الطَّبْعَةُ الأوْلى (1429)
حُقُوْقُ الطَّبْع مَحفُوْظَةٌ للمُؤلِّفِ
إلاَّ لمنْ أرَادَ طَبْعَهُ وتَوْزِيْعَهُ مَجَّانًا
كُسُوفُ الشَّمْسِ
بَينَ
التَّخْويْفِ والتَّزيِيْفِ
دِرَاسَةٌ فَلَكِيَّةٌ على ضَوْءِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ
تَألِيْفُ
شبكة نور الإسلام
islamlight
الحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ، وعلى آلِهِ، وصَحْبِهِ، والتَّابِعِيْنَ لَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّيْنِ .
أمَّا بَعْدُ : فَلَيْسَ خَافٍ على الجَمِيْعِ مَا حَدَثَ ظُهْرَ يَوْمِ الأرْبِعَاءِ المُوَافِقِ التَّاسِعِ والعِشْرِيْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيْعِ الثَّاني مِنْ عَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وعِشْرِيْنَ (29/4/1420) : مِنْ كُسُوْفِ الشَّمْسِ، وذَلِكَ عِنْدَ السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ والنِّصْفِ ظُهْرًا تَقْرِيْبًا؛ حَيْثُ شَمِلَ مُعْظَمَ بِلادِ الأرْضِ مَعَ تَفَاوُتٍ في حَقِيْقَتِه هُنَا أو هُنَاكَ!
إلَّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الإلَهِيَّةَ، والظَّاهِرَةَ الكَوْنِيَّةَ لم تَكُنْ لتَمُرَّ أو تَحْدُثَ بمَنْأى عَنْ أنْظَارِ وأسْمَاعِ النَّاسِ دُوْنَ قِيْلَ وقَالَ، ونَظَرٍ ونِقَاشٍ؛ حَيْثُ كَثُرَ عِنْدَهَا الكَلامُ، واخْتَلَفَتْ حَوْلهَا الآرَاءُ، وتَبَايَنَتْ عِنْدَهَا المَقَالاتُ والتَّصَوُّرَاتُ؛ وكُلٌّ بحَسَبِ مَشَارِبِه ونِحَلِهِ، وقَدْ قِيْلَ : كُلُّ إنَاءٍ يَنْضَحُ بِما فِيْهِ .
وهَذَا الأمْرُ لَيْسَ بغَريْبٍ أو عَجِيْبٍ إذَا مَا عَلِمْنَا أنَّ هَذِهِ الأُحْدُوْثَةَ لم تَكُنْ مَألُوْفَةً لأنَّها تَغْيِيْرٌ في السُّنَنِ الكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ تَطَلُّعٍ وتَشَوُّفٍ مِنْ قِبَلِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ .(1/1)
فَكَانَ مِنْ أظْهَرِهَا وأشْهَرِهَا مَا يُسَمَى بـ«الكُسُوْفِ» الَّذِي تَغَيَّرَتْ فِيْهِ الشَّمْسُ، وانْحَجَبَ ضَوْؤهَا أو بَعْضُهُ عَنِ الأرْضِ ممَّا كَانَ لَهُ تَأثِيْرٌ في النِّظَامِ العُلْوِيِّ والسُّفْليِّ؛ فلِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ!
* * *
وهَذِهِ أُخْرَى؛ أنَّ العِلْمَ بأسْبَابِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ، والنَّظَرَ في حِسَابَاتِهما، والتَّوَسُّعَ في مَاجْرَياتِهما لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِهِ، ولم يَأمُرْنَا بِهِ الله ولا رَسُوْلُهُ ?، بَلْ هُوَ عِلْمٌ مَفْضُوْلٌ لا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ .
فَغَايَةُ مَا هُنَا : هُوَ أنَّ الله تَعَالى يُخَوِّفُ بِهِما عِبَادَهُ ليَتُوْبُوا، ويَفْزَعُوا إلى الصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والعِتْقِ والذِّكْرِ والتَّسْبِيْحِ والاسْتِغْفَارِ!
* * *
ورِسَالَتِي هَذِهِ لم تَكُنْ حَدِيْثًا أو تَفْصِيْلًا عَنْ صَلاةِ الكُسُوْفِ في صِفَتِهَا أو حُكْمِهَا أو أحْكَامِها(1)، بقَدْرِ مَا أُرِيْدُ أنْ أتَكَلَّمَ عَنْ بَعْضِ القَضَايَا الَّتِي أحْسِبُهَا قَدْ أخَذَتْ أكْبَرَ مِنْ حَجْمِهَا، واتَّسَعَ فِيْهَا الكَلامُ والحِوَارُ، وضَرَبَتْ بأطْنَابِها وأوْتَادِهَا في قُلُوْبِ وأسْماعِ كَثْيرٍ مِنَ النَّاسِ، كَما نَعَقَ في بُوْقِهَا المُرْجِفُوْنَ، وتَسَاقَطَ عِنْدَهَا الجَاهِلُوْنَ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ (للأسَفِ!)، حَتَّى غَدَتْ حَدِيْثًا للمَجَالِسِ، وعُنْوَانًا لسَعْفَاءِ الصَّحَافَةِ، وزَادًا للإذَاعَةِ بجَمِيْعِ أنْوَاعِهَا في الدَّاخِلِ مِنْهَا والخَارِجِ ، ومِنْ هَذِهِ القَضَايَا ـ لا كُلِّهَا ـ مَسْألَتَانِ :
__________
(1) أمَّا كَلامُنَا عَنْ صَلاةِ الكُسُوْفِ، وعَنْ أحْكَامِهَا الفِقْهِيَّةِ، فسَيَأتي مَبْسُوْطًا في كِتَابِنا : «المَرْجِعِ شَرْحِ الرَّوْضِ المُرْبِع» إنْ شَاءَ اللهُ .(1/2)
الأوْلى : النَّظَرُ إلى الشَّمْسِ وَقْتَ الكُسُوْفِ .
الثَّانِيَةُ : الأمْرَاضُ الَّتِي لَيْسَ لهَا دَوَاءٌ؛ نَتِيْجَةَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ.
* * *
لأجْلِ هَذَا؛ قُمْتُ ولله الحَمْدُ ببَيَانِ النِّصَابِ الشَّرْعِيِّ في تَيْنِ المَسْألَتَيْنِ وغَيْرِهِمَا، مَعَ كَشْفِ مَا هُنَالِكَ مِنْ مُغَالَطَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، وحَوَادِثَ طَبِيْعِيَّةٍ، مِنْ خِلالِ كِتَابٍ صَغِيْرٍ أحْسِبُهُ كَافِيًا إنْ شَاءَ اللهُ، كُلُّ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ «كُسُوْفِ الشَّمْسِ بَيْنَ التَّخْوِيْفِ والتَّزْيِيْفِ»، كَما أنَّنِي ألْبَسْتُ هَذَا العِنْوَانَ أرْبَعَةَ أبْوَابٍ، وتَحْتَ كُلِّ بَابٍ فُصُوْلٌ، كَما يَلي :
( البَابُ الأوَّلُ : وفِيْهِ فَصْلانِ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : وفِيْهِ قَاعِدَتَانِ مُهِمَّتَانِ .
الفَصْلُ الثَّاني : تَحْقِيْقُ مَعْرِفَةِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
( البَابُ الثَّاني : وفِيْهِ سِتَّةُ فُصُولٍ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : حَقِيْقَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
الفَصْلُ الثَّاني : الحِكْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
الفَصْلُ الثَّالِثُ : أقْسَامُ النَّاسِ في الظَّوَاهِرِ الفَلَكِيَّةِ .
الفَصْلُ الرَّابِعُ : أثَرُ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ .
الفَصْلُ الخَامِسُ : آثَارُ الشَّمْسِ والقَمَرِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ .
الفَصْلُ السَّادِسُ : حُكْمُ عِلْمِ النُّجُوْمِ .
( البَابُ الثَّالِثُ : وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُوْلٍ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : حُكْمُ رُؤيَةِ الهِلالِ .
الفَصْلُ الثَّالِثُ : الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ التَّحْدِيْقِ في الشَّمْسِ .
الفَصْلُ الرَّابِعُ : المَحْظُوْرَاتُ السَّيِّئَةُ مِنَ تَحْذِيْرِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ .
( البَابُ الرَّابِعُ : الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ الأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ .
* * *(1/3)
ومِنْ بَابِ : { ? ? ? ? } ، فَهَذا كِتَابٌ جَامِعٌ نَافِعٌ، قَدْ حَرَّرْتُهُ بَعْدَ تَدْقِيْقٍ، ونَقَّحْتُهُ بَعْدَ تَحْقِيْقٍ؛ حَيْثُ ألْقَيْتُ بنَفْسِي في شِعَابِ الفَلَكِّيِّيْنَ كَي أُقَصِّيْهِ وأفُصِّيْهِ مِنْ تَغَابِيْرِ النَّظَرِيَّاتِ، عَسَاهُ يَكُوْنُ تَقْدِمَةً انْتَفِعُ بِهِ لنَفْسِي ولإخْوَاني في بَحْثِ بَعْضِ المَسَائِلِ الفَلَكِيَّةِ، ورَبْطِهَا بأدِلَّةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، ومَا كَانَ بَعْدَ كَوْنِه إلَّا بفَضْلٍ مِنَ الله تَعَالى وتَوْفِيْقٍ، والله وَليُّ الصَّالحِيْنَ .
* * *
وأخِيْرًا؛ فلَيْسَ مِنْ خَطَأ الذِّهْنِ أمَانٌ، ولا مِنْ وَخَزِ القَلَمِ اطْمِئْنَانٌ، فَرَحِمَ الله مَنِ اسْتَفَادَ وأفَادَ، ونَصَحَ وانْتَصَحَ، فَالدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ، والله المُوفِّقُ، وعَلَيْهِ التُّكْلانُ!
حُرِّرَ في الأوَّلِ مِنْ جُمَادَى الأوْلى لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ على صَاحِبِهَا أفْضَلُ الصَّلاةِ والتَّسْلِيْمِ
(1/5/1420)
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى عَبْدِهِ ورَسُولِهِ الأمِيْنِ
وكَتبَهُ
...
البَابُ الأوَّلُ
( الفَصْلُ الأوَّلُ : قَاعِدَتَانِ مُهِمَّتَانِ .
( الفَصْلُ الثَّاني : تَحْقِيْقُ مَعْرِفَةِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
...
... الفَصْلُ الأوَّلُ
قَاعِدَتَانِ مُهِمَّتَانِ
إنَّ تَحْرِيْرَ وضَبْطَ القَوَاعِدِ الكُلِّيَّةِ لاسِيَّما المُتَعَلِّقَةِ بأصُوْلِ الدِّيْنِ مِنْ جَادَّةِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، لِذَا كَانَتْ عِنَايَتُهُم بِها وبغَيْرِهَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيْعَةِ مَنْهَجًا عَامًّا في مَجَالِسِهِم العِلْمِيَّةِ، ومُحَرَّرَاتِ كُتُبِهِم ... كَما هُوَ ظَاهِرٌ في مَسَالِكِ مُصَنَّفَاتِهم عِنْدَ التَّألِيْفِ والتَّحْرِيْرِ والتَّقْرِيْرِ .(1/4)
لِذَا ارْتَأيْتُ لِزَامًا أنْ أذْكُرَ بَعْضَ القَوَاعِدِ الكُلِّيَّةِ العَامَّةِ هُنَا، كَي يَطْمَئِنَّ قَلْبُ كُلِّ حَارِثٍ وهمَّامٍ إلى كَمَالِ الشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ في أمْرِهَا ونَهْيِهَا، ويَسْتَيْقِنَ كُلُّ بَاصِرٍ وبَصِيْرٍ إلى أصَالَةِ هَذَا الدِّيْنِ الحَنِيْفِ في يُسْرِهِ وبِشْرِهِ، كَما أنَّ في ذِكْرِهَا هُنَا عَوْنًا لَهُ على فَهْمِ مَضَامِيْنِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ في بَابَاتِها، والله وَليُّ المُؤمِنِيْنَ .
* * *
فَهَاتَانِ قَاعِدَتَانِ مُهِمَّتَانِ قَدْ أحَطْتُهَا بشَيءٍ مِنَ الاخْتِصَارِ طَلَبًا للفَائِدَةِ، ورَجَاءً للعَائِدَةِ، وهِيَ عَلى مَا يَأتي :
( القَاعِدَةُ الأوْلى :
إنَّ الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ لا تَأمُرُ إلَّا بِما مَصْلَحَتُهُ خَالِصَةً أو رَاجِحَةً، ولا تَنْهَى إلَّا عمَّا مَفْسَدَتُهُ خَالِصَةً أو رَاجِحَةً .
وهَذِهِ القَاعِدَةُ شَامِلَةٌ لجَمِيْعِ أحْكَامِ الشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ لا يَشُذُّ عَنْهَا شَيءٌ مِنْ أحْكَامِهَا سَوَاءُ في الأصُوْلِ أو الفُرُوْعِ، وفي الغَايَاتِ أو الوَسَائِلِ، وفي مَا يَتَعَلَّقُ بحُقُوْقِ الله تَعَالى، أو حُقُوْقِ العِبَادِ .
كَما قَالَ تَعَالى : { ان الله يامر? ? ? ? ? ? ? ? ? ? لعلكم تذكرون } (النحل90) .
* * *
قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَه الله في «القَوَاعِدِ والأصُوْلِ» (5) :(1/5)
فَلَمْ يَبْقَ عَدْلٌ ولا إحْسَانٌ ولا صِلَةٌ إلَّا أُمِرَ بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، ولا فَحْشَاءُ ومُنْكَرٌ مُتَعَلِّقٌ بحُقُوْقِ الله، ولا بَغْيٌّ على الخَلْقِ في دِمَائِهِم وأمْوَالِهِم وأعْرَاضِهِم إلَّا نُهِيَ عَنْهُ، ووَعَظَ عِبَادَهُ أنْ يَتَذَكَّرُوا مَا في هَذِه الأوَامِرِ مِنَ الخَيْرِ والنَّفْعِ فيَمْتَثِلُوْهَا، ويتَذَكَّرُوا مَا في النَّواهِي مِنَ الشَّرِّ والضَّرَرِ فيَتَجَنَّبُوْهَا . انْتَهَى بتَصَرُّفٍ .
* * *
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ :
إنَّ الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ حَنَفِيَّةٌ سَمْحَةٌ؛ مَبْنِيَّةٌ على التَّيْسِيْرِ، ورَفْعِ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ عَنِ العِبَادِ؛ كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? }
(البقرة286)، وقَالَ تَعَالى : { ھ ھ ھ ھ ے ے ? } (الحج 78) .
وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } (البقرة185)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهَ عَنِ النَّبِيِّ ? قَالَ : «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» البُخَارِيٌّ .
وهَذِهِ القَاعِدَةُ مِنَ الدَّعَائِمِ والأسُسِ الَّتِي يَقُوْمُ عَلَيْهَا تَحْقِيْقُ التَّوْحِيْدِ وأصُوْلِهِ، وتَيْسِيْرُ الفِقْهِ الإسْلامِيِّ وفُصُوْلِهِ .
قَالَ الشَّاطِبيُّ رَحِمَهُ الله في «المُوَافَقَاتِ» (1/231) :
إنَّ الأدِلَّةَ على رَفْعِ الحَرَجِ في هَذِهِ الأمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ القَطْعِ!
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ
...
الفَصْلُ الثَّاني
مَعْرِفَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ(1/6)
لا شَكَّ أنَّ العِلْمَ بالكُسُوْفِ والخُسُوْفِ عِلْمٌ عَامٌّ يَشْتَرِكُ فِيْهِ جَمِيْعُ النَّاسِ مُؤمِنُهُم وكَافِرُهُم، فَهُو عِلْمٌ مُتَوقِّفٌ على مَعْرِفَةِ حِسَابِ جَرَيَانِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وذَلِكَ ممَّا أجْرَى الله عَادَتَهُ في اللَّيْلِ والنَّهَارِ، والشِّتَاءِ والصَّيْفِ، وسَائِرِ مَا يَتْبَعُ جَرَيَانِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله تَعَالى، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? } (الأنبياء33)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? } (يونس5)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? } (الرحمن5)، وقَالَ تَعَالى : { ٹ ٹ وجعل اليل سكناوالشمس والقمر ?? ? ? ? ? } (الأنعام96)، وقَالَ تَعَالى : { ے ے ?? ? ? ? ? ? } (البقرة189)، وقَالَ الله تَعَالى : { ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? } (التوبة36)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?اليل سابق ?? ? ? ? ? } (يس37–40) .
* * *
وكَذَلِكَ أيْضًا نَجِدُ أنَّ الله تَعَالى قَدْ أجْرَى العَادَةَ : بأنَّ الهِلالَ لا يَسْتَهِلُّ إلَّا لَيْلَةَ ثَلاثِيْنَ مِنَ الشَّهْرِ، أو لَيْلَةَ إحْدَى وثَلاثِيْنَ .
وأنَّ الشَّهْرَ لا يَكُوْنُ إلَّا ثَلاثِيْنَ أو تِسْعَةً وعِشْرِيْنَ، فمَنْ ظَنَّ أنَّ الشَّهْرَ يَكُوْنُ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أو أقَلَّ فَهُو غَالِطٌ!
فَكَذَلِكَ نَجِدُ أيْضًا أنَّ الله تَعَالى قَدْ أجْرَى العَادَةَ : بأنَّ الشَّمْسَ لا تَنْكَسِفُ إلَّا وقْتُ الاسْتِسْرَارِ (آخِرَ الشَّهْرِ)، إذَا وقَعَ القَمَرُ بَيْنَهَا وبَيْنَ أبْصَارِ النَّاسِ على مُحَاذَاةٍ مَضْبُوْطَةٍ .(1/7)
وأنَّ القَمَرَ لا يَخْسِفُ إلَّا وقْتَ الإبْدَارِ (اللَّيَالي البِيْضَ)، على مُحَاذَاةٍ مَضْبُوْطَةٍ لتَحَوُّلِ الأرْضِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّمْسِ، فالقَمَرُ لا يَخْسِفُ إلَّا في هَذِهِ اللَّيَالي، والهِلالُ يَسْتَسِرُّ آخِرَ الشَّهْرِ : إمَّا لَيْلَةً وإمَّا لَيْلَتِيْنَ، كَما يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وعِشْرِيْنَ، أو لَيْلَةَ ثَلاثِيْنَ، والشَّمْسُ لا تَكْسِفُ إلَّا وقَتْ اسْتِسْرَارِهِ، فمَنْ ظَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُو غَالِطٌ!
فَحِيْنَئِذٍ لَيْسَ مَعْرِفَةُ حِسَابِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ بِدْعًا مِنَ العِلْمِ، لأنَّهُ عِلْمٌ مُتَوقِّفٌ على الحِسَابِ كغَيْرِهِ، مِثْلُ العِلْمِ بأوْقَاتِ الفُصُوْلِ : كأوَّلِ الرَّبِيْعِ، والصَّيْفِ، والخَرِيْفِ، والشِّتَاءِ، وذَلِكَ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الشَّمْسِ أوائِلَ البُرُوْجِ، الَّتِي يَقُوْلُوْنَ فيهَا : إنَّ الشَّمْسَ نَزَلَتْ في بُرْجِ كَذَا؟ أي : حَاذَتْهُ!
* * *
لِذَا فَقَدْ كَانَ مِنَ العِلْمِ الصَّحِيْحِ أنَّ للشَّمْسِ والقَمَرِ لَيَالٍ مُعْتَادَةً، مَنْ عَرَفَهَا عَرَفَ وقْتَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ، كَما أنَّ مَنْ عَلِمَ كَمْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ يَعْلَمُ أنَّ الهِلالَ يَطْلَعُ في اللَّيْلَةِ الفُلانِيَّةِ أو الَّتِي قَبْلَهَا، ولَيْسَ خَبَرُ الحَاسِبِ بذَلِكَ مِنْ بِابِ عِلْمِ الغَيْبِ، ولا مِنْ بَابِ مَا يُخْبِرُ بِهِ أهْلُ التَّنْجِيْمِ، فَإنَّ ذَلِكَ : قَوْلٌ بِلا عِلْمٍ، وادِّعَاءٌ بَاطِلٌ(1) .
* * *
__________
(1) انْظُرْ : «الفَتَاوَى الكُبْرَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (4/424 ،426) .(1/8)
ثُمَّ اعْلَمْ أخِي المُسْلِمُ؛ أنَّ مَا أخْبَرَ بِهِ النِّبِيُّ ? لا يُنَافي كُوْنَ الكُسُوْفِ لَهُ وقْتٌ مَحْدُوْدٌ يَكُوْنُ فيهِ، حَيْثُ لا يَكُوْنُ كُسُوْفُ الشَّمْسِ إلَّا في آخِرِ الشَّهْرِ لَيْلَةِ السَّرَارِ، ولا يَكُوْنُ خُسُوْفُ القَمَرِ إلَّا وسْطِ الشَّهْرِ ولَيَالي الإبْدَارِ، ومَنِ ادَّعَى خِلافَ ذَلِكَ مِنَ المُتَفَقِّهَةِ أو العَامَّةِ فلِعَدَمِ عِلْمِهِ بالحِسَابِ، ولهَذَا يُمْكِنُ المَعْرِفَةُ بِما مَضَى مِنَ الكُسُوْفِ ومَا يُسْتَقْبَلُ، كَما يُمْكِنُ المَعْرِفَةُ بِما مَضَى مِنَ الأهِلَّةِ ومَا يُسْتَقْبَلُ؛ إذْ كُلُّ ذَلِكَ بحِسَابٍ صَحِيْحٍ، كَما قَالَ تَعَالى : { ٹاليل سكنا والشمس والقمر? } (الأنعام96)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? } (الرحمن5)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } (يونس5) .
* * *
ومِنْ هُنَا صَارَ بَعْضُ العَامَّةِ إذَا رَأى المُنَجِّمَ قَدْ أصَابَ في خَبَرهِ عَنِ الكُسُوْفِ المُسْتَقْبَلِ يَظُنُّ أنَّ خَبَرَهُ عَنِ الحَوادِثِ مِنَ هَذَا النَّوْعِ؛ فإنَّ هَذَا جَهْلٌ، إذِ الخَبَرُ الأوَّلُ بمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بَأنَّ الهِلالَ يَطْلَعُ : إمَّا لَيْلَةَ الثَّلاثِيْنَ، وإمَّا لَيْلَةَ إحْدَى وثَلاثِيْنَ، فَإنَّ هَذَا أمْرٌ أجْرَى الله بِهِ العَادَةَ لا يُخْرَمُ أبَدًا .
وبمَنْزِلَةِ خَبَرِهِ أنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ آخِرَ النَّهَارِ، وأمْثَالِ ذَلِكَ، فَمَنْ عَرَفَ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ والقَمَرِ، ومَجَارِيْهِما عَلِمَ ذَلِكَ، وإنْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمًا قَلِيْلَ المَنْفَعَةِ .
بَلْ؛ مُعْظَمُ التَّدْقِيْقِ والتَّوسُّعِ فيهِ كَثِيْرُ التَّعَبِ، قَلِيْلُ الفَائِدَةِ : كالعِلْمِ مَثَلًا بمَقَادِيْرِ الدَّقَائِقِ والثَّواني والثَّوالِثِ في حَرَكَاتِ السَّبْعَةِ المُتَحَيِّرَةِ : { فلا اقسمڑ ڑ الجوار الكنس } (التكوير15-16) .
* * *(1/9)
وأخِيْرًا؛ فَإنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنْ مَعْرِفَةِ حِسَابِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ لا يَصْدُقُ في مَعْرِفَةِ حِسَابِ الإهْلالِ على وجْهِ الضَّبْطِ؛ لأنَّه لا يُضْبَطُ بحِسَابٍ يُعْرَفُ كَما يُعْرَفُ وقْتُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ، فَإنَّ الشَّمْسَ لا تُكْسَفُ في سُنَّةِ الله الَّتِي جُعِلَ لهَا إلَّا عِنْدَ الاسْتِسْرَارِ، وكَذَلِكَ القَمَرُ لا يُخْسَفُ إلَّا في لَيَالي الإبْدَارِ، فمَعْرِفَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ لمَنْ صَحَّ حِسَابُه، مِثْلُ مَعْرِفَةُ كُلِّ أحَدٍ : أنَّ لَيْلَةَ الحَادِي والثَّلاثِيْنَ مِنَ الشَّهْرِ لا بُدَّ أنْ يَطْلُعَ الهِلالُ، وإنَّما يَقَعُ الشَّكُّ لَيْلَةَ الثَّلاثِيْنَ .
* * *
فَنَقُوْلُ : الحَاسِبُ غَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ إذَا صَحَّ حِسَابُه أنْ يَعْرِفَ مَثَلًا أنَّ القُرْصَيْنِ اجْتَمَعَا في السَّاعَةِ الفُلانِيَّةِ، وأنَّه عِنْدَ غُرُوْبِ الشَّمْسِ يَكُوْنُ قَدْ فَارَقَهَا القَمَرُ، إمَّا بعَشْرِ دَرَجَاٍت مَثَلًا، أو أقَلَّ أو أكْثَرَ، والدَّرَجَةُ : هِيَ جُزْءٌ مِنْ ثَلاثْمائَةِ جُزْءٍ مِنَ الفَلَكِ(1) .
البَابُ الثَّاني
( الفَصْلُ الأوَّلُ : حَقِيْقَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
( الفَصْلُ الثَّاني : الحِكْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
( الفَصْلُ الثَّالِثُ : أقْسَامُ النَّاسِ في الظَّوَاهِرِ الفَلَكِيَّةِ .
( الفَصْلُ الرَّابِعُ : أثَرُ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ بالحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ .
( الفَصْلُ الخَامِسُ : آثَارُ الشَّمْسِ والقَمَرِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ .
( الفَصْلُ السَّادِسُ : حُكْمُ عِلْمِ النُّجُوْمِ .
الفَصْلُ الأوَّلُ
حَقِيْقَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/175، 181) (25/185).(1/10)
لا شَكَّ أنَّ الكُسُوْفَ والخُسُوْفَ ظَاهِرَتَانِ فَلَكِيَّتَانِ تَحْدُثَانِ وُفْقًا لسُنَنٍ يُقَدِّرُهَا الله تَعَالى للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ، وبسَبَبِ المَوَاقِعِ النِّسْبِيَّةِ للأجْرَامِ الرَّئِيْسَةِ الثَّلاثَةِ : (الشَّمْسِ، والأرْضِ، والقَمَرِ) بُعْدًا وقُرْبًا، تَوْسُّطًا وانْحِرَافًا، يَكُوْنُ الكُسُوْفُ والخُسُوْفُ .
ثُمَّ الكُسُوْفُ والخُسُوْفُ شَيءٌ وَاحِدٌ، وكَلاهُما قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الأخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ، وكَذَا جَاءَ القُرْآنُ بلَفْظِ الخُسُوْفِ .
إلَّا أنَّ الاصْطِلاحَ الجَارِي عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ الفِقْهِ واللُّغَةِ والفَلَكِيِّيْنَ : أنَّ الكُسُوْفَ يُقَالُ عِنْدَ زَوَالِ ضَوْءِ الشَّمْسِ كُلًّا، أو جُزْءًا، والخُسُوْفَ عِنْدَ ذَهَابِ ضَوْءِ القَمَرِ خَاصَّةً، كُلًّا، أو جُزْءًا .
* * *
( فأمَّا خُسُوْفُ القَمَرِ :
فالقَمَرُ يَخْسِفُ عِنْدَمَا يَحْتَجِبُ كُلُّهُ أو جُزْءٌ مِنْهُ بوُقُوْعِ ظِلِّ الأرْضِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ عِنْدَمَا تَكُوْنُ الأرْضُ بَيْنَ القَمَرِ والشَّمْسِ على اسْتِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، فعِنْدَئِذٍ تَحْجِبُ الأرْضُ ضَوْءَ الشَّمْسِ عَنِ القَمَرِ، ويُسَمَّى الاحْتِجَابُ الكُلِّيُّ : خُسُوْفًا كُلِّيًّا، وذَلِكَ عِنْدَمَا يَقَعُ القَمَرُ في مَنْطَقَةِ الظِّلِّ التَّامِ .
أمَّا إذَا وَقَعَ القَمَرُ في مَنْطَقَةِ شِبْهِ الظِّلِّ فَإنَّ الاحْتِجَابَ يَكُوْنُ جُزْئِيًّا، ويُسَمَّى : خُسُوفًا جُزْئِيًّا .
* * *
( أمَّا كُسُوْفُ الشَّمْسِ :
فالشَّمْسُ تَكْسِفُ عِنْدَمَا يَقَعُ ظِلُّ القَمَرِ على الأرْضِ، وذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُوْنُ القَمَرُ بَيْنَ الأرْضِ والشَّمْسِ، وتَكُوْنُ مَرَاكِزُ هَذِهِ الأجْرَامِ الثَّلاثَةِ على خَطٍّ مُسْتَقِيْمٍ .(1/11)
ويُمْكِنُ أنْ تَحْتَجِبَ الشَّمْسُ خَلْفَ القَمَرِ كُلِّيًّا حِيْنَما تَكُوْنُ المَسَافَةُ بَيْنَ الأرْضِ والقَمَرِ مُنَاسِبَةً لكَي يُغَطِّي قُرْصُ القَمَرِ قُرْصَ الشَّمْسِ كُلِّهِ، ويُسَمَّى هَذَا : كُسُوفًا كُلِّيًّا .
أمَّا إذَا احْتَجَبَ جُزْءٌ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ خَلْفَ القَمَرِ، فَعِنْدَئِذٍ يَكُوْنُ الكُسُوْفُ كُسُوفًا جُزْئِيًّا .
* * *
وكُسُوْفُ الشَّمْسِ الجُزئِيُّ نَوْعَانِ، لا ثَالِثَ لهُما : حَلْقِيٌّ، وجُزْئِيٌّ .
( النَّوْعُ الأوَّلُ : الكُسُوْفُ الحَلْقِيُّ :
وهُوَ احْتِجَابُ وَسَطِ قُرْصِ الشَّمْسِ بجُزْئِهِ الأعْظَمِ خَلْفَ قُرْصِ القَمَرِ؛ حَتَّى لا يَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ إلَّا حَلَقَةٌ مُضِيْئَةٌ تَتَوَسَّطُهَا بُقْعَةٌ سَوْدَاءُ .
( النَّوْعُ الثَّاني : الكُسُوْفُ الجُزْئِيُّ :
وهُوَ احْتِجَابُ جُزْءٍ مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ قَلِيْلًا أو كَثِيْرًا، خَلْفَ قُرْصِ القَمَرِ؛ دُوْنَ تَقْيِيْدٍ لمَسَاحَةِ الاحْتِجَابِ .
* * *
( أسباب الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ :
فَأمَّا أسْبَابُ خُسُوْفِ القَمَرِ، فيَقُوْلُوْنَ : إنَّ مَدَارَ القَمَرِ حَوْلَ الأرْضِ يَمِيْلُ بزَاوِيَةٍ مِقْدَارُهَا خَمْسُ دَرَجَاتٍ تَقْرِيْبًا، على مُسْتَوَى الدَّائِرَةِ الكُسُوْفِيَّةِ (أيْ مَدَارِ الأرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ)، ممَّا يَعْنِي أنَّ مَدَارَ القَمَرِ يَقْطَعُ مُسْتَوَى الدَّائِرَةِ الكُسُوْفِيَّةِ كُلَّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ مَرَّتَيْنِ في مَوْضِعَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ على المَدَارِ يُسَمَّيَانِ : العُقْدَتَانِ .
ويُسَمَّى المَوْضِعُ الَّذِي يَتَقَاطَعُ عِنْدَهُ مَدَارُ القَمَرِ وهُوَ صَاعِدٌ : العُقْدَةُ الصَّاعِدَةُ، والمَوْضِعُ الَّذِي يَتَقَاطَعُ عِنْدَهُ مَدَارُ القَمَرِ، وهُوَ نَازِلُ : العُقْدَةُ النَّازِلَةُ .
* * *(1/12)
ولَوْ كَانَ مَدَارُ القَمَرِ وَاقِعًا عِنْدَ مُسْتَوَى الدَّائِرَةِ الكُسُوْفِيَّةِ نَفْسِهِ، لحَصَلَ خُسُوْفٌ مُنْتَصَفَ كُلِّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ حِيْنَ يَكُوْنُ القَمَرُ بَدْرًا، ولحَصَلَ كُسُوْفٌ نِهَايَةَ كُلِّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ بالضَّرُوْرَةِ، إلَّا أنَّ مَيَلانَ مَدَارِ القَمَرِ بخَمْسِ دَرَجَاتٍ يَجْعَلُ ظِلَّهُ لا يَسْقُطُ على سَطْحِ الأرْضِ إلَّا حِيْنَ يَكُوْنُ في العُقْدَةِ الصَّاعِدَةِ أو العُقْدَةِ النَّازِلَةِ أو قَرِيْبًا مِنْهُما، وكَذَلِكَ القَوْلُ بشَأنِ ظِلِّ الأرْضِ فَلا يَسْقُطُ على القَمَرِ إلَّا حِيْنَ يَكُوْنُ في هَذِه المَوَاضِعِ .
يُوَضِّحُهُ : أنَّ ظِلَّ القَمَرِ الوَاقِعِ على الأرْضِ يُشَكِّلُ مَخْرُوْطًا قَاعِدَتَهُ : هِيَ قُرْصُ القَمَرِ، ورَأسُهُ عِنْدَ سَطْحِ الأرْضِ، فَإذا كَانَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ القَمَرِ والأرْضِ على أصْغَرِهَا تَقَاطَعَ مَخْرُوْطُ الظِّلِّ مَعَ سَطْحِ الأرْضِ الكُرَويِّ مُشَكِّلًا بُقْعَةً مُظْلِمَةً بَيْضَوِيَّةَ الشَّكْلِ يَتَنَاسَبُ قُطْرُهَا عَكْسِيًّا مَعَ بُعْدِ القَمَرِ عَنِ الأرْضِ .
والرَّاصِدُ الوَاقِفُ ضِمْنَ هَذِهِ المَسَاحَةِ البَيْضَوِيَّةِ يَرَى الشَّمْسَ مُنْكَسِفَةً كُسُوفًا كُلِّيًّا، وتَتَحَرَّكُ هَذِهِ المَسَاحَةُ البَيْضَوِيَّةُ المُظْلِمَةُ مِنَ الغَرْبِ إلى الشَّرْقِ على مَسَارٍ يُسَمَّى : مَسَارُ الكُسُوْفِ الكُلِّي، وبسُرْعَةٍ تَتَنَاسَبُ مَعَ مُحَصَّلَةِ سُرْعَةِ دَوَرَانِ الأرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا، وسُرْعَةِ دَوَرَانِ القَمَرِ حَوْلَ الأرْضِ، وهَذِهِ المُحَصَّلَةُ هِيَ بحُدُوْدِ (ألْفَيْنِ كِيْلُو في السَّاعَةِ) تَقْرِيْبًا .(1/13)
لِذَلِكَ تَتَغَيَّرُ مَسَاحَةُ الظِّلِّ بحَسَبِ أوْقَاتِ الكُسُوْفِ، فَهِيَ عَادَةً تَبْدَأُ صَغِيرَةً ثُمَّ تَكْبُرُ حَتَّى تَصِلَ حَدًّا أعْظَمَ تَتَقَلَّصُ بَعْدَهُ بالتَّدَرُّجِ حَتَّى تَتَلاشَى، إنَّ هَذَا الوَصْفَ يَنْطَبِقُ على «الكُسُوْفِ الكُلِّي» .
* * *
( أمَّا بالنِّسْبَةِ للكُسُوْفِ الحَلْقِي : فإنَّه يَحْصُلُ عِنْدَمَا تَكُوْنُ مَرَاكِزُ الأجْرَامِ الثَّلاثَةِ (الشَّمْسِ، والأرْضِ، والقَمَرِ) وَاقِعَةً عِنْدَ خَطٍّ مُسْتَقِيْمٍ لكِنَّ المَسَافَةَ بَيْنَ الأرْضِ والقَمَرِ هِيَ بمِقْدَارٍ يَجْعَلُ رَأسَ مَخْرُوْطِ ظِلِّ القَمَرِ لا يَصِلُ سَطْحَ الأرْضِ، لِذَلِكَ يَظْهَرُ احْتِجَابُ الشَّمْسِ حَلْقِيًّا، ويُسَمَّى ذَلِكَ : «كُسُوْفًا حَلْقِيًّا» .
أمَّا المَنَاطِقُ الَّتِي تَقَعُ في شِبْهِ الظِّلِّ، فإنَّها تُرَى الشَّمْسُ فِيْهَا مُنْكَسِفَةً كُسُوْفًا جُزْئِيًّا، وتَمْتَدُّ مَنْطَقَةُ شِبْهِ الظِّلِّ لمَسَافَاتٍ كَبِيْرةٍ تَتَقَلَّصُ مَعَهَا نِسْبَةُ الكُسُوْفِ .
* * *
وهَذِهِ التَّحْقِيْقَاتُ العِلْمِيَّةُ لَيْسَتْ رَجْمًا بالغَيْبِ، بَلْ هِيَ مَتْرُوْكَةٌ للدِّرَاسَاتِ الفَلَكِيَّةِ الَّتِي أثْبَتَتْهَا التَّجْرُبَةُ، والحِسَابَاتُ الرِّيَاضِيَّةُ عِنْدَ أهْلِ الفَلَكِ والهَيْئَةِ، والله أعْلَمُ .
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِينَ
الفَصْلُ الثَّاني
الحِكْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ
لا شَكَّ أنَّ قَضِيَّةَ كُسُوْفِ ظُهْرِ يَوْمِ الأرْبِعَاءِ، المُوَافِقِ (29/4/1420)، ومَا سَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أضْرَارٍ خَطِيرةٍ قَدْ أخَذَتْ عِنْدَ النَّاسِ مَجالًا وَاسِعًا، حَيْثُ أخَذَ الإعْلامُ الغَرْبيُّ والشَّرقيُّ على عَاتِقِهِ النَّفْخَ في هَذِهِ القَضَايَا والتَّهْوِيْلَ مِنْ شَأنِها .(1/14)
حَتَّى طَغَتْ هَذِهِ الإرْجَافَاتُ على حَقِيْقَة الكُسُوْفِ الشَّرعِيِّ الَّتِي يُخَوِّفُ الله بِهَا عِبَادَهُ؛ ومِنْهُ تَنَاسَى أو تَجَاهَلَ كَثِيْرٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ الحَقِيْقَةَ الشَّرْعِيَّةَ على حِسَابِ هَذِهِ الزَّوْبَعَةِ الجَوْفَاءِ الَّتِي أحْسِبُهَا واللهُ أعْلَمُ مُخْتَلَقَةً، أو في أقْلِّ أحْوَالِها ظَنِّيَّاتٍ قَدْ عَارَضَتْ قَطْعِيَّاتٍ مِنَ النُّصُوْصِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِذَا أرَدْتُ أنْ أقِفَ مَعَ هَذِهِ القَضَايَا بِشَيءٍ مِنَ الإيْجَازِ .
* * *
وقَبْلَ الشُّرُوْعِ في تَفْنِيْدِ هَذِهِ الادَّعَاءَاتِ والقَالاتِ كَانَ مِنَ المُنَاسِبِ أنْ نَقِفَ بالقَارِئ الكَرِيْمِ على حَقِيْقَةِ الحِكْمَةِ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ باخْتِصَارٍ :
( الحِكْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ :
لا شَكَّ أنَّ الخُسُوْفَ والكُسُوْفَ مِنَ الظَّوَاهِرِ الفَلَكِيَّةِ في العَالمِ العُلْوِيِّ، حَيْثُ يُقَدِّرُهُما الله تَعَالى لحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وعِلَّةٍ بَاهِرَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُوْمٌ لَنَا، ومِنْهَا مَا هُوَ مَجْهُوْلٌ عَنَّا :
( فالَّذِي نَعْلَمُهُ مِنْهُما : هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوْصُ الشَّرْعِيَّةُ : وهو تَخْوِيْفُ الله لعِبَادِهِ، وهَذَا الخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لذَاتِهِ، بَلْ كُلُّ خَوْفٍ لَيْسَ مَقْصُوْدًا لذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، خِلافًا للمَحَبَّةِ فَهِيَ مَقْصُوْدَةٌ لذَاتِها، لأنَّ الخَوْفَ يَنْتَهِي بدُخُوْلِ أهْلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، خِلافًا للمَحَبَّةِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ مَعَ المَؤمِنِيْنَ في الجَنَّةِ، بَلْ هِيَ في ازْدِيَادٍ .
لَذَا كَانَ الخَوْفُ عِنْدَ العِبَادِ مِنَ الله تَعَالى قَائِدًا وسَائِقًا لهُم إلى حِكَمٍ وغَايَاتٍ شَرَعَهَا الله تَعَالى : مِنَ التَّوْبَةِ، والإنَابَةِ، والطَّاعَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ .(1/15)
وهَذَا الشَّيءُ الَّذِي نَصَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عِنْدَ رُؤيَةِ وظُهُوْرِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ، حَيْثُ أمَرَنَا الله تَعَالى إذَا رَأيْنَاهُما : أنْ نَفْزَعَ إلى الصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والعِتْقِ والاسْتِغْفَارِ والتَّوْبَةِ وغَيْرِهَا مِنَ العِبَادَاتِ المَشْرُوْعَةِ .
كَما قَالَ ? : «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لا يَنْكَسِفَانِ لمَوْتِ أحَدٍ ولا لحَيَاتِهِ، ولكِنَّهُما آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، فَإذا رَأيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى الصَّلاةِ»، وفي رِوَايَةٍ : «فَإذا رَأيْتُمُوْهُما؛ فَادْعُوا الله وصَلُّوا؛ حَتَّى تَنْكَشِفَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وفي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِ : «حَتَّى تَنْجَلي»، وفي رِوَايَةٍ لهُما : «إنَّ الله يُخَوِّفُ بِهِما عِبَادَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
* * *
( أمَّا مَا نَجْهَلُهُ : مِنَ الحِكَمِ والعِلَلِ في حُدُوْثِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ فَشَيءٌ أضْعَافَ أضْعَافَ مَا نَعْلَمُهُ ، فُهَنَاكَ أمُوْرٌ وحِكَمٌ وعِلَلٌ لا يَعْلَمُهَا إلَّا الله تَعَالى كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? قليلا } (الإسراء85)، وقَوْلُهُ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? } (البقرة255)، وقَوْلُهُ تَعَالى : { ? ? ? ? ? } (يوسف76)، وغَيْرُهَا مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الكَثِيرَةِ .
* * *
ونَقَل المُنَاوِيُّ (2/692) عَنِ الطَّبرِيِّ قَوْلَهُ : «وللكُسُوْفِ فَوَائِدُ :
مِنْهَا : ظُهُوْرُ التَّصَرُّفِ في هَذَيْنِ الخَلْقَيْنِ العَظِيْمَيْنِ، وإزْعَاجُ القُلُوْبِ الغَافِلَةِ، وإيْقَاظُها، وليَرَ النَّاسُ أنْمُوْذَجَ القِيَامَةِ، وكَوْنُهُما يَفْعَلُ بِهِما ذَلِكَ، ثُمَّ يُعَادَانِ فَيَكُوْنُ تَنْبِيْهًا على خَوْفِ المَكْرِ، ورَجَاءِ العَفْوِ، والإعْلامِ بَأنَّه قَدْ يُؤْخَذُ مَنْ لا ذَنْبَ لَهُ؛ فَكَيْفَ بمَنْ لَهُ ذَنْبٌ؟(1/16)
وقَالَ الزَّمخشَريُّ فَقَالُوا : حِكْمَةُ الكُسُوْفِ أنَّه تَعَالى مَا خَلَقَ خَلْقًا إلَّا قَيَّضَ لَهُ تَغْيِيْرَهُ، أو تْبْدِيْلَهُ ليَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ على أنَّ لَهُ مُسَيِّرًا، ومُبَدِّلًا؛ ولأنَّ النَّيِّرَيْنِ يُعْبَدَانِ مِنْ دُوْنِ الله تَعَالى فَقَضَى عَلَيْهِما بسَلْبِ النَّوْرِ عَنْهُما لأنَّهما لَوْ كَانَا مَعْبُوْدَيْنِ لدَفَعَا عَنْ نَفْسَيْهِما مَا يُغَيِّرُهُما ويَدْخُلُ عَلَيْهِما . انْتَهَى .
* * *
وكَذَا لَيْسَ في حَدِيْثِ النَّبيِّ ? المُتَّفَقِ عَلَيْهِ : «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لا يَنْكَسِفَانِ لمَوْتِ أحَدٍ ولا لحَيَاتِهِ، ولكِنَّهُما آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، فَإذا رَأيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى الصَّلاةِ»، مَا يَدُلُّ على نَفْي الأسْبَابِ عَنْهُما بالكُلِّيَّةِ، أو أنَّهُما لَيْسَ لهُما حِكَمٌ وعِلَلُ وفَوَائِدُ أخْرَى .
فَغَايَةُ الحَدِيْثِ أنَّ النَّبِيَّ ? أرَادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُما آيَتَانِ لا مُؤثِّرَانِ خَلْقًا ولا سَبَبًا عِنْدَ مَوْتِ أو حَيَاةِ عَظِيْمٍ، كَما كَانَ يَقُوْلُهُ كَثِيْرٌ مِنْ جُهَّالِ العَرَبِ عِنْدَ الانْكِسَافِ!
فَنَفْيُ هَذَا السَّبَبِ وهَذِهِ العِلَّةِ والحِكْمَةِ، لا يَعْنِي أنَّهما لَيْسَ لهُما سَبَبٌ أو حِكْمَةٌ أو عِلَّةٌ مُطْلَقًا، فنَفَيُ بَعْضِ الأسْبَابِ والحِكَمِ والعِلَلِ لَيْسَ نَفْيًا لجَمِيْعِها، وسَيَأتي لهَذَا بَعْضُ التَّفْصِيْلِ إنْ شَاءَ الله .
* * *(1/17)
وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ الله تَعَالى قَدْ جَعَلَ في الشَّمْسِ والقَمَرِ مَنَافِعَ لعِبَادِهِ، وسَخَّرَهَا لهُم، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? وسخر ? ? ? } (إبراهيم33)، وقَالَ : { ? ? ? ? ? } (الأعراف54)، ومِنْ مَنَافِعِهَا الظَّاهِرَةِ مَا يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ بالشَّمْسِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ، واللَّيْلِ والنَّهَارِ، ونَضَاجِ الثِّمارِ، وخَلْقِ الحَيْوانِ والنَّبَاتِ والمَعَادِنِ؛ وكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بِها لهُم مِنَ التَّرْطِيْبِ والتَّيْبِيْسِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمُوْرِ المَشْهُوْدَةِ .
كَمَا جَعَلَ في النَّارِ الإشْرَاقَ والإحْرَاقَ، وفي المَاءِ التَّطْهِيْرَ والسَّقْيَ، وأمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا في كِتَابِهِ، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? بشرى بين ڑ ڑوأنزلنا من السماء ماء طهوراً - لنحي ? ? ? ? ? ? ? ? ں } (الفرقان48-49)، وقَدْ أخْبَرَ الله في غَيْرِ مَوْضِعٍ أنَّه يَجْعَلُ حَيَاةَ بَعْضِ مَخْلُوْقَاتِهِ ببَعْضٍ، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? الثمرات } (الأعراف57)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ الأرض بعد موتها وبث ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?لقوم يعقلون } (البقرة164)، والله أعْلَمُ .
الفَصْلُ الثَّالِثُ
أقْسَامُ النَّاسِ في الظَّوَاهِرِ الفَلَكِيَّةِ
أمَّا ظَاهِرَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْف وغَيْرِهَا مِنَ المَسَائِلِ الفَلَكِيَّةِ والطَّبِيْعِيَّةِ فَقَدِ انْقَسَمَ النَّاسُ عِنْدَهَا واخْتَلَفُوا اخْتِلافًا كَبِيرًا، وعِنْدَ النَّظَرِ والتَّدْقِيْقِ نَجِدُ النَّاسَ لا يَخْرُجُوْنَ في جُمْلَتِهِم عَنْ خَمْسِ طَوَائِفَ، ونَحْنُ نَذْكُرُهَا باخْتِصَارٍ :
((1/18)
الطَّائِفَةُ الأوْلى : أهْلُ الفَلَكِ والهَيْئَةِ، ممَّنْ اشْتَغَلُوا واعْتَنُوا بالظَّوَاهِرِ الفَلَكِيَّةِ؛ حَيْثُ وَقَفُوا مَعَ مَا شَاهَدُوْهُ مِنَ الحِسَابَاتِ والتَّجَارُبِ، واقْتَصَرُوا على مَا عَلِمُوْهُ مِنْ أُمُوْرِ هَذِهِ الأسْبَابِ والمُسَبِّبَاتِ، وإحَالَةِ الأمُوْرِ عَلَيْهَا .
بمَعْنَى : أنَّها فَاعِلَةٌ بنَفْسِهَا، مُؤثِّرَةٌ في غَيْرِهَا، قَادِرَةٌ في تَغْيِيْرِهَا ... ولَيْسَ للخَالِقِ سُبْحَانَهُ وتَعَالى مَعَهَا تَأثِيْرٌ في الخَلْقِ أو القُدْرَةِ!
ومِنْهُ اعْتَقَدُوا فِيْهَا، وعَوَّلُوا عَلَيْها، حَتَّى كَفَرُوا بِما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وجَحَدُوا المَبْدَأ والمَعَادَ، والتَّوْحِيْدَ والنُّبُوَّاتِ وغَيْرَهَا ممَّا دَفَعَتْهُم إلَيْهِ عُلُوْمُهُم بظَاهِرٍ مِنَ المَخْلُوْقَاتِ وأحْوَالِها . كَما قَالَ الله تَعَالى فِيْهِم : { ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ } (الروم7) .
وقَالَ تَعَالى : { ذلك مبلغهم من العلم ? ? ? ? ? ? ? ? ? اهتدى } (النجم30)، وهَذِهِ الطَّائِفَةُ لاشَّكَّ أنَّ لها وُجُوْدًا كَبِيْرًا في أكْثَرِ بِلادِ الغَرْبِ ، لاسِيَّما المُعْتَنِيْنَ بعِلْمِ الفَلَكِ والنُّجْوِم ، وهَذَا ظَاهِرٌ في كِتَابَاتِهِم وأبحْاَثِهِم، وتَجارُبِهِم .
وهَذهِ ثَانِيَةً؛ أنَّ أكْثَرَ عُلُوْمِ (الفَلَكِ) اليَوْمَ دَاعِيَةٌ في مَطَالِبِهَا إلى إنْكَارِ وُجُوْدِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، والكُفْرِ بِما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، والتَّكْذِيْبِ بالمَعَادِ والنُّبُوَّاتِ!(1/19)
فإنْ أبَيْتَ هَذَا؛ فَأنْظُرْهُم فِيْما يَقُوْلُوْنَ ويَكْتُبُوْنَ، كَي تَرَى حَقِيْقَةَ مَا عِنْدَهُم مِنْ إفْرَازَاتٍ كُفْرِيَّةٍ، ومِنْ عَرِيْضِ نَظَرِيَّاتِهِم : أنَّ الشَّمْسَ هِيَ مَرْكَزُ المَجْمُوْعَةِ الشَّمْسِيَّةِ، أيْ أنَّ الأرْضَ ومَا سِوَاهَا مِنَ الكَوَاكِبِ تَابِعٌ لهَا، وسَائِرٌ خَلْفَهَا، وأنْكَرُوا الأرْضَ الَّتِي خَلَقَ الله العِبَادَ على ظَهْرِهَا ليَعْبُدُوْهُ، وأرْسَلَ فِيْهَا خَيْرَ رُسُلِهِ، وأجْرَى فِيْهَا البِحَارَ والأنْهَارَ، وبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دابةٍ، وأنْبَتَ فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ ... والَّتِي ارْتَضَاهَا سَكَنًا لآدَمَ بَعْدَ الجَّنَّةِ، والَّتِي أشْرَقَهَا بضَوْءِ الشَّمْسِ، وأنَارَهَا بضَوْءِ القَمَرِ، ومِنْهَا المَبْدَأ وإلَيْهَا المَعَادُ!
ثم عَادُوا فَقَالُوا : إنَّ المَجْمُوْعَةَ الشَّمْسِيَّةَ المُكَوَّنَةَ : مِنَ عُطَارِدَ، والزُّهْرَةِ، والأرْضِ، والمِرِّيْخِ، والمُشْتَرِي، وزُحَلَ، و(أوْرَانُوْسْ)، و(نِبْتُوْنْ)، و(بُلُوْتُو)، هِيَ في مَجْمُوْعِها عِبَارَةٌ عَنْ مَجَرَّةٍ، وهَذِهِ المَجَرَّةُ عِنْدَهُم مِنَ المَجَرَّاتِ الصَّغِيرَةِ جِدًّا، والمَجَرَّةُ أيْضًا عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوْعَاتٍ مِنَ الكَوَاكِبِ والنُّجُوْمِ العَظِيْمَةِ الكَثِيْرةِ ممَّا يَعْجَزُ عُلَماءُ الفَلَكِ مِنْ عَدِّهَا أو ضَبْطِهَا .
وهَذِهِ والمَجَرَّةُ أيْضًا تَسْبَحُ في مَدَارٍ لهَا دَاخِلَ مَا يُسَمَّى بالتَّبَّانَةِ، والتَّبَّانَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوْعَاتٍ هَائِلَةٍ كَبِيْرةٍ مِنَ المَجَرَّاتِ العَظِيْمَةِ في عَدَدِهَا وحَجْمِهَا ، ممَّا يَحَارُ عِنْدَهَا عُلَماءُ الهَيْئَةِ والفَلَكِ؛ لأنَّها تُقَدَّرُ عِنْدَهُم بمَلايِيْنَ المَلايِيْنِ مِنَ المَجَرَّاتِ .(1/20)
وهَذِهِ التَّبَّانَةُ أيْضًا هِيَ ومَجْمُوْعَاتٌ أخْرَى كَثِيْرَةٌ عَظِيْمَةٌ مِنَ التَّبَّانَاتِ تُقَدَّرُ بمَلايِيْنَ المَلايِيْنِ المَلايِيْنِ ممَّا لا نِهَايَةَ لهَا ... وكُلُّهَا عِنْدَهُم تَسْبَحُ في الفَضَاءِ الخَارِجِيِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ عِنْدَ أكْثَرِ عُلَماءِ الفَلَكِ اليَوْمَ؟!
وهَلْ هَذَا إلَّا إنْكَارٌ لوُجُوْدِ السَّمَوَاتِ العُلَى؟ وإنْكَارٌ لوُجُوْدِ خَالقٍ فَوْقَ السَّماءِ؟ وهَكَذَا في ضَلالاتٍ كُفْرِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرَهَا ... ومَا هَذا إلَّا نَزْرٌ يَسِيْرٌ ممَّا يَتَفَوَّهُ بِهِ هَؤلاءِ الفَلَكِيُّوْنِ!
* * *
( الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ : المُقَلِّدَةُ مِنْ جُهَّاُل النَّاسِ ممَّنِ انْبَهَرُوا بِما رَأوْهُ عِنْدَ أهْلِ الطَّائِفَةِ الأوْلى مِنْ إصَابَةٍ في بَعْضِ مَا قَالُوْهُ، أو أكْثَرِهِ .
فَظَنُّوا أنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ هَؤلاءِ هُوَ صَوَابٌ لما ظَهَرَ لهُم مِنْ صَوَابِهِم في بَعْضِ الحِسَابَاتِ، والرِّيَاضِيَّاتِ، والطَّبِيْعِيَّاتِ؛ فعِنْدَهَا وَثِقُوا بعُقُوْلهِم، وفَرِحُوا بِما عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ، وظَنُّوا أنَّ سَائِرَ مَا يَقُوْلُوْنَهُ يَجْرِي صَوَابُهُ أيْضًا في العِلْمِ بِالله، وأسْمائِهِ وصِفَاتِهِ ... فَقَاسُوْهُ (عِيَاذًا بالله) بِما شَهِدَ بِهِ الحِسُّ مِنَ الطَّبِيْعِيَّاتِ، والرِّيَاضِيَّاتِ؛ فَعِنْدَهَا تَفَاقَمَ الشَّرُّ، وعَظُمَتِ المُصِيْبَةُ، وكُفِرَ بِالله وبرُسُلِهِ!
* * *
وصَارَ أهْلُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ تُفَكِّرُ بعُقُوْلِ أهْلِ الطَّائِفَةِ الأوْلى، وتَسِيْرُ في طُرُقِهِم المُظْلِمَةِ ، حَيْثُ قَلَّدُوْهُم في أفْكَارِهِم ؛ حَتَّى أصْبَحُوا بَيْنَ أيْدِيْهِم كالمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ غَاسِلِهِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَما شَاءَ .(1/21)
بَلْ إنَّ أحَدَهُم إذَا خَطَرَ ببَالِهِ إشْكَالٌ فِيْما يَقُوْلُهُ هَؤلاءِ، أو دَهَمَه مَا لا حِيْلَةَ لَهُ في دَفْعِهِ مِنْ تَنَاقُضِهِم، وفَسَادِ أصُوْلهِم : تَجِدُهُ يُحسِّنُ الظَّنَّ بِهم، ويَقُوْلُ : لا شَكَّ أنَّ هَؤلاءِ عُلَماءُ فَلَكِ، ورُوَّادُ فَضَاءٍ ... ولهُم مِنَ الخِبْرَاتِ والتَّجَارُبِ والعِلْمِ مَا يَعْسُرُ على مِثْلي إدْرَاكُهُ، وهَكَذَا حَتَّى يُصْبِحَ بُوْقًا لهُم، وغَرَضًا دُوْنَهُم، بحَيْثُ لا يَقْبَلُ فِيْهِم نَقْدًا ولا تَبْدِيْلًا، ولو كَانَ النَّاقِدُ لهُم بَصِيْرًا، بَلْ تَرَاهُ يَطْعَنُ بِكُلِّ مَا أوْتيَ مِنْ غَبَاءٍ في كُلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ في نَقْدِهِم ظَنًّا مِنْهُ أنَّهم عَبَاقِرَةُ العَصْرِ ونَوَادِرُ البَشَرِ ممَّنْ لم يَلْحَقْهُم في عَلْمِهِم أحَدٌ مِنَ الأوَّلِيْنَ والآخِرِيْنَ!
ومَا عَلِمَ هَؤلاءِ أنَّهُم جَعَاسِيْسُ إبْلِيْسَ وأشْطَانُ شَيْطَانٍ، حَيْثُ تَوَهَّمُوا فِيْهِم الحَقَّ وهُمْ مِنَ المُبْطِلِيْنَ، وأنَّهُم عُلَماءٌ وهُم مِنَ الجَاهِلِيْنَ؛ فرُكِّبَ مِنْ ضَلالِ هَؤلاءِ، وجَهْلِ أتْبَاعِهِم مَا اشْتَدَّتْ بِهِ البَلِيَّةُ، وعَظُمَتْ لأجْلِهِ الرَّزِيَّةُ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
ولم يَعْلَمْ هَؤلاءِ المُقَلِّدُوْنَ أنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم قَدْ يَكُوْنُ في عِلْمِ الفَلَكِ والهَيْئَةِ إمَامًا، وهُوَ أجْهَلُ خَلْقِ الله بالطِّبِّ والهَنْدَسَةِ وعِلْمِ الأرْضِ وغَيْرِهَا مِنَ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ، وقَدْ يَكُوْنُ رَأسًا في الطِّبِّ، وهُوَ أجْهَلُ الخَلْقِ بعِلْمِ الفَلَكِ والحِسَابِ و(الكِيْمِيَاءِ)، و(الفِيْزِيَاءِ) وغَيْرِهَا، وهَكَذَا في سِلْسِلَةٍ مِنَ المُنَاكَدَاتِ الجَهْلاءِ، والمُعَارَضَاتِ الحَمْقَاءِ!(1/22)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ هَذِهِ العُلُوْمَ الدِّنْيَوِيَّةَ الطَّبِيْعِيَّةِ مُتَقَارِبَةٌ في كَثِيْرٍ مِنْ أجْنَاسِهَا ودِرَاسَاتِهَا واكْتِشَافَاتِهَا، إلَّا أنَّ البُعْدَ بَيْنَهَا وبَيْنَ عُلُوْمِ الرُّسُلِ أعْظَمُ مِنْ البُعْدِ بَيْنَ بَعْضِهَا البَعْضِ، فَإذَا كَانَ الرَّجُلُ إمَامًا في هَذِهِ العُلُوْمِ ولم يَعْلَمْ بَأيِّ شَيءٍ جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ولم يَتَفَقَّهْ في عُلُوْمِ الإسْلامِ فَهُوَ كالعَامِي بالنِّسْبَةِ إلى عُلُوْمِهِم، بَلْ أبْعَدُ مِنْهُ، كَما أنَّها عَلَيْهِ في الدُّنْيَا ضَلالٌ، وفي الآخِرَةِ وَبَالٌ، ومَا أكْثَرَ مَنْ هَذِهِ حَالهُم في زَمَانِنَا، فَإلى الله المُشْتَكَى!
* * *
وهَذَا لا يُصَدِّقُ بِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ مَا عِنْدَ هَؤلاءِ، وعَرَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ووَازَنَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ؛ فَحِيْنَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُ التَّفَاوَتُ الكَبِيْرُ والْبَوْنُ الشَّاسِعُ بَيْنَهُم .
وأمَّا فُرُوْخُ الغَرْبِ ومُقَلِّدُو الفَلَكِيِّيْنَ مِنَ الجُهَّالِ والمُتَعَالِميْنَ والعِلْمانِيِّيْنَ ممَّنْ لم يَعْرِفُوا حَقِيْقَةَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَيْسَ هَذَا عُشُّهُم؟!
* * *
( الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ : رَأتْ مُقَابَلَةَ هَؤلاءِ بَرَدِّ كُلِّ مَا قَالُوْهُ مِنْ حَقٍّ وبَاطِلٍ، وظَنُّوا أنَّ ضَرُوْرةَ تَصْدِيْقِ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ : هُوَ رَدُّ ما عَلِمَهُ هَؤلاء بالعَقْلِ الضَّرُوْرِي، وما عَلِمُوا مُقَدِّمَاتِهِ بالحَسِّ والتَّجْرُبَةِ فَنَازَعُوْهُم فِيْهِ، وتَعَرَّضُوا لإبْطَالِهِ بمُقَدِّمَاتٍ جَدَلِيَّةٍ لا تُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا، بَلْ جَاءوا بمُقَدِّمَاتٍ وأقُوَالٍ تَدُلُّ في حَقِيْقَتِهَا (للأسَفِ) على جَهْلِهِم بِما عِنْدَ أهْلِ الطَّائِفَةِ الأوْلى .(1/23)
بَلْ قَدْ دَلَّ الكِتَابُ والسُّنَّةِ وإجْمَاعُ عُلُماءِ الأمَّةِ على بَعْضِ مَا عَلَيْهِ أهْلُ المَعْرِفَةِ مِنْ أهْلِ الحِسَابِ ممَّا ردَّهُ هَؤلاءِ بجَهْلِهِم، لاسِيَّما مِنْ أنَّ الأفْلاكَ مُسْتَدِيْرَةٌ (كُرَوِيَّةٌ) لا مُسَطَّحَةٌ، ودَوَرَانِ الأرْضِ والشَّمْسِ، بَلْ جَمِيْعُ الكُوَاكِبَ، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? } (الأنبياء33)، وقَوْلِهِ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? الليل سابق ?? ? ? ? ? } (يس40) .
* * *
وأشَدُّ ذَلِكَ وأعْظَمُهُ : أنَّهم أضَافُوا مَا عِنْدَهُم مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وأقُوَالٍ إلى الرُّسُلِ ومَا جَاءَتْ بِهِ، وزَعَمُوا أنَّ الرُّسُلَ جَاءوا بِما يَقُوْلُوْنَهُ مِنْ فَسَادِ وإنْكَارِ مَذْهَبِهِم ممَّا عُلِمَ عِنْدَهُم بالحِسَابِ والحِسِّ والتَّجْرُبَةِ!
فعِنْدَهَا تَسَلَّطَ أهْلُ الطَّائِفَةِ الأوْلى لاسِيَّما المَلاحِدَةُ مِنْهُم على القَوْلِ بالظَّنِّ، والطَّعْنِ في مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وعَلَيْهِ ظَنُّوا بأنْفُسِهِم أنَّهُم أعْلَمُ وأعْرَفُ مِنَ الرُّسُلِ!
وضَرَرُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ بالدِّيْنِ كَضَرَرِ أوْلَئِكَ المَلاحِدَةِ، فَهُما ضَرَرَانِ على الدِّيْنِ : ضَرَرُ مَنْ يَطْعَنُ فِيْهِ، وضَرَرُ مَنْ يَنْصُرُهُ بغَيْرِ طَرِيْقٍ صَحِيْحٍ، والله المُسْتَعَانُ على مَا يَصِفُوْنَ(1) .
__________
(1) انْظُرْ : «مِفْتَاحَ دَارِ السَّعَادَةِ» لابنِ القَيِّمِ (3/221) باخْتِصَارٍ وتَصَرُّفٍ.(1/24)
ومِنْ خِلالِ هَذَا النَّفَقِ الَّذِي حَفَرَهُ أهْلُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ بجَهْلِهِم ومُعَارَضَتِهِم للمَعْلُوْمِ حِسًّا وتَجْرُبَةً، تَسَلَّلَتْ عِنْدَهَا العِلْمانِيَّةُ في جُنُحِ الظَّلامِ إلى خَفَافِيْشِ فُرُوْخ الغَرْبِ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ (للأسَفِ)، فَعِنْدَهَا خَرَجَ أخَافِشُ الشَّرْقِ مِنْ بَيْنِ فَرْثِ جَهْلِ هَؤلاءِ ودَمِ مَلاحِدَةِ أوْلَئِكَ في أثْوَابِ العِلْمانِيِّيْنَ والمُشَكِّكِيْنَ بدِيْنِهِم!
* * *
فعِنْدَهَا قَامَتْ بَنَاتُ طَبَقٍ تَكْشِفُ عَنْ سَاقِهَا لتُذْكِيْهَا نَارًا ضَارِمَةً بَيْنَ العُلُوْم الدِّنْيَوِيَّةِ التَّجْرِيْبِيَّةِ وبَيْنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ الإسْلامِيَّةِ، فَعِنْدَهَا تَنَاحَرَ الجَهَلَةُ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، فَتَفَرَّقُوا عِنْدَهَا طَرَائِقَ قِدَدًا، وصُوَرًا شَتَّى، مَا بَيْنَ مُؤيِّدٍ غَالٍ، ومُخَالِفٍ جَافٍ!
* * *(1/25)
ومِنْ هُنَا شَالَتِ العَلْمانِيَّةُ بَأذْنَابِهَا، وانْجَابَتْ بأعْنَاقِهَا، وتَنَفَّسَتْ خَبَائِثَ أفْكَارِهَا، فَما كَانَ مِنْهَا إلَّا أنْ أعْلَنَتْهَا مُدَوِّيَةً بَعْدَ تَوَاقُحٍ سَافِرٍ : أنَّ الغَرْبَ قِبْلَةُ العَالمِيْنَ، وشَمْسُ ضُحَى العَارِفِيْنَ، ومَنَارَةُ الحَضَارَاتِ؛ فَعِنْدَهَا عَظَّمُوا وقَدَّسُوا مَا عِنْدَ الغَرْب مِنْ عُلُوْمٍ، وتَجَارُبَ ومَا تَوَصَّلُوا إلَيْهِ مِنْ تَقَدُّمٍ وصِنَاعَاتٍ ... كَما أنَّهُم لم يَقِفُوا عِنْدَ هَذَا الحَدِّ المَشِيْنِ، بَلْ تَجَاوَزُوْهُ إلى الطَّعْنِ والنَّيْلِ والتَّشْكِيْكِ بِما جَاءَ بِهِ الإسْلامُ، وأخَذَوا يَبْسِطُوْنَ ألْسِنَتَهُم وأقْلامَهُم في الاسْتِهْزَاءِ بعُلَماءِ المُسْلِمِيْنَ، وبِما عِنْدَهُم مِنْ عِلْمٍ وفِقْهٍ شِرْعيٍّ، حَيْثُ تَفَوَّهُوا بِما تَنْهَدُّ لَهُ السَّمَوَاتُ والأرْضُ، وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلهِم : إنَّ دِيْنَ الإسْلامِ هُوَ عِنْوَانُ التَّخَلَّفِ والرَّجْعِيَّةِ، ومَا وَصَلَ إلَيْهِ المُسْلِمُوْنَ مِنْ تَخَلَّفٍ وتَأخُّرٍ في التَّقْدُّمِ الدِّنْيَوِيِّ الطِّبِيْعِيِّ (التَّكْنَالُوجِيِّ) إلَّا بسَبَبِ تمَسُّكِهِم بدِيْنِهِم .
وهَكَذَا مَا زَالُوا في مُدَافَعَةِ الحَقِّ (عِيَاذًا بِالله) حَتَّى خَاضُوا بألْسِنَتِهِم النَّجِسَةِ غَمْزًا ولمزًا حِمَى المُسْلِمِيْنَ في عَقَائِدِهِم وأخْلاقِهِم، فَمَرَّةً يَغْمِزُوْنَ في حِجَابِ المَرْأةِ، وتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، ومَرَّةً يَلْمِزُوْنَ في اللِّحَى وتَقْصِيْرِ الثِّيَابِ، وأخْرَى يتَطَاوَلُوْنَ على الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ رَدًّا ورَفْضًا واعْتِرَاضًا وتَأوِيْلًا، باسْمِ : العَصْرِيَّةِ والعَقْلانِيَّةِ، وحُرِّيَّةِ الفِكْرِ!(1/26)
ولهُم أيْضًا مُطَالَبَاتٌ كَأدَاءُ، ونَفَاثَاتٌ مَسْمُوْمَةٌ تَحْتَ دَعَاوِي عَرِيْضَةٍ : كالمُطَالَبَةِ بحُقُوْقِ المَرْأةِ، وتَنْحِيَةِ القَضَاءِ الشَّرْعِيِّ، وإلْغَاءِ هَيْئَاتِ الأمْرِ بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وإلْغَاءِ هَيْئَةِ كِبَارِ أهْلِ العِلْمِ، وتَغْيِيْرِ المَنَاهِجِ الدِّرَاسِيَّةِ، وتَغْيِيْرِ لُغَةِ الخِطَابِ الدِّيْنِيِّ، وتَغْيِيْرِ نِظَامِ الحُكْمِ، ودَعْوَى حُرِّيَةِ الفِكْرِ ... إلخ .
وهَكَذَا مَا زَالُوا في غَيِّهِم يَعْمَهُوْنَ : فَلا للإسْلامِ نَصَرُوا، ولا للكُفْرِ كَسَرُوا، بَلْ لا للقَمَرِ وَصَلُوا ولا للإسْلامِ عَمِلُوا، واللهُ المُسْتَعَانُ على مَا يَصِفُوْنَ!
* * *
( الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ : بَقَايَا مِنْ أهْلِ الغَيْرَةِ والحَمِيَّةِ الإسْلامِيَّة، مِنَ الَّذِيْنَ أخَذَتْهُم العِزَّةُ بلَمَمٍ مِنَ الجَهْلِ، وقِلَّةٍ مِنَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ!
فَهَؤلاءِ مَعَ حُسْنِ ظَنِّهِم وصِدْقِ مُنَاصَرَتِهِم للإسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ؛ إلَّا أنَّهُم (للأسَفِ) لم يَأخُذُوا حَظًّا وَافِرًا مِنَ العِلْمِ الشَّرعِيِّ والتَّأصِيْلِ العِلْمِيِّ، اللَّهُمَّ قَامُوا بدَافِعِ النَّصْرِ والمُنَاصَرَةِ، والتَّوْفِيْقِ والتَّلْفِيْقِ، والتَّجْمِيْعِ والتَّلْمِيْعِ بَيْنَ العُلُوْم الدِّنْيَوِيَّةِ التَّجْرِيْبِيَّةِ وبَيْنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ الإسْلامِيَّةِ، فَظَنُّوا والحَالَةُ هَذِهِ أنَّهم بِهَذَا قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ شُمَيْطَاءِ الغَرْبِ وعَذْرَاءِ الشَّرْقِ، فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، وقَدْ قِيْلَ : مَنْ أكَلَ على مَائِدَتَيْنِ اخْتَنَقَ!
* * *(1/27)
أمَّا إنْ سَألْتَ أخِي المُسْلِمُ عَنْ أصْحَابِ هَذِه الطَّائِفَةِ : فَهُم أصْحَابُ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ)، الَّذِيْنَ ظَهَرُوا مُؤخَّرًا بِدَافِعِ الانْهِزَامِ والانْبِهَارِ بالعُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ الَّتِي أنْتَجَهَا الغَرْبُ اليَوْمَ!
* * *
إنَّ أصْحَابَ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ) لا شَكَّ أنَّهم اليومَ في شُغُلٍ قَائِمِيْنَ، وفي تِجْوَابِ الأرْضِ سَائِحِيْنَ مَا بَيْنَ الشَّرْقِ والغَرْبِ للبَحْثِ والتَّنْقِيْبِ عَمَّا يَقْذِفُهُ أهْلُ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ التَّجْرِيْبِيَّةِ في مُخْتَبَراتِهِم واكْتِشَافَاتِهِم ومَعَامِلِهِم وتَجارُبِهم مِنْ حَقَائِقَ عِلْمِيَّةٍ ونَتَائِجَ اسْتِكْشَافِيَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ كَي يُبَرْهِنُوا للعَالمِ أجْمَعَ، وللغَرْبِ على وَجْهِ الخُصُوْصِ : أنَّ مَا جَادَتْ بِهِ أفْكَارُهُم وفَاضَتْ بِهِ مُخْتَبرَاتُهم لَيْسَتْ عَنَّا ببَعِيْدٍ؛ بَلْ هِيَ في كِتَابِ الله وسُنَّةِ رَسُوْلِه ? مُنْذُ أمَدٍ بَعِيْدٍ ووَقْتٍ قَدِيْمٍ، أي قَبْلَ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةِ سَنَةٍ، وذَلِكَ ونَحْنُ (المُسْلِمِيْنَ) لا مَعَامِلَ عِنْدَنَا ولا مُخْتَبَراتٍ تُسَاعِدُنَا ... ممَّا سَيَكُوْنُ لَنَا هَذَا دَلِيْلٌ قَاطِعٌ على الكَافِرِيْنَ بأنَّنا على دِيْنِ الحَقِّ، وأنَّنا سَبَّاقُوْنَ إلى العِلْمِ التَّجْرِيْبِي الَّذِي أثْبَتَهُ الغَرْبُ، كَما هُوَ ثَابِتٌ في كِتَابِ رَبِّنَا وسُنَّةِ نَبِيَّنَا ? ؟!
* * *(1/28)
نَعَمْ هَذِه مَسَالِكُ دَعَوِيَّةٌ، وحُجَجٌ قَوِيَّةٌ، يَتَعَزَّى بِها المُسْلِمُ يَوْمَ ضَعُفَ في الحَقِّ جَانِبُهُ، وكَثُرَ في النَّاسِ مُخَالِفُهُ، نَعْمْ يَوْمَ عَلا الغَرْبُ في عُلُوْمِهِ الدِّنْيَوِيَّةِ، فَلَمْ يَبْقَ لَنَا إلَّا أنَّ نَتَمَسَّحَ بمِثْلِ هَذِه الطَّرَائِقِ الهَشَّةِ في دَعَوَاتِنَا ... ومَا ذَاكَ مِنَّا (للأسَفِ) إلَّا يَوْمَ ظَنَنَّا أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الطَّرَائِقِ قَوَاطِعَ دَعَوِيَّةً وبَرَاهِيْنَ نَبَوِيَّةً، ثُمَّ طِرْنَا بِها في الشَّرْقِ والغَرْبِ ضَارِبِيْنَ مَنْهَجَ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيَّةِ عُرْضَ الحَائِطِ، إلَّا مَا رَحِمَ الله .
* * *
كَمَا أنَّنا مَعَ تَنْبِيْتِ هَذِه التَّمْتَماتِ الدَّعَوِيَّةِ باسْمِ : (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ) الَّذِي أشْغَلَنَا بِهِ أنْفُسَنَا والمُسْلِمِيْنَ إلَّا كَانَ (للأسَفِ) بدَافِعِ ضَعْفِنَا وتَأخُّرِنَا في مِضْمَارِ التَّجْرُبَةِ والاكْتِشَافِ، فَإنْ كَانَ مِنْ شَيءٍ لَنَا في الإعْجَازِ العِلْمِي اليَوْمَ : فَهُوَ أنَّنا رُوَّادُ صَبْرٍ ورُبْصَةُ انْتِظَارٍ في مُرَاقَبَةِ ومُتَابَعَةِ مَا تَقْذِفُهُ مَعَامِلُ ومُخْتَبرَاتُ الغَرْبِ مِنْ نَتَاجٍ عِلْمِيٍّ؛ حَتَّى إذَا خَرَجَتْ مِنْ رَحِمِ هَذِهِ المُخْتَبرَاتِ فإنَّنَا لا نَدَعُهَا في أيْدِيْهِم طَرْفَ عَيْنٍ حَتَّى نَفْتِلَ لهَا الحَبَائِلَ كَي نَرْبِطَهَا بِما عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ وسُنَّةٍ، ولَوْ على تَكَلُّفٍ سَاذَجٍ، وحَيْدَةٍ مَكْشُوْفَةٍ!(1/29)
وكَذَا لَيْسَ لَنَا والحَالَةُ هَذِهِ مِنْ مَلْجَأ ولا مَخْرَجٍ مَعَ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ) الَّذِي ارْتضَيْنَاهُ كدَعْوَةٍ عَصْرِيَّةٍ إلَّا أنْ نُقِرَّ للعَالمِ أجْمَعَ لاسِيَّما الغَرْبِ الكَافِرِ : أنَّ النَّبِيَّ ? والصَّحَابَةَ والتَّابِعِيْنَ لهُم بإحْسَانٍ، لم يَكُوْنُوا على عِلْمٍ وفَهْمٍ كَافٍ بالكِتَابِ والسَّنَّةِ؛ لأنَّ هَذِهِ العُلُوْمَ الدِّنْيَوِيَّةَ التَّجْرِيْبِيَّةَ الَّتِي بَهَرَتِ القُلُوْبَ، وسَحَرَتِ العُيُوْنَ، كَانَتْ عَنْهُم مَحْجُوْبَةً مَسْتُوْرَةً مَكْنًوْنَةً بَيْنَ آيَاتِ القُرْآنِ والأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيْفَةِ، ولِعَدَمِ امْتِلاكِهِم لهَذِهِ المُخْتَبرَاتِ والمَعَامِلِ الحَدِيْثَةِ؛ حَتَّى جَاءَ عُبَّادُ الصَّلِيْبِ وإخْوُانُ القِرَدَةِ والخَنَازِيْرِ، وعُبَّادُ البَقَرِ والنِّيْرانِ والأصْنَامِ والأحْجَارِ : فَكَشَفُوْهَا وبَيِّنُوْهَا بَعْدَمَا كَانَتْ خَلْفَ حِجَابِ المَعَامِلِ والمَخْتَبرَاتِ؟!
* * *
نَعَمْ هَذَا لازِمٌ ومَلْزُوْمٌ، قَدْ قُلتُمُوْهُ وقَرَّرتُمُوْهُ سَوَاءٌ في كُتُبِكُم عَنِ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ)، أو مُحَاضَرَاتِكِم عَنْهُ .
بَلْ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أنْصَارِ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ)، قَدْ أفَصَحُوا بتَجْهِيْلِ النَّبِيِّ ?، والصَّحَابَةِ، وسَائِرِ الأمَّةِ بهَذِهِ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ!
يَقُوْلُ الله تَعَالَى : { ٹ ٹ ٹالكتاب بأيديهم ثم يقولون ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?كتبت أيديهم وويلٌ لهم ? ? } (البقرة79) .
وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? } (الزخرف19) .(1/30)
إنَّها حَقَائِقُ مُرَّةٍ، كَانَ مِنَ الصَّعْبِ أن نُنْكِرَهَا، أو نُكَذِّبَها! إلاَّ أنَّني لَسْتُ هُنَا بصَدَدِ بَيَانِ أخْطَاءِ دُعَاةِ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ) مِنَ المُسْلِمِيْنَ، لكِنْ هَذِهِ شَذَرَاتٌ تُنْبِئُكَ بِما وَرَائِها، ذَكَرْتُها هُنَا تَبْصِرَةً للمُسْلِمِيْنَ، وتَذْكِرَةً للغَافِلِيْنَ، فَتَأمَّلْ .
عِلمًا أنَّني ولله الحَمْدُ قَدْ أدَرْتُ قَلَمِي في ذِكْرِ أخْطَاءِ الإعْجَازِ العِلْمِيِّ مِنْ خِلالِ كِتَابٍ مُخْتَصَرٍ، واللهَ أسْألُ أنْ يَخْرُجَ قَرِيْبًا!
* * *
( الطَّائِفَةُ الخَامِسَةُ : أهْلُ العِلْمِ والنَّظَرِ، الَّذِيْنَ جَمَعُوا بَيْنَ العِلْمِ الشَّرعِيِّ، والعِلْمِ المَادِيِّ، فَلَمْ تَتَعَارَضْ عِنْدَهُم العُلُوْمُ الشَّرْعِيَّةُ، والعُلُوْمُ الدِّنْيَوِيَّةُ : كالفَلَكِ، والهَيْئَةِ، والحِسَابِ، والهَنْدَسَةِ، والطَّبِ، و(الكِيْمِيَاءِ)، و(الفِيْزِيَاءِ) وغَيْرِهَا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ويُؤيِّدُ بَعْضُهَا الآخَرَ، فالعِلْمُ الشَّرعِيُّ أمْرُ الله، والعِلْمُ الدِّنْيَوِيُّ خَلْقُ الله، فَلا تَعَارُضَ بِيْنَ خَلْقِ الله وأمْرِهِ .
كَمَا قَالَ تَعَالى : { ں ں ? ?? ? ? ? ہ } (الأعراف54) .
فجَعَلُوا التَّجْرُبَةَ الصَّحِيْحَةَ الثَّابِتَةَ طَرِيْقًا إلى الإيْمانِ بالله، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ } (الذاريات20-21).
وقَالَ تَعَالى : { ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? } (الغاشية17-26) .
وقَالَ تَعَالى : { في خلق ڑڑواختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب اللذين ? ? ?? ? ? ?? ں ں ? ?????ہ ہہ ہ } (آل عمران190-191) .(1/31)
التَّجَارُبِ قَطْعِيَّاتِ الشَّرْيْعَةِ . وقَالَ تَعَالى : { إن ? ? ? ? واختلاف الليل والنهار والفلك ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?لقومٍ يعقلون } (البقرة164)، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ على التَّفَكُّرِ، والدَّاعِيَةِ إلى النَّظَرِ إلى مَلَكُوْتِ الله تَعَالى في خَلْقِهِ .
* * *
إنَّهُم أهْلُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ، الَّذِيْنَ جَعَلُوا دِيْنَ الإسْلامِ دَاعِيًا إلى البَحْثِ عَنِ الحَقِيْقَةِ المَادِيَّةِ، وداعيًا إلى العِلْمِ التَّجْرِيْبِي؛ إذْ لا تَعَارُضَ بَيْنَهُما، فَكَانَ مَنْهَجُهُم نَحْوَ هَذِه العُلُوْمِ الطَّبِيْعِيَّةِ يَرْتَكِزُ على ثَلاثِ حَالاتٍ :
( الحَالَةُ الأوْلى : مَا عَارَضَ مِنْهَا الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ، فَهُوَ مَرْدُوْدٌ جُمْلَةً وتَفْصِيْلًا، وهَذَا وُجُوْدُهُ مُحَالٌ ومُمْتَنِعٌ، لأنَّ مَا يَظُنُّه كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ أنَّ هُنَاكَ ثَمَّةَ تَعَارُضًا قَدْ يَحْصُلُ بَيْنَ التَّجَارُبِ والنَّظَرِيَّاتِ المَادِيَّةِ، وبَيْنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا غَيْرُ صَحِيْحٍ، وذَلِكَ لأمُوْرٍ ثَلاثَةٍ :
الأمْرُ الأوَّلُ : إمَّا أنْ تَكُوْنَ التَّجْرُبَةُ ظَنِّيَّةً لم تَثْبُتْ حَقِيْقَتُهَا؛ وعِنْدَ هَذَا لا تُقَاوِمُ ظَنِّيَّاتُ
الأمْرُ الثَّاني : وإمَّا أنْ تَكُوْنَ دَلالَةُ النَّصِّ الشَّرْعِيِّ ظَنِّيَّةً تَحْتَمِلُ صِدْقَ التَّجْرُبَةِ وتَكْذِيْبَهَا، فهَذَا لَيْسَ فِيْهِ تَعَارُضٌ أصْلًا، لأنَّ القَطْعِيَّاتِ لا تَتَعَارَضُ بحَالٍ .
الأمْرُ الثَّالِثُ : وإمَّا أنْ يُحمَّلَ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ مَا لا يَحْتَمِلُ، فَهَذَا خَطَأٌ، لَيْسَ مَحلًا للقَوْلِ بالتَّعَارُضِ .
* * *
((1/32)
الحَالَةُ الثَّانِيَةُ : مَا وَافَقَ مِنْهَا الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ، فَهَذَا حَقُّهُ التَّسْلِيْمُ والتَّصْدِيْقُ؛ لأنَّ في تَكْذِيْبِهَا تَكْذِيْبًا للشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ، والعَكْسُ بالعَكْسِ .
( الحَالَةُ الثَّالِثَةُ : مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ، بِحَيْثُ لم تَتَكَلَّمْ عَنِ التَّجْرُبَةِ رَأسًا : لا إثْبَاتًا ولا نَفْيًا، فَهُنَا لا يَجُوْزُ لأحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ أنْ يُثْبِتَ أو يَنْفِيَ التَّجْرُبَةَ بدَلالَةِ النَّصِّ الشَّرعِيِّ ؛ والحَالَةُ هَذِهِ تَكُوْنُ التَّجَارَبُ الطَّبِيْعِيَّةُ مِثْلَ أخْبَارِ بَنِي إسْرَائِيَلَ لا تُصَدَّقُ ولا تَكُذَّبُ؛ فَما أثْبَتَتْهُ التَّجْرُبَةُ العِلْمِيَّةُ أثْبَتْنَاهُ، ومَا نَفَتْهُ نَفَيْنَاهُ، والله أعْلَمُ .
الفَصْلُ الرَّابِعُ
أثَرُ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ
إنَّ مَسْألَةَ تَأثِيْرِ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ بالحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ : مِنْ مَوْتٍ وحَيَاةٍ، وسُعُوْدٍ ونُحُوْسٍ، وخَيْرٍ وشَرٍّ، وكَذَا مِنْ إشْرَاقٍ وغُرُوْبٍ وزَوَالٍ، وصَيْفِ وشِتَاءٍ، وحَرَارَةٍ وبُرُوْدَةٍ ورُطُوْبَةٍ ويُبُوْسَةٍ، وتَخْوِيْفٍ وعَذَابٍ كَالرِّيَاحِ العَاصِفَةِ والزَّلازِلِ والبَرَاكِيْنِ، والجَدْبِ والأمْطَارِ... لهِيَ مِنَ المَسَائِلِ الكِبَارِ الَّتِي حَارَتْ عِنْدَهَا أكْثَرُ عُقُوْلِ بنَي آدَمَ لاسِيَّما المُنْتَسِبِيْنَ إلى الإسْلامِ؛ حَيْثُ أخَذَتْ مَجَالًا وَاسِعًا في الخِلافِ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا، وعَلَيْهِ تَمَهَّدَ الخِلافُ في اعْتِقَادِهَا وفي تَصَوُّرِهَا وفي حُكْمِهَا، وذَلِكَ بالنَّظَرِ إلى تَجْرِيْدِ التَّوْحِيْدِ والأخْذِ بالأسْبَابِ، وعِنْدَ الأُلْقِيَّةِ نَجِدُ النَّاسَ حَوْلها طَرَفَيْنِ ووَسَطًا .
* * *(1/33)
فَإمَّا قَادِحٌ في التَّوْحِيْدِ بالأسْبَابِ، وإمَّا مُنْكِرٌ للأسْبَابِ بالتَّوْحِيْدِ، وذَانِ طَرَفَانِ مَذْمُوْمَانِ شَرْعًا وعَقْلًا، فَهُما طَرَفَا نَقِيْضٍ لا يَجْتَمِعَانِ ولا يَتَّفِقَانِ!
وأمَّا الوَسَطُ فَهُم أهْلُ الحَقِّ الَّذِيْنَ جَرَّدُوا التَّوْحِيْدَ لله تَعَالى وأخَذُوا بالأسْبَابِ، ورَبَطُوا بَيْنَهُما بمُقْتَضَى الشَّرْعِ والعَقْلِ .
لأنَّ التَّعَلُّقَ بالأسْبَابِ وَحْدَهَا شِرْكٌ في التَّوْحِيْدِ، وإنْكَارُهَا طَعْنٌ في الحِكْمَةِ والعَقْلِ، فكَانَ الحَقُّ تَجْرِيْدَ التَّوْحِيْدِ لله تَعَالى والتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، مَعَ الأخْذِ بالأسْبَابِ وإثْبَاتِها، والله المُوَفِّقُ للصَّوَابِ .
وباخْتِصَارٍ؛ فَقَدْ جَرَى خِلافُ النَّاسِ بَيْنَ تَجْرِيْدِ التَّوْحِيْدِ والأخْذِ بالأسْبَابِ، على ثَلاثَةِ أقْسَامٍ، كَمَا يَلي :
القِسْمُ الأوَّلُ : تَجْرِيْدُ التَّوْحِيْدِ، وإثْبَاتُ الأسْبَابِ، وهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ، كَمَا هُوَ حَالُ المُوَحِّدِيْنَ .
القِسْمُ الثَّاني : تَجْرِيْدُ التَّوْحِيْدِ، وإنْكَارُ الأسْبَابِ بالكُلِّيَّةِ، كَمَا هُوَ حَالُ الضَّالِيْنَ .
القِسْمُ الثَّالِثُ : تَجْرِيْدُ الأسْبَابِ، والاعْتِمَادُ عَلَيْهَا بالكُلِّيَّةِ، كَمَا هُوَ حَالُ المُشْرِكِيْنَ على اخْتِلافِ أصْنَافِهِم ومِلَلِهِم .
* * *
لِذَا كَانَتْ مَسْألَةُ : هَلْ للحَرَكاَتِ الفَلَكِيَّةِ العُلْوِيَّةِ سَبَبٌ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ؟ مِدْعَاةً وتَنْبِيْتًا للغُلُوِّ والإفْرَاطِ، ممَّا كَانَ أيضًا سَبَبًا في الانْحِرَافِ عَنْ جَادَةِ أهْلِ السُّنَّةِ في تَحْقِيْقِ النَّظَرِ إلى تَجْرِيْدِ التَّوْحِيْدِ وإثْبَاتِ الأسْبَابِ، فَكَانُوا والحَالَةُ هَذِهِ طَوَائِفَ ثَلاثٍ :
((1/34)
الطَّائِفَةُ الأوْلى : مَنْ غَلَتْ في الاعْتِمادِ على الأسْبَابِ بالكُلِّيَّةِ؛ حَيْثُ اعْتَقَدَتْ أنَّ للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ العُلْوِيَّةِ أسْبَابًا قَاضِيَةً بنَفْسِهَا فَاعِلَةً بذَاتِهَا... في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ السُفْلِيَّةِ : مِنْ خَيْرٍ وشَرٍّ، ومَوْتٍ وحَيَاةٍ، وسَعَادَةٍ وشَقَاوَةٍ، وحَرَارَةٍ وبُرُوْدَةٍ، ورُطُوْبَةٍ ويُبُوْسَةٍ ... إلخ .
وهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ جِنْسِ عُبَّادِ الكَوَاكِبِ، الَّذِيْنَ أشْرَكُوا بِرَبِّ العَالمِيْنَ، وكَفَرُوا بِما جَاءتْ بِهِ الشَّرَائِعُ، وكَذَّبُوا بالرُّسُلِ .
* * *
( الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ : مَنْ فَرَّطَتْ في الأسْبَابِ فأنْكَرَتْها بالكُلِّيَّةِ، ظَنًّا مِنْهُم أنَّ تَجْرِيْدَ التَّوْحِيْدِ لله تَعَالى لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بإنْكَارِ الأسْبَابِ وعَدَمِ إثْبَاتِها أو الأخْذِ بِها؛ حَيْثُ إنَّها أنْكَرَتْ أنْ يَكُوْنَ للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ العُلْوِيَّةِ أسْبَابٌ مُؤثِّرَةٌ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ بالكُلِّيَّةِ، وهَذِهِ الطَّائِفَةُ قَدْ ضَلَّتْ في تَحْقِيْقِ التَّوْحِيْدِ لمَّا عَطَّلَتِ الأسْبَابَ بالكُلِّيَّةِ، وخَالَفَتِ الحِكْمَةَ الشَّرعِيَّةَ الَّتِي جَاءَتْ بِها الشَّرَائِعُ، ونَاقَضَتْ بَدَائِهَ العُقُوْلِ، فعِنْدَئِذٍ قَابَلَتِ الطَّائِفَةَ الأوْلى في الانْحِرَافِ في حَقِيْقَةِ التَّوْحِيْدِ .
فَالأوْلى كَانَ انْحِرَافُهَا في الشِّرْكِ في التَّوْحِيْدِ، والثَّانِيَةُ كَانَ كَانَ انْحِرَافُهَا في تَصَوُّرِ التَّوْحِيْدِ، والله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .
* * *
((1/35)
الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ : أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الَّذِيْنَ هَدَاهُمُ الله تَعَالى لمَا اخْتَلَفَتْ فِيْهِ الطَّائِفَتَانِ؛ حَيْثُ قَامَتْ بحَقِّ الشَّرْعِ والعَقْلِ، فجَمَعَتْ بَيْنَ القَدَرِ والحِكْمَةِ، فَلَمْ تُنَاقِضِ الشَّرْعَ بالقَدَرِ، ولم تُكَذِّبْ بالقَدَرِ، وذَلِكَ بتَحْقِيْقِ التَّوْحِيْدِ مَعَ الأخْذِ بالأسْبَابِ، فَعِنْدَهَا أثْبَتَتْ أنَّ للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ العُلْوِيَّةِ أسْبَابًا مُؤثِّرَةً في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ المَعْلُوْمَةِ بالتَّجْرُبَةِ والحِسِّ على مَا يَأتي تَفْصِيْلُه إنْ شَاءَ الله .
وهِيَ مَعَ هَذَا تَعْلَمُ وتَعْتَقِدُ أنَّ الله تَعَالى هُوَ الخَالِقُ المَالِكُ المُدَبِّرُ، القَادِرُ النَّافِعُ الضَّارُ، مُسَبِّبُ الأسْبَابِ ومُقَدِّرُهَا لحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وعِلَّةٍ بَاهِرِةٍ، كَما أنَّها تَعْلَمُ أنَّ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةَ العُلْوِيَّةَ لَيْسَتْ أسْبَابًا كُلِّيَّةً مُسْتَقِلَّةً في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الأجْزَاءِ وسَبَبٌ مِنَ الأسْبَابِ الَّتِي لا يَعْلَمُهَا إلَّا فَاطِرُ السَّمَواتِ والأرْضَ، خَالِقُ كُلَّ شَيءٍ، عَالمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ!
ثُمَّ إنْ فُرِضَ أنَّ الأفْلاكَ بنُجُوْمِهَا سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ لحَوَادِثِ الأرْضِ، إلَّا أنَّ العِلْمَ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وغَيْرُ مُنْضَبِطٍ!(1/36)
كَمَا أنَّ هَذِهِ الأسْبَابَ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الله إذَا اجْتَمَعَتْ فَإنَّها لَيْسَت بالضَّرُوْرِيِّ تَكُوْنُ مُؤثِّرَةً في حَوَادِثِ الأرْضِ، بَلْ هُنَاكَ مَوَانِعُ تَمْنَعُهَا مِنَ التَّأثِيْرِ والتَّغْيِيْرِ، فَتَأثِيْرُهَا مُتَوَقِّفٌ على اسْتِيْفَاءِ الشُّرُوْطِ وانْتِفَاءِ المَوَانِعِ، والكُلُّ مِنَ الشَّرْطِ والمَانِعِ هُوَ أيْضًا بتَقْدِيْرِ الله تَعَالى، مَتَى شَاءَ قَدَّرَهَا، ومَتَى شَاءَ صَرَفَهَا، فَهُوَ الخَالِقُ القَادِرُ، فَهُوَ وَاقِعٌ بقُدْرَةِ الله ومَشِيْئَتِهِ فَما شَاءَ الله مِنْ ذَلِكَ كَانَ، ومَا لم يَشَأ لم يَكُنْ ولا تتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إلا بمَشِيْئَتِهِ وإرَادَتِهِ، والكَوَاكِبُ والنُّجُوْمُ، بَلْ جَمِيْعُ الخَلْقِ هُوَ أضْعَفُ وأعْجَزُ أنْ يَفْعَلُوا مَا لم يَشْأهُ الله تَعَالى، كَما قَالَ تَعَالى : { ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ } (الرعد16)، وقَالَ تَعَالى : { الله خلق?? وهو على كل شىءٍ ? } (الزمر62)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? } (البقرة106)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? } (التكوير29) .
* * *
ثُمَّ هُمْ أيْضًا يُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ مَا هُوَ مَعْلُوْمٌ بالتَّجْرُبَةِ والحِسِّ ، وبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ الِّذِي اسْتَأثَرَ الله بِهِ .
( فَأمَّا القِسْمُ الأوَّلُ مِنْهُما : مَا كَانَ مَعْلُوْمًا بالتَّجْرُبَةِ والحِسِّ : مِنْ صَيْفِ وشِتَاءٍ، وحَرَارَةٍ وبُرُوْدَةٍ ورُطُوْبَةٍ ويُبُوْسَةٍ، وتَخْوِيْفٍ وعَذَابٍ كَالرِّيَاحِ والزَّلازِلِ والجَدْبِ والأمْطَارِ ... فَهَذَا لا شَكَّ أنَّ للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ سَبَبًا وتَأثِيْرًا فِيْهَا، وهَذَا بأمْرِ الله وخَلْقِهِ وتَقْدِيرِهِ، وهَذَا لا يُنْكِرُهُ إلَّا جَاهِلٌ أو مُكَابِرٌ .
* * *
((1/37)
وأمَّا القِسْمُ الثَّاني مِنْهُما : مَا كَانَ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ الِّذِي اسْتَأثَرَ الله بِهِ : كَالحَيَاةِ والمَوْتِ، والسَّعَادَةِ والشَّقَاوَةِ، والنَّصْرِ والغَلَبَةِ، والغِنَى والفَقْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ عِلْمُهَا عِنْدِ الله تَعَالى، فَمَنِ ادَّعَاهَا، أو اسْتَدَلَّ بِشَيءٍ مِنَ النُّجُوْمِ أو الشَّيَاطِيْنِ أو غَيْرِهِما على عِلْمِ الغَيْبِ : فَهُوَ كَافِرٌ كَاذِبٌ، يُسْتَتَابُ وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ رِدَّةً وكُفْرًا عِيَاذًا بالله .
كَما قَالَ تَعَالى : { ٹ ٹ ٹ من في السموات والأرض ? ? ?? ? ? ? ? } (النمل65)، وقَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? غدا ? ? ? ? ? ?? ? ? ? خبير } (لقمان34) .
* * *
فإذا ثَبَتَ أنَّ للحَرَكَاتِ العُلْوِيَّةِ أسْبَابًا في الحَوادِثِ الأرْضِيَّةِ (أي : في مَا عُلِمَ مِنْهَا بالتَّجْرُبَةِ والحِسِّ)، فَإنَّ هَذَا القَدْرَ لا يَجُوْزُ للمُسْلِمِ أنْ يَجْزِمَ بِنَفْيِهِ إذِ الله سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ المَخْلُوقَاتِ أعْيَانَهَا وصِفَاتِهَا وحَرَكَاتِهَا سَبَبًا لِبَعْضٍ، ولَيْسَ في هَذَا مَا يُحِيلُهُ شَرْعٌ ولا عَقْلٌ .
لَكِنْ المُسْلِمُونَ قِسْمَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا لا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ، فَلا يَجُوزُ القَوْلُ بِهِ فَإنَّهُ قَوْلٌ بِلا عِلْمٍ .(1/38)
وآخَرُ يَقُولُ : بَلْ هُو ثَابِتٌ في الجُمْلَةِ ؛ لِأنَّهُ قَدْ عُرِفَ بَعْضُهُ بِالتَّجْرِبَةِ ولأنَّ الشَّرِيعَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ? : «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ لَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والتَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ بِوُجُودِ سَبَبِ الخَوْفِ فَعُلِمَ أنَّ كُسُوفَهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِأمْرٍ مَخُوفٍ، وقَوْلُهُ ? :«لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ»، رَدٌّ لِمَا تَوهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ .
فَإنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ يَوْمَ مَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَاعْتَقَدَ بَعْضُ النَّاسِ أنَّهَا خَسَفَتْ مِنْ أجْلِ مَوْتِهِ تَعْظِيمًا لِمَوْتِهِ، وأنَّ مَوْتَهُ سَبَبُ خُسُوفِهَا فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ? أنَّهُ لا يَنْخَسِفُ لِأجْلِ أنَّهُ مَاتَ أحَدٌ ولا لِأجْلِ أنَّهُ حَيِيَ أحَدٌ .
* * *
فَذَكَرَ أنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَخْوِيفُ العِبَادِ ؛ كَمَا يَكُونُ تَخْوِيفُهُمْ في سَائِرِ الآيَاتِ : كَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ والزَّلازِلِ والأمْطَارِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأسْبَابِ الَّتي قَدْ تَكُونُ عَذَابًا كَمَا عَذَّبَ الله أُممًا بِالرِّيحِ والصَّيْحَةِ والطُّوفَانِ، قَالَ تَعَالَى : { ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?أخذته الصيحة ومنهم من ?? ???? } (العنكبوت40)، وقَالَ تَعَالى : { وما ? ?? ?إلا أن كذب بها ?? ? ? ? ? ??? ? ? ?ٹٹ } (الإسراء59)، إخْبَارَهُ بأنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ يُبَيِّنُ أنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابٍ يَنْزِلُ كَالرِّيَاحِ العَاصِفَةِ، وإنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الله قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا يَنْزِلُ في الأرْضِ .
* * *(1/39)
فَمَنْ أرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّ لَهَا تَأْثِيرًا مَا قَدْ عُلِمَ بِالحِسِّ وغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ فَهَذَا حَقٌّ ؛ ولَكِنَّ الله قَدْ أمَرَ بِالعِبَادَاتِ الَّتي تَدْفَعُ عَنَّا مَا يُرْسَلُ بِهِ مِنِ الشَّرِّ كَمَا أمَرَ النَّبِيَّ ? عِنْدَ الخُسُوفِ بِالصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والدُّعَاءِ والِاسْتِغْفَارِ والعِتْقِ، وكَمَا كَانَ ? إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ أقْبَلَ وأدْبَرَ وتَغَيَّرَ وأمَرَ أنْ يُقَالَ عِنْدَ هُبُوبِهَا : «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُك خَيْرَ هَذِهِ الرِّيحِ وخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ ونَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ»(1) أحمَدُ .
وقَالَ ? : «إنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وإنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وتَأْتِي بِالعَذَابِ فَلا تَسُبُّوهَا؛ ولَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وتَعَوذُوا باللَّهِ مِنْ شَرِّهَا»(2)، فَأخْبَرَ أنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وتَأْتِي بِالعَذَابِ، وأمَرَ أنْ نَسْألَ الله مِنْ خَيْرِهَا ونَعُوذَ باألله مِنْ شَرِّهَا .
فَهَذِهِ السُّنَّةُ في أسْبَابِ الخَيْرِ والشَّرِّ : أنْ يَفْعَلَ العَبْدُ عِنْدَ أسْبَابِ الخَيْرِ الظَّاهِرَةِ والأعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يَجْلِبُ الله بِهِ الخَيْرَ، وعِنْدَ أسْبَابِ الشَّرِّ الظَّاهِرَةِ مِنَ العِبَادَاتِ مَا يَدْفَعُ الله بِهِ عَنْهُ الشَّرِّ .
__________
(1) أخْرَجَهُ أحمَدُ (5/123)، بإسْنَادٍ صَحِيْحٍ .
(2) أخْرَجَهُ أحمَدُ (7413)، بإسْنَادٍ حَسَنٍ .(1/40)
فَأمَّا مَا يَخْفَى مِنَ الأسْبَابِ فَلَيْسَ العَبْدُ مَأْمُورًا بِأنْ يَتَكَلَّفَ مَعْرِفَتَهُ؛ بَلْ إذَا فَعَلَ مَا أمَرَ بِهِ وتَرَكَ مَا حَظَرَ : كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ الشَّرِّ ويَسَّرَ لَهُ أسْبَابَ الخَيْرِ، كَمَا قَالَ الله تَعَالى : { ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ?? ? ? ? ? ? ? } (الطلاق2-3)، فَتَأمَّلْ هَذَا الوَجْهَ فَإنَّهُ دَقِيْقٌ(1) .
* * *
وكَذَا لَيْسَ في حَدِيْثِ النَّبيِّ ? مَا يَدُلُّ على نَفْي الأسْبَابِ بالكُلِّيَّةِ، أو أنَّها لَيْسَ لهَا تَأثِيْرٌ وارْتِبَاطٌ في غَيْرِهَا، والدَّلِيْلُ على ذَلِكَ أنَّهُ ? قَالَ يَوْمَ مَوْتِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيْمَ : «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأيْتُم ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى الصَّلاةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهَذَا الحَدِيْثُ مِنْ أعْظَمِ الحُجَجِ على بُطْلانِ القَوْلِ بنَفِي الأسْبَابِ، فَإنَّه ? أخْبرَ أنَّهُما آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَيْسَ إلَّا، عِلْمًا أنَّ آيَاتِ الله لا يُحْصِيْهَا إلَّا الله تَعَالى : فَالمَطَرُ والنَّبَاتُ والحَيَوَانُ وسَائِرُ المَخْلُوْقَاتِ آيَاتُهُ تَعَالى الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْصِدْ ? أنَّ يُثْبِتَ أو ويُدَلِّلَ على أنَّ كُسُوْفَ وخُسُوْفَ الشَّمْسِ والقَمَرِ آيَتَانِ، لأنَّ هَذَا مَعْلُوْمٌ لَدَى بَنِي آدَمَ ضَرُوْرَةً!
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/169)، (25/190) باخْتِصَارٍ وتَصَرُّفٍ .(1/41)
فَغَايَةُ الحَدِيْثِ أنَّ النَّبِيَّ ? أرَادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُما آيَتَانِ لا رَبَّانِ ولا إلهَانِ، ولا يَنْفَعَانِ ولا يَضُرَّانِ، فَنَفَى ? أنْ يَكُوْنَ لهُما سَبَبٌ في مَوْتِ أو حَيَاةِ أحَدٍ، كَما كَانَ يَقُوْلُهُ كَثِيْرٌ مِنْ جُهَّالِ العَرَبِ عِنْدَ الانْكِسَافِ، وهَذَا لا يَعْنِي أنَّهما لَيْسَ لهُما سَبَبٌ وأثَرٌ مُطْلَقًا، فنَفَيُ بَعْضِ السَّبَبِ لَيْسَ نَفْيًا لجَمِيْعِ الأسْبَابِ!
* * *
وفي قَوْلِهِ ? : «لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ» قَوْلانِ لأهْلِ العِلْمِ :
أحَدُهُمَا : أنَّ مَوْتَ المَيِّتِ وحَيَاتَهُ لا يَكُوْنُ سَبَبًا في انْكِسَافِهِما، كَما كَانَ يَقُوْلُهُ كَثِيْرٌ مِنْ جُهَّالِ العَرَبِ وغَيْرِهِم عِنْدَ الانْكِسَافِ : إنَّ ذَلِكَ لمَوْتِ عَظِيْمٍ أو لوِلادَةِ عَظِيْمٍ، فأبْطَلَ النَّبيُّ ? ذَلِكَ، وأخْبرَ أنَّ مَوْتَ المَيِّتِ وحَيَاتَهُ لا يُؤثِّرُ في كُسُوْفِهِما ألْبَتَّةَ .
والثَّاني : أنَّه لا يَحْصُلُ عَنِ انْكِسَافِهِما مَوْتٌ ولا حَيَاةٌ، فَلا يَكُوْنُ انْكِسَافُهُما سَبَبًا لمَوْتِ مَيِّتٍ ولا لحَيَاةِ حَيٍّ، وإنَّما ذَلِكَ تَخْوِيْفٌ مِنَ الله لعِبَادِهِ أجْرَى العَادَةَ بحُصُوْلِهِ في أوْقَاتٍ مَعْلُوْمَةٍ بالحِسَابِ : كطُلُوْعِ الهِلالِ وإبْدَارِهِ وسَرَارِه .
* * *(1/42)
ونَحْنُ لا نُنْكِرُ أنَّ الله سُبْحَانَه يُحْدِثُ عِنْدَ الكُسُوْفَيْنِ مِنْ أقْضِيَتِهِ وأقْدَارِهِ مَا يَكُوْنُ بَلاءً لقَوْمٍ ومُصِيْبَةً لهُم، ويَجْعَلُ الكُسُوْفَ سَبَبًا لِذَلِكَ، ولهَذَا أمَرَ النَّبيُّ ? عِنْدَ الكُسُوْفِ بالفَزَعِ : إلى ذِكْرِ الله، والصَّلاةِ، والعِتَاقَةِ، والصَّدَقَةِ، والصِّيَامِ لأنَّ هَذِهِ الأشْيَاءَ تَدْفَعُ مُوْجِبَ الكَسْفِ الَّذِي جَعَلَهُ الله سَبَبًا لمَا جَعَلَهُ فَلَوْلا انْعِقَادُ سَبَبِ التَّخْوِيْفِ لمَا أمَرَ بدَفْعِ مُوْجِبِهِ بِهَذِهِ العِبَادَاتِ .
ولله تَعَالى في أيَّامِ دَهْرِهِ أوْقَاتٌ يُحْدِثُ فِيْهَا مَا يَشَاءَ مِنَ البَلاءِ والنَّعْماءِ، ويَقْضِي مِنَ الأسْبَابِ بِما يَدْفَعُ مُوْجِبَ تِلَكَ الأسْبَابِ لمَنْ قَامَ بِهِ أو يُقَلِّلُهُ أو يُخَفِّفُهُ فَمَنْ فَزِعَ إلى تِلْكَ الأسْبَابِ أو بَعْضِهَا انْدَفَعَ عَنْهُ الشَّرُّ الَّذِي جَعَلَ الله الكُسُوْفَ سَبَبًا لَهُ أو بَعْضَهُ .
ولهَذَا قَلَّ مَا يَسْلَمُ أطْرَافُ الأرْضِ حَيْثُ يَخْفَى الإيْمانُ ومَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِيْهَا مِنْ شَرٍّ عَظِيْمٍ يَحْصُلُ بسَبَبِ الكُسُوْفِ، وتَسْلَمُ مِنْهُ الأمَاكِنُ الَّتِي يَظْهَرُ فِيْهَا نُوْرُ النُّبُوَّةِ والقِيَامُ بِما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ أو يَقِلُّ فِيْهَا جِدًّا(1) .
ولَيْسَ عَنَّا زِلْزَالُ «تُسُونَامِي»، وإعْصَارُ «كَاتْرِيْنَا» و«رِيْتَا»، وغَيْرُهَا كَثِيْرٌ، والله أعْلَمُ . وكَما قَالَ تَعَالى : ژ ? ? ? ٹ ٹژ (الإسراء59) .
* * *
__________
(1) انْظُرْ : «مِفْتَاحَ دَارِ السَّعَادَةِ» لابنِ القَيِّمِ (3/212، 220) باخْتِصَارٍ .(1/43)
وأمَّا إنْكَارُ بَعْضِ النَّاسِ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حَرَكَاتِ الكَواكِبِ وغَيْرِهَا مِنَ الأسْبَابِ فَهُو أيْضًا قَوْلٌ بِلا عِلْمٍ؛ ولَيْسَ لَهُ في ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ولا غَيْرِهَا؛ فَإنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى خِلافِ ذَلِكَ كَمَا في الحَدِيثِ الَّذِي في السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أنَّ النَّبِيَّ ? نَظَرَ إلى القَمَرِ فَقَالَ : «يَا عَائِشَةُ تَعَوذِي بالله مِنْ شَرِّ هَذَا فَهَذَا الغَاسِقُ إذَا وقَبَ»(1) أحمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ .
وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ? «لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ»، أيْ لا يَكُونُ الكُسُوفُ مُعَلَّلًا بِالمَوْتِ فَهُو نَفْيُ العِلَّةِ الفَاعِلَةِ كَمَا في الحَدِيثِ الآخَرِ الَّذِي في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رِجَالٍ مِنَ الأنْصَارِ أنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ ? إذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ : «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا في الجَاهِلِيَّةِ؟» فَقَالُوا : كُنَّا نَقُولُ : وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ، أوْ مَاتَ عَظِيمٌ فَقَالَ : «إنَّهُ لا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ ولَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالأمْرِ سَبَّحَ حَمَلَةُ العَرْشِ»، وذَكَرَ الحَدِيثَ في مُسْتَرِقِ السَّمْعِ .
فَنَفَى النَّبِيُّ ? أنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِهَا لِأجْلِ أنَّهُ قَدْ وُلِدَ عَظِيمٌ أوْ مَاتَ عَظِيمٌ ؛ بَلْ لِأجْلِ الشَّيَاطِينِ المُسْتَرِقِينَ السَّمْعَ .
__________
(1) أخْرَجَهُ أحمَدُ (6/61)، والتَّرْمِذِيُّ (3366)، وهُوَ صَحِيْحٌ .(1/44)
فَفي كِلا الحَدِيثَيْنِ مِنْ أنَّ مَوْتَ النَّاسِ وحَيَاتَهُمْ لا يَكُونُ سَبَبًا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ والقَمَرِ ولا الرَّمْيَ بِالنَّجْمِ ؛ وإنْ كَانَ مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ يَقْتَضِي حُدُوثَ أمْرٍ في السَّمَواتِ كَمَا ثَبَتَ: «أنَّ عَرْشَ الرَّحْمَنِ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وأمَّا كَوْنُ الكُسُوفِ أوْ غَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحَادِثٍ في الأرْضِ مِنْ عَذَابٍ يَقْتَضِي مَوْتًا أوْ غَيْرِهِ : فَهَذَا قَدْ أثْبَتَهُ الحَدِيثُ نَفْسُهُ(1) .
* * *
قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (25/192) : «فَإنْ قُلْتَ : مِنْ عَوامِّ النَّاسِ ـ وإنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى عِلْمِ ـ مَنْ يَجْزِمُ بِأنَّ الحَرَكَاتِ العُلْوِيَّةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أمْرٍ ألبَتَّةَ ورُبَّمَا اعْتَقَدَ أنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ وإثْبَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّنْجِيمِ المُحَرَّمِ الَّذِي قَالَ فيهِ النَّبِيُّ ? : «مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» رَواهُ أبُو دَاوُدَ وغَيْرُهُ، ورُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ : «لا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ»، واعْتَقَدَ أنَّ العِلَّةَ هُنَا هِيَ العِلَّةُ الغَائِيَّةُ : أيْ لا يَكْسِفَانِ لِيَحْدُثَ عَنْ ذَلِكَ مَوْتٌ أوْ حَيَاةٌ؟
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/174) بتَصَرُّفٍ .(1/45)
قُلْت : قَوْلُ هَذَا جَهْلٌ؛ لأنَّهُ قَوْلٌ بِلا عِلْمٍ وقَدْ حَرَّمَ الله على الرَّجُلِ أنْ يَنْفي مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وحَرَّمَ عَلَيْهِ أنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لا يَعْلَمُ . وأخْبَرَ أنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِالقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ هُو الشَّيْطَانُ فَقَالَ : { ? ? ? ? ? ? ? } (الإسراء36)، وقَالَ : { ? ? ? والفحشا وأن ? ? ? ? ? ? } (البقرة169)، وقَالَ : { ? ? ? ? ? ? ? ? والأثم والبغي ڑ ڑ ? تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناًُ وأن ? ? ? ? ? ? } (الأعراف33)، فَإنَّهُ لَيْسَ في كِتَابِ الله، ولا في سُنَّةِ رَسُولِهِ، ولا قَالَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ ذَلِكَ، ولا في العَقْلِ، ومَا يُعْلَمُ بِالعَقْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ نَفْيُ ذَلِكَ!(1/46)
فَالقَوْلُ بِالأحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ بَاطِلٌ عَقْلًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا، وذَلِكَ أنَّ حَرَكَةَ الفَلَكِ وإنْ كَانَ لهَا أثَرٌ ليْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بَلْ تَأْثِيرُ الأرْوَاحِ وغَيْرِهَا مِنَ المَلائِكَةِ أشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِهِ، وكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الأجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ التِي في الأرْضِ، وكَذَلِكَ تَأْثِيرُ قُلُوبِ الآدَمِيِّينَ بِالدُّعَاءِ وغَيْرِهِ مِنْ أعْظَمِ المُؤَثِّرَاتِ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، وكَالصَّابِئَةِ المُشْتَغِلِينَ بِأحْكَامِ النُّجُومِ وغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر الأُمَمِ : فَهُو في الأمْرِ العَامِّ جُزْءُ السَّبَبِ، وإنْ فَرَضْنَا أنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ أوْ أنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَمَامِ السَّبَبِ فَالعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ، وإنْ فُرِضَ العِلْمُ بِهِ فَمَحَلُّ تَأْثِيرِهِ لا يَنْضَبِطُ؛ إذْ لَيْسَ تَأْثِيرُ خُسُوفِ الشَّمْسِ في الإقْلِيمِ الفُلانِيِّ بِأوْلَى مِنَ الإقْلِيمِ الآخَرِ، وإنْ فُرِضَ أنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ حُصِّلَ بِشُرُوطِهِ وعُلِمَ بِهِ فَلا رَيْبَ أنَّ مَا يَصْغُرُ مِنَ الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الصَّلاةِ والزَّكَاةِ والصِّيَامِ والحَجِّ وصِلَةِ الأرْحَامِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ يُعَارِضُ مُقْتَضَى ذَلِكَ السَّبَبِ؛ ولِهَذَا أمَرَنَا النَّبِيُّ ? بِالصَّلاةِ والدُّعَاءِ والِاسْتِغْفَارِ والعِتْقِ والصَّدَقَةِ عِنْدَ الخُسُوفِ وأخْبَرَ أنَّ الدُّعَاءَ والبَلاءَ يَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، والمُنَجِّمُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ» .
* * *(1/47)
وقَالَ أيضًا (35/172) : «وهَكَذَا المُنَجِّمُونَ؛ حَتَّى إنِّي خَاطَبْتُهُمْ بِدِمَشْقَ وحَضَرَ عِنْدِي رُؤَسَاؤُهُمْ، وبَيَّنْت فَسَادَ صِنَاعَتِهِمْ بِالأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّتِهَا قَالَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ : والله إنَّا نَكْذِبُ مِائَةَ كِذْبَةٍ حَتَّى نَصْدُقَ في كَلِمَةٍ!
وذَلِكَ أنَّ مَبْنَى عِلْمِهِمْ عَلَى أنَّ الحَرَكَاتِ العُلْوِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ في الحَوادِثِ، والعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ العِلْمَ بِالمُسَبَّبِ وهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُلِمَ السَّبَبُ التَّامُّ الَّذِي لا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ حُكْمُهُ وهَؤُلاءِ أكْثَرُ مَا يَعْلَمُونَ ـ إنْ عَلِمُوا ـ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الأسْبَابِ الكَثِيرَةِ ولا يَعْلَمُونَ بَقِيَّةَ الأسْبَابِ ولا الشُّرُوطَ ولا المَوانِعَ» انْتَهى .
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ (3/43-52) رَدًّا على الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أنَّهُم يَعْلَمُوْنَ جَمِيْعَ الأسْبَابِ والمُؤثِّرَاتِ : «في الكَلامِ على بُطْلانِ عِلْمِ الأحْكَامِ أنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيْعِ المُؤثِّرَاتِ الفَلَكِيَّةِ مُمْتَنِعَةٌ، وإذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الاسْتِدْلالُ بالأحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ على حُدُوْثِ الحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ، وإنَّما قُلْنَا أنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيْعِ المُؤثِّرَاتِ الفَلَكِيَّةِ مُمتَنِعَةٌ لوُجُوْهٍ، (ثُمَّ ذَكَرَهَا) :
مِنْهَا : أنَّ تَأثِيْرَ الكَوَاكِبِ فِيْما ذَكَرْتُم مِنَ السَّعْدِ والنَّحْسِ، إمَّا بالنَّظَرِ في مُفْرَدِهِ وإمَّا بالنَّظَرِ إلى انْضِمَامِهِ إلى غَيْرِهِ فَمَتَى لم يُحِطْ المُنَجِّمُ بهَاتَيْنِ الحَالَتَيْنِ لم يَصِحْ مِنْهُ أنْ يَحْكُمَ لَهُ بتَأثِيرٍ، ولم يَحْصُلْ إلَّا على تَعَارُضِ التَّقْدِيْرِ!(1/48)
ومِنْهَا : أنَّ المَعْقُوْلَ مِنْ تَأثِيرِ هَذِهِ الكَوَاكِبِ في العَالم السُّفْلي : هُوَ أنَّها بحَسَبِ مَسَاقِطِ شُعَاعَاتِها تُسَخِّنُ هَذَا العَالمَ أنْوَاعًا مِنَ السُّخُوْنَةِ .
فأمَّا تَأثِيرَاتُها في حُصُوْلِ الأحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنَ الذَّكَاءِ والبَلادَةِ والسَّعَادَةِ والشَّقَاوَةِ وحُسْنِ الخُلُقِ وقُبْحِهِ والغِنَى والفَقْرِ والهَمِّ والسُّرُوْرِ واللَّذَّةِ والألمِ، فَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا لكَانَ طَرِيْقُ عِلْمِهِ إمَّا بالخَبرِ الَّذِي لا يَجُوْزُ عَلَيْهِ الكَذِبُ أو الحِسِّ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيْهِ النَّاسُ، أو ضَرُوْرَةِ العَقْلِ أو نَظَرِهِ، وشَيءٌ مِنْ هَذَا كُلِّه غَيْرُ مَوْجُوْدٍ الْبَتَّةَ، فالقَوْلُ بِهِ بِاطِلٌ» انْتَهَى .
* * *
( وقَبْلَ الخُرُوْجِ مِنْ مُهِمَّاتِ هَذَا الفَصْلِ، أحْبَبْتُ أنْ آخُذَ بمَجَامِعِ فَوَائِدِهِ وشَوَارِدِهِ في خُلاصَةٍ تُقَرِّبُ البَعِيْدَ ، وتُسَهِّلُ الطَّرِيْقَ لفَهْمِهِ وتَحْصِيْلِ أحْكَامِهِ ،
وذَلِكَ مِنْ خِلالِ ضَبْطِ شُرُوْطِهِ، فَكَانَ مَا يَلي :
وبَعْدَ أنَّ تَقَرَّرَ للجَمِيْعِ أنَّ للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ العُلْوِيَّةِ تَأثِيْرًا في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ، إلَّا أنَّ هَذَا التَّأثِيْرَ والتَّحْقِيْقَ لابُدَّ لَهُ مِنْ شُرُوْطٍ أرْبَعَةٍ :
الشَّرْطُ الأوَّلُ : أنَّ تَأثِيْرَ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ : هُوَ في الأمُوْرِ المَعْلُوْمَةِ بالحِسِّ والتَّجْرُبَةِ، أمَّا مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ في الأمُوْرِ الغَيْبِيَّةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ .
الشَّرْطُ الثَّاني : أنَّ هَذِهِ التَّأثِيْرَاتِ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بنَفْسِهَا، بَلْ بتَقْدِيْرِ الله ومَشِيْئَتِهِ .(1/49)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : وأنَّها أيْضًا بَعْدَ تَقْدِيْرِ الله تَعَالى لهَا، لا يَلْزَمُ أنْ تَكُوْنَ مُنْفَرِدَةً مُسْتَقِلَّةً بالسَّبَبِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الأجْزَاءِ، وسَبَبٌ مِنَ الأسْبَابِ الَّتِي لا يَعْلَمُهَا إلَّا الله تَعَالى .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ : وأنَّ هَذِهِ الأسْبَابَ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الله تَعَالى إذَا اجْتَمَعَتْ، لَيْسَ بالضَّرُوْرِي أنْ يَقَعَ الحَدَثُ الأرْضِيُّ، بَلْ قَدْ يَكُوْنُ هُنَالِكَ مَوَانِعَ تَمْنَعُهَا، وتُعَطِّلُ تَأثِيْرَهَا، مَع عِلْمِنَا أنَّ السَّبَبَ والمَانِعَ هُوَ أيْضًا بقَضَاءِ الله وقَدَرهِ .
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ
الفَصْلُ الخَامِسُ
آثَارُ الشَّمْسِ والقَمَرِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ
فَإذَا تَقَرَّرَ فِيْما سَبَقَ أنَّ للحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ أسْبَابًا في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ فِيْما هُوَ مَعْلُوْمٌ بالحِسِّ والتَّجْرُبَةِ؛ فإنَّنا والحَالَةُ هَذِهِ لا نُنَازِعُ في تَأثِيرِ الشَّمْسِ والقَمَرِ في هَذَا العَالمِ بالرُّطُوْبَةِ والبُرُوْدَةِ واليُبُوْسَةِ وتَوَابِعِهَا وتَأثِيرِهَا في أبْدَانِ الحَيْوَانِ والنَّبَاتِ، ولَكِنْ هُمَا جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ المُؤثِّرِ، ولَيْسَا بمُؤثِّرٍ تَامٍّ فَإنَّ تَأثِيرَ الشَّمْسِ مَثَلًا إنَّما كَانَ بوَاسِطَةِ الهَوَاءِ وقُبُوْلِهِ للسُّخُوْنَةِ والحَرَارَةِ بانْعِكَاسِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا لجِرْمِ الأرْضِ، ويَخْتَلِفُ هَذَا القَبُوْلُ عِنْدَ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنَ الأرْضِ وبُعْدِهَا .(1/50)
فَيَخْتَلِفُ حَالُ الهَوَاءِ وأحْوَالُ الأبْخِرَةِ في تَكَاثُفِهَا وبُرُوْدَتِها وتَلَطُّفِهَا وحَرَارَتِها باخْتِلافِ هَذِهِ الأسْبَابِ، والسَّبَبُ جُزْءُ الشَّمْسِ في ذَلِكَ، والأرْضُ جُزْءٌ، والهَوَاءُ جُزْءٌ، والمُقَابَلَةُ المُوْجِبَةُ لانْعِكَاسِ الأشِعَّةِ جُزْءٌ، والمَحَلُّ القَابِلُ للتَّأثِيرِ والانْفِعَالِ جِزْءٌ .
* * *
( آثَارُ الشَّمْسِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ :
ونَحْنُ لا نُنْكِرُ أنَّ قُوَّةَ البَرْدِ بسَبَبِ بُعْدِ الشَّمْسِ عَنْ سَمْتِ رُؤوْسِنَا، وقُوَّةَ الحَرِّ بسَبَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْ سَمْتِ رؤوْسِنَا .
ولا نُنْكِرُ أيْضًا ارْتِبَاطُ فُصُوْلِ العَالمِ الأرْبَعَةِ بحَرَكَاتِ الشَّمْسِ وحُلُوْلها في أبْرَاجِهَا .
* * *
ولا نُنْكِرُ أنَّ السُّوْدَانَ لمَّا كَانَ مَسْكَنُهُم خَطَّ الاسْتِوَاءِ إلى مُحَاذَاةِ مَمَرِّ رَأسِ السَّرَطَانِ، وكَانَتِ الشَّمْسُ تَمُرُّ على رُؤوْسِهِم في السَّنَةِ إمَّا مَرَّةً وإمَّا مَرَّتَيْنَ تَسَوَّدَتْ أبْدَانُهم، وجُعِدَتْ شُعُوْرُهُم، وقَلَّتْ رُطُوْبَتُهُم .
وأمَّا الَّذِيْنَ مَسَاكِنُهُم أقْرَبُ إلى مُحَاذَاةِ ممَرِّ السَّرَطَانِ فالسَّوَادُ فِيْهِم أقَلُّ، وطَبَائِعُهُم أعْدَلُ، وأخْلاقُهُم أحْسَنُ، وأجْسَامُهُم ألْطَفُ، كأهْلِ الهِنْدِ واليَمَنِ وبَعْضِ أهْلِ الغَرْبِ .
وعَكْسُ هَؤلاءِ الَّذِيْنَ مَسَاكِنُهُم على مَمرِّ رَأسِ السَّرَطَانِ إلى مُحَاذَاةِ بَنَاتِ نَعْشٍ الكُبْرَى، فَهَؤلاءِ لأجْلِ أنَّ الشَّمْسَ لا تُسَامِتُ رُؤوْسَهُم، ولا تَبْعُدُ عَنْهُم أيْضًا بُعْدًا كَثِيرًا، ولم يَعْرِضْ لهُم حَرٌّ شَدِيْدٌ ولا بَرْدٌ شَدِيْدٌ، فَألْوَانُهُم مُتَوَسِّطَةٌ، وأجْسَامُهُم مُعْتَدِلَةٌ، وأخْلاقُهُم فَاضِلَةٌ، كَأهْلِ الشَّامِ والعِرَاقِ وخُرَاسَانَ وفَارِسَ والصِّيْنِ .(1/51)
ثُمَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤلاءِ أمْيَلُ إلى نَاحِيَةِ الجَنُوْبِ كَانَ أتَمَّ في الذَّكَاءِ والفَهْمِ، ومَنْ كَانَ مِنْهُم يَمِيْلُ إلى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ فَهُم أقْوَى نُفُوْسًا وأشَدُّ ذُكُوْرَةً، ومَنْ كَانَ يَمِيْلُ إلى نَاحِيَةِ الغَرْبِ غَلَبَ عَلَيْهِ اللِّيْنُ والرَّزَانَةُ .
وأمَّا مَنْ كَانَتْ مَسَاكِنُهُم مُحَاذِيَةً لبَنَاتِ نَعْشٍ : وهُم الصَّقَالِبَةُ (مُسْلِمُو السُّلافِ الآنَ) والرُّوْمُ فَإنَّهم لكَثْرَةِ بُعْدِهِم عَنْ مُسَامَتَةِ الشَّمْسِ صَارَ البَرْدُ غَالِبًا عَلَيْهِم والرُّطُوْبَةُ الزَّائِدَةُ فِيْهِم؛ لأنَّه لَيْسَ مِنَ الحَرَارَةِ هُنَاكَ مَا يُنَشِّفُهَا ويُنْضِجُهَا فلِذَلِكَ صَارَتْ ألْوَانُهُم بَيْضَاءَ، وشُعُوْرُهُم سَبِطَةً شَقْرَاءَ، وأبْدَانُهُم بَلِيْدَةً، وطَبَائِعُهُم مَائِلَةً إلى البُرُوْدَةِ، وأذْهَانُهُم جَامِدَةً، وهَذَا في أكْثَرِهِم .
وهَذَا كُلُّه يَدُلُّ على أنَّ الشَّمْسَ جُزْءُ السَّبَبِ، وأنَّ الهَوَاءَ جُزْءُ السَّبَبِ، والأرْضَ جُزْءٌ، وانْعِكَاسَ الشُّعَاعِ جُزْءٌ، وقُبُوْلَ المُنْفَعِلاتِ جَزْءٌ، فَكَانَ مَجْمُوْعُ ذَلِكَ سَبَبًا واحِدًا قَدَّرَهُ العَلِيْمُ القَدِيْرُ، وأجْرَى عَلَيْهِ نِظَامَ العَالمِ .
* * *(1/52)
وقَدَّرَ سُبْحَانَهُ أشْيَاءَ أُخَرَ لا يَعْرِفُهَا هَؤلاءِ الجُهَّالِ ولا عِنْدَهُم مِنْهَا خَبَرٌ مِنْ تَدْبِيْرِ المَلائِكَةِ وحَرَكَاتِهِم، ثُمَّ قَدَّرَ تَعَالى أشْيَاءَ أُخَرَ تُمانِعُ هَذِهِ الأسْبَابَ عِنْدَ التَّصَادُمِ وتُدَافِعُهَا وتَقْهَرُ مُوْجِبَهَا ومُقْتَضَاهَا ليَظْهَرَ عَلَيْهَا أثَرُ القَهْرِ والتَّسْخِيْرِ والعُبُوْدِيَّةِ . وأنَّها مُصَرَّفَةٌ مُدَبَّرَةٌ بتَصْرِيْفِ قَاهِرٍ قَادِرٍ كَيْفَ يَشَاءَ ليَدُلَّ عِبَادَهُ على أنَّهُ : هُوَ وَحْدَهُ الفَعَّالُ لمَا يُرِيْدُ لخَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وأنَّ كُلَّ مَا في المَمْلَكَةِ الإلهِيَّةِ طَوْعُ قُدْرَتِهِ وتَحْتَ مَشِيْئَتِهِ، وأنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ بالفِعْلِ إلَّا الله، وكُلُّ مَا سِوَاهُ لا يَفْعَلُ شَيْئًا إلا بمُشَارِكٍ ومُعَاوِنٍ، ولَهُ مَا يُعَاوِقُهُ ويُمانِعُهُ ويُسْلِبُهُ تَأثِيرَهُ؛ فَتَارَةً يَسْلِبُ سُبْحَانَهُ النَّارَ إحْرَاقَهَا ويَجْعَلُهَا بَرْدًا، كَما جَعَلَهَا على خَلِيْلِهِ بَرْدًا وسَلامًا .
وتَارَةً يُمْسِكُ بَيْنَ أجْزَاءِ المَاءِ فَلا يَتَلاقَى كَما فَعَلَ بالبَحْرِ لمُوْسَى وقَوْمِهِ، وتَارَةً يَشُقُّ الأجْرَامَ السَّماوِيَّةَ كَما شَقَّ القَمَرَ لخَاتَمِ أنْبِيَائِهِ ورُسُلِهِ، وفَتَحَ السَّماءَ لمَصْعَدِهِ وعُرُوْجِهِ .(1/53)
وتَارَةً يَقْلِبُ الجَمادَ حَيْوَانًا كَما قَلَبَ عَصَا مُوْسَى ثُعْبَانًا، وتَارَةً يُغَيِّرُ هَذَا النِّظَامَ ويُطْلِعُ الشَّمْسَ مِنْ مَغْرِبِها كَما أخْبَرَ بِهِ أصْدَقُ خَلْقِهِ عَنْهُ، فَإذَا أتَى الوَقْتُ المَعْلُوْمُ فَشَقَّ السَّمَوَاتِ وفَطَرَهَا، ونَثَرَ الكَوَاكِبَ على وَجْهِ الأرْضِ، ونَسَفَ الجِبَالَ ودَكَّهَا، وكَوَّرَ الشَّمْسَ ... ورَأى ذَلِكَ الخَلائِقُ عَيَانًا ظَهَرَ لهُم كُلِّهِم صِدْقُهُ، وصِدْقُ رُسُلِهِ، وعُمُوْمُ قُدْرَتِه وكَمالهَا، وأنَّ العَالمَ بَأسْرِهِ مُنْقَادٌ لمَشِيْئَتِهِ طَوْعُ قُدْرَتِهِ لا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ خَلْقِهِ!
* * *
ونَحْنُ أيْضًا لا نُنْكِرُ أنَّ الزَّرْعَ والنَّبَاتَ لا يَنْمُو ولا يَنْشَأ إلَّا في المَوَاضِعِ الَّتِي تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، ونَحْنُ نَعْلَمُ أيْضًا أنَّ وُجُوْدَ بَعْضِ النَّباتِ في بَعْضِ البِلادِ لا سَبَبَ لَهُ إلَّا اخْتِلافُ البُلْدَانِ في الحَرِّ والبَرْدِ الَّذِي سَبَبُهُ حَرَكَةُ الشَّمْسِ وتَقَارُبُها في قُرْبِها وبُعْدِهَا مِنْ ذَلِكَ البَلَدِ .
وأيْضًا فإنَّ النَّخْلَ يَنْبُتُ في البِلادِ الحَارَّةِ، ولا يَنْبُتُ في البِلادِ البَارِدَةِ، وكَذَلِكَ يَنْبُتُ في البِلادِ الجَنُوْبِيَّةِ أشْجَارٌ وفَوَاكِهُ وحَشَائِشُ لا يُعْرَفُ شَيءٌ مِنْهَا في جَانِبِ الشَّمالِ، وبالعَكْسِ .
* * *
( آثَارُ القَمَرِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ :(1/54)
وكَذَلِكَ لا نَدْفَعُ تَأثِيْرَ القَمَرِ في وَقْتِ امْتِلائِهِ في الرُّطُوْبَاتِ؛ حَتَّى في جَزْرِ البِحَارِ ومَدِّهَا، فَإنَّ مِنْهَا مَا يَأخُذُ في الازْدِيَادِ مِنْ حِيْنِ يُفَارِقُ القَمَرُ الشَّمْسَ إلى وَقْتِ الامْتِلاءِ، ثُمَّ إنَّه يَأخُذُ في الانْتِقَاصِ، ولا يَزَالُ نُقْصَانُه يَسْتَمِرُّ بحَسَبِ نُقْصَانِ القَمَرِ حَتَّى يَنْتَهِي إلى غَايَةِ نُقْصَانِهِ عِنْدَ حُصُوْلِ المَحَاقِ .
ومِنَ البِحَارِ مَا يَحْصُلُ فِيْهِ المَدُّ والجَزْرُ في كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ مَعَ طُلُوْعِ القَمَرِ وغُرُوْبِهِ، وذَلِكَ مَوْجُوْدٌ في بَحْرِ فَارِسَ وبَحْرِ الهِنْدِ وكَذَلِكَ بَحْرِ الصِّيْنَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الوُجُوْهِ الَّتِي تُؤثِّرُ فِيْهَا الشَّمْسُ والقَمَرُ في هَذَا العَالمِ بقُدْرَةِ الله ومَشِيْئَتِهِ .
* * *
فَنَحْنُ لا نُنْكِرُ هَذِهِ التَّأثِيرَاتِ وأضْعَافَهَا، إنَّما الَّذِي نُنْكِرُهُ نَحْنُ وغَيْرُنَا مِنْ عُقَلاءِ أهْلِ المِلَلِ وغَيْرِهِم : مَنِ اعْتَقَدَ وظَنَّ أنَّ جُمْلَةَ الحَوَادِثِ في هَذَا العَالمِ : خَيْرَهَا وشَرَّهَا، وصَلاحَهَا وفَسَادَهَا، وحَيَاتَها ومَماتَها، وأعْمارَهَا وأرْزَاقَهَا، وشَقَاوَتَها وسَعَادَتَهَا، وعِزَّهَا وذُلَّها، وغَنَاءَها وفَقْرَهَا، ونَفْعَهَا وضُرَّهَا، وهِدَايَتَهَا وضَلالَها .(1/55)
بَلْ وجَمِيْعَ مَا في العَالمِ بأنَّها (عِيَاذًا بالله!) : هِيَ المُعْطِيَةُ لهَذَا كُلِّهِ، المُدَبِّرَةُ الفَاعِلَةُ، وهِيَ الآلهَةُ والأرْبَابُ على الحَقِيْقَةِ، ومَا تَحْتَهَا عَبْيْدٌ خَاضِعُوْنَ لهَا، نَاظِرُوْنَ إلَيْهَا، فَهَذَا كَما أنَّهُ الكُفْرُ الَّذِي خَرَجُوا بِهِ عَنْ جَمِيْعِ المِلَلِ، وعَنْ جُمْلَةِ شَرَائِعِ الأنْبِيَاءِ؛ كَانَ قَتْلُ هَؤلاءِ وَاجِبًا في كُلِّ مِلَّةٍ؛ لأنَّ في قَوْلِهم مِنَ الهَذَيَانِ الَّذِي أضْحَكُوا بِهِ العُقَلاءَ على عُقُوْلهِم!
ولَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِم مِنْ عُقَلاءِ الفَلاسِفَةِ والطَّبَائِعِيِّنَ والرِّيَاضِيِّيْنَ لطَالَ ذَلِكَ جِدًّا، وأخْرَجْنَا عَنْ مَقْصَدِ الكِتَابِ في الاخْتِصَارِ، والله المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ(1) .
* * *
ونَحْنُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لا نُنْكِرُ ارْتِبَاطَ المْسَبِّبَاتِ بأسْبَابِها كَما ارْتَكَبَهُ كَثِيْرٌ مِنَ المُتَكَلِّمِيْنَ وكَابَرُوا العِيَانَ، وجَحَدُوا الحَقَائِقَ، كَما أنَّا لا نَرْضَى بهَذَيَانَاتِ المُنَجِّمِيْنَ ومَحَالاتِهِم، بَلْ نُثْبِتُ الأسْبَابَ والمُسَبِّبَاتَ والعِلَلَ والمَعْلُوْلاتِ، ونُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ بُطْلانَ مَا يَدَّعُوْنَهُ مِنْ عِلْمِ أحْكَامِ النُّجُوْمِ، وأنَّها هِيَ المُدَبِّرَةُ لهَذَا العَالمِ .
__________
(1) انْظُرْ : «مِفْتَاحَ دَارِ السَّعَادَةِ» لابنِ القَيِّمِ (3/114) ومَا بعَدْهَا باخْتِصَارٍ.(1/56)
فَغَايَةُ الحَرَكَاتِ النُّجُومِيَّةِ والاتِّصَالاتِ الكَوْكَبِيَّةِ أنْ تَكُوْنَ كالعِلَلِ والأسْبَابِ المُشَاهَدَةِ الَّتِي تَأثِيْراتُها مَوْقُوْفَةٌ على انْضِمامِ أمُوْرٍ أخْرَى إلَيْهَا وارْتِفَاعِ مَوَانِعَ تَمْنَعُهَا تَأثِيرَها، فَهِي أجْزَاءُ أسْبَابٍ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ ولا مُوْجِبَةٍ، هَذَا لَوْ قَامَ على تَأثِيرِهَا دَلِيْلٌ؛ فَكَيْفَ ولَيْسَ هُنَا إلَّا الدَّعَاوَى الكَاذِبَةُ؟!
وقد اعْتَرَفَ حُذَّاقُ الفَلَكِيِّيْنَ والمُنَجِّمِيْنَ : بأنَّ الَّذِي يُجْهَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الأسْبَابِ المُؤَثِرَّةِ ومِنَ المَوَانِعِ الصَّارِفَةِ أعْظَمُ مِنَ المَعْلُوْمِ مِنْهَا بأضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الوَهْمِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيْمُ لعَاقِلٍ الحُكْمُ بَعْدَ هَذَا؟ وهَلْ يَكُوْنُ في العَالمِ أكْذَبُ مِنْهُ؟!
الفَصْلُ السَّادِسُ
حُكْمُ عِلْمِ النُّجُوْمِ
لا شَكَّ أنَّ العِلْمَ المُتَعَلِّقَ بِالنَّظَرِ إلى النُّجُوْمِ والأفْلاكِ لا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمَيْنِ لا ثَالِثَ لهُما : عِلْمُ تَأثِيْرٍ ، وعِلْمُ تَسْيِيْرٍ .
( فأمَّا أوَّلاً : عِلْمُ التَّأثِيْرِ :
وهُوَ اعْتِقَادُ أنَّ هَذِهِ النُّجُوْمَ والأفْلاكَ لهَا تَأثِيْرٌ بحَوَادِثِ الأرْضِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ أو المَاضِيَةِ أو الحَاضِرَةِ .
فشِرْكُ هَؤلاءِ (عِيَاذًا بِالله) هُوَ مِنْ جِنْسِ عِبَادَةِ أهْلِ الكَوَاكِبِ والنُّجُوْمِ، ولهُم فِيْما يَعْتَقِدُوْنَهُ فِيْهَا ثَلاثُ حَالاتٍ :
الحَالَةُ الأوْلى : فَمِنْهُم مَنْ يَعْتَقِدُ في هَذِهِ الأفْلاكِ والنُّجُوْمِ، بِأنَّها مُؤثِّرَةٌ فَاعِلَةٌ بنَفْسِهَا .(1/57)
وعَلَيْهَا يَتَعَاطَوْنَ ادِّعَاءَ الاسْتِدْلالِ بِها على مَعْرِفَةِ حَوَادِثِ الأرْضِ المُسْتَقْبَلِيَّة مِنْهَا والمَاضِيَةِ، كادِّعَاءِ الغَيْبِ والتَّكَهُّنَاتِ والتَّنَبُّؤاتِ، ومَعْرِفَةِ الأعْمارِ والحَيَاةِ والمَمَاتِ، والسَّعَادَةِ والشَّقَاءِ، والكَوَارِث، ونُزُوْلِ الأمْطَارِ وغَيْرِهَا مِنْ عُلُوْمِ الغَيْبِ .
* * *
فَأصْحَابُ هَذَا الاعْتِقَادِ لا شَكَّ أنَّهُم مُشْرِكُوْنَ بِالله تَعَالى، كَافِرُوْنَ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، سَوَاءٌ تَقَرَّبُوا إلى هَذِهِ الكَوَاكِبِ بِشَيءٍ مِنَ العِبَادَةِ أم لا!
قَالَ الإمَامُ الخَطَّابيُّ رَحِمَهُ الله في «مَعَالمِ السُّنَنِ» (4/230) :
«عِلْمُ النُّجُوْمِ المَنْهِيُّ عَنْهُ : مَا يَدَّعِيْهِ أهْلُ التَّنْجِيْمِ، مِنْ عِلْمِ الكَوَائِنِ والحَوَادِثِ الَّتِي سَتَقَعُ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، كَأوْقَاتِ هُبُوْبِ الرِّيَاحِ، ومَجيءِ المَطَرِ، وتَغِيُّرِ الأسْعَارِ، ومَا في مَعْنَاهُ مِنَ الأمُوْرِ الَّتِي يَزْعُمُوْنَ أنَّها تُدْرَكُ مَعْرِفَتُهَا بمَسِيْرِ الكَوَاكِبِ في مَجَارِيْهَا، واجْتِماعِهَا وافْتِرَاقِهَا، يَدَّعُوْنَ أنَّ لهَا تَأثِيْرًا في السُّفْلِيَّاتِ، وهَذَا مِنْهُم تَحكُّمٌّ على الغَيْبِ، وتَعَاطٍ لعِلْمٍ قَدِ اسْتَأثَرَ الله بِهِ، لا يَعْلَمُ الغَيْبَ سِوَاهُ» انْتَهَى .
* * *
قَالَ تَعَالى : { ٹٹأنكم تكذبون } (الواقعة82) .(1/58)
وأخْرَجَ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّهُ قَالَ : صَلَّى لَنَا رَسُوْلُ الله ? صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ على إثْرِ سَماءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَّما انْصَرَفَ أقْبَلَ على النَّاسِ، فَقَالَ : «هَلْ تَدْرُوْنَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُم؟» قَالُوا : الله ورَسُوْلُهُ أعْلَمُ، قَالَ : «قَالَ أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ، فَأمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بفَضْلِ الله ورَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بي كَافِرٌ بالكَوْكَبِ، وأمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ» .
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ أبي مَالِكٍ الأشْعَرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ رَسُوْلَ الله ? قَالَ : «أرْبَعٌ في أمَّتِي مِنْ أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُوْنَهُنَّ : الفَخْرُ بالأحْسَابِ، والطَّعْنُ في الأنْسَابِ، والاسْتِسْقَاءُ بالنُّجُوْمِ، والنِّيَاحَةُ» وقَالَ : «النَّائِحَةُ إذَا لم تَتُبْ قَبْلَ
مَوْتِها تُقَامُ يَوْمَ القِيَامَةِ وعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، ودِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» .
* * *
ثُمَّ ليَعْلَمَنَّ كُلُّ مُسْلِمٍ أنَّ هَذهِ الأدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لم تَكُنْ مُقْتَصِرَةً على تَحْرِيْمِ الاسْتِسْقَاءِ بالنُّجُوْمِ وكُفْرِ فَاعِلِهَا قَطُّ، لا، بَلُ هِيَ في تَحْذِيْرِهَا وتَحْرِيْمِهَا لكُلِّ مُتَعَاطٍّ ومُعْتَقِدٍ لجِنْسِ الكَوَاكِبِ والنُّجُوْمِ وجَمِيْعِ الأجْرَامِ العُلْوِيَّةِ ... فَمَنْ ظَنَّ شَيْئًا مِنْهَا أو اعْتَقَدَ أنَّ لَهُ تَأثِيْرًا مُسْتَقِلًّا، أو جَعَلَهَا سَبَبًا للحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ، أو اسْتَدَلَّ بِها على مَعْرِفَةِ الغَيْبِ، فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍّ، ولَهُ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ بحَسَبِ حَالَتِهِ واعْتِقَادِهِ بِها، والله تَعَالى أعْلَمُ .
* * *(1/59)
الحَالَةُ الثَّانِيةُ : مِنْهُم مَنْ يَعْتَقِدُ فِيْهَا : بِأنَّها سَبَبٌ قَدَّرَهُ الله تَعَالى في مَعْرِفَةِ حَوَادِثِ الأرْضِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ الغَيْبِيَّةِ، مَعَ اعْتِقَادِهِم بِأنَّ الله تَعَالى هُوَ النَّافِعُ الضَّارُ، وأنَّه الخَالِقُ المَالِكُ المُدَبِّرُ، فَهَؤلاءِ أيْضًا مُشْرِكُوْنَ بِالله تَعَالى، لأنَّهُم ادَّعُوا عِلْمَ الغَيْبِ الَّذِي اسْتَأثَرَ الله بِهِ .
قَالَ تَعَالى : { ٹٹ ٹ من في السموات والأرض ? ? ?? ? ? ? ? } (النمل65) .
* * *
الحَالَةُ الثَّالِثَةُ : مِنْهُم مَنْ يَعْتَقِدُ فِيْهَا : بِأنَّها سَبَبٌ قَدَّرَهُ الله تَعَالى في مَعْرِفَةِ حَوَادِثِ الأرْضِ بَعْدَ وُجُوْدِهَا لا المُسْتَقْبَلِيَّةَ مِنْهَا، مَعَ اعْتِقَادِهِم بِأنَّ الله تَعَالى هُوَ الخَالِقُ المَالِكُ المُدَبِّرُ، فَهَؤلاءِ أيْضًا مُشْرِكُوْنَ بِالله تَعَالى شِرْكًا أصْغَرَ، لأنَّهم اتَّخَذُوْهَا أسْبَابًا لم يَجْعَلْهَا الله تَعَالى سَبَبًا شَرْعِيًّا أو قَدَرِيًّا!
* * *
( وأمَّا ثَانِيًا : فَعِلْمُ التَّسْيِيْرِ .
وهُوَ النَّظَرُ إلى مَعْرِفَةِ حَرَكَاتِ النُّجُوْمِ في اجْتِماعِهَا وافْتِراقِهَا وغَيْرِ ذَلِكَ، والاسْتِدْلالُ بِها على الأمُوْرِ الدِّيْنِيَّةِ أو الدِّنْيَوِيَّةِ، بِشَرْطِ أنْ تَكُوْنَ هَذِهِ الأدِلَّةُ : حِسِّيَّةً تَشْهَدُ لها التَّجْرُبَةُ، أو حِسَابِيَّةً .
* * *
((1/60)
فأمَّا النَّوْعُ الأوَّلُ : وهو الاسْتِدْلالُ بِها على الأمُوْرِ الدِّيْنِيَّةِ : فَذَلِكَ في مَعْرِفَةِ أوْقَاتِ الغُرُوْبِ والشُّرُوْقِ والزَّوَالِ، وتَحْدِيْدِ الشَّمالِ مِنَ الجَنُوْبِ، ورُؤيَةِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ، وغَيْرِ ذَلِكَ ممَّا يُسْتَعَانُ بِهِ على مَعْرِفَةِ القِبْلَةِ وأوْقَاتِ الصَّلاةِ، ودُخُوْلِ الأشْهُرِ القَمَرِيَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ ممَّا هُوَ مَعْرُوْفٌ عَنْ طَرِيْقِ الحِسِّ أو التَّجْرُبَةِ، فَهَذَا الاسْتِدْلالُ مَطْلُوْبٌ شَرْعًا إمَّا على وَجْهِ الإيْجَابِ أو الاسْتِحْبَابِ، فَما تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الوَاجِبُ الشَّرعِيُّ فَهُوَ وَاجِبٌ، كمَعْرِفَةِ اتِّجَاهِ القِبْلَةِ ودُخُوْلِ وَقْتِ الصَّلاةِ ممَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ومَا تَوَقَّفَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهُوَ سُنَّةٌ، كمَعْرِفَةِ اتِّجَاهِ القِبْلَةِ ودُخُوْلِ وَقْتِ الصَّلاةِ ممَّنْ لم يَجَبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، والله أعْلَمُ .
* * *
( وأمَّا النَّوْعُ الثَّاني : الاسْتِدْلالُ بِها على الأمُوْرِ الدِّنْيَوِيَّةِ : فَذَلِكَ في مَعْرِفَةِ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في حَرَكَاتِها واجْتِماعِهَا وافْتِراقِهَا وغَيْرِ ذَلِكَ ممَّا يُسْتَعَانُ بِهِ على مَعْرِفَةِ الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ، ومَعْرِفَةِ أوْقَاتِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ، ودُخُوْلِ الأشْهُرِ القَمَرِيَّةِ والشَّمْسِيَّةِ، وأوْقَاتِ الفُصُوْلِ الأرْبَعَةِ .
وأزْمَانِ صَلاحِ الزِّرَاعَةِ والبَذْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ ممَّا هُوَ مَعْرُوْفٌ لَدَى جَماهِيْرِ بَنِي آدَمَ، عَنْ طَرِيْقِ الحِسَّ أو التَّجْرُبَة .
* * *
فهَذَا الاسْتِدْلالُ الحِسِّي والمُشَاهَدِ الَّذِي يُعْرَفُ بتَعَلُّمِ مَنَازِلِ القَمَرِ، فهذا مُبَاحٌ وجَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيْرِ السَّلَفِ والخَلَفِ .(1/61)
وكَرِهَهُ جَماعَةٌ خَوْفًا مِنَ تَطَرُّقِ بَعْضِ النَّاسِ إلى أنَّ هَذِهِ النُّجُوْمَ لها سَبَبٌ في نُزُوْلِ الأمْطَارِ ومَجِيءِ الصَّيْفِ والشِّتَاءِ ونَحْوِهِ، والصَّحِيْحُ إبَاحَتُهَا دُوْنَ كَرَاهَةٍ، والله تَعَالى أعْلَمُ .
* * *
وبِهَذَا نَعْلَمُ : أنَّ عِلْمَ النُّجُوْمِ نَوْعَانِ : حِسَابٌ، وأحْكَامٌ .
( فأمَّا عِلْمُ الحِسَابِ : فَهُو مَعْرِفَةُ أقْدَارِ الأفْلاكِ والكَواكِبِ، وصِفَاتِها ومَقَادِيْرِهَا وحَرَكاتِها، ومَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ حِسَابَاتٍ فَلَكِيَّةٍ صَحِيْحَةٍ، فَذَا لا شَكَّ أنَّه عِلْمٌ صَحِيْحٌ لا رَيْبَ فيهِ، كمَعْرِفَةِ الأرْضِ وصِفَاتِها، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ العُلُوْمِ القَائِمَةِ على الحِسَابَاتِ الصَّحِيْحَةِ .
ومَا وقَعَ فيهَا مِنْ خَطأ أو غَلَطٍ فَهُو رَاجِعٌ إلى غَلَطِ الحَاسِبِ لا إلى الحِسَابِ نَفْسِهِ!
( أمَّا عِلْمُ الأحْكَامِ : فَهُو مِنْ جِنْسِ عِلْمِ السِّحْرِ، وهَذَا مُحَرَّمٌ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ، بَلْ قَدْ حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا(1) .
البَابُ الثَّالِثُ
( الفَصْلُ الأوَّلُ : حُكْمُ رُؤيَةِ الهِلالِ .
( الفَصْلُ الثَّاني : الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ .
( الفَصْلُ الثَّالِثُ: الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ التَّحْدِيْقِ في الشَّمْسِ .
( الفَصْلُ الرَّابِعُ : المَحْظُوْرَاتُ السَّيِّئَةُ مِنْ تَحْذِيْرِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ .
الفَصْلُ الأوَّلُ
حُكْمُ رُؤيَةِ الهِلالِ
لقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا في رُؤيَةِ هِلالِ رَمَضَانَ بالحِسَابِ على ثَلاثَةِ أقْوالٍ :
(
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (35/181) .(1/62)
القَوْلُ الأولُ : أنَّ الرُّؤيَةَ مُتَوقِّفَةٌ على الرُّؤيَةِ بالإبْصَارِ، أي العَيْنِ المُجَرَّدَةِ، وهَذا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ كَافَّةً، لم يُخَالِفْ فيهِ إلا ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ .
قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ } (البقرة185) .
وقَالَ ? : «إذَا رَأيْتُمُوْهُ (الِهلالَ) فَصُوْمُوا، وإذَا رَأيْتُمُوْهُ فَأفْطِرُوا، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَاقْدِرُوا لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والأحَادِيْثُ في هَذَا المَعْنَى مُسْتَفيضَةٌ .
وقَدْ عُلِمَ أنَّ قَوْلَهُ ? في الصَّحِيْحَيْنِ : «فلا تُصُوْمُوا حتَّى تَرَوْهُ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ»، لَيْسَ المُرَادُ بِهِ أنَّه لا يَصُوْمُهُ أحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ بنَفْسِهِ! بَلْ لا يَصُوْمُهُ أحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ أو يَرَاهُ غَيْرُهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ(1)،
وقَدْ ذَكَرَ الإجْمَاعَ على هَذَا غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، كَمَا سَيَأتي إنْ شَاءَ الله.
* * *
( القَوْلُ الثَّاني : أنَّ الهِلالَ مُتَوقِّفَةٌ على الرُّؤيَةِ سَواءٌ كَانَتْ عَنْ طَرِيْقِ العَيْنِ المُجَرَّدَةِ، أو الحِسَابِ، بجَامِعِ أنَّهُما رُؤيَةٌ! وهَذَا القَوْلُ جَرَى فيهِ خِلافٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ، لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَسْطِ ذِكْرِهِ .
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (25/176) .(1/63)
وأيًّا كَانَ هَذَا القَوْلُ، فَإنَّه لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِي، فَإنَّ صَلاةَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ كَما اتَّفَقَ عَلَيْهِ المُسْلِمُوْنَ لا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا الهِلالَ، وإذَا جَوزَ الإنْسَانُ صِدْقَ الخَبَرِ بذَلِكَ الحِسَابِ، أو غَلَبَ على ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَنَوى أنْ يُصَلِّي الكُسُوْفَ والخُسُوْفَ عِنْدَ ذَلِكَ، واسْتَعَدَّ ذَلِكَ الوقْتَ لرُؤيَةِ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ المُسَارَعَةِ إلى طَاعَةِ الله تَعَالى وعِبَادَتِهِ، فَإنَّ الصَّلاةَ عِنْدَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ مُتَفَّقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ .
* * *
( القَوْلُ الثَّالِثُ : أنَّ الرَّؤيَةَ بالعِيْنِ المُجَرَّدَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا، بَلْ يَجُوْزُ الأخْذُ بالحِسَابِ والاعْتِمادِ عَلَيْهِ فَقَطَ، ولَوْ لم يُرَ الهِلالُ، ولَوْ كَانَ الجَوُّ صَحْوًا مَعَ تَعْلِيْقِ عُمُوْمِ الحُكْمِ العَامِ بِهِ، وهَذَا القَوْلُ مُخُالِفٌ لمَا عَلَيْهُ المُسْلِمُوْنَ، وفيهِ مُخَالَفَةٌ للنُّصُوْصِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَبْدِيْلٌ للشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ، ومُضَاهَاةٌ لأهْلِ المِلَلِ الأخُرَى في تَبْدِيْلِ دِيْنِهَا عِيَاذًا بالله!
* * *(1/64)
ومِنْ مَخَازِي هَذَا العَصْرِ ظُهُوْرُ نَوابِتُ تُطَالِبُ المُسْلِمِيْنَ بالاكْتِفَاءِ بالحَسَابِ، وإلغَاءِ الرُّؤيَةِ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ، ظَنَّا مِنْهُم أنَّ الاعْتِمادَ على الرُّؤيَةِ ممَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خِلافٌ ونِزَاعٌ، ومَا عَلِمُوا أنَّ الخِلافَ المُبْتَدَعَ والنِّزَاعَ المَقِيْتَ مَا ذَاعَ ولا شَاعَ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ هَذِهِ السَّنَواتِ إلَّا مِنْ دَاخِلِ جِرَابِهم، ومِنْ قُصُوْرِ أفْكَارِهِم، وذَلِكَ حِيْنَما خَاضُوا وتَكَلَّمُوا بغَيْرِ عِلْمٍ، مَعَ مَا يَبُثَّونَهُ ويُشِيْعُونَهُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ لاسِيَّما مِنْ خِلالِ سَفْعَاءِ الصُّحُفِ وأبْواقِ الإعْلامِ، فالله طَلِيْبُهُم!
* * *
يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوى» (25/132) : «فَإنَّا نَعْلَمُ بالاضْطِرَارِ مِنْ دِيْنِ الإسْلامِ أنَّ العَمَلَ في رُؤيَةِ هِلالِ الصَّوْمِ أو الحَجِّ أو العِدَّةِ، أو الإيْلاءِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحْكَامِ المُتَعَلِّقَةِ بالهِلالِ بخَبَرِ الحِسَابِ أنَّه يُرَى أو لا يُرَى لا يَجُوْزُ، والنَّصُوْصُ المُسْتَفيضَةُ عَنِ النَّبِيِّ ? بذَلِكَ كَثِيْرَةٌ، وقَدْ أجْمَعَ المُسُلِمُوْنَ عَلَيْهِ، ولا يُعْرَفُ فيهِ خِلافٌ قَدِيْمُ أصْلًا، ولا خِلافٌ حَدِيْثٌ؛ إلَّا بَعْضُ المُتَأخِّرِيْنَ مِنَ المُتَفَقِّهَةِ الحَادِثِيْنَ بَعْدَ المَائَةِ الثَّالِثَةِ، زَعَمَ أنَّه إذَا غَمَّ الهِلالُ جَازَ للحَاسِبِ أنْ يَعْمَلَ في حَقِّ نَفْسِهِ بالحِسَابِ، فإنْ كَانَ الحِسَابُ دَلَّ على الرُّؤيَةِ صَامَ وإلَّا فَلا، وهَذَا القَوْلُ وإنْ كَانَ مُقَيَّدًا بالإغْمامِ ومُخَتَصًّا بالحِسَابِ فَهُو شَاذٌّ، مَسْبُوْقٌ بالإجْمَاعِ على خِلافِهِ، فأمَّا إتَّبَاعُ ذَلِكَ في الصَّحْوِ، أو تَعْلِيْقُ عُمُوْمِ الحُكْمِ العَامِ بِهِ فَما قَالَهُ مُسْلِمٌ .(1/65)
وقَالَ أيْضًا (25/136) : «فَالمَقْصُوْدُ أنَّ المَواقِيْتَ حُدِّدَتْ بِأمْرٍ ظَاهِرٍ يَشْتَرِكُ فيهِ النَّاسُ، ولا يَشْرَكُ الهِلالَ في ذَلِكَ شِيءٌ، فَإنَّ اجْتِماعَ الشَّمْسِ والقَمَرِ الَّذِي هُو تَحاذِيْهِما الكَائِنُ قَبْلَ الهِلالِ : أمْرٌ خَفي لا يُعْرَفُ إلا بحِسَابٍ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ» انْتَهَى .
ومِنَ الإبْلاسِ أنَّ هَذَا التَّأفُفَ والتَّضَجُّرَ مِنْ عَدِمِ ضَبْطِ هِلالِ رَمَضَانَ والحَجِّ عِنْدَ ذَلِكُمُ النَّفْرِ الجَاهِلِ، لم نَرَهُ مِنْهُم في الوَقْتِ نَفْسِه عِنْدَ ضَبْطِ وَقَتِ الصَّلاةِ؟ عِلمًا أنَّ الصَّلاةَ هِيَ آكَدُ أرْكَانِ الإسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ!
فَإذَا كَانُوا يَعْلَمُوْنَ أنَّ ضَبْطَ وَقْتِ الصَّلاةِ في جَمِيْعِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ لا يُمْكِنُ تَحقُّقُهُ شَرْعًا ولا عَقْلًا، كَانَ عَلَيْهِم والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَكُفُّوا ألْسِنَتَهُم، وأنْ يَحْبِسُوا أقْلامَهُم عَنْ مَثَارَاتِ الفِتَنِ، وهِيَاجِ الإرْجَافَاتِ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
الفَصْلُ الثَّاني
الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ(1/66)
لا شَكَّ أنَّ النَّاظِرَ والسَّامِعَ لِما يُبَثُّ ويُقَالُ في وَسَائِلِ الإعْلامِ حَوْلَ قَضِيَّةِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ ليَعْلَمَ أنَّ الأمْرَ جِدُّ خَطِيرٌ؛ حَيْثُ أخَذَتْ أكْبرَ مِنْ حَجْمِهَا؛ حَتَّى أضْحَتْ عِنْدَهُم مِنَ المُسَلَّماتِ الَّتِي لا تَقْبَلُ النَّظَرَ أو الشَّكَّ، ومِنْهَا تَعَالَتِ الأصْوَاتُ والنِّدَاءَاتُ، وتَنَافَسَتْ وَسَائِلُ الإعْلامِ في التَّحْذِيْرِ مِنْهَا؛ حَتَّى عُدَّ الرَّجُلُ الَّذِي يُحَذِّرُ مِنْهَا طَبِيْبًا مُحَنَّكًا، وفَلَكِيًّا حَاذِقًا، وتَدَاعَتْ عَلَيْهَا الإرْشَادَاتُ والتَّحْذِيْرَاتُ، وأُجْلِبَتْ حَولهَا أسْبَابُ الوِقايَاتِ، ووَسَائِلُ العِلاجَاتِ ... وهَكَذَا لم يَبْرَحُوا يَنْفُخُوْنَ في أبْوَاقِهَا، ويُحَذِّرُوْنَ مِنْ أضْرَارِهَا!
* * *
ومِنْ بَعْدُ؛ كَانَ مِنْ بَابَةِ النَّصِيْحَةِ أنْ نَمُدَّ حَبْلًا مِنْ أبْوَابِ العِلْمِ والبَيَانِ في الرَّدِّ على هَذِهِ الكِذْبَةِ الصَّلْعَاءِ، والنَّظَرِيَّةِ الجَوْفَاءِ مِنْ خِلالِ عَشَرَةِ وُجُوْهٍ :
الوَجْهُ الأوَّلُ : مِنَ المَعْلُوْمِ مِنَ الدِّيْنِ بالضَّرُورَةِ أنْ أكْثَرَ أرْكَانِ الإسْلامِ الخَمْسَةِ مُتَوَقِّفَةٌ على الرُّؤيَا بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ .
( فَهَذِهِ الصَّلاةُ : عِبَادَةٌ مُتَوَقِّفَةٌ على رُؤيَةِ الشَّمْسِ . كَمَا قَالَ تَعَالى : { ? ? ? ہ ہ ہہ } (النساء103)، وقَالَ تَعَالى : { أقم ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?كان مشهوداً } (الإسراء78) .(1/67)
وقَالَ النَّبيُّ ? : «وَقْتُ الظُّهْرِ إذَا زَالَتِ الشَّمْسِ، وكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كطُوْلِهِ، مَا لم يَحْضُرِ العَصْرُ، ووَقْتُ العَصْرِ مَا لم تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، ووَقْتُ صَلاةِ المَغْرِبِ مَا لم يَغِبِ الشَّفَقُ، ووَقْتُ صَلاةِ العِشَاءِ إلى نَصْفِ اللَّيْلِ الأوْسَطِ، ووَقْتُ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوْعِ الفَجْرِ، مَا لم تَطْلُعِ الشَّمْسُ» مُسْلِمٌ .
* * *
( وهَذَا الصِّيَامُ : عِبَادَةٌ مُتَوَقِّفَةٌ على رُؤيَةِ الهِلالِ والشَّمْسِ .
كَمَا قَالَ تَعَالى : { ?? ? ? ? ?? من الخيط الأسود من ?? ? ? ? ? ? } (البقرة187) .
وقَالَ ? : «إذَا رَأيْتُمُوْهُ (الِهلالَ) فَصُوْمُوا، و إذَا رَأيْتُمُوْهُ فَأفْطِرُوا، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَاقْدِرُوا لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ ? : «إذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وأدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وغَرَبَتِ الشَّمْسُ؛ فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
* * *
( وهَذَا الحَجُّ : عِبَادَةٌ مُتَوَقِّفَةٌ على رُؤيَةِ القَمَرِ (الهِلالَ) .
كَمَا قَالَ تَعَالى : { الحج ?? } (البقرة197)،
وقَالَ تَعَالى : { ے ے??? ???? } (البقرة189) .
وقَالَ ? : «الحَجُّ عَرَفَاتُ»(1) أحمَدُ، وأبُو دَاوُدَ، ولا يُمْكِنُ التَّحَقُّقُ مِنَ اليَوْمِ التَّاسِعِ، ويَوْمِ النَّحْرِ، وأيَّامِ التَّشْرِيْقِ إلَّا برُؤيَةِ هِلالِ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ .
(
__________
(1) أخْرَجَهُ أحمَدُ (4/335)، وأبُو دَاوُدَ (1949)، وهُوَ صَحِيْحٌ .(1/68)
وهُنَاكَ كَثِيْرٌ مِنَ العِبَادَاتِ، والأحْكَامِ، والعُقُوْدِ الشَّرْعِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ على رُؤَيَةِ القَمَرِ أو الشَّمْسِ : مِثْلُ صِيَامِ عَاشُوْرَاءَ، وكُلِّ عِبَادَةٍ قَامَتْ على شَرْطٍ مُعَلَّقٍ بزَمَنٍ : كالكَفَّارَاتِ، والأيْمانِ، والنُّذُوْرِ، والطَّلاقِ، والعِتَاقِ، والعُدَدِ وغَيْرِهَا، كَما هُوَ مَبْسُوْطٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، ولَيْسَ هَذَا مَحَلَّ تَفْصِيْلِهَا .
* * *
أمَّا صَلاةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ فَلا شَكَّ أنَّها عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلى سُنِّيَّتِهَا(1)، وهِيَ أيْضًا مُتَوَقِّفَةٌ على رُؤيَةِ الشَّمْسِ أو القَمَرِ؛ لأنَّه لا يَجُوْزُ شَرْعًا أنْ يُصَلَّى لهُما إلَّا إذَا تَحَقَّقْنَا مِنْ رُؤْيَِة كُسُوْفِ الشَّمْسِ، أو خُسُوْفِ القَمَرِ ... لأنَّهما عِبَادَتَانِ لا يَجُوْزُ الاعْتِمادُ فِيْهِما على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ سَوَاءٌ صَدَقَتْ أو كَذَبَتْ؛ لأنَّنا مُطَالَبُوْنَ شَرْعًا أنْ نَنْظُرَ إلى حَقِيْقَةِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ، لِذَا لَوْ حَجَبَتِ السُّحُبُ أو غَيْرُهَا عَنَّا رُؤْيَةَ الكُسُوْفِ أو الخُسُوْفِ؛ فَلا يَجُوْزُ لَنَا والحَالَةُ هَذِهِ أنْ نُصَلِّي لهُما اعْتِمَادًا على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ، وهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَماءِ الإسْلامِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ وغَيْرُهُ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا آنِفًا، فالحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ .
الوَجْهُ الثَّاني : فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ? أنَّهُ قَالَ : «إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا ...» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
__________
(1) هُنَاكَ خِلافٌ في سُنيَّةِ صَلاةِ الخُسُوْفِ فَقَطُ، لكِنَّهُ مَرْجُوْحٌ .(1/69)
وهَذَا الحَدِيْثُ دَلِيْلٌ قَطْعِيٌّ على أنَّ صَلاةَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ عِبَادَتَانِ شَرْعِيَّتانِ لا تَتَوَقَّفَانِ على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ، والأرْصَادِ الجَوِّيَّةِ؛ بَلْ على الأشْيَاءِ المَحْسُوْسَةِ والمَسْمُوْعَةِ والمَرْئِيَّةِ؛ لِذَا لا تَحْتَاجُ إلى تَكَلُّفٍ، أو تَعَمُّقٍ، أو مَشَقَّةٍ؛ بِحَيْثُ يَسْتَطِيْعُ الأعْرَابيُّ في بَادِيَتِهِ، والبَعِيْدُ في قَرْيَتِهِ أنْ يَعْبُدَ الله تَعَالى على بَصِيْرَةٍ دُوْنَ النَّظَرِ إلى الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ ونَحْوِهَا!
* * *
فَدَلالَةُ هَذَا الحَدِيْثِ وَاضِحَةٌ على أنَّ الدِّيْنَ الإسْلامِيَّ مَبْنِيٌّ على التَّيْسِيْرِ، ورَفْعِ الحَرَجِ حَيْثُ أُنِيْطَتْ أحْكَامُهُ على الرُّؤيَةِ لرَفْعِ الحَرَجِ عَنِ المُسْلِمِيْنَ في مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيْرِ، بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بنَفِي تَعْلِيْقِ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ على الحِسَابِ أصْلًا .
ويُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ ? في الحَدِيْثِ : «فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُم، فَأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِيْنَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ولم يَقُلْ فَسْألُوا أهْلَ الحِسَابِ؟!
والحِكْمَةُ فِيْهِ أيْضًا : كَوْنُ العَدَدِ عِنْدَ الإغْماءِ يَسْتَوِي فِيْهِ المُكَلَّفُوْنَ، فَيَرْتَفِعُ الاخْتِلافُ والنِّزَاعُ عَنْهُم .
فالعَمَلُ إذًا بعَمَلِ المُنَجِّمِيْنَ لَيْسَ مِنْ هَدْيِنَا، بَلْ إنَّما رُبِطَتْ عِبَادَتُنَا بأمْرٍ وَاضِحٍ، وهُوَ رُؤيَةُ الهِلالِ، فَإنَّا نَرَاهُ مَرَّةً لتِسْعٍ وعِشْرِيْنَ، وأخْرَى لثَلاثِيْنَ .(1/70)
فالَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرِيْعَتُنا أكْمَلُ الأمُوْرِ؛ لأنَّه وقَّتَ الشَّهْرَ بَأمْرٍ طَبِيْعِيٍّ ظَاهِرٍ عَامٍّ يُدْرَكُ بالأبْصَارِ، فَلا يَضِلُّ أحَدٌ عَنْ دِيْنِهِ، ولا يُشْغِلُهُ مُرُاعَاتُهُ عَنْ شَيءٍ مِنْ مَصَالحِهِ، ولا يَدْخُلُ بسَبَبِهِ فيما لا يَعْنِيْهِ، ولا يَكُوْنُ طَرِيْقًا إلى التَّلْبِيْسِ في دِيْنِ الله، كَما يَفْعَلُ بَعْضُ عُلَماءِ أهْلِ المِلَلِ بمِلَلِهِم(1) .
* * *
وظَهَرَ بذَلِكَ أنَّ الأمَّةَ المَذْكُوْرَةَ في هذا الحَدِيْثِ : هِيَ صِفَةُ مَدْحٍ وكَمالٍ، مِنْ وُجُوْهٍ :
مِنْ جَهَةِ الاسْتِغْنَاءِ عَنِ الكِتَابِ والحِسَابِ، بِما هُو أبْيَنُ مِنْهُ وأظْهَرُ، وهُو الهِلالُ .
ومِنْ جَهَةِ أنَّ الكِتَابَ والحِسَابَ هُنَا يَدْخُلُهُما غَلَطٌ .
ومِنْ جِهَةِ أنَّ فيهِما تَعَبًا كَثِيْرًا بِلا فَائِدَةٍ، فَإنَّ ذَلِكَ شُغُلٌ عَنِ المَصَالِحِ، إذْ هَذَا مَقْصُوْدٌ لغَيْرِهِ لا لنَفْسِهِ، وإذَا كَانَ نَفْيُ الكِتَابِ والحِسَابِ عَنْهُم للاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بخَيْرٍ مِنْهُ، وللمَفْسَدِةِ الَّتِي كَانَ فيهِ الكِتَابُ والحِسَابُ في ذَلِكَ نَقْصًا وعَيْبًا، بَلْ سَيِّئَةً وذَنْبًا، فَمَنْ دَخَلَ فيهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الأمَّةِ الأمِّيَّةِ فيما هُو مِنَ الكَمالِ والفَضْلِ السَّالمِ عَنِ المَفْسَدَةِ، ودَخَلَ في أمْرٍ نَاقِصٍ يُؤدِّيْهِ إلى الفَسَادِ والاضْطِرَابِ .
ولهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ كَلامَ هَؤلاءِ بَيْنَ عُلُوْمٍ صَادِقَةٍ لا مَنْفَعَةَ فيهَا، ونَعُوْذُ بالله مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وبَيْنَ ظُنُوْنٍ كَاذِبَةٍ لا ثِقَةَ بِها، وأنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ، ولَقَدْ صَدَقَ!
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (25/139)، و«فَتْحَ البَارِيِ» لابنِ حَجَرٍ (4/163)، و«فَيْضَ القَدِيْرِ» للمُنَاوِي (2/696) .(1/71)
فإنَّ الإنْسَانَ الحَاسِبَ إذَا ضَيَّعَ نَفْسَهُ في حِسَابِ الدَّقَائِقِ والثَّواني كَانَ غَايَتُهُ مَا لا يُفيدُ، وإنَّما تَعِبُوا عَلَيْهِ لأجْلِ الأحْكَامِ، وهِيَ ظُنُوْنٌ كَاذِبَةٌ .
مَعَ تَعْبٍ وتَضْيِيْعِ زَمَانٍ كَثِيْرٍ، واشْتِغَالٍ عَمَّا يَعْنِي النَّاسَ، ومَا لابَدَّ لَهُ مِنْهُ، ورُبَّما وقَعَ فيهِ الغَلَطُ والاخْتِلافُ .
أمَّا الكَلامُ في الشَّرْعِيَّاتِ فإنْ كَانَ عِلمًا كَانَ فيهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وإنْ كَانَ ظَنًّا مِثْلَ الحُكْمِ بشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، أو العَمَلِ بالدَّلِيْلِ الظَّنِّي الرَّاجِحِ فَهُو عَمَلٌ بعِلْمٍ، وهُو ظَنٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ(1) .
* * *
يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ» (3/ 226) : وأمَّا أسْبَابُ الكُسُوْفِ وحِسَابُه والنَّظَرُ في ذَلِكَ، فَإنَّه مِنَ العِلْمِ الَّذِي لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِهِ، ولا يَنْفَعُ نَفْعَ العِلْمِ بِما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَفَرْقٌ بَيْنَ هُذَا العِلْمِ وبَيْنَ عُلُوْمِ هَؤلاءِ .
وقَدْ بيَّنَّا أنَّ غَايَةَ هَذَا ـ لَوْ صَحَّ وسَلِمَ مِنَ الخَلَلِ جَمِيْعِهِ ولا سَبِيْلِ إلَيْهِ ـ لَكَانَ جُزْءَ السَّبَبِ والعِلَّةِ، والحُكْمُ لا يُضَافُ إلى جُزْءِ سَبَبِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ سَبَبًا تَامًّا فَصَوارِفُهُ ومَوانِعُهُ لا تَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ ألْبتَّةَ، والحُكْمُ إنَّما يُضَافُ إلى وُجُوْدِ سَبَبِهِ التَّامِ وانْتِفَاءِ مَانِعِهِ .
وهَذِهِ الأسْبَابُ والمَوانِعُ، ممَّا لا تَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ ولا ضَبْطٍ إلا لمَنْ أحْصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا، وأحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، لا إلَهَ إلا هُو عَلامُ الغُيُوْبِ! انْتَهَى .
* * *
__________
(1) انْظُرْ : «مَجْمُوَع الفَتَاوَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ (25/136، 174، 201) باخْتِصَارٍ .(1/72)
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله في«مَجْمُوَع الفَتَاوَى» (25/183) : وقَدْ عُلِمَ بالعَقْلِ والنَّقْلِ : أنَّ المُحَقِّقِيْنَ مِنْ أهْلِ الحِسَابِ كُلَّهِم مُتَّفِقُوْنَ على أنَّه لا يُمْكِنُ ضَبْطُ الرُّؤيَةِ بحِسَابٍ؛ بحَيْثُ يُحْكَمُ بأنَّه يُرَى لا مَحَالَةً، أو لا يُرَى ألبَتَّةَ على وجْهٍ مُطَّرِدٍ، وإنَّما قَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ، أو لا يُمْكِنُ بَعْضُ الأوْقَاتِ، ولهَذَا كَانَ المُعْتَنُوْنَ بِهَذَا الفَنِّ مِنَ الأمَمِ : كَأهْلِ الرُّوْمِ، والهِنْدِ، والفُرْسِ، والعَرَبِ، وغَيْرِهِم مِثْلُ بَطْلِيْمُوْسَ الَّذِي هُو مُقَدِّمُ هَؤلاءِ ومَنْ بَعْدَهُم قَبْلَ الإسْلامِ وبَعْدَهَ : لم يَنْسُبُوا إلَيْهِ في الرُّؤيَةِ حَرْفًا واحِدًا، ولا حَدُّوْهُ، كَما حَدُّوا اجْتِماعَ القُرْصَيْنِ، وإنَّما تَكَلَّمَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُم مِنْ أبْنَاءِ الإسْلامِ .
* * *
وقَالَ أيْضًا (207) : ولا رَيْبَ أنَّه ثَبَتَ بالسُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ واتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أنَّه لا يَجُوْزُ الاعْتِمادُ على حِسَابِ النُّجُوْمِ، كَما ثَبَتَ عَنْهُ في الصَّحِيْحَيْنَ انَّه ? قَالَ : «إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ، ولا نَحْسِبُ، صُوْمُوا لرُؤيَتِهِ، وافْطِرُوا لرُؤيَتِهِ» .
والمُعْتَمِدُ على الحِسَابِ في الهِلالِ، كَما أنَّه ضَالٌّ في الشَّرِيْعَةِ، مُبْتَدِعٌ في الدِّيْنِ : فَهُو مُخْطِئ في العَقْلِ، وعِلْمِ الحِسَابِ!(1/73)
فَإنَّ العُلَماءَ بالهَيْئَةِ يَعْرِفُوْنَ أنَّ الرُّؤيَةَ لا تَنْضَبِطُ بأمْرٍ حِسَابي، وإنَّما غَايَةُ الحِسَابِ مِنْهُم إذَا عَدَلَ أنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الهِلالِ والشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةٍ وقْتَ الغُرُوْبِ مَثَلًا، لكِنَّ الرُّؤيَةَ لَيْسَتْ مُنْضَبِطَةً بدَرَجَاتٍ مَحْدُوْدَةٍ، فَإنَّها تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ حِدَّةِ النَّظَرِ وكَلالِهِ، وارْتِفَاعِ المَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءى فيهِ الهِلالُ، وانْخِفَاضِهِ، وباخْتِلافِ صَفَاءِ الجَوِّ وكَدَرِهِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ .
وقَالَ أيْضًا (141) : فلِهَذَا ذَكَرْنَا مَا ذَكَرْنَاهُ حِفْظًا لهَذَا الدِّيْنِ عَنْ إدْخَالِ المُفْسِدِيْنَ؛ فَإنَّ هَذَا ممَّا يُخَافُ تَغْيِيْرُهُ، فَإنَّه قَدْ كَانَتِ العَرَبُ في جَاهِلِيَّتِهَا قَدْ غَيَّرَتْ مِلَّةَ إبْرَاهِيْمَ بالنَّسِيءِ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ، فَزَادَتْ بِه في السَّنَةِ شَهْرًا جَعَلَتْهُ كَبِيْسًا؛ لأغْرَاضٍ لهُم، والله أعْلَمُ . انْتَهَى .
فَإذَا تَبَيِّنَ ذَلِكَ؛ عَلِمْنَا أنَّ صَلاةَ الكُسُوْفِ لا تُقامُ شَرْعًا إلَّا بَعْدَ التَّحَقُّقِ مِنَ النَّظَرِ إلى الكُسُوْفِ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ؛ فأيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلهم لا تَنْظُرُوا إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا؟!
* * *(1/74)
الوَجْهُ الثَّالِثُ : فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ? مِنْ حَدِيْثِ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّهُ قَالَ : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رَسُوْلِ الله ? يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيْمُ، فَقَالَ النَّاسُ : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لمَوْتِ إبْرَاهِيْمَ، فَقَالَ رَسُوْلُ الله ? : «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لا يَنْكَسِفَانِ لمَوْتِ أحَدٍ ولا لحَيَاتِهِ، ولكِنَّهُما آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، فَإذا رَأيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى الصَّلاةِ»، وفي رِوَايَةٍ : «فَإذا رَأيْتُمُوْهُما؛ فَادْعُوا الله وصَلُّوا؛ حَتَّى تَنْكَشِفَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وفي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِ : «حَتَّى تَنْجَلي»، وفي رِوَايَةٍ لهُما : «إنَّ الله يُخَوِّفُ بِهِما عِبَادَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَفي هَذِهِ الأحَادِيْثِ دَلالاتٌ وَاضِحَاتٌ على أنَّ النَّظَرَ إلى الشَّمْسِ والقَمَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَجِبُ تَحقُّقُهُ؛ نَذْكُرُ منْهَا مَا يَلي :
أوَّلاً : فَفِي قَوْلِهِ : «فَإذَا رَأيْتُمُوْهُمَا»، دَلالةٌ جَلِيَّةٌ على وُجُوْبِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا؛ لأنَّه ? أنَاطَ صَلاةَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ عِنْدَ التَّحَقُّقِ مِنَ النَّظَرِ إلَيْهَا، لِذَا لا يَجُوْزُ لَنَا شَرْعًا أنْ نُقِيْمَ هَذِهِ العِبَادَةَ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا بالعَيْنِ المُجَرَّدَِةِ وقَدْ دَلَّ على هَذَا أحَادِيْثُ مُسْتَفِيْضَةٌ بألْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ؛ تَقْطَعُ بمَجْمُوْعِهَا : بوُجُوْبِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ تَحْقِيْقًا لصَلاةِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ .
فبِهَذَا نَعْلَمُ أنَّ النَّظَرَ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ شَرْطٌ لصِحَّةِ صَلاةِ الكُسُوْفِ .
* * *(1/75)
ثَانِيًا : وفي قَوْلِهِ : «فَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ»، وقَوْلِهِ : «حَتَّى تَنْجَلي»، دَلِيْلٌ على أنَّ صَلاةَ الكُسُوْفِ مَوْقُوْتَةٌ ابْتِدَاءً وانْتِهَاءً؛ فالصَّلاةُ لا تُصَلَّى ابْتِدَاءً إلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الكُسُوْفِ، ونِهايَتِهَا عِنْدَ انْجِلائِهَا؛ وكِلا الأمْرَيْنِ مُتَوَقِّفٌ على رُؤيَةِ الشَّمْسِ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ، وهَذَا لا يَعْنِي أنَّ الصَّلاةَ تَسْتَمِرُ مِنْ أوَّلِ الكُسُوْفِ حَتَّى نِهايَتِهِ؛ بَلِ الصَّلاةُ مَا بَيْنَ الرُّؤيَةِ للكُسُوْفِ والانْجِلاءِ سَوَاءٌ طَالَتِ الصَّلاةُ أم قَصُرَتْ .
* * *
ثَالِثًا : وفي قَوْلِهِ : «إن الشَّمْسَ والقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آيَاتِ الله ... يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ»؛ دَلِيْلٌ على وَحْدَانِيَّةِ الله، وعَظِيْمِ قُدْرَتِهِ، وتَخْوِيْفِ العِبَادِ مِنْ بَأسِ الله وسَطْوَتِهِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالى : { ? ? ? ٹ ٹ } (الإسراء59) .
ومَعْنَى الآيَةِ في الحَدِيْثِ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ الله في «فَيْضِ القَدِيْرِ» (2/692) : «الشَّيءُ الغَرِيْبُ الَّذِي خَالَفَ المَعْهُوْدَ ممَّا يَسْتَجْلِبُ انْتِبَاهَ النَّاسِ، ولَوْ كَانَ الكُسُوْفُ بالحِسَابِ لم يَكُنْ للأمْرِ بالعِتْقِ، والصَّدَقَةِ، والصَّلاةِ، والذِّكْرِ مَعْنًى؛ فَإنَّ ظَاهِرَ الأحَادِيْثِ أنَّ ذَلِكَ يُفِيْدُ التَّخْوِيْفَ، وإنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أنْوَاعِ الطَّاعَةِ يُرْجَى أنْ يُدْفَعَ بِهِ مَا يُخْشَى مِنْ أثَرِ ذَلِكَ الكُسُوْفِ» انْتَهَى .
ونَقَل المُنَاوِيُّ أيْضًا (2/692) عَنِ الطَّبرِيِّ قَوْلَهُ : «وللكُسُوْفِ فَوَائِدُ :(1/76)
مِنْهَا : ظُهُوْرُ التَّصَرُّفِ في هَذَيْنِ الخَلْقَيْنِ العَظِيْمَيْنِ، وإزْعَاجُ القُلُوْبِ الغَافِلَةِ، وإيْقَاظُها، وليَرَ النَّاسُ أنْمُوْذَجَ القِيَامَةِ، وكَوْنُهُما يَفْعَلُ بِهِما ذَلِكَ، ثُمَّ يُعَادَانِ فَيَكُوْنُ تَنْبِيْهًا على خَوْفِ المَكْرِ، ورَجَاءِ العَفْوِ، والإعْلامِ بَأنَّه قَدْ يُؤْخَذُ مَنْ لا ذَنْبَ لَهُ؛ فَكَيْفَ بمَنْ لَهُ ذَنْبٌ؟ وقَالَ الزَّمخشَريُّ فَقَالُوا : حِكْمَةُ الكُسُوْفِ أنَّه تَعَالى مَا خَلَقَ خَلْقًا إلَّا قَيَّضَ لَهُ تَغْيِيْرَهُ، أو تْبْدِيْلَهُ ليَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ على أنَّ لَهُ مُسَيِّرًا، ومُبَدِّلًا؛ ولأنَّ النَّيِّرَيْنِ يُعْبَدَانِ مِنْ دُوْنِ الله تَعَالى فَقَضَى عَلَيْهِما بسَلْبِ النَّوْرِ عَنْهُما لأنَّهما لَوْ كَانَا مَعْبُوْدَيْنِ لدَفَعَا عَنْ نَفْسَيْهِما مَا يُغَيِّرُهُما ويَدْخُلُ عَلَيْهِما . انْتَهَى .
* * *
وكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّخْوِيْفِ الجَالِبِ لعَظَمَةِ الله تَعَالى لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بالنَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ .
ومَنِ ادَّعَى أنَّ التَّخْوِيْفَ يَصْدُقُ أيْضًا لمَنْ لم يَنْظُرْ إلَيْهَا اعْتِمادًا على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ، قُلْنَا لَهُ : لا شَكَّ أنَّ هَذِهِ مُكَابَرَةٌ، ومُخَالَفَةٌ للفِطَرِ السَّلِيْمَةِ، لأنَّ الخَوْفَ مِنَ الله تَعَالى عِبَادَةٌ مُلازِمَةٌ لله في جَمِيْعِ الأحْوَالِ السَّرَّاءِ مِنْهَا والضَّرَاءِ، ولَوْ كَانَ كَذَلِكَ لم يَكُنْ للكُسُوْفِ مَعْنىً للتَّخْوِيْفِ إلَّا إذَا قُلْنَا أنَّ هُنَاكَ تَخْوِيْفًا خَاصًّا زَائِدًا على التَّخْوِيْفِ العَام؛ وهُوَ مَا يَظْهَرُ ويَتَحَقَّقُ عِنْدَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا، والله أعْلَمُ .
* * *(1/77)
الوَجْهُ الرَّابِعُ : القَوْلُ بعَدَمِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ فِيْهِ مُصَادَمَةٌ للفِطْرَةِ والحِسِّ؛ لأنَّ الفِطَرَ والنُّفُوْسَ جُبِلَتْ على مُشَاهَدَةِ التَّغَيُّرَاتِ الكَوْنِيَّةِ، والآيَاتِ الإلهِيَّةِ، وهَذِهِ ضَرُوْرَةٌ نَجِدُهَا عِنْدَ سَائِرِ بَنِي آدَمَ.
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ الإنْسَانَ بفِطْرَتِهِ إذَا سَمِعَ مَثَلًا عَنْ : دَجَاجَةٍ لهَا ثَلاثَةُ أرْجُلٍ؛ لا يَسَعُهُ إلَّا رُؤيَتُهَا إذَا أمْكَنَ، ولَوْ تَكَلَّفَ الصِّعَابَ؛ فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِهِ إذَا كَانَ الأمْرُ أعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ؟ وهُوَ كُسُوْفُ الشَّمْسِ الَّذِي جَعَلَهُ الله تَعَالى آيَةً مِنْ آيَاتِهِ، ورَتَّبَ عَلَيْهِ التَّخْوِيْفَ مِنْهُ، والإقْلاعَ عَنِ المَعَاصِي، والتَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوْبِ، وطَلَبَ العِبَادَةِ كالصَّلاةِ، والصَّدَقَةِ، والدُّعَاءِ، والاسْتِغْفَارِ، والعِتْقِ؟!
* * *
الوَجْهُ الخَامِسُ : ولَوْ كَانَ الأمْرُ كَمَا قَالُوا : وهُوَ عَدَمُ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ لمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ!
لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَظَنَّ النَّاسُ بالشَّرَيْعَةِ ظَنَّ السَّوْءِ (عِيَاذًا بالله!)، وذَلِكَ بأنَّها تَأمُرُ بِما فِيْهِ ضَرَرٌ، وشَرٌ مَحْضٌ، وذَلِكَ بالنَّظَرِ إلى كُسُوْفِ الشَّمْسِ!
فَإذَا تَحَقَّقَ لَنَا أنَّ هَذَا مُحَالٌ في حَقِّ الشَّرِيْعَةِ كَمَا أوْضَحْنَاهُ في الفَصْلِ الأوَّلِ مِنَ البَابِ الأوَّلِ، تَبَيِّنَ فَسَادُ قَوْلهِم، والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمَيْنَ .
* * *(1/78)
الوَجْهُ السَّادِسُ : أنَّ الوَاقِعَ والمُشَاهَدَ قَدْ خَالَفَ نَظَرِيَّتَهُم الجَوْفَاءَ؛ لأنَّنَا وَجَدْنَا وشَاهَدْنَا وسَمِعْنَا أنَّ جُمُوعًا مِنَ البَشَرِيَّةِ لا يُحْصِيْهِم إلَّا الله تَعَالى قَدْ نَظَرُوا إلى الكُسُوْفِ سَوَاءٌ مِنْ أهْلِ البَادِيَةِ والقُرَى ممَّنْ لم تَصِلْهُمُ الأخْبَارُ الفَاجِعَةُ المُحَذِّرَةُ، أو ممَّنْ لُقِّنَ التَّحْذِيْرَاتِ الطِّبِّيَّةَ؛ والإرْشَادَاتِ الأمْنِيَّةَ؛ ومَعَ هَذَا لم نَسْمَعْ بِشَيءٍ مِنْ تِلْكُمُ الأمْرَاضِ والإصَابَاتِ الَّتِي ظَنَّ الجَمِيْعُ أنَّها سَوْفَ تَكُوْنُ بقَدْرِ هَذَا الكَمِّ الهَائِلِ مِنَ التَّحْذِيْرَاتِ، أو قَرِيْبًا مِنْهُ؛ لكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فدُوْنَ مَا يُحَذِّرُوْنَ خَرْطُ القَتَادِ!
كَمَا أنَّني قُمْتُ بنَفْسِي مَعَ بَعْضِ الإخْوَةِ الصَّالحِيْنَ بتَحْقِيْقِ النَّظَرِ في الكُسُوْفِ وَقْتَئِذٍ، تَحْقِيْقًا للمَطْلَبِ الشَّرعِيِّ، وإبْطَالًا للظُّنُوْنِ الفَلَكِيَّةِ، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْ تَخَاوِيْفِ مَا حَذَّرُوا مِنْهُ، والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ!
* * *
( ولَعَلَّ قَائِلًا يَقُوْلُ : لَقَدْ وُجِدَتْ بَعْضُ الإصَابَاتِ، كَمَا نَشَرَتْهُ بَعْضُ الصُّحُفِ، وغَيْرُهَا!
قُلْتُ : والجَوَابُ على هَذَا مِنِ اعْتِبَارَاتٍ ثَلاثَةٍ، كَمَا يَلي :
الاعْتِبَارُ الأوَّلُ : أنَّ هَذَا الخَبرَ يَحْتَاجُ إلى دَلِيْلٍ قَطْعِيٍّ، عَنْ طَرِيْقٍ صَحِيْحٍ، كَما قَاَل تَعَالى : { ? ? ? ? ? ? ?ٹ ٹ ٹ ٹبجهالة فتصبحواعلى ما ? ? } (الحجرات6).(1/79)
الاعْتِبَارُ الثَّاني : إذَا سَلَّمْنَا بصِحَّةِ هَذَهِ الأخْبَارِ؛ فَهِيَ لا تَعْدُ في الحَقِيْقَةِ إلَّا حَالاتٍ نَادِرَةً لا تَتَنَاسَبُ مَعَ هَذَا الكَمِّ الهَائِلِ مِنَ التَّحْذِيْرَاتِ؛ وفِيْهِ أيْضًا دَلِيْلٌ على أنَّ هَذِهِ الحَالاتِ لم تَكُنْ مِنْ عَوَاقِبِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ؛ هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ عَدَدَ العَالم البَشَرِي اليَوْمَ يَتَجَاوَزُ (السِّتَّةَ مِلْيَارَ) نَسَمَةٍ تَقْرِيْبًا، فَمِنَ المَعْلُوْمِ قَطْعًا أنَّ جُمُوعًا كَبِيرَةً مِنَ النَّاسِ سَوْفَ تُرَاجِعُ مُسْتَشْفَيَاتِ وعِيَادَاتِ العُيُوْنِ سَوَاءٌ للمُرَاجَعَاتِ الكَشْفِيَّةِ أو لإصْابَاتٍ بأمْرَاضٍ لَيْسَتْ مِنْ جَرَّاءِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ؛ وهَذَا يَحْصُلُ كُلَّ يَوْمٍ دُوْنَ اسْتِثْنَاءٍ سَوَاءٌ كَانَ يَوْمَ الكُسُوْفِ أو غَيْرِهِ!
وهَذَا لَيْسَ بالضَّرُوْرِي أنَّ هَذِهِ المُرَاجَعَاتِ لمُسْتَشْفَيَاتِ وعِيَادَاتِ العُيُوْنِ في نَفْسِ اليَوْمِ كَانَتْ بسَبَبِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ، وهَذَا مِنَ المَعْلُوْمِ بضَرُوْرَةِ الوَاقِعِ والشَّاهِدِ .
عِلْمًا أنَّ أكْثَرَ الحَالاتِ الَّتِي ذَكَرَتْها الصُّحُفُ كَانَتْ حَالاتٍ وَهمِيَّةً لا حَقِيْقَةَ لهَا مِنَ الصِّحَّةِ؛ وذَلِكَ بحُكْمِ الأوْهَامِ، والوَسَاوِسِ الَّتِي عَشَّشَتْ في قُلُوْبِ أكْثَرِ النَّاسِ جَرَّاءَ السَّيْلِ الهَائِلِ مِنَ التَّحْذِيْرَاتِ، والإرْشَادَاتِ المُوْهِمَةِ .
وكَذَا مَا صَرَّحَتْ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ المَرَاكِزِ الصِّحِّيَّةِ ـ المَحَلِّيَّةِ والعَالمِيَّةِ ــ للعُيُوْنِ : أنَّه لم يَصِلْهَا أيَّةُ حَالَةٍ؛ بسَبَبِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ!(1/80)
الاعْتِبَارُ الثَّالِثُ : وإذَا سَلَّمْنَا بوُجُوْدِ هَذِهِ الحَالاتِ المَرَضِيَّةِ فَهِي لا تَتَعَارَضُ مَعَ أحْكَامِ الشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ؛ بَلْ وُجُوْدُهَا في هَذَا اليَوْمِ ـ الأرْبِعَاءِ ـ شَيءٌ قَدَّرَهُ الله كَوْنًا لا شَرْعًا؛ للابْتِلاءِ والفِتْنَةِ لبَعْضِ العِبَادِ، ليَحْيَ مَنْ يَحْيَا عَنْ بَيِّنَةِ، ويَهْلِكَ مِنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ، كَمَا هُوَ الحَالَ فِيْما يُجْرِيْهِ الله تَعَالى مِنَ السُّنَنِ الكَوْنِيَّةِ على أيْدِي بَعْضِ السَّحَرَةِ، والكُهَّانِ، وكَذَا مَا سَيَجْرِيْهِ سُبْحَانَهُ على يَدِ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ آخِرَ الزَّمَانِ، والله أعْلَمُ .
* * *
( ولَعَلَّ قَائِلًا يَقُوْلُ : لَقَدْ ثَبَتَ عَنِ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّه نَظَرَ إلى الشَّمْسِ وهِيَ كَاسِفَةً فعُمِيَ!
قُلْتُ : إنَّ هَذَا الأثَرَ عَنِ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ لا يَصِحُّ مَتْنًا ، ولا سَنَدًا؛ كَمَا يَلي :
( أمَّا سَنَدًا : فَهُوَ مُعَلَّلٌ مِنْ وُجُوْهٍ :
أوَّلاً : أنَّ هَذَا الأثَرَ ضَعِيْفٌ لأنَّه مُعَلَّقٌ؛ فَقَدْ أوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ الله مُعَلَّقًا في كِتَابِهِ «سِيَرِ أعْلامِ النُّبَلاءِ» (3/21)؛ حَيْثُ قَالَ : «رَوَى مُغِيْرَةُ بنُ الرَّيَّانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَتْ عَائِشَةُ : كُسِفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رَسُوْلِ الله ? فَقَامَ المُغَيرَةُ بنُ شُعْبَةَ يَنْظُرُ إلَيْهَا، فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ» .
ثَانِيًا : فِيْهِ أيْضًا انْقِطَاعٌ بَيْنَ الزُّهْرِيِّ وعَائِشَةَ، فالزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ الله لم يُدْرِكْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَهُ أهْلُ العِلْمِ .(1/81)
ثَالِثًا : فِيْهَ أيْضًا انْقِطَاعٌ بَيْنَ مُغِيْرَةَ بنِ الرَّيَّانِ والزُّهْرِيِّ، فمُغِيْرَةُ هَذَا لَيْسَ ممَّنْ رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ بَلْ هُوَ مَجْهُوْلُ العَيْنِ؛ حَيْثُ لم أجِدْ لَهُ تَرْجَمَةً في كُتُبِ التَّراجِمِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيَّ .
رَابِعًا : نَجِدُ أيْضًا الذَّهِبيَّ رَحِمَهُ الله نَفْسَهُ لم يَجْزِمْ بهَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لأنَّه أوْرَدَ رِوَايَاتٍ مُتَعَارِضَةً لهَذِهِ القِصَّةِ، ولم يُصَرِّحْ بضَعْفِهَا!
فَقَالَ (3/23) : «عَنْ أبي مُوْسَى الثَّقَفِيِّ قَالَ : كَانَ المُغِيْرَةُ رَجُلًا طُوَالًا، أعْوَرَ، أُصِيْبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ اليَرْمُوْكَ .
وعَنْ غَيْرِهِ : ذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ القَادِسِيَّةِ، وقِيْلَ : بالطَّائِفِ، ومَرَّ مَعَنَا أنَّها ذَهَبَتْ مِنْ كُسُوْفِ الشَّمْسِ» انْتَهَى .
وهَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ الله دَلِيْلٌ على اضْطِرَابِ الرِّوَايَةِ!
خَامِسًا : وهَذَا الحَافِظُ المِزِّيُّ رَحِمَهُ الله يُفصِحُ لَنَا عَنْ ضَعْفِ الرِّوَايَةِ؛ حَيْثُ أوْرَدَهَا بصِيْغَةِ التَّمْرِيْضِ .
حَيْثُ قَالَ في كِتَابِهِ «تَهْذِيْبِ الكَمَالِ» (28/372) : «ورُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ : كُسِفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رَسُوْلِ الله ? ، فَقَامَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ فَنَظَرَ إلَيْهَا فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ»، وهَذَا دَلِيْلٌ مِنْهُ على ضَعْفِ الرِّوَايَةِ كَما هُوَ مَعْلُوْمٌ عِنْدَ حُذَّاقِ الحَدِيْثِ؛ لاسِيَّما أنَّ المِزِّيَّ مِنْ أئِمَّةِ هَذَا الشَّأنِ، وهُوَ يُدْرِكُ مَا يَقُوْلُ!
* * *
( أمَّا مَتْنًا : فَضَعْفُهُ مِنْ وُجُوْهٍ :
أوَّلاً : أنَّ المَتْنَ فِيْهِ اضْطِرَابٌ بَيِّنٌ؛ فالحَادِثَةُ وَاحِدَةٌ والأسْبَابُ كَثِيرَةٌ!(1/82)
فَمَرَّةً يَكُوْنُ سَبَبُ العَمَى النَّظَرَ إلى الشَّمْسِ، ومَرَّةً يَوْمَ اليَرْمُوْكِ، وأُخْرَى يَوْمَ القَادِسِيَّةِ، وأخْرَى يَوْمَ الطَّائِفِ!
فَهَذَا التَّردُّدُ والاضْطِرَابُ يَقْطَعُ بضَعْفِ الرِّوَايَةِ .
ثَانِيًا : إذَا سَلَّمْنَا بصِحَّةِ هَذَا الأثَرِ ـ جَدَلًا ـ فَهُوَ لا يُقَاوِمُ مُعَارَضَةَ النُّصُوْصِ الشَّرْعِيَّةِ، والقَوَاعِدِ الكُلِّيَّةِ، والإجمْاَعِ القَاطِعِ بمَشْرُوْعِيَّةِ صَلاةِ الكُسُوْفِ عِنْدَ تَحَقُّقِ رُؤْيَةِ الكُسُوْفِ، أو الخُسُوْفِ بالعِيْنِ المُجَرَّدَةِ .
ثَالِثًا : وكَذَا لَوْ صَحَّ الأثَرُ فَهُوَ لا يَعْدُ أنْ يَكُوْنَ مِنَ الأقْدَارِ الكَوْنِيَّةِ الَّتِي قُدِّرِتْ حَالَ النَّظَرِ إلى الكُسُوْفِ، والله أعْلَمُ .
* * *
الوَجَهُ السَّابِعُ : لَقَدْ قَرَّرَ عُلَماءُ الإسْلامِ مِنَ الفُقَهَاءِ والأصُولِيِّيْنَ أنَّه لا يَجُوْزُ في حَقِّهِ ? تَأخِيْرُ البَيَانِ وَقْتَ الحَاجَةِ؛ بمَعْنَى أنَّه لا يَجُوْزُ لَهُ أنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَ الضَّرَرِ والشَّرِّ النَّاجِمِ للأبْصَارِ مِنَ النَّظَرِ حَالَ الكُسُوْفِ عَنْ أمَّتِهِ؛ لاسِيَّما أنَّه في مَقَامِ البَيَان والتَّوْجِيْهِ والتَّعْلِيْمِ؛ حَيْثُ أنَّهُ ? قَدْ بَيَّنَ للأمَّةِ الخَيْرَ والشَّرَّ في خُطْبَتِهِ الَّتِي ألْقَاهَا عَلَيْهِم وَقْتَ صَلاةِ الكُسُوْفِ .(1/83)
فَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ ضَرَرٌ سَيُصِيْبُ المُسْلِمِيْنَ في عُيُوْنِهم عِنْدَ أمْرِهِم بالنَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ الكُسُوْفِ، لبَيَّنَهُ ? بأوْضَحِ عِبَارَةٍ، وأوْجَزِ إشَارٍَة، وحِيْثُما أنَّ الضَّرَرَ لَيْسَ في شَيءٍ مِن النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِها، مَعَ أنَّنا مَأمُوْرُوْنَ بالنَّظَرِ إلَيْهَا، عُلِمَ يَقِيْنًا مِنَ الدِّيْنِ بالضَّرُوْرَةِ أنَّ مَا يَقُوْلُهُ كُفَّارُ الغَرْبِ مِنْ خِلالِ نظَرِيَّاتِهِم الفَلَكِيَّةِ بَاطِلٌ لا يَجُوْزُ الالْتِفَاتُ إلَيْهِ فَضْلًا أنْ نُعَارِضَ بِهِ النُّصُوْصَ الشَّرْعِيَّةَ الدَّالَّةَ على خِلافِهِ!
* * *
الوَجْهُ الثَّامِنُ : أنَّنَا لم نَسْمَعْ على مَرِّ العُصُوْرِ والدُّهُوْرِ أنَّ النَّظَرَ إلى الكُسُوْفِ فِيْهِ أمْرَاضٌ مُسْتَعْصِيَةٌ تُصِيْبُ العَيْنَ؛ فَدُوْنَكَ هَذِهِ الكُسُوْفَاتِ والخُسُوْفَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ مُنْذُ أنْ خُلِقَتِ الشَّمْسُ والقَمَرُ لا يُحْصِيْهَا عَادٌّ، إلَّا الله تَعَالى، لم نَسْمَعْ بشَيءٍ مِنَ هَذَا الهَذَيَانِ!
ولَوْ قَالَ قَائِلُهُم : إنَّ هَذَا الكُسُوْفَ شَاذٌّ عَنْ غَيْرِهِ، قُلْنَا لهُم : لَوْ كَانَ كَما قُلْتُم لبَيَّنَهُ لَنَا النَّبِيُّ ? لأنَّ بِهِ تَحْصُلُ أنْوَاعٌ مِنَ العِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كالصَّلاةِ والذِّكْرِ والصَّدَقَةِ والعِتْقِ ... وقَدْ تَقَرَّرَ لَدَى كَافَّةِ المُسْلِمِيْنَ أنَّ العِبَادَةَ لا تَتَضَمَّنُ ضَرَرًا بحَالٍ مِنَ الأحْوَالِ .
وهَلْ يُعْقَلُ أنَّ النَّبيَّ ? يَأمُرُنَا بالنَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ الكُسُوْفِ تَحْقِيْقًا للعِبَادَةِ، ورِجَالُ الغَرْبِ يُحَذِّرُوْنَا مِنْ مَغَبَّةِ النَّظَرِ إلَيْهَا؟ هَيْهَاتَ إنَّ هَذَا لشَيءٌ عُجَابٌ!(1/84)
ولَوْ قَالَ قَائِلُنا أنَّ هَذِهِ المَقُوْلَةَ مِنَ الغَرْبِ : دَسِيْسَةٌ، وتَشْكِيْكٌ في دِيْنِنَا لمَا أبْعَدَ النُّجْعَةَ؛ وقَدْ قِيْلَ!
* * *
الوَجْهُ التَّاسِعُ : إنَّ الحِكْمَةَ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ لم تَكُنْ خَفِيَّةً مَتْرُوكَةً لأنْظَارِ النَّاسِ، واجْتِهَادَاتِهِم، وتَجَارُبِهِم، ونَظَرِيَّاتِهِم، كَلَّا؛ بَلْ أفْصَحَ عَنْهَا سَيَّدُ الخَلْقِ ? فَقَالَ : «إنَّ الله يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ»، فالحِكْمَةُ إذًا مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ مَنْصُوْصٌ عَلَيْهَا لا تَحْتَاجُ إلى تَكَلُّفٍ وتَنَطُّعٍ؛ كَمَا ظَنَّهُ جُهَّالُ الغَرْبِ بأنَّ كُسُوْفَ الشَّمْسِ سَيَكُوْنُ مَحَلًّا للأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ الَّتِي إذَا أصَابَتِ العَيْنَ فلَنْ يَكُوْنَ لهَا عِلاجٌ!
* * *
الوَجْهُ العَاشِرُ : إذَا سَلَّمْنَا بقَوْلهِم : إنَّ النَّظَرَ إلى الشَّمْسِ سَبَبٌ للأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ الَّتِي تُصِيْبُ العَيْنَ، كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا أنْ نَلْتَزِمَ بوَاحِدٍ مِنْ ثَلاثَةٍ :
أوَّلاً : إمَّا أنْ نَمْتَنِعَ عَنْ رُؤيَةِ الشَّمْسِ مُطْلَقًا خَشْيَةَ إصَابَةَ العَيْنِ بالمَرَضِ أو العَمَى المُزْمِنَيْنِ، ومِنْ ثَمَّ نَعْتَمِدُ على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ، ونُخَالِفُ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ الآمِرَةَ بالنَّظَرِ إلى الشَّمْسِ عِنْدَ كُسُوْفِهَا ... وهَذَا غَيِرُ جَائِزٍ بالإجْماعِ؛ فَإذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا شَرْعًا، فَعَلَيْنَا الآتي .(1/85)
ثَانِيًا : وإذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ جَوَازِ الاعْتِمادِ على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ؛ وَجَبَ عَلَيْنَا والحَالَةُ هَذِهِ أنْ نَمْتَنِعَ عَنْ صَلاةِ الكُسُوْفِ بالكُلِّيَّةِ لعَدَمِ قُدْرَتِنَا على النَّظَرِ الشَّرعِيِّ؛ وهُوَ النَّظَرُ إلى الشَّمْسِ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ، وهَذَا أيْضًا لا يَجُوْزُ بالإجْمَاعِ؛ فَإذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا شَرْعًا؛ فَعَلَيْنَا الآتي .
ثَالِثًا : نَقُوْلُ للمُسْلِمِيْنَ لا بُدَّ لوَاحِدٍ مِنَّا أنْ يَفْتَدِيَ بعَيْنَيْهِ، ويُعَرِّضَهَا للخَطَرِ المُتَوَقَّعِ حُدُوْثُهُ مِنْ عَمًى أو أمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ؛ حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ ـ صَلاةِ الكُسُوْفِ ـ وهَذَا الاحْتِمالُ مُطَّرِدٌ في كُلِّ بَلَدٍ أو مَدِيْنَةٍ؛ بمَعْنَى : أنَّهُ يَجِبُ على أهْلِهَا أنْ يَفْتَدُوا بَعَيْنَيْ وَاحِدٍ مِنْهُم .
* * *
وهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ شَرْعًا؛ لأنَّ الشَّرِيْعَةَ لا تَأمُرُ بِما فِيْهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ كَما بَيَنَّاهُ آنِفًا، وبِهَذَا نَعْلَمُ أنَّ قَوْلَهُم : عَدَمُ النَّظَرِ إلى كُسُوْفِ الشَّمْسِ مُمتَنِعٌ شَرْعًا، وبَاطِلٌ وَاقِعًا .
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ
الفَصْلُ الثَّالِثُ
الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ التَّحْدِيْقِ في الشَّمْسِ
ومِنْ أسَفٍ بَعْدَ تَوَجُّعٍ أنَّ طَائِفَةً مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ ممَّنْ فُتِنُوا بالعُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ الغَرْبِيَّةِ؛ لم يَفْتَئُوا يَنْفُخُوْنَ في رَوْعِ إخْوَانِهِم المُسْلِمِيْنَ الشَّكَائِكَ والشُّبُهَاتِ، حَيْثُ نَجِدُهُم لا يَسْأمُوْنَ يَعْتَذِرُوْنَ للغَرْبِ في كُلِّ مَا يُبْدِي ويُعِيْدُ، ولَوْ كَانَ عَلى طَرَفٍ مِنَ الطَّعْنِ وجَانِبٍ مِنَ الغَمْزِ بعُلُوْمِ المُسْلِمِيْنَ!(1/86)
فَكَانَ مِنْ تَمْتَماتِ بَعْضِهِم، وتَسْرِيْبَاتِ أعْذَارِهِم مَا قَالُوْهُ في تَنَاتِفِ الصُّحُفِ وبَعْضِ اللِّقَاءَاتِ آنَذَاكَ : أنَّ التَّحْذِيْرَ مِنَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ لَيْسَ على إطْلاقِهِ؛ بَلِ التَّحْذِيْرُ مِنَ التَّحْدِيْقِ والتَّركِيْزِ في عَيْنِ الشَّمْسِ قَطُّ!
* * *
قُلْتُ : هَذِهِ مُصَادَرَةٌ عَنِ الحَقِيْقَةِ والوَاقِعِ؛ بَلْ في هَذَا الكَلامِ حَشْوٌ وإسْرَافٌ لَيْسَ تَحْتَهُ طَائِلٌ إلَّا اجْتِرَارٌ للكَلامِ .
لأنَّ قَولَهُم هَذَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ : السَّماءُ فَوْقَنَا، والأرْضُ تَحْتَنَا، والنَّارُ حَارَّةٌ، والثَّلْجُ بَارِدٌ، وكَقَوْلِ الآخَرِ : إيَّاكَ أنْ تَضَعَ يَدَكَ في النَّارِ، وإيَّاكَ أنْ تَشْرَبَ السُّمَّ الزُّعَافَ!
فَأيُّ فَائِدَةٍ تَحْتَ هَذَا الكَلامِ المَعْلُوْمِ مِنَ الوَاقِعِ والحِسِّ والمُشَاهَدِ بالضَّرُوْرَةِ؛ فَهُوَ لا يَحْتَاجُ إلى عِلْمٍ أو إخْبَارٍ أو تَحْذِيْرٍ؛ فَضْلًا عَنْ هَذَا التَّدَافُقِ الكَبِيْرِ، والحَشْدِ الهَائِلِ مِنَ الأخْبَارِ والتَّحْذِيْرِ والإرْجَافِ المُسْتَطِيْرِ؛ لأنَّ التَّحْدِيْقَ والتَّرْكِيْزَ في عَيْنِ الشَّمْسِ كَافٍ في فَسَادِ وضَرَرِ العَينِ، سَوَاءٌ حَالَ الكُسُوْفِ، أو حَالَ الصَّحْوِ!
في حِيْنَ أنَّ أحَدًا لَوْ قَلَبَ هَذَا التَّعْلِيْلَ عَلَيْهِم؛ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِم ولا بُدَّ، وهُوَ : أنَّنَا إذَا سَلَّمْنَا بضَرَرِ العَيْنِ عِنْدَ تَحْدِيْقِهَا في الشَّمْسِ؛ إلَّا أنَّهُ في حَالِ كُسُوْفِهَا يَكُوْنُ الضَّرَرُ مُنْتَفٍ أو أهْوَنَ مِنْهُ في غَيْرِهِ، لِذَا لا يَجُوْزُ النَّظَرُ إلَيْهَا حَالَ كُسُوْفِهَا!
* * *(1/87)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا : أنَّ عُلَماءَ الفَلَكِ الغَرْبِيِّيْنَ (للأسَفِ) لم يَقُوْلُوا بِهَذَا الإيْرَادِ (المَرْدُوْدِ)؛ بَلْ طَارَ بِهِ، وتَعَلَّقَ بِهِ ضِعَافُ العِلْمِ والنَّظَرِ ممَّنْ أرَادُوا أنْ يَعْتَذِرُوا لرِجَالِ الغَرْبِ، أو يُحَسِّنُوا الظَّنَّ بِهْمِ!
فَرِجَالُ الغَرْبِ في الحَقِيْقَةِ أعْقَلُ مِنْ أنْ يَقُوْلُوا بِهَذِهِ السَّفْسَطَةِ البَارِدَةِ، فَهُم لم يَقْصِدُوا بتَحْذِيْرِهِم سِوَى عَدَمِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ مُطْلَقًا؛ كَما صَرَّحُوا بِه في أخْبَارِهِم؛ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُم : لا يَجُوْزُ النَّظَرُ ولَوْ بقَدْرِ ثَانِيَتَيْنِ! وهَذَا لا يَحْتَاجُ إلى دَلِيْلٍ، أو بُرْهَانٍ؛ لِذَا نَجِدُهُم في بِلادِهِم قَامُوا حَثِيْثًا يَصْرِفُوْنَ، ويَبُثُّوْنَ، ويُنْفِقُوْنَ بَيْنَ شُعُوْبِهِم : «النَّظَّارَاتِ الطِّبِّيَّةَ»، وكذا «الشَّرَائِطَ العَازِلَةَ»، وغَيْرَهَا وِقَايَةً للعَيْنِ مِنَ الأضْرَارِ الخَطِيْرَةِ المُتَوَقَّعَةِ لدَيْهِم (زَعَمُوا)؛ حَتَّى حَذَّرُوا مِنَ الخُرُوْجِ إلى الشَّوَارِعِ حَذَرًا مِنْ أشِعَّةِ الشَّمْسِ؛ فَضْلًا عَنْ رُؤيَتِهَا لمَنْ لا يَمْلِكُ سُبُلَ الوِقَايَةِ ... إلى غَيْرِ ذَلِكَ ممَّا يُعْلَمُ قَطْعًا أنَّ القَوْمَ يُحَذِّرُوْنَ مِنَ مُطْلَقِ النَّظَرِ! أمَّا
التَّرْكِيْزُ والتَّحْدِيْقُ إلى الشَّمْسِ فَلَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ فَضْلًا أن يُحَذِّرَ مِنْهُ!
* * *(1/88)
وكَذَا لَوْ كَانَ الأمْرُ كَمَا قِيْلَ؛ فَأيْنَ هُمْ عَنْ هَذِهِ التَّحْذِيْرَاتِ، والإرْشَادَاتِ مِنْ قَبْلُ؟ أم إنَّها خَفِيَتْ عَلَيْهِم؟ كَلاَّ؛ بَلْ القَوْمُ يَعْلَمُوْنَ مَا يَقُوْلُوْنَ، ويَفْهَمُوْنَ عَمَّا يُحَذِّرُوْنَ : وهُوَ أنَّ كُسُوْفَ هَذَا اليَوْمِ ـ الأرْبِعَاءِ ـ لَيْسَ كَغَيْرِهِ؛ لِذَا أكَّدُوا غَيْرَ مَرَّةٍ بَعَدَمِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ مُطْلَقًا .
الفَصْلُ الرَّابِعُ
المَحْظُوْرَاتُ السَّيِّئَةُ مِنْ تَحْذِيْرِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ
أمَّا المَحْظُوْرَاتُ والآثَارُ السَّيِّئَةُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ تَحْذِيْرِهِم : بَعَدَمِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا فَكَثِيْرَةٌ جِدًّا، أذْكُرُ مِنْهَا على سَبِيْلِ الإيْجَازِ مَا يَلي:
( المَحْظُوْرُ الأوَّلُ : بِما أنَّ صَلاةَ كُسُوْفِ يَوْمِ الأرْبِعَاءِ كَانَ تَقْرِيْبًا : عِنْدَ السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ والنِّصْفِ ظُهْرًا، فَقَدِ اعْتَزَلَ بَعْضُ المُسْلِمِيْنَ مَسَاجِدَ المُسْلِمِيْنَ، ولم يَشْهَدِ الصَّلاةَ مَعَهُم؛ خَوْفًا مِنْ أضْرَارِ أشِعَّةِ الشَّمْسِ، وقَدْ سَمِعْنَا هَذَا القَوْلَ، وشَاهَدْنَا مَنْ آمَنَ بِهِ وصَدَّقَهُ .
* * *
( المَحْظُوْرُ الثَّاني : انْشِغَالُ أكْثَرِ المُسْلِمِيْنَ بالأخْبَارِ، ومَا تَبُثُّهُ مِنْ تَحْذِيْرَاتٍ، وإرْشَادَاتٍ، وأخْذِ سُبُلِ الوِقَايَةِ؛ في حِيْنِ غَفْلَتِهِم عَنِ الحِكْمَةِ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ! وذَلِكَ بالتَّوْبَةِ إلى الله تَعَالى، وكَثْرَةِ الطَّاعَةِ، والبُعْدِ عَنِ الذُّنُوْبِ، والإقْلاعِ عَنِ المَعَاصِي، والتَّخْوِيْفِ والحَذَرِ مِنْ عِقَابِ الله ... إلَخْ .
* * *(1/89)
وهَذَا لَيْسَ بالغَرِيْبِ إذَا مَا عَلِمْنَا أنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ هَذِهِ الإشَاعَاتِ والتَّمْتَماتِ : هِيَ الصُّحُفُ والإذَاعَاتُ، حَيْثُ نَرَاهَا تَقْذِفُ بأخْبَارِهَا صَبَاحًا ومَسَاءً؛ مُرْجِفَةً في قُلُوْبِ المُؤمِنِيْنَ أخْبَارَ الخَوْفِ والتَّحْذِيْرِ مِنْ أضْرَارِ الكُسُوْفِ آنَذَاكَ!
( المَحْظُوْرُ الثَّالِثُ : أنَّ بَعْضَ مَسَاجِدِ المُسْلِمِيْنَ (للأسَفِ) أقِيْمَتْ فِيْهَا صَلاةُ كُسُوْفِ يَوْمِ الأرْبِعَاءِ عِنْدَ السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ والنِّصْفِ ظُهْرًا تَقْرِيْبًا؛ دُوْنَ النَّظَرِ إلى كُسُوْفِ الشَّمْسِ؛ اعْتِمَادًا مِنْهُم على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ!
حَتَّى إنَّكَ لتَجِدُ بَعْضَ المُصَلِّيْنَ لم يَخْرُجُوا مِنَ المَسَاجِدِ بَعْدَ صَلاةِ الظُّهْرِ انْتِظَارًا مِنْهُم لصَلاةِ الكُسُوْفِ، وهَذَا العَمَلُ مِنْهُم لا يَجُوْزُ شَرْعًا؛ بَلِ انْتِظَامُهُ بعِقْدِ البِدَعِ لَيْسِ ببَعِيْدٍ؛ لأنَّ النَّبِيَّ ? وَقَّتَ لَنَا زَمَنَ الدُّخُوْلِ إلى المَسَاجِدِ لصَلاةِ الكُسُوْفِ، وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ : «فَإذَا رَأيْتُمُوْهُمَا فَافْزَعُوا إلى الصَّلاةِ»، وفي رِوَايَةٍ : «فَافْزَعُوا إلى المَسَاجِدِ»(1) أحمَدُ، وغَيْرُهُ .
وهَذَا بالنِّسْبَة لمَنْ رَآهَا، أمَّا مَنْ لم يَرَهَا فَهُوَ مَعْذُوْرٌ شَرْعًا حَتَّى يَسْمَعَ النِّدَاءَ للصَّلاةِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ ? أنَّهُ أمَرَ بالنِّدَاءِ لهَا : «الصَّلاةَ جَامِعَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
أمَّا دُخُوْلُ المَسَاجِدِ انْتِظَارًا للصَّلاةِ اعْتِمادًا على الرُّؤيَةِ مَعَ الاسْتِئْنَاسِ بالحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ فَهَذَا أمْرُهُ وَاسِعٌ، أمَّا الاعْتِمادُ على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ قَطُّ، فَهَذَا لا يَجُوْزُ شَرْعًا، والله أعْلَمُ .
* * *
(
__________
(1) أخْرَجَهُ أحمَدُ (4/122)، و(6/87)، وهُوَ صَحِيْحٌ .(1/90)
المَحْظُوْرُ الرَّابِعُ : أنَّ الصُّحُفَ والإذَاعَاتِ لم تَفْتَأ (للأسَفِ) تُحَذِّرُ النَّاسَ بعَامَّةٍ، والرِّجَالَ بخَاصَّةٍ مِنَ الخُرُوْجِ مِنَ البُيُوْتِ حِفَاظًا على أطْفَالِهم! وأنْ يَتَحَصَّنُوا جَمِيْعًا في بُيُوتِهِم خَشْيَةَ الإصَابَةِ بشَيءٍ مِنْ أشِعَّةِ الشَّمْسِ سَوَاءٌ فَوْقَ البَنَفْسَجِيَّةِ أو تَحْتَ الحَمْرَاءِ ... وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الإرْجَافَاتِ!
والدَّلِيْلُ على ذَلِكَ مَا شَاهَدْهُ الجَمِيْعُ مِنِ اخْتِلاءِ أكْثَرِ شَوَارِعِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ مِنَ المَارِّيْنِ والسَّائِقِيْنَ أثْنَاءَ لحَظَاتِ الكُسُوْفِ، فَإلى الله المُشْتَكَى، وعَلَيْهِ التُّكْلانُ!
* * *
( المَحْظُوْرُ الخَامِسُ : أنَّنَا إذَا سَلَّمْنَا لهُم بِهَذِهِ السَّفْسَطَةِ : وهِيَ عَدَمُ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ كُسُوْفِهَا؛ فَلَيْسَ مِنَ المُمْتَنِعِ أنْ يَتَجَرَّءوا على بَعْضِ عِبَادَاتِنَا الأخْرَى الَّتِي مِنْ شَرْطِهَا النَّظَرُ إلى الشَّمْسِ أو القَمَرِ!
وذَلِكَ بقَوْلهِم : لا يَجُوْزُ النَّظَرُ إلى هِلالِ شَعْبَانَ، أو رَمَضَانَ، أو ذِي الحِجَّةِ، أو مُحَرَّمٍ أو غَيْرِهِ لوُجُوْدِ أشِعَّةٍ فَوْقَ البَنَفْسَجِيَّةِ، أو تَحْتَ الحَمْرَاءِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ ممَّا سَيَكُوْنُ لَهُ إصَابَاتٌ مُزْمِنَةٌ تُصِيْبُ العَيْنَ بالضَّرَرِ أو الإتْلافِ أو العَمَى!
فَإذَا سَلَّمْنَا لهُم في الأوْلى وَجَبَ والحَالَةُ هَذِهِ التَّسْلِيْمُ لهُم في الثَّانِيَةِ؛ وإلَّا ظَهَرَ مِنَّا التَّنَاقُضُ والاضْطِرَابُ، والعَكْسُ بالعَكْسِ!
* * *(1/91)
وهُنَاكَ بَعْضُ الآثَارِ السَّيِّئَةِ تَجَاوَزْنَا ذِكْرَهَا خَشْيَةَ الإطَالَةِ إلَّا أنَّ فِيْما ذَكَرْنَاهُ هُنَا قَاطِعٌ بأنَّ قَوْلهُم : عَدَمُ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ الكُسُوْفِ؛ جِنَايَةٌ في حَقِّ الشَّرِيْعَةِ، وجَرِيْمَةٌ في حَقِّ البَشَرِيَّةِ، والله أعْلَمُ!
البَابُ الرَّابِعُ
( الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ الأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ .
البَابُ الرَّابِعُ
الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ الأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ
إنَّ التَّحْذِيْرَ مِنْ عَوَاقِبِ الأمْرَاضِ الَّتِي لَيْسَ لها عِلاجٌ لمَنْ يَنْظُرُ إلى كُسُوْفِ الشَّمْسِ مُسْتَدْرَكٌ، ومُنْتَقِضٌ شَرْعًا وطَبْعًا .
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ الجَهْلَ جَهْلانِ : جَهْلٌ بَسِيْطٌ، وجَهْلٌ مُرَكَّبٌ .
( فَأمَّا الجَهْلُ البَسِيْطُ مِنْهُما : فَهُوَ عَدَمُ إدْرَاكِ الشَّيءِ بالكُلِّيَّةِ، كَأنْ يَقُوْلَ الرَّجُلِ عَنْ شَيءٍ لا يَعْلَمُهُ : لا أعْلَمُ، وهَذَا في الحَقِيْقَةِ عِلْمٌ؛ لأنَّ مَنِ العِلْمِ فِيْما لا تَعْلَمُهُ أنْ تَقُوْلَ : لا أدْرِي، وقَدْ قِيْلَ : لا أدْرِي نِصْفُ العِلْمِ، وهَذَا الجَهْلُ لا يَسْلَمُ مِنْهُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ كَائِنًا مَنْ كَانَ .
( وأمَّا الجَهْلُ المُرَكَّبُ : فَهُوَ إدْرَاكُ الشَّيءِ على خِلافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَأنْ يُسْألَ الرَّجُلُ عَنْ وَقْتِ غَزْوَةِ بَدْرِ، فَيَقُوْلُ : هِيَ في السَّنَةِ العَاشِرَةِ، وهَذَا شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لأنَّ فِيْهِ جُرْأةً على الكَذِبِ، وحَمَاقَةً في العِلْمِ .
قَالَ الله تَعَالى : { ??? ? ? ??? ? ? ? ? ? أولئك كان ? ? } (الإسراء36) .
* * *(1/92)
فأمَّا قَوْلُ رِجَالِ الغَرْبِ الكَافِرِ : إنَّ النَّظَرَ إلى الشَّمْسِ حَالَ الكُسُوْفِ قَدْ يُسَبِّبُ مَرَضًا مُزْمِنًا للعَيْنِ لَيْسَ لَهُ عِلاجٌ؛ فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُم بجَهْلِهِم لَيْسَ إلَّا، لا بَيَانًا لحَقِيْقَةِ الأمْرِ، وهَذَا مِنْهُم أيْضًا جَهْلٌ مُرَكَّبٌ؛ لأنَّ عَدَمَ العِلْمِ بالشَّيءِ لَيْسَ عِلْمٌ بالعَدَمِ!
فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ? أنَّهُ قَالَ : «إنَّ الله لم يُنْزِلْ دَاءً إلاَّ أنْزَلَ مَعَهُ دَوَاءً؛ جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، وعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَه»(1) أحمَدُ، وابنُ حِبَّانَ وغَيرُهُما .
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ الله ? أَنَّهُ قَالَ : «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ الله عَزَّ وَجَلَّ» مُسْلِمٌ .
فالَّذِي نَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّنَا ? : أنَّ كُلَّ مَرَضٍ مَهْما عَظُمَ شَرُّهُ، وكَبُرَ خَطَرُهُ فَلَهُ دَوَاءٌ قَدْ أنْزَلَهُ الله تَعَالى للبَشَرِ ... لكِنَّ العِلْمَ بِهِ شَيءٌ، وإنْكَارُهُ شَيءٌ آخَرُ، فَلا يَلْزَمُ مِنْ نُزُوْلِهِ العِلْمُ بِهِ، ولا يَلْزَمُ مِنْ جَهْلِهِ عَدَمُ وُجُوْدِهِ، والله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ!
* * *
فغَايَةُ مَا عِنْدَهُم : هُوَ الجَهْلُ بحَقِيْقَةِ الدَّوَاءِ لا نَفْيِهِ مُطْلَقًا؛ وهَذَا كُلُّهُ إذَا سَلَّمْنَا أنَّ النَّظَرَ إلى الكُسُوْفِ مَحْذُوْرٌ طِبِّيًّا لوُجُوْدِ الأمْرَاضِ المُتَوَقَّعَةِ (زَعَمُوا)!
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ
الفَهَارِسُ العَامَّةُ
(ثَبَتُ المَرَاجِعِ .
( الفَهَارِسُ المَوْضُوْعِيَّةُ .
ثَبَتُ المَرَاجِعِ
«القُرْآنُ الكَرِيْمِ« .
__________
(1) أحمَدُ (4/278 )، وابنُ حِبَّانَ (13/427)، وهُوَ صَحِيْحٌ .(1/93)
1. «السِّلْسِلَةُ الصَّحِيْحَةُ« للألْبَانِيِّ .
2. «السِّلْسِلَةُ الضَّعِيفَةُ« للألْبَانِيِّ .
3. «الفَتَاوَى الكُبْرَى» لابنِ تَيْمِيَّةَ .
4. «القَامُوْسُ المُحِيْطُ» للفَيرُوْزِ آبَادِي .
5. «القَوْلُ المُفِيْدُ على كِتَابِ التَّوْحِيْدِ» للعُثَيْمِيْنِ .
6. «تَفْسِيْرُ القُرْآنِ العَظِيْمِ» لابنِ كَثِيْرٍ .
7. «زَادُ المَعَادِ« لابنِ القَيِّمِ .
8. «سُنَنُ ابنِ ماجَه« .
9. «سُنَنُ أبي دَاوُدَ« .
10. «سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ« .
11. «سُنَنُ النَّسائيِّ« .
12. «سِيَرُ أعْلامِ النُّبَلاءِ« للذَّهَبِيِّ .
13. «صَحِيْحُ البُخَارِيِّ« .
14. «صَحِيْحُ مُسْلِمٍ« .
15. «صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ والتَّرْهِيْبِ» للألْبَانيِّ .
16. «عِلْمُ الفَلَكِ» لمُحَمَّدٍ الطَّائيِّ .
17. «فَتْحُ البَارِي» لابنِ حَجَرٍ .
18. «فَتْحُ المَجِيْدِ» لعَبْدِ الرَّحمَنِ آلِ الشَّيْخِ .
19. «لِسَانُ العَرَبِ» لابنِ مَنْظُوْرٍ .
20. «مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى« لابنِ تَيْمِيَّةَ .
21. «مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ« لابنِ القَيِّمِ .
22. «مِرْقَاةُ المَفَاتِيْحِ» للمُنَاوِي .
23. «مُسْتَدْرَكُ الحَاكِمِ« .
24. «مُسْنَدُ أحْمَدُ« .
25. «مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ« لابْنِ القَيِّمِ .
الفَهَارِسُ المَوْضُوعِيَّةُ
( المُقَدِّمَةُ . ................................................................ ( )
( البَابُ الأوَّلُ : وفِيْهِ فَصْلانِ . .......................................... ( )
الفَصْلُ الأوَّلُ : وفِيْهِ قَاعِدَتَانِ مُهِمَّتَانِ . ................................... ( )
- القَاعِدَةُ الأوْلى : أنَّ الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ لا تَأمُرُ إلَّا بِما فِيْهِ خَيْرٌ ......... ( )
- القَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : أنَّ الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ حَنِيْفِيَّةٌ سَمْحَةٌ . .............. ( )(1/94)
الفَصْلُ الثَّاني : تَحْقِيْقُ مَعْرِفَةِ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ . ....................... ( )
( البَابُ الثَّاني : وفِيْهِ سِتَّةُ فُصُولٍ . ...................................... ( )
الفَصْلُ الأوَّلُ : حَقِيْقَةُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ . .......................... ( )
- خُسُوْفُ القَمَرِ : ....................................................... ( )
الخُسُوْفُ الكُلِّيُّ : ........................................................... ( )
الخُسُوْفُ الجُزْئيُّ : ....................................................... ( )
- كُسُوْفُ الشَّمْسِ : ..................................................... ( )
الكُسُوْفُ الكُلِّيُّ : ........................................................ ( )
الكُسُوْفُ الجُزْئيُّ : ...................................................... ( )
- أنْوَاعُ الكُسُوْفِ الجُزْئيِّ : .............................................. ( )
الكُسُوْفُ الحَلْقِيُّ : .................................................... ( )
الكُسُوْفُ الجُزْئيُّ : ..................................................... ( )
- أسْبَابُ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ : .................................... ( )
الفَصْلُ الثَّاني : الحِكْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ . ........................ ( )
الحِكْمَةُ المَعْلُوْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ . ............................ ( )
الحِكْمَةُ المَجْهُوْلَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ . ............................ ( )
الفَصْلُ الثَّالِثُ : أقْسَامُ النَّاسِ في الظَّوَاهِرِ الفَلَكِيَّةِ . ........................ ( )
الطَّائِفَةُ الأوْلى : أهْلُ الفَلَكِ والهَيْئَةِ الَّذِيْنَ اعْتَقَدُوا فِيْهَا . .................. ( )(1/95)
بَعْضُ أخْطَاءِ أهْلِ الفَلَكِ والهَيْئَةِ : ....................................... ( )
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ : المُقَلِّدُوْنَ لأهْلِ الفَلَكِ والهَيْئَةِ ............................ ( )
الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ : الجُهَّالُ الَّذِيْنَ رَدُّوا الحَقِّ بالبَاطِلِ ......................... ( )
ظُهُوْرُ العَلْمانِيَّةِ : ........................................................ ( )
مَظَاهِرُ طَعْنِ العَلْمانِيِّيْنَ في الدِّيْنِ الإسْلامِيِّ : .............................. ( )
الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ : أهْلُ الإعْجَازِ العِلْمِيِّ : .................................. ( )
أخْطَاءُ أهْلِ (الإعْجَازِ العِلْمِيِّ) : ......................................... ( )
الطَّائِفَةُ الخَامِسَةُ : أهْلُ الحَقِّ الَّذِيْنَ جَمَعُوا بَيْنَ العِلْمِ الشَّرْعِي والعِلْمِ المَادِي .. ( )
- الحَالاتُ الثَّلاثُ في مَنْهَجِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ العُلُوْمِ الطَّبِيْعِيَّةِ ................. ( )
الحَالَةُ الأوْلى : مَا عَارَضَ مِنْهَا الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ، ولَهُ أمُوْرٌ ثَلاثَةٌ ........... ( )
الأمْرُ الأوَّلِ : أنْ تَكُوْنَ التَّجْرُبَةُ ظَنيَّةً . ..................................... ( )
الأمْرُ الثَّاني : أنْ تَكُوْنَ دِلالَةُ النَّصِّ ظَنيَّةً . .................................. ( )
الأمْرُ الثَّالِثُ : أنْ يُحَمَّلَ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ ما لا يَحْتَمِلُ . ........................ ( )
الحَالَةُ الثَّانِيَةُ : مَا وَافَقَ مِنْهَا الشَّرِيْعَةَ الإسْلامِيَّةَ . .............................. ( )
الحَالَةُ الثَّالِثَةُ : ما سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ . ............................ ( )(1/96)
الفَصْلُ الرَّابِعُ : أثَرُ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ . .................... ( )
- أقْسَامُ النَّاسِ الثَّلاثَةِ في تَجْرِيْدِ التَّوْحِيْدِ والأخْذِ بالأسْبَابِ . ................ ( )
القِسْمُ الأوَّلِ : مَنْ جَرَّدَ التَّوْحِيْدَ وأخَذَ بالأسْبَابِ . ........................... ( )
القِسْمُ الثَّاني : مَنْ جَرَّدَ التَّوْحِيْدَ وأنْكَرَ الأسْبَابَ . ............................ ( )
القِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ جَرَّدَ الأسْبَابَ وأنْكَرَ التَّوْحِيْدَ . ........................... ( )
- الطَّوَائِفُ الثَّلاثَةُ في تَجْرِيْدِ التَّوْحِيْدِ وإثْبَاتِ الأسْبَابِ . ..................... ( )
الطَّائِفَةُ الأوْلى : مَنْ غَلَتْ في الاعْتِمادِ على الأسْبَابِ بالكُلِّيَّةِ . .................. ( )الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ : مَنْ فَرَّطَتْ في الأسْبَابِ فأنْكَرَتْهَا بالكُلِّيَّةِ . ..................... ( )الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ جَمَعَتْ بَيْنَ تَجْرِيْدِ التَّوْحِيْدِ وإثْبَاتِ الأسْبَابِ . .............. ( ) - أقْسَامُ أثَرِ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ . ........................ ( )
القِسْمُ الأوَّلِ : مَا كَانَ مِنْهَا مَعْلُوْمًا بالِحسِّ والتَّجْرُبَةِ . .................... ( )
القِسْمُ الثَّاني : مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ الَّذِي اسْتَأثَرَ الله بِهِ . ................ ( )
- أقْسَامُ المُسْلِمِيْنَ نَحْوِ مَا كَانَ مِنْهَا مَعْلُوْمًا بالِحسِّ والتَّجْرُبَةِ . ................ ( )
القِسْمُ الأوَّلِ : مَنْ أنْكَرَهَا . ............................................. ( )
القِسْمُ الثَّاني : مَنْ أثْبَتَهَا في الجُمْلَةِ . ..................................... ( )(1/97)
- مَعْنَى حَدِيْثِ النَّبِيِّ ? : «لا يَنْكَسِفَانِ لمَوْتِ أحَدٍ ولا لحَيَاتِهِ» . .............. ( )
المَعْنَى الأوَّلِ : ........................................................... ( )
المَعْنَى الثَّاني : ................................................................ ( )
إنْكَارُ ابنِ تَيْمِيَّة رَحِمَه الله على مَنْ أنَكْرَ تَأثِيْرَ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةَ . ................ ( )
إنْكَارُ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَه الله على مَنْ ادَّعَى مَعْرِفَةَ جَمِيْعِ الأسْبَابِ الفَلَكِيَّةِ .......... ( )
الشُّرُوْطُ الأرْبَعَةُ في تَأثِيْرِ الحَرَكَاتِ الفَلَكِيَّةِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ ............... ( )
الفَصْلُ الخَامِسُ : آثَارُ الشَّمْسِ والقَمَرِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ .................... ( )
آثَارُ الشَّمْسِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ ............................................ ( )
آثَارُ القَمَرِ في الحَوَادِثِ الأرْضِيَّةِ .............................................. ( )
الفَصْلُ السَّادِسُ : حُكْمُ عِلْمِ النُّجُوْمِ . ......................................... ( )
عِلْمُ النُّجُوْمِ، عِلْمانِ : عِلْمُ تَأثْيرٍ، وعِلْمُ تَسْيِيْرٍ ................................. ( )
- الأوَّلَ : عِلْمُ التَأثْيرِ، ولَهُ ثَلاثُ حَالاتٍ ................................... ( )
الحَالَةُ الأوْلى : مَنْ يَعْتَقِدُ في النُّجُوْمِ بأنَّها مُدَبِّرَةٌ قَادِرَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ .................. ( )
الحَالَةُ الثَّانِيَةُ : مَنْ يَعْتَقِدُ في النُّجُوْمِ بأنَّها سَبَبٌ قَدَّرَهُ الله لمَعْرِفَةِ الغَيْبِ ........... ( )
الحَالَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ يَعْتَقِدُ في النُّجُوْمِ بأنَّها سَبَبٌ قَدَّرَهُ الله لمَعْرِفَةِ الحَوادِثِ ........ ( )(1/98)
- الثَّاني : عِلْمُ التَسْيِيْرِ، نَوْعَانِ : دِيْنِي، ودِنْيَوِي .............................. ( )
النَّوْعُ الأوَّلِ : الاسْتِدْلالُ بالنُّجُوْمِ في الأمُوْرِ الدِّيْنِيَّةِ . ......................... ( )
النَّوْعُ الثَّاني : الاسْتِدْلالُ بالنُّجُوْمِ في الأمُوْرِ الدِّنْيَوِيَّةِ . ......................... ( )
خِلافُ أهْلِ العِلْمِ في الاسْتِدْلالُ بالنُّجُوْمِ في الأمُوْرِ الدِّنْيَوِيَّةِ . ................. ( )
- خُلاصَةُ أنْوَاعِ عِلْمِ النُّجُوْمِ : حِسَابٌ، وأحْكَامٌ ............................ ( )
عِلْمُ حِسَابٍ : ............................................................... ( )
عِلْمُ أحْكَامٍ : .............................................................. ( )
( البَابُ الثَّالِثُ : وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُوْلٍ . .................................. ( )
الفَصْلُ الأوَّلُ : حُكْمُ رُؤيَةِ الهِلالِ ............................................. ( )
- الأقْوَالُ الثَّلاثَةُ في حُكْمِ رُؤيَةِ الهِلالِ ...................................... ( )
القَوْلُ الأوَّلِ : مَنِ اقْتَصَرَ على العَيْنِ المُجَرَّدَةِ . ................................. ( )
القَوْلُ الثَّاني : مَنِ اقْتَصَرَ الرُّؤْيَةَ سَوَاءٌ بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ أو الحِسَابِ ............... ( )
القَوْلُ الثَّالِثُ : مَنِ اقْتَصَرَ على الحِسَابِ . ..................................... ( )
الرَّدُّ على المُرْجِفِيْنَ في ضَبْطِ حِسَابِ هِلالِ رَمَضَانَ والحَجِّ . .................... ( )
الفَصْلُ الثَّاني : الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ، وفِيْهِ عَشَرَةُ وُجُوْهٍ ..... ( )
الوَجْهُ الأوَّلُ : أنَّ أرْكَانَ الإسْلامِ مُتَوَقِّفَةٌ على الرُّؤيَةِ . ......................... ( )(1/99)
الوَجْهُ الثَّاني : أنَّ أمَّةَ مُحَمَّدٍ ? أمَّةٌ أمَّيَّةٌ . ..................................... ( )
الوَجْهُ الثَّالِثُ : النَّظَرُ إلى كُسُوْفِ الشَّمْسِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، بطُرُقٍ ثَلاثٍ .......... ( )
أوَّلًا : في قَوْلِهِ ? : «فَإذَا رَأيتْمُوُهُما» ......................................... ( )
ثَانِيًا : في قَوْلِهِ ? : «فَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ» وقَوْلِهِ :«حَتَّى تَنْجَلي» ............... ( )
ثَالِثًا : في قَوْلِهِ ? : «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله» .................... ( )
الوَجْهُ الرَّابِعُ : عَدَمُ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ الكُسُوْفِ مُصَادَمَةٌ للفِطْرَةِ ......... ( )
الوَجْهُ الخَامِسُ : عَدَمُ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ حَالَ الكُسُوْفِ فِيْهِ إسَاءَةٌ بالشَّرِيْعَةِ .... ( )
الوَجْهُ السَّادِسُ : الوَاقِعُ والشَّاهِدُ يُخَالِفُ النَّظَرِيَّاتِ الخَاطِئَةَ . ................. ( )
- الرَّدُّ على أخْبَارِ الصُّحُفِ بوُجُوْدِ إصَابَةٍ في العُيُوْنِ، مِنِ اعْتِبَارَاتٍ ثَلاثَةٍ ...... ( )
الاعْتِبَارُ الأوَّلُ : أنَّ هَذَا الخبَرَ يَحْتَاجُ إلى دَلِيْلٍ قَطْعِيٍّ . ......................( )
الاعْتِبَارُ الثَّاني : أنَّها حَالاتٌ نَادِرَةٌ . .........................................( )
الاعْتِبَارُ الثَّالِثُ : أنَّ وُجُوْدَهَا كَانَ قَدَرًا مِنَ الله تَعَالى . .......................( )
- الرَّدُّ على مَنِ اعْتَمَدَ على خَبَرِ عَمَايَةِ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ عِنْدَ نَظَرِهِ للكُسُوْفِ .....( )
تَضْعِيْفُ خَبَرِ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ عِنْدَ نَظَرِهِ إلى الكُسُوْفِ، سَنَدًا، ومَتْنًّا .......( )
تَضْعِيْفُ سَنَدِهِ مِنْ خَمْسَةِ أوْجُهٍ . .............................................( )(1/100)
تَضْعِيْفُ مَتْنِهِ مِنْ ثَلاثَةِ أوْجُهٍ . ..............................................( )
الوَجْهُ السَّابِعُ : لا يَجُوْزُ في حَقِّهِ ? تَأخِيْرُ البَيَانِ وَقْتَ الحَاجَةِ . ...............( )
الوَجْهُ الثَّامِنُ : لم يُسْمَعِ النَّاسُ أنَّ النَّظَرَ إلى الكُسُوْفِ فِيْهِ أمْرَاضٌ .............( )
الوَجْهُ التَّاسِعُ : الحِكْمَةُ مِنَ الكُسُوْفِ والخُسُوْفِ قَدْ أفْصَحَ عَنْهَا ? ..........( )
الوَجْهُ العَاشِرُ : اللَّوَازِمُ الثَّلاثَةُ البَاطِلَةُ في التَّحْذِيْرِ مِنَ النَّظَرِ إلى الكُسُوْفِ ......( )
الفَصْلُ الثَّالِثُ : الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ التَّحْدِيْقِ في الشَّمْسِ . ................( )
الفَصْلُ الرَّابِعُ : المَحْظُوْرَاتُ السَّيِّئَةُ مِنَ تَحْذِيْرِ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ . ............( )
المَحْظُوْرُ الأوَّلُ : اعْتِزَالُ أكْثَرِ المُسْلِمِيْنَ المَسَاجِدَ . ..........................( )
المَحْظُوْرُ الثَّاني : الاشْتِغَالُ بالأخْبَارِ، والغَفْلَةِ عَنِ الحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ .........( )
المَحْظُوْرُ الثَّالِثُ : الاعْتِمادُ في صَلاةِ الكُسُوْفِ على الحِسَابَاتِ الفَلَكِيَّةِ ........( )
المَحْظُوْرُ الرَّابعُ : إرْجَافُ الإذَاعَاتِ والصَّحَافَةِ في قُلُوْبِ المُسْلِمِيْنَ ..........( )
المَحْظُوْرُ الخَامِسُ : اجْتِرَاءُ الكُفَّارِ على عِبَادَاتِ المُسْلِمِيْنَ . .................( )
( البَابُ الرَّابِعُ : الرَّدُّ على مَنْ حَذَّرَ مِنَ الأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ . ..........( )
الجَهْلُ البَسِيْطُ . ........................................................( )
الجَهْلُ المُرَكَّبِ . ........................................................( )
- بَيَانُ أنَّ جَهْلَ الغَرْبِ بأمْرَاضِ العَيْنِ هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ . ................( )
((1/101)
الفَهَارِسُ العَامَّةُ : ................................................( )
( ثَبَتُ المَرَاجِعِ : ........................................................( )
( الفَهَارِسُ المَوْضُوْعِيَّةُ . ..........................................( )(1/102)