – فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .
فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
فهنا رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما تشابه من فعل حاطب رضي الله عنه هنا إلى المحكم وهو سابقته وشهوده بدراً فعلم أن خطأه مغفور .
ومن ذلك :
ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن عبداً لحاطب جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو حاطباً ، فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كذبت ، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية .
فالعبد حكم هنا على حاطب بناء على ما رآه منه ، وقد رده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سابقته .
ومن ذلك :
ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الأنصار كرشي وعيبتي ، وإن الناس سيكثرون ويقلون ، فاقبلوا من محسنهم ، واعفوا عن مسيئهم .
وهذا نص في نشر إحسانهم ، وترك إساءتهم .
ومن ذلك أيضاً :
ما في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - (لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) .
فعلّل النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن السب هنا بسابقتهم وفضلهم ، وأن نصيف مد أحدهم في الخير أفضل من مثل أحدٍ ذهباً ينفقه من جاء بعدهم .
وغير ذلك من النصوص .
وأما من أقوال الصحابة :
فمنه ما هو عام ، ومنه ما هو خاص في الفتن التي جرت بينهم :
أما العام :
فمن ذلك :(1/61)
ما في الصحيحين من وصية عمر رضي الله عنه لما طعن قال : أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيراً ، أن يعرف لهم حقهم ، وأن يحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوؤوا الدار والإيمان ، أن يقبل من محسنهم ، ويعفى عن مسيئهم .
ومن ذلك :
ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .
والسب إنما يكون بذكر الأخبار التي تثير النفوس عليهم رضوان الله عليهم ، فردهم إلى المحكم من أحوالهم وهو سابقتهم وصحبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومن ذلك أيضاً :
ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم .
وأقوال الصحابة كثيرة في هذا الباب في نهي الناس عن عيبهم أو الكلام فيهم وتذكيرهم بسابقتهم وصحبتهم .
وأما الخاص :
فمن ذلك :
أنه قد ثبت بأسانيد صحيحة أن كبار الصحابة كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد – وهما من العشرة – وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وسلمة بن الأكوع وعمران بن حصين وأبي موسى الأشعري وزيد بن ثابت وعبد الله بن مغفل وأبي برزة الأسلمي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين قد اعتزلوا الفتنة التي جرت في وقتهم ، فمنهم من تعرب وخرج إلى البادية ، ومنهم من لزم بيته ، ومنهم من خرج إلى إبله ، وكل هذا حذراً من الوقوع في الحرام .
وقد روى عبد الرزاق وأحمد وغيرهم بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف ، فلم يحضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين) .(1/62)
وروى ابن عبد البر وغيره عن بكير بن الأشج أنه قال : إلا أن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم(1).
ولا شك أن الاقتداء بهؤلاء هو اعتزال الفتنة أيضاً باللسان ، وهو أمر أيسر مما فعلوه رضي الله عنهم ، وهذا مما يدل على كمال فقه السلف الصالح رحمهم الله حيث سئل عمر بن عبد العزيز : عن علي ، وعثمان ، والجمل ، وصفين ، وما كان بينهم ، فقال : تلك دماء كف الله يدي عنها ، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها .
الأصل السادس :
أن النظر في التاريخ محكوم بالشرع وليس حاكماً على الشرع .
اعلم أن دراسة التاريخ محكومة بالشرع وليست حاكمة على الشرع ، فالناظر في التاريخ إنما ينظر في أمور (القدر لأخذ العبر) لا (الشرع لأخذ الأحكام) ، والمسلم مكلف مأمور بمعرفة ما يلزمه من أمور الشرع ، وأما أمور القدر الماضية فإنها من تدبير الله سبحانه وتعالى لا دخل للمكلف فيها ، لذلك فالمسلم الحريص على سلامة دينه ينظر ما يلزمه شرعاً من ذلك .
فالحاصل بين الصحابة ينظر فيه بالنظرين جميعاً :
أما (القدر) : فهو ما حصل بينهم وقدره الله من فتن كتبها عليهم .
وأما (الشرع) : فهو ما يجب عليه حيال هذا الواقع ؛ فقد نهينا عن سب الصحابة والوقوع فيهم وتنقصهم ، وقد أثنى الله عليهم وهو يعلم ما سيحدث من بعضهم ، وأمرنا بذكر محاسنهم ونشرها ومحبتهم والدعاء لهم والاستغفار .
فالمسلم يجب عليه أن يلتزم شرعاً بما هو واقع قدراً .
وقد ضل في هذا الباب طائفتان جعلا التاريخ حاكماً على الشرع :
__________
(1) من عجائب أمور منقذ التاريخ (المالكي) أنه يقول إن الذين قاتلوا مع علي سبعون من أهل بدر ، وثمانمائة من أهل بيعة الرضوان ، وهذا استدلال من (المنقذ) بروايات واهية من طريق أبي شيبة الواسطي – وهو متروك – وغيره ، فتاريخه هنا لا يحتاج إلى إنقاذ فيجوز الاحتجاج فيه بالمرويات الواهية لأنه موافق لزيديته وغلوه في علي !!! .(1/63)
فالطائفة الأولى : طائفة أهل البدع والزيغ كالروافض والزيدية والنواصب ونحوهم ممن اشتغل بما حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم عادوا بهذا على كثير من نصوص الشرع بالإبطال والتشكيك .
والطائفة الثانية : طائفة العلمانيين والمرتدين الذين اشتغلوا بما حصل بين الصحابة وما نقل عنهم وأثير حولهم للتشكيك في الإسلام .
ولأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق المتبعون للكتاب والسنة ؛ فقد هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فإنهم عرفوا ما هم مأمورون به شرعاً في هذه الفتن ، فعصموا ألسنتهم عن ذكر أحد منهم بسوء ، ودعوا لهم ، وترضوا عنهم ، ونشروا محاسنهم ، وسكتوا عما شجر بينهم .
ونظير هذا مما وقع من الصحابة رضوان الله عليهم في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ثبت في الصحيح من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في ذكر الدجال، قلنا : وما لبثه في الأرض ؟.
قال : أربعون يوماً ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم .
فقلنا: يا رسول الله ، هذا اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟.
قال : لا ، اقدروا له قدره .
فإخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم هنا كان عن أمر من أمور القدر وتدبير الله سبحانه وتعالى في خلقه وهو أن أيام الدجال : يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع ، فلم يشتغلوا بهذا الأمر لأنه من أمور القدر وهم يعلمون أن الله على كل شيء قدير ، بل سألوا عما هم مكلفون به شرعاً وهو أمر الصلاة في ذلك اليوم ، وهذا من كمال فقههم رضي الله عنهم أجمعين .
الأصل السابع :
أن الأصل في الروايات التاريخية كالأصل في روايات بني إسرائيل
اعلم أن الروايات التاريخية على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما ثبت بإسناد صحيح وليس فيه محذور شرعي ، فهذا نشره جائز ، وهذا أمر متفق عليه.(1/64)
القسم الثاني : ما روي بإسناد صحيح أو ضعيف وفي نشره محذور شرعي كالوقيعة في بعض الصحابة أو ما جرى بينهم من الفتن ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز نشره ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين ؛ فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم .
وإنما بث ما يلزمه شرعاً بثه ولا يجوز كتمانه وهو ما يتعلق بالأحكام التي تلزم المكلفين ، وأما الوعاء الثاني فهو أحاديث الفتن ، وقد ذكر خطورة رواية ذلك رضي الله عنه في زمنه – وهو خير القرون – فكيف بعده ؟؟!!.
القسم الثالث : ما لم يثبت بإسناد صحيح وليس في نشره محذور شرعي فهذا الأمر فيه واسع ويجوز نشره ، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) .
والأخبار عن بني إسرائيل – كما قسمها أهل العلم وكما تدل عليه النصوص - على ثلاثة أقسام :
الأول : ما شهد الشرع بصدقه ، فهذا نصدقه.
والثاني : ما شهد الشرع بكذبه ، فهذا نرده ولا نقبله.
والثالث : ما هو مسكوت عنه فلا يشهد بصدقه أو كذبه ، فتجوز حكايته والاستئناس به.
والقول في تاريخ المسلمين كالقول في تاريخ بني إسرائيل ، بل هو أولى ، فإن أخبار بني إسرائيل أكثرها غير مسند ، وبيننا وبينهم من المفاوز ما هو معروف ، وليسوا من ملتنا ، فلأن يكون هذا الحكم ثابتاً في أخبار المسلمين من باب أولى .
والأخبار التاريخية لا تعامل معاملة الأحاديث النبوية في التصحيح والتضعيف لأمور :
الأمر الأول : أن أحاديث الأحكام قد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها – لأنها من حفظ دينه – فإذا روي حديث منها بسند ضعيف ونحوه فإننا نجزم بعدم ثبوته لذلك ، أما الأخبار التاريخية فلم يتكفل الله تعالى بحفظها فلا يعني عدم وروده بسند صحيح أن الخبر لم يصح .(1/65)
الأمر الثاني : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ، فقد نهى عن تكذيبهم ، مع أنك لو طبقت منهج المحدثين على الأخبار الإسرائيلية لانتهيت إلى ضعفها بل وسقوطها من طريق الأسانيد!!.
الأمر الثالث : أن هناك أموراً تاريخية كثيرة جداً مشهورة في الكتب والدواوين ، وأمرها معلوم بالتواتر عند الناس ، ولو أردت أن تثبتها من ناحية الإسناد ما استطعت ، لأن أهل الحفظ والإتقان والرواية والضبط كانوا ينصرفون في غالب روايتهم إلى الأحاديث النبوية بخلاف الأخبار التاريخية ، فلا يعني عدم روايتهم لها عدم ثبوتها في نفس الأمر .
الأمر الرابع : أن أساطين المحدثين قد فرقوا بين الأمرين ، فتراهم يشددون في أحاديث الأحكام ونحوها ، بخلاف الروايات التاريخية ؛ فإنك تراهم يذكرونها ولا يتعقبونها بشيء .
إذا فهمت هذا الأصل جيداً ، تبيّن لك جهل بعض الأغمار في هذا الزمن – كالمالكي – الذي عكس القضية ؛ فوسّع ما ضيّقه الشرع ، وضيّق ما وسّعه :
فأما توسيعه ما أمر الشرع بتضييقه :
فإنه قام بإثارة ما حصل بين الصحابة ابتغاء الفتنة ، فطعن في بعضهم ، وغض من آخرين ، ونشر شراً عريضاً ، وقد أمر الشرع أن يسكت عن ذلك ، وذهب أهل السنة والجماعة إلى أن ما شجر بينهم يطوى ولا يروى ، وقد سبق تفصيل ذلك في الأصول السابقة.
وأما تضييقه ما وسّعه الشرع :
فإنه قام بالتدقيق في أخبار تاريخية لا يترتب على ذكرها منكر ، ولا حكم تكليفي ، ولا فساد ، ولا إفساد ، بدعوى إنقاذ التاريخ ، كدعواه – مثلاً – أن (القعقاع بن عمرو) أسطورة لا وجود لها !!.
فإذا قرنت هذا الجاهل وأمثاله بالأئمة الأخيار من أهل السنة والجماعة رضوان الله عليهم علمت صحة أصولهم ، ودقة نظرهم ، وصحة فهومهم ، ومدى علمهم ، وأن مما ترتفع به مرتبتهم ظهور أمثال هؤلاء الدجاجلة ، فإن بحوث هؤلاء ورسائلهم تزيدنا يقيناً بصحة أصول أولئك .(1/66)
حيث لم يتكلم أهل السنة والجماعة في أمور التاريخ إلا على وجه واحد وهو ما شهد الشرع بكذبه أو أمر بتركه ، فإن كلامهم كثير في الأمر بترك الخوض فيما شجر بين الصحابة والإعراض عنه وعدم إثارته ، وتركوا ما سواه لأن الأمر فيه واسع ولا يترتب عليه أحكام شرعية ، واشتغلوا بما هم مكلفون به من أحاديث الأحكام ونحوها.
فرحمهم الله تعالى ورضي عنهم وحشرنا في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،،
الفهرس
المقدمة ... 2
الفصل الأول : أصول مذهب حسن المالكي : ... 6
أولا : مشابهته للزيود والروافض : ... 6
ثانيا : مشابهته للسبئية : ... 7
ثالثاً : مشابهته للمنافقين : ... 8
رابعاً : مشابهته للسوفسطائية : ... 10
خامسا ً : مشابهته للمعتزلة والجهمية : ... 11
سادساً : مشابهته لأهل الكلام : ... 12
سابعاً :مشابهته للقبوريين : ... 13
ثامناً :مشابهته للمرجئة : ... 14
تاسعاً : مشابهته لليهود : ... 14
عاشراً : مشابهته للمستشرقين : ... 16
الفصل الثاني : أصول تكشف شبهات المالكي في التوحيد والشرك: ... 19
الأصل الأول : أن توحيد العبادة هو أساس دعوة الرسل وهو أصل الأعمال : ... 20
الأصل الثاني : أن الإيمان بتوحيد الربوبية لا ينفي الشرك : ... 22
الأصل الثالث : أن التوحيد إذا انتقض بطلت جميع الأعمال ولو كثرت : ... 28
الأصل الرابع : أن التوحيد ينتقض بناقض واحد فأكثر ... 30
الفصل الثالث : أصول تكشف شبهات المالكي في السنة والبدعة: ... 32
الأصل الأول : أن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية : ... 33
الأصل الثاني : أن أهل السنة والجماعة يعرفون بموافقة الكتاب والسنة وهدي الصحابة : ... 43
الأصل الثالث : أن أفراد أهل السنة والجماعة غير معصومين : ... 45
الأصل الرابع : أن أهل السنة والجماعة يتفقون في الأصول وإن اختلفوا في بعض فروع هذه الأصول : ... 46(1/67)
الأصل الخامس :أنه لا يوجد خطأ من أحد من أهل السنة إلا ورد عليه آخرون من أهل السنة : ... 48
الأصل السادس : أن الرد عند التنازع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح : ... 49
الأصل السابع : أن الكلام في أئمة أهل السنة والجماعة هدم للإسلام : ... 51
الأصل الثامن : أنه لا اختصاص للحنابلة بعقيدة دون أهل السنة والجماعة : ... 53
الأصل التاسع : أن كتب العقيدة المسندة كغيرها من كتب الرواية: ... 55
الأصل العاشر : أن أهل البدع مذمومون بحسب قربهم وبعدهم عن الكتاب والسنة : ... 57
الأصل الحادي عشر : أنه لا يوجد باطل عند أحد من الناس إلا وهو مشوب بشيء من الحق : ... 62
الأصل الثاني عشر : أنه لا يوجد حق عند فرقة من الفرق إلا وهو موجود عند أهل السنة : ... 64
الفصل الرابع : أصول تكشف شبهات المالكي في التاريخ والصحابة : ... 65
الأصل الأول : أن الصحابة كلهم عدول وإن اختلفوا في الفضل: ... 66
الأصل الثاني : أن القول بعدالة الصحابة لا ينافي الوقوع في الخطأ: ... 76
الأصل الثالث : القول في بعض الصحابة كالقول في البعض الآخر: ... 77
الأصل الرابع : أن معاوية رضي الله عنه ستر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن تكلم عليه اجترأ على ما وراءه : ... 81
الأصل الخامس : أن تاريخ الصحابة ثلاثة أقسام : كذب ومحكم ومتشابه : ... 84
الأصل السادس : أن النظر في التاريخ محكوم بالشرع وليس حاكماً على الشرع : ... 93
الأصل السابع : أن الأصل في الروايات التاريخية كالأصل في روايات بني إسرائيل : ... 95
الفهرس ... 99(1/68)