قلت : أما تسميته ملك الموت بعزرائيل فهو من جهله ، لأنه لم تصح هذه التسمية في أي من الأحاديث الصحيحة (1) ، و الله ـ عز وجل ـ سماه في القرآن ملك الموت ولم يذكر له اسماً غيره .
... قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (2) .
... وأما قوله : ( ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يؤتى بالموت على شكل خروف ... الخ ) فهو من سخريته بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإلا فإنه يعلم أنهم لا يقولون ، وإنما القائل هو محمد - صلى الله عليه وسلم - (3) ، الذي قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة! هلى تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت . ثم يقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت . قال : فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت " ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) (4) .
__________
(1) قال الشيخ الألباني في ( أحكام الجنائز ـ ص156) : [ أما تسميته ـ أي ملك الموت ـ بعزرائيل فمما لا أصل له ، خلافاً لما هو المشهور عند الناس ، ولعله من الإسرائيليات !] وقال الشيخ بكر أبو زيد في ( معجم المناهي اللفظية ـ ص238) : [ لا يصح في تسمية ملك الموت بعزرائيل حديث ].
(2) سورة السجدة ، الآية : 11 .
(3) ومن جهله بحديث النبي ? أنه يعزو إليه حديثاً لا أصل له وهو قوله : " السلام سنة ورده واجب " !!! وهذا من أقوال ( بعض ) الفقهاء ، وليس هو من حديث النبي ? كما يتوهم الحمد !
(4) سورة مريم ، الآية : 39 .(59/170)
... أما تحيره : كيف يموت الموت ؟ فقد أجاب عنه العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله تعليقاً على الحديث السابق : ( وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح .
... وهذا لا يصح ، فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله ينشئ من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين ولا شيئاً من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال : إن الذبح لملك الموت! فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كلامه ، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح ، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - " تجي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان " الحديث ، فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه غمامتين ) (1) .
بغض الحمد لعباد الله الصالحين :
... كما أن الحمد ابغض ريه ـ عز وجل ـ وملائكته ، وأنبياءه وكتبه ، وشرائعه ، فإنه حتماً سيبغض عباده الصلحين ، وسيبغض ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات .
... وإليك ما يشهد لهذا :
... يقول الحمد متحدثاً عن هشام :
... ( أخذ يقلب الكتاب الذي أعطاه إياه عدنان ، " المنقذ من الضلال " للغزالي كان لا يحب هذا النوع من الكتب ) (2) .
__________
(1) حادي الأرواح ( ص344ـ 345) .
(2) الشميسي ( ص66 ) .
... وليعلم أن كتب الغزالي عليها مؤخذات كثيرة من إسراف في علم الكلام ، وترغيب في التصوف ، واستشهاد بالضعيف . وقد بين هذا العلماء المحققون ، ( انظر : أبو حامد الغزالي لعبد الرحمن دمشقية ، والعقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية للشيخ محمد المغراوي ) ،والحمد لا يفرق في بغضه للكتب الإسلامية بين الغث والسمين ، فهو يعمم حكمه ذلك دون أي تفريق كما قد يفهم ( البعض ) .(59/171)
... وهذا النوع من الكتب يعني به الكتب الإسلامية التي تقربه من الخير ، وتباعده من الشر فهو لا يطيقها ، ولا يحبها ، بل يهرع إلى كتب أحبابه من الفلاسفة والماركسيين الذين يجد عندهم ما يروي ظمأه ، ويوافق طبعه فالطيور على أشكالها تقع.
... ويقول الحمد على لسان مهنا :
... ( أرجو أن لا تتحدث عن البعثيين أو القوميين العرب أو حتى الدراويش من الاخوان المسلمين ... كل هؤلاء سذج ومزيفون ) (1) .
... ويقول على لسان والد هشام متحدثاً مع ابنه :
... ( ولكن ما لقيت إلا البعثيين كي تصبح منهم ... أطقع ناس ... ولا أخرط منهم إلا الشيوعيين والإخوان ) (2) !!
... ويقول عن ( الاخواني ) لقمان :
... ( يا لك من منافق يالقمان ... تخدم ألف إله وإله ، ثم تقول لا إله إلا الله ... قاتل الله الحياة ، فهي النفاق بعينه قاتل الله الحياة فهي التي تجعلنا عبيداً دون أن نريد ، وأسياداً ونحن نريد ولا نريد . قاتل الله حياة تذلنا فيها لقمة ، وتأسرنا كلمة ، وتستعبدنا شهوة ، ويموت فيها الطيبون .. ثم نقول لا إله إلا الله ) (3) .
... قلت : جماعة الإخوان إحدى الجماعات الإسلامية الشهيرة التي يعرفها معظم الناس ، وهي قد نشأت في مصر ثم امتدت إلى معظم بلاد العالم . وهي جماعة عليها مؤاخذات كثيرة من عدم اهتمام بنشر العقيدة السلفية ، أو تعليم للعلم الشرعي النافع ، وإنما همها ( التجميع ) والوصول إلى الحكم بأي طريقة (4) .
... ومع هذا فلا نؤيد ( الماركسي ) ( البعثي ) تركي الحمد في طعنه بها ، فشتان بين جماعة إسلامية ( مقصرة ) وبين جماعات ومذاهب ( كافرة ) عدوة للإسلام والمسلمين .
__________
(1) العدامة ( ص283 ) .
(2) الشميسي ( ص385ـ 386 ) .
(3) الكراديب ( ص184 ) .
(4) انظر للزيادة : ( دعوة الإخوان المسلمين في ميزان الإسلام ) لفريد الثبيت ، و وقفات مع كتاب للدعاة فقط ) لمحمد العجمي و ( حوار هادئ مع إخواني ) لأحمد الشحي .(59/172)
... هذا عن نقده واستهزائه بجماعة الإخوان المسلمين، أما غيرهم من عباد الله ( الملتزمين ) فقد نالهم ما نال أولئك من سخرية لاذعة بأسلوب مبطن . يقول الحمد عن ( عدنان العلي ) صديق هشام : ( لم يكن عدنان يأتي إلى المقصف وحده ، فغالباً ما كان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة ، يشربون الشاي ويتحدثون بهمس لا يكاد يسمع ، وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لا يبتسمون أبداً ، وإذا حدث ذلك من أحدهم ، غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ) (1) .
... قلت : تأمل هذه السخرية المتكلفة التي أراد الحمد إيصالها إلى ذهن قارئه ، بأن كل من التزم بدين الله ، فهو لا شك سيكون متجهماً لا يبتسم ، وإذا ابتسم فإنه سيعتذر من ابتسامته !! ونسي أن هؤلاء الملتزمين هم أول من يعمل بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، " تبسمك في وجه أخيك لك صدقه " (2) ولا يجدون غضاضة في هذا التبسم لأنه سنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلماذا تعمد الحمد قلب الحقائق ، الأجل أنهم لم يبتسموا في وجه ( ماركسي ) ( بعثي ) !؟ أم أنه الحقد الذي يحمله في صدره على كل ( ملتزم ) فأراد تفريغ بعضه في روايته هذه عبر هذا الأسلوب المبطن ؟ ثم تأمل ـ أخي القارئ ـ سخريته بسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ( اللحية ) بهذا الأسلوب الحقير( اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ) !! وهو تهويل منه ومبالغة ، لأن الجميع لا يكاد يجد مثل هذا الصنف المتخيل ، فلماذا تقليل الكثير وتكثير القليل يا تركي !؟ ولم يكتف الحمد بهذه السخرية السابقة باللحية لأنها لم تشف غيظه من أهل الإسلام ، فرددها مرة أخرى عندما قال متحدثاً عن هشام :
__________
(1) الشميسي ( ص73) .
(2) أخرجه الترمذي ( 1/ 354) وصححه الألباني في الصحيحة ( 572) .(59/173)
... ( ثم فتح الباب عن وجه أحد زملاء عدنان بلحيته الكثه ، ورأسه الحليقة تماماً) (1) .
... فزاد على سخريته باللحية اتهام الصالحين بأنهم يرون السنة حلق الرأس ، ولهذا هم يحلقون رؤسهم اتباعاً لها ، وهذا كذب عليهم وهو اتهام قديم قال به أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عندما اتهموه وأتباع دعوته بأنهم يحلقون رؤسهم ، ويأمرون من اتبعهم بحلق رأسه ! ، ولهذا فهم من الخوارج الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سيماهم التحليق " (2) ! ثم جاء الحمد مردداً هذه التهمة الباطلة متابعة منه لأعداء الدعوة التي شرق بها العلمانيون والملحدون .
... وهذا الاتهام باطل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها يتبعون في هذه المسألة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تجعل أمر الشعر من أمور العادات التي يتبع فيها المرء عادة بلده في ابقاء الشعر أو حلقه . وإنما ينهى عن القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .
... قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ راداً على من ادعى بأن علماء الدعوة يكفرون من لم يحلق شعر رأسه !! : " إن هذا كذب وافتراء علينا ، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فإن والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم ، وليس عدم الحلق منها ، بل ولم نقل أن الحلق مسنون ، فضلاً عن أن يكون واجباً ، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام !
... والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع ، وهو : حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهذا الذي نهينا عنه ، ونؤدب فاعله " (3) .
مباحث أخرى
... ـ تنقص الحمد قبيلة النبي - صلى الله عليه وسلم -
... ـ حقده على حكومة المملكة العربية السعودية
__________
(1) الشميسي ( ص194 ) .
(2) أخرجه مسلم
(3) الدرر السنية ( 10/275ـ 276 ) ط 5.(59/174)
... ـ محبته للرافضة .
... ـ المواقف الجنسية في ثلاثيته .
... ـ العبارات الوقحة .
تنقص الحمد قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم :
لم تسلم قبيلة قريش ـ وهي أفضل القبائل ـ من لمز الحمد في روايته حيث قال على لسان عارف .
( طز في قريش يا صاحبي ... ولماذا يجعل نزار قريشاً مثلاً أعلى ؟.. ألأنها قبيلة النبي ؟ ... والنعم بأبي القاسم ولكن قريشاً لا .. لقد جعلوا كل تاريخنا تاريخاً لقريش . ألم يكن هناك غير قريش في الساحة ؟ ) (1) .
قلت : قبحك الله وأخزاك ! فقبيلة قريش التي تطعن فيها هي قبيلة محمد - صلى الله عليه وسلم - (الذي تدعي الفخربه !!) (2) هي القبيلة التي كان منها أفضل الخلق بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد الرحمن والزبير ... وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ وهي القبيلة التي قال فيها - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانه ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " (3) .
وأما ادعاؤك بأنهم جعلوا تاريخنا تاريخاً لقريش ، فكأنك تعرض بتوليهم أمر الأمة منذ الخلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية وانتهاء بالعباسيين ، وهذا ليس مغمزاً فيهم وإنما فخر لهم أن قادوا الأمة ، ونشروا الإسلام ـ على تفاوت بينهم في ذلك ـ متبعين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم إلا كبه الله على وجهه ، ما أقاموا الدين " (4) .
قال الامام أبو عمرو الداني حاكياً أقوال أهل السنة :
__________
(1) الكراديب ( ص125 ).
(2) ولولا الخوف لطعن فيه !!!
(3) أخرجه مسلم ( 2276 ) .
(4) أخرجه البخاري ( 3500) .(59/175)
( ومن قولهم أن الإمامة في قريش مقصورة عليهم دون غيرهم من سائر العرب والعجم ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الأئمة من قريش ، ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " ولاجماع المسلمين بعده - صلى الله عليه وسلم - على أن ولوا قريشاً ) (1) .
... أي ما أقاموا الدين كما في الحديث الذي قبله .
حقد الحمد على حكومة المملكة العربية السعودية :
... لم يعد خافياً على أحد أن التيارات الماركسية والشيوعية وما سار في ركبها هي جميعها حاقدة على الدولة السعودية المسلمة ، حيث كانوا يعدونها ـ في زمن الشعارات ـ أم الدول المتخلفة الرجعية !! لأنها لا زالت تحكم بالإسلام . فكانوا يُسَخرون كل طاقاتهم في سبيل محاربتها أو تغيير حكومتها إن استطاعوا . ولذا فقد سخروا إعلامهم للنيل منها ، والسخرية بها وبحكامها ، وسخروا كوادرهم لمحاولة تجنيد عملاء لهم فيها ( كهشام العابر !! ) لعلهم يقومون بانقلاب فيها ويسقطون حكومتها ، كما فعلوا في بعض الدول العربية .
... كل هذا فعلوه لكن الله ـ عز وجل ـ رد كيدهم في نحرهم ، وأرجعهم خائبين خاسرين بفضله تعالى ثم بفضل جهود الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وإخوانه الذين حاربوا ( شراذم ) الشيوعيين والبعثيين والقوميين ، وشردوهم ، ومزقوهم شرَّ ممزق ، واستماتوا في سبيل حماية دينهم وبلادهم من عبث العابثين وإن غلفوا ذلك بدعوى ( التقدم ) و ( والتحضر ) .
... ثم دار الزمان دورته ، فإذا هذه الدولة ( الرجعية ) ـ أعني السعودية ـ تصبح أعز دولة في عالمنا ديناً ودنيا ، حيث جمعت بين الدين الصحيح وهو ( الدعوة السلفية ) وبين التطور الدنيوي ( المتواصل ) (2) .
__________
(1) الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة .. ( ص 134 ) .
(2) ونسأل الله أن يستمر هذا الجمع بين ( الدين والدنيا ) وهو سهل على من اتقى الله . وأن نتخلص مما يخالف شرع الله ـ ولو كان قليلاً ـ ليستمر تألقنا.(59/176)
... أما تكلم الدول ( التقدمية ) ! فإنها حين أفاقت من سكرة الشعارات ، وجدت نفسها بلادين ( صحيح ) ولا دنيا ( متقدمة ) ، فدينها التقليد والخرافة (1) ، ودنياها البؤس ، والشقاء . كما هو مشاهد لكل أحد . فبدأ الذين اساؤا للسعودية يعيدون النظر في حساباتهم ويتراجعون عن مواقفهم الخاطئة معها بعد أن انقشعت غشاواة الغوغاء والشعارات عنهم .
... ولم يبق منهم على طريقته الأولى سوى ( حزب البعث ) الذي لا زال يعيش أسيراً لتلك الفترة السابقة ، ولا زال يحاول النيل بما استطاع من الدولة السعودية : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (2) .
... كل هذا أقوله مقدمة لما جاء في ثلاثية الحمد من نيل من الدولة السعودية وأمرائها ، حيث صاغ كيده بأسلوب غير مباشر لأنه يعلم أنه لا يستطيع ( المواجهة!).
... يقول الحمد متحدثاً عن أحد اجتماعات ( حزب البعث ) في السعودية !
... ( ثم فجأة قال منصور بهدوء ودون أن ينظر إليه :
... ـ ما رأيك في الحكومة يا هشام ... ؟
... سؤال مباغت لم يكن يتوقعه ، مثل قنبلة ألقيت فجأة . لم يحر جواباً ، أحسّ بالاضطراب ، ولاذ بالصمت . غير أن منصور عاود إلقاء قنابله ، موجهاً عينيه الثاقبتين إلى عين هشام مباشرة وهو يقول :
... ـ لا داعي للإجابة . . . أنا أجيب عنك . . . إنها حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال ليس إلا . . . ) (3) .
... قلت : لا يستطيع الحمد أن يطعن في ( الحكومة السعودية ) صراحة ، ولذا فقد صاغ طعنه ـ بهدف إيصاله إلى القراء ـ على لسان منصور (البعثى) .
__________
(1) إلا بقية من المخلصين في تلك البلاد الذين ساروا على طريقة السلف الصالح في دينهم ، وهم الآن في ازدياد ـ بحمد الله ـ
(2) سورة البقرة ، الآية : 109 .
(3) العدامة (ص23) .(59/177)
... فحكومتنا عند الحمد ( حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال) !
... ولهذا فالمطلوب هم اسقاطها واستلام ( حزب البعث ) للسلطة بدلاً منها ، حيث سيقوم هذا الحزب ( العادل ! ) بإقامة حكومة ( ديمقراطية ! ) تساوي بين الناس دون نظرٍ إلى ( أديانهم ! ) ، وتوزيع الثروة بينهم بالتساوي !!
... والعراق خير شاهد على هذا !!!
... وقال الحمد في روايته على لسان ( الرفيق حديجان ! )
... ( يا رفيق فهد . . . لقد تحدثنا عن الأمة كثيراً ، ولكن ماذا بشأن قطرنا هذا ، كيف السبيل إلى تحرره ؟ ) (1)
... فالهدف هو تحرير ( السعودية ) واسقاط راية التوحيد ، ورفع راية ( البعث ) بدلاً منها ! (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) (2) .
طعنه في أمراء آل سعود :
... أما طعن الحمد في الأمراء من آل سعود فقد صاغه ـ في روايته ـ بأسلوب ماكر لا يكاد يُنتبه له . حيث قال متحدثاً عن هشام في كلية التجارة :
... ( تساءل هشام بعفوية مصطنعة : ( غريب أمر هذا المكان ! . . إنه أشبه ما يكون بقصر منه بكلية ) ، فضحك العم وردان وهو يحرك السكر في الكوب ، كاشفاً عن بعض أسنان متفرقة اختلط فيها السواد بالصفار وبعض البياض ، وسن ذهبية كانت تبرق وتعلن عن نفسها في أحد جوانب الفم ، ثم وهو يقدم الشاي لهشام ، قال بلهجته السودانية العجلة : (( ما هي كانت قصر يازول . . )) ، ثم وهو يستلم ربع الريال ثمن الشاي : (( لقد كانت قصراً لواحد من علية القوم . . . )) ، قال ذلك وهو يبتسم إبتسامة ذات معنى ، ثم إضاف : (( ولكنه انتقل إلى سكن جديد ، فأجّر قصر على الجامعة . . هذه هي القصة . . . )) (3) .
__________
(1) العدامة ( ص120) .
(2) سورة البقرة ، الآية : 111 .
(3) الشميسي (ص29 ـ30 ) .(59/178)
... قلت : لا يحتاج هذا المقطع إلى تعليق ، فهو يريد توصيل رسالة إلى القارىء بأن هؤلاء الأمراء ( فاسدون ) (مسرفون) يتحول أحدهم من قصر منيف إلى قصر آخر أعظم منه ، ثم يقوم بتأجير قصره الأول على الدولة مقابل مبلغ خيالي !! فهم يتلاعبون بالمال كيف شاؤا ، بلا حسيب أو رقيب .
... والنتيجة ـ التي يريد الحمد الوصول إليهاـ هي: استثارة الناس عليهم وزرع الحقد والكراهية فيما بين الشعب وحكومته .
محبة الحمد للرافضة :
... من أغرب الأمور في ثلاثية الحمد أنه يدعي أن الشيعة ( الرافضة) كانوا على الحق ! ويوافق الروافض في زعمهم أن أبا بكر وعمر عثمان ـ رضي الله عنهم ـ قد غصبوا الخلافة من على ـ رضي الله عنه ـ !! رغم أنه ـ كما يقول ـ لا يهتم بهذه المسألة التاريخية .
... يقول الحمد : ( قال منصور وهو يضحك بعصبية ، ثم أضاف : على فكرة ! ما رأيك في مسألة السنة والشيعة ؟
... وبدون تردد أجاب : الحقيقة لا تهمني المسألة كثيراً ، ولا حتى قليلاً ، أنا أعتقد أنها شيء من مخلفات الماضي . مالنا ولعلي وعثمان ومعاوية . نحن أبناء اليوم ، ولدينا من الهموم ما يكفي ) (1) .
... ويقول في موضع آخر : ( نظر إلى راشد قائلاً :
... ـ على فكرة يا أستاذ راشد . . . هل أنت شيعي ؟
... وانتفض راشد ، وكأن ماساً كهربائياً أصابه ، قائلاً بحدة :
... ـ كلا . كلا ، لماذا ؟
... ـ لاشيء .لا شيء . أرجو المعذرة ...
... وندم على طرحه مثل هذا السؤال ، وحاول الاعتذار مرة أخرى قائلاً:
... ـ أرجو ألا تفهمني خطأ . لا فرق عندي بين هذا المذهب أو ذاك . بل إني لا أهتم بكل المذاهب الدينية ) (2) .
ويقول على لسان ( الشيوعي ) عارف :
( كان الشيعة مع الحق . كانوا مع علي بن أبي طالب ، في مواجهة عمر وأبي بكر وعبيدة ، أصحاب المؤامرة لنزع الحق من أهله . عليك بمناقشات السقيفة وأنت تعلم أين الحق
ـ معك حق .
قال هشام :
__________
(1) العدامة (ص37 ـ 38 ) .
(2) العدامة ( ص 51 ) .(59/179)
ـ معك حق من الناحية التاريخية ) (1) !!
فالحمد لا يهتم بمسألة الخلاف بين السنة والشيعة ، وإن تحدث فيها فإنه سيؤيد ( الرافضة ) !
فما أجمل أن نقول له : ( الصمت حكمة ) !! (2) .
... وأنا لم أطل في دحض هذه المقولة من الحمد ، لأنه يكفي ذكرها للناس لبيان بطلانها ، وبيان ما يكنه الحمد نحونا ( أهل السنة ) من شنآن .
المواقف الجنسية :
... من الأمور التي تلفت الأنظار في ثلاثية تركي الحمد هو طغيان المواقف (الجنسية ) فيها ، فهي تزكم أنف القارئ بتكرارها وتتاليها ، بل وتكلفها الواضح من قبل الحمد ، ولهذا فقد أخذت حيزاً كبيراً من الثلاثية ! فمن ذلك :
1ـ إبراز موقف ( عبد الرحمن ) ابن خال ( هشام ) وكأنه لا هم له في الدنيا إلا شرب الخمر والزنا بالمومسات أو ( القحاب !) وعلى رأسهن المومس ( رقية ) . حيث تكررت أحاديث عبد الرحمن مع هشام حول مغامراته معهن هادفاً استدراجه إلى الوقوع في شباكهن كما وقع هو ، وهذا ما حدث .
2ـ قيام ( عبد المحسن التغيري ) رفيق هشام في العزبة بالزنا بإحدى جاراته واكتشاف هشام لهذا الحدث بعد مراقبته للعزية حيث رأى إحدى النساء تخرج من عند عبد المحسن ، وتدخل ( أحد المنازل المقابلة ) (3) .
3ـ تصوير هشام في الرياض بعد وقوعه في المحرمات وكأنه ( زير) نساء ، فهو قد زنا برقية ، ثم أتبعها بإحدى جارات خاله وهي سارة أو سويَّر ! ثم مثلثاً ببنت جيرانهم في الدمام : نورة !! وهذه المواقف مع تفاصيلها الدقيقة ! قد استهلكت صفحات كثيرة من رواية الشميسي ) .
__________
(1) الكراديب ( ص125ـ 126) .
(2) الكتب التي تحدثت عن بطلان مذهب ( الرافضة ) كثيرة جداً . من أبرزها كتاب ( منهاج السنة ) لشيخ الإسلام ، الذي فند شبهاتهم ( التاريخية ) المزعومة ، التي يرددها المعاصرون منهم وممن وافقهم !
(3) الشميسي ( ص34) .(59/180)
4ـ تصوير علاقة هشام ببنت خاله ( موضي ) بأنها علاقة إعجاب من جانبها ثم نفاجأ بأن موضي المتحجبة ، العاقلة ، الرصينة . . . . الخ الصفات المثالية تقوم بحركة (غريبة) مع ابن عمتها بعد أن علمت بعلاقته مع سويَّر ، وبعد أن قرر الذهاب إلى الدمام ، فلنستمع إلى الحمد وهو يقول متحدثاً عن موضي :
... ( ثم نهضت وهي تمسح عينيها بطرف غدفتها ، واتجهت إلى الباب وهي تقول : " المهم أن تعود إلينا سالماً ... ليحفظك الله ... " ، وأسرعت في الخروج . ولكنها ما لبثت أن عادت مرة ثانية ، ووقفت عن الباب وهي تقول :
ـ هشام ... هل لو كشفت لك وجهي أكون قد تجاوزت حدودي ؟
ـ ليس بيننا حدود يا موضي ... ستبقين موضي العزيزة سواء تحجَّبت أو كشفت ...
... وبحركة مفاجئة ، أزالت موضي غدفتها كاشفة عن وجهها ، ثم تقدمت منه ، وطبعت قبلة سريعة على خدَّه ، ونظرت إليه بعينين حمراوين مبتلتين ، وغادرت بخطوات مرتبكة ) (1) .
... قلت : فحتى موضي التي صوَّرت في الثلاثية وكأنها محافظة وابنة عائلة تسقط في مقدمات الرذيلة مع ابن عمتها ، حيث كشفت له عن وجهها ، ثم تجرأـ ( لاحظ : هي لا هو !!) بتقبيله ! ولا نعلم ماذا سيحدث لو بقي هشام ... أو تبعها !! .
5ـ الوصف الدقيق منه للمواقف ( ا لجنسية ) السابقة بشكل مقزز ، كما في وصفه لزنا عبد الرحمن وهشام بالمومس ( رقية ) في طريق خريص !
... وكما في وصفه لرؤية هشام لعليان زوج سوير وهو يجامعها !
__________
(1) الشميسي ( ص202ـ 203 ) .(59/181)
6ـ تصويره لأفراد شلته بأنهم أصحاب تمرس بالعلاقات النسائية ، يقول تركي عنهم ( كانوا يتحدثون عن مزنة وبدرية وهيلة وعائشة وعواطف وابتسام ومنى ، وهو لا يجد ما يقول ... كان يود الحديث عن نورة وعن رقية ، وقصص عن موضي يؤلفها ... ولكن شيئاً كانت يمنعه ، فكان يصمت ، ويغرق نفسه في مبادئ القانون والإقتصاد ، حتى أصبح يسمى بفأر الكتب ، أبو أربع عيون ... ورغم الوصف الذي كان يضايقه ، فقد كان محل ثقة الجميع وحبهم . كانوا يقصدونه لفهم ما استغلق عليهم فهمه من مواد ، أو في حل مشاكلهم العاطفية ، وكانوا يستشيرونه في جمال فتياتهم وهم يجلبون صورهن في الجيوب ... ) (1) .
7ـ وصفه لنساء شارع ( الحب ) في الدمام ، حيث يقول ( ولفت نظرة إحداهن ، كانت تسير الهوينا وقد التفت بعباءتها ، ووضعت حجاباً رقيقاً على وجهها لا يستر شيئاً منه .لم تكن جميلة الوجه ، ولكنها كانت ممتلئة إلى حد البدانة ، بردفين ضخمين يفرَّق بينهما فج واضح وعميق ، يجعلهما في حالة من التأرجح الدائم . وأثار منظر عجيزتها المترجرجة جوارح هشام ، وارتفعت حرارته وأخذ ينظر إليها بشبق ، وهو يدخن سيجارة بعمق ، وأحست المرأة بنظراته ، فنظرت إليه بدورها وابتسمت بإغراء ، ولكنه عدل عن مغازلتها في آخر لحظة ، وسار في طريقه على عجل . لكم غيرته الرياض ... لقد عاش في الدمام طوال حياته ، وجاء إلى شارع الحب أكثر من مرة ، ولكنه لم يلاحظ ما لا حظه اليوم ، ولم يدر في خلده ما دار ) (2) .
8ـ قوله في وصف رؤية هشام لموضي ابنة خاله :
... ( وعادت موضي مرددة : " زين ... زين ... اتبعني " واخذت في صعود درجات السلم المقابل للمجلس وهو يتبعها ... لم يستطع إلا ملاحظة استدارة عجيزتها وهي تصعد الدرج أمامه ... أثاره المنظر ولكنه أشاح بوجهه عن ردفيها اللذين كانا في حالة اهتزاز شديد مع كل درجة تصعدها ، فحاول تشتيت ذهنه ) (3) .
__________
(1) الشميسي ( ص 72 ) .
(2) الشميسي ( ص 129 ) .
(3) العدامة ( ص107 ) .(59/182)
... قلت : فهذه المواقف ( الجنسية ) الكثيرة ، مع محاولة تضخيمها وتكلفها (أحياناً ) توحي للقارئ بأحد أمرين متلازمين :
الأول : أن تركي الحمد يتكلم عن واقع عاشه أو رآه خلال حياته الماضية فانطبع في ذهنه ومخيلته فارتبط كل حديث عن الماضي بتلكم الأحداث والمغامرات ( الجنسية ) لأن الإنسان لا يستطيع مهما فعل أن ينفصل كلياً عند ماضيه بل تبقى صور كثيرة ( يراها مهمة ) تتخايل بين عينيه عند كل ذكرى ماضية .
... فإذا قلنا بهذا الأمر فإن الحمد لم يعد يرى أثناء دراسته في الرياض سوى هذه المواقف ( الجنسية ) التي أثرت عليه . واستهلكت منه وقتاً ( وجهداً ! ) .
الأمر الثاني : الذي يهدف إليه الحمد من خلال تضخيم هذه المواقف ، وإبرازها ، وتكلف بعضها ـ كما سبق ـ هو محاولةٌ لا سقاط جميع المثل التي يعتقدها الناس ، وأن الإنسان مهما ادعى الصلاح أو المثالية فإنه مجرد حيوان يجري خلف شهواته مهما حاول اضفاء هالة الشرف والعفة على شخصيته ، وما هذه الهالات المفتعلة التي يعيشها الناس مع بعضهم إلا ستار وقناع يخفون وراءه ألواناً عديدة من الآثام والسقوط ، فلو تأملنا الثلاثية جيداً للمحنا فيها هذا الهدف الذي يسعى إليه الحمد بل تجرأ فيه كثيراً .
... نلمح ذلك في الآتي :
1ـ سقوط هشام في الإثم خلال عيشته بالرياض بعد أن كان يعيش مثاليات زائفة في الدمام بجوار والديه .
2ـ سقوط سوير زوجة عليان في الرذيلة مع هشام .
3ـ سقوط نورة ابنة جيرانهم في الدمام في الرذيلة معه .
4ـ سقوط موضي ابنة خاله في أول درجات الرذيلة .
5ـ عبارات كثيرة يطلقها الحمد في ثلاثيته تنبئ عن هذا الهدف ، ومن ذلك :
أ ـ قول الحمد على لسان عبد الرحمن ابن خال هشام بعد أن وصف له زناه بإحدى النساء : ( من قال لك إن كل من تسكن عند أهلها عذراء ) (1) .
__________
(1) العدامة ( ص79) .(59/183)
ب ـ قوله واصفاً حال هشام في الرياض : ( وفي الرياض سقطت باقي المثل التي زرعتها أمه في ذاته) (1) .
ج ـ قوله واصفاً مدينة الرياض على لسان عبد الرحمن : (كل شيء ممكن في الرياض) (2) بعد أن قال هشام : ( كنت أظن أن الخمر غير موجود في الرياض ) .
د ـ قوله ـ على لسان عبد الرحمن موجهاً خطابه إلى هشام : ( سأجعلك تكتشف الرياض كما لم تكتشفها من قبل . ساريك رياضاً غير الرياض ) (3) .
هـ ـ قوله ـ أيضاً ـ : ( في الرياض كل شيء ممنوع ، وكل شيء مباح ) (4) .
و ـ وقوله ـ أيضاً ـ على لسان عبد الرحمن : ( ديرة عجيبه فعلاً ... كل شيء حرام وممنوع . وكل شيء مباح بشكل لا يتصور ) (5) .
ز ـ قوله على لسان هشام متحدثاً مع نفسه : ( عليك الرحمة يا ابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة ، وأحقر من بعوضة ) (6) .
ح ـ قوله : ( لقد مات أبوك آدم ، ولم يبق إلا أبليس ذو الصولجان ، كلهم اليوم لابليس ساجدون ، ومن أجله يسعون ) (7) .
... قلت : إذن فتركي الحمد يريد أن يقول لنا بأن جميع البشر سقطة منحرفون فاسدون فلا نغتر بالمثاليات الزائفة والأقنعة المخترعة يخفون وراءها حقيقتهم ، فهو يريد منا أن لا نتمسك بأي فضائل أو مثاليات .
... فهي فلسفة ( معرّية ) (8) شابه بها رهين المحبسين حينما كان يقول :
... ... ... وزهدني في الخلق معرفتي بهم
... ... ... ... وعلمي بأن العالمين هباء
__________
(1) العدامة (ص167).
(2) العدامة ( ص88) .
(3) العدامة ( ص 100 ) .
(4) العدامة ( ص169) .
(5) الشميسي ( 39) .
(6) الكراديب ( ص252) .
(7) الكراديب ( ص253) .
(8) نسبة إلى أبي العلاء المعري أعمى القلب والبصر ! الذي ألح على هذه المسألة في أشعاره التشاؤمية .(59/184)
فالفكرة واحدة وهي عدم الاغترار بأي فضيلة أو مثاليات يتنكر الناس وراءها ، لأننا إذا دققنا في الأمر لم نجد إلا شياطين وأبالسة في مسوح بشر ، مما ينتج عنه أن تسقط من أعيننا كل الصور الجميلة والمثالية والشريفة والعالية التي رسمناها في مخيلتنا عن أفضل البشر سواء كانوا من الأنبياء أو من أفضل القرون بعدهم ، أي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأخزى من أبغضهم ! ـ
... فإذا سقطت صور الأفراد المثالية من أعيننا سقطت تبعاً لها مجتمعاتهم التي كنا نظنها فاضلة !! حتى جاء الدكتور الفيلسوف ليحذرنا من الاغترار بهذا الوهم ، ويبين لنا أن لا فضيلة ترجى من ( بني آدم ) ! فهم ما داموا من أبناء آدم فلا شك هم مخادعون منافقون يخفون حقيقتهم خلف حجاب من الفضيلة والمثالية المزيفة .
... إذن : لا تطالبونا بأن نترسم خطى القرون الثلاثة المفضلة التي أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تنخدعوا بمظاهر الصلاح التي يبديها بعض الناس لكم سواء كانوا من العلماء أو الدعاة أو الصالحين ، فإنها قد تتكشف عن انحرافات ومفاسد لا تتخيلونها .
... ومما يثير العجب تركيزه على إظهار مدينة ( الرياض) وكانها من مدن الفجور والفاحشة كبانكوك أو .. أو .. من المدن التي يعرفها أهل الفساد ! وكأنه يقول لنا بأن هذه المدينة التي هي قاعدة بلادنا وعاصمتها ومنبع الخير فيها بما تضمه بين جنباتها من رجال ونساء صالحين إن هي إلا مدينة كغيرها من المدن ( الفاسدة ) التي يعرفها الناس ويزدرونها .
... فكما أسقط الحمد الرموز البشرية من أفراد ومجتمعات من مخيلتنا فهو سيتبع ذلك باسقاط مثاليات المكان ... ليخبرنا بأن لا مكان مقدَّس أو مطهَّر . ويضرب لذلك مثلاً بمدينة الرياض ... التي نحسن الظن فيها وفي أهلها .(59/185)
... قد يقول قائل بأن سياق الثلاثية هو الذي اضطر الحمد إلى ذلك ، لأن هشاماً لم يتعرف على حياة المعصية إلا في الرياض ، فهو في الدمام صغير ، وفي جدة في السجن ، فلم يبق إلا الرياض .
... قلت : قد قال هذا فنعذر الحمد لو كان موقفاً واحداً أو عبارة واحدة ذم فيها الرياض .أما وهو قد كرر هذا الذم وألح عليه بشكل غريب ومفتعل فإن وراء الأكمه ما وراءها ، وحق لمدينة الرياض أن تقول له :
... ... ولو كان سهماً واحداً لا تقيته
... ... ... ولكنه سهمان ثانٍ وثالث
الحاصل : أن الحمد قد هوَّن جانب الانحراف ، والسقوط في الرذيلة ، وجعله يهيمن على أبرز شخصيات ثلاثيته ، شأنه في ذلك شأن نجيب محفوظ في ثلاثيته ـ كما سبق ـ (1) لأنهما جميعاً يصدران من مصدر واحد هو مصدر ( الماركسية !) الذي لا يقيم معتنقوها أي وزن للأخلاق ، بل يسعون إلى هدمها في نفوس الناس ، حتى يتساوى ـ في نظرهم الزنا بالنكاح ـ ، والفضيلة بالرذيلة . يقول الشيخ عبد القادر شيبة الحمد : ( الخُلُق الوحيد الذي آمن به الشيوعيون هو وجوب مخالفة سائر الأنظمة الأخلاقية ، ومحاربة عموم أنواع الآداب المرعية في المجتمعات الإنسانية ، وبخاصة ما كان منها نتيجة للأوامر الإلهية ، وقد قادهم هذا الشذوذ الخلقي إلى هتك الأسرة ، ومحاربة ناموس الزواج ، ورأوا أن هدم ذلك من أقوى دعائم الشيوعية فتساوي الزواج والزنا في نظامهم ) (2) .
__________
(1) مع فارق واحد بينهما ، هو أن محفوظاً يتعذر عن مومساته ، بأن الظروف الاقتصادية أجبرتهم على ذلك ، فلا تلوموهنَّ ، شأنه في ذلك شأن الماركسيين الأقحاح !
(2) مقال بعنوان ( الشيوعية ) في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة السنة الثانية ( عدد3 ) .(59/186)
... نسأل الله العفو والعافية ، أن لا يجعلنا ممن قال فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (1)
العبارات الوقحة :
... استخدم الحمد في ثلاثيته عبارات ( وقحة ) لم تتعود آذاننا على سماعها ممن تأدب بآدبنا .
... فمن ذلك أنه يتحدث عن مخلوقات الله ـ وهي الشمس ـ واصفاً إياها بالوقاحة ! وهو كان الأولى بهذا الوصف ، لأن الشمس خلق مسخَّر في جو السماء يسير بانتظام ويدل على عظمة الخالق ـ سبحانه ـ فكان الأحرى بالحمد أن يتفكر في خلقها ، ويستدل به على عظمة ربه ، لا أن يتفاحش بهذا الكلام البذيء .
... يقول الحمد :
... ( عندما كانوا يهبطون طلعة ديراب على خط الحجاز ، كانت الشمس قد بدأت تبزغ على استحياء ، وعندما وصلوا إلى مرات كانت قد بدأت في ممارسة وقاحتها وإرسال تلك الأشعة النارية الرهيبة ) (2) !
... ويقول :
... ( وأخذت الشمس في ممارسة وقاحتها ، وتتحول إلى جحيم لا يُطاق ) (3) !
__________
(1) سورة النور ، الآية : 19 .
(2) العدامة ( ص 254 ).
(3) العدامة ( ص258) .(59/187)
... قلت : ومن وقاحة هذا المخلوق ( أعني الحمد ! ) أنه تحدث عن أمه ( أي أم هشام !) في روايته بحديث لا يصدر عن عاقل .. فتأمله وتعجب من سخافته حين يقول : ( وصب هشام ربع البيالة عَرَقاً ، ثم أضاف إليه الكولا ، وأخذ رشفة سريعة استطعمها في فمه ، ثم تجرع ربع البيالة تقريباً ، ولم يحس إلا وقد اشتعل حلقه بالنار انتقلت إلى جوفه ، وأخذ اللعاب ينساب بشدة في فمه ، والرغبة في التقيؤ ، ولكنه تمالك نفسه ، وازداد إفراز اللعاب في فمه ، ثم أحس ببعض الراحة في جوفه ، ودوار في غاية اللذة يغزو رأسه من الداخل . وشرب ربعاً آخر فأحس أن نهراً يجري في فمه ، لم يكن الحريق بالشدة الأولى . دفع البيالة إلى عبد الرحمن ، ولكنه رفض قائلاً : " السجائر أقصى ما يمكن أن أصل إليه " فتجرع هشام بقية البيالة ، دون أن يحس بأي حريق هذه المرة ، وأخذ ينظر إلى رقية . لقد كانت في غاية الجمال والفتنة ، بل كان كل شيء في غاية الجمال . ذهب الذنب وأحاسيسه المؤلمة ، وانتفى الخجل ، وكان وجه أمه يبدو له واضحاً ، ولكنه كان ينظر إليها ببلادة ولا مبالاة ، وكان يود لو كان قادراً علىصفعها ، لكنه يشعر بمغص في الداخل ، فيزيح صورتها ويغرق في رقية) (1) !!
... قلت : فهل يقول عاقل عن أمه ـ ولو كان على سبيل القصص ـ مثل هذا الكلام البذيء الذي يدل على تمردٍ دفين في نفس الكاتب على كل من يستحق (الطاعة ) ولو كان أمه !؟
... نسأل الله العافية .
أوجه التشابه بين تلاثية تركي الحمد
و
ثلاثية نجيب محفوظ
عندما تطلق ( الثلاثية ) في الرواية العربية فإنها تنصرف حتماً إلى ثلاثية نجيب محفوظ المشهور ( بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية ) فقد أصبحت علماً عليها ، وهي ـ تقريباً ـ التي شهرته على مستوى العالم ، وعرفتهم به ، نظراً لتفردها وتميزها عن رواياته الأولى .
__________
(1) الشميسي ( ص42 ) .(59/188)
... وعندما أصدر تركي الحمد ثلاثيته انصرفت الأنظار والأذهان إلى المقارنة بين الثلاثيتين لمعرفة أوجه التشابه والتمايز بينهما . وكنت أحد هؤلاء الذين اهتموا بهذا الأمر عند دراستي لفكر تركي الحمد ، فعدت إلى أوراقي القديمة التي دونت فيها الخطوط الرئيسية لثلاثية نجيب محفوظ لمقارنتها بثلاثية الحمد ، لمعرفة هل جاء بجديد عليها ، أم أنه يقول مكرراً من القول ؟
... فاتضح لي بالمقارنة أن الحمد قد سار في ثلاثيته مقتفياً أثر نجيب محفوظ في أمور رئيسية وجزئية من الثلاثية ، نظراً لتشابه فكريهما ـ كما سيأتي ـ ومما أكد لي هذا أن الحمد قد أكثر من ذكر قصص نجيب محفوظ في ثلاثيته ، وجعلها جزءً من ثقافة هشام العابر .. فمن ذلك :
1ـ أنه ذكر ثلاثية نجيب محفوظ نفسها في قوله عن أحلام هشام : ( يأتيه صوت سي السيد أحمد عبد الجواد زاجراً وزبيدة تقهقه أمامه ، وكمال يرقص بينهما ، فيما ياسين يعض أرداف زنوبه ) (1) .
... قلت : معلوم أن هذه الأسماء هي الشخصيات الرئيسية لثلاثية محفوظ .
2ـ قوله عن هشام : ( هو الفتى المثقف الذي يقرأ لماركس وماوتسي تونع ودوستوفيسكي ونجيب محفوظ ... ) (2) .
3ـ قوله عن هشام : (كان يذاكر ذات يوم هو وعدنان كعادتهما كل عام قبل الامتحانات بفترة ، ويختلس بعض اللحظات ليقرأ فيها رواية نجيب محفوظ الجديدة " أولاد حارتنا " ) (3) .
4ـ قوله عن هشام عند سفره إلى الدمام : ( وعندما تحرك القطار أخيراً ، كان بدأ في قراءة " الطريق " لنجيب محفوظ ) (4) .
5ـ قوله عن هشام في السجن : ( أخذ ينظر إلى حركة الأشباح من حوله وهو يفكر ولا يفكر . وطاف بذهنه جحيم دانتي وأبي العلاء . وباربوس ، وغريب كامو ، وذباب سارتر ، وشحاذ محفوظ ) (5)
__________
(1) العدامة ( ص90) .
(2) العدامة ( ص106 ).
(3) العدامة ( ً224 ) .
(4) الشميسي ( ص122).
(5) الكراديب ( ص181 ) .(59/189)
... قلت : ولكي نعرف مدى التشابه بين الثلاثيتين وكيفية استفادة الحمد من محفوظ لابد من عرض موجز لأحداث ثلاثية نجيب محفوظ ، ثم ذكر نقاط التشابه بينهما ، لكي يتضح أن الحمد قد صاغ ثلاثية محفوظ بنفس مناسب لبلادنا ـ كما سيأتي ـ .
أحداث ثلاثية نجيب محفوظ .
1ـ بين القصرين :
... يعيش أحمد عبد الجواد في بيته بشخصية قوية متسلطة ـ كما سبق ـ أمام زوجته الضعيفة (أمينة) وأولاده ، ولكنه خارج البيت يمارس أنواع المحرمات من شرب خمر وزنا دون أن يعلم أولاده ، بحيث تبقى هيبته بينهم . يذهب أحمد عبدالجواد لدكانه الذي يشرف عليه وكيله (الحمزاوي) فيأتيه الشيخ الصوفي ! ( متولي عبد الصمد ) صاحب الكرامات !! يعمل الحجب والتمائم للناس ، لينصحه عن ولعه بالنساء .
ـ كمال يدرس ويحب درس ( الديانة ) الذي يشارك فيه لأنه يراجع الدروس مع أمه ، الذي يتلقي معها في حب ( الحسين ) .
ـ فهمي يحب بنت الجيران ( مريم ) يتفرج عليها من السطح .
ـ ياسين يدور في الشوارع ويلتهم النساء بنظراته الشهوانية يتفرج على العالمة زبيدة وربيبتها زنوبة ويتأمل محاسنها ويتذكر خيانة أمه لأبيه مع ( الفاكهاني ) !
ـ أحمد عبد الجواد يتأمل جسد ( زبيدة ) العالمة عندما جاءته إلى الدكان . يحاول استدراجها ،ثم لا يدعها تدفع ( الحساب ) وفي المساء ذهب لزيارتها مع رفاقه .
ـ أحمد عبد الجواد يخبر ابنه ياسين بأن أمه ـ أي أم ياسين ـ ستتزوج من صاحب مخبز صغير السن . يغضب ياسين ، لأنه يطمع في فلوسها ، ذهب ياسين إليها ولامها وغضب عليها .
ـ فهمي يريد الزواج من ( مريم ) لكن والده يرفض بشدة .
ـ عائشة تغازل أحد الضباط من النافذة فتراها خديجة ، فتطلب منها عائشة أن لا تخبر أحد .
ـ ( حسن أفندى ) ضابط الجمالية يخطب عائشة ، فيرفض الأب !(59/190)
ـ سافر أحمد عبد الجواد إلى ( بور سعيد ) في مهمة عمل ، فاستغل أهل البيت الفرصة ليتمتعوا بالحرية قليلاً ، خرجوا بأمهم لزيارة ( الحسين ) الذي تهيم به ، صدمتها سيارة ، فعادوا بها .
ـ عندما عاد أحمد عبد الجواد اعترفت له زوجته بما حصل بعد أن ألح عليها فطردها من المنزل ، فذهبت لبيت أمها .
ـ أم مريم تقوم بزيارة العائلة لتتشفع في إرجاع ( أمينه ) ، فيشعر أحمد عبد الجواد بأنها تهواه وتستدرجه لإقامة علاقة معها .
ـ حرم ( شوكت ) تزور أحمد عبد الجواد وتخطب عائشة لابنها ، فيوافق .
ـ عادت ( أمينة ) إلى البيت بعد أن عفا عنها زوجها .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع ( زنوبة ) فلما دخل عندها أخبرته بأن هناك رجلاً مع ( زبيدة ) هو أحمد عبد الجواد ! فتفاجأ ياسين لهذا الخبر ، وقد كان عهده بأبيه أنه جاد وصارم .
ـ ذهبت العائلة إلى بيت ( آل شوكت ) لزواج عائشة ( جليلة ) العالمة تحضر الحفل وتسلم على أحمد عبد الجواد مع تضايقه منها خشية انكشاف علاقته السابقة بها . ياسين يخبر فهمي بحال أبيه ، فيندهش فهمي .
ـ ياسين يحاول اغتصاب ( أم حنفي ) الشغالة وهو سكران فغضب أبوه عليه ، ثم يقرر أن يزوجه .
ـ زواج ياسين من ( زينب )
ـ آل شوكت يخطبون ( خديجة ) لابنهم ( إبراهيم ) فيوافق أحمد عبد الجواد.
ـ مات ( محمد رضوان ) والد ( مريم ) فعزاهم أحمد عبد الجواد .
ـ أحمد عبد الجواد يتحدث مع رفاقه في الدكان عن ( سعد زغلول ) زعيم الأمة ! وجهوده ضد الاحتلال .
ـ ياسين يعود للخمر والنساء .
ـ أم مريم تزور أحمد عبد الجواد في الدكان لتستشيره .
ـ فهمي يشارك في ( المظاهرات ) ضد الانجليز المحتلين لمصر .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع الخادمة السوداء ( نور ) ! التي تعمل عند زوجته . فتكتشفهما الزوجة وتغضب وتهجره .
ـ أحمد عبد الجواد ينصح فهمي بعدم الاشتراك في المظاهرات ، أو توزيع المنشورات . خوفاً عليه .
ـ أم ياسين تتوفى .(59/191)
ـ أحمد عبد الجواد يعود من بيت ( أم مريم ) فيوقفه جندي انجليزي فيجعله يساعد المصريين المسخرين لردم الحفر التي يحفرها المتظاهرون ، فتكون إهانة قاسية له .
ـ عائشة تنجب .
ـ فهمي يشارك في مظاهرة ( سليمة ) ، ولكنه يقتل برصاص الانجليز .
... بهذا الحدث ، وهو موت فهمي انتهت أحداث الحلقة الأولى من حلقات ثلاثية نجيب محفوظ .
2ـ قصر الشوق (1) :
ـ كمال يصاحب ( فؤاد الحمزاوي ) ابن وكيل والده ، مع شعوره بالاستعلاء عليه .
ـ كمال يقيم علاقة غيرشرعية مع ( قمر ) ابنة ( أبو سريع ) صاحب المقلى ! مع شعوره بتأنيب الضمير .
ـ أحمد عبد الجواد يعود إلى اللهو بعد موت ابنه ( فهمي ) ، ويقيم علاقة مع ( زنوبة) التي تستعلي عليه .
ـ ياسين يقرر الزواج من ( مريم ) .
ياسين يقيم علاقة غير شرعية مع أم مريم !!
ـ الحمزاوي ينصح أحمد عبد الجواد بعدم تبذير أمواله على اللهو .
ـ كما يحب ( عايدة ) أخت زميله ( حسين شداد ) وهي من طبقة عالية متحررة ، ويغلو في حبها إلى حد العبادة !
ـ ياسين يتزوج مريم .
ـ ( بهيجة ) تتزوج ( بيومي الشربتلي ) ، ثم تموت بعد أسبوع !
ـ خديجة تسبب مشاكل لأهل زوجها ، فيصلح بينهم أحمد عبد الجواد .
ـ عائشة تنساق مع حياة زوجها المتحررة ، فتدخن .
ـ ( عايدة ) يخطبها أحد زملاء أخيها ( حسين ) واسمه ( حسن ) فيتفاجأ كمال بهذا الخبر !
ـ ياسين يطلق ( مريم ) بعد أن اكتشفت علاقته بزنوبة .
ـ زنوبة تطلب الزواج من أحمد عبد الجواد ، فيرفض أن يتزوج من عاهرة !
ـ كمال يحضر حفل زواج عايدة .
ـ ياسين يتزوج زنوبة ، فيطلب منه أبوه أن يطلقها .
ـ كمال يغرق في الخمر والنساء .
ـ أحمد عبد الجواد يحاول اقناع ياسين بطلاق زنوبة فيخبره ياسين بأنها حامل منه .
ـ زوج عائشة وولدها يصيبهم المرض .
ـ موت سعد زغلول .
وبهذا الحدث انتهت الحلقة الثانية من ثلاثية نجيب محفوظ .
__________
(1) وهو اسم الشارع الذي يسكنه ياسين بعد زواجه .(59/192)
3ـ السكرية (1) :
ـ كمال يحب القراءة في الفلسفة ، ومجتهد في دروسه .
ـ الحمزاوي يطلب اعفاءه من العمل مع أحمد عبد الجواد لأنه تعب .
ـ زبيدة تدمن علىالكوكايين ، وتفتقر بعد العز !
ـ متولي عبد الصمد يصبح شيخاً رثاً وسخاً يدور على الناس .
ـ فؤاد يرغب الزواج من نعيمة ابنة عائشة .
ـ أحمد عبد الجواد هجر الخمر بسبب نصيحة الطبيب .
ـ شداد أفلس ثم انتحر .
ـ ياسين مستمر على عادته في الخمر والنساء .
ـ احمد ابن خديجة يعتنق الماركسية وأما أخوه عبد المنعم فهو من جماعة ( الإخوان المسلمين ) ! وتحصل بينهما مناقشات ومشاهدات . برغم أنهما جميعاً لا يحبان (الطغاة!) .
ـ عبد المنعم ( الإخواني ! ) يقع في الزنا بجارته !!
ـ أحمد يشارك في تحرير مجلة ( الإنسان الجديد ) ، ويحب السكرتيرة في المجلة ( سوسن حماد )
ـ أحمد يتعرف على الكاتب ( رياض قلدس ) الذي يوافقه في الميول .
ـ كمال مستمر في الشهوات .
ـ عبد المنعم يتزوج نعيمة ابنة عائشة .
ـ حوارات فكرية وسياسية بين أحمد وخاله كمال ، لتوافقهما في الهوى !
ـ أحمد عبد الجواد يبيع دكانه .
ـ حوارات فكرية بين كمال وقلدس .
ـ نعيمة تموت .
ـ احمد يخطب ( علوية صبري ) فتطالبة بمصروف يومي ، فيرفض مشروع الخطبة .
ـ رفاق أحمد عبد الجواد يموتون واحداً إثر الآخر ، وهو يتفكر في حال الدنيا .
ـ موت أحمد عبد الجواد .
ـ عبد المنعم يخطب كريمة ابنة ياسين مع معارضة والدته خديجة لأن كريمة تكون ابنة زنوبة .
ـ زبيدة تتحول إلى شحاذة ، بعد العز !
ـ أحمد يتزوج سكرتيرة المجلة ( سوسن حماد ) .
ـ عبد المنعم يتزوج كريمة ويجعل من بيته بيتاً إسلامياً .
ـ كمال يعلم بموت ( عايدة ) .
ـ القبض على أحمد ( الماركسي ) ، واخوه عبد المنعم ( الإخواني ) ووضعهم في السجن بتهمة المعارضة .
ـ أمينة تصاب بالشلل فتنتظر الوفاة .
__________
(1) وهو اسم الشارع الذي يسكنه آل شوكت .(59/193)
... وبهذا الحدث انتهت الحقلة الثالثة من ثلاثية نجيب محفوظ .
* شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ :
1ـ احمد عبد الجواد : أحد أفراد الطبقة المتوسطة يتميز بشخصية متسلطة داخل بيته ، ويد حديدية يحكم بها أسرته . مع تدين تقليدي يحافظ من خلاله على أداء الصلوات في ( البيت ! ) ، دون أن يؤثر هذا ( التدين !) على سلوكه الخارجي ، أو أن ينهى زوجته عن الانجراف وراء البدع والشركيات ـ كما سيأتي ـ .
... وهو في الجانب الآخر ، أي خارج بيته ، يتصف بصفة أوصفات أخرى تختلف عن تلك الأولى ، فهو يحب اللهو والشهوات ، والسهرة مع الغواني والمومسات ، في جلسات طرب وأنس .
... ولكن هذا التناقض وإخفاء الشخصية الأخرى عن أولاده سرعان ما انكشف ، ولكنه لم يؤثر على سقوط هيبته الأولى .
أسرة ( أحمد عبد الجواد ) تتكون من :
1ـ زوجته ( أمينه ) الخاضعة له ، والتي هي على النقيض من زوجها ، حيث تتميز بالسماحة والطيبة مع أولادها ، ولكنها غارقة حتى أذنيها في البدع والشركيات التي تعتقدها ديناً ! ، حيث أدمنت على زيارة قبر الحسين ( المزعوم ! ) في القاهرة (1) ودعائه من دون الله (2) ، بل والطواف بقبره (3) !!
... قولها لابنتها عائشة : ( تعالي معي إلى الحسين ، ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة ، تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم ) (4) !!
... وكانت تلقن كل هذا ابنها الصغير ( كمال ) بطل الرواية .
وأما أبناؤه فهم :
1ـ ياسين : وهو الابن الأكبر من زوجة سابقة ، انتقل إلى العيش مع أبيه وزوجة أبيه ( أمينة ) ، وقد ورث عن أبيه ولعه بالملذات والشهوات ، ولكنه لم يستطع أن يكون كأبيه يعب من تلك الملذات ويحظى باحترام الناس !! مثلما كان أبوه .
__________
(1) بين القصرين ( ص36 ) .
(2) بين القصرين ( ص162 ) .
(3) السكرية ( ص11) .
(4) السكرية ( ص197 ).(59/194)
2 ـ فهمي : الابن الأوسط لأحمد عبدالجواد ، وهو طالب بمدرسة الحقوق ، يجمع بين خصال أمه من رقة ومودة ورحمة لذويه ، إلى جانب وطنيته وثوريته ، التي انتهت به إلى الموت في مظاهرة وطنية .
3 ـ عائشة : الابنة الصغرى لأحمد عبدالجواد ، تتميز بجمال ورقة ومودة ، مما حببها إلى ذويها . بعد زواجها انساقت مع حياة زوجها المتحررة ، وبعد وفاة زوجها وابنيها ساءت أحوالها وأصبحت تُكثر من الاعتراض على القدر .
... فمن ذلك : قولها عند وفاة ابنتها ( نعيمة) : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ أريد أن أفهم ) (1) .
... أو قولها عندما تذكرت أولادها : ( الرحمة ! أين الرحمة أين ؟) (2) .
4 ـ خديجة : الابنة الكبرى لأحمد عبدالجواد ، وكان حظها من الجمال ضئيلاً ، وقد ورثت عن أبيها سلاطة لسانه وقوة شخصيته . كثيرة المتاعب مع زوجها ، وكان لأولادها نصيبهم الأكبر من أحداث الرواية .
5 ـ كمال : وهو ( بطل الثلاثية ) ، الابن الأصغر لأحمد عبدالجواد ، عاش في أحضان أمه ، التي لقنته البدع والخرافات والشركيات منذ صغره ، حيث لم يتعرف على الدين إلا من خلال أحاديثها وقصصها ، فانطبع الدين في ذهنه بتلكم الخرافات .
... فهو ـ مثلاً ـ يقول عن ضريح الحسن : ( كم وقف حيال الضريح حالماً مفكراً ، ويود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غِيَر الدهر بسره الإلهي ، فاحتفظ بنضارته ورونقه ، حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته ، ولما يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلاً قنع بمناجاته في وقفات طويلة ، مفصحاً عن حبه ، شاكياً إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت وخوفه من تهديد أبيه ، مستنجداً به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر ، ثم خاتماً مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه ) (3) !!
__________
(1) السكرية (ص159) .
(2) السكرية (ص197) .
(3) بين القصرين (ص49) .(59/195)
... نشأ كمال متحيراً كثير الاضظراب الفكري ، لم يستقر على قرار ثابت ، كان وفدياً (1) ثم ما لبث أن مال ميلاً شديد إلى ( الماركسية ) التي تقتلع الطبقات التي أبغضها عندما أحب ( عايدة ) التي تنتمي إلى طبقة عليا .
... تكثر في أحاديثه الشكوك والطعن في الدين وعبارات الإلحاد والادعاء بأن (العلم ) سوف يحل مشاكلنا جميعاً . ولهذا كان من أقرب الناس إلى ابن أخته ( أحمد ) الذي كان ( ماركسياً ) متحمساً .
... فمن أقواله ـ على سبيل المثال ـ :
... ـ ( إن مطلبي الأول الحقيقة : ما الله ؟ ما الإنسان ؟ ما الروح ؟ ما المادة ؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيراً ) (2) .
... قوله : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون الوراثة ونظام الطبقات ) (3) .
... ( طالما نازعته النفس إلى النقيضين وكر الشهوات والتصوف ، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات ، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء ، في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب ) (4) .
6ـ عبد المنعم ابن خديجة :
من جماعة الإخوان المسلمين ، يحمل أفكارهم ويافح عنها أمام أخيه أحمد ( الماركسي ) ولكنه يتسم بالعنف في الجدال !! وهكذا أراد له نجيب محفوظ أن يكون !! فمن ذلك أنه قال لأخيه : ( صه يازنديق ) (5) !! وقال له أيضاً ( يا عدو الله ) (6) .
__________
(1) حزب الوفد الذي أنشأه سعد زغلول ، حزب علماني لا يقوم على الإسلام ، يدعو إلى مساواة المسلم بالكافر ، والدعوة إلى انسياق البلاد الإسلامية نحو تقليد الغرب الكافر (في كل شيء ) ، وخاصة في مجال ( تحرير المرأة ) ، انظر (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ) للندوة العالمية للشباب الإسلامي (1 / 454 ) .
(2) قصر الشوق (ص242 ) .
(3) قصر الشوق ( ص369) .
(4) السكرية ( ص194) .
(5) السكرية ( ص32) .
(6) السكرية ( ص 76 ) .(59/196)
ولكنه برغم هذا ( الإيمان ) و ( الحماس ) يقيم ـ كما سبق علاقة غير شرعية مع بنت الجيران !! وهذا من التناقض المفتعل لتشويه جماعة الإخوان المسلمين من نجيب محفوظ ـ هداه الله ـ .
7ـ أحمد ابن خديجة :
... شاب متحمس للماركسية ، يدخل مع أخوه ( الإخواني ) عبد المنعم في مجادلات متتالية دون نتيجه .
... من أقواله التي تدل على توجهه :
ـ أنه بعد أن تزوج سأله خاله كمال هازئاً : ( هل تزوجت على سنة الله ورسوله ؟) قال : ( طبعاً ، الزواج والدفن على سنن ديننا القديم ، أما الحياة فعلى دين ماركس) (1) !!
ـ قوله في التحقيق : ( إني اشتراكي ) (2) .
أوجه التشابه بين الثلاثيتين :
1ـ أن الثلاثيتين كلتيهما تتكونان من ثلاث أجزاء أو حلقات بأسماء مختلفة ( بين القصرين ـ قصر الشوق ـالسكرية ) ،( العدامة ـ الشميسي ـ الكراديب ) .
2ـ أن البطل في الثلاثية شخص واحد تدور الأحداث من حوله .ففي ثلاثية محفوظ تدور الأحداث حول ( كمال وفي ثلاثية الحمد تدور حول ( هشام ) .
3ـ أن ( كمال عبد الجواد ) هو نفسه مؤلف الثلاثية ، أي هو نجيب محفوظ ، وهذا أمر لا ينكره نجيب محفوظ ، الذي يردد دائماً : [ أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية] (3) ويقول : [ الأزمة الخاصة بكمال هي أزمتي ] (4) .
... أما تركي الحمد فقد اعترف بهذا في مقابلة له مع جريدة اليوم (5) عندما قال عن ثلاثيته بأنها " فيها الكثير مني ... فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب " .
__________
(1) السكرية ( ص271).
(2) السكرية ( ص320 ) .
(3) المنتمي ، للنصراني ! غالي شكري ( ص17 ) .
(4) أتحدث إليكم ، نجيب محفوظ ( ص34) .
(5) بتاريخ 8/ 8/ 1419هـ.(59/197)
... وقد أكد الدكتور غازي القصيبي أستاذ الحمد في الجامعة ! هذه الحقيقة . فقال في كتابه ( حياة في الإدارة ) : ( كان المفكر السعودي البارز !! الدكتور تركي الحمد أحد طلبتي . وعلى الذين يرغبون أن يعرفوا رأي الطلبة فيَّ أن يعودوا إلى رواية تركي ( الشميسي ) ( لندن : دار الساقي ، 1997م ) ، ماكتبه عن ( الدكتور محارب الخيزراني ) ) (1)
... قلت: فهذا تأكيد من غازي أن هشام العابر لم يكن إلا تركي الحمد .
وليس معنى أن كمال عبد الجواد هو نجيب محفوظ وأن هشام العابر هو تركي الحمد أن يكون كلاً منهما قد نقل ( جميع ) تفاصيل حياته بجميع أشخاصها إلى القراء دون نقص أو زيادة ، فهذا مالا يقوله عاقل ، بل المقصود أن كلاً منهما كان يحكي عن ماضيه ، وتفكيره ، وتطلعاته ، وآماله ، وآلامه ، وبعضاً ممن عاصروه في اختلاف توجهاتهم . ولكن تبقى الفكرة الرئيسية التي تدور حولها الثلاثية هي ما كانت تقلق بال مؤلفها في فترة مضت ، أولا زالت ! ، كالحيرة والاضطراب ، أو اعلاء شأن الماركسية ، هكذا .
4ـ أن كلاً من ( كمال عبد الجواد ) و ( هشام العابر ) ماركسي التوجه ، أو يميل إليها على أقل تقدير ـ .
5ـ أن كلاً منهما ـ برغم هذا الميل ـ متردد ، متحير ، مذبذب يقول رياض قلدس أحد أصدقاء كمال في الثلاثية عن كمال بأنه : ( الذي دار حول نفسه كثيراً حتى أصابه الدوار ) (2) .
ويقول هشام العابر عن نفسه بعد أن ذكر توجهات زملاء السجن : ( أما هشام فلم يعد يدري ما هو ) (3) .
__________
(1) ص ( 53 ) من الطبعة الثانية : وعند عودتنا لكلام تركي في ( محارب ) وجدناه يكيل له المديح ، فعلمنا سر هذه الاحالة !
(2) السكرية ( ص191) .
(3) الكراديب ( ص 180 ) .(59/198)
6 ـ تكثر الطعون في الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين في كلا الثلاثيتين ولعل للتوجه الماركسي لصاحبيها دور في ذلك ، حيث لا ترى الماركسية في الأديان والمقدسات إلا أفيوناً للشعوب يجب أن يهدم ، وإن لم نستطع الهدم فلا أقل من اللمز والسخرية وإسقاط هيبة الدين ومحتوياته ( أي الإسلام !) من نفوس الناس . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
... أما طعون الحمد فقد قرأناها سابقاً ، وأما طعون نجيب محفوظ ، إليك شيئاً منها بالأرقام ، لكي لا أطيل ولكي لا أتهم بالتجني عليه : ( بين القصرين : ص 122، 227) ( قصر الشوق : 90، 91، 119، 153، 216، 229، 236، 260، 294، 314، 428، 434 ) ( السكرية : 88 ،253 ، 260، 275، 280) .
7ـ تكثر في الثلاثيتين نغمة الاعتراض على القدر ، واتهام الحياة والموت والقدر بالعبث .
... أما في ثلاثية الحمد فقد علمنا ذلك سابقاً ، وأما في ثلاثية نجيب محفوظ ، فهذه بعض المواقف والعبارات تؤكذ هذا :
ـ اعتراض خديجة على زواج عائشة قبلها ، وتقول : ( إني أحافظ على الصلاة أما هي فلم تُطق المحافظة عليها ... ) (1) أي : لماذا تتزوج قبلي ؟
ـ اعتراض عائشة على وفاة زوجها وأبنائها . وقولها ـ مثلاً ـ : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ ) (2)
ـ قوله كمال عن نفسه : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر) (3) .
ـ قوله : ( هذا الموت عبث ) (4) .
8ـ تكثر في الثلاثيتين المواقف الجنسية بكافة أنواعها ! أما الحمد فقد علمنا شيئاً من مواقفه ( البطولية !! ).
... أما نجيب محفوظ فيكفينا من ثلاثيته شخصية أحمد عبد الجود ، والغواني ، وشخصية ياسين .
وهاهنا ملاحظة : وهي أن تركي الحمد اقتصر في مواقفه الجنسية على ( الزنا) وتوابعه ، أما نجيب محفوظ فقد تجاوز ذلك إلى ( اللواط ))!!
__________
(1) بين القصرين ( ص 230 ) .
(2) السكرية ( ص159).
(3) قصر الشوق ( ص369 ).
(4) قصر الشوق ( ص485).(59/199)
... كما في علاقة ( رضوان بن ياسين ) مع عبد الرحمن باشا عيسى (1) .
... وسبب ذلك ـ الله أعلم ـ أن محفوظاً تميز في ثلاثيته بالجرأة أكثر من الحمد ، الذي لا زال يحمل بقية من الحياة !
9ـ أن الملتزمين بالإسلام في الثلاثيتين :
... إما مخرف ساذج ، أو من الاخوان المسلمين ،ولا ثالث لها .
... فالدين عند محفوظ : إما أن يتمثل في شخصية ( متولي عبد الصمد ) الصوفي ، المخرف ، الوسخ ! ، صاحب البدع والشركيات ، أو في شخصية ( عبد المنعم ) الاخواني .
... والدين عن الحمد :
... إما أن يتمثل في شخصية خال هشام المتدين الساذج الذي يقول عنه ابنه :
... ( خالك لا يشك بوجود الخمر أصلاً في هذا البلد ، فكيف في بيته وابنه .. حتى لو رأي حمد مترنحاً فهو لن يشك بمثل هذه الأمور ) (2) .
... ويقول عنه هشام : ( ياله من رجل طيب تخدعه المظاهر ) (3) .
... ولم يجعله الحمد مخرفاً كمتولي عبدالصمد لأنه يعلم أن لامكان للخرافة في بلاد التوحيد ـ ولله الحمد ـ .
أو في شخصية ( لقمان ) الاخواني (4) .
فإن كان محفوظ معذوراً في تجسيد شخصية ( الإخواني ) التي كان يعج بها مجتمع مصر تلك الأيام ، فكانت آراؤهم مطروحة في الساحة المصرية ، ولم تكن خافية على أحد .
فالحمد لا يعذر في تجسيده لهذه الشخصية الغريبة على مجتمعنا ، إلا أن تكون ـ وهو ما أراه ـ تقليداً لمحفوظ ، كما تعودنا من الحمد !
قد تقول : ولكن الاخوان موجودون في السعودية ، وقد وفدوها بعد اضطهادهم في دولهم .
فأقول : نعم هم موجودون ، وقد يكون قلائل من السعوديين تأثروا بهم ، ولكن هذا لا يجيز للحمد أن يصور بلادنا بهذه الصورة الحزبية التي عرفتها مصر وغيرها من الدول العربية .
__________
(1) السكرية ( ص 66) .
(2) العدامة ( ص 99).
(3) الشميسي ( ص51 ).
(4) وزاد الحمد نوعية ثالثة للملتزمين وهي شخصية أصدقاء زميله عدنان ، حيث اللحى غير المسرحة والروس المحلوقة!!(59/200)
ثم يجعل (الاخوان ) هم الممثلون للتيار الإسلامي ! وكأننا في بلد علماني النزعة لايمثلنا فيه سوى الإخوان !!
فهل نسي الحمد أننا ـ بحمد الله ـ نعيش في دولة إسلامية سلفية منذ نشأتها (1) ، لم تعرف الأحزاب يوماً ما ؟ وهل من العقل أن يجعل أفراد قلائل مستخفون هم الممثلون للتيار الإسلامي ؟! وننسى الكثرة الغالبة من أهل البلاد الذين لا يعرفون سوى الإسلام ديناً لهم ، على تفاوت بينهم في الالتزام به .
أقول إن كان محفوظ معذوراً ، فالحمد لايعذر في هذا ، لأنه صغر المكبر وكبر المصغر .
وأنا لا أقول هذا بخساً لجهود جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والإسلامي ، فهي جماعة قد اجتهدت في الدعوة إلى الإسلام ، ولكن شاب جهودها شيء من الأخطاء ، منها :
1ـ أنها جماعة تعنى بالتجميع كيفما كان ، فتجد فيها البدعي والسني جنباً إلى جنب .
2ـ وهي جماعة لا تحرص على نشر عقيدة السلف الصالح بل تجد من أفرادها الكثير ممن يعتقد عقيدة الأشاعرة ، ويزعم انها عقيدة السلف !
3ـ وهي جماعة حرصت على الدولة أكثر من حرصها على التربية والدعوة .
4ـ وهي جماعة يقل فيها الالتزام بالسنن النبوية الظاهرة .
5ـ وهي جماعة لا تراجع نفسها ، بل ظلت مأسورة في شخصية ( حسن البنا ) ـ رحمه الله ـ الذي كانت شخصيته تطغى على غيره من الإخوان ، ولا زالت !
6ـ أخيراً : هي جماعة لا مبرر لقيامها في بلادنا ( السعودية ) لأننا ـ ولله الحمد ـ مسلمون قبل قيامها ، فالذي نحتاجه هو الجد في نشر الدعوة ، والالتزام الصادق بالإسلام (2) .
إذن : أخطأ الحمد خطأ فاحشاً عندما لم ير في الملتزمين بالإسلام سوى :
1ـ الرجل الساذج .
2ـ الاخواني .
3ـ المتشدد .
__________
(1) والكمال لله وحده ، وكل تقصير يزول بالتناصح .
(2) انظر لبيان هذا : ( الدعوة إلى الله في جزيرة العرب ) للشيخ الحصين و( حكم الانتماء ) للشيخ بكر أبو زيد .(59/201)
... وبقي صنف رابع لم يذكره ، أو لم يرد أن يذكره ! ، وهو الشاب المسلم الملتزم بدينه ، صاحب العقيدة السلفية ، والخلق الحسن في التعامل ، والمبرز في دراسته الشرعية أو العلمية ، قاصداً خدمة بلاده الإسلامية ورفعتها من هذا التخلف الذي تعيش فيه .
... فبالعقيدة السلفية نرفع التخلف ( الديني ) ـ بدع وشركيات ـ الذي يعج في أوطاننا ، ويفرق بيننا ويضيع كثيراً من طاقاتنا .
... وبالعلم الدنيوي النافع نرفع من شأن بلاد الإسلام ونجعلها تنافس الآخرين ، بل تفوقهم ، وما ذلك على الله بعزيز .
... كنت أود للحمد لكي يكون عادلاً أن يذكر هذا الصنف في ثلاثيته ، ولكن (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (1) .
10 ـ يبرز في الثلاثيتين جانب محاولة إفحام الدين ، أو التشكيك في بعض مسائله بأسلوب ماكر ، كما في تحير هشام في مسألة : كيف يموت الموت ؟
... أما نجيب محفوظ فقد صاغ تشكيكه وتحيره على هيئة سؤال وجهه كمال إلى مدرسه ، حيث يقول عن الجن ( وسألت الشيخ : هل يدخل المسلمون منهم الجنة ؟ فقال : نعم . فسألته مرة أخرى : كيف يدخلونها بأجسام من نار !؟ فأجابني بحدة قائلاً : أن الله قادر على كل شيء ) (2) ولا حظ قوله ( بحدة )! تفهم مقصده . مع أن جواب شيخه مقنع ، وهو أن الذي خلقهم ـ سبحانه ـ قادر على أن يجعل مسلميهم يدخلون الجنة ،إما بطبيعتهم أو بطبيعة أخرى ، كما أنه سبحانه قد أخبر عن النار بأن فيها شجرة الزقوم ، فهل يقول : كيف لا تحرقها النار ؟ فهل هذا إلا سؤال متعنت، يحاكم ربه بعقله القاصر . كما كان مشركو الجاهلية يفعلون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 148 .
(2) بين القصرين ( ص64 ) .(59/202)
... ولهذا جعل الله ـ سبحانه ـ الإيمان بالغيب أحد الصفات الرئيسية للمؤمنين فقال : (الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (1) .
... لأنه سبحانه يعلم أن مسائل الغيب قد لايستوعبها عقل الإنسان في الدنيا ، فلهذا جعل الفارق بين المؤمنين والمذبذبين المرتابين هو الإيمان بالغيب ، ولهذا فعلى المسلم إذا ثبت الدليل من القرآن أوالسنة الصحيحة بأمر من أمور الغيب أن يؤمن ويسلم دون اعتراض أوتشكيك كما فعل ( تركي ) أو ( نجيب ) !
11ـ يكثر الحلف بغير الله في الروايتين ، أما في ثلاثية تركي فقد مضي التدليل عليه . وأما ثلاثية محفوظ فإليك المثال :
ـ ( ورسول الله ) ( بين القصرين ص 253 ) .
ـ ( ورأس أمي ) ( بين قصرين ص 257 ) .
ـ ( حلفتك بالحسين ) ( بين القصرين ص257 ) .
ـ ( وحياة أمك ) (بين قصرين ص 268 ) .
ـ ( وحياتك ) ( بين القصرين ص 435 ) .
ـ ( والنبي ) ( بين القصرين ص 439 ) .
... أخيراً : ما سبق هو أبرز المتشابهات في ثلاثيتي ( محفوظ والحمد ) وهي تبين أن الحمد قد بنى ثلاثيته على أعمدة سابقة كان قد أقامها نجيب محفوظ ، فلم يكن له في ثلاثيته سوى صياغتها لتناسب طبيعة وظروف الشاب السعودي بدلاً من المصري .
... وإلا فإنهما قد اجتمعا على :
ـ الماركسية .
ـ والاجتراء على الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين .
ـ والاعتراض على القدر ، وتصويره في صورة العدو المتربص أو العابث .
ـ والنظر إلى الحياة والموت بنظرة عباثة .
ـ والإغراق في الجنس .
ـ والشك والحيرة والاضطراب .
... فكلاهما ـ ثلاثية محفوظ والحمد ـ مجرد رواية ( هدم ) لا ( بناء ) و (تشكيك ) لا ( يقين ) ، فمن قرأها ثم فرغ منها لم يحصل سوى الحيرة التي لا تقود إلى ثبات واطمئنان .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 1-3.(59/203)
... ثم يكتشف أن راويها لم يقدم له أي بديل لما قد تم هدمه في هذه الثلاثية . فهي شبيهة بأدب الحداثيين الذين حملوا معاولهم لهدم الإسلام والمعاني السامية دون أن يقدموا لها بديلاً سوى الحيرة والشكوك والبؤس والشقاء ، زاعمين أنهم سوف يقدمون لبني قومهم كل جميل ، كل مبهج ،ولكن بعد أن يفرغوا من هدمهم !
... قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (1) ، وقال سبحانه : (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (2) .
... وقد أصلح الله بلادنا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ التي ناصرها آل سعود ، فلا مستقر فيها لكل مفسد هادم مهما غلَّف هدمه ذاك بشعارات ( التطور) و( التحضر ) و( التقدم ) ... الخ زخارف الشيطان :
... وليتق الله ربه وليتب من ( هدمه ) ، وليشارك إخوانه في ( البناء ) فإن خير الخطآئين التوابون .
... (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (3) .
... وإنه مما يستغرب بعد هذا أن يأتي كاتب ( مسلم ) كالأستاذ فهد السلمان ـ وفقه الله للخير ـ فيثني على هذه الثلاثية على صفحات جريدة الرياض (4) ويعدها من " أعمالنا الإبداعية المحلية " ويقول " وجدتها في صف الإبداع الحقيقي " ! ويصف صاحبها بأنه " المفكر والروائي والمبدع ... " (5) !!
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 11.
(2) سورة الأعراف ، الآية : 56 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 119 .
(4) بتاريخ 29/ 2 1418هـ ؛ مقالة بعنوان " العدامة ولصوص الامتطاء "
(5) ولا عذر له بأن يقول هذه رواية فنية يحق للمرء أن يقول فيها ما يريد! ولو كان كفراً ! فهذا عذر أقبح من ذنب ؛ لأن المسلم مسؤل عن قوله وما تخطه يمينه ، ولم يرد العفو من الله إلا في حديث النفس وينتهي الإنسان عنه .(59/204)
... ألا يخشى السلمان ربه وهو يثني هذا الثناء على رواية قد ملئت أسطرها بعبارات ( الكفر ) و ( الردة ) و ( السخرية بالإسلام وأهله )!؟ فهل هذا إلا رضى بالكفر وأهله ، والعياذ بالله . والله يقول : (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) (1) .
خاتمة موجزة
... بعد هذه الجولة العجلى في أبرز مؤلفات تركي الحمد وفي ثلاثيته يتبين لنا :
1 ـ أن الحمد يدعو إلى " الشك " و " الريبة " في كل شيء ، ولو كان نصاً من الكتاب أو النسة الصحيحة (2) ، وهو لم يبين لقرائه ما هو الميزان الذي سيحتكم إليه بعد أن " يشك " و " يرتاب " ليقضي لنا بصحة القضية المطروحة أو بطلانها ، هل هو " عقله " ام " عقلي " أم " عقل فلان من البشر " أم ماذا ؟ كما سبق .
2ـ أنه عندما " شك " و " ارتاب " ودعا المسلمين إلى هذا ، لم يقدم لهم أي بديل واقعي ( واضح ) يأخذون به بعد أن يهدموا ( كل شيء حولهم ) بالشك والريب . ففكر الحمد ( هدمي ) ليس ( بنائياً ) ـ كما سبق ـ لأنه يهدم ويهدم ويهدم تحت دعوى ( الشك ) و( الارتياب ) الذي يدعو إليه ، دون أن نجد عنده ما يبنى أو يشيد لنفع أمته (3) .
3ـ أن الحمد يتظاهر في كتبه ( بالعقلانية ) التي تخفي وراءها نفساً طافحة بالشهوات الحقيرة ـ كما رأينا ذلك في ثلاثيته التي تعبر عن شخصه (4) ـ
__________
(1) سورة النساء ، الاية : 109 .
(2) وهو لا يستطيع التصريح بهذا ( بحرفية ) كما قد يتوهم حسنو النية ، فكتاباته الماضية خير شاهد لهذا عند عقلاء الناس .
(3) بل لنفع نفسه التي أشرفت على الرحيل
(4) وهكذا غيره ممن يدعون ( المثالية ) و ( الفلسفة ) فإذا نكشف الغطاء عن حياتهم الشخصية رأيت أنفسا حيوانية تجري وراء شهواتها التي تحاول نيلها من وراء ( الفكر ) و ( العقلنة ) .(59/205)
4 ـ أن شخصية الحمد ـ كما يظهر من مؤلفاته وثلاثيته ـ شخصية قلقة مضطربة لا تريد أن تركن إلى شيء يسندها في هذه الحياة ، وهي شخصية (شاكة) (مرتابه) تحقد على كل من لم يكن مثلها في شكها وحيرتها وارتيابها ، كما قد رأينا في حقده وحمله الظغينة على رسل الله ـ عليهم السلام ـ وعباده الصالحين ، وبلاد التوحيد (السعودية) . . . الخ .
5 ـ أن الحمد يدعو إلى عدم ثبات الحق ، فما كان بالأمس حقاً قد يصبح اليوم باطلاً، وما يحمله فلان من الحق قد ينقلب باطلاً في حق فلان . . . في دائرة لا تنتهي ، تهرباً من قيام الحجة عليه ، أو توهمه أنه بهذه الدعوى يُفهم أهل الحق .
6 ـ أن الحمد يدعو إلى مساواة ( الإسلام ) بغير من الأديان والثقافات الأخرى ، بل هو يُفضلها عليه ـ والعياذ بالله ـ وهذا من أعظم ( الكفر ) الذي يُستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه (1) .
7 ـ أنه من دعاة ( تحرير ) (2) المرأة في بلادنا ، وذلك بدعوته إلى سفرها ، واختلاطها بالرجال في الدراسة والعمل ، وقيادتها للسيارة وما يترتب عليه من مفاسد لا تخفى إلا على من أتبع هواه . . . الخ جزئيات هذه الدعوة التي تجرعت مرارتها المجتمعات الإسلامية الأخرى ، فنبتت عندنا نابتة ـ من ضمنهم الحمد ـ يرددون في بلادنا ما ردده شياطين هذه الفكرة الغربية في البلاد الأخرى في مقالات وكلمات متكررة بين الحين والآخر من دعاة وداعيات ( الشهوة ) و( نبذ حكم الإسلام ) .
... فنسأل الله أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها ، كما قد قضى على غيرها ، وأن يسلط ولاة أمر هذه البلاد لا جتثاث عروق الفساد من وسائل إعلامنا لكي لا تتجذر هذه الدعوة المفسدة في بلاد التوحيد .
__________
(1) كما نص على ذلك علماء الإسلام فيمن لم يكفر الكافر أو شك في كفره أو فضل دينه على دين الإسلام انظر : مجلة البحوث .
(2) بل تدمير المرأة ، وقد صرَّح بذلك ـ على حذر ـ في مقابلته مع قناة ( اقرأ ) .(59/206)
8 ـ أنه عدو لدود للحكم السعودي الذي قام على تحكيم شرع الله ، والدفاع عنه ضد أعدائه من أصحاب التيارات ( الكافرة ) من ديمقراطيين وشيوعيين ومنحلين . وقد سبق نقل ما يُكنه صدره ضد ولاة أمرنا .
9 ـ أنه يسرق جُلَّ أفكاره من كتابات وجهود الآخرين عرباً كانوا أم عجماً . كما في ثلاثيته بناها على ثلاثية نجيب محفوظ ، وكما في ( عقلانيته ) التي اكتسب أفكارها من الجابري والعروي .
10ـ أنه بعد هذا البيان عن الفكر ( الهدمي ) للدين والدولة من هذا الرجل ؛ فإنه لا يجوز شرعاً لوسائل إعلامنا أن تحتفي به ، أو أن تُسهل له مهمة بث هذا الهدم بين المسلمين ، عبر مقالات أو برامج مسموعة أو مرئية ؛ لأن الشريعة قد جاءت بالحجر على السفهاء فكيف بمن يكيدون لدين الله وللفضائل ولهذه الدولة المسلمة !؟
... ختاماً : أسأل الله أن يحمي بلادنا من شرور الحاسدين والحاقدين الذين لا يرتضون لها أن ترفع راية لا إلة إلا الله محمد رسول الله في هذا الزمان ، والذين يتربصون بها الدوائر ممن ارتضوا ما في زبالات الغرب بديلاً للهدى والنور الذي جاءهم به خير الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأسأله تعالى أن يُعجل بكبتهم وتشريدهم وتمزيقهم كلَّ ممزق ، وأن يوفق ولاة أمرنا للقضاء عليهم كما هو دأب حكام المسلمين على مرّ الأزمان (1) ، فإن الله قال في هذه الشرذمة من رجال ونساء (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (2) .
__________
(1) اقرأ إن شئت سيرة من رفع الله ذكرهم من حكام المسلمين ؛ كهارون الرشيد أو المعتصم أو المتوكل أو محمود بن سبكتكين أو يوسف بن تاشفين وابنه أو المهدي العباسي الذي جعل رجلاً مسؤلاً عن أمر الزنادقة يتتبعهم ويقوم بتنفيذ حكم الله فيهم ، تعظيماً لشرع الله ، وحفاظاً على وحدة المسلمين و((أمنهم الفكري )) . . . لتعلم كيف كانت سيرة ولاة الأمور مع ( الزنادقة ) و ( مبغضي ) شرع الله .
(2) سورة المنافقون ، الآية : 4 .(59/207)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(59/208)
مختصر مهذب من رسالة (الأجوبة الفاخرة) للقرافي فيه الرد على شبهات النصارى في عدم كفرهم
جاء المسيح عن الإله رسولا
فأبى أقل العالمين عقولا
ضل النصارى في المسيح وأقسموا
لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا
جعلوا الثلاثة واحدا ولو اهتدوا
لم يجعلوا العدد الكثير قليلا
(منظومة البوصري في الرد على النصارى ص7-8)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد.... فإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وتبارك اسمه ، وتعالى جده، ولا إله غيره ، جعل الإسلام عصمة لمن لجأ إليه ، وجنًة لمن استمسك به ، وعض بالنواجذ عليه ، فهو حرمه الذي من دخله كان من الهالكين ، وأبى أن يقبل من أحد دينا سواه ، ولو بذل في المسير إليه جهده ، واستفرغ فواه ،فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها ، وسار مسير الشمس في الأقطار ، وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار .
وكبت الله من يبغضه ويعاديه ، ووسمهم بأنهم شر الدواب ، وحكم لهم بأنهم أضل سبيلا من الأنعام ، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد ، والضلال بالهدى ، والكفر بالإسلام ، وحكم عليهم بقوله تعالى { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا }
لقد رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد رسول ، ورضي النصراني المخذول بالصليب والوثن إلها ، وبالتثليث والكفر دينا ، وبسبيل الضلال والغضب سبيلا .
فهؤلاء النصارى الضلال هم عباد الصليب الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .(60/1)
فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتهم {إن الله ثالث ثلاثة }وأن مريم صاحبته ، والمسيح ابنه و
أنه –تعالى عما يقولون – نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة ، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن !!
فدين هذه الأمة عبادة الصلبان ، ودعاء الصور المنقوشة في الحيطان ، يقولون في دعائهم :"يا والدة الإله ارزقينا ، واغفري لنا وارحمينا "!!
فدينهم شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، و ترك الختان ، والتعبد بالنجاسات ، واستباحة كل خبيث ، فالحلال عندهم ما حلله القس ، والحرام ما حرمه ، وينجيهم من عذاب السعير .
وقد حكم الله عليهم بالكفر البواح الذي لا يستريب فيه عاقل ، ولم يشك فيه من في قلبه ذرة من إيمان.
فالأدلة على كفرهم كثيرة ، ليس هذا موضعها .
ولكن هؤلاء الضلال من النصارى يلبسون بين حين وآخر على المسلمين بأنهم موحدون ، وأنهم مؤمنون بالله تعالى ، ويزداد تلبيسهم وتعظم شبهاتهم إذا انتزعوا من القرآن آيات يظنونها بجهلهم تزكيهم ، أو تشهد بصحة دينهم.
وليس العجب من صنيع النصارى ، فليس بعد الكفر ذنب ، وإنما العجب من انقياد شرذمة من كتاب وكاتبات يدعون الإسلام ، ثم ينساقون وراء ادعاءات النصارى.
فهذا أحدهم ينشر مقالا في جريدة (الشرق الأوسط) يدعي فيها أن اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين والملحدين من أهل الجنة !!
ويستغرب أن تدخل هذه الجموع والمليارات من الأمم النار ! ونسي هذا الجاهل قوله تعالى :{لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
وهذه إحداهن تكتب في جريدة الرياض وتقول:(نحن نؤمن بعيسى وموسى وغيرهما ، ونؤمن بأحقية –وجود أهل الكتاب ، ويفترض ألا نسبهم ولانطلق عليهم صفة الكفر ، ولكن هناك من يحول الدين إلى صفة عصبية يعلن عنها عنفا وغضبا )!!
ولاحظ –أخي القارىء –قولها (نؤمن) و(يفترض) ، فمسألة إيمانهم لا تقبل الجدال عندها !
فقد منحتهم هذه الكاتبة المستهترة صفة الإيمان ودخول الجنان ، وألقت بآيات الله المكفرة لهم وراء(60/2)
ظهرها –نعوذ بالله من الكفر بعد الإيمان ، ومن الضلال بعد الهدى.
وهذه كاتبه أخرى قد شب عودها في الحداثة !!
تكتب بعد موت (ديانا) مقالا في جريدة اليوم بعنوان (ديانا الكافرة !!)لتخبرنا فيه بأن الحزن لم يزل (يعاودها) بين الحين والآخر كلما تذكرت موت ديانا !!
وتسخر فيه من إحدى المؤمنات اللواتي نصحنها بعدم جواز البكاء والحزن على موت كافرة داعرة.
هذه –أخي المسلم – نماذج للحال التي وصل إليها كتابنا وكاتباتنا ممن يسمون أنفسهم (بالمثقفين والمثقفات والمبدعين والمبدعات ).
فإذا انكشف الحال وجدت أن إبداعهم يكمن في التمرد على الشريعة بأسلوب صريح أو مبطن ، وفي موادة أعداء الله من النصارى ومحبتهم من دون المؤمنين ونسوا قوله تعالى:{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله}..وقوله :{*يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ببعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين}.
فنعوذ بالله من (ثقافة) و (إبداع) تكون خاتمته الردة والإنسلاخ من دين الله تحت دعاوى (الحداثة)و(الفكر الحر)...وغيرها من زخارف الشيطان .
نسأل الله الهداية للجميع وأن يسخروا أقلامهم في نصرة دين الله ، ليكونوا من المفلحين في الدنيا والآخرة .
ختاما:سيأتيك في الأوراق القادمة فصل جميل من فصول رسالة (الأجوبة الفاخرة) للإمام القرافي –رحمه الله- رد فيه على شبهات النصارى في عصره وادعائهم الإيمان وأن القرآن قد أثنى على دينهم وحكم لهم بالنجاة يوم القيامة .
وهي شبهات لم يزل النصارى يرددونها في كل زمان ويلتقطها منهم مرضى القلوب من المسلمين ليروجوها بين أبناء الأمة تحت مسمى (التسامح) و(الحرية الفكرية)و(السلام).
وقد أحببت أن أنشرها رجاء انتفاع المسلمين بها لا سيما وقد صادفت وقتا مناسبا تكاثر فيه المدافعون عن دين النصارى لتكون خير راد عليهم وخير مجل للحقيقة أمام عامة المسلمين.(60/3)
وستأتيك هذه الشبهات متتالية ، كل شبهة تعقبها الإجابة عنها:-
1- فمنها:أنهم قالوا :إن محمدا –صلى الله عليه وسلم- لم يبعث إلينا ، فلا يجب علينا اتباعه ، وإنما قلنا : إنه لم يرسل إلينا لقوله تعالى في الكتاب العزيز:{إنا أنزلنه قرءانا عربيا }. ولقوله تعالى :{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }. ولقوله تعالى :{بعث في الأميًن رسولا منهم }. ولقوله تعالى :{لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون }. ولقوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }. ولا يلزمنا إلا من جاءنا بلساننا ، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغاتنا .
فالجواب من وجوه :
أحدها: أن الحكمة في أن الله تعالى إنما يبعث رسله بألسنة قومهم ، ليكون ذلك أبلغ في الفهم عنه ومنه ، وهو أيضا يكون أقرب لفهمه عنهم جميع مقاصدهم في الموافقة والمخالفة وإزاحة الأعذار والعلل ، والأجوبة عن الشبهات المعارضة ، وإيضاح البراهين القاطعة ، فإن مقصود الرسالة في أول وهلة إنما هو البيان والإرشاد وهو مع اتحاد اللغة أقرب ، فإذا تقررت نبوة النبي في قومه قامت الحجة على غيرهم ، إذا سلموا ووافقوا ، فغيرهم أولى أن يسلم ويوافق ، فهذه هي الحكمة في إرسال الرسول بلسان قومه ، ومن قومه .
وفرق : بين قول الله تعالى :{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } وبين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم ، لا الأول . بل لا فرق بين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }.وبين قوله:{وما أرسلنا من رسول إلا مكلفا بهداية قومه}فكما أن الثاني لا إشعار له بأنه لم يكلف بهداية غيرهم ، فكذلك الأول ، فمن لم يكن له معرفة بدلالة الألفاظ ، ومواقع المخاطبات سوى بين المختلفات ، وفرق بين المؤتلفات.(60/4)
وثانيها:أن التوراة نزلت باللسان العبراني والإنجيل بالرومي ، فلو صح ما قالوه لكانت النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة ، فإن جميع فرقهم لا يعلمون هذا اللسان إلا كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم ، وأن تكون القبط كلهم والحبشة مخطئين في اتباعهم التوراة والإنجيل ، لأن الفريقين غير العبراني والرومي ، ولو لم ينقل هذان الكتابان بلسان القبط ، وترجما بالعربي لم يفهم قبطي ، ولا حبشي ، ولا رومي شيئا من التوراة ، ولا قبطي ولا حبشي شيئا من الإنجيل إلا أن يتعلموا ذلك اللسان ، كما يتعلمون العربي .(60/5)
وثالثها:أنه إذا سلم أنه عليه السلام رسول لقومه ، ورسل الله تعالى خاصة خلقه وخيرة عباده معصومون عن الزلل ، مبرؤون من الخطل ، وهو عليه السلام قد قاتل اليهود ، وبعث إلى الروم ينذرهم وكتابه عليه السلام محفوظ عندهم إلى اليوم في بلاد الروم عند ملكهم يفتخرون به ، وكتب إلى المقوقس بمصر لإنذار القبط ولكسري بفارس ، وهو الصادق البر ، كما سلم أنه رسول لقومه ، فيكون رسولا للجميع ، ولأن في جملة ما نزل عليه –صلى الله عليه وسلم- {وما أرسلنك إلا كافة للناس }.فصرح بالتعميم ، واندفعت شبهة من يدعي التخصيص ، فإن كانت النصارى لا يعتقدون أصل الرسالة ، لا لقومه ، ولا لغيره ، فيقولون : أوضحوا لنا صدق دعواكم ، ولا يقولون كتابكم يقتضي تخصص الرسالة ، وإن كانوا يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة لزمهم التعميم لما تقدم ، وكذلك قوله تعالى {بعث في الأميٍين رسولا منهم } لا يقتضي أنه لم يبعثه لغيرهم ، فإن الملك العظيم إذا قال : بعثت إلى مصر رسولا من أهلها لا يدل ذلك على أنه ليس على يده رسالة أخرى لغيرهم ، ولا أنه لا يأمر قوما آخرين بغير تلك الرسالة ، وكذلك قوله تعالى :{لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم }ليس فيه أنه لا ينذر غيرهم ، بل لما كان الذي يتلقى الوحي أولا هم العرب كان التنبيه عليه بالمنة عليهم بالهداية أولى من غيرهم ، وإذا قال السيد لعبده : بعثتك لتشتري ثوبا ، لا ينافي أنه أمره بشراء الطعام ، بل تخصيص الثوب بالذكر لمعنى اقتضاه ، ويسكت عن الطعام ، لأن المقصد الآن لا يتعلق به ، وما زالت العقلاء في مخاطباتهم يتكلمون فيما يوجد سببه ، ويسكتون عما لم يتعين سببه.(60/6)
وإن كان المذكور والمسكوت عنه حقين واقعين ، فكذلك الرسالة عامة ، ولما كان أيضا المقصود تنبيه بني إسرائيل ، وإرشادهم خصوا بالذكر ، وخصصت كل فرقة من اليهود والنصارى بالذكر ، ولم يذكر معها غيرها في القرآن في تلك الآيات المتعلقة بهم ، وهذا هو شأن الخطاب أبدا ، فلا يغتر جاهل بأن ذكر زيد بالحكم يقتضي نفيه عن عمرو ، وكذلك قوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }ليس فيه دليل على أنه لا ينذر غيرهم ، كما أنه إذا قال القائل لغيره : أدب ولدك ، لا يدل على أنه أراد أنه لا يؤدب غلامه ، بل ذلك يدل على أنه مراد
المتكلم في هذا المقام تأديب الولد ،لأن المقصود مختص به ، ولعله إذا فرغ من الوصية على الولد يقول له : وغلامك أيضا أدبه ؛ وإنما بدأت بالولد لاهتمامي به ، ولا يقول عاقل : إن كلامه الثاني مناقض للأول ، وكذلك قرابته عليه السلام هم أولى الناس ببره عليه السلام وإحسانه ، وإنقاذهم من المهلكات ، فخصهم بالذكر لذلك ، لا أن غيرهم غير مراد كما ذكرنا في صورة الولد والعبد .
وبالجملة فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ، ونحن أعلم بها ، وإذا كان عليه السلام هو المتكلم بها ولم يفهم
تخصيص الرسالة ، ولا إرادته ، بل أنذر الروم والفرس وسائر الأمم ، والعرب لم تفهم ذلك وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ، ولا فهموه ، ولو فهموه لأقاموا به الحجة عليه ، ونحن أيضا لم نفهم ذلك .
2-ومنها أنهم قالوا: أن القرآن الكريم ورد بتعظيم عيسى عليه السلام ، وبتعظيم أمه مريم رضي الله عنها ، وهذا هو رأينا واعتقادنا فيها ، فالدينان واحد ، فلا ينكر المسلمون علينا .(60/7)
والجواب من وجوه أحدها: تعظيمهما لا نزاع فيه ، ولم يكفر النصارى بالتعظيم ، إنما كفروا بنسبة أمور أخرى إليها لا يليق بجلال الربوبية ، ولا بدناءة البشرية من الأبوة والبنوة والحلول ، والإلحاد ، واتخاذ الصاحبة والأولاد تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ، فهذه مغالطة في قوله (موافق لاعتقادنا) ، ليس هذا هو الاعتقاد المتنازع فيه ، نعم لو ورد القرآن الكريم بهذه الأمور الفاسدة المتقدم ذكرها وحاشاه كان موافقا لاعتقادهم ، فأين أحد البابين من الآخر ؟؟
وثانيها أنه اعترف بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق ، فإن الباطل لا يؤكد الحق ، بل المؤكد للحق حق جزما ، فيكون القرآن الكريم حقا قطعا ، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى ، وهو أنهم اختبروا ما جاء به عليه السلام ، فوجدوه موافقا لما كانوا يعتقدونه من الحق ، فجزموا بأنه حق وأسلموا واتبعوه ، وما زال العقلاء على ذلك يعتبرون كلام المتكلم ، فإن وجدوه على وفق ما يعتقدونه من الحق اتبعوه ، وإلا رفضوه .
وثالثها أن هذا برهان قاطع على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان ، فإن مشتعل على تعظيم جملة الرسل وجميع الكتب المنزلة ، فالمسلم على أمان من جميع الأنبياء عليهم السلام على كل تقدير ، أما النصراني فليس على أمان من تكذيب محمد –صلى الله عليه وسلم- ، فتعين رجحان الإسلام على غيره ، ولو سلمنا تحرير صحة ما يقوله النصراني من النبوة وغيرها يكون المسلم قد اعترف لعيسى عليه السلام ، ولأمه رضي الله عنها بالفضل العظيم والشرف المنيف ، وجهل بعض أحوالهما ، على(60/8)
تقدير تسليم صحة ما ادعاه النصارى والجهل ببعض فضائل من وجب تعظيمه لا يوجب ذلك خطرا ، أما النصراني ، فهو منكر لأصل تعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم- ، بل ينسبه للكذب والرذائل والجراءة على سفك الدماء بغير إذن من الله ، ولا خفاء في أن هذا خطر عظيم ، وكفر كبير ، فيظهر من هذا القطع بنجاة المسلم قطعا ويتعين غيره للغرر والخطر قطعا ، فليبادر كل عاقل حينئذ الإسلام ، فيدخل الجنة بسلام .
3-ومنها أنهم قالوا: إن القرآن الكريم ورد بأن عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته ، وهو اعتقادنا .
والجواب من وجوه أحدها: أن من المحال أن يكون المراد الروح والكلمة على ما تدعيه النصارى ، وكيف يليق بأدنى العقلاء أن يصف عيسى عليه السلام بصفة ، وينادي بها على رؤوس الأشهاد ، ويطبق بها الآفاق ، ثم يكفر من اعتقد تلك الصفة في عيسى عليه السلام ، ويأمر بقتالهم وقتلهم وسفك
دمائهم وسبي ذراريهم ، وسلب أموالهم ، بل هو بالكفر أولى لأنه يعتقد ذلك مضافا إلى تكفير غيره ،
والسعي في وجوه ضرره ، وقد اتفقت الملل كلها مؤمنها وكافرها على أنه عليه السلام من أكمل الناس في الصفات البشرية خَلقا وخُلقا وعقلا ورأيا ، فإنها أمور محسومة ، إنما النزاع في الرسالة الربانية ، فكيف يليق به عليه السلام أن يأتي بكلام هذا معناه ، ثم يقاتل معتقده ويكفره ، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم والفضلاء من الخلفاء من بعده ، وهذا برهان قاطع على أن المراد على غير ما فهمه النصارى.
ثانيها: أن الروح اسم الريح الذي بين الخافقين يقال لها : ريح وروح لغتان ، وكذلك في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام وهو المسمى بروح القدس ، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ، والكلمة اسم للفظة المفيدة من الأصوات .(60/9)
وتطلق الكلمة على الحروف الدالة على اللفظة من الأصوات ، ولهذا يقال : هذه الكلمة خط حسن ومكتوبة بالحبر ، وإذا كانت الروح والكلمة لهما معان عديدة فعلى أيهما يحمل هذا اللفظ ؟ وحمل النصراني اللفظ على معتقده تحكم بمجرد الهوى المحض .
وثالثهما :وهو الجواب بحسب الاعتقاد لا بحسب الإلزام ، أن معنى الروح المذكور في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم لبدن الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه ، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح كل حيوان هي روح الله تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة ، كقول أحد حاملي الخشبة لآخر : شل طرفك يريد طرف الخشبة ، فجعله طرفا ، للحامل ،
ويقول : طلع كوكب زيد إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل ، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقط ، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله تعالى ، وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها ؟ وكذلك
يقول بعض الفضلاء لما سئل عن هذه الآية فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحا من أرواحه ، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخصيص عيسى عليه السلام ، وعلو منزلته بذكر الإضافة إليه ، يقال : كما قال تعالى :{وما أنزلنا على عبدنا}. .{إن عبادى ليس لك عليهم سلطن}
مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصص ، وأما الكلمة فمعناها أن الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : كن فيكون ، فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة كن ، فلما أوجد الله تعالى عيسى عليه السلام قال له : كن في بطن أمك فكان ، وتخصيصه بذلك للشرف كما تقدم ، فهذا معنى معقول متصور ليس فيه شئ كما يعتقده النصارى من أن صفة من صفات الله حلت في ناسوت المسيح(60/10)
عليه السلام ، وكيف يمكن في العقل أن تفارق الصفة الموصوف ، بل لو قيل لأحدنا : إن علمك أو حياتك انتقلت لزيد لأنكر ذلك كل عاقل ، بل الذي يمكن أن يوجد في الغير مثل الصفة ، وأما أنها هي في نفسها تتحرك من محل إلى محل فمحال لأن الحركات من صفات الأجسام ، والصفة ليست جسما ، فإن كانت النصارى تعتقد أن الأجسام صفات ، والصفات أجسام ، وأن أحكام المختلفات وإن تباينت شئ واحد سقطت مكالمتهم ، وذلك هو الظن بهم ؛ بل يقطع بأنهم أبعد من ذلك عن موارد العقل ومدارك النظر ، وبالجملة فهذه كلمات عربية في كتاب عربي ، فمن كان يعرف لسان العرب حق
معرفته في إضافة وتعريفاته وتخصيصاته ، وتعميماته ، وإطلاقاته وتقييداته ، وسائر أنواع استعمالاته فليتحدث فيه ويستدل له ، ومن ليس كذلك فليقلد أهله العلماء به ، ويترك الخوض فيما لا يعنيه ولا يعرفه .
4- ومنها : أنهم قالوا في الكتاب العزيز إنه : {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة}.
والجواب: أن الذين اتبعوه ليسوا النصارى الذين اعتقدوا أنه ابن الله ، وسلكوا مسلك هؤلاء الجهلة ، فإن اتباع الإنسان موافقته فيما جاء به وكون هؤلاء المتأخرين اتبعوه محل النزاع ، بل متبعوه هم الحواريون ، ومن تابعهم قبل ظهور القول بالتثليث ، أولئك هم الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة ، ونحن إنما نطالب هؤلاء بالرجوع إلى ما كان أولئك عليه فإنهم قدس الله أرواحهم آمنوا بعيسى وبجملة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، وكان عيسى عليه السلام بشرهم بمحمد –صلى الله عليه وسلم- ، فكانوا ينتظرون ظهوره ليؤمنوا به عليه السلام ، وكذلك لما ظهر عليه السلام جاءه أربعون راهبا من(60/11)
نجران فتأملوه فوجدوه فهو الموعود به في ساعة واحدة بمجرد النظر والتأمل لعلاماته ، فهؤلاء هم الذين اتبعوه وفهم المرفوعون المعظمون ، وأما هؤلاء النصارى فهم الذين كفروا به مع من كفر ، وجعلوه سببا لانتهاك حرمة الربوبية بنسبة واجب الوجود المقدس عن صفات البشر إلى الصاحبة والولد الذي ينفر منها أقل رهبانهم ، حتى أنه قد ورد أن الله تعالى إذا فال لعيسى عليه السلام يوم القيامة :{ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمي إلهين من دون الله }. يسكت أربعين سنة خجلا من الله تعالى حيث جعل سببا للكفر به ، وانتهاك حرمة جلالة ، فخواص الله تعالى يألمون ويخجلون من اطلاعهم على انتهاك الحرمة ،
وإن لم يكن لهم فيها مدخل ولا لهم فيها تعلق ، فكيف إذا كان لهم فيها تعلق من حيث الجملة ، ومن عاشر أمائل الناس ورؤسائهم ، وله عقل قويم وطبع النصارى أدرك هذا ، فما آذى أحد عيسى عليه السلام ما آذته هؤلاء النصارى ، ونسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه .
5- ومنها:أنهم قالوا : إن القرآن الكريم شهد بتقديم بيع النصارى وكنائسهم على مساجد المسلمين بقوله تعالى : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}فقد جعل الصوامع والبيع مقدمات على المساجد ، وجعل فيها ذكر الله كثيرا ، وذلك يدل على أن النصارى –في زعمهم- على الحق ، فلا ينبغي لهم العدول عما هم عليه ، لأن العدول عن الحق إنما يكون للباطل .
والجواب : من وجوه:(60/12)
أحدها: أن المراد بهذه الآية أن الله تعالى يدفع المكاره عن الأشرار بوجود الأخيار ، فيكون وجود الأخيار سببا لسلامة الأشرار من الفتن والمحن ، فزمان موسى عليه السلام يسلم فيه أهل الأرض من بلاء يعمهم بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة الموسوية ، وزمان عيسى عليه السلام يسلم فيه أهل الاستقامة على الشريعة العيسوية ، وزمان محمد –صلى الله عليه وسلم- يسلم فيه أهل الأرض بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة المحمدية ، وكذلك سائر الأزمان الكائنة بعد الأنبياء عليهم السلام ، كل من كان مستقيما على الشريعة الماضية هو سبب لسلامة البقية ، فلولا أهل الاستقامة في زمن موسى عليه السلام لم يبق صوامع يعبد الله تعالى فيها على الدين الصحيح لعموم الهلاك ، فينقطع الخير بالكلية ، وكذلك في سائر الأزمان ، فلولا أهل الخير في زماننا لم يبق مسجد يعبد الله فيه على الدين الصحيح ، ولغضب الله تعالى على أهل الأرض .
والصوامع أمكنة الرهبان في زمن الاستقامة حيث يعبد الله تعالى فيها على دين صحيح ، وكذلك البيعة والصلاة والمسجد ، وليس المراد هذه المواطن إذا كفر بالله تعالى فيها وبدلت شرائعه ، وكانت محل العصيان والطغيان لا محل التوحيد والإيمان ، وهذه المواطن في أزمنة الاستقامة لا نزاع فيها ، وإنما النزاع لما تغيرت أحوالها ، وذهب التوحيد وجاء التثليث وكذبت الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وصار ذلك يتلى في الصباح والمساء ، حينئذ هي أقبح بقعة على وجه الأرض وألعن مكان يوجد ، فلا تجعل هذه الآية دليلا على تفضيلها .(60/13)
وثانيها:أن الله تعالى قال : (صوامع وبيع وصلوات) بالتنكير ، والجميع المنكر لا يدل عند العرب على أكثر من ثلاثة من ذلك المجموع بالاتفاق ، ونحن نقول : إنه قد وقع في الدنيا ثلاث من البيع ، وثلاث من الصوامع كانت أفضل مواضع العبادات بالنسبة إلى ثلاثة مساجد ، وذلك أن البيع التي كان عيسى عليه السلام وخواصه من الحواريين يعبدون الله تعالى فيها هي أفضل من جميع المساجد ، ثلاثة أو أربعة لم يصل فيها إلا السفلة من المسلمين ، وهذا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في البيع والصوامع على العموم واللفظ لا يقتضيه ، لأنه جمع منكر ، وإنما يقتضيه أن لو كان معرفا كقولنا : (البيع) باللام .
وثالثها:أن هذه الآية تقتضي أن المساجد أفضل بيت عند الله تعالى على عكس ما قاله هؤلاء الجهال بلغة العرب ، وتقريره أن الصنف القليل المنزلة عند الله تعالى أقرب للهلاك من العظيم المنزلة ، والقاعدة العربية أن الترقي في الخطاب إلى الأعلى فالأعلى أبدا في المدح والذم والتفخيم ، والامتنان ؛ فتقول في المدح : الشجاع البطل ، ولا تقول : البطل الشجاع ، لأنك تعد راجعا عن الأول ، وفي الذم: العاصي الفاسق ، ولا تقول: الفاسق العاصي ، وفي التفخيم : فلان يغلب الألف والمائة ، وفي الامتنان لا أبخل عليك بالدرهم ولا بالدينار ، ولا يقول بالدينار والدرهم ، والسر في الجميع أنك تعد راجعا عن الأول كقهقرتك عما كنت فيه إلى ما هو أدنى منه ، إذا تقرر ذلك ظهرت فضيلة المساجد ومزيد شرفها على غيرها ، وإن هدمها أعظم من تجاوز ما يقتضي هدم غيرها ، كما نقول : لولا السلطان لهلك الصبيان والرجال والأمراء ، فترتقي أبدا للأعلى فالأعلى لتفخيم أمر عزم السلطان ، وإن وجوده سبب عصمة هذه الطوائف ، أما لو قلت: لولا السلطان لهلك الأبطال والصبيان لعد كلاما متهافتا .(60/14)
ورابعها:أن الآية تدل على أن المساجد أفضل بيت وضع على وجه الأرض للعابدين من وجه آخر ، وذلك أن القاعدة العربية أن الضمائر إنما يحكم بعودها على أقرب مذكور ، فإذا قلت : جاء زيد ، وخالد ، وأكرمته فالإكرام خاص بخالد ، لأنه الأقرب فقوله تعالى:{يذكر فيها اسم الله كثيرا}. يختص بالأخير الذي هو المساجد ، فقد اختصت بكثرة ذكر الله تعالى ، وهو يقتضي أن غيرها لم يساوها في كثرة الذكر ، فتكون أفضل ، وهو المطلوب .
فائدة:الصومعة موضع الرهبان ، وسميت بذلك لحدة أعلاها ودقته ، ومنه قول العرب: أصمعت الثريدة: إذا رفعت أعلاها ، ومنه قولهم: رجل أصمع القلب ، إذا كان حاد الفطنة . والصلاة: اسم لمتعبد اليهود ، وأصلها بالعبراني صلوتا فعربت ، والبيع اسم لمتعبد النصارى ، اسم مرتجل غير مشتق ، والمسجد اسم لمكان السجود فإن مفعلا في لسان العرب ، اسم للمكان ، واسم للزمان الذي يقع فيه الفعل نحو: المضرب لمكان الضرب ورماته .
6- ومنها: أنهم قالوا : القرآن دل على تعظيم الحواريين والإنجيل ، وأنه غير مبدل بقوله تعالى:{وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب }. وإذا صدقها لا تكون مبدلة ، ولا يطرأ الت غيير عليها بعد ذلك لشهرتها في الأعصار والأمصار ، فيعذر تغيرها ، ولقوله تعالى في القرآن :{الَمَ * ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين }. والكتاب هو الإنجيل لقوله تعالى: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءو بالبينات والزبر والكتب المنير }. والكتاب ها هنا هو الإنجيل ، ولأنه تعالى لو أراد القرآن لم يقل ذلك ؛ بل قال هذا ، ولقوله تعالى: {ءامنت بما أنزل الله من كتب }.(60/15)
والجواب:أن تعظيم الحواريين لا نزاع فيه ، وأنهم من خواص عباد الله الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، وكانوا معتقدين لظهور نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- في آخر الزمان ، على ما دلت عليه كتبهم وإنما كفر وخالف الحادثون بعدهم : وأما تصديق القرآن لما بين يديه فمعناه : أن الكتب المتقدمة عند نزولها قبل تغييرها وتخبيطها كانت حقا موافقة للقرآن ، والقرآن موافق لها ، وليس المراد الكتب الموجود اليوم فإن لفظ التوراة والإنجيل إنما ينصرفان إلى المنزلين .
وأما قوله تعالى : { ذلك الكتب } ، وأنه المراد به الإنجيل : فمن الافتراء العجيب والتخيل الغريب ، بل أجمع المسلمون قاطبة على أن المراد به القرآن ليس إلا ، وإذا أخبر الناطق بذا اللفظ ، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن المراد هذا الكتاب ، كيف يليق أن يحمل على غيره ، فإن كل أحد مصدق فيما يدعيه في قول نفسه إنما ينازع في تفسير قول غيره ، إن أمكنت منازعته ، وأما الإشارة بذلك التي اغتر بها هذا السائل فاعلم أن للإشارة ثلاثة أحوال : ذا للقريب ، وذاك للمتوسط ، وذلك للبعيد ، لكن البعد والقرب يكون تارة بالزمان وتارة بالمكان ، وتارة بالشرف ، وتارة بالاستحالة ، ولذلك قالت زليخا في حق يوسف عليه السلام بالحضرة: وقد قطعن أيديهن من الدهش بحسنه ، {فذلكن الذي لمتننى فيه }، إشارة لبعده عليه السلام في شرف الحسن ، وكذلك القرآن الكريم لما عظمت رتيته في الشرف أشير إليه بذلك ، وقد أشير إليه بذلك لبعد مكانه ، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل: لبعد زمانه لأنه وعد به في الكتب المنزلة قديما ، وأما قوله تعالى :{جاءو بالبينت والزبر والكتاب المنير *}.(60/16)
فاعلم : أن اللام في لسان العرب تكون لاستغراق الجنس نحو حرم الله الخنزير والظلم ، وللعهد نحو قولك لمن رآك أهنت رجلا : أكرمت الرجل بعد إهانته ، ولها محامل كثيرة ليس هذا موضعها فتحمل في كل مكان على ما يليق بها ، فهي في قوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } للعهد ، لأنه موعود به مذكور على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ، فصار معلوما فأشير إليه بلام العهد وهي في قوله تعالى : {بالبينت والزبر والكتاب } للجنس ، إشارة إلى جميع الكتب المنزلة المتقدمة ، ولا يمكن أن يفهم القرآن الكريم إلا من فهم لسان العرب فهما متقنا ، وقوله تعالى لنبيه عليه السلام ، فهو أمر له بأن يقول : {ءامنت بما أنزل الله من كتاب } . فالمراد الكتب المنزلة لا المبدلة ، وهذا لا يمتري فيه عاقل ، ونحن ننازعهم في أن ما بأيديهم منزلة ، بل هي مبدلة مغيرة في غاية الوهن والضعف ، وسقم الحفظ ، والرواية والسند بحيث لا يوثق بشئ منها .(60/17)
7- ومنها:أنهم قالوا : القرآن الكريم أثنى على أهل الكتاب بقوله تعالى : {قل يأيها الكافرون * لآ أعبد ما تعبدون * ولآ أنتم عابدون ما~ أعبد } إلى قوله تعالى : {لكم دينكم ولي دين } ، وبقوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } ، والظالمون إنما هم اليهود عبدة العجل ، وقتلة الأنبياء ، وبقوله تعالى :{وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }.ولم يقل : كونوا به مسلمين ، وبقوله تعالى : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسسن ورهبانا وأنهم لا يستكبرون }. فذكر حميد صفاتنا وجميل نياتنا ، ونفا عنا الشرك بقوله : {والذين أشركوا }، ومدحنا بقوله تعالى : {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون *}.
والجواب :أما قوله تعالى : {قل يأيها الكافرون }إلى آخرها ، فمعناها : أن قريشا قالت له عليه السلام : اعبد آلهتنا عاما ، ونعبد إلهك عاما ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم ذلك ، فليس المراد النصارى ، ولو كان المراد النصارى لم ينتفعوا بذلك ، لأن قوله تعالى : {لكم دينكم ولي دين *} معناه الموادعة والمتاركة ، فإن الله تعالى أول ما بعث نبيه عليه السلام أمره أولا بالإرشاد بالبيان ليهتدي من قصده الاهتداء ، فلما قويت شوكة الإسلام أمره بالقتال بقوله تعالى : {يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير *}.
قال العلماء : نسخت هذه الآية بيفا وعشرين آية منها : {لكم دينكم ولي دين *} {لايضرنكم من ضل إذا اهتديتم } ، {لست عليهم بمسيطر *} وغير ذلك ، وليس في المتاركة والاقتصار على الموعظة دليل على صحة الدين المتروك .(60/18)
وقوله تعالى : {*ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } دليل على أنهم على الباطل ، فإنهم لو كانوا على الحق ما احتجنا للجدال معهم ، فهي تدل على عكس ما قالوا ، وقوله تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } المراد من طغى ، فإنا نعدل معه عن الدليل والبرهان إلى السيف والسنان ، وأمره تعالى لنا بأن نؤمن بما أنزل على أهل الكتاب صحيح ، ولكن أين ذلك المنزل ؟ والله إن وجود أعز من عنقاء مغرب !
وأما مدح النصارى بأنهم أقرب مودة ، وأنهم متواضعون فمسلم ، لكن هذا لا يمنع أن يكونوا كفرة مخلدين في النار ، لأن السجايا الجليلة والآداب الكسبية تجمع مع الكفر والإيمان ، كالأمانة والشجاعة ، والظرف واللطف ، وجودة العقل ، فليس فيه دليل على صحة دينهم .
وأما نفي الشرك عنهم فالمراد الشرك بعبادة الأصنام ، لا الشرك بعبادة الولد ، واعتقاد التثليث ، وسببه أنهم مع التثليث يقولون : الثلاثة واحد ، فأشاروا إلى التوحيد بزعمهم بوجه من الوجوه ، ويقولون : نحن لا نعبد إلا الله تعالى ، لكن الله تعالى هو المسيح ، ونعبد المسيح ، والمسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم ، فهذا وجه التوحيد من حيث الجملة ، ثم يعكسون ذلك فيقولون : الله ثالث ثلاثة ، وأما عبدة الأوثان فيصرحون بتعدد الآلهة من كل وجه ، ولا يقول أحد منهم : إن الصنم هو الله تعالى ، وكانوا باسم الشرك أولى من النصارى ، وكان النصارى باسم الكفر أولى ، حيث جعلوا الله تعالى بعض مخلوقاته ، وعبدوا الله تعالى ، وذلك المخلوق ، فساروا عبدة الأوثان في عبادة غير الله تعالى ، وزادوا بالاتحاد والصاحبة والأولاد ، فلا يفيدهم كون الله تعالى خصص كل طائفة من الكفار باسم هو أولى بها في اللغة مدحا ولا تصويبا لما هم عليه .(60/19)
8- ومنها: أنهم قالوا : مدح الله قرباننا وتوعدنا إن أهملنا ما متعنا بقوله تعالى : {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} إلى قوله تعالى : { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه أحدا من العالمين}.فالمائدة هي القربان الذي يتقربون به في كل قداس .
والجواب: إن من العجائب أن يدعي النصارى أن المائدة التي نزلت من السماء هي القربان الذي يتقربون به مع الذين يتقربون به من مصنوعات الأرض ، وأين المائدة من القربان ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان ، بل معنى الآية أن الله تعالى طرد عادته وأجرى سنته أنه متى بعث للعباد أمرا قاهرا للإيمان لا يمكن العبد معه الشك ، فمن لم يؤمن به عجل له العذاب لقوة ظهور الحجة ، كما أن قوم صالح لما أخرج الله تعالى لهم الناقة من الحجر فلم يؤمنوا عجل لهم العذاب ، وكانت هذه المائدة جسما عليه خبز وسمك نزل من السماء يقوت القليل من الخلق العظيم العدد فأمرهم أن يأكلوا ، ولا يدخروا ، فخالفوا وادخروا ، فمسخهم الله تعالى ، ونزول مثل هذا من السماء كخروج الناقة من الصخرة الصماء ، فأخبر الله تعالى أن من لم يؤمن بعد نزول المائدة عجلت له العقوبة ، ولا تعلق للمائدة بقربانهم البتة ؛ بل المائدة معجزة عظيمة خارقة ، والقربان أمر معتاد ليس فيه شئ من الإعجاز البتة . فأين أحد البابين من الآخر لولا العمى والضلال .(60/20)
9- ومنها : أنهم قالوا : إن الله تعالى أخبر خبرا جازما أنا نؤمن بعيسى عليه السلام بقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته }. فكيف نتبع من أخبر الله تعالى عنه أنه شاك في أمره بقوله تعالى :{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين } وأمره في سورة الفاتحة أن يسأل الهداية إلى صراط مستقيم { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} والمنعم عليهم هم النصارى ، والمغضوب عليهم اليهود ، والضالون عبدة الأصنام .
والجواب: أن النصارى لما لعبوا في كتابهم بالتحريف والتخليط صار ذلك لهم سجية ، وأصبح الضلال والإضلال لهم طوية ، فسهل عليهم تحريف القرآن ، وتغيير معانيه لأغراضهم الفاسدة ، والقرآن الكريم برئ من ذلك ، وكيف تخطر لهم هذه التحكمات بغير دليل ، ولا برهان ؛ بل بمجرد الأوهام والوسواس ، وأما قوله تعالى :{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته }ففيه تفسيران :
أحدهما: أن كل كافر إذا عاين الملائكة عند قبض روحه ساعة الموت ظهر له منهم الإنكار عليه بسبب ما كان عليه من الكفر ، فيقطع حينئذ بفساد ما كان عليه ، ويؤمن بالحق على ما هو عليه ، فإن الدار الآخرة لا يبقى فيها تشكك ولا ضلال ، بل يموت الناس كلهم مؤمنين موحدين على قدم الصدق ومنهاج الحق ، وكذلك يوم القيامة بعد ا لموت ، لكنه إيمان لا ينفع ولا يعتد به ، وإنما يقبل الإيمان من العبد حيث يكون متمكنا من الكفر ، فإذا عدل عنه وآمن بالحق كان إيمانه من كسبه وسعيه ، فيؤجر عليه ، أما إذا اضطر إليه ، فليس فيه أجر فما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بنبوة عيسى عليه السلام وعبوديته لله تعالى قبل موته ، لكن قهرا لا ينفعه في الخلوص من النيران وغضب الديان .(60/21)
التفسير الثاني: أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند ظهور المهدي بعد أن يفتح المسلمون القسطنطينية من الفرنج ،فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ولا يبقى على الأرض إلا المسلمون ، ويستأصل اليهود بالقتل ويصرح بأنه عبد الله ونبيه ، فتضطر النصارى إلى تصديقه حينئذ لإخباره لهم بذلك ، وعلى التفسيرين ليس فيه دلالة على أن النصارى الآن على خير .
وأما قوله تعالى :{ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } فهو من محاسن القرآن الكريم ، لأنه من تلطف الخطاب وحسن الإرشاد ، فإنك إذا قلت لغيرك أنت كافر فآمن ، ربما أدركته الأنفة فاشتد إعراضه عن الحق ، فإذا قلت له : أحدنا كافر ينبغي أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله تعالى ، فهلم بنا نبحث عن الكافر منا فنخلصه ، فإن ذلك أوفر لداعيته في الرجوع إلى الحق والفحص عن الصواب ، فإذا نظر فوجد نفسه هو الكافر فر من الكفر من غير منافرة منك عنده ، ويفرح بالسلامة ، ويسر منك بالنصيحة ، هكذا هذه الآية سهلت الخطاب على الكفار ليكون ذلك أقرب لهدايتهم ، ومنه قول صاحب فرعون المؤمن لموسى عليه السلام : { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا } إلى قوله : { وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } فخصهم أولا بالملك والظهور لتنبسط نفوسهم مع علمه بأنه وبال عليهم ، وسبب طغيانهم ، ولم يجزم في ظاهر اللفظ بصدق موسى عليه السلام مع قطعه بصدقه ، بل جعله معلقا على شرط ، لئلا ينفرهم فيحتجبوا عن الصواب ، فكل من صح قصده في هداية الخلق سلك معهم ما هو أقرب لهدايتهم ، وكذلك قوله تعالى لموسى وهارون في حق فرعون :{ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } وقوله لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين :{ ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك}.وقوله :{ ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن } فهذا كله من محاسن الخطاب لا من موجبات الشك والارتياب .(60/22)
وأما أمره تعالى لمحمد عليه السلام ولأمته بالدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فلا يدل على عدم حصول الهداية في الحال ، لأن القاعدة اللغوية أن الأمر والنهي والدعاء والوعد والوعيد والشرط وجزاءه إنما يتعلق بالمستقبل من الزمان دون الماضي والحاضر ، فلا يطلب إلا المستقبل ، لأن ما عداه قد تعين وقوعه ، أو عدم وقوعه ، فلا معنى لطلبه ، والإنسان باعتبار المستقبل لا يدري ماذا قضي عليه ، فيسأل الهداية في المستقبل ليأمن من سوء الخاتمة ، كما أن النصراني إذا قال : اللهم أمتني على ديني ، لا يدل على أنه غير نصراني وقت الدعاء ، ولا أنه غير مصمم على صحة دينه ، وكذلك سائر الأدعية ، وأجمع المسلمون والمفسرون على أن المغضوب عليهم اليهود ، وأن الضالين النصارى ، فتبديل ذلك مصادمة ومكابرة ومغالطة وتحريف وتبديل ، فلا يُسمع من مدعيه .
10- ومنها: أنهم قالوا : ليس من عدل الله تعالى أن يطالبنا باتباع رسول لم يرسله إلينا ، ولا وقفنا على كتابه بلساننا .
والجواب : أنه عليه السلام لو لم يرسل إليهم فليت شعري من كتب إلى قيصر هرقل ملك الروم ، وإلى المقوقس أمير القبط يدعوهم إلى الإسلام ؟!
وليس يصح في الأذهان شئ
إذا احتاج النهار إلى دليل
11- ومنها : أنهم قالوا : إن قال المسلمون: لم أطلقتم لفظ الابن والزوج الأقانيم ، مع أن ذلك يوهم أنكم تعتقدون تعدد الآلهة ، وأن الآلهة ثلاثة أشخاص مركبة ، وأنكم تعتقدون ببنوة المباضعة ، قلنا للمسلمين : هذا كإطلاق المتشابه عندكم من لفظ اليد ، والعين ، ونحوها ، فإنه يوهم التجسيم ، وأنتم لا تعتقدونه .(60/23)
والجواب : أن آيات وأحاديث صفات الله ليست من المتشابه عند أهل السنة ؛ بل هي معلومة المعنى ، نثبتها لله كما أثبتها لنفسه دون تشبيه أو تعطيل ، أو تأويل . وأما ما كان من المتشابهات التي بينها العلماء والواردة في قوله تعالى : ( وأخر متشابهات ) فإنما يطلق المسلمون المتشابه بعد ثبوته نقلا متواترا نقطع به عن الله تعالى أنه أمر بتلاوته امتحانا لعباده ليضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وليعظم ثواب المهتدين حيث حصل الهداية بعد التعب في وجوه النظر ، ويعظم عذاب الضالين حيث قطعوا لا في موضع القطع ، ولم ينقلوا ذلك عن امرأة كما اتفق ذلك في الإنجيل ؛ بل ما اقتصر المسلمون على الجمع القليل ، بل ما اعتمدوا على العدد الذي يستحيل عليهم الكذب ، فلما تحققوا أن الله أمرهم بذلك نقلوه ، وأما النصارى فأطلقوا بعض ذلك من قبل أنفسهم ، كالأقانيم والجوهر ، وبعضها نقلوه نقلا لا تقوم به حجة في أقل الأحكام ، فضلا عن أحوال الربوبية ، فهم عصاة لله تعالى حيث أطلقوا عليه ما لم يثبت عندهم بالنقل ، بل لو طولبوا بالرواية لإنجيلهم لعجزوا عن الرواية ، فضلا عن النقل القطعي ، فلا تجد أحدا له رواية في الإنجيل يرويه واحد عن واحد إلى عيسى عليه السلام ، وأقل الكتب عند المسلمين من الارتياب وغيرها يروونها عن قائلها ، فتأمل الفرق بين الاثنين ، والبون الذي بين الدينين؛ هؤلاء المسلمون ضبطوا كل شئ ، والنصارى أهملوا كل شئ ، ومع ذلك يعتقدون أنهم على شئ .(60/24)
12- ومنها: أنهم قالوا: الله له عدل وفضل ، وهو سبحانه وتعالى يتصرف بهما ، فأرسل موسى عليه السلام بشريعة العدل لما فيها من التشديد ، فلما استقرت في نفوسهم وقد بقي الكمال الذي لا يصنعه إلا أكمل الكملاء ، وهو الله تعالى ، ولما كان جوادا تعين أن يجود بأفضل الموجودات ، وليس في الموجودات أجود من كلمته يعني نطقه ، فجاد بها واتحدت بأفضل المحسوسات ، وهو الإنسان ، لتظهر قدرته ، فحصل غاية الكمال ، ولم يبق بعد الكمال إلا النقص ؛ فتفضب بالنصرانية .
والجواب: أما شريعة موسى عليه السلام ، فكانت عدلا وفضلا وقل أن يقع في العالم عدل مجرد ، وإنما وقع ذلك لأهل الجنة .
وتقرير هذا الباب : أن كل جود وإحسان فهو فضل من الله تعالى ، وهو جود لا يجب عليه عري عن الخير والإحسان البتة فهو العدل المحض ، لأن الملك ملكه ، والتصرف في الملك المملوك كيف كان : عدل ليس بظلم . فإن وقع الخير المحض فهو التفضيل المحض ، وهذا هو شأن أهل الجنة .
إذا تقرر هذا ، فشريعة موسى عليه السلام كان فيها من الإحسان أنواع كثيرة ، فتلك كلها فضل ؛ كتحريم القتل والغصب والزنا والقذف والمسكر من الخمور المغيبة للعقول ، وإنما أباح فيها اليسير الذي لا يصل إلى حد السكر ، وكإباحة الفواكه واللحوم والزواج وغير ذلك ، وهذه كلها أنواع من الفضل ، ثم إن عيسى عليه السلام جاء مقررا لها وعاملا بمقتضاها ، ومستعملا لأحكامها ، ولم يزد شيئا من الأحكام ، إنما زاد المواعظ والأمر بالتواضع والرقة والرأفة ، فلم يأت عيسى عليه السلام بشريعة أخرى حتى يقال : إنها الفضل ؛ بل مقتضى ما قاله أن تكون شريعة الفضل هي شريعتنا ؛ لأنها هي الشريعة المستقلة التي ليست تابعة لغيرها ، ولا مقلدة لسواها ، وهذا هو اللائق لمنصب الكمال أن يكون متبوعا لا تابعا ، فهذه الحجة عليه لا له .(60/25)
ثم قولهم : لا يصنع الأكمل إلا هو سبحانه ، فهو باطل لأنه لا حجر عليه سبحانه في ملكه ، فيأمر بعض خلقه بوضع الأكمل ، ويرسل للناس بأوامر وشرائع هي في غاية جلب المصالح ودرء المفاسد ، كما هي شريعتنا المعظمة .
ثم قولهم : الله تعالى جواد فجاد بأعظم الموجودات وهو كلمته ، فجعله متحدا بأفضل المحسوسات وهو الإنسان ، باطل لوجوه :
أحدها: أن الجود بالشئ فرع إمكانه ، فإن الكرم بالمستحيل محال ، فينبغي أن يبين
أولا تصور انتقال الكلام من ذات الله تعالى إلى مريم رضي الله عنها ، ثم يقيم الدليل على وقوع هذا الممكن بعد إثبات إمكانه ، وقد تقدم بيان استحالة ذلك .
وثانيها: سلمنا أنه ممكن ، لكن لم قلتم إن الكلام هو أفضل الموجودات ، ولم لا يكون العلم أفضل منه ، لأن الكلام تابع للعلم ؟
وثالثها: أن الذات الواجبة الوجود التي الصفات قائمة بها أفضل من الصفات ، لأن الصفات تفتقرللذات في قيامها ، والذات لا تفتقر لمحل بخلاف الصفة .
ورابعها: أنها صفة من الصفات ، والصفات بجملتها مع الذات أفضل من الكلام وحده ، ولم يقل أحد باتحاد هذا ، فالأفضل لم يحصل حينئذ ، ولما كان كلام النصارى نوعا من الوسواس اتسع الخرق عليهم .
والرد أنا نبين أن صفة الكمال والجود والفضل ظهرت في شريعتنا أكثر من جملة الشرائع ، وبيانه من وجوه :
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
خاتمة:
في فضائل الإسلام على سائر الأديان(60/26)
أحدها: أن معجزات جميع الشرائع ذهبت بذهاب أنبيائها ، فوقع الخبط في تلك الشرائع بعد طول المدة ، وموت الفرقة الذين شاهدوا المعجزات ، وجاء قوم لم يشاهدوا نبيا ، ولا معجزة ، فطغوا وبغوا ، وضلوا ، وأضلوا ، ودثرت تلك الشرائع بهذا السبب ، فلم تتم المصلحة بسبب هذا العارض ، ومعجزة شرعنا هي القرآن الكريم بوصفه ونظمه ، وما اشتمل عليه من المغيبات ، وحلاوة السماع حلاوة لا تخلقها الآباد ، ولا يسئمها الترداد ، ووجدنا فيه من المعجزات نحو عشرة آلاف معجزة مسطورة في كتب هذا الشأن ، واحدة منها كافية ، فكيف بالجميع ؟ وجميعها باق بمشاهدة الأخلاف بعد الأسلاف والأبناء بعد الآباء ، فلا يزيد الإسلام إلا قوة ، ولا الإيمان والتوحيد إلا جدة ولله الحمد على ذلك ، فتمت المصلحة ، واستمرت ، ودحضت الضلالات ودثرت ، فهذا هو الكلام ولأشرف والفضل المنوف .
وثانيها : أن كل نبي بعث إلى قومه خاصة ، ومحمد –صلى الله عليه وسلم_ بعث للثقلين جميعا ، الإنس والجن على اختلاف أنواعها ، وبيان ذلك أن أكمل الشرائع المتقدمة شريعة التوراة ، مع أن موسى عليه السلام لم يبعث إلا لبني إسرائيل ، ولما أخذهم من مصر وعبر البحر لم يعد لمصر ، ولا وعظ أهلها ، ولا عرج عليهم ، ولو كان رسولا إليهم لما أهملهم ، بل إنما جاء لفرعون ليسلم له بني إسرائيل فقط ، فلما انقضى هذا الغرض أهملهم ولم يعد لمصر البتة ، وإذا كان هذا حديث موسى عليه السلام ، فغيره أولى ، وقد أخبرنا سيد المرسلين بذلك ، ولا شك أن المصالح إذا عمت كانت أكمل ، وهو المطلوب .(60/27)
وثالثها: أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس فتكون شرائعها أفضل الشرائع ، أما أنها أفضل فلقوله تعالى :{ كنتم خير أمة أخرجت للناس } ، ولأنها صنفت من العلوم ما لم يصنف في ملة من الملل ، حتى أن العالم الواحد منهم يصنف ألف كتاب في المجلدات العديدة في العلوم المتباينة ، ولعله لا يوجد في شريعة الإسرائيليين كلهم من النصارى واليهود من التصانيف مثل هذا العدد ، فيكون العالم منا قدر شريعتهم بجملتها ، وكم فيها من عالم ، ولأن العلوم القديمة كلها إنما تحررت فيها من الحساب والهندسة والطب ، والهيئة ، والمنطق ، وغير ذلك وكل هذا حاصل لها ، وجددت هي علوما لم تكن لغيرها من النحو واللغة ، والعربية البديعة ، وبسط وجوه الإعراب الذي صنفت فيه الدواوين العظيمة ، وعلوم الحديث على اختلاف أنواعها ، وعلوم القرآن العظيم على سعتها ، وعلوم العروض والشعر والنظم ، وغير ذلك من العلوم الخاصة بها ، وهم أولى بعلوم غيرها لتلخيصها وإظهار بهجتها ، وإزالة فاسدها عن صحيحها ، وبسطها بعد قبضها عند غيرها ، فصار علم الوجود منحصرا فيها أولا وآخرا ، فتكون أفضل ، ولأن ما وهبه الله تعالى لهم من وجودة العقول ، وقوة الإدراك ، وتيسير ضبط العلم ، لم يحصل لغيرها مضافا لقوة الحفظ وجودة الضبط الذي لم ينقل عن أمة من الأمم ، وهو دليل كثرة علومها ، ولولا ذلك لم تكثر العلوم فيها ولها ، وأما أنها إذ كانت أفضل الأمم تكون شريعتنا أفضل الشرائع ، فلأنها إنما نالت ذلك ببركة شريعتها ، واتباع نبيها عليه السلام ، ومتى كانت الثمرة أفضل كان المثمر أفضل .(60/28)
ورابعها: أن الله تعالى جعل عبادة الأمة في هذه الشريعة على نسق الملائكة عليهم السلام ، تسوية بين الملائكة وهذه الأمة في صفة العبادة فكل الأمم يصلون همجا من غير ترتيب إلا هذه الأمة تصلي صفوفا كما تصلي الملائكة : {وإنا لنحن الصآفون * وإنا لنحن المسبحون * } والشريعة المشتملة على أحوال الملائكة أفضل من غيرها ، فشريعتها أفضل الشرائع .
وخامسها : أن سائر الأمم أمرت بتطهير الباطن عن الرذائل والأخلاق الشيطانية فقط ، وهذه الأمة أمروا بذلك وزيد لها وحدها الأمر بتطهير الظاهر بالوضوء والغسل ، واجتناب النجاسات ، والقاذورات ، فيقف الراهب يناجي ربه ويتمثل بين يديه لخطابه والعذرة قد تحجرت على سوءته ، والقاذورات قد غلبت على أطرافه وسحنته ، حتى لو وقف ذلك الراهب قدام شيخ ضيعته لمقتته ، وقبح حالته ، فكيف بملك الملوك رب الأرباب ؟ وأمر المسلم إذا ناجى ربه أن يكون نقي الباطن نظيف الظاهر ، وحسن الهيئة ، مستقبلا أفضل الجهات ، ملازما للسكينة والوقار ، تاركا للعبث والنفار ، فإن كان النصراني لا يدرك الفرق بين هاتين الشريعتين ولا بين الهيئتين ، فهو معذور ، لأنه قد فسد مزاج دماغه بروائح العذرات ، وعمي قلبه بملابسة القاذورات في المطعومات والمشروبات ، حتى إنهم يقولون : ليس ثمة نجاسة البتة ، وبمثل هذا وأقل منه تعذر الناس في فساد عقولهم .
وسادسها : أن هذه الشريعة أمرت باستقبال أفضل الجهات وهو البيت الحرام ، لأنه أفضل من بيت المقدس لأمور : منها أنه أقدم بناء منه بأربعين سنة ، والتقدم دليل الفضل .
ومنها : أن جميع الأنبياء آدم فمن دونه حجه بخلاف البيت المقدس وجميع الشرائع إنما أمرت بالتوجه في الصلاة إلى البيت المقدس .(60/29)
سابعها : أن الله تعالى جوز في شريعة موسى عليه السلام أن يتزوج الرجل من شاء من النساء ، فراعى مصلحة الرجال دون النساء ، فإنهن يتضررن بالغيرة ، والإهمال إذا كثرن ، وحجر في شريعة عيسى عليه السلام على ما زاد على المرأة الواحدة ، فراعى مصلحة النساء دون الرجال لأنهم يتضررون بالاقتصار على الواحدة ، فقد لا تلايم ، فيكون في حيز العدم ، وفي شريعتنا جمع بين مصالح الفريقين فجعل للرجل أربعة نسوة ، فلا ضرر عليه ، ولم يكثر ضرر المرأة بأكثر من ثلاث ، فكانت شريعتنا أتم ، واليهود اليوم لا يزيدون على الأربع تشبها بالمسلمين .
وثامنها : أن جميع الشرائع إنما يؤذن لهم في الصلاة في البيع ، وشريعتنا وردت بالصلاة في كل موضع طاهر في جميع أقطار الأرض ، ومعلوم أن الصلاة فيها تعظيم الله تعالى والإنسان قد يتعذر عليه البيعة لكونه في البرية والسفر ، أو يتيسر له لكن تفتر عزيمته قبل وصوله إليها ، فتكون الصلاة وتعظيم الله تعالى بها في غاية القلة ، وفي هذه الشريعة جميع الأرض مسجد ، فيكون تعظيم الله تعالى وإجلاله في غاية الكثرة ، فتكون هذه الشريعة أفضل الشرائع ، وهو المطلوب .
وتاسعها : أن جميع الشرائع لم تحل فيها الغنائم لأحد بل تقدم للنيران فتحرقها ، وأحلت الغنائم في هذه الشريعة ، ومعلوم بالضرورة أن صون المالية عن الضياع والاستعانة على الدين والدنيا بها واقع في نظر الحكمة ، وأتم في مراعاة المصلحة ، فتكون هذه الشريعة أفضل الشرائع ، وهو المطلوب .(60/30)
وعاشرها : أنا لا نعلم في شريعة من الشرائع إلا إعلاما بالأوقات المعينات للصلوات بشيء يشتمل على مصلحة غير الإعلام ، فاليهود يعلنون بالبوق ، والنصارى بضرب خشبة على خشبة ، أو نوع آخر من الجمادات يسمونه الناقوس ، وغير هاتين الملتين تعلم بالنيران ، ومعلوم أن هذه الأمور لا تحصل إلا مصلحة الإعلام ، وشرع في هذه الشريعة وحدها الأذان ، فحصل الإعلام ، ومصلحة أفضل ، وهي الثناء على الملك العلام وتجديد كلمة الإيمان ، وتفخيم قدر رسول الملك الديان ، والحض على الصلاة وجميع سبل النجاة بقوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، والفلاح خير الدنيا والآخرة ، وكلمة ( حي ) أمر تحضيض على ما بعدها وفيه إيقاظ الغافلين وانتشار ذكر الذاكرين بالمجاوبة للمؤذنين ، وفيه الإشعار بالتوحيد ، وأنواع التمجيد بدوي الأصوات بين الأرض والسماوات على أعلى البنايات ، وأين هذا من النفخ في البوقات ، وقراقع الخشبات ، ومعلوم أن هذه مصالح جليلة ، ومناقب فضيلة ، لم تقرر إلا في هذه الشريعة المحمدية ، وهذه الأمة الطاهرة الزكية ، وذلك مما يوجب شرفها على غيرها ، وهو المطلوب .
ونقتصر على هذه النبذة في هذا المختصر اللطيف ، وإلا فمحاسن الشريعة لا يحصى عدها ، ولا يخبو زندها ، وهذا هو آخر الرسالة والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الأمين ..(60/31)
حكم المراهنة على الألعاب الرياضية
ملخص من كتاب الفروسية لابن القيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد دار بحث مع بعض الأخوة الأفاضل عن حكم المراهنة بين اثنين أو فريقين إما بمال أو طعام أو نحوه في لعبة كرة الطائرة ، مما يزيد في حماسهم للعبها ! هل يدخل ذلك في الميسر المحرم بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } ؟(1).
أم أن هذه المراهنة جائزة قياساً على ما ورد النص بجواز المراهنة فيه ، وهو المسابقة بالخيل أو الجمال أو الرماية بالسهام ؟!
فأحببت لأجل هذا تلخيص حكم هذه المسألة من كتاب (الفروسية) لابن القيم رحمه الله ، حيث أنه يُعَدُّ من أبرز من جَلَّى حكمها ، واستوعب الأقوال فيها .
عمدة هذا الباب حديثُُ واحدُُ هو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا سبق إلا في خف أو حافرٍ أو نَصْل) أخرجه أبو داود وغيره.
والسَبقُ هو ما يُدْفع عند الفوز بالرهان.
والخف: إشارة إلى سباق الإبل.
والحافر: إشارة إلى سباق الخيل.
والنصل: إشارة إلى السباق برمي السهم.
... فهذه الأمور الثلاثة قد أجاز الإسلام المراهنة فيها بنص الحديث ، وعلى هذا أجمع العلماء.
... ثم اختلفوا في: هل يُلحق بهذه الثلاث غيرها مما يشابهها؟ كالمسابقة على الأرجل ، والمصارعة ، والسباحة وحمل الأثقال ، وغيرها من الرياضات.
فقال الجمهور: لا تلحق بها ؛ لأن الحديث قد اقتصر على تلك الثلاث بصيغة الاستثناء.(61/1)
قالوا: ولأن غير هذه الثلاث لا يُحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها ، ولا يقوم مقامها ، ولا ينفع فيه نفعها ، فكانت كأنواع اللعب لا تجوز المراهنة عليها.
وذهب آخرون - وهو مذهب أبي حنيفة وقولُُ للشافعية - إلى جواز ذلك ، وحجتهم:
القياس على هذه الرياضات ، وكلها تمرين للبدن.
ومعنى الحديث السابق: إن أحق ما بُذل فيه السَبَق هذه الثلاث ، لكمال نفعها، وعموم مصلحتها ، فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة بحضرة طعام ولا صلاة وهو يدافعه الأخبثان)(3) ، وقوله: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)(4) . ونحو ذلك ، مما ينفي الكمال لا الصحة . ويشهد لهذا: ما ثبت من المراهنة في أمور أخرى غير هذه الثلاث منه صلى الله عليه وسلم أو من أحد صحابته بإقراره ، وهي مسألتان:
مراهنة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – لكفار قريش في مسألة انتصار الروم على الفرس الواردة في قوله تعالى { آلم . غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } (5) فهو - رضي الله عنه - قد راهنهم على أن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين ، أي أقل من العشر ، وكان الرهن من الجانبين ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
أما ادعاء أن هذه المراهنة من أبي بكر كانت قبل تحريم الرهان فقد رده ابن القيم – رحمه الله – رداً شافياً بقوله: (ولا يصح أن يقال: إن قصة الصديق منسوخة بتحريم القمار ؛ فإن القمار حُرِّم مع تحريم الخمر في آية واحدة ، والخمر حُرِّمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني النضير ، وكان ذلك بعد أحد بأشهر ، وأحد كانت في شوال سنة ثلاث بغير خلاف)(6).(61/2)
قال: (وهذه الغلبة من الروم لفارس كانت عام الحديبية بلا شك ، ومن قال كانت عام وقعة بدر فقد وهم لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سفيان: (أن هرقل لما أظهره الله على فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكراً لله ، فوافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بإيلياء ، فطلب من هناك من العرب ، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب ، فقال له: إني سائلك عن الرجل..) فذكر الحديث ، وفيه: (فقال: هل يغدر؟ فقال أبو سفيان: لا ، ونحن الآن في أمان منه وفي مدة ما ندري ما هو صانع فيها) يريد أبو سفيان بالمدة: صلح الحديبية ، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست بلا شك ، فعُلم أن تحريم الرهان سابق على أخذ الصديق الرهان الذي راهن عليه أهل مكة)(7).
مصارعته صلى الله لركانة ومراهنته عليه ، وكان ذلك من الجانبين كما جاء في الحديث ( شاة بشاة )(8).
قال ابن القيم: (وهذه المراهنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه هي من الجهاد الذي يُظهر الله به دينه ويعزه به ، فهي من معنى الثلاثة المستثناة في حديث أبي هريرة ، ولكن تلك الثلاثة جنسها يُعد للجهاد بخلاف جنس الصراع، فإنه لم يعد للجهاد ، وإنما يصير مشابهاً للجهاد إذا تضمن نصرة الحق وإعلائه ، كصراع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة.
وهذا كما أن الثلاثة المستثناة إذا أريد بها الفخر والعلو في الأرض وظلم الناس كانت مذمومة ، فالصراع والسباق بالأقدام ونحوها إذا قصد به نصر الإسلام كان طاعة ، وكان أخذ السَبَق به حينئذ أخذاً بالحق لا بالباطل)(9).
قلت: وقد فَصَّل ابن القيم - رحمه الله – في كتابه أنواع هذه المسابقات وحكمها تفصيلاً حسناً لعله يكون قاعدةً في هذا الباب الذي اشتبه على كثير من الشباب ، وبه يتبين حكم كل مسابقة قد تخطر ببالك
قال رحمه الله ، المغالبات في الشرع تنقسم ثلاثة أقسام:(61/3)
القسم الأول: ما فيه مفسدة راجحة على منفعته ، كالنَّرْد ، والشِّطْرَنج ، فهذا يحرِّمه الشارع ولا يُبيحه ، إذ مفسدته راجحة على مصلحته ، وهي من جنس مفسدة ا لسُّكْر ، ولهذا قَرَنَ الله سبحانه وتعالى بين ا لخمر والقمار في الحكم(10) ، وجعلهما قريني الأنصاب والأزلام ، وأخبر أنها كلها رجس ، وأنها من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها ، وعلَّق الفلاح باجتنابها ، وأخبر أنها تصدُّ عن ذكره ، وعن الصلاة ، وتهدَّد مَن لم ينتَهِ عنها ، ومعلومُُ أن شارب الخمر إذا سَكِرَ ، كان ذلك مما يصدُّه عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة والبغضاء بسببه.
... وكذلك المغالبات التي تُلْهي بلا منفعة ، كالنرد والشطرنج وأمثالها ، مما يصدُّ عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، لشدة التهاء النفس بها ، واشتغال القلب فيها أبداً بالفكر.
ومن هذا الوجه ، فالشَّطْرنج أشدُّ شُغْلاً للقلب وصدّاً عن ذكر الله وعن الصلاة ، ولهذا جعله بعض العلماء أشدَّ تحريماً من النَّرد ، وجعلَ النَّصَّ على أن اللاعب بالنَّرْد عاص لله ورسوله ، تنبيهاً بطريق الأولى على أن اللاعب بالشَّطْرَنج أشدُّ معصيةً ، إذ لا يحرَّم الله ورسوله فعلاً مشتملاً على مفسدة ثم يُبيح فعلاً مشتملاً على مفسدة أكبر من تلك ، والحس والوجود شاهدُُ بأن مفسدة ا لشّطْرَنج وشُغلها للقلب وصدَّها عن ذكر الله وعن الصلاة أعظُم من مفسدة النَّرْد ، وهي توقع العداوة والبغضاء ، لما فيها من قصد كلٍ من المتلاعبين قهر الآخر ، وأكل ماله ، وهذا من أعظم ما يوقع العداوة والبغضاء ، فحرَّم ا لله سبحانه وتعالى هذا النوع، لاشتماله على ما يبغضه ، ومَنْعه مما يحبه.(61/4)
القسم الثاني: عكس هذا ، وهو ما فيه مصلحة راجحة ، وهو متضِّمن لما يحبُّه الله ورسوله ، معين عليه ، ومفض إليه ، فهذا شرعه الله تعالى لعباده ، وشرع لهم الأسباب التي تعين عليه ، وترشد إليه ، وهو كالمسابقة على الخيل والإِبل والنّضال ، التي تتضمن الاشتغال بأسباب الجهاد ، وتعلّم الفُروسية ، والاستعداد للقاء أعدائه ، وإعلاء كلمته ، ونصر دينه وكتابه ورسوله ، فهذه المغالبة تطلب من جهة العمل ومن جهة أكل المال بهذا العمل الذي يحبه الله تعالى ورسوله ، ومن الجهتين معاً.
... وهذا القسم جوّزه الشارع بالرهان تحريضاً للنفوس عليه ، فإن النفس يصير لها داعيان: داعي الغلبة وداعي الكسب ، فتقوى رغبتها في العمل المحبوب لله تعالى ورسوله ، فعلم أن أكل المال بهذا النوع أكل له بحق لا بباطل.
وأما القسم الثالث: وهو ما ليس فيه مضرة راجحة ولا هو أيضاً متضمن لمصلحة راجحة يأمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يحرُمُ ولا يُؤمَرُ به ، كالصراع ، والعَدْو ، والسباحة ، وحمل الأثقال ... ونحوها.
... فهذا القسم رخَّص فيه الشارع بلا عِوَض ، إذ ليس فيه مفسدة راجحة ، وللنفوس فيه استراحةُُ وإجمامُُ ، وقد يكون مع القصد الحسن عملاً صالحاً ، كسائر المباحات التي تصير بالنية طاعات ، فاقتضت حكمة الشرع الترخيص فيه، لما يحصل فيه من إجمام النفس وراحتها ، واقتضت تحريم العِوَض فيه ، إذ لو أباحته بِعوَض ، لاتَّخذته النفوس صناعةً ومكسباً ، فالتهت به عن كثير من مصالح دينها ودُنياها)(11).
... قلت: بهذا التفصيل الحَسن يمكن لطالب العلم أن يعرف حكم كثير من المسابقات الحادثة ، وحكم المراهنة فيها:
فإذا كانت المسابقة مما لا نفع فيها للإنسان ، بل هي ضرر عليه ، ومهدرة لوقته ، ومضيعة للواجبات ، كلعبة البلوت وما شابهها ، فهذه يكون حكمها التحريم – أو الكراهة على أقل الأحوال – ولا تجوز المراهنة فيها.(61/5)
وإذا كانت المسابقة فيها نفع للإنسان ومصلحة وكانت معينة على الجهاد في سبيل الله ، كالتدريب على الرمي بالسلاح مثلاً ، أو تدريبات الطيران أو نحو ذلك ، فهذه ينبغي تشجيع الناس على ممارستها ، وتجوز المراهنة عليها.
وإذا كانت المسابقة فيها إجمام للإنسان ، ولا ضرر منها ، ولكنها لا تُعد من المسابقات المهيئة للجهاد ، وإنما هي إلى اللعب أقرب ، كالألعاب الرياضية المعاصرة ، مثل كرة القدم وكرة الطائرة ، والتنس ، والجري ...... الخ ، فهذه تجوز ، لما فيها من إجمام النفس وراحتها ، إضافة إلى تنشيط البدن . ولكن لا تجوز المراهنة فيها من الطرفين ، لأنها أقرب إلى اللعب من الإعداد للجهاد .
من هو الباذل للرهن في المسابقة على الخيل والإِبل والسهام ؟
بعد أن عرفنا أن المراهنة من الطرفين لا تجوز إلا في سباق الإِبل ، وسباق الخيل ، وسباق رمي السهام ، وما شابهها ، مما يعين على الجهاد ، بقي أن نعرف من هو الباذل (للسَبَق) وهو الجائزة:
ذهب الجمهور إلى أن الباذل للرهن يجوز أن يكون :
أحد المتسابقين.
أو كلاهما.
أو طرفاً ثالثاً.
أما إذا كان الباذل للسَبَق ( أي الجائزة ) أحد المتسابقين ، فقد أفتى الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله – بجوازه ، كما في الفتوى التالية:
س: ما حكم المسابقة إذا كانت في عوض من أحد المتسابقين؟(61/6)
الجواب: حكمها الجواز ، وتوضيح المسابقة إذا كانت على عوض من أحد المتسابقين أن يقول مثلاً: عليَّ مائة ريال إن سبقتني ، أو يقول عليك مائة ريال إن سبقتُك ، أما إذا قال: إن سبقتني فعلي مائة ريال وإن سبقتُك فعليك مائة فهذا لا يجوز إلا في الخيل والإِبل والسهام ، لثبوت ا لسنة بذلك ، وإذا كان العوض من طرف ثالث لم يشارك المتسابقين – فهذا لا بأس به في المسابقات الجائزة غير المحرّمة ، مثل أن يقول: تسابقوا على الأقدام والذي يسبق منكم له مائة ريال ، أو تصارعوا والذي يصرع منكم له مائة ريال ، فهذا لا بأس به ، لأنه يعتبر مكافأة وتشجيعاً.
ولكن اشترطوا إذا كان الذي يدفع الرهان كلاهما أن يكون هناك محلِّل ، وهو طرف ثالث يشار: في السباق ولا يدفع شيئاً ، فإن سبقهم أخذ الرهن ، وإن سبقوه لا يدفع شيئاً ، وإن سبق أحد المتراهنين شاركه في الرَهَن . لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يُسْبَق، فلا بأس ، ومن أدخل فرساً بين فرسين ، وهو آمن أن يُسّبَق ، فهو قمار).
وهو حديث ضعيف(12) ، وقد أطال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في رد هذا القول ، ورجحوا عدم اشتراط المحلل . وأن اشتراط المحلل إنما هو مذهب تلقاه الناس من سعيد بن المسيب ، ولم يكن يُعرف عند الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال شيخ الإسلام: ( ما علمت بين الصحابة خلافاً في عدم اشتراط المحلل)(2) وقال ابن القيم: (والقول بالمحلل مذهب تلقاه الناس عن سعيد بن المسيب ، أما الصحابة فلا يُحْفظ عن أحد منهم قط أنه اشترط المحلل ، ولا راهن به ، مع كثر تناضلهم ورهانهم ، بل المحفوظ عنهم خلافه)(13).
قال: ( والذي مَشَّى هذا القول – أي اشتراط المحلل – هيبة قائله ، وهيبة إباحة القمار ، وظنوا أن هذا مخرجُُ للعقد عن كونه قماراً ، فاجتمع عظمة سعيد عند الأمة ، وعظمة القمار وقبحه)(14).(61/7)
وذهب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى جواز أن يبذل (السَبَق) أحد المتسابقين ، أو كلاهما ، أو طرفاً ثالثاً دون اشتراط (محلِّل) ، لضعف الحديث السابق ، ولأدلة كثيرة ذكروها ، وهو الراجح – إن شاء الله – لقوة حجته .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه: أبو مصعب
سليمان بن صالح الحراشي
1421هـ
(1) سورة المائدة (آية 90).
(2) أخرجه مسلم .
(3) أخرجه أحمد.
(4) سورة الروم (أية 1-3).
(5) الفروسية (ص 207).
(6) الفروسية (207-208).
(7) حيث صحيح: أنظر تخرجه في الارواء للألباني (1503).
(8) الفروسية (ص 203-204).
(9) وذلك في قوله سبحانه: { إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسُُ مِن عمَلِ الشيطانِ فاجْتَنبِوهُ لعلَّكُم تُفْلِحونَ } [المائدة: 90]
(10) الفروسية: (ص 169 – 172).
(11) أنظر الكلام عليه بتوسع في (الفروسية ) لابن القيم (ص 229 وما بعدها).
(12) الفروسية (ص 162).
(13) الفروسية (ص 162 – 163).
(14) الفروسية (ص 342).(61/8)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، قصة هذا البحث بدأت أثناء كتابتي لرسالة (قصص لا تثبت)؛ وذلك أنني اطلعت من ضمن القصص غير الثابتة على قصة مكذوبة على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-(1) استشهد بها أحد دعاة تحرير المرأة في بلادنا، محتجاً بها -زعم- على مشروعية السفور والاختلاط المحرم!
ثم أحال في الهامش على أحد أجزاء تاريخ الطبري. فتعجبت أشد العجب من اطلاع مثل هذا المتحرر على هذا المصدر الإسلامي واستخراجه لهذه القصة منه بعد تنقيبه؛ لعلمي بأن مراجع القوم غير مراجعنا! وأن غاية أحدهم إذا استدل على فساده أن يستدل بكتاب (الأغاني) للأصفهاني أو كتب الجاحظ ونحوها من كتب الأدب.
ثم حدث أني كنت أثناءها أطالع وأتأمل كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين، فتفاجأت بعثوري فيه على هذه القصة -كما هي- منقولة من تاريخ الطبري!! فعندها بطل العجب لمعرفة السبب!
فأخذت بعدها أقارن ما أقرأه من كتابات المتحررين والمتحررات بكتاب قاسم أمين، فاكتشفت -ولست مبالغاً- أن القوم يصدرون عن هذا الكتاب في كل صغيرة وكبيرة، بل إنهم لا زالوا يرددون إلى اليوم -كما سيأتي- ما ردده من أفكار وأساليب وأحاديث موضوعة وآثار ضعيفة وقصص مكذوبة، دون زيادة أو نقصان!
فعلمت حينها أن جميع طرق أهل التحرير تؤدي إلى قاسم!(62/1)
عندها فكرت بعمل رسالة تُلخص ما استقاه المتحررون من كتاب قاسم عمدتهم الأولى في هذا الباب؛ من أفكار وأساليب لا زالوا يستخدمونها في كتاباتهم إلى اليوم؛ لنعلم بعدها أن مدعي (التقدم) هم من أغرق الناس في (الماضوية) التي يحاربونها، وأنهم أصحاب عقول ضحلة تقتات على غيرها، وينقل لاحقهم عن سابقهم ضلاله القديم فيبعثه بيننا من جديد، ليشتركوا في الوزر والمأثم، مصداقاً لقوله تعالى عن أهل النار (كلما دخلت أمة لعنت أختها، حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون، وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) نسأل الله أن يجيرنا من النار.
هذا، وقد صغت ما استقاه المتحررون من كتاب قاسم في (27) فكرة أو وسيلة، دللت عليها من كلام قاسم، ثم علقت عليها بما يبين أن المتحررين لا يزالون يستعملونها في دعوتهم إلى اليوم.
وقبل هذا قدمت بتعريف لقاسم أمين ولكتابه، وببعض ما أثير حوله.
أسأل الله أن يجعل من هذا البحث المتواضع تبصرة لكل غافل مخدوع بطرق أهل الفساد، معيناً لأهل الحق على دعاة الباطل وأهله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
لمحة عن قاسم أمين(2):
- ولد قاسم أمين عام 1863م لأب تركي عثماني، وأم مصرية من صعيد مصر.. فوالده محمد بك أمين قدم إلى مصر في بداية حكم الخديوي إسماعيل.
- قضى قاسم أمين سنواته الأولى في الإسكندرية، وحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة (رأس التين) .
- انتقلت أسرته إلى القاهرة، فالتحق قاسم بالمدرسة التجهيزية (الثانوية)، القسم الفرنسي.
- ثم التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، وهي مدرسة عليا كانت البديل لكلية الحقوق، فحصل على الليسانس وهو في العشرين من عمره سنة 1881م.
- اتجه قاسم بعد تخرجه إلى العمل بالمحاماة فترة يسيرة.(62/2)
- سافر في نفس العام 1881م في بعثة دراسية إلى فرنسا، منتظماً في جامعة "مونبلييه"، وبعد دراسة استمر فيها أربع سنوات أنهى دراسته القانونية بتفوق في سنة 1885م.
- التقى بالشيخ محمد عبده في باريس، فكان المترجم له.
- أقام علاقة غزلية بفتاة فرنسية اسمها ((سلافاً)).
- عاد إلى القاهرة عام 1885م.
- تعين في القضاء حال عودته.
- بعد شهور من عودته توفي والده محمد بك أمين.
- في عام 1889م رقي إلى منصب رئيس نيابة "بني سويف" بصعيد مصر.
- في عام 1891م تعين نائب قاضٍ في محكمة الاستئناف، ثم رقي إلى منصب مستشار.
- كان خلال فترة عمله الرسمي يمارس الكتابة في الصحف والمجلات المختلفة.
- في عام 1894م أصدر كتابه (المصريون) بالفرنسية يرد به على هجوم الدوق الفرنسي "دار كور" على المصريين.
- أصدر كتابه الشهير "تحرير المرأة" عام 1899م، وكتابه "المرأة الجديدة" عام 1900م.
- ساهم في الدعوة إلى إقامة الجامعة المصرية.
- توفي في ليلة 23 إبريل عام 1908م عن عمر يناهز الخامسة والأربعين.
ذكاء قاسم أمين:
كان قاسم أمين -كما يقول الشيخ محمد قطب- "فيه ذكاء غير عادي، حصل على ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين، بينما كان هناك في عصره من يحصل على الشهادة الابتدائية في سن الخامسة والعشرين!" (3).
قلت: ومن يقرأ كتابيه : (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) يتيقن هذا الذكاء الذي امتاز به قاسم، ولكنه –للأسف- سخره للدعوة إلى إفساد المرأة المسلمة.
فهو –في كتابيه- يجيد بث الشبهات وإقناع القارئ بها، والإجابة عن ما يعارضها مما يجول بذهن القارئ، بعبارة سلسلة ماكرة.
الشخصية الأولى لقاسم !(62/3)
- قام الفرنسي (الدوق داركور) وهو ممن زار مصر عدة مرات بإصدار كتاب في عام 1893م سماه (سر تأخر المصريين) حمل فيه على أهل مصر، مركزاً حملته على نساء مصر، ساخراً من حجابهن وقرارهن في البيوت، مهاجماً المثقفين المصريين لسكوتهم وعدم تمردهم على هذه الأوضاع.
فلما قرأ قاسم أمين كتاب (داركور) تألم أشد الألم، حتى قال عن نفسه "حين قرأت كتاب دوق داركور مرضت عشرة أيام"(4)، وقام بالرد على كتاب (داركور) للدفاع عن المصريين؛ لا سيما النساء .
فمن أبرز ما جاء في رده هذا مما يهمنا:
1- دفاعه عن الحجاب وعدم الاختلاط : يقول قاسم: "أن ديننا ... أوصى بأن يكون للرجال مجتمعهم الذي لا تدخله امرأة واحدة، وأن يجتمع النساء دون أن يقبل بينهن رجل واحد، لقد أراد بذلك حماية الرجل والمرأة مما ينطوي عليه صدرهما من ضعف، والقضاء الجذري على مصدر الشر"(5)
ويقول "إننا نحس جميعاً أن لنا نظاماً يرسخ من الاتحاد بين الزوجين، فلا نعرف نساءً غير نسائنا، كما لا تعرف زوجاتنا رجالاً غيرنا، وهذا ما يجعلنا أزواجاً متفاهمين ... "(6)
2- دفاعه عن تعدد الزوجات : يقول: "نستطيع أن نخلص –كما رأينا- إلى أن تعدد الزوجات قد أقر ليضمن المأوى للمرأة والأبوة الأكيدة الدائمة للأبناء ... "(7).
3- دفاعه عن نظام الطلاق : يقول : "إن حرية الطلاق شيء حسن، وإنها توثق روابط الزواج بدلاً من إضعافها ... "(8) .
4- نقده للنصرانية: يقول: "إن الإسلام يحرز كل يوم تقدماً ... ويحدث هذا دون استخدام أسلحة، ودون توزيع نقود، ودون إرسال مبشرين، في حين أن الدين المسيحي الذي زيفه قسسكم، وطعن في وطنه باسم العلم والسياسة، يحاول الآن عبثاً أن يأخذ ثأراً متواضعاً ... "(9) .
5- هجومه على أوربا ونسائها:
يقول: ((المرأة الفرنسية حين تتزوج تصبح كائناً ناقصاً، وترتد إلى الطفولة ثانياً ... .))(10).(62/4)
ويقول : ((إن عادات بعض الطبقات الأوربية ساهمت –كما لو كان ذلك عن قصد- في زيادة الفرص التي تيسر السقوط ... ))(11).
ويقول : ((تكشف الإحصاءات الفرنسية عن أن نسبة واحد وأربعين في المائة من نساء الهوى المعروفات رسمياً قاصرات، وأن أكثر من ربع المواليد المعروفين أبناء غير شرعيين، وأن المجتمع يفقد كل عام مائة وخمسين ألف طفل يُقتلون ساعة ولادتهم أو خلال الحمل ... ))(12).
ويقول : ((إن ما هو القاعدة في أوربا –بخاصة فيما يتعلق بخيانة الأزواج- ليس في مصر إلا الاستثناء)) (13).
ويقول : ((إن في أوربا شراً كبيراً)) (14).
6- مدحه للإسلام وأخلاقه:
يقول: ((إن الدين الإسلامي –في إيجاز- ينطوي على أنقى خلق عرفه الناس حتى اليوم، والقرآن كتاب يجمع أحسن الأخلاق)) (15).
ويقول : ((إن الأخلاق الإسلامية تخلق رجالاً طاهري الذيل، قادرين على تخطي أقسى التجارب دون تخاذل، كما أنه يمنحنا زوجات فضليات يضعن شرفهن كله في دعم بيت الزوجية وحسن إدارته)) (16).
7- أنه حمل فيه على النساء المصريات المتأثرات بالغربيات، ومن ذلك قوله: ((إنني لا أرى الفائدة التي يمكن أن يجنيها النساء بممارسة حرف الرجال ... إن مشهد الأم المتفانية يملؤني حناناً، كما يحرك شعوري مشهد الزوجة التي تعنى ببيتها، في حين أني لا أشعر بأية عاطفة حين أرى امرأة تهل على خطى الرجال، ممسكة كتاباً في يدها، وتهز ذراعي في عنف، وهي تصيح بي: كيف حالك يا عزيزي؟ بل لعلي أشعر بشيء غير بعيد عن النفور)) (17).
وقوله عنهن : ((إنني أحتقر إدعاء النساء وتحذلقهن)) (18).
وهذه الحملة على المصريات المتفرنجات هي سبب غضب إحدى الأميرات عليه –كما سيأتي-.
ولكن : -رغم هذا- يكتشف القارئ لرد قاسم على داركور!
1- أن قاسماً ألف كتابه هذا في لحظة غضب، حمية لأبناء وطنه الذين انتقدهم هذا الدوق الفرنسي، ولم يكن رده منبعثاً عن (اقتناع كامل) بجميع ما قاله! ويشهد لهذا:(62/5)
2- أن رده قد اتسم بالخنوع والذلة وعدم الثقة بما لديه في مقابل الخصم. ولهذا نجده :
- يقول عن خصمه : "صدقني يا سيدي دوق داركور ... "(19) .
- ويقول في مقدمة كتابه : "إنني استميح أصدقائي الأوربيين عذراً إذا كنت قد تحاملت أحياناً على أوربا، مؤكداً لهم أن هذا لا يقلل من حبي لهم)) (20) !!.
- ويقول : "ألا يجدر بأوربا أن تعاملنا بحدب الأخت الكبرى؟ لماذا يا إلهي هذه الكراهية الحمقاء المتبادلة بين الجانبين"(21) ! .
- ويقول : "يجب أن نحمل إنجلترا مسئولية مستقبل مصر، ما دامت تمسك بمصيرها بين يديها"(22) !.
- ويقول : "لعل أوربا تقدر لمصر مسيرتها، ولعلها ترد لها بعض هذا الود الكبير الذي تكنه لها مصر"!(23) .
3- أنه يقرر في كتابه هذا –بفخر!- أن بلاده سوف تتابع خطى أوربا، ولكن لا تعجلوا علينا! أو تسخروا منا! .
- يقول قاسم: "ولهذا كان أمامها –أي مصر- طريقان: العودة إلى تقاليد الإسلام، أو محاكاة أوربا. وقد اختارت الطريق الثاني"(24) !.
- "إن مصر تتحول إلى بلد أوربي بطريقة تثير الدهشة ... "(25) .
- "لقد أخذ تأثير أوربا يتزايد في مصر منذ عصر سعيد حتى أصبح له في عصر إسماعيل سيطرة حقيقية علينا؛ إذ باتت كل أفعالنا ولفتاتنا خاضعة للأوامر الصادرة من مجلس وزراء باريس ولندن وبرلين، وأضحى وزراؤنا يميلون مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، خاضعين دائماً لأوربا"(26) !.
4- أنه تصدر منه بعض الفلتات تؤكد أن دفاعه عن الحجاب أو عدم الاختلاط إنما هو حميّة (لعادات) أبناء وطنه، وليس عن اقتناع شرعي بهما.(62/6)
- فمن ذلك قوله عن المجتمع الأوربي: "يضم المجتمع الأوربي الرجال والنساء دائماً، فيسهل الاتصال بينهم، وتنشأ فيما بينهم علاقات آلفة وصداقة وحب، وهذا الاختلاط بين الجنسين في الاجتماعات يُسبغ، عليها عذوبة ورقة، فالسحر الذي تشيعه المرأة في كل مكان توجد فيه شيء ممتع ونفاذ كعطر الزهور. وفي مثل هذه الاجتماعات ينعم المرء دائماً بالمرح، وغالباً ما يتودد للغير، ويخرج في النهاية مفعم القلب بالرضا!" (27) !!.
فهل يقول مثل هذا الكلام من هو (مقتنع) بمفاسد الاختلاط بين الجنسين؟! أم أن الأمر لا يعود حمية وطنية سرعان ما تخبو –كما سيأتي- ؟!
انتقال قاسم أمين إلى صف دعاة التحرير!
لما قرأت الأميرة (نازلي فاضل!) (28) –وهي حفيدة إبراهيم باشا- كتاب قاسم أمين ولمزه للمصريات المتفرنجات علمت أنه لا يعني غيرها! لأنها كانت الوحيدة من نساء مصر التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تبث منه الدعوة إلى التغريب عامة وإلى "تحرير المرأة" خاصة فغضبت منه أشد الغضب، وتهددت وتوعدت.
- قام الشيخ محمد عبده وسعد زغلول بتعنيف صاحبهما قاسم أمين، وطالبوه بالاعتذار من الأميرة! بعد أن أحضروه إلى صالونها.
يقول عبد العزيز البشري في احتفال بذكرى قاسم أمين : "إن قاسماً كان في مبدأ حياته من الرجعيين(29)، حتى إنه لما رد على الدوق (داركور) دافع عن الحجاب واستنكر السفور، فظنت الأميرة (نازلي فاضل) أنه يقصدها، فغضبت لذلك، ولكن سعداً قدم صديقه إليها، ولما رأى شدة عقلها ورجاحة حلمها ووثاقة فضلها! انقلب عن رأيه، وأخذ يطالب بتحرير المرأة"(30)(62/7)
هذا ما يقوله البشري! ولعل الأقرب للصواب أن قاسماً في رده على (داركور) لم يصدر عن عقيدة راسخة في مواضيع المرأة ولا عن تدين، وإنما كان يصدر عن حمية وطنية –كما سبق- ولهذا سهل عليه مناقضة رده بكتابه (تحرير المرأة) رغم الفارق الزمني اليسير بين الكتابين، لا سيما وقد واجهته ضغوط شديدة من شيخه محمد عبده، ومن صاحبه سعد زغلول غيرت موقفه إلى النقيض. وهكذا المسلم الذي لا تكون أساساته متينة، سرعان ما ينهار أمام الفتن والشبهات.
-بعد هذا أصدر قاسم كتابه (تحرير المرأة) إرضاءً للأميرة نازلي ومن معها واستجابة لرغباتهم، ودعا في هذا الكتاب إلى ما كان يدعو إليه (داركور) الذي سبق لقاسم أن رد عليه قبل خمس سنوات تقريباً!! فاللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك. فصار حال قاسم:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيتُ معدّياً فعدناني !
-ولتسهيل مهمة قاسم في تأليف كتابه (تحرير المرأة) فقد قام شيخ العصرانيين محمد عبده بمساعدته في كتابة بعض فصوله؛ لا سيما المتعلقة بالأمور الشرعية التي يجهلها قاسم أمين.
ولقد أثبت الباحث الدكتور محمد عمارة(31) بأن كتاب (تحرير المرأة) (إنما جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين.. وأن في هذا الكتاب عدة فصول قد كتبها الأستاذ الإمام ! وحده، وعدة فصول قد كتبها الإمام! وحده، وعدة فصول أخرى كتبها قاسم أمين)
ثم ساق أدلته على ذلك. وأثبت أن (فصول "الحجاب الشرعي"، و"الزواج"، و"تعدد الزوجات" و"الطلاق" في كتاب تحرير المرأة إنما هي فكر خالص، وصياغة خالصة للأستاذ الإمام! ... .) أي محمد عبده. (32)
وأما سبب عدم مجاهرة محمد عبده بهذه الآراء التي جاهر بها قاسم أمين فهو أنه كان يخشى الحرج واستنكار العلماء والناس عليه؛ لأنه يعد من جملة الشيوخ المتخرجين من الأزهر، الذين لن يتقبل الناس منهم بسهولة مثل هذه الآراء المتحررة.(62/8)
قاسم أمين لم يكن أول من دعا لتحرير المرأة(33) :
فقد سبقه آخرون، ومهدوا له طريق التغريب، إضافة إلى أن الأحوال الاجتماعية في بلاده كانت مهيأة لمثل هذه الدعوة فقد سبقه إلى هذا –على سبيل المثال-:
1- رفاعة الطهطاوي (ت 1873م) في كتابه "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" (عام 1834م)، وكتابه الآخر "المنهج الأمين لتعليم البنات والبنين" (عام 1873م). وإن كانت دعوته أهدأ صوتاً من قاسم نظراً لخلفيته الشرعية.
2- فارس الشدياق في كتابه "الساق على الساق.." المطبوع عام 1855م.
3- صدرت أول مجلة نسائية تحت عنوان "الفتاة" في نوفمبر عام (1892م)، أي قبل 7 سنوات من صدور كتاب "تحرير المرأة" لقاسم.
4- مرقص فهمي الذي ألف كتابه "المرأة في الشرق" (عام 1894م) داعياً فيه صراحة إلى القضاء على الحجاب الشرعي وغيره من الأفكار التي دعا إليها قاسم بعده. ولعله لم يلاق ما لاقاه قاسم من ردة فعل نظراً لكونه من أبناء النصارى الذين لا يستغرب المسلمون تحررهم، بخلاف (المسلم!) قاسم أمين.
5- ذكر محمد طلعت حرب(34) في رده على قاسم أمين أن هناك من سبق قاسماً إلى الدعوة إلى مثل أفكاره؛ كأحد الأتراك في كتاب سماه (الرحلة الأصمعية)، وأمير علي أحد علماء الهند. ويشكك حرب في أن قاسماً ربما نقل أفكارهما إلى مصر بعد اطلاعه على كتابتهما(35).
الخلاصة أن دعوة قاسم أمين "حدثت نتيجة تطورات اقتصادية واجتماعية وفكرية"(36)، يأتي في مقدمتها –في نظري-:
1- ضعف المسلمين وتسلط الأعداء عليهم (الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي كان يؤيد مثل هذه الدعوات –كما سيأتي-)
2- وجود من يعيش في مصر من غير المسلمين؛ كالنصارى واليهود الذين تحررت نساؤهم مبكراً، فمهدن لضعيفات الدين والعقول من بنات المسلمين أن يقلدنهن.(62/9)
3- وجود أنواع من الظلم والاحتقار كانت تقع على المرأة المسلمة، ولم يأت بها الشرع؛ كحرمانها من الميراث مثلاً، أو أنها لا تأكل مع زوجها ... وهكذا. كل هذا أدى إلى انفلات بعض النساء المسلمات إلى الطرف المقابل وهو التحرير هرباً من هذا الظلم.. فكن كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
4- أن وسائل التأثير والإعلام كانت بيد أعداء الله من كفار ومنافقين؛ فاستغلوها في تمهيد المجتمع لتقبل دعوة التحرير.
إذن فدعوة التحرير قد سبقت قاسم أمين بسنين؛ لكنها عرفت به فكان (إمامها) (37) بسبب تركيزه عليها، وقصر جهوده وكتاباته في سبيلها؛ إضافة إلى تسميته كتابه بهذا الاسم المثير "تحرير المرأة" الملاصق للفكرة.
قاسم أمين والخطوات المتدرجة:
عمد قاسم أمين إلى اتباع التدرج في دعوته إلى تحرير المرأة المسلمة، والسير بخطوات شيطانية متزايدة نحو هذا الهدف.
فكان –كما يقول الدكتور سيد فرج- يخفي (شيئاً عن الناس في كتاب "تحرير المرأة" عزم على كشفه في كتابه "المرأة الجديدة". يقول قاسم أمين في أول صفحات الكتاب –أي تحرير المرأة- : إني لست ممن يطمع في تحقيق آماله في وقت قريب ... )(38)
قلت: ويشهد لهذا هذه المقارنة بين الكتابين:
1- بينما كان قاسم أمين في كتابه (تحرير المرأة) يُكثر من الاستشهاد بالنصوص الشرعية، ويدعي الوقوف عندها والرضى بها! نجده في كتابه (المرأة الجديدة) لا يحفل بهذه النصوص الشرعية، وإنما يستبدلها بأقوال الغربيين!؛ كبول دروزيه، وسيملس، وشيلر، وروسو، وفنلون، ولامارتين، واستوارت ميل، وسبنسر، وأدمون ديمولان، وغيرهم! فهم الحجة وإليهم المرجع في شأن المرأة المسلمة!
يقول الأستاذ محمد محمد حسين –رحمه الله-: (غلب المنهج الغربي الحديث على كتابه الثاني "المرأة الجديدة" ) (39)(62/10)
2- بينما كان قاسم أمين في كتابه (تحرير المرأة) يزعم أنه يدافع عن الحجاب، ويكتفي فقط بالدعوة إلى كشف الوجه واليدين، نجده في كتابه (المرأة الجديدة) يشن حرباً ضد الحجاب الإسلامي، ويصفه بأبشع الصفات.
يقول قاسم في (تحرير المرأة) : (إنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها) (40)
أما في (المرأة الجديدة) فيقول:
- (إن إلزام النساء بالحجاب هو أقسى وأفضع أشكال الاستعباد) (41)
- (أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية) (42)
- (الحجاب عادة لا يليق استعمالها في عصرنا) (43)
- (الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق) (44) الكل: أي أسياده الغربيين !!
- وأخيراً يقول : (أول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب) (45)!!
وصدق الله (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه)
3- بينما كان قاسم أمين في كتابه (تحرير المرأة) يمدح النساء الغربيات على استحياء، نجده في كتابه (المرأة الجديدة) يجعلهن القدوة والنموذج للمرأة المسلمة! يكتب هذا بلغة صريحة جريئة .
يقول قاسم: (دخلت المرأة الغربية في طور جديد، وأخذت في تثقيف عقلها وتهذيب أخلاقها شيئاً فشيئاً، ونالت حقوقها واحداً بعد الآخر، واشتركت مع الرجال في شئون الحياة البشرية، وشاركتهم في طلب العلم في المدرسة، وسماع الوعظ في الكنيسة، وجالستهم في منتديات الأدب، وحضرت في الجمعيات العلمية، وساحت في البلاد ... هذا التحويل هو كل ما نقصده، غاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى هذا المقام الرفيع)(46) .(62/11)
ويقول : (ليس من الممكن أن تصل المرأة إلى هذه المنزلة الأدبية ما دامت في الحجاب، ولكن من السهل جداً أن تصل إليها بالحرية، تصل إليها كما وصلت إليها غيرها من النساء الغربيات. فإنا نرى أنه كلما زيد في حرية المرأة الغربية زاد عندها الشعور بالاحترام لنفسها ولزوجها ولعائلتها) (47) !!.
وينقل –مؤيداً- عن أحد الغربيين أنه أثنى على (كمال عفة النساء الإنكليزيات والإميركانيات والألمانيات) (48) !!
4- بينما كان قاسم أمين في كتاب (تحرير المرأة) يمدح الإسلام ويثني على شرائعه، ويفضله على غيره، نجده في كتابه (المرأة الجديدة) يصف الإسلام بأبشع الصفات! ويفضل غيره عليه! ولو كان تراث اليونان!، وهو عندما يريد الطعن في دين الإسلام فإنه يسميه (التمدن الإسلامي) تلبيساً وحرجاً من عدم قبول المسلمين لمطاعنه تلك.
يقول عدو المرأة عن شرائع الإسلام: (أين هذه الفوضى من النظامات والقوانين التي وضعها الأوربيون لتأكيد روابط الزوجية وعلاقات الأهلية؟ بل أين هي من القوانين اليونانية الرومانية ... )(49) ! .
ويقول : (من الغريب أن المسلمين في جميع أزمان تمدنهم لم يبلغوا مبلغ الأمة اليونانية) (50) ! .
ويقول لامزاً الإسلام بأنه غير كامل! : (الكمال البشري لا يجب أن نبحث عنه في الماضي، بل إن أراد الله أن يمن على عباده فلا يكون إلا في المستقبل البعيد جداً) (51) !.
ويقول معرضاً بأن الإسلام استعبد المرأة ! : (عاشت المرأة حرة في العصور الأولى، حيث كانت الإنسانية لم تزل في مهدها، ثم بعد تشكيل العائلة وقعت في الاستعباد الحقيقي) (52) .(62/12)
إذاً: فقد كان كتاب (تحرير المرأة) تمهيداً لما بعده، وخطوة أولى في طريق تدمير المرأة المسلمة، ثم جاء الكتاب الثاني (المرأة الجديدة) مكملاً له، مع جرأة في الطرح، وآمال تغريبيه أكبر. وهكذا هي (خطوات الشيطان) تسلخ المرء عن شرع الله شيئاً فشيئاً وهو يظن أنه يتطور إلى الأفضل والأحسن، (أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً) .
إلى ماذا كان يدعو في كتابه ؟! وماذا كان يخفي ؟ !
كما ذكرت سابقاً فقد كان قاسم في كتابه (تحرير المرأة) ينسج على منوال الشيطان في خطواته، فهو كشأن أي مفسد أو منحرف يريد نشر فساده وانحرافه بين الأمة لابد له أن (يقولب) هذا الفساد والانحراف في قالب إسلامي، ليضمن قبول الناس له، ثم بعد أن يثبت الخطوة الأولى للفساد والانحراف تبدأ عقبها الخطوات الأخرى بسهولة أكثر.
ولو تأمل متأمل في تاريخنا كله لوجد ضرر هذه الطائفة (المنافقة) على الأمة أشد كثيراً من ضرر أعدائها، ولهذا جاءت النصوص الشرعية تحذر منهم، وتصفهم بأنهم (هم العدو)، وتأمر بالحذر منهم والإرصاد لهم.
ولكنها في المقابل أخبرت بأن في الأمة من يسمع لهم (وفيكم سماعون لهم)، وأنهم (إن يقولوا تسمع لقولهم)، وأنهم لا يُعْرفون إلا (في لحن القول)، كل هذا الخفاء بسبب أنهم يمزجون انحرافاتهم وفسادهم بمزيج شرعي يوصلهم إلى أهدافهم .
فالفرق بين المصلح والمفسد في معظم الأفكار التي تطرح لتطوير المجتمعات الإسلامية فرق يسير في الظاهر وفي الحال، ولكنه كبير في الباطن وفي المآل .
وما مثال المصلح من المفسد في هذه القضايا المطروحة في مجتمعات المسلمين إلا كمثل رجلين رأيا شجرة مثمرة حولها بعض الحشائش الضارة، وينقصها بعض السماد والماء ليدوم خيرها ويتبارك نماؤها. أما الأول (وهو المصلح) فقد قام بسقيها وتسميدها وقلع الحشائش الضارة من حولها (فآتت أكلها ضعفين).(62/13)
وأما الثاني (وهو المفسد) ، فهو قد زعم للناس بأنه سيخلصها من الحشائش الضارة التي أفسدت عليها نموها، وقام متظاهراً بقلع هذه الحشائش طالباً نجدة الناس له في مهمته تلك، إلا أنه أخذ يقلع الشجرة غصناً غصناً مع هذه الحشائش. فإن لم يدركه العقلاء، وإلا خسروا هذه الشجرة المباركة.
هذا مثل مناسب لحال هؤلاء المفسدين الذين يزعمون أنهم في دعواتهم وأفكارهم يخدمون الأمة ويقودونها نحو التقدم، ويخلصونها من الأضرار التي تعوقها.
وهكذا كان قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة" ، فهو قد طرح في هذا الكتاب أفكاراً (باطنها فيه الرحمة وظاهرها من قبله العذاب) ، كانت بمثابة الخطوة الأولى نحو سفور المرأة المسلمة وتقليدها للكافرات في كل أمورها –والعياذ بالله-.
فهو قد اقتصر في هذا الكتاب على هذه الأفكار:
1- الدعوة إلى تعليم المرأة ولو كان التعليم الابتدائي مؤقتاً.
وهذا –كما هو معلوم- مطلب شرعي تؤيده النصوص ولا تعارضه.
ولكن الفرق بين (المصلح) و(المفسد) في هذا الموضوع يكمن في أمرين:
1- ماذا تتعلم المرأة؟
2- كيف تتعلم؟
وكلاهما لم يوضحه قاسم!! ولكن من تأمل و(تلمح) في كتابه يجده قد ألمح أن هذا التعليم سيكون كتعليم الغربيات ! مع تحسينه (للاختلاط) في هذا التعليم(53)!
يقول قاسم: (من المشاهد التي لا جدال فيه! أن نساء أمريكا هن أكثر نساء الأرض تمتعاً بالحرية، وهن أكثرهن اختلاطاً بالرجال، حتى أن البنات في صباهن يتعلمن مع الصبيان في مدرسة واحدة، فتقعد البنت بجانب الصبي لتلقي العلوم، ومع هذا يقول المطلعون على أحوال أمريكا أن نساءها أحفظ للأعراض وأقوم أخلاقاً من غيرهن) (54)!!
إذن: لو قيل لقاسم: لا مانع لدينا أن تتعلم المرأة ؛ لأن هذا ما أتت به شريعة الرحمن، ولكننا سنعلمها الأمور التي تنفعها في دينها، وفي دنياها الملائمة لطبيعتها، وسيكون تعليمها دون اختلاط .
هل تراه يوافق؟!(62/14)
لا ! لأن (الهدف) هو غير التعليم! وهكذا شأن المفسدين في (جميع) القضايا المتعلقة بالمرأة .
2- الدعوة بأن تسفر المرأة عن وجهها؛ زاعماً بأن هذا هو الحجاب الشرعي؛ ولهذا فهو متحمس لرد الناس إليه !!
ما أشد ورعك يا قاسم!
لو كانت دعوتك هذه في محيط متبرج قد ولى ظهره للفضيلة متهاوياً في دركات الرذيلة، لقلنا لعلها خطوة أولى تعيدهم إلى جادة الصواب.
أما أن تأتي إلى مجتمع قد تدثر نساؤه بدثار الفضيلة، والتزم حكم الله في اسباله الحجاب على وجوه نسائه ثم تطالبهم بالسفور!، فهذا ما يجعل العقلاء يحكمون على دعوتك بأنها دعوة إلى الفساد، وخطوة أولى نحو تدمير المرأة وتهتكها بعد أن تهتك حجابها .
ثم تفتري بأن تغطية الوجه لم يأت بها الشرع! فهذا من أشد العجب، ومما يشهد بأن هدفك الإفساد لا الإصلاح.
فانظر إلى وقاحة وجرأة هذا المفتون وادعائه الورع الكاذب في قوله: (لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصاً تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص مهما كانت) (55)!!
3- الهجوم على تعدد الزوجات وتضييقه : فهو يرى أن التعدد يعد (احتقاراً شديداً للمرأة) (56)
وأنه يجب أن لا يسمح بالتعدد إلا في حالتين:
I- أن تكون الزوجة مريضة.
II- أو أن تكون لا تنجب(57).
قلت: وفي هذا تقبيح لما ارتضاه الله، وتحجير لما وسعه على عباده؛ لأن التعدد أمر شرعي، لا حرج منه، مع لزوم العدل بين الزوجات، ومن حاف أو ظلم فليتحمل وزره يوم القيامة. ولكن حيف بعض الرجال وظلمهم لنسائهم لا يسوغ لنا أن نقيد ما أطلقه الله، أو أن نضيق ما وسعه، فنشرع لأنفسنا ما لم يشرعه الله –عز وجل-.
4- تقييد الطلاق: وقد خلط لأجل هذا الأمر بين أشياء حسنة وأخرى سيئة. فمن الحسن مثلاً : أنه يرى أن المحاكم يجب أن تحكم بأن الطلاق الثلاث في مجلس واحد لا يقع إلا واحدة(58)، كما هو القول الصحيح.(62/15)
ومن الأشياء السيئة: أنه يعتد بأقوال أهل البدع؛ كالرافضة، أو زعمه بأن الشهادة على الطلاق شرط لصحة وقوعه، أو إلزامه المطلق بأن يطلق زوجته أمام القاضي! ونحو هذه التحكمات(59) التي يظنها تقيد الطلاق وتنصر المرأة، وهو يخالف بها شرع الله الذي يريد بنا اليسر لا العسر.
هذه الأمور الأربعة هي التي يدور عليها كتاب "تحرير المرأة"، وهي التي ارتضاها قاسم ومن وراءه! مؤقتاً لتكون منطلقاً إلى غيرها من خطوات (التحرير) إذا ما تقبلها المجتمع المصري المسلم.
الأفكار والأساليب التي استفادها المتحررون من كتاب قاسم :
لقد ذكرت في مقدمة الكتاب بأن أهل التحرير قد اتخذوا من كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" كتاباً مقدساً يصدرون عنه في أقوالهم؛ لاسيما في المجتمعات المسلمة التي لم تخط خطواتها الأولى نحو "التحرير" ! وفي ظني أن السبب الذي جعل هؤلاء المتحررين والمتحررات يخضعون لكتاب قاسم هو ما أوتيه الرجل من ذكاء ومعرفة بأساليب التغيير وبث الشبهات، وقدرة فائقة على إقناع السذج، يعرف هذا من خبر كتابه؛ حيث كفى القوم في هذا الأمر، حبكاً للشبهات، وصياغة لها.
ولهذا نجد هؤلاء المتحررين والمتحررات –عند تأمل كتاباتهم- مجرد صدى لصوت قاسم في كتاب "تحرير المرأة" .
وفيما يلي سأسرد أبرز الشبهات والأساليب الماكرة التي ذكرها قاسم في كتابه لإقناع الناس بأفكاره المفسدة، وذلك من خلال عرض أقواله –كما هي-، حيث ستجدها لا زالت تردد في كتابات أهل التحرير إلى يومنا هذا مع تغييرات طفيفة في بعضها لزوم العصر!:
1- التفريق بين الدين والعادات:
يقول قاسم: (ليس في أحكام الديانة الإسلامية ولا فيما ترمي إليه من مقاصدها ما يمكن أن يُنسب إليه انحطاط المرأة المسلمة. بل الأمر بالعكس فإنها أكسبتها مقاماً رفيعاً في الهيئة الاجتماعية .(62/16)
لكن، وا أسفاه! قد تغلبت على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها عن الأمم التي انتشر فيها الإسلام ودخلت فيه حاملة لما كانت عليه من عوائد وأوهام، ولم يكن العرفان قد بلغ بتلك الأمم حداً يصل بالمرأة إلى المقام الذي أحلتها الشريعة فيه) (60).
ويقول:(لو كانت عوائدنا فيما يتعلق بالنساء لها أساس في شريعتنا لكان في ميلنا إلى المحافظة عليها ما يشفع لنا. أما وقد برهنا على أن كل ما عرضناه من أوجه الإصلاح يتفق تمام الاتفاق مع أحكام الشريعة ومقاصدها. فلم يبق لنا عذر في التمسك بها سوى أنها قد تقدست بمرور الزمان الطويل)(61).
ويقول: (سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة. فأقول : نعم أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمد طلب الكمال فيها) (62).
تعليق: يعمد أهل التحرر إلى إيهام المسلمين بأنهم إنما يحاربون (العادات) أو(التقاليد) لا (الإسلام) أو (الشريعة)؛ لكي يتقبل المسلمون دعوتهم، ولكي لا يواجهوا بردة فعل منهم. ولو تأملت في (عاداتهم) و(تقاليدهم) التي يحاربونها لوجدتها أموراً شرعية، بل من الثوابت أحياناً! ولكنه التلبيس والمكر –عافانا الله من ذلك-.
2-مدح الإسلام بألفاظ عامة:
يقول قاسم: (سبق الشرع الإسلامي كل شريعة سواه في تقرير مساواة المرأة للرجل، فأعلن حريتها واستقلالها يوم كانت في حضيض الانحطاط عند جميع الأمم ... الخ ) (63).(62/17)
ويقول: (ذهب جمهور الأوروباويين وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين، إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم، حتى الذين يشاركونهم في الإقليم ويساكنونهم في البلد الواحد. ولم يقصد أحد منهم، خصوصاً أفاضل المسلمين المشتغلين بأحوال الأمم الإسلامية، أن يتهم الدين الإسلامي الحقيقي بأنه السبب في انحطاط المسلمين، فإن كل من عرف هذا الدين من الأجانب، فضلاً عن أبنائه المنتسبين إليه، يجل قدره ويحترمه ويعترف أن آثاره الماضية في الأمم التي انتشر بينها برهنت على أنه وسيلة من أفضل الوسائل، وعامل من أقوى العوامل التي تسوق الإنسان في طريق الترقي والتقدم إلى غايات السعادة) (64).
تعليق: يمدح المتحررون الإسلام والشريعة بألفاظ عامة توهم السذج بأنهم راضون بدين الله. وما دروا أن القوم يخفون من وراء هذا المديح الزائف أهدافاً إفسادية. وسبب المديح –كما سبق- أن يتقبل الناس دعوتهم، وأن يظنوهم إنما يحاربون (العادات) و(التقاليد) الضارة لا الإسلام الذي يمدحونه بهذه العموميات الجوفاء. وصدق الله القائل عن أسلافهم (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)
ولو كان مديحهم صادقاً لارتضوا أحكام هذا الدين العظيم والتزموها وكفوا عن محاربتها أو إبداء الكراهية لها (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً)
3-التضجر من اعتزاز المسلمين بدينهم، وأن الله قد أكمله وارتضاه لهم:
يقول قاسم: (العار أن نظن في أنفسنا الكمال وننكر نقائصنا، وندعي أن عوائدنا هي أحسن العوائد في كل زمان ومكان) (65)(62/18)
تعليق: كثيراً ما يتأفف المتحررون من فخر المسلمين بدينهم وبأحكام شريعتهم اتباعاً لقوله تعالى (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا). ولكن هذا يضايق المتحررين؛ لأنه يشكل حاجزاً أمام إفسادهم؛ لعلمهم بأن المسلمين مهما ضعفوا لن يرضوا بغير أحكام ربهم (التي يصفها المتحررون بالعادات والتقاليد تلبيساً!) لن يرضوا بغيرها بديلاً.
وتلمس هذا من التضجر المستمر لأفراخ المتحررين عندنا من ما يسمونه تلبيساً (خصوصيتنا) أو (خصوصية المجتمع)! وما هي إلا (أحكام الشريعة) التي لا زالت سائدة لدينا –ولله الحمد-، وتقف أمام مخططاتهم وإفسادهم.
4-التدرج في التحرر:
يقول قاسم: (في رأيي أن المرأة لا يمكنها أن تدبر منزلها إلا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقلية والأدبية؛ فيجب أن تتعلم كل ما ينبغي أن يتعلمه الرجل من التعليم الابتدائي على الأقل) (66)
ويقول : (لست ممن يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن ولا أتردد في الطلب أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل) (67)
ويقول : (إن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود يحظر الخلوة مع الأجنبي، وفي هذا الحظر ما يكفي لاتقاء المفاسد التي لا تتولد إلا من الخلوة)(68).
ويقول: (أنا لا أقصد رفع الحجاب الآن دفعة واحدة) (69) .
تعليق: يلجأ المتحررون في دعوتهم إلى اتباع أسلوب التدرج في الخطوات كشأن شيخهم إبليس؛ وذلك ليتم تقبل المجتمع المسلم لفسادهم.
فعلى سبيل المثال: يتظاهر قاسم أمين بأنه لا يريد سوى أن تتعلم المرأة التعليم الابتدائي، وتكشف وجهها ويديها فقط، ولا تخلو بالأجانب. ولكنه –كما سبق- يرجئ الخطوات الأخرى إلى مرحلة لاحقة بعد تقبل المجتمع لأفكاره الأولى. وهذا ما حدث للأسف، فقد انخدع كثير من الناس بدعوته حتى تدرج بهم في دركات الفساد؛ من سفور واختلاط ونبذ لأحكام الشريعة.(62/19)
وهكذا يفعل المتحررون بعده؛ يبدأون بخطوة أولى ينخدع بها البسطاء، ثم تتوالى الخطوات.. (قارن ذلك بإلحاحهم على إصدار بطاقة للمرأة تحمل صورتها؛ حتى إذا اعتادت على السفور بواسطة الصورة، انتقلوا إلى السفور على أرض الواقع).
5-الحجاب عادة وليس عبادة:
يقول قاسم: (إن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصاً بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه عادة، معروفة عند كل الأمم تقريباً) (70)
ويقول: (الحق أن الإنتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية؛ لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام) (71)
ويقول: (لا نجد نصاً في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين؛ كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها) (72)
تعليق: سبق أن المتحررين يعلنون دائماً أنهم ضد العادات وليسوا ضد الإسلام، وهم كذبة؛ لأنهم يجعلون شعائر الإسلام ضمن العادات التي يحاربونها.
مثال ذلك: تركيزهم على أن الحجاب (أي ستر الوجه) من العادات لا من العبادات، وهم يعلمون أن الشريعة قد جاءت بالأمر به، لكنهم يخشون الاعتراف بهذا؛ لأنه يحبط كيدهم.
6-الهجوم على الحجاب وتشويهه:
يقول قاسم: (إن الحجاب على ما ألفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها، وبذلك يحول بين الأمة وتقدمها) (73)
ويقول: (إن الضرر في الحجاب عظيم) (74)
تعليق: يحاول المتحررون تقبيح الحجاب الشرعي بشتى الأساليب، ووصفه بأبشع الصفات؛ تنفيراً للمسلمات منه، لكي يضطروهن للسفور. ويتفاوت هذا الهجوم بين مجتمع وآخر بحسب مقياس التدين بين أفراده!
7-تزيين السفور وتوابعه :(62/20)
يقول قاسم: (إن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفتها وتصون نفسها عما يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة؛ فإن عفة هذه قهرية أما عفة الأخرى فهي اختيارية، والفرق كبير بينهما) (75)
ويقول : (إن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة من المرأة المحجوبة) (76)
تعليق: بعد أن يقبح المتحررون الحجاب الشرعي يبدأون في مدح مقابله وهو السفور والتحرر، ويصفونه بأحسن الصفات؛ قلباً للحقائق، مصداقاً لقوله تعالى عن المنافقين بأنهم (يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) ، وهكذا هم أصحاب القلوب المنكوسة يرون حسناً ما ليس بالحسن.
8-نصف الأمة معطل!
يقول قاسم: (إن النساء في كل بلد يقدرن نصف سكانه على الأقل فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمة) (77)
تعليق: هذا الأمر لا تكاد تخلو منه كتابات المتحررين؛ وهو الزعم بأن (نصف الأمة معطل)، وهم النساء إذا التزمن أحكام الشريعة، أو قولهم (المجتمع يتنفس برئة واحدة!)، أو (يطير بجناح واحد!)، ونحو هذه العبارات المخادعة التي توهم السذج بأن النساء إذا لم يخرجن ويتحررن فإنهن يبقين معطلات في البيوت(78)، ونسي هؤلاء المفسدون بأن المرأة تنتج أكثر من الرجل من خلال رعايتها لبيتها وتربيتها لأولادها، ولكن (قد علم كل أناس مشربهم)، فللرجل أعماله المناسبة له، كما للمرأة ذلك.
وهكذا خلق الله الجنسين في توافق وتكامل.
9-تضخيم واستغلال الظلم الواقع على بعض النساء:
يقول قاسم: (نرى النساء كل يوم في اضطرار إلى تسليم أموالهن إلى قريب أو أجنبي، ونرى وكلاءهن يشتغلون بشئون أنفسهم أكثر مما يشتغلون بشئون موكلاتهم، فلا يمضي زمن قليل إلا وقد اغتنى الوكيل وافتقر الأصلي)(79).(62/21)
ويقول: (نرى النساء يضعن أختامهن على حساب أو مستند أو عقد يجهلن موضوعه أو قيمته؛ لعدم إدراكهن كل ما يحتوي عليه، أو عدم كفاءتهن لفهم ما أودعه فتجرد الواحدة منهن عن حقوقها الثابتة بتزوير أو غش أو اختلاس يرتكبه زوجها أو أحد أقاربها أو وكيلها. فهل كان يقع ذلك لو كانت المرأة متعلمة؟ ) (80).
ويقول: (ومن غريب وسائل التحقيق أن تحضر المرأة مغلفة من رأسها إلى قدميها، أو تقف من وراء ستار أو باب ويقال للرجل: هاهي فلانة التي تريد أن تبيعك دارها أو تقيمك وكيلاً في زواجها مثلاً، فتقول المرأة: بعت، أو وكلت. ويكفي بشهادة شاهدين من الأقارب أو الأجانب على أنها هي التي باعت أو وكلت، والحال أنه ليس في هذه الأعمال ضمانة يطمئن لها أحد، وكثيراً ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغش والتزوير في مثل هذه الأموال ... الخ) (81).
تعليق: يلجأ المتحررون إلى تضخيم ما يقع على بعض النساء من ظلم واستغلال، لا سيما والإعلام اليوم بيدهم في معظم الدول، ثم يستغلون هذا الظلم الذي لا تخلو منه المجتمعات سواء على المرأة أو على غيرها! في محاولة تمرير أفكارهم أو اقتراح حلول مخالفة للشريعة قد يتقبلها بعض السذج فراراً إليها من الظلم؛ فيكونون كالمستجير من الرمضاء بالنار. (قارن ببطاقة المرأة التي يشترطون لها الصورة! مع إمكانية حفظ حقوق المرأة بوسائل متقدمة أخرى، ولكن الهدف ليس رفع الظلم، إنما الإفساد!).
10-استغلال احتقار المرأة في بعض المجتمعات:
يقول قاسم: (من احتقار الرجل المرأة أن يملأ بيته بجوار بيض أو سود أو بزوجات متعددة، يهوي إلى أيهن شاء، مقاداً إلى الشهوة مسوقاً بباعث الترف وحب استيفاء اللذة، غير مبال بما فرضه عليه الدين من حسن القصد فيما يعمل، ولا يما أوجبه عليه من العدل فيما يأتي.
من احتقار المرأة أن يطلق الرجل زوجته بلا سبب.(62/22)
من احتقار المرأة أن يقعد الرجل على مائدة الطعام وحده ثم تجتمع النساء، من أم وأخت وزوجة، ويأكلن ما فضل منه ...
من احتقار المرأة أن يسجنها في منزل ويفتخر بأنها لا تخرج منه إلا محمولة على النعش إلى القبر.
من احتقار المرأة أن يعلن الرجال أن النساء لسن محلاً للثقة والأمانة)(82)
تعليق : يلجأ المتحررون إلى استغلال ما يقع من احتقار للمرأة في بعض المجتمعات الإسلامية لا يقره الشرع، ولكنهم يستغلون ذلك في إقحام أمور شرعية مع تلك العادات الجاهلية بدعوى أن فيها احتقاراً للمرأة! تلبيساً على الناس. ولو أنهم اقتصروا في دعوتهم على محاربة العادات الجاهلية المحقرة للمرأة التي لم ينزل الله بها سلطاناً لوجدوا أن أهل الإسلام أول من يعينهم. ولكنهم لا يستطيعون ذلك ! لأن الهدف هو محاربة أحكام الشريعة أولاً ثم العادات الجاهلية ثانياً!
11-استغلال عواطف الناس (لاسيما النساء!) :
يقول قاسم: (أي نفس حساسة ترضى بالمعيشة في قفص مقصوصة الجناح مطأطئة الرأس مغمضة العينين، وهذا الفضاء الواسع الذي لا نهاية له أمامها، السماء فوقها، والنجوم تلعب ببصرها، وأرواح الكون تناجيها وتوحي إليها الآمال والرغائب في فتح أسرارها؟)(83) .
ويقول : (جرنا حبنا لحجاب النساء إلى إفساد صحتهن؛ فألزمناهن القعود في المساكن، وحرمناهن الهواء والشمس وسائر أنواع الرياضة البدنية والعقلية) (84).
تعليق: يستخدم المتحررون في دعوتهم أسلوب (تهيج العواطف)، لكسب أصوات الناس في صفهم؛ لأن الإنسان مجبول بطبعه على كراهية الظلم والسجن، فيستغل هؤلاء الأبالسة هذه الصفة (لاسيما عند النساء) باستخدام عبارات تبالغ في وصف النساء المظلومات المسجونات مكسورات الجناح ... .الخ في لغة متباكية حزينة! حتى يتم استدراج القراء وتهيئتهم للحل الوحيد لرفع هذا الظلم، وهو التحرر! فيصدق فيهم المثل الشهير: "لا تنظر إلى بكاء عينيه ولكن انظر إلى صنيع يديه" !(62/23)
وتأمل قوله: (وحرمناهن الهواء والشمس) !!! لتعلم مدى كيد الرجل وكذبه واستغلاله للعواطف.
وأما قوله: (وسائر أنواع الرياضة البدنية) فهو ما يدندن عليه المتحررون عندنا عندما يطالبون بالرياضة في مدارس البنات! ألم أقل لكم بأن القوم أتباع لإمامهم في الضلالة في كل صغيرة وكبيرة؟ ! .
12-الغلو في مدح الغرب ونسائه والخضوع لهم:
يقول قاسم: (تدخل بيت الغربي من أهل الطبقة الوسطى فتجده أتم نظاماً وأكمل ترتيباً وأجمل أثاثاً من بيت الشرقي من أهل طبقته) (85)
ويقول : (إننا نرى أن تربية المرأة في البلاد الغربية تفوق تربية الرجال ... )(86)
يقول : (من المشاهد التي لا جدال فيها أن نساء أمريكا هن أكثر نساء الأرض تمتعاً بالحرية، وهن أكثر اختلاطاً بالرجال، حتى أن البنات في صباهن يتعلمن مع الصبيان في مدرسة واحد، فتقعد البنت بجانب الصبي لتلقي العلوم، ومع هذا يقول المطلعون على أحوال أمريكا: إن نساءها أحفظ للأعراض وأقوم أخلاقاً من غيرهن، وينسبون صلاحهن إلى شدة الاختلاط بين الصنفين من الرجال والنساء في جميع أدوار الحياة) (87)!!
ويقول عابد الغرب: (هل يظن المصريون أن رجال أوروبا، مع أنهم بلغو من كمال العقل والشعور مبلغاً مكنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر في كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعالي وتفضل الشرف على لذة الحياة، هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي نعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفتها؟! هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا خيراً فيه؟ كلا!. وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السذج وتركن إليها نفوسهم ولكنها يمجها كل عقل مهذب وكل شعور رقيق) (88)!(62/24)
تعليق: الغرب برجاله ونسائه وجميع ما فيه هو قبلة المتحررين وقدوتهم، إليه يتوجهون، وبأوامره يأتمرون، وبنواهيه ينتهون، وهو المحلل عندهم والمحرم، وهو المحسِّن والمقبح .
ولا تعجب من ذلك ! فهكذا شأن العبد مع سيده . وهؤلاء المتحررون ما هم إلا عبيد لهذا الغربي الكافر.
فتنهم بمعرفته (ظاهر الحياة الدنيا) فأسلموه قيادتهم، ونبذوا دينهم لأجل ذلك، فصدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم : "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"
وقد دخل المتحررون جحر الضب! كما ترى ذلك في كتاباتهم الممجدة للغرب وما عنده.
وليتهم إذ قلدوا الغرب قلدوه في (دنياه) و(تقنيته) التي حازها وسبق غيره إليها(89)، لكنا إذاً معهم، ولكنهم جلبوا لنا سيئاته ومخلفاته تحت دعاوى (التقدم) و(التطوير)، فضلوا وأضلوا (وأحلوا قومهم دار البوار).
13-ماذا سيقول الغرب عنا ؟
يقول قاسم: (آن الوقت –على ما أظن- لتربية نفوسنا تربية صحيحة متينة علمية، تربية تنشئ رجالاً أولي علم وأصالة رأي، يجمعون بين المعارف والأخلاق والعلم والعمل، تربية تنقذنا من جميع العيوب التي يقذفنا بها الأجنبي في كل يوم) (90)
تعليق: هذه الفقرة مرتبطة بما قبلها. فعندما خضع المتحررون للغرب واتخذوه قدوة لهم؛ فإنهم أصبحوا يخشون نقده لما لا يعجبه في مجتمعاتهم. فكم قرأنا في كتاباتهم مثل هذه العبارات : ماذا سيقول الغرب عنا. وليتهم حرصوا على رضا ربهم قبل رضا الغرب الكافر الذي لن يرضيه إلا أن يتبع المتحررون ملته! (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
14-تضخيم موضوع المرأة:
يقول قاسم: (إن إقامة التمدن الحديث من البناء الشامخ وما وضعه من الأصول الثابتة إنما شيد على حجر أساسي واحد هو المرأة) (91).(62/25)
تعليق: المواضيع التي تهم الأمة كثيرة، ولكن المتحررين يصرون على تضخيم موضوع المرأة وعدم الالتفات لغيره، فهو ما عليه يدندنون وإليه يسعون، ويوهمون المتلقي بأن هذا الموضوع لو انحل بحسب ما يريدون لحلت جميع مشاكل الأمة! وهم مهما تحدثوا عن أي أمر من الأمور فإنهم –ولابد- سيقحمون فيه موضوع المرأة ولو كان لا مناسبة له في هذا الأمر(92)!
15-التركيز على وجوب أن نثق بالمرأة:
يقول قاسم: (إننا نعمل عمل من يعتقد أن النساء عندنا لسن أهلاً للعفة. أليس من الغريب ألا يوجد رجل فينا يثق بامرأة أبداً مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟ أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟ أيليق ألا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات، وأن نسئ الظن بهن إلى هذا الحد؟)(93) .
تعليق: سبق أن ذكرت بأن المتحررين يستخدمون الأساليب العاطفية لكسب الأصوات لدعوتهم المفسدة، ومن هذه الأساليب العاطفية التي تكثر في حديثهم وكتاباتهم الادعاء أن المرأة إذا التزمت أحكام الشرع فإننا بلا شك نكون غير واثقين منها. أما إذا تحررت فإنها ستكون محلاً للثقة. وهذا قلب للحقائق؛ لأنهم يعلمون أن الله –عز وجل- بحكمته، قد جعل هناك ميلاً متبادلاً بين الجنسين لتدوم الحياة، وشرع الطريق الحلال للاستمتاع بهذا الميل، وأغلق طرق الشر والاستمتاع المحرم، فمن يطالب بتحرير المرأة وسفورها بدعوى إعطائها الثقة يخالف حكم الله، ويعرض الجنسين للفتنة، والمجتمع للفساد المتلاحق.
وما حال هؤلاء إلا كحال من يلقي بشخص في النار بدعوى أننا يجب أن نعطيه الثقة، وأنه لن يحترق!. والله يقول (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) .
16-التظاهر بالورع!
يقول قاسم: (إننا نتمسك بعوائدنا الإسلامية ونحترمها) (94) .
ويقول: (لو كانت عوائدنا فيما يتعلق بالنساء لها أساس في شريعتنا لكان في ميلنا إلى المحافظة عليها ما يشفع لنا ... )(95) .(62/26)
ويقول : (لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصاً تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين؛ لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر؛ لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة) (96).
تعليق: يقول المثل: كاد المريب أن يقول خذوني ! فالمتحررون يشعرون بأن المؤمنين مطلعون على خبثهم وكيدهم وبغضهم للإسلام وأهله، ولهذا تجدهم يتظاهرون في كتاباتهم بالورع، والتزام أحكام الإسلام؛ والرضا بها؛ لعل مكرهم يخفى على الناس وينخدعوا بمسوح الورع الذي لبسوه كذباً .
وقد قال الله عن أسلافهم (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله) فهذا الورع الكاذب إنما هو جنة يستترون خلفها ليصدوا عن سبيل الله.
17-الاحتجاج ببعض الكتاب:
عقد قاسم أمين بحثاً كاملاً عن الحجاب في كتابه(97) وساق فيه بعض نصوص القرآن والسنة التي يظنها تشهد لرأيه تاركاً –عن عمد- ما يخالف رأيه من النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة(98)
تعليق: وهذا شأن أهل التحرير؛ فإنهم يسوقون النصوص الشرعية التي يظنونها تؤيد دعوتهم، ويكفرون بما يناقضها من النصوص؛ مصداقاً لقوله تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) وقوله سبحانه عن أجناسهم من المنافقين (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين).
18-الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة:
يقول قاسم : (نجد في هدي نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- ما يشير إلى ذلك؛ بل كان يجب أن يعد أصلاً من الأصول التي نركن إليها في بناء أمورنا الملية، حيث قال في شأن عائشة –رضي الله عنها- : "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء")(99)(62/27)
وقال: (فالعفة التي تكلف بها النساء يجب أن تكون من كسبهن ومما يقع تحت اختيارهن لا أن يكن مستكرهات عليها، وإلا فلا ثواب لهن في مجرد الكف عن المنكر. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :"من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد")(100) !
تعليق: أهل التحرير لا يهتمون بتحقيق الأحاديث التي يحتجون بها؛ لأنهم ليسوا أهلاً لذلك. فما وجدوا من الأحاديث ما يفيدهم في دعوتهم احتجوا به مهما كانت درجته في الضعف؛ لأنهم يعلمون أن المجتمع المسلم لن يتقبل دعوتهم بسهولة إلا إذا حليت بهذه النصوص الشرعية! . ولو تأملت كتاباتهم لوجدت ما يشهد لهذا الأمر من احتجاجهم بالضعيف والموضوع؛ لاسيما الحديث الأول الذي ذكره قاسم: "خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء"(101) !! الذي لا زالوا يرددونه في كتاباتهم تبعاً لصاحب كتاب "تحرير المرأة" . مما يشهد على أنهم لا زالوا عالة عليه، حتى في الأحاديث والآثار والقصص التي ذكرها في كتابه !!
19-الاحتجاج بالآثار(102) والقصص الضعيفة والموضوعة:
يقول قاسم: (بعث سلمة بن قيس برجل من قومه يخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بواقعة حربية فلما وصل ذلك الرجل إلى بيت عمر قال:.. فاستأذنت، وسلمت، فأذن لي، فدخلت عليه، فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفاً، فنبذ إليّ بإحداهما فجلست عليها، وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستير فقال: "يا أم كلثوم غداءنا، فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق. فقال: "يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا؟ قالت: "إني أستمع عندك حس رجل". قال: "نعم ولا أراه من أهل البلد". قالت: "فذلك حين عرفت أنه لم يعرفني ولكن لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته وكما كسا الزبير امرأته وكما كسا طلحة امرأته"! قال: "أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر؟!. فقال: كل، فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا")(103)!!(62/28)
تعليق: مثلما لم يبالِ المتحررون بالاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة كذلك فإنهم لا يبالون أن يحتجوا بالقصص المكذوبة ما دامت تؤيد فكرتهم. وتراهم ينقبون عن مثل هذه القصص الغريبة والموضوعة بين بطون الكتب المختلفة ويبحثون عنها كبحث شحيح ضاع في الترب خاتمه !
وهذه القصة التي ذكرها قاسم ثم تابعه في الترويج لها أتباعه من المتحررين هي قصة موضوعة لا تصح عن هذا الصحابي الجليل عمر –رضي الله عنه- الذي كانت غيرته سبباً في نزل آيات الحجاب!
وقد ذكرت من ضعفها في رسالة (قصص لا تثبت) –كما سبق-
ثم رأيت الشيخ محمد بن أحمد البولاقي في رده على قاسم أمين "الجليس الأنيس في التحذير عما في كتاب تحرير المرأة من التلبيس"(104) قد أطال الكلام في ردها وتضعيفها، وبين أنها (أكذوبة من الأكذوبات، وفرية ما فيها مرية، وخرافة من الخرافات)، فراجعه إن شئت.
20-انتقاد قاعدة (درء المفسدة) :
يقول قاسم: (وأما خوف الفتنة الذي نراه يطوف في كل سطر مما يكتب في هذه المسألة تقريباً، فهو أمر يتعلق بقلوب الخائفين من الرجال، وليس على النساء تقديره ، ولا هن مطالبات بمعرفته، وعلى من يخاف الفتنة من الرجال أن يغض بصره ... )(105) ! .
تعليق : يتضجر المتحررون كثيراً من القاعدة الفقهية المعروفة (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)؛ لأنها تقف سداً أمام أهوائهم، ولهذا تجدهم في كتاباتهم ينتقدونها ويسفهون من يعمل بها، ويتهمونه بأنه يحرم الأمة من أنواع من التقدم بسبب تمسكه بهذه القاعدة(106).
21-قلب الحجج السليمة:(62/29)
يقول قاسم : (إن البرقع والنقاب يزيدان في خوف الفتنة؛ لأن هذا النقاب الأبيض الرقيق الذي تبدو من ورائه المحاسن وتختفي من خلفه العيوب، والبرقع الذي يختفي تحته طرف الأنف والفم والشدقان ويظهر منه الجبين والحواجب والعيون والأصداغ وصفحات العنق، هذان الساتران يعدان في الحقيقة من الزينة التي تحث رغبة الناظر وتحمله على اكتشاف قليل خفي بعد الافتتان بكثير ظهر! ولو أن المرأة كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلقها ما يرد في الغالب البصر عنها) (107).
ويقول : (إن القول بأن الحجاب موجب العفة، وعدمه مجلبة الفساد قول لا يمكن الاستدلال عليه؛ لأنه لم يقم أحد إلى الآن بإحصاء عام يمكن أن يعرف به عدد وقائع الفحش بالضبط والدقة في البلاد التي تعيش فيها النساء تحت الحجاب وفي البلاد الأخرى التي تتمتع فيها بحريتهن، ولو فرض وقوع مثل هذا الإحصاء لما قام دليلاً على الإثبات أو النفي في المسألة؛ لأن ازدياد الفساد في البلاد ونقصه مما يرتبط بأمور كثيرة ليس الحجاب أهمها) (108)
تعليق : لأن المتحررين يعلمون ضعف شبهاتهم أمام حجج أهل الحق فإنهم يلجؤن إلى أسلوب غريب ومكيدة عجيبة بأن يقلبوا حجة أهل الحق، ويوهمونهم بأنها تؤدي إلى المفسدة التي يفرون منها، وبالتالي فالحل في نظرهم أن يتبع أهل الحق أهواءهم ليسلموا من هذه المفسدة!
مثال ذلك : ما فعله قاسم ويفعله مقلدوه من اتهام النقاب بأنه سبب من أسباب الفتنة؛ لأنه يزيد المرأة جمالاً مصطنعاً. والحل في نظره ونظرهم أن تخلع المرأة النقاب وتكشف وجهها!! وقس على ذلك في المسائل الأخرى.
وكان الأولى بهؤلاء لو كانوا يريدون الخير لأمتهم ولمجتمعهم أن يدعوا ويطالبوا أن تلتزم النساء بالنقاب الشرعي الذي لا يفتن، لا أن يزيدوا في حطب نار الفتنة ويأمروها بكشف وجهها!! ولكنها القوب المنكوسة التي أركست في الفتنة، وأرادت لغيرها أن يرتكس معها .
22-الهجوم على تعدد الزوجات:(62/30)
يقول قاسم: (إن في تعدد الزوجات احتقاراً شديداً للمرأة) (109)
تعليق : لم يحظ حكم من الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة –بعد حكم الحجاب- ما حظي به حكم تعدد الزوجات من تسلط المتحررين عليه بالنقد والهجوم والتسفيه والتشويه .
ولأنهم يعلمون مجيئه في القرآن والسنة فإنهم حاولوا التملص منه بطرق شتى لا تخفى على المتابع.
والتعدد حكم شرعه الله تعالى لحكم عديدة بينها العلماء ولكنها تخفى على الجهلة أنصار (تدمير) المرأة، ويجب على الرجل عند تعديده للنساء أن يعدل بينهن، ومن لم يعدل فليتحمل وزر ذلك عند الله، ولكن لا تغير أحكام الشريعة بسبب هذا الظلم الواقع من بعض الرجال.
23-ترشيد الإنفاق !
يقول قاسم: (انظر إلى الواحد منا نجد مسكنه لابد أن يكون قسمين قسم للرجال وآخر للنساء، فإن أراد أن يبني بيتاً فعليه أن يهيئ ما يكفي لبناء بيتين في الحقيقة، وإذا استأجر بيتاً فهو إنما يستأجر في الواقع بيتين، ويتبع ذلك ما يلزم لكل منهما من الأثاث والفرش، ولابد له من فريقين من الخدم، فريق يخدم الرجال في القسم المختص به، والآخر يختص بخدمة النساء داخل البيت، وهو مضطر لأن يزيد في النفقة للطعام؛ لأنه إذا أتى ضيف واحد، رجلاً كان أو امرأة، وجب تحضير مائدتين بدل واحدة كانت تكفي، وهكذا ترى نفقات ضائعة وثمرات كسب مستهلكة ولا سبب لها إلا تشديد الحجاب على النساء) (110)!.
تعليق: من شبهات المتحررين التي يرددونها بين الحين والآخر –تبعاً لشيخهم قاسم!- هي أن الفصل بين الجنسين –سواء في التعليم أو في نطاق العمل- يكلف الدولة الكثير من المال؛ لأنها تحتاج إلى الإنفاق المزدوج، والحل في نظرهم أن يختلط الحابل بالنابل!! ومبدؤهم: لا بارك الله في العرض والأخلاق إذا سلم المال !!
هذه الشبهة (المتكررة) قد ينخدع بها ضعيف الدين وقليل الغيرة ممن إلهه درهمه وديناره؛ فلأجلها قد يفرط في أمور عظيمة ليحصل على هذا (الإرشاد) المزعوم.(62/31)
والعجيب أن هذا (الإرشاد) لا نحس له خبراً إلا عندما يكون الأمر متعلقاً بصيانة المرأة والمحافظة عليها! فلا نكاد نراه في هذا الإسراف الهائل والهدر الموجع في مجالات أقل أحوالها أن تكون تحسينية إن لم تكن مكروهة أو محرمة .
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس ؟!
ولو أردنا أن نقلب هذه الشبهة على أصحابها لقلنا :
هذه شبهة من لا ضابط شرعي عنده للإرشاد؛ إنما هو فقط ما يوفر المال دون نظر إلى حله أو حرمته.
إذن: فنحن سنقترح عليهم اقتراحات (ترشيدية!) من جنس أفكاركم، فنقول:
لماذا يا هؤلاء لا تجتمع عدة عوائل منكم في سكن واحد ترشيداً للإنفاق؟!
ولماذا لا يجتمع رجالكم (أو ذكوركم!) في سيارة واحدة في تنقلاتهم ترشيداً للإنفاق؟ ! ولماذا لا تكتفي نساؤكم بثوب واحد أو ثوبين؟! ولماذا ... ولماذا ...
وقل مثل هذا في شأن الدول.
إن قلتم: في هذا (حرج) علينا ، وتضييق لما وسعه الله.
قلنا: وفي (ترشيد) قاسمكم ! تحليل لما حرمه الله!
فأي الأمرين أحق بالرعاية والترشيد؟! ما فيه ضيق مؤقت عليكم، أم ما فيه تحليل لما حرمه الله وفتح لأبواب الفتنة والفساد؟!
فالأمر (بخلاصة): إما أن نلتزم أحكام الله، أو نلتزم أهواءنا.
24-حسب تقاليدنا الإسلامية السمحة !!
يقول قاسم مبيناً مطالبه بأن منها:
(السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها؛ بشرط أن لا تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية) (111)
تعليق: ما أكثر ما نرى مثل هذه العبارات في كتابات المتحررين عندما يطالبون بأمر من الأمور:
- حسب عاداتنا وتقاليدنا !
- مع مراعاة أحكام الشريعة السمحة !
- وفق تعاليم عقيدتنا !(62/32)
فقد أصبحت هذه العبارات وأمثالها (كليشة) جاهزة تختم بها جميع كتاباتهم ومطالباتهم ذراً للرماد في عيون المسلمين، وإيهامهم بأن مطالبهم لا تخرج عن حدود الشريعة. حتى أصبح العقلاء يرتابون عندما يرون مثل هذه العبارات !؛ لأنهم يتوقعون أن يأتي معها أو عقبها ما يناقض أحكام الشريعة في أمور النساء!
فحذار حذار من الانخداع بهذه العبارات ، وزن أقوالهم ومطالبهم بميزان الكتاب والسنة.
25-يقول المطلعون !
يقول قاسم: (يقول المطلعون على أحوال أمريكا أن نساءها أحفظ للأعراض وأقوم أخلاقاً من غيرهن ... )(112)!
تعليق: يلجأ المتحررون في كتاباتهم إلى مقولة: (يقول المطلعون) أو (ذكرت الإحصاءات)! أو (في دراسة أجريت) ! للتهويل والتلبيس على ناقصي العقول؛ لكي يقبل أقوالهم فوراً ودون تمحيص أو تدقيق! ما دامت موثقة بمطلعين و إحصاءات ودراسات!
ولكنه لو تأمل: فلن يجد أي ذكر للمطلعين أو مصدر للإحصاءات أو الدراسات، وإنما هو الكذب والتلفيق والجعجعة الفارغة .
فتنبه لكيدهم، وطالبهم بتوثيق أقوالهم وعزو مصادرهم .
26-تتبع المذاهب!
يقول قاسم : (لم لا يأخذ مريد الإصلاح بمذهب الإمامية) (113) !! أي الرافضة!
تعليق : كما أن المتحررين لا يبالون بالاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والقصص المكذوبة ؛ كذلك فإنهم لا مانع عندهم من التنقل بين المذاهب المختلفة ولو كانت بدعية ما دامت تؤيد فسادهم.
مثلاً: تجدهم يتابعون اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية العالم (السلفي) في اختياره أن الطلاق الثلاث يقع واحدة اتباعاً للحديث الصحيح، يتابعونه ليس لأجل حجته إنما لأن اختياره وافق أهواءهم.
ثم تجدهم في الغد يتابعون مذهب مالك، ثم الشافعي، ثم ينتقلون إلى مذاهب المبتدعة من زيدية ورافضة وإباضية، يدورون مع أهوائهم أينما دارت.
فحال أحدهم يقول:
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبلٍ وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعي ديانة ولكن لأن تهوى الذي منه حاصل(62/33)
وعما قليل أنت لا شك صائر إلى مالك، فافطن لما أنا قائل(114)
وقديماً قال علماء السنة : "من تتبع الرخص فقد تزندق" وقال آخر :"لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"(115) !
27-استخدام ورقة السلطان !
يقول قاسم معدداً مطالبه بأن منها : (السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها) (116)
تعليق :يلجأ المتحررون في دعوتهم إلى أسلوبين:
الأول: أسلوب تغيير المجتمع المسلم بواسطة وسائل الإعلام المتنوعة التي يسيطرون عليها –للأسف-.
فيبدأون بالدعوة المتكررة إلى أفكارهم بالتنسيق بين أفرادهم ! فهذا يطرح الفكرة اليوم، وذاك يؤيدها غداً، وتلك تنشرها بعد غد ... وهكذا
فإن لم ينجح هذا الأسلوب في مجتمع من المجتمعات ! فإنهم يلجؤن إلى الأسلوب الثاني، وهو الإلحاح على السلطان وولاة الأمور بأن يتدخلوا بقرارات حازمة! تغير المجتمع وتحقق أهدافهم وأفكارهم؛ لأنهم يعلمون بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بغيره!
فيبدأون يزينون للسلطان أفكارهم ويعددون عليه منافعها (وجدواها الاقتصادية!)، ويهيجونه للمسارعة باتخاذ القرارات الحاسمة؛ لأن الزمن –كما يقولون- يمضي ولما يتقدم المجتمع! ونحن في زمن التقدم والتطور ... . الخ هرائهم.
وهذا الأسلوب –في نظري- أخطر من الأسلوب الأول؛ لأنه يُصادم بين السلطان وولاة الأمر وبين المجتمع المسلم، ويحقق للمفسدين أفكارهم –أو بعضها- في زمن يسير لم يكونوا ليحققوه لو استمروا على أسلوبهم الأول العقيم الذي لن يأبه به أحد، بل سيلقى صدوداً ونفوراً ومواجهة من المصلحين.
إذن: فالسلطان ورقة رابحة في يد أهل الخير لو عرفوا كيف يتعاملون معه، كما أنه ورقة رابحة بيد أهل الشر لو استطاعوا أن يميلوه معهم.
ولكنه –بلا شك- لو مال للمفسدين سيعيش بعدها في حال انفصام وقطيعة مع رعيته، غير ما ينتظره من عذاب الله الدنيوي بتسليط الأعداء، وسقوط هيبته من القلوب ، وتجرؤ الناس عليه، (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).(62/34)
نسأل الله أن يوفق ولاة أمور المسلمين للخير، وأن يجعلهم ظهيراً للإسلام وأهله، حرباً على المفسدين، مبعدين لهم غير مقربين.
وبهذه الفقرة (27) ينتهي ما أردت جمعه من مشابهة بين قاسم أمين وغيره من المتحررين ممن جاؤا عقبة، ولعل من تأمل أكثر يجد غيرها.
ما زاده المتحررون على أساليب قاسم:
لقد وجدت أسلوبين فعلهما دعاة تحرير المرأة لم يتعرض لهما قاسم في كتابه فأحببت أن يطلع عليهما القارئ:
الأول: أسلوب (المظاهرات) النسائية: والمتحررون –كما هو معلوم- قد استعملوا هذا الأسلوب في مصر منطلق دعوة التحرير؛ حيث خرجت النساء في مظاهرة –كما يزعمون- للتعبير عن رفضهن للاحتلال الإنجليزي!
وذلك عام 1919م أثناء الثورة(117).
ولكنهن استثمرن هذه المظاهرة للبدء بعملية التحرير والسفور من الحجاب الذي ألقاه بعضهن؛ لأن (جو) المظاهرات يساعد على هذا الاستثمار؛ حيث (العقل الجمعي) الذي يقود المتظاهرين! دون ضابطٍ من شرع أو خلق.
وفي سنة 1951م انطلقت مظاهرة نسائية (تحريرية) في القاهرة من مقر (الجامعة الأمريكية!!!) بقيادة متحررة سافرة هي درية شفيق(118).
وفي سوريا أيضاً انطلقت مظاهرة نسائية(119) ...
فالمظاهرات وسيلة المتحررين والمتحررات(120) الذين يفيدهم الجو الغوغائي الذي يصاحب ذلك كله، قد استقوا هذه الوسيلة وتدربوا عليها عن طريق أساتذتهم الغربيين، ولُيعلم أنهم لا يقيمون مثل هذه المظاهرات التحررية إلا في جوٍ ملبد بالغيوم، ووسط (أزمة) تمر بالأمة التي تكون مشغولة بهمومها عن إفسادهم؛ لأن الأمة في وادٍ وهؤلاء الفئران في وادٍ آخر، لا هم لهم إلا تحقيق شهواتهم ومفاسدهم.
فالحذر الحذر.. واليقظة اليقظة.. والثبات الثبات ... فالقوم قد جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، ومن خلفهم عباد الصليب وأحفاد القردة والخنازير. رد الله كيدهم في نحورهم، وكفانا شرورهم.(62/35)
الثاني: من الأساليب التي استعملها المتحررون والمتحررات بعد قاسم: أسلوب (إقامة المؤتمرات والندوات) التي تُعقد داخلياً أو خارجياً للترويج لهذه الحركة في أوساط البلاد الإسلامية.
وتمتاز المؤتمرات الخارجية برعاية الكفرة لها والتخطيط لأعضائها، أما النسوة (المتمسلمات) فإنهن يشاركن في هذه المؤتمرات الخارجية –كما يزعمن- لعل نظرة الغرب إلى نسائنا تتحسن!!!
تقول إحدى هؤلاء المتحررات -وهي الدكتورة إجلال خليفة في كتابها: الحركة النسائية، ص 249- : (أعتقد أن المؤتمرات النسائية المصرية للخارج والبعثات العلمية النسائية هما المظهران البارزان للحركة النسائية في المجال الخارجي، وكان لهما أثر كبير في تغيير نظرة مجتمعات الغرب إلى المرأة المصرية، فقد كانت المرأة الأوربية تعتقد أن المرأة المصرية ما زالت تعيش في مجتمع يشبه إلى حد كبير ما قبل التاريخ، إذ كانت المرأة الأوربية تبدي عجبها الممزوج بالدهشة لرؤيتها فتياتنا المبعوثات في إنجلترا يرتدين مثل النساء في أوربا، وكانت تصيح في دهشة في وجوه الفتاة المصرية: أحقاً عندكن أحذية مثل البشر؟!! وتعرفن كيف تلبسنها؟!! ... وغير ذلك من أسئلة عجيبة)!!
قلت: فانظر ما أشد هذه الذلة وهذا الخضوع للكفار! (أيبتغون عندهم العزة؟ فإن العزة لله جميعاً).
بقي أمران:
الأول: أن حركة تحرير المرأة المسلمة (يدعمها) الغرب الكافر لإفساد ديار الإسلام وإشغالهم عن قضاياهم الكبرى:
يقول المستشرق الإنجليزي برنارد لويس المختص بشئون العالم الإسلام وقد طُلب منه أن يكتب رأيه في مستقبل ما يسمى بالشرق الأوسط(121): (سنحسم التغريب في الشرق الأوسط من خلال ثلاثة عوامل: إسرائيل، وتركيا، والمرأة) (122) !(62/36)
فالهدف: تغريب المسلمين وسلخهم عن دينهم، والوسيلة: المرأة التي سيحاولون بشتى الطرق خديعتها، وإيهامها بأنهم أنصارها عبر وكلائهم من الطابور الخامس الذي يعيش بيننا، المتسمي بأسمائنا ، ولكنه قد بدل دينه –والعياذ بالله- بأفكار التغريب المتنوعة.
ويقول الأستاذ حسين محمد يوسف في بحثه القيم (الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار): (منذ أن احتل الإنجليز مصر وهم يعملون على إضعافها بشتى الوسائل، تارة؛ بمحاربة اللغة العربية، وأخرى بنشر الآفات الاجتماعية الهدامة..) (123)
والغرب الكافر حين يقوم بهذا (الدعم) للحركات النسائية لدى المسلمين فإنه يقوم به بوسائل شتى؛ أذكر من أهمها:
1- الدعم المالي للمؤتمرات النسائية المشبوهة، وللمجلات والكتب المشجعة لهذا التحرير(124).
2- الضغوط المتنوعة على حكام المسلمين لتأييد مثل هذه الأفكار التحريرية؛ ومما يذكر هنا أن الخديوي إسماعيل(125) حين أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية وعد ملوك أوربا –إن هم أيدوه- أن يفصل الدين عن السياسة، وأن يُطلق الحرية للنساء بحيث تسير المرأة المسلمة في إثر المرأة الغربية(126).
3- استغلال احتلالهم لبلاد المسلمين لترويج هذه الدعوة المفسدة ؛ حيث أنهم قريبون من أذنابهم! ويكفي أن تعلم بأن هذه الحركة ما نشأت في بلاد المسلمين واشتد عودها إلا بعد احتلالهم لمصر مفتاح العالم الإسلامي.
4- الدعم الإعلامي المتنوع لحركة التحرير: من خلال تأييدها في وسائل إعلامهم العالمية، وتلميع صورة القائمين عليها من المنافقين، وأنهم مضطهدون مظلومون.. الخ، وممارسة الضغط على الدول الإسلامية للتسهيل لهم، وفتح الأبواب المغلقة لحركتهم التحررية في البلاد.(62/37)
ويحضرني في هذا : ما ذكره المذيع البريطاني (ناتريك سميث) من أن درية شفيق إحدى رموز التحرير في مصر طلبت منه أن تقوم الصحف البريطانية بمؤازرتها وحزبها النسائي؛ لكي تحقق الحركة النسائية بمصر أهدافها. فقام بذلك خير قيام! (127)
هل من معتبر؟! هذا رأي الغرب في أذنابه!
يعد (كرومر) وكيل الإنجليز لإدارة شئون مصر أثناء احتلالهم لها! من أخبث وأمكر الناس الذين ابتليت بهم الأمة، فقد أفسد هذا العجوز بلاد مصر، ومهد للتغريب وأهله وأيدهم، وأثنى عليهم، ومكن لهم، وكانوا ينقادون لأمره ويعظمونه أيما تعظيم؛ لأنه راعي (نعمتهم)!، فاستمع –أعزك الله- لما يقوله هذا النصراني عن المنافقين والمنافقات الذين سارعوا إلى كسب رضاه والتعاون معه.
وهو قول خبير بهم، ويعبر عن ما يكنه الغرب تجاه أذنابه.(62/38)
يقول كرومر: (إن المصري المتحرر يسبق الأوربي المتحرر في التنور، وحرية الفكر والحيرة، إنه يجد نفسه في بحر هائج لا يجد فيه سكاناً ولا رباناً لسفينته، فلا ماضيه يضبطه، ولا حاضره يفرض عليه الحواجز الخلقية، إنه يشاهد أن الجمهور من مواطنيه يعتقدون أن الدين يعارض (الإصلاحات) التي يراها جديرة كل الجدارة بالنفاذ، إن ذلك يثير فيه السخط، والكراهية الشديدة للدين الذي يؤدي إلى مثل هذه النتيجة، فيدوسه بقدمه وينبذه بالعراء، إنه إذا قطع الصلة عن دينه وتعاليمه فلا يحجزه عن التورط في المزالق الخلقية إلا مصلحته الشخصية السافرة، مع أن الأوربي الذي يحرس على تقليده، لا يزال متقيداً بشرائع أمته الخلقية. إن المجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد المتحررين في مصر، لا ينكر على الكذب والخديعة إنكاراً شديداً، ولا يمنعه من ارتكاب الرذائل خوف سوء الأحدوثة في المجتمع، إنه إذا رفض دين آبائه، فإنه لا يلق عليه نظرة عابرة، إنه لا يرفضه فحسب، بل يرفسه ويركله برجله، إنه يترامى في أحضان الحضارة الغربية متعامياً عن كل حقيقة، ويغيب عنه أن الجانب الزاهر البراق للحضارة الغربية ليس إلا الجانب الخارجي من جوانب هذه الحضارة، إن الحقيقة أن القوة الخلقية التي تنبع من التعاليم المسيحية هي التي تضبط سفينة الحضارة الغربية وتمنعها من الاضطراب الزائد في البحر الهائج، ولما كانت هذه القوة قوة باطنية، فإنها تتوارى في غالب الأحيان عن أنظار المتشبهين الزائفين بأبنائها الحقيقيين، إنه يحلف ويقول: إنه نبذ التعصب الديني، وأنه يحتقر تعاليم آبائه.(62/39)
إنه يقول لزميله الأوربي: إننا أصبحنا نملك الخط الحديدي، وقد أسسنا في بلادنا مدارس عصرية، وأنشأنا الجرائد والمحاكم، ومظاهر الحياة الحديثة، والمدنية العصرية التي تتكون منها حضارتكم، فكيف نُعتبر متخلفين عنكم وأحط شأناً منكم؟ إنه يجهل أنه لا يستطيع أن يجاري زميله الغربي ويكون نداً له، فإن المسيحي المتحضر وإن لم يكن راسخاً في دينه، ولكنه إلى حد كبير نتاج المسيحية، فإن لم تكن المسيحية التي مضى عليها ألف وتسع مائة سنة رصيده وسنده، لم يكن قط حيث هو الآن) (128).
فهل يعتبر المتحررون والمتحررات بمثل هذا الكلام الذي يعرفهم نظرة الغربي الكافر الحقيقية لهم بعد أن نبذوا دينهم وتابعوا السراب الذي يحمله؟! وصدق الله (ومن يهن الله فما له من مكرم).
ختاماً: أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يحبط مخططات الأعداء، ويرد كيدهم في نحرهم، وأن لا يسلط علينا بذنوبنا من يفسد بلادنا ونساءنا، وأن يوفق ولاة أمورنا للثبات على الحق وعدم التنازل عنه، وأن يُشغل أعداءهم من اليهود والنصارى بأنفسهم، وأن يحقق فيهم قوله تعالى (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1) ... انظر: (قصص لا تثبت) الجزء السادس (ص75-84).
(2) ... ملخصة من مقدمة أعماله الكاملة، للدكتور محمد عمارة. ومن كتاب (قاسم أمين) للدكتور ماهر فهمي، ومن مجلة الهلال (يونيو 1908م).
(3) ... واقعنا المعاصر ( ص250).
(4) ... كتاب (المصريون)، ضمن أعماله الكاملة، تحقيق الدكتور محمد عمارة (ص303). وكل ما سيأتي في الهوامش من قولي (السابق) فأقصد به هذه الأعمال التي جمعت كل ما كتب قاسم.
(5) ... السابق (ص 56).
(6) ... السابق (ص 261).
(7) ... السابق (ص 254).
(8) ... السابق (ص 257).
(9) ... السابق (ص 272) .
(10) ... السابق (ص 250).
(11) ... السابق (ص 260).
(12) ... السابق (ص 274).
(13) ... السابق (ص 262).
(14) ... السابق (ص 275).(62/40)
(15) ... السابق (ص 279).
(16) ... السابق (ص 280).
(17) ... السابق (ص 249).
(18) ... السابق (ص 249).
(19) ... السابق ( ص 289).
(20) ... السابق ( ص 221).
(21) ... السابق (ص 302).
(22) ... السابق (ص 304).
(23) ... السابق (ص 232).
(24) ... السابق (ص 232).
(25) ... السابق (ص 232).
(26) ... السابق ( ص 300).
(27) ... السابق (ص 258).
(28) ... هي ابنة الأمير مصطفى فاضل باشا نجل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا. كان والدها يرى أنه أحق بعرش مصر من أخيه الخديوي إسماعيل، ومن هنا كانت نازلي تعلن الحرب على خديوي عصرها عباس، وتميل إلى الإنجليز وتدعم المتعاونين معهم؛ من أمثال حزب الأمة. لا سيما وقد عادت إلى مصر بعد الاحتلال الإنجليزي! مما يبعث الريبة في سر هذا التوافق. اعتادت على حياة التحرر والصالونات المختلطة أثناء عيشها في الغرب فأرادت نقل ذلك لمصر. قال عنها محمد فريد في مذكراته: (كان لها شغف خصوصي بضباط الإنجليز وكانت تقابل الرجال على العادة الأوربية، وتحيي ليالي موسيقية في دارها، وتكثر من شرب الخمر..) انظر : (سعد زغلول: دوره في السياسة المصرية) لعبد الخالق لاشين (ص 35).
... تنبيه: ذكر الشيخ: محمد بن إسماعيل في كتابه (عودة الحجاب 1/28، 38-39) أن نازلي فاضل هذه هي زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق، وأنها تنصرت هي وابنتها فتحية ! –نسأل الله العافية-. والصواب أن نازلي هذه غير تلك. فزوجة الملك فؤاد التي تنصرت وابنتها هي: نازلي عبد الرحيم صبري باشا. انظر: (في أعقاب ثورة سنة 1919م) للمؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي. وانظر قصة تنصر ابنتها في كتاب (فضائح فاروق) لمحمد سعد (ص 90-91).
(29) ... يقصد هذا السفيه بقوله (الرجعيين) من يتمسك بالشرع.
(30) ... مذكرات هدى شعراوي (ص 400)، دار الهلال.
(31) ... في مقدمته للأعمال الكاملة لقاسم أمين (ص 124 وما بعدها)(62/41)
(32) ... ويذهب بعض الباحثين؛ كالدكتور سيد أحمد فرج في كتابه (المؤامرة على المرأة المسلمة، تاريخ ووثائق) (ص 76-77) إلى أن قاسم أمين صاغ في كتابه أفكار شيخه محمد عبده، لا أن الشيخ كتبها بيده، والأمر –في نظري- سيان؛ لأن النتيجة واحدة، وهي أن هذه الأفكار التحررية خرجت من تحت عباءة الشيخ العصراني.
... وقد ذكر أحمد لطفي السيد في مذكراته (ص 37) أنه كان في جنيف عام 1897، فجاءه (الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول وقاسم أمين، وكان قاسم أمين وقتئذٍ يؤلف كتاب "تحرير المرأة" فقرأ علينا فصولاً منه مدة إقامته بيننا).
قلت: أما الدكتور مختار التهامي في كتابه (ثلاث معارك فكرية) فيرى أن كتاب "تحرير المرأة" كان عبارة عن مقالات متفرقة كان ينشرها قاسم في صحيفة "المؤيد" ابتداء من 20/ مارس/ 1899م. فليحرر.
(33) ... ألخصها من كتاب (المرأة المصرية بين التطور والتحرر) للدكتور يونان لبيب رزق، وكتاب (الهلال: مائة عام من التحديث) لأحمد الطماوي، وكتاب (عودة الحجاب) للشيخ محمد بن إسماعيل، ومن بحث الدكتور محمد الرميحي المقدم لمؤتمر إشكالية المرأة المعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية، المنعقد في الكويت ما بين (22-26 ذو الحجة 1421هـ)، صادر عن جامعة الكويت.
(34) ... أحد الوطنيين المصريين. كان موقفه في موضوع المرأة شرعياً، لكنه أساء في موضوع الاقتصاد؛ حيث كان أول من أنشأ بمصر (بنكاً) ربوياً !! فتتابع المسلمون (أفراداً ودولاً!) مقلدين له.
(35) ... انظر: تربية المرأة والحجاب، لطلعت حرب (ص 9-10 من التقريب الذي طبعته دار أضواء السلف، عام 1419هـ).
(36) ... جريدة الحياة (العدد 14247) مقال لنادية سعد بعنوان (قاسم أمين ليس رائد تحريرها)
(37) ... مصداقاً لقوله تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)
(38) ... المؤامرة على المرأة المسلمة ( ص 65).
(39) ... الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/ 294).(62/42)
(40) ... تحرير المرأة ، ضمن الأعمال الكاملة ( ص 350).
(41) ... السابق (ص 441).
(42) ... السابق (ص 450).
(43) ... السابق (ص 499).
(44) ... السابق (ص 508).
(45) ... السابق (ص 442).
(46) ... السابق (ص 420-421).
(47) ... السابق (ص 451).
(48) ... السابق ( ص 452).
(49) ... السابق (ص 497).
(50) ... السابق (496).
(51) ... السابق (ص 498).
(52) ... السابق (ص 432).
(53) ... ومما يشهد لهذا أن صاحبه أحمد لطفي السيد هو صاحب فكرة (الاختلاط) في الجامعة المصرية، وقد نفذ هذه الفكرة فعلياً بمؤامرة مع صاحبه (طه حسين). انظر تفاصيل ذلك في كتاب (أحمد لطفي السيد) للدكتور حسين النجار (ص 317 وما بعدها). ومذكرات هدى شعراوي (ص 427)
(54) ... السابق (ص 364).
(55) ... السابق (ص 352).
(56) ... السابق (ص 393).
(57) ... السابق (ص 395).
(58) ... السابق (ص 403).
(59) ... السابق (ص 403). ويرى الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- في كتابه (الاتجاهات الوطنية 1/300) أن تصور قاسم لهذا الأمر (مستمد من العادات الغربية والقوانين الكنسية)؛ أي لأنه يضيق أمر الطلاق حتى يشابه تشريع النصارى.
(60) ... السابق (ص 326).
(61) ... السابق (ص 412).
(62) ... السابق (ص 323).
(63) ... السابق (ص 325).
(64) ... السابق (ص 276-277).
(65) ... السابق (ص 320).
(66) ... السابق (ص 329).
(67) ... السابق (ص 344).
(68) ... السابق (ص 369).
(69) ... السابق (ص 373).
(70) ... السابق (ص 351).
(71) ... السابق (ص 357).
(72) ... السابق (ص 352).
(73) ... السابق (ص 360).
(74) ... السابق (ص 362).
(75) ... السابق (ص 366).
(76) ... السابق (ص 165).
(77) ... السابق (ص 330).
(78) ... للأستاذين محمود الجوهري ومحمد عبد الحكيم خيال رد جميل على هذه المقولة في كتابهما (الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية).
(79) ... السابق (ص 332).
(80) ... السابق (ص 332).
(81) ... السابق (ص 354).
(82) ... السابق (ص 327)
(83) ... السابق ( ص 332).(62/43)
(84) ... السابق (ص 364).
(85) ... السابق (ص 371)
(86) ... السابق (ص 343).
(87) ... السابق (ص 364).
(88) ... السابق (ص 372).
(89) ... وهي ليست حكراً عليه، وإنما من فعل أسبابها حصلها. ولهذا نجد أن الواصلين إلى هذا التقدم (الدنيوي) في عالمنا مشاربهم وثقافاتهم شتى.
(90) ... السابق (ص 344).
(91) ... السابق (ص 371).
(92) ... مثال ذلك: أسئلتهم (الممجوجة) التي يطرحونها مراراً وتكراراً على المسئولين من ولاة الأمر عن بطاقة المرأة أو قيادتها للسيارة بأساليب (غثة) لا تناسب المقام في أكثر الأحيان.
(93) ... السابق (ص 366).
(94) ... السابق (ص 359)
(95) ... السابق (ص 412).
(96) ... السابق (ص 352).
(97) ... السابق (ص 350 – 359).
(98) ... انظرها في كتاب (حراسة الفضيلة) للشيخ بكر أبو زيد –حفظه الله- .
(99) ... السابق (ص 343).
(100) ... السابق (ص 366).
(101) ... وهو حديث لا أصل له!، قال عنه الحافظ ابن حجر: "لا أعرف له إسناداً، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ... " (انظر: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، ص 321). وكذلك مثله حديث : "من عشق فعف ... ." فإنه حديث (لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما قال ابن القيم في الزاد (4/275).
(102) ... أما الأثر فقد ذكره قاسم أمين في كتابه الآخر "المرأة الجديدة" (السابق، ص 423)، وهو أن عمر –رضي الله عنه- قد ولى إحدى الصحابيات واسمها الشفاء أمر الحسبة على السوق! ، وهذا الأثر كثيراً ما يردده دعاة تحرير المرأة؛ لأنه يخدم دعوتهم في أن تتولى المرأة جميع الأعمال. وأذكر أني رددت على أحدهم احتجاجه بهذا الأثر في جريدة الرياض، وأيضاً إحداهن! في جريدة الوطن.(62/44)
... والأثر السابق قال عنه ابن العربي المالكي : "لم يصح، فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث" (أحكام القرآن، لابن العربي، 3/1457)، وانظر: رسالة (المرأة والحقوق السياسية في الإسلام) للأستاذ مجيد محمود أبو حجير.
(103) ... السابق (ص 359).
(104) ... (ص 58-60).
(105) ... السابق (ص 356).
(106) ... ولتعلم أهمية هذه القاعدة الشرعية وأدلتها الكثيرة التي لا يجحدها عاقل، انظر كتاب (الاعتصام) للشاطبي –رحمه الله- (2/334 – 338 الطبعة الجديدة)، ومجلة البحوث الإسلامية (العدد 15، ص 19-32).
(107) ... السابق (ص 356-357).
(108) ... السابق (ص 364).
(109) ... السابق (ص 393).
(110) ... السابق (ص 371 – 372).
(111) ... السابق (ص 415).
(112) ... السابق (ص 364).
(113) ... السابق (ص 403).
(114) ... جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، للسيوطي (ص 46).
(115) ... انظر للمزيد: رسالة (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء) للشيخ جاسم الفهيد الدوسري –حفظه الله-.
(116) ... السابق (ص 415).(62/45)
(117) ... انظر تفاصيل هذه المظاهرة في مذكرات قائدتها! هدى شعراوي (ص 187 وما بعدها)، و(المرأة المصرية) لدرية شفيق (ص 119 وما بعدها)، و(عودة الحجاب) (1/158)، وانظر صور المظاهرة في كتاب (50 عاماً على ثورة 1919) (ص 197) إصدار جريدة الأهرام. وترى أميرة خوسك في كتابها (معركة المرأة المصرية..) (ص 194) أن لا دلائل على أن المرأة المصرية قد نزعت حجابها في هذه المظاهرة، ومما يشهد لقولها ما ذكرته المتحررة درية شفيق في كتابها (المرأة المصرية) (ص 134-138) أن أول من مزق الحجاب! هدى شعراوي عند عودتها من أول مؤتمر نسائي شاركت به!، وانظر (نساء رائدات)! لإملي نصر الله (1/178). أما الدكتورة المتحررة آمال السبكي فترى في كتابها (الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين..) (ص 142-143) أن صفية زغلول زوجة سعد زغلول هي أول من نزع الحجاب لما عادت مع زوجها من منفاه. أما هدى شعراوي فهي (أول سيدة أعلنت السفور بعد صفية زغلول).
(118) ... (المرأة المصرية) لدرية شفيق (ص 201 وما بعدها)، و(عودة الحجاب) (1/120). ودرية هذه ماتت منتحرة –والعياذ بالله- في 20 سبتمبر 1975م كما ذكر ذلك جارها الصحفي الشهير مصطفى أمين في جريدة (الأخبار) (بتاريخ 12/4/1986م). (انظر: عودة الحجاب 1/118). فتأمل –رعاك الله- مصير دعاة تدمير المرأة ممن ناصروا النصارى وأفسدوا بلاد المسلمين كيف هي مصارعهم؟ هذا في الدنيا، (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى). فهل من معتبر؟!
(119) ... انظر تفاصيلها في مجلة الفتح (السنة الأولى، 64). وانظر صور هذه المظاهرة في كتاب (مكتب عنبر) لظافر القاسمي (ص113-117)(62/46)
(120) ... وهي وسيلة محرمة كما بين ذلك سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله- في رده على عبد الرحمن عبد الخالق. ويكفي لتحريمها أنها قد أصبحت مطية للمفسدين لتحقيق أهدافهم.. فكما ستتظاهر أنت، هم سيتظاهرون عقبك. فما أولانا بغلق هذا الباب الذي لا يأتي منه إلا الشر على أمتنا. والوسائل الشرعية للتعبير كثيرة.
(121) ... تسمية ماكرة لبلاد الإسلام؛ لكي تتربى الأجيال على هذه المسميات الأرضية، وتنسى المسميات الشرعية.
(122) ... نقلاً عن بحث الأستاذ غازي التوبة المقدم إلى مؤتمر إشكالية المرأة المعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية، المنعقد في الكويت ما بين 22 – 26 /12/1421هـ، إصدار جامعة الكويت.
(123) ... (ص 71).
(124) ... اعترفت مديرة معهد الدراسات النسائية في العالم العربي ومقره بيروت بأن المعهد أسس بمنحة من مؤسسة فورد (اليهودية)!! انظر: كتاب (أضواء على الحركة النسائية المعاصرة) لروز غريب (ص 421).
(125) ... من أحفاد محمد علي باشا، وكان من أسوأ حكام مصر إسرافاً وتبذيراً على شهواته وطموحاته؛ حتى أغرق مصر بالديون المتراكمة التي كانت ممهدة للاحتلال الإنجليزي لبلاده بعد أن خلع من الحكم! يقول الأستاذ عبدالقادر حمزة في تمهيده لكتاب (التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر) عن عهد إسماعيل: (كان بدء النكبات التي توالت على هذه البلاد بعد ذلك حتى رمت بها بين براثن الاحتلال) (ص11) وقال عن ديون إسماعيل واقتراضه من دول الكفر: (كانت الباب الذي تسرب منه النفوذ الأجنبي إلى سلطة الحكومة المصرية، ودخلت منه إنجلترا حتى وضعت يدها على مصر) (ص 21)
... ولعل هذا من العقوبات العاجلة من الله لهذا الحاكم الخائن؛ لأنه رضي أن يركن إلى الذين كفروا، في سبيل تحقيق شهواته وملاذه، فكانت عاقبته: الخلع من الحكم، وتسلط الكفار على بلاده، نعوذ بالله من الخذلان.(62/47)
... وانظر للمزيد عن ما جناه هذا الحاكم الفاشل على مصر: كتاب (عصر إسماعيل) لعبد الرحمن الرافعي (خاصة ص 4-5)، وكتاب (تراجم مصرية وغربية) لمحمد حسين هيكل.
... وانظر نماذج من إسرافه وبذخه في كتاب (مذكراتي في نصف قرن) لأحمد شفيق (1/24-28).
(126) ... ذكر هذا محمد طلعت حرب في رده على قاسم أمين. (ص 6-10 من التقريب).
(127) ... انظر: الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار، (ص 96).
(128) ... مصر الحديثة، لكرومر (2 – 232)(62/48)
وفيه : التنبيه على خطأ أحد الأفاضل في إحالته على هذا الكتاب السيئ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد :
يعد كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" جامعاً لآراء ما يسمى بالمدرسة العصرانية أو التيار المستنير أو تيار التيسير الفقهي في موضوع المرأة، وقد دشنه وروج له اثنان من أساطين هذا التيار -كما سيأتي- .
ولم أكن لأحفل بهذا الكتاب الذي كنت أراه خاصاً بهذه الفئة المتبعة لأهوائها سواء في هذا الموضوع أو غيره؛ خاصاً بها دون سواها من متبعي الكتاب والسنة، فكنت أراه قاصراً عليهم لا يتعداه إلى غيرهم من دعاة الإسلام ممن سيعلم بطلان كثير مما جاء فيه بداهة؛ لكونه يخالف آيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم، مهما ادعى مؤلفه ومروجوه خلاف ذلك. إلا أنني تفاجأت عندما قرأت مقالاً لأحد الفضلاء يتحدث فيه عن المرأة وأنها إنسان !! وأنها تعيش "تحت وصايات مشددة -دينياً واجتماعياً وسياسياً- لا تتناسب مع حجم الطاقات والقدرات والإمكانات التي منحها الله للمرأة" !! وأننا نخلط "العادات بالعبادات وتقديس الموروثات الآبائية" في موضوع المرأة! وأننا مع الانفتاح أصبح الواحد منا يفاجأ "بأن كثيراً مما كان يملى عليه بكرة وأصيلاً ما هو إلا رؤى مذهبية في أحسن أحوالها" !!ثم نقد هذا الفاضل من "يحرسون الفضيلة" بتركيزهم على الحجاب ! مع نسيان الأمور الأخرى! ... الخ مقاله الذي يذكرك (بغمغمة) الحداثيين والتغريبيين ! الذين يلجئون إلى مثل هذه الرموز التي لا توصل القارئ إلى ما يريده الكاتب (بوضوح). إنما تفيدك بأن الكاتب مغتاظ وناقم من وضع المرأة !! لكن: من أي شيء هو مغتاظ وناقم؟ هذا ما لا تستفيده من كلماته !(63/1)
ليت هذا الفاضل بدلاً من هذه (الغمغمة) والأسلوب الغامض –الذي لا يلجأ له غالباً إلا أصحاب الهدم- لجأ إلى الوضوح شعار الأنبياء والعلماء والمصلحين. فقال مثلاً: أنا أؤيد كذا وكذا والدليل كذا وكذ.. لكي يعلم القارئ ماذا يريد الرجل، فإن كان حقاً أخذنا به وإن كان غير ذلك رددناه عليه وناقشناه علمياً في اختياره. هذا هو المنهج الصحيح المنتج النافع للأمة.
لكن الذي أظنه أن الرجل أراد أن يجعل للمرأة (قضية)، أو هو توهم ذلك؛ لكثرة ما يقرأ من كتابات من نشأوا في بلاد كانت خياراتها الواضحة: التغريب أو التقاليد المخالفة للشرع. فظن بجهل أو سذاجة أن بلاد التوحيد تحتاج إلى هذه (القضية) الموهومة !
ونسي أو تناسى أن الأمور لدينا (جلية) ولا تحتاج إلى (غمغمات) الآخرين !، وأننا في أمور المرأة لا نصدر –وعلماؤنا معنا- إلا من خلال الأدلة الشرعية –ولله الحمد- فما وافقها أخذنا به ونشرناه، وما خالفها رددنا عليه وحذرنا منه.
وتوضيح ذلك: أننا أخذنا بوجوب ستر المرأة لوجهها عن الأجانب نظراً لأن الأدلة الشرعية أوجبت ذلك –كما سبق-، لا لأنها من العادات كما يحاول الرجل أن يستغفل قارئه. وأخذنا بتحريم الاختلاط للأدلة الشرعية الدالة عليه ... الخ
وفي المقابل أنكرنا أن تُحرم المرأة ميراثها، أو أن تجبر على نكاح من لا تريد، أو أن تُحرم من أن يراها خطيبها الرؤية الشرعية.. وهكذا، كل هذا اتباعاً للأدلة.
يتبقى بعض الأمور التي ليس فيها نص شرعي واضح، فهذه ينظر في مصلحتها ومفسدتها، فإن كان نفعها أكثر من إثمها أخذ بها وإلا لا.(1)
هذه مجرد أمثلة توضح لك أن الرجل قد أخطأ الطريق، وأنه لا مكان في بلادنا لأي (قضية) موهومة للمرأة .(63/2)
وما أجمل ما قاله الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) (ص93): "عاشت المرأة ما عاشت مكرمة معززة مدللة حاكمة على زوجها من خلف ستار، ولم تحس يوماً أنها مهضومة الحق أو أنها مضطهدة أو سجينة أو مهددة الكرامة والشخصية، حتى ظهر ذلك النفر من الكتاب، فأحل الصراع والتنازع بين الجنسين محل التواد والتراحم. ومن عجب أن الذين حملوا اللواء إلى ما يسمونه (حقوق المرأة) كانوا من الرجال، ولم يكونوا من النساء، ولم يكن من صنيعهم إلا إفساد الحياة على المرأة والرجل كليهما" ! إلى آخر كلامه، وهو كلامٌ نفيس، وكلامُ خبير بألاعيب القوم وتاريخهم .
ثم جاءت الطامة عندما أحال هذا الفاضل على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" ! فآلمتني هذه الإحالة من هذا الفاضل أيما ألم، وجعلتني أسترجع قراءتي القديمة لهذا الكتاب البائس. وتساءلت في نفسي: هل كان هذا الفاضل يعلم ما يحتوي عليه الكتاب المشار إليه من انحرافات؟ أم كان لا يعلم، وإنما هو ناقل لبعض ما فيه عن غيره اغتراراً ببعض المواضع منه؟ فإن كانت الأولى فهي مصيبة؛ لأنها دليل على أن الرجل يتبنى (جميع) ما فيه؛ ودليل على أن "حصوننا مهددة من داخلها" ! وأن الفكر العصراني الإنهزامي بدأ يتسلل إلى عقول بعض من لا زلنا نحسن بهم الظن ونراهم على الجادة. وإن كانت الأخرى فلا أقل بعد أن يقرأ هذه التنبيهات أن يتراجع عن هذه الإحالة؛ لئلا يكون ممن قال صلى الله عليه وسلم فيهم : "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" أخرجه مسلم .
فيا أيها الفاضل: الله الله أن تكون (قنطرة) للآخرين ليعبروا من خلالها –وأنت صاحب المحاضرات- إلى نساء هذه البلاد، لأنهم يعلمون أنهم إنما يغزونها ببعض أهلها.
ولا تكن معيناً لدعاة تغريب المرأة في هذه البلاد فتتولى القيام بالمهمة بدلاً منهم.(63/3)
فإن قلت: شتان بيننا ! فنحن ندعو إلى الإسلام وإلى أن تلتزم النساء به، أدباً وسلوكاً، وسنضع الضوابط والشروط لذلك.
فأقول: لو تأمل النبيه حالكم ومطالبكم وقارنها بحال أهل التغريب ومطالبهم لوجدها هي هي، ولكن المسوح تختلف ! والعبرة بالمعاني لا الأسماء :
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها !
بل والله إن التغريبين –عندنا- لا يطمعون أن يجنوا ربع ما دعا إليه صاحب الكتاب الذي أحلت عليه، الذي سيقطعون به شوطاً بعيداً في التغريب ما كان لهم أن يقطعوه دون هذا الكتاب وهذا الفكر، وسيأتيك نبأ ذلك.
فالحذر الحذر يا هذا، واعلم أن الأمر: إما حق أو ضلال، لا ثالث بينهما؛ كما قال تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، فمن التزم في أمر النساء ما جاء به الكتاب والسنة وعمل الصحابة فقد اهتدى إلى الحق، ومن خالف ذلك إما بعدم التزامه أو بتحميل نصوص الوحي ما لا تحتمل –كصاحب الكتاب- فقد ضل وأضل، وإني أربأ بك أن تكون منهم.
ولو تأملت نصوص الكتاب والسنة في أمر المرأة لرأيت طغيان ووضوح جانب القرار والستر والعفة والبعد عن فتنة الآخرين؛ فهذا هو الأصل، وما خالفه فهو يقدر بقدره ولا يُضخم على حساب الأصل السابق.
أما دعاة التغريب والعصرنة بفقد عكسوا الأمر، فجعلوا الفرع أصلاً والأصل فرعاً وحمّلوا النصوص ما لا تحتمله من المعاني الباطلة؛ اتباعاً لشهواتهم وأهوائهم(2) .(63/4)
وأيضاً فلو تأملت جيداً لعلمت أن (اللون الرمادي) لا نصيب له في موضوع المرأة؛ بل في غيره من المواضيع التي يكثر فيها الجدل. وأن التيار العصراني الذي سيتبنى هذا اللون دائماً سرعان ما يلحق بأحد اللونين (الأبيض أو الأسود). وشاهد ذلك ما وقع في مصر عند ظهور هذا التيار العصراني (الرمادي!) بقيادة شيخه الشهير محمد عبده، الذي أراد أن يكون وسطاً بين طرفين –كما يزعم-، فأخذ يتأرجح يميناً ويساراً في مسيرته، إلى أن انضم بعضه إلى الأبيض والبعض الآخر إلى الأسود بعد وفاة الشيخ عبده.
وبعد: فهذه ملحوظات كنت أقيدها أثناء قراءتي لكتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" أحببت أن أنشرها بعد أن رأيت الإحالة السابقة؛ لعلها تكون عوناً لهذا الأخ الفاضل وغيره للتنبه إلى خطورة مسلك هذا الكتاب والتقائه مع مسالك مبغضي الشريعة من دعاة التغريب، إن لم يفقها أحياناً. ويشهد لهذا أن أحد مقدمي الكتاب وهو محمد الغزالي قد قال –يوماً ما- في جريدة الأهرام المصرية(3): "فهذا الزي المبرقع أو المنقب ليس إلا زياً من صميم الأزياء الجاهلية البائدة التي عفى عليها الزمن، ولم يعد لها اليوم مكان إلا في بعض البلاد المتخلفة أو النامية، ولن يبقى فيها طويلاً أمام التطور الوثاب الذي يؤكد ما قاله داعية تحرير المرأة الأول في مصر والشرق العربي : قاسم أمين" !!
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم)
إذاً: فهذه الكلمة من هذا الشيخ تدلك على أن الفريقين (التغريبي العلماني والعصراني) يسيران نحو هدف واحد، وأن الفروق بينهما يسيرة –كما سبق-، ولهذا نجدهما كثيراً ما يلتقيان ويلمع بعضهما بعضاً! مصداقاً لقوله تعالى (تشابهت قلوبهم).
أسأل الله أن يجنبنا الشرور والفتن، وأن يبصر دعاتنا بحقيقة الأمور، وأن لا ينساقوا خلف الأوهام التي لا حقيقة لها، وأن لا يجعلهم سلماً ومتكأ لغيرهم من أعداء الإسلام.(63/5)
هذا، وقد جعلت عدة تنبيهات في مقدمة هذه الرسالة، أتبعتها بالملحوظات على كتاب أبي شقة ثم شيء من تناقضاته.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
تنبيه 1 :
قد يقول قائل: بأن هذا الأخ الفاضل إنما يلمح في مقاله إلى جواز كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب، فلا تثريب عليه، لاسيما وهو رأي "الجمهور" كما يزعم.
فأقول: إن كان ما تقولون فالتثريب على هذا الأخ يكون أشد!، لأنه ينبغي عليه وقد اختار هذا الرأي أن يقوم بالخطوات التالية لكي لا يصبح من متبعي الشهوات ومثيري الفتن:
الخطوة الأولى: أن يعمل بهذا الرأي في خاصته، مع زوجته وبناته مثلاً.
فإن قال: أخشى من نقد المجتمع وكلامهم، فأقول: كيف تخشى من ذلك وأنت هنا لا تكتفي باتباع هذا الرأي بل تُسَفه ما خالفه وتدعو إليه (ولو بالتلميح). كان الأولى أن تخاف هنا لا هناك.
الخطوة الثانية: أن لا يحاول نشر ما اختاره بين نساء المسلمين المتسترات ممن يغطين وجوههن في هذه البلاد؛ لأنه كما هو معلوم أن ستر وجه المرأة أفضل وأولى حتى عند القائلين بجواز كشف وجهها. فهذا هو الألباني –مثلاً- وهو عمدة القائلين بالكشف يقول: "نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه إن كان جائزاً، فستره أفضل، وقد عقدنا لذلك فصلاً خاصاً في الكتاب"(4) ويقول عن ستر الوجه واليدين: "ذلك ما نستحبه لهن، وندعو إليه"(5) وتأمل قوله "وندعو إليه" وقارنه بحال هذا الفاضل !
إذاً فستر الوجه أفضل من كشفه عند من يقول بجواز الكشف، فكيف يرضى هذا الفاضل أن يدعو نساء المسلمين في هذه البلاد –خاصة- أن يتنازلوا عن الأفضل !! فيكون ممن قال الله فيهم (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير).(63/6)
الخطوة الثالثة:أن يُسَخر جهوده ودعوته لنشر الحجاب الذي اختاره بين المتبرجات، وهن يملأن ديار المسلمين–إلا ما رحم الله-، وهن يفعلن (المحرم) بالاتفاق. فما باله تركهن وسلط دعوته على المتسترات؟! فحاله كحال من رأى قوماً لا يصلون وآخر يصلي الفروض ويتطوع بالسنن فاستشاط غضباً على هذا الرجل ودعاه إلى ترك السنن لأنها ليست بواجب!! وفي المقابل ترك من لا يصلون!
لو فعل الفاضل هذه الخطوات السابقة لما ثربنا عليه، وأما وهو لم يفعلها فلا لوم علينا إن ناصحناه وحذرناه من أن يكون ممن قال فيهم شيخ الإسلام: "إن كثيراً من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة"(6)
تنبيه 2:
إن هذا الفاضل إن كان يدعو إلى جواز كشف وجه المرأة للأجانب فقد أخطأ وأساء لنفسه عندما زعم أن القول الآخر، وهو قول من يرى ستر وجهها عن الأجانب هو من "العادات" أو أنه "رؤى مذهبية" !
فهل هذا إلا مغالطة إن لم تكن كذباً بواحاً ؟! ألا يعلم هذا الفاضل أن من يرى ستر وجه المرأة له من الأدلة (الصريحة) أضعاف أضعاف ما لدى الآخرين(7)، إضافة إلى أنه يجيب عن أدلتهم المتهافتة وهم لا يستطيعون أن يجيبوا عن الكثير من أدلته(8). وليتك اطلعت عليها في مؤلفاتهم قبل أن تفوه بكلمتك السابقة.
تنبيه 3 :
إن من يزعم بأن جواز كشف وجه المرأة لوجهها عند الأجانب هو رأي "الجمهور" قد أخطأ خطأ بيناً ولم يأت بدليل على هذا، وإنما هي أقوال متفرقة لبعض الفقهاء المتأخرين، أداهم إليها ظنهم أن عورة المرأة في الصلاة كعورتها في(63/7)
النظر، وليس هذا موضع الإطالة في هذه القضية(9). وكذلك مثلهم من زاد فادعى بأن هذا القول يقول به الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد !! وما هذا إلا محض افتراء عليهم، إنما زعمه من رأى بعض من ينتسب إليهم من المتأخرين يختار هذا القول الضعيف فظن الأئمة يقولون به! وما مثله إلا كمثل من ينسب لهؤلاء الأئمة عقائد فاسدة لأنه رأى بعض أتباعهم المتأخرين وقعوا فيها(10) .
وتوضيح هذا بالتفصيل يأتي في بحث قادم –إن شاء الله-.
تنبيه 4 :
قال الشاطبي –رحمه الله- في (الاعتصام، 1/134): "لاتجد مبتدعاً ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فينزله على ما وافق عقله وشهوته"!
تنبيه 5 :
قال الشيخ أبو بكر الجزائري –وفقه الله- وهو الذي عركته السنون واطلع على أحوال ديار المسلمين وتقلباتها الاجتماعية، قال:
"وختاماً، فهذه رسالة (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) قد أوحاها الواجب وأملاها الضمير ونشرتها الرغبة الصادقة في تجنب هذه البلاد شر الِغيَر وإبعادها من ساحة الخطر، إذ هي بلاد أنعم الله تعالى عليها بعظيم النعم؛ نعم الدين والدنيا، والأولى والأخرى، وكل ذي نعمة محسود، وذو الحسد لا يقف في الإضرار عند حد، فلذا وجب تنبيه أبنائنا وإخواننا في هذه الديار ديار الله إلى ما يكيده المحسدة لهم وما يمكرونه بهم.
إنهم يريدون أن يهدموا البناء من أساسه ويقوضوا البيت من أركانه.
يريدون أن ترمي فتاة الإيمان وغادة الإسلام النقاب والحجاب وتخرج عارية كاليهودية أو النصرانية وقد فارقها الحياء والإيمان، إذ هما صنوان إذا ذهب أحدهما ذهب الثاني، وبذلك ينطفئ النور ويعتم ظلام الفسق والفجور، ويتخلى الله عمن تخلى عن الإيمان به والإسلام له، والإحسان فيه والحياء منه، ومن تخلى الله عنه لا يدري في أي واد يرمى به فيهلك مع الهالكين.(63/8)
فيا معشر الأبناء والإخوان اقبلوا نصيحة مجرب طال ركوبه على متن الحياة فعرف حلوها ومرها وصالحها وفاسدها وطيبها وخبيثها. وعرف سنن الله تعالى فيها، تلك السنن التي لا تحابى أحداً من خلق الله بل تجرى وفق ما سنها الله تعالى له؛ فالطعام يُشبع، والماء يُروي، والنار تُحرق، والحديد يقطع، والسفور يقود إلى الفجور، والفجور خروج عن نظام الحياة، والحياة من خرج عن نظامها فارقته وفارقها ومن فارق الحياة مات، ومن مات فات، والفائت لا يطلب لاستحالة إدراكه، واستواء حياته بمماته.
فأبقوا يا أبنائي على حجاب نسائكم فجنبوهن الاختلاط، وأبعدوهن من أي ارتباط لم يكن ارتباط زوج بزوجة أو أم بأولاد، فذلك خير، والخير مرغوب ومطلوب، فاطلبوه بصيانة الأعراض، وطهارة الأعراق والأنساب، وإياكم ورغبات الشباب الجامحة، وتطلعات الفتيان والفتيات الطامحة، فإن الانسياق وراءها والجري في مجراها يؤدي بكم إلى هدر كرامتكم وسلب عزكم وضياع مجدكم، ويومئذ تندمون وتبكون وهل ينفع الندم أو يجدي البكاء ؟ لقد ذهب الفسق عن أمر الله ورسول الله بجنة العرب –الأندلس الخضراء- وذهب الكفور والفجور بالجمهوريات الإسلامية وحولها إلى أقاليم سوفياتية.
فالله الله يا أبنائي، وإني لكم ناصح أمين، في دولتكم، فشدوا من أزرها وقووا من دعائمها وأركانها بإقامة الصلوات وترك الشهوات، فإن أقواماً أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات قد خسروا في الحياة والممات، فاربأوا بأنفسكم أن تكونوا مثلهم والله معكم ولن يتركم أعمالكم"(11)
كتاب: "تحرير المرأة في عصر الرسالة" :
مؤلف الكتاب هو : عبد الحليم محمد أبو شقة .
قدم لكتابه: محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، وهذا له دلالته في اختيار المؤلف منذ البداية خط من يسمون بفقهاء التيسير أو فقهاء ضغط الواقع(12).
قال القرضاوي عن المؤلف في تقديمه (ص19) "لقد نشأ في حركة الإخوان المسلمين منذ شبابه المبكر".(63/9)
قلت: من المعلوم للمتابعين الآن أن جماعة الإخوان فقهياً تنقسم قسمين:
1-قسم السائرين على المنهج الأول: وهو فقه أهل السنة والجماعة القائم في مجمله على الدليل الشرعي دون التعصب لأي مذهب من المذاهب الأربعة، وعمدتهم الكبرى في هذا: كتابهم الشهير "فقه السنة".
2-قسم فقهاء التيسير ممن تأثروا بالعقلانيين ومن يسمون بأصحاب التيار المستنير، وهؤلاء فقههم يقوم على الأيسر مهما خالف ذلك الأدلة الصحيحة، ويقوم على تطويع الإسلام للواقع بدلاً من العكس، إضافة إلى أن (معظمهم) لا يستعين بفقه أهل السنة والجماعة، بل لا مانع عنده أن يأخذ من غيرهم. وفقهاء هذا القسم هما محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، وإن كان الثاني أضلع وأمكن من الأول(13).
ومؤلف كتاب "تحرير المرأة.." من ضمن أفراد هذا القسم –كما سيأتي- ولهذا قال القرضاوي في تقديمه له (ص 20): "كان له اليد الطولى في إخراجها إلى حيز الوجود، بل كان هو صاحب فكرتها، الداعي إليها" أي مجلة "المسلم المعاصر"، وهي من أبرز مجلات التيار المستنير.
-الكتاب مكون من خمسة أجزاء(14)، هي كالتالي:
الجزء الأول: (معالم شخصية المرأة المسلمة).
الجزء الثاني: (مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية).
الجزء الثالث: (حوارات مع المعارضين لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية)
الجزء الرابع: (لباس المرأة المسلمة وزينتها).
الجزء الخامس: (مكانة المرأة المسلمة في الأسرة).
-حشد المؤلف في كتابه ما استطاع من نصوص البخاري ومسلم مما يتعلق بموضوع المرأة وقام بتصنيفها وعنونتها والتعليق على بعضها. مع ملاحظة أن الحديث الواحد يكرره في مواضع مختلفة يرى أنه يدل عليها .
الملحوظات :
وقد سردتها دون ترتيب معين؛ مع الإشارة إلى موضعها من كتابه، ودون إطالة في التعليق عليها؛ لأن أكثرها لا يستحق ذلك؛ لتهافتها الواضح لكل من قرأ أو سمع القرآن والسنة .(63/10)
1-تقريره الاختلاط بين الرجال والنساء، وتسميته ذلك الاختلاط بالاختلاط "المشروع" ! تلبيساً على القارئ .
يقول أبو شقة (2/16) "إن لقاء النساء والرجال بآدابه الشرعية هو ما يمكن أن نطلق عليه حسب التعبير الشائع الآن (الاختلاط المشروع) وهو ظاهرة صحية" !!
ولا أدري كيف تعامى أبو شقة عن الأدلة الكثيرة التي هي في الكتاب وفي الصحيحين تحرم الاختلاط الذي يدعو إليه ومن يتابعه من المستنيرين؟ ومن ذلك: قوله تعالى (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) وإن زعم أن هذه الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقد أوقع نفسه في زلة عظيمة؛ إذ كيف تكون زوجاته صلى الله عليه وسلم محتاجات لهذا الحجاب لطهارة قلوبهن، ولا يحتاجه غيرهن من النساء؟! وهل هذا إلا دليل على تفضيل النساء الأخريات على زوجاته صلى الله عليه وسلم ؟! فهل يقول بهذا أبو شقة ومن معه ؟ ثم إنه من المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن الأدلة الصريحة على تحريم الاختلاط الذي يدعو إليه أبو شقة وأحزابه: حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق: "استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق" أخرجه أبو داود بسند صحيح(15). ومعنى " تحققن " أي : تتوسطن .
وقد كان من سنته صلى الله عليه وسلم أنه يمكث قليلاً عند انتهاء الصلاة هو وأصحابه حتى تذهب النساء، أخرجه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/336): "وفي الحديث .. كراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت"
والعاقل لو تأمل لعلم أنه ليس هناك شيء اسمه (اختلاط مشروع) وآخر (غير مشروع)! كما يتوهم أبو شقة ومن معه؛ مهما جعل له من الضوابط الموهومة التي لا حقيقة لها على أرض الواقع، بل يدرك سذاجتها وسخفها عامة الناس قبل علمائهم.(63/11)
2-من انحرافاته في كتابه أنه –كما سبق- يضخم ويهول من دلالة بعض الأحاديث ويلويها لتدل على أمور عظيمة لا يقول بها مسلم يعظم شرع الله.
أ-ومن أمثلة ذلك ما ذكره في كتابه (2/65) تعليقاً على حديث أمره صلى الله عليه وسلم أن يحضر النساء والفتيات والحيّض صلاة العيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، بعد أن ذكر هذا الحديث ضمن أحاديث (الترويح)!، قال: "نعم يخرجن؛ لأن الأمر ليس أمر صلاة وحسب، إنما هو احتفال إسلامي كبير يقام في مكان فسيح يتسع لأكبر عدد ممكن من أهل المدنية" !! فالأمر عند أبي شقة ليس أمر صلاة كما هو عند المسلمين، إنما هو ترويح واحتفالات! بل لا تستغرب إن قال حضور مباريات ومهرجانات رياضية وفنية!! فكلامه تمهيد لمثل هذه الأمور، نعوذ بالله من مرض القلوب.
ب-ومن أمثلة ذلك –أيضاً- أنه جاء إلى حديث رؤية عائشة وهي في بيتها، وبيتها يطل على المسجد، والنبي يسترها، إلى الحبشة وهم يلعبون بالحراب،
جاء إلى هذا الحديث وطوعه لهواه قائلاً (2/65) : "نحسب أنه من الطبيعي أن يكون بعض فتيات ونساء المدينة قد شاهدن تلك الألعاب" !! واستنبط بعقله وخياله الواسع ! "هل يبعد والأمر كذلك أن يصل إلى سمع بعض نساء المؤمنين خبر هذا اللعب؟ وهل يبعد وقد وصلهم الخبر أن يسعين للنظر إلى لعب الأحباش ويشتركن في هذا الاحتفال الكبير؟" !
فانظر كيف أقام الخيالات والأحكام على نظر عائشة إلى الحبشة من نافذة بيتها المطل بالمسجد والنبي مع ذلك يسترها ؟!
جـ- اختار أبو شقة للمرأة أن تكون عاملة نظافة !!(2/347) محتجاً بحديث المرأة السوداء التي كانت تنظف مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي متسترة تطوعاً واحتساباً.
3-اختار للنساء أن تستقبل إحداهن في بيتها "العمال الذين يقدمون لإصلاح أو صيانة بعض أدوات المنزل" (2/70).
ولا أدري أين ذهبت أحاديث تحريم الخلوة بالأجنبية ؟!(63/12)
4-اختار للرجل أن يصافح النساء (2/92-93). رغم أنه قد ذكر حديث "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"(16) وحديث: "لا أمس أيدي النساء"(17) ! ولكنه تأولهما وألغى دلالتهما كشيخه القرضاوي(18). نعوذ بالله من مشاقة رسوله صلى الله عليه وسلم.
5-ومن أعجب اختيارات الرجل: اختياره (2/258) جواز أن تفلي المرأة رأس الضيف !!! واسمع قوله –متعجباً- "إن هذا المستوى من الرعاية الحانية وما يتخلله من قرب ولمس للبدن مشروع ما دامت الفتنة مأمونة. ولا تؤمن الفتنة هنا عادة إلا في حالات خاصة كما هو واضح من النصوص. وهذه الحالات تندرج تحت ظاهرة اجتماعية مشهودة تعين على أمن الفتنة وتشجع على قبول هذا المستوى من الرعاية الحانية. هذه الظاهرة تشير إلى أن طول العشرة بين المسلمين الصالحين تولد في نفوس المتعاشرين مشاعر خاصة نبيلة تَضْمُرُ معها الشهوة، وما كان لهذه المشاعر أن تولد لولا طول العشرة ... ومع هذه المشاعر تخف الشهوة الفطرية نحو الجنس الآخر حتى تكاد أن تنمحي" !
قلت: فلا أدري هل يقول بهذا من يتابع أبا شقة ويثني على كتابه؟!!
قد يقال: إن الرجل احتج بحديث أم حرام التي كانت تفلي رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في البخاري . فأقول: قال النووي في شرح مسلم (13/57): "اتفق العلماء على أنها كانت محرماً له صلى الله عليه وسلم" ! فهل غاب هذا الاتفاق عن أبي شقة حتى ذهب يتصيد من الأقوال الشاذة ما يحلل به ما حرم الله، اتباعاً لهواه وتساهله في أمر النساء والغيرة؟! ويشهد لهذا الاتفاق ما سبق من النصوص الصريحة في عدم جواز مس المرأة.
6-اختار أبو شقة للنساء أن يعملن "مضيفات" ! (2/348) متجاهلاً أحاديث تحريم سفر المرأة إلا مع ذي محرم. وهي في الصحيحين، أي على شرطه!(63/13)
7-أما في أمور السياسة فقد توسع أبو شقة توسعاً فاحشاً كشيخه القرضاوي؛ (ففرض) ! على المرأة حق الانتخاب (2/442). و(فرض) عليها (2/443) "الانضمام إلى الأحزاب والقوى السياسية" !! ولا أدري إلى ماذا تدعو هذه الأحزاب والقوى ؟! إن كانت تدعو إلى حكم الإسلام، فما بالها أصبحت (أحزاباً) ولم تصبح (حزباً) واحداً كما أراد الله ؟!
و(فرض) عليها أبو شقة (2/445) "المشاركة في التعبير عن الرأي في القضايا العامة سواء بالكتابة أو التظاهر أو الإضراب" !!
و(فرض) عليها (2/446) "قبول الترشيح للمجالس النيابية" !
ثم نقل عن شيخه القرضاوي ما يؤيد به مفاسده السابقة، ليبوء الاثنان بإثم من يتابعهما من النسوة المغرر بهن(19).
8-لكي يهون أبو شقة معصية (الاختلاط)، ولكي يشجع المرأة ويغريها على ملاقاة الرجال، قال –وبئس ما قال- (3/21): "نحب أيضاً أن نلفت الانتباه إلى أهمية دور الإلف والعادة في الصلات الاجتماعية؛ فإن الإلف يعين على تخفيف الحساسية عند رؤية الجنس الآخر. وذلك مما يجعل الأمر هيناً نوعاً عند الطرفين. فالمرأة إذا لم تتعود وتألف لقاء الرجال فلابد أنها تشعر بحساسية وحرج بالغ إذا دعت الحاجة إلى لقاء الرجال؛ وسيشعر بالحرج أيضاً زوجها أو أبوها أو أخوها، وعندها يفضل الجميع –دفعاً للحرج- التضحية بالحاجة وما وراءها من خير مهما كانت أهمية تلك الحاجة ومهما كان قدر الخير الذي وراءها، سواء للمرأة أو للمجتمع. وكذلك الحال مع الرجال فالذي تعود منهم وألف لقاء النساء والاجتماع بهن عند الحاجة بين حين وآخر لن يحس في دخيلة نفسه ما يمكن أن يحسه رجل آخر لم يألف ذلك ثم دعته الحاجة إلى لقاء النساء".
قلت: صدق الله إذ يقول (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً).
9-اعترف أبو شقة على استحياء بأن لقاء المرأة بالرجال قد يحدث ميلاً للجنس الآخر لا مفك من ذلك. ولكنه هوّن من هذا الأمر وعده أمراً فطرياً لا حرج منه !(63/14)
يقول أبو شقة (3/54): "إن قدراً من الميل والأنس والاستراحة للحديث والكلام يحدث عادة بصورة عفوية نتيجة لقاء الرجل المرأة، أي أنه يحدث دون قصد لأنه أمر فطري ابتلى الله به بني الإنسان. فإذا لم يسترسل كل
منهما في مشاعر الميل والأنس وشغلهما الأمر الجاد الذي التقيا من أجله، عندئذ فلا حرج على المؤمن والمؤمنة، ولكن عليهما ضبط مشاعرهما وتوجيه اهتمامهما إلى تحقيق الهدف من المشاركة واللقاء" !!
قلت: ولا أدري ما هو هذا الأمر الجاد الذي التقيا عليه ؟!
10-يسخر أبو شقة كثيراً في كتابه من الحجاب الذي أمر الله به النساء، ويحاول –كغيره من مثيري الفتن- أن ينفرهن منه، وكفى بهذه السخرية بأحكام الله وشرائعه إثماً مبيناً.
-يقول أبو شقة (3/203) بأن المسرفين: "ألزموا المرأة بستر وجهها دائماً، وفي ذلك تضييق على ما منحها الله من قوة الإبصار وتضييق حريتها في تنفس الهواء" !
قلت: تأمل قوله (دائماً) ! والذي يعرفه كل مسلم أن المرأة لا تستر وجهها إلا عند الرجال الأجانب، وهذا الأمر لمن تأمله لا يمثل سوى جزءٍ يسير من حياتها، فكيف يكون (دائماً) ؟!
ثم –وهذه هي الطامة- أنت تقر في (4/295) بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الواجب عليهن تغطية وجوههن، وهو إجماع، فيلزمك أن تقول بأن الله قد "ضيق عليهن قوة الإبصار التي منحهن وتنفس الهواء" ؟!! ألا ما أعظمه من قول ؟!
11-هون أبو شقة كثيراً من أمر غيرة المؤمنين على محارمهم، ولامهم على ذلك، وأحاله إلى "مزاجهم الشخصي" ! يقول أبو شقة (3/207): "زاد طغيان الغيرة حتى وصل الأمر في بعض المجتمعات المسلمة إلى أن يغار الرجل من مجرد رؤية الناس وجه أمه أو أخته أو زوجه" !!
12-تابع أبو شقة الألباني في اختياره للمرأة أن تكشف وجهها أمام الأجانب إلا أنه لم يرضه رأي الألباني بل زاد عليه انحرافاً وألغى بعض شروط الحجاب الشرعي التي ذكرها الألباني بأدلتها؛ لأنها لم توافق هواه.(63/15)
وتوضيح ذلك : أن الألباني جعل للحجاب الشرعي هذه الشروط(20):
1- استيعاب جميع البدن إلا ما استثني .
2- أن لا يكون زينة في نفسه .
3- أن يكون صفيقاً لا يشف.
4- أن يكون فضفاضاً غير ضيق .
5- أن لا يكون مبخراً مطيباً .
6- أن لا يشبه لباس الرجل .
7- أن لا يشبه لباس الكافرات .
8- أن لا يكون لباس شهرة .
أما أبو شقة (4/30) فاختزل هذه الشروط في خمسة ! وهي:
"1- ستر جميع البدن عدا الوجه والكفين والقدمين.
2- التزام الاعتدال في زينة الثياب والوجه والكفين والقدمين .
3- أن يكون اللباس والزينة مما تعارف عليه مجتمع المسلمين .
4- أن يكون اللباس مخالفاً –في مجموعه- للباس الرجال.
5- أن يكون اللباس مخالفاً –في مجموعه- لما تتميز به الكافرات".
فليته إذ اختار كشف الوجه التزم بالشروط الأخرى للحجاب القائمة على الأدلة(21) ولم يخترع شروطاً من عنده ليضل بها النساء ويفتن بها أبناء المجتمع.
فمعنى قوله : أن للمرأة أن تلبس الثياب الشفافة، والثياب الضيقة، و الثياب المطيبة أمام الرجال !، لأنه حذف جميع هذه الشروط !
وقد صرح ببعض هذا (4/77) بقوله: "لا حرج على المرأة أن تلبس ما يصف بعض أعضائها ذات العظام البارزة؛ كالرأس والكتفين والقدمين والكعبين وما جاورهما من أسافل الساقين" !
13-ليت أبا شقة عندما اختار كشف وجه المرأة اكتفى بأدلة الألباني ولم يتحفنا بخيالاته الواسعة واستنباطاته العجيبة ! ومن ذلك: قوله (4/103) تعليقاً على حديث فاطمة بنت قيس التي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم: "وبالتأمل يبدو أن المرأة جاءت سافرة الوجه فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمالها ما جعله يعجل بترشيحها لتكون لحبه أسامة بن زيد" !! فالرجل (تخيل) ثم (حكم) !
ومثله: قوله تعليقاً على حديث المرأة التي مر عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي عند قبر ولدها (4/117): "والظاهر أنه إنما عرفها من سفور وجهها" !!(63/16)
ومثله : قوله تعليقاً على حديث من نذرت أن تحج صامتة (4/119): "نحسب أن المرأة كانت سافرة الوجه ورآها الصديق صامتة" !!
ومثله: قوله تعليقاً على استفتاء إحدى النساء لعمر رضي الله عنه (4/119): "نحسب أنه –أي الراوي- عرف ذلك –أي أنها شابة- بسبب سفور وجهها" !!
إلى غير هذا من الاستنباطات العجيبة القائمة على خيال واسع لم يحظ به أحدٌ من العلماء !
14-يقول أبو شقة (4/152) مروجاً لكشف الوجه بين المسلمات: "كشف الوجه يعين على تعارف الأقارب وذوي الأرحام وتواصلهم: فيتعرف الشاب على بنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات. وتتعرف الفتاة على أبناء أعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها. وأيضاً يتعرف الشاب على زوجات الأعمام والأخوال وتتعرف الفتاة على أزواج العمات والخالات، وكذلك يتعرف الرجل على أخوات زوجته وتتعرف المرأة على إخوة زوجها. أما إذا عم ستر الوجه وتبعه الاحتجاب من كل الرجال غير المحارم فكيف يتواصل ويتواد الأقارب وذوو الأرحام؟ كيف يعود بعضهم بعضاً عند المرض؟ كيف يودع بعضهم بعضاً أو يستقبل بعضهم بعضاً عند السفر؟ هل يذهب الرجل ليصل ابنة عمه أو خاله المتزوجة فيلقى زوجها ويجالسه ويتبادل معه المشاعر النبيلة، ولا يلقى ابنة خاله وهي المقصودة بالزيارة والصلة والمودة؟"!!
وكأن المقصود بصلة الرحم –عند أبي شقة- هو تأمل وجوه الأجنبيات ليتحقق ذلك ! أما السلام والسؤال عن الحال فلا يكفي !
15-ويستمر أبو شقة في ترويج (سفوره) بين نساء المسلمين، ولكن هذه المرة بكذبة كبرى لا تخفى على أحد .(63/17)
يقول (4/156) : "إنه مع كشف الوجه يظل الإنسان –سواء أكان قوياً أو ضعيفاً- مرتبطاً من حيث الشهوة بالجنس الآخر. أي يظل الميل الفطري الذي خلقه الله يجري في مجراه الطبيعي ولا ينحرف هذا الميل إلى الجنس نفسه. وإذا كان الأقوياء –مع المجاهدة- يكونون في الحالين في أمان من الزلل فهم قلة عادة، والكثرة هم الضعفاء، وهؤلاء في حال كشف الوجه قد يقعون في شيء من اللمم، وقد يصل الأمر إلى فعل الفاحشة في أحيان قليلة، لكنهم يظلون مع الفطرة دائماً.
أما في حال ستر الوجه حيث تسد كل السبل لرؤية الجنس الآخر، فإنهم يتجهون غالباً إلى الجنس نفسه، إذ كل السبل مفتوحة دون قيود. وهذا أمر مشاهد معروف في عصرنا وفي كل العصور، وقد أدركت ذلك بنفسي فقد خالطت نوعين من المجتمعات، أولهما: حيث المرأة مكشوفة الوجه وتشارك بأقدار في الحياة الاجتماعية، كان عدد الشباب المنحرف إلى الجنس نفسه قلة نادرة. وثانيهما: حيث المرأة ساترة الوجه منعزلة تماماً عن مجتمع الرجال، كانت كثرة من الشباب منحرفة إلى الجنس نفسه" !!!
قلت: تأمل هذه الفرية ما أعظمها، فلا أدري كيف يستغفل أبو شقة قارئه ويدغدغ عواطفه بهذه الأكاذيب؟ وإلا فإنه يعلم –وأصبح الجميع يعلم ولله الحمد- أن المجتمعات الإباحية التي لا تكتفي بكشف الوجه فقط ينتشر بينها الشذوذ أكثر من غيرها، حتى إنها اضطرت إلى أن تسن قوانين وشرائع لهذا الشذوذ. ومن أراد أن يعرف شيئاً عن الأرقام والحقائق المروعة التي يعيشها الغرب فليرجع إلى كتب محمد رشيد العويد، وكتاب "عندما اعترفت أمريكا بالحقيقة" ترجمة الدكتور محمد البشر، وغيرها من الكتب والمجلات التي كشفت هذا الأمر.(63/18)
بل لو قيل بأن السفور والإباحية هما سبب الشذوذ لكان هذا القول أولى بالقبول؛ لأن الرجال يكونون قد ملوا من النساء ورؤيتهن حتى ثملوا، فلجئوا إلى غيرهن. وما مجتمع قوم لوط عنا ببعيد. ولكنها الأكاذيب والأضحوكات لترويج السفور، ونشر الفتنة. نسأل الله العافية.
تناقضات أبي شقة :
من الأمور المستقرة عند العلماء أنه ما من إنسان يأتي بقول مخالف للكتاب والسنة إلا وتجد التناقضات في قوله ذاك، فهذه سنة مطردة في كل من خالف الحق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هؤلاء(22) : "ولست تجد أحداً من هؤلاء إلا متناقضاً ... بخلاف ما جاء من عند الله فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد في المعاش والمعاد، قال تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)"
قلت: وهذا ما وجدته في كتاب أبي شقة مصداقاً لذلك الأمر المستقر والسنة المطردة، وإليك شيئاً منه :
التناقض الأول :
1-أنه –كما سبق- قرر بأن الاختلاط (المشروع!) وكثرة لقاء المرأة بالرجل يزيل الحرج عنهما ويجعل الأمر عادياً لا فتنة فيه .. الخ .
ثم تجده (3/33) يعلق على حديث : "خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"(23) الذي أحرجه به علماء الأمة ممن ينكر الاختلاط، علق بقوله: "ابتعاد النساء عن الرجال مما يعين على خلوص القلب للعبادة والذكر" !!
فنقول : كيف يكون الاختلاط في خارج العبادة مرغباً فيه ولا يثير شيئاً، وأما في العبادة فإنه يشغل الإنسان بالوساوس والخطرات ؟! كان العكس أولى، ولكنه التناقض.
التناقض الثاني:(63/19)
أنه في (4/66-70) ذكر نصوصاً تفيد وجوب ستر ساقي المرأة. فاختار أن المرأة تستر سوقها لا أقدامها ! ثم ذكر في (4/71) حديث أم سلمة المشهور: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن ؟ قال: "يرخينه شبراً". فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن؟ قال: "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه" . فلما رأى أنه يخالف رأيه المنكوس قال: "هذه الأحاديث تشير إلى ستر القدمين، ولكن إذا تأملناها في ضوء حديث هاجر وأسماء اللذين سبق ذكرهما تبينا أن المقصود ستر ما فوق القدمين من أسافل الساقين" !!
فتأمل هذا التناقض والفقه العجيب ! الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه أم سلمة من أفصح العرب وهي تقول له "إذاً تنكشف أقدامهن" وأبو شقة يقول: بل ما فوق أقدامهن !
والغريب أن ذراعاً من الثياب يُسْحب على الأرض لا يستر أسفل الساقين عند أبي شقة !!
التناقض الثالث :
أنه يتبجح في مقدمة كتابه بأنه سيعتمد على نصوص الصحيحين فقط، وأنه يدعو إلى "أن تكون الفتوى مصحوبة بالدليل من كتاب أو سنة" (1/50).
ثم تجده في (4/772) عند اختياره جواز أن تلبس المرأة ما يصف حجم بعض أعضائها –كما سبق- يقول مستدلاً : "إن عامة الصالحات من نساء الأتراك في عصرنا يبدو شيء من أسافل سوقهن مما يلي الكعبين، لكنه مغطى بجوارب سميكة، وذلك دون إنكار من العلماء" !! فأين الدليل من الكتاب والسنة؟!
التناقض الرابع:
أنه يقول في (4/295): "نحن لا ننكر وقوع ستر الوجه بنقاب من بعض المؤمنات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم"
ثم تراه –كما سبق- يسخر من الحجاب وستر الوجه، وأنه يمنع المرأة من التنفس !! فلا أدري أأنت أرفق بالنساء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي –بحسب اعترافك- قد أقر المؤمنات على تغطية الوجه ؟! لا مفر لك إلا أن تعترف بتناقضك، أو أن تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر المرأة على العنت والظلم لنفسها !(63/20)
أسأل الله أن يجعلنا مفاتيح خير لا مفاتيح شر على أمتنا، وأن يجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين .
(1) ... قال شيخ الإسلام: "ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان، كما قال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد في المعاش والمعاد، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما؛ فإن كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه" (منهاج السنة، 4/527).
(2) ... يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- وهو الخبير بدعاة تغريب المرأة: "مصدر الخطأ والخلط في ذلك كله ناشئ عن وضع الاستثناء والشذوذ موضع القاعدة والأصل، واتخاذ أعمال الأفراد حجة على الشرع نفسه" (حصوننا مهددة من داخلها، ص95). ثم بين –رحمه الله- أن حالهم كحال من أباح للناس أكل الميتة لأنه رأى آية أباحتها وقت الضرورة !
(3) ... بتاريخ2فبراير1982م. انظر:"الردود الخمسة الجلية على أخطاء كتاب السنة النبوية" للأخ أحمد الديب، ص8.
(4) ... جلباب المرأة المسلمة ( ص 28).
(5) ... السابق (ص 32)
(6) ... الاستقامة (2/256).
(7) ... انظر أدلة القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها أمام الأجانب في هذه الكتب: "عودة الحجاب" لمحمد بن إسماعيل، "إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" للمباركفوري، "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" لأبي بكر الجزائري، "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" للسندي، "أضواء البيان" للشنقيطي (تفسير سورة الأحزاب والنور).
... وليعلم أن جميع المؤلفين السابقين ليسوا من أهل هذه البلاد! لكي لا يتهمنا الأخ الفاضل باتباع (الرؤى المذهبية") !!(63/21)
(8) ... مثال ذلك – والأمثلة كثيرة - : أن الله تعالى يقول ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ......... ) الآية ، والقائلون بكشف وجه المرأة متفقون بأن الواجب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترن وجوههن للأدلة الكثيرة على هذا ، ولكنهم يرونه خاصًا بهن ! ، فكيف يكون ذلك والخطاب في هذه الآية للجميع ؟! ، ولماذا أدخلهن الله في هذه الآية وهي حسب زعمكم لا تدل على وجوب ستر الوجه ؟؟!! أليس هذا من التناقض الذي ينزه عنه كتاب الله ؟!
(9) ... أفضل من تكلم عن هذه القضية وأوضحها: شيخ الإسلام في حديثه عن الحجاب. وقد طبع مفرداً.
(10) ... انظر: رسالة "براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة" للدكتور عبد العزيز الحميدي.
(11) ... "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" (ص 226-227).
(12) ... للشيخ محمد المنجد شريط عن هذا الفقه بعنوان (ضغط الواقع). وللأخ عبد الله البطاطي سلسلة مقالات رائعة عن هذا الفقه نشرت في مجلة الجندي المسلم .
(13) ... ولتعلم ما بين فئتي الإخوان من خلاف، انظر: كتاب "العصريون معتزلة اليوم" ليوسف كمال، فهو رد من الفئة الأولى "المنضبطة" على الفئة الثانية "التنويرية"، وقد قدم له عمر التلمساني مرشد الإخوان سابقاً.
... فواجبٌ على فضلاء جماعة الإخوان مواصلة التصدي لتيار العصرنة الذي اخترق صفوفهم، بل أطاح ببعض رؤسهم؛ كالقرضاوي مثلاً، وأن لا يجعلوه يتسيد الساحة، فيفسد على المسلمين دينهم، وأن لا يكتفوا بالانزواء والاستكانة أمام توهج الطائفة العصرانية التي يؤزها العلمانيون أزًا. فعسى أن يكون ذلك قريباً.
(14) ... ذُكر في الغلاف الخارجي للكتاب أنه يتكون من ستة أجزاء، ولم أجد سوى خمسة، فالله أعلم.
(15) ... وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (856)، وله شاهد بلفظ "ليس للنساء وسط الطريق" .
(16) ... صحيح الترغيب والترهيب للألباني (1910).
(17) ... صحيح الجامع (7177) .(63/22)
(18) ... كما في فتاوى معاصرة له (2/293 وما بعدها)، وانظر (القرضاوي في الميزان) (ص 322 وما بعدها).
(19) ... انظر لبيان الحق في هذه المسألة رسالة "المرأة والحقوق السياسية في الإسلام" لمجيد أبو حجير. وكتيب "فتاوى وكلمات لعلماء الإسلام قديماً وحديثاً حول تمكين المرأة من الترشيح والانتخاب" للدكتور عبد الرزاق الشايجي.
(20) ... انظر: "جلباب المرأة المسلمة " للألباني، ص 37.
(21) ... راجع أدلتها في كتاب الألباني السابق .
(22) ... درء تعارض العقل والنقل (5/318).
(23) ... أخرجه مسلم .(63/23)
المقدم إلى مؤتمر الحوار الوطني الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويُتخطف الناس من حولهم ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ).
قال تعالى : ( أولم نمكن لهم حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيئ رزقًا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ).
قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دارالبوار ).
قال تعالى : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يُصلحون ).
ولاتحتقر كيد الضعيف فربما
تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هد عرش بلقيس هدهد
وخرّب فأر قبل ذا سد مأرب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وآله وصحبه .. وبعد:
فلم يعد يخفى على عاقل ما منَّ الله عز وجل به على بلادنا (المملكة العربية السعودية) من نعمة الإيمان والأمن الذي تفردت به بين العالمين:
أما الإيمان: فبتوفيقها إلى اتخاذ الإسلام منهج حياة عليه تحيا وعليه تموت؛ والتزام عقيدة أهل السنة، ونشرها في الآفاق مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" (متفق عليه).
وأما الأمان: فهو نتيجة حتمية للأمر الأول، يزيد بزيادته، وينقص بنقصه؛ كما قال تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن).
ولا زالت هذه البلاد الكريمة منذ نشأتها قبل حوالي 270 سنة باللقاء العظيم بين المحمدين: الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- تسير على هذا المنوال، فخورة بما حباها الله وشرفها به من حمل دين الله كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو انحراف أو عبودية لغير الله، يوصي سابقها لاحقها بمواصلة المسير على هذا الدرب العظيم والمقام الرفيع.(64/1)
فكانت مناهجها تقوم على نشر عقيدة السلف الصالح، ومحاربة البدع والانحرافات، وربط المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم، مع عدم تفريط بأمور الدنيا النافعة.
وكانت كتب الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة -رحمهم الله- محل عناية واعتماد هذه الدولة السلفية في مراحلها الثلاث في تلك المناهج تدريساً وطباعة ونشراً؛ لما احتوت عليه من بيان وتوضيح لأمور التوحيد ومهمات العقيدة.
يقول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في رسالته لأهل القصيم: "ثم تفهمون أن الله سبحانه منَّ علينا وعليكم بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله- وإظهاره لدين الإسلام، وإيضاح ذلك بالأدلة والبراهين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"(1).
ويقول –رحمه الله-: "قد أظهر الله في آخر الأمر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ثم من بعدهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب –رحمهم الله تعالى- ونفع بهم الإسلام والمسلمين.
ولما ندرت أعلام الإسلام وكثرت الشبهات والبدع، خصوصاً أيام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، قام أسلافنا بأقوالهم وأفعالهم بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قبلوا ذلك وقاموا به وأظهره الله على أيديهم. ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو أن يحيينا الله ويميتنا على ذلك"(2) .
ويقول -رحمه الله- في رسالته لفيصل الدويش- مبيناً ضرر أهل البدع: "ولا يقطع عقلك يا فيصل يا أخي أن على الإسلام وأهله أضر من أهل الجهل والبدع إذا صاروا في قلب المجتمع"(3).
ويقول –أيضاً-: "إنني رجل سلفي، وعقيدتي هي السلفية التي أمشي بمقتضاها على الكتاب والسنة"(4).(64/2)
ويقول -رحمه الله- في خطاب صريح وواضح: "يسموننا "الوهابيين"، ويسمون مذهبنا "الوهابي" باعتبار أنه مذهب خاص.. وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض.. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح.
ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة.. كلهم محترمون في نظرنا.
هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب يدعو إليها. وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة منزّهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب"(5).
قلت: وهكذا سار أبناؤه من بعده إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -حفظه الله-. الذي كان أول وزير للمعارف(6) يفخرون بحمل هذه العقيدة السلفية، ولا يفكرون بالتفريط بها -ولله الحمد-.
يقول خادم الحرمين الشريفين: "قد سعد المسلمون بشريعة الإسلام حين حكموها في حياتهم وشؤنهم جميعاً. وفي التاريخ الحديث قامت الدولة السعودية الأولى منذ أكثر من قرنين ونصف: على الإسلام؛ حينما تعاهد على ذلك رجلان صالحان هما: الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- قامت هذه الدولة على منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع. هذا المنهاج هو الإسلام: عقيدة وشريعة"(7)
ويقول –حفظه الله-: "إن التربية الإسلامية موجودة في كل بيت في هذه البلاد؛ وهي التربية الصحيحة التي لا تمنعنا من أي شيء فيه فائدة لنا ديناً ودنيا"(8).(64/3)
ويقول –سلمه الله- في خطاب صريح: "لقد وجدت من المناسب ولو أن الموضوع الذي سوف أقوله للإخوة ليس له علاقة بمؤتمركم، إلا أنها مناسبة طيبة لإيضاح أمر يتردد، ورأيت أن من المفيد إذا سمح الإخوة وسامحوني في نفس الوقت أن أتحدث عنه، رغم أنه لا يتعلق بعملهم.
لقد درجت كثير من الصحافة في عالمنا الإسلامي أو في عالمنا العربي أو العالم الغربي أو العالم الشرقي على نعت هذه الدولة بأنها "وهابية".
إن منهم من يعتبر هذا مديحاً إذا رضي، ويعتبره ذماً إذا غضب، ويرى أن "الوهابية" مذهب يخالف مذهب أهل السنة والكتاب، ويخالف مذهب السلف الصالح.
هذا الأمر قد لا يعنيكم كثيراً، ولكن إذا سمحتم لي أن أعتبر هذه المناسبة فرصة لكي يعلم إخواننا الإعلاميون أو كتابنا ويدركوا تماماً، أنه ليس هناك شيء اسمه "وهابية".
إذا أراد أحد يهين هذه البلاد وأهلها، فإنه يطلق عليهم "وهابيين".
وهذا معناه إذا تقبلناه أن لنا مذهباً آخر يختلف عن العقيدة الإسلامية.
أولاً: ليس هناك شيء اسمه "وهابية"، وإذا أراد أحد أن يكيل لنا شيئاً لا يوجد فينا أو يهين كرامة إمام من أئمة المسلمين، هو الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فإنه يلصق بهذه الدولة اسم "وهابية"، وأنا أقول ليس هناك شيء اسمه "وهابية" في هذه البلاد.
ومن اطلع على مؤلفات شيخنا الكبير في هذه البلاد الإمام محمد بن عبدالوهاب يجد أنه درّس في صغره الأئمة في هذه البلاد، ثم انتقل للدراسة في الحرمين الشريفين. وبعد ما تشبّع بالدراسة على أيدي العلماء المسلمين الذين كانوا موجودين آنذاك هنا، أو ممن يفدون إلى بيت الله الحرام سواء للعمرة أو للحج، ذهب إلى البصرة واستفاد من كثير من العلماء الأفاضل.
وبعدها ذهب إلى الإحساء، واستفاد كذلك من طلاب العلم الموجودين في ذلك الوقت، ثم عاد إلى وسط المملكة العربية السعودية.(64/4)
كانت العقيدة الإسلامية موجودة، ولكن كانت تشوبها شوائب كثيرة، وأدخلت عليها بعض الأمور التي لا تتفق مع نص العقيدة الإسلامية الصحيحة.
فكان تفكير الإمام محمد بن عبدالوهاب ينصب على اختيار الوسيلة التي يستطيع أن يوضح بها هذا الإمام الجليل، لشعب هذه الجزيرة في ذلك الوقت، المفهوم الصحيح للعقيدة الإسلامية." (9).
ويقول –حفظه الله- راداً على أهل البدع: "العقيدة الإسلامية –والحمدلله- أبانت الأمور بشكل غير قابل للنقاش؛ إلا من أراد أن يوهم بأشياء أخرى. والدين الإسلامي وسط، فلا رهبنة في الإسلام، وقد يعتقد البعض أن التصوف أو بعض النواحي الأخرى البعيدة عن منطق الإسلام هي الإسلام. إنه على العكس؛ فالإسلام فيه المرونة والمحبة والتقوى والعمل والجد والنشاط، ولم تأمر العقيدة الإسلامية بالكسل أو التكاسل أو التصوف على غير معنى"(10).
قلت: ولا زالت بلادنا –حرسها الله- تسير على هذا المنهج السلفي الراشد، غير عابئة بكيد الكائدين وحسد الحاسدين من أعداء الإسلام، الذين أخبرنا الله بما يضمرونه لنا إن نحن سرنا على الصراط المستقيم بقوله (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) وقال سبحانه (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) وقال سبحانه (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) وقال تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)... إلى آيات أخرى كثيرة. ولكن هذا الكيد والحسد غير ضارنا –بإذن الله- إن نحن ثبتنا واعتصمنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (بلى إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً).(64/5)
فليس العجب إذاً من كيد الكافرين وحسدهم لهذه البلاد؛ لأن هذا أمر متقرر وسنة إلهية لمن تمسك بشرع الله. ولكن العجب من أقوام من بني جلدتنا، يتكلمون بلساننا، ويلبسون ثيابنا رضوا لأنفسهم أن يكونوا ظهيراً للمجرمين في حملاتهم على بلاد التوحيد ومناهجها بغية زحزحتها عن مصدر عزها وفخرها وسعادتها ونجاتها.
أقول هذا بعد أن اطلعت على بحث قدمه عبدالعزيز القاسم وإبراهيم السكران لمؤتمر الحوار الوطني الثاني للنيل من مناهجنا الشرعية وتصويرها بأبشع صورة محاولين تحميلها إثم غيرها من الجهلة والغالين في دين الله افتراء وبهتاناً -كما سيأتي إن شاء الله-
ولقد ساء بحثهما كل غيور على هذه البلاد ومناهجها الصافية؛ لما رأوا فيه من تجنيات وافتراءات وكذبات، وسُرَّ به المنافقون وأهل البدع وأمثالهم من مرضى القلوب وطاروا به كل مطار، واتخذوه سلاحاً يقاتلون به أهل الإسلام(11).
فصدق في القاسم والسكران قول الشاعر:
وإخوانٌ حسبتهموا دروعاً فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهمو سهاماً صائبات فكانوها ولكن في فؤادي
ولقد كنت عازماً على الرد على بحثهما منذ أن اطلعت عليه خشية أن يغتر به من يجهل حقيقة ما قام به الباحثان من عبث متعمد وخيانة علمية، فيسلم لكلامهما عن المناهج. إلا أن عزمي انتقض عند علمي بقيام أحد طلبة العلم بهذه المهمة.
ولكن مرت الأيام تلو الأيام ولم يظهر هذا الرد المنتظر ! فلما تبينتُ حقيقة الحال علمت أن ذاك الرد قد يتأخر نظراً لانشغال صاحبه بظروف طارئة، فصح العزم مني على التصدي لبحثهما وتفنيد ما جاء فيه من أخطاء وشناعات ألصقوها بمناهجنا الشرعية تلبيساً على عقول الآخرين ممن قد لا يتنبه لصنيعهما(12).
وقد أحببت أن أقدم بتنبيهات ومهمات؛ كتوطئة للرد قبل الشروع فيه:
(التنبيه الأول) :(64/6)
أن من يطعن في مناهجنا الشرعية فإنما هو يطعن –شاء أم أبى- في الكتاب والسنة! وقد يستغرب البعض هذا القول. ولكن سيزول استغرابهم حينما يرون أن الطعونات التي وجهها الباحثان لمناهجنا تتعلق بأمور جاءت بها النصوص الشرعية –كما سيأتي-. وما من مسألة وجها إليها سهام نقدهما إلا ودليلها حاضر من الكتاب أو من السنة، وقد ذكره المقرر!
ولكنهما لم يجرؤا على التصريح بهذا لخطورته على دينهما. وارتضيا بسذاجة حصر نقدهما في المناهج أو المقرر، وهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً عند العقلاء.
(التنبيه الثاني) :
أن من يطعن في مناهجنا فإنما هو يطعن ويقوض –شاء أم أبى- الأساسات التي قامت عليها هذه البلاد.
لماذا ؟
لأن مناهجنا الشرعية (أعني مقرر التوحيد) هي من كتب الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة، وهي الكتب التي قامت عليها هذه البلاد –بعد الله- منذ نشأتها وارتضاها ملوكها -سابقاً ولاحقاً- منهجاً لهم؛ كما مضى في كلماتهم وخطاباتهم.
فمناهج التوحيد للصفوف الابتدائية هي من الرسائل والقواعد القصيرة للشيخ الإمام.
ومناهج التوحيد للصفوف المتوسطة هي كتاب التوحيد للشيخ الإمام.
ومناهج التوحيد للصفوف الثانوية هي من مسائل علماء الدعوة قديماً وحديثاً.
فالطاعن في هذه المناهج إنما هو طاعن في مؤلفيها وواضعيها والراضين بها من أئمة وملوك هذه البلاد.
(التنبيه الثالث) :
أن كاتبي البحث -حسب علمي- لم يمارسا مهنة التعليم، وليست عندهما تجربة كافية للحكم على مناهجنا الشرعية وتقويمها، فمثلهما كما قيل:
"ما أنت بالحكم الترضى حكومته"
ويتأكد لك ذلك عندما ترى شيئاً من مقترحاتهما الخيالية التي جعلوها بديلاً لما يريدون حذفه من مناهجنا.
(التنبيه الرابع) :(64/7)
أن تاريخ الباحثَيْن (ومن شابههما) لا يؤهلهم لهذا المرتقى الصعب الذي ارتقوه؛ وهو الكتابة عن مناهجنا، ثم اتهامها بالنزوع إلى التكفير والتهوين منه! لأن بعضهم قبل سنين قليلة كان من المشغبين على بلادنا، المثيرين عليها الفتن، بل الغالين في التكفير والساعين في التفجير! (13) وقد سجن منهم من سجن؛ وعلى رأسهم أحد كاتبي هذا البحث (القاسم) .
فكيف لم يستح هؤلاء من تغيير مسوحهم، والظهور من السجن بوجه آخر يزعم (الإصلاح) و(الوسطية) ويسدد رميه نحو مناهجنا الشرعية، وهو قبل سنوات يرميها بالتهاون ومداهنة الظلمة !!
فكيف يريدنا هؤلاء أن نثق ببحثهما وهذا تاريخهم شاهد على اضطراب عقولهم، وتناقض مواقفهم، والتقلب ذات اليمين واليسار.
وليعذرنا هؤلاء إن قلنا لهم نحن وحكومتنا ومناهجنا ما قاله المثل العربي القديم:
"كيف أعاودك وهذا أثر فأسك" !
مناهجنا ومسائل التكفير:
بما أن مناهجنا الشرعية -ولله الحمد- نابعة من عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة السلف الصالح التي ارتضاها الله لعباده المؤمنين؛ فإنها كانت وسطاً بين الغالين والجافين في جميع مسائل العقيدة، وعلى رأسها مسألة التكفير؛ فهي وسط بين الغلاة من الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب والكبائر، وبين المفرطين من المرجئة والعصريين الذين لم يكفروا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وجاءت محذرة من التهاون في إطلاق الكفر على من ثبت إسلامه، وعدم التساهل في هذا الأمر الخطير.
ثم جاءت أخيراً بالحث على لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لولاة الأمر، والزجر والتخويف لمن نازع الأمر أهله.
فإليك نماذج وأمثلة تبين هذا من مناهجنا؛ ليتضح لك مقدار الجناية والجرم والافتراء الذي خطته يدا كاتبي البحث عندما زعما زوراً أن مناهجنا ذات نزعة تكفيرية !:(64/8)
المثال الأول : جاء في مادة (الحديث) للصف الأول المتوسط الحديث التالي تحت عنوان: النهي عن تكفير المسلم: "عن عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه".
إرشادات الحديث:
1- التحذير الشديد من تكفير المسلم بدون سبب يكفره.
2- من كفّر مسلماً بدون سبب فإن التكفير قد يرجع عليه.
3- تحريم الإسلام لجميع الأمور التي تفرق بين المسلمين ومنها نسبة المسلم إلى الكفر.
4- دل الحديث على تحريم عرض المسلم والاعتداء عليه بأي وصف من الأوصاف التي تخرجه عن دينه.
5- وجوب تطهير اللسان والمحافظة عليه من الألفاظ والكلمات التي توقع في الكفر.
6- على المسلم أن ينصح أخاه المسلم إذا رأى منه أمراً يخل بالدين، بدل أن يسارع إلى رميه بالكفر".
المثال الثاني : جاء في مادة (التوحيد) للصف الثالث الثانوي: "التكفير: التكفير هو الحكم على شخص بأنه كافر.
أحوال الناس في الحكم عليهم: الإنسان، إما أن يكون كافراً أصلياً كاليهود والنصارى والوثنيين وتكفير هؤلاء واجب بل إن من لم يكفرهم أو شك في كفرهم فهو كافر، وإما أن يكون مسلماً فهذا لا يجوز تكفيره إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
خطورة تكفير المسلم: تكفير المسلم أمر عظيم وخطير لا يجوز الإقدام عليه إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا).(64/9)
وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وعن أسامة رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبّحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟! فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ"، فأجرى صلى الله عليه وسلم أمرهم في هذه الدنيا على الظاهر وهو ما أقروا به من الإسلام، وهذا هو الأصل بقاء المسلم على إسلامه حتى يأتي ما ينقله عنه ببرهان صحيح، وقد ورد في السنة التشديد في تكفير المسلم لأخيه المسلم. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما".
التكفير حق لله: فلا نكفر إلا من كفّره الله ورسوله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الزنا والكذب حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله".
أنواع التكفير: للتكفير أنواع ثلاثة؛ تكفير بالعموم، وتكفير أوصاف، وتكفير أشخاص وسنعرض لهذه الأنواع بالتفصيل التالي:
أ- التكفير بالعموم: ومعناه تكفير الناس كلهم عالمهم وجاهلهم من قامت عليه الحجة ومن لم تقم. وهذه طريقة أهل البدع وقد برأ الله أهل السنة منها.(64/10)
ب- تكفير أوصاف: وهذا كقول أهل العلم في كتب العقائد في باب الردة من كتب الفقه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر، ومن سب الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم كفر، ومن كذب بالبعث كفر. وإطلاق أهل العلم هذا يقصدون به أن هذا الفعل كفر يخرج من الإسلام أما صاحبه فلا يكفرونه حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع، فليس من لازم كون الفعل كفراً أن يكون فاعله كافراً(14).
ج- تكفير المعين: والمقصود به الحكم على الشخص الذي وقع في أمر يخرج من الملة بالكفر.
ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك وسط بين من يقول: لا نكفر أحداً من المسلمين ولو ارتكب ما ارتكب من نواقض الإسلام.. وبين من يكفر المسلم بكل ذنب دون النظر إلى أن هذا الذنب مما يكفر به فاعله أم لا ودون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتقاء موانعه.
شروط التكفير : يشترط للتكفير شرطان :
أحدهما : أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر به فاعله.
الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له مختاراً، فإن كان جاهلاً أو متأولاً أو مخطئاً أو مكرهاً فقد قام به مانع من موانع التكفير فلا يكفر على حسب التفصيل الآتي في موانع التكفير.
موانع التكفير: (أ) الجهل: والجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات وإليك تفصيل ذلك فيما يأتي:(64/11)
1- من كان حديث عهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان فأنكر شيئاً مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفرون إلا بعد أن تقام عليهم الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعد أن ذكر بعض أنواع الشرك "... وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه" وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "... وإذ كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم"
2- من أنكر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر مع كونه في دار إسلامٍ وعلمٍ، ولم يكن حديث عهدٍ بإسلام فإنه يكفر بمجرد ذلك.
3- هناك أحكام ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم كإرث بنت الابن السدس مع بنتٍ وارثة النصف تكملة للثلثين. فمن أنكر شيئاً من هذه الأحكام من العامة فلا يكفر إلا بعد أن تبين له ثم يصر على إنكاره، أما من أنكرها من أهل العلم فيكفر إذا كان مثله لا يجهلها.(64/12)
(ب) الخطأ : بأن يعمل عملاً أو يعتقد اعتقاداً يكون مخالفاً للإسلام كمن حكم بغير ما أنزل الله مخطئاً وهو يريد أن يحكم بما أنزل الله أو فعل شيئاً من الشرك يظنه جائزاً أو أنكر شيئاً من الدين ظاناً أنه ليس منه والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
(ج) التأويل: وهو صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه إلى ما يخالفه لدليل منفصل، وهو قسمان:
القسم الأول: قسم يعذر صاحبه بتأويله، وهو ما كان مبنياً على شبهة، بأن كان له وجه من لغة العرب، وخلصت نية صاحبه؛ كمن تأول في صفات الله تعالى وكان تأويله مبنياً على شبهة وخلصت نية صاحبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن سبب عدم تكفير الإمام أحمد وغيره لمن قال بخلق القرآن بعينه: "إن التكفير له شروط وموانع وقد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه". وقال في موضع آخر عن نفس المسألة: "فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فاخطاؤا وقلدوا من قال ذلك لهم".
والقسم الثاني: تأويل لا يعذر أصحابه كتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملة وتفصيلا أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كتأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها. فهذا كفر مخرج عن الإسلام.(64/13)
(د ) الإكراه : من أكره على الكفر بأن ضُرب وعذب، بأن يرتد عن دينه أو يسب الإسلام.. أو هدد بالقتل والمهدِّد قادر على فعل ما هدد به، فكفر ظاهراً مع اطمئنان قلبه بالإيمان فهذا معذور ولا يكفر بفعله ذلك، قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم).
كيفية قيام الحجة : لا يحكم على معين بالكفر إلا بعد قيام الحجة عليه وإصراره على الكفر الذي وقع منه، وإقامة الحجة يختلف من بلد إلى آخر ومن زمان إلى آخر ومن شخص إلى آخر ومن كونه كلاماً نظرياً إلى تطبيق على شخص معين ويتلخص ذلك: ببلوغ الحجة للمعين وثبوتها، وتمكنه من معرفتها وكل ذلك لا يتم إلا بوجود من يحسن إقامة الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "... وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان". وقال الشيخ سليمان بن سحمان: "الذي يظهر لي والله أعلم أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة").
المثال الثالث : جاء في كتاب (التوحيد) للصف الثالث الثانوي فصل عن (الفتنة) ورد فيه في بيان موقف المسلم من الفتنة:
((ج) لزوم جماعة المسلمين وإمامهم إذا وقعت الفتنة، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فيعتزل تلك الفرقة كلها.(64/14)
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها": قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
(د) الصبر على جور الولاة وعدم الخروج عليهم إلا إن وقع منهم كفر بواحٌ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا: "أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان".
(هـ) ترك السعي في الفتنة بأي طريق وكلما كان الإنسان أبعد منها كان أسلم من الوقوع فيها:(64/15)
فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن ألا ثُمَّ تكون فتنةٌ القاعدُ فيها خير من الماشي إليها والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟" قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني ؟ قال: "يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار").
المثال الرابع : جاء في كتاب (الحديث) للصف الثاني الثانوي: فصل بعنوان (حقوق الراعي والرعية) ورد فيه:
(1-السمع والطاعة:
والمراد بها الانقياد له والتنفيذ لأمره، والانتهاء عما ينهى عنه ما لم تكن في معصية الله تعالى. وقد جاءت النصوص الكثيرة في ذلك، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). وهذه الطاعة تكون في جميع أحوال الإنسان، من العسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي حال المحبة والكره، ومهما كان الوالي .
أخرج البخاري وغيره عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".
وأخرج مسلم وغيره، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك".
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".(64/16)
وهذه الطاعة لها أجر وثواب، إذ هي من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".
2-الاجتماع على الوالي:
من أهم الحقوق: الاجتماع على الوالي، وعدم الفرقة والاختلاف عليه، فالاجتماع رحمة، والفرقة شر، وكلما اجتمعت الأمة على الوالي قويت شوكتها، وشاع الأمن فيها، واطمأن الناس، وهابها أعداؤها، واستقام أمرها.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها": قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
3-النصرة والجهاد معه والدعاء له :
وهذا من حقوق الوالي، إذ إنه من مقتضى السمع والطاعة، والاجتماع عليه أن يجاهدوا معه ولا يخذلوه، وأن يدعوا له بالصلاح والتوفيق والتسديد، ففي ذلك مصلحة الأمة بأفرادها ومجموعها، قال الطحاوي رحمه الله: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما".
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية، فإذا صلحت أمن العباد والبلاد".(64/17)
4-النصيحة له :
وهذه من أجل الحقوق، إذ بها يكمل الخير، ويتعاون الجميع على البر والتقوى، أخرج مسلم وغيره، عن تميم بن أوس الداري –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم..." الحديث.
5-عدم الخروج عليه :
ولا شك أن مقتضى الاجتماع عليه والطاعة له: عدم الخروج أو منابذته بالسيف وغيره. ولو كان جائراً؛ لما يترتب على الخروج عليه من المفاسد العظيمة كالتفرق والتشتت، وعدم الأمن والطمأنينة، وغير ذلك، وقد تقدم ما يدل على ذلك من حديث حذيفة وغيره.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية".
وروى مسلم عن عوف بن مالك –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" فقلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنّ يداً من طاعته").
المثال الخامس : جاء في كتاب (الفقه) للصف الأول الثانوي: فصل بعنوان (حد قطاع الطرق: الحرابة) ورد فيه:
(ويدخل في الحرابة: ما يقع من ذلك في طائرة أو سفينة، أو سيارة، وسواء كان تهديداً بسلاح، أو زرعاً لمتفجرات، أو نسفاً لأبنيه".(64/18)
وورد فيه –أيضاً-: "ومن صور الحرابة التي مُنِيَتْ بها الأمة في العصر الحاضر ما يسمى بـ(الاختطاف) الذي كثر وقوعه وتفنن المجرمون في أسالبيه.
لذا فإن جرائم الخطف لانتهاك الحرمات على سبيل المجاهرة من الحرابة والفساد في الأرض، ويستحق فاعلها العقاب الذي ذكره الله تعالى في آية المائدة وسبق بيانه.
وسواء في ذلك أن يكون الخاطف قد قتل، أو جنى جناية دون القتل، أو أخذ المال، أو انتهك العرض، أو لم يكن منه إلا الإخافة والتهديد. وسواء كان الخطف في المدن والقرى أو في الصحاري، في السيارات أو الطائرات أو القطارات أو غيرها، وسواء كان تهديداً بسلاح أو وضعاً لمتفجرات أو أخذاً لرهائن أو احتجازاً لهم في أماكنهم والتهديد بقتلهم أو نحو ذلك".
وورد فيه –أيضاً- : "وجوب السمع والطاعة لإمام المسلمين في غير معصية الله:
إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين وضرورياته، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماعهم، ولابد عند الاجتماع من أمير، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض كالسفر تنبيهاً بذلك على ما هو أهم وهو اجتماع الناس تحت إمام واحد.
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، والعدل، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة.
وقد أمر الله جل وعلا بطاعة ولاة الأمر فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).
وأمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني" متفق عليه. وهذا ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا يطاع فيها.
عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" متفق عليه.(64/19)
والسمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية الله أمر مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة، وأصل من أصولهم التي باينوا بها أهل البدع والأهواء.
تحريم الخروج عليه: إذا تمت البيعة للإمام بأن بايعه أهل الحل والعقد ثبتت ولايته ووجبت طاعته ويكفي عامة الناس أن يعتقدوا دخولهم تحت طاعة الإمام، وأن يسمعوا ويطيعوا، فمن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم.
ولا يجوز الخروج على ولي الأمر، ولا نزع يدٍ من طاعته ولو جار وظلم، ولا الدعاء عليه، وإنما الواجب على المسلم أن يكره ظلمه ومعصيته، ويصبر عليه ويناصحه، ويجب على أهل العلم والفضل الاجتهاد في مناصحته سرّاً، من غير إثارة فتنة، أو تحريض عليه.
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قلنا: يا رسول الله؛ أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة" رواه مسلم.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية" متفق عليه.
ولذا أمر صلى الله عليه وسلم الأنصار بالصبر لما أخبرهم أن الأمراء سيستأثرون عليهم ويمنعونهم حقوقهم. أما الخروج على الإمام فلا يجوز إلا إذا أتى كفراً صريحاً.(64/20)
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان مما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" متفق عليه).
المثال السادس: جاء في كتاب (الحديث) للصف الثالث الثانوي فصل بعنوان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ورد فيه: تحت شروط إنكار المنكر: (أن يكون ظاهراً دون تجسس، فإن كان إنكار المنكر متوقفاً على التجسس فلا يجوز الإنكار؛ لقوله تعالى (ولا تجسسوا) ولأن للبيوت وما شابهها حرمة لا يجوز انتهاكها بغير مبرر شرعي).
قلت: هذه مجرد نماذج وأمثلة واضحة وسهلة لبعض ما ورد في مناهجنا الشرعية مما يتعلق بأمور التكفير والسياسة الشرعية وإنكار المنكر أوردتها لتكون حاضرة في ذهن قارئ هذه الرسالة يتبين له من خلالها مدى الجناية والرمي بالباطل والبهتان الذي قام به الباحثان –هداهما الله-.
وليتبين له أن مناهجنا ومن وضعها من العلماء الأفاضل ليست زاداً مناسباً للغلاة في التكفير، ودعاة التفجير والتخريب، فلهذا لجأوا إلى غيرها مما يوافق تشددهم.
بل كان علماؤنا -خلال مسيرتهم- يقفون بالمرصاد لكل تيار يغلو أو يتشدد فيخالف هذه المناهج السلفية الواضحة.
وما مواقفهم تجاه فتنة "الإخوان" زمن الملك عبدالعزيز -رحمه الله-(15)، وفتنة "جهيمان"، وفتنة "دعاة التهييج"، وفتنة "غلاة التكفير بين المعاصرين" إلا شاهد على هذا.
فما مثل من يرميهم ومناهجهم -بعد هذا- بالتكفير إلا كما قيل: "رمتني بدائها وانسلت".
موجز بحث القاسم والسكران :
صاغ الباحثان بحثهما في مدخل وخمسة فصول ثم توصيات:(64/21)
-أما المدخل (الخطاب الديني: الوظيفة والأهداف): فهو عبارة عن قواعد عامة تطالب بأن لا نغلب أحد جوانب النص على الجوانب الأخرى وأن نقرر مبادئ العدل في التعامل مع الآخرين والحضارات الأخرى! وأن نهتم بالمشاركة المدنية في مناهجنا. وكل هذه عموميات ستأتي حقيقة المراد منها في فصول البحث الخمسة.
-الفصل الأول (الموقف من المخالف بين العدل والتعبئة): وهو عبارة عن هجوم على مناهجنا لإبرازها عقيدة السلف الصالح وتحذيرها من البدعة وأهلها بدعوى أن هذا فيه تحاملاً على الآخرين! مع ذكر نماذج (تم تشويهها بتعمد!) من مناهجنا يزعمان أنها تدل على مقدار ظلمنا للمسلم المخالف.
وأعجب ما في هذا الفصل دفاع الباحثَيْن عن المشركين والقوميين والوطنيين وأصحاب المبادئ المنحرفة تحت مزاعم العدل (الكاذب).
ثم خلط الباحثَيْن بين عقيدة البراءة من الكفار التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة وبين التعامل المشروع معهم. فكانت نتيجة هذا الخلط رمي مناهجنا بظلم الكفار والتجني عليهم.
-الفصل الثاني (المقررات والموقف من الواقع بين الرؤية الموضوعية وتهويل الفساد): وملخصه أن المناهج تهول أمر الفساد الإعلامي والانحراف العقدي الموجود في بلاد المسلمين.
-الفصل الثالث (الموقف من التدين بين القلق والطمأنينة): وملخصه أن مناهجنا تبعث القلق في نفوس الطلاب! بسبب تحذيرها المبالغ فيه من الشرك والنفاق وأسبابهما!
-الفصل الرابع (الموقف من الحضارة بين قواعد التواصل وخطاب الإدانة) وملخصه: الزعم الكاذب أن مناهجنا تقف من الحضارة موقفاً مضاداً، في خلط متعمد بين الحضارة المادية النافعة التي امتلأت بها مناهجنا والحضارة الزائفة القائمة على الأفكار المنحرفة المعارضة لدين الإسلام. وهي التي يتضايق الباحثان من محاربة مناهجنا لها.(64/22)
-الفصل الخامس (المنهج العلمي بين الموضوعية والتهويل) وملخصه: اتهام مناهجنا بأنها تهون أمر تكفير الآخرين دون مراعاة لشروط وضوابط التكفير! وأنها تبالغ في أمر التحذير من الشركيات اللفظية ونحوها.
-الخاتمة والتوصيات: وأبرزها (تنقية المقررات من النزعات التكفيرية)!! والعدل في التعامل مع المخالف! و(توعية المتلقي بواجباته في المشاركة السياسية الشعبية)!!
الخيانة العلمية لدى الباحثَيْن !
يؤسفني أن أقول لك –أخي القارئ- بأن الباحثَيْن يصدق فيهما ما قاله مؤلفو كتاب "خطاب إلى الغرب: رؤية من السعودية" في أمثالهما من أصحاب الخيانة العلمية عند الحديث عن مناهجنا؛ حيث قالوا فيهم: "إن المناهج في المملكة العربية السعودية بُنيتْ على أسس لا تخرج عما سبق ذكره من الأسس التي تقوم عليها سياسة التعليم. فاتهام التعليم الديني بأنه يزرع الكراهية ضد أهل الكتاب ومحاولة اختزال النصوص أو بترها من سياقها ليست من العلم في شيء وإنما هي نتاج الهوى أو الجهل. فالاختزال والبتر وتعمّد التشويه وعدم التحقق والتسرع في إصدار الأحكام القاطعة على أمور أساسية يؤكد أن هؤلاء الكتاب ليسوا منصفين ولا باحثين عن الحقيقة، بل كانوا مدفوعين بانفعالات الحدث، إذ إن كُتُب التربية الإسلامية احتوت على نصوص كثيرة تؤكد التسامح ووجوب حسن التعامل مع أهل الكتاب، فلماذا تجاهلوها وركَّزوا على ما يوهم بالعكس مما هو مبتور عن سياقه ؟!" (16).
وقد سار الباحثان (القاسم والسكران) على منوال أولئك للوصول إلى أهدافهما الدنيئة فبترا عبارات المناهج، وحذفا منها ما يريانه معارضاً لفكرتهما، وصرفا دلالة بعضها عن وجهته، وحمَّلا بعض ألفاظها ما لا تحتمل .. الخ عبثهما، وهذه ليست طريقة أهل الأمانة والتقوى، إنما عُهد هذا من أهل الزيغ والأهواء(17). وإليك شيئاً مما يشهد لهذا –باختصار- لأنني بينت أكثره عند الحديث عن مغالطاتهما:(64/23)
1-نقلا عن المنهج (ص18) أنه يقول: (لابد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه.. في سائر الحقوق، لا في الأحوال الشخصية فقط كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام).
وعبارة المنهج: (ت3ث 70) (18): (لابد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه في جميع موارد النزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء، فلا يقبل منها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة من غير تعصب لمذهب ولا تحيز لإمام، وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق... الخ).
فحذفا ما تحته خط ! لماذا ؟ لأنه يتعارض مع تهمة يريدان إلصاقها بمناهجنا؛ وهي أنها تنصر مذهباً في مقابل المذاهب الأخرى !! وهذا ما يفتح لهما باباً لترديد مقولات من مثل: (وجوب التعددية، احترام الرأي الآخر...الخ)! أما إذا أحيلت الاجتهادات إلى الكتاب والسنة –وهو ما تقرره مناهجنا- فقد أسقط في أيديهما!
2-نقلا عن المنهج (ص27) أنه: (يعتبر أن الانبهار بالحضارة المادية من أسباب انحراف العقيدة. أما العلاج الذي يمارسه فهو : "تجاهل منجزات هذه الحضارة" أو جهدها)! وهذا كذب على المنهج.
فعبارة المنهج (ت1ث12-14) (الانحراف عن العقيدة الصحيحة له أسباب تجب معرفتها وعلاجها؛ ومن أهمها: -ثم ذكروا:- 5- الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية، حتى ظنوا أنها من مقدور البشر وحده، فصاروا يعظمون البشر ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده).
فلم يدع المنهج إلى (تجاهل) منجزات الحضارة كما ادعى الباحثان إنما دعا إلى عدم الانبهار بها والغفلة عن الله الذي سخرها. وشتان بين الأمرين لمن عقل.
وأما علاج الانحراف عن العقيدة فقال المنهج: (1-الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله.. 2-العناية بتدريس العقيدة الصحيحة.. 3-أن تقرر دراسة الكتب السلفية.. 4-قيام دعاة مصلحين يجددون للناس عقيدة السلف).
فأين (تجاهل منجزات الحضارة) الذي افتراه الباحثان على المنهج ؟!(64/24)
3-قولهما (ص29): (كما يتجاهل -أي المنهج- عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة) !! وهذا كذب وافتراء على المنهج -كما سيأتي-. ولعل هذا الإيحاء الذي جال بذهن الباحثَيْن من الإيحاء الشيطاني لا الإيماني !
4-نقلا في (ص7) ما ذكره المنهج عن بدعة المولد النبوي ببتر وحذف لكثير من الألفاظ التي توضح لماذا حرمت هذه البدعة وما أوجه مشابهتها للنصارى. (انظر منهج التوحيد للصف الثالث الثانوي، ص 126-127).
5-أوهم الباحثان القارئ (ص 9) أن المنهج يدعو إلى هجر أهل المعاصي مباشرة دون مناصحة أو أمر بمعروف! -وسيأتي بيان ما حذفاه-.
6-نقل الباحثان عن المنهج (ص10) أنه يقول: (إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا.. فهو شرك أكبر).
فحذفا كلمات جعلا بدلها النقط! وهي (فهو نذر لغير الله وعبادة صرفت لغيره تعالى فهو شرك أكبر) الدالة على سبب جعل هذا العمل شركاً أكبراً!
7-نقل الباحثان (ص 13) عن المنهج قوله (ومحبة الله لها علامات تدل عليها.. ومنها: العزة على الكافرين بأن يظهروا لهم الغلظة والشدة والترفع عليهم). ثم قالا -مستنكرين ما جاء في المنهج-: (إن القرآن خص الغلظة بالمعتدين)!
وهذا كذب على كتاب الله عز وجل القائل (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) وقال واصفاً صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ولم يخص كافراً دون كافر. وهذه الغلظة والشدة لا تنافي العدل كما قد يتوهم الباحثان.
الباحثان و"الهذر" الكلامي !(64/25)
أول ما يلفت نظر القارئ في بحث القاسم والسكران: التشدق اللفظي، والتكلف الواضح في رص الكلمات العصرية اللامعة التي هي كالطبل الفارغ، بصورة تثير الشفقة وتدعو إلى الرثاء لحال كاتبيها؛ حيث حشرا نفسيهما في لباس ليس لهما. وإليك شيئاً من عباراتهما العجيبة التي تشهد لهذا :
-(الشاب المتدين بحاجة إلى رؤية واضحة لمشروعية الاندماج الاجتماعي، سيما المحافظة على مشروعية المجتمع و مؤسساته، ذلك أن اهتزاز الشرعية يوهن دوافع المشاركة والانتماء لديه لتأخذ في الانكماش، وتتزايد النزعة السلبية حتى يصل إلى إيثار الهروب والانسحاب من مسئولياته الاجتماعية بحثاً عن تحقيق التطهر والنقاء عن الامتزاج بفساد الواقع الذي جرى تصويره له، وقد يلجأ الشاب إلى إعلان المواجهة والصدام كتعبير عن الاحتجاج بدلاً من المشاركة الإيجابية الفاعلة) (ص16) .
-(إن أي ناصح للمجتمع الإسلامي يؤرقه التخطيط لمؤسساته، ونظمه، ومستقبله، والتبشير برسالته، لا يمكنه تجاهل أهمية الانفتاح المعرفي في بناء الأرضية المدنية والإطار الحضاري للواقع الإسلامي، خصوصاً في هذا العصر الذي تعقدت نظم الحياة فيه، وترابطت أجزاؤه، وأصبحت نسيجاً واحداً يؤثر بعض في بعض، وأصبح الحراك الاجتماعي يحتاج لأدوات حديثة، ومعايير دقيقة، واستيعاب لنظم الحياة المعقدة، وتنمية تدريبية للمهارات المدنية، لكي يستطيع الشاب المشاركة في المجتمع بصورة إيجابية تضمن تراكم الجهود في اتجاه البناء) (ص21).
-(الخطاب العلمي هو الخطاب الذي يتوخى العدل الشرعي في التقييم والتفسير، عبر رؤية الواقع واستيعابه كما هو، ومحاولة فرز ألوانه، والميل الشديد للتفصيل في موضعه، وتنظيم المعطيات، وإصدار الأحكام الهادئة، التي تحتفظ بهامش من النسبية، ولا يتورط في مجازفات تمليها عليه الإغراءات الكلامية، مع الاحترام المستمر للبرهان، ومحاولة تفهم دوافع المخالف، والبحث عن اعتباراته سواءً المعلنة أم الضمنية.(64/26)
أما الخطاب الانفعالي الذي يحتوي على قدر عالٍ من التهويل والمبالغة، والمجازفة بالأحكام العامة، وتأكيدها بمفردات الحسم والقطع، وتجويز [هكذا!] من المغالطات في سبيل التعبئة للفكرة) (ص28).
قلت: والأمثلة على هذا "الهذر الكلامي" و"الشقاشق اللفظية" ليست قليلة في بحثهما. والسبب في ظني هو إدمان صاحبي البحث قراءة كتب العصريين التي لا تسمن من جوع، والاقتباس منها، رغم أن العقلاء من بني البشر هم الذين لا تسلب لبهم الألفاظ دون أن يتأملوا حقيقة ما تحتها من معاني.
ويحضرني في هذا المقام حكاية لطيفة للشاعر صفي الدين الحلي الذي اطلع أحدهم على ديوانه فقال: لا عيب فيه سوى أنه خالٍ من الألفاظ الغريبة ! فكتب إليه الحلي هذه الأبيات:
إنما الحيزبون والدردبيس
والغطاريس والشقَطحب والصقـ
والحراجيج والعفنقس والعفـ
لغةٌ تنفر المسامع منها
وقبيح أن يُسلك النافر الو
إن خير الألفاظ ما طرب السا
والطََّخا والنُقَاح والعلطبيس
ـب والحربصيص والعيظموس
لق والطرفاسان والعسطوس
حين تروى وتشمئز النفوس
حشي منها ويُترك المأنوس
مع منه وطاب فيه الجليس
فبعض الباحثين -ومنهم كاتبا البحث- مولع بالمصطلحات العصرية، والألفاظ المفخمة التي لا ثمرة فيها لمن تدبرها؛ مصداقاً لقوله تعالى (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)، فهي من قبيل (الزخرف) لا غير.
مغالطات الباحثَيْن(19) :
المغالطة الأولى :
عدم تفريق الباحثَيْن بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية –لله عز وجل-! فعندهما: ما دام أن البشر مختلفون -كوناً وواقعاً- في عقائدهم ومذاهبهم فإنه لا يحق لأحد أن يزيل أو حتى يحاول إزالة هذا الاختلاف بجمعهم على الحق؛ لأن هذه إرادة الله!
يقول الباحثان : (ص13) "نستخلص مما تقدم أن المقرر لم يعرض أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين وعلى رأسها:(64/27)
1-أن الاختلاف سنة كونية: فلا يمكن لأي منظومة فكرية مهما أوتيت من الإمكانيات ووسائل الاتصال وقدرات التغيير أن تقضي على الاختلاف البشري أو توحد اتجاهات الإنسانية أو تحمل الناس على مسار واحد؛ ذلك أن الاختلاف سنة كونية ملازمة للحياة الإنسانية كما قال تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا))، وسيبقى هذا الاختلاف كما قال تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). وقد رددوا مثل هذا في (ص5 ،15).
قلت: ووقوعهما في هذه الزلة العظيمة مما يثير العجب والأسى لكونهما من المتخصصين في العلوم الشرعية! ورغم هذا لم يفرقا بين إرادة الله الكونية التي قد لا تستلزم المحبة والرضا، وإرادته الشرعية التي تستلزم ذلك. وهذا مما يعرفه صغار الطلبة في بلادنا –ولله الحمد-. فالإرادة الربانية قسمان(20):
1- إرادة كونية قدرية: أي أن كل يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يخرج عن إرادته شيء، والكافر والمسلم تحت هذه الإدارة والمشيئة سواء، فجميع ما يصدر منهم -سواء كان إيماناً أم كفراً- فهو واقع –حتما- بهذه المشيئة، وهي لا تستلزم محبة الرب ورضاه.
ومن أدلتها: قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) وقوله (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) وقوله (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم).
2- إرادة دينية شرعية: وهي تتضمن محبة الرب ورضاه. ومن أدلتها: قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (وما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) وقوله (والله يريد أن يتوب عليكم).(64/28)
فالكفر والفسوق والمعاصي الواقعة من العباد قد شاءها الله وأرادها (كوناً) لأنه لا يخرج شيء عن مشيئته سبحانه، ولكنه لم يردها (شرعاً) ولهذا لا يحبها ولا يرضاها تعالى، بل أمر عباده ببغضها ومجاهدة أهلها. كما قال (ولا يرضى لعباده الكفر) مع أن الكفر واقع في الأرض.
والأعمال الصالحة الواقعة من العباد قد شاءها الله وأرادها (كوناً)، وأرادها (شرعاً). ولهذا فهي محبوبة مرضية عنده تعالى.
ومن لم يفرق بين الإرادتين وقع في تخبط عظيم يؤدي به إلى الرضا بالكفر والبدع والفسوق والمعاصي زاعماً -بجهله- أن الله قد (شاءها) و(أرادها)! فلماذا الإنكار على أهلها أو دعوتهم إلى الحق؟! (21)
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فصل: وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط علماً، وهو أن الله سبحانه له الخلقُ والأمر. وأمره سبحانه نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي.
فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.
وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وُجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعاً فهو محبوبٌ للرب واقع بمشيئته، كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
وما لم يُوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئتهُ.
وما وُجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته –أي الكونية- ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني.
وما لم يُوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته.
فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة.(64/29)
إذا عرفت هذا فقوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)، وقوله: (لا يحب الفساد)، وقوله: (ولا يريد بكم العُسر)، لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره، فإن المحبة غيرُ المشيئة، والأمر غير الخلق". (شفاء العليل 1/141-142).
وقال ابن أبي العز -رحمه الله- في شرح الطحاوية: "ومنشأ الضلال: التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله، ولا مرضية له، فليست مقدرة، ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه". (شرح الطحاوية، ص324).
وفي ظني أن الذي أوقع الباحثَيْن في هذا الانحراف انصرافهما إلى قراءة كتب العصريين الذين لا يفقهون عقيدة السلف الصالح في هذه المسألة، ولهذا يخلطون كثيراً بين المشيئتين والإرادتين لأن هذا موافق لأهوائهم في عدم التفريق بين أهل الحق وغيرهم(22).
المغالطة الثانية :
تلبيسهما على القارئ بافترائهما على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأنه ألف كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" للاعتذار عن انحرافات المبتدعة من جهمية ومعتزلة وأشاعرة وصوفية !! (ص6).
وهو –رحمه الله- إنما ألف كتابه هذا ملتمساً العذر لأئمة أهل السنة والجماعة –أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد- فيما قد يقع في أقوالهم من مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، عازياً هذه المخالفة إلى أسباب(23): إما عدم اعتقاد الإمام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث، أو اعتقاد أنه لم يرد تلك المسألة بهذا الحديث، أو اعتقاد أن الحكم منسوخ. هذه خلاصة رسالة شيخ الإسلام –رحمه الله-، فلا علاقة لها بالاعتذار عن المبتدعة والمنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة –كما يدعي الباحثان-!(64/30)
كيف هذا ؟ وشيخ الإسلام هو صاحب الردود الشهيرة والفاضحة لطوائف أهل البدع؛ حيث رد على الرافضة بكتابه "منهاج السنة" ورد على الجهمية والأشاعرة بكتابه "تلبيس الجهمية"، ورد على الأشاعرة بكتابه "التسعينية" ورد على الصوفية بكتابه "الرد على الأخنائي".
كيف هذا؟ وهو القائل: "والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات؛ كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة"(24)
كيف هذا؟ وهو القائل: "ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل؛ مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين"
المغالطة الثالثة :
رغم حرص مناهجنا الشرعية على توضيح قضية التكفير وتقييدها بالضوابط الشرعية، وتحذيرها من التسرع أو التهاون فيها –كما سبق في المقدمة- إلا أن الباحثَيْن –لحاجة في صدورهما- قد أعميا أبصارهما عن هذا كله وافتريا على مناهجنا بأنها تهون أمر التكفير!! (ص6).
وحجتهما في ذلك أن المناهج وصفت أهل البدع بأنهم "منحرفون عن منهج السلف" !! أو أنهم من "الفرق المخالفة" أو "الفرق الضالة"!
وأقول: أين التكفير في هذه الأوصاف؟!
ثم ادعيا أن المناهج قصدت الأشاعرة والماتريدية بقولها "من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر".
وهذا من الكذب والافتراء على مناهجنا؛ لأن القول السابق هو لأحد أئمة السلف "نعيم بن حماد" نقله المنهج عن مختصر العلو للذهبي (ص184) للرد على (المشبهة) وأوله: "من شبه الله بخلقه فقد كفر" وآخره: "وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً"(25).
والمشبهة هم الذين يشبهون صفات الله الخالق بصفات المخلوقين –تعالى الله عن قولهم-
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "اتفق السلف والأئمة على الإنكار على المشبهة الذين يقولون بصر كبصري، ويد كيدي وقدم كقدمي"(26).(64/31)
وقد قال المنهج بعد النقل السابق عن نعيم بن حماد: (وهذا ردٌ على المشبهة). فلماذا زاغت عنه أبصار الباحثَيْن ؟!
والمشبهة قد اتفق السلف على تكفيرهم(27).
أما الأشاعرة والماتريدية فقد قال المنهج: (القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر من حيث الثبوت ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية. وهذا رد على الأشاعرة والماتريدية حيث فرقوا بين المتماثلات). فأين التكفير المزعوم؟! والمنهج إنما يلزم الأشاعرة والماتريدية أن يثبتوا جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ما داموا قد أثبتوا بعضها؛ لأن القول في جميع الصفات واحد –كما بينه العلماء والمحققون- .
المغالطة الرابعة :
تستعمل مناهجنا كلمة (الإلحاد) في مقام الحديث عمن لم يثبتوا أسماء الله وصفاته، أو أولوها وحرفوها عن معناها الحقيقي؛ اتباعاً لقوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون). قال ابن كثير –رحمه الله-: (عن ابن عباس: الإلحاد: التكذيب. وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد، والميل والجور والإنحراف. ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر) (28). وهذا الاستعمال قد تقرر عند علماء السنة في مجال الحديث عن أسماء الله وصفاته.
ولكن الباحثَيْن الشرعيين! لم يفقها هذا فظنا (الإلحاد) يعادل: إنكار وجود الله!! وظنّا أن مناهجنا –لأجل سوء فهمهما- ترمي المخالف في باب الأسماء والصفات بالكفر !! (ص7، 32).
فحق لمناهجنا أن تقول للباحثَيْن:
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني
أو كنتَ تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني
وعملتُ أنك جاهل فعذرتكا
المغالطة الخامسة :
قولهما تشنيعاً على مناهجنا: (وتزداد حدة التصعيد مع أقوال المخالفين فيقول –أي المنهج- "من رد نصوص الصفات أو استنكره بعد صحته فهو من الهالكين") ! (ص7).(64/32)
حيث يرى الباحثان أن لا يوصف من رد نصوص الصفات الثابتة في الكتاب والسنة أو استنكرها بعد صحتها بأنه من "الهالكين"!
ولا أدري، لعلهما يريدان أن يصفه المنهج بأنه من "المفلحين" أو "الفائزين"!
ولو عاد القارئ إلى المنهج لعلم أن الذي وصف من رد نصوص الصفات بأنه من الهالكين هو حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وليس مناهجنا !! وذلك في قوله عندما رأى رجلاً قد انتفض لما سمع حديثاً في الصفات استنكاراً لذلك: "ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه"(29).
ثم يقال بأن وصف "الهلاك" يطلق على كل من عصى أو خالف. ولو راجع الباحثان مادة "هلك" من معجم ألفاظ القرآن أو المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لرأوا عشرات النصوص تشهد لهذا. فلماذا العجب؟
المغالطة السادسة :
ينتقد الباحثان مناهجنا الشرعية بقولهم: (ويعرض –أي المنهج- بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالأخطاء إلى مستويات مشبعة بالتضليل من الطبيعي أن تربك الانضباط الشرعي للطالب مع المخالفين فيقول مثلاً: "الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وهو تشبه بالنصارى.. فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون.. ويحضر جموع من دهماء الناس وعوامهم.. ولا يخلو من الشركيات والمنكرات.. وقد يكون فيها اختلاط الرجال والنساء مما يسبب الفتنة، ويجر إلى الوقوع في الفواحش.. وهو بدعة أحدثها البطالون أو شهوة نفس اغتنى لها الأكالون"). (ص7).(64/33)
قلت: هذا النص المنقول من أحد مناهجنا –على ما فيه من بتر كما مضى!- لم يعجب الباحثَيْن حيث ظنوه من قبيل "التهويل" و"التضليل"! غير المطابق لواقع المسلمين. وهذا الظن دليل مؤكد على قلة اطلاعهما على أحوال كثير من البلاد الإسلامية التي تنتشر فيها مثل هذه البدع. ولو كلف الباحثان نفسيهما جهداً يسيراً لعلما أن المنهج لم يخالف الحقيقة المرة التي شهد بها العقلاء والغيورون من علماء ومفكري وأدباء الأمة الإسلامية من غير أهل هذه البلاد!. ولا بأس أن أنقل شيئاً من أقوالهم يوافق -بل يزيد!- على ما جاء في مناهجنا:
يصف المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول: "ينصبون خياماً كثيرة، وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أختلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعيب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور، ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً.." (30).
ويصف أحمد شفيق باشا (الليلة الختامية) للمولد النبوي فيقول: "ويزدحم الناس في هذه الليلة ازدحاماً لا مثيل له لمشاهدة هذه الأذكار وسماع أناشيدها، ورؤية النيازك.. وينتهز الشباب فرصة الزحام، فيكثر الغزل بين الفتيات والفتيان، وتمشي رسائل (اللب والفستق) ونحوها بين العربات التي تحمل الجنسين، مما يجعل من الليلة مهرجاناً: حظ الفتنة فيه أكبر من حظ الدين -إن كان للدين حظ في أمثال هذه الاحتفالات-"(31)، وهذه حقيقة!، فالموالد غالباً ما تكون فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود سواء أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة (مولد) تطلق على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط.(64/34)
فالمولد فرصة لأن "تنتهك فيه حرمات النساء، وتشرب الخمور"، حتى إنه "أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء الساقط"(32)، وفيه "الوليات يفضن الخيرات والبركات على الناس بواسطة المصافحة والتقبيل والعناق، ويقذعن عند ذلك بألفاظ من الفحش لا يليق أن تُحكى فضلاً عن أن تسطر في الأوراق"-كمايذكر الشيخ محمد رشيد رضا-(33).
وفي أيام الربيع في الأردن يفد الزائرون إلى مزار (جعفر الطيار) "فترى الفتيات يرقصن حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة"(34).. فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود بصور مختلفة ودرجات متفاوتة –بحسب عادات كل بلد وتقاليده- حيثما كانت قبورية وأينما كانت موالد أو (احتفالات) أو (أعراس) للأضرحة(35).
ويقول الشيخ (المصري) علي محفوظ –رحمه الله- متحدثاً عن الموالد الكثيرة في بلاده: (وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها، وابتدعوا كل ما تهواه أنفسهم وتوحيه إليهم شياطين الإنس والجن. ولا نزاع في أنها من البدع –ثم ذكر أسباب بدعيتها ومنها كما يقول-
وثانيها: ما تشتمل عليه هذه الموالد من المفاسد المحرمة والمكروهة. فمن المحرمة إضاعة الأموال بكثرة الوقود في المساجد والطرق وإيقاد المصابيح في الأضرحة وكل ما يرجع إلى الإسراف والتبذير، وفي الحديث "إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" رواه مسلم. ومنها: انتهاك حرمة المساجد بتقذيرها وكثرة اللغط فيها، ودخول الأطفال حفاة أو بالنعال فلا يكاد يتيسر لأحد إقامة الشعائر في مسجد يُعمل فيه مولد. ومنها: خروج النساء متبرجات مع اختلاطهن بالرجال إلى حد لا يؤمن معه وقوع الفاحشة. وناهيك ما يكون من البغايا وتطلبهن الفاحشة جهاراً..." (36).(64/35)
وتقول الدكتورة سعاد ماهر محمد في كتابها "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" (1/44): (قد جرت العادة في مصر وسائر بلاد العالم الإسلامي تقريباً أن يزور الناس قبور الأهل وأضرحة آل البيت وأولياء الله الصالحين في المواسم والأعياد الدينية. وقد زاد اهتمام الناس بهذا التقليد القديم؛ حتى أن وزارة الأوقاف رأت أن تساهم بدورها في إحياء هذا التقليد. فشاركت في إحياء ذكرى أصحاب هذه الأضرحة التي يزيد عدد المشهور منها على الألف؛ بإقامة احتفالات في مواعيد معينة عرفت بالموالد).
وقد ذكر تقرير الحالة الدينية في مصر الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية أن مولد البدوي في مصر حضره عام 1996م حوالي 3 ملايين زائر!! بخلاف غيره من الموالد الأخرى(37).
ويصف الشيخ عبدالرحمن الوكيل أحوال عبّاد القبور –من الصوفية وغيرهم- ويشير إلى جملة من صور الكفر والفجور في تلك المشاهد والموالد، فيقول: "وسل الآمّين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها.. فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبِّحون بحمد جيفتها، ويسجدون أذلاء لرمتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر و"الحشيش"، والأجساد التي طرحها الإثم على الإثم فجوراً ومعصية، ويسمونها موالد، أو مواسم عبر وذكريات خوالد..." (38).
وسرد الكاتب أحمد منصور أقوال المؤرخين في الانحلال الخلقي عند مشهد الإنبابي .. وأن فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة، وأما ما حكي من الزنا واللواط فكثير لا يحصى.. حتى أرسل الله (تعالى) عليهم ريحاً في تلك الليلة كادت تقتلع الأرض بمن عليها..." (39).(64/36)
أما علماء الضلال الذين أشار إليهم المنهج فإن حضورهم "لهذه الأماكن وعدم إنكارهم لما يحدث فيها، بل مشاركتهم في طقوسها في أحيان كثيرة.. فتن كثيراً من الدهماء. فمما يذكره الجبرتي بعد وصف المنكرات التي تحدث في أحد الموالد (مولد العفيفي): ".. ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء... ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ... فضلاً عن كونهم يفعلونه.." (40).
فما الذي يحمل هؤلاء (العلماء) على تلك الممارسات؟
يحملهم على ذلك ما يحمل غيرهم من دهماء القبوريين: فهم يرون أن ذلك من شعائر الدين، حتى إن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الحسين في القبر المنسوب إليه: "إنك جئت تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية، فإنك تريد أن تطيِّر البقية من دينهم"!) (41).
وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها الضر والنفع، تماماً مثلما يعتقد الدهماء والعامة من القبوريين، "ويبين رشيد رضا أن الذي دفع العلماء إلى السكوت عن هذه الأمور خوفهم من الوقوع في قضية إنكار الكرامات أو الاعتراض على الأولياء الذي يخشى معه أن يلحقوا بهم الأذى والضرر"(42)، وليس أدل على ذلك من أنه "في أيام حكم السلطان المملوكي جقمق قيل لأحد العلماء أن يفتي بإبطال مولد البدوي لما يحدث فيه من زنا وفسق ولواط وتجارة مخدرات، وما يشيعه الصوفية من أن البدوي سيشفع لزوار مولده، فأبى هذا العالم أن يفتي، قائلاً ما معناه: إن البدوي ذو بطش شديد"(43)!!
فإذا كان هذا هو حال عدد من العلماء المقتدى بهم عند العامة، فماذا يُنتظر من العامة والدهماء؟" (44).
المغالطة السابعة :
استغرابهما لما جاء في مناهجنا من أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق) (ص7). حيث يريان هذا تهويلاً ومبالغة وتهويلاً!(64/37)
وهذا دليل آخر يضاف إلى الأدلة الكثيرة على جهل الباحثَيْن بواقع الأمة رغم تبجحهما بادعاء الفهم وتطاولهما على مناهجنا، ولو قرآ تاريخ الفرق المنحرفة التي تنخر جسد الأمة الإسلامية لآمنا بأمانة مناهجنا في تصوير الواقع الأليم. فقد كان من مخططات الأعداء التي أصبح يعلمها صبيان المسلمين تشجيع البدع وأهلها لصرف المسلمين عن دينهم الحق الذي يعلمون خطورته. والشواهد كثيرة من قديم الزمان:
فأما الرافضة: فتعاونهم مع أعداء الإسلام قديم جداً، حتى قال فيهم شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين" (45).
"فقد شهد الناس أنه لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة 658هـ كانت الرافضة الذين كانوا بالشام من أعظم الناس أنصاراً وأعواناً على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين، وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله، فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين عاونوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها.
وقبل ذلك كانت إعانتهم لجد هولاكو جنكيز خان، فإن الرافضة أعانته على المسلمين.
وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى يناصرونهم بحسب الإمكان، ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها، ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى إنه لما انكسر المسلمون سنة غازان(46) سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع الفساد من القتل وأخذ الأموال، وحمل راية الصليب، وتفضيل النصارى على المسلمين، وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى بقبرص وغيرها، فهذا وأمثاله قد عاينه الناس، وتواتر عند من لم يعاينه"(47).(64/38)
وإلى اليوم يجري الأثر الرافضي في أرض المسلمين فساداً من دولة الآيات في إيران، ومن منظماتهم في لبنان(48)، وفي خلاياهم في دول الخليج وغيرها.
ويذكر إحسان إلهي ظهير –رحمه الله- أن انفصال باكستان الشرقية كان وراءه الكيد الرافضي، حيث قال: "وهاهي باكستان الشرقية ذهبت ضحية بخيانة أحد أبناء "قزلباش" الشيعة يحي خان في أيدي الهندوس"(49).
وقد عارض شيوخ الشيعة في باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية(50)؛ لأنها تحد من شهواتهم التي يمارسونها باسم المتعة، وتعاقبهم على جرائمهم التي يستسهلون ارتكابها بحجة أن حب علي لا تضر معه سيئة(51).
كذلك لا ينبغي أن ينسى أثر الدولة الصفوية الشيعية في حروبها لدولة الخلافة الإسلامية، وتعاونها مع الأعداء من البرتغال ثم الإنجليز ضد المسلمين، وتشجيعها بناء الكنائس ودخول المبشرين والقسس، مع محاربتهم للسنة أهلها(52).(53)
وأما الصوفية: فذكر الجبرتي في تاريخه: أن نابليون بونابرت سأل الشيخ البكري عن عدم إقامة المولد النبوي بعد احتلال القاهرة، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل نابليون ذلك وقال: لابد من ذلك! وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة منه في إقامة هذا المولد، وأمر بتزيين البلد كالعادة، واجتمع الفرنسيون يوم المولد، ولعبوا ميداينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم(54)
بل أعادوا المولد الحسيني، وكانوا يجبرون الناس ويقهرونهم على الاحتفال بهذه الموالد، ويغرمون من يأبى أن يحتفل بها(55) !
والسبب ما رآه الفرنسيون في هذه الموالد "من المخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات"(56).
لقد أدرك الفرنسيون ما يقع بسبب هذه الموالد من سلبيات، وما تستنفذه من جهود وأموال، وتشغله من أوقات وتفكير، وما في ذلك من صرف للناس عن جهاد المحتلين ومقاومتهم. وهو ما لم يدركه الكثير من العلماء ممن شجعوا تلك الموالد، أو حتى غضوا الطرف عنها.(64/39)
ولا شك أن الفرنسيين أدركوا ما لتلك الموالد من مكانة عظيمة في حياة الناس، لذا سارعوا بإعادتها، حتى يلهّوا الناس بها، وتعود الأمور إلى مجاريها، وكأن شيئاً لم يحدث، ويغلقوا على أنفسهم باباً واسعاً من أبواب الثورة.
"وأخذ الفرنسيون يفكرون فيما يغطون به سخط الشعب المصري، ويقرب قلوب الناس إليهم، فرأوا أن من أجدى الوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك إحياء الموالد، كما كانت في سالف الأيام"(57).
-وفي رسالة للمارشال"بوجو" أول حاكم فرنسي للجزائر إلى شيخ الطريقة التيجانية، ذات النفوذ الواسع جاء فيها: إنه لولا موقف الطريقة التيجانية المتعاطف!! لكان استقرار الفرنسيين في البلاد المفتوحة حديثاً أصعب بكثير مما كان"(58).
وكان شيوخ الطرق الخونة يقومون بكتابة عرائض بتوقيعاتهم وتوقيعات أتباعهم، يملؤونها بالثناء والشكر لفرنسا، التي كانت تعتبرهم ممثلين للشعب، ولا غرابة بعد ذلك أن يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر: إن الحكومة الفرنسية تعظم زاوية من زوايا الطرق أكثر من تعظيمها لثكنة جنودها وقوادها، وأن الذي يحارب الطرق إنما يحارب فرنسا!! (59).
وأما الإسماعيلية فلهم نشاط سياسي ضخم، حيث وقفوا في أفغانستان مع المستعمر الروسي، ومدوا له يد العون، فكان لانتشارهم في ثلاث أماكن هي (ولاية بغلان) و(لسان واخان) و(مديرية شمالي في ولاية بروان قرب كابل) فرصة سانحة لذلك المستعمر، يقول "سيد منصور" قائد قفرقة الإسماعيلية ببغلان في مقابلة له في شريط فيديو: إن هذه الحرب في مصلحتنا 100%، كما أنه اعترف أن له صداقة حميمة مع روسيا، ومع حكومة كابل الشيوعية، كما اعترف بتلقي مساعدات، وإمدادات عسكرية من الروس. ولقد لاحظ المراقبون عقب الانسحاب الروسي الدعم والمساندة من قبل الدبلوماسية البريطانية والأمريكية للإسماعيلية المنتشرة في أفغانستان بغية ربطها بإسماعيلية باكستان لتهيئة الأجواء لتأسيس دولة إسماعيلية(60).(64/40)
وأما الباطنية: فيقول الدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه "الحركات الباطنية في العالم الإسلامي" (ص 446): "وكان أكثر عوناً للصليبيين وأشد خطراً على كل محاولة إسلامية لقتالهم، فرقة الحشاشين الذين عرفوا بالقتل والتدمير، وأصبحوا أداة غادرة بيد الصليبيين موجهة ضد المسلمين.
فكانوا بما أقدموا عليه من اغتيالات ضد القادة المسلمين، موضع ترحيب وتقدير من قبل الصليبيين بعد أن وجدوا فيهم ضالتهم المنشودة، فسارعوا للتحالف الوثيق معهم، وكان هذا التحالف واضحاً عندما زحف المسلمون على الصليبيين حتى بلغوا طبرية في فلسطين بقيادة مودود وطغتكين سنة 1113م، فأغضب هذا الباطنية، فعملوا على قتل مودود بينما كان يدخل المسجد الكبير لتأدية صلاة الجمعة، فطعنه أحد الباطنية بخنجر فلقي مصرعه. وهكذا تخلص الفرنج من عدو لدود لهم، بمصرع مودود على يد الباطنية.
وزاد من نفوذ الباطنية في بلاد الشام، اعتناق رضوان ملك حلب للمذهب الباطني وعطفه على أتباعه، فاستغل الباطنية تلك المكانة وأخذوا يباشرون أعمالهم الإجرامية ضد زعماء المسلمين(61). وما اتسمت به سياسة رضوان الباطنية، أسهمت إلى حد كبير في توطيد ملك الفرنج في الشام(62).
وتوطدت العلاقات الودية بين الصليبيين والباطنية في أيام نور الدين، وصلاح الدين، اللذين عملا جاهدين على توحيد العالم الإسلامي ضد الصليبيين، فقد كانت كراهية الباطنية لنور الدين شديدة، واعتبروه عدوهم اللدود، نظرا لأن سلطانه قيد توسعهم، فحقدوا عليه وعاونوا حلفاءهم الصليبيين ضده..."الخ.
وأما القاديانية: فيقول الدكتور صابر طعيمة في كتابه "المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها" (ص 280-281): "إن القارئ لتاريخ مؤسس القاديانية يلحظ أن مؤسسها لم يكتف بما كان يقدمه للإنجليز من مساعدات وتسهيلات للتنكيل بأبناء جلدته بل تراه يقدم لنا الدليل على أنه من أسرة كان لها باع طويل في تثبيت أقدام المستعمرين في تلك البلاد حيث يقول:(64/41)
"ينبغي لي أن أقول لكم قبل كل شيء: إنني أنتمي إلى تلك الأسرة التي اعترفت الحكومة البريطانية منذ مدة طويلة بأنها صديقة ومتمنية للخير والسعادة للحكومة البريطانية من الدرجة الأولى(63)، وكان والدي وأفراد أسرتي كلهم من راغبي الخير للحكومة البريطانية العظمى بكل جوارحهم، وأوفياء مخلصين لها من صميم قلوبهم كما اعترف بذلك مسؤلو الحكومة الإنجليزية المحترمون، وصرحوا بأن هذه الأسرة من مريدي الحكومة البريطانية العظمى. وهذه الاعترافات كلها مسجلة في الوثائق الرسمية.
لذلك أعمل بحرارة قلبي في خدمة هذه الحكومة وأعلن عن منافع هذه الحكومة وإحسانها أمام الناس كما عمل من قبل أبي وأخي، وأفرض عليهم الخضوع لهذه الحكومة وطاعتها طاعة كاملة"(64).
ويقول في موضع آخر:
"إنني أنتمي إلى تلك الأسرة التي تتمنى للحكومة البريطانية كل الخير والسعادة. لقد كان والدي –مرزا غلام مرتضى- رجلاً وفياً صديقاً محباً مخلصاً للحكومة البريطانية. لقد خصصت له الحكومة كرسياً للجلوس في كل الحفلات الرسمية إلى جانب الحاكم البريطاني. فلقد ساعدهم والدي مساعدة كبيرة في قمع تمرد 1857م -يقصد الثورة الوطنية الكبرى ضد الإنجليز- ومدهم بخمسين فارساً مسلحاً لضرب الثوار. ولذلك تدفقت على والدي رسائل الشكر والامتنان من قبل الحكام. وكذلك ساندهم والدي في المعارك الأخرى التي خاضها المتمردون -يقصد الأحرار الوطنيين- ضدهم(65).
إن والده لم يكتف بأن يكون سلبياً ضد هؤلاء الغزاة، ويجلس في بيته ويغلق عليه بابه، بل فعل ما لم يفعله أحد قبله أو بعده، لقد ترك أبناء جلدته يحاربون العدو، وأخذ في طعنهم من الخلف بغية فتح الطريق على جثث هؤلاء المجاهدين إلى داخل البلاد.
إن هذا الرجل الخائن لنفسه أولاً ولدينه ثانياً ولوطنه ثالثاً كان يحب أن يلقى جزاءه، ولكن أسياده الإنجليز –على ما نعتقد- حالوا بينه وبين غضبة الثوار.
وإذا كان الأب يفعل ذلك –فالابن كما يقال سر أبيه-(64/42)
نقول إذا كان الأب باع بلاده للمستعمرين نظير ثمن بخس دراهم معدودة، فإن ابنه لم يكتف بذلك بل باع لهم دينه –حتى ينال حظوة كبرى وأموالاً عظيمة..؟؟
يقول : "لما توفي والدي ناب عنه أخي الكبير مرزا غلام قادر في خدمة الحكومة البريطانية، فشملته الحكومة هو الآخر بعنايتها وإكرامها وفضلها وجوائزها كما صنعت من قبل مع والدي..." الخ كلامه(66).
وأما الأحباش: فلينظر ما كتبه عنهم الدكتور سعد الشهراني في أطروحته "فرقة الأحباش: نشأتها، عقائدها، آثارها". (المطلب الرابع: من يدعم الأحباش؟).
والأدلة والشواهد كثيرة جداً جداً قديماً وحديثاً لا يجهلها إلا مكابر أو محسن الظن بأهل البدع. وما أحوال العراق الآن عنا ببعيد.
المغالطة الثامنة :
زعمهما أن ذكر المناهج لشيء من جهود الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وأئمة المسلمين في مواجهة البدع والانحرافات الطارئة على الأمة (شديد الخطورة على نفسية الطالب حيث قد يوحي بتأييد ضمني لما انطوت عليه من ظروف شائكة يصعب عليه فهم دقائقها وضوابط التعامل معها، الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار حرمة الدماء والنفوس من وجدان الشاب فيشعر بهوان النفوس ومشروعية القتل وإزهاق الأرواح)!! (ص8). هكذا قالوا !
فتأمل -رعاك الله- أسلوب الباحثَيْن التهويلي ضد المناهج! حيث أن مجرد ذكر تلك الجهود يؤدي إلى القتل وإزهاق الأرواح الذي لم نجده سوى في أذهان الباحثَيْن وظنهما السيئ بمناهجنا التي تناقض قولهما أشد المناقضة.
ومن طالع ما ذكرته في المقدمة عن موقف مناهجنا من قضية التكفير يجد أنها أقامت حواجز منيعة أمام من يريد أن يستحل أموال الناس ودماءهم بما لا تجده عند غيرها.(64/43)
ويكفي لتأكيد هذا والرد على الباحثَيْن وظنهما السيئ أن هذه المناهج منذ وضعت -ولله الحمد- لم نسمع بمن قتل أو أهريق دمه متكئاً قاتله على مناهجنا. أتدري لماذا؟ لأن مناهجنا -كما سبق- تربي الشاب على أن يحكم تصرفاته كلها بالكتاب والسنة، وتحذره أشد الحذر من تجاوزهما تحت أي مسوغ، وتحوط أعراض الناس ودماءهم بسياج منيع من المحاذير. بينما في المقابل نجد أن الدول التي أعرضت عن المناهج الشرعية ولم يتلق شبابها المنهج الصحيح في مسائل الإيمان والكفر قد وقعت فيها الحوادث الشنيعة من اغتيالات وإزهاق أرواح؛ لأن شبابها لما لم يجدوا من يبصرهم بالحق في تلك المسائل لجأوا إلى عقولهم وفهومهم أو إلى من يغرر بهم؛ فتعدوا حدود الله وتجرؤا على دماء الناس .
كما قيل:
إذا جلس الأكابر في الزوايا فمن يثني الأصاغر عن مراد
فمن الذي قتل محمد حسين الذهبي وزير أوقاف مصر ؟!
ومن الذي قتل فرج فودة في مصر ؟!
ومن الذي قتل ناجي العلي في لبنان ؟!
ومن الذي قتل صبحي الصالح في لبنان ؟!
ومن الذي قتل حسن خالد في لبنان ؟!
ومن الذي قتل عبد الرحمن الشهبندر في سوريا ؟!
ومن.. ومن.. الأمثلة كثيرة أظنها لا تخفى على الباحثَيْن. فهذه نتيجة واحدة من نتائج تجفيف المناهج واختزالها في تلك الدول وابتعادها عن منهج أهل السنة والجماعة. فهل من معتبر ؟!
المغالطة التاسعة :
اعتراضهما على مناهجنا في تقيمها الولاء والبراء بالنسبة للآخرين ثلاثة أقسام: من يوالى ويحب جملة وهو المؤمن، ومن يحب من وجه ويبغض من وجه وهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر والمخالفات. ومن يُبغض جملة وهو الكافر.
فظن الباحثان -بعد أن ذكر القسم الثاني بتحريف!- أنه يؤدي (إلى تعميق الكراهية ضد المسلم المقصر)! (ص9) وكان المفترض –حسب قولهما- (بث الروح الإسلامية وتأكيد الأخلاقيات النبوية مع المقصر)! (ص9).(64/44)
قلت: التقسيم السابق هو ما دلت عليه النصوص الشرعية و(اتفق عليه أهل السنة والجماعة) (67) -كما يقول شيخ الإسلام الذي كثيراً ما يحرف الباحثان أقواله ويحملانها على غير محملها-، وليس هو من اختراع مناهجنا. وأدلته كثيرة لا أظنها تخفى على الباحثَيْن الشرعيين! وهي قائمة على العدل مع الجميع كما قال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون).
والمؤلم أن الباحثَيْن في محاولتهما التشنيع على مناهجنا قاما بحذف عدة كلمات رأيا أنها ستعارض ما يريدان إيصاله للقارئ!
فقد نقلا أن المناهج تقول (العصاة أصحاب الكبائر من المؤمنين.. فيوالون لما فيهم من الإيمان، ويعادون لما فيهم من المعاصي.. وهجرهم إذا كان في هجرهم ردعاً لهم وتوبيخاً).
وعبارة المناهج بالنص هي (يبقى معنا صنف ثالث وهم العصاة أصحاب الكبائر من المؤمنين الذين فيهم إيمان وفسق، أو قد يكون معهم إيمان وكفر أصغر لا يخرج من الملة، ما حكمهم في هذا الباب؟
الجواب: أن هؤلاء تجتمع في حقهم الموالاة والمعاداة، فيوالون لما فيهم من الإيمان، ويعادون لما فيهم من المعاصي، مع مناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهجرهم إذا كان في هجرهم ردعاً لهم وتوبيخاً).(64/45)
فلماذا حذف الباحثان ما تحته خط ؟! لعل القارئ أدرك أن هذا الحذف (متعمد) في محاولة فاشلة للتشنيع على مناهجنا بأنها لا تبادر أهل الكبائر -ممن يدافع عنهم الباحثان!- بالمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنما تريد إيهام القارئ أن العلاج فوراً هو الهجر! مع أن المناهج تدرجت في التعامل مع أصحاب الكبائر -فيما فيه مصلحة لهم وفيما يعود عليهم بالنفع وسلوك الصراط السوي الذي يجعلهم من المفلحين دنياً وأخرى- فابتدأت بمناصحتهم؛ وهي من أنواع الرفق، ثم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بشروطه المعروفة عند أهل السنة التي من ضمنها الرفق، ثم إذا لم تنجح تلك العلاجات فإن آخر الدواء الهجر بشرط أن يكون (في هجرهم رادعٌ لهم) –كما يقول المنهج- أما إن لم يكن في الهجر مصلحة فإنه لا يلجأ إليه –كما بين ذلك العلماء-(68).
المغالطة العاشرة :
وهذه من أعجب المغالطات! إذ كيف يتصور عاقل أن مسلماً صادقاً يعيب مناهجنا بأنها تحارب الشرك الأكبر وتصف مرتكبه بالكفر والضلال؟! متناسية قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به) وتشنيعه عليه وعلى أهله في آيات الكتاب العزيز .
فقد عاب الباحثان مناهجنا قولها (إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين؛ كأن يقول يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا.. فهو شرك أكبر).
قلت: أسقط الباحثان -كما سبق في التنبيهات- مكان النقط عبارة (فهو نذر لغير الله وعبادة حرفت لغيره تعالى) ! فلماذا ؟ ألأجل أنه يوضح للقارئ أن سبب الحكم على هذا النذر بأنه شرك أكبر أنه نذر وعبادة لغير الله تعالى؟! وهل الباحثان يشكان في هذا الأمر العظيم؟!(64/46)
ويتألم الباحثان بسبب أن مناهجنا تصف مرتكب الشرك الأكبر بأنه (حلال الدم والمال)! متناسية أن هذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم وليس حكم مناهجنا!. قال سبحانه (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) وقال (قاتلوا المشركين كافة)، وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم" رواه أحمد وأبو داود، وقال: "قاتلوا من كفر بالله" رواه مسلم. وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على هذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة.
المغالطة الحادية عشر :
يلوم الباحثان مناهجنا حكمها على الدعوة القومية المضادة للإسلام بأنها (دعوة جاهلية إلحادية، تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه) أو أن (الفكر القومي يسقط الدين من اعتباره.. بل إنه يعتبر الدين عائقاً في سبيل القومية) أو أن (الانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية كفر وردة عن دين الإسلام).
أقول: هذا تسطيح وسوء فهم، وهذه المغالطة تشهد أن الباحثَيْن يجهلان واقع الفكرة القومية التي تحدثت عنها مناهجنا(69)! ولهذا لم يريا فيها إلا أنها "تمتن الروابط القومية وما يتبع ذلك من تبادل اقتصادي ومواقف سياسية.. الخ مديحهما! (ص10).
ولو كلف أحدهما نفسه جهداً يسيراً بمراجعة أطروحات وأقوال سدنة (القومية العربية) في البلاد الإسلامية لوجودها خير دليل على ما جاء في مناهجنا حول فكرتهم الجاهلية، ولما وقعوا في هذا الجهل المبين. وسأكتفي بمقولات من يسمى "فيلسوف العروبة"(70) ساطع الحصري: الذي يقول: (إن الرابطة الوطنية والقومية يجب أن تتقدم على الرابطة الدينية) (71) ويكتفي الحصري –كما هو معلوم لكل مطلع على تراثه- "باللغة والتاريخ المشترك" في أركان قوميته المزعومة؛ أما الدين (أي الإسلام!) فإنه في نظر الحصري يتعارض مع فكرته القومية. يقول الحصري: (إن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية)(72).(64/47)
ويرى أن الإسلام من ضمن الأديان الأممية التي تتعارض مع القوميات(73). ولهذا فإنه يرى الرابطة الإسلامية من ضمن العراقيل في طريق قوميته الجاهلية. يقول الحصري: (إن فكرة القومية العربية صادفت في طريق سيرها وانتشارها عراقيل كثيرة. وعقبات خطيرة، وقد تغلبت على الكثير منها منذ بداية القرن الحالي: فإنها اخترقت أولاً السد المنيع الذي تكون من امتزاج فكرة الجامعة العثمانية بمعنوية الخلافة الإسلامية. وهي على وشك الانتهاء من التغلب على العقبات التي تعترض طريقها باسم الرابطة الشرقية من ناحية. والرابطة الإسلامية من ناحية أخرى) (74).
قلت: ولهذا فقد تقرر عند عقلاء الباحثين الذين يفهمون الأشياء على حقيقتها أن دعوة الحصري القومية دعوة علمانية تتعارض مع الإسلام، بل تعاديه وتقاومه وتحاول زحزحته عن قيادة الأمة بأن يبقى مجرد دين روحي كالنصرانية.
تقول الباحثة السوفيتية الدكتورة تيخونوفا في دراستها التي استمرت عشر سنوات عن فكر ساطع الحصري: "لقد كان الحصري علمانياً منذ البداية"(75).
وتقول: "كان قول الحصري بوحدة التاريخ يتطلب منه منطقياً فصل تاريخ العرب عن تاريخ الإسلام"(76). وتقول أيضاً: "وعني الحصري بإثبات أن فصل الدين عن الدولة نتيجة قانونية وحتمية لتطور المجتمع".(77) وتقول أخيراً: "لقد جاء فهم الحصري للحركة القومية العربية على أنها حركة سياسية بطبيعتها، وبالتالي غير مرتبطة بالدور الأساسي للعامل الديني، إنجازاً هاماً للفكر الاجتماعي العربي، ساعد على توطيد المنحى العلماني في سيرة العرب نحو وحدتهم القومية"(78).
أما الأستاذ شاكر اليساوي في كتابه "دعاة الفكر القومي العربي"(79) فيقول بصراحة: "أما علاقة الدين بالقومية فقد كانت في فكر الحصري علمانية؛ لأن القومية نفسها فكرة علمانية".(64/48)
أما الشيخ محمد الغزالي -الذي أظنه محل تقدير عند الباحثَيْن- فقد حكم على القوميين بأنهم "ملحدون يجاهرون بالكفر"(80) !! والأمثلة كثيرة.
فمن نصدق بعد هذا: أصحاب الشأن من سدنة القومية وعقلاء الباحثين أم من يفهم الأمور بسطحية تامة تؤدي به إلى ظلم مناهجنا والافتراء عليها؟! (81).
المغالطة الثانية عشر :
قولهما: (بل يتجاوز الأمر التصعيد مع القومية العربية، إلى تصوير النزعة الوطنية كعقوبة لأي مجتمع يرتد عن الإسلام كما يقول المقرر "العالم الإسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسياً وثقافياً، يخضع لهذه العصبيات الدموية، والجنسية، والوطنية.. والواجب أن يعلم أن هذه الحزبيات عذاب بعثه الله على من أعرض عن شرعه وتنكر لدينه") (ص11).
قلت: في كلام الباحثَيْن سوء فهم وتحريف لما جاء في المنهج ابتغاء التهويل والتشنيع!
أما سوء الفهم: فهو أن الباحثَيْن لم يفهما الدعوة (الوطنية) التي يتحدث عنها المنهج وظنوها مجرد محبة الإنسان للبلد الذي ولد وعاش فيه، دون أن يتعارض ذلك مع الإسلام! (82) فهم في وادٍ والمنهج في وادٍ آخر؛ لأن المنهج يتحدث عن دعوة حزبية جاهلية علمانية تتعارض مع الإسلام وتنابذه كشأن أختها القومية، وتهدف إلى حصره في دائرة العبادات –كما دعت إليه مثيلاتها في الغرب-. حتى قال أحد أساطينها(83) "الدين لله والوطن للجميع".
هذه الوطنية الحزبية التي أراد لها أصحابها أن تكون بديلاً عن الدين الذي نحي جانباً. حتى قال شاعرهم محيياً وطنه:
ولو أني دعيتُ لكنتَ ديني
عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي
إذا فهتُ الشهادة والمتابا !
أو قوله :
وجه الكنانة ليس يُغضب ربكم أن تجعلوه كوجهه معبودا !
ولوا إليه في الدروس وجوهكم وإذا فرغتم فاعبدوه هجودا !
إن الذي قسم البلاد حباكم بلداً كأوطان النجوم مجيدا(64/49)
هذه الوطنية -أو قل الوثنية- التي جعلت الكافر قريناً ومساوياً للمسلم بدعوى "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"(84)، بل تطور الأمر -والعياذ بالله- حتى حكم بعض العصريين لأبناء وطنه من الكفار أنهم من أصحاب الجنة !!.
وانظر -غير مأمور- لتأكيد هذا والرد على دعاة الوطنية الجاهلية كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" وكتاب "محمد عمارة في الميزان"، ورسالة "نظرات شرعية في فكر منحرف -6-".
المغالطة الثالثة عشر:
ويواصل الباحثان استعراض جهلهما المزري بحقيقة الأفكار المعاصرة عندما تعجبا من وضع مناهجنا "الرأسمالية" ضمن المذاهب الكفرية! لأنها -أي الرأسمالية- في ذهنهم القاصر تعتبر مجرد "نظرية اقتصادية تقوم على فكرة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وتحرير الأسواق وغيرها... الخ" (ص11)
قلت: هذه نظرة سطحية للرأسمالية اغترت بقشورها ولم تغر إلى لبها الذي هو عبارة عن عقيدة وأيدلوجية لها نظرتها الخاصة التي أنتجتها أحداث الصراع مع الكنيسة(85) والقائمة على الحرية المطلقة وعلى "فصل الدين عن الحياة"(86) كما يقول الدكتور محمود الخالدي. ويقول -أيضاً-: "إن الناس في أوربا وأمريكا يؤمنون بالرأسمالية كعقيدة ونظام للحياة، بمعنى أنها صارت ديناً ينتحله النصارى، ورأوا في العقيدة الرأسمالية أنها جاءت ناسخة لدين السيد المسيح عليه السلام. ومفهوم العقيدة أنها وجهة نظر كلية في الكون والإنسان والحياة. والرأسمالية كذلك؛ لأنها تقوم على الإيمان المطلق بفصل الدين عن الحياة"(87) ويقول الأستاذ محمد عبدالرؤف: "تعد الحرية الفردية المطلقة سمة أصيلة من سمات الرأسمالية"(88).(64/50)
أما الأستاذ أحمد الشيباني -رحمه الله- الخبير بالمذاهب المعاصرة فيبين وجهاً قبيحاً للرأسمالية بقوله: "أرى أن الرأسمالية هي المخطط الكامل الذي ابتدعته السلبية في العقل البشري لتنظيم وإدارة وتوجيه الغريزة البشرية في أحط أدوارها الهمجية. لذلك أعتبر الرأسمالية هي الحيوانية التي ينظمها العقل، وأنها تمثل طمعاً واعياً، ونهماً يقظاً يعرف أهدافه، ويعرف الوسائل التي يسلكها إليها، وشراهة تتغذى بالواقع، وتهتدي بنور العقل، وأثره ضيقة خانقة. إنها في اختصار أرقى الدرجات التي وصل إليها العقل الحيواني في الإنسان"(89). ويقول بيتر إل بيرجر في كتابه "الثورة الرأسمالية" (ص245) متحدثاً عن نظرة المسلمين للرأسمالية: "حين يُنْظر إلى الرأسمالية من منظار التقليديين، فإنها تبدو لهم عدوة؛ لكون ديناميكياتها تنسف المؤسسات التقليدية وطرق حياتها". ويقول رافي بترا في كتابه "بعد الشيوعية سقوط الرأسمالية" (ص301): "الرأسمالية ليست فقط نظاماً اقتصادياً، ولكن أيضاً نظاماً اجتماعياً واقتصادياً متواكبان..".
المغالطة الرابعة عشر :
يعيب الباحثان مناهجنا بما ورد فيها من أن: (الشرك الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب)! بدعوى أن (هذه العبارة نقلت من بعض المصادر المولودة في ظروف استثنائية ولا تصلح قاعدة عامة)! (ص12).
قلت: هذه العبارة مستفادة من كتاب الله عز وجل!! فلماذا التلبيس؟! قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).(64/51)
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان) وقال سبحانه (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده).
ومما يثير العجب أن الباحثَيْن رغم دراستهما الشرعية يخلطان بين مودة الكافر وموالاته (المحرمة) بنص الكتاب والسنة، وبين بر الكافر غير المحارب والقسط معه إليه وهو أمر مشروع لا يتناقض مع البراءة منه. ولعل هذا يضاف إلى تأثرهما بالكتب العصرية التي نسخت ما في عقولهما من عقيدة أهل السنة!
فكما حرمت النصوص الشرعية موالاة الكفار ومودتهم؛ كما في قوله تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله.. الآية) وقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء).. إلى غيرها من الآيات(90) فإنها أجازت بر الكافر غير المحارب والعدل معه؛ كما في قوله: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم). ومن ذلك: الإنفاق على الكافر القريب وصلته والإحسان إليه.(64/52)
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- راداً على واحدٍ من الخالطين بين الموالاة والمودة (المحرمة) وبين القسط والإحسان لغير المحارب (الجائز): " زعم آخر من دعاة القومية أن الله سبحانه قد سهل موالاة الكفار الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) وهذا كالذي قبله احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها. والله سبحانه قد حرم موالاة الكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله ما لم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدلّ عليه كتاب ولا سنة؟! سبحان الله ما أحلمه! وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم الرخصة في الإحسان إلى الكفار والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة" وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك. فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سبباً في الدخول في الإسلام والرغبة فيه وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والبصيرة"(91).
المغالطة الخامسة عشر :(64/53)
عدم تفريق الباحثَيْن بين التعاملات الجائزة مع الكفار وبين البراءة منهم وعدم مودتهم ومحبتهم. ولذلك فقد حشدوا نصوصاً كثيرة جاءت في المقام الأول للتدليل بها على المقام الثاني! دون فقه بمعانيها (ص12-13، 23-26)، وقد سبق في كلام الشيخ ابن باز –رحمه الله- الرد عليها والتفريق بين المقامين.
المغالطة السادسة عشر:
قولهما: (ومن نماذج تعميم أحكام المحاربين ما يقوله المقرر مثلاً: "ومحبة الله لها علامات تدل عليها.. ومنها: العزة على الكافرين) (ص13).
قلت: المنهج يتحدث عن علامات محبة الله عز وجل؛ المستفادة من آيات القرآن الكريم! ومنها ما يراه الباحثان عيباً في مناهجنا –والعياذ بالله-؛ وهو العزة على الكافرين المستفاد من قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين..) الآية، وقد ذكرت في المنهج! فكيف عميت عنها الأبصار؟! فإذا كان للباحثَيْن اعتراض فليعترضوا –صراحة- على كتاب الله عز وجل؟! لا أن يوهموا القارئ أن اعتراضهم ليس على النصوص والأحكام الشرعية الثابتة، إنما على المناهج .. فما هذا إلا ضحك على العقول واستخفاف بها.
المغالطة السابعة عشر :
ادعاؤهما أن الإسلام لم يأت بتفاصيل الأحكام !
يقول الباحثان: (ولما بعث الله الرسل وأنزل معهم الشرائع لم يبين فيها إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم وبعض التفاصيل الثانوية، ولم يشأ الله تعالى أن يحسم كل مظاهر الاختلاف..)! (ص14).(64/54)
قلت: هذه –للأسف- مقولة جاهل بدين الله! إذ كيف يكون الإسلام –وهو محور الحديث!- لم يأت إلا (ببعض التفاصيل الثانوية)! وهو الدين الذي ما ترك صغيرة ولا كبيرة في حياة أتباعه إلا وجعل لها آداباً وأحكاماً تخصها.. حتى الدخول إلى الخلاء –أكرم الله المؤمنين-؟! فكيف بغيرها من الأمور الأخرى التي هي في قياس الباحثَيْن من التفاصيل الثانوية؟ كأحكام النوم والاستئذان والسلام والعطاس والتثاؤب والأكل واللباس و.. و.. الخ، حتى عجب اليهود والمشركون من هذا الضبط التشريعي في حياة المسلمين فقال قائلهم لسلمان الفارسي –رضي الله عنه-: "إني أرى صاحبكم يعلمكم. حتى يعلمكم الخراءة. فقال سلمان: أجل. إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام.." (92). وهذا مصداق لقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) مع قوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
وقول الباحثَيْن السابق دليل آخر يشهد باقتياتهما من كتب العصريين التي تحاول تضييق دائرة النصوص الشرعية حتى تكاد تلغيها في مقابل ما يسمونه (المصالح) و(المقاصد الكلية للشريعة) التي احتالوا بها على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم(93). وقد قال تعالى (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا).
المغالطة الثامنة عشر:
يعيب الباحثان على المنهج الشرعي أنه (لم يعرض أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالف وعلى رأسها): (1-أن الاختلاف سنة كونية) (2-تعميق الإيمان بالتعددية) (3-نبذ الزهو المذهبي) (4-تكريس قيم التعايش). (ص14-15).(64/55)
قلت: وهذه قد سبق بيان ما فيها من مغالطات؛ حيث لم يفرق الباحثان بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. فظنوا أنه ما دامت قد وجدت في تاريخ المسلمين: الفرق المبتدعة والمنحرفة فإن الواجب علينا أن نرضى ما رضيه الله! –بزعمهم!- ولا ننكر على أحد؛ وقد سبق ما في هذا المسلك الشنيع من خطورة؛ لأنه سيؤدي -حتماً- إلى إقرار الكفر والشرك والإلحاد في ديار المسلمين أو الدعوة إلى وحدة الأديان بدعوى "التعددية"! وأن "الاختلاف سنة كونية"! إلى آخر هذه الشناعات.
ثم قال الباحثان بعد هذا: (5- عدم بخس المخالف: بما يعني الإقرار بما معه من الحق، وعدم غمطه ما معه من الصواب الذي يحمله، ذلك أن أكثر ما يقع بسببه الاختلاف هو بغي كل فريق على الآخر، ورد الحق الذي معه بسبب ما خالطه من الباطل. وكان المفترض فرز المضمون الذي يقدمه كل اتجاه، وعدم أخذه كله أو رده كله، قال ابن تيمية: "عامة ما تنازع فيه الناس يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه، وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشيء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق").
قلت: لا زال الباحثان يشكان ويرتابان في صحة معتقد أهل السنة! الذي يرونه –كما هو متضح من كلامهما- مجرد "اتجاه" من ضمن اتجاهات كثيرة: رافضية وصوفية وأشعرية- قد يكون الصواب -كله أو بعضه- معها لا معه!!
فلا حيلة لنا في هذه "الحيرة" التي يعيشانها حتى لم يعودا يفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال –والعياذ بالله-. "وكل إناء بما فيه ينضح".
ولا عجب في هذا لمن عرف أحوال الباحثَيْن اللذين عكفا على كتب العصريين "المتذبذبين" فضلوا وأضلوا، ولكن العجب: نقلهما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الآنف ظانين أنه يشهد لقولهما!!
وحاشاه من هذا(64/56)
فكلامه –رحمه الله- عن اختلاف الفرق المنحرفة في كثير من مسائل العقيدة، وأن كل فرقة منها رغم انحرافها إلا أنها تصيب في بعض المسائل. أما أهل السنة –ولله الحمد- فإنهم يجمعون صواب الفرق كلها؛ لأنهم يصدرون في أقوالهم عن قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم الذي (إن هو إلا وحي يوحى). فأنى يأتيهم الخطأ والانحراف ؟!
فالباحثان قد أتوا من قلة فهمهما لكلام الشيخ –رحمه الله-.
المغالطة التاسعة عشر :
يعيب الباحثان مناهجنا لأنها تدعو إلى ما يسمونه "الزهو المذهبي"! (14، الذي يتنقص المخالفين وأنهم ليسوا على شيء.. الخ.
والمنصف لا يجد شيئاً من هذا الإفك في مناهجنا التي لا تدعو إلى "مذهب"، إنما تدعو إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح –كما سبق في المقدمة-، وتدعو الآخرين إلى ترك ما هم عليه من بدع وانحرافات والعودة إلى الصراط المستقيم الذي ضلوا عنه. فإن كان الباحثان في شك وريب من صحة عقيدة أهل السنة والجماعة فهم أحرار في سلوك هذا الطريق، ولكن شكهم وريبهم لا يغير شيئاً من الحقيقة، فلا يلومنا الباحثان إن اتبعنا قوله تعالى (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا). فأي نعمة أعظم من الهداية للسنة؟!
وإذا لم ترَ الهلال فسلم
لأناس رأوه بالأبصار !
المغالطة العشرون :
قولهما بعدما سبق: (6- مراعاة الوسع: وذلك عبر بث الوعي بأن المعيار الشرعي هو استفراغ الوسع وبذل الجهد في الوصول إلى الحق؛ فإن نجح الإنسان في الوصول للحقيقة ضوعف له الثواب، وإن أخفق كوفئ بما بذله من الجهد. فلذلك فكافة المختلفين الذين بذلوا وسعهم دائرون بين الأجر والأجرين، ولذلك قال ابن تيمية "إذا أريد بالخطأ الإثم فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب"). (ص15).(64/57)
قلت: لا زال الباحثان يشكان في صحة معتقد أهل السنة ! ولهذا يطالبان مناهجنا بأن تعرض أقوال الفرق المنحرفة بل والمشركين! لطلاب المتوسط والثانوي! ليختاروا منها ما يرونه حقيقة !!، فيحصلوا على الأجرين! أما إن أخطؤا في الوصول للحقيقة: فأشركوا –مثلاً- أو ترفضوا أو تصوفوا أو ... فلهم أجرٌ واحد!!
لا يقولن قائل: لعلهما يقصدان المسائل الاجتهادية في الفقه. فأقول: لا تنس أن الحديث عن مقررات التوحيد!! فتأمل هذا التخبط واحمد الله أن عافاك من أحوال أهل الريب.
المغالطة الحادية والعشرون:
يستغرب الباحثان نقد مناهجنا للبدع والانحرافات العقدية التي طرأت في حياة المسلمين ولا زالت إلى اليوم، ويزعمان أن هذا من "المبالغة في تصوير الانحرافات"! (ص16-17).
وفي ظني أن هذا الاستغراب لا يصدر إلا من جاهل بواقع الأمة، وإلا لو سرح أحدهما طرفه في بلاد المسلمين لرأى من البدع العجب العجاب باعتراف الفضلاء الموفقين من أهل تلك البلدان.
وأنصح الباحثَيْن بالرجوع إلى رسالة: "الانحرافات العقدية والعلمية في القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجريين" للدكتور علي الزهراني.
ورسالة "دمعة على التوحيد: حقيقة القبورية وآثارها في واقع الأمة" إصدار المنتدى الإسلامي.
وكتاب "واقعنا المعاصر" للشيخ محمد قطب؛ ولعله يتبين لهما أن عقليهما غائبان أو مغيبان عن الواقع، رغم ادعاء الفهم!
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم
المغالطة الثانية والعشرون:
يستنكر الباحثان قول مناهجنا عن مناهج التعليم في العالم العربي والإسلامي: (أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتماماً كبيراً أو لا تهتم به أصلاً) (ص17).
ويرى الباحثان أن في هذا مبالغة ومخالفة للواقع!!
ولا أظن القارئ –المطلع على مناهج الدول العربية- بحاجة إلى من يوضح له هذا الأمر الخافي على الباحثَيْن .(64/58)
وأنصح الباحثَيْن بالاطلاع على سلسلة رسائل "الغزو الفكري في المناهج الدراسية" التي يصدرها خبير المناهج: الأستاذ علي لبن، ومقالة "المناهج بين التطوير والتدمير" في مجلة البيان (العدد129)، ومقالة "الثقافة والذوبان" في العدد (71)؛ ليزدادا فهماً بدل هذا التشنيع الساذج.
المغالطة الثالثة والعشرون:
يعيب الباحثان مناهجنا بأنها تبالغ (في تصوير الخلل والثغرات التي يرتكبها الإعلام؛ فيجعلها منسلخة عن العقيدة، منحلة الأخلاق)!! (ص17)
ويظهر أن "عكوف" الباحثَيْن على عشرات القنوات الفضائية التي تسلخ الأمة من دينها وأخلاقها قد ظهرت آثاره في قولهما السابق! وقد قيل: كثرة الإمساس تذهب الإحساس! ولو سألت أي إنسان عاقل مطلع على القنوات لأخبرك بأن مناهجنا قد قصرت في تصوير هذا العفن الذي تبثه في ديار المسلمين، فلم يعد الأمر خافياً على أحد. وما "ستار أكاديمي" عنا ببعيد!
المغالطة الرابعة والعشرون:
يستنكر الباحثان حرص مناهجنا على أن يكون "الحكم لله" وأن تبتعد الدول الإسلامية عن تحكيم القوانين الجاهلية المأخوذة من الغرب النصراني التي تعارض حكم الله. ويريان أن في هذا (تسليط الأضواء على نقاط الضعف في المجتمع، وثغرات الواقع، وعرضها بصورة مكبرة...) إلى آخر هذرهما الكلامي (ص81).
فهل نسي الباحثان قوله تعالى (إن الحكم إلا لله) وقوله (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) وقوله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقوله (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) .. إلى غيرها من الآيات التي تلزم المسلمين بالتحاكم إلى الشريعة الإسلامية.(64/59)
فكيف يستهين الباحثان بهذا الأمر العظيم الذي صرف الأمة عن دروب العزة وجعلها مجرد تابع ذليل للكفار في شئونها؛ وعلى رأسها الحكم -إلا من رحم الله، كبلاد التوحيد التي لا زالت متمسكة- رغم أنف الحاقدين- بتحكيم الشريعة. نسأل الله أن يثبتها على هذا، وأن يوفق غيرها للعودة إلى حكم الله.
ومما يثير الدهشة: أن أحد الباحثَيْن كان من الساعين قبل سنوات في منازعة ولاة الأمر في بلادنا والتشنيع عليهم بدعوى عدم تحكيم الشريعة !! فتأمل هذا التناقض ما أعظمه ! وأسأل الله العافية والثبات.
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم !
المغالطة الخامسة والعشرون:
يرى الباحثان في الفصل الثالث من بحثهما أن مناهجنا لا تبعث الطمأنينة في نفوس الطلبة! وإنما تجعلهم قلقين من الوقوع في الشرك والنفاق مما يجعلهم يحجمون عن "المشاركة الاجتماعية"! و"الإنتاج الإجتماعي"! (ص19)
وأعترف للقارئ بعجزي عن فهم هذه "المشاركة الاجتماعية" و"الإنتاج الاجتماعي" وغيرها من الشقاشق الكلامية التي يتفيهق بها الباحثان كثيراً!
والذي أعرفه ويعرفه غيري أن أبا الأنبياء إبراهيم –عليه السلام- خاف على نفسه وبنيه الوقوع في الشرك بقوله (واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام). قال إبراهيم التيمي: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟" (94).
قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب –رحمهم الله-: "فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟.. وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه"(95).
فكيف -بعد هذا- لا نخاف الشرك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"(96) ؟!(64/60)
وكيف لا نخاف النفاق؟ وابن أبي مليكة -رحمه الله- يقول: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه) -كما في صحيح البخاري-(97)
قال الحافظ ابن حجر: (ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى). (98)
وكيف لا نخاف النفاق؟ وعمر –رضي الله عنه- ثاني الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة كان يسأل حذيفة –صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم- (أذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن ذكر من المنافقين؟) (99).
وكيف لا نخاف النفاق؟ وأبو الدرداء –رضي الله عنه- كان كثيراً ما يتعوذ من النفاق في صلاته. فقال له أحد أصحابه: وما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: اللهم غفراً، لا يأمن من البلاء من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة، وينقلب عن دينه(100).
وكيف لا نخاف النفاق؟ وقد سئل الحسن البصري: هل تخاف النفاق؟ فقال: وما يؤمنني وقد خاف عمر –رضي الله عنه-؟!(101)
فمناهجنا ولله الحمد متابعة لأنبياء الله –عليهم السلام- ولصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم في التخويف من الوقوع في الشرك والنفاق، والتحذير من إعجاب المرء بنفسه وتزكيته لها، أو وثوقه المفرط بعقله كما يريد منها الباحثان.
المغالطة السادسة والعشرون :
يعيب الباحثان مناهجنا بسبب "ضعف حضور القضايا والقيم المدنية" في موضوعاتها. (ص21).
ولا أدري ماذا يقصدان "بالقيم المدنية"! وسيأتي -إن شاء الله- في الملحق أن مناهجنا مليئة بما يتعلق بالأمور المرتبطة بحياة المسلم في الدنيا؛ إضافة إلى أمور العبادات وأمور الغيب التي هي الأهم، والأصل في وضع المناهج.
ثم أليست أمور المعاملات بأنواعها، والآداب، والسلوك، وتنظيم العلاقات بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، وبين الحاكم والمحكوم.. الخ تعد من الأمور المدنية؟! (102)(64/61)
أم أن الباحثَيْن يقصدان أمراً آخر –مولعان به- لم تتعرض له مناهجنا؛ هو ما يسميانه: المشاركة الشعبية والسياسية وإقامة الأحزاب والبرلمانات و..الخ ما تعلقا به من شيوخ العصرنة ؟!
المغالطة السابعة والعشرون :
يفتري الباحثان على مناهجنا أنها تدعو (إلى عدم تسمية العلماء في العلوم الإنسانية والتقنية بلقب علماء، بل يجب اعتبارهم جهال، وإنما الذي يستحق وصف عالم في نظر المقرر هو العابد فقط)! (ص22).
وهذا كذب صريح على المقرر الشرعي؛ لأن المقرر قال بالنص عن لقب "العالم": (وإنما يطلق هذا على أهل معرفة الله وخشيته؛ كما قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)).
فالمنهج يقرر بوضوح أن لقب العالم يطلق على "أهل معرفة الله وخشيته" وهم العلماء الشرعيون، لا كما يدعي الباحثان ! فلماذا الكذب؟!
ولينتبه إلى أن المنهج في طرحه لهذا الأمر يهدف إلى الرد على ما اشتهر عند بعض الناس من تنزيل الآيات والأحاديث الواردة في مدح "العلم" و"أهله" على أصحاب العلم الدنيوي، وهذا خطأ بالاتفاق. لأن جميع ما ورد في النصوص الشرعية من مدح للعلم فإنما هو خاص بالعلم الشرعي. وهذا لا يمنع أن العلم الدنيوي النافع للمسلمين أمر مطلوب وصاحبه مأجور –إن شاء الله-. ولكن دون أن يلجئنا مدحه لتحريف للنصوص الشرعية.
المغالطة الثامنة والعشرون :
يدعي الباحثان خطأ مناهجنا عندما قالت عن المجتمعات الغربية: (المجتمع الذي لا تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد كل مقومات الحياة السعيدة، وإن كان يملك مقومات الحياة المادية، والتي كثيراً ما تقوده إلى الدمار، كما هو مشاهد في المجتمعات الجاهلية).
يقول الباحثان: (هذه المبالغة تربك الطالب أكثر مما تسهم في تعميق إيمانه، ذلك أن ما يشاهده في الواقع هو أن الإمكانيات التي تمتلكها القوى الكبرى تمنحها المزيد من الاستقرار). (ص23).(64/62)
قلت: إنما أتيتما من سوء فهمكما لمناهجنا! فالمنهج يصدر عن كتاب الله –عز وجل- الذي حكم على الكفار بأنهم (كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) أي أحط وأخس من الأنعام ! ويقول فيهم (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم)، وأخبر أن حياتهم يسودها الضنك (ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا). وأخبر أن الحياة السعيدة الطيبة هي للمؤمنين لا للكافرين (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)
هذا ما يقصده منهجنا: أن الكفار الذين حرموا أنفسهم من الإسلام وعبودية الله وحده خسروا الحياة السعيدة الطيبة وإن كانوا قد حصلوا (مقومات الحياة المادية)؛ لأن الله يقول عن أمور الدنيا (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك). فأمور الدنيا من بذل أسبابها حصلها لا فرق في هذا بين مسلم وكافر. أما الحياة السعيدة فلا ينالها إلا المؤمن.
أما (الاستقرار الدنيوي) فلم تنفه مناهجنا -مطلقا- كما يريد الباحثان إيهامنا؛ لأنها سبق أن ذكرت بأن مجتمعات الكفار تملك (مقومات الحياة المادية) فلماذا الافتراء ؟
ورغم هذا كله فإن الله يقول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، ويقول: (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة بما صنعوا أو تحل قريباً من دارهم). وما أمر الحربين العالميتين عنا ببعيد !
المغالطة التاسعة والعشرون :
يتنقص الباحثان مناهجنا أنها اشترطت شروطاً لإقامة المسلم في ديار الكفار منها: "أن يكون مضمراً لعداوتهم وبغضهم". ثم قالا –بسخرية-: (فأي أخلاق إسلامية يقدمها المقرر للطالب في هذا المقام؟! نذهب إلى الناس لنتعلم منهم، أو نتطبب لديهم، أو نبرم معهم العقود، أو ندعوهم لدينا، بشرط أن نضمر لهم العداوة !). (ص23).
قلت: ألا يعلم الباحثان أن تنقصهما هذا وسخريتهما قد أصابت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الآمرتين بالبراءة من الكافرين؟!(64/63)
ألا يعلم الباحثان أن الأصل تحريم الإقامة في ديار الكافرين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"(103) وقوله: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"(104) وإنما جازت الإقامة في ديارهم في حالات مخصوصة وردت بها النصوص بالشروط التي ذكرها المنهج ولم تقبلها عقول الباحثَيْن!
ومن أعظمها: التصريح بالبراءة من الكافرين ودينهم الباطل: قال تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده).
فهل يتنقص الباحثان –أيضاً- كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي هي مصدر ما جاء في مناهجنا ؟!
الأمر خطير جداً.
المغالطة الثلاثون:
يزعم الباحثان أن مناهجنا قلقة جداً على الشباب إن هم (اكتشفوا إبداعات غير المسلمين فسينقلبون على أعقابهم وينسلخون من عقيدتهم)! (ص27).
وهذا كذب على مناهجنا؛ لأن المناهج ذكرت أن للانحراف عن العقيدة أسباباً كثيرة؛ أحدها كما يقول المنهج: (الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية، حتى ظنوا أنها من مقدور البشر وحده، فصاروا يعظمون البشر ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده؛ كما قال قارون من قبل (إنما أوتيته على علم عندي) ولم يتفكروا وينظروا إلى عظمة من أوجد هذه الكائنات..). فمناهجنا تنبه الشباب إلى أن لا يغفلوا عن عظمة الله –عز وجل- حال رؤيتهم لمعطيات الحضارة المادية بل يتذكروا قوله تعالى (علم الإنسان ما لم يعلم).
فأي "إبداعات" لغير المسلمين لم تكتشف بعد، وهذه المناهج وهذا الواقع في بلادنا نفسها مملوء بكل مفيد منها؛ في مجال: العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء والتقنية والاتصالات .. وغيرها ؟!(64/64)
إلا أن يريد الباحثان بتلك "الإبداعات التي لم تكتشف" الأفكار العلمانية والإلحادية والعبثية وغيرها من الأفكار المناقضة للإسلام !
ويعلم العقلاء أن لا دخل لهذه الأفكار الجاهلية بالأمور المادية؛ لأننا نرى أن التقدم الدنيوي ليس قصراً على ديانة أو ثقافة من الثقافات؛ إنما هو مطروح للجميع مَنْ بذل أسبابه حصله –كما سبق- فلماذا يريد الباحثان أن يستنسخا في بلادنا تجربة الغرب النصراني وصراعه مع الكنيسة؟!
ثم يكذب الباحثان على مناهجنا بأنها جعلت العلاج هو "تجاهل منجزات هذه الحضارة". والمنهج لم يقل هذا أبداً، ولكنه الكذب الرخيص. –كما سبق في المقدمة-
المغالطة الحادية والثلاثون :
يعلق الباحثان على العبارات التي ذكرها المنهج مثالاً على من يستهزئ بالدين وأهله بأنه لابد من النظر في قصده –ثم ذكرا بعض أمثلة المنهج- وقالا تعليقاً: (المعروف أن كثيراً ممن يقول هذه العبارة لا يقصد تنقص الدين) ! (ص28).
قلت: هذه سذاجة من الباحثَيْن ما بعدها سذاجة! إذ الفصل الذي جاءت فيه جميع العبارات والأمثلة عنوانه (الفصل الثاني عشر: الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته).
فجميع أمثلته يراد بها –حتماً- من يقصد الاستهزاء بالدين. أما من لم يقصد ذلك فلم يتعرض له المنهج أبداً! فلا حاجة لتفصيلكما المتكلف!
المغالطة الثانية والثلاثون :
قال الباحثان (ص29): (ومن ظواهر الاضطراب في المنهج العلمي أن المقرر عقد درساً لـ(موانع التكفير) وهي (الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه) وقدم فيها مجموعة من التفصيلات والأدلة. (مقرر التوحيد-الثالث ثانوي- شرعي- 250).
إلا أنه في التطبيق العملي يتجاهل بعض موانع التكليف كالجهل والتأويل وعدم القدرة والخطأ والخوف ونحوها، إما بتصريح نظري، أو بشكل تطبيقي، مما يترتب عليه وقوع الطالب في خطر التناقض والتطبيق العشوائي لقواعد التكفير والتضليل.(64/65)
فمثلاً يتجاهل المقرر عذر المخطئ بشكل موهم فيقول: "الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون").
قلت: بل الاضطراب في عقليكما ! ولو قرأتما موضوع "التكفير" الوارد في منهج الصف الثالث الثانوي -كما سبق في المقدمة- بتدبر وتروٍ وبدون عجلة! لتبين لكما أن الحكم على فعل ما بأنه شرك أو كفر لا يلزم أن يكون فاعله مشركاً أو كافراً دون مراعاة للشروط التي ذكرها المنهج. فواعجباً كيف يجهل هذا من درس عقيدة أهل السنة وتخصص فيها سنين عدداً !
ثم إن المنهج ذكر أن (الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون) تعليقاً على أثر حذيفة –رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحُمَّى فقطعه وتلا قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). فلماذا لم تبينا هذا للقارئ؟!
ثم قال الباحثان (ص29): (كما يتجاهل –أي المنهج- بعض حالات عذر الجاهل فيقول ((الجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات))".
قلت: المنهج لم يتجاهل هذه الحالات! فلماذا الافتراء ؟! لقد قال المنهج بالنص –كما سبق في المقدمة- : (والجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات وإليك تفصيل ذلك فيما يأتي:(64/66)
1- من كان حديث عهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان فأنكر شيئاً مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفرون إلا بعد أن تقام عليهم الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعد أن ذكر بعض أنواع الشرك "... وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه" وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب "... وإذ كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبدالقادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم".
2- من أنكر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر مع كونه في دارِ إسلام وعلْمٍ، ولم يكن حديث عهدٍ بإسلام فإنه يكفر بمجرد ذلك.
3- هناك أحكام ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم كإرث بنت الابن السدس مع بنت وارثة النصف تكملة للثلثين. فمن أنكر شيئاً من هذه الأحكام من العامة فلا يكفر إلا بعد أن تبين له ثم يصر على إنكاره، أما من أنكرها من أهل العلم فيكفر إذا كان مثله لا يجهلها).
قلت: فأين التجاهل المزعوم ؟! (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). بل إن المنهج يحتاط في التكفير -بوضوح- ويعذر حتى مرتكبي الشرك في البلاد التي يكثر فيها ولا يوجد أحد ينكره عليهم فتأمل.
ثم قال الباحثان (ص29): "كما يلغي –أي المنهج- عذر الخائف فيقول "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف".
قلت: هاهنا تلبيس عجيب من الباحثَيْن لابد من كشفه! حيث حذفا عبارة المنهج ليوهما القارئ أن الخائف هو المكره !(64/67)
فعبارة المنهج بتمامها: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره). فلماذا حذف الباحثان كلمة "إلا المكره" ؟! وهما يعلمان -حتماً- أن الإكراه غير الخوف. فالأول يُقبل عذراً في ارتكاب النواقض بخلاف الخوف الذي زعماه عذراً !
قال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله- في شرحه لنواقض الإسلام: "لا فرق في هذه النواقض العشرة بين الجاد.. والهازل.. أو الخائف الذي يفعل هذه الأشياء دفعاً للخوف. فالواجب عليه أن يصبر. إلا المكره: إذا أكره أن يقول كلمة فيها كفر ولم يمكنه التخلص من الظلم إلا بها. فرخص له الله في ذلك (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) بهذا الشرط. ويكون قصده دفع الإكراه فقط إلا أن قلبه لا يعتقد بما يتلفظ به" (105).
ثم قال الباحثان (ص29): (كما يتجاهل -أي المنهج- عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة).
قلت: وهذا أيضاً من الافتراء على المناهج! وإليكم ما قاله المنهج بالنص:
(التأويل: وهو صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه إلى ما يخالفه لدليل منفصل، وهو قسمان: القسم الأول: قسم يعذر صاحبه بتأويله، وهو ما كان مبنياً على شبهة، بأن كان له وجه من لغة العرب، وخلصت نية صاحبه كمن تأول في صفات الله تعالى. وكان تأويله مبنياً على شبهة وخلصت نية صاحبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن سبب عدم تكفير الإمام أحمد وغيره لمن قال بخلق القرآن بعينه: "إن التكفير له شروط وموانع وقد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".(64/68)
وقال في موضع آخر عن نفس المسألة: "فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطاوا وقلدوا من قال ذلك لهم".
والقسم الثاني: تأويل لا يعذر أصحابه كتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملة وتفصيلا أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كتأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها. فهذا كفر مخرج عن الإسلام).
قلت: فإذا كان المنهج قد صرح باعتذار الإمام أحمد وشيخ الإسلام لجهلة الجهمية القائلين بخلق القرآن فكيف لا يعتذر لغيرهم من الفرق البدعية التي لم تقع فيما وقع فيه أولئك؟! فما عذر صاحبي البحث في مثل هذا الافتراء الشنيع على مناهجنا ؟!
المغالطة الثالثة والثلاثون:
يعيب الباحثان مناهجنا أنها جعلت اتخاذ "اليوم الوطني" وغيره عيداً من المحرمات؛ لأنه من التشبه بالكفار، وعندهما –كالعادة!- أن هذا (أحد نماذج التهويل الفقهي، وتضخيم الدلالات.. الخ) (ص30).
قلت: الأعياد في الإسلام عيدان، وهذا مما لا يجهله أحد. وإبرازهما لليوم الوطني مقصود. ولهذا فلن أرد عليهما بكلام العلماء الذين بينوا حرمة اتخاذ هذا اليوم عيداً. إنما سأنقل لهما كلاماً لخادم الحرمين الشريفين –حفظه الله- يؤيد أهل العلم في هذا الحكم، ويقطع الطريق أمام الباحثَيْن ومزايداتهما الرخيصة.
يقول –حفظه الله-: "عندما أقول: إن اليوم الوطني يوم من الأيام التاريخية في هذه البلاد، فلأن الله جمع فيه الشمل في التفاف المواطنين حول بعضهم البعض.(64/69)
ولقد أشرت إلى أن الأعياد هي عيدان في السنة: عيد الفطر وعيد الأضحى، هذا شيء واضح.. لكن لابد أن يعرف أبناؤنا وأبناء أبنائنا أن هذا اليوم هو اليوم الذي اجتمع فيه الشمل لا أقلّ ولا أكثر، لأنني لا أعتقد أنه يجوز من الناحية الشرعية أن تكون هناك أعياد غير الأضحى والفطر وهي المتفق عليها شرعاً"(106).
قلت: فتأمل كلامه -حفظه الله- الموافق لكلام كبار العلماء، وقارنه بكلام مدعي الفهم من خريجي الشريعة !!
المغالطة الرابعة والثلاثون :
يعيب الباحثان (في ص31-32) مناهجنا أنها تحكم على بعض الألفاظ والعبارات بتعنت ! حيث تعدها من قبيل الشرك الأصغر؛ كقول "لولا الله وأنت" أو "لولا الله ولولا فلان"، ونحوها. فهي لا حرج فيها عند الباحثَيْن!
وهذا دليل آخر على جهلهما بعقيدة السلف؛ حيث تغافلا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ماشاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان"(107). والسبب أن حرف (الواو) يقتضي المساواة بين الخالق والمخلوق، بخلاف حرف (ثم) التي تقتضي التراخي كما يعرفه صغار الطلبة.
وقال ابن عباس –رضي الله عنه- في قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون): "قول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك"(108).
فهل سيجرؤ الباحثان أن يعترضا علانية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى صحابته رضي الله عنهم، كما اعترضا على مناهجنا؟!
ومن جهل الباحثَيْن أنهما لم يفرقا بين العبارات السابقة التي تقتضي مساواة الخالق بالمخلوق وبين قوله صلى الله عليه وسلم عن أبي طالب "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ! وشتان بينهما! فالعبارات الأولى ساوت –كما سبق- بين الخالق والمخلوق في عبارة واحدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك -كما مضى-. أما هذا الحديث فليس فيه أي مساواة بين الخالق والمخلوق، وإنما فيه عزو الأمر إلى سببه الصحيح؛ وهذا جائز.(64/70)
ولعلك تزداد عجباً عندما تعلم أن مناهجنا قد نبهت إلى هذا الأمر! فكيف لم يره الباحثان وهو في نفس الصفحة التي نقلا عنها ؟!
يقول المنهج –بوضوح-:
(-لا يذكر المسلم السبب وحده فيقول: لولا الطبيب لحصل كذا؛ إلا إذا كان يعتقد أنه مجرد سبب، وكان هذا السبب صحيحاً.
- ولا يذكره مع الله مساوياً: لولا الله والطبيب.
- وإنما يذكره بعد ذكر الله معطوفاً بثم التي تفيد التعقيب والتراخي: لولا الله ثم الطبيب).
فتأمل –رعاك الله- أي افتراء قام به الباحثان.
وتأمل ثانية: وضوح مناهجنا وسهولة عباراتها ومتابعتها لأقواله صلى الله عليه وسلم دون إفراط أو تفريط.
المغالطة الخامسة والثلاثون :
يعيب الباحثان مناهجنا (ص 32) أنها جعلت (من أنواع الإلحاد من يطلق على الذات الإلهية اسم "المهندس الأعظم أو القوة المطلقة") ويريان أن هذا (تهويل يبني العقل الديني للطالب بشكل انفعالي غير علمي) !!
قلت: عبارة (المهندس الأعظم أو القوة المطلقة) يطلقها بعض الفلاسفة على الله -عز وجل- كما أوضح هذا المنهج!
ومعنى الإلحاد في باب الأسماء والصفات –كما سبق-: الميل بها عن الصواب بتأويلها عن معانيها، أو إدخال أسماء جديدة في أسمائه تعالى لم يسم الله بها نفسه أو يسمه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد وضح المنهج هذا ! وذكر قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).
فأي تهويل يا هذان في اتباع قول الله تعالى ؟!
المغالطة السادسة والثلاثون :
يزعم الباحثان (ص33) أن مناهجنا الشرعية (تعتمد على مصنفات جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية..) الخ
وهذا تلبيس على القارئ. فإن مناهجنا لمن تأملها مرتكزة على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم في كل فصولها وتفاصيلها وهما مصدران ثابتان للأمة لا تؤثر فيهما الأزمان.(64/71)
وكتاب "التوحيد" للإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- الذي يلمزه الباحثان ! شاهد على هذا. فكل أبوابه إنما هي آيات وأحاديث .
وكلام الباحثَيْن إنما يصدق على مناهج أهل الكلام والحشو التي لا تكاد تجد في صفحاتها آية أو حديث! فليجتهدا في نقدها وتطويرها إن كانا جادَّيْن!.
المغالطة السابعة والثلاثون :
يقول الباحثان في توصياتهما (ص34): (2-تنقية المقررات من النزعات التكفيرية التي يضطرب بها، والتركيز على ما دلت عليه النصوص واستقر عليه كبار فقهاء الأمة من الكف عن تكفير أهل القبلة، ووجوب تقرير عصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم)!!
قلت: ما الاضطراب -والله- إلا في عقليكما! وشاهد حالكما صادق بهذا -كما سبق في المقدمة- فما أرخص الكذب عندكما.
فأين تكفير أهل القبلة في مناهجنا إن كنتم صادقين ؟!
ومما يُعجب له: دعوتكما إلى "التركيز على ما دلت عليه النصوص واستقر عليه كبار فقهاء الأمة"! وبحثكما هذا هو ناسف للنصوص ولإجماعات الأمة؟!
فتأمل التناقض!
المغالطة الثامنة والثلاثون :
يطالب الباحثان كثيراً أن لا يُشغل الطالب بأمور يعتقدونها تصعب عليه، ولا يصل إليها فهمه، وهي مجرد عقيدة صافية سهلة عليها نور الكتاب والسنة، ثم يطالبون في المقابل في فصلهما العجيب عن (الموقف من الحضارة بين قواعد التواصل وخطاب الإدانة) (ص 21) أن تقوم المناهج بتعميق (شرعية القيم المدنية المشروعة في وجدان الطالب، مثل: المشاركة الاجتماعية وحقوق الإنسان وقيم البحث العلمي، والوعي السياسي، وقيم التعايش والحوار، واحترام القانون، والاستقلال القضائي، ودعم الحريات، والأمن البيئي وأخلاقيات المهنة...) وغيرها الكثير الكثير !!(64/72)
وأيضاً يطالبان المناهج (ص21) (بتوضيح الإطار الفقهي لنظم الحياة، وبيان الكليات الشرعية العامة المهيمنة على المجالات والعلوم المدنية المعاصرة، وإبراز الوظيفة الإسلامية للمعرفة والعمران، بما يعني تأهيل الطالب بأدوات الفحص والاختبار...)!!
كل هذا الكم من القضايا -التي تكل أذهان السياسيين في فهمها- تريدان من طالب المتوسط والثانوي أن يفهمه ويستوعبه! وأما عقيدة السلف الصالح السهلة الميسرة فهي صعبة على الطالب -في نظركما- فعجباً لكما. ما هذا التناقض؟!
ثم لماذا تُرص هذه العبارات البراقة -التي أظنكما تجهلان مضامينها- المنقولة من كتب المنهزمين أمام جاهلية الغرب؛ لتكدر بها مناهجنا الصافية ويُصرف طلابنا عن عقيدتهم ؟!
وليتكم تعتبران -وأنتما لازلتما في بداية الطريق- بالدول العربية التي جربت وانخدعت بزخارف الشعارات والبرلمانات والحريات الزائفة.. الخ، ولكنها لم تجن وتذق بعد ذلك سوى مرارة الواقع الأليم الذي تكشف لهم عن حياة دنيوية بائسة، وشعب ممزق بين الأحزاب المتطاحنة، ودين مضيع. (فاعتبروا يا أولي الأبصار).
المغالطة التاسعة والثلاثون :
أكثر الباحثان من وصف مناهجنا بالإضطراب؛ كما في (ص21،5،4 وغيرها)، وقد تبين للقراء العقلاء من خلال المغالطات السابقة أن الإضطراب إنما هو في عقل الباحثَيْن؛ بسبب سوء الفهم والقصد. فهذا الاتهام من قبيل الإسقاط النفسي الذي يرى صاحبه الآخرين من خلال تصوراته المريضة وطباعه المتلونة.
المغالطة الأربعون :
قال الباحثان في (ص 18): "أصبح البعض يستعذب المخالفة"! فلعلهما كانا يتحدثان عن نفسيهما وبحثهما القائم على مخالفة الحق الذي تبين لأهل هذه البلاد؛ ليحق فيهم قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الحق ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
ماذا يريد الباحثان ؟(64/73)
قد يتساءل القارئ الجاد بعد قراءته لمغالطات الباحثَيْن عن هدفهما من هذا البحث الهدمي المشحون ضد مناهجنا السلفية وضد بلادنا، رغم ما يعيشه مجتمعنا من أمن فكري وسياسي واستقرار اجتماعي مقابل مجتمعات -تدعي التقدم ويدعي مفكروها الاستنارة!- وهم غارقون إلى آذانهم في التخلف الديني والدنيوي! وبلادهم مكتظة بالصراعات والانقسامات بل والمواجهات الدامية؟!
فأقول: لقد تبين لي أن الباحثَيْن -باختصار- :
1- يريدان تذويب الفوارق بين السني والبدعي، ثم بين المسلم والكافر مهما أداهم ذلك إلى تخطي الحدود الشرعية ، ومخالفة إرادة الله في تمايز أهل الحق عن أهل الباطل ، وهذا مسلك خطير ومآلاته إن اطردت تقود إلى عقائد كفرية لا شك فيها ونربأ بالباحثَين أن يصلا إليها ؛ كالقول بوحدة الأديان، أو الدين الإبراهيمي إلى آخر الضلال(109).
2- ويريدان تقويض هذا المجتمع دينياً وسياسياً ! أما دينياً فبهدم أساساته وهي المناهج السلفية، وتسفيه علمائه. كما هو متضح من بحثهما.
وأما سياسياً: فيتبين من خلال هذه العبارة لهما وأمثالها: "قد كان من واجبات المقررات الدينية والنظام السياسي فتح آفاق المشاركة المدنية"(110). (ص33).
ختامًا : أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يعين الباحثَين إلى العودة للحق – بعد أن تبين لهما - ، وأن يجنبهما وإخوانهما ضلالات وانحرافات مدعي " العقل " من المفكرين المعاصرين الذين يحادون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، متعظين بقوله تعالى ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) .
كما أسأله تعالى أن يوفق ولاة أمر هذه البلاد للحفاظ على مكتسباتنا وتميزنا ، وعدم جعلها عرضة لكل عابث أو " طامح " .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
(1) ... لسراة الليل هتف الصباح؛ عبدالعزيز التويجري، (ص 389).
(2) ... السابق، (ص 527).
(3) ... السابق، (ص 402).
(4) ... المصحف والسيف، (ص 135).
(5) ... السابق، (ص 52-53).(64/74)
(6) ... استلم –حفظه الله- الوزارة من عام 1373هـ إلى عام 1380هـ. انظر: "لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة العربية السعودية" للأستاذ عبدالعزيز آل الشيخ –رحمه الله-.
(7) ... "خادم الحرمين الشريفين: خطب وكلمات"، إصدار: دارة الملك عبدالعزيز، (ص281).
(8) ... السابق، (ص 88).
(9) ... السابق، (ص 140-141).
(10) ... السابق، (ص 24 – 25).
(11) ... قام موقع (إسلام أون لاين)! بالاحتفاء ببحث القاسم والسكران ونشره بكامله! محادة لأهل هذه البلاد. وأيضاً قامت جريدة الأحداث المغربية بنشر البحث تحت عنوان "هذا ما يتعلمه التلاميذ في السعودية: الحضارة المعاصرة حظيرة بهائم حيوانية!"!! فتأمل هذه السخرية والإفتراء. وحق لنا أن نقول لهذه الجريدة الحقيرة:
وإن ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من إحدى الرزايا
ونقول لهم أيضاً:
ولو أني بليت بهاشمي خؤلته بنو عبد المدان
لهان ما ألقى ولكن تعالوا وانظروا بمن ابتلاني
... ألا تنظر هذه الجريدة الحقيرة إلى أحوال بلادها المتردية ديناً ودنيا فتصلحها قبل أن تسخر بمن هم فوقها؟
... وأما فرح الرافضة والعلمانيين بالبحث فقد علمه كل متابع لمنتديات الإنترنت. فهنيئاً للقاسم والسكران!
(12) ... وقد شرعت في الرد يوم الثلاثاء الموافق 18 محرم 1425هـ .
(13) ... بعض هذه الفئة المخذولة كان قبل سنوات يكفر الدولة السعودية وعلماءها !! ويتبجح بتوزيع كتاب المقدسي "الكواشف الجلية" ! ثم انقلب بين عشية وضحاها إلى "مفكر إسلامي" يعالج ظاهرة الإرهاب بين الشباب! وكان هو وإخوانه أولى بالمعالجة لدى المصحات النفسية التي تقي شبابنا من تقلباتهم واضطرابهم.
(14) ... قلت: وهذا –كما سيأتي- لم يفهمه كاتبا البحث: فخلطا بين تكفير الفعل وتكفير المعين! واتهما مناهجنا زوراً بأنها تكفر المسلمين!
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم(64/75)
(15) ... لمعرفة جهود العلماء ونماذج من فتاواهم وكتاباتهم تجاه أول فتنة غلو حدثت في هذه البلاد زمن الملك عبدالعزيز، انظر: "الدرر السنية"، و "الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز" للدكتور محمد بن ناصر الشثري، و"لسراه الليل هتف الصباح" لعبد العزيز التويجري.
(16) ... "خطاب إلى الغرب.." (ص 145-146). وهو كتاب نافع كتبه مجموعة من الدعاة والمثقفين للرد على الافتراءات الموجهة إلى بلادنا في قضايا: (الإرهاب، الاتهام بالوهابية، تعليم المرأة، الجهاد، حقوق الإنسان، الجمعيات الخيرية..). ولكن كاتبي بحث الإرهاب جعلا من أسس التواصل بين الحضارات "الأخوة الإنسانية" ! (ص80). وهذه زلة ما كان ينبغي أن تصدر منهما؛ لأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين (إنما المؤمنون أخوة)، فلا أخوة بين مسلم وكافر، ولم يعهد هذا عند المسلمين، وإنما هو مصطلح عصري نشره من يريد تذويب الفوارق بين المسلم والكافر؛ لأنك لو تأملته لوجدت أن كلمة "الإنسانية" مقحمة فيه! لأننا نسأل أصحاب هذا المصطلح: ماذا تريدون بهذه الأخوة؟ إن أردتم أنها تستلزم المحبة والمودة والولاء فهذا محرم لا يجوز. وإن أردتم غير ذلك فوضحوه لنا! وسموا الأمور بمسمياتها الشرعية، وقد كانت لكم فسحة. فهلا قلتم –مثلاً- "التعاون على الحق"، بدلاً من تداول هذه المصطلحات غير الشرعية ؟!
(17) ... ينظر رسالة العلامة الشيخ بكر أبو زيد "تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء".
(18) ... الرمز الأول للمادة، والثاني للصف، والثالث للمرحلة، والرابع للصفحة.
(19) ... التزمت ترتيب المغالطات حسب ترتيب صفحات بحثهما .
(20) ... انظر للزيادة:كتاب(الإيمان بالقضاء والقدر) للشيخ محمد الحمد، تقديم سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله-.
(21) ... تنبيه: ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله- "أن أبا الحسن –الأشعري- أول من خالف السلف في هذه المسألة ولم يفرق بين المشيئة والمحبة والرضا" (الفتاوى 8/475).(64/76)
(22) ... كمحمد عمارة وأحمد أبو المجد والعوا وهويدي.. وغيرهم. ولهذا تجدهم يفخرون بالتعددية الفكرية في تاريخنا!. انظر للرد عليهم في هذه المسألة وغيرها: رسالة "نظرات شرعية في فكر منحرف" المجموعة السادسة؛ لكاتب هذا البحث. وهي منشورة في موقع صيد الفوائد على شبكة الإنترنت.www. Saaid. net
(23) ... انظر كتابه، (ص 10).
(24) ... الفتاوى (8/205).
(25) ... وصحح إسناده العلامة الألباني –رحمه الله- كما في تعليقه على "مختصر العلو" (ص 184).
(26) ... درء التعارض (10/319). وانظر رسالة الدكتور ناصر العقل: "الفرق الكلامية: المشبهة، الأشاعرة، الماتريدية".
(27) ... انظر: "أصول اعتقاد أهل السنة" لللالكائي (3/528). (سياق ما روي في تكفير المشبهة).
(28) ... تفسير ابن كثير (2/280).
(29) ... وقد صحح إسناده العلامة الألباني –رحمه الله- في كتابه "ظلال الجنة" (رقم 485).
(30) ... نقلاً عن : هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، (ص61).
(31) ... نقلاً عن: موالد مصر المحروسة، (ص20).
(32) ... الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، د. زكريا سليمان بيومي. (ص131).
(33) ... عن: السيد محمد رشيد رضا إصلاحاته الاجتماعية، محمد أحمد درنيقة (ص207).
(34) ... المزارات في شرقي الأردن، (ص 906).
(35) ... انظر: "دمعة على التوحيد"، (ص 87-88).
(36) ... الإبداع في مضار الابتداع (ص 251).
(37) ... انظر: "دمعة على التوحيد"، (ص 48-49) إصدار المنتدى الإسلامي، 1420هـ .
(38) ... هذه هي الصوفية، (ص160، 161) باختصار.
(39) ... انظر: السيد البدوي، ص (323-236)، وانظر: الصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق، ص (49-50)، والألوهية في العقائد الشعبية، لعبد السلام البسيوني، ص (96-98).
(40) ... عن: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، (ص161)، وجهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي، ص(1004). وانظر: "دمعة على التوحيد"، (ص 161).
(41) ... مجلة المنار، ج3، م33، (ص 222).(64/77)
(42) ... السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته ..، محمد أحمد درنيقة، (ص207).
(43) ... الأضرحة وشرك الاعتقاد، د. عبدالكريم دهينة، (ص120).
(44) ... "دمعة على التوحيد"، (ص164).
(45) ... منهاج السنة، (4/110).
(46) ... هو أخو خدابنده، من أحفاد جنكيز خان ملك الترك الكفار المسمون بالتتار، أما الواقعة التي يشير إليها شيخ الإسلام فانظر تفاصيل أحداثها في البداية والنهاية لابن كثير: (14/6).
(47) ... منهاج السنة، (3/244). وانظر: "أصول مذهب الشيعة الإمامية" للدكتور ناصر القفاري (3/466- 1467) وللزيادة في معرفة تفاصيل معاونة الرافضة للتتار : انظر رسالة "كيف دخل التتر بلاد المسلمين" للشيخ سليمان العودة.
(48) ... انظر: أمل والمخيمات الفلسطينية للدكتور محمد الغريب.
(49) ... الشيعة والسنة : (ص 11).
(50) ... انظر: مظالم الشيعة: (ص9-10)، وقد قال زعيم الشيعة مفتي جعفر حسين في مؤتمر صحفي بأن الشيعة يرفضون تطبيق الحدود الإسلامية لأنها ستكون على مذهب أهل السنة. (الأنباء الكويتية في 1/5/1979م).
(51) ... انظر: "أصول مذهب الشعية" للقفاري (3/1468 – 1469).
(52) ... انظر تفصيل ذلك في: تاريخ الصفويين (ص 93) وما بعدها، وانظر: حاضر العالم الإسلامي للدكتور جميل المصري: (ص 117).
(53) ... قلت [سليمان]: ومن قبيل المصادفة الحسنة أنني اطلعت على وثيقة برتغالية تثبت تفاصيل مخطط للرافضة مع البرتغال لاقتسام العالم الإسلامي!! ولكنها باءت بالفشل. انظر مجلة عالم المخطوطات والنوادر، (المجلد الخامس: العدد الأول، ص 258 وما بعدها)، مقال بعنوان: "ثلاث وثائق برتغالية عن خطة للاستيلاء على العالم العربي في مطلع القرن السادس عشر" للأستاذ عبدالرحمن الشيخ.
(54) ... تاريخ الجبرتي (2/201).
(55) ... السابق (2/242).
(56) ... المصدر السابق (2/306).
(57) ... تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام الأول إلى عصر فاروق الأول (161) حسن السندوبي. مطبعة الاستقامة. 1367هـ-1948م.(64/78)
... انظر: "الانحرافات العقدية.." للزهراني، (ص 380).
(58) ... التيجانية: علي بن محمد الدخيل الله (ص61) دار طيبة – الرياض.
(59) ... الفكر والثقافة المعاصرة في شمال أفريقيا ص 51، ص 52 أنور الجندي – الدار القومية للطباعة والنشر/ القاهرة 1385هـ. نقلاً عن "بدع الاعتقاد" للشيخ محمد حامد الناصر (ص 311).
(60) ... انظر: مجلة البيان، عدد 29، ذو القعدة 1410هـ، ص 78-84 و"الإسماعيلية المعاصرة" للأستاذ محمد الجوير، (ص149-150).
(61) ... الحركة الصليبية / د. سعيد عاشور ج 1 (ص555).
(62) ... تاريخ الحروب الصليبية / ستيفن رسيمان مجلد 2 (ص206).
(63) ... يقول "نكلسون" إن في قاديان تسكن هذه الأسرة التي وجدنا فيها دون جميع الأسر: الوفاء للإنجليز!
(64) ... الرسالة التبليغية لمير قاسم علي القادياني (7/8-11).
(65) ... كتاب البرية – الإعلان بتاريخ 20/9/1897، (ص2).
(66) ... وانظر للزيادة: رسالة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل "الإيضاحات الجلية في الكشف عن حال القاديانية".
(67) ... الفتاوى (28/209).
(68) ... انظر على سبيل المثال: "فتاوى الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- (1/35 وما بعدها)، ورسالة "هجر المبتدع" للشيخ بكر أبو زيد، (ص 40-47).
... تنبيه: لمز الباحثان رسالة الشيخ بكر أبو زيد السابقة في (ص7 من بحثهما) بأنها (تفتقر إلى الحد الأدنى من قواعد العدل وأخلاق الاختلاف المقررة في الشريعة... الخ سخافاتهما)!! ومن يطالع رسالة الشيخ بكر يعلم أنها تلخيص مفيد لمذهب السلف في التعامل مع أهل البدع؛ وهي موثقة بنصوص الكتاب والسنة التي لا يريد الباحثان –إلى الآن- مواجهتها ! "وإن غداً لناظره قريبُ" !
(69) ... وهي القومية التي يقول عنها جورج كيرك مؤلف كتاب "موجز تاريخ الشرق الأوسط": "إن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني" !! (انظر: مذاهب فكرية معاصرة؛ لمحمد قطب، ص585).(64/79)
(70) ... انظر ترجمته وشهرته بهذا اللقب: "موسوعة أعلام العرب المبدعين"! لخليل أحمد خليل (1/340-345)، و"ساطع الحصري: ثلاثون عاماً على الرحيل"، مركز دراسات الوحدة.
... وانظر لنقد أطروحته الوثنية: رسالة "فكرة القومية العربية في ضوء الإسلام" للشيخ صالح العبود، " والقومية في ميزان الإسلام" لعبد الله علوان -رحمه الله-، و"جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام" للأستاذ أنور الجندي –رحمه الله- (ص 151-159).
(71) ... الأعمال القومية لساطع الحصري (2/74). إصدار مركز دراسات الوحدة العربية.
(72) ... السابق (1/28).
(73) ... السابق (1/23-24). وانظر: "الفكر العربي في عصر النهضة" لألبرت حوراني، (ص374).
(74) ... اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية، للحصري، (ص 229).
(75) ... "ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي" (ص51).
(76) ... السابق، (ص53). قلت: ولذلك فهو يمجد تاريخ الجاهلية قبل الإسلام! انظر "أعماله القومية" (2/206).
(77) ... السابق، (ص55).
(78) ... السابق، (ص98).
(79) ... (ص17).
(80) ... "مع الله"، (ص254) نقلاً عن "نقد القومية العربية" للشيخ ابن باز -رحمه الله (ص56). فهل يقول الباحثان في حكم الغزالي ما قالاه في مناهجنا ؟!
(81) ... تنبيه: بينت مناهجنا حقيقة القومية وأنها مصادمة للإسلام في منهج الحديث للصف الثاني الثانوي (ص204-206). ولكن الباحثَيْن الَلذْين سلطا عين السُخط في مناهجنا لم يريا هذا !
(82) ... وهي التي ألف لأجلها الدكتور زيد الزيد كتابه: "حب الوطن من منظور شرعي"، وكذا الدكتور سليمان الحقيل كتابه: "الوطنية ومتطلباتها في ضوء تعاليم الإسلام".
(83) ... وهو سعد زغلول. انظر "واقعنا المعاصر" لمحمد قطب، (ص 321).
(84) ... وهو حديث باطل لا أصل له؛ كما بين هذا العلامة الألباني في "السلسلة الضعيفة" (3/222) وأشار إلى انتشاره بين العصريين، ورد عليهم ببيان مخالفة هذا الكلام الباطل لنصوص الشريعة الممايزة بين أصحاب الجنة وأصحاب السعير.(64/80)
(85) ... "الاقتصاد الرأسمالي في مرآة الإسلام" للدكتور محمود الخالدي، (ص18-21).
(86) ... حكم الإسلام في الرأسمالية، (ص12).
(87) ... السابق، (ص17).
(88) ... تأملات إسلامية في الرأسمالية الديمقراطية، (ص66).
(89) ... دراسات في العقائد ..، (ص31). وانظر: "الإسلام أمام الرأسمالية والماركسية" لمعروف الدواليبي، و"معركة الإسلام والرأسمالية" لسيد قطب.
... وللزيادة في معرفة حقيقة الرأسمالية: انظر: "هذه هي الرأسمالية" لفرانسوا بيرو –ترجمة محمد عيتاني. و"الرأسمالية والحرية" لميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد -ترجمة يوسف عليان. و"دراسات في تطور الرأسمالية" للدكتور رؤف عباس حامد. و"الرأسمالية في الميزان" لجاك جرمان –ترجمة فوزي عبدالحميد. و"بعد الشيوعية سقوط الرأسمالية" للدكتور رافي بترا –ترجمة رجب بودبوس.
... أما كتاب "الإسلام والرأسمالية" لمكسيم رودنسون، فكاتبه يهودي ينصح المسلمين باعتناق الاشتراكية بدلاً من الرأسمالية!
(90) ... انظر: رسالة الشيخ محماس الجلعود "الموالاة والمعاداة..".
(91) ... نقد القومية العربية، (ص 45).
(92) ... أخرجه مسلم (262).
(93) ... انظر للرد على من يستعمل "المصالح" و"المقاصد" للتحايل على الشرع: رسالة: "محاولات التجديد في أصول الفقه" للدكتور هزاع الغامدي.
(94) ... رواه ابن جرير وابن أبي حاتم؛ كما في "الدر المنثور" (5/46).
(95) ... "تيسير العزيز الحميد"، (ص 93).
(96) ... أخرجه أحمد، وحسن إسناده الحافظ. انظر "فتح المجيد" (1/177) تحقيق الشيخ: الوليد الفريان.
(97) ... أخرجه البخاري (1/135 مع الفتح).
(98) ... فتح الباري (1/136).
(99) ... انظر: "سير أعلام النبلاء" (2/364).
(100) ... "صفة النفاق وذم المنافقين" للفريابي، (ص114).
(101) ... السابق، (ص119).
(102) ... وماذا أبقى الباحثان للمناهج الأخرى إذا كانا يطالبان المناهج الشرعية بكل هذا الكم من المعلومات؟!
(103) ... صحيح الجامع ، (1461).
(104) ... صحيح الجامع ، (6186).(64/81)
(105) ... شرح رسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، (ص237).
(106) ... خادم الحرمين الشريفين: الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود: خطب وكلمات، إصدار: دارة الملك عبدالعزيز، (ص104).
(107) ... صحيح أبي داود، للألباني (4166).
(108) ... رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن. (انظر: فتح المجيد، ص 691، تحقيق الشيخ الوليد الفريان).
(109) ... قد يظن البعض هذا مبالغة مني أو تحاملاً على الباحثَيْن. ولكن أقوله عن خبرة بكتب شيوخ الباحثَيْن من العصريين الذين قطعوا شوطاً كبيراً في مجال ما يسمونه التسامح والتعددية! حتى وصلوا (القرضاوي وتلاميذه) إلى اعتبار الكفار إخوة لهم! ثم وصل بعضهم (محمد عمارة – هويدي) إلى عدم تكفير اليهود والنصارى ! ثم آخرون (الترابي وغيره) إلى الدعوة إلى المذهب الإبراهيمي -والعياذ بالله-. وهكذا هي خطوات الشيطان.
... فهل يتعظ القاسم والسكران قبل أن يُستدرجا إلى دركات الكفر ؟!
... وأنصح القارئ الكريم بقراءة رسالة الشيخ بكر "الإبطال لنظرية الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان". ورسالة الدكتور أحمد القاضي " دعوة التقريب بين الأديان " 4 مجلدات .
(110) ... قد ينخدع البعض بمثل هذه العبارات الرنانة للباحثَيْن! -وهما بارعان في استعمال هذه العبارات كما سبق-؛ ولذا أتمنى من القارئ قراءة بحث لي بعنوان "ثقافة التلبيس" ليتبين له -إن شاء الله- حقيقة هذه العبارة وأمثالها.(64/82)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه (أجمعين).
أما بعد: فهذا بحث موجز في بيان (سرقات) المدعو حسن المالكي. كنت أجمع لنفسي ما يعرض لي منها ، حتى تكاثرت وتنوعت وأصبحت سمة لاصقة بالرجل ، الذي لا زال (يسرق) حتى قيل عنه (سارق)! فأضحت (اللصوصية) علماً على أبحاثه التي ينشرها أو يسربها بين الحين والآخر ، (والسطو) على أفكار الآخرين مهنة يتقنها جداً ، ويبحث بها عن (الشهرة) لنفسه ، والترويج لأفكار أهل البدع والضلال بعد أن يُلبسها - زوراً - ثوب التحقيق والبحث المتجرد !! تلبيساً على الأغمار والجهلة.
ولقد تنبه كثير من العقلاء (لسرقات) المالكي منذ أن نشرها ، وعرفوا مصدرها ، وواجهوا المالكي بها ، إلا أنه استمر في (غيه) وواصل (سرقاته) غير عابئ بهم ؛ لأنها تحقق هوى في نفسه.
وستجد - رعاك الله - أن معظم (سرقات) هذا الرجل من الروافض (إماميهم وزيديهم(1)!) ، وهذا ما يبين لك أن الرجل يريد تمرير أفكارهم وحقدهم بين شبابنا بعد أن يجري عليها التعديلات اللازمة المناسبة لمجتمعنا!.
والمالكي يعترف بأنه من أسرة (زيدية) قد رضع مذهبها منذ الصغر حتى تفتقت أمعاؤه ، فأنى له الفكاك من هذا الإرث مهما حاول؟ إلا أن يشاء الله .
فهو قد حصر نفسه في (اجترار) مقولات أسلافه ، و(تجديدها) بين الناس ، لعلها تحظى بقبولهم(2) ، وما علم المسكين أن الأمة (بأكملها) قد بدأت في النهوض من غفوتها ، وآثرت الرجوع إلى دعوة الكتاب والسنة ، ونبذ البدعة وأهلها ، وواقع بلاد أهل البدع يشهد بهذا.
ولكن المالكي عمي عن هذا كله ، وتمنى أن يعيد التاريخ نفسه ، وأن تقوم للمبتدعة قائمة.
من كان مرعي عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولا(65/1)
فالرجل يصدر من عقيدة مخالفة للكتاب والسنة ، حاقدة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حاسدة لمن اختصهم الله بالنعم.
فقد اجتمع في قلبه: عقيدة فاسدة ، وحسد لأصحاب الدعوة السلفية وحقد عليهم ، وكل هذا يفيض من أبحاثه ، ولا يحتاج كثير تأمل.
وأنا في هذا المبحث لن أعنى بالرد على شبهات المالكي ، فقد تولاها غيري من الفضلاء(3) ، وإنما سأعنى بتبيين (سرقاته) ، ليعلم الجميع حال ديانة وعلم الرجل ، الذي استمرأ هذا الأمر – كما سبق – وأنه مجرد (ناقل) عن غيره، متشبع بما لم يُعط.
وليت هذا المخذول إذ سولت له نفسه السرقة ، سرق شيئاً ذا قيمة ، إذاً لهان الأمر قليلاً ، ولكنه – كبته الله – اقتات من (مزابل) أهل البدع والضلال ، ثم قاء ذلك كله في أبحاثه الموجهة لأهل السنة ، فكان كما قيل:
فكان اللوم لو (سرقوا) وفازوا فكيف بهم وقد (سرقوا) وخابوا؟
وسأقوم بذكر الفكرة المسروقة من كلام المالكي أولاً ، ثم أعقبها بذكر من قال بها – ممن اطلعت على كلامهم - ، وقد أستطرد قليلاً في بعضها ، لتوضيح أمر ، أورد عاجل.
وأتمنى من إخواني الكرام أن يزودوني بما لديهم عن سرقات هذا الرجل حتى يكتمل البحث ، وأنا لهم من الشاكرين.
وليعلم أن السرقات التي استطعت إثباتها على المالكي هي عشر سرقات كاملة ، ولعل من تقصى ودقق النظر في رسائله وجد غيرها الكثير ؛ لأن الرجل مجرد صدى لغيره – كما سبق-.
أسال الله العزيز أن يكبت هذا المبتدع ، وأن يكفينا شره (ومن وراءه) ، وأن يسلط ولاة أمرنا عليه ، ليجتثوا باطله ، فيكون عبرة لإخوانه المتربصين بنا الدوائر ، فإن (معظم النار من مستصغر الشرر)(4).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
السرقة الأولى: تشكيك المالكي في وجود ابن سبأ ، أو إنكار دوره في الفتنة: بناء على تضعيف سيف بن عمر:(65/2)
وهذه الأمور كلها قد اشتهر وجاهر بها المالكي في مقالاته بجريدة الرياض (وانظر أيضاً: قراءة في كتب العقائد: ص 59 ، 60 ، وأحال على كتاب له لم يطبع! بعنوان "عبد الله بن سبأ بين الحقيقة والأسطورة" ، وانظر أيضاً: نحو إنقاذ! التاريخ الإسلامي: ص 43 وما بعدها).
وقال في مذكرة العقائد (ص 135) عن ابن سبأ: "أما دوره المزعوم في الفتنة فأجزم ببطلانه ، وأما وجود ابن سبأ من حيث الوجود فمحتمل ... ".
وهذا التكذيب بوجود ابن سبأ أو التشكيك في دوره(5) ، قد سرقه الزيدي المالكي من أسلافه الروافض وممن تابعهم من أذناب المستشرقين.
وممن اشتهر بهذا التكذيب وصنف فيه: الرافضي مرتضى العسكري في كتابه (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى)(6) والدكتور عبد العزيز الهلابي – هداه الله – الذي أهدى له المالكي كتابه (نحو إنقاذ ! التاريخ) ! حيث نشر بحثاً بعنوان (عبد الله بن سبأ دراسة للمرويات التاريخية عن دوره في الفتنة)(7) قال في خاتمته (ص 73): "والذي نخلص إليه في بحثنا هذا أن ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود"!!
وقبلهم أنكر عبد الله بن سبأ: برنارد لويس في (أصول الإسماعيليين والإسماعيلية) ، وفلهوزن في (الخوارج والشيعة) ، وصاحب كتاب (التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية) ،ومحمد كامل حسين في (آداب مصر الفاطمية) ومحمد جواد مغنية في كتابه التشيع)(8).
وقال طه حسين – سلف المالكي في تشكيكه بابن سبأ! - في كتابه (الفتنة الكبرى ، عثمان) (ص 132 – 134):
"ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن ، ولكني أقطع أن خطره ، إن كان له خطر ، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان ، ولم يكد يسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار.(65/3)
وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا – إن كان ما يروى عنه صحيحاً – إنما قال ما قال ودعا ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف ، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها ... "
وقد رد على هؤلاء جمع من المحققين ، من أبرزهم: الشيخ سليمان العودة في رسالته (عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام) ، ثم في تعقيبه على المالكي المنشور بعنوان (الإنقاذ من دعاوى الإنقاذ).
وكذا الأستاذ سعدي الهاشمي في كتابه (ابن سبأ حقيقة لا خيال)(9) وكذا الشيخ سعود العقيلي في كتابه (رسائل العدل والإنصاف).
ومن العجائب أن أحد الرافضة المعاصرين وهو محمد علي المعلم ، قد قام بالرد على مرتضى العسكري الرافضي ، مفنداً دعاويه في إنكاره لابن سبأ! وذلك في كتابه (عبد الله بن سبأ الحقيقة المجهولة)(10) قال في مقدمته: "وقد حاول السيد! مرتضى العسكري – ولا ندري بأي دافع(11)- أن يثبت أن عبد الله بن سبأ شخصية خرافية وأسطورة لا حقيقة لها صنعها خيال أحد الرواة وهو سيف بن عمر التميمي" (ص 4).
ثم قام الرافضي بإثبات وجود ابن سبأ من خلال وروده في كتب الرافضة أنفسهم.
فعجباً للمالكي! كيف يأنف من شيء لم يأنف منه أسلافه الرافضة؟!
قلت: وأنا لست بصدد الرد على المالكي في هذه المسألة ، إنما أحب أن أبين للقارئ أن المالكي مجرد ناقل للآراء السقيمة عن غيره ، ومنها هذا الرأي حول ابن سبأ.
وقد أثبت هذا جماعة ممن تحاوروا مع المالكي ، قال الأستاذ حسن الهويمل: "وظاهرة الانتحال في الشعر العربي التي التقطها مرجليوث حين حقق كتاب الحموي تعيد نفسها بشكل آخر مع حسن المالكي ، ومع سلفه الذين أمدوه بالمادة والمنهج"
وقال عن المالكي بأنه "لم ينفرد بشيء" ، وأنكر على الهلابي والمالكي بأنهما "يعيدان ما قاله غيرهما من إنكار لهذه الشخصيات ، أما كان يكفيهما الإشارة إلى هذه النتائج والاشتغال بما هو أهدى وأجدى؟" (جريدة الرياض، عدد 10606).(65/4)
قلت: قد يصدق هذا على الهلابي ، أما المالكي فإنه يصدر عن عقيدة توافقها مثل هذه الأبحاث التي يرى أنها لن تقبل لدينا لو جاءت من رافضي (واضح) ، بخلاف هذا المستتر بالسلفية!!
وقال الدكتور محمد العزام في رده على أفكار المالكي: "إنها أفكار العسكري ، وبخاصة دعوى أن القعقاع من مخترعات سيف ، فلو رآها لقال: أهلاً وسهلاً! بضاعتنا ردت إلينا".
وقال أيضاً: "الحقيقة أن هذه الأفكار منشورة منذ سنة 1375هـ وكان ينبغي أن تنسب إلى صاحبها بالعبارة الصريحة والتوثيق اللازم ، هذا مع أن كلامه – أي المالكي – في الثناء على أبحاث المستشرقين والمبتدعة يدل على أنه وجد الأفكار لديهم ناضجة متكاملة. وهذا هو الواقع ، فكثير مما لديه يوجد في كتب مرتضى العسكري الذي قتل هذا القضايا بحثاً وأفرد لها عدة كتب ، ولم أجده يخالفه في شيء أو يرد عليه! فهذا تناقض واضح بين الثناء على البحوث وإنكار الاعتماد عليها".
وقال أيضاً: "وكثير من الأفكار التاريخية التي ينشرها الأخ!! المالكي موجود في هذا الكتاب المذهبي – أي كتاب العسكري – مع الإقرار باختلاف طريقة العرض والاستدلال ، وبعض الإضافات".
وقال أيضاً: "وجدت في كتابات الأستاذ! كثيراً من أساليب التعتيم على العسكري ، فتراه يذكر اسمه دون كتابه ، أو كتابه دون اسمه ويقول: "توصل إلى النتائج نفسها التي توصل إليها الدكتور الهلابي !! كأن الأبحاث متزامنة ! مع أنه قد توصل إليها منذ خمسين عاماً ، ونشرها منذ ثلاثة وأربعين عاماً"!
ولما حاول المالكي التعمية على مصدره وأنه الرافضي مرتضى العسكري قال له الدكتور العزام:(65/5)
"ولقد بذل الأستاذ! غاية جهده في هذا الكلام للتعمية على العسكري مرة أخرى ، فأنكر الاعتماد على الكتب المطبوعة ، وأدرج اسمه بين باحثين أكثرهم من هذه البلاد ، ولم يذكر اسمه كاملاً ولا أسماء كتبه التي اطلع عليها ، وجعل الأمر من باب الاطلاع المعتاد. وهولا يخفى عليه بالطبع تواريخ صدور الكتب ولا المقارنة بين الأفكار ومعرفة صاحب النظرية من بينهم"
ولما اكتشف الأستاذ عبد الحميد فقيهي حقيقة سرقة المالكي ، رد عليه المالكي بأن "هذا الربط لو صح لما ضر البحث شيئاً ، فالحكمة ضالة المؤمن"! قال العزام "قوله "لو صح" فيه تهرب واضح لأنه لا يدل على إقرار ولا إنكار".
أخيراً: نعى الدكتور العزام على المالكي الذي يتبجح في أبحاثه مُعَرِّضاً بالآخرين بأنهم ليسوا أصحاب أمانة(12)! وينسى هذا اللص نفسه!
{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم }
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم!
السرقة الثانية: الطعن في سيف بن عمر ، وإنكار القعقاع بن عمرو التميمي:
وقضية الطعن في سيف بن عمر وإنكار القعقاع بن عمرو تلحق بسابقتها ، فقد (سرقها) المالكي من مرتضى العسكري – أيضاً -! ، وذلك من كتابه الشهير (مائة وخمسون صحابي مختلق) الذي أنكر فيه وجود القعقاع بن عمرو ، بسبب مجيئه من طريق سيف بن عمر فقط.
وكذا من الهلابي الذي تابعه في حكمه على سيف بن عمر.
وقد بين هذا الفضلاء الذين ردوا على المالكي ؛ كالعودة والفريح والعزام وغيرهم.
قال الدكتور عبد الرحمن الفريح: "يبدو لي أن حسن بن فرحان المالكي لم يكن لديه من الشجاعة ما يجعله يقول: بأنه يعتمد على كتاب مطبوع يعرفه أهل الاختصاص ، وربما غيرهم ،والإعتماد على كتاب (الصحابة المختلقون) من قبل المالكي يُسقط دعواه بأنه يطرق موضوعاً جديداً ، أو أنه صاحب معالجة تاريخية لم يُسبق إليها" (جريدة الرياض ، العدد 10602).(65/6)
ولمناقشة رأي العسكري وتابعه المالكي! في سيف بن عمر انظر كتاب الشيخ سعود العقيلي (رسائل العدل والإنصاف).
وللعلم: فقد قال الرافضي الآخر محمد علي المعلم في كتابه (عبد الله بن سبأ الحقيقة المجهولة) عن كتاب العسكري (مائة وخمسون صحابي مختلق) بأن العسكري اعتمد فيه "منهجاً غير دقيق" (ص 5). فشهد شاهد من أهلها.
السرقة الثالثة: تقسيم الصحبة إلى شرعية وعامة ، وأن ما ورد في فضائل الصحابة إنما يختص بالمهاجرين والأنصار دون غيرهم(13) !!
وقد أقام مذكرته في الصحابة لأجل تقرير هذه الفكرة الفاسدة.
يقول المالكي: "أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحبة الشرعية – ليسوا إلا المهاجرين والأنصار" (الصحابة بين الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية ، ص25).
وقد رد عليه هذا الرأي الفاسد الذي يخالف إجماع الأمة وتعريفها للصحابة الشيخ الفاضل عبد الله السعد في مقدمته لكتاب (الإبانة لما للصحابة من المنزلة والمكانة) للأخ عبد العزيز الحميدي ، وكذا رد عليه الشيخ الفاضل سليمان العلوان في رسالته (الإستنفار للذب عن الصحابة الأخيار)( مجلة الحكمة ، العدد 22 ) .
وقد حاول المالكي – بدهاء ! – لما سئل: من سبقه إلى هذا التعريف الغريب للصحابة أن يُعمّي على مصدره الحقيقي ، وهو كتب الزيود ومن شايعهم من أسلافه ، وقال للسائل: "قد سبقني لكن بألفاظ مقاربة بعض العلماء ، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر" !! (ص 58 من رسالته السابقة).
قلت: بل سبقك بهذا شيوخك الروافض – كما سيأتي - !! ولكنك تحاول (ترويج) مذهبك الفاسد بالتمسح بعلماء أهل السنة – رحمهم الله -.
أما النخعي فلم تذكر سوى قوله: " من فضل علياً على أبي بكر وعمر فقد أزرى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار" وأحلت على كتاب (فضائل الصحابة لأحمد 1/249) ، وقلت: "سنده جيد" !! (مذكرة الصحابة ، ص 52).(65/7)
قلت: أولاً: لا أدري كيف عمي بصرك يا مدعي التحقيق ومنهج المحدثين !! عن قول المحقق تحت الأثر السابق الذي نقلته: " إسناده ضعيف لضعف الوليد بن بكير وهو التميمي الطهوي أبو جناب الكوفي" ؟! ونقل قول الدارقطني في الوليد هذا بأنه "متروك"! وقول ابن حجر فيه " لين الحديث" !
ثانياً: على فرض ثبوت هذا الأثر فأي حجة فيه على تقسيمك المزعوم؟! والنخعي إنما يسفه رأي من فضل علياً على أبي بكر وعمر، وهم شيوخك الروافض ! ، وأنهم بفعلهم هذا يزرون على كبار الصحابة وأفاضلهم فضلاً عمن دونهم.
ثالثاً: قد جاء نحوٌ من هذه العبارة عن غير النخعي ، مما يدل على أنها عبارة متداولة بين السلف يزرون بها على الشيعة والرافضة في تقديمهم علياً على أبي بكر وعمر – رضي الله عن الجميع - . فقد ذكر محقق (فضائل الصحابة) في الموضع السابق أن نحو هذه العبارة قد ورد عن عمار – رضي الله عنه – كما عند الطبراني في الأوسط (انظر مجمع الزوائد 9/54) ، ووردت أيضاً عن سفيان الثوري كما عند الفسوي في تاريخه (3/467).
أما ابن عبد البر فلم تذكر له شيئاً يدل على هذا التقسيم المزعوم !! ولو كان عندك ما يدل عليه ولو بشتى التكلفات لبادرت بإظهاره !
وكيف يقول ابن عبد البر بهذا التقسيم المزعوم الذي خالفت به إجماع الأمة ، وهو الذي صنف كتاباً جليلاً في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كتابه (الاستيعاب) ؟!
وقال في مقدمته: " الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين ، وهم أهل السنة والجماعة ، على أنهم (كلهم) عدول ، فواجب الوقوف على أسمائهم ، والبحث عن سيرهم وأحوالهم ؛ ليهتدى بهديهم ... " (الاستيعاب بهامش الإصابة لابن حجر 1/37-38).(65/8)
وقال – أيضاً -: "ثبتت عدالة (جميعهم) بثناء الله عز وجل عليهم ، وثناء رسوله عليه السلام ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ، ولا تزكية أفضل من ذلك ، ولا تعديل أكمل منه ... " (المرجع السابق 1/ 4-5).
قلت: فتأمل قوله: (كلهم) وقوله: (جميعهم) ، فهي مما يشهد بكذب المالكي على ابن عبد البر – رحمه الله - ! وافترائه عليه بأنه يقول بتقسيم الصحبة إلى شرعية وعامة !! ولا تعجب من هذا الكذب المالكي ؛ فإن الرجل لم يخالف أسلافه في طباعه ! والشيء إذا جاء من معدنه لايُستغرب !.
أما الذين سبقوا المالكي إلى هذا التقسيم المبتدع فهم أسلافه كما سبق. يقول الزيدي صارم الدين! إبراهيم بن محمد الوزير في مقدمة كتابه (الفلك الدوار في علوم الحديث والفقه والآثار) (ص 10) بعد أن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أهل بيته (بالتفصيل!): "ورضي الله عن أصحاب رسول الله الأخيار ، السابقين الأبرار، الذين اتبعوه ساعة العسرة من المهاجرين والأنصار ... " ولم يذكر غيرهم من الصحابة! بل انتقل الزيدي إلى ما يوافق هواه قائلاً (ص 11): "وعن أنصار أمير المؤمنين ، في يوم الجمل والنهروان وصفين ، وأعوان الحسن والحسين ..." الخ.
فالقوم لا يترضون إلا عن المهاجرين والأنصار ، فهم الصحابة عندهم ، وأما غيرهم فلا. وقد تابع المالكي شيوخ مذهبه في هذا الأمر – كما سبق -.
وقال الحضرمي ابن عقيل (العلوي المتشيع)(14) – الذي يقتات منه المالكي كثيراً – في كتابه (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) لما نقل تعديل الإمام البخاري لأحد الصحابه: " أقول: البخاري – ككثير غيره – يزعمون عدالة كل من سموه صحابياً بحسب اصطلاحهم الذي أحدثوه"! (ص 69).(65/9)
وممن زل في هذا الموضوع ، وزعم أن ما جاء في فضل الصحابة – رضي الله عنهم – مخصوص بمن طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، مُعَرِّضاً بمعاوية وعمرو وغيرهما ممن تبغضهم الشيعة (على اختلاف طوائفهم): الصنعاني في كتابه (ثمرات النظر). فقد قال: "وأما الصحابة رضي الله عنهم فلهم شأن جليل ، وشأو نبيل ، ومقام رفيع ، وحجاب منيع ... الخ" (ص 105) ثم تعقب ذلك قائلاً: "إلا أن تفسير الصحابي بمن لقيه - صلى الله عليه وسلم - أو بمن رآه ، وتنزيل تلك الممادح عليه فيه بُعد يأباه الإنصاف ، ولا يُقال لرعية الملك: أصحاب الملك ، وإن رأوه ورآهم ولقوه ولقيهم ، بل أصحابه من لهم به اختصاص ... " الخ شبهاته (ص 106 وما بعدها). ثم زعم أن لمعاوية – رضي الله عنه – "فواقر"! (ص 113) وأنه غير معذور في بغيه! (ص 113) ، ثم قال (ص 114) – عامله الله بعدله -: "وأحسن من قال:
قالوا النواصب قد أخطا معاوية في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبهوالعفو في ذاك مرجو لفاعلهوفي أعالي جنان الخلد راكبهقلنا كذبتم فِلمْ قال النبي لنافي النار قاتل عمار وسالبه"
قلت: القائل هم أهل السنة لا النواصب!! ولكن الزيود يصمون بالنصب كل من ترضى عن معاوية – رضي الله عنه – أو قال بأنه قد اجتهد وأخطأ في بغيه- كما هو معتقد أهل السنة(15) - ، ولا يرضون بغير السب له والتبرؤ منه – نعوذ بالله من حالهم -.
تنبيه: ما سبق نقله عن الصنعاني يشهد بأنه قد بقيت فيه بقية من مذهبه الزيدي ، لا كما يتوهم البعض بأنه (سلفي) العقيدة! ، بل ذهب بعض العلماء ؛ كالشيخ ابن بسام في (علماء نجد) إلى أن الرجل باق على زيديته ، وذكر شواهد لذلك ، فلتراجع في ترجمة الصنعاني (6/418) وفي(2/547). وانظر أيضاً: مجلة المنهل (بتاريخ 28/5/1386هـ) ففيها رد على ما جاء في الطبعة الأولى من ديوان الصنعاني من شعرٍ له يلعن فيه معاوية – رضي الله عنه - !!
السرقة الرابعة: ذم معاوية – رضي الله عنه -!(65/10)
ذم المالكي – أخزاه الله – لمعاوية – رضي الله عنه – كثير جداً – والعياذ بالله(16) ، وأكتفى بعبارة واحدة له ، وأحيل على بقية عباراته صيانة لأبصارنا أن ترى ذم أحد من الصحابة – رضوان الله عليهم -.
يقول المالكي مهوناً من شأن لعن معاوية – رضي الله عنه -!!: "وقد ذهب إلى جواز لعنه – أي معاوية رضي الله عنه!!- من العلماء المتأخرين محمد بن عقيل (وهو عالم سني) !! في كتابه: النصائح الكافية" (مذكرته في الصحابة ، ص 51).
وانظر: (مذكرة العقائد: ص 64 ، 70 ، 73 ، 75 ، ونحو إنقاذ! التاريخ الإسلامي: ص 71 ، 72 ، 148 ، 167 ، 240 ، 279 ، 287 ، 331).
قلت: وهذه البدعة الشنيعة قد (سرقها) المالكي من إخوانه الروافض (إماميهم وزيديهم!) ، فهم أبرز من اشتهر بهذا الأمر ، وكتبهم طافحة به ، يعرفها كل مسلم، وقد تابعهم كثير من المبتدعة من غيرهم على هذه البدعة – ولا حول ولا قوة إلا بالله -.
وقد أجاد الشوكاني في قوله(17):
لا قدس الله أرواح الروافض ما
تبسّم البرق بين العارض الهطل
قومٌ إذا قلت ملعونٌ معاويةٌ
ويا لسرِّ أمير المؤمنين علي
فأنت عندهم العدل الرضي وإن
رفضت شرع رسول الله عن كَمَل
فممن طعن في معاوية – رضي الله عنه – من الزيود أسلاف المالكي: صالح المقبلي في كتابه (العلم الشامخ) متهماً معاوية بأنه "طالب ملك اقتحم فيه كل داهية"! (ص 454) (وانظر: ص 385 ، 417).
وممن طعن في معاوية – رضي الله عنه – وأجاز لعنه وسبه!! ممن اطلع على كتبهم المالكي ونقل منها كما سبق- المدعو محمد بن عقيل الحضرمي ، حيث ألف كتابين لأجل هذا الطعن! الأول: (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) حشاه بالكذب والبهتان ، وسيأتي ذكر من رد عليه ، والثاني: (تقوية الإيمان في رد تزكية ابن أبي سفيان).(65/11)
وكذا طعن فيه في مواضع من كتابه (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) ، حيث سمى معاوية – رضي الله عنه – "كهف المنافقين"!! (ص 7) وأنه من "الطواغيت"! (ص 47 ، 62) ، وأنه "عجل النواصب"! (ص 63).
وقد رد الشيخ جمال الدين القاسمي – رحمه الله – على هذا العلوي الرافضي بكتاب سماه (نقد النصائح الكافية) قال في مقدمته (ص 2) واصفاً كتاب الرافضي بأنه أيد فيه "مذهب من جرح معاوية ورهطه ، وزعم أن تعديلهم زلة وغلطة ، وبنى عليه جواز لعن معاوية وسبه" ، ثم فند كلام الرافضي ، وبين عقيدة السلف في الصحابة – رضي الله عنهم - ، واعتذر لمعاوية ، وأفحم الرافضي بتنازل الحسن له ، وعدم قيام الحسين بالثورة عليه ... الخ ما ذكر ، فليراجع.
وممن طعن في معاوية – رضي الله عنه – من مبتدعة هذا العصر ، زعيمهم: زاهد الكوثري في عدة مواضع من كتبه ومقالاته (انظر على سبيل المثال: تعليقه على كتاب الأسماء والصفات ، ص 421 – 423 ، وكتاب تبديد الظلام، ص 94 – 96 ، ومقالاته ، ص 349) (وانظر للرد عليه: مخالفة الكوثري لاعتقاد السلف ، للدكتور محمد الخميّس ، ص 61 – 62).
وممن طعن في معاوية – رضي الله عنه – من المبتدعة المعاصرين: عبد الله الحبشي ، المبتدع الشهير ، زعيم فرقة الأحباش ، وذلك في كتابه (صريح البيان) (ص 227 وما بعدها).
وانظر للرد عليه: (الرد على عبد الله الحبشي) للشيخ عبد الله الشامي (ص 11 وما بعدها) ، و(الحبشي شذوذه وأخطاؤه) للشيخ عبد الرحمن دمشقية (ص 91 وما بعدها).
وممن طعن في معاوية – رضي الله عنه – من المبتدعة المعاصرين: حسن السقاف ، وذلك في تعليقه على كتاب ابن الجوزي (دفع شبه التشبيه) (ص 102 ، 236).
(وانظر للرد عليه كتاب الشيخ سليمان العلوان: إتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف ، ص 47 وما بعدها).(65/12)
قلت: والطاعنون فيه – رضي الله عنه – من أهل البدع ومن شايعهم كثير ، وقد ذكرت جماعة منهم في مقدمة (مختصر تطهير الجنان في النهي عن الخوض والتفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان) للهيتمي ، حتى أتى الدور إلى المالكي الذي تابع أسلافه ، وناصب معاوية – رضي الله عنه – العداء.
السرقة الخامسة: نقد أهل السنة -والمحدثين منهم على وجه الخصوص- بأنهم يتشددون في طعن من يتظاهر بمحبة علي – رضي الله عنه -! ويتهاونون مع المنحرفين عنه من الخوارج والنواصب !!
وهذا الأمر كثيراً ما يدندن حوله المالكي ، ويريد من خلاله (تمرير) رسالة خفية إلى قارئ مذكراته بأن من يسمون أهل السنة (السلفيين) هم في الحقيقة (نواصب)!
يقول المالكي: - بعد إيراده لبعض فضائل الصحابة – رضي الله عنهم -: " الغريب أن بعضهم كابن تيمية سامحه الله يورد مثل هذه النصوص العامة ، ويعتبرون القادح في الصحابة قادح (كذا !) في الكتاب والسنة ، ويقصدون بالصحابة غالباً المتأخرين منهم ، كمعاوية وعمرو وأمثالهم ، بينما يسكتون عن طعن النواصب في علي ولعنهم له " !! (مذكرته في الصحابة ، ص 79-80). (وانظر: مذكرة العقائد: ص 63 ، 127 ، 170 وما بعدها ، 136 ، ونحو إنقاذ! التاريخ الإسلامي ، ص 41 ، 211).
قلت: وهذا التشكي والهمز لأهل السنة قد (سرقه) المالكي من الرافضة – والزيود منهم خصوصاً - ، ومن تابعهم في بدعتهم ، التي من لم يوافقهم عليها اتهموه بالنصب.(65/13)
عقد الزيدي صارم الدين! إبراهيم بن محمد الوزير خاتمه لكتابه (الفلك الدوار في علوم الحديث والفقه والآثار) (ص 220 وما بعدها) سماها (خاتمة في عتاب أهل الجرح والتعديل) ، وانتقد فيها المحدثين في طعنهم بالشيعة الروافض وعدم روايتهم عنهم ، يقول هذا الزيدي: " إن جمهور الخصوم لما قطعوا بإمامة الثلاثة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل علي عليه السلام(18) وفضلوهم عليه وجعلوه رابعاً ، وقدحوا في كل من قطع بإمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دونهم ، ومن خَطَّأهم في التقديم عليه وجزم بتفضيله عليهم ، فمعتمد جرحهم لأكثر الشيعة إنما هو لذلك ، فمن روى خلاف معتقدهم – ولو سنياً – بَدَّعوه وكَذَّبوه وسَمَّوْه رافضياً ، وتركوا الأخذ منه ونهوا عن الكتابة عنه ، وهجروه ، وإن عظم محله عندهم قالوا: منكر الحديث ، يتفرد بغرايب لا يتابع عليها. ونحو ذلك ، وأعانهم على هذا خلفاء الدولتين ، ومن طالع الأخبار وعلوم الرجال عرف ذلك ضرورة.
وقالوا: تفضيل علي على عثمان أول عقد من الرفض ، فأما تفضيله على الشيخين فرفض كامل" !.
وقال هذا الزيدي – أيضاً – (ص 223): " واعلم أن أهل الجرح والتعديل قد نالوا من الشيعة والعدلية(19)منالاً عظيماً ، وسموهم رافضة وقدرية ، فالله حسيبهم"!.
قلت: الله حسيبك أنت عندما تنافح عن أسلافك من الروافض أعداء صحابة نبيك صلى الله عليه وسلم ، قبحهم الله.(65/14)
وأما المقبلي الزيدي فقد تشكى كثيراً في كتابه (العلم الشامخ) من المحدثين، واتهمهم – زوراً – بأنهم يحيفون على علي وآل البيت – رضي الله عنهم -! ويميلون إلى التهاون مع أهل النَصْب! ، فمما قال: " العجب من المحدثين تراهم يجرحون بمثل قول شريك القاضي وقد قيل عنده: معاوية حليم ، فقال: ليس بحليم من سفه الحق وحارب علياً. وبقوله وقد قيل له: ألا تزور أخاك؟ فقال: ليس بأخ لي من أزرى على علي وعمار. فليت شعري كيف الجمع بالنقم بين هذين الأمرين ، ثم لم ترهم يبالون بلعن علي فوق المنابر ، وبمعاداة من عاداه" ! (ص 385). (وانظر: ص 417 ، 454).
قلت: كذب المقبلي! فأهل السنة – كما سيأتي- يطعنون في الرافضة كما يطعنون في النواصب.
وأما الحضرمي الصوفي المتشيع ابن عقيل فقد ألف – كما سبق - كتاباً بعنوان ( العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل)(20) قال في مقدمته (ص 3) داعياً الله: " أن يحفظنا من مضلات الفتن ، ومن موالاة المحادين والقاسطين والمارقين ، ويعيذنا من الغلو والشطط ، ويجعلنا من خير أهل الإنصاف من الأمة الوسط " فقال الشيخ ابن مانع – رحمه الله - تعليقاً على هذا الدعاء من المؤلف: " هذا دعاءٌ لم يُستجب ، فقد غلا في الرفض غلواً شديداً " !!.
يعتب هذا الحضرمي المتشيع على أهل الجرح والتعديل من أهل السنة ، كأحمد ويحيى وغيرهم بأنهم يبالغون في نقد الشيعة ، ويذمونهم لأدنى سبب! وفي المقابل يزكون النواصب أعداء علي – رضي الله عنه - !! وهو عين ما ردده المالكي – كما سبق -!
فإليك شيئاً من أقوال ابن عقيل ، وقارنها بأقوال خلفه المالكي ، يتبين لك لصوصية هذا الرجل ، وتطفله على المزابل !
يقول ابن عقيل: تعليقاً على كلام للحافظ ابن حجر – رحمه الله – يقول فيه " والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غالٍ في تشيعه ويُطلق عليه رافضي ، وإلا فشيعي".(65/15)
قال ابن عقيل: " ولا يخفى أن معنى كلامه هذا أن جميع محبي علي المقدمين له على الشيخين روافض ، وأن محبيه المقدمين له على من سوى الشيخين شيعة ، وكلا الطائفتين مجروح العدالة. على هذا فجملة كبيرة من الصحابة الكرام كالمقداد وزيد بن أرقم وسلمان وأبي ذر وخباب وأيوب وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وأبي الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وقيس بن سعد وأبي الطفيل عامر بن واثلة والعباس بن عبد المطلب وبنيه وبني هاشم كافة وبني المطلب كافة وكثير غيرهم كلهم روافض لتفضيلهم علياً على الشيخين ومحبتهم له ، ويلحق بهؤلاء من التابعين وتابعي التابعين من أكابر الأئمة وصفوة الأمة من لا يحصى عددهم ، وفيهم قرناء الكتاب ، وجرح عدالة هؤلاء هو والله قاصمة الظهر".
ولما بين ابن حجر – رحمه الله – وهو يرد على الرافضة احتجاجهم بحديث " لا يحب علياً إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق" أن الانصار قد ثبت لهم مثل هذا ، حيث قال عنهم صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق " فأنتم ببغضهم أصبحتم منافقين! قال ابن عقيل – الذي لم يعجبه إحراج ابن حجرلإخوانه الرافضة - (ص 20-21): " أقول: اعتاد بعض من يكمن في سويداء قلبه بغض مولى المؤمنين علي عليه السلام أن يتبع ذكر كل منقبة من مناقب علي لا يستطيع جحدها بما يشوهها أو يوهم مساواة غيره لها حسداً من عند أنفسهم ، ولو بأن يكذبوا ويخترعوا وينقلوا ما يعرفون بطلانه أو ضعفه. كثر هذا حتى صار من ليس مثلهم في مرض القلب يتبعهم في صنيعهم هذا هيبة للإنفراد ، أو احتراساً عن أن ينبز بالرفض ، أو انقياداً للتقليد ، أو بلهاً أو غفلة "!
قلت: فانظر إلى هذا الخبيث كيف استساغ الطعن في الحافظ ابن حجر واتهامه بالنَصْب وبغض علي – رضي الله عنه -(21) لأنه لم يوافق هواه ، ولأنه أحرج أشياخه الرافضة.(65/16)
ويقول ابن عقيل –أيضا – (ص49): "يشتد عجبي من صنيع العلماء وضيق صدورهم من ذكر فضائل مولى المؤمنين فيتطلبون توهينها وردها بكل حيلة ولو كان فساد ما يتطلبونه ظاهراً بيناً كما مر بك. وقد استحكم هذا الداء وورثه خلفهم عن سلفهم فيثقل على قلوبهم المريضة سماعهم مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله كذكره بالسيادة كما في الحديث السابق سياقه فتغلي مراجل حسدهم في صدورهم وتسودّ الدنيا في عيونهم ويتخبطهم شيطان النصب وتنتفخ أوداجهم من الغيظ " قل موتوا بغيظكم". وقد أسخن الله عيونهم بما وصل إلينا من مناقب سيدنا ومولانا صنو نبينا عليهما وآلهما الصلاة والسلام وما أخرجه الله بقدرته من بين الكتمين كتم الحسد وكتم الخوف على النفس وهذا من خوارق معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد جرت العادة بأن ما اعتمد أهل الدولة ستره أو تكاتف علماء الدين على إخفائه قلما يظهر ويتواتر ، وهنا جاء الأمر بالعكس رغماً عن جد الفراعنة في طمسه وشياطين العلماء في إلقاء الشبه وبث الأضاليل في سبيل ظهوره ".
قلت: هذا من تهويلات هذا الرافضي الخبيث ، وإلا فإن أهل السنة هم أكثر من يروي فضائل علي – رضي الله عنه – ويفرحون بها ، كما يفرحون بغيرها من فضائل غيره من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين - ، ولكن الرجل يتوهم أن من لم يتابعه في غلوه في علي وأهل البيت فهو ناصبي.
ولهذا قال الشيخ ابن مانع – رحمه الله – معلقاً على هذه الفرية: " ما أدري من عنى بهذا؟ أما أهل السنة فكلهم موالون لعلي ، ويعترفون بفضله وسيادته وأنه رابع الخلفاء الراشدين ، وأما أهل البدع من الخوارج فكلامهم في علي مثل كلام الروافض في الشيخين وسائر الصحابة ، باطل عاطل " .(65/17)
وقال ابن عقيل – أيضاً - (ص 57) معلقاً على قول الإمام أبي حاتم - رحمه الله – في أحد الرواة الشيعة بأنه غالٍ في التشيع: " أقول ليفرخ روع القارئ ، فإن الغلو في التشيع كالرفض ، لهم فيه تفاسير تقدمت ، والمتيقن من ذلك حب علي وتفضيله على الأمة ، وقد تقدم أن ذلك إجماع العشرة وقول جمع من كبار الصحابة وخيارهم وجم غفير من تابعيهم بإحسان"!
قلت: ففي قوله مدح للرفض ! ؛ لأنه عنده مجرد حب علي وتقديمه على الصحابة!! فأين السب وأين التكفير؟!
ولذا فقد تعقبه الشيخ ابن مانع – رحمه الله – قائلاً: " حب علي مذهب أهل السنة ، وهو الحق " قال: " ومرادهم بالتشيع والرفض سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذم أم المؤمنين".
ولكن: هل يفهم مثل هذا الكلام من كان في قلبه دغل على صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟! لا أظن ذلك.
وانظر أيضاً أقوالاً أخرى لابن عقيل هذا في (ص 67 ، 83 ، 91من كتابه) وكلها اتهامات لأهل السنة بأنهم منحرفون عن علي – رضي الله عنه – طاعنون في شيعته ، مادحون لشانئيه ... الخ أباطيله ، التي يعلم كل عاقل أنها مجرد افتراءات على أهل السنة ، الذين أنزلوا علياً – رضي الله عنه – مكانته اللائقة به ، متجنبين غلو الروافض ، وشطط النواصب ، قبح الله الطائفتين وأخزاهما.
وقد نقلت لك المواضع السابقة من كتاب ابن عقيل هذا لتتيقن أن المالكي مجرد ناقل لأفكاره السابقة ، بعد أن يغير ألفاظها ، كما نقل عنه أيضاً ، طعنه في معاوية رضي الله عنه ، ورأيه في الصحابة ، وذمه للقسري – كما سيأتي -.(65/18)
وقد أجاد الصنعاني في كتابه ( توضيح الأفكار) عندما دافع عن المحدثين ، ورد اتهام الزيود والروافض لهم بأنهم غير عادلين ، إنما يحابون النواصب ، إن لم يكونوا منهم ! فقال تعليقاً على عبارة ابن الوزير صاحب (تنقيح الأنظار): " وهم – أي أئمة الحديث - يعرفون فسق الفاسق وجرحه ، والنهي عن قبوله ، وهم يسوون في ذلك بين المنحرفين عن علي عليه السلام ، وعن عمر ، وعن أبي بكر(22)" قال الصنعاني: " فليس لهم عصبية تحملهم على خلاف هذا ، فإنهم كما يقدحون بالغلو في الرفض يقدحون بالنصب. والرفض: محبة علي وتقديمه على الصحابة ، وسب الشيخين. والنصب: بغض علي عليه السلام ! وتقديم غيره عليه ، كما صرح بهذا الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري ، فالمنحرف عن علي عليه السلام ! هو الناصبي ، والمنحرف عن الشيخين هو الغالي في الرفض ، وقد سوّوا في الجرح بكل واحدة من الصفتين" (2/443). قلت: فهل يعي هذا المالكي وأسلافه ؟! لا أظن ! لأن القوم أشربوا حب البدعة ونشأوا عليها ، فمن لم يوافقهم فيها طعنوا فيه واتهموه بالنصب ، والعياذ بالله.
السرقة السادسة: نقض كتاب (كشف الشبهات) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب:
وقد ألف المالكي لأجل ذلك مذكرته الشهيرة ( نقض !! كشف الشبهات) ، مدافعاً فيها عن القبوريين ، مشنعاً على داعية التوحيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -.
قلت: وهذه (الفكرة) قد (سرقها) المالكي أيضاً من شيوخه الزيود !
فإنه لما صدرت فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – في حكم الصلاة خلف الزيود ، وقال فيها: " أما الصلاة خلف الزيدية فلا أرى صحتها خلفهم ؛ لأن الغالب عليهم الغلو في أهل البيت بأنواع من الشرك ، مع سبهم لبعض الصحابة ، وإظهارهم بعض البدع ... "(23)(65/19)
ضج الزيود بعدها وتصايحوا من أقطار عديدة للرد على هذه الفتوى التي فضحت مذهبهم ، فألفوا الرسائل في هذا ، دون فرق بين زيديّهم أو رافضيّهم أو نصيريّهم(24)، بل الجميع تكاتف لصد هذه الفتوى والتشويش عليها ، خشية أن تصل إلى أبناء مذهبهم فيتأثروا بها ويبدؤا بالبحث عن أصل مذهبهم وحقيقته ، وهل هو موافق للكتاب والسنة أم لا ؟ ومثل هذا الأسئلة تقلق طالب الحق وطالب الآخرة، ولهذا فقد حاول شيوخ الشيعة (بمختلف طوائفهم) حجب هذه الفتوى أن تصل إلى العقول المتطلعة للحق من أتباعهم.
المهم: قام أحد مشايخ الزيود – وحسن المالكي منهم ! – في اليمن واسمه بدر الدين ! بن أمير الدين ! بن الحسين الحوثي بتأليف كتاب سماه (الإيجاز في الرد على فتاوى الحجاز)(25)! زاعماً فيه الرد على السلفيين وقد عقد فصلاً كاملاً في كتابه سماه ( الجواب الوجيز) (ص 23 – 38) يرد فيه على كتاب الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب (كشف الشبهات)!!!
فعرفنا حينها من أين استقى المالكي الزيدي كتابه السابق (نقض كشف الشبهات) !
يقول الحوثي الزيدي في مقدمة فصله: " بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله سيدنا محمد الأمين ، وعلى آله الطاهرين. وبعد: فإنا اطلعنا على الكتاب المسمى (كشف الشبهات) فوجدنا فيه العبارات المجملات التي إذا تقبلها الجاهلون على إجمالها كانت سبباً لفساد عظيم لرمي المسلمين بالشرك مع المشركين ... " الخ (ص 23).
ثم قام الزيدي بالدفاع عن أحبابه القبوريين المشركين وتلمس المعاذير لهم والتشنيع على دعاة التوحيد ، واتهامهم بالغلو والتكفير ، وقد تابعه الزيدي المالكي في مذكرته السقيمة في هذا كله حذو القذة بالقذة !
{ أتواصوا به بل هم قوم طاغون } !
السرقة السابعة: الطعن في كتاب (السنة) لعبد الله بن الإمام أحمد – رحمه الله –(65/20)
ولأجل نقده ألف المالكي رسالته (قراءة في كتب العقائد) وجعل كتاب (السنة) أنموذجاً لكتب الحنابلة !
وهذا الطعن في كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد (سرقه) المالكي كعادته من أهل البدع ، كالكوثري والسقاف وغيرهما. وسبب طعنهم ما جاء فيه من إثبات الصفات لله كما وردت في الكتاب والسنة ، دون تمثيل أو تعطيل ، وهو ما لا يريده هؤلاء الجهمية. وهكذا المالكي (المتجهم)(26) تابعهم في هذا الأمر.
ولوعقل هذا السفيه لعلم أن عبد الله – رحمه الله – إنما يروي في كتابه ما بلغه بالسند ، فلا تثريب عليه ، فإن كان ما رواه ضعيفاً – وهو قليل في كتابه – رددناه دون تشنيع أو تهويل ، فهذا شأن طلاب الحق ، لا أن نتخذ من هذا الأمر متكئاً للطعن في عقائد أهل السنة ، كما يفعل المالكي وأحزابه من المبتدعة.
وليتبين لك مسلك أهل السنة في نظرتهم لكتاب (السنة) ، انظر مقدمة الدكتور محمد سعيد القحطاني للكتاب.
أما طعن الكوثري الهالك رأس الضلال في هذا العصر في كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد – رحمه الله – فقد ردده في كثير من مقالاته وتعليقاته على الكتب ، حيث قال عنه: " كتاب الزيغ والتجسيم والتشبيه" ! وقال – أيضاً -: "ولعل هذا القدر من النصوص التي سقناها من كتاب السنة يكفي لمعرفة ما وراء الأكمة ، ولا أظن بمسلم نشأ نشأة إسلامية أن يميل لتصديق تلك الأساطير الوثنية" ! (انظر مقالاته: ص 324 ، 320 ، 301 ، 307 ، 325 ، 329 ، 332 ، 338 وانظر: بيان مخالفة الكوثري لاعتقاد السلف ، للدكتور محمد الخميّس ، (ص 58-59).
وأما حسن السقاف فقد تابع سلفه الكوثري الهالك فطعن في كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد ، وزعم أن فيه " بلايا وطامات" ! ( تعليقه على كتاب ابن الجوزي: دفع شبه التشبيه ، ص 184 تعليق رقم 121)(27). (وانظر الرد عليه في كتاب الشيخ سليمان العلوان "الكشاف عن ضلالات حسن السقاف" ، ص 30-32).(65/21)
السرقة الثامنة: مدح الجهمية ورموزها ، والتماس المعاذير لهم ، والدفاع عن عقائدهم ! وذم من قتلهم ، وأنه لم يقتلهم إلا بسبب السياسة !
وقد حشى المالكي رسالته (قراءة في كتب العقائد) بهذه الأمور.
يقول المالكي: " قد تناقضت الآراء عن الجعد بن درهم وأكثر ما دون من آرائه كان من طريق خصومه " (مذكرة العقائد ، ص 89). ويقول: " كل التيارات التي نصمها بالبدعة ، كالجهمية والقدرية والمعتزلة والشيعة والزيدية ! وغيرهم ، كل هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله " !! ( المرجع السابق ص 90). ويقول مبرراً حماسه في الدفاع عنهم: " وحرارة هذا القول مني كان أسفاً مني على سنوات أضعتها في بغض ولعن الجهمية والقدرية ، ولم أنتبه لبراءتهما من أكثر ما نسب إليهما ... " ! (المرجع السابق ، ص 91). (وانظر: ص 94 ، 97 ، 26 ، 87 ، 88 ، 143، ففيها يمدح المالكي طوائف المبتدعة). ويقول المالكي عن خالد القسري الذي قتل الجعد رأس الجهمية: " كان هذا الأمير – أي القسري – مشهوراً بالظلم والفجور " (مذكرة العقائد ، ص 89 وانظر ص 83) ويقول: " بدعته أعظم من بدعة الجعد بن درهم " !!! (المرجع السابق ، ص 84) (وانظر: ص 98).
ويقول عن الجعد " قتل قتلاً سياسياً" (المرجع السابق ، ص 89).
وأما عن الجهم فيقول: " كذلك قتلهم للجهم بن صفوان كان قتلاً سياسياً بحتاً" (المرجع السابق ، ص 89).
قلت: وهذه الضلالة ، وهي الثناء على الجهمية ، ورؤسائها ، والاعتذار عن كفرياتهم ، قد استفادها المالكي ممن قبله ، ممن ذهب هذا المذهب القبيح في التعامل من أهل الضلال ، وآثر ملاينتهم.
ومن أبرزهم: الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه (الجهمية والمعتزلة)(1) ، والنشار في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي) ، وخالد العلي في رسالته (جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي).(65/22)
أما القاسمي – غفر الله له - فقد بالغ في الثناء على الجهم والجهمية ، ملتمساً لهم المعاذير ، ظاناً أنه بهذه الطريقة يجمع الأمة !، فالجهمية عنده " فرقة من المسلمين" (ص 9). والجهم كان حريصاً على إقامة أحكام الكتاب والسنة ! (ص 16) ، وقال عنه: "كان الجهم داعية للكتاب والسنة ، ناقماً على من انحرف عنهما، مجتهداً في أبواب من مسائل الصفات" ! (ص 18) وأما الجعد بن درهم فكان قتله سياسياً (ص 38).
وشكك في قبول ما صدر عنهم من كفريات وضلالات (ص 30-34) ، ووضع عنواناً يقول: " بيان أن الجهمية والمعتزلة لهم ما للمجتهدين " ! (ص 77) وأنهم معذورون في قولهم بخلق القرآن (ص 77 – 80).
وكل هذا تلبيس من القاسمي – عفا الله عنه – وستر لكفريات وضلال هذه الفرق التي أجمع على ذمها علماء السنة ، كل هذا بدعوى التقريب ، ناسياً أن التقريب بين الأمة لا يكون إلا بجمعها على الحق ، لا خلط الحق بالباطل ، والمداهنة لأهله.
وأما النشار فقد قال عن الجهم في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي): " الجهم بن صفوان شخصية من أكبر شخصيات الإسلام" ! (1/333) ، وقال: " الجهم بن صفوان كان مفكراً مسلماً " (1/335) ، وقال: " لا شك أن للجهم بن صفوان فضلاً كثيراً على الإسلام " (1/336) ، وقال: " كان للرجل .. فضل كبير أيضاً في تاريخ الفكر الإسلامي ... " (1/337) ، وقال في مدح الجهمية : " الجهمية والمعتزلة هما الطائفتان اللتان تمثلان ثورة المجتمع الإسلامي على بني أمية " (1/25).
وأن القدرية " أصحاب الإرادة الحرة " (1/314) ، وأما غيلان الدمشقي فهو " الشهيد الثالث لمذهب الإرادة الحرة ، والمثل الأعلى للدفاع عن عقيدته ، والثبات عليها في وجه عتاه بني أمية" (1/321) ، وأنه " كان من أعظم الشخصيات الإسلامية " (1/324).
وأما الجعد فكان " أول رواد التفسير العقلي في الإسلام" (1/332) ، وأن قتله كان سياسياً (1/331)(65/23)
ولعل عذر النشار في هذا الدفاع الحار عن الجهيمة ورؤوسها كونهم مصدر مذهبه الأشعري الذي يتعصب له كثيراً !
وانظر للرد عليه: كتاب (الإعلام بنقد كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام) للدكتور محمد سعيد القحطاني.
وأما خالد العلي فيقول عن الجهم " أحد الأفذاذ الكبار" ! (ص 10) (وانظر، ص 208). وشكك في مصادرنا عن مذهبهم (ص 16-17 ، 20).
قلت: وقد رد أباطيل القوم وتزكيتهم للجهم المبتدع الضال ، الشيخ عبد العزيز العبد اللطيف – حفظه الله – في كتابه (مقالات في المذاهب والفرق ، ص 54 – 76) ونقل أقوال أهل السنة – رحمهم الله – في تضليل الجهم وتبيينهم ما في مقالاته من كفر وزندقة وإلحاد ، فليراجع(28).
وقال في مقدمة بحثه(ص54-56): " الجهم بن صفوان: حقائق وأباطيل ، يقول الله تعالى: { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } (29)، ولعل هذه المقالة الآتية عن شخصية " الجهم بن صفوان " ، تحقق شيئاً من تلك " الاستبانة " لسبيل المجرمين الضالين .. وأمر آخر دفعني إلى الكتابة عن الجهم ، وهو أن هذا "الجهم" الذي وصفه أحد أسلافنا – رحمة الله عليهم – وهو الذهبي – فقال عنه "أسُّ الضلالة ورأس الجهمية"(30) وأنه " زرع شرا عظيماً"(31) .. فمع ما تضمنته مقالات الجهم من كفر وزندقة وإلحاد ، وما خلفه من فتنة وفساد وشر ، مع هذا كله فإننا نجد من بعض الباحثين من يدافع عنه، ويحاول أن يوجد للجهم مسوغاً ومبرراً في انحرافه وإفساده ، ويظهر – جلياً – تحامل هؤلاء الباحثين ، بل طعنهم على أئمة السلف وأهل الحديث ممن تصدوا للذود عن العقيدة الصحيحة والذبّ عنها.
وبين يدي ثلاثة كتب تدافع عن الجهم وتتعاطف معه .. فأما أولها فهو "تاريخ الجهيمة والمعتزلة" لجمال الدين القاسمي(32) الذي عُرف بعقيدة صحيحة واستقامة ظاهرة وهو يدافع عن الجهم باسم الموضوعية والإنصاف ! – كما سيأتي إن شاء الله - ، ولكن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة ، وعفا الله عن القاسمي.(65/24)
وأما الكتاب الآخر فهو "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" الجزء الأول للدكتور علي سامي النشار حيث دافع النشار عن الجهم وشيخه الجعد بن درهم ، ثم تحامل وطعن في علماء أهل الحديث.
وأما الكتاب الثالث فهو " الجهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي" لخالد العلي أحد الباحثين من بلاد العراق ، حيث نافح عن الجهم متأثراً بمن سبق" قلت: هؤلاء ثلاثة دافعوا عن الجهم ، ورابعهم مالكيّهم ! الذي استحسن فكرة القوم في الدفاع عن هذا المبتدع ، ووافقت هوىً في نفسه ، فقام بسرقتها كعادته ، وأضحى يرددها في كتاباته.
وأما طعن المالكي في خالد القسري فقد (سرقه) من الرافضة ومن تابعهم في هذه القضية ؛ لأن القسري كان لأسلافهم بالمرصاد ، وكان – غفر الله له – متميزاً بتعقب الزنادقة وقتلهم.
فكان من الطاعنين عليه: الرافضة – كما سيأتي في كلام ابن كثير - ، ومن تابعهم من المبتدعة ، كالكوثري – كما سيأتي في كلام المعلمي اليماني – رحمه الله -.
وقد تورط القاسمي – رحمه الله – بمتابعة هؤلاء المبتدعة وطعن في القسري في كتابه (تاريخ الجهمية والمعتزلة) (ص 38-42) . واتهم القسري بأنه لم يقتل الجعد إلا لأجل السياسة ! (ص 16-18) وأنعم بها من سياسة!
وكذا قال النشار في كتابه " نشأة الفكر الفلسفي" (1/331) . فجاء المالكي بعدهم يردد افتراءاتهم .
ولتتبين لك حقيقة القسري هذا الذي افترى عليه الرافضة ارجع إلى ترجمته في البداية والنهاية لابن كثير – رحمه الله – قال في خاتمتها بعد أن نقل شيئاً من أكاذيبهم عليه: " الذي يظهر أن هذا لا يصح عنه ، فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد ، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح ؛ لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت" (10/22).(65/25)
وقال العلامة عبد الرحمن المعلمي – رحمه الله – في كتابه (التنكيل) رداً على الكوثري الذي طعن في القسري لأجل أبي حنيفة:" أقول: كان خالد أميراً مسلماً خلط عملاً صالحاً كإقامة الحدود ، وآخر سيئاً الله أعلم ما يصح عنه منه . وقد جاء عن جماعة من الأئمة كما في (التأنيب) نفسه أن أبا حنيفة استتيب في الكفر مرتين ، فإن كان خالد هو الذي استتابه في إحداهما ، وقد شهد أولئك أنها استتابة عن الكفر فأي معنى للطعن في خالد ؟ هبه كان كافراً ! أيجوز أن يحنق عليه مسلم لأنه رفع إليه إنسان يقول قولاً شهد علماء المسلمين أنه كفر فاستتابه منه؟ وكان خالد يماني النسب وكان له منافسون على الإمارة من المُضريين وأعداء كثير يحرصون على إساءة سمعته ، وكان القصاصون ولا سيما بعد أن نكب خالد يتقربون إلى أعدائه بوضع الحكايات الشنيعة في ثلبه ، ولا ندري ما يصح من ذلك" (1/255).
ثم فند – رحمه الله – ما قيل عنه من أن أمه نصرانية ! أو أنه ضحى بالجعد بدلاً من الأضاحي الشرعية !! فليراجع.
السرقة التاسعة: اتهام شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه ناصبي:
يقول المالكي في مذكرته عن الصحابة (ص 74): " ابن تيمية مع فضله وعلمه إلا أنه يجب أن نعرف أنه شامي ، وأهل الشام فيهم انحراف في الجملة على علي بن أبي طالب وميل لمعاوية" (وانظر: نحو إنقاذ ! التاريخ الإسلامي ، ص 35). قلت: هذه الفرية والاتهام العظيم لشيخ الإسلام استفاده المالكي من أعداء الشيخ قديماً وحديثاً – وما أكثرهم – وقد ذكرت أقوالهم ، ورددت على هذه الفرية من كلام شيخ الإسلام - نفسه – في كتابي (شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن ناصبياً) ، ولكن كما قيل:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
لأن الذي نهواه ليس بذي ودّ!
من أبرز المتهمين لشيخ الإسلام بهذه التهمة التي (سرقها) منهم المالكي وأضحى يرددها:(65/26)
ابن حجر الهيتمي(33) في (فتاواه الحديثية ، ص 114) ، وزاهد الكوثري في (الحاوي في سيرة الطحاوي ، ص 26) وفي (مقالاته ص 470) ، وعبد الله الغماري في (الرسائل الغمارية ، ص 114) و(جزء في الرد على الألباني، ص 60) ، وعبد الله الحبشي في (المقالات السنية ، ص 307) وحسن السقاف في (التنبيه والرد ، ص 7) ، وغيرهم من أهل البدع – لا كثرهم الله - .
فجاء المالكي بعدهم فأصبح يردد ما رددوه عن شيخ الإسلام ؛ لأن هذه الفرية قد وافقت عقيدته الفاسدة التي نقضها شيخ الإسلام. فالله حسيبه.
السرقة العاشرة: اتهام ابن حزم بأنه ناصبي !
قال المالكي: " ابن حزم رغم كثرة علمه وفضله إلا أن له انفرادات لا يعَّول عليها ... أضف إلى ذلك أنه متهم بالنصب ، وهو الانحراف عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وموالاة بني أمية" (نحو إنقاذ ! التاريخ الإسلامي ، ص 136) (وانظر المصدر السابق ، ص 288 – 289 ، وبيعة علي ، ص 273-274).
قلت :هذه الفرية سرقها المالكي من أسلافه الشيعة ، الذين يلصقونها بكل عالم (سني) يخالف أهواءهم ولا يغلو في علي – رضي الله عنه – غلوهم البغيض.
لكن المالكي احتاط لنفسه وأوهم أنه استقى هذه الفرية من "سير أعلام النبلاء" للذهبي !!
قال المالكي في كتابه (بيعة علي) (ص 273-274) عن ابن حزم: " متهم بالنصب وهو الانحراف عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وموالاة بني أمية ، والدفاع عن ماضيهم وحاضرهم" ثم قال في الهامش: " طالع ترجمته في سير أعلام النبلاء" !(65/27)
قلت: وأنا لست بصدد دفع هذه الفرية عن ابن حزم – رحمه الله – فلذلك مقام آخر(34) إنما أبين هنا بأن المالكي لم يستفد هذه الفرية من الذهبي ولا غيره من أهل السنة – كما يزعم - ، لأن كلامهم في ابن حزم لا يفيد هذا ، كيف وهم يعلمون – يقيناً - من كتب ابن حزم المشهورة ثناءه على علي رضي الله عنه ، وذمه للخوارج الذين يبغضونه ، والذهبي - رحمه الله - إنما نقل كلمة لأبي حيان يخبر فيها بأن ابن حزم يتشيع لأمراء بني أمية في الأندلس !! فكان ماذا ؟ وأي دليل فيها يا مالكي على نَصْب ابن حزم – رحمه الله –؟! أم أنها أحقاد دفينة على ابن حزم الذي أجاد في فضح شيوخك الرافضة ؟
بقي أن تعلم بأن المالكي قد سرق هذه الفرية من الرافضة الذين (يصرحون) بها في كتبهم ، ومن أبرزهم علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين) حيث قال: " واتخذ البحث الديني في الأندلس وجهة أخرى – هي تمجيد الأسرة الأموية وذكر فضائل السلف الأول منها. وهذه نتيجة طبيعية للظروف السياسية التي كانت سائدة هناك ، حيث كان الخلفاء ينتسبون للبيت الأموي ويتعصبون له.
إن ذم الأمويين صار سنة عند الفقهاء الأولين في المشرق – كما رأينا - . أما لدى فقهاء الأندلس فقد انقلبت القيم ، إذ ارتفع ذكر الأمويين عندهم وهبطت قيمة العلويين. ولو درسنا مؤلفات ابن حزم وأبي بكر بن العربي ، اللذين يعدان أعظم فقهاء الأندلس في ذلك العهد ، لوجدناهما يميلان ميلاً ظاهراً نحو الأمويين وينفران من علي وأولاده" (ص 243-244).
وبهذه السرقة العاشرة ينتهي ما أردت جمعه من سرقات هذا الرجل ؛ نصحًا لشباب الأمة أن ينخدعوا به ، ويغتروا بكثرة ادعاءاته للتحقيق والتجديد ، وهو لمن دقق في أبحاثه عريٌ عن هذا كله ، إنما ( يجتر ) أفكار أهل الضلال بعد أن يعزوها لنفسه ؛ ظانًا أن الباحثين في غفلة عن مصادره ، مهما حاول تعميتها .
ولعل من تحصلت لديه كتب الزيود والرافضة يجد أضعاف ما وجدت من السرقات .(65/28)
وإني لآسى على قلة من شبابنا ممن انخدعوا ببريق ( العصرانية ) الخادع كيف انساقوا خلف هذا ( المشبوه ) الذي يذكرني بحال أمثاله من ( المشبوهين ) الذين مروا بتاريخنا ؛ كالبدوي والأفغاني ونحوهم ، وتنكبوا لأجله طريق الكتاب والسنة بعد أن مشوا في نورهما زمنًا ليس بالقليل ، وعادوا لأجله إخوانهم من دعاة الكتاب والسنة ؟
أسأل الله تعالىلي ولهم الهداية والتوفيق ، وأن يردهم إلى الحق ردًا جميلاً ، وأن يكفينا شر كل ذي شر ، ويسلط عليه ولاة أمورنا ليجتثوا باطله ؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ( أجمعين ) .
كتبه / سليمان الخراشي
1422
(1) قال العلامة إسماعيل الأكوع في كتابه (المدخل إلى معرفة هجر العلم ومعاقله) (ص 62 – 63): (علماء الزيدية المتأخرون لا يقولون بإمامة المفضول ، لذلك فقد لقب كثير منهم بالرافضة أو الجارودية ، لأن هؤلاء تناولوا الخلفاء الراشدين بالسب). قلت: وما تراه مني في هذه المذكرة من وصم المالكي بأنه رافضي ، فهو لأجل هذا السبب.
(2) يعتقد البعض خطأ أن المالكي من (العصرانيين) ، ومن يقرأ أبحاثه وما بين سطورها يعلم يقيناً أن الرجل رافضي متستر قد اتخذ العصرانيين (حميراً) للوصول إلى أهدافه هو ومن وراءه من بني جلدته. فهو يذكرني بالأفغاني الرافضي الذي تسلق على أكتاف جماعة من العقلانيين السذج ، على رأسهم محمد عبده ومدرسته.
(3) كالشيخ سليمان العودة ، والدكتور العزام ، والدكتور الفريح ، والشيخ عبد الكريم الحميد ، والشيخ سعود العقيلي ، والأخ سليمان البهيجي ، والشيخ سليمان العلوان ، والشيخ عبد الله السعد ، وغيرهم كثير ، فجزاهم الله خير الجزاء.
(4) ومن اطلع على بداية فتنة (ابن تومرت) في المغرب علم أن (التساهل) في مثل هذا الأمر (تحت أي مسوغ!) مما يجلب الشر لهذه البلاد، اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد.(65/29)
(5) ويدخل ضمن التشكيك - بلاشك ! - الاعتراف بوجود ابن سبأ ولكن الإدعاء بأنه عمار بن ياسر – رضي الله عنه - !! كما صنع النشار في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، 2/39) ، وعلي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين، ص 177 وما بعدها). وأما الرافضي محمد المعلم فقد زعم في كتابه (عبد الله بن سبأ الحقيقة المجهولة) أن ابن سبأ رجلان! الأول ممدوح والثاني مذموم!(ص 70).
(6) الطبعة الرابعة ، مطبعة دار الكتب ، بيروت 1973م.
(7) الحولية الثامنة لكلية الآداب – بجامعة الكويت ، الرسالة 45.
(8) انظر: (كتب حذر منها العلماء) للشيخ مشهور حسن سلمان (2/387-388).
(9) نُشر قديماً في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة (العدد 46).
(10) طبع دار الهادي بيروت ، الطبعة الأولى 1420هـ.
(11) قلت: بدافع الدفاع عن قومه الرافضة! أن يكونوا ألعوبة بيد هذا اليهودي ، وقد كانوا!
(12) انظر رد الدكتور العزام على المالكي في جريدة الرياض على ثلاث حلقات (الأعداد: 10633 ، 10634 ، 10635).
(13) كل هذا التخبط وقلب الحقائق لأجل أن يُخرج معاوية –رضي الله عنه – من الصحابة !! فرضي الله عن عدو الزيود معاوية! الذي لازال يغيظهم ويحنقهم إلى اليوم.
(14) توفي عام 1349هـ ، وله ترجمة في كتاب (أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث) لأحمد تيمور باشا (ص 350-354)، وللمالكي ولع غريب بأفكار هذا العلوي المتشيع ، الذي يصدق فيه ما قاله الشوكاني في كتابه أدب الطلب ( ص 40 ) عن العلوية – وهو خبير بهم – : ( وغالب العلوية شيعة ) !(65/30)
(15) قال الشيخ ابن باز – رحمه الله – في مجموع فتاواه (18/435): "ومن هذا الباب ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، فإن المصيب عند أهل السنة هو علي ، وهو مجتهد وله أجران ، ومعاوية ومن معه مخطئون وبغاة عليه ، لكنهم مجتهدون طالبون للحق ، فلهم أجر واحد ، رضي الله عن الجميع". قلت: ومما يشهد لمذهب أهل السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - عن الخوارج "يقتلها أقرب الطائفتين من الحق" أخرجه مسلم ، فالجميع يريد الحق.
(16) يقول البعض بأنه – أرداه الله – يتدين بلعن معاوية – رضي الله عنه -! اتباعاً لإخوانه الروافض ومن تابعهم كابن عقيل ، وهذه لم يظهرها بعد!.
(17) ديوانه (ص 293).
(18) الأولى أن يقال: رضي الله عنه.
(19) أي المعتزلة! لأنهم يقولون بما يسمونه العدل ، وهو أن الإنسان يخلق أفعاله ، وتغلب مشيئته مشيئة الله ! والعياذ بالله. (انظر : المعتزلة وأصولهم الخمسة ، للدكتور عواد المعتق) ، وانظر: رسالة (تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة) لعبد اللطيف الحفظي ، لتعلم كيف أثر المعتزلة في الزيود ! فأصبحوا ينتسبون لمذهبهم (أهل العدل).
(20) وأعتمد هنا على طبعة عام 1342هـ الخاصة بالشيخ محمد بن مانع – رحمه الله – وهي محفوظة في مكتبته الخاصة بمكتبة الملك فهد بالرياض. وعليها تعليقات موجزة للشيخ يرد فيها على دعاوى هذا لحضرمي ، ومنها أنقل. ومن الطريف أن ابن عقيل هذا قد ذم الإباضية في كتابه وتهجم عليهم بأشد العبارات ، مما حدا شيخهم إبراهيم اطفيش أن يؤلف رداً على كتاب ابن عقيل سماه ( النقد الجليل للعتب الجميل ) ، فتحقق فيهما قول الله تعالى : (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) !(65/31)
(21) ومن العجائب - والعجائب جمة – أن المالكي يستدل كثيراً بأقوال الحافظ ابن حجر –رحمه الله – على أن شيخ الإسلام ابن تيمية فيه انحراف عن علي – رضي الله عنه -!! فكيف يكون هذا؟ وابن حجر –أيضاً – ناصبي على قول شيخك ابن عقيل!! وهذا من تخبطات القوم وغلوهم في البدعة ، فكل من لم يوافقهم على ذلك رموه بالنصب! وقائمتهم في هذا طويلة جداً ، ولعلي أذكر بعض من رموه بذلك في مقام آخر – إن شاء الله -.
(22) رضي الله عنهم !!
فتوى رقم 2143 بتاريخ 3/9/1395هـ.
(23) ممن رد على الفتوى النصيري السوري الهالك عبد الرحمن الخير في كتابه ( الرد على ابن باز) ! وقد قدم له الزيدي اليمني عبد الرحمن الإرياني { تشابهت قلوبهم } .
(24) طبع مكتبة اليمن الكبرى ، دون تاريخ.
(25) انظر رد الشيخ عبد الكريم الحميد على المالكي ، فقد بين جهمية الرجل.
(26) بل تجاوز هذا الأفاك إلى الطعن في سند كتاب (السنة) مدعياً أنه (مركّب مفتعل)! (تعليقه على كتاب ابن الجوزي ، ص 185) (وقد رد عليه الشيخ سليمان العلوان في الكشاف ، ص 31 وما بعدها).
(27) وقد أشار المالكي لهذا الكتاب في مذكرته عن العقائد (89-90).
(28) وكذا ليراجع كتاب الدكتور محمد سعيد القحطاني – وفقه الله – (الإعلام بنقد كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، ص 41-44) للرد على أباطيل النشار حول هذا الموضوع.
(29) سورة الأنعام ، آية 55.
(30) سير أعلام النبلاء 6/26.
(31) ميزان الاعتدال 1/426.(65/32)
(32) يقول الشيخ عبد العزيز العبد اللطيف: "حاول بعض الباحثين التشكيك في نسبة كتاب تاريخ الجهمية للمؤلف ، ولكن الباحث إبراهيم الحسن في رسالته للماجستير (القاسمي ومنهجه في التفسير ) بجامعة الإمام/ كلية أصول الدين – أثبت صحة نسبة الكتاب للقاسمي ، وذكر أن هذا الكتاب نشر في مجلة المنار في حياة المؤلف ، وربما أن حب القاسمي للتقريب والاتحاد بين الفرق الإسلامية هو الذي دفعه إلى ذلك ، لكنه أخطأ في سلوك هذا المسلك فغفر الله له"
(33) العجيب أن الهيتمي هذا كان من أشد أعداء الرافضة ! وألف في فضل معاوية – رضي الله عنه – رسالته (تطهير الجنان واللسان). ومع هذا فلم يستفد منه المالكي سوى طعنه في شيخ الإسلام !! فالمالكي كالذباب لا يقع إلا على القيح والصديد ! والعياذ بالله.
(34) وذلك في رسالتي (ابن حزم لم يكن ناصبياً ) ، وقد قدم لها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري بمقدمة مسهبة ، ولم تطبع بعد ، وقد ذكرت فيها كثيراً من أقواله - رحمه الله – تنقض هذه الفرية ، ومن أصرحها قوله في كتابه (الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل 4/214): " فإنا غير مُتَّهَمين على حط أحدٍ من الصحابة – رضي الله عنهم – عن مرتبته ، ولا على رفعه فوق مرتبته ، لأننا لو انحرفنا عن علي – رضي الله عنه – ونعوذ بالله من ذلك ، لذهبنا فيه مذهب الخوارج ، وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب ، ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة ، وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الإفك في التعصب ، فصار غيرنا من المنحرفين عنه ، أو الغالين فيه هم المتهمون فيه ، إما له وإما عليه".(65/33)
تحتوي على :
من هو (ابن عقيل) الذي سرق منه المالكي أكثر أفكاره ؟
مقارنة بين ما جاء في كتبه وما جاء في أبحاث المالكي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. كنت قد كتبت رسالة قبل مدة بعنوان (سرقات حسن المالكي) ونشرتها على شبكة الإنترنت مساهمة مني في التصدي لرجل طالما لبس على شباب هذه البلاد ومثقفيها بدعاوى النقد العلمي وإنقاذ التاريخ الإسلامي مما علق به من أكاذيب وأباطيل، فراجت دعوته تلك بين البعض انخداعاً بأول أمره حيث ولج عليهم من باب أهل الحديث والتثبت! لكن الله -عز وجل- لم يمهله طويلاً بل كشف لنا خبيئته وأبان عن ضغينته لأهل السنة مصداقاً لقوله (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) فسقط القناع عن وجهه المتخفي؛ فإذا به أحد الشيعة الزيود المتسترين بيننا، ممن أشربت قلوبهم حب البدعة ونشأوا عليها، فصعب عليهم الإنفكاك منها، لا سيما إذا صاحب ذلك عقد نفسية أو اجتماعية تذكي تلك البدعة وتزيد من أوارها.
عندما قرأ بعض المحبين تلك الرسالة وما جاء فيها من ترديد المالكي لأفكار المدعو (ابن عقيل) تساءلوا كثيراً عن هذا الرجل (ابن عقيل) الذي لم يعرفه أكثرهم إلا قريباً وودوا لو يعرفون شيئاً عن تاريخه وكتبه، لا سيما وهو -كما ثبت لديّ يقيناً- عمدة المالكي الأولى في ما يردده من أفكار يتلقفها ثم يعيد صياغتها وطرحها بما يناسب عصرنا .
لهذا أحببت أن أعود لتلك الرسالة وأزيد فيها ما استجد لديّ مما يتعلق بموضوعها (سرقات المالكي) مع تعريف أكثر بابن عقيل وشيء من كتبه وأفكاره التي يتابعه عليها ظله المالكي. ورأيت نشر هذه الزيادات كملحق أو تتمة لرسالة (السرقات) .(66/1)
أسأل الله أن ينفع بما كتبت، وأن يهدي ضال المسلمين ويردهم إلى الحق، ويجعلهم من أنصار دينه، وما ذلك على الله بعزيز. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
-ذكر الأستاذ أحمد تيمور باشا ترجمة لابن عقيل في كتابه (أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث) ([1]) قال في أولها بأنه وقف عليها بخط ابن عقيل. فلنستمع لما يقوله ابن عقيل عن نفسه، ثم لنر ما قاله فيه غيره .
قال أحمد تيمور : "هو محمد بن عقيل بن عبد الله صاحب البقرة، ابن عمر بن أبي بكر بن طه بن محمد بن شيخ بن أحمد بن يحيى بن حسن الأحمر، ابن علي العناز بن علوي ابن محمد مولى الدويلة، ابن علي بن علوي بن محمد الفقيه المقدم، ابن علي بن محمد صاحب مرباط، ابن علي خالع قسم، ابن علوي بن محمد بن علوي بن عبد الله ابن المهاجر أحمد، بن عيسى بن محمد بن علي العريضي، ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وأحمد بن عيسى هو أول من سكن حضرموت من العلويين، هاجر إليها من البصرة سنة 317هـ وترجمته وترجمة المذكورين من آباء المعرف به مشهورة، وكثير من أمهاتهم وأمهاتهن معروفة أنسابهن، واللاتي تعرف سلسلة اتصالهن بالزهراء منهن نحو سبعمائة، رحمهم الله تعالى.(66/2)
ولد محمد بن عقيل بحضرموت بقرية مسيلة آل شيخ، ونشأ بها. وكانت ولادته ضحى يوم الأربعاء ليومين بقيا من شهر شعبان سنة 1279هـ الموافق 18 فيبرواري (فبراير سنة 1863م). وكان والده السيد عقيل من أشهر أعيان حضرموت نفوذاً وعلماً، وأكثرهم سعياً في إصلاحها، وبنفوذه ونقوده وجده تم ما ابتدأ فيه والده السيد عبد الله من طرد يافع من قلب حضرموت وتأمير آل كثير عليها، وكسر الجيوش التي جلبها يافع من الهند واليمن لأخذ الثار. وقد بدأ إقامة سد مهم لري قسم كبير من حضرموت، فمات قبل إتمامه، وأجرى عيوناً بجوار قرية ساة، واقتنى كتباً جمة جلها مخطوطة وبعضها من أقدم ما طبع، ولم تزل محفوظة في مكتبته الحافلة بشتى العلوم والفنون والآداب.
ووالد السيد عقيل هذا هو السيد عبد الله المشهور في الحجاز واليمن والهند وجاوة بصاحب البقرة. وقد ترجم له أكثر من واحد، وهو أحد الأعلام الجامعين بين العلم والعمل الساعين في إصلاح البلاد، وله عدة رسائل وفتاوى معتمدة نافعة، وجمع مكتبة مخطوطة لم تزل بقيتها أكبر مكتبة معروفة بحضرموت.
ووالدة محمد المذكور هي الزهراء بنت العلامة السيد عبد الله بن الحسين ابن طاهر، وإليه وإلى أخيه أمير المؤمنين بحضرموت (ولم يدع بهذا اللقب بحضرموت غيره) وإلى ابن شقيقتهما السيد عبد الله صاحب البقرة ينتهي إسناد الحضارمة في العلوم الشرعية.(66/3)
وبعد بلوغ محمد هذا ست سنين، جلب له والده من يعلمه القراءة والكتابة في بيته حفظاً له من الاختلاط بالناس، وفي بضعة أشهر ختم قراءة القرآن الكريم في المصحف. ثم حفظ عدداً من مختصرات المتون في العربية وغيرها، مع أكثر من ربع كتاب الإرشاد في الفقه، والملحة، ونظم القواعد الفقهية، وبعض دواوين الشعر وأكثر مقامات الحريري وغير ذلك. وقد لازم والده إلى وفاته، وقرأ عليه وانتفع به، وحضر دروس عمه السيد محمد بن عبد الله نحو سنة، وانتفع كثيراً من العلامة الأوحد الجليل السيد أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين، في أوقات متفرقة قضاها في رعايته بحضرموت وجاوه والهند.
وقد احتاج للرحلة عن وطنه صغيراً لوفاة والده السيد عقيل سحر ليلة الأربعاء لثلاث بقين من صفر سنة 1294هـ عن أقل من 45 عاماً. فسافر في صفر سنة 1296هـ من وطنه بعد أن تزوج فيه بنت السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى العلوي أكبر علماء جاوه ومفتيها الأكبر، فوصل سينغافورة منتصف ربيع الأول سنة 1296هـ، ودخل جزيرة جاوى، واشتغل في بعض نواحيها وفيما جاورها بالتجارة وبالزراعة وبالتصدير، فكانت له صلات تجارية واسعة الأطراف، بجهات متعددة في الصين واليابان وجزائر الفلبين وسومطرة وغينيا الجديدة والهند والسند وبرما وسيلان واليمن والحجاز ومصر والشام والعراق والآستانة والأناضول وبعض أوربا. وله معارف ببعض تلك النواحي وأصحاب. ورحل وساح في الكثير من هذه الأصقاع، وكرر زيارة بعضها، وأقام مدداً في بعضها كالصين واليابان والحجاز والهند وسومطرة وبعض عواصم أوربا. وحضر معرض باريس سنة 1900م. ثم عاد إليها بعد ذلك. ولم تكن له معرفة بغير اللغة العربية ولغة ملايو، ويفهم قليلاً من لغة أردو الهندية، وما لا يذكر من لغات أخرى، وقيد فوائد متعلقة بتلك السياحات في مدة أكثر من أربعين سنة في مسودات لم تبيض ضاع بعضها.(66/4)
ثم طاف في حضرموت وغيرها منقباً عن آثار الأقدمين. وعرف كثيراً من أمراء جزيرة العرب، وكبرائها وعلمائها، ومن جهات أخرى. وانتفع بكثير من العلماء والصالحين، وحضر دروس معظمهم، وقرأ على بعضهم رسائل ومختصرات وأوائل كتب كالأمهات، وأجازه كثير منهم بمروياتهم، كما أجازه بعض من لم يتيسر له ملاقاته، كالشيخ البركة محمد العرب نزيل المدينة، وأرسل له لباساً مع الإجازة، ومنهم الحافظ الجليل محدث اليمن الشيخ حسين بن محمد السبعي اليمني نزيل بهوبال بالهند، وقد ذكر طرقه وأسانيده في إجازاته .
وممن أجازه مشافهة العلامة الصوفي السيد المحسن بن علوي بن سقاف السقاف، وبقية السلف السيد محمد بن إبراهيم بلفقيه، والمعمر الصالح العابد السيد شيخ بن عمر السقاف، والجهبذ العلامة السيد أحمد بن محمد المحضار، والبارع المحقق المتفنن علامة العصر السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين، والحافظ الجليل الإمام السيد أحمد بن حسن العطاس الضرير، والعلامة البركة السيد علي بن محمد الحبشي، وأنموذج الأسلاف شريف الأوصاف الورع الزاهد العلامة السيد عيدروس بن عمر الحبشي، والصالح البركة السيد أحمد بن عمر العيدروس نزيل سورات بالهند، والعابد الناسك السيد المحسن بن عمر العطاس نزيل باروده بالهند، وقد ألبسه كل هؤلاء خرقة الصوفية (!!)
وممن أجازه وألبسه خرقة التصوف علامة المدينة الشيخ حبيب الرحمن الدكني الهندي، وممن أجازه العلامة المحدث السيد محمد مظهر المدني.
وحصلت بينه وبين كثير من الفضلاء محبة ومكاتبة، ومباحثة ومراجعة، وحبب إليه ربه المطالعة في الكتب النافعة، فكانت هي السمير والرفيق، والتقط من بحرها فرائد فوائد أورد كثيراً منها فيما جمعه من الرسائل والكتب التي يشتغل بكتابتها في ساعات الراحة.(66/5)
وكان جل إقامته وتجارته في جزيرة سينغافورة. وفي سنة 1338هـ، أرسل بعض أفراد أسرته إلى مكة المكرمة، ثم في سنة 1339م أرسل من بقي منهم مع حاشيته، ثم لحق بهم فيها، وأقام بها ستة أشهر، ثم رحل بجميع أهله ومن معه من الحجاز في صفر سنة 1340هـ إلى المكلا أسكلة حضرموت، وهو الآن([2]) بها، وفقه الله لما به يرضى عنه، بمنه وكرمه. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله". ا هـ
-وقال عنه صاحب (الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية): "السيد !! محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي الحسيني الحضرمي.
ولد سنة 1279هـ-1863م في حضرموت. أخذ عن كثير من علماء عصره منهم السيد أبو بكر بن شهاب، والسيد علوي بن طاهر الحداد، والسيد عيدروس، وسافر إلى اليمن، وزار شيخ الإسلام الحسين العمري، واستجاز منه فأجازه، وهو أول من أسس مدرسة عربية في جاوه. هاجر من وطنه إلى جاوه سنة 1296هـ.
وكان عارفاً بفنون كثيرة، مطلعاً على أحوال الدول والشعوب، وزار كثيراً من البلاد العربية .
توفي سنة 1350هـ-1931م بالحديدة .
مؤلفاته :
النصائح الكافية لمن تولى معاوية .
العتب الجميل على علماء الجرح والتعديل .
ثمرات المطالعة .
أحاديث المختار في معالي الكرار .
تقوية الإيمان برد تزكية ابن أبي سفيان .
الحاكم في النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم.
الهداية إلى الحق في الخلافة والوصاية .
رسالة في الرد على منهاج السنة .
رسالة في تحقيق مقام الخضرية .
رسالة في إيمان أبوي النبي .
مذكرات علمية في (7) أجزاء .
وله مؤلفات أخرى غير ذلك .
المصادر : تحفة الإخوان في سيرة شيخ الإسلام الحسين بن علي العمري". ا هـ
-وقال عنه جمال الدين القاسمي –رحمه الله- : "محمد بن يحيى بن عقيل أحد المقيمين في سنغافورة للاتجار والاشتغال بالعلم، وهو حضرمي علوي، إلا أنه يتشيع بغلو، مع أنه على مذهب الشافعي"([3]) !(66/6)
-وقال عنه الزركلي في الأعلام ( 6/269) : ( كان شديد التشيع ، له كتب منها : "النصائح الكافية " تحامل فيه على معاوية بن أبي سفيان ونال منه).
-وقال عنه الأستاذ محمد بن ناصر العجمي –وفقه الله-: "هو محمد بن عقيل، من الزيدية، مع تشيع ظاهر، وعدوان سافر على الصحابي كاتب الوحي وخال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان. وقد حاول أن يظهر ويدعي الإنصاف، وأنه من محبي الأثر مصانعة للشيخ جمال الدين القاسمي وغيره من علماء العصر، وهو مؤلف "العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل" الذي خالف فيه السبيل، كما كان يرى إسلام أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وأنه صحابي! إلى غير ذلك من الآراء، مع صحبته لأحد كبار الشيعة، وهو محسن الأمين([4]). توفي سنة (1350هـ) ". ا هـ([5])
-وقال عنه الدكتور يعقوب الحجي : "نشأ أول أمره على المذهب الشافعي، لكنه تركه بعد ذلك وأخذ بمذهب العترة أو آل البيت، أو مذهب الزيدية. ولقد حاول إقناع شريف مكة الملك حسين بالعمل على نشر هذا المذهب في الحجاز، كما يذكر السيد رشيد رضا، ولكنه لم يفلح في ذلك. كما
حاول السعي لتقرير هذا المذهب في الأزهر فلم يقبل ذلك منه. ولقد دفعه تعصبه لآل البيت إلى نشر كتابه المشهور "النصائح الكافية"). ا هـ([6])
إذاً فابن عقيل (العلوي) ! كان يدعي الانتساب لمذهب الشافعي ثم تركه ولحق بمذهب (الزيود) المتأخرين ممن لا يتورعون عن التهجم على الصحابة وسبهم، وفي مقابل ذلك يغلون في علي –رضي الله عنه- ويفضلونه على الشيخين –رضي الله عنهما-. ولهذا نعلم سرَّ تهالك المالكي على كتب هذا الرجل وإعجابه بها، فقد وافق شن طبقه! والتقى الاثنان على الزيدية والترويج لها بين السنة. ذاك بين الشافعية، وهذا بين من يسميهم الحنابلة([7]).
-اشتهر الزيدي المخذول (ابن عقيل) بتأليف ثلاثة كتب أثارت ضجة عليه من قبل العلماء؛ لأنه جنح فيها عن مذهب أهل السنة إلى مذهب أعداء الصحابة من الزيود والروافض.(66/7)
الكتاب الأول: "العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل"
وملخصه : الحمل على أهل الحديث واتهامهم بالنصب، وأنهم متحاملون على من يسميهم شيعة أهل البيت، يجرحونهم لأدنى سبب، ويتهمونهم بالبدعة، بخلاف موقفهم من الرواة الآخرين من غيرهم !
وقد نقلت شيئاً من أقواله التي تدل على هذا في رسالة (سرقات حسن المالكي) ([8])؛ لأن المالكي (كالمعتاد!) قلده في هذا الاتهام لأهل الحديث، انتصاراً منهما لمذهبهما الزيدي الذي من خالفه يرميانه بالنصب ودعوى بغض أهل البيت.
الكتاب الثاني: "النصائح الكافية لمن يتولى معاوية" وهو من أقبح كتبه، زعم الضال فيه أنه يرد على من يترضى عن معاوية –رضي الله عنه- أو يتوقف في جواز لعنه !!
قال الدكتور يعقوب الحجي: "وهو كتاب أثار ضجة؛ لما فيه من دعوة صريحة للتشيع والفتوى بجواز لعن معاوية"([9])
-لما ألف الزيدي ابن عقيل كتابه (النصائح الكافية) ضج العلماء (سنيهم وأشعريهم) من صنيعه هذا، وقام بعضهم بالرد عليه وتفنيد شبهاته. وممن رد عليه:
أحد الحضارم؛ واسمه حسن بن علوي بن شهاب بكتاب سماه (الرقية الشافية من مضار النصائح الكافية). ([10])
الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه (نقد النصائح الكافية) الذي طبعه الوجيه السلفي محمد نصيف عام 1328هـ في مطبعة الفيحاء بدمشق.
قال الألوسي عن هذا النقد: "رأيته نقد ناقد بصير، وتعقب معقب خبير، فيه شفاء الصدور، ونفثه المصدور"([11])
وقد أجاد القاسمي –رحمه الله- في نقده للنصائح، إلا أنني أراه قد ألان الجانب مع هذا الزيدي، وتلطف معه كثيراً، وأوهم القارئ بأن مسألة لعن معاوية –رضي الله عنه- فيها خلاف!! محتجاً بأقوال ابن أبي الحديد في نهج البلاغة وغيره من أهل البدع! (انظر ص 4 من كتابه وما بعدها) .
3-الشيخ عبد العزيز الرشيد، مؤرخ الكويت الشهير، حيث ألف رداً على (النصائح) بلغ –كما يقول- "نحواً من ثلاثة وخمسين كراساً"([12])(66/8)
لكن قال الأستاذ عدنان الرومي عن هذا الكتاب بأنه : "ظل مخطوطاً إلى أن فقد" ! ([13])
وذكر الدكتور يعقوب الحجي([14]) أن الشيخ عبد العزيز الرشيد قد نشر حلقة واحدة من كتابه في العدد التاسع من مجلته (الكويت والعراقي). وكان قد نشر في العدد الثامن من المجلة قوله:
فضائح جاءت في كتاب النصائح
ولابن عقيل (أجر) تلك الفضائح
ألم تره قد قام يدعو بهمة
إلى خطة محفوفة بالقبائح
4-تبرأ بعض العلويين الحضارم من كتاب ابن عقيل؛ كما ذكر ذلك الشيخ عبد العزيز الرشيد؛ كإبراهيم السقاف، وعبد الرحمن الكاف، وغيرهما. ([15])
5-كان صاحب جريدة (الهدى) بسنغافورة: الجيلاني، يصف ابن عقيل بعد إصدار كتابه بأنه "مجوسي وملحد ورافضي"!([16])
ملخص هذا الكتاب: متابعة المؤلف لأسلافه من الروافض في الطعن في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه-، مع ذكر –كما يقول المخذول- "بوائقه العظيمة المدخلة له في زمرة من استحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" !!! (ص 15). والرد على ما يسميه شبهات من يترضى عنه أو يتوقف في لعنه!
ولما أورد عليه بعضهم أن معاوية وعمراً وغيرهم ممن اختلف مع علي -رضي الله عنهم جميعاً- لهم عبادات وصلوات، قال متألياً على الله : "لا أخال أنه ينفعهم شيء من ذلك" !! (ص 80)، أسأل الله أن يغفر لهم ويُحبط عملك! مصداقاً لحديث المتألي على الله –عز وجل- .(66/9)
-من أشنع ما ذكره هذا (الرافضي) في كتابه هذا غير لعن معاوية –رضي الله عنه- : اتهامه الصحابية هند بنت عتبة أم معاوية –رضي الله عنها- بالزنا!!! ولمزه لمعاوية –رضي الله عنه- بأنه ولد زنا !!! والعياذ بالله (انظر : ص 82-83 و110 من كتابه) وعمدته في هذا القذف أبيات زعم الرواة أن حسان بن ثابت –رضي الله عنه- قالها في هجاء هند يوم أحد قبل أن تسلم. وهذه الأبيات ذكرها ابن اسحق في سيرته (نقلاً عن سيرة ابن هشام 3/92-93) بسند منقطع، قال: حدثني صالح بن كيسان أنه حُدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان بن ثابت: يابن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها قائمة على صخرة ترتجز بنا وتذكر ما صنعت بحمزة ... " الخ، يغريه على هجائها، فقال تلك الأبيات المزعومة. وهذا كما تراه سند منقطع لا أظنه يخفى على من يدعي إنقاذ التاريخ الإسلامي من الروايات الساقطة !!
وعن ابن اسحق نقلها (الشيعي) الآخر: أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني (15/154)
فانظر مبلغ الفجور في الخصومة ورقة الدين، والحقد الأعمى على صحابة خير البشر –صلى الله عليه وسلم-، حيث لا يبالي معه بقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
فهل يليق بمسلم يخشى الله أن يقذف مسلمة (فضلاً عن صحابية) بمثل هذه الحكايات والأشعار؟! إلا أن يكون صاحب هوى وحامل غل ومروج إفك؟! متغافلاً عن قوله تعالى في أمثاله (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) .
أولم يدر هذا الرافضي أن هنداً –رضي الله عنها- هي صاحبة الكلمة الشهيرة التي أصبحت شعاراً لمن أتى بعدها من الصالحات : "أو تزني الحرة يا رسول الله" ؟!([17])(66/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- عن هند –رضي الله عنها-: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها، والإسلام يجب ما قبله" (منهاج السنة 4/474) .
وقد أخرج البخاري (3825) واللفظ له ومسلم (12/9 بشرح النووي) قولها للنبي صلى الله عليه وسلم : "يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك. ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يعزوا من أهل خبائك" فقال لها صلى الله عليه وسلم : "وأيضاً والذي نفسي بيده" . قال النووي "أما قوله صلى الله عليه وسلم: وأيضاً والذي نفسي بيده، فمعناه: وستزيدين من ذلك ويتمكن الإيمان من قلبك، ويزيد حبك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويقوى رجوعك عن بغضه" (شرح مسلم 12/9).
وقال الحافظ ابن حجر تعليقاً على الحديث السابق: "وفي الحديث دلالة على وفور عقل هند وحسن تأتيها في المخاطبة، ويؤخذ منه أن صاحب الحاجة يستحب له أن يقدم بين يدي نجواه اعتذاراً إذا كان في نفس الذي يخاطبه عليه موجدة، وأن المعتذر يستحب له أن يقدم ما يتأكد به صدقه عند من يعتذر إليه؛ لأن هنداً قدمت الاعتراف بذكر ما كانت عليه من البغض؛ ليعلم صدقها فيما ادعته من المحبة، وقد كانت هند في منزلة أمهات نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان" . (فتح الباري 7/175-176)
-بقي أن تعرف أيها القارئ أن هذا العلوي المتشيع (ابن عقيل) قد استقى قذفه لهند –رضي الله عنها- بالزنا من إخوانه الرافضة الذين ارتضى مذهبهم، وهم الذي يقول قائلهم محمد باقر الحائري –قبحه الله-:
فما ادعوا في ابن البغي هند
من أنه تاب فغير مجد
قال محمود شكري الألوسي –رحمه الله- رداً على هذا البيت الشنيع: "اخسأ يا عدو الله ورسوله، أنت وإخوانك الشياطين، فقد بؤتم بغضب الله ومقته وخرجتم من طريقة المسلمين:
ماذا تقول من الخنا وتردد
والمرء يولع بالذي يتعود(66/11)
أتظن يالعين، يا حطب سجين، أن كل الناس كالروافض أولاد متعة وزنا، ومنشؤهم من الفواحش والخنا ؟! كلا ما شارككم في ذلك أحد، ولا ضاهاكم فيما هنالك إلا من كفر وجحد ... .. الخ" (صب العذاب على من سب الأصحاب، ص403-404) .
فلا أدري بعد هذا : هل يتابع المالكي شيخه ابن عقيل في هذا الافتراء، والقذف، أم يخالفه؟! ذلك ما ستبديه لنا الأيام:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم !
وهذا ما عودنا عليه المالكي في تدرجاته ! أو تدركاته !
ما الذي أخذه المالكي من هذا الكتاب ؟
فيما يلي أعرض لأبرز الأفكار التي أخذها المالكي من كتاب (النصائح الكافية) لشيخه ابن عقيل، ثم أصبح يرددها في أبحاثه وكأنه السابق إليها .
الطعن في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- . وهذا ما خط ابن عقيل كتابه لأجله، وهو ما يردده المالكي في أبحاثه . وقد ذكرت بعض نقولاته في السرقات.
يقول المالكي في (هامش ص 51 من مذكرة الصحابة، وهي محذوفة من المطبوع!): "وقد ذهب إلى جواز لعنه –أي معاوية رضي الله عنه- من العلماء المتأخرين: محمد بن عقيل، وهو عالم سني! في كتابه: النصائح الكافية)
ولعل المالكي بهذا يمهد للتصريح بجواز لعنه ! وهو ما يتناقله البعض عنه ولما يصرح به بعدُ. وإن غداً لناظره قريب !
لا يمل المالكي من اللمز في أبي سفيان –رضي الله عنه- والد معاوية! وأنه مشكوك في إسلامه !! وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطمئن لقلبه !!
يقول المالكي : "أبو سفيان لم يكن من أعداء علي بن أبي طالب، وإنما كان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أو يتظاهر بالإسلام" (مقالاته عن النواصب في موقع الواسطية). (وانظر: الصحبة والصحابة: ص 193) .
كل هذا لأجل أنه والد معاوية –رضي الله عنهما- !(66/12)
أما ابن عقيل فقد شكك في إسلام أبي سفيان ثم ختم تشكيكه بقوله : "ومن هنا تعلم أن أعمال أبي سفيان كلها ناشئة عن ضغائن جاهلية، وأحقاد أموية، وأوتار شركية" ! (ص 81 وما قبلها) .
وقارن يا محب الصحابة هذه الأقوال الحاقدة على أبي سفيان –رضي الله عنه- بقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في رده على الرافضي ابن المنجس الذي ذم أبا سفيان وزوجه بما عملاه في الجاهلية!! فقال شيخ الإسلام: "كان هذا قبل إسلامهم، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها، والإسلام يجب ما قبله، وقد قال الله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) " (منهاج السنة 4/474)
ويشهد لهذا ما أخرجه ابن سعد (قال الحافظ في الإصابة 5/129 بإسناد صحيح): "عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل يقول: يا نصر الله اقترب. قال: فنظرت فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد".
فكيف يتعلق ابن عقيل وتابعه المالكي في سبيل الطعن بهذا الصحابي بالروايات الساقطة المكذوبة المنقولة عن كتب منحولة أو لا قيمة لها؛ كالأغاني والإمامة والسياسة ونحوها ويدعان هذه الرواية الصحيحة ؟! ولكن: لهوى النفوس سريرة لا تعلم.
كثيراً ما يردد المالكي في أبحاثه بأنه يريد للمسلم أن يكون وسطاً بين من يسميهم غلاة أهل السنة من النواصب! وغلاة الشيعة، ففي ظنه أن الأولين انحرفوا عن أهل البيت، والآخرين انحرفوا عن المهاجرين والأنصار: (انظر مثلاً: قراءة في كتب العقائد ، ص 171) .
والحل في نظره أن تعتدل الطائفتان، ويجتمعان على حب أهل البيت وحب المهاجرين والأنصار. ويتفقان على بغض معاوية –رضي الله عنه- ومن معه !!!
فهو بكل وضوح –كما سبق- يقول للرافضة ولأهل السنة كونوا زيدية مثلي ومثل ابن عقيل ليتحقق فيكم العدل والإنصاف !! أما بغير هذا فأنتم مجرد غلاة .(66/13)
أما ابن عقيل فاسمع قوله الشبيه بما يردده تلميذه (الروحي) المالكي. يقول ابن عقيل : "يقول أقوام: الخوض في هذا المقام يوجب التفريق بين أهل القبلة ويورث العداوة والبغضاء بينهم. وأقول إن التمويه والمخالطة بوضع الباطل موضع الحق هو الموجب للتفريق، والإنصاف والإذعان للحق بأدلته الواضحة هو من موجبات التوفيق فإن كل مؤمن بل وكل عاقل يجب أن يكون ضالته الحق حيث كان، إنا لم نكتب ما كتبناه عن حالات معاوية وأشياعه وأتباعه في هذه العجالة إلا بياناً للحق وتذرعاً إلى التوفيق بين الفرق المتضاغنة من الأمة المحمدية المختلفة في المشرب والذاهب بكل منها تعصبه لفرقته في البعد عن الأخرى شوطاً بعيداً، فإذا تقهقر أصحابنا أهل السنة عن ما توغلوا فيه حتى تجاوزوا الحد من تعظيم من ليس حقه التعظيم وتبرئة من براءته من الفسق تكاد تكون كذباً صراحاً وافتياتا على الله وإظهار مودة من حاد الله ورسوله من المسيئين صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمحدثين الأحداث القبيحة بعده إلى الاعتراف بأنهم ظالمون فساق بغاة قاسطون كما ذكر الله يستحقون ما يستحقه الفسقة من الرفض والبغض والمقت، وتقهقر غلاة الشيعة عن توغلهم وغلوهم في الطرف الآخر من ذم وسب من لا يستحق إلا المدح والإجلال والتوقير والتعظيم من كبار أصحاب نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم واعترفوا بسوابقهم الحسنة وفضائلهم؛ لاتفقنا نحن وإياهم في نقطة هي والله مركز الحق ومداره، ونزع من الطائفتين وغر القلوب وغل الصدور وذهبت نزغات الشيطان من بينهم وتحققت فيهم بأكمل معانيها أخوة الإيمان، ولكن الآفة كل الآفة والمصيبة كل المصيبة هو التعصب المذهبي والتقليد الصرف فإنه هو الذي يعمي البصائر عن الاستضاءة بأنوار الأدلة الواضحة ويصم الآذان عن استماعها". فتأمل المشابهة !(66/14)
4-أقام المالكي بحثه (الصحبة والصحابة) للتفريق بين ما يسميه الصحبة الشرعية والصحبة اللغوية (وكل هذا اللف والدوران ليخرج معاوية –رضي الله عنه- من الصحابة !! ليسهل عليه بعد ذلك دعوة الناس للعنه ! وهو ما لم يصرح به إلى الآن كما سبق). وكثيراً ما يردد المالكي بأن معاوية –رضي الله عنه- ولو ثبتت صحبته، فإنه من التابعين (بغير) إحسان !
وقد نقلت أقواله في (السرقات)، وذكرت أن ابن عقيل أحد من ردد هذا التفريق المزعوم في رسالته (العتب الجميل) .
وأما هنا : فوجدت ابن عقيل يردد (بوضوح) نفس الفكرة في كتابه (النصائح الكافية). فإليك إياه لتقارن بينه وبين أقوال المالكي: يقول ابن عقيل ذاكراً ما يسميه شبهات من يترضى عن معاوية –رضي الله عنه- :
"الشبهة الأولى : وهي أعظم الشبه القائمة عند تلك الفرق المتوقفة عن القول بجواز لعنه وسبه ووجوب بغضه، وربما استحسنت بسببها تسويده والترضي عنه تعظيماً له، وهي الأمر الذي دندن حوله أنصار معاوية وبنوا عليه العلالي والقصور، وزاد الطنبور نغمة والطين بلة اصطلاح أكثر المحدثين والأصوليين على أن الصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً ومات على الإيمان، وقول الكثير منهم بعدالة من سموه بهذا المعنى صحابياً ولو شرب الخمر وقتل النفس وزنى وسرق وأكل أموال الناس بالباطل وحاد الله ورسوله وعاث في الأرض فساداً وارتكب كل كبيرة، وأوجبوا تأويل سيئاتهم وحملها على محمل حسن
إذا قلت فاعلم ما تقول ولا تكن كحاطب ليل يجمع الدق والجزلا(66/15)
وها أنا أبين لك معنى الصحبة لغة وعرفاً وأذكر ما يترتب عليها من فضل وحكم وأقرر من كتاب الله تعالى وحديث نبيه عليه وآله الصلاة والسلام بطلان ما عللوا به تعديلهم من ارتكب الكبائر ممن سموه صحابياً، وأكشف لك الغطاء عما ستره الكثير من أن معاوية عار عن الفضائل الواردة عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل أصحاب محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام حتى يعرف الحق طالبه .
فأقول: الصحبة لغة هي المعاشرة قال في القاموس ... . -إلى أن قال-: ويعلم مما ذكرنا أن مجرد الصحبة لغة لا يختص بمسلم ولا بكافر وأن الربح والخسران للمسلم في صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في إحسان الصحبة وإساءتها، والصحبة النافعة ما قارنها التعظيم والانقياد له صلى الله عليه وآله وسلم والحب والاتباع كصحبة العشرة المبشرة والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ومن أحسن إحسانهم" (النصائح الكافية، ص 126-127) .
وقال في (ص 130) : "أما ما ذكره أكثر المحدثين والأصوليين من اشتراط الإيمان في اسم الصحابي وموته عليه فذاك اصطلاح خاص لهم.." !
5-دائماً ما يردد المالكي بأن أهل السنة (أهل الحديث خاصة) متحاملون على علي –رضي الله عنه- وعلى أهل البيت ! وقد ذكرت شيئاً من أقواله في (السرقات). وهو نفس ما يردده ابن عقيل في (العتب الجميل) وفي كتابه هذا؛ (تشابهت قلوبهم) .(66/16)
يقول ابن عقيل (ص 190 وما بعدها) متشكياً وكاذباً على أهل السنة: "يدعي أقوام كثيرون حب أهل البيت عليهم السلام وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أوصاهم به في حقهم ويتظاهرون بذلك وربما كتبوا فيه ما كتبوا، ثم تراهم يتهافتون تهافت الفراش على استخراج وتأييد ما أمكنهم أن يستنتجوا منه غمطا لفضيلة أو غضاً في منقبة جاءت في حق أحد من أهل البيت الطاهر؛ إما بإنكار الصحة أو تأويل معنى أو ادعاء وجود معارض أو ترجيح مرجوح أو دعوى إجماع لم يقع أو بلا مستند ونحو ذلك، تجد هذا كله في أكثر ما جاء في حقهم عليهم السلام. تأمل كل حديث ورد في فضل علي عليه السلام ولو كان بأعلى مراتب الصحة تجد التعليقات عليه والتأويلات لمعناه بما لا يطابق ظاهره في الغالب لكي يطابق ويوافق ما رسخ في أذهانهم مما اعتقدوه وجمدوا عليه، هذا إن سلم من دعوى وضعه أو ضعفه ولا تجد شيئاً من هذا في شيء من الأحاديث الواردة في حق غيره بل تجد الأمر بالعكس ... إلى آخر ما قال وافترى" .
6-بما أن المالكي زيدي المذهب فإنه يفضل علياً –رضي الله عنه- على أبي بكر وعمر وعثمان –رضي الله عنهم- متابعة منه لمذهبه. ولكن لكونه يعيش في وسط سني سلفي فإنه لم يشأ (إلى الآن!) أن يجهر بهذا التفضيل بين أهل السنة الذين سيستنكرون ذلك منه وتنكشف شيعيته بينهم، لذا لجأ إلى التمهيد لذلك (كما يمهد للعن معاوية –رضي الله عنه-!)، فهو يقول تعليقاً على قول إبراهيم النخعي : "من فضل علياً على أبي بكر وعمر فقد أزرى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار"([18]) يقول المالكي : ".. مع التحفظ على تشنيعه على من فضل علياً عليهما؛ فإن هذا قد فعله بعض السابقين من المهاجرين والأنصار ... " (مذكرة الصحابة، ص 52. وقد حذفه من المطبوع!! لأنه يناقض قوله).(66/17)
أما ابن عقيل (وهو –كما سيأتي- يدعي أنه أشعري!) يمهد لهذا التفضيل بقوله: "لا أخالك تجهل ما وقع من الخلاف بين الصحابة ثم التابعين ثم من بعدهم في الأفضلية بين أبي بكر وعمر([19]) وعلي –رضي الله عنهم- بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولسنا الآن –سواء كان معتقدنا هذا أو ذاك- بصدد تلك الأقوال أو نقدها، أورد كل منها إلى دليله ... " (النصائح الكافية، ص 192) (ويزعم كذباً في هامش ص 204 أن هذا مذهب الشافعي –رحمه الله- !!!)
ونحن بانتظار جهر المالكي بهذا التفصيل متابعة منه لمذهبه الزيدي، وأظن ذلك لن يتأخر كثيراً، لأن الرجل قد تململ من التقية !
7-يقول ابن عقيل في كتابه –والتعجب مني- (ص 194): "إننا أهل السنة ! نطالب غيرنا بالإنصاف، والمطالبة به من شأن طلاب الحق. فينبغي لنا أن نتحلى به تماماً حتى تقبل منا المطالبة به" .
ألا يذكرك هذا بأقوال المالكي الكثيرة في ادعائه الانتساب لأهل السنة، وأنه يطالب بالاعتدال بين غلو من يسميهم النواصب وغلوا الروافض؟!
8-يدعي ابن عقيل أنه من الأشاعرة، ويقول عنهم "أصحابنا" (ص 173). ومع هذا نجده يخالف عقيدة الأشاعرة في مسائل الصحابة والتفضيل بينهم. فالأشاعرة –كما هو معلوم عنهم- يترضون عن جميع الصحابة بمن فيهم معاوية –رضي الله عنه-([20])، ولا يفضلون علياً على الخلفاء الراشدين. يقول الشيخ عبد الرحمن المحمود في خاتمة رسالته (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) (3/1383) : "والأشاعرة موافقون لأهل السنة فيما يتعلق بالسمعيات؛ كالمعاد والحشر والحوض والصراط والجنة والنار وعذاب القبر ونحو ذلك، وكذلك في الإمامة والتفضيل وما يتعلق بهما" .(66/18)
وليس هذا موضع ذكر أقوالهم. فلما علم ابن عقيل أن هذا مذهب من يسميهم (أصحابه) هل تراه التزم به وأقلع عن ذنبه أم أنه تمادى في غيه ولم يرض بهذا المذهب الذي لا يوافق زيديته وتشيعه؟! للأسف فإنه قد اختار المنحى الثاني، حتى لو أداه ذلك إلى الطعن في مذهب أصحابه!! الذي يمنعه من سب معاوية -رضي الله عنه- ! بل وصل به الحال إلى الطعن في صاحب المذهب أبي الحسن الأشعري –رحمه الله- ! والطعن في أسلافه؛ كالصحابي أبي بردة الأشعري!!.
يقول المخذول (ص 205) عن مشايخه بأنهم : "أشعريون؛ بمعنى أن عقيدتهم في الغالب موافقة لما قرره أبو الحسن الأشعري –رحمه الله- في كتبه الكلامية، اللهم إلا في مسائل قليلة، وفي هنات جاءت عن الأشعري عفا الله عنه في حق علي ومعاوية، وما هي ببدع من الأشعريين" !ثم قال في الهامش نقلاً عن المؤرخ الشيعي المسعودي: "عن ابن عباس المنتوف قال: رأيت أبا بردة الأشعري قال لأبي الغادية الجهني قاتل عمار بن ياسر: أأنت قتلت عماراً؟ قال: نعم، قال: ناولني يدك. فقبلها وقال: لا تمسك النار أبداً" !!
وهذه رواية ساقطة لا عبرة بها، يكفي أنها من طريق المسعودي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: "كتبه طافحة بأنه كان شيعياً"([21])
ولقد شابه ابنَ عقيل في صنيعه هذا المبتدع الآخر عبد الله الحبشي الذي يدعي كابن عقيل بأنه أشعري العقيدة ثم تجده يخالف مذهبه في مسائل الصحابة! ولقد أجاد الدكتور سعد الشهراني في رسالته (فرقة الأحباش) عندما ألزم الحبشي بهذا التناقض "ليعلم مخالفة الأحباش لمن يزعمون الانتماء إليهم" (2/814-815 وما بعدها).
وفي ظني أن الذي سهل للاثنين (ابن عقيل والحبشي) هذه المخالفة لمذهب الأشاعرة في مسائل الصحابة ولحاقهما بمذهب الرافضة هو أنهما قد تلبسا بالتصوف، ومعلوم ما بين التصوف والتشيع من رابطة قوية لا تخفى على من تأمل تاريخ الفرقتين([22]) .(66/19)
أما المالكي فقد قال في مذكرته عن النواصب التي ينشرها في موقع الوسطية : "إنني أتهم أبا الحسن الأشعري بشيء من النصب" !
فقد تلاقى الثلاثة (ابن عقيل والحبشي والمالكي) في اتهام المذهب الأشعري بالنصب –إما تصريحاً أو تلميحاً- كل هذا لأجل أنه وقف عثرة أمام أهوائهم الشيعية.
9-يقول ابن عقيل في (ص 192) من كتابه : "لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحد من أصحابه –رضي الله عنهم- أنه صلى على الصحب تبعاً للصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، أو أمر بها، لا في الصلاة ولا خارجها، وإنما قاسها من بعدهم على الصلاة على الآل، والقياس الذي ذكروه فاسد ... الخ"
وقال المالكي في مقالاته عن النواصب في منتدى الوسطية: "لا يجد [هكذا، ولعلها يوجد] دليل واحد صحيح على شرعية الصلاة على الصحابة، فهذا من خصائص أهل البيت التي عممناها في الأمة ... الخ" فتأمل !
(فائدة) : يقول المالكي في مقالاته عن النصب في موقع الوسطية: "من دلائل النصب أننا نمسك عما شجر بين علي ومعاوية؛ لأن الأدلة والحق مع علي، بينما لا نمسك عما جرى بين عثمان والثوار، وفيهم صحابة أيضاً، بل نذم هؤلاء ونعتبرهم سبئية".
ويقول الرافضي محمد باقر الحائري عن قتال معاوية لعلي –رضي الله عنهما- :
ومن يقل عن اجتهاد كانا
لمْ لا يقل في قاتلي عثمانا !
(تشابهت قلوبهم) !
(انظر : صب العذاب على من سب الأصحاب، للألوسي –رحمه الله-، ص 413 وما بعدها. وقد أجاب عن هذه الشبهة الرافضية الزيدية!) .
الكتاب الثالث من كتب ابن عقيل التي أثارت ضجة: (تقوية الإيمان برد تزكية معاوية بن أبي سفيان) وقد ألفه –كما يزعم- رداً على من دافع عن الصحابة –رضي الله عنهم- ومن ضمنهم معاوية –رضي الله عنه- . وردد فيه أفكاره التي كان أعلنها في كتابه (النصائح الكافية)، وهي :
الطعن في معاوية –رضي الله عنه- (ولأجل هذا صنف كتابه).(66/20)
التفرقة بين الصحابة؛ من أحسن منهم ومن أساء (ص 17 وما بعدها).
أن تفضيل علي على الشيخين –رضي الله عنهم- مختلف فيه! (ص 57-59).
نقد علماء المذهب الأشعري الذي يدعي الانتماء إليه، وعلى رأسهم ابن حجر الهيتمي صاحب (تطهير الجنان) لأن أقوالهم تحجزه عن سب الصحابة.
-كنت ذكرت في السرقات بأن المالكي تابع في اتهامه شيخ الإسلام ابن تيمية بالنصب الكوثري والغماري والسقاف. لأنني لم أكن قد اطلعت على كتاب (تقوية الإيمان) بعدُ، فلما اطلعت عليه علمت أن المالكي لم يعدُ شيخه في هذا الاتهام ! لأنه تابع أمين له. فقد اتهم ابن عقيل شيخ الإسلام بالنصب صراحة في كتابه هذا وأنه "من كبار نواصب أهل السنة، !! كما يقول (ص 71). بل إنه عنده "شيخ النصب" ! (ص 101). وهذا عين ما يردده المالكي في أبحاثه؛ من ذلك مثلاً ما ذكره في كتابه السقيم (قراءة في كتب العقائد، ص 176) عن شيخ الإسلام –رحمه الله- قال: "اتهموه بالنصب وأصابوا في كثير من ذلك" !!
وهذا لم يكن يصرح به المالكي في بداية أمره، إنما كان يخفيه ويمهد له، كعادته في معظم أفكاره.
بل من العجائب ما جاء في كتابه (بيعة علي بن أبي طالب([23])، ص76) في التعليق على استدلال شيخ الإسلام بحديث : "تقتل عماراً الفئة الباغية" على صحة خلافة علي –رضي الله عنه- : "وكلام ابن تيمية هذا فيه رد على من يزعم أن ابن تيمية –رحمه الله- منحرف عن علي –رضي الله عنه- كما يتهمه بذلك بعض علماء المغرب والأردن والعلامة المقبلي، بل وبعض علماء عصره" !!! فما هذا التناقض يا حسن ؟ !!
-ثم وجدت الرافضي محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) ([24]) يتهم شيخ الإسلام –رحمه الله- بالنصب، وينقل هذا الاتهام عن بعض المبتدعة، ومن ضمنهم الشيعي ابن عقيل سالف الذكر! (انظر: ص 272 وما بعدها)
(وانظر نقولاته عن ابن عقيل:ص139،206،220،297،546، 568).(66/21)
(فائدة أخيرة) : جاء في ذكر مؤلفات ابن عقيل أن له كتاباً في الرد على "منهاج السنة" لشيخ الإسلام –رحمه الله-. والمالكي يعدنا كثيراً بإخراج رسالة عن كتاب "منهاج السنة". فلعلك بهذا تعلم مصدره !
وبهذا انتهى ما أردت إلحاقه برسالة (سرقات المالكي)، ولعلي إن وجدت فوائد تتعلق بموضوع الرسالة ألحقتها فيما بعد –إن شاء الله-.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
([1]) (ص 350 – 354) .
([2]) وكتب المحقق أحمد تيمور باشا بخطه بآخر هذه الترجمة ما نصه: (حضر السيد ابن عقيل لمصر سنة 1341هـ وهو مسافر إلى الحج، والتقيت به في القاهرة) .
([3]) الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الألوسي، ص 122، تحقيق : محمد بن ناصر العجمي.
([4]) انظر تعليقه على الرسائل المتبادلة بين القاسمي والألوسي، هامش ص 211.
([5]) ولهذا رثاه هذا الرافضي بقصيدة يقول فيها:
سالت دموع العين كل مسيل حزناً لرزء (محمد بن عقيل)
إن (النصائح) منك (كافية) غدت بسماعها إن قوبلت بقبول
أظهرت (بالعتب الجميل) وما حوى هفوات أهل الجرح والتعديل !
انظر مقدمة (النصائح الكافية). وللرافضة ولع بابن عقيل هذا؛ لأنه أرضاهم بالطعن في معاوية –رضي الله عنه-، ولهذا فإنهم يذكرونه كثيراً في كتبهم ويعدون مصنفاته مصنفات شيعية .
([6]) الشيخ عبد العزيز الرشيد –سيرة حياته. للدكتور يعقوب الحجي، ص 261.
([7]) ولترويج بدعته الشيعية فقد كذب ابن عقيل على الشافعي وادعى أنه –رحمه الله- كان شيعياً! يفضل علياً على الشيخين –رضي الله عنهم- ولكنه يسر ذلك !! ونحله أشعاراً مكذوبة يزعم أنها تؤيد دعواه. (انظر : ص 204 من كتابه النصائح..).(66/22)
ولتعلم كذب وافتراء هذا الشيعي على الإمام الشافعي انظر رسالة: (منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة) للدكتور محمد العقيل، حيث ذكر وفقه الله كثيراً من أقوال الشافعي في ذم الشيعة وفي معتقده في الصحابة كما هو معتقد أهل السنة. ومن ذلك قوله: "أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم" (ذكره البيهقي في مناقب الشافعي(1/433). إلى غير ذلك من الأقوال الصريحة الصحيحة عنه –رحمه الله-. وانظر أيضاً رسالة (اتهامات لا تثبت) لصاحب هذه الرسالة.
([8]) واعتمدت على نسخة الشيخ محمد بن مانع –رحمه الله- المحفوظة بمكتبة الملك فهد بالرياض، وعليها تعليقات نفيسة للشيخ ابن مانع في تعقب انحرافات ابن عقيل، ذكرت شيئاً من ذلك في (السرقات) .
([9]) الشيخ عبد العزيز الرشيد – سيرة حياته، ص 261.
([10]) المرجع السابق (ص 262).
([11]) الرسائل المتبادلة بين القاسمي والألوسي، ص 136.
([12]) الشيخ عبد العزيز الرشيد، سيرة حياته، ص 63.
([13]) علماء الكويت وأعلامها خلال ثلاثة قرون، ص 284. وانظر:(علماء الكويت) لخليل أبو ملال(ص 138).
([14]) في كتابه (الشيخ عبد العزيز الرشيد –سيرة حياته، ص 374- 375) .
([15]) المرجع السابق (ص 375) .
([16]) المرجع السابق (ص 367) .
([17]) انظر تخريجها في تلخيص الحبير لابن حجر (4/59)، وصب العذاب للألوسي (هامش ص 405) .
([18]) وقد ثبت بسند صحيح كما يقول الألباني عن سفيان الثوري –رحمه الله- قال: من زعم أن علياً كان أحق بالولاية منهما، فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء" (صحيح أبي داود 3/876) .
([19]) لم يذكر عثمان !! لأن تفضيل علي عليه مفروغ منه عندهم ! وإنما هم يحومون حول الشيخين.(66/23)
([20]) يكفيك في هذا مدافعة أحد أعلامهم وهو ابن حجر الهيتمي عن معاوية –رضي الله عنه- في كتاب سماه: "تطهير الجنان واللسان عن الخوض (في نسخة: الخطور) والتفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان" .
([21]) لسان الميزان (4/225). وانظر رسالة (المسعودي ومنهجه في كتابه التاريخ) للدكتور سليمان السويكت. ورسالة : (أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري) للدكتور عبد العزيز محمد نور ولي (ص243 وما بعدها) .
([22]) من ذلك أن الصوفية يرجعون فرقتهم إلى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ومنها: أن غلاتهم ورؤساءهم كالبدوي والرفاعي وغيرهم ينسبون أنفسهم إلى آل البيت؛ انظر للزيادة رسالة (الصلة بين التصوف والتشيع) لكامل الشيبي.
([23]) هكذا ! لم يترض المالكي عن علي –رضي الله عنه- . ولو كنا (موسوسين) مثله لاتهمناه بالنصب!! ولكن أهل السنة أهل عدل مع خصومهم –ولله الحمد والمنة- .
([24]) الطبعة الأولى 1418هـ، دار الهادي ، بيروت. ولعل متابعة مقالات المالكي عن النواصب تبين إن كان قد سرق جل بحثه من هذا الرافضي أم لا ؟!(66/24)
قيادة المرأة للسيارة , مفاسدها , كيف ترد على شبهات المطالبين بها ؟ , تصريحات ولاة الأمر , فتاوى العلماء , قاعدة سد الذرائع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
لا تزال تثار بين الحين والآخر قضية قيادة المرأة للسيارة في المملكة العربية السعودية، ويعاد فيها القول ويردد سواء على صفحات الصحف أو في ساحات شبكة الإنترنت أو عبر القنوات الفضائية([1])، وهي قضية تجد من يبعثها ويثيرها كلما انطفأت أو سكنت من أناس جعلوها أكبر همهم، وخدعوا أنفسهم وغيرهم بأنها لو تحققت لحلت بسببها جميع مشاكل الناس والمجتمع !
ومما يزيد في تأجيج هذه القضية مرة بعد مرة أنها من الممنوعات لدينا، فهي كما قال الشاعر:
مُنعتَ شيئاً فأكثرتَ الولوع به
أحبُ شيء إلى الإنسان ما مُنعا !
ومما يزيد هذا التأجيج أكثر وأكثر أنها أصبحت أمنية غالية لدى الغرب يستعجلون تحققها؛ لأنهم (بخبثهم المعهود) يعلمون أنها خطوة لما وراءها من مقوضات لمميزات هذه البلاد وتفردها بين الأمم، فهم مستيقنون بأنها لو حدثت -لا قدر الله- سيتيسر الطريق لغيرها من الأفكار الأخرى التي ستجد لها تطبيقاً في أرض الواقع.
وليس العجب من صنيع هؤلاء.. لأن الله قد أخبرنا بأنهم (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) وأنهم (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وأنهم لن يهدأ لهم بال ولن يقر قرار حتى يروا أهل الإسلام واقعين في مثل ما وقعوا فيه من آثام وانحرافات، ليسهل بعد ذلك قيادهم.(67/1)
أقول: ليس العجب من هؤلاء، إنما العجب من أناس من بني جلدتنا يتكلمون بكلامنا ارتضوا أن يكونوا مطية لأولئك يتخذوهم سلماً لأهدافهم، وقنطرة لغزو هذه البلاد. ومما يزيد العجب أن يستنصر هؤلاء بالغرب الكافر في هذه القضية في سبيل الضغط على بلادنا لتستجيب لشهواتهم وأهوائهم([2]) فيحق في الفريقين قوله تعالى (ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم). ويحق لنا أن نقول لهم كما قاله تعالى عن أسلافهم ممن استنصر بالكفار ومال إليهم (أيبتغون عندهم العزة) ؟!
فمتى يفيق هؤلاء القوم، ولا يكونون ألعوبة بيد الآخرين يصلون بهم إلى أغراضهم، ثم سرعان ما يركلونهم ويرمون بهم، كما هو ديدنهم مع من هان عليه دينه ؟! أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين.
ولأجل أن هذه القضية تثار بين الحين والآخر في صورة متكررة فقد أحببت في هذه الرسالة أن أبين مفاسد قيادة المرأة للسيارة لكي لا تخفى على المسلمين، ثم أتبعها بذكر الشبهات التي يرددها المطالبون بالقيادة مع ردها، ثم أذكر تصريحات ولاة الأمور وفتاوى العلماء حول هذه القضية.
عسى الله أن ينفع بها، وأن يُبصر بها الغافلين وأن يجعلها من باب (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون).
مفاسد قيادة المرأة للسيارة :
في قيادة المرأة للسيارة: نزع للحجاب الشرعي بتدرج، فلا يتصور العاقل أن تقود امرأة سيارة دون أن تضطر إلى نزع عباءتها وغطاء وجهها. وهو ما يدعون إليه الآن –والعياذ بالله- وهذا ما حدث في المجتمعات المجاورة لنا، حيث تدرج الأمر حتى صدر قرار بمنع المنقبات من القيادة([3]) !!
في قيادة المرأة للسيارة : مخالطة الرجال وتبذلها أمامهم؛ سواء عند وقوع حادث أو خلل في السيارة. لا سيما رجال المرور.(67/2)
في قيادة المرأة للسيارة : تعريضها للمضايقات والتحرشات من الشباب المتهور (وما أكثرهم!) بل قد يصل الأمر إلى محاولة اختطافها بالقوة، كما حدث في دول مجاورة. وإذا كانت المرأة لدينا لم تسلم وهي متحجبة ومع سائق من معاكسات وتحرشات الشباب الطائش، فكيف تسلم منهم بعد القيادة ؟!
في قيادة المرأة للسيارة: تسهيل خروج النساء من المنزل، حيث سيتكرر ذلك لأتفه الأسباب، وهذا مصادم لقوله تعالى (وقرن في بيوتكن).
في قيادة المرأة للسيارة: تسهيل أسباب الفساد أمامها، حيث ستخرج متى شاءت دون حسيب أو رقيب، لاسيما مع ما تتميز النساء به من عاطفة ينخدعن بها.
في قيادة المرأة للسيارة: امتهان المرأة بعد أن كانت عزيزة مكرمة، وذلك عند تعرضها للمواقف المحرجة؛ كوقوع (بنشر) أو خلل لسيارتها تحت وهج الشمس أو في ظلام الليل.. فتخيل معي هذا الامتهان.
في قيادة المرأة للسيارة: زيادة العبء الاقتصادي على الأسر، حيث ستضطر كل أسرة إلى شراء سيارات لنسائها وبناتها، بعد أن كان الأمر مقتصراً على الذكور، وهذا إرهاق شديد عليهم، لاسيما في هذه الظروف الاقتصادية المتردية.
في قيادة المرأة للسيارة: زيادة الاختناقات المرورية التي نشتكي منها حالياً، فما ظنك بعد قيادة النساء ؟!([4])
في قيادة المرأة للسيارة: زيادة إنفاق الدولة، وذلك لاحتياجها إلى مراكز مرور للنساء، وسجون خاصة بهن! ومباني جديدة، ومستلزمات ذلك ... إضافة إلى زيادة عدد الدوريات.
في قيادة المرأة للسيارة: زيادة العبء على رجال المرور الذين يتمنون تخفيض عدد السيارات والحوادث بدلاً من زيادتها.
في قيادة المرأة للسيارة: إفراح لأعداء الإسلام من كفار ومنافقين، لأن هذا البلد هو ملاذ الإسلام الأخير الذي وقف بقوة أمام مختلف التيارات المفسدة، فإذا سقط في هذا الاختبار سيرقص الأعداء طرباً لهذا، حيث سينتشر الفساد وتكثر المشاكل في هذا البلد.(67/3)
في قيادة المرأة للسيارة: إهانة لأهل الحسبة الذين كانوا عيناً ساهرة على أمن هذا البلد سنين طويلة ... ثم بعد هذا تأتيهم هذه الطعنة النجلاء التي تقضي على جهودهم.
في قيادة المرأة للسيارة: ازدياد لمعدلات الجريمة والتحرشات الأخلاقية ... دون أدنى شك.
في قيادة المرأة للسيارة: تشجيع للطاعنين في حكومة هذه البلاد حيث سيستغلون هذا الحدث في محاولة (تهييج) الشباب ضد ولاة الأمر بدعوى أنهم قد تنازلوا (كثيراً) عن تحكيم الشريعة، وانظموا إلى ركب أهل التغريب.
في قيادة المرأة للسيارة: إحداث ارتباك (رهيب) داخل هذا المجتمع، لأن (الكثير) –بلاد شك!- سيعارض هذا الأمر –مهما غُيبِّت أصواتهم!- فينشأ عن هذا تنازعات وخلافات وتحزبات نحن في غنى عنها، والله يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) .
في قيادة المرأة للسيارة: اهتزاز صورة هذا البلد في أعين المسلمين الذين يرونه خير مثالٍ لتطبيق الشريعة في عالمنا، فإذا حدث فيه هذا الأمر –لا قدر الله- سقط من أعينهم، حيث لم يصبر على الالتزام بالشرع.
في قيادة المرأة للسيارة: تشجيع للدول الإسلامية الأخرى في إصرارها على مخالفة أحكام الشريعة، حيث ستقتدي بهذه الدولة التي سقطت في هذا الامتحان.
في قيادة المرأة للسيارة: فتح لباب الفساد المتعلق بالمرأة، لأن منع القيادة كالباب الموصد المغلق، فإذا انفتح انهلت علينا المفاسد المتتالية، فمَنْ تساهل في قيادة المرأة للسيارة سيتساهل –لا شك- في اختلاطها وسفورها وتمثيلها وغنائها و ... و ... الخ.
في قيادة المرأة للسيارة: تخلي الرجل عن مسؤليته، حيث سيتخفف من كثير من (المشاوير) ويلقيها على زوجته.
في قيادة المرأة للسيارة: إرهاق لجسد المرأة وإجهاد لذهنها، لما تتطلبه القيادة من تركيز وشد أعصاب، يعرفه من عانى ذلك.
شبهات المطالبين بقيادة المرأة للسيارة ، والرد عليها :(67/4)
للمطالبين بقيادة المرأة للسيارة في السعودية عدة شبهات يرددونها بكثرة في أحاديثهم ومقالاتهم، يوحي بعضهم بها إلى بعض، وفيما يلي ذكر هذه الشبهات وكيف يجيب عنها المسلم؛ لكي لا ينخدع بزخارفهم، والله يقول عن المنافقين (وفيكم سماعون لهم) .
الشبهة الأولى : أن في قيادة المرأة للسيارة استغناء عن ألوف السائقين الذين يملؤن بيوتنا، ويشكلون خطراً أخلاقياً على محارمنا، كما أنهم يستنزفون أموالنا برواتبهم !
التعليق والرد: هذه الشبهة هي أعظم شبهات المطالبين بالقيادة، وقلما تخلو أحاديثهم ومقالاتهم منها، فهم لا يملون من ترديدها .
وكما ذكرت في المقدمة فإن من المطالبين بقيادة المرأة للسيارة في بلادنا : صنف من المتحررين والمتحررات مرضى القلوب وأتباع الشهوات، ممن قال الله فيهم (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا) .
وهذا الصنف عندما يطالب بالقيادة يعلم يقيناً أن أهل هذه البلاد لن ينخدعوا بأقواله ما لم يستثر حميتهم على أعراضهم ويتقمص دور الغيور على أعراض المسلمين! ما دامت هذه الغيرة المصطنعة تخدم أهواءه وشهواته، وإلا فالعقلاء يعلمون أن هذا الصنف من البشر هم من أبعد الناس عن الغيرة وأسبابها تشهد بذلك أحوالهم. ولو كانت غيرتهم تلك حقيقية لرأيناها في مواقف كثيرة من حياتهم. ولكنه الخداع والتضليل. وللرد على هذه الشبهة، يُقال :
أولاً: إن العاقل لا يزيل الضرر بضرر أعظم منه، فإذا كان في ركوب المرأة لوحدها مع السائق ضرر ومفاسد، فإن في قيادتها للسيارة مفاسد وأضرار أعظم –كما سبق-.
ثانياً: إن منع المرأة من قيادة السيارة لا يعني جواز ركوبها لوحدها مع السائق –كما قد يتوهم البعض- ؛ لأن هناك حلولاً لا يذكرها أصحاب الشبهات، وهي:
أن يتولى توصيلها محرمها: أبوها أو زوجها أو ولدها ... الخ.
أو أن تركب هي وامرأة أو أكثر مع السائق.(67/5)
أو أن تركب مع السائق ومعه زوجته .
ويكون هذا السائق مسلماً، كبيراً في السن، سيماه الصلاح.
في حال اضطرارها وعدم تمكن الحلول السابقة فإنها تركب لوحدها مع السائق [بمواصفاته السابقة] وهي متحجبة محتشمة، في المشاوير داخل نطاق المدينة.
وهذا الحل الأخير أخف ضرراً وفساداً من قيادتها للسيارة كما يشهد بذلك العقلاء؛ لأن ضرره خاص، وضرر قيادتها للسيارة عام عليها وعلى المجتمع كله.
ثالثاً: إن ادعاءهم بأن قيادة المرأة للسيارة ستقضي على وجود السائقين في البيوت غير صحيح أبداً، وواقع الدول القريبة منا يشهد بهذا، حيث قادت نساؤهم وبقي السائقون في بيوتهم!! ([5]) فاجتمع الضرران. وضرر واحد خير من اجتماع ضررين. ويؤكد هذا:
أن هناك من الأعمال والطلبات الكثيرة التي سببتها الحياة المعاصرة داخل البيوت ما لا يمكن لرب البيت أو للمرأة (لو قادت السيارة) تلبيته إلا بوجود سائق، والأمثلة على هذا كثيرة؛ لأن المرأة كالرجل لن ترهق نفسها بهذه المشاوير والطلبات اليومية.
إذاً: فالسائق سيبقى؛ سواء قادت المرأة السيارة أم لم تقدها، فكيف يليق بمسلم عاقل بدلاً من أن يخفف ضرر وجود السائق أن يزيد هذا الضرر بمطالبته بضرر آخر وهو قيادة المرأة للسيارة ؟!
الشبهة الثانية: قالوا: إن قيادة المرأة للسيارة: الأصل فيها الجواز، وقد ركبت النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الإبل لوحدهن ولم يُنكر عليهن.
الجواب: أولاً : أما قضية قيادة النساء للإبل لوحدهن زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضخمها أصحاب الشبهات، ولم يذكروا عليها أي دليل أو حادثة تشهد لها. بل بالعكس؛ فإن من يراجع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته يتضح له أن النساء إما أن يركبن متسترات في الهوادج على ظهور الإبل ويقود بهن أحد الرجال من محارمهن أو من الخدم، أو يركبن رديفات لأحد محارمهن أي خلف ظهره. ويشهد لهذا:(67/6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من سيرته أنه يخرج بإحدى نسائه في غزواته ويجعلها تركب في الهودج . ويأمر أحداً يقود بها البعير([6])
أخرج البخاري تحت باب : "إرداف المرأة خلف أخيها" قول عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق –رضي الله عنهما- : "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أردف عائشة وأُعمرها من التنعيم"([7])
ثانياً: أن بعض الأشياء تكون جائزة، لكنها تحرم لما لازمها من المفاسد، حيث ينتقل الحكم إلى التحريم، فتكون من باب "درء المفسدة" –كما سبق-.
فمثلاً: الأصل في بيع السلاح أنه جائز، لكنه يحرم إذا كان في زمن فتنة بين المسلمين؛ لأن البائع حينئذٍ كأنه يعين على قتل المسلمين بعضهم لبعض .
ومثله أيضاً: الأصل في بيع العنب الجواز، إلا أنه يحرم إذا كان يباع على من يصنع به الخمر. وقس على هذا .
فقيادة المرأة للسيارة فيها مفاسد كثيرة ملازمة لها في هذا العصر لا يمكن لعاقل تجاهلها. فهي محرمة لأجل هذه المفاسد.
الشبهة الثالثة: قولهم (المتكرر) بأن قيادة المرأة للسيارة سيكون مثل تعليمها؛ حيث عارضه البعض في بداية أمره ثم تقبلوه تدريجياً.
والجواب: شتان بين الأمرين !
فتعليم المرأة المسلمة أمر رغب فيه الشرع، وجاءت فيه نصوص كثيرة تحث عليه؛ كقوله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وهو عام للرجال والنساء. وقوله صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم"([8]) وهو يشمل المسلمات باتفاق علماء الإسلام. وقوله صلى الله عليه وسلم لإحدى الصحابيات (واسمها الشفاء) ممن يعرفن الرقية : "علميها حفصة كما علمتيها الكتابة"([9]) والذين عارضوا أمر التعليم في أول الأمر لم يعارضوه لذاته كما يتوهم البعض أو يتغافل، إنما عارضوه لأنهم خشوا أن يكون حاله كحال تعليم النساء في الدول الإسلامية الأخرى؛ حيث الاختلاط والمواد الفاسدة. فلما تيقنوا أن هذا لن يحدث، وأن التعليم سيرتبط بعلماء الشرع وسيكون مستقلاً، اطمأنوا لذلك.(67/7)
فأين تعليم المرأة المسلمة التي تخرج من بيتها بحجاب كامل وبستر إلى مدرسة خاصة ببنات جنسها، مغلقة الأبواب، وعليها الحراس، وتدرس مواد مفيدة.. من قيادة السيارة وما فيها من المفاسد التي سبق الحديث عنها ؟!!
ولماذا لا يزال البعض يغالط ويزعم تشابه الأمرين ؟!
الشبهة الرابعة : قالوا: إن الدول الأخرى قد قادت نساؤهم السيارة. فهل نتأخر عنهم ونبقى دونهم ؟
الجواب : أن مرجعنا –ولله الحمد- في هذه البلاد إلى الحكم الشرعي، وهذا ما يميزنا عن الآخرين، ويحق لنا أن نفخر به لا أن نتذمر (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا). وليس مرجعنا ما يفعله الآخرون، فهذا ليس بحجة عند الله –عز وجل- . والمسلم الحق مطالب بأن يحسن إذا أحسن الناس، وأما إذا أساؤا فإنه يتجنب إساءتهم .
وأنت لو سألت عقلاء تلك البلاد التي قادت نساؤها لأجابوك بالشكوى مما وصل إليه حالهم بسبب هذا الأمر. ولا زلت أذكر قبل عامين تقريباً مقالاً نشر في جريدة الوطن الكويتية لأحد الكويتيين يطالب فيه بمنع قيادة المرأة للسيارة في بلاده، مدللاً على ذلك بالمصائب العديدة التي حدثت من جراء هذا الأمر. والسعيد من وعظ بغيره .
الشبهة الخامسة : قالوا: بأننا إذا سمحنا بقيادة المرأة للسيارة فسنجعل لها ضوابط شرعية! مثل أن لا تقود إلا وهي متحجبة، ولا تقود إلا في ساعات محددة من اليوم، وأن يكون سنها من 35 سنة فأكثر.. وهكذا.
والجواب: أن هذه الشبهة يضحك منها العقلاء؛ لأنهم يعلمون أنها خيال في خيال ! وإلا فهل يصدق أحد أن معظم النساء ستلتزم بهذه الشروط الخيالية لو فتح هذا الباب ؟!
وقد قال مثل هذا غيركم (كالكويت مثلاً) في أول أمرهم، ثم لم يمر وقت قصير حتى نسوا هذه الضوابط والشروط وأصبحت في خبر كان.
والشر يبدأ صغيراً ثم لا يزال يكبر شيئاً فشيئاً ما لم يُحسم منذ البداية .
الشبهة السادسة: يردد المطالبون بالقيادة بأن المسألة محسومة! وأنها مجرد وقت وانتظار!(67/8)
والجواب: أن هذه الشبهة والترديد المتكرر لمثل هذه العبارة المقصد منه تهيئة النفوس لهذا الأمر، وترقبها لحدوثه. وهي خطة قديمة جداً لكل مطالب بأمر فيه فساد أو ضرر، وقد فعل مثل هذا مشركو قريش مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ! وسمى الله فعلهم (بالتربص) أي الانتظار. فقالوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) وقالوا عنه : (شاعر نتربص به ريب المنون). وأخبر تعالى بأن هذا التربص قد فعله المنافقون –أيضاً-، فقال عنهم: (ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم) وقال عنهم (الذين يتربصون بكم) . وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم بالمثل، فكما أنهم ينتظرون حلول الفساد، فهو صلى الله عليه وسلم معه ينتظرون الخير قال تعالى (قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) وقال (قل كلٌ متربص فتربصوا) .
فالواجب على المسلم أن يتربص الخير وانتشاره، وأن لا يعبأ بتربص الآخرين مهما رددوه، و (العاقبة للمتقين) .
الشبهة السابعة: قالوا نحن معكم في كل ما ذكرتم من مفاسد وأضرار لهذه القضية على بلادنا، ولكن ألا ترون أننا بالسماح بالقيادة نتخلص من الضغوط الكثيرة التي تتعرض لها بلادنا من الغرب بخصوص قضية المرأة، فنرتاح بعدها ونتنفس الصعداء من هذا الشد والتأزم الذي نعيشه ؟!
والجواب: أن يقال: هيهات أن يكون لكم ذلك ! بل بصنيعكم وتنازلكم هذا تحققون للغرب ما يريد إضافة إلى أنكم لن تتخلصوا من ضغوطه، بل ستزداد عليكم في أمور أخرى قد لا ترضونها سياسياً لا شرعياً!(67/9)
وقد أخبرنا الله تعالى حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا وأن لا نحاول خداع أنفسنا بتجاهلها؛ وهي أن الغرب (اليهودي أو النصراني) لن يرضى عنا دون الكفر بالإسلام والتحول إلى اليهودية أو النصرانية –والعياذ بالله- فهل ترضون بهذا ؟! قال سبحانه (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . فلا تحلموا برضى الكفار أو تخفيف ضغوطهم ما دمتم مسلمين، هذه سنة إلهية لا تتغير ولا تتبدل.
وليكن لنا عبرة بحال تركيا ! فهي قد قدمت التنازلات تلو التنازلات التي لا تخفى على متابع، فعلمنت البلاد، وحاربت مظاهر الإسلام و ... كل هذا لترضي الغرب (النصراني) وتتذلل له أن يقبلها عضواً في الاتحاد الأوربي، ولكن ماذا كانت النتيجة إلى يومنا هذا ؟ اسمع ذلك في هذا الخبر الذي نشرته مجلة المجتمع (العدد 1510، بتاريخ 10/5/1423هـ) : (أكد جونتر فرهويغن مسؤل شئون التوسع في لجنة الاتحاد عدم وجود خطط أوربية حالية لمنح تركيا موعداً –مجرد موعد!- لبدء مباحثات العضوية مع الاتحاد) !!
والسبب: أن تركيا إلى الآن لم تعلن نصرانيتها حتى يرضى عنها الغرب كما أخبرنا تعالى !
لهذا ينبغي أن يعلم العقلاء في بلادنا أنهم إذا تنازلوا في هذا الأمر سيجدون أنفسهم أمام قائمة طويلة من التنازلات التي لا تنتهي . ولكن إن هم اتقوا وصبروا ولم يتنازلوا في هذا الأمر سيجدون أن الله ينصرهم ويفرج عنهم أزمتهم، وأن الغرب يمل ويكل وييأس ويتحقق فيهم قوله تعالى (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).
تصريحات ولاة الأمور:
1- عندما قامت مظاهرة النساء المتحررات أيام أزمة الخليج صدر قرار بمنع قيادة المرأة للسيارة والتأكيد عليه .
2-صرح صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز ، وزير الداخلية بالآتي :
(لا توجد أي رغبة أو توجه لدى الدولة بشأن السماح للمرأة بالقيادة في السعودية)
وقال –أيضاً-: (ليست هناك دراسة بهذا الخصوص ، وإن كل مجتمع له خصوصياته)(67/10)
[المصدر: جريدة الاقتصادية، 26/1/1420هـ].
فتاوى العلماء :
1 - قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- :
(فقد كثر حديث الناس في صحيفة الجزيرة عن قيادة المرأة للسيارة، ومعلوم أنها تؤدي إلى مفاسد كثيرة وعواقب وخيمة، منها الخلوة المحرمة بالمرأة، ومنها السفور، ومنها الاختلاط بالرجال بدون حذر، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور. والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة. وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت، والحجاب، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع، قال تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) الآية، وقال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)، وقال تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).(67/11)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" فالشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلى الرذيلة بما في ذلك رمي المحصنات الغافلات بالفاحشة وجعل عقوبته من أشد العقوبات صيانة للمجتمع من نشر أسباب الرذيلة. وقيادة المرأة من الأسباب المؤدية إلى ذلك. وهذا لا يخفى، ولكن الجهل بالأحكام الشرعية وبالعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المفضية إلى المنكرات مع ما يبتلى به الكثير من مرضى القلوب ومحبة الإباحية والتمتع بالنظر إلى الأجنبيات، كل هذا بسبب الخوض في هذا الأمر وأشباهه بغير علم وبغير مبالاة بما وراء ذلك من الأخطار. وقال الله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، وقال سبحانه : (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعده من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جنهم من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم". قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" [متفق عليه].(67/12)
وإني أدعو كل مسلم أن يتقي الله في قوله وفي عمله وأن يحذر الفتن والداعين إليها وأن يبتعد عن كل ما يسخط الله جل وعلا أو يفضي إلى ذلك، وأن يحذر كل الحذر أن يكون من هؤلاء الدعاة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف. وقانا الله شر الفتن وأهلها وحفظ لهذه الأمة دينها وكفاها شر دعاة السوء، ووفق كتاب صحفنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر المسلمين ونجاتهم في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم) ([10]).
2 - سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- السؤال التالي:
أرجو توضيح حكم قيادة المرأة للسيارة، وما رأيكم بالقول: "إن قيادة المرأة للسيارة أخف ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي" ؟
فقال: (الجواب على هذا السؤال ينبني على قاعدتين مشهورتين بين علماء المسلمين:
القاعدة الأولى: أن ما أفضى إلى المحرم فهو محرم.
القاعدة الثانية: أن درء المفاسد –إذا كانت مكافئة للمصالح أو أعظم- مقدم على جلب المصالح.
دليل القاعدة الأولى: قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فنهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين –مع أنه مصلحة- لأنه يفضي إلى سب الله تعالى.
ودليل القاعدة الثانية: قوله تعالى : (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) وقد حرم الله الخمر والميسر مع ما فيهما من المنافع درءاً للمفسدة الحاصلة بتناولهما. وبناءً على هاتين القاعدتين يتبين حكم قيادة المرأة للسيارة. فإن قيادة المرأة للسيارة تتضمن مفاسد كثيرة، فمن مفاسدها:(67/13)
نزع الحجاب: لأن قيادة السيارة سيكون بها كشف الوجه الذي هو محل الفتنة ومحط أنظار الرجال، ولا تعتبر المرأة جميلة أو قبيحة على الإطلاق إلا بوجهها، أي أنه إذا قيل جميلة أو قبيحة لم ينصرف الذهن إلا إلى الوجه، وإذا قصد غيره فلا بد من التقييد، فيقال جميلة اليدين، جميلة الشعر، جميلة القدمين، وبهذا عرف أن الوجه مدار القصد.
وربما يقول قائل: إنه يمكن أن تقود المرأة السيارة بدون نزع الحجاب بأن تتلثم المرأة وتلبس في عينيها نظارتين سوداوين.
والجواب عن ذلك أن يقال: هذا خلاف الواقع من عاشقات قيادة السيارة، واسأل من شاهدهن في البلاد الأخرى، وعلى فرض أنه يمكن تطبيقه في ابتداء الأمر فلن يدون طويلا، بل سيتحول –في المدى القريب- إلى ما عليه النساء في البلاد الأخرى كما هي سنة التطور المتدهور في أمور بدأت هينة مقبولة بعض الشيء ثم تدهورت منحدرة إلى محاذير مرفوضة.
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة: نزع الحياء منها، والحياء من الإيمان –كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم-، والحياء هو الخلق الكريم الذي تقتضيه طبيعة المرأة وتحتمي به من التعرض للفتنة، ولهذا كانت مضرب المثل فيه فيقال: "أحيا من العذراء في خدرها" وإذا نزع الحياء من المرأة فلا تسأل عنها.
ومن مفاسدها: أنها سبب لكثرة خروج المرأة من البيت "والبيت خير لها" –كما قال ذلك أعلم الخلق بالخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- لأن عاشقي القيادة يرون فيها متعة؛ ولهذا تجدهم يتجولون في سياراتهم هنا وهناك بدون حاجة؛ لما يحصل لهم من المتعة بالقيادة.(67/14)
ومن مفاسدها : أن المرأة تكون طليقة تذهب إلى ما شاءت ومتى شاءت وحيث شاءت إلى ما شاءت من أي غرض تريده؛ لأنها وحدها في سيارتها، متى شاءت في أي ساعة ليل أو نهار، وربما تبقى إلى ساعة متأخرة من الليل، وإذا كان الناس يعانون من هذا في بعض الشباب فما بالك بالشابات؟!. حيث شاءت يميناً وشمالاً في عرض البلد وطوله، وربما خارجه أيضاً.
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة: أنها سبب لتمرد المرأة على أهلها وزوجها، فلأدنى سبب يثيرها في البيت تخرج منه وتذهب في سيارتها إلى حيث ترى أنها تروّح عن نفسها فيه، كما يحصل ذلك من بعض الشباب وهو أقوى تحملاً من المرأة.
ومن مفاسدها: أنها سبب للفتنة في مواقف عديدة:
في الوقوف عند إشارات ا لطريق.
في الوقوف عند محطات البنزين .
في الوقوف عند نقطة التفتيش.
في الوقوف عند رجال المرور عند التحقيق في مخالفة أو حادث.
في الوقوف لملء إطار السيارة بالهواء "البنشر" .
في الوقوف عند خلل يقع في السيارة في أثناء الطريق فتحتاج المرأة إلى إسعافها، فماذا تكون حالتها حينئذ؟ ربما تصادف رجلاً سافلاً يساومها على عرضها في تخليصها من محنتها، لاسيما إذا عظمت حاجتها حتى بلغت حد الضرورة .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة: كثرة ازدحام الشوارع أو حرمان بعض الشباب من قيادة السيارات وهو أحق بذلك من المرأة وأجدر .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة : كثرة الحوادث؛ لأن المرأة بمقتضى طبيعتها أقل من الرجل حزماً، وأقصر نظراً وأعجز قدرة، فإذا داهمها الخطر عجزت عن التصرف.(67/15)
ومن مفاسدها: أنها سبب للإرهاق في النفقة؛ فإن المرأة –بطبيعتها- تحب أن تكمل نفسها مما يتعلق بها من لباس وغيره، ألا ترى إلى تعلقها بالأزياء كلما ظهر زي رمت بما عندها وبادرت إلى الجديد، وإن كان أسوأ مما عندها. ألا ترى إلى غرفتها ماذا تعلق على جدرانها من الزخرفة. ألا ترى إلى "ماصتها" وإلى غيرها من أدوات حاجاتها. وعلى قياس ذلك –بل لعله أولى منه- السيارة التي تقودها، فكلما ظهر "موديل" جديد فسوف تترك الأول إلى هذا الجديد.
وأما قول السائل: وما رأيكم بالقول: "إن قيادة المرأة للسيارة أخف ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي؟" فالذي أرى أن كل واحد منهما فيه ضرر، وأحدهما أضر من الثاني من وجه، ولكن ليس هناك ضرورة توجب ارتكاب أحدهما.
واعلم أنني بسطت القول في هذا الجواب لما حصل من المعمعة والضجة حول قيادة المرأة للسيارة والضغط المكثف على المجتمع السعودي المحافظ على دينه وأخلاقه ليستمرئ قيادة المرأة للسيارة ويستسيغها. وهذا ليس بعجيب لو وقع من عدو متربص بهذا البلد الذي هو آخر معقل للإسلام يريد أعداء الإسلام أن يقضوا عليه، ولكن هذا من أعجب العجب إذا وقع من قوم من مواطنينا ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويستظلون برايتنا، قوم انبهروا بما عليه دول الكفر من تقدم مادي دنيوي فأعجبوا بما هم عليه من أخلاق تحرروا بها من قيود الفضيلة إلى قيود الرذيلة، وصاروا كما قال ابن القيم في نونيته :
هربوا من الرق الذي خلقوا له وبُلوا برق النفس والشيطان
وظن هؤلاء أن دول الكفر وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم مادي بسبب تحررهم هذا التحرر، وما ذلك إلا لجهلهم أو جهل الكثير منهم بأحكام الشريعة وأدلتها الأثرية والنظرية، وما تنطوي عليه من حكم وأسرار تتضمن مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم ودفع المفاسد. فنسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية والتوفيق لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة) ([11]).
قاعدة سد الذرائع :(67/16)
يتعجب بعض المجادلين في هذه القضية عندما يقال له بأن هذا الأمر (سواء كان قيادة المرأة للسيارة أو غيرها من الوسائل المؤدية للحرام) لا يجوز لأنه ذريعة إلى الوقوع في الحرام. ويعتقد هذا الجاهل أو المتجاهل أن هذه القاعدة وهي (سد الذرائع) قد تشدد فيها العلماء واخترعوها من عقولهم! تحجيراً على الناس. ولم يعلم هذا المجادل بأن (قاعدة سد الذرائع) قد جاءت فيها نصوص شرعية كثيرة من الكتاب والسنة اعتمد عليها العلماء في تحريم كل وسيلة تؤدي إلى المحرم، ولذلك قال ابن القيم –رحمه الله- : "باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف"([12]) قال هذا بعد أن ذكر لها تسعة وتسعين (99) دليلاً من الكتاب والسنة. وإليك شيئاً من تلك النصوص التي تدل لهذه القاعدة :
قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فنهى سبحانه عن سب أصنام ومعبودات المشركين لكونه ذريعة لأن يسب المشركون الله –عز وجل- عدواناً وظلماً دفاعاً عن أصنامهم ومعبوداتهم .
قوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن) فنهى النساء عن الضرب بالأرجل على الأرض وهو مباح لأنه ذريعة لإثارة الشهوات.
أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يكون ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها .
أنه تعالى أمر بغض البصر لأنه ذريعة للفساد.
أنه تعالى نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك لأنه ذريعة إلى الشرك.
أنه تعالى حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية لأنه ذريعة إلى الفساد والزنا.
أنه تعالى منع الصحابة أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم (راعنا) وأمرهم أن يقولوا بدلها (انظرنا) لأنه ذريعة تتخذها اليهود لسبه عليه الصلاة والسلام .
أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع الرجل في زواجه بين المرأة وأختها، أو عمتها أو خالتها لأنه ذريعة إلى قطيعة الرحم .(67/17)
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتقدم المسلم الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين لكي لا يكون ذريعة لأن يُلحق بالفرض (وهو صيام رمضان) ما ليس منه.
أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة قبل طلوع الشمس وعند غروبها سداً لذريعة مشابهة المشركين .
هذه بعض الأدلة الشرعية التي تدل لقاعدة (سد الذرائع)، ومن أراد الزيادة فعليه بهذه المراجع:
إعلام الموقعين لابن القيم (3/147-171).
الاعتصام للشاطبي (2/334-338، بتحقيق مشهور سلمان).
مجلة البحوث الإسلامية (العدد 15/ص 17-32).
ختاماً : أسأل الله أن يجنب بلادنا الشرور والمفاسد، وأن يوفق ولاة أمورنا لقمع المفسدين وأن لا ينخدعوا بزخارفهم، وأن يثبتهم على الحق كما ثبت أسلافهم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
([1]) وأصحاب هذه القنوات –كصاحب قناة المستقلة مثلاً- أشغلوا أنفسهم بأمر السعودية متناسين ما تعيشه بلادهم من بؤس وشقاء ديني ودنيوي. لو تشاغلوا به لكان خيراً لهم وللمسلمين، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه!. ولك أن تعجب إذا علمت أن هذا التركيز على بلاد التوحيد مدفوع الأجر لهذه القنوات من جهات لا تريد الاستقرار لنا.
([2]) طالعتنا صحيفة الجارديان البريطانية يوم الأحد 26/4/1423هـ بتقرير عن حال المرأة السعودية! تحدثت فيه كل من الطبيبة السعودية فلانة! والكاتبة السعودية فلانة! عن الحال البائس!! للمرأة عندنا، لعل عباد الصليب يمنون على المرأة المسلمة وينظرون في حالها!! نعوذ بالله من الخزي والذلة. وأذكر أنني قرأت في صفحة الـ BBC على الإنترنت أن الغرب يتوعد بلادنا بأنه سيدعم الاتجاهات التغييرية لدينا، ولعل هذا التقرير خير مثال!
([3]) انظر: جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 5/3/1419هـ . وقد عللوا المنع أنه لأسباب أمنية !! وما أكثر الأسباب إن أرادوا !(67/18)
([4]) ذكرت نشرة (تطوير) التي تصدرها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض (العدد 33) : أن الرحلات اليومية (وهي المسافة التي يقطعها فرد واحد لتحقيق هدف واحد داخل المدينة) لم تتجاوز 5,5 ملايين رحلة يومياً حتى عام 1422هـ، وأنها سترتفع إلى 15 ميلون رحلة يومياً عام 1442هـ. وقس على ذلك بقية المدن.
([5]) ومن له أقارب في تلك الدول –مثلي- يعلم هذا يقيناً. فلماذا التلبيس ؟!
([6]) صحيح البخاري (حديث 2879).
([7]) (حديث 2985) .
([8]) حديث صحيح. انظر طرقه ورواياته في "جزء فيه طرق حديث طلب العلم فريضة.." للسيوطي، تحقيق: علي حسن عبد الحميد.
([9]) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني –رحمه الله- (برقم 178)، وقد ذكر الشيخ من فوائد الحديث :"مشروعية تعليم المرأة الكتابة.."
([10]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/351 – 353) .
([11]) نقلاً عن مطوية (قيادة المرأة للسيارة) إصدار : دار القاسم بالرياض.
([12]) إعلام الموقعين (3/171) .(67/19)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
أما بعد : فقد قال الله تعالى في وصف آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بأنهم ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) ، قال الشيخ ابن سعدي - رحمه الله - : ( أي متحابون متراحمون متعاطفون كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ) ( تيسير الكريم الرحمن 7/111) . وقد تواترت الأخبار بتأكيد هذا الأمر بينهم . وما قد يحدث بينهم من خلاف فهو من قبيل الخلاف الإجتهادي الذي يُعذر المخطئ فيه - ولله الحمد - .
وقد كانت العلاقة الحميمة بين آل البيت وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بادية للعيان ،واضحة الأثر عند كل منصف ، وقد استفاضت الآثار عنهم بهذا الأمر ؛ سواء عند أهل السنة أو الشيعة .
إلا أن الشيعة - هداهم الله - لم يعجبهم هذه العلاقة الحميمة بين الفئتين ، فراحوا يفترون الأكاذيب والأباطيل التي تصور تلك العلاقة بغير صورتها الحقيقية .
ولكن فاتهم في غمرة هذه الأكاذيب أن ينتبهوا إلى أن كتبهم المعتمدة ، وآثارهم المتصلة بآل البيت حافلة بتوثيق تلك العلاقة الحميمة !!
وهذا ما لا يستطيعون له دفعًا ؛ إلا أن يقولوا قولتهم المشهورة إذا أعيتهم الحقيقة بأن ( هذا من باب التقية ) !! ولا أدري ممَ يتقي أئمة آل البيت الأبطال الشجعان باعترافهم !
وقد أحببت في هذه الرسالة أن ألخص بعض الكتب التي اهتمت بهذه العلاقة الحميمة بين الصحابة وآل البيت - رضي الله عنهم أجمعين - وذلك باعتماد كتب الشيعة الموثوقة عندهم فقط ؛ لكي يتبين شباب الشيعة - وفقهم الله للحق - ماهم عليه من انحراف تجاه صحابة نبيهم صلى الله عليه وسلم بسبب ركام الأباطيل التي حجبوا بها عن رؤية الحق .(68/1)
وأنصح أخيرًا كل باحث عن الحق بقراءة رسالة ( رحماء بينهم ) للشيخ الفاضل صالح الدرويش – حفظه الله - .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
مدح علي رضي الله عنه للصحابة :
يقول - رضي الله عنه -: ( لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فما أرى أحداً يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء للثواب)[نهج البلاغة ص143 دار الكتاب بيروت 1387هبتحقيق صبحي صالح، ومثل ذلك ورد في "الإرشاد" ص126].
وهاهو يمدح أصحاب النبي عامة، ويرجحهم على أصحابه وشيعته الذين خذلوه في الحروب والقتال، وجبنوا عن لقاء العدو ومواجهتهم، وقعدوا عنه وتركوه وحده، فيقول موازناً بينهم وبين صحابة رسول الله: ( ولقد كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا: ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجداً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما: أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوئا أوطانه. ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضر للإيمان عود. وأيم الله لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي صالح ص91، 92 ط بيروت].(68/2)
ويذكرهم أيضاً مقابل شيعته المتخاذلين، ويأسف على ذهابهم بقوله: ( أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون عن الموتى، مرة العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي صالح ص177، 178].
ويمدح المهاجرين من الصحابة في جواب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فيقول:( فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم ) . ["نهج البلاغة" ص383 بتحقيق صبحي صالح].
ويقول أيضاً: ( وفي المهاجرين خير كثير تعرفه، جزاهم الله خير الجزاء) . ["نهج البلاغة" ص383 بتحقيق صبحي صالح].
كما مدح الأنصار من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بقوله : ( هم والله ربوا الإسلام كما يربي الفلو مع غنائهم، بأيديهم السباط، وألسنتهم السلاط) . ["نهج البلاغة" ص557 تحقيق صبحي صالح].(68/3)
ومدحهم مدحاً بالغاً موازناً أصحابه ومعاوية مع أنصار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أما بعد! أيها الناس: فوالله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين صغير مولدها، وما هما بأقدم العرب ميلاداً، ولا بأكثرهم عدداً، فلما آووا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود، وغزتهم اليهود والقبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا لنصرة دين الله، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة وأهل الحزن والسهل [وأقاموا] قناة الدين، وتصبروا تحت أحلاس الجلاد حتى دانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - العرب، ورأى فيهم قرة العين قبل أن يقبضه الله إليه، فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب) . ["الغارات" ج2 ص479، 480].
ويروي المجلسي عن الطوسي رواية موثوقة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: ( أوصيكم في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا تسبوهم، فإنهم أصحاب نبيكم، وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئاً، ولم يوقروا صاحب بدعة، نعم! أوصاني رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في هؤلاء) . ["حياة القلوب للمجلسي" ج2 ص621].(68/4)
ويمدح المهاجرين والأنصار معاً حيث يجعل في أيديهم الخيار لتعيين الإمام وانتخابه، وهم أهل الحل والعقد في القرن الأول من بين المسلمين وليس لأحد أن يرد عليهم، ويتصرف بدونهم، ويعرض عن كلمتهم، لأنهم هم الأهل للمسلمين والأساس ، فيقول :(إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى) . ["نهج البلاغة" ج3 ص7 ط بيروت تحقيق محمد عبده وص367 تحقيق صبحي].
آل البيت يمدحون الصحابة :(68/5)
وهاهو علي بن الحسين الملقب بزين العابدين - الإمام المعصوم الرابع عندالشيعة ، وسيد أهل البيت في زمانه - يذكر أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، ويدعو لهم في صلاته بالرحمة والمغفرة لنصرتهم سيد الخلق في نشر دعوة التوحيد وتبليغ رسالة الله إلى خلقه فيقول: ( فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان اللهم وأصحاب محمد خاصة، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك، وكانوا من ذلك لك وإليك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرة في اعتزاز دينك إلى أقله، اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا جهتهم، لو مضوا إلى شاكلتهم لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم مكانفين وموازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم" [صحيفة كاملة لزين العابدين ص13 ط الهند 1248ه].
ويقول الحسن العسكري - الإمام الحادي عشر عند الشيعة - في تفسيره: ( إن كليم الله موسى سأل ربه : هل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله: يا موسى! أما عملت أن فضل صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع صحابة المرسلين كفضل محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع المرسلين والنبيين) .[تفسير الحسن العسكري ص65 ط الهند، وأيضاً "البرهان" ج3 ص228، واللفظ له].(68/6)
وكتب بعد ذلك في تفسير الحسن العسكري ( إن رجلاً ممن يبغض آل محمد وأصحابه الخيرين أو واحداً منهم يعذبه الله عذاباً لو قسم على مثل عدد خلق الله لأهلكهم أجمعين) .[تفسير الحسن العسكري ص196].
ولأجل ذلك قال جده الأكبر علي بن موسى الملقب بالرضا - الإمام الثامن عند الشيعة - حينما سئل "عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهديتم ، وعن قوله عليه السلام: دعوا لي أصحابي:؟ فقال: هذا صحيح) . [نص ما ذكره الرضا نقلاً عن كتاب "عيون أخبار الرضا" لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق تحت قول النبي: أصحابي كالنجوم ج2 ص87].
وإليكم ما قاله ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس - فقيه أهل البيت وعامل علي رضي الله عنه - في حق الصحابة: ( إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: { رحماء بينهم } الآية، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها) . ["مروج الذهب" ج3 ص52، 53 دار الأندلس بيروت].(68/7)
ويروي محمد الباقر رواية تنفى النفاق عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتثبت لهم الإيمان ومحبة الله عز وجل كما أوردها العياشي والبحراني في تفسيريهما تحت قول الله عز وجل: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } :عن سلام قال: كنت عند أبي جعفر، فدخل عليه حمران بن أعين، فسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرك أطال الله بقاك وأمتعنا بك، إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا، وتسلوا أنفسنا عن الدنيا، وتهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة يصعب عليها الأمر ومرة يسهل، ثم قال أبو جعفر: أما إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق، قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا روعنا، ووجلنا، نسينا الدنيا وزهدنا فيها حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك، ودخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد، ورأينا العيال والأهل والمال، يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلا، هذا من خطوات الشيطان. ليرغبنكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها وأنتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون، فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا، ثم يستغفروا، فيغفر الله لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما تسمع لقوله: { إن الله يحب التوابين } وقال: { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ) . ["تفسير العياشي" ج1 ص109، و "البرهان" ج1 ص215].(68/8)
وأما ابن الباقر جعفر الملقب بالصادق فإنه يقول: ( كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنى عشر ألفا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير) . ["كتاب الخصال" للقمي ص640 ط مكتبة الصدوق طهران].
موقف أهل البيت من أبي بكرالصديق:
يقول علي بن أبى طالب رضي الله عنه وهو يذكر بيعة أبي بكر الصديق بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عند انثيال الناس - أي انصبابهم من كل وجه كما ينثال التراب - على أبى بكر، وإجفالهم إليه ليبايعوه: فمشيت عند ذلك إلى أبى بكر، فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت "كلمة الله هي العلياولو كره الكافرون " ، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر، وسدد، وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله [ فيه ] جاهداً) . ["الغارات" ج1 ص307 تحت عنوان "رسالة علي عليه السلام إلى أصحابه بعد مقتل محمد بن أبي بكر"].(68/9)
ويذكر في رسالة أخرى أرسلها إلى أهل مصر مع عامله الذي استعمله عليها قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري: ( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد! فإن الله بحسن صنعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده و خص من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم [ به ] من الفضيلة أن بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - [ إليهم ] فعلمهم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض، وأدّبهم لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما [ لا ] يتفرقوا، وزكاهم لكيما يتطهروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضة الله [ إليه ، فعليه ] صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه إنه حميد مجيد. ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا امرأين منهم صالحين عملاً بالكتاب وأحسنا السيرة ولم يتعديا السنة ثم توفاهما الله فرحمهما الله) . ["الغارات" ج1 ص210 ومثله باختلاف يسير في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، و"ناسخ التواريخ" ج3 كتاب2 ص241 ط إيران، و"مجمع البحار" للمجلسي].
ويقول أيضاً وهو يذكر خلافة الصديق وسيرته : ( فاختار المسلمون بعده (أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) رجلاً منهم، فقارب وسدد بحسب استطاعة على خوف وجد) . ["شرح نهج البلاغة" للميثم البحراني ص400].
ولم اختار المسلمون أبا بكر خليفة للنبي وإماماً لهم ؟
يجيب على هذا السؤال علي والزبير بن العوام رضي الله عنهما بقولهما: ( وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لنعرف له سنه، ولقد أمره رسول الله بالصلاة وهو حي) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد الشيعي ج1 ص332].
ومعنى ذلك أن خلافته كانت بإيعاز الرسول عليه السلام.(68/10)
وعلي بن أبى طالب رضي الله عنه قال هذا القول رداً على أبي سفيان حين حرضه على طلب الخلافة كما ذكر ابن أبى الحديد : ( جاء أبو سفيان إلى علي عليه السلام، فقال: وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش، أما والله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً، فقال علي عليه السلام: طالما غششت الإسلام وأهله، فما ضررتهم شيئاً، لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك، لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلاً لما تركناه ) . ["شرح ابن أبي الحديد" ج1 ص130].
ولقد كررّ هذا القول ومثله مرات كرات، وأثبتته كتب الشيعة في صدورها ؛ وهو أن علياً كان يعدّ الصديق أهلاً للخلافة، وأحق الناس بها، لفضائله الجمة ومناقبه الكثيرة حتى حينما قيل له قرب وفاته بعد ما طعنه ابن ملجم : ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فأوصي، ولكن قال ( أي صلى الله عليه وسلم ) : إن أراد الله خيراً فيجمعهم على خيرهم بعد نبيهم) . ["تلخيص الشافي" للطوسي ج2 ص372 ط النجف].
وأورد مثل هذه الرواية شيخ الشيعة المسمى "علم الهدى" في كتابه الشافي : ( عن أمير المؤمنين عليه السلام لما قيل له: ألا توصي؟ فقال: ما أوصى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فأوصي، ولكن إذا أراد الله بالناس خيراً استجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم) . ["الشافي" ص171 ط النجف].(68/11)
فهذا علي بن أبى طالب رضي الله عنه يتمنى لشيعته وأنصاره أن يوفقهم الله لرجل خيّر صالح كما وفق الأمة الإسلامية المجيدة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لرجل خيّر صالح هو أبوبكر الصديق رضي الله عنه إمام الهدى، وشيخ الإسلام، ورجل قريش، والمقتدى به بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسب ما سماه سيد أهل البيت زوج الزهراء رضي الله عنهما كما رواه السيد مرتضى علم الهدى في كتابه عن جعفر بن محمد عن أبيه ( أن رجلاً من قريش جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: سمعتك تقول في الخطبة آنفا: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين، فمن هما؟ قال: حبيباي، وعماك أبو بكر وعمر، وإماما الهدى، وشيخا الإسلام. ورجلا قريش، والمتقدى بهما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدى إلى صراط المستقيم) . ["تلخيص الشافي" ج2 ص428].
وقد كرر في نفس الكتاب ( أن علياً عليه السلام قال في خطبته: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) ، ولم لا يقول هذا وهو الذي روى "إننا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبل حراء إذ تحرك الجبل، فقال له: قر، فإنه ليس عليك إلا نبي وصدّيق وشهيد" ["الاحتجاج" للطبرسي].
فهذا هو رأى علي رضي الله عنه في أبي بكر.
فالمفروض من القوم الذين يدعون موالاته وبنيه أن يتبعوه وأولاده في آرائهم ومعتقداتهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفقائه.
رأى أهل البيت في أبي بكرالصديق:
قال ابن عباس وهو يذكر الصديق: ( رحم الله أبا بكر، كان والله للفقراء رحيماً، وللقرآن تالياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً، وعن المنهيات زاجراً، وبالمعروف آمراً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وسادهم زهداً وعفافاً) . ["ناسخ التواريخ" ج5 كتاب2 ص143، 144 ط طهران].(68/12)
ويقول الحسن بن علي - الإمام المعصوم الثاني عند الشيعة، والذي أوجب الله اتباعه عليهم حسب زعمهم - يقول - وينسبه إلى رسول الله عليه السلام أنه قال - : ( إن أبا بكر مني بمنزلة السمع) . ["عيون الأخبار" ج1 ص313، أيضاً "كتاب معاني الأخبار" ص110 ط إيران].
وكان الحسن يوقر أبا بكر وعمر كثيرًا ، إلى حد أنه جعل من أحد الشروط على معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما لما تنازل له ( أنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب الله وسنة رسول الله، وسيرة الخلفاء الراشدين ، - وفي النسخة الأخرى - الخلفاء الصالحين) . ["منتهى الآمال" ص212 ج2 ط إيران].
وأما الإمام الرابع للشيعة : علي بن الحسين بن علي، فقد روي عنه أنه جاء إليه نفر من العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم: ألا تخبروني أنتم { المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً أولئك هم الصادقون } ؟ قالوا: لا، قال: فأنتم { الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ؟ قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا } ، اخرجوا عني، فعل الله بكم) . ["كشف الغمة" للأربلي ج2 ص78 ط تبريز إيران].
وأما ابن زين العابدين محمد بن على بن الحسين الملقب بالباقر - الإمام الخامس المعصوم عند الشيعة - فسئل عن حلية السيف كما رواه علي بن عيسى الأربلي في كتابه "كشف الغمة":(68/13)
(عن أبى عبد الله الجعفي عن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن حلية السيف؟ فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، قال: قلت: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة، واستقبل القبلة، فقال: نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة ) . ["كشف الغمة" ج2 ص147].
ولم يقل هذا إلا لأن جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناطق بالوحي سماه الصديق كما رواه البحراني الشيعي في تفسيره "البرهان" عن علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار قال لأبي بكر: كأني أنظر إلى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر، وأنظر إلى الأنصار محبتين (مخبتين خ) في أفنيتهم، فقال أبو بكر: وتراهم يا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فأرنيهم، فمسح على عينيه فرآهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنت الصديق ) .["البرهان" ج2 ص125].
ويروي الطبرسي عن الباقر أنه قال: ( ولست بمنكر فضل أبى بكر، ولست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر) .["الاحتجاج" للطبرسي ص230 تحت عنوان "احتجاج أبي جعفر بن علي الثاني في الأنواع الشتى من العلوم الدينية" ط مشهد كربلاء].
وسئل جعفر الصادق عن أبى بكر وعمر: ( يا ابن رسول الله! ما تقول في حق أبى بكر وعمر؟ فقال عليه السلام: إمامان عادلان قاسطان، كانا على حق، وماتا عليه، فعليهما رحمة الله يوم القيامة ) . ["إحقاق الحق" للشوشتري ج1 ص16 ط مصر].(68/14)
وروى عنه الكليني في الفروع حديثاً طويلاً ذكر فيه ( وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوصِ، فقال: أوصي بالخمس والخمس كثير، فإن الله تعالى قد رضي بالخمس، فأوصي بالخمس، وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته، ولو علم أن الثلث خير له أوصى به، ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما، فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل. فقيل له: يا أبا عبد الله! أنت في زهدك تصنع هذا، وأنت لا تدرى لعلك تموت اليوم أو غداً؟ فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي بقاء كما خفتم على الفناء، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت، وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، وأنزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم، فيقسمه بينهم، ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال؟ ) . [كتاب المعيشة "الفروع من الكافي" ج5 ص68].
فأثبت أن منزلة الصديق في الزهد من بين الأمة المنزلة الأولى، وبعده يأتي أبو ذر وسلمان.
وروى عنه الأربلي أنه كان يقول: ( لقد ولدنى أبو بكر مرتين) .["كشف الغمة" ج2 ص161].
لأن أمه : أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر وأمها (أي أم فروة) أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. ["فرق الشيعة" للنوبختي ص78].
ويروي السيد مرتضى في كتابه "الشافي" عن جعفر بن محمد أنه كان يتولاهما، ويأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ["كتاب الشافي" ص238، أيضاً "شرح نهج البلاغة" ج4 ص140 ط بيروت].(68/15)
ويقول إمام الشيعة المعروف بالحسن العسكري - الإمام الحادي عشر المعصوم عندهم - وهو يسرد واقعة الهجرة : ( أن رسول الله بعد أن سأل علياً رضي الله عنه عن النوم على فراشه قال لأبى بكر رضي الله عنه: أرضيت أن تكون معي يا أبا بكر تطلب كما أطلب، وتعرف بأنك أنت الذي تحملني على ما أدعيه فتحمل عني أنواع العذاب؟ قال أبو بكر: يا رسول الله! أما أنا لو عشت عمر الدنيا أعذب في جميعها أشد عذاب لا ينزل عليّ موت صريح ولا فرح ميخ وكان ذلك في محبتك لكان ذلك أحب إلي من أن أتنعم فيها وأنا مالك لجميع مماليك ملوكها في مخالفتك، وهل أنا ومالي وولدي إلا فداءك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا جرم أن اطلع الله على قلبك، ووجد موافقاً لما جرى على لسانك جعلك مني بمنزلة السمع والبصر، والرأس من الجسد، والروح من البدن ) . ["تفسير الحسن العسكري" ص164، 165 ط إيران].
وهاهو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب شقيق محمد الباقر وعم جعفر الصادق الذي قيل فيه: كان حليف القرآن" ["الإرشاد" للمفيد ص268 تحت عنوان "ذكر أخوته" – أي الباقر -].
"واعتقد كثير من الشيعة فيه بالإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف" ["الإرشاد" للمفيد ص268].
فهاهو زيد يسأل عن أبى بكر وعمر ما تقول فيهما ؟ قال: ما أقول فيهما إلا خيراً كما لم أسمع فيهما من أهل بيتي (بيت النبوة) إلا خيراً، ما ظلمانا ولا أحد غيرنا، وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله ) .["ناسخ التواريخ" ج2 ص590 تحت عنوان "أحوال الإمام زين العابدين"].
فلما سمع الشيعة منه هذه المقالة رفضوه، فقال زيد: رفضونا اليوم، ولذلك سموا بالرافضة. ["ناسخ التواريخ" ج2 ص590].
ويقول سلمان الفارسي رضي الله عنه – وهو ممن تعظمهم الشيعة - : إن رسول الله كان يقول في صحابته: ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه. ["مجالس المؤمنين" للشوشتري ص89].
خلافة أبي بكرالصديق:(68/16)
وبعد ما ذكرنا أهل بيت النبي وموقفهم وآرائهم تجاه سيد الخلق بعد أنبياء الله ورسله أبي بكر الصديق رضي الله عنه نريد أن نذكر أنه لم يكن خلاف بينه وبين أهل البيت في مسألة خلافة النبي وإمارة المؤمنين وإمامة المسلمين، وأن أهل البيت بايعوه كما بايعه غيرهم، وساروا في مركبه، ومشوا في موكبه، وقاسموه هموم المسلمين وآلامهم، وشاركوه في صلاح الأمة وفلاحها، وكان علي رضي الله عنه أحد المستشارين المقربين إليه، يشترك في قضايا الدولة وأمور الناس، ويشير عليه بالأنفع والأصلح حسب فهمه ورأيه. ويتبادل به الأفكار والآراء، لا يمنعه مانع ولا يعوقه عائق، يصلي خلفه، ويعمل بأوامره، ويقضي بقضاياه، ويستدل بأحكامه ويستند، ثم ويسمي أبناءه بأسمائه حباً له وتيمناً باسمه وتودداً إليه.
وفوق ذلك كله يصاهر أهل البيت به وبأولاده، ويتزوجون منهم ويزوجون بهم، ويتبادلون ما بينهم التحف والصلات، ويجري بينهم من المعاملات ما يجري بين الأقرباء المتحابين والأحباء المتقاربين ، وكل ذلك مما روته كتب الشيعة – ولله الحمد - .
فقد استدل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على صحة خلافته وانعقادها كما يذكر وهو يردّ على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أمير الشام بقوله : ( إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى) . ["نهج البلاغة" ص366، 367 ط بيروت بتحقيق صبحي صالح].
وقال: ( إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للناس قل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار) . ["ناسخ التواريخ" ج3 الجزء2].(68/17)
وهذا النص واضح في معناه، لا غموض فيه ولا إشكال بأن الإمامة والخلافة تنعقد باتفاق المسلمين واجتماعهم على شخص، وخاصة في العصر الأول باجتماع الأنصار والمهاجرين، فإنهم اجتمعوا على أبي بكر وعمر، فلم يبق للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، كما ذكرنا قريباً روايتين عن علي بن أبى طالب في الغارات للثقفي بأن الناس انثالوا على أبي بكر، وأجفلوا إليه، فلم يكن إلا أن يقر ويعترف بخلافته وإمامته.
وهناك رواية أخرى في غير "الغارات" تقر بهذا عن علي أنه قال وهو يذكر أمر الخلافة والإمامة: (رضينا عن الله قضائه، وسلمنا لله أمره ... . فنظرت في أمري فإذا طاعتي سبقت بيعتي إذ الميثاق في عنقي لغيري) . ["نهج البلاغة" ص81 خطبة 37 ط بيروت بتحقيق صبحي صالح].
ولما رأى ذلك تقدم إلى الصديق، وبايعه كما بايعه المهاجرون والأنصار، والكلام من فيه وهو يومئذ أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ولا يتقي الناس، ولا يظهر إلا ما يبطنه لعدم دواعي التقية حسب أوهام القوم، وهو يذكر الأحداث الماضية فيقول: ( فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر، فبايعته، ونهضت في تلك الأحداث ... فتولى أبو بكر تلك الأمور وسدد ويسر وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله جاهداً ) . ["منار الهدى" لعلي البحراني الشيعي ص373، أيضاً "ناسخ التواريخ" ج3 ص532].
ولأجل ذلك رد على أبي سفيان والعباس حينما عرضا عليه الخلافة لأنه لا حق له بعد ما انعقدت للصديق .
وكتب إلى أمير الشام معاوية بن أبى سفيان : (وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعواناً أيّدهم به، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام كما زعمت ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصديق وخليفة الخليفة الفاروق، ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصائب بهما لجرح في الإسلام شديد يرحمهما الله، وجزاهم الله بأحسن ما عملا) . [ابن ميثم شرح نهج البلاغة ط إيران ص488].(68/18)
وروى الطوسي عن علي أنه لما اجتمع بالمهزومين في الجمل قال لهم: ( فبايعتم أبا بكر، وعدلتم عني، فبايعت أبا بكر كما بايعتموه ... ..، فبايعت عمر كما بايعتموه فوفيت له بيعته ... .. فبايعتم عثمان فبايعته وأنا جالس في بيتي، ثم أتيتموني غير داع لكم ولا مستكره لأحد منكم فبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان، فما جعلكم أحق أن تفوا لأبى بكر وعمر وعثمان ببيعتهم منكم ببيعتي) . ["الأمالي" لشيخ الطائفة الطوسي ج2 ص121 ط نجف].
وينقل الطبرسي أيضاً عن محمد الباقر ما يقطع أن علياً كان مقراً بخلافة أبي بكر، ومعترفاً بإمامته، ومبايعاً له بإمارته كما يذكر أن أسامة بن زيد حب رسول الله لما أراد الخروج انتقل رسول الله إلى الملأ الأعلى ( فلما ورد الكتاب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبى طالب (ع) فقال: ما هذا ؟ قال له علي (ع) : هذا ما ترى، قال أسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم) .["الاحتجاج" للطبرسي ص50 ط مشهد عراق].
ولقد أقر بذلك شيعي متأخر وإمام من أئمة القوم هو محمد حسين آل كاشف الغطاء بقوله: ( وحين رأى – أي علي - أن الخليفة الأول والثاني بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجيوش وتوسيع الفتوح، ولم يستأثروا ولم يستبدوا بايع وسالم) . ["أصل الشيعة وأصولها" ط دار البحار بيروت 1960 ص91].
ويروي ابن أبي الحديد أن عليًا والزبير قالا بعد مبايعتهما أبي بكر : ( وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف له سنه، ولقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالناس وهو حي) . ["شرح نهج البلاغة" لأبي أبي الحديد ج1 ص132].
وأورد ابن أبي الحديد رواية أخرى مشابهة في شرحه ] ج1 ص134، 135].
إقتداء علي بالصديق في الصلوات وقبوله الهدايا منه:(68/19)
ولقد كان علي رضي الله عنه راضياً بخلافة الصديق ومشاركاً له في معاملاته وقضاياه، قابلاً منه الهدايا، رافعاً إليه الشكاوى، مصلياً خلفه، عاملاً معه ، محباً له، مبغضاً من يبغضه.
فقد ذكرنا قبل أن علياً قال للقوم حينما أرادوه خليفة وأميراً: وأنا لكم وزيراً خير لكم منى أميرا. ["نهج البلاغة" ص136 تحقيق صبحي صالح].
يذكرهم أيام الصديق والفاروق حينما كان مستشاراً مسموعاً، ومشيراً منفذاً كلمته . كما يروي اليعقوبي الشيعي في تاريخه وهو يذكر أيام خلافة الصديق ( وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشارو جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبى طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيباً، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم ) .["تاريخ اليعقوبي" ص132، 133 ج2 ط بيروت 1960م].
وفى رواية ( سأل الصديق علياً كيف ومن أين تبشر؟ قال: من النبي حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن! يسرّك الله) . ["تاريخ التواريخ" ج2 كتاب 2 ص158 تحت عنوان "عزام أبي بكر"].(68/20)
ويؤيد ذلك عالم الشيعة محمد بن النعمان العكبري الملقب بالشيخ المفيد حيث بوّب باباً خاصاً في كتابه "الإرشاد" لقضايا أمير المؤمنين عليه السلام في إمارة أبي بكر.ثم ذكر عدة روايات عن قضايا علي في خلافة أبي بكر، ومنها ( أن رجلاً رفع إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحد فقال له: إني شربتها ولا علم لي بتحريمها لأني نشأت بين قوم يستحلونها ولم أعلم بتحريمها حتى الآن ، فارتج علي أبي بكر الأمر بالحكم عليه ولم يعلم وجه القضاء فيه، فأشار عليه بعض من حضر أن يستخبر أمير المؤمنين عليه السلام عن الحكم في ذلك، فأرسل إليه من سأله عنه، فقال أمير المؤمنين: مر رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ويناشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه وخلّ سبيله، ففعل ذلك أبو بكر فلم يشهد أحد من المهاجرين والأنصار أنه تلا عليه آية التحريم، ولا أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فاستتابه أبو بكر وخلى سبيله وسلم لعلي (عليه السلام) في القضاء به) . ["الإرشاد" للمفيد ص107 ط إيران].
وكان علي يمتثل أوامره كما حدث أن وفداً من الكفار جاءوا إلى المدينة المنورة، ورأوا بالمسلمين ضعفاً وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة، فأحس منهم الصديق خطراً على عاصمة الإسلام والمسلمين، فأمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا كذلك حتى أمنوا منهم. ["شرح نهج البلاغة" ج4 ص228 تبريز].(68/21)
وللتعاطف والتوادد والوئام الكامل بينهما :كان علىّ وهو سيد أهل البيت يتقبل من أبي بكر الهدايا دأب الأخوة المتحابين ؛ كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية ، حيث قالت كتب الشيعة ( وأما عمر ورقية فإنهما من سبيئة من تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبى بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر) . ["شرح نهج البلاغة" ج2 ص718، أيضاً "عمدة الطالب" ط نجف ص361].
( وكانت اسمها أم حبيب بنت ربيعة) .["الإرشاد" ص186].
وأيضاً منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسنين :محمد بن الحنفية.
( وهى من سبي أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد بن الحنفية) . ["عمدة الطالب" الفصل الثالث ص352، أيضاً "حق اليقين" ص213].
كما وردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية والخمس وأموال الفيء من الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وكان علي هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفيء ، وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن، ثم زيد بن الحسن. ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحدد ج4 ص118].
وكان يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضياً بإمامته، ومظهراً للناس اتفاقه ووئامه معه. ["الاحتجاج" للطبرسي 53، أيضاً كتاب سليم بن قيس ص253، أيضاً "مرآة العقول" للمجلسي ص388 ط إيران].
مساعدة الصديق في تزويج علي من فاطمة:(68/22)
وكان للصديق مَنّ على عليّ رضي الله عنهما حيث توسط له في زواجه من فاطمة رضي الله عنها وساعده فيه، كما كان هو أحد الشهود على نكاحه بطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يرويه أحد أعاظم الشيعة ويسمى بشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ( عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: سمعت علي بن أبى طالب يقول: أتاني أبو بكر وعمر، فقالا: لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له فاطمة، قال: فأتيته، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك، ثم قال: ما جاء بك يا علي وما حاجتك؟ قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي، فقال : يا علي! صدقت، فأنت أفضل مما تذكر، فقلت: يا رسول الله! فاطمة تزوجنيها) . ["الأمالي" للطوسي ج1 ص38].(68/23)
وأما المجلسي فيذكر هذه الواقعة ويزيدها بياناً ووضوحاً حيث يقول: ( في يوم من الأيام كان أبو بكر وعمر وسعد بن معاذ جلوساً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتذاكروا ما بينهم بزواج فاطمة عليها السلام .فقال أبو بكر: أشراف قريش طلبوا زواجها عن النبي ولكن الرسول قال لهم بأن الأمر في ذلك إلى الله - ونظن أنها لعلي بن أبي طالب - وأما علي بن أبي طالب فلم يتقدم بطلبها إلى رسول الله لأجل فقره وعدم ماله، ثم قال أبو بكر لعمر وسعد: هيا بنا إلى علي بن أبي طالب لنشجعه ونكلفه بأن يطلب ذلك من النبي، وإن مانعه الفقر نساعده في ذلك.فأجاب سعد : ما أحسن ما فكرت به، فذهبوا إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام ... ... فلما وصلوا إليه سألهم ما الذي أتى بكم في هذا الوقت؟ قال أبو بكر: يا أبا الحسن! ليس هناك خصلة خير إلا وأنت سابق بها ... ... فما الذي يمنعك أن تطلب من الرسول ابنته فاطمة؟ فلما سمع عليّ هذا الكلام من أبي بكر نزلت الدموع من عينيه وسكبت، وقال: قشرت جروحي ونبشت وهيجت الأماني والأحلام التي كتمتها منذ أمد، فمن الذي لا يريد الزواج منها؟، ولكن يمنعني من ذلك فقري واستحي منه بأن أقول له وأنا في هذا الحال ... الخ ) . ["جلاء العيون" للملا مجلسي ج1 ص169 ط كتابفروشي إسلامية طهران، ترجمة من الفارسية].(68/24)
ثم وأكثر من ذلك أن الصديق أبا بكر هو الذي حرض علياً على زواج فاطمة رضي الله عنهم، وهو الذي ساعده المساعدة الفعلية لذلك، وهو الذي هيأ له أسباب الزواج وأعدها بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يروي الطوسي : أن علياً باع درعه وأتى بثمنه إلى الرسول، ثم قبضه رسول الله من الدراهم بكلتا يديه، فأعطاها أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، أردفه بعمار بن ياسر وبعدة من أصحابه، فحضروا السوق، فكانوا يعرضون الشيء مما يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه... حتى إذا استكمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الذين كانوا معه الباقي. ["الأمالي" ج1 ص39، أيضاً "مناقب" لابن شهر آشوب المازندراني ج2 ص20 ط الهند، أيضاً "جلاء العيون" فارسي ج1 ص176].(68/25)
بل إنالصديق ورفاقه كانوا شهوداً على زواجه بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه كما يذكر الخوارزمي الشيعي والمجلسي والأربلي ( أن الصديق والفاروق وسعد بن معاذ لما أرسلوا علياً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظروه في المسجد ليسمعوا منه ما يثلج صدورهم من إجابة الرسول وقبوله ذلك الأمر، فكان كما كانوا يتوقعون، فيقول علي: فخرجت من عند رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأنا لا أعقل فرحاً وسروراً، فاستقبلني أبو بكر وعمر، وقالا لي: ما وراءك؟ فقلت: زوجني رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ابنته فاطمة ... ... ففرحا بذلك فرحاً شديداً ورجعا معي إلى المسجد فلما توسطناه حتى لحق بنا رسول الله، وإن وجهه يتهلل سروراً وفرحاً، فقال: يا بلال! فأجابه فقال: لبيك يا رسول الله! قال: اجمع إلي المهاجرين والأنصار، فجمعهم ثم رقي درجة من المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: معاشر الناس إن جبرائيل أتاني آنفا وأخبرني عن ربي عز وجل أنه جمع ملائكته عند البيت المعمور، وكان أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة ابنة رسول الله من عبده علي بن أبى طالب، وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم على ذلك) . ["المناقب" للخوارزمي ص251، 252، أيضاً "كشف الغمة ج1 ص358، أيضاً "بحار الأنوار" للمجلسي ج10 ص38، 39، أيضاً جلاء العيون" ج1 ص184].
ويكشف النقاب عن الشهود الأربلي في كتابه "كشف الغمة" حيث يروي: ( عن أنس أنه قال كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فغشيه الوحى، فلما أفاق قال لي: يا أنس! أتدري ما جاءني به جبرائيل من عند صاحب العرش؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم.(68/26)
قال: أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وبعددهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم له، فلما أن أخذوا مجالسهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حمد الله وأثنى عليه ثم إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة) . ["كشف الغمة" ج1 ص348، 349 ط تبريز، "بحار الأنوار" ج1 ص47، 48].
ولما ولد لهما الحسن كان أبو بكر الصديق يحمله على عاتقه، ويداعبه ويلاعبه ويقول: بأبي شبيه بالنبي ..غير شبيه بعلي) .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص117].
وكانت العلاقات وطيدة إلى حد أن زوجة أبى بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرّض فاطمة بنت النبي عليه السلام ورضي الله عنها في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة ، فروت كتب الشيعة: (وكان (علي) يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رحمها الله على استمرار بذلك) . ["الأمالي" للطوسي ج1 ص107].
و(وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشييع جنازتها فعمات أسماء بها) . ["جلاء العيون" ص235، 242].
و(هي التي كانت عندها حتى النفس الأخير، وهى التي نعت علياً بوفاتها ) . ["جلاء العيون" ص237].
و( كانت شريكة في غسلها) . ["كشف الغمة" ج1 ص504].
وكان أبوبكرالصديق دائم الاتصال بعلي ليسأله عن أحوال فاطمة:
( فمرضت (أي فاطمة رضي الله عنها) وكان علي (ع) يصلي في المسجد الصلوات الخمس، فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟) . ["كتاب سليم بن قيس" ص353].
و( لما قبضت فاطمة من يومها فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان: يا أبا الحسن! لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله ) . ["كتاب سليم بن قيس" ص255].
المصاهرات بين الصديق وآل البيت:(68/27)
وكانت العلاقات وثيقة أكيدة بين بيت النبوة وبيت الصديق لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج الأفاكون الأساطير والأباطيل، { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } [سورة العنكبوت الآية41].
فالصديقة عائشة بنت الصديق أبى بكر كانت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة، وهى طاهرة مطهرة - بشهادة القرآن - مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون.
ثم أسماء بنت عميس التي جاء ذكرها آنفا كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها فتزوجها الصديق وولدت له ولداً سماه محمداً الذي ولاه علي على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبى طالب فولدت له ولداً سماه يحيى.
وحفيدة الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر - الإمام الخامس عند الشيعة وحفيد علي رضي الله عنه - كما يذكر الكليني في أصوله تحت عنوان مولد جعفر:(ولد أبو عبد الله عليه السلام سنة ثلاث وثمانين ومضى في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة وله خمس وستون سنة، ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده والحسن بن علي عليهم السلام وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر) . ["كتاب الحجة من الأصول في الكافي ج1 ص472، ومثله في "الفرق" للنوبختي].
ويقول ابن عنبة عن جعفر : ( أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. ولهذا كان الصادق عليه السلام يقول: ولدني أبو بكر مرتين ). ] عمدة الطالب ، ص 195، ط طهران 1961م [ .(68/28)
كما أن القاسم بن محمد بن أبي بكر حفيد أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد علي كانا ابني خالة كما يذكر المفيد وهو يذكر علي بن الحسين بقوله: والإمام بعد الحسن بن علي (ع) ابنه أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، وكان يكنى أيضا أبا الحسن. وأمه شاه زنان بنت يزدجردبن شهريار بن كسرى ويقال: إن اسمها كان شهر بانويه وكان أمير المؤمنين (ع) ولى حريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق، فبعث إليه بنتي يزدجردبن شهريار بن كسرى ، فنحل ابنه الحسين (ع) شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين (ع) ونحل الأخرى محمد بن أبي بكر، فولدت له القاسم بن محمد بن أبى بكر فهما ابنا خالة) . ["الإرشاد" للمفيد ص253 ومثله في "كشف الغمة" و"منتهى الآمال" للشيخ عباس القمي ج2 ص3].
وأما المجلسي فذكر ذلك في "جلاء العيون" ولكنه صحح الروايات التي جاء بها المفيد وابن بابويه بأن شهربانو لم تكن سبيت في عهد علي كما ذكره المفيد ولا في عهد عثمان كما ذكره ابن بابويه القمي، بل كانت من سبايا عمر كما رواه القطب الراوندي ، ثم يقر بعد ذلك بأن قاسم بن محمد بن أبي بكر وزين العابدين بن الحسين بن علي هما ابنا خالة . ["جلاء العيون" الفارسي ص673، 674].
وذكر أهل الأنساب والتاريخ قرابة أخرى وهى تزويج حفصة بنت عبد الرحمن بن الصديق من الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم بعد عبد الله بن الزبير أو قبله.
ثم إن محمد بن أبي بكر من أسماء بنت عميس كان ربيب علي وحبيبه، وولاه إمرة مصر في عصره.
( وكان علي عليه السلام يقول: محمد ابني من ظهر أبي بكر) .["الدرة النجفية" للدنبلي الشيعي شرح نهج البلاغة ص113 ص إيران].(68/29)
وكان من حب أهل البيت للصديق والتوادد فيما بينهم أنهم سموا أبناءهم بأسماء أبي بكر رضي الله عنه، فأولهم علي بن أبي طالب حيث سمى أحد أبنائه بأبي بكر كما يذكر المفيد تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين (ع) وعددهم وأسماءهم ومختصر من أخبارهم" :
( 12- محمد الأصغر المكنى بأبي بكر 13- عبيد الله، الشهيدان مع أخيهما الحسين (ع) بالطف أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية) .["الإرشاد" ص186].
وقال اليعقوبي: ( وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكر الحسن والحسين ... ... وعبيد الله وأبو بكر لا عقب لهما أمهما ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تيم) .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213].
وذكر الأصفهاني في "مقاتل الطالبيين" تحت عنوان "ذكر خبر الحسين بن علي بن أبي طالب ومقتله ومن قتل معه من أهله" وكان منهم ( أبو بكر بن علي بن أبي طالب وأمه يعلى بنت مسعود ... .. ذكر أبو جعفر أن رجلاً من همدان قتله، وذكر المدائني أنه وجد في ساقيه مقتولاً، لا يدري من قتله ) . ["مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني الشيعي ط دار المعرفة بيروت ص142، ومثله في "كشف الغمة" ج2 ص64، "جلاء العيون" للمجلسي ص582].
وهل هذا إلا دليل حب ومؤاخاة وإعظام وتقدير من عليّ للصديق رضي الله عنهما؟!
والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل وبعد وفاته كما هو معروف بداهة.
وهل يوجد في الشيعة اليوم الزاعمين حب علي وأولاده رجل يسمي بهذا الاسم؟! وهل هم موالون له أم مخالفون ؟!
ولم يختص عليّ بهذه المحبة والصداقة لأبي بكر، بل تابعه بنوه من بعده ومشوا مشيه ونهجوا منهجه.
فهذا هو أكبر أنجاله وابن فاطمة وسبط الرسول الحسن بن علي - الإمام المعصوم الثاني عند الشيعة - يسمي أحد أبنائه بهذا الاسم كما ذكره اليعقوبي:(68/30)
( وكان للحسن من الولد ثمانية ذكور وهم الحسن بن الحسن وأمه خولة ... ... وأبو بكر وعبد الرحمن لأمهات أولاد شتى وطلحة وعبيد الله) . ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص228، منتهى الآمال ج1 ص240].
ويذكر الأصفهاني ( أن أبا بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب أيضاً كان ممن قتل في كربلاء مع الحسين قتله عقبة الغنوي) .["مقاتل الطالبيين" ص87].
والحسين بن علي أيضاً سمى أحد أبنائه باسم الصديق كما يذكر ذلك المؤرخ الشيعي المشهور المسعودي في "التنبيه والإشراف" عند ذكر المقتولين مع الحسين في كربلاء.
( وممن قتلوا في كربلاء من ولد الحسين ثلاثة، علي الأكبر وعبد الله الصبي وأبو بكر بنوا الحسين بن علي) .["التنبيه والإشراف" ص263].
وقيل:(إن زين العابدين بن الحسن كان يكنى بأبي بكر أيضاً) .["كشف الغمة" ج2 ص74].
وأيضاً حسن بن الحسن بن علي، أي حفيد علي بن أبي طالب سمى أحد أبنائه أبا بكر كما رواه الأصفهاني عن محمد بن علي حمزة العلوي أن ممن قتل مع إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كان أبو بكر بن الحسن بن الحسن.] "مقاتل الطالبيين" ، ص 188 ط دار المعرفة ، بيروت [ .
والإمام السابع عند الشيعة موسى بن جعفر الملقب بالكاظم أيضاً سمى أحد أبنائه بأبي بكر.] " كشف الغمة " ج 2 ص 217 [ .
ويذكر الأصفهاني أن علي الرضا – الإمام الثامن عند الشيعة - كان يكنى بأبي بكر، ويروي عن عيسى بن مهران عن أبي الصلت الهروي أنه قال: سألني المأمون يوماً عن مسألة، فقلت: قال فيها أبو بكرنا، قال عيسى بن مهران: قلت لأبي الصلت: من أبو بكركم؟ فقال: علي بن موسى الرضا كان يكنى بها وأمه أم ولد.["مقاتل الطالبين" ص561، 562].
والجدير بالذكر أن موسى الكاظم سمى إحدى بناته باسم بنت الصديق، الصديقة عائشة كما ذكر المفيد تحت عنوان "ذكر عدد أولاد موسى بن جعفر وطرف من أخبارهم":(68/31)
( وكان لأبي الحسن موسى عليه السلام سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى منهم علي بن موسى الرضا عليهما السلام ... ... وفاطمة ... ... وعائشة وأم سلمة ) . ["الإرشاد" ص302، 303، "الفصول المهمة" 242، "كشف الغمة" ج2 ص237].
كما سمى جده علي بن الحسين إحدى بناته: عائشة. ["كشف الغمة" ج2 ص90].
وأيضاً - الإمام العاشر المعصوم عندهم حسب زعمهم - علي بن محمد الهادي أبو الحسن - سمى إحدى بناته بعائشة، يقول المفيد: ( وتوفي أبو الحسن عليهما السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه ... . وابنته عائشة) . ["كشف الغمة" ص334، و"الفصول المهمة" ص283].
أخيرًا نودّ أن نذكر بأن هناك في بني هاشم كثيرًا ممن تسموا أو سموا أبناءهم بأبي بكر ، نذكر منهم ابن الأخ لعلي بن أبي طالب وهو عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب فإنه سمى أحد أبنائه أيضاً باسم أبي بكر كما ذكره الأصفهاني في مقاتله:
( قتل أبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يوم الحرة في الوقعة بين مسرف بن عقبة وبين أهل المدينة ).] "مقاتل الطالبيين " ص 123 [ .
وهذا من علامات الحب والود بين القوم خلاف ما يزعمه الشيعة من العداوة والبغضاء، والقتال الشديد والجدال الدائم بينهم.
موقف أهل البيت من عمرالفاروق:
وأما عمر بن الخطاب، فارس الإسلام وأمير المؤمنين، عبقري الملة، وفاتح القيصرية، وهازم الكسروية، فقد كان محبوباً إلى أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - :
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يذكر الفاروق وولايته :( ووليهم وال، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي الصالح تحت عنوان "غريب كلامه المحتاج إلى التفسير" ص557 ط دار الكتاب بيروت، أيضاً "نهج البلاغة بتحقيق الشيخ محمد عبده ج4 ص107 ط دار المعرفة بيروت].(68/32)
وقال الميثم البحراني الشيعي، شارح نهج البلاغة، وكذلك الدنبلي شرحاً لهذا الكلام: (إن الوالي عمر بن الخطاب، وضربه بجرانه كناية بالوصف المستعار عن استقراره وتمكنه كتمكن العير البارك من الأرض) . ["شرح نهج البلاغة" لابن الميثم ج5 ص463، أيضاً "الدرة النجفية" ص394].
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي تحت هذه الخطبة، ويذكرها من أولها : ( وهذا الوالي هو عمر بن الخطاب، وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة يذكر فيها قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصاصه له، وإفضائه بأسراره إليه .. ) .["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج4 ص519].
فانظر إلى عليّ كيف يقر ويعترف بأن الدين قد استقر في عهد عمر ، والإسلام قد تمكن في الأرض في أيام خلافته الميمونة، فهل لمتمسك من الشيعة يتمسك بقول علي بن أبي طالب - الإمام المعصوم عندهم الذي لا يخطئ –؟!
وهذه الخطبة التي مدح فيها عمر ألقاها في أيام خلافته حيث لم يكن هناك ضرورة للتقية الشيعية التي ألصقوها تهمة بخيار الخلائق رضوان الله ورحمته عليهم.
وكم هناك من خطب لعليّ منقولة في نهج البلاغة، تدل على نفس المعنى بأن الفاروق كان سبباً لعز الدين، ورفعة الإسلام، وعظمة المسلمين، وتوسعة البلاد الإسلامية، وأنه أقام الناس على المحجة البيضاء، واستأصل الفتنة، وقوم العوج وأزهق الباطل، وأحيا السنة طائعاً لله خائفاً منه، فانظر إلى ابن عم رسول الله ووالد سبطيه وهو يبالغ في مدح الفاروق، ويقول:
( لله بلاء فلان، فقد قوم الأود، وداوى العمد وخلف الفتنة، وأقام السنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي بها الضال، ولا المستيقن المهتدي ) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص350، "نهج البلاغة" تحقيق محمد عبده ج2 ص322].(68/33)
يقول ابن أبي الحديد: (وفلان المكنى عنه : عمر بن الخطاب، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضى أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر ... .. وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي: هو عمر، فقلت له: أثنى عليه أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقال: نعم ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص92 جزء12].
ومثله ذكر ابن الميثم [انظر لذلك شرح نهج البلاغة لابن الميثم ج4 ص96، 97] والدنبلي وعلي نقي في الدرة النجفية [ص257] وشرح النهج الفارسي [ج4 ص712].
فلينظر كيف يعلن علي رضى الله عنه على ملأ الشهود أن الفاروق رضي الله عنه قوم العوج، وعالج المرض، وعامل بالطريقة النبوية، وسبق الفتنة وتركها خلفا، لم يدركها هو، ولا الفتنة أدركته، وانتقل إلى ربه وليس عليه ما يلام عليه، أصاب خير الولاية والخلافة، ولحق الرفيق الأعلى، ولم يلوث في القتل والقتال الذي حدث بين المسلمين طائعاً لله، غير عاص، واتقى الله في أداء حقه، ولم يقصر فيه ولم يظلم.
فهذا هو الذي يليق أن يضرب الدين في عصره العطن.
ولقد استشارعمر عليا في الخروج إلى غزو الروم فقال له:
( إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردأ للناس ومثابة للمسلمين) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص193].
ويكتب ابن أبي الحديد تحته شرحاً : ( أشار عليه السلام أن لا يشخص بنفسه حذراً أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس، بل يبعث أميراً من جانبه على الناس ويقيم هو في المدينة، فإن هزموا كان مرجعهم إليه ) . ["شرح نهج البلاغة" ج2 جزء8 ص369، 370].(68/34)
فمن يقرأ هذه الخطبة يتبين له الحب المتدفق من علي للفاروق والحرص على شخصه وحياته، والرجاء والتمني لبقائه في الحكم والخلافة ذخرا للإسلام والمسلمين رغم أنوف المبغضين والطاعنين فيه، ثم الجدير بالذكر أن الفاروق رضي الله عنه كان مصمماًعلى المسير إلى المعركة بنفسه والمرتضى علي رضي الله عنه كان يعرف ذلك، ومع ذلك أراد منعه قدر المستطاع لما كان يراه سبباً لعز الإسلام ومجده وشموخه، وأن لا يمسه سوء حتى لا تنقلب على الإسلام ودولته قالة ولا تدور عليهم الدائرة، وأكثر من ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يريد أن ينيب عنه في العاصمة الإسلامية علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فكانت فرصة ذهبية ليأخذ علي زمام الأمور ويسترد الحقوق الموهومة التي يزعم الشيعة أنها سلبت!! ولكنه رضي الله عنه لم يفعل ليتأكد لك أيها القارئ أنه لم يكن بينهما سوى الحب والود ، لا كما يزعم الشيعة هداهم الله .
و لما استشار عمر عليا في الشخوص لقتال الفرس بنفسه منعه من ذلك وقال له:
( إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة. وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.(68/35)
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة ) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي ص203، 204 تحت عنوان "ومن كلام له (أي علي) عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه"].
وأيضاً أشار بذلك إلى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب - رواه المجلسي في "بحار الأنوار" عن محمد الباقر –" ["بحار الأنوار" ج4 كتاب السماء والعالم] فإن دعاء الرسول لا بد له أن يقبل.
فقد نبّه سيد أهل البيت بأن الفاروق ليس كواحد من الناس، بل إنه قطب، وعليه يدور رحى الإسلام والعرب المسلمين، فلولا القطب ليس للرحى أن تدور، وأنى لها ذلك؟ ولذلك يلح عليه بقوله: فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها: لأنهم يعرفون أن الفاروق هو الأصل، فإن استؤصل لا يبقى للفرع أثر، وأنه القطب، فإن كسر تنكسر الرحى ولا تدور.
وكان علي رضي الله عنه يعتقد أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وكان يرى بأنه محدّث بأخبار الرسول، ولذلك لم يكن يخالف سيرته وعمله حتى وفي الأمور الصغيرة والتافهة، وقد نقل الدينوري الشيعي أنه لما قدم الكوفة (قيل له: يا أمير المؤمنين! أتنزل القصر؟ قال: لا حاجة لي في نزوله، لأن عمر بن الخطاب كان يبغضه، ولكني نازل الرحبة، ثم أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى ركعتين، ثم نزل الرحبة ) . ["الأخبار الطوال" لأحمد بن داؤد الدينوري ص152].(68/36)
وكذلك لما تكلم في رد فدك أبى أن يعمل خلاف ما فعله عمر، فهذا هو السيد مرتضى يقول: ( فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب (ع) كلم في رد فدك، فقال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر ) . ["كتاب الشافي في الإمامة" ص213، أيضاً "شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد].
وننقل هنا روايات ثلاث تأييداً لهاتين الروايتين نقلناها من كتب القوم.
الأولى : عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: لا أعلم علياً خالف عمر، ولا غيّر شيئاً مما صنع حين قدم الكوفة" ["رياض النضرة" لمحب الطبري ج2 ص85].
والرواية الثانية "أن أهل نجران جاءوا إلى علي يشتكون ما فعل بهم عمر، فقال في جوابهم: إن عمر كان رشيد الأمر، فلا أغير شيئاً صنعه عمر" ["البيهقي" ج10 ص130، "الكامل" لابن أثير ج2 ص201 ط مصر، "التاريخ الكبير" للإمام البخاري ج4 ص145 ط الهند، "كتاب الخراج" لابن آدم ص23 ط مصر، "كتاب الأموال" ص98، "فتوح البلدان" ص74].
والرواية الثالثة أن علياً قال حين قدم الكوفة: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر" ["كتاب الخراج" لابن آدم ص23، أيضاً "فتوح البلدان" للبلاذري ص74 ط مصر].
وما كان كل هذا إلا لأنه يراه رجلاً ملهماً حسب إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ورجلاً مسدداً يدور معه الحق أينما دار.(68/37)
وأورد ابن أبي الحديد ( أن الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي الفارسي دخل عليه ابنا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال ابن عباس: فسمعنا صوت أم كلثوم (بنت علي رضي الله عنه) : واعمراه، وكان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء، فقال عمر: ويل أم عمر إن الله لم يغفر له، فقلت: والله! إني لأرجو أن لا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى: { وإن منكم إلا واردها } : إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين وسيد المسلمين تقضي بالكتاب وتقسم بالسوية، فأعجبه قولي، فاستوى جالساً فقال: أتشهد لي بهذا ياابن عباس؟ فكعكعت أي جبنت، فضرب عليّ عليه السلام بين كتفي وقال: اشهد، وفى رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين؟ فوالله لقد كان إسلامك عزاً، وإمارتك فخراً، ولقد ملأت الأرض عدلاً، فقال: أتشهد لي بذلك يا ابن عباس! قال: فكأنه كره الشهادة فتوقف، فقال له علي عليه السلام: قل: نعم، وأنا معك، فقال: نعم) . ["ابن أبي الحديد" ج3 ص146، ومثل هذا في "كتاب الآثار" ص207، "سيرة عمر" لابن الجوزي ص193 ط مصر].
وأكثر من هذا أن علياً - وهو الإمام المعصوم الأول عند القوم - كان يؤمن بأن عمر من أهل الجنة لما سمعه من لسان خيرة خلق الله محمد المصطفى الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، ولأجل ذلك كان يتمنى بأن يلقى الله بالأعمال التي عملها الفاروق عمر رضي الله عنه في حياته، كما رواه كل من السيد مرتضى وأبو جعفر الطوسي وابن بابويه وابن أبي الحديد:
( لما غسل عمر وكفن دخل علي عليه السلام فقال: ما على الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى (أي المكفون) بين أظهركم ) .["كتاب الشافي" لعلم الهدى ص171، و"تلخيص الشافي" للطوسي ج2 ص428 ط إيران، و"معاني الأخبار" للصدوق ص117 ط إيران].
وقدوردت هذه الرواية في كتب السنة بتمامها .(68/38)
وأما ابن أبي الحديد فيذكر (طعن أمير المؤمنين فانصرف الناس وهو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد، فقيل: يا أمير المؤمنين! الصلاة، فرفع رأسه وقال: لاها الله إذن، لا حظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته، ثم وثب ليقوم فانبعث جرحه دماً فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب جرحه، ثم صلى وذكر، ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال: ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله! قال عبد الله: فلم أعجل بها وظننت أنها إختلاس من عقله، فقالها مرة أخرى: ضع خدّي إلى الأرض يا بني، فلم أفعل، فقال الثالثة: ضع خدّي إلى الأرض لا أم لك، فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة، فوضعت خدّه إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب ، وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه، فأصغيت أذني لأسمع ما يقول فسمعته يقول: يا ويل عمر وويل أم عمر إن لم يتجاوز الله عنه، وقد جاء في رواية أن علياً عليه السلام جاء حتى وقف عليه فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى) . ["شرح النهج" لابن أبي الحديد ج3 ص147].
فهل هناك أكثر من هذا ؟
نعم! هناك أكثر وأكثر، لقد شهد علي رضي الله عنه: ( إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) .["كتاب الشافي" ج2 ص428].
وقال فيه وفي أبي بكر في رسالته: ( إنهما إماما الهدى، وشيخا الإسلام، والمقتدى بهما بعد رسول الله، ومن اقتدى بهما عصم) .["تلخيص الشافي" للطوسي ج2 ص428].
وأيضا روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر) . ["عيون أخبار الرضا" لابن بابويه القمي ج1 ص313، أيضاً "معاني الأخبار" للقمي ص110، أيضاً "تفسير الحسن العسكري"].
والجدير بالذكر أن هذه الرواية رواها عليّ عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رواها عن علي ابنه الحسن رضي الله عنهما.
مدح أهل البيت للفاروق :(68/39)
يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( رحم الله أبا حفص كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الحنفاء، وقام بحق الله صابراً محتسباً حتى أوضح الدين، وفتح البلاد، وآمن العباد) . ["مروج الذهب" للمسعودي الشيعي ج3 ص51، "ناسخ التواريخ" ج2 ص144 ط إيران].
وقد بالغ في مدحه سائر أهل البيت كما مرعند ذكر الصديق رضي الله عنه.
ولقد أورد الكليني في كتاب "الروضة من الكافي أن جعفر بن محمد - الإمام السادس المعصوم لدى الشيعة - لم يكن يتولاهما فحسب، بل كان يأمر أتباعه بولايتهما أيضاً، فيقول صاحبه المشهور لدى القوم أبو بصير: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيسرّك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها. قال: وأجلسني على الطنفسة، قال: ثم دخلت فتكلمت فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما (أي أبى بكر وعمر) فقال لها : توليهما، قالت : فأقول لربي إذا لقيته : إنك أمرتني بولايتهما؟ قال : نعم. ["الروضة من الكافي" ج8 ص101 ط إيران تحت عنوان "حديث أبي بصير مع المرأة"].
فهذا هو جعفر الصادق الذي جعلوا مذهبهم على اسمه، وشريعتهم على رسمه، حيث سموا أنفسهم جعفريين، ومذهبهم الجعفري، لا يكتفي بتولى أبي بكر وعمر، بل يأمر أتباعه أيضاً بتوليهما، فرحمة الله عليهم جميعاً، ورحمة ربنا على من يمتثل أمره وأمر آبائه في ولاية أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وغيرهما من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه ورضوانه عليهم أجمعين.
تزويج علي ابنته أم كلثوم من عمر – رضي الله عنهم جميعًا - :(68/40)
ولأجل هذه المحبة والعلاقة الحميمة بينهما : زوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته التي ولدتها فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفاروق رضي الله عنه حينما سأله الزواج منها ؛ رضى به ، وثقة فيه ، وإقراراً بفضائله ومناقبه، واعترافاً بمحاسنه وجمال سيرته، وإظهاراً للعلاقات الوطيدة الطيبة والصلات المحكمة المباركة ما يحرق قلوب الحساد ، ولقد أقر بهذا الزواج كافة أهل التاريخ والأنساب وجميع محدثي الشيعة وفقهائهم ومكابريهم ومجادليهم وأئمتهم المعصومين حسب زعمهم :
يقول المؤرخ الشيعي أحمد بن أبي يعقوب في تاريخه تحت ذكر حوادث سنة 17 من خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: إنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث ذهبت. لكني سمعت رسول الله يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله، فتزوجها وأمهرها عشرة آلاف دينار) . [تاريخ اليعقوبي ج2 ص149، 150].
وأقر بهذا الزواج أصحاب الصحاح الأربعة الشيعية أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كافيه
وروى أيضاً عن سليمان بن خالد أنه قال :سألت أبا عبد الله عليه السلام - جعفر الصادق - عن امرأة توفي زوجها أين تعتد؟ في بيت زوجها أو حيث شاءت؟ قال : بلى حيث شاءت، ثم قال : إن علياً لمّا مات عمر أتى أم كلثوم فأخذ بيدها فانطلق بها إلى بيته.["الكافي في الفروع" كتاب الطلاق، باب المتوفى عنها زوجها ج6 ص115، 116، وفي نفس الباب رواية أخرى عن ذلك، وأورد هذه الرواية شيخ الطائفة الطوسي في صحيحه "الاستبصار"، أبواب العدة، باب المتوفى عنها زوجها ج3 ص353، ورواية ثانية عن معاوية بن عمار، وأوردهما في "تهذيب الأحكام" باب في عدة النساء ج8 ص161].(68/41)
وهناك رواية أخرى رواها الطوسي عن جعفر - الإمام السادس عندهم - عن أبيه الباقر أنه قال:
( ماتت أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر بن الخطاب في ساعة واحدة لا يدرى أيهما هلك قبل، فلم يورث أحدهما من الآخر، وصلي عليهما جميعاً ) . ["تهذيب الأحكام" كتاب الميراث، باب ميراث الغرقى والمهدوم، ج9 ص262].
وذكر هذا الزواج من محدثي الشيعة وفقهائها السيد مرتضى علم الهدى في كتابه "الشافي" [ص116] وفى كتابه "تنزيه الأنبياء" [ص141 ط إيران]، وابن شهر آشوب في كتابه "مناقب آل أبي طالب" [ج3 ص162 ط بمبئى الهند] والأربلي في "كشف الغمة في معرفة الأئمة" [ص10 ط إيران القديم] وابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" [ج3 ص124] ومقدس الأردبيلي في "حديقة الشيعة" [ص277 ط طهران] والقاضي نور الله الشوشتري الذى يسمونه بالشهيد الثالث في كتابه "مجالس المؤمنين" [ص76 ط إيران القديم، أيضاً ص82].
ويقول وهو يذكر المقداد بن الأسود: ( إن النبي أعطى بنته لعثمان، وإن الولي زوج بنته من عمر) . ["مجالس المؤمنين" ص85].
وأيضاً ذكر هذا الزواج في كتابه "مصائب النواصب" [ص170 ط طهران]، وأيضاً ذكره نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" والملا باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" [باب أحوال أولاده وأزواجه ص621 ط طهران]، والمؤرخ الشيعي المرزا عباس علي القلي في تاريخه ["تاريخ طراز مذهب مظفري" فارسي، باب حكاية تزويج أم كلثوم من عمر بن الخطاب]، ومحمد جواد الشري في كتابه ["أمير المؤمنين" ص217 تحت عنوان "علي في عهد عمر" ط بيروت]، والعباسي القمي في "منتهى الآمال" [ج1 ص186 فصل6 تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين" ط إيران القديم] وغيرهم ممن يبلغ عددهم حد التواتر، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أوجاهل .(68/42)
ولقد استدل بهذا الزواج فقهاء الشيعة على أنه يجوز نكاح الهاشمية من غير الهاشمي، فكتب الحلّي في شرائع الإسلام ( ويجوز نكاح الحرة العبد، والعربية العجمي، والهاشمية غير الهاشمي) . ["شرائع الإسلام" في الفقه الجعفري للحلي، كتاب النكاح، المتوفى 672].
وكتب تحت هذا شارح الشرائع زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني ( وزوج النبي ابنته عثمان، وزوج ابنته زينب بأبي العاص بن الربيع، وليسا من بني هاشم، وكذلك زوّج علي ابنته أم كلثوم من عمر، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة، وكلهم من غير بني هاشم ) . ["مسالك الأفهام" شرح شرائع الإسلام، باب لواحق العقد ج1].
ونريد أن نختم الكلام في هذا الموضوع برواية ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي: قال :( إن عمر بن الخطاب وجه إلى ملك الروم بريداً، فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيباً بدنانير، وجعلته في قارورتين وأهدتهما إلى امرأة ملك الروم، فرجع البريد إليها ومعه ملء القارورتين جواهر، فدخل عليها عمر وقد صبت الجواهر في حجرها، فقال : من أين لك هذا؟ فأخبرته فقبض عليه وقال : هذا للمسلمين، قالت : كيف وهو عوض هديتي؟ قال : بيني وبينك، أبوك، فقال علي عليه السلام : لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين جملة لأن بريد المسلمين حمله ) .["شرح نهج البلاغة" ج4 ص575 ط بيروت 1375ه].
ولقد ذكر هذا الزواج علماء الأنساب والتراجم أيضاً مثل البلاذري في "أنساب الأشراف" [ج1 ص428 ط مصر]، وابن حزم في "جمهرة أنساب العرب" [ص37، 38 ط مصر]، والبغدادي في كتابه "المحبر" [تحت عنوان أصهار علي ص56 و437 ط دكن]، والدينوري في "المعارف" [تحت عنوان بنات علي ص92 ط مصر وأيضاً ص79، 80 تحت عنوان أولاد عمر بن الخطاب]، وغيرهم.
إكرام الفاروق أهل البيت واحترامه إياهم:(68/43)
ولم تكن هذه العلاقات من طرف واحد ، بل كل الأطراف كانوا معتنين بهذه العلاقات ؛ فكان الفاروق يجل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما كان يجل أهل بيته هو، وكان يحترمهم ويقدمهم في الحقوق والعطاء على نفسه وأهل بيته، ولقد ذكر المؤرخون قاطبة أن الفاروق لما عيّن الوظائف المالية والعطاءات من بيت المال قدّم على الجميع بني هاشم لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولاحترامه أهل بيته عليه الصلاة والسلام.
فها هو اليعقوبي يذكر ذلك بقوله :
( ودون عمر الدواوين، وفرض العطاء سنة 20، وقال : قد كثرت الأموال فأشير عليه أن يجعل ديواناً، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، و جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف [وكلهم أقرباء علي]، وقال : اكتبوا الناس على منازلهم وابدأوا ببني عبد مناف، فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف ، ولنفسه أربعة آلاف .. وكان أول مال أعطاه مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين مبلغه سبعمائة ألف درهم، قال (يعنى الفاروق): اكتبوا الناس على منازلهم، واكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه، فلما نظر عمر قال : وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن ابدأوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله ) . ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص153 ط بيروت].(68/44)
وأما ابن أبي الحديد فقال : ( لا بل أبدأ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و بأهله، ثم الأقرب فالأقرب، فبدأ ببني هاشم، ثم ببني عبد المطلب ثم بعبد شمس ونوفل، ثم بسائر بطون قريش، فقسم عمر مروطاً بين نساء المدينة، فبقي منها مرط حسن، فقال بعض من عنده : أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك - يعنون أم كلثوم بنت علي عليه السلام - فقال : أم سليط أهديه فإنها ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت تزفر لنا يوم أحد قرباً ) . ["نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص113، 114].
ولقد ثبت أن الفاروق كان يقدر ويكرم أهل البيت، ويكن لهم من الاحترام ما لا يكن للآخرين، حتى أهل بيته وخاصته.
وذكر أن ابنة يزدجرد كسرى إيران أكبر ملوك العالم آنذاك لما سبيت مع أسارى إيران أرسلت مع من أرسل إلى أمير المؤمنين وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر الفاروق رضي الله عنه، وتطلع الناس إليها وظنوا أنها تعطى وتنفل إلى ابن أمير المؤمنين والمجاهد الباسل الذي قاتل تحت لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوات عديدة، لأنه هو الذي كان لها كفوا، ولكن الفاروق لم يخصها لنفسه ولالابنه ولا لأحد من أهل بيته، بل رجح أهل بيت النبوة فأعطاها للحسين بن علي رضي الله عنهما، وهى التي ولدت علي بن الحسين رضي الله عنه الذي بقي وحيداً من أبناء الحسين في كربلاء حياً وأنجب وتسلسل منه نسله .
ولقد ذكر ذلك نسابة شيعي مشهورهوابن عنبة وقال : (إن اسمها شهربانو قيل : نهبت في فسخ المدائن فنفلها عمر بن الخطاب من الحسين عليه السلام ) . ["عمدة الطالب في أنساب أبي طالب" الفصل الثاني تحت عنوان عقب الحسين ص192].
كما ذكر ذلك محدث الشيعة المعروف في صحيحه الكافي في الأصول، عن محمد الباقر أنه قال :(68/45)
( لما قدمت بنت يزدجرد على عمر أشرف لها عذارى المدينة، وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت : أف بيروج باداهرمز، فقال عمر : أتشتمنى هذه وهمّ بها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ليس ذلك لك، خيرها رجلاً من المسلمين وأحسبها بفيئه، فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين عليه السلام، فقال لها أمير المؤمنين : ما اسمك؟ فقالت : جهان شاه، فقال لها أمير المؤمنين : بل شهربانويه، ثم قال للحسين : يا أبا عبد الله! لتلدن لك منها خير أهل الأرض، فولدت على بن الحسين عليه السلام، وكان يقال لعلي بن الحسين عليه السلام : ابن الخيرتين، فخيرة الله من العرب هاشم ومن العجم فارس. وروي أن أبا الأسود الدائلي قال فيه :
وإن غلاماً بين كسرى وهاشم
لأكرم من نيطت عليه التمائم) . ["الأصول من الكافي" ج1 ص467، ناسخ التواريخ ج10 ص3، 4].
وقبل ذلك ساعد أباه علياً في زواجه من فاطمة رضي الله عنهما كما مر سابقاً.
و كان الفاروق يأخذ غلة فدك ويدفع إليهم منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي . ["شرح نهج البلاغة" لابن ميثم ج5 ص107، أيضاً "الدرة النجفية" ص332، وابن أبي الحديد أيضاً].
ومن إكرامه وتقديره لأهل البيت ما ذكره ابن أبي الحديد عن يحيى بن سعيد أنه قال : ( أمر عمر الحسين بن علي أن يأتيه في بعض الحاجة فلقي الحسين عليه السلام عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء؟ قال : استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد، فقال : ما منعك أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك، ولكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت، فقال عمر : وأنت عندي مثله؟ وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم) .["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص110].(68/46)
وكان يقول في عامة بني هاشم ما رواه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي أنه قال : ( قال عمر بن الخطاب : عيادة بني هاشم سنة، وزيارتهم نافلة ) . ["الآمالي" للطوسي ج2 ص345 ط نجف].
... ونقل الطوسي والصدوق أن عمر لم يكن يستمع إلى أحد بطعن في علي بن أبي طالب ولم يكن يتحمله، ومرة ( وقع رجل في علىّ عليه السلام بمحضر من عمر، فقال : تعرف صاحب هذا القبر؟ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره ) . ["الآمالي" للطوسي ج2 ص46، أيضاً "الآمالي" للصدوق ص324، ومثله ورد في مناقب لابن شهر آشوب ج2 ص154 ط الهند].
حب آل البيت ومبايعتهم للفاروق :
وكان أهل بيت النبوة يتبادلون معه هذا الحب والتقدير والاحترام، ولم يستمعوا ولم يصغوا إلى من يتكلم فيه، أو يطعنه بطعنة، أو يعرّض به بتعريض، بل تبرؤا ممن فعل هذا، وأنكروا عليه كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
وأكثر من ذلك كافئوه على احترامه لهم وتقديره بهم حتى أعطوه ثمرة من ثمار النبوة، وزوّجوها منه، وأطاعوه، وأخلصوا له الوفاء والطاعة، وناصحوه، وشاوروه بأحسن ما رأوه، واستوزرهم فرضوا، وأنابهم فقبلوا نيابته، وجاهدوا تحت رايته، ولم يتأخروا في تقديم النصيحة له وما يطلب منهم وفق الكتاب والسنة، وبذلوا له كل غال وثمين .
فها هو علي بن أبي طالب يقر بذلك في رسالته التي أرسلها إلى أصحابه بمصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر عامله على مصر، فيقول بعد ذكر الأحداث التي وقعت عقب وفاة الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه :
( فتولى أبو بكر تلك الأمور ... ... فلما احتضر بعث إلى عمر، فولاّه فسمعنا وأطعنا وناصحنا - ثم يمدحه حسب عادته أنه لا يذكره إلا ويبالغ في مدحه – وتولى عمر الأمر، وكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة ) . ["الغارات" للثقفي ج1 ص307، والنقيبة هي النفس].(68/47)
أي لم نتأخر في بيعته، ولم نبخل بالسمع والطاعة والمناصحة، لأن سيرته كانت طيبة، ونفسه كان ميموناً مباركاً، ناجحاً في أفعاله، مظفراً في مطالبه.
ولقد أثبت هذا الطوسي في أماليه حيث يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( فبايعت عمر كما بايعتموه، فوفيت له بيعته حتى لما قتل جعلني سادس ستة، ودخلت حيث أدخلني ) . ["الأمالي" للطوسي ج2 ص121 ط نجف].
فبايعه علي بن أبي طالب، وسمع له، وأطاعه، وناصحه، ورضي بما أمر به، ودخل اللجنة التي جعلها لانتخاب الخليفة ، وكان وزيره ومشيره وقاضيه، وعمل بمشورته دون غيره كما ذكر اليعقوبي المؤرخ الشيعي :
( إن عمر شاور أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم : تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال : إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء! ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال : وفقك الله! هذا الرأي ) .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص151، 152].
وكذلك وردت الروايات الكثيرة في المسائل القضائية أن عمر يرجح قضاء علي ، ولقد بوب شيخ الشيعة المفيد باباً مستقلاً بعنوان "ذكر ما جاء من قضاياه في إمرة عمر بن الخطاب" وأورد تحته قضايا مختلفة كثيرة حكم فيها عمر بقضاء علي رضي الله عنهما، ومنها :
( أن عمر أتى بحامل قد زنت فأمر برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : هب أن لك سبيلاً عليها أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ والله تعالى يقول: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ؟ فقال عمر : لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن ، ثم قال : فما أصنع بها؟ قال : احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد، فسرى بذلك عن عمر وعول الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام ) . ["الإرشاد" ص109].
وأيضا ذكر المفيد :(68/48)
أن عمر استدعى امرأة كانت تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستهل ثم مات ، فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم : نراك مؤدباً، ولم ترد إلا خيراً، ولا شيء عليك في ذلك ، وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك، فقال له عمر : ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال : قد سمعت ما قالوا : قال : فما عندك؟ قال : قد قال القوم ما سمعت، قال : أقسمت عليك لتقولن ما عندك، قال : إن كان القوم قاربوك فقد غشوك وإن كانوا ارتاؤا فقد قصروا الدية على عاقلتك لأن قتل الصبى خطأ تعلق بك ، فقال : أنت والله نصحتني من بينهم والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي ، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام . ["الإرشاد" ص110].
وأيضاً ( عن يونس عن الحسن أن عمر أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك ، إن الله تعالى يقول: { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ويقول جل قائلاً: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فإذا تمت المرأة الرضاعة سنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا ) . ["الإرشاد" ص110].(68/49)
وأيضاً : ( إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطأها ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت : اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمر وقال : وتجرح الشهود أيضاً ! فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ردوها واسألوها فلعل لها عذراً، فردت وسئلت عن حالها فقالت : كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماء ولم يكن في إبل أهلي لبن وخرج خليطنا وكان في إبله لبن، فنفذ مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : الله أكبر { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } فلما سمع ذلك عمر خلى سبيلها) .] " الإرشاد " ص 312[ .
فعمل الفاروق في جميع هذه القضايا بقضاء عليّ، ونفّذ ما قاله لأنه كان يقول حسب رواية شيعية : ( علي أقضانا ) . ["الأمالي" للطوسي ج1 ص256 ط نجف].
أفبعد هذا يمكن القول بأن علياً كان يخالف عمر رضى الله عنهما، أو كان بينهما شيء؟!
وهل يتصور أن شخصاً لا يعترف ولا يقرّ بولاية أحد وخلافته ثم يشترك معه في الشورى وفي المسائل المهمة والنوائب الملمة، ويبدي رأيه الصائب، ويؤخذ بقوله ويقضى به بين الناس، وينفذ قضاؤه ؟!
وأكثر من ذلك : أن عليًا كان ينوب عنه في الحكم والحكومة أحيانًا ؛ حيث أنابه عمر سنة 15 من الهجرة لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين فشاور أصحابه فمنعه علي، وقال له : لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً، فقال عمر : إني أبادر بجهاز العدو موت العباس بن عبد المطلب ، إنكم لو فقدتم العباس لينقض بكم الشر ، كما ينتقض الحبل".
فشخص عمر إلى الشام.
( وإن علياً عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج2 جزء 8 ص370].(68/50)
ولقد ذكر المؤرخون أن الفاروق رضي الله عنه أناب عليًا رضي الله عنه ثلاث مرات في الحكم على عاصمة المؤمنين : سنة 14 من الهجرة عندما أراد غزو العراق بنفسه. وسنة 15 عند شخوصه لقتال الروم. وعند خروجه إلى أيلة سنة 17 من الهجرة . [انظر : "البداية والنهاية" لابن كثير ج7 ص35 وص55 ط بيروت، وأيضاً "الطبري" ج4 ص83، وص159 ط بيروت].
ولأجل ذلك قال علي رضي الله عنه لما عزموا على بيعته:( أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) . [نهج البلاغة ص136 تحقيق صبحي].
يشير بذلك إلى وزارته أيام الصديق وأيام الفاروق رضي الله عنهم.
ولأجل ذلك كان يقاتل هو وبنوه وأهله وذووه تحت راية عمر، ويقبلون منه الغنائم والهدايا والجواري والسبايا، ولو لم تكن خلافته حقاً لما كان القتال تحت رايته جهاداً، ولم يكن الجواري والإماء جوارياً وإماءً، ولم يجز قبولها والتمتع بها، وقد ثبت هذا كله كما ذكرناه سابقاً .
ومن ذلك ما روى الشيعة أن الحسن بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام قاتل تحت لواء الفاروق، وجاهد أيام خلافته وتحت توجيهاته وإرشاداته في الجيش الذي أرسل إلى غزو إيران ويقولون : إن في أصفهان مسجداً يعرف بلسان الأرض!ولقد سمي بهذا الاسم لأن الحسن لما جاء إلى أصفهان أيام خلافة عمر بن الخطاب مجاهداً في سبيل الله غازياً وفاتحاً لهذه البلاد مع عساكر الإسلام نزل في موضع هذا المسجد فتكلمت معه الأرض – كما يزعمون - فسميت هذه البقعة لسان الأرض لتكلمها معه . [انظر : "تتمة المنتهى" للعباس القمي ص390 ط إيران].(68/51)
وأخيراً نريد أن نختم هذا البحث بمظهر يدل دلالة واضحة على حب أهل البيت للفاروق رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك المظهر هو تسمية أهل البيت أبناءهم باسم الفاروق عمر، حباً وإعجاباً بشخصيته، وتقديراً لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم للإسلام من الخدمات الجليلة، وإقراراً بالصلات الودية الوطيدة التي تربطه بأهل بيت النبوة، والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم.
فأول من سمى ابنه باسمه : الإمام الأول عند الشيعة ؛ وهو علي رضي الله عنه ، فقد سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية - التي منحها له أبو بكر رضي الله عنه- : عمر ، كما ذكر ذلك المفيد واليعقوبي والمجلسي والأصفهاني وصاحب الفصول، يقول المفيد في باب "ذكر أولاد أمير المؤمنين وعددهم وأسماءهم": ( فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2) الحسين ... ... .(6) عمر (7) رقية كانا توأمين أمهما أم حبيب بنت ربيعة ) . ["الإرشاد" للمفيد ص176].
ويقول اليعقوبي : ( وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكراً الحسن والحسين ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله ... .. وعمر، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية ) . ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213، كذلك "مقاتل الطالبيين" ص84 ط بيروت].
وأما المجلسي فيذكرأن ( عمر بن علي من الذين قتلوا مع الحسين في كربلاء، وأمه أم البنين بنت الحزام الكلابية ) . ["جلاء العيون" فارسي، ذكر من قتل مع الحسين بكربلاء ص570].(68/52)
وصاحب الفصول يقول تحت ذكر أولاد علي بن أبي طالب : ( وعمر من التغلبية، وهى الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليه خالد بن الوليد بعين التمر، وعمّر عمر هذا حتى بلغ خمسة وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي عليه السلام، وذلك أن جميع إخوته وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين (ع) بالطف فورثهم ) . ["الفصول المهمة" منشورات الأعلمي طهران ص143، "عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب" ص361 ط نجف، "تحفة الإهاب" ص251، 252، "كشف الغمة" ج1 ص575].
ولقد تبعه في هذا الحب لعمر بن الخطاب ابنه الحسن فسمى أحد أبنائه عمر أيضاً.
يقول المفيد في باب "ذكر ولد الحسن بن علي عليهما السلام وعددهم وأسماؤهم".
( أولاد الحسن بن علي (ع) خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى (1) زيد ... . (5) عمر (6) قاسم (7) عبد الله أمهم أم ولد ) .["الإرشاد" ص194، "تاريخ اليعقوبي" ج2 ص228، "عمدة الطالب" ص81، "منتهى الآمال" ج1 ص240 "الفصول المهمة" ص166].
ويقول المجلسي :
( كان عمر بن الحسن ممن استشهد مع الحسين بكربلاء ) . ["جلاء العيون" ص582].
ولكن الأصفهاني يرى أنه لم يقتل، بل كان ممن أسر فيقول :
( وحمل أهله (الحسين بعد قتله) أسرى وفيهم عمر، وزيد، والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب ) .["مقاتل الطالبين" ص119].
وكذلك ابنه الثاني الحسين رضي الله عنه أيضاً سمى أحد أبنائه باسم عمر، كما ذكر المجلسي تحت ذكر من قتل من أهل البيت مع الحسين بكربلاء ( قتل من أبناء الحسين كما هو المشهور علي الأكبر، وعبد الله الذي استشهد في حجره، وبعضهم قالوا : أيضاً قتل من أبنائه هو عمر وزيد ) . ["جلاء العيون" للمجلسي ص582].(68/53)
ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمى أحد أبنائه أيضاً :عمر، كما قال المفيد في باب "ذكر ولد علي عليه السلام" : ( ولد علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولداً (1) محمد المكنى بأبي جعفر الباقر (ع) أمه أم عبد الله بنت الحسن ... (6) عمر لام ولد ) . ["الإرشاد" ص261، "كشف الغمة" ج2 ص105، "عمدة الطالب" ص194، "منتهى الآمال" ج2 ص43، "الفصول المهمة" ص209].
وأما الأصفهاني فيذكر أن عمر هذا كان من أشقاء زيد بن على من أمه وأبيه كما يقول تحت ترجمة زيد بن على : ( وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ... . وأمه أم ولد أهداها المختار بن أبي عبيد لعلي بن الحسين فولدت له زيداً وعمر وعلياً وخديجة ... ... . اشترى المختار جارية بثلاثين ألفاً، فقال لها : أدبري فأدبرت، ثم قال لها : أقبلي فأقبلت، ثم قال : ما أدري أحداً أحق بها من علي بن الحسين فبعث بها إليه وهى أم زيد بن على ) . ["مقاتل الطالبين" ص127].
والجدير بالذكر أن كثيراً من أولاد عمر هذا خرجوا على العباسيين مع من خرج من أبناء عمومتهم ["وتفاصيل هذا موجودة في "المقاتل"].
وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم - الإمام السابع لدى الشيعة - سمى أحد أبنائه : عمر ؛ كما ذكر الأربلي تحت عنوان أولاده ["كشف الغمة" ص216].
فهؤلاء الأئمة الخمسة لدى الشيعة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حب وولاء حتى بعد وفاته ؛ فيسمون أبناءهم باسمه – رضي الله عنهم أجمعين - . شاهدين بفعلهم هذا على كذب ما تحوكه الشيعة من أساطير وخرافات حول العداوة بينهم ، مما لا يصدقها عاقل عرف دين وأخلاق الصحابة رضي الله عنهم .
وبعد هؤلاء : سرى هذا الاسم في أولادهم كما في كتب الأنساب والتاريخ والسير، وأورد بعضاً منها الأصفهاني في "المقاتل" والأربلي في "كشف الغمة" ، يقول الأصفهاني:(68/54)
فمن الذين خرجوا طلباً للحكم والحكومة من الطالبيين مثل يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي خرج أيام المستعين.
وعمر بن إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين "الذي خرج مع الحسين المعروف بصاحب فخ أيام موسى الهادي" .["مقاتل الطالبين" للأصفهاني ص456 ط بيروت].
و"عمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن" ["مقاتل الطالبين" أيضاً ص446].
وغيرهم كثير ، ولكننا اكتفينا بالخمسة الأول لما لهم من مكانة عند القوم لقولهم بعصمتهم وإمامتهم .
موقف أهل البيت من عثمان رضي الله عنه:
وأما ذو النورين ثالث الخلفاء الراشدين، وصاحب الجود والحياء، حب رسول الله وزوج ابنتيه رقية وأم كلثوم، وعديم النظير في هذا الشرف الذي لم ينله الأولون ولا الآخرون في أمة من الأمم، وعديل علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، وأول مهاجر بعد خليل الله عليه السلام، الذي حمل راية الإسلام وأداها إلى آفاق لم تبلغ إليها من قبل، وفتح على المسلمين مدناً جديدة وبلاداً واسعة شاسعة، وأمد المسلمين من جيبه الخاص بإمدادات كثيرة، واشترى لهم بئر رومة حينما لم يكن لهم بئر يسقون منها الماء بعد هجرتهم إلى طيبة التي طيبها الله بقدوم صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، كما اشترى لهم أرضاً يبنون عليها المسجد الذي هو آخر مساجد الأنبياء.
ولم تكن إمداداته هذه ومساعداته لعامة المسلمين ومصالحهم ؛ مثل تجهيز جيش العسرة وغيرها فحسب ، بل كان خيراً، جواداً، كريماً، منفقاً الأموال وناثرها ،حتى على الخاصة كما كان على العامة.(68/55)
وهو الذي ساعد عليًا في زواجه، وأعطاه جميع النفقات كما يقر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه( إني لما تقدمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالباً منه زواج فاطمة قال لي : بع درعك وائتني بثمنها حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما، قال علي : فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربع مائة درهم سود هجرية من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال : يا أبا الحسن! ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت : نعم، قال : فإن هذا الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله فطرحت الدرع والدراهم بين يديه، وأخبرته بما كان من أمر عثمان فدعا له النبي بخير ) . ["المناقب" للخوارزمي ص252، 253 ط نجف، "كشف الغمة" للأربلي ج1 ص359، و"بحار الأنوار" للمجلسي ص39، 40 ط إيران].
ولأجل ذلك كان ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس يقول: ( رحم الله أبا عمرو (عثمان بن عفان) كان والله أكرم الحفدة وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضاً عند كل مكرمة، سباقاً إلى كل منحة، حبيباً، أبياً، وفياً : صاحب جيش العسرة، خِتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .["تاريخ المسعودي" ج3 ص51 ط مصر، أيضاً "ناسخ التواريخ" للمرزه محمد تقي ج5 ص144 ط طهران].
وقد أشهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن أشهدهم على زواج علي من فاطمة – كما سبق – حيث يروي الشيعة عن أنس ( أنه قال له عليه الصلاة والسلام : انطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان ... .. وبعددهم من الأنصار، قال : فانطلقت فدعوتهم له، فلما أن أخذوا مجالسهم قال ... .. إني أشهدكم أنى قد زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال من فضة ) .["كشف الغمة" ج1 ص358، أيضاً "المناقب" للخوارزمي ص252، و"بحار الأنوار" للمجلسي ج10 ص38].(68/56)
ويفتخر الشيعة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج عليًا إحدى بناته ، وأدخله بذلك في أصهاره وأرحامه، وهذا الذي جعلهم يقولون بأفضليته وإمامته وخلافته بعده، فكيف بمن زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنتين من بناته ؟! وهو عثمان رضي الله عنه ، حيث تزوج رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وبعد وفاتها زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته الثانية أم كلثوم رضي الله عنها ، كما يقر ويعترف بذلك علماء الشيعة أيضاً، فها هو المجلسي يذكر ذلك في كتابه "حياة القلوب" نقلاً عن ابن بابويه القمي بسنده الصحيح المعتمد عندهم بقوله :
( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد له من خديجة القاسم، وعبد الله الملقب بالطاهر، وأم كلثوم، ورقية، وزينب، وفاطمة، وتزوج علي من فاطمة، وأبو العاص بن ربيعة من زينب، وكان رجلاً من بني أمية ، كما تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم وماتت قبل أن يدخل بها، ثم لما أراد الرسول خروجه إلى بدر زوّجه من رقية ) . ["حياة القلوب" للمجلسي ج2 ص588 باب 51].
وأورد الحميري رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : ( لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة: القاسم والطاهر وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب، فتزوج علي عليه السلام فاطمة عليها السلام، وتزوج أبو العاص بن ربيعة وهو من بني أمية زينباً، وتزوج عثمان بن عفان أم كلثوم ولم يدخل بها حتى هلكت، وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانها رقية ) . ["قرب الإسناد" ص6، 7].
وروى مثل هذه الرواية العباس القمي في "منتهى الآمال" عن جعفر الصادق، والمامقاني في "تنقيح الرجال" ["المنتهى" ج1 ص108، "التنقيح" ج3 ص73].
وأقر بذلك الشري حيث كتب :(68/57)
( وما كان عثمان دون الشيخين صحبة ولا سابقة، فهو من المسلمين الموقرين، وهو صهر الرسول مرتين، تزوج ابنة الرسول رقية، وولد له منها ولد، عبد الله توفي وعمره ست سنين وكانت أمه توفيت قبل وفاته، وزوجه النبي بنته الثانية أم كلثوم، فلم تلبث أم كلثوم معه طويلاً وتوفيت في أيام أبيها ) . [كتاب "أمير المؤمنين" لمحمد جواد الشيعي تحت عنوان علي في عهد عثمان ص256].
ولقد ذكر المسعودي تحت ذكر أولاده - صلى الله عليه وسلم - :
( وكل أولاده من خديجة خلا إبراهيم وولد له - صلى الله عليه وسلم - القاسم، وبه كان يكنى وكان أكبر بنيه سناً، ورقية وأم كلثوم، وكانتا تحت عتبة وعتيبة ابني أبى لهب (عمه) فطلقاهما لخبر يطول ذكره فتزوجهما عثمان بن عفان واحدة بعد واحده ) . ["مروج الذهب" ج2 ص298 ط مصر].
هذا ولقد شهد بذلك علي بن أبي طالب أيضاً ، حيث قال مخاطبًا عثمان : (وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بالعمل منك، وأنت أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص234].
هذا وقد أنزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الفؤاد كما رووا عنه أنه قال ( إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد ) . ["عيون أخبار الرضا" ج1 ص303 ط طهران].
... ولقد مدحه جعفر الصادق بقوله : ( ينادي مناد من السماء أول النهار ألا إن علياً صلوات الله عليه وشيعته هم الفائزون، قال: وينادي مناد آخر النهار ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون ) . ["الكافي في الفروع" ج8 ص209].(68/58)
ويبين جعفر أيضاً مقام عثمان بن عفان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وثقته فيه، ونيابته عنه، وإخلاص عثمان للنبي عليه السلام والوفاء والاتباع له ، كما يبين إحدى الميزات التي امتاز بها عثمان دون غيره، وهي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى يديه لعثمان، وبيعته بنفسه عنه، وذلك في قصة صلح الحديبية حيث يقول :
( فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة، فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين، وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان، وقال المسلمون : طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما كان ليفعل، فلما جاء عثمان قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أطفت بالبيت؟ فقال : ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطف به، ثم ذكر القصة وما فيها ) .["كتاب الروضة من الكافي" ج8 ص325، 326].
فهل هناك طاعة فوق هذه الطاعة ؟! حيث دخل الحرم ولم يطف بالبيت لأن سيده ومولاه رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يطف به.
وذكر مثل ذلك المجلسي في كتابه "حياة القلوب" قال : ( لما وصل الخبر إلى رسول الله بأن عثمان قتله المشركون. قال الرسول : لا أتحرك من ههنا إلا بعد قتال من قتلوا عثمان ،فاتكأ بالشجرة، وأخذ البيعة لعثمان.. ثم ذكر القصة بتمامها ) . ["حياة القلوب" ج2 ص424 ط طهران].
مبايعة علي لعثمان رضي الله عنهما :(68/59)
وكان علي يرى صحة إمامته وخلافته لاجتماع المهاجرين والأنصار عليه، وكان يعد خلافته من الله رضى، ولم يكن لأحد الخيار أن يرد بيعته بعد ذلك، أو ينكر إمامته حاضراً كان أم غائباً ؛ كما قال في إحدى خطاباته رداً على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما : ( إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ) . ["نهج البلاغة" ص368 تحقيق صبحي].
وكان أحد الستة الذين عينهم الفاروق ليختار منهم خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، ولما بايعه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعد ما استشار أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، ورأى بأنهم لا يريدون غير عثمان بن عفان رضي الله عنه بايعه أول من بايعه، ثم تبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( فأول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب ) . ["طبقات ابن سعد" ج3 ص42 ط ليدن، أيضاً "البخاري" باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان].
ويذكر ذلك علي رضي الله عنه بقوله : ( فبايعتم عثمان فبايعته ) . ["الأمالي" للطوسي ج2 الجزء18 ص121 ط نجف].
وكان من المخلصين الأوفياء له، مناصحاً: مستشاراً، أو قاضياً ، كما كان في خلافة الصديق والفاروق، ولقد بوب محدثو الشيعة ومؤرخوها أبواباً مستقلة ذكروا فيها أقضية علي في خلافة ذي النورين رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد ذكر المفيد في "الإرشاد" تحت عنوان "قضايا علي في زمن إمارة عثمان" عدة قضايا حكم بها علي ونفذها عثمان رضي الله عنه فيقول :(68/60)
( إن امرأة نكحها شيخ كبير فحملت، فزعم الشيخ أنه لم يصل إليها وأنكر حملها، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة هل افتضك الشيخ؟ وكانت بكراً قالت : لا، فقال عثمان : أقيموا عليها الحد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : إن للمرأة سمين سم للمحيض وسم للبول، فلعل الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض، فحملت منه، فاسأل الرجل عن ذلك؟ فسئل، فقال : قد كنت أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض فقال أمير المؤمنين عليه السلام : الحمل له والولد ولده، ورأى عقوبته على الإنكار فصار عثمان إلى قضائه بذلك وتعجب منه ) . ["الإرشاد" ص122، 113 ط مكتبة بصيرتي قم ، إيران].
وأيضا ( إن رجلاً كانت له سرية فأولدها ثم اعتزلها وأنكحها عبداً له ثم توفي السيد فعتقت بملك ابنها لها وورث ولدها زوجها، ثم توفي الابن فورثت من ولدها زوجها فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول : هذا عبدي ويقول : هي امرأتي، ولست مفرجاً عنها، فقال عثمان : هذه مشكلة ، وأمير المؤمنين حاضر ، فقال عليه السلام : سلوها هل جامعها بعد ميراثها له ؟ فقالت : لا، فقال : لو أعلم أنه فعل ذلك لعذبته، اذهبي فإنه عبدك، ليس له عليك سبيل، إن شئت أن تسترقيه أو تعتقيه أو تبيعه فذلك لك ) . ["الإرشاد" ص113].
وروى الكليني عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال :
( إن الوليد بن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعلي عليه السلام : اقض بينه وبين هؤلاء الذين زعموا أنه شرب الخمر ، فأمر علي عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة ) . ["الكافي في الفروع" ج7 ص215 باب ما يجب فيه الحد من الشراب].
وقد ذكر اليعقوبي ( أن الوليد لما قدم على عثمان، قال : من يضربه؟ فاحجم الناس لقرابته وكان أخا عثمان لأمه، فقام عليّ فضربه ) . ["تاريخ اليعقوبي" الشيعي ج2 ص165].(68/61)
ولا يكون هذا الفعل والعمل إلا ممن يقرّ ويصحّح خلافة الخليفة، ويتمثل أوامر الأمير، ويشارك الحاكم في حكمه، وكان علي بن أبي طالب وأولاده، وبنو هاشم معه، يطاوعون الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ويدل على ذلك قول علي رضي الله عنه لما أراده الناس على البيعة بعد استشهاد الإمام المظلوم ذي النورين رضي الله عنه، ( دعوني والتمسوا غيري ... وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص136].
ذو النورين وعلاقاته مع أهل البيت:
ويدل على العلاقة الحميمة بينهم وبين عثمان رضي الله عنهم : قبول الهاشميين المناصب في خلافته ؛ كقبول المغيرة بن نوفل بن حارث بن عبد المطلب القضاء. ["الاستيعاب"، "أسد الغابة" "الإصابة" وغيرها].
وقبول الحارث بن نوفل أيضاً ["الطبقات"، و"الإصابة"].
وقبول عبد الله بن عباس الإمارة على الحج سنة 35 .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص176].
وجهادهم تحت رايته، وفي العساكر والجيوش التي يسيرها ويجهزها لمحاربة الكفار وأعداء الأمة الإسلامية، فقد اشترك عبدالله بن عباس ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعارك الإسلامية الواقعة في أفريقيا سنة 26 من الهجرة .["الكامل لابن الأثير" ج3 ص45].
واشترك كل من الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب في معارك برقة وطرابلس تحت قيادة عبد الله بن أبى سرح .["تاريخ ابن خلدون" ج2 ص103].
واشترك كل من الحسن والحسين وعبد الله بن عباس تحت راية سعيد بن العاص الأموي في غزوات خراسان وطبرستان وجرجان . ["تاريخ الطبري"، "الكامل لابن الأثير"، "البداية والنهاية"، "تاريخ ابن خلدون"].
وغير ذلك من الغزوات والمعارك.
وكان عثمان يهدي إليهم الغنائم والهدايا ، كما كان يبعث إليهم الجواري والخدام.(68/62)
ولقد نقل المامقاني عن الرضا - الإمام الثامن عندهم - أنه قال : ( إن عبد الله بن عامر بن كريز لما افتتح خراسان أصاب ابنتين ليزدجرد ابن شهريار ملك الأعاجم، فبعث بهما إلى عثمان بن عفان فوهب إحداهما للحسن والأخرى للحسين فماتتا عندهما نفساوين ) . ["تنقيح المقال في علم الرجال" للمامقاني ج3 ص80 ط طهران].
فكان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما، وهما كذلك ، ويشهد لهذا أنه لما حوصر من قبل البغاة، أرسل عليّ ابنيه الحسن والحسين وقال لهما : ( اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه ) . ["أنساب الأشراف" للبلاذري ج5 ص68، 69 ط مصر].
وبعث عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبناءهم ليمنعوا الناس الدخول على عثمان، وكان فيمن ذهب للدفاع عنه ولزم الباب ابن عم عليّ :عبد الله بن عباس، ولما أمّره ذو النورين في تلك الأيام على الحج قال : ( والله يا أمير المؤمنين! لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج، فأقسم عليه لينطلقن ) . ["تاريخ الأمم والملوك" أحوال سنة 35].
بل اشترك علي رضي الله عنه أول الأمر بنفسه في الدفاع عنه ( فقد حضر هو بنفسه مراراً، وطرد الناس عنه، وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله بن جعفر ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج10 ص581 ط قديم إيران].
( وانعزل عنه بعد أن دافع عنه طويلاً بيده ولسانه فلم يمكن الدفع ) . ["شرح ابن ميثم البحراني" ج4 ص354 ط طهران].
و( نابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغن شيئاً ) .["شرح ابن أبي الحديد" تحت "بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر"].
وقد ذكر ذلك نفسه حيث قال : ( والله لقد دفعت عنه حتى حسبت أن أكون آثما ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص286].
لأن ذا النورين منعهم عن الدفاع وقال : أعزم عليكم لما رجعتم فدفعتم أسلحتكم، ولزمتم بيوتكم . ["تاريخ خليفة بن خياط" ج1 ص151، 152 ط عراق].(68/63)
( ومانعهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ... .. وجماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان، وقال : أنتم في حل من نصرتي ) . ["شرح النهج" تحت عنوان محاصرة عثمان ومنعه الماء].
وجرح فيمن جرح من أهل البيت وأبناء الصحابة الحسن بن علي رضي الله عنهما وقنبر مولاه . ["الأنساب" للبلاذي ج5 ج95، "البداية" تحت "قتلة عثمان"].
ولما منع البغاة الطغاة عنه الماء خاطبهم عليّ بقوله :
( أيها الناس! إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، إن فارس والروم لتؤسر فتطعم فتسقي، فوالله لا تقطعوا الماء عن الرجل، وبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء مع فتية من بني هاشم ) . ["ناسخ التواريخ" ج2 ص531، ومثله في "أنساب الأشراف"، للبلاذري ج5 ص69].(68/64)
وقال المسعودي : ( فلما بلغ علياً أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن والحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوه منهم، وبعث الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمداً، وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بما ذكرنا، فصدوهم عن الدار، فرمى من وصفنا بالسهام، واشتبك القوم، وجرح الحسن، وشج قنبر، وجرح محمد بن طلحة، فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم وبنو أمية، فتركوا القوم في القتال على الباب، ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوروا عليها، وكان ممن وصل إليه محمد بن أبي بكر ورجلان آخران، وعند عثمان زوجته، وأهله ومواليه مشاغل بالقتال، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته، فقال : يا محمد! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك، فتراخت يده، وخرج عنه إلى الدار، ودخل رجلان فوجداه فقتلاه، وكان المصحف بين يديه يقرأ فيه، فصعدت امرأته فصرخت وقالت: قد قتل أمير المؤمنين، فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من بني أمية، فوجدوه قد فاضت نفسه رضي الله عنه ، فبكوا، فبلغ ذلك علياً وطلحة والزبير وسعداً وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فاسترجع القوم، ودخل علي الدار، وهو كالواله الحزين وقال لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ولطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير ) . ["مروج الذهب" للمسعودي ج2 ص344 ط بيروت].
ثم كان هو وأهله ممن دفنوه ليلاً، وصلوا عليه كما يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي :
( فخرج به ناس يسير من أهله ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب وهو خارج البقيع فصلوا عليه ) . [شرح النهج لابن أبي الحديد الشيعي ج1 ص97 ط قديم إيران وج1 ص198 ط بيروت].(68/65)
وكان من حب أهل البيت له أنهم زوجوا بناتهم من أبنائه اقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذي زوجه ابنتيه كما سبق ، وسموا أبناءهم باسمه ، فقد ذكر المفيد أن واحداً من أبناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان اسمه عثمان :
( فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2)الحسين ... (10) عثمان أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن ورام ) . ["الإرشاد" للمفيد ص186 تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين"].
وذكر الأصفهاني أنه قتل مع أخيه الحسين بكربلاء.
( قتل عثمان بن علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وقال الضحاك : إن خولى بن يزيد رمى عثمان بن علي بسهم فأوهطه (أي أضعفه) وشد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وأخذ رأسه ) . ["مقاتل الطالبيين" ص83، "عمدة الطالب" ص356 ط النجف، و"تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213].
فهذا هو ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه صهر رسول الله وحبيبه في الدنيا والآخرة، وحبيب أهل البيت وابن عمهم وعمتهم، وقريبهم، يحبهم ويحبونه كصاحبيه الصديق والفاروق ،
كما بيناه من كتب الشيعة أنفسهم، ومن المصادر الأصلية الموثوقة المعتمدة لديهم بذكر الصفحات والمجلدات.
ختامًا : أسأل الله أن نكون ممن قال الله تعالى عنهم ( والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ) .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .(68/66)
خبر عاجل ! ... معهد اللغة الإنجليزية ... الدرجة الجامعية الأولى ... الدراسات العليا ... دراسات حرة (بدون درجات جامعية)
أول جامعة أمريكية في المملكة:
يعتزم مستثمر سعودي إنشاء جامعة أمريكية في مدينة جدة بتكلفة تصل إلى 600 مليون ريال في عام 2005 المقبل، وكشف عبد الله عايش القرشي رئيس مجلس إدارة البزوغ العالمية لتعليم اللغات للجاليات الفرانكوفونية إن الجامعة المزمع إقامتها بعدة كليات تم التوقيع على اتفاقية بخصوصها للتعاون مع فرع الجامعة الأمريكية في بيروت. وقال لـ(المدينة) إن الاتفاقية تتضمن أن يقوم فرع الجامعة الأمريكية في بيروت بإجراء دراسات الجدوى الاقتصادية والتعليمية ووضع اللمسات النهائية لهذه الجامعة الجديدة التي سيكون مقرها في مدينة جدة، مشيراً إلى أن فريق العمل الخاص بهذه الدراسات من المتوقع أن يصل إلى جدة قريباً للبدء في الدراسات الأولية للمشروع. ولم يكشف القرشي عن أسلوب تمويل هذا المشروع سواء من خلال دخول شركاء ومستثمرين سعوديين أو أجانب لكنه أكد على أنه سيتم اختيار التخصصات النادرة والتي يتطلبها سوق العمل في المملكة العربية السعودية لتدريسها منذ المراحل الأولى؛ خاصة وأن الدراسات سوف تستند إلى احتياجات سوق العمل السعودي ومدى احتياجاته للتخصصات النادرة والدقيقة. وأوضح إن الهيئة التدريسية والأكاديميين سيتم الاستعانة بهم من خلال الخبرات التي تتمتع بها الجامعة الأمريكية في بيروت(1)، وأشار في الوقت نفسه إلى أن الدراسة ستبدأ في الجامعة الجديدة بعدد محدود من الكليات والأقسام، ويتوقع بدء الدراسة الفعلية في منتصف سبتمبر عام 2005م بطاقة استيعابية تقارب 500 طالب وطالبة، وتبلغ رسول التسجيل ما بين (3-5) آلاف دولار في العام الدراسي، إضافة إلى رسوم الخدمات الأخرى التي تقدم وفق الأسعار المعروفة.(69/1)
الجدير بالذكر أن هناك مؤشرات تؤكد أن قرابة خمسة آلاف طالب سعودي اتجهوا للدراسة في خارج المملكة في الوقت الذي تتفق التوجهات عامة للدولة في فتح المجال أمام الاستثمار في مجال التعليم بشكل عام والتعليم الجامعي بشكل خاص.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وآله وصحبه .
لقد نشأت فكرة إعداد هذه المادة عن الجامعة الأمريكية في ديار المسلمين بعد لقاء مع أحد الشباب في بعض دول الخليج ممن ارتضت أن تمكن لهذه الجامعة من فتح فرع لها على أراضيها؛ حيث كان هذا الشاب الفاضل يحدثني عن خطورة هذا الأمر على أبناء البلد ممن سيدرس في هذه الجامعة اغترارًا بقدراتها التنظيمية الدنيوية ومهاراتها التعليمية، متغافلاً أو متجاهلاً عن ما قد تزرعه في فكره من شبهات وأفكار منحرفة من خلال مناهجها الموجهة لهدف محدد يخدم مصالح من أنشاؤها.
عندها فكرت بجمع مادة متنوعة عن هذه الجامعة(نشأتها-غاياتها)كي تكون وثيقة إدانة لها،وسبباً نافعاً بإذن الله في التحذير منها،ولفت أنظار شباب الإسلام إلى خطورتها(2)،وأنها مجرد وسيلة من وسائل الغزو التغريبي لهذه الأمة.
ولقد تبين لي من خلال تأمل ما كتب عن هذه الجامعة أن لها أهدافاً ثلاثة تروم إلى تحقيقها من خلال انتشارها في بلاد المسلمين:
الهدف الأول: تنصير أبناء المسلمين! من خلال تلقينهم مبادئ الديانة النصرانية التي جعلوها كمادة إلزامية لراغبي الدراسة فيها(3)!
الهدف الثاني: تشكيك أبناء المسلمين في دينهم، من خلال إدخال الشبه عليهم، وزرع بذور الزيغ والإلحاد بينهم. وكذا نشر الانحراف الخلقي من باب أولى(4).
الهدف الثالث: تكوين طليعة أو نخبة من أبناء المسلمين (لا سيما من يسمون أبناء الذوات!) في كل بلد تدخله هذه الجامعة ليكونوا قادة المستقبل وأصحاب القرار فيه فيما بعد، والتمكين لهم من ذلك بعد حقنهم بالفكر العلماني وقطع صلتهم بدينهم.(69/2)
أما الهدف الأول: ففي ظني أنهم قد فشلوا في تحقيقه فشلاً ذريعًا –ولله الحمد-، وهذا أمر أصبح يعرفه كثير من المسلمين.
وأما الهدف الثاني: فقد تحقق لهم فيه نسبة لا يستهان بها –كما سيأتي- حيث تخرج من جامعتهم ثلة منحرفة من أبناء المسلمين كانت أشد حرباً على الإسلام وأهله من عُبّاد الصليب.
وأما الهدف الثالث: فهو –في ظني- أخطرها وأنكاها، وهو –والله أعلم- ما سيركزون عليه جداً في الفترة القادمة؛ لأنهم من خلال صنعهم لهذه الطليعة العلمانية من قادة المستقبل والمتنفذين في مجتمعات المسلمين يضمنون –لأزمان طويلة- تبعية هذه المجتمعات لهم، وخضوعها لأفكارهم، ثم قيادتها وسوقها كيفما شاؤا من خلال طليعة المنافقين.
فهذه الجامعة الخبيثة بفروعها ستكون معامل متنقلة لتفريخ رويبضات المستقبل في بلاد الإسلام ممن سيجثمون على صدره ويتولون نيابة عن أسيادهم محاربة أهله والتضييق عليهم .
وصدق الله تعالى إذ يقول (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) .
وتأمل –رعاك الله كما سيأتي- إهمال هذه الجامعة للعلوم الدنيوية(5) النافعة من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء وغيرها، وتركيزها على علوم التربية والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم التي يسهل من خلالها غزو العقول المسلمة وتدميرها لتعلم وتتيقن أن نفع بلاد المسلمين لا يأتي في قائمتها، كما يظن المغفلون. وإنما الأهداف ما ذكرت لك مما استخلصه المتابعون لأنشطتها منذ نشأتها إلى اليوم.
فبلاد الإسلام –لا سيما بلادنا- ليست بحاجة إلى مثل هذه الجامعة –ولله الحمد- لأنها لن تفيدنا لا دينياً ولا دنيويًا، ونحن في غنية عنها –إن احتجنا التوسع في التعليم الجامعي الأهلي- بجامعات تنشأ من بيئتنا وتنهج النهج الإسلامي (السلفي) في مناهجها، وتستفيد من العلوم الدنيوية النافعة التي هي مشتركة بين جميع الأمم، والموفق من وفقه الله.(69/3)
وتنبه بعد هذا إلى أنه ليس لي من جهد في هذه المواد المعروضة بين يديك مع هوامشها(6) سوى تنظيمها وجمعها في مكان واحد .
أخيراً: أتمنى ممن لديه أي معلومات عن هذه الجامعة أو ما كتب فيها أن يبعث به إليّ –مشكورًا- لأتمكن من إضافته إلى هذه المواد.
أسأل الله أن ينفع بما جمعت، وأن يكون سببًا في تبصير أبناء المسلمين لما يُكاد لهم، وأن يوفق ولاة أمرهم للتصدي لهذا الغزو الجديد، وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بتحكيم شرع الله، والبعد عن ما يخالفه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
محتويات البحث :
أولاً: مقال بعنوان: "الجامعة الأمريكية ببيروت مركز لنشاط المخابرات والسفارة الأمريكية.."، نشر في مجلة المجتمع الكويتية، العدد (200).
ثانياً: مقال بعنوان: "لماذا الجامعة الأمريكية الآن" نشر في مجلة المجتمع الكويتية .
ثالثاً: مقال بعنوان: "الدور التغريبي للجامعة الأمريكية في بيروت" نشر في مجلة المجتمع الكويتية، العدد (917).
رابعاً: جزء من كتاب: "التبشير والاستعمار في البلاد العربية" للدكتور مصطفى الخالدي والدكتور عمر فروخ، ص 96-110.
خامساً: جزء من بحث بعنوان: "الغزو الثقافي أهم قضايا التعليم المعاصر" للدكتور إبراهيم سليمان عيسى، مقدم إلى مؤتمر تطوير مناهج التربية الدينية الإسلامية في التعليم العام بالوطن العربي، ص 47-49.
سادساً: جزء من كتاب: "الجذور التاريخية لإرسالية التنصير الأجنبية في مصر" للدكتور خالد نعيم، ص 85-92.
سابعاً: بحث بعنوان: "الجامعة الأمريكية والتبعية الثقافية" للدكتور كمال نجيب، نشر في مجلة التربية المعاصرة، العدد: 49، ص 155-190.
ثامناً: مقال بعنوان: "كيف تحارب الجامعة الأمريكية الإسلام في مصر؟" للدكتورة ليلى بيومي، نشر في مجلة المختار الإسلامي، العدد: 62، ص 78-89.(69/4)
تاسعاً: عرض موجز لكتاب "اختراق العقل المصري" للدكتور رفعت سيد أحمد، نشر في مجلة العلوم الاجتماعية، الكويت، المجلد 16، العدد1، 1988.
عاشراً: عرض مطول لكتاب: "أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1920-1980" للدكتورة سهير البيلي، نشر في مجلة البيان، العدد (180).
أولاً: مقال بعنوان: "الجامعة الأمريكية ببيروت مركز لنشاط المخابرات والسفارة الأمريكية"، نشر في مجلة المجتمع الكويتية، العدد (200).
:"تباكت الصحف ذات الميول الغربية قبل شهر على أن الجامعة الأمريكية مهددة بالإفلاس، وتحرك خريجوها -ومعروف من هم خريجوها- يتدارسون مستقبل "مركز تدريبهم ومصدر توجيههم"!!، ويهيئون الأسباب التي تجعل الجامعة ماضية في أداء رسالتها التي نذرت نفسها لها منذ مائة عام.
وجاء إضراب طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت مؤخراً ليحدثنا عن لون هذه الرسالة ؟!
عقدت لجنة المتابعة المنبثقة عن المؤتمر الوطني لدعم طلاب الجامعة الأميركية مؤتمراً صحفياً في دار نقابة الصحافة في بيروت، وقالت اللجنة في بيان تلاه المحامي عزت حرب:
"إن المعركة في الجامعة تجاوزت كونها معركة بين الطلاب من ناحية والسلطة من ناحية أخرى ... لتصبح معركة وطنية بين الوجود الأميركي الاستعماري المسيطر على مختلف مستويات الحياة والسياسية وبين الرافضين لهذا الوجود، وأضاف إن السلطات اللبنانية التي استنفرت جميع أجهزتها العسكرية والإعلامية والإدارية لإجهاض تحركنا المشروع ضد إدارة المخابرات الأميركية وتعفي نفسها عن ملاحقة أجهزة المخابرات.(69/5)
وقال إن الوثائق التي نضعها بين أيديكم هي واحدة من جملة وثائق تدين بالملموس الدور الذي تلعبه الجامعة الأميركية بالتجسس على طلابنا وحركته الوطنية بالتعاون مع السفارة الأميركية، كما تفضح موقف الجامعة الأميركية من محاربة الطلبة الوطنيين ومنع دخولهم إلى الجامعة مع كونهم من ذوي الأكاديمية الممتازة فتضعهم أمام واحد من خيارين: إما جرهم إلى التبعية الأميركية وإما إجبارهم على الهجرة.
وأشار حرب في حديثه إلى أن بعض القضاة أوضحوا للذين كانوا يراجعونهم طلباً لإخلاء سبيل الطلاب بأن هناك تعليمات عليا تقضي بعدم قبول طلبات إخلاء سبيل الطلاب.
وقد جرى في المؤتمر الصحفي نشر نص وثيقتين تبرزان بوضوح دور الجامعة الأميركية وعلاقاتها بالسفارة الأميركية والاستخبارات المركزية الأمريكية"
ماذا كنتم تنتظرون من الجامعة الأمريكية ؟
بعد أن كاد يدرككم الغرق تقولون هذا الكلام! بعد خراب البصرة كما يقولون! بعد مائة عام من تخريب الجامعة في بلاد المسلمين .. إن في لسانكم لكنة من أعجميها، وفي أفكاركم لوثة من تضليلها، وفي مظاهركم هزيمة من تقليد أساتذتها ومبشريها!!
الجامعة الأمريكية ماذا تنتظرون منها؟؟ هل تنتظرون أن تعيد لكم حضارة الإسلام وأمجاد السلف الصالح؟! ماذا تنتظرون منها وأنتم تعرفون جيداً أن الغرب لا يعرف الإنسانية والرحمة والعطف على الغير.. الغرب مادي في كل شيء لا يتحرك إلا لمصلحته وأهوائه.. ويأبى أن يعاملنا إلا كما يعامل السيد عبده.
ماذا تنتظرون من الجامعة الأمريكية والله يقول لكم :
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء).
لماذا تأسست الجامعة الأميركية في بيروت ؟(69/6)
تأسست الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1865م، وهذا التوقيت الزمني له صلة بالإجهاز على الدولة العثمانية –التي أطلقوا عليها لقب الرجل المريض- وكان اسمها "الكلية السورية الإنجيلية" وكان هناك تنافس بينها وبين الجامعة اليسوعية ولكنهما تعاونا معاً بناء على دعوة من جسب الذي قال: يجب ألا يكون ثمة نعوت مثل: أميركي، إنكليزي، ألماني ... فليكن اسمنا "نصاري".
ومعظم أساتذة الجامعة الأميركية قسس مثل: دانيال بلس، فيليب حتي، ستيفن بزوز، بيارد ضودج.
وأما مناهجها فكانت مادة الإنكليزي عبارة عن نصوص منقولة من التوراة. وقرر مؤتمر القدس سنة 1935م أن يستغل كل درس في سبيل تأويل مسيحي لفروع العلوم كالتاريخ وعلم النبات ...
واتفق في عام 1909م أن احتج الطلبة المسلمون على إجبارهم على الدخول إلى الكنيسة؛ فاجتمعت عمدة الجامعة وأصدرت منشوراً طويلاً جداً، جاء في مادته الرابعة ما يلي:
"إن هذه كلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي: هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية، وهم انشأوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء. وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ ... وهكذا نجد أنفسنا ملزمين بأن نعرض الحقيقة المسيحية على كل تلميذ ... وإن كل طالب يدخل إلى مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقاً ماذا يطلب منه".
وأدى ذلك إلى إضراب قام به الطلاب كإضراب اليوم، وغالباً ما تكون أعمالنا –نحن المسلمين- ردود فعل ... ثم نتناسى الحقائق ونمضي لما يراد لنا لنستيقظ بعد ستين سنة على زوبعة جديدة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهكذا فالجامعة الأميركية تبشيرية منذ قيامها واضحة في ذلك.
ارتباط الجامعة بالسياسية الأميركية الاستعمارية:(69/7)
"الدكتور جون بادو" كان مدرباً في الجامعة الأمريكية في بيروت ثم مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم سفيراً للولايات المتحدة الأمريكية في القاهرة ... هذا التدرج يرينا أن عمل جون كسفير سياسي لا يزيد أهمية عن عمله كمدرس ثم كمدير للجامعة الأمريكية.
وبالأصل قامت الجامعة الأنجيلية (الأمريكية) بدعم من القنصلية الأمريكية في الدولة العثمانية وكلما كانت الدولة العثمانية تهم بإغلاقها تضطر للتراجع عن هذا القرار تحت ضغط من سياسة الولايات المتحدة الأميركية. بل إن الدولة العثمانية عام 1888م أغلقت مدارس المبشرين الأمريكيين ولكن المستر "بسنغر" قنصل أمريكا في بيروت والمستر اسكار ستراوس تدخلا في الأمر حتى سمح الوالي علي رضا باشا بأن تعود تلك المدارس إلى فتح أبوابها.
وما زالت الجامعة الأمريكية ماضية في مخططها الاستعماري؛ فلقد تبنت حلف بغداد ومشروع النقطة الرابعة وأعمال لجنة الإغاثة، ومن قبل نشر الكاتب "لدفيك برنهارد" سنة 1905م مقالاً عنوانه "أمريكه في الشرق" صور فيه الكلية السورية الإنجيلية على أنها محاولة مدروسة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية.
موقفها من قضية فلسطين :
كان هو نفسه موقف الولايات المتحدة الأمريكية وقد قال "أوسكار ستراوس" وزير الولايات المتحدة المفوض في تركية والذي كان مشرفاً على الكلية السورية الإنجيلية وسائر المدارس الأمريكية:
"أنا أمريكي في الدرجة الأولى، ثم أنا يهودي".
ولقد ساء الدكتور القس "بيارد ضودج" رئيس الجامعة الأمريكية ما بين (1922م-1928م) أن يكون الدكتور مصطفى الخالدي أستاذًا في الجامعة ورئيساً لجمعية الشبان المسلمين في بيروت صاحب نشاط من أجل القضية الفلسطينية وصارحه بذلك، مما جعل الدكتور الخالدي يعتزل التدريس في الجامعة.(69/8)
وبسط الدكتور ضودج رأيه في قضية فلسطين عام 1908م فقال: "إن قيام حكومة اتحادية في فلسطين تحت إشراف هيئة الأم يسلب العرب سيطرتهم المطلقة على فلسطين، كما يضع حداً لإدعاء اليهود بهجرة غير مقيدة، إلا أن الفريقين يربحان بذلك ربحاً ثابتاً: إن اليهود يحتفظون بموطن قومي واسع جداً يستطيعون به لتفوقهم الغني الحديث أن يتولوا –بالخطى الاقتصادية السليمة- زعامة الشرق الأوسط كله. أما العرب فإنهم سيجنون ربحاً من ذلك التقدم التجاري والصناعي الذي يأتي من هذا السبيل" !
الدعوة إلى اللغة العامية :
أدركت الجامعة الأمريكية أن قوة المسلمين بتمسكهم بلغة القرآن الكريم "الفصحى".. فنشطوا في الدعوة إلى العامية، وأن يحل الحرف اللاتيني مكان العربي.. وهم يقصدون من وراء ذلك أن تتعدد اللهجات. لكن هذه الدعوة فشلت، فأعادت الجامعة الأمريكية الفكرة تحت شعار "تبسيط اللغة" وألف الدكتور أنيس فريحة (أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت) كتاباً أسماه "تبسيط قواعد اللغة العربية وتبويبها على أساس منطقي جديد".
وتلقف هذه الدعوة الأخيرة عدد من المتفرنجين كان من بينهم طه حسين، ونصارى لبنان ... وتجلت هذه الدعوة في مؤتمر "أزمة التخلف الحضاري" التي عقدت أخيراً في الكويت فما كان أحد من المنتسبين إليها يستطيع أن يتكلم الفصحى بطلاقة، وهذا نتيجة طبيعية للثقافة التي تلقوها، فهكذا علمتهم الجامعة الأمريكية وأمثالها من جامعات التضليل والإفساد.
وعندما فشلت الجامعة الأمريكية في كثير من مخططاتها تبنى بعض القائمين عليها "الدعوة العلمانية" في أوساط المسلمين وهدفهم من ذلك إبعاد المسلمين عن حقيقة دينهم، والزج بهم في مهاوي الضياع والقلق.
الجامعة الأمريكية استمرار للغزو الصليبي الاستعماري :(69/9)
جميع مدارس التبشير على طول امتداد العالم الإسلامي، أوكار للاستعمار الغربي البغيض، واستغلال للدين المسيحي من أجل غايات عدوانية أثيمة. وما عجزت الحروب الصليبية عن تنفيذه بالقوة والاحتلال، نفذه أحفادهم تحت شعار الرحمة والإنسانية والعلم ...
قال غاردنر:
"لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي.. والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام".
ويقول ليفونيان :
"خابت دول أوروبة في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف فأرادت أن تثير على المسلمين حرباً صليبية جديدة من طريق التبشير، فاستخدمت لذلك الكنائس والمدارس والمستشفيات، وفرقت المبشرين في العالم. وهكذا تبنت الدول حركة التبشير لمآربها السياسية ومطامعها الاقتصادية".
وهكذا: فالجامعة الأمريكية استعمارية في نشأتها، تبشيرية في أهدافها، والاستعمار والتبشير صنوان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. وهي بعد ذلك عدوة لآمال العرب المسلمين، تآمرت علينا في كل قضايانا ابتداء بهدم الخلافة الإسلامية وانتهاء بقضية فلسطين. وأكد لنا إضراب طلاب الجامعة الأمريكية الأخير جميع الحقائق التي تحدث عنها كثير من طلاب الجامعة الأمريكية السابقين أمثال الدكتور عمر فروخ والدكتور مصطفى الخالدي.
وجامعة هذه هي حقيقتها فإنا نحذر من بقائها وأمثالها من أوكار التبشير ونناشد بما هو آت:
1-إن القائمين عليها كاذبون عندما يدعون أنها ستعلن إفلاسها، وننصح أن لا يتقدم أحد لمساعدتها رسمياً كان أو غير رسمي.. ولسوف نتابع فضح هذه الأوكار الاستعمارية الرهيبة وفضح من يتعامل معها كائناً من كان.
2-نؤيد مطالب الطلاب.. ونناشد زعماء المسلمين بضرورة إغلاق المدارس التبشيرية، ونأسف أن طلاب الجامعة الأمريكية لم يصدر عنهم بيان يعتزون فيه بإسلامهم العظيم الذي تقف الجامعة العميلة لحربه.(69/10)
3-نطالب المسؤولين في بلادنا –الكويت- سحب الطلاب الكويتيين من هذه المدرسة لما أثبتنا من عمالتها، ولئن ما فيها من فوضى وإضرابات شلت إمكانية الفائدة العلمية منها وصار مستقبل طلبتها معلقاً في الهواء.
4-نناشد زعماء العالم الإسلامي، وأهل الخير، والمنظمات الإسلامية أن يتداعوا لتأسيس جامعات إسلامية متكاملة، فالعلم ليس ملكاً لأحد.. وإنه لشعور بالنقص أن الدور العلمي لا تؤديه الجامعة إلا إذا كانت أمريكية أو يسوعية". انتهى .
ثانياً: مقال بعنوان: "لماذا الجامعة الأمريكية الآن" نشر في مجلة المجتمع الكويتية :
"أوردت الصحف الصادرة في 25/9/1987م نبأ مفاده أن مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في بيروت عقد اجتماعاً له في عمان تم خلاله مناقشة أوضاع الجامعة الأمريكية والقضايا الأمنية والمعوقات التي تواجه الجامعة.. وتقول صحيفة القبس إن مجلس الأمناء بحث عرضاً أردنياً بنقل الجامعة الأمريكية إلى العاصمة الأردنية بسبب انقطاع الدراسة في الجامعة الأمريكية التي يترأسها الدكتور إبراهيم السلطي وهو أردني.
لماذا ينبغي أن نولي هذا الموضوع اهتماماً خاصاً ؟(69/11)
أثبتت التجارب أن الصليبية واليهودية العالمية تستخدمان في حربهما على الشعوب الإسلامية سلاح التشكيك في عقائد الإسلام والطعن فيها، وأن ذلك التشكيك يعد من أبرز ما يستخدم لعزل المسلمين عن عقيدتهم من خلال برامج ومخططات مدروسة وطويلة الأمد. ولقد سبق للصليبية العالمية أن أقامت بموجب تلك البرامج عدداً من المؤسسات من أهمها: الجامعة الأمريكية في بيروت وذلك إبان فترة الاحتلال العسكري لديار الإسلام في المشرق العربي .. لتكون تلك المؤسسات مدخلاً للنفوذ الغربي وللتآمر على الإسلام من موقع متقدم داخل دياره بإشباع العقول الشابة بالمبادئ والقوانين والأساليب الغربية وصبغها بتلك الصبغة ليكون لها دور أساسي بعد ذلك في تحقيق الهدف المنشود لأعداء الإسلام وهو تحويل وجهة الشعوب المسلمة عن الإسلام ونبذ مبادئه وقيمه.
والتعليم الجامعي يعد –دون شك- من أهم الوسائل وأنجعها للوصول إلى تلك الغاية إذا ما تم صب الفكر الغربي في عقول الشباب مع شحنها بقدر هائل من الإفك ضد الإسلام والحيلولة دون وصول الإسلام إليها بحيث يترتب على ذلك تخريج أعضاء بارزين في المجتمع ولكن بلا عقيدة ولا قيم ولا أخلاق، وكيف لا يتحقق ذلك عندما تقوم الجامعة باسم العلم الحضارة الحديثة بتلقين الشباب بأن الخمور والمخدرات والعلاقات الخبيثة لا صلة لها بالأخلاق العامة، وأن يدرس معلمون مدربون متمرسون لتلاميذهم أن التعلق بالإسلام ينافي روح العصر والتقدم والعلم ؟!(69/12)
وللأسف الشديد فقد وقع ما حذر من وقوعه دعاة مخلصون منذ أن أطلت المؤامرة ضد شعوب الإسلام برأسها وسيطرت الصليبية العالمية على التعليم في ديار الإسلام وحولت وجهته بفلسفته وأساليبه إلى الأنماط الغربية، فكان أن جنت الشعوب المسلمة مر الثمار على أيدي نفر من أبنائها ممن صاغتهم الجامعة الأمريكية وغيرها من مؤسسات الإرساليات الصليبية فأصبح الإسلام غريباً عنهم ومنفراً متخلفاً في نظرهم فكانوا –كما أريد لهم وربما أكثر- حرباً على دينهم وأوطانهم لا يشعرون بأدنى رابطة لهم بالإسلام ولا بقضاياه وشعوبه، وبذلك نجحت الإرساليات في تخريج معاول إفساد ممن يحاربون كل فضيلة ويناهضون كل إصلاح (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .
وأخطر ما في شأن أولئك النفر أنهم يسيطرون على أغلب مراكز القيادة والتوجيه في المجالات التربوية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية وغيرها.. يتفننون من خلال مواقعهم في محاربة شعوبهم وهي تهفو –مع تباشير الصحوة الإسلامية- إلى العودة إلى هويتها الإسلامية وتشعر أن إبعادها عن هذه الهوية في العقود الماضية قد تم بسبب تسلط المنافقين المخادعين على مقدراتها بمن رضوا أن يحصلوا على مراكز في السلطة ثمناً لتمكينهم القوى الدولية الباطشة من رقاب شعوبهم والتحكم في مستقبلها .
لقد رأينا أولئك الذين ارتضوا لأنفسهم اعتناق الأفكار الغربية ونبذ عقيدة الإسلام لا يبالون وهم خارج السلطة قليلاً أو كثيراً بما يجري من خسف لشعوبهم، ويشاركون إن كانوا داخل السلطة فيما يحل بشعوبهم من بطش وتنكيل وتجويع وتقتيل وتشريد وحصار وخنق للحريات.. وتعطيل كامل للجهاد ضد من يحتلون الأرض المقدسة ويذلون شبعها.
وهاهم البعض منهم يتحركون في اندفاع وتصميم وحرص بالغ على صيانة مستقبل أخطر المؤسسات الصليبية التنصيرية في المشرق العربي.(69/13)
ولعله ينبغي علينا أن نعترف بأن الجامعة الأمريكية قد قطعت شوطاً بعيداً في إنجاز الأهداف التي أنشئت من أجلها، وكل ذي بصيرة يرى –كل يوم- النتائج الوبيلة لإقامة حصان طروادة في صورته العصرية وسط ديار الإسلام.
نعم.. لقد أوقعت الجامعة الأمريكية التخريب المتعمد في عقول أغلب الشباب المسلم ممن تلقوا تعليمهم على يديها. ألسنا نرى تلاميذ فيليب حتي وشارل مالك وقسطنطين زريق يتبوأون أخطر المراكز في أكثر بقاع البلاد الإسلامية. ولهذا يراد للجامعة الأمريكية أن تستمر في رسالتها التي تعمل لتدمير القيم العليا عند الشباب المسلم، ومصداقاً لهذا القول فلقد رفضت الجامعة الأمريكية في بيروت كل العروض المقدمة من بيروت الشرقية لاستضافتها هناك، فالشباب المسلم هو ميدان عملها !
ما هي الجامعة الأمريكية في بيروت ؟
تأسست الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية اليوم) في بيروت عام 1865م وعينت الإرسالية الأمريكية البروتستانتية القس دانيال بلس رئيسا لها حيث ألقى خطاباً في إحدى كنائس نيويورك بمناسبة اختياره لهذا المنصب أكد فيه حاجة الشرق الأدنى إلى أطباء وإلى تعليم ديني تكون التوراة فيه كتاب تدريس دائم، أما عمل الكلية –في تصوره- فيجب أن يكون وضع كتب مسيحية تساعد على الاتصال بملايين الناس في آسيا وأفريقيا (مناطق النفوذ الاستعماري) وعلى إسباغ النعمة المسيحية عليها، كما أعلنت الإرسالية أن الكلية هي مؤسسة بروتستانتية وأنها مصممة على إضفاء الطابع التبشيري عليها وعلى أن يكون كل أستاذ فيها مبشراً مسيحياً.(69/14)
وفي عام 1909م احتج الطلبة المسلمون على إجبارهم على الحضور إلى الكنيسة فاجتمعت إدارة الكلية وأصدرت منشوراً جاء فيه "إن هذه كلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي وأقيمت لتوجد تعليماً يكون الإنجيل من مواده لكي تعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ وهكذا نجد أنفسنا ملزمين بأن نعرض الحقيقة المسيحية على كل تلميذ وأن كل طالب يدخل إلى مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقاً ماذا يطلب منه" .
وأعلن مجلس الأمناء أن الكلية لم تؤسس للتعليم اللاديني ولا لبث الأخلاق الحميدة ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي وللتأثير المسيحي وأن تخرج بذلك على الناس وتوصيهم به.
لماذا الاندفاع والحرص على صيانة مستقبل أخطر المؤسسات الصليبية التنصيرية في المشرق العربي ؟
وحتى عام 1922م كانت الجامعة الأمريكية لا تزال تصر على تعليم التوراة لطلابها حيثما تسنح الفرصة.
ويقول بنروز رئيس الجامعة الأمريكية لدى تنصيبه رئيساً لها عام 1948م "إن الدلائل قد أثبتت أن التعليم هو أثمن وسيلة استغلها المبشرون الأمريكيون في سعيهم لتنصير سوريا ولبنان ومن أجل ذلك كان اختيار رئيس الجامعة من مبشري الإرسالية البروتستانتية" .
فهل –بعد هذا الوضوح- يمكن لأحد أن يماري في أن للجامعة الأمريكية رسالة تؤديها وأن لهذه الرسالة غاية واضحة المعالم: هي تهيئة البلاد العربية للتبعية للنظم الغربية وعزلها عن أي تأثير للإسلام ... !
العرب وأمريكا :
إن تاريخ العلاقات العربية الأمريكية حافل بالمواقف العدائية من جانب الولايات المتحدة مما لا يمكن تفسيره إلا بالحقد الصليبي والكيد الكافر الذي يملي عليها تلك المواقف، ولطالما مد حكام العرب أيديهم لأمريكا وفتحوا ديارهم وقدموا ثروات أمتهم لها في الوقت الذي لم يجدوا منها –ولن يجدوا- سوى الصلف والعنجهية وكأنها تعامل جماعة من المتخلفين عقلياً.(69/15)
فبعد الحرب العالمية الأولى حمت أمريكا تنفيذ وعد بلفور بالشراكة مع بريطانيا وهو الصك الذي استخدم لاقتلاع الشعب الفلسطيني المسلم من دياره.
وفي أواخر أيام الحرب العالمية الثانية قابل الرئيس روزفلت الملك عبد العزيز آل سعود في مصر في فبراير 1945م وكان أول مطلب لروزفلت هو السماح لعائلات يهودية بإقامة مستعمرات صهيونية في ضواحي المدينة المنورة ملوّحاً بأنه سيقدم ثمناً لذلك عشرات الآلاف من الجنيهات الذهبية إن حاز مطلبه القبول –وكانت الجزيرة العربية وقتها تعاني من ضائقة اقتصادية شديدة.. ولقد رفض الملك عبد العزيز رحمه الله آنذاك مجرد مناقشة الأمر.
ثم جاء دور ترومان في إقامة دولة اليهود عام 1948م وما لحق ذلك من تاريخ حافل بالتمكين والدعم لليهود بالأموال والأسلحة والنفوذ والضغط الدولي والتصدي لكل الحقوق العربية مما يعرفه كل صغير وكبير ولا حاجة لنا لإعادة سرده ... حتى وصلنا مع أمريكا قبل أيام إلى قيامها بإغلاق مكتب إعلام منظمة التحرير في واشنطن رغم أن المكتب يسعى لعرض وجهة النظر العربية بإمكانات هزيلة جداً بما لا يغني من الحق شيئاً، فالمسألة لم تكن في يوم من الأيام مسألة شرح عدالة الحقوق العربية!! وإنهم يعرفون ذلك لكنه الحقد والكراهية التي لا حدود لها..
والعجيب أنه بعد إعلان إغلاق مكتب الإعلام الفلسطيني لوح ممثل العرب في الأمم المتحدة الدكتور كلوفيس مقصود بأن ذلك سوف تنعكس آثاره على المصالح الأمريكية في المنطقة العربية .
ولماذا الجامعة الأمريكية الآن ؟
ولنا أن نتساءل هل فتح الجامعة الأمريكية في عمان وإنقاذها من أزمتها المالية في لبنان هو إحدى هذه الانعكاسات التي ألمح إليها من الجامعة العربية ؟(69/16)
ويحق لنا أن نعجب –في زمن كله عجائب- كيف مر تدمير جامعة بيروت العربية قبل بضعة أشهر ونسف بناياتها والتفجير المتعمد للمختبرات العلمية بها بما تتجاوز خسائره 20 مليون دولار –حسب تقديرات الصحافة وقتئذ- ولم يتحرك أحد لإنقاذ هذا الصرح العلمي العربي ...
لكنها المؤامرة .. لا تزال مستمرة وعلى مختلف الأصعدة وكافة الميادين فمن يتصدى لها ... ؟!". انتهى .
ثالثاً: مقال بعنوان: "الدور التغريبي للجامعة الأمريكية في بيروت" نشر في مجلة المجتمع الكويتية، العدد (917) :
"اعتمد الاستعمار الغربي في توطيد نفوذه في العالم العربي والإسلامي على وسائل شتى، ففي البداية كان الاحتلال العسكري هو النمط السائد للاستعمار، وكما أفاقت الشعوب من سباتها وبدأت تتململ وتتمرد تحول المستعمر الدخيل من الاحتلال السافر إلى (الحماية) و(الانتداب) وحكم المستشارين، ولما اشتد تيار الاستقلال وأيقن المستعمرون أنه لابد جارفهم وأساطيلهم، وجدوا بعد دراسة وتجربة أن أكبر سهم في كنانتهم لبقاء هذه الشعوب تابعة مفككة، ممسوخة الشخصية، تائهة الوجهة هو توجيه مناهج التعليم والتغلغل في مرافقه والسيطرة على مصادره.
ولم يشهد قرن من القرون الخالية ما نشهده في قرننا هذا، تصديقاً لمقولة العلامة ابن خلدون عن ولع المغلوب بتقليد الغالب، ولم يشهد قرن من القرون -خلا قرننا هذا- مثل هذا الاستغلال السافر من الغالب للوسائل التعليمية والفكرية والإعلامية للسيطرة على تفكير المغلوب وقولبة أفكاره ليضمن الغالب فرض هيمنته وبسط نفوذه.
الزعامة تنتقل إلى أمريكا:
انتقلت في منتصف هذا القرن زعامة المعسكر الغربي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح من واجبات أمريكا المحافظة لا على التراث الفكري والحضاري لهذا المعسكر فحسب، بل عليها أن تحافظ على التراث الاستعماري والهيمنة والنفوذ الغربيين.(69/17)
والماضي التاريخي لأمريكا –إذا استثنيا إبادة الهنود الحمر- لا يشجع هذه الدولة كثيراً على التدخل العسكري المباشر، وقد بقي الرأي العام الأمريكي ميالاً للعزلة والمسالمة حتى وقع الهجوم الياباني على بيرل هاربور، فتحول هذا الرأي العام إلى تأييد الحرب ووقف التوسع الياباني الألماني، وكانت تلك بداية زعامة أمريكا للمعسكر الغربي ونهجها سياسة تعتمد على التدخل الفعال في شؤون الدول الأخرى للمحافظة على استغلالها لثروات هذه الدول وخيراتها وهو ما تسميه الدول العظمى بالمصالح الحيوية.
ولئن كان تاريخ التدخل الأمريكي العسكري والدبلوماسي السافر المستتر يعود إلى الخمسينات من هذا القرن، فإن النشاط الثقافي والتبشيري الأمريكي يعود قبل هذا إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين أنشأت الإرساليات التنصيرية المدارس والمستشفيات حيثما تمكنت في أنحاء العالم الإسلامي مثل استانبول والقاهرة وبيروت وإيران والخليج والهند وفلسطين.
العلم مقابل الانسلاخ !!
ولعل أبرز نجاح حققته هذه المراكز التعليمية هو بيع الجيل الناشئ العلم والمعرفة مقابل الانسلاخ عن جذوره الثقافية والتخلي عن شخصيته المميزة، والذوبان والتبعية لثقافة هذه المراكز وحضارتها.
ولعل كذلك أبرز هذه المراكز نجاحاً في أداء هذا الدور الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث نَشَّأت هذه الجامعة جيلين أو ثلاثة أجيال بدت فيها النزعة التغريبية واضحة المعالم وظهرت آثارها المدمرة عندما تولت النخبة التي تخرجت من هذه الجامعة مقاليد كثير من الأمور في عدد غير قليل من بلدان العالم العربي والإسلامي.(69/18)
وقد تناولت بحوث كثيرة دور الجامعة الأمريكية وتأثيرها السلبي على المنطقة، ولذا فإن ما يورده الكتاب الذي بين يدينا ليس بجديد كل الجدة، ولكن أهميته ترجع إلى كون مؤلفه من المفكرين البارزين في صفوف اليسار العربي، وهو في هذا الكتاب الذي يصفه أنه (ذكريات مثقف عربي) يستعرض بعض مراحل حياته ونشأته في بساطة وعفوية ويقدم لكثير منا معلومات غنية عن حياة الجيل (المثقف) في تلك الحقبة من الزمن، وعن نشوء الحركات التغريبية من محضنها الأول: الجامعة الأميركية في بيروت.
تساؤلات :
إن قراءة هذا الكتاب تجيب على كثير من التساؤلات التي تدور في أذهان غير المطلعين: ما هو دور التعليم –والتعليم الأجنبي بخاصة- في حركة التغريب؟ لماذا لم يكن للإسلاميين في تلك الفترة مكان في الإدارات والمناصب العليا؟ كيف استطاع زعماء التغريب خداع أتباعهم بهذه البساطة والسهولة ؟ .
والسؤال الأهم: كيف ابتعدت الحركة الثورية الفلسطينية عن جذورها الإسلامية؟ وما هي أفكار ونشأة بعض الأشخاص الذي تحكموا بوجهتها وخططوا سياستها ورسموا مساراتها المتعرجة الملتوية، وجعلوا منها –في بعض المراحل- جزءاً من تيار التغريب المعادي للإسلام؟ .
نقول ذلك لأن د. شرابي عضو في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ورئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية الصادرة باللغة الإنكليزية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية وصديق لحسن الإبراهيم وحليم بركات وأدونيس الذي راجع الكتاب لغوياً!!
يقدم د. شرابي للكتاب بكلمة توماس مان (لا يعيش الفرد حياته الشخصية فحسب، بل أيضاً حياة عصره وحياة جيله) ومن هنا كما أشرنا تنبع أهمية الكتاب !
تبدأ ذكريات د. شرابي بمغادرته في آخر عام 1947م فلسطين في طريقه إلى شيكاغو لمتابعة دراسته العليا فيها، دون أن يدور في خلده أنها آخر نظرة يلقيها على يافا بلده الحبيب.(69/19)
ويسأل المؤلف نفسه الآن بعد مرور سنوات عديدة (كيف غادرنا بلادنا والحرب قائمة فيها، واليهود يستعدون لابتلاعها؟ لم يدر هذا السؤال في بالي حينئذ.. لم يكن يخطر على بالنا تأجيل دراستنا والبقاء في وطننا لنقاتل. كان هناك من يقاتل عوضا عنا. أولئك الذين قاتلوا في ثورة 1936م، والذين سيقاتلون في المستقبل، إنهم فلاحون.. موقعهم الطبيعي هنا)
ويحدثنا د. هشام شرابي في مكان آخر.. عمن قاتل في ثورة 1936م، إذ يقول: (عندما اندلعت ثورة القسام سنة 1936م كنت في التاسعة من عمري.. لم ينقصنا شيء.. كان الخطر بعيداً عن الطبقات الميسورة، فقط الفلاحون والطبقات المحرومة قاتلت وتعذبت، ودفعت ثمن الثورة. المثقفون والأفندية كانوا يتبعون أخبار الثورة في صحيفتي (فلسطين) و(الدفاع)، كنا نسمع أن فلاناً قُتل، أن بيتاً نُسف، أو ثائراً عدم، فنلعن الإنكليز. لكن حياتنا بقيت تسير على نمطها المعتاد).
رسالة جامعة بيروت التغريبية :
ثم ينتقل بنا د. شرابي للوراء قليلاً، فيروي لنا تجربته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت، والتي يحسب كثير من المبهورين بها وبمن يقف وراءها أن الحياد الأكاديمي والنزاهة العلمية تمارسان فيها على أوسع نطاق، ولكن الحقيقة أن للجامعة رسالة تغريبية استعمارية محددة لابد أن تؤديها..
(كانت الحرية التي مارسناها في الجامعة الأميركية أقل بكثير مما كان يعتقد الناس. فقد خضعت حياتنا في الجامعة لسلطتين كان لا قدرة لنا على مغالبتها: سلطة الإدارة، وسلطة الأستاذ.
كانت سلطة الإدارة بالنسبة إلينا كسلطة الدولة بالنسبة إلى المواطن، شاملة متكاملة لا نعرف أين تبدأ وأين تنتهي. أما سلطة الأستاذ فكانت.. تفرض من فوق ولا تقبل المعارضة أو النقض.(69/20)
هكذا كان الهدف الأساسي لعملية تثقيفنا في الجامعة.. يقوم على تطويعنا وإخضاعنا نفسياً.. كانت حصيلة دراستنا الجامعية أن خضعنا لسلطة الكلمة المطبوعة كما خضعنا لسلطة الكلمة المسموعة، فأصبحنا مشلولي الفكر تجاه ما نقرأ، وبخاصة إذا كان مصدره أجنبياً).
أما البحث العلمي والروح النقدية وتقوية التفكير المنهجي فهو أمر ثانوي ربما لأن هدف الجامعة –آنذاك؟!- هو استلاب عقول النخبة من الطبقات الرئيسة في المجتمع، وتخريج جيل من أبنائها ييمم وجهه شطر حضارة الرجل النموذج الغربي (المتحضر).
وقد لاحظ د. شرابي بعد ذهابه إلى شيكاغو الفرق بين مناهج الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة شيكاغو.. (أستطيع القول بصدق إنه خلال سنواتي الجامعية لم يرشدني أحد من أساتذتي حول أسلوب البحث الصحيح ولم أتلق مرة نقداً أو تحليلاً في أي بحث قدمته، وتخرجت من الجامعة وأنا أكاد لا أعرف معنى المنهجية أو البحث بمعناه الصحيح.. فنشأ عندنا الشعور أن الفكر الصحيح إنما هو الفكر المدعوم بقوة الحس وحسن اللغة، لا بقوة النقد والتحليل.. واكتشفت جهلي بعد أسابيع قليلة في جامعة شيكاغو).
إرهاب فكري في جامعة بيروت :
من كان يستطيع المخالفة في جو إرهاب فكري كهذا الجو، وكيف يتمكن من الاعتزاز بأمته ورسالتها السامية؟، وهو يلقن صباح مساء الأفكار التغريبية من لدن جهاز تدريس صليبي متعصب أو تغريبي متعال، فلا يُسمح للطالب بالنقد ولا بالاعتراض على ما يقدمه أساتذته من معلومات ومعطيات. إن مفهوم الحرية والمنهج العلمي لدى أئمة التغريب لا يطبق إلا عند توجيههما -بأساليب ملتوية- إلى صدر هذه الأمة ومبادئها.
هل يستطيع الطالب أن يعترض ؟ وما المصير الذي ينتظره؟ (كان التهكم هو السلاح الفكري الأشد فتكاً في يد أساتذتنا، وكانوا لا يتورعون عن استعماله في جميع المناسبات. وما أسهل أن يحطم الأستاذ في قاعة الدراسة كل ما يتعارض مع اعتقاداته وميوله) .(69/21)
الدكتور شارل مالك من أبرز أساتذة الفلسفة في تاريخ الجامعة الأميركية ويحدثنا المؤلف عن هذا الرجل الذي كان وزير خارجية لبنان ردحاً من الزمن في عدة مواضع ولعل أعمقها دلالة: (في سنة 1945م غادرنا الدكتور مالك ليصبح وزير لبنان المفوض في واشنطن، وأقمنا له قبل مغادرته حفلة وداع خطب فيها عدد من الطلبة والأساتذة، وقال جميعهم ما معناه: (إنك أفلاطون ذاهب إلى أميركا لتحقيق فلسفتك، فيالخسارتنا، وهنيئاً لأميركا). ولم يخطر ببالنا آنذاك أن ما سيفعله مالك في الولايات المتحدة هو التخصص في مهاجمة الشيوعية ومدح المسيحية ودعم الحرب الباردة ليعود إلى لبنان ويصبح أيديولوجي اليمين المسيحي المتعصب) .
تقزيم وتحقير للتراث العري :
ماذا قرأ د. شرابي في السنوات التي قضاها في الجامعة في بيروت، إن نظرة عابرة على ما أورده عن قراءاته تظهر الدور التغريبي للجامعة، ومن أهم وسائله يتم في إطار تقزيم وتحقير التراث العربي الإسلامي والنظر إليه إن وقع ذلك في إطار الطرافة المندثرة الغابرة.
لقد أصبح لدى د. شرابي في نهاية دراسته الجامعية مكتبة تضم مئات الكتب من هوميروس إلى نيتشه، وقرأ لدوستوفسكي وهرمن ملفل وسومرست موم والدوس هكسلي.. ولكن ماذا عن الكتب العربية وثقافته القومية.. يقول المؤلف (ومن الغريب إني بعد صف الغرشمن –أي السنة الأولى- انقطعت كلياً عن قراءة الكتب العربية). وفي إطار ما سبق استعراضه والحديث عنه نقول: لا غرابة!!
هذا ما كانت عليه الجامعة الأميركية، وفي الكتاب زيادة لمن أراد حول العجب العجاب الذي كان يسود الجامعة من الناحية الأكاديمية والأخلاقية.
الحزب القومي السوري والنشاط الاستعراضي :(69/22)
وفي نهاية المطاف بالجامعة الأميركية يحدثنا المؤلف عن التحاقه بالحزب القومي السوري بعد أن كان عضواً في خلية من نوى حركة القوميين العرب، ولئن بدأ هذا متناقضاً إلا أنه –في رأيه- لم يكن كذلك لأن "الجو الفكري والعاطفي الذي انتقلتُ إليه لم يختلف كثيراً عن الجو العروبي الذي كنت فيه، فالقيم والمقولات والمعاني بقيت نفسها، وإن اختلفت محتوياتها في بعض أوجهها"
أصبح د. شرابي بعد التحاقه بالحزب القومي السوري من المقربين الخلص لزعيمه انطون سعادة الذي كان قوي الشخصية واسع الطموح، وتأثر شرابي بسعادة تأثراً بالغاً يتضح أثره في كتابه الذي ألفه بعد ثلاثين سنة من إعدام سعادة الذي يقول عنه "أحببته واحترمته كما لم أحترم أو أحب أي إنسان آخر.."
ويشير د. شرابي في هذا الصدد إلى اهتمام أنطون سعادة اهتماماً بالغاً بالقضية الفلسطينية ويستعرض آراءه في هذا المجال والتي لا يخلو بعضها من الصحة، والتي تفسر لنا –جزئياً- نشاط هذا الحزب -المشوب بالدعاية والاستعراض- ضد إسرائيل في لبنان.
طفولة مشوشة !
وقبل أن ينتقل بنا د. شرابي من بيروت حيث أنهى دراسته الجامعية إلى شيكاغو حيث درس للحصول على الماجستير ثم الدكتوراه، يقف بنا وقفة قصيرة ليستعرض طفولته منذ ألحقه والده في السابعة من عمره طالباً داخلياً في مدرسة الفرندز Friends في رام الله إلى ذكرياته عن عكا التي اعتاد أن يقضي فيها صيف كل عام والتي "كانت لديه –وما تزال- أجمل مدينة في العالم".(69/23)
درس الدكتور شرابي في مدرسة الفرندز التنصيرية، والفرندز أو الكويكرز جماعة نصرانية تركز في دعوتها على النواحي الأخلاقية والتعليمية، وتهتم بإنشاء المدارس والمستشفيات للوصول إلى أهدافها في نشر النصرانية، واقتصرت تجربة المؤلف الدينية إلى جانب ذلك، على ما حبته به جدته الورعة المصلّية –أهي الوحيدة بين أسرته، لا يعطينا الكتاب إشارات غير ذلك- من حنان وتوجيه ديني ... "وكان يؤلمها تقاعسي في القيام بالفرائض الدينية.. وحاولت مرة، عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة، إصلاح أموري الدينية بالأسلوب المباشر –كانت تلك المحاولة الأولى والأخيرة- فأرسلتني إلى الشيخ لأتعلم أصول الدين، ولسبب لا أعرفه حتى اليوم جعل الشيخ موعد درسنا عند الفجر من كل يوم، فكنت أستيقظ كل يوم في الساعة الرابعة –أراحك الله- أو ما يقاربها وظلام الليل ما يزال مخيماً ... ولم تدم دراستي الدينية طويلاً، وكان سبب انقطاعها رفضي التيمم.." الذي قدمه له الشيخ تقديماً غير موفق، مما جعل جدته لا تلح عليه بالعودة للشيخ فقد "خافت إن استمر الشيخ في تلقيني، أن أفقد ما تبقى في نفسي من إيمان".
لا غرابة إذاً مع طفولة وبيئة كهاتين إضافة إلى دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت –وهي على ما قدمنا- أن يبتعد مؤلفنا وأمثاله شيئاً فشيئاً عن ثقافة الأمة ومشاكل ذاته وشخصيتها المستقلة وأن تكون معالجته لقضاياها معالجة مبتسرة مستعارة المقاييس والمفاهيم.
إعادة نظر للمواقف :
وفي شيكاغو أقبل د. شرابي على الدراسة بنشاط ودأب، مستفيداً من الجو الأكاديمي المحايد نسبياً، والذي تباين تبايناً واضحاً مع أجواء الجامعة الأميركية الموجهة "وما إن مرت بضعة أشهر حتى ابتدأت أستوعب مبادئ الثقافة الليبرالية النقدية التي فشلت الجامعة الأميركية في تلقيني إياها. وبدأت أتقن أيضاً ذلك الفن الصعب: فن القراءة وفن الإصغاء".(69/24)
كان من الطبيعي في إطار البيئة الجديدة والاحتكاك بالطلبة الأمريكان والأساتذة والجو الجامعي أن يعيد المؤلف النظر في مواقفه ومبادئه وقناعاته ويحاول بناء شخصيته المستقلة، بعد أن اكتشف –كما يكتشف كثيرون- مواطن ضعف كثيرة في قناعاته ومواقفه وأحوال نفسه وقومه، وإن كانت نظرته لم تشمل –كما يبدو- الجوانب الإيجابية منها، بل كانت نقدية شديدة الوطأة تركز على السلبيات، مما زاد في ابتعاده واغترابه عن قضايا أمته المتميزة تميز إسلامها وتراثها العربي.
ويلفت د. شرابي نظر قارئه إلى ظاهرة لا تزال نعاني منها على الصعيدين الاجتماعي والأكاديمي، وهي أن فشل كثير من الطلبة العرب في دراستهم الجامعية العليا يعود إلى "أن النظام التعليمي الذي نشأوا عليه حدَّ من قدرتهم على استيعاب الأسس في حقول اختصاصهم وعن تفهم مناهجها الفكرية" ولا يتردد المؤلف في صراحته البادية في كل مراحل الكتاب عن القول "هناك فئة منهم (أي الطلبة العرب) نجحت في الحصول على الشهادات العليا لا بفضل جهودها بل بفضل عطف الأساتذة الأميركيين على الطلبة الأجانب وتقييم مجهودهم الدراسي على مستوى أدنى من مستوى أدنى من مستوى الطلاب العام، وقد عاد هؤلاء الطلاب إلى ديارهم يحملون شهادة الدكتوراه دون أن يتغير في نفوسهم الشيء الكثير، إلا أن لقب الدكتوراه أسبغ عليهم مكانة علمية تمكنهم من نشر أفكارهم المنقولة وغير المكتملة بين أبناء الجيل الطالع".
ويستطرد د. شرابي في فخر قائلاً "حصلت على شهادتي بعرق جبيني لا بعطف أساتذتي أو تسامحهم".(69/25)
هل استطاع الدكتور شرابي أن يقيم علاقات صداقة مع الأمريكان خلال إقامة ثلاثين عاماً بعد دراسته وعمله واستيعابه وتشبعه بأساليب الحياة وأسس التفكير الغربي؟ يجيبنا على ذلك بقوله "لم تقم بيني وبين أميركي علاقة يمكن تسميتها بعلاقة صداقة بالمعنى الذي نفهمه في مجتمعنا العربي، ويعود ذلك لأسباب حضارية واجتماعية" ويعلل المؤلف ذلك بقلة الذكاء والحيوية والمرح لدى الرجل الأمريكي، ويستثني من ذلك علاقته بالبرفسور مارشال هورجسون أستاذ التاريخ الإسلامي وصديقه أثناء الدراسة في شيكاغو، والذي –رغم تميز هذه الصداقة- لم يجتمع به إلا في مكانين: درج مكتبة المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو، وفي مسبح الجامعة!
صدمة وعودة للوطن :
صدمت أحداث ربيع 1948م د. شرابي، فالهزائم العربية تترى، وتقارير المراسلين الغربيين لصحفهم لا تحمل غير نذر الخطر والشؤم، ويوم سقطت يافا في أيدي اليهود، شعر الشاب المغترب بالمرارة واليأس، ولم ينقذه من حالته هذه سوى إيمانه أن الحزب القومي السوري سيحرر فلسطين ويزيل العار الذي لحق بالعرب !!
قرّر د. شرابي أن يحاول الحصول على الماجستير في نهاية العام والعودة إلى الوطن لاسيما وقد تفرقت أسرته بين من لجأ إلى بيروت ومن آوته عمان، ويحقق ما تمناه بالدراسة والمثابرة، وينال الماجستير في آخر العام، ويسافر في أوائل 1949م بالباخرة من نيويورك إلى جنوة ومنها إلى بيروت، وتمر الباخرة وهي تعبر المحيط الأطلسي بعاصفة خطيرة يعود أثناءها المؤلف إلى جذوره الدينية ... "عدت القهقري إلى سن المراهقة ... كنت في تلك السن، لا أقوم بعمل ما إلا بعد قراءة الفاتحة وقل هو الله أحد واتجهت أفكاري إلى موضوعات دينية، وتركزت حول النبي محمد(7)، فبرز في ذهني بطلاً هادياً مخلصاً، وتركت نفسي ترسو رويداً في عالم بعيد معهود حبيب".(69/26)
هل استمرت تلك التجربة؟ للأسف لم تؤثر كثيراً ولم تفلح في جعل المؤلف يعود لهذا العالم الحبيب البعيد، ويوظف طاقته وكفاءته في ربط البعيد بالقريب وإحياء هذه الأمة على أساس من دينها وشخصيتها المتميزة .
"كانت تلك التجربة مجرد حالة نفسية عارضة ما لبثت أن تبددت لدى وصولنا إلى جبل طارق" لقد استحكم فيه الابتعاد عن هذه الوجهة، بحيث أضحى مجرد القرب منها انهياراً للاستحكامات الداخلية وهروباً من الحاضر.. "ولست أدري حتى اليوم ما مكنني من مقاومة هذا الجذب السلفي ورفض أوهام الطفولة والسير في طريق العقل الموضوعي".
مرة أخرى في صفوف القوميين :
انخرط د. شرابي فور وصوله إلى بيروت في أوائل 1949م في نشاطات الحزب القومي السوري، وتبوأ فيه مركزاً مقرباً من زعيمه أنطون سعادة، وكانت سنة 1949م حُبلى بالأحداث التي تركت آثارها العميقة على الحزب القومي السوري، فقد عانى زعيمه من الإحباط بسبب ضعف الإقبال الجماهيري على الحزب، في نفس الوقت الذي تمكنت من نفسه عقدة التحدث عن الحزب "وكأنه دولة قائمة على وشك أن يتسلم الحكم.. وكان يسلك في تصرفه الشخصي وفي مواقفه العامة سلوك رجل الدولة" واستمر بسبب ذلك في استفزاز الدولة اللبنانية وتحديها، فكانت النتيجة في رأي المؤلف أن "تمكنت القوى الطائفية والإقطاعية والرجعية والتي كانت تتصارع فيما بينها باستمرار، من الإيقاع بالحزب والتخلص من أنطون سعادة" ويستمر د. هشام شرابي في تحليل فشل الحزب في تعاطف واضح لم تذهب به السنون "كان الحزب نخبوياً في تركيبه ونظامه بعيداً كل البعد عن المنظور الطبقي.. رفضنا المفهوم الطبقي لأنه يناقض المفهوم القومي وينفي نظرية الأمة، وهكذا حجب ضم الأمة حقيقة الجماهير عن ناظرنا ... ".(69/27)
وتتابع الأحداث.. أشعل الكتائبيون النار في المطبعة التي تطبع صحيفة الحزب، وبدأت سلطات الأمن اللبنانية في ملاحقة واعتقال القوميين السوريين، ويهرب المؤلف إلى عمان مستعملاً جوازاً أردنياً دبره له والده ناوياً السفر إلى شيكاغو في أقرب فرصة، ثم يعود إلى دمشق حيث نجح في الحصول على التأشيرة الأميركية، ويلتقي هناك بأنطون سعادة الذي لجأ لدمشق، ويتبين للمؤلف أن الحزب يعد للقيام بثورة مسلحة في لبنان، ولكن هذه المحاولة فشلت فشلاً ذريعاً، وقامت حكومة حسني الزعيم بتسليم سعادة إلى الحكومة اللبنانية التي بادرت بإعدامه خلال بضعة أيام .
ويتضح تأثير هذه الأحداث على د. شرابي حتى ويومنا هذا، فالقارئ لا يسعه إلا أن يلاحظ جدة الذكريات في مخيلته وتعاطفه الشديد مع سعادة، واستياءه ومرارته من إعدامه وملاحقة أفراد حزبه، وينتقل لنا جزء من أفكاره في تلك الفترة "مجتمعنا قاسٍ، لا يرحم.. من يرفع رأسه يضرب ويحقر ويطعم التراب.. ما أتعسك يا وطني".
وعندما غادرت الطائرة أجواء عمان تقل في جوفها د. شرابي كان آخر خواطره كما أوردها في كتابه "لقد نبذتني يا وطني.. لن أرجع إليك.. لن أرجع أبداً.." .
حنين للعودة :
ولكن الجذور التي خلفها د. شرابي في الوطن لم تذبل تماماً، وما زال في أعماقه حنين للعودة إلى بلاده التي أحبها ونبذته، لذا فهو يقول في المقدمة المكتوبة في واشنطن عام 1978 "يغمرني إحساس في هذه اللحظة أنني لن أعود إلى وطني، بل سأمضي ما تبقى لي من العمر هنا في هذه البلاد الغريبة، وأنني سأموت فيها. لكن لا.. هذا لن يحدث، شعبي هو جزء من حياتي لم أتركه يوماً، ووطني أحمله في قلبي لا أقدر أن أتخلى عنه، سأعود يوماً ... "(69/28)
تلكم هي إحدى قصص الفصام والاغتراب الذي تضافرت على إيجاده عوامل مختلفة من الجهل وفَقْدِ الالتزام والتعليم التغريبي والسيطرة الاستعمارية والاستلاب الفكري. إنها قصة جيل لم يستطع أن يضطلع بمسؤوليته التاريخية في التوفيق بين تراث هذه الأمة وبين متطلبات العصر، وكان عاجزاً –لانقطاعه وعزلته- عن استثارة همم وحماسة الجماهير المسلمة لإحياء حضارة إسلامية تقوم على أسس متفردة لا شرقية ولا غربية، وبقي هذا الجيل متخبطاً في دوامة المذاهب المستوردة ينتابه التردد والشك، بل زاد من التخبط والضياع الذي انتاب هذه الأمة ردحاً طويلاً من الزمن.
إننا نأمل أن يعود المؤلف إلى عقيدته وتراثه، مثلما بقي في نفسه الحنان للعودة إلى وطنه وشعبه .. والقلوب بيد الرحمن". انتهى .
رابعاً: جزء من كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية" للدكتور مصطفى الخالدي والدكتور عمر فروخ(8)، ص 96-110 :
"الجامعة الأمريكية في بيروت:
ومع أن المبشرين الأميركيين قد أنشأوا في عبيه مدرسة للصبيان وأخرى للبنات، فإنهم لم يعفوا بيروت من نشاطهم، فقد أسس سيمون كالهون منذ عام 1835م مدرسة في بيروت ليساعد في حملة التبشير(9) التي شنها البروتستانت على سورية. ولكن لما تأسست الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية اليوم) في بيروت (عام 1865م) لم يبق من حاجة إلى مدرسة عبيه ولا إلى مدرسة كالهون، فإن الكلية السورية الإنجيلية أخذت مكانهما.
وجاء في تقرير لدانيال بلس، الرئيس الأول للكلية السورية الإنجيلية في بيروت، هذه الحقائق نثبتها موجزة فيما يلي(10):(69/29)
في عام 1861م و 1862م كان دانيال بلس والدكتور وليم طومسون يبحثان في ضرورة إيجاد معهد عالٍ لسورية ولسائر العالم العربي في الشرق الأدنى، فإن ذلك أفضل من أن يتعلم الطلاب علومهم العالية في الخارج: في أميركة وإنكلترة مثلاً. ذلك لأن ثمت أفراداً تعلموا قليلاً أو كثيراً في إنكلترة وأميركة ثم إنهم استقروا نهائياً حيث تلقوا علومهم، أو إنهم رجعوا إلى بلادهم في الشرق الأدنى من غير أن يؤثروا في قومهم قط (أي لم يساعدوا المبشرين على التبشير بين أهل البلاد!) بينما الذين تعلموا في مدرسة عبيه قد اتخذ منهم المبشرون مدرسين لمدارس التبشير وواعظين ومساعدين في أعمال مختلفة ...
واعتمدت الكلية السورية الإنجيلية في تأسيسها على الرجال الذين يمولون التبشير، وخصوصاً من الإنكليز والأميركيين.
في 23 كانون الثاني من عام 1862م اقترح الدكتور طومسون أن يكون دانيال بلس رئيساً للكلية. وفي 27 كانون الثاني اقترح طومسون وبلس معاً أن يكون الاعتماد الأول على الإرسالية الأميركية (للتبشير). وقد وافقت الإرسالية على ذلك وعلى أن يكون دانيال بلس رئيساً للكلية أيضاً(11) ... على ألا يتعارض ذلك مع عمل الإرسالية في سورية.
وعلى هذا الأساس سافر دانيال بلس في 14 آب 1862م إلى نيويورك فوصل إليها في 17 أيلول. وفي أيار من عام 1863م خطب دانيال بلس في الكنيسة المشيخية(12) في نيويورك فأكد الحاجة في الشرق الأدنى إلى أطباء وإلى تعليم ديني تكون التوراة فيه كتاب تدريس دائم. أما عمل الكلية فيجب أن يكون وضع كتب مسيحية تساعد على الاتصال بملايين الناس في آسية وفي أفريقية وعلى إسباغ النعمة (المسيحية) عليهم.(69/30)
وبعد أن عاد دانيال بلس من الولايات المتحدة ببضعة أشهر انعقد اجتماع في بيت الدكتور فاندَيك في الثلاثين من كانون الأول 1863م حضرة فانديك نفسه وفورد وجَسَب وهرتر من الإرسالية الأميركية. ثم حضر جونسون قنصل الولايات المتحدة في بيروت وقد قرر المجتمعون يومذاك، بعد أن تذاكروا في إنشاء الكلية السورية الإنجيلية، اتجاه تلك الكلية فقالوا: "نحن نصر على الطابع التبشيري للكلية، وعلى أن يكون كل أستاذ فيها مبشراً مسيحياً". وكذلك تبنى المجتمعون شرعة الاتحاد التبشيري على أن تكون تلك الشرعة هي الخطة التي يحب أن يعمل كل أستاذ عليها. وفي عام 1902م –أي في العام الذي اعتزل فيه دانيال بلس رئاسة الكلية- زال الإصرار على الفقرة الأخيرة فقط(13).
وهكذا نرى أن الكلية السورية الإنجيلية قد ولدت في رؤوس المبشرين ثم تعهدها المبشرون بعد ذلك أيضاً. ولقد اشترط المبشرون على القائمين بأمر الكلية ألا تفسد هذه الكلية عليهم عملهم (أي ألا تعلم ما يناقض مبدأهم التبشيري) وأن تكون مؤسسة بروتستانتية(14).
وهكذا نرى بكل وضوح أن الكلية السورية الإنجيلية كانت نتاج التعليم البروتستانتي ووليد الإرسالية الأمريكية (للتبشير) (15). ومع أن الكلية كانت تعتمد في أول أمرها فقط على مساعدة الإرسالية المادية، فإنها كانت دائماً تتفق معها في الغاية: في السياسية التبشيرية وفي العمل معها في هذه السبيل(16).
وفي أول الأمر مالت الكلية إلى كتمان جهودها التبشيرية –وإن ظلت تبذلها- تجنباً لسخط الحكومة العثمانية، ولذلك قال دانيال بلس نفسه:(69/31)
"إن السنوات الأولى التي شهدت تطور الكلية قضت أن تسير الكلية في مجراها بهدوء قدر الإمكان، فلا تلفت إليها رجال الحكم قبل أن تثبت جذورها في الأرض"(17). فلما ثبتت جذورها تركت التستر وأصبح لها اجتماعات دينية ظاهرة فأجبرت جميع الطلاب على حضور الصلوات في الكنيسة كل يوم، وأجبرت الطلاب الداخليين خاصة على أن يحضروا صلاة يوم الأحد أيضاً.
ولما زار المبشر جون موط الكلية السورية الإنجيلية عام 1895م أسست الكلية فرعاً لجمعية الشبان المسيحيين(18) إلا أن الاسم كان محرجاً أمام غير النصارى، فغيرته الكلية وجعلته "الأخوية"(19). وهذه الأخوية لا تزال قائمة إلى اليوم ولكنها كانت تدعى بأسماء مختلفة في الأدوار المختلفة. ومع أن الدخول في هذه الجمعية "جمعية الأخوية" كان اختيارياً لجميع الطلاب، فإن أساتذة الكلية السورية الإنجيلية(20) كانوا كثيراً ما ينحدرون إلى مستوى يعطفون فيه على التلاميذ المتأخرين في التحصيل إذا كانوا أعضاء في هذه الأخوية. وتخرج أحدنا عام 1928م وكان كل طالب لا يزال يشعر هذا الشعور. ولقد اصطدمت(21) أنا بعقبات كثيرة ذللتها بجهد شخصي، ولو أنني كنت أحضر الصلوات في الكنيسة أو أنني كنت عضواً في الأخوية لوفرت على نفسي كثيراً من الإزعاج !
لقد كان حضور اجتماع الصباح إجبارياً إما في الكنيسة وإما في منتدى وست هول. وكان بديهياً أن أختار الحضور في وست هول حيث تكون الاجتماعات بعيدة عن الدين قليلاً أو كثيراً. وفي يوم من الأيام دعاني عميد الدائرة العلمية الأستاذ أدورد نيقولي وسألني لماذا كنت غائباً عن الكنيسة؟ فقلت له أنا لا أحضر الكنيسة ولكن أحضر اجتماعات وست هول، فصرفني، ولكن في اليوم التالي دعاني ثم ذكر أنه يستغرب كثرة غيابي عن الكنيسة، فأعدت عليه القول بأنني منذ أول العام قد اخترت الحضور في وست هول. وأخيراً أدرك الأستاذ نيقولي أن الإيحاء إلي بحضور الكنيسة غير ممكن، فتركني وشأني.(69/32)
ولا يزال الإصرار على الطابع الديني التبشيري للكلية السورية الإنجيلية قائماً إلى اليوم. نشر الكاتب لدفيك برنهارد في الكتاب السنوي الروسي لعام 1905م مقالاً عنوانه "أميركة في الشرق" صور فيه الكلية السورية الإنجيلية على أنها محاولة مدروسة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأميركية والتجارية منها خاصة. فرد عليه رشتر(22) بقوله: إن مثل هذا الرأي في هذه المؤسسة يصدق على ناحية واحدة منها ويضلل عن هدفها الحقيقي. إن الكلية مؤسسة تبشيرية وليس هذا فقط بل هي كما يقول جسب(23) أوضح سياسة دينية وتبشيرية من سائر المدارس الأميركية في الشرق، ككلية روبرت في استانبول مثلاً، أما رشتر فقال عنها(24): إنها أرقى مدرسة مسيحية في الإمبراطورية العثمانية وإيران(25)، إذ هي التي تهيئ المدرسين المبشرين للمدارس الأمريكية المنثورة في الشرق الأدنى كله(26).
فالجامعة الأمريكية في بيروت كانت عند إنشائها مؤسسة تبشيرية، ولم تؤسس للتعليم العلماني؛ ذلك لأنها كانت نتاج حركة التبشير الأمريكية(27). هذا ما أجمع عليه الذين كتبوا عن هذه الجامعة(28).
على أن الغريب أن الجامعة الأميركية لا تزال إلى الآن تبشيرية: يقول ستيفن بنروز(29) ... ومع ذلك فإن (الجامعة الأميركية) كانت ولا تزال مؤسسة تبشيرية. ثم إنه يصر على أنها تبشيرية، بل إن التبشير كان المبرر الوحيد لتأسيسها(30). وذلك بعد أن صرح فقال: إن الغاية القصوى للكلية (السورية الإنجيلية) أن تحتضن التبشير المسيحي وتبذر بذور الحقيقة الإنجيلية. وعلى هذا الأساس ذهب دانيال بلس إلى أمريكة ليثير رغبة الجمهور المسيحي لمحاولة تأسيس معهد أدبي يعمل على نشر الإرساليات البروتستانتية والمدنية المسيحية في سورية والأقطار المجاورة(31).
ولما اعتزل دانيال بلس إدارة الكلية عام 1902م، وقد بلغ يومذاك ثمانين عاماً(32)، خلفه ابنه هوارد بلس.
هوارد بلس:(69/33)
ولد هوارد بلس عام 1860م في سوق الغرب بجبل لبنان(33). ولكنه نشأ في الولايات المتحدة، وكان قسيساً راعياً(34). ظل هوارد بلس بعد أن تولى الكلية السورية الإنجيلية قسيساً مبشراً ومعلماً مبشراً(35). ولقد حضر، وهو رئيس للكلية، مؤتمراً لاتحاد الطلاب المسيحيين في العالم عقد في كلية روبرت في استانبول عام 1911م، وحضر معه من الأشخاص(36) الآنسة مريم بارودي، الدكتور فيليب حتي وأخوه حبيب حتي، الآنسة ماري كساب مؤسسة المدرسة الأهلية للبنات في بيروت)، الأستاذ بولص الخولي، طانيوس سعد(37) وادورد نيقولي عميد الدائرة العلمية (ت1937م).
أما غاية هذا المؤتمر فهي مثبتة على الصفحة الأولى من المتن(38): إنها توحيد حركات الطلاب المسيحيين ومنظماتهم في العالم ... وجمع المعلومات المتعلقة بالأحوال الدينية للطلاب في كل العالم ... وقيادة الطلاب حتى يصبحوا تباعاً ليسوع المسيح على أنه مخلصهم الوحيد وربهم ... ثم ضم جهود الطلاب التعاون على مد مملكة المسيح في جميع العالم ... وعلى الأخص في البلدان عير المسيحية. ولقد تكلم في هذا المؤتمر هوارد بلس نفسه (ص 131-138) والدكتور فيليب حتي (ص 229-230).
بيارد ضودج
ولما توفي هوارد بلس عام 1920م بقيت الجامعة الأميركية في بيروت بلا رئيس أصيل حتى عام 1923م حين عُين لها بيارد ضودج.(69/34)
كان بيارد ضودج في الأصل تلميذ لاهوت ثم نال شهادة دكتور في اللاهوت(39)، ولقد بقي سبع سنوات رئيساً مساعداً لجمعية الشبان المسيحيين (913-1920)، ومع ذلك فإنه لم يتسامح في أن يصبح أحدنا (الدكتور مصطفى الخالدي) رئيساً لجمعية الشبان المسلمين في بيروت وأن يظل في الوقت نفسه أستاذاً في الجامعة، ولقد صارحه بأن جهوده في سبيل فلسطين وفي سبيل الشبان المسلمين لا يمكن أن ترضى عنها الجامعة. ولم يكن من المعقول أن يتخلى الدكتور مصطفى الخالدي عن خدمة اجتماعية في رئاسة الشبان المسلمين والشابات المسلمات تشبه الخدمة الاجتماعية(40) التي يقوم بها بيارد ضودج نفسه في رئاسة الشبان المسيحيين(41) ! وكذلك لم يكن من المعقول أن يتخلى الدكتور مصطفى الخالدي عن الاهتمام بقضية فلسطين وهي القضية التي كان يهتم لها الرئيس ضودج نفسه. وهكذا فضل الدكتور مصطفى الخالدي أن يعتزل التدريس في الجامعة.
ولا ريب في أن شعور الطلاب بالتبشير المكشوف كان قليلاً جداً في رئاسة الدكتور بيارد ضودج، وذلك لسببين اثنين: أولهما بلا ريب أن شخصية الرئيس بيارد ضودج لم تكن مهاجمة قهارة، كالذي يروى عن دانيال بلس مثلاً. وكان في الرئيس ضودج تسامح كبير، إلا أننا نعلم أن في الجامعة وللجامعة أناساً كان الرئيس ضودج مضطراً إلى تنفيذ رغباتهم، ثم إن الجامعة لم تتخل بعد عن سياسة التبشير قط. ويكفينا دليل واحد على ذلك: أن الجامعة قد استغنت عن العدد الأكبر، وإذا نحن رجعنا إلى المساعدات المالية التي تعطيها الجامعة رأينا قسماً منها بلا ريب خاصاً بأفراد مسلمين أو بمؤسسات تساعد أفراداً مسلمين، ولكننا إذا نظرنا إلى "المساعدات المنظمة" نراها شيئاً آخر.(69/35)
وثاني السببين أن اليقظة العربية تطورت تطوراً كبيراً في مدة رئاسة الدكتور ضودج (1923م-1947م)، فمن الثورة السورية إلى قضايا فلسطين إلى استقلال البلاد العربية إلى ولادة جامعة الدول العربية، كل ذلك غمر العالم العربي حتى أصبحت كل سياسة تبشيرية مكشوفة بجانبه تدعو إلى كثير من الاستغراب .
ستيفن بنروز
والدكتور بيارد ضودج لم يكن قليل الذكاء، ولكن القصة التي يرويها عنه ستيفن بنروز(42)، الرئيس الحالي للجامعة الأميركية في بيروت، بعيدة عن المعقول. قال بنروز:
كان الدكتور ضودج كثيراً ما يروي أنه رأى مرة في القطار الكهربائي في بيروت رجلاً مسلماً مسناً يحاول أن يصلي. كان هذا الرجل المسن لا يكاد يوجه نفسه في وقوفه نحو مكة (القبلة) حتى يكون القطار قد دار حول منعطف في الشارع فيضطر المسكين إلى أن يصحح اتجاهه. وقبل أن يمضي وقت طويل كان هذا المسكين قد اضطرب تماماً وأخذ ينظر إلى الراكبين بذلة وانكسار كأنه يطلب منهم معونة لا يستطيعون أن يسدوها إليه. إن هذا الرجل (والكلام للدكتور ضودج، كما يزعم بنروز) كان يمثل الصعوبة التي تواجهها التقاليد الإسلامية في عصر يتبدل بسرعة لا تصدق" !
واستغربت أنا(43) هذه القصة يرويها الدكتور ضودج لأنني أعرفه معرفة تامة، فلقد كان يعلمنا "دروس الأخلاق" في الدائرة الاستعدادية، قبل أن يصبح رئيساً للجامعة. من أجل ذلك كتبت إلى بنروز أسأله إذا كان قد نقل هذه الحكاية من كتاب مطبوع أو أنه سمعها سمعاً فقط، فتلقيت من بنروز الرسالة التالية (أنقلها أولاً إلى اللغة العربية ثم أثبتها بنصها الإنكليزي مصوراً بالزنكوغراف) (44).
:" عزيزي الدكتور فروخ: تلقيت رسالتك المؤرخة في 12 أيار تسألني عن قول استشهدت به في كتابي "كيما تكون لهم الحياة" إن هذا القول قد أخذته عن طريق السماع ..".(69/36)
إن مثل هذه القصة، قصة المسلم العجوز الذي يصلي في حافلة القطار الكهربائي، لا يمكن أن تجد إلا راوياً أميركياً، والذين يعرفون بيروت والقطار الكهربائي في بيروت ويرون المسلمين في الشوارع يستطيعون أن يدركوا إلى أي حد بلغ الخيال بواضع هذه القصة.
أما نحن فنستغرب أن يشترك رئيسان لأعظم جامعة في الشرق الأدنى في رواية مثل هذه القصة التي لا يمكن أن تكون إلا سخيفة. نقول هذا بصرف النظر عن أنها بعيدة عن الحقيقة، وخصوصاً إذا قبلنا أن تكون منسوبة إلى الدكتور بيارد ضودج الذي قضى في الشرق خمسة وثلاثين عاماً، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي على العلامة الشيخ أحمد عمر المحمصاني، تلميذ المصلح الكبير الشيخ محمد عبده (رحمهما الله) (45). على أننا نحب أن نقول رأينا في هذه الحادثة.
إن أغلب الظن أن الدكتور بنروز قد اختلق هذه القصة رأساً من أساسها، بعد أن دله مبشر جاهل على المسألة الفقهية المتعلقة بها، أو أنه هو قد قرأ هذه المسألة الفقهية ولكن لم يفهمها:
"في الفقه الإسلامي، أن المسلم إذا كان سائراً (على جمل أو في واسطة أخرى للنقل) وأراد الصلاة ثم اتجه إلى القبلة، فإنه يلزم اتجاهه هذا مهما تبدل اتجاه الواسطة التي يستعملها"(46).
إن الذين يأتون إلى الشرق ليعلمونا يجب أن يكونوا هم أنفسهم أكثر علما منا، أو يجب ألا يتعرضوا لما لا يعرفون على الأقل! وبعد، فأي وزن لحادثة يذكرها المؤرخ أو العالم الاجتماعي إذا كان لا يعرف أين وجدها ولا متى سمعها. ولكن المستر بنروز اختلق قصة ثم جعل يزعم، بالاستناد إليها، أن المسلمين متأخرون جهلة أغبياء! على أن المستر بنروز ليس مسلماً لأنه صرح في كتابه بأن الغاية الأولى من تأسيس الجامعة لم يكن تعليم العلم وبث الأخلاق الحميدة، بل نشر المذهب البروتستانتي. ولكن لعله نسي أن الجامعة قد أعلنت منذ مدة طويلة أنها غيرت سياستها هذه! .(69/37)
وهنا نحب نحن أن نشير إلى أن القائمين على أمر الجامعة الأميركية في بيروت لم يكتفوا من أول أمرهم بأن يكون رئيس هذه المؤسسة مبشراً، بل أصروا على أن يكون جميع المدرسين فيها مبشرين، إن الدكتور جورج بوست جاء إلى الشرق الأدنى مبشراً كزملائه، ثم ذهب إلى طرابلس عام 1863م كطبيب مبشر(47). وكذلك كان كورنيليوس فانديك، وابنه هنري فنديك ويوحنا ورتبات، كلهم أطباء مبشرين(48).
وكان على هؤلاء المدرسين أن يوقعوا يميناً يقسمون فيها بأن يوجهوا جميع أعمالهم نحو هدف واحد، هو التبشير، ولم يقبل منهم أن يكونوا نصارى بروتستانتيين فقط، بل وجب أن يكونوا مبشرين أيضاً(49)، ومع الأيام ألغت الجامعة توقيع هذا اليمين، ولكنها لم تلغ مؤداها.
وكانت الجامعة تحرص على أن يظهر جميع أساتذتها بمظهر المبشرين ثم تحملهم على أن يحضروا المؤتمرات التبشرية، ولعل الأستاذ بولص الخولي لم يعن بالتبشير –مما نعرفه نحن- ولكنه حمل بلا ريب هو والدكتور فيليب حتي على أن يحضروا مؤتمر استانبول مع الدكتور هوارد بلس عام 1911م، تكثيراً للأسماء الوطنية.
ومع أن الجامعة الأميركية لم تعلن سياستها التبشيرية في مطلع حياته خوفاً من أن يغلقها العثمانيون، فإنها لم تأل جهداً في التبشير في كل درس. حتى في الدروس التي لا صلة خاصة بينها وبين الدين، كانت المبادئ المسيحية موضع تأكيد وتزيين كلما سنحت لذلك فرصة، فمن أمثال ذلك مثلاً أن درس اللغة الإنكليزية كان يستغل في نقل نصوص التوراة الإنكليزية إلى العربية، وفي هذه الأثناء ينتقل إلى مناقشة المشاكل الدينية من الزاوية التبشيرية طبعاً(50).
وهذا أمر غير مستغرب في المدارس التبشيرية، لقد قرر مؤتمر القدس المنعقد عام 1935م أن يستغل كل درس في سبيل تأويل مسيحي لفروع العلوم كالتاريخ وعلم النبات الخ(51).(69/38)
ومع أن الجامعة الأميركية، كما يقول بنروز، لم تفكر بأن تفرض المذهب البروتستانتي على طلابها فرضاً، فإنها كانت تستغل كل فرصة سانحة ليعرف أولئك الطلاب الحقيقة كما تريدها النصرانية البروتستانتية. وكان الدخول إلى الكنيسة فرضاً على كل تلميذ(52).
واتفق في عام 1909م أن احتج الطلبة المسلمون على إجبارهم على الدخول إلى الكنيسة فاجتمعت عمدة الجامعة الموقرة! وأصدرت منشوراً طويلاً جداً، جاء في مادته الرابعة ما يلي:
إن هذه كلية مسيحية، أسست بأموال شعب مسيحي: هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشأوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده فتعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ.. وهكذا نجد أنفسنا ملزمين بأن نعرض الحقيقة المسيحية على كل تلميذ.. وأن كل طالب يدخل إلى مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقاً ماذا يطلب منه.
وكان هذا التهديد المجرد من الذوق والروح العلمية كافياً لأن يعلن الطلاب الإضراب، إلا أن العمدة تصلبت في ظاهر أمرها فترك ثمانية طلاب العلم في المؤسسة المتعصبة(53)، ولم تتأخر الكلية عن أن تعلن بلسان مجلس الأمناء أن الكلية لم تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة (كذا)، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزاً للنور المسيحي وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك على الناس وتوصيهم به(54).
إلا أن الروح الحرة لم تلبث أن انتصرت فثابت الجامعة الأميركية إلى نفسها ورأت، ولو بعد حين، وجه الصواب فتنازلت حينئذ عن رأيها الذي لم يكن من العلم في شيء، ولا من الحرية في شيء، ولا من الإنسانية في شيء.(69/39)
لقد شاهدت الجامعة الأميركية يقظة العرب على هذا التراب الطاهر في الشرق الأدنى، وشاهدت جموع الشرقيين والعرب يتجهون أفواجاً نحو هيكل العلم النبيل، في أفق يسع المشرق والمغرب ويسع الأديان كلها والألوان جميعها(55)، فأي فضل للجامعة بعد ذلك إذا اعترضت هذا الموكب الفخم المهيب لتسوق جزءاً منه نحو الكنيسة البروتستانتية! أما حجتها فكانت أوهى من عملها، إنها احتجت بأن نفراً من المتمولين الأميركيين لا يعينون الجامعة بأموالهم التي جمعوها إلا إذا علموا أنها تزيد عدد البروتستانت في الشرق. وهكذا حكمت الجامعة الأميركية على نفسها بأنها مسوقة في تيار قوم آخرين، وأنها مستأجرة لتنفيذ رغبات لا تشرف صاحبها فضلا عن منفذها.
على أن استغرابنا قد زاد عام 1948م ولم ينقص. إن الجامعة الأمريكية تعترف بأنها بدأت تبشيرية ثم تخلت عن التبشير في عصر القومية الواسعة والتسامح العظيم والتعاون الشامل.
إلا أن الدكتور ستيفن بنروز –رئيس الجامعة الأمريكية الحالي- قد أتى، مما هو ظاهر واضح في كتابه، بعقلية دانيال بلس لا بعقلية بيارد ضودج على الأقل: لقد جاء مبشراً لا معلماً. ولو أنه جاء معلماً لا مبشراً لأرخ الجامعة الأميركية في بيروت تأريخاً مختلفاً من حيث الاتجاه والتوجيه على الأقل، لا من حيث المادة". انتهى .
خامساً: جزء من بحث بعنوان: "الغزو الثقافي أهم قضايا التعليم المعاصر" للدكتور إبراهيم سليمان عيسى(56)، مقدم إلى مؤتمر تطوير مناهج التربية الدينية الإسلامية في التعليم العام بالوطن العربي، ص 47-49:(69/40)
"إن المتتبع لعناصر التعليم وسياسته ونظامه في الأمة العربية يجد أن الغزو الثقافي يعتبر من أهم وأخطر قضايا التعليم في الأمة العربية كلها وخاصة في ضوء المستحدثات والمستجدات على الساحة العربية والدولية، وليست المناهج هي المعرضة للغزو الثقافي فقط بل إن الكيفية التي يعد بها المعلم قد لحقها التشويه والتشويش، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا النقاط التالية:
1-ما زالت كل الدول العربية بما فيها مصر تستعين بالخبراء الأجانب من بعض البلاد المتقدمة تكنولوجيا والغنية في وضع وتعديل وصياغة سياسة ونظام التعليم فيها، وتزداد هذه الظاهرة في الدول العربية التي تتلقى القروض من الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، ورغبة من الدول المانحة للقروض في أخذ ما تعطيه يوفد هؤلاء الخبراء وهي صاحبة الكلمة الفصل في تحديد رواتبهم وخبراتهم والدول المانحة للقروض تهدف إلى :
أ-إن المبالغ والقروض تعطى في صورة رواتب لهؤلاء الخبراء وهي رواتب مبالغ فيها كما أن خبرتهم مبالغ فيها أيضاً.
ب-فرصة لهذه الدول المانحة للقروض في التعرف على مميزات وسلبيات وعناصر وأهداف وغايات التعليم في الدول العربية .
2-تقوم الدول العربية وحتى الآن بإيفاد الكثير من أبنائها إلى مختلف البلاد الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية في بعثات ومنح دراسية للحصول على مؤهلات مختلفة في مجالات معرفية وتقنية (تكنولوجية) متعددة وأي محتوى ثقافي أو تربوي في هذه البلاد لا يتفق مع متطلبات التعليم في الأمة العربية بل والإسلامية ينعكس دون شك على ثقافة هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم في ظل هذه السياسات والنظم التعليمية وبالتالي ينقلون للطلاب هذه الانعكاسات لأنهم سوف يقومون بمهمة التعليم والتوجيه والإشراف في مراحل التعليم المختلفة وفي الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة.(69/41)
من أجل ذلك وغيره مما سنلقي عليه مزيداً من الضوء فإن الغزو الثقافي لمناهج ومقررات التعليم وسياسة إعداد المعلم في الدول العربية واقع لا محالة سواء حدث ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ثم وجب تتبع مصادر وأبعاد الغزو الثقافي وعوامل انتشاره واتخاذ الإجراءات الوقائية من هذا الوباء لأنه أخطر بكثير من الغزو العسكري، وما تجربة بلاد المغرب العربية (تونس والجزائر والمغرب) عنا ببعيد، ولذلك فإنني أرى أن الغزو الثقافي قضية يجب الاهتمام بها نتيجة أن الأمة العربية بموقعها وتميزها الديني ولكونها أرض الرسالة المحمدية مستهدفة من مصادر وقوى متعددة كما سيتضح ذلك من هذا البحث.
مصادر الغزو الثقافي للتعليم وأبعاده :
تتعدد مصادر الغزو الثقافي للتعليم في البلاد العربية والإسلامية لتشمل مصادر خارجية وأخرى داخلية.
أولاً: المصادر الخارجية للغزو الثقافي للتعليم :(69/42)
1-التغلغل الأمريكي في حقل التعليم وخطره على عقول الأمة العربية والإسلامية وهويتها. وتختلف نسبة التغلغل الأمريكي من بلد إلى آخر وتشتد الوطأة على البلاد التي تمنحها الحكومة الأمريكية معونة أو قروضاً، وتعمل الإدارة الأمريكية على تحويل التعليم إلى تعليم علماني بقصد تحطيم عقيدتنا وقيمنا حتى لا يبقى لنا بعدها ما ندافع عنه أو نحرص عليه فيسهل على الأعداء قيادتنا -والعياذ بالله تعالى- ويعبر عن ذلك الشاعر محمد إقبال فيقول: "إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي ثم يكونها كيف يشاء"(57) وأمثلة ذلك واضحة بعضها معلن وظاهر والآخر خفي وباطن، ففي مصر يحدث الكثير من أنماط التغلغل الأمريكي في التعليم(58) المصري وبالتالي ينعكس أثره على التعليم في المملكة العربية السعودية وتكثف أمريكا معونتها في مجال التعليم بصفة خاصة وكذلك تسهم في تلوث البيئة. وهناك الكثير من الأمثلة التي لو تتبعناها ما وسعنا هذا البحث(59) وعلى سبيل المثال -لا الحصر- بعض نماذج لقروض أمريكية في حقل التعليم وآثاره غير الحميدة مثل: ... . الخ". انتهى .
سادساً: جزء من كتاب : "الجذور التاريخية لإرساليات التنصير الأجنبية في مصر" للدكتور خالد نعيم، ص 85-92:(69/43)
"جامعة القاهرة الأمريكية: وتوجت الإرسالية الأمريكية جهودها التنصيرية، بإنشاء الجامعة الأمريكية في عام 1919م، على غرار (كلية روبرت) بالقسطنطينية، عندما اتضحت لها أهمية (القاهرة) كمركز ثقافي هام يتولى زمام القيادة الفكرية الإسلامية في العالم الإسلامي، بسبب وجود الأزهر بها، وعلى حد قول واطسون: "إن شهادة منه بين العرب توازي شهادة الدكتوراه من أكسفورد أو باريس أو هارفارد في العالم الغربي"(60). فضلاً عن أن مصر تسود فيها اللغة العربية الفصحى، التي تعتبر لغة جميع الدول العربية الإسلامية، وأن أكثر من مليون نسخة من المجلات العربية والجرائد تصدر سنوياً في القاهرة. وهذا بلا شك له تأثير كبير على العالم العربي) (61). وعلى هذا الأساس استقر الرأي على إنشاء الجامعة الأمريكية بالقاهرة لتكون كبرى المؤسسات التنصيرية الأمريكية، بل والدولية.
ويرجع الجهد في تأسيس هذه المؤسسة التنصيرية الأمريكية بالقاهرة، إلى (تشارلز روجر واطسون)، ابن المنصر الخطير (أندرو واطسون). وكان (تشارلز) في عام 1912م قد بدأ في دراسة نظام التعليم في مصر، ووضع في مُخيلته بعض التصورات بشأن تطوير النشاط التنصيري، ونقله من مجال التلاميذ والصبية إلى مجال وجدان الشباب. وسافر بعد ذلك إلى أمريكا في عام 1914م، وعندما اجتمعت (الكنيسة المشيخية الأمريكية)، في نيويورك، يوم 30 نوفمبر عام 1914م، اجتماعها الدوري، وكان حاضراً هذا الاجتماع بعض رجال الأعمال الأمريكيين، الذين يمولون النشاط التنصيري الأمريكي في وادي النيل، برئاسة الدكتور (مكلوركن). عرض عليهم (تشارلز واطسون)، فكرة إنشاء مؤسسة تنصيرية شابة في القاهرة، تحت اسم (جامعة القاهرة الأمريكية)، وطلب منهم كذلك (أن يرفعوا صلاة الرب كي يساعده في تحقيق هذا الحُلم) (62).(69/44)
وبعد عودته إلى القاهرة في عام 1919م، وجد أنه قد صدر مرسوم بإنشاء الجامعة المصرية، (جامعة القاهرة). فبدأ (تشارلز واطسون) مفاوضاته لشراء مبنى الجامعة الأهلية، والتي كانت تشغل مبنى كبيراً في ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حالياً)، والتي سوف تكون النواة للجامعة المصرية، والتي سوف تنُقل إلى (الجيزة) (63). وكانت (الجامعة الأهلية) تشغل سراي الخواجة (جناكليس)؛ وهو المبنى الذي اشتراه (تشارلز واطسون) في عام 1920م فعلاً.
وقد سُميت الجامعة الأمريكية في القاهرة، في البداية باسم (مدرسة لنكولن للدراسات الشرقية) حيث أدمج فيها المركز الدراسي لإعداد المنُصرين الجُدد. "وأصبح أعضاء حفل العشاء يشكلون مجلساً يرسم سياسة الجامعة في مختلف النواحي المالية والإدارية والدراسية، كما يقوم هذا المجلس بتعيين رئيس الجامعة، ويسمى هذا المجلس –القائم حتى اليوم- بمجلس (الأوصياء).
وكان (تشارلز واطسون)، أول رئيس لهذه الجامعة، وظل كذلك حتى عام 1945م. وكان أغلب تمويل الجامعة في البداية، عبارة عن تقدمات من الكنائس الأمريكية، أما الآن فتمويل الجامعة يتم عن طريق المؤسسات التنصيرية الكبرى في العالم كله، لتصبح هذه المؤسسة حصناً منيعاً للمسيحية، ومركزاً خطيراً من مراكز التنصير في العالم الإسلامي.(69/45)
وكانت هذه المدارس والكليات والجامعة الأمريكية في القاهرة يغلب عليها الطابع الديني المسيحي الصرف، وتكرس جهودها لتخرج نفراً من الناس يدينون بالمسيحية ويشبون على التفاني في خدمة النشاط التنصيري، وتنمية العاملين بهذا الحقل(64). على أن هذه المؤسسات أخذت تفقد طابعها الديني، عندما اضطرت إلى تطويع خطة الدراسة بها حتى تساير المدارس الحكومية، التي استحدثت نظام شهادة إتمام الدراسة الثانوية بمدارس الحكومة(65). وذلك لكي يتسنى لتلاميذها التقدم إلى الامتحانات العامة، وحتى لا يهجر هؤلاء التلاميذ المصريون المسلمون مدارسها إلى المدارس الحكومية أو الأهلية التي تعدهم للحصول على تلك الشهادة للالتحاق بالوظائف الحكومية.
ولم تقتصر تلك المؤسسات التنصيرية الأمريكية على مدينة القاهرة وحدها، بل انتشرت الإرسالية الأمريكية في كل أنحاء مصر تقريباً سواء في الوجه البحري أو القبلي.
مدرسة اللاهوت:
كان الهدف من إنشاء هذه المدرسة، هو إعداد كوادر تنصيرية للعمل في مجال تنصير المسلمين في مصر. وبدأت المدرسة في عام 1864م بفصول مسائية غير منتظمة. ثم افتتح (صف اللاهوت) بعد ذلك، في عوامة المنُصر (هوج). وكان (الصف) ينتقل تبعاً لتنقلات المنصرين، الذين كانوا يقومون بالتدريس به. وبعد فترة استمر (الصف) في موقعين هما: أسيوط والقاهرة.
فقد كان (يوحنا هوج) يقوم بالتدريس للصفين الأول والثاني في (أسيوط) (تشارلز روجر واطسون) يقوم بذلك في (القاهرة) إلى أن كان عام 1885م عندما استقر (الصف) نهائياً بالقاهرة. وأصبحت سنوات الدراسة به ثلاث سنوات بدلاً من أربع، وتغير اسم الصف إلى (مدرسة اللاهوت)؛ والتي كان يقوم بالتدريس بها، طلائع المنُصرين الأمريكيين، "لا نسنج، يوحنا هوج، وأندرو واطسون، وليم هارفي، جون جفن، هنت، وآخرين"(66). وغدت هذه المدرسة مركزاً خطيراً لتخريج المنصرين الوطنيين، والذين عاونوا المنصرين الأجانب في مصر". انتهى .(69/46)
سابعاً: بحث بعنوان: "الجامعة الأمريكية والتبعية الثقافية" للدكتور كمال نجيب (67)، نشر في مجلة التربية المعاصرة، العدد:49، ص 155-190:
"في مقدمة كتابهما عن "التعليم والاستعمار"، أوضح "فيليب التباخ"، و"جيل كيلى" أن الثقافة تعد جزءاً من العلاقات غير المتكافئة القائمة بين دول المركز والهامش. ففي حركة التوسع الدائم للنظام الرأسمالي العالمي، وامتداده لمناطق تختلف في أنظمتها عن الثقافة والإنتاج والاستهلاك والقيم والاتجاهات والرغبات الخاصة بمجتمعات المركز، تبدو ضرورة "التحديث الثقافي" والتربوي لمجتمعات الهامش، حتى يتحقق دمجها بالنظام الرأسمالي العالمي(68).
وتعد الجامعات التي أنشأتها دول المركز في كثير من بلدان العالم الثالث –خصوصاً في القارة الأفريقية- وصممت نظمها، وبرامجها، لكي تكون امتداداً للجامعات الأوربية والأمريكية، ومراكز البحث العلمي بها، أدوات رئيسية للتحديث الثقافي والتربوي، كما أنها بهذا المعنى، مثال بارز لمساعي الهيمنة الثقافية التي يفرضها الغرب على بقاع العالم المختلفة، ومن ثم، فهي أكثر أدوات التبعية الثقافية قوة وتأثيراً.
وتعمل هذه الجامعات بمثابة "شركات ثقافية" متعددة الجنسية، وتتشابه في خصائصها مع الشركات التجارية عابرة القارات. فلقد بدأت معظم الجامعات الأفريقية، على سبيل المثال، بوصفها امتداداً للمؤسسات الأوربية التي ساهمت في إنشائها، وكانت قرارات تطوير التعليم بها، تصدر وفق إملاءات الشركات الثقافية "الأم" في بريطانيا وفرنسا وبلجيكا. ولم تكن السلع الثقافية التي تروجها هذه الجامعات، تتلاءم بالضرورة مع حاجات المجتمعات الأفريقية الناشئة. وكما تعد المؤسسات متعددة الجنسية، "شركات اقتصادية" ذات تبعات سياسية وثقافية، كذلك يمكن النظر إلى الجامعات الأجنبية باعتبارها "شركات ثقافية" ذات تبعات سياسية واقتصادية(69).(69/47)
ولقد سعت مؤسسات التعليم العالي الأوربية والأمريكية المنشأة في بلدان العالم الثالث إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي:
1-خلق صفوة من الشرائح الاجتماعية العليا المهيمنة في الهوامش (البلدان التابعة) والمركز (الدولة الإمبريالية) بما يخدم ويعمق حالة التبعية البنيوية التي تعيشها الهوامش.
2-إنتاج أيدٍ عاملة مدربة –على النمط الغربي- لتغطية حاجات القطاع الاستثماري الأجنبي.
3-نشر القيم الاستهلاكية، وأساليب الحياة والعادات التي من شأنها توسيع نطاق السوق الرأسمالي الغربي.
4-ومن ثم تكمن أهمية الجامعات الأجنبية في العالم الثالث، للمؤسسات الاقتصادية متعددة الجنسية في هذه الأهداف الثلاثة: خلق صفوة موالية للغرب، إنتاج أيدٍ عاملة تتواءم مع متطلبات هذه المؤسسات، وإعادة تشكيل السوق من خلال عمليات البث الثقافي.
فأولاً: يرتكز المشروع الأوربي/ الأمريكي للتغلغل في أنظمة تعليم العالم الثالث على فكرة خلق نظام عالمي تسهم فيه الصفوة، تحت وهم "التعاون" و"التفاهم الدولي" و"تولي المراكز الاقتصادية تبعاً للإمكانيات الفردية" أي بعيداً وبصرف النظر عن الانتماءات الوطنية. ويذكر "إيف اود" أن الألفة الثقافية والممارسة التلقائية والمتمرسة لثقافية ولغة البلد المهيمن، والتقليد في السلوكيات اليومية وفي انتقاء الرموز الاجتماعية –تلك التي تكتسب في الجامعات الأجنبية- هي الكفيلة بتحويل طبقة أجنبية حليفة إلى "ملحق" بكل معاني الكلمة لمركز القوة والهيمنة الإمبريالي(70).(69/48)
وثانياً: تلعب الجامعات الأجنبية دوراً على قدر كبير من الأهمية للاستثمار الغربي بوجه عام. ولقد سعت الشركات متعددة الجنسيات، منذ بداية نشاطها إلى توظيف الوطنيين في المناصب الإدارية، لأن بإمكانهم فهم طبيعة الأسواق المحلية، واستيعاب النزعات العدائية ومواجهتها بفاعلية. وفضلاً عن ذلك تزودهم هذه الجامعات بأساليب الإدارة الشائعة في الغرب، وتقنيات العلاقات الإنسانية الحديثة. وهكذا تقوم الجامعات الأجنبية بترسيخ حالة التبعية الاقتصادية في العالم الثالث وتعزيزها .
وثالثاً: فإن ما يربط بين الجامعات الأجنبية باعتبارها "شركات ثقافية" والمشروعات التجارية، يتمثل في تهيئة السوق للسلع الاستهلاكية الغربية، والعمل بدأب واستمرار من أجل اتساعه. وكثير من السلع الأجنبية مثل المعلبات، وساعات اليد، والصابون، ومستحضرات التجميل، وأجهزة التسجيل وشرائطها، والملابس الجاهزة، والدخان، والمربات، وأجهزة الراديو والتليفزيون، والمنظفات الصناعية، والآلات والسيارات، والعدسات والنظارات.. كان ينتج محلياً، لكنها –مع زيادة ارتباط المجتمع بالسوق العالمي- ارتبطت بالمؤسسات متعددة الجنسية. بيد أن نمو سوق السلع الاستهلاكية الغربية والأمريكية، يعتمد –جزئياً- على انتشار القيم والأذواق الغربية. ولذلك تم بث أنماط الحياة الأوربية والأمريكية بواسطة الإعلانات، والمجلات، والأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية، لكن أكثر أدوات التغريب فاعلية ونجاحاً، تمثلت في "التنشئة الاجتماعية والسياسية" التي تقدمها الجامعات الأجنبية، حيث تعزز لدى المواطنين من جمهورها نزعة تقليد الغرب. وبعد أن غدا نمط الحياة الأوربية جزءاً من معايير المكانة الاجتماعية الرفيعة، أخذ سوق السلع الاستهلاكية الغربية في الاتساع، مع زيادة أعداد المتعلمين في هذه الجامعات.(69/49)
وفي إطار هذه الخلفية عن دور الجامعات الأجنبية في مجتمعات العالم الثالث، تضطلع الورقة الحالية بإلقاء الضوء على العلاقة بين التطورات التي شهدتها الجامعة الأمريكية في القاهرة خلال العقدين الماضيين، وتبني المجتمع المصري سياسة الاقتصاد الحر، وسعيه للحاق بالسوق الرأسمالي العالمي.
وجدير بالذكر أن الجامعة الأمريكية قد شهدت –منذ منتصف السبعينيات- توسعاً هائلاً في برامجها ومبانيها وأعداد الملتحقين بها من الطلاب، وتعاظم بالتالي مدى تأثيرها في الحياة الثقافية والسياسية المصرية. ورغم ذلك لم يوجه الباحثون اهتمامهم إلى تناول تطور هذه المؤسسة التعليمية المهمة، وما يجري داخل قاعاتها وأروقتها، والبرامج التعليمية التي تحفل بها.
ذلك الأمر يدعو للدهشة والاستغراب، فرغم أن هذه الجامعة تعد بمثابة مركز إقليمي أمريكي يخدم مصالح الشركات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والمصالح السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، بالإضافة إلى الدور الهام الذي يقوم به في التدريب وفي خدمة شبكات دراسات الشرق الأوسط، ومساندة الدعاية للولايات المتحدة سياستها، إلا أن صمتاً مريباً يعم كافة مراكز البحث العلمي التربوي حول هذا الدور، وتكاد الدراسات تنعدم في هذا الصدد.
وتدعو ندرة الأدبيات المتصلة بنشأة الجامعة الأمريكية ومبررات قيامها إلى أن نفرد القسم الأول من الورقة لعرض هذا الموضوع، ثم يعقبه القسم الثاني حول آثار سياسة الانفتاح الاقتصادي على زيادة موارد الجامعة المالية، ويخصص القسم الثالث للتوسعات التي شهدتها الجامعة في أقسامها وبرامجها خلال العشرين سنة الماضية.
الجامعة الأمريكية والهيمنة الثقافية :(69/50)
تعود أصول فكرة إنشاء جامعة أمريكية في مصر إلى قيادات إرساليات التبشير الديني التي بدأت في التوافد على مصر وممارسة أنشطتها التبشيرية التعليمية منذ منتصف القرن التاسع عشر. ورغم الشعارات الإنسانية والروحية البراقة التي روج لها خطاب إرساليات التبشير الديني بوجه عام، فمن المهم الإشارة إلى أن كثيراً من الدراسات التاريخية والاقتصادية، أكدت بما لا يدع أي مجال للشك، أن هذه الإرساليات لعبت دوراً مهماً في تثبيت أركان الاستعمار الأوروبي، وتحقيق اندماج بلدان العالم الثالث في السوق الرأسمالي العالمي. وبهذا المعنى، كانت الإرساليات أدوات للاستعمار من الناحية العملية، مثلها في ذلك، مثل الجنود والتجار، والمستكشفين.
ولم تكسر الإرسالية الأمريكية في مصر هذه القاعدة، فلقد كان "شارلز واطسن" Charles Watson مؤسس الجامعة الأمريكية، يؤيد بشدة الاحتلال البريطاني، حتى أنه في كتاباته أشاد بإعلان "لورد روزبري" Lord Roseberry "الإمبراطورية البريطانية تعد بحق: أعظم قوة مدنية للخير عرفها العلم(71)"
ومن ثم، يمكن القول إن دور الكنيسة كان يتمثل أساساً في الإبقاء على العلاقات الاجتماعية للاحتلال، بوصفه امتداداً للدور الذي لعبته في الإبقاء على العلاقات الاجتماعية الرأسمالية في أوربا.
وتجدر الإشارة بداية إلى أن العمل التبشيري الأمريكي بدأ في مصر في 15 نوفمبر سنة 1854م بوصول "القس توماس ماكاج" وزوجته إلى القاهرة، وتبعهما بعد وقت قصير القس "جيمس بارنت" وكان مركز هؤلاء المبشرين دمشق، وأرسلتهم إلى مصر كنيسة الإصلاح الجماعية التي اندمجت عام 1858م مع الكنيسة الجماعية لتكونا الكنيسة المشيخية المتحدة لأمريكا الشمالية.(69/51)
ولقد وصل المبشرون الأمريكيون مصر، كما في بلاد الشرق الأدنى الأخرى، وكلهم لهفة على تحولي المسلمين إلى المسيحية، ولكنهم ووجهوا بمقاومة شديدة، دفعتهم إلى التركيز على الأقلية القبطية والمسيحية. ولذا كانت غالبية من تحول إلى مذهبهم من الأقباط. ومن أجل تحقيق أغراضهم أنشأوا كنيستهم الخاصة: الكنيسة البروتستانتية أو الإنجيلية(72) على أنهم وجدوا أنفسهم –بعد فترة وجيزة من الزمن- مضطرين إلى تحويل نشاطهم من التبشير إلى التعليم.
ومن المؤكد، أن "الإرسالية الأمريكية" أحرزت نجاحاً هائلاً، بل ومنقطع النظير، في مجال الهيمنة على عمليات تعليم المصريين، وتوجت هذا النجاح بتأسيس أضخم جامعة أمريكية خارج الولايات المتحدة وهي الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
قامت "الإرسالية الأمريكية" بافتتاح أولى مدارسها في القاهرة عام 1955م للأولاد، تلاها في تتابع سريع مدارس منفصلة للأولاد وأخرى للبنات في الإسكندرية وفي مختلف مدن الصعيد. ويمكن الحكم على التقدم الحقيقي لبرنامج الإرسالية التعليمي بدراسة إحصائيات عام 1881م. فلقد كان للإرسالية في ذلك العام معهد لاهوتي في أسيوط، وأيضاً كلية تعليمية، 39 مدرسة للبنين، 9 مدارس للبنات. وبلغ إجمالي عدد الطلبة والطالبات 2410 منهم 896 في مدارس الإرسالية مباشرة، والباقي في مدارس تحت إشراف الإرسالية، ولقد ارتفع عدد المدارس التابعة لمكتب التبشير المشيخي الأمريكي في عام 1914م إلى 191 مدرسة، تضم 17000 طالباً وطالبة، منهم أكثر من 5000 طالبة، أي ما يربو على أكثر من ستة أضعاف الملتحقات بالمدارس الحكومية آنذاك، كما كان حوالي 25% من هؤلاء الطلاب من المسلمين(73)!
ويكتب "ريتشارد بيردسلي" القنصل العام الأمريكي عام 1873م تقريراً ذكر فيه أن ثلاثة أرباع موظفي الحكومة في التلغراف والسكك الحديدة ومكاتب البريد، تلقوا تعليمهم في مدارس الإرسالية(74).(69/52)
كما كتب "لويس ادنجز" عام 1907م رسالته "من أجل الأهداف الفكرية والروحية" قال فيها:
"لقد احتل الأمريكيون مصر تماماً مثلما فعلت إنجلترا التي كانت أغراضها مادية، لقد كان للمبشرين الأمريكيين هناك، أفضل، وأغلب المدارس والمستشفيات القائمة"(75).
ورغم أن النجاح الضخم للمؤسسات التعليمية التي أسستها الإرسالية الأمريكية، كان وراء تفكير "شارلز واطس" في إنشاء "جامعة أمريكية" في القاهرة، إلا أن الباعث الحقيقي أنه كان يسعى إلى إنشاء مركز تعليمي على غرار كلية أسيوط التي اضطلعت بمهمة تعليم الشباب المصري البروتستانتي أساساً، وتغلغلت من خلالهم في أعماق الثقافة المصرية في الوجه القبلي.
وكانت كلية أسيوط، ومعها معهد برسلي التذكاري للنساء قد بدءآ نشاطهما عام 1865م في وقت واحد. وكان دورهما الرئيسي تدريب النشء المصري من البروتستانت. بيد أنهما كانا يضمان أيضاً مسلمين ويهود وغيرهم. وقد بلغ عدد المسلمين المدونين في سجلات هذين المعهدين عام 1882م :566 طالباً وطالبة، أي حوالي 18% من إجمالي عدد الطلبة البالغ 3070 طالباً، وكان مما يدعو "واطسن" للأسف أنه لا يوجد مؤسسة شبيهة بكلية أسيوط في القاهرة(76).
بدأت فكرة "الجامعة الأمريكية" تطفو على السطح للمرة الأولى في عام 1899م، حيث دعت ثلاث إرساليات تبشيرية، من بينها الإرسالية التي كان يخدم بها "أندرو واطسن" والد "شارلز واطسن"، إلى تأسيس "كلية مسيحية بروتستانتية" تقوم على أساس التعليم باللغة الإنجليزية، وتتشابه مع كلية "روبرت" في استانبول، أو "الكلية البروتستانتية السورية" (التي أصبح اسمها فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت) (77).(69/53)
وأكد المسئولون عن هذه الإرساليات أن المجتمع المصري في حاجة إلى مؤسسة تعليمية من هذا النوع، يرحل حوالي 60% من شباب مصر، سنوياً، إلى بيروت للحصول على فرص تعليمية متقدمة، واعتقد هؤلاء المسئولون أن التقدير المبدئي لعدد الملتحقين بالمؤسسة المزمع إنشاؤها لا يقل بحال من الأحوال عن 500 طالباً(78).
وفي عام 1903م، تكونت من هذه الإرساليات، لجنة لدراسة الموضوع، لكن "مجلس الإرساليات الأجنبية بالكنيسة المشيخية المتحدة بالولايات المتحدة الأمريكية" لم يهتم في ذلك الحين بالنظر في هذه الفكرة. وظل "واطسن" يسعى خلال السنوات التالية، حتى أنه قابل بمصاحبة "روبرت ماكليناهان" مدير كلية أسيوط، ممثل "جون روكفلر"، لعرض الفكرة عليه، وحثه على تمويلها، لكن اللقاء لم يثمر بسبب إصرار "واطسن" على أن تظل الجامعة مسيحية، وتحت السيطرة الكاملة للإرسالية الأمريكية، على أن "روكفلر" عاد ومنح في عام 1907م، "الكنيسة المشيخية" مبلغ 100.000 دولار لاستخدامها في شراء الممتلكات الثابتة في مصر، على أن يخصص الجزء الأكبر من هذه المنحة في تشييد المباني اللازمة لكلية أسيوط(79).
وفي عام 1911م ضم مؤتمر المبشرين الذي انعقد في الهند، قيادات مسيحية من كنائس متعددة، وصدرت آنذاك توصية المؤتمر بإقامة كلية مجهزة تجهيزاً حديثاً تشرف عليها الإرساليات التبشيرية الموجهة للمسلمين بالقاهرة.(69/54)
وقام "واطسن" في عام 1912م، يشاركه "سيلر"، وهو من المتخصصين بجامعة كولومبيا، في مجال الجهود التعليمية للإرساليات التبشيرية، ومعهما "روبر ماكليناهان" بدراسة علمية، على أساس واقعي، لمدى إمكانية إقامة جامعة مسيحية بالقاهرة. وأجرى الفريق مسحاً شاملاً لجميع مدارس القطر المصري، في الريف والحضر الخاصة والحكومية، المدارس الابتدائية والثانوية، وفي ثنايا هذه الدراسة، قابل الثلاثة مديري المدارس، مستفسرين عن نسب الالتحاق ومعدلات الرسوب والنجاح، والفلسفة التعليمية وأهداف المدرسة، كما قابلوا "حشمت باشا" وزير المعارف في ذلك الحين ومستشاره الإنجليزي "دوجلاس دانلوب" وعرضت نتيجة هذه الدراسة، في مؤتمر عام للمبشرين بالإسكندرية(80).
ونتيجة لهذه الجهود، طرحت "الإرسالية الأمريكية" في عام 1912م توصية إنشاء الجامعة، ورفعتها إلى مجلس الإرساليات الأجنبية بالكنسية المشيخية المتحدة بالولايات المتحدة. ووصل الدكتور "صمويل زويمر" المعروف بنشاطه التبشيري في الجزيرة العربية إلى مصر عام 1912م، للعمل جاهداً في تنفيذ هذا المشروع. وفي العام التالي، وافقت الجمعية العمومية للكنيسة الأبوية على تلك التوصية، وتم اختيار مجلس أمناء على أساس ديني يتولى أعمال المراقبة والتنظيم، تقرر عقد أول اجتماع في 30 نوفمبر 1914م. وتوقعت بمختلف الكنائس البروتستانتية بمصر، أن يكون لها نفوذ ملموس في اختيار مجلس الأمناء، إلا أنه في يونيو 1914م، اقترح "اللورد كتشنر" وكيل قنصل عام بريطانيا في مصر –نظراً للمعارضة القوية من المسلمين- تأجيل افتتاح المؤسسة الجديدة مدة عام، على أن يتم إنشاؤها في الإسكندرية بدلاً من القاهرة. ومن الناحية الفعلية، لم يتيسر إنشاء هذه الجامعة الجديدة قبل عام 1920م وكان مقرها القاهرة(81).(69/55)
وضم أول مجلس أمناء بعض كبار رجال الدين والمال والعلم منهم "جون ماكلوركين" رجل الدين المعروف في مدينة بتسبرج، والدكتور "وليام هيل" الذي كان يمتلك هو وأسرته أضخم شركة لقطع الأخشاب بالولايات المتحدة، وكان في نفس الوقت يُدرس الإنجيل وتفسيراته في كلية "فاسار"، و"الكوت" من كبار رجال الأعمال بنيويورك، و"جوزيف ستيل" من ذوي الخبرة في إدارة الجامعات والشئون الإدارية والمالية، كما ضم أيضاً رئيس جامعة روتجرز، "ديمترتس" و"صمويل ثورن" من خبراء القانون(82).
استقر الأمر إذن، على أن تكون الجامعة الناشئة ممثلة للكنيسة البروتستانتية، وتضم قسماً للبنين فقط، مهمته إعداد الطلاب لمواصلة التعليم في مصر، أو بيروت، أو أوروبا وأمريكا، لكن الذين لا يرغبون في الاستزادة من التعليم، يمكنهم الانخراط في الحياة المصرية بشكل فعال، ويمكن أن يتيح هذا القسم للطلاب بعض التسهيلات في الإقامة. فضلاً عن ذلك تمنح الجامعة الجديدة، تدريباً متقدماً، في ميادين التعليم، والهندسة، والاقتصاد، والصحافة، والعقيدة، والقانون.
وهكذا برز إلى السطح، ثلاثة معايير أساسية: أولها: أن تكون المؤسسة الناشئة في مستوى جامعي حقيقي، وثانيها: تكريسها لمستوى رفيع من الكفاءة، وأخيراً: أن تكون -هذه المؤسسة- ذات توجه مسيحي. ومن ثم، كان لابد أن يتكون مجلس الأمناء بموافقة مجلس الإرساليات الأجنبية، من أجل ضمان ألا يسيطر على الجامعة الناشئة، سوى الكنيسة المشيخية، وهذا في حد ذاته يضمن التزامها بالمثل المسيحية.(69/56)
وثار جدل في مجلس الأمناء حول اسم الجامعة الجديدة. هل يطلق عليها "الجامعة المسيحية". أو "المؤسسة الأمريكية للتعليم المسيحي في مصر والشرق الأدنى"، أم تسمى "مجتمع كليات القاهرة"؟ وفي ديسمبر 1917م، صوّت الأمناء بالموافقة على إطلاق اسم "الجامعة الأمريكية بالقاهرة" A.U at Cairo نتيجة اعتراض أحد كبار المسئولين في الحكومة المصرية على الاسم السابق. ومع ذلك استمر القائمون على الجامعة يستخدمون اسم "الجامعة المسيحية" فيما بينهم(83).
وفي هذا الوقت، بدأ "واطسن" حملات واسعة لجمع التبرعات اللازمة لإقامة المؤسسة الجديدة. وكان يسانده في هذا الشأن "جورج إنيس" رجل الأعمال المعروف بفيلادلفيا، و"وليم بانكروفت هيل" وزوجته، واللذين سبق الإشارة إلى أنهما من أثرياء الولايات المتحدة، وكرسا حياتهما لخدمة الجامعة الأمريكية متبرعين بأكثر من مليون دولار خلال الفترة من 1915م إلى 1945م.
ونجح "واطسن" في جمع أكثر من 170.000 دولار قبل تشكيل مجلس أمناء في سنة 1914م. وفي سبتمبر 1919م توفر للجامعة من حصيلة التبرعات أكثر من 18.000 دولار. ومع هذا النجاح الهائل، بدأت رحلة البحث عن مكان تستقر الجامعة فيه(84).
واتفق "واطسن" على شراء أحد القصور الواقعة بالقرب من ميدان الاسماعلية (ميدان التحرير فيما بعد)، ويتكون من عدة مباني صغيرة، فضلاً عن حديقة تصلح كفناء ويمكن استغلالها في إضافة مبانٍ أخرى فيما بعد. ويقال إن هذا القصر بناه الخديوي إسماعيل، واتخذه أحمد خيري باشا، أحد المقربين من الخديوي ووزير المعارف حينذاك، مقراً له خلال سبعينيات القرن الماضي واشتراه مواطن يوناني، يدعى "نستور جاناكليس" وحوله إلى مصنع للدخان.(69/57)
ولقد أصبح هذا المصنع فيما بعد مكاناً "للجامعة المصرية" الأهلية في سنة 1909م، وألقى بها "تيودور روزفلت" محاضرة خلال زيارته للقاهرة. وبعد انتقال الجامعة المصرية إلى الجيزة، فكر "واطسن" في اتخاذه مقراً للجامعة الأمريكية، وتم شراؤه فعلاً في 18 إبريل عام 1919م مقابل مبلغ 93000 دولاراً أمريكياً، وقدمت الحكومة المصرية للإرسالية الأمريكية مساعدات جمة، من أجل الحصول "قصر جاناكليس"، بعد أن كان مؤجراً لإحدى المدارس التجارية، لكن جهوداً حكومية يسرت حصول الأمريكيين عليه(85).
وسافر "واطسن" إلى واشنطن في يوليو سنة 1919م لاعتماد القرار النهائي بإنشاء الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ووافقت إدارة التربية بمنطقة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية على الترخيص بتأسيس الجامعة الجديدة. ونظراً لظروف الحرب، لم يكن بالإمكان اتخاذ إجراءات افتتاحها رسمياً، حتى بعد وضع لائحتها، والحصول على مكان لها، وجمع تبرعات واسعة. فضلاً عن تعيين مديري الأقسام. وانشغل "واطسن" طوال سنوات الحرب بالمساهمة في وضع برامج إغاثة ضحايا الحرب في أوروبا، ثم شارك، بعد الحرب، في مؤتمر السلام الذي عُقد في "فرساي" ممثلاً مصالح الإرساليات التبشيرية الألمانية.(69/58)
وتقرر افتتاح الجامعة، واستقبال الطلاب في عام 1920م، وكلف "روبرت ماكليناهان"، مدير كلية أسيوط سابقاً، يتولى مسئولية إدارة المؤسسة الجديدة بالقاهرة، كان معظم أعضاء هيئة التدريس من الأمريكيين. ولكن تم تعيين بعض المصريين، من بينهم "أمير بقطر"، المتخرج في أسيوط، والذي درس بمدارس الإرسالية الأمريكية في بني سويف، وكان معروفاً عنه تحليه بمهارات العمل مع كل من المصريين والأمريكيين. وعمل في بداية نشأة الجامعة، سكرتيراً مترجماً، ثم تولى مناصب أخرى إلى أن أسند إليه إدارة قسم التربية. ومن المصريين الذين عملوا بالجامعة خلال هذه الفترة، "إسماعيل حسين محمد" (مدرس اللغة العربية)، و"إسماعيل حسين مصطفى" (مدرس الرياضيات)، و"إبراهيم مسيحة" (مدرس الجغرافيا)، و"حبيب اسكندر" (مدرس وإداري) و"خليل رزق" (نائب رئيس الجامعة في فترة لاحقة)، و"اسطفانوس خليل" (ضابط الجامعة) (86).
وتأسست لجنة لتوجيه سياسة الجامعة، من أعضائها "واطسن" و"ماكليناهان"، تضطلع بمسئوليات تخطيط ميزانية الجامعة، واتخاذ معظم القرارات الرئيسية في القاهرة، والإشراف على أوجه الإنفاق المختلفة وتحديد البرامج الدراسية، وتعيين المدرسين.
وافتتحت الجامعة رسمياً في 5 أكتوبر سنة 1920م وبدأت بكلية الآداب والعلوم، التي تكونت من قسمين مختلفين يناظران البرامج الدراسية بالسنة النهائية من المدرسة الثانوية الأمريكية. يدرس الطلاب في القسم الأول آداب اللغة الإنجليزية، وبرامجه على غرار النمط الأمريكي. أما القسم الثاني فيناظر الثانوية المصرية والدراسة به باللغة العربية، ويشجع الطلاب الذين ينوون استكمال دراساتهم بالجامعة الأمريكية أو بالخارج على الالتحاق بقسم الآداب الإنجليزية.(69/59)
تقدم للجامعة في عامها الأول 142 طالباً كلهم من البنين، حيث كانت قد افتتحت كلية أخرى للبنات في القاهرة خلال هذه الفترة. ولم تبدأ الجامعة في قبول التحاق الطالبات بها، إلا منذ عام 1928م، بعد التحاق "إيفا حبيب المصري" بدراساتها وإثبات كفاءتها وتفوقها، ونجاحها في الاضطلاع برئاسة نادي الطلاب، كما أنها قامت بتحرير جريدة الجامعة وحصلت على عدة جوائز.
كانت مدة الدراسة في كلا البرنامجين، الإنجليزي، والعربي، عامين. وتوجه الاهتمام في برنامج الآداب بالإنسانيات والفنون الحرة وكثير من مقررات العلوم والآداب والفلسفة والعلوم الاجتماعية فضلاً عن تدريب مكثف في مجال اللغة الإنجليزية. وأولت الجامعة –خلال سنواتها الأولى- عناية فائقة للجانب الديني، بحسب عقيدة الطلاب، ولكن من المهم الإشارة، إلى أن خلفية، الأساتذة في غالبيتهم، خلفية مسيحية، ومع ذلك اعتقد "واطسن"، أن الطلاب، من ذوي الخلفيات الدينية، قد يستفيدون من هذا الوضع بدرجة كبيرة(87).
واشتمل برنامج الجامعة على أنشطة يومية في مجالات القراءة والصلاة والمناقشات الأخلاقية، لضمان تحقيق أهداف الجامعة الخلقية. كما تضمن البرنامج تراتيل دينية، ولقاء مساء كل أحد، لممارسة بعض أشكال التطهر الروحي والأخلاقي. وكان يواظب على حضور هذا اللقاء 40 طالباً، بعضهم من المسلمين!! كما نظم اتحاد الطلاب برامج عنيت بالجوانب السلوكية والدينية، وتناول الأسئلة المهمة في حياة الشباب، لكن منعت المقارنات الدينية والمناقشات السياسية العلنية، منعاً باتاً منذ البداية، لتجنب الوقوع في براثن القوانين المصرية، وأيضاً لمنع إثارة أية حساسيات ضد الجامعة.
ويعتقد "أمير بقطر" أن هذه البرامج الحديثة نجحت لأن: "إظهار المعلمين ألوانهم على نحو واضح ومحدد، ودون أي مراوغات، نال إعجاب الطلاب"(88).(69/60)
ولقد وقف بعض رجال الصحافة المصرية، خلال هذه الفترة إلى جانب الجامعة الجديدة فنشروا –بتأييد كبير- برامجها ونظمها وأعلنوا عن مميزاتها. ومن هؤلاء "فارس نمر" محرر "المقطم" الذي بذلك جهوداً مضنية في هذا المضمار. كذلك لعبت "الأهرام" دوراً مهماً في هذا الشأن حيث نشرت كثيراً من التقارير الصحفية حول نشاط الجامعة(89).
وبلغت المصروفات الجامعية، في هذه الفترة 16 جنيها مصرياً (حوالي 80 دولاراً) في العام بالإضافة إلى مبلغ 13.5 ثلاثة عشر جنيهاً ونصف (67.5دولاراً) نظير وجبة غذاء إجبارية تقدم للطالب ظهراً. وكان معنى ذلك، أن الجامعة، منذ بدايتها، مؤسسة لخدمة طلاب الطبقات الاجتماعية الأرستقراطية فقط، وذلك على نقيض السياسات التي معمولاً بها في مدارس الإرسالية الأمريكية الأخرى(90).
ولقد احتفلت الجامعة بتخريج 20 خريجاً، في أول دفعة لها سنة 1923م، وبحضور ستة وزراء، ومحافظ القاهرة، ومدير الأزهر الشريف، والأمير محمد علي. وفي السنة التالية، حضر سعد زغلول، حفل التخريج، وكان وقتئذ رئيساً للحكومة، يرافقه خمسة من الوزراء الحاليين والسابقين. وتحدث فارس نمر في أول احتفال للتخرج، وتضمنت قائمة المتحدثين في الأعوام التالية: زكي العرابي وزير المعارف و"مورتون هويل" أول وزير مفوض أمريكي في مصر، وطلعت حرب(91).
وأخذت الجامعة تتطور بسرعة مذهلة منذ إنشائها. فلقد تضاعف حجم الطلاب أعداد البرامج الدراسية خلال السنوات التالية. ارتفع عدد الطلاب في العام الدراسي 21/1922م من 142 طالباً إلى حوالي 200 طالباً. وأضيفت إلى البرنامج الدراسي سنة ثالثة. وفي عام 1925م توسعت كلية الآداب وأصبحت الدراسة بها أربع سنوات.(69/61)
وفي عام 1921م أقيمت كلية جديدة للدراسات الشرقية للعناية بالدراسات العربية اللغوية وعين "آرثر جيفري" مديراً لها. وكانت اهتماماته تدور أساساً حول التاريخ الإسلامي المبكر. ولقد ساهمت مؤسسة "كارنيجي" الأمريكية في إقامة مكتبة هذه الكلية. وجدير بالذكر أن هذه الكلية تطورت عن فكرة كان قد طرحها "واطسن" لضم مركز دراسات القاهرة"، وهو مركز متخصص في تدريس اللغة العربية للأجانب، ولم يكن يضم كثيراً من الطلاب، كما كان يعاني من مشكلات مالية، إلى رحاب الجامعة، لتدريب الآخرين في اللغة العربية، وتزويدهم بدراسات كافية عن تطور الفكر الإسلامي(92).
كما تأسس قسم للتعليم المستمر، يقدم برامج الخدمة العامة في سنة 1924م، واشتمل على محاضرات مسائية في بعض المجالات العملية. وأقيم مبنى خاص. وحضر حفل افتتاحه توفيق نسيم ممثلاً للملك فؤاد.
وبدأ قسم التربية في ممارسة أنشطته على نطاق واسع منذ عام 1926م، مع تعيين "راسل جالت" عميداً له(93).(69/62)
واستمرت الجامعة في التقدم والاتساع منذ نشأتها، على مدى أكثر من سبعين عاماً، لكن التطورات الأساسية التي طرأت على تمويلها، وبرامجها، وهيئات تدريسها، وأعداد طلابها، حدثت مع منتصف السبعينيات في أعقاب تحول المجتمع المصري اقتصادياً وسياسياً إلى نظام ليبرالي، يأخذ بتنظيم الاقتصاد على أساس حر، أو ما أطلق عليه وقتها الانفتاح الاقتصادي. وصاحب ذلك، بطبيعة الحال، انضمام مصر إلى منظومة الدول الرأسمالية، وإقامة علاقات صداقة قوية مع هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية أخرى، حدث تحول موازٍ في نشاط الولايات المتحدة في بلدان العالم الثالث خلال هذه الفترة، حيث ظهر بجلاء شديد أنها لا تستهدف إخضاع الشعوب اقتصادياً وسياسياً فحسب، بل وثقافياً أيضاً، وبرز إلى السطح سعيها الدءوب إلى "فرض الأنماط التعليمية الأمريكية على العالم" وأصبح النظام التعليمي هو السعي إلى تدويل ذاته، أي إلى أن يصبح نظاماً عالمياً للتعليم. وأدت هذه التطورات إلى حدوث نقلة كيفية في نشاط الجامعة الأمريكية، وغدت منذ ذلك الحين، تمارس تأثيراً قوياً –لم تعهده قط- في المحيط الثقافي المصري.
الانفتاح الاقتصادي وازدهار الجامعة الأمريكية:
بدأت مصر في الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادي منذ عام 1974م. وتمثلت أهم نتائج هذه السياسة في انسحاب الدولة من الاضطلاع بمسئولياتها الرئيسية في تمويل التعليم وتوجيهه بما يخدم حاجات الشعب المصري، ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكان لهذا الانسحاب تأثير خطير في تدهور أحوال التعليم العام المنوط به إعداد الفئات العاملة المختلفة كما ساعد من ناحية أخرى على ازدهار القطاع التعليمي الخاص المكلف بإعداد الصفوة.(69/63)
فلقد بدأت الطبقات الاجتماعية القادرة مع بداية سياسة الانفتاح الاقتصادي، نتيجة عدم رضاها عن تعليم أبنائها في المدارس الحكومية ذات المستوى المتدهور، في العدول عن إرسالهم إليها، وشرعت في استحداث نظامها التعليمي الخاص، المتمثل في مدارس اللغات والمدارس الأجنبية. وهكذا شاهدنا منذ منتصف السبعينيات هذا السيل المتدفق من مدارس اللغات الجديدة، بل وأكثر من ذلك، بدأت الحكومة في تشجيع هذا التيار، وساهمت بقسط كبير في دعمه مالياً وعلمياً. ومن ذلك على سبيل المثال، إنشاء "مجمع مصر للغات" بالجيزة، يتعلم فيه التلاميذ المعلومات العامة والحساب والعلوم بواسطة الكمبيوتر. وتضاعفت خلال هذه الفترة أعداد الطلاب من الفئات الاجتماعية المحظوظة التي تسعى إلى عواصم الغرب لتلقي التعليم، بل قام رأس المال المصري بإنشاء المدارس هناك، مثل مدرسة نوال الدجوى بلندن.
وهكذا بدأت الحكومة المصرية في تعاون كامل مع الطبقة الجديدة –باستحداث قنواتها التعليمية الخاصة التي تتناسب مع توجهاتها وقيمها وطموحاتها، وهنا أيضاً يمكن تفسير انتعاش الدور الثقافي والاجتماعي الذي تقوم به الجامعة الأمريكية كممثل لتربية هذه الطبقة، وهذا هو الأصل أيضاً في الرغبة العارمة التي تساور هذه الطبقة لإنشاء جامعة أهلية خاصة يوكل إليها مهام تعليم أبنائها. وفي هذا الصدد يصرح رئيس الدولة في عام 1985م رداً على بعض أصحاب هذه الفكرة بقوله: "إنه مدرك تماماً للأسباب التي أبدوها. وإنه يعلم جيداً أن القادرين والموسرين يزاحمون فعلاً أبناء الطبقات الكادحة في مجانية التعليم الجامعي.. وأن هذا العبء الضخم الملقى على عاتق الإمكانيات المحدودة والجامعات تعلم بالمجانية الكاملة قد أثرت على المستوى (الكيفي) للتعليم.." وقال لهم أيضاً:(69/64)
"إن منا من يفضل أن يقتطع من قوته لكي يعلم أبناءه بالمصاريف في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ليصيبوا عناية أكبر في التعليم. ولكن لو حدث وقامت الحكومة غداً بمواجهة الأمر الواقع، وقررت مثلاً أن تسمح بإنشاء جامعة أهلية بالمصاريف إلى جانب الجامعات الحالية، فسوف تخرج في الحال أصوات ترتفع، وأقلام تقول إن الحكومة تعيد نظام الطبقات، وإنها انتكاسة كبرى وتلغي المساواة في الفرص ... إلخ"(94).
على أي حال، فلقد أثرت سياسة الانفتاح الاقتصادي على أوضاع الجامعة الأمريكية، بشكل مباشر في ثلاثة جوانب محددة:
1-أما عن الجانب الأول، وهو أهم هذه الجوانب، فيتعلق بما حظيت به الجامعة خلال تلك الفترة من تشجيع الحكومة المصرية ومنحها مزايا واسعة، كرمز للنوايا الطيبة للحكومة المصرية.
2-ساعدت سياسة الانفتاح الاقتصادي والمناخ العام الذي أفرزته وما صاحبه من تشجيع رجال الأعمال الأمريكيين للعودة إلى مصر، واستثمار هذا المناخ، وزيارة الرئيس السادات للقدس سنة 1977م، وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل وبداية الانصراف عن الاهتمامات القومية والعالمية التحررية والانكماش داخل الحدود المصرية، وتحسن العلاقات المصرية الأمريكية، وبداية تدفق سيل المعونات الضخمة من الولايات المتحدة الأمريكية على مصر.. كل هذه التطورات ساعدت في تحقيق زيادات هائلة في موارد الجامعة الأمريكية المالية بشكل لم تشهده طوال تاريخها، وبصورة ساهمت بقوة في زيادة برامجها وأنشطتها التعليمية، وتقوية تأثيرها في المجتمع المصري.
3-خلق الانفتاح الاقتصادي طلباً متزايداً –في أسواق العمالة- على خريجي الجامعات ممن يجيدون التحدث والكتابة باللغة الإنجليزية. وأدى هذا الطلب بدوره إلى رفع قيمة الشهادات التي تمنحها الجامعة الأمريكية، وإلى زيادة تدفق الطلاب عليها في أعداد غفيرة، ودفع هذا العامل إلى تعجيل الجامعة باتخاذ إجراءات التوسع في نشاطها وبرامجها.(69/65)
وفيما يتعلق بالجانب الأول فلقد أدت التغيرات الاقتصادية والسياسية التي حدثت منذ بداية السبعينيات إلى عودة العلاقات بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، وزيارة الرئيس نيكسون لمصر في يونيو 1974م، وكان الرئيس السادات قد أصدر بعد الانتهاء من إعداد الترتيبات الخاصة بزيارة الرئيس نيكسون لمصر، قراراً يقضي برفع الحراسة المفروضة على الجامعة بعد حرب 1967م، وعودة السيادة الكاملة لمجلس الأمناء على كافة شئون الجامعة.
كما قابل الرئيس المصري –للمرة الأولى- أعضاء مجلس أمناء الجامعة الأمريكية، حيث تمت دعوتهم على العشاء، أثناء زيارة "هنري كيسنجر"، وفي نفس الليلة التي كان تم فيها توقيع اتفاقية فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل، في يناير 1974م، وتكررت مقابلة الرئيس السادات لأعضاء المجلس، وصار ذلك عرفاً عادياً من بعده.
وفي مارس 1974م، أصدر وزير التعليم العالي قراراً رسمياً بالاعتراف بالدرجات العلمية التي تمنحها الجامعة الأمريكية، وبمعادلتها بالدرجات التي تمنحها الجامعات المصرية، فيما عدا ثلاث شهادات. ومن ثم، فلقد ضمن خريجو الجامعة الأمريكية –لأول مرة في تاريخها- معاملتهم مثل أقرانهم خريجي الجامعات المصرية، بما فيها إتاحة فرص التوظف الحكومي أمامهم، واستكمال دراساتهم العليا بالجامعات المصرية.(69/66)
وفي نوفمبر 1975م وقعت الجامعة اتفاقية مع الحكومة المصرية، جاء فيها أن الجامعة الأمريكية مزدوجة الجنسية. وأن يكون قبول الطلاب بالجامعة بنسبة 75% من المصريين، و25% من الأمريكيين. كما نصت أيضاً على إعفاءات مرتبات العاملين بالجامعة التي يتم صرفها من المنح الأمريكية الصادرة بمقتضى القانون 480، من الضرائب. وأن يكون رئيس الجامعة أمريكيا، ونائبه مصرياً. وتأكد في هذه الاتفاقية أيضاً مبدأ معادلة الشهادات التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالشهادات المصرية، كما تم الاحتفاظ بوظيفة المستشار المصري، وعين حسين أمين فوزي في هذا المنصب، وصدق مجلس الشعب على الاتفاق، وكذا مجلس الوزراء، ونشر كقرار جمهوري رقم 146 لسنة 1976م بتوقيع الرئيس السادات.
وفي ضوء هذه التطورات، قرر مجلس الأمناء، إضافة أعضاء جدد من المصريين والعرب. وكان المجلس مقتصراً في عضويته منذ سنة 1968م على الأمريكيين فقط. وانضم بمقتضى ذلك القرار إلى المجلس "يوسف الجميل"، نائب رئيس شركة عبد اللطيف جميل المتحدة بالمملكة العربية السعودية (وهو خريج الجامعة الأمريكية بالقاهرة)، والشيخ كمال أدهم مدير شركة المقاولات العامة، والمهندس أحمد عز الدين هلال نائب رئيس الوزراء السابق، ووزير البترول آنذاك، ومصطفى خليل، رئيس البنك العربي الدولي ورئيس الوزراء الأسبق(95).
الجامعة الأمريكية بين النشاط العلمي والتجارة متعددة الجنسية:(69/67)
التغير الأساسي الذي أسفرت عنه سياسة الانفتاح الاقتصادي، أن مؤسسات التعليم الخاص بوجه عام، والجامعة الأمريكية بوجه خاص، قد حققت زيادات هائلة في مواردها المالية. ولقد شعر القائمون على الجامعة، بضرورة استثمار المناخ العام المصاحب للأوضاع السياسية والاقتصادية الجديدة التي سادت منذ منتصف السبعينيات، ووضع خطة تمويلية تساعد على استقلال الجامعة مالياً، وثبات أحوالها المالية من ناحية، ومن ناحية أخرى تمكنها من الاضطلاع بخطة توسع طموحة تتحقق خلال سنوات الانفتاح.
ولقد لجأت إدارة الجامعة إلى اتخاذ بعض التدابير والإجراءات من أجل مضاعفة ميزانياتها، ومواجهة أعباء التوسعات المرتقبة. ومن هذه الإجراءات ما يلي:
1-رفع المصروفات الدراسية سنوياً. وبدأت الزيادة بنسبة 20% وبلغت مستويات غير معقولة، حتى أن الجامعة أعلنت في عام 1983م، أن مصروفات العام الدراسي التالي أصبحت تعادل ما قيمته ألف دولار أمريكي زادت المصروفات بين عام 77/1978م وعام 82/1983م بنسبة 31% مكونة بذلك –بحسب ما تزعم إدارة الجامعة- ثلث الميزانية العامة للجامعة. ووصلت المصروفات عام 1986م، ولأول مرة حوالي 50% من دخل الجامعة (وكانت تمثل 15% من الدخل عام 1978م).
وقل اعتماد الجامعة الأمريكية، على الحكومة الأمريكية، في التمويل، وبعد أن كانت تتلقى منها 43% من احتياجاتها أصبحت في حاجة فقط إلى ما قيمته 18%، ويزعم القائمون على الجامعة أن المصروفات الدراسية لا تغطي أكثر من 20% من التكلفة الحقيقية لتعليم الطالب. ومن ثم، فهي تحتاج إلى دعم ما بين 3 إلى 4 مليون دولاراً سنوياً لضمان معقولية التمويل بالجامعة(96).
2-القيام بحملة واسعة ومكثفة للاستفادة من ظروف الانفتاح، والعلاقات الطيبة بين مصر وأمريكا، والتوسع الاستثماري الأمريكي في مصر لجمع تبرعات تساعد الجامعة على إنجاز التوسعات المناسبة لهذه الظروف الجديدة.(69/68)
وظل القائمون على الجامعة يعدون لهذه الحملة عاماً كاملاً اعتمدوا فيه على استشارة شركة "بريكلي" وشركة "جون برايس جونز". وحدد مجلس أمناء الجامعة هدفاً للحملة يتمثل في جمع 22 مليون دولاراً من مصر والولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية(!) ودول الخليج، على أن يتم ذلك خلال عام 1987م.
على مدى أكثر من ستين عاماً، وهي تاريخ الجامعة الأمريكية بالقاهرة حتى تلك السنة، لم يتجاوز حجم ما حصلت عليه من هبات ومنح مبلغ ثلاثة ملايين دولاراً، لكن الأوضاع الآن باتت مختلفة أشد الاختلاف.
فلقد غطت الحملة ثلاث مناطق جغرافية: الولايات المتحدة، مصر، المملكة العربية السعودية والخليج. وتكونت لجنة الإشراف على جمع التبرعات برئاسة "هوارد كلارك" رئيس شركة "اميركان أكسبريس" وعضوية رؤساء شركات "اكسون"، "وأتلانتك ريتشفيلد"، وشركة "مويل"، بالإضافة إلى "وليام روجرز"، و"سايروس فانس" وزيري الخارجية الأمريكية السابقين.
وتشكلت لجنتان للإشراف على جمع التبرعات داخل مصر. وتكونت اللجنة الأولى من "بطرس غالي" وزير الدولة للشئون الخارجية، و"فؤاد سلطان" وزير السياحة، و"مصطفى خليل" رئيس البنك العربي الدولي، ورئيس الوزراء الأسبق.
وضمت اللجنة الثانية بعض مديري الشركات متعددة الجنسية، التي تعمل بالمنطقة مثل مدير شركة "جزال ديناميك" ومدير شركة زيروكس، ومدير نورثروب ماريون ايه تي أندتي، ومدير شركة "ستي بنك" ومدير شركة "جنرال موتورز".(69/69)
وتشكلت لجنة الإشراف على نشاط حملة التبرعات بالمملكة العربية السعودية والخليج تحت إشراف "شارلز هيدلاند" رئيس شركة "إسو" بالشرق الأوسط، وعضو مجلس الأمناء، ولقد تبرعت أسرة "الجميل" السعودية بملغ (5) ملايين دولاراً هدية مبدئية للجامعة، وكان "يوسف جميل" قد تخرج في الجامعة عام 1968م، وأنشأ بعد ذلك شركة لتوزيع سيارات "تويوتا" والآلات الزراعية، النقل المختلفة، والتمويل الدولي والمقاولات. وذكر "يوسف الجميل" "لهيدلاند": "إننا مدينون للجامعة الأمريكية بالقاهرة كثيراً، ولولا حصول يوسف على تعليمه بها، ما كان باستطاعة أسرتنا أن تصنع ما حققته اليوم" واستخدم المبلغ في إقامة "مركز عبد اللطيف جميل لدراسات الإدارة بالشرق الأوسط" (!!)
وشارك مجلس خريجي الجامعة الأمريكية في نشاط حملة التبرعات بنصيب كبير. ولقد عينت "ماري اسكندر" مديرة لمكتب الخريجين في عام 1977م، وكانت قد حصلت على شهادة الماجستير من الجامعة الأمريكية. ولقد حققت كثيراً من المكاسب المادية والدعائية للجامعة عن طريق الخريجين. وشملت استراتيجيتها إصدار نشرة دورية عن أخبار الجامعة ومجلسها وتوزع على الخريجين، وتأسيس لجنة لإدارة العلاقات في أوساط الخريجين، وإقامة روابط للخريجين في أنحاء متفرقة من الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، كما بادرت "ماري اسكندر" بوضع تقاليد محددة لدعوة الخريجين في مناسبات عديدة شهرياً وسنوياً وخلال عطلة نهاية الأسبوع. ويحضر هذه اللقاءات في الغالب أكثر من ألف خريج. كما تأسس مجلس دولي للخريجين من أجل المحافظة على اتصال الجامعة بخريجها في كل أنحاء العالم.(69/70)
وتوج مجلس الخريجين نجاحه في هذا المضمار حين ضم إلى صفوفه السيدة "سوزان مبارك" قرينة الرئيس مبارك، منذ أن كان زوجها نائباً لرئيس الجمهورية، وأصبحت أول رئيس لمجلس خريجي الجامعة. وجدير بالذكر، أنها حصلت على شهادتي الليسانس والماجستير من الجامعة الأمريكية (!) كما كان ابناها منتظمين بالدراسة بالجامعة وقتئذ وليس من شك أن رئاستها للمجلس، في سنواته المبكرة زودته بشرط سياسي ضروري لتحركه على نطاق واسع فعال.
كانت الحملة في مجملها ناجحة. فلقد أسفرت عن جمع تبرعات قيمتها 18.4 مليون دولاراً حتى عام 1986م : 7.2 مليون دولاراً من الولايات المتحدة الأمريكية، و 9.8 مليون من السعودية (!) ودول الخليج، 1.5 مليون دولار من مصر.
وقد أسهمت الشركات الأمريكية العاملة بمصر والشرق الأوسط بمبالغ طائلة في هذه الحملة ومن هذه الشركات: "أي بي إم –إسو- موبيل – أموكو- نورثروب- كونوكو- أمريكان إكسبريس- تشيس- جنرال إليكتريك- سيتي بانك- وستنجهاوس- فنادق ماريوت- بنك أوف أمريكا". وبنك مصر إيران، والبنك العربي الدولي، وكثير من الشركات الأخرى المهمة العاملة في مصر والمملكة العربية السعودية. بلغت قيمة مساهمات هذه الشركات ما يربو على 11 مليون دولاراً(97).
3-من الإجراءات التي لجأت إليها الجامعة أيضاً، لزيادة مصادرها المالية، السعي للحصول على مبالغ طائلة من وكالة المعونة الأمريكية. وحصلت، في هذا الصدد على كثير من المعونات. وفي عام 1981م، اتصل "توماس بارتلت" والسيدة "مولى بارتلت" بالسناتور "مارك هارتفيلد" (رئيس لجنة التخصيص بمجلس السناتور)، وأعضاء اللجنة من أجل التدخل لإنهاء إجراءات منحة سابقة من الولايات المتحدة قيمتها 10 مليون جنيهاً، وللحصول على منحة جديدة قيمتها 8.75 مليون جنيهاً مصرياً. وتحقق للجامعة كلا الهدفين في سنة 1982م، وتم إيداع قيمة المنحتين في حساب الجامعة لاستخدامه فيما بعد.(69/71)
فضلاً عن ذلك، فلقد أقر "مكتب المدارس والمستشفيات الأمريكية بالخارج" الاستمرار في دعم الجامعة بمنح دولارية تفي بالتزاماتها الخاصة بمرتبات وشراء الحاسبات الآلية، وصيانة المبنى الرئيسي للجامعة، وتجديد قاعات الدرس، وإبدال نظام الاتصالات الهاتفية القديم، وشراء أجهزة هندسية حديثة.
بيد أن أهم إنجاز حققته الجامعة في هذا الشأن، الاتفاق الذي أُبرم بين الحكومة الأمريكية والحكومة المصرية في عام 1985م، وبمقتضاه تم تخصيص مبلغ 50 مليون جنيهاً مصرياً من فائض الأموال، التي تمتلكها الولايات المتحدة بالجنيه المصري داخل مصر، وتتسلمها السفارة الأمريكية بالقاهرة، لاستثمارها كوديعة لصالح الجامعة الأمريكية، وتستفيد من عائدها سنوياً(98).
4-وفي ظل مناخ الانفتاح الاقتصادي، لجأت الجامعة الأمريكية، إلى اتباع سياسة جديدة، تهدف إلى تحقيق مزيد من الاعتماد الذاتي في توفير احتياجاتها المالية. فأنشأت في عام 1975م ما يعرف باسم "صندوق الجامعة للأوقاف التربوية"، من أجل استثمار بعض الأموال في مشروعات اقتصادية متنوعة، تحقق لها أرباحاً سنوية مضمونة. وساهمت وكالة المعونة الأمريكية في هذا الصندوق بمبلغ 8.5 مليون جنيهاً مصرياً من مخصصات كانت قد منحتها للجامعة في عام 1969م قيمتها 25 مليون جنيهاً، ولم يتم صرفها حينئذ لأسباب سياسية واشترطت الوكالة استخدام هذه المخصصات في دعم مشروعات القطاع الخاص التي بدأت في الازدهار، بالإضافة إلى تحقيق دخل ثابت يمكن الجامعة من التوسع في مشروعاتها التعليمية(99).
وفي نفس العام، اتخذ القائمون على الصندوق قراراً باستثمار مبلغ 47.000 جنيهاً مصرياً في إنشاء شركة سياحية، ولكن رغم استخراج تصريح خاص بمزاولة نشاطها، تم العدول عن هذا المشروع لأسباب غير معروفة. كما استثمر الصندوق جزءاً من أمواله في شراء قطعتين من الأراضي بمنطقة الزمالك في عام 1975م.(69/72)
وساهم الصندوق في إنشاء شركة القاهرة الصناعية للمشروبات، الممثل المحلي لشركة "سفن أب"، و"كندادراي" لتعبئة الزجاجات، كما شارك أيضاً في إقامة شركة الكويت الغذائية التي افتتحت بدورها فروعاً بجمهورية مصر لمحلات "كنتاكي فرايد تشيكن" وومبى.
وقام صندوق أوقاف الجامعة بتأسيس شركة الألمونيوم العربية، باستثمار مبدئي قيمته 1.5 مليون جنيهاً مصرياً، وحاز هذا المشروع شهرة واسعة، لأنه أول المشروعات الممولة من مصادر أمريكية ومصرية بعد معارك سنة 1973م.
وفي منتصف عام 1984م، حقق مبلغ الاستثمار الأصلي في بعض المشروعات الاقتصادية (وقيمته 8.54 مليون جنيهاً مصرياً) أرباحاً زادت من قيمته فوصل إلى 9.74 مليون جنيهاً. ومنذ ذلك الوقت بدأت الجامعة في الاستفادة من أرباحها السنوية في هذه المشروعات(100).
ومن الجوانب التي يجدر التعرض لها، إذا كنا بصدد تحليل أثر سياسة الانفتاح الاقتصادي على مؤسسات التعليم، جانب الفساد المالي والإداري في قطاعات التعليم المصري، وبصفة خاصة في الجامعة الأمريكية، حيث يقع كثيرون في وهم الاعتقاد بأنها بمنأى عن الشبهات.
فلقد حدث أن اشترت الجامعة قطعة أرض بمنطقة الزمالك بمبلغ 913.368 جنيهاً مصرياً. لكن الثمن المسجل في عقود الشراء الرسمية كان 300.000 جنيهاً فقط، أين اختفى باقي المبلغ ؟! يزعمون أنه تم تسليمه لبائع الأرض بواسطة أحد موظفي "صندوق الأوقاف"!
وقام مفتش المعونة الأمريكية بفحص سجلات الصندوق وكتب تقريراً جاء فيه إن:
"حسابات الصندوق ناقصة بدرجة كبيرة، بحيث يستحيل الاعتماد عليها في استخلاص نتائج موثوق بها حول عمليات الصندوق الراهنة أو ظروفه المالية، كما أن بيانات الميزانية غامضة. لا يمكن لأحد أن يتوقع متى يفلس الصندوق.. أضف إلى ذلك أن نفقات سفر الموظفين وتكاليف استقبال الوفود بلا ضابط"(101).(69/73)
وقرر مفتش وكالة المعونة في تقريره اختفاء مبلغ 1,1 مليون دولار من واقع السجلات، وطالب بإجراء تحقيق شامل بواسطة مكتب تحقيقات الوكالة، وحضر مفتش آخر أيد ما جاء بالتقرير السابق، وأضاف أن عملية تسليم المبالغ المالية إلى صاحب أرض الزمالك، لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال، لكنه أشار إلى:
"إن مثل هذه المعاملات شائعة في مصر، وليس ثمة دليل على نوايا إجرامية للاحتيال على حكومة الولايات المتحدة" كما "لم تنتهك قوانين الولايات المتحدة الأمريكية"(102).
وتم الكشف عن كثير من الانحرافات الأخرى في حسابات كافة مشروعات الجامعة الاستثمارية في مصر، وسجلاتها، وتكررت نفس الملاحظات السابقة عن مصروفات إدارة الصندوق في تقرير محقق ثالث عام 1978م.
على أية حال، ورغم وضوح عملية الاحتيال على الحكومة المصرية، وانتهاك القوانين المصرية، إلا أنه لم تجر أية تحقيقات من جانبها.
وشاع بين أساتذة الجامعة وطلابها، خلال تلك الآونة، أن الجامعة اختلست مبلغ ثلاثة ملايين دولار من صندوق الجامعة، وأدت هذه الأحداث إلى استقالة الوسيطين المصري والأمريكي اللذين شاركا في إنهاء إجراءات شراء أرض الزمالك، واستقال رئيس الجامعة "سيسيل بيرد" في 1 يونيو 1977م.
ورغم كل ذلك، فلقد عادت العلاقات مع وكالة المعونة الأمريكية في عام 1978م، وبدأت الجامعة في تلقي المعونات السنوية بأكثر مما كان عليه الحال من قبل، واستأنف الصندوق نشاطه بالمشاركة في الاستثمار في شركة كولجيت بالموليف بمصر، كما زادت قيمة مساهمته في الشركة العربية للألمونيوم(103).
ويشير مدير الجامعة في عام 1977م إلى المنح المقدمة من الشركات الأمريكية الضخمة بقوله:(69/74)
"ومما لا شك فيه إن أوضح ملامح تطور الأحوال المالية للجامعة خلال العام الأخير تتمثل في المعونات الأمريكية المقدمة للجامعة، فلقد تزايد حجم هذه المعونات من 980480 إلى 2450000 دولاراً أكثر من العام السابق، وقد سارع بتقديم الهبات المالية إلى الجامعة أكثر الشركات شهرة في هذا المجال: وستنجهاوس وفايزر(104).
تطور البرامج الدراسية في عصر الانفتاح :
في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي، وبفضله، وفي التسهيلات المالية التي تحققت للجامعة الأمريكية خلال تلك الآونة، وما أتاحته الحكومة المصرية لها من حرية الحركة والسماح لها بالتوسع في مجالات نشاطها، تمكنت الجامعة من تحقيق توسعات تعليمية ضخمة.
ولقد تم التوسع في البرامج الدراسية في مجالين أساسيين، أما عن المجال الأول، فإن سياسة الانفتاح الاقتصادي، وقيامها على أساس المشروع الخاص، واعتمادها على أنظمة إدارية غربية (أمريكية على وجه الخصوص)، ونقص أعداد المصريين المدربين في هذا الميدان، تطلب اهتماماً بمجال إدارة الأعمال، ومن المعروف أن اهتمامات الجامعة الأمريكية، دارت تاريخياً حول الآداب والفنون الحرة، واتخذت منها محوراً أساسياً لأنشطتها التعليمية المختلفة، لكن المتغيرات الجديدة التي صاحبت الانفتاح جعلت "بيدرسون" يقوم فور توليه رئاسة الجامعة، بمد برنامج دراسات إدارة الأعمال إلى المرحلة الجامعية الأولى، وساهمت المنحة المقدمة من شركة "آي بي إم" في تغطية تكاليف إنشاء البرنامج، وسجلت أول دفعة من الطلاب في هذا البرنامج خريف عام 1980م، وعددها 170 طالباً، واضطرت الجامعة إلى رفض قبول مزيد من المتقدمين للالتحاق بهذا البرنامج، وشمل البرنامج عشرين مقرراً دراسياً(105).(69/75)
وذلك بتحويل درجة الماجستير التي كانت تمنح في الإدارة، إلى مجال "إدارة الأعمال"، وفي ضوء رغبة الجامعة في مد تأثيرها إلى القطاعات الحكومية، وسعيها للمحافظة على اتصالات قوية ومباشرة بالإدارات والمؤسسات المختلفة، فلقد أنشأت برنامج دراسي يمنح درجة الماجستير في "الإدارة العامة" كما تأسس "مركز دراسات الإدارة بالشرق الأوسط" متضمناً برامج للتدريب أثناء الخدمة وأطلق عليه اسم: "مركز عبد اللطيف جميل لدراسات الإدارة بالشرق الأوسط"(!) تكريماً لوالد "يوسف جميل" الذي تبرعت عائلته بقيمة تكاليف إقامة مبنى جديد للمركز، ويقدم المركز لطلابه –بطبيعة الحال- أحدث أساليب الإدارة على الطريقة الأمريكية، وقد لا يكون له نظير في هذا المضمار بمنقطة الشرق الأوسط(106).
ويعقد المركز ندوات مشتركة مع مؤسسات وإدارات خاصة وحكومية منها مثلاً اتحاد البنوك العربية والهيئة المصرية العامة للسياحة والفنادق، كما ينظم محاضرات وحلقات عمل تجمع صفوة متنوعة من العالم العربي: وزراء وأساتذة ومدبرين في مستويات مختلفة، كما تشارك مؤسسات جامعية أخرى في إقامة هذه الحلقات، مثل كليات التجارة بالجامعات المصرية، وتمول هذه الأنشطة غالباً عن طريق منح مقدمة من المؤسسات الخاصة مثل "شركة فورد" واتحاد البنوك العربية.
ويلاحظ أن برنامج إدارة الأعمال لطلبة الدراسات العليا في حالة تطور مستمر، كما يسعى إلى الاستقلال بشئونه وإدارته داخل الجامعة الأمريكية ويعود ذلك إلى أسباب ترتبط بكبر حجم ميزانيته بصفة خاصة مع تمويل المؤسسات المشار إليها، وقد أصبح هذا البرنامج من أهم أقسام الجامعة الأمريكية.
وتغطي جهود قسم الإدارة لطلبة الدراسات العليا ثلاثة جوانب:(69/76)
1-تقديم تعليم إداري باستخدام أدوات وأساليب تربوية خاصة، وذلك بفضل دعم مؤسسة فورد لهذا الغرض (100.000دولاراً)، كما ساهمت أيضاً في هذا الصدد في إنشاء شركتين هما: "شركة أتوبيسات انترستي"، و"فندق بيراميد".
2-مد تأثير برنامج الإدارة وأنشطته وأساليبه الحديثة إلى العالم العربي وشمال أفريقيا.
3-تأسيس شبكة واسعة من العلاقات وذلك من أجل تطوير الاستشارات وجمع التبرعات، ونشر الأفكار والأساليب الإدارية الأمريكية وأنشئ لهذا الهدف" مركز الشرق الأوسط لخدمات الإدارة(107).
وفيما يتعلق بالمجال الثاني التي توسعت فيه الجامعة الأمريكية، فيرتبط بما أدت إليه سياسة الانفتاح من ضرورة العناية بالبنية الأساسية وبميدان الإنشاءات والتشييد والمباني، لدرجة أن معظم بنود الميزانيات العامة لهذه الفترة تضمنت مجال البناء والتعمير، ولقد دفعت هذه التطورات إلى قيام الجامعة بتأسيس برنامج لدراسة الهندسة، وبدأت بميدان الهندسة الميكانيكية في عام 1981م، والتحق الفوج الأول من الطلاب بهذا البرنامج عام 1982م، وأدار البرنامج الدكتور "محمد فراج"، كما انضم إلى هيئة التدريس عام 1985م الدكتور "محمد الوكيل" أحد الأساتذة المصريين/ الأمريكيين، وكان يعمل بجامعة وسكنسن مما شكل عاملاً من عوامل اتساع أنشطة البرنامج(108).
فضلاً عن ذلك، فلقد أقيم برنامج جديد للدراسات المتصلة بالحاسب الآلي عام 1985م، وتضمن البرنامج مقررات نظرية ودراسات عن تصميم وتشغيل وتحليل برامج الحاسب الآلي المختلفة، واستخدم الحاسب الآلي –بالإضافة إلى التخصص فيه كمجال دراسي- لخدمة برامج أقسام الهندسة والفيزياء والكيمياء واللغة الإنجليزية والإدارة ومركز العلاقات الاجتماعية .(69/77)
ومع بداية الثمانينيات، توسعت الجامعة أيضاً في برامج قسم الاتصال الجماهيري، وأنشأت مركزاً إخبارياً تليفزيونياً، مجهزاً بأحدث المعدات لتدريب العاملين في مؤسسات الإعلام المختلفة بالشرق الأوسط، على الأعمال التليفزيونية والصحفية المختلفة، وأشرف على تأسيس هذا المركز "عبد الله شليفر" الذي كان مراسلاً للقناة التليفزيونية الأمريكية "إن بي سي"(109).
كما تأسس –لأول مرة- في عام 1985م برنامج دراسي يتعلق بالدراسات المصرية القديمة، أداره في البداية الدكتور "علي حسن" مدير المتحف المصري السابق، وبعد أن اعترض بعض ذوي النفوذ داخل الجامعة على تعيينه، استبدل بعد استقالته بالدكتور "كنت ويكس" من جامعة كاليفورنيا(110).
ومن التطورات الهامة التي حدثت خلال هذه الفترة إنشاء "مركز دراسات اللغة العربية بالخارج بالجامعة الأمريكية، فلقد قامت "اللجنة المشتركة للشرق الأوسط والأدنى"، المنبثقة عن "المجلس الأمريكي للمجتمعات المتعلمة" بإيفاد أستاذين هما وليم برينر" و"رولاند ميتشيل" إلى منطقة الشرق الأوسط من أجل اختيار موقع ملائم لإقامة مركز دائم لتدريس اللغة العربية لطلاب الدراسات العليا الأمريكيين المتخصصين في هذا المجال، وبعد زيارتهما تونس وبيروت، استقر رأيهما على التوصية بإنشائه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهذا المركز عبارة عن عمل جماعي تشارك فيه الجامعة الأمريكية والجامعات الأمريكية والبرامج الرئيسية العاملة في الشرق الأوسط، في دعم برامج هذا المركز وإدارته في حين يموله "مكتب الولايات المتحدة للتربية"، كما يوجد مكتب يشارك في إدارة المركز، ويقع دورياً في إحدى الجامعات الأعضاء مثل كاليفورنيا (بيركلي)، وميتشجان، وواشنطن(111).(69/78)
وأقيم في يناير 1979م مشروع تنمية الصحاري والتدريب، في منطقة مساحتها 200 فدان من الأراضي الرملية الواقعة غرب الدلتا، و 25 فداناً من التربة المختلطة الجافة بالقرب من مدينة السادات، وفي سنة 1985م تأسست وحدة دراسية للإشراف على المشروع، وتطورت فيما بعد لتصبح ما يعرف باسم "مركز تنمية الصحراء"، وزادت ميزانيته من 100.000 دولار إلى ما يقرب من مليون دولار سنويا، وساهمت مؤسسات عديدة في إقامة هذا المشروع، منها هيئة التنمية الدولية الكندية، ومؤسسة فورد، وهيئة المعونة الأمريكية (من خلال مشروع ترابط الجامعات)، وفنلندا، ومن بعض أعضاء مجلس الأمناء مثل "جون جوليت"(112).
توسعت الجامعة الأمريكية أيضاً في مناشط "مركز البحوث الاجتماعية" خلال حقبة الانفتاح، وبدأ المركز يعنى على وجه الخصوص بإجراء عديد من مشروعات بحوث العمليات التي تهدف إلى تطوير تقديم الخدمات الاجتماعية، ومن أمثلة تلك المشروعات التي فشلت فشلاً ذريعاً بكل المقاييس ما قام به المركز في محافظتي المنوفية وبني سويف في إطار منحة مالية من وكالة المعونة الأمريكية، من برامج بحثية لتنظيم الأسرة وتحديد النسل (!)
في عام 1974م بدأ المركز دراسة ميدانية لتصميم واختبار وتقويم نظام توزيع حبوب منع الحمل على السيدات في قرية "شنوان" بمحافظة المنوفية، وفي سنة 1976م قدمت هيئة المعونة الأمريكية –في ضوء نتائج هذه الدراسة وتوصياتها- ما قيمته 2 مليون جنيه مصري للمركز للاضطلاع ببرنامج شامل للخدمات الاجتماعية المرتبطة بتنظيم النسل في 38 قرية بمحافظة المنوفية، وتوالت بعد ذلك المنح المقدمة لهذا الغرض(113).(69/79)
كما بدأت أقسام العلوم الاجتماعية بالجامعة في التعاون مع المركز لنشر سلسلة "أوراق القاهرة في العلوم الاجتماعية" وهي عبارة عن دورية علمية تطرح موضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية، محلية وعربية، ويساهم في إجراء بحوثها عدد كبير من المفكرين الغربيين، كما تنشر أيضاً دراسات لبعض الأسماء اللامعة من المفكرين المصريين مثل الدكتور جلال أمين والدكتور سعد الدين إبراهيم والدكتور علي الدين هلال، وتتناول "أوراق القاهرة" قضايا مثل: الديمقراطية في مصر، والاقتصاد السياسي المصري، والقانون والتغير الاجتماعي في مصر المعاصرة، والسكان والتحضر في المغرب، الأسر النوبية بالقاهرة، الاقتصاد السياسي لإيران الثورة، تطوير التعليم العربي والإسلامي، تنظيم الجهاد كبديل إسلامي في مصر، الهوية الاجتماعية والطبقية في حي قاهري، التحديث في مصر والمملكة العربية السعودية وفي الخليج العربي، وتستخدم هذه الدراسات –بطبيعة الحال- مفاهيم ومناهج العلم الاجتماعي الغربي(114).
ومن المؤكد أن دراسات "مركز البحوث الاجتماعية "تعد بمثابة رأس جسر لشبكة الأبحاث الأمريكية في مصر، وتساهم بجهد واضح في المحاولات المبذولة لتحقيق مزيد من القوة لشبكة علماء الاجتماع الأمريكيين المهتمين بالشرق الأوسط، وإلى توثيق العلاقات فيما بينهم وبين علماء الاجتماع المحليين، ومن قبيل هذه المحاولات المؤتمر الذي انعقد في مدينة الإسكندرية بتمويل من مؤسسة فورد في صيف عام 1974م لخدمة هذا الهدف، وقد تمخض هذا المؤتمر عن تشكيل مجموعة عمل لإعداد دليل عن علماء الاجتماع في منطقة الشرق الأوسط، ولإصدار نشرة إخبارية دورية تتعلق بهذا الموضوع(115).(69/80)
توسعت الجامعة أيضاً في برامج "قسم الخدمة العامة الذي ظل أكثر من خمسين عاماً، أي منذ عام 1925م، يقدم برامج لتعليم الكبار، والتعليم المستمر، تعنى في مجملها بتعليم اللغة الإنجليزية، لكن القسم استحدث في عام 1980م برامج لدراسة مقررات اللغة العربية، والتجارة، ودراسة الحاسب الآلي، كما أصبح القسم يمنح شهادات في بعض المجالات بعد مضي عام، وعامين دراسيين في مجالي إدارة الأعمال والحاسب الآلي.
ولقد بلغ عدد الدارسين بالقسم في عام 1978م، 6.000 دارس لكل فصل دراسي؛ أي أكثر من عدد طلاب الجامعة المنتظمين (حوالي 1700 طالباً) بسبب رغبة المواطنين في الحصول على وظائف بالقطاع الحديث، أو السعي إلى الهجرة إلى الدول العربية أو الأجنبية، وتزايدت أعداد الطلاب في عام 1986م في "قسم الخدمة العامة فوصلوا إلى 13.000 طالباً، التحقوا بالجامعة بعد اجتياز اختبار في اللغة الإنجليزية.
ويصف رئيس الجامعة أهمية "مركز الخدمة العامة" كالتالي:
"نجد هنا سفراء وسائقين وعمال نجارة، ورجال بنوك وموظفي سكرتارية، وأطباء وغيرهم كثيرون يمثلون طبقات مختلفة من سكان القاهرة، يتابعون محاضرات مسائية في اللغة الإنجليزية والكتابة على الآلة الكاتبة، ودراسة الكمبيوتر إلى جانب موضوعات أخرى، إنهم يحتشدون في مدرجات الجامعة حتى الساعة العاشرة مساء(116).(69/81)
وأدى تزايد الطلب للالتحاق بهذا القسم، إلى إنشاء فروع خارجية له، فتأسس فرع مصر الجديدة، تديره "إيناس لطفي" التحق به 1500 دارساً انتظموا في دراسة نفس البرنامج المقدم بالمركز الرئيسي، كما أنشئ أيضاً فرع آخر للقسم بمدينة نصر بمقر الجامعة العمالية، وفرع ثالث بالتعاون مع الأكاديمية البحرية بالإسكندرية، واتفقت الجامعة مع حكومة مالطا في 4 يوليو 1977م على إقامة فرع للجامعة هناك أطلق عليه: "جامعة تدريب أبناء البحر المتوسط"، وأبرم هذا الفرع عقوداً مع ليبيا والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات لتدريب الطلاب من هذه الدول، وقد تغير اسمه بعد عامين إلى "قسم التدريب التجاري والصناعي"، ويمكن لفرع مالطا تدريب 400 طالب، ولقد توقع رئيس الجامعة الأمريكية آنذاك أن يتحول هذا الفرع لكي يصبح موضع "جذب لكثير من مؤسسات منطقة البحر الأبيض المتوسط والعالم الغربي"(117).
وصاحب التوسع في البرامج الدراسية خلال فترة الانفتاح الاقتصادي توسعاً في تجديد مباني الجامعة وإنشاء مراكز ومبانٍ جديدة. وأقيمت في هذا الصدد مدينة جامعية للطلاب تسع 320 طالباً على أرض الجامعة الأمريكية بالزمالك، كما خصصت الأموال اللازمة لتمويل بناء مدينة أعضاء هيئة التدريس بالقرب من المدرسة الأمريكية بالمعادي.(69/82)
وخلال هذه الفترة أيضاً أقيم أضخم مبنى لمكتبة الجامعة على أحدث الأنظمة، وتعد بوضعها الحالي من أفضل المكتبات المنشأة بمصر، كما أعيد بناء مسرح الجامعة الذي كان قد شب به حريق أثناء بناء المكتبة وأعيد أيضاً إنشاء مركز جامعي للطلاب Hill House متضمناً ملعباً رياضياً، ومركزاً لبيع الكتب، ونادياً للطلاب، ومكتباً للخريجين، وحجرات للرسم الهندسي، ومركزاً للكمبيوتر، ومدرجاً حديثاً للمحاضرات، وأنشئ مركز جميل للإدارة، المشار إليه سابقاً، كما قامت الجامعة في عام 1982م بتجديد مطبعتها تجديداً شاملاً وهي تنشر حوالي 25 كتاباً سنوياً يطبع نصفها بالجامعة والباقي بمطابع خارجية(118).
أثناء احتفال "ريتشارد بيدرسون" بمرور خمس سنوات على رئاسته الجامعة عام 1983م، أشار في تقريره أمام مجلس الأمناء عن تطوير الجامعة من 1978م إلى 1983م فقال: "تزايدت أعداد الطلاب الملتحقين بالجامعة خلال خمس سنوات من 1586 إلى 2333 طالباً، كما تزايدت أعداد طلاب برامج تعليم الكبار (مركز الخدمة العامة) من 6518 إلى 9605 طالباً، أما عن أعضاء هيئة التدريس في المجالات الأكاديمية فلقد زاد عددهم من 155 أستاذاً إلى 219 أستاذاً وتزايدت أعداد أساتذة برامج تعليم الكبار من 150 إلى 228 أستاذاً، في حين زيد عدد عمال وموظفي الإدارة من 578 إلى 631 موظفاً فقط.
تضاعفت أيضاً مرتبات أعضاء هيئة التدريس محسوبة بالجنيه المصري حوالي 116% في حين زيدت مرتبات الأساتذة الأجانب بحوالي 62%.
كما تضاعفت ميزانية الجامعة من 7 مليون دولاراً إلى 14 مليون دولاراً خلال نفس الفترة"(119).
وتضم الجامعة الأمريكية في قائمة خريجيها اليوم أكثر من 5000 خريج، منهم 10 وزراء على الأقل، 20 سفيراً في العالم العربي، فضلاً عن الأعداد الضخمة من رجال الأعمال وموظفي الإدارة العليا والمفكرين والباحثين.
تطور أعداد المقبولين بالجامعة الأمريكية
في الفترة ما بين 1974م-1987م(120)
السنة(69/83)
1974م-75م ... 158 ... 864 ... 627 ... 74
1975م-76م ... 157 ... 1825 ... 1046 ... 117
1976م-77م ... 200 ... 1888 ... 1071 ... 119
1977م-78م ... 194 ... 1931 ... 1025 ... 111
1978م-79م ... 189 ... 2117 ... 995 ... 161
1979م-80م ... 199 ... 2180 ... 1005 ... 211
1980م-81م ... 265 ... 2448 ... 1087 ... 153
1981م-82م ... 238 ... 3050 ... 1043 ... 190
1982م-83م ... 298 ... 3292 ... 1061 ... 149
1983م-84م ... 305 ... 3316 ... 1014 ... 144
1984م-85م ... 212 ... 3605 ... 1034 ... 149
1985م-86م ... 255 ... 3776 ... 1021 ... 224
1986م-87م ... 153 ... 1998 ... 540 ... 106
الخلاصة:
يتبين من تتبع تطور الجامعة الأمريكية لاسيما في فترة الانفتاح الاقتصادي، أنها تعمل بوصفها مركزاً لتوزيع المنتجات الثقافية الأمريكية في أوساط الطبقات الاجتماعية المهيمنة في مصر والبلدان العربية والأفريقية، لكنها في ذات الوقت تشارك في إنتاج عناصر ثقافية ذات طابع أمريكي تتعلق بالحياة السياسية والاجتماعية المصرية والعربية، ويتعين في هذا المقام النظر إلى الإنتاج الثقافي والإعلامي الأمريكي باعتباره جزاء من الاستراتيجية العاملة للدولة الأمريكية، فلقد أصبح يخضع لتوجهاتها السياسية، وهكذا يحدد البيت الأبيض الخطوط العامة لهذا الإنتاج التي تنقلها الوكالات المختصة بعد ذلك إلى كافة الأجهزة التنفيذية.
ويرى "إيف أود" أن تلك الخطوط تتجمع في عدة محاور أساسية منها تزيين صورة أمريكا، ومواجهة الدعاية المضادة لها، وإبرازها كنموذج للديمقراطية، وكحامية لحقوق الإنسان، ومعاداة الشيوعية، وإعلاء نموذج "العالم الحر"، ومن تلك المحاور أيضاً الدعاية للاعتماد المتبادل في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والذي يعني في حيز التنفيذ خلق شبكة واسعة من الدول التابعة للولايات المتحدة، ويتطلب العمل على كل المحاور خلق حالة من الإعجاب والألفة والحميمية مع الحياة الأمريكية تجعل رفض مظهر منها، أو السياسية الخارجية للولايات المتحدة يظل رفضاً جزئياً ضمن سياق عام من الألفة والقبول.(69/84)
ويذكر "إيف أود" أيضاً أن الهدف الأمريكي الأساسي في العالم الثالث يعتمد على خلق صفوة من الشرائح العليا المهيمنة في الهوامش والمراكز بما يخدم ويعمق حالة التبعية البنيوية التي تعيشها هذه المجتمعات الهامشية، ولكن بالرغم من أن فكرة التهجين الثقافي المطروحة تتمثل في أن تقوم الصفوة بإعطاء الأفكار والموضوعات طلاءً محلياً إلا إنها لا يمكن أن تصل بعيداً أولاً بسبب تدفق المنتجات الثقافية والإعلامية الأمريكية وثانياً وهذه هي النقطة الأهم أن الشرائح الاجتماعية الحاكمة في معظم بلدان العالم الثالث الآن قد أثبتت عجزها عن إنتاج أيديولوجيتها المهيمنة وأكبر دليل على ذلك وجودها كنظم دكتاتورية لا سبيل إلى استمرارها سوى بالسياسات القمعية(121).
على أية حال تتم عقلنة التبعية بتأكيد أن التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي يحتم التعاون مع "الدولة الأكثر تطوراً" وأجهزتها ومؤسساتها العابرة للقارات، وأن الوجود الأمريكي تبرره حيوية وحضارة الولايات المتحدة وقدرتها على تقديم الحلول.
وفضلاً عن هذا الدور المكشوف الذي تضطلع بتنفيذه الجامعة الأمريكية، من توزيع للمنتجات الثقافية الغربية بين أوساط الفئات المهيمنة والوسطى، يظهر تطور سياسات هذه الجامعة دوراً سياسياً وثقافياً مستتراً تلعبه في خدمة المجتمع الأمريكي.
وعلى مدى سبعين عاماً، ظلت الجامعة الأمريكية تدافع علناً عن النظم الاجتماعية الغربية، وفي هذا السياق، يذكر "واطسن" في الحفل السنوي لتخريج دفعة سنة 1942م، حول إعادة بناء المجتمع العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية: "إن النوع الوحيد من السلام الذي أتصوره يتمثل في السلام القائم على انتصار ديموقراطية الحلفاء"(122).(69/85)
أما عن إرهاصات الدور المستتر للجامعة، فيتمثل في تعاونها تعاوناً كاملاً طوال الحرب العالمية الثانية، مع جهود الحلفاء المبذولة من أجل هزيمة هتلر. ومن أجل تحقيق هذا الهدف جندت حشداً من خبراء الشرق الأدنى، لاسيما الذين يجيدون اللغة العربية والتقى هؤلاء وغيرهم من أعضاء الإرساليات التبشيرية والأساتذة للتعاون مع واشنطن .
ويعد "جون بادو" الذي تولى رئاسة الجامعة بعد انتهاء خدمة "واطسن"، وكذلك "وندل كليلاند" في مقدمة المتعاونين مع الحكومة الأمريكية خلال الحرب.
ولقد انصرف تفكير القائمين على أمور الجامعة إبان هذه الفترة، إلى وضع برنامج دراسي للجنود الأمريكيين، المتواجدين في مصر والشرق الأوسط، وناقش مجلس الجامعة إمكانات استخدام جنود الحلفاء –بصفة خاصة الأمريكيين- الأجهزة والتسهيلات المتوافرة بالجامعة، كما خصصت قسماً من فنائها للصليب الأحمر الأمريكي، ووفرت أحد أبنيتها لأدوات التسلية والترفيه، وكذا مطعما للعاملين به.
ونظمت كلية الدراسات الشرقية سلسلة من المحاضرات حول مصر، وقدمت دروساً في اللغة العربية للضباط والجنود الأمريكيين في منطقة الشرق الأوسط، وهيأت الجامعة مختبراتها العلمية لكي يجري "مركز إمدادات الحلفاء بالشرق الأوسط" تجاربه وبحوثه.(69/86)
وكان ينظم كافة هذه الأنشطة عقود مبرمة بين الجامعة والحكومة الأمريكية مما زاد من عمق التعاون القائم بين الطرفين، فلقد تكون "معهد الولايات المتحدة الأمريكية للقوات المسلحة" في فبراير سنة 1943م بهدف تقديم دراسات في مستوى التعليم الثانوي والجامعي عن طريق المراسلة للعاملين بكل فروع الجيش الأمريكي، وكان المعهد في حاجة إلى مكاتب محلية لتسجيل الدارسين، والحصول على المواد التعليمية منها، وتصحيح أوراق الامتحانات، ووقعت الجامعة الأمريكية في أغسطس 1943م عقداً بهذا الخصوص، استجابة لمطلب قيادة الجيش الأمريكي بالقاهرة، أقيم على أساسه فرع الشرق الأوسط لمعهد الولايات المتحدة للقوات المسلحة بالجامعة الأمريكية في القاهرة.
وتولت فرقة عسكرية يقودها الضابط "أوتو كروشار" والضابط "هارولد هاند" مهمة الإشراف على البرنامج الذي أثبت نجاحاً هائلاً في تحقيق أهدافه، وحين أغلق فرع المعهد أبوابه في سبتمبر 1945م، كان قد استفاد أكثر من 1500 دارس من أنحاء متفرقة من الشرق الأوسط بخدماته، كما وفر المعهد تدريبات للعاملين المدنيين بالجيش من موظفي الإدارة والسكرتارية.
ومن المهم بمكان الإشارة إلى أن "وندل كليلاند" كان يعمل "بمكتب معلومات الحرب" خلال فترة الحرب، وكان مقره آنذاك بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، مما يؤكد قيام مراكز للتجسس وجمع المعلومات بها –على الأقل- منذ ذلك التاريخ، ولقد تقابل "كليلاند مع "وليم أدى"، أول رئيس لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأمريكية، وكان وقتئذ قد أصبح مديراً لقسم العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية، واتفقا على ضرورة تقديم المعونات والتسهيلات اللازمة للجامعة، بعد أن تضع الحرب أوزارها، كما استفادت الجامعة الأمريكية ببيروت وكلية روبرت باسطنبول من معونات الحكومة الأمريكية الضخمة، وذلك من خلال "رابطة كليات الشرق الأدنى".(69/87)
من الواضح إذن أن الجامعة الأمريكية تخدم مصالح أمريكية أوسع من المصالح المعلنة، والأمر الذي يؤكد أن ثمة صفحات مطوية وخافية تحتاج إلى كشفها وإماطة اللثام عنها أن "كريستوفر ثورن" وهو رئيس سابق للجامعة كان عميلاً في ذات الوقت للمخابرات المركزية الأمريكية (CIA) كما يتضح من كتاب "فيليب آجي" "يوميات المخابرات المركزية الأمريكية"، كما كان "مالكوم كير" مدير الجامعة الأمريكية السابق ببيروت، والذي عمل تحت لواء المخابرات الأمريكية خلال الستينيات، على علاقة حميمة مع الجامعة الأمريكية في القاهرة من خلال برامج مشتركة بين الجامعتين الأمريكيتين في بيروت والقاهرة"(123). انتهى.
ثامناً:مقال بعنوان:"كيف تحارب الجامعة الأمريكية الإسلام في مصر؟! للدكتور ليلى بيومي،نشر في مجلة المختار الإسلامي، العدد:62،ص78-89:
"كان من بين أدوات الاستعمار في تغلغله داخل البلاد الإسلامية زرع المؤسسات المسماة بالتعليمية على مستويات مختلفة تبدأ بتعليم الأطفال حتى التعليم الجامعي وما بعده من الدراسات، وتحدد الهدف الأكبر من زرع تلك المؤسسات في إحداث عملية تغريب وعلمنة وتنصير لعقول النشء المسلم وبالذات لعقول ونفوس أبناء النخب الحاكمة في البلدان الإسلامية والذين كانوا يعدون بتولي مسئولية حكم تلك البلاد بالتنسيق مع الاستعمار الغربي.(69/88)
والوجه الذي تقدم به هذه المؤسسات للشعوب الإسلامية هي أنها دور علم وعرفان ومؤسسات خير وتنمية وأدوات تقدم وحضارة.. ومما يجذب الشعوب الإسلامية إليها حسن إدارتها ونظامها والمستوى الاجتماعي الرفيع لطلابها وخريجيها والعاملين بها وما يشاع عن حسن التعليم وعمق المعرفة اللتان تقدمهما.. لكن الوجه الآخر لتلك المؤسسات التعليمية الأجنبية هو وجه محاربة الثقافة الإسلامية وهز العقيدة الدينية والطعن في الإسلام ورموزه وشريعته والتمكين للعادات والتقاليد والأفكار الخارجة عنه، وبث النفوذ الأجنبي في البلاد الإسلامية وضمان الدوام له عن طريق التحكم في صياغة عقول وقلوب ونفوس حكام المستقبل والنخب الثقافة والاجتماعية المؤثرة. ولقد أنشئت الجامعات الأمريكية لاحتواء التعليم في مصر وفي بلاد الخليج العربي إلى جانب بدايتها في لبنان ومنحت تراخيص إنشائها من ولاية نيويورك كمؤسسات خاصة.. ويبلغ عدد الطلاب في كل جامعة أكثر من خمسة آلاف طالب وطالبة، أما الأساتذة فمعظمهم أجانب وأمريكان إلى جانب أن لكل جامعة مجلس أمناء في نيويورك يتعهدها بالمتابعة والتخطيط وتلقي المعلومات وإرسال التعليمات، وقد أنشئت الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 1919م.
ودستور إنشاء هذه الجامعات هو :
-نشر تعاليم المسيح .(69/89)
-تحبيذ دراسة السياسة مع عدم ممارسة أي نشاط ديني أو سياسي، والجامعة الأمريكية في البلدان العربية الإسلامية تتبع نمط التعليم الأمريكي وتخرج أجيالاً متعاقبة توجهها ناحية برامج وأبحاث بحيث تسهم إلى حد كبير في مشاريع لصالح أمريكا. وتوجد أيضاً مدارس اللغات التي بلغ عددها في القاهرة أكثر من 100 مدرسة معظمها تابع للمركز الباباوي في روما، فنجد مثلاً الألماني للراهبات ودي لاسال والفرير، ولاروز، والليسية فرنسية، والراعي الصالح. ومن واقع تلك المؤسسات في القاهرة والوطن الإسلامي نسلط فيما يلي الضوء على ما يجري داخل هذه المؤسسات خاصة الجامعة الأمريكية ومن خلال عدة محاور هي:
- النشاط التبشيري للجامعة الأمريكية .
- سلسلة الأبحاث والتقارير التي تشرف عليها المخابرات المركزية الأمريكية .
- مقررات الجامعة الأمريكية وعدائها للإسلام .
- الانحلال الأخلاقي والأنشطة التي تعيشها الجامعة، أساتذة وطلابًا.
والجدير بالذكر أن منع التحدث في السياسة وعدم ممارسة أي نشاط ديني أو سياسي يقصد به الدين الإسلامي وإبعاد الشباب عن إطار الوضع السياسي لوطنهم وإبعادهم عن فهم الإسلام الصحيح.
جماعة وليم كاري التبشيرية :(69/90)
خلال خطة محكمة وضعت خيوطها من قبل التنظيمات الصليبية العالمية لتنظيم وتشعيب النشاط التبشيري على مراكزهم في البلدان الإسلامية نجد جماعة وليم كاري التي تمارس نشاطاً مكثفاً في الجامعة الأمريكية، ففي أكتوبر 1986م وصلت إلى القاهرة لين راين هارت زعيمة هذه الجماعة في القاهرة وهم من المسيحيين البروتستانت ومعها زميلاتها الثلاث جينفر ولورا وليفيا وخلال رحلة استكشافية زرن خلالها قبل وصولهن إلى القاهرة تركيا حيث عملت لين زاين هارت هناك ممرضة لمدة سنتين ثم زرن المغرب العربي وأندونسيا معقل التبشير، ثم جئن إلى القاهرة حيث مركزهم بالجامعة الأمريكية. وجماعة وليم كاري هذه نشأت في الهند على يد زعيمها المتسمية باسمه واستقر نشاطها في ولاية (الينوي) بأمريكا التي تعتبر المركز الرئيسي الذي تتشعب منه إلى البلدان الإسلامية ومنها تركيا –المغرب- الأردن – أندونسيا حيث يتجمع الأعضاء في صيف كل عام في مقرهم بأمريكا لتنظيم النشاط واختيار مندوبين جدد.
كانت لين راين هارت وزميلاتها في الجامعة الأمريكية تقمن بدراسة المجتمع المصري عاداته وتقاليده ومعتقداته ودراسة اللغة العامية المصرية في كورسات متخصصة لمدة عام ونصف كما كن يقمن بدراسة القرآن الكريم.. وإحضار نسخ من الإنجيل وتوزيعها على من يتعرفن عليهم.. كانت لين وزميلاتها يرتدين أزياءاً تتميز بالجدية والبساطة ويحاولن التعرف على أكبر قدر من شباب الجامعة خاصة ذوي الالتزام الديني وإيجاد حوار معهم حول العقيدة الإسلامية والإيمان باليوم الآخر وبالتالي طرح معتقداتهم بالثالوث والحديث عن حواريي عيسى وسبب تعدد الأناجيل ووجهة نظر كل إنجيل في رؤيته لعيسى والمسيحية.. وكان خطتهن التوجه إلى الأردن في نهاية عام 87 والعودة إلى القاهرة ثانية عام 88. وذلك بعد أن تعرفوا على المجتمع المصري ولغته العامية وعاداته وتقاليده وحجم النبض الإسلامي داخله.(69/91)
جماعة المورمن التبشيرية والمخابرات المركزية :
جماعة المورمن الموجودة في الجامعة أيضاً بحجة الدراسة وهم مجموعة من السيدات والرجال يدعون صلتهم بالمسيحية، ولكن مذهبهم انفصل عن الكنائس البروتستنتية في أمريكا في القرن الثامن عشر وادعى أصحابه أن رئيسهم (نبيهم) ويدعى (جون سميث) قد هبط عليه ملاك من السماء يوحي إليه بأفكار جديدة في المسيحية ليستكمل الإنجيل على يديه ويتسم أتباع هذه الطائفة بالتمسك الخلقي الشديد والانغلاق على أنفسهم وإطلاق اللحى وارتداء ملابس أمريكية من عصر رعاة البقر أو ما قبله كرمز على الاتجاه المحافظ، ويوصفون في أمريكا بالتزمت الأخلاقي والتشدد ومركزهم في مدينة (سالت ليك ستي) بأمريكا. حيث توجد لهم هناك جامعة كبيرة ومشهورة يؤمها طلبة من مختلف المذاهب وقد اشتهر عن هذه الطائفة في الفترة الأخيرة أن لرؤسائها صلات قوية بالمخابرات الأمريكية المركزية وعمليات التبشير في منطقة الشرق الأوسط، ومن ضمن معتقداتهم التي كانوا يتحدثون فيها إلى شباب الجامعة الأمريكية أن الرجل عندهم من الممكن أن يتزوج بلا حدود لأن هذا من قبيل الحرية الشخصية.
جماعة الكارتس والجذام :
هذه الجماعة تاريخ نشاطها قديم في مصر ومتمركز في الجامعة الأمريكية ومدارس اللغات خاصة الألماني للراهبات، وتتسم هذه الجماعة ومعظمها من الرجال بنشاط اجتماعي مكثف وكانت حجة تكوينها ونشاطها في القاهرة هي معالجة مرضى الجذام وحتى الآن ما زالت تقوم برحلات وبزيارات متكررة لحي الزبالين الذي يتواجد فيه مجموعة كبيرة من المسيحيين كما تقوم بجمع تبرعات من الجامعة والمدارس لصالح الأيتام وتوزيع الهدايا والكتب على الأسر الفقيرة في المناطق الشعبية والملاجئ، كما تقوم بتوزيع الكتب وزيارة مكتبات القاهرة ومستعمرة الجزام في أبو زعبل.(69/92)
هذا النشاط التبشيري من ضمن أهدافه تحطيم دين الآخرين وزعزعة ارتباط المسلمين بعقيدتهم وجعلهم بلا هوية وذلك إن لم تستطع أن تكسبهم لصالح دينك.. وهذا الهدف تجاهد في سبيله تلك المؤسسات التغريبية المزروعة في مصر.. فبجولة سريعة داخل أفكار بعض شباب الجامعة الأمريكية تحس بذلك. فهم لا ينتمون على حد قولهم إلى الدين الإسلامي إلا بما هو مكتوب في شهادة الميلاد.. ولم لا وهم يسمعون عن الإسلام وتاريخه من خلال آراء المستشرقين وأساتذة الغرب والمصريين العلمانيين .. وقد أشار أحد الطلاب أثناء حديثي معه إلى أن بعض الأساتذة يقومون بتوجيههم ناحية قراءات معينة لفرج فوده وفؤاد زكريا، والدين عند كثير منهم شيء بعيد عن الذاكرة مرتبط في الأذهان بالخيمة والماعز والصحراء والناقة وبوصفه هذا بعيد عن ركب الحضارة الغربية المتقدمة.
سلسلة الأبحاث والتقارير التي تشرف عليها المخابرات المركزية الأمريكية:
علاقة الجامعة الأمريكية بالمخابرات المركزية الأمريكية هي علاقة إرسال تقارير عن الأوضاع في القاهرة واستقبال تعليمات موجهة طبقاً للخطة الموضوعة فيطلب من الدارسين والطلاب المصريين أثناء تدريس بعض المواد أبحاث ضمن المناهج التعليمية بجانب الجماعات التبشيرية وهذه الأبحاث تدور حول:
- الأنشطة الطلابية في الجامعات المصرية وبيانات الاتحادات الطلابية وحجم التيار الإسلامي في الجامعات .
- عدد ونشاط الجماعات الإسلامية مركزاً على جماعتي الإخوان المسلمين والجهاد وأعداد المسلمين الذين يقومون بصلاة الفجر في مناطق معينة.
- بحث ظاهرة انتشار الحجاب على جميع المستويات وخاصة في الجامعة وأسباب انتشار هذه الظاهرة.
- وهذه الأبحاث تطلب خاصة من طلاب قسم دراسات الشرق الأوسط ضمن مادة الحركات الإسلامية المعاصرة.(69/93)
ومن خلال التجربة الواقعية يذكر الدكتور أبو اليزيد العجمي أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم جامعة القاهرة.. أثناء دورة دراسية لتعليم اللغة الإنجليزية وكان مع مجموعة من المعيدين وأعضاء هيئة التدريس بالجامعة وهم بذلك يمثلون صفوة المتعلمين.. في البداية كانت هناك تعليمات ولإيهامك بالموضوعية يقولون لك ممنوع التحدث في الدين أو السياسة والغريب أنهم أول ما يسألونك عن معلومات في الدين والسياسة كأنهم يجرون علينا دراسات! وتدور موضوعات الأسئلة الدراسية حول :
- قارن بين مناهج التعليم المصري وما أدت إليه ومناهج التعليم في أمريكا.
- تحدث عن خطورة الانفجار السكاني في مصر وما أدت إليه من إيجاد مشاكل في المواصلات وزيادة تلوث البيئة.
وهم بذلك يحصلون على معلومات من ناحية واعتراف من أشخاص لهم ثقل فكري ومكانة علمية بوجود هذه المشكلات في مصر ويضمن بذلك مدخل إلى عرض رفاهية أمريكا وإقرار باختلاف وتفوق الغرب ومؤسساته، فتنفصل معنوياً صلتك بوطنك وأمتك.. إلى جانب أن هناك موقفاً حدث بالجامعة حيث أننا في البداية أقمنا الصلاة في الحديقة وبعد أن رأت إدارة الجامعة ذلك منعونا من الصلاة بشغل المكان الذي كنا نصلي فيه.
تنظيم الجهاد وكيفية مواجهته :(69/94)
الأكثر خطورة أن هناك سلسلة من الكتب والأبحاث تصدر عن الجامعة الأمريكية في سلسلة بحوث القاهرة للعلوم الاجتماعية منها كتاب عن تأميم التعليم الديني في مصر والأزهر، وكتاب آخر صدر في صيف عام 1986م بالإنجليزية يحمل اسم "تنظيم الجهاد بديل إسلامي" تأليف نعمت جنينة ويعلق الدكتور محمد يحيى عليه قائلاً: الكتاب يظهر العرفان بالجميل للدكتور سعد الدين إبراهيم والدكتور علي الدين هلال للمساعدة التي قدماها في تأليف الكتاب وغنى عن البيان أن كلا من الرجلين كان له إسهام فكري كبير وباع عريض في المواجهة الرسمية ضد الفكر والحركة الإسلامية في السنوات الأخيرة ويبدو أنهما يواصلان هذه المهمة امتداداً لجهودهما في الجامعة الأمريكية.
اتباع سياسة العهد الناصري لمن يهمه الأمر:(69/95)
وليس من المستغرب بعد أن تقرأ هذا الكتاب الصادر عن الجامعة الأمريكية والذي يتضمن سرداً لما كتب حول تنظيم الجهاد وأعضائه وأفكاره ثم نجد الكاتبة تقترح حلولاً يبدو أنها موجهة لمن يهمه الأمر (ومن يهمه الأمر معروف جداً!) للقضاء على البديل الإسلامي للحكم في مصر ولن يكون هناك كبير عجب إذا ما وجدنا الكاتبة تصرح في صفحة 78 من الكتاب بأن الحل في مواجهة الإسلام يكمن في اتباع سياسة فترة الستينات (العهد الناصري) الاقتصادية والاجتماعية وفي نفس الوقت توصي المؤلفة في صفحة 79 باتباع سياسة ديمقراطية لا عن إيمان بها بل لمجرد أن تكون وسيلة للتنفيس عن الضغط المكبوت وتهدئة الأمور وصمام أمن إلى أن تتم عملية تغيير الأوضاع الاجتماعية التي أدت إلى ظهور البديل الإسلامي، وهي في رأي الكاتبة لا تتجاوز ما دأبنا على سماعه من الدكاترة أساتذتها حول الفقر والبطالة وتهميش الطبقة المتوسطة الدنيا كمسببات لنمو الحركة الإسلامية ولا تنسى الكاتبة كتلميذة مخلصة لعلي الدين هلال وسعد الدين إبراهيم أن تحدثنا في صفحة 79 عن ضرورة القيام بمشروع قومي لاحتواء الضغوط الاجتماعية المتفاقمة في مصر وتوجيهها صوب أمور سليمة ومنتجة في ظل الوضع الراهن.
كيف نشأت فكرة القومية العربية ؟(69/96)
واقتراح الكاتبة يفجر قنبلة خطيرة إذ يتضح للجميع أن فكرة المشروع القومي التي أخذ البعض يطرحها في الفترة الماضية ومنهم المعارضة ليست سوى اقتراح أمريكي لتهدئة الأمور واحتواء الحركة الإسلامية، وهاهي الجامعة بجلالة قدرها! توصي بالعودة إلى الناصرية وتقدم الاقتراحات باللغة الإنجليزية إلى من يهمه الأمر لضرب ما يسميه الأمريكان بالبديل الإسلامي في مصر.. ثم تفاجأ بعد ذلك بنفس هذه الاقتراحات وقد ترجمت إلى العربية ونشرت في صحف حكومية ومعارضة على أنها تمثل قمة الفكر الوطني المخلص دون الإشارة طبعاً إلى هدفها الخفي ومصدر الإيحاء بها، ألا وهو الجامعة الأمريكية التي تسجل بذلك تدخلاً في إدارة دفة السياسة والفكر في مصر.
مناهج التعليم في الجامعة الأمريكية والنظرة الاستشراقية :
أنشئت الجامعة الأمريكية ولم تهتم بتدريس العلوم البحتة كالطب والزراعة والهندسة ولكنها اهتمت ببث الأفكار الغربية عن طريق الدراسات الأدبية لدوام سيطرتها على العقول والأفكار كتدريس الصحافة والإعلام والاقتصاد والتاريخ والإدارة وعلم المصريات وعلم النفس والاجتماع ودراسات في الشرق الأوسط، كل هذه المواد لا يوجد لها مقرر محدد لكنها مجموعة محاور يدور حولها أساتذة الجامعة للرؤية التغريبية والمنظور العلماني ومراجع وأبحاث المستشرقين ذوي الاتجاهات المعادية للإسلام، والمستشرقين اليهود .
كيف يدرس التاريخ الإسلامي ؟
معظم القائمين على تدريس التاريخ الإسلامي هم أساتذة مسيحيين أجانب ويقومون أيضاً بتدريس تاريخ الشرق الأوسط والحركات الإسلامية المعاصرة، وكانت تشترك في تدريس التاريخ الإسلامي منذ عشر سنوات دكتورة راجية وكانت إلى حد ما معقولة نسبياً في تناولها للتاريخ والوقائع الإسلامية ولكن تم الاستغناء عنها من قبل إدارة الجامعة وتم تصعيد إحدى المدرسات وتدعى هدى لطفي لتسيطر على القسم (دراسات الشرق الأوسط).(69/97)
هدى لطفي مدرسة التاريخ الإسلامي تشكك في القرآن وترفض الحديث:
تقوم هدى لطفي بتدريس التاريخ الإسلامي في الجامعة الأمريكية من منظورها المعادي للإسلام فعناوين محاضراتها :
-مناقشة ما إذا كان القرآن الكريم موضوعي أم لا! ومن خلال ذلك تشكك في القرآن الكريم وإمكانية استخدامه كمرجع تاريخي كما أنها لا تعترف بالأحاديث النبوية في دلائلها على المغزى التاريخي والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي يعرض برؤية استشراقية خالصة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما هو إلا مجدد ومصلح اجتماعي له فكر خاص وحد العرب وأحدث تحولاً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً في حياة البدو وفي منطقة صحراوية كالجزيرة العربية وكان شعار الإسلام هو الحرب، وبذلك انتشر عن طريق الحرب وقطع الطرق وحرب العصابات واستمالة الشخصيات لتدخل في الإسلام عن طريق إمدادها بالمال.. وأن أسباب هجرة الرسول من مكة إلى المدينة سببه ليس عقائدياً وإنما له أسباب وأبعاد دنيوية توسعية تخفى عن السطحيين.. وأن العصر الذهبي للتاريخ الإسلامي حدثت خلاله فتن كبرى وصراعات بين الصحابة على تولى السلطة وأن علياً لم يبايع أبا بكر الصديق لأنه لم يوافق على ميراث فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام وزوجة علي بن أبي طالب وأن أسباب تخلفنا وتواجدنا في ركب العالم الثالث يرجع أساساً إلى التوكل وهذا من الدين.(69/98)
وفي قسم تطور البشرية يتم تدريس الفتوحات الإسلامية على أنها هجمات تتارية ويقارن بينها وبين المغول والتتار والفرس والروم ويقود ذلك الأمريكي نيكولاس هوبكنز أستاذ تطور البشرية ورئيس هيئة التحرير بالجامعة الأمريكية، وأثناء أي نقاش يطرح حول الإسلام يستنكر فيه الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتطرح أسئلة فجائية على بعض الطلبة والطالبات حول أسباب تعدد الزوجات وسبب كثرة زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تثار الخلافات المذهبية، أما أسئلة الامتحانات التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي فمعظمها تكون مثلاً على النحو التالي:
- انقد النظرة السنية لتاريخ الصحابة .
- أسباب حدوث الفتنة الكبرى وصراعات المسلمين .
- عدد الخلافات المذهبية في الإسلام .
- الأسباب الاقتصادية لتفشي ظاهرة الحجاب .
والإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة يجب طبعاً أن تتسم بموضوعيتهم المزعومة !
النشاط الطلابي والانحلال الأخلاقي في الجامعة :
تطفو على سطح الذاكرة وعندما نستعرض الجوانب الأخلاقية والممارسات الغربية داخل الجامعة حادثة (كالندر) ففي شتاء عام 86 تم ترحيل كالندر أستاذ علم المصريات والتاريخ الفرعوني بالجامعة عندما أصيب بمرض الإيدز نتيجة لشذوذه هو وصديقه إلى خارج البلاد.
وعندما تدخل قاعة الاتحاد أو أي ركن في الجامعة تفاجأ بكرنفال أزياء والطلبة والطالبات مستلقين على أريكة لسماع الموسيقى الصاخبة والتدخين بلا وعي وكأن الجامعة ملهى.. وعلى جانب آخر وفي الدور الثاني بالجامعة تجد وكراً موبوءاً لبيع وتناول المخدرات.. وفي حواري مع بعض الطلبة والطالبات ومنهم أعضاء في الاتحادات الطلابية أجد ملامح أفكارهم منحصرة في أن الحياة هي الحرية المطلقة بشرط عدم تجاوز حدود الآخرين وأن الدين لله والوطن للجميع.
وأذكر هنا أنه في إطار نشاط الجامعة وبجانب الحفلات التنكرية والكريسماس والرقص تنظم الجامعة رحلات استكشافية إلى محافظات مصر.(69/99)
رحلة إلى إسرائيل كبديل للسعودية :
ويقوم قسم تطور البشرية برحلات كدراسات ميدانية بقيادة هوبكنز الأمريكي أستاذ تطور البشرية إلى محافظات مصر لتدعيم وزيارة مراكز تنظيم الأسرة المخطط لها من قبل الإدارة الأمريكية (لانتشال العالم الثالث من خطر الانفجار السكاني!)، حيث توجد استراحات مخصصة لهم ومندوبين أمريكان في بعض قرى محافظات مصر وتمولها أمريكا وتشرف عليها وتقوم بدراستها الجامعة الأمريكية (محافظتي المنوفية والشرقية).
ويذكر لي بعض الطلاب أنه قد عرض عليهم القيام برحلة إلى إسرائيل وذلك من قبل الإدارة المسيحية في الجامعة لزيارة إسرائيل والمسجد الأقصى وذلك على غرار رحلة العمرة التي تقوم بها الجامعات المصرية.
وتقدم الجامعة منح دائمة للطلبة الأمريكان للدراسة في الجامعة كل عام في ما بين 100 إلى 200 طالب يقومون بالدراسة وعمل أبحاث داخل الجامعة.
ندوات العلمانية :
والندوات التثقيفية التي تديرها الجامعة لكبار العلمانيين في مصر تدور مثلاً حول تفشي ظاهرة الحجاب كأنها مرض سببه الفقر، وغيرة الرجل الشرقي، ومناقشة ظاهرة الأمية وتلوث البيئة في مصر، أما المتحدثات عن حقوق المرأة فهن أمينة السعيد أو نوال السعداوي وما شابه ذلك من شخصيات مرموقة.. من المثقفين اليساريين، إلى جانب سلسلة الندوات التي كانت عن الصراع العربي الإسرائيلي حيث قام رئيس الجامعة باستدعاء سامي زبيدة اليهودي المتعصب لإلقاء عدة ندوات ومحاضرات في الجامعة الأمريكية حول الصراع العربي الصهيوني.
عندما تدق الأجراس :
وننتقل في جولة سريعة إلى مدارس اللغات.. غالباً ما توجد داخل كل مدرسة كنيسة، خاصة مدارس الراهبات، وتأخذ المدرسة (الراهبة) الأطفال إلى الكنيسة لتعودهم على سماع الأجراس ومشاهدة الطقوس المسيحية وتوزيع بعض الكتيبات كي يألفوا هذا الجو، فكثيراً ما نرى أطفال المسلمين الصغار يحركون أيديهم بالتثليث وأداء حركات الطقوس الصليبية .(69/100)
أما المساجد في مدارس اللغات فيحكي التلاميذ أنها دائماً مغلقة بحجة الحفاظ على دورات المياه ومنع سرقة المصاحف.
الحجاب ممنوع :
آخر التطورات داخل هذه المدارس أنه خلال العام 87/88 صدرت تعليمات خاصة للألماني للراهبات في الإسكندرية والقاهرة بمنع قبول أوراق الطالبات المحجبات والمدرسات اللاتي يردن التدريس في هذه المدارس إلى جانب أنه ممنوع على أي طالبة ارتداء الأزياء الطويلة (الماكسي).. ما عدا غطاء بسيط من الممكن وضعه على الرأس.. وحتى من ترتدي حجاباً بسيطاً يتم استدعاء ولي أمرها لخروجها على تقاليد المدرسة والاطمئنان والاستفسار عن سبب هذا التغيير وعلى أنه مجرد تقليد ليس له أهداف سياسية أو دينية! إلى جانب ترهيب أولياء الأمور والطالبات من هذه الأزياء المحتشمة .
بذور تغريبية :
مناهج مدارس اللغات وخاصة في المراحل الابتدائية والإعدادية هي مقررات أجنبية صرفة فيتم تدريس تاريخ وجغرافية ألمانيا أو فرنسا تبعاً للغة مدمجاً في ذلك كل ما يحيط بالغرب من عادات وتقاليد وأفكار.
نشاط غير أخلاقي :
يتسم النشاط في هذه المدارس بالانحلال الأخلاقي فتقام حفلات مستمرة على أنغام الديسكو وعرض تمثيليات قصصية مترجمة منها ما هو عن المسيح وغيره من الأفكار الغربية المنحلة وذلك في مناسبات الكريسماس وغيرها من الاحتفالات .
رحلات الجافتون والشيخ علي:
تنظم مدارس اللغات رحلات إلى مناطق معينة مثل منطقة الجافتون في البحر الأحمر وهي شبه مستعمرة ألمانية يقوم على إدارتها ألمان وهناك يرتدي الرجال ملابس النساء ومنهم العرايا ويشارك التلاميذ هذه الرحلات ورؤية هذه المناظر السيئة.. إلى جانب رحلات الأقصر وأسوان حيث توجد منطقة سياحية تسمى الشيخ علي تمارس فيها شتى فنون الرقص والاختلاط الفاحش وتناول الخمور، كما يوجد بعض المدرسين خصيصاً في هذه المدارس لتعليم البنات فن الرقص مثل الألماني سميث في المدرسة الألماني للراهبات.
قضية آداب :(69/101)
نرصد هنا حدثا وقع في مدرسة الراعي الصالح بشبرا حيث صدر حكماً قضائياً يدين وكيل المدرسة في قضية مخالفة للآداب ومعه إحدى مدرسات المدرسة.
ومن واقع التجربة يؤكد لنا الدكتور بدر الدين غازي أستاذ الكيمياء بجامعة القاهرة إنه أخرج أطفاله من مدارس لاروز بسبب رؤيته للمناظر الخارجة عن الآداب والاختلاط بين الرجال والسيدات ويعرض على الأطفال في سن خطرة وبلا أدنى تحفظ حتى يصبح الغريب عن بلادنا مألوفاً أمامهم، كما أن الأطفال قد يقومون أحياناً بتأدية حركات التثليث وجزئيات من الطقوس التي تؤدى أمامهم في هذه المدارس.. ويستطرد الدكتور بدر قائلاً: نحن بالقطع ضد استيراد الرذائل التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة ونقصد بهذه الإفرازات التحلل الخلقي والإباحية والإقبال على الخمور والمخدرات والمنكرات وما يترتب على ذلك من أمراض نفسية كمركبات النقص وانفصام الشخصية وأمراض جسدية كالإيدز وعقائد فاسدة كالوجودية والماركسية.. ومهما سميت هذه الإفرازات الرديئة بمسميات براقة فهي إفرازات رديئة لا نقبلها، ومع الأسف فإن كثيراً من هذه الإفرازات الرديئة قد وجدت تربة خصبة في بعض المدارس الأجنبية والمؤسسات التعليمية وما زلنا نذكر أستاذ الجامعة الأمريكية الذي قتله مرض الإيدز وزميله الذي تم ترحيله من البلاد.. فما هي إذن تلك الأخلاقيات التي كان يتعلمها أبناؤنا وبناتنا من هؤلاء المرضى؟! خاصة وأن طلاب الجامعة الأمريكية من أبناء الصفوة !
المؤسسات التعليمية الأجنبية التابعة لروما :
والدكتور أبو اليزيد العجمي يذكر لنا في رؤيته للتعليم الأجنبي في مصر أن جذور هذا التعليم ترجع إلى تاريخ قديم وأنه كان من أساليب الاستشراق لغزو الشرق الإسلامي أن يدخل الغرب والاستعمار مجال التعليم ويدخله بمجموعة أشياء وهي:(69/102)
إيجاد تعليم ديني متمثل في الأزهر.. ومدني متمثل في وزارة المعارف، ثم يحاول الفصل بينهما ويعلي من شأن مدرسي وخريجي المدارس المدنية ويقلل من شأن خريجي ومدرسي المدارس الدينية.
ثم عمل على إيجاد شيء ثالث في مجال التعليم هو الجامعة الأمريكية والمدارس الأجنبية، وفي بدايتها كانت مدارس للإرساليات كما في لبنان وبعض منها ما زال حتى الآن تابع للكرسي الباباوي بروما، مثل مدارس الفرير ودي لاسال ولاروز وغيرها.. وهذه المدارس الأجنبية والجامعة الأمريكية وضعت كطرف من أطراف المحاولة للغزو الفكري في البلاد الإسلامية والعربية وفي حدود الهدف الذي أنشئت من أجله في نشر لغات وفكر الغرب وإقصاء الناس عن اللغة العربية وكانت وما زالت تحقق الهدف دون رقابة تذكر من القائمين على أمر التعليم خاصة في منتصف القرن العشرين، ثم أشرفت الوزارة على بعض منها فقللت فقط من جرعة الغزو المعلن ولكنها بقيت تمارس بعض نشاطاتها في صورة إضافية وأنشطة ورحلات .
والذي يدفع الناس إلى هذه المؤسسات أنهم مبهورون ببريقها ومعلقون أملهم في الحصول على مراكز مرموقة وهم في ذلك لا يهمهم الجانب الديني، والبعض الآخر يريد أن يرقى إلى مستوى اجتماعي مرتفع مجاراة للشهرة، ومنهم الحرفيين والمهنيين ولديهم من المال والمستوى المادي ما يساعدهم على ذلك.. والفئة الثالثة قد يكون لديها نسبة من التدين ولكن هروباً من سوءات وزارة التعليم لا يجدون طريقة سوى اللجوء إلى هذه المؤسسات.
ومجدي أحمد حسين عضو مجلس الشعب عن التحالف وأحد المهتمين بخطورة هذا التواجد التغريبي يقول:
ظاهرة التعليم الأجنبي في مصر تؤدي إلى شرخ في البناء الثقافي لأبناء الأمة وهي من أهم معالم الغزو الأجنبي الذي انتهى إلى أشكال جديدة من السيطرة، وأبرز ظاهرتين هما التعليم الأجنبي وتغيير العمل بالقوانين الإسلامية وإحلال القوانين الغربية وهما من أهم مظاهر التبعية بعد الاستقلال السياسي.(69/103)
والتعليم في مصر يؤدي إلى ازدواج في الشخصية على غير النظام العالمي بإيجاد ثلاث فروع منفصلة للتعليم: الأجنبي والديني والحكومي ليصبح التعليم الديني ضائعًا بين الاثنين، وقد غلب عليه نزعة التغريب ونزعة فصل الدين عن العلم والدراسة، وتحويل الدين لمجرد مادة منفصلة، وهذا الانقسام الثلاثي أخطر ما يمكن أن يواجه الأمة ويؤدي إلى تخريج ثلاثة أنواع من المواطنين بينهم انفصال شديد، بينما تحرص الأمم المستقلة على توحيد المناهج التعليمية.
والتعليم الأجنبي يعتبر حصان طرواده الذي يمثل أكثر اختراق لعقل الأمة لأنه يخلق كوادر موالية للحضارة الغربية، والخطر أن يتم تعليمهم جيداً ليكونوا مؤهلين أكثر إلى الصعود لمواقع المسئولية ومعظمهم أبناء المسئولين وكبار القوم يتخرجون وولاؤهم للحضارة الغربية، منفصلين ومشدودين إلى الوطن أمريكا.. فرنسا.. ألمانيا.
أما الدول المستقرة فتمنع التعليم الأجنبي لأنه بدعة كاليابان مثلاً، أما اللغة ونقل العلوم فيمكن تعليمها والتعرف عليها عن طريق الترجمة وليس بإنشاء مؤسسات متكاملة رهيبة في أهدافها التغريبية وغزوها لعقول أبناء الأمة". انتهى.
تاسعاً:عرض موجز لكتاب "اختراق العقل المصري" للدكتور رفعت سيد أحمد، نشر في مجلة العلوم الاجتماعية، الكويت، المجلد 16، العدد1، 1988م:
"هذا الكتاب الذي نعرضه ليس من نوعية الكتب العادية أو المهمة، ولكنه يعد أخطر كتاب صدر في القاهرة في موضوعه، وهو بكل بساطة ووضوح يكشف عن دور الجامعة الأمريكية في مصر والدور الخطير الذي تلعبه والغزو التي تمارسه لتدمير الثقافة المصرية، والعربية، وإخضاع العقل المصري –وبالتالي العربي- لعملية (برجمة) أمريكية تنذر بالخطر الداهم، فالكتاب يتناول أبعاد الغزوة الصهيونية العلمية الممثلة في الأبحاث التي أجراها المركز الأكاديمي الصهيوني في مصر خلال الفترة من عام 82م-1985م.(69/104)
إن ظاهرة (البحوث المشتركة) التي تجريها الجامعة الأمريكية بالقاهرة هي أسلوب تغلغل غربي خطير، وهذه الجامعة تدنس مصر والعالم العربي بشبكة منسقة الأدوار والأدوات والمفاهيم، شبكة عندما نصفها بأنها شبكة تجسس نكون غاية في التقصير، وأفضل تعبير لها أنها وسيلة اختراق واحتلال عقلي وثقافي، وإذا لم نسارع جميعاً إلى محاصرة هذا الاختراق –تمهيداً لإلغائه واقتلاعه بعد ذلك- فإننا جميعاً سنسقط في هذه الهاوية الخطيرة، وبعدها سنتحول إلى دمى أطفال مبرمجة ومعدة سلفاً لأداء أدوار تخدم الاستعمار الأمريكي الصهيوني المشترك.
يتحدث الفصل الأول عن (موقع مصر في الاستراتيجية الأمريكية) فيقرر الكتاب أنه قبل رحيل السادات، كانت مصر العربية المسلمة قد دخلت معه دائرة (التبعية القلقة) للغرب الرأسمالي بقيادة الولايات الأمريكية تحت سياسات ما سمي بالانفتاح الاقتصادي، وعلى قاعدة هذه التبعية صيغت العديد من التحولات السياسية والاقتصادية والحضارية. وعن أهداف الاستراتيجية الأمريكية تجاه مصر، فإنها تتحدد كما يلي:
1- أصبحت المنطقة التي تحتوي إسرائيل بداخلها امتداداً استراتيجياً لأمن الولايات المتحدة الأمريكية القومي، وتحول مفهوم الأمن القومي الأمريكي لا ليوفر حماية أمن إسرائيل بل لضمان سيطرة إسرائيل وتفوقها العسكري على العرب جميعاً، وإمكانية تأديب من يحاول أن يخرج برأسه عن حدود الهدف العام، وقد تحقق هذا الهدف تماماً في ظل نظام حكم السادات وما فعله ببلاده والوطن العربي والإسلامي من التبعية المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية، ولتنفيذ الهدف الأول تم تحديد قدرة وإمكانيات مصر وتقليم أظافرها، وتحييد سيناء عسكريا ودخول مصر تحت مظلة كامب ديفيد سياسياً.(69/105)
2- أما الهدف الاستراتيجي الثاني فهو رغبة الولايات المتحدة الأمريكية لجعل مصر ركناً فعالاً فيما يسمى بالإجماع الاستراتيجي لدول المنطقة تجاه الخطر السوفيتي على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، والولايات المتحدة ترمي في هذا الهدف إلى جعل مصر قنطرة استراتيجية تربط وتوفق بين إسرائيل والعرب لدعم استراتيجية مواجهة الاتحاد السوفيتي.
3- والهدف الثالث يهدف إلى تفريغ مصر من القيادات التاريخية ومفاهيم الإدارة المستقلة من أجل خلق كيان هش، ضعيف، وتحويل مصر إلى دولة تابعة لأمريكا عن طريق إحلال زعامات هشة في مصر لخدمة المصالح الأمريكية كلها.
4- أما الهدف الرابع فهو خلق التبعية وفرض الهيمنة المعنوية والحضارية على المجتمع المصري، وهذا الهدف هو أهم تلك الأهداف لأن مصر قد تتمرد على الأهداف السابقة ولكن إذا تحقق الهدف الرابع فلن يمكن لمصر –لا قدر الله- أن تفلت من القبضة الأمريكية التي ترمي إلى شل عناصر (الفعل) و(الثورة) وإسكات ينابيع التمرد المتدفقة في المجتمع المصري ضد الاستعمار الأمريكي الجديد.
ويمضي الكتاب مستعرضاً وسائل الاستراتيجية الأمريكية في مصر، هذه الوسائل التي تحددت إلى وسائل اقتصادية عن طريق المعونة الأمريكية والقروض الطويلة والقصيرة والمنح الاقتصادية التي لا ترد، وكلها وسائل لربط عجلة الاقتصاد المصري بعجلة الاقتصاد الغربي، وكذلك السيطرة على صناعة القرار الاقتصادي المصري.
وعن الوسائل السياسية: فالمعروف أن الإدارة السياسية الأمريكية تهدف إلى زعزعة مفهوم الولاء للوطن (لمصر)، وضرب الوحدة الوطنية، وتدعيم الولاء الطائفي، وربط الوسائل السياسية بالوسائل الاقتصادية عن طريق الضغط السياسي الأمريكي الشديد.(69/106)
أما الوسائل السياسية العسكرية فالكتاب يوضح أن أردأ أنواع الأسلحة يعطى لمصر، في حين أن أحسن الأسلحة تذهب إلى الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى الضغط الخطير من أجل التسهيلات العسكرية (وهي عبارة مخففة تعني القواعد العسكرية) ويستعرض المؤلف الوسائل الأخرى المرتبطة بالوسائل السابقة التي تكمن في السيطرة على الإعلام وتوجيهه توجيهاً يخدم استراتيجية الولايات المتحدة، والتبادل الثقافي الرسمي وشبه الرسمي والمشروعات العلمية والثقافية المشتركة، ويوضح الكتاب –بعد ذلك- كيف أن الجامعة الأمريكية بالقاهرة هي الخندق الأول للاختراق الثقافي والعلمي لمصر، وأن البحوث العلمية المشتركة هي الخندق الثاني لهذا الاختراق.
يحدثنا المؤلف أن أول اهتمام أمريكي بالمنطقة كان عام 1815م حين عين المجلس الأمريكي الخاص بالبعثات التبشيرية الأجنبية ممثلين له في القدس وعهد إليهم بمهمة تكوين بعثة تبشيرية في القدس، ولما واجهت البعثات التبشيرية المقاومة خاصة من القانون العثماني السائد وقتها الذي كان يحظر أي نشاط تبشيري للمسيحيين حولت الولايات المتحدة اهتمامها ناحية التعليم، وكانت البداية مدارس الأحد فافتتح المبشرون أول مدرسة رسمية لهم في بيروت عام 1842م وتدريجياً ارتقت مدارس التبشير إلى كليات ثم المستوى الجامعي، ويقدم المؤلف إحصائية عن التغلغل الثقافي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط مع بداية القرن العشرين؛ ففي تركيا كان هناك 36 مدرسة أمريكية ثانوية، و398 مدرسة أولية، و4 مدارس لاهوتية، وفي إيران 108 مدرسة وفي سوريا 95 مدرسة وفي مصر 200 مدرسة، ويمضي الكتاب إلى الحديث عن التعاون الثقافي الذي نشأ بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني –في مايو 1948م- وكيف أن هذا التعاون بدا وكأن مخططاً له من سنوات بعيدة.(69/107)
وعن الجامعة الأمريكية فهي أنشئت بالقاهرة عام 1919م ومارست منذ إنشائها التبشير الديني. ثم جاءت فترة السبعينات (السادات) فلعبت الجامعة الأمريكية دوراً سياسياً وثقافياً وحضارياً خطيراً لخدمة أهدافها الاستراتيجية بالمنطقة، ويعترف المؤلف ببعض القصور في بحثه عن الجامعة الأمريكية ويرجع هذا إلى أن الجامعة الأمريكية تفرض ستاراً حديدياً حول نفسها وأبحاثها ووظائفها الثقافية والسياسية.
ويمضي الفصل الأول في تقديم محاور الأدوار التي تلعبها الجامعة الأمريكية في مصر، فالمحور الأولي يدور حول أن كافة المناهج الدراسية تبتعد تماماً عن القضايا والحقائق المصرية والعربية، وهذه المناهج تم تدريسها وفقاً للنمط الأمريكي في التعليم، بالإضافة إلى النفقات الباهظة للتعليم في الجامعة الأمريكية، وكذا الخطورة الكبرى الممثلة في أن خريجي الجامعة دائماً يحتلون مناصب اقتصادية وسياسية وإعلامية هامة في مصر.
أما المحور الثاني فيكمن في حقيقة البحوث التي تقوم بها الجامعة الأمريكية عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المصرية، فعلى سبيل المثال في 22/12/1982م قام أحد أساتذة الجامعة الأمريكية (وهو مصري) باستقدام (سامي زبيدة) وهو يهودي متعصب للصهيونية يدرس في إحدى جامعات بريطانيا جاء ليلقي محاضرات عن الصراع العربي والصهيوني وإيران. كما أن الأبحاث التي قام بها الدكتور (ليونارد بايندر) أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو والمستشار السياسي السابق لجولدا مائير قام بإعداد بحث عن الجماعات الإسلامية في مصر، وأبحاث أخرى عن الاقتصاد المصري وهرب بأبحاثه إلى أمريكا.(69/108)
أما المحور الثالث فهو صلة الجامعة الأمريكية بالعديد من القوى الوطنية المصرية ورجال القوات المسلحة المصرية، ويوضح الكتاب كيف أن الجامعة الأمريكية تنتقي بعض رجال القوات المسلحة المصرية عن طريق منحهم الدراسات المجانية في اللغات والدرجات العلمية وتتيح لهم إجراء البحوث العلمية الخطيرة التي تتناول فيما تتناول أسرارا عسكرية وبشرية واقتصادية هامة.
أما الفصل الثاني من الكتاب فيتحدث عن الاتجاهات السياسية لأبناء الصفوة في مصر، وهو دارسة ميدانية على طلاب الجامعة الأمريكية، وهذا الفصل يعترف المؤلف أنه ترجمه نقلاً عن مجلة (ميدل ايست جورنال) وهي دراسة توضح التطبيق الحي للنتائج العلمية الخطيرة التي تجري في مصر وهي أصلاً ضد مصر والعالم العربي والإسلامي.
ويقدم الكتاب إحصائيات خطيرة من عينة البحث توضح أن المصريين الذي يتلقون تعليمهم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعيدون تماماً عن وطنهم ولا يملكون مطلقاً أي مؤشرات مستقبلية أو أي حلول لمصر أو العالم العربي.
أما الفصل الثالث من الكتاب فهو يتناول بالتحليل البحوث المشتركة في مصر، ويتحدث المؤلف بإسهاب عن الفرق بين الاحتكاك الثقافي والاختراق العلمي، ثم يورد المؤلف نماذج لظاهرة البحوث المشتركة في مصر والتي تتناول أخطر قضايا المجتمع المصري وتوظيف هذه البحوث لا للنهضة بمصر ولكن لربطها بقيود حديدية بالولايات المتحدة الأمريكية وكذا تقديم كل ما تريد إسرائيل معرفته عن مصر تحت ستار البحوث العلمية المشتركة.
يقدم المؤلف قائمة هامة قبل استعراضه للبحوث المشتركة بأسماء الهيئات والوكالات والمؤسسات التي أنشأتها الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بالتجسس والاختراق العلمي والاقتصادي والثقافي وارتباط العديد من هذه الأجهزة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية.(69/109)
ويقدم المؤلف كذلك نماذج للبحوث المشتركة مع الإسرائيليين فيورد مجموعة من الحقائق الخطيرة عن المركز الأكاديمي الإسرائيلي الذي أنشئ عام 1982م تنفيذاً لاتفاقيات كامب ديفيد، وقد مارس هذا المركز مسحاً منظماً للمجتمع المصري سياسياً واجتماعياً وسبق هذا مؤتمر ووترجيت الإسرائيلي الذي ضم علماء الطب النفسي الصهاينة والمصريين في 25 يناير 1980م، ومؤتمر لوزان الذي عقد بعد شهور من يناير 1980م استمراراً للتعاون العلمي بين الصهاينة والمصريين، ومؤتمر الإسكندرية الذي عقد وكان القصد منه البحث التاريخي للصراع العربي الصهيوني وكان يرأس الوفد الصهيوني شلومو جازيت الرئيس السابق لجهاز الموساد (جهاز المخابرات الإسرائيلي) أما عن القائمة الهامة للبحوث المشتركة، فالمؤلف يوردها موثقة وواضحة.
ويورد كذلك أسماء المؤسسات المصرية التي تتعامل مع الجهات الأمريكية والصهيونية، فيعرض المؤلف مجموعة من الأسماء لبعض الأساتذة بكليات الإعلام والعلوم والصيدلة والآداب بجامعة القاهرة والزقازيق وعين شمس والإسكندرية والمنصورة، كما تتعامل بعض المؤسسات الصحفية المصرية، ومعهد التخطيط القومي، ووحدة العلاقات الخارجية بالمجلس الأعلى للجامعات المصرية.
ويورد المؤلف كذلك عدة بحوث علمية مشتركة خطيرة، منها مشروع ترابط الجامعات المصرية والأمريكية، ويختتم الكتاب صفحاته بقائمة عن الأبحاث التي أجراها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في مصر خلال الفترة من 1982م إلى 1985م.(69/110)
وأخيراً فالكتاب جهد وطني لمؤلف يعد أول من كتب بالتفصيل والتوثيق عن دور الجامعة الأمريكية خاصة والسياسة الأمريكية عامة في اختراق الوطن العربي، وقد خصص المؤلف كتابه بالحديث عن مصر وما يجري فيها تحت ستار البحوث العلمية المشتركة، وإذا كانت بعض المعلومات التي أوردها المؤلف مبتورة بعض الشيء فهذا راجع ليس إلى تقصير المؤلف ولكنه راجع إلى صعوبة الحصول على (التفاصيل) الكاملة عن الجامعة الأمريكية ودورها الخطير في اختراق العقل المصري وتطويعه وبرمجته لأداء الأدوار التي تتطلبها الأهداف الاستراتيجية للاستعمار الأمريكي الجديد.
وهذه الملاحظة لا تقلل مطلقاً من قيمة الكتاب العلمية، فهو يعد بكل الدقة في التعبير محاولة للرصد والكشف عن الدور الخطير الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية عبر خنادقها في مصر، والكتاب دعوة جادة لباقي العلماء والباحثين لإكمال الجهد من أجل الكشف عن المزيد من أسلوب وممارسات الاستعمار الأمريكي الجديد.
بقيت كلمة نوجهها من فوق منبر هذه المجلة إلى (بعض) أساتذة الجامعات المصرية الذين قبلوا –تحت ظروف معينة- في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني في مصر. نقول لهم بكل الحقائق السياسية المجردة الكاشفة: إن المهمة القومية(124) لكم تكمن في تعليم الأجيال لا إفسادها، وأمانتكم العلمية تلزمكم بعدم تسريب البحوث والدراسات الأكاديمية إلى دولة ثبت للقاصي والداني وللمتعلمة وللمتعلم والأمي وللمثقف والجاهل أنها العدوة الأولى لمصر والوطن العربي والإسلامي، وأن التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية علمياً وأكاديمياً لن يحقق ولا حتى منافع مادية، ذلك أن الولايات المتحدة بأسلوبها القائم على عمل المخابرات فإنها بعد أن تحصل على كل ما تريده من أصدقائها فإنها تحرقهم، واسألوا التاريخ عن الزعماء والعملاء والقادة الذين تحالفوا معها. ألا هل بلغت اللهم فاشهد". انتهى .(69/111)
عاشراً: عرض مطول لكتاب: "أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1920-1980" للدكتورة سهير البيلي، عرض: وائل عبد الغني، نشر في مجلة البيان، العدد (180):
"الدراسة التي بين أيدينا دراسة وثائقية نالت بها كاتبتها درجة الماجستير، غاصت فيها الباحثة في الوثائق الخاصة بالجامعة وأخرى خاصة بالدولة لتكشف عن الدور الذي لعبته الجامعة الأمريكية في القاهرة خلال ستين عاماً من عمرها 1920-1980م، وتثبت الدراسة مجموعة حقائق تتبلور عن حقيقة كلية هي أن التجربة الأمريكية الاستعمارية تفوقت على التجربة البريطانية تماماً، كما تفوقت التجربة البريطانية على التجربة الفرنسية، وقد أشاد اللورد كرومر بالتعليم الأمريكي بقوله: "إنه ليس لدي أي تردد في إظهار نتيجة ما يزيد على 23 عاماً من الخبرة بأن مدارس التبشير الأمريكي وكلية أسيوط البارزة أحدثت إنجازاً كبيراً وتقدماً جيداً للتعليم والحضارة في مصر". وقد قامت هذه المدارس بعشرة أضعاف الجهد الذي قامت به بريطانيا في سبيل نشر التعليم واللغة الإنجليزية في مصر.
والنموذج الأمريكي المتمثل في الجامعة بالذات كان أذكى بكثير في مدخله وأساليبه؛ فما تركت مجالاً إلا وأثرت فيه، ولم تدع فرصة إلا واقتنصتها، فكان لها مع كل حادثة حديث، ومع كل فرصة نقلة.
وتعد الدراسة توثيقاً لصفحة من تاريخ الأمة يكشف اختراق الجامعة الأمريكية للمجتمع العربي من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه، وبصورة محببة وجذابة تخطت بصورة مذهلة ما عجز عنه نظام دنلوب؛ فالاحتلال البريطاني ظل احتلالاً، وقد كان له أثره في الأمة، أما التجربة الأمريكية التي لم تنته فصولها بعد فتمثل نوعاً جديداً من الاستعمار هو الاستعمار النفسي الذي بدأ –على عكس التجربة البريطانية- بالتعليم وانتهى بالعسكرة.(69/112)
ونظراً لأن محور الكتاب هو أهداف الجامعة في الفترة المحددة للدراسة فقد مايزت الكاتبة بين أربع مراحل من عمر الجامعة تم تقسيم الكتاب على أساسها هي عنوان لأربعة فصول من فصول الكتاب الثمانية، وقد استكملتها الكاتبة بشرح المقدمات والظروف والعوامل التي مكنت الجامعة الأمريكية من تحقيق أهدافها.
الفصل الأول: خضوع مصر للهيمنة الاستعمارية وتغلغل التعليم الأجنبي:
وهو عن المقدمات الطبيعية التي مهدت لنشأة الجامعة، والتي كان لها أثرها المباشر في انتشار التعليم الأجنبي بصوره المختلفة: (الطوائف غير الإسلامية – الجاليات الأجنبية- مدارس الإرساليات والفرق الدينية).
وهي العوامل الداخلية (السياق الاجتماعي) والعوامل الخارجية (السياق العالمي).(69/113)
أما عن العوامل الداخلية فكان أبرزها الانهيار الاقتصادي نتيجة لسوء إدارة الاقتصاد، وتحكم نظام الإقطاع، واحتكار الدولة لوسائل الاقتصاد؛ نتيجة لسياسات أسرة محمد علي المنفتحة على الغرب من أجل ترسيخ أطماعه في مواجهة الدولة العثمانية، وهو ما فتح الباب أمام التدخلات الأجنبية في مصر سياسياً واقتصادياً، وهو ما تولد عنه نظام الامتيازات الأجنبية التي أعفت رعايا الدول الأجنبية من القوانين المحلية ومن الضرائب ومن أي التزام أمام الحكم الداخلي، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لهجرة كثير من رؤوس الأموال والصناع وأصحاب الحرف إلى مصر والاستقرار فيها، وحيث ذهب رأس المال الأجنبي تسللت الإرساليات الدينية في إثره، خاصة أن سياسة محمد علي لم تضع العامل الديني في الحسبان، فتصرف الأجانب بحرية تامة خاصة بعد أن ألغيت القاعدة التي كانت تحتم عليهم الحصول على تصريح من الحكومة لبناء كنيسة أو ترميمها أو إعادة بنائها، فأخذوا يقيمون الكنائس ويلحقون بها المدارس المختلفة بحجة تعليم أبنائهم، كما كان لافتتاح قناة السويس دور خطير في زيادة التغلغل الأجنبي واللجوء إلى سياسة القروض التي لعبت دوراً في التدخل المباشر في أمور البلاد.
وقد قدم الخديوي سعيد وإسماعيل المساعدات والدعم لهذه الإرساليات إرضاء للدول الدائنة، وقد أدى هذا الأمر إلى تغلغل الثقافة الغربية التي بدأت مع حملة نابليون واستمرت مع تبني أسرة محمد علي للمشروع الغربي للتحديث، واتسعت مع عودة البعثات من أوروبا لإدارة أمور البلاد بدرجة ولدت انقلاباً في ثقافة البلاد خاصة في عهد إسماعيل الذي شهد تأسيس عدد من الجمعيات العلمية وانتشار الصحف بمختلف اتجاهاتها، وظهور الصالونات الفكرية والثقافية.
لكن كل هذه العوامل ما كانت لتحقق آثارها لولا تأخر التعليم في مصر.
أما العوامل الخارجية (السياق العالمي) التي عجلت بتحقق الهيمنة:(69/114)
فأولها: الامتيازات الأجنبية التي أدت إلى تضاعف عدد الأجانب عشرين مرة بين عامي 1836،1846م كما تزايد لأكثر من أربعة أضعاف بين عامي 1846،1917م.
ومن ثم توسعت الإرساليات التبشيرية في بناء الكنائس والمدارس والجمعيات من أجل السيطرة على المجتمع المصري، كما توسعت في إصدار الصحف والمجلات والكتب التي أنشئت لمتابعة الدراسات الاستشراقية .
والأمر الثاني : هو أن التنافس الاستعماري على مصر كموقع كان باعثاً للتنافس التنصيري من أجل حل المسألة المصرية. إلى جانب الهيمنة الاقتصادية التي بدأت بمعاهدة لندن، وتوسعت في عهد إسماعيل حيث سادت في عهده الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وكان من جرائها بسط السيطرة الأجنبية على مصر خاصة بعد توغل الرأسمالية العالمية في القرن التاسع عشر، والتي سعت إلى الاستحواذ على مناطق شاسعة من العالم لاستنزاف مواردها، وقد كانت مصر أرضاً خصبة في هذا المجال.
كما كان للرحالة الأوروبيين الذين وفدوا على مصر وعلى رأسهم السان سيمونيين دور في تهيئة الأوضاع، فقد جلبوا معهم أفكارًا جديدة كان لها أثرها ومنها الفن للفن، وضرورة إقامة مدارس للفنون الجميلة للعناية بالموهوبين، وقد رددت الصحافة أفكارهم وتأثر بها عدد من المثقفين.
كل هذه العوامل جعلت من مصر أرضاً ممهدة أمام التعليم الأجنبي ومجالاً خصباً للنفوذ والهيمنة الاستعمارية.
وقد بلغ عدد المدارس في عهد إسماعيل حوالي 70 مدرسة، وتخرج فيها عدد كبير من رجال الأعمال والمهن في مختلف النواحي الاجتماعية، ونال كثير منهم الحماية الأجنبية بواسطة القناصل فصاروا في حكم الأجانب في انتمائهم وميولهم، وأمام هذه المغريات زاد عدد المدارس.
الفصل الثاني: التعليم الأمريكي في مصر- النشأة والتطور:(69/115)
جاء في تقرير مجموعة من المبشرين: (إن القاهرة تعتبر نقطة مهمة وهي المدينة الثانية في الإمبراطورية التركية). وقد بدأت الإرسالية الأمريكية العمل في مصر مع بداية عام 1850م تحت مسمى (الرسالة المشيخية الاتحادية الأمريكية)، ومنذ اليوم الأول ترافق النشاط التعليمي مع النشاط التبشيري.
وقد أنشأ الأمريكيون تحدت لواء الهيئة المشيخية المتحدة عدداً من المدارس على طول نهر النيل، كان من أشهرها كلية للرجال في مدينة أسيوط التي تعد عاصمة إقليم الصعيد، وكلية للبنات في القاهرة كان لها دور تعليمي بين نساء مصر عامة والقاهرة خاصة، وقد كان نشاط المدارس الأمريكية يتركز في عدد من الأهداف:
نشر المذهب البروتستانتي بين الأقباط أولاً والمسلمين ثانياً في مصر، وكان لنشر المذهب دوافع استعمارية كشف عنها وليم هل: "إن مصر مستودع للثروات التي لا تعد ولا تحصى".
وقد كان لكلية أسيوط وهي تعليم ثانوي دور تنصيري كبير في صعيد مصر، ويؤكد هذا كلام واطسن أحد صناديد المنصرين في تلك الفترة: "إن الاتحاد حقق غرضه بالفعل وتنصر اثنان وستون طالباً في عام واحد، وفي عام آخر تنصر خمسة وثلاثون آخرون، كما وهب سبعون من أعضاء الكلية أنفسهم للعمل التنصيري أيضاً".
وكان التركيز في تلك الفترة على الطبقة الفقيرة من خلال تبني أفرادها واحتوائهم وتقديم التعليم المجاني لهم، ثم إيجاد فرص عمل مناسبة ضمن نشاطها، وكان الشرط الأساسي لذلك هو عضوية الشخص للكنيسة الإنجيلية وانتماؤه إليها، والدعوة إلى مذهبها بين أقرانه وذويه وأصدقائه، وفي نفس الوقت اتخذت الإرسالية من الطبقة الغنية سنداً لها بتقديمهم الدعم المادي والمعنوي لأنشطتها.
وأدى انتشار الأفكار الغربية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر إلى تحولات واسعة في كافة المجالات وبخاصة الأفكار المتصلة بالتعليم.(69/116)
وسعياً في تطوير الآليات الموجودة رأت الإرسالية القفز بمستوى التعليم من أجل إعداد جيل من القادة، وتم بالفعل إنشاء كليات مجهزة تجهيزاً جيداً في كل من القاهرة وبيروت وإستانبول من أجل تسريب المبادئ النصرانية إلى الطبقة المثقفة على وجه الخصوص وإلى بقية الطبقات بالتبعية.
الفصل الثالث: نشأة الجامعة الأمريكية في القاهرة:
يتجه الاهتمام في هذا الفصل إلى إلقاء الضوء على نشأة الجامعة الأمريكية بالقاهرة والظروف التي واكبتها، والأهداف التي أنشئت الجامعة من أجلها.
فقد تأسست الجامعة الأمريكية في الخامس عشر من أكتوبر 1920م بعد رحلة طويلة من المبادرات والنقاشات والرسائل المتبادلة واللقاءات وجمع المعلومات.
وكان الغرض من الجامعة هو أنها :
-سوف تخدم 24 مليوناً من المتحدثين بالعربية وتغطي الشمال الإفريقي.
-التواجد الثقافي في مصر حيث المكانة الاستراتيجية كمركز فكري للعالم الإسلامي له أهميته عند المبشرين، حيث الأزهر، وما يزيد عن مائتي دار للطباعة والنشر يصل إنتاجها إلى مراكش وجاوا والصين، كما يتدفق نحو القاهرة جموع من المسلمين الرحالة من كل مكان لأهداف دينية وتجارية، وأعدادهم تفوق بكثير أعداد الحجاج الذين يتوافدون أفواجاً في أشهر الحج على مكة، ولهذا كان عدد المنظمات التبشيرية ضخماً في تلك المرحلة.
-تحتاج الساحة إلى لون جديد من التبشير يتفوق في شكله ومحتواه على الصور الموجودة.
وقد أكد المؤسسون في لقاءاتهم ومراسلاتهم على أن تكون شخصية الجامعة مسيحية، وكان من بين المشاركين في وضع المعالم الرئيسية لشخصية الجامعة زويمر وجون موط السكرتير العام لجمعية الشبان المسيحيين الأمريكيين، وبالفعل ولدت الجامعة نصرانية بروتستانتية تبشيرية بنسبة 100% (125).(69/117)
ومع الميلاد بدأت الجامعة في مد الصلات مع كل القوى التي يمكن أن تساندها، ونالت الجامعة تأييد لوردات الاحتلال على تتابعهم، كما رحبت الصحافة المصرية لسان حال الحكومة ترحيباً حاراً، أما السلطان فؤاد فقد دعا واطسن رئيس الجامعة للعمل ضمن لجنة عامة لدراسة برنامج التعليم القومي، وكانت هذه الدعوة أقوى دعم يمكن أن تناله مؤسسة تعليمية في ذلك الوقت، بعد أن أقامت اتصالاً وبين وزارة المعارف بما يعني مد نشاطها إلى خارج أسوارها.
أما عن التوجهات الأساسية فقد أجملتها الباحثة في ثلاثة توجهات: ديني أكاديمي- اجتماعي.
وكان التوجه الديني هو المقدم كما تؤكده وثائق الجامعة، حيث كان الهدف الأكبر هو ضمان الشخصية المسيحية، وتأثيرها الواسع، وتنمية الولاء المسيحي عبر التبشير البروتستانتي بين المسلمين عامة في مصر ومحيطها الديني والثقافي.
أما التوجه الأكاديمي فقد كان مسخراً لإنشاء تعليم على مستوى عال يمكِّن من إعداد نخبة يمكن أن توسد إليها الأمور في المستقبل القريب، وكانت الأقسام المقترحة: قسم التعليم العالي –كلية إعداد المعلمين- كلية لاهوتية- كلية الزراعة. كما افتتحت كليات لاحقاً في الطب والهندسة والصحافة إلى جانب كلية الخدمات التعليمية الممتدة التي تقدم دروساً ليلية.
أما التوجه الاجتماعي: فقد كان من بين الأهداف المعلنة التي تتعلق بتطوير المجتمع المصري بحيث يصبح ذا خصائص ثقافية غربية بديلة للعقائد والتقاليد والخرافات السائدة في ذلك الوقت، كما اهتمت بقضية المرأة تحت مسمى التحرير، وبعبارة أوضح صبغ المجتمع بالصبغة الأمريكية من خلال تعليم أبناء الصفوة العقيدة المسيحية وتنمية العقلية المتحررة لديهم ثم تحركهم لتغريب المجتمع ككل في مرحلة لاحقة.
وقد بدأت الجامعة عملها الرسمي بالأقسام التالية:
-كلية الآداب والعلوم على مستوى الثانوية وكانت على قسمين:
-قسم الآداب ويدرس باللغة الإنجليزية وفق النظام الأمريكي.(69/118)
-قسم الحكومة باللغة العربية وفقاً للنظام المصري مع إضافات أخرى.
مدرسة الدراسات الشرقية وهي تطوير لمدرسة تدريب المبشرين التي أنشئت في مصر عام 1913م التي كانت تدعى "مركز القاهرة للدراسات".
-أما قسم الدراسات الممتدة فقد افتتح في عام 1924م للإسهام في فحص المجتمع المصري، وجمع أكبر قدر من المعلومات عنه وبناء تصور لمشكلاته، ومن أهداف هذا القسم: التأثير في الخلفية الاجتماعية لطلاب الجامعة الشرقيين، وفي الأقطار المسلمة (عادات وتقاليد اجتماعية) التي تمثل أكبر عائق أمام تغريب الطلاب، والتأثير في طلاب الجامعة الذين سيناط بهم قيادة المجتمع في المستقبل، وقد كان القسم حريصاً على توصيل مفاهيمه لأكبر قطاع من المجتمع؛ ولذلك استحدث عدداً ضخماً من الوسائل والأساليب التي يتمكن من خلالها الاتصال بأكبر قطاع ممكن من المجتمع، وقد وظفت المحاضرات والنشرات الشهرية والفصلية والسينما التعليمية أسبوعياً والأمسيات والمناقشات في العلوم الاجتماعية ومصلحة رعاية الطفل التي كانت تابعة للقسم، وكانت بعض المحاضرات التي يقدمها القسم تعقد خارج الجامعة في بعض المدن والقرى لاجتذاب اهتمام أكبر عدد من الناس.
-كلية التربية (1926م): وكانت تهدف إلى التأثير في التعليم المصري وفي البلاد المجاورة من خلال نقل طرق التعليم الحديث إلى مصر، وكانت الكلية تسعى لتحقيق أهداف الجامعة من خلال تأكيد المنظومة التربوية الغربية عموماً والأمريكية على وجه الخصوص، وقد أصدرت الكلية صحيفة التربية الحديثة التي كان لها تأثير خطير في كل من مصر وسوريا والسودان والعراق وجاوا والحبشة وسنغافورة، ومع هذا الرواج حققت الجامعة من ورائها أرباحاً وفيرة، وقد كان من أهداف الصحيفة إقامة اتصال مباشر في مجال التربية بين العالم العربي والولايات المتحدة؛ ومع التوسع في التعليم المصري كانت هذه الصحيفة من أكبر المؤثرات الثقافية في مصر.(69/119)
-مركز البحث الاجتماعي (1953م) وتم إنشاؤه بمنحة من مؤسسة فورد أحد أخطر واجهات المخابرات الأمريكية، وقد اهتم هذا المركز بجانب المعلومات وتحليلها من خلال توظيف الطلاب في مجال البحث الاجتماعي في المنطقة العربية، والعمل على تدريب الطلاب في مجال علم الاجتماع وأساليب البحث العلمي، وتشجيع الطلاب على مشروعات البحث الاجتماعي .
-معهد اللغة الإنجليزية: وقد تأسس في عام 1956م لتعليم اللغة الإنجليزية للطلاب الراغبين في تحسين لغتهم الإنجليزية من أجل الالتحاق بالجامعة.
وفي الفصول الخمسة الباقية من الكتاب ترصد الباحثة مدى الثبات أو التغير في أهداف الجامعة ومؤسساتها وطبيعة الظروف التي أدت إلى ذلك، وما نتج عنها من سياسات تعليمية وأقسام جديدة لنرى كيف كانت الجامعة تنظر إلى الأمور من واقع الوثائق المحفوظة لديها والتي أتيح للباحثة الاطلاع عليها في فرصة ربما كانت نادرة .
وقد فرقت الباحثة بين أربع مراحل: مرحلة النشأة والاستقرار وهي أطول المراحل (1920-1956م)، ومرحلة ما بعد الثورة (1956-1963م)، ثم مرحلة التحول الاشتراكي (1963-1970م)، ثم المرحلة الأخيرة مرحلة الانفتاح وهي ما بعد 1970م وحتى حدود الدراسة 1980م.
الفصل الرابع:الأهداف المعلنة والممارسات منذ عام1920-1956م:
وقد حدد الهدف في البند الثاني من وثيقة الإنشاء ويتضمن "تقديم التربية المسيحية لشباب مصر والأراضي المجاورة، وذلك عن طريق إقامة معهد تعليمي على أعلى المستويات التربوية الفعالة، كي تظهر للعالم الإسلامي السمات الخلقية للسيد المسيح (السلوك النصراني) ... ".(69/120)
ولم يتوقف هذا الهدف المعلن عن الظهور في لوائح الجامعة السنوية على مدار الأعوام من 1920-1956م وإن اختلفت الصياغة، حيث ظلت الوجهة التبشيرية هي المحور الذي تدور حوله بقية الأهداف المعلنة من إعداد النخبة ونشر الثقافة الأمريكية وخدمة المجتمع المصري، وكانت الجامعة تسعى لتحقيق أهدافها من خلال أقسامها المختلفة.
أما عن وسائل تحقيق الهدف الديني فقد تعددت بين :
-اجتماع ديني يومي في كنيسة صغيرة بالجامعة وبصورة إجبارية، تقام فيه الصلوات النصرانية ويقرأ فيه الإنجيل وتتلى خطب قصيرة في الأخلاق، وكان الجميع يشاركون في إنشاد التراتيل (كان الطلاب المسلمون يمثلون ثلث الطلاب في البداية!)، وقد انبثق عن هذه الاجتماعات جمعية الشبان المسلمين المسيحيين التي تعد امتداداً في نشاطها لجمعية الشبان المسيحيين والتي مارست نشاطاً تنصيرياً خارج أسوار الجامعة.
-محاضرات عامة عبر قسم الدراسات الممتدة الذي يفتح الباب أمام الاحتكاك بالجماهير عبر المحاضرات والأنشطة الثقافية في الفترة المسائية لكن بصورة غير ملزمة، وقد كانت قاعة إيوارت محفلاً لهذا النشاط الذي تطرق تقريباً لكل شيء، يمكن أن يخدم الهدف الديني للجامعة.
وكانت القضايا تناقش دون تحفظ، وقد وجد أن أثر هذه الطريق بالغ مع مضي الوقت في تقبل الكثيرين للعقائد النصرانية، وتضمنت المحاضرات كثيراً من الشبهات حول عقائد الإسلام مما اختلقه المستشرقون، كما مررت هذه المحاضرات العديد من الأفكار لقياس الرأي العام ودرجة الوعي، وكان من بينها محاضرة بعنوان "هل ستنال المرأة حقوقاً وواجبات مساوية للرجل؟" والتي ثارت بسببها ثائرة الناس، وشنت الصحف حينها حملات قوية على الجامعة، وكانت الجامعة تطأطئ رأسها للموجة ثم تعاود الكرة من جديد.(69/121)
كما عملت الجامعة على نشر أفكارها من خلال سلسلة أخرى من المحاضرات التي يتخفى فيها الهدف الديني وتتحدث عن مواضيع من قبيل الرفاهية القومية والصحة العامة، والتاريخ والعلوم، والمشكلات القومية، والأمور السياسية وكل من هذه المجالات مرتبط بأهداف اجتماعية وثقافية ولكنها تحمل أفكاراً دينية لتأكيد الغرض التبشيري.
وكان الحضور منوعاً من كل الطبقات؛ أعضاء برلمان، وأساتذة وطلاباً بالأزهر، ونساء، وكبار رجال الدولة وعامة الناس، مما وضع الجامعة في أعلى مكانة على الخريطة الثقافية في مصر.
كما كانت تعرض أفلام تعليمية وأخرى مثل الفيلم التبشيري "King of kings" الذي يعرض العقيدة النصرانية في المسيح عليه السلام، وكان يعرض من عشرين إلى ثلاثين مرة كل عام قبل عيد القيامة، وقد قامت بالفعل بتنصير عدد من الطلبة المسلمين مما حرك نوازع الغيرة الدينية الشعبية ضد الجامعة، وقد نفس العامة عن هذه المشاعر كلما أتيحت الفرصة، وقد تم اقتحام الجامعة وتحطيم مكوناتها مرات عدة على إثر كل غضبة شعبية ضد المستعمر، كما حدث في حريق القاهرة وبعد العدوان الثلاثي وبعد نكسة 1967م.
-المناهج الدراسية: ويكفي هنا أن ننقل مقولة واطسن وهو يخطب أصدقاء الجامعة الأمريكية في القاهرة: "إني أتحدى أن ينجح أي منكم في اختبارات الإنجيل التي يواجهها طلابنا في الجامعة الأمريكية في القاهرة".
وقد شهدت مجلة الاتحاد المشيخي على طبيعة المناهج: "الجامعة الأمريكية بالقاهرة كانت تقدم المبادئ المسيحية، وهذا البرنامج كان بعيداً عن أن يكون منهجاً تعليمياً صرفاً، فالجامعة منظمة تبشيرية تستخدم التعليم للوصول إلى تحقيق غرضها التبشيري بين الناس".(69/122)
-اختبار أعضاء هيئة التدريس: وقد نصت اللائحة الداخلية للجامعة عام 1954م على أنه عند تعيين الجامعة لهيئة التدريس يوضع في الاعتبار توافر الشخصية المسيحية للشخص المراد تعيينه من أجل تحقيق الهدف التبشيري، والمدرسون الأمريكيون خدم أغلبهم في الكنائس والاتحادات الدينية العالمية مثل جمعية الشبان المسيحيين وجمعية الشابات المسيحيات اللتين كان لهما نشاط واسع داخل الجامعة.
-الأنشطة الاجتماعية:
والتي تمثلت في الأنشطة الرياضية والنشاط الثقافي واتحاد الطلاب وقد وفرت هذه الأنشطة جواً اجتماعياً وتربوياً وثقافياً أسهم بشكل فاعل في تعميق أفكار الجامعة لدى الطلاب، وامتداد نشاطها خارج أسوار الجامعة، وتدريب الطلاب على التأثير المطلوب في المجتمع .
-المناخ الجامعي: حيث الروح الكنسية والجو الليبرالي بمفهومه الأمريكي حيث حرية التعبير والسلوك والعلاقة.. العلاقة التي تربط التلميذ بأستاذه ومحيطه الجديد، فقط كان الاحتكاك اليومي بين المدرس والطلاب أقوى من كل التأثيرات الدينية(126).
أما هدف إعداد النخبة الحاكمة وهو لا يقل أهمية عن الهدف الأول، وهو يبدو إنسانياً في ظاهره لكنه محمل بأبشع أنواع الاستعمار.
وقد أكدت جميع وثائق الجامعة على شعار: "التعليم الشامل للصفوة" ولم يكن غريباً عندما فتحت الجامعة أبوابها عام 1925م أن نجد أن الطلبة المدرجين في قوائمها من الطبقات العليا في المجتمع 60% منهم مسلمون، وقد كان الطلبة يتدربون على وسائل التأثير البعيد في الفكر والحياة في الشرق الأدنى وأجزاء أخرى من العالم، وقد شغل معظم خريجي الجامعة الأمريكية بالقاهرة مناصب عليا في المجتمع في مجالات الإعلام والسياسة والاقتصاد.
أما عن هدف نشر الثقافة الأمريكية:(69/123)
فالجامعة كما قال واطسن "جسر صداقة" بين المجتمع الأمريكي والعالم الإسلامي، وهي تدار بإدارة أمريكية وأموال أمريكية بغرض نقل القيم النابغة من التجربة التربوية المسيحية التي تمارس في أمريكا إلى مصر، وتنمية التفكير على أسس من الثقافة الأمريكية. وقد استخدمت في ذلك عدة وسائل هي:
- التعليم الحر.
- الحفلات الفنية والموسيقية، وكانت الإذاعة المصرية تنقلها إلى مستمعيها.
- المحاضرات والمنتديات الثقافية التي تعتمد على العقلانية في النقاش.
- السينما التعليمية: وهي وسيلة ناجعة لبسط الهيمنة الثقافية الغربية وبناء مجتمع متغرب.
وأما هدف خدمة المجتمع المصري:
فكان المراد من هذا الهدف نيل مصداقية عالية لدى الحكومة وعموم الشعب نتيجة إظهار الاهتمام بمشاكل المجتمع، وهي في نفس الوقت تعد وسيلة مهمة لفحص المجتمع المصري من حيث خصائصه النفسية والاجتماعية والدينية ومشكلاته وأعراضه وأمراضه حتى يسهل التأثير فيه. وهي كذلك وسيلة لتدريب الطلبة على حل المشكلات، وتوصيفها وتصنيفها وفقاً للمنظور الأمريكي بخلفيته النصرانية، وعلى سبيل المثال قام 130 شاباً خلال صيف 1932م بمناقشة الأوضاع الصحية في حوالي 13 مديرية من مديريات مصر، وقاموا بتوزيع حوالي 125 ألف بحث تنظيم وحوالي 3195 استمارة مقابلة.
كما ساهم قسم الدراسات الممتدة بفصول مسائية لأصحاب الوظائف الحكومية الدنيا، وآخرين ممن يريدون الحصول على درجات علمية في التعليم المسائي.
كما قام مركز البحث الاجتماعي بدور خطير في كشف دقائق الأمور وتحليل المشاكل الاجتماعية في مصر ودول الشرق الأوسط، وبهذا تتمكن الولايات المتحدة من ترسيخ الهيمنة الثقافية على المجتمع المصري.
الفصل الخامس: المتغيرات العالمية والمحلية الميسرة لثبات الأهداف 1920-1956م:(69/124)
أما على المستوى الداخلي فقد أسهمت ثلاث تيارات فكرية في تهيئة الأوضاع للجامعة وهي الفكر الليبرالي والفكر الشيوعي بثقافته الغربية والتيار العقلاني بقيادة الشيخ محمد عبده(127)، وقد مهد الثلاثة من خلال تبنيهم لمفهوم الحرية بمعناه الغربي لاقتحام الجامعة مجالات كان من المفترض أنه من المحظور على أي أحد الخوض فيها فضلاً عن جهة تبشيرية أو أجنبية.
أما الأوضاع السياسية فكانت مساندة تماماً لنشاط الجامعة، وقد نجح القائمون على الجامعة في إرضاء كافة الأطراف واستغلال الظروف السياسية المختلفة، وتوثقت الصلات بالقصر والوزارة والبرلمان والاحتلال في وقت واحد بالإضافة إلى النخبة الغنية. أما على المستوى الشعبي فكان أقرب للعداء نتيجة للممارسات التنصيرية التي أثارت الرأي العام، وأقامت عدداً من العلماء على رأسهم الشيخ المراغي في مواجهة نشاط الجامعة المشبوه لكن الجامعة قامت بجهود جبارة لاختراق المستويات الشعبية، وقد حققت لها بعض النجاحات.
وقد اضطرت الظروف السياسية والقانونية الجامعة في بعض الأحيان لأن تتخفف من بعض أنشطتها التبشيرية دون أن يعني ذلك التخلي كلية عنها.
أما على الوضع الاقتصادي فقد كان لسيادة النظام الرأسمالي خلال الفترة الملكية أثره في وجود ما يشبه التحالف الضمني لاتحاد المصالح؛ إذ التحق أبناء هذه الطبقة بالجامعة والتي كانت تؤهلهم لتوسد المناصب السيادية في الدولة، كما وفرت بعض عناصر هذه الطبقة المنح للجامعة.
الفصل السادس: الجامعة الأمريكية والنظام الجديد في أعقاب ثورة يوليو حتى 1963م:
وقد نشأت على إثر الثورة طبقة جديدة صعدت مع الثورة فحرصت الجامعة على التقرب منها؛ فاستثنت أبناء أعضاء مجلس قيادة الثورة من شروط القبول، دون أن يعني ذلك تخليها عن علاقاتها مع الطبقة الرأسمالية التي ظلت تحافظ على تواجدها رغم الإجراءات التي اتخذت ضدها من أجل تقليص دورها.(69/125)
وبدأت الجامعة إبراز خطاب جديد يناسب شعارات الثورة، كما ألغت الدراسة يوم الجمعة وخفضت اليوم الدراسي في شهر رمضان، واختارت أعضاء هيئة التدريس من المصريين والأمريكيين على حد سواء بغض النظر عن العقيدة.
أما على الصعيد الدولي فقد سنت الولايات المتحدة القانون رقم 480 الشهير لاستغلال الفائض الزراعي في خدمة المصالح الأمريكية وهو القانون الذي فتح الباب أمام أرقام كبيرة جداً من المساعدات والمنح الأمريكية، ونتيجة للاستقطاب بين المعسكرين أخذت الولايات المتحدة تتقرب إلى الثورة من أجل كسب مصر في صف المعسكر الغربي.
لكن كان لرفض مصر الدخول في مشروع الحلف مع أمريكا وعقدها صفقة الأسلحة الشهيرة مع تشيكوسلوفاكيا بعد أن رفض المعسكر الغربي بيع أي أسلحة لمصر، أثراً في ممارسة الضغوط الاقتصادية الأمريكية ضدها، وجاء الرد الأمريكي قاسياً بإيقاف المساعدات وإيقاف النشاط التجاري بين البلدين، وقطع العلاقات الدبلوماسية، ومحاصرة مصر بحراً لمنع وصول أي سفينة تحمل سلاحاً إلى مصر، وإلغاء تمويل مشروع السد العالي.
كل هذا أدى لأن تسير الجامعة في إطار أكثر حذراً وأقل انفتاحاً، وأكثر اعتباراً لما يثير الرأي العام. وبدا الدور التبشيري أكثر انكماشاً وأظهرت الجامعة لوناً من الحرص على المصلحة الوطنية والانتقاد العلني للمواقف الأمريكية، بصورة تعطي انطباعاً باستقلاليتها وبعدها عن السياسة الأمريكية بما يدعم وجودها في مصر، ويدعم مبادئها المعلنة في الحرية والديمقراطية التي كانت تتبناها الثورة.
كما تأثرت الجامعة بالعدوان الثلاثي على مصر نتيجة لتأميم قناة السويس فرحل أعضاء هيئة التدريس وفتحوا جامعة في المنفى.
لكن ما لا ينبغي إغفاله أن الدعم الأمريكي لم ينقطع عن الجامعة حتى في هذه الفترات.(69/126)
وكان للجامعة رجالها حتى في ظل حكم الثورة، وقد وسطت الجامعة محمد حسنين هيكل من أجل تخفيف بعض القيود وإزالة بعض المخاوف، وجاءت إجابة عبد الناصر فوق الإيجابية!.
والغريب أنه رغم صدور عدة قوانين على مدار عمر الجامعة تنظم شأن المؤسسات التعليمية الأجنبية من حيث الإشراف والمناهج وهيئات التدريس إلا أن الجامعة نجحت في الإفلات من جميع هذه القوانين، وظلت هي المؤسسة التربوية الوحيدة في مصر التي تدار فعلياً دون إشراف من الحكومة المصرية.
كما لعبت الجامعة دوراً مكنها من أن تكون يد الحكومة الأمريكية في مصر وأداتها في الحفاظ على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يثير التساؤل حول نجاح الجامعة في اختراق جميع مؤسسات الدولة.
أما الأهداف فصيغت على النحو الآتي: تقديم تعليم رفيع المستوى.. تجسيد قيم الثقافة الأمريكية.. الإسهام في حل مشكلات المجتمع المصري.. تشجيع التبادل الثقافي والفكري بين الشرق والغرب، وبهذا اختفى الهدف التنصيري بصورته السافرة وبقي مضمناً في هدف الترويج لقيم الثقافة الأمريكية التي تحمل في طياتها القيم النصرانية، وبهذا تم إعادة تنظيم مدرسة الدراسات الشرقية وأصبح اسمها: (مركز الدراسات العربية) وقلل فيه النشاط التبشيري، لكن النشاط بقي يمارس خارج أسوار الجامعة، كما تم التوسع في الدراسات العليا في الأدب البريطاني والأمريكي وعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، الكيمياء والاقتصاد، العلوم السياسية.
أما قسم الدراسات الليلية فتغير اسمه إلى قسم الخدمة العامة وتحول نشاطه من المحاضرات والندوات إلى تدريب الموظفين في مجالات مختلفة.
وأما المكتبة فقدمت برنامجاً تعليمياً وزودت بالتسهيلات، وقد مارست الجامعة من خلالها دوراً كبيراً في النشر والاتصال بالباحثين.(69/127)
أما هدف خدمة المجتمع فبقي مجالاً خصباً لجمع المعلومات حول القرية المصرية، وموقف الشرق الأوسط عامة ومصر خاصة تجاه السياسة الأمريكية، وحول النوبيين، وإحصائيات السكان.
أما إعداد القادة فحافظت عليه الجامعة بأن قصرت الالتحاق بها على أبناء النخبة الحاكمة والطبقة الغنية.
وقام معهد اللغة الإنجليزية على تحسين لغة عدد منهم من أجل تجاوز شرط جديد للالتحاق ينص على إتقان اللغة الإنجليزية.
الفصل السابع: من عام 1963-1970م مرحلة التحول الاشتراكي:
ويعكس هذا الفصل براعة الجامعة في خدمة الأهداف الأمريكية في ظل التحول الاشتراكي، والعداء الأمريكي العلني لمصر خلال حرب 1967م وانعكاسه على الساحة المصرية، وكيف تمكنت الجامعة تتعايش مع هذه البيئة.
وقد فرضت الحكومة المصرية الحراسة على الجامعة الأمريكية، ورحلت هيئة التدريس، وعينت حارساً قضائياً، ولكن الحارس قام بدور خطير في إقناع الحكم المصري بإبقاء الجامعة أمريكية الهوية كما هي، وسهل إجراءات اعتراف الحكومة بالجامعة الأمريكية.
وخلال هذه الفترة تولى كريستوفر ثورون إدارة الجامعة، وكان ثورون عميلاً للمخابرات الأمريكية، فعمل مع إدارته للجامعة لحساب المخابرات أيضاً، وقد سعى في توسيع صداقاته داخل مصر، وكوّن علاقات حميمة مع موظفي الخارجية المصرية! وبهذا يظهر هدف آخر غير معلن للجامعة تسعى لخدمته من أجل رعاية المصالح الأمريكية.
وكانت الجامعة في هذه الفترة حريصة على نيل الاعتراف الرسمي الكامل بها كنشاط وكشهادات علمية بما يضمن لها البقاء في ظل التغيرات العميقة التي تطرأ على الحالة المصرية بين آونة وأخرى، وقد حققت الجامعة بعضاً من ذلك خلال هذه الفترة.
الفصل الثامن: الجامعة الأمريكية في ظل الانفتاح الاقتصادي :(69/128)
وهو العهد الذي أعاد للجامعة سيرتها الأولى، فمع موت عبد الناصر ومجيء السادات انفرجت الأمور وبدأت مفاوضات للاعتراف بالدرجات العلمية للجامعة مقابل تعيين 45% من الأساتذة من مصر مقابل نفسن النسبة من الأمريكيين، والباقي يتم استكمالهم من باقي الجنسيات، وأن تكون الوظائف الإدارية للأمريكيين، وألا يقل عدد الطلاب المصريين عن 75% والأمريكيين 10% والباقون من العرب، وطلبت الحكومة أن يتم تعيين مستشار للجامعة ومجلس استشاري لها من المصريين.
وبالفعل تم الاعتراف بالجامعة كما أرادت لنفسها من حيث الهوية والاستقلالية والدرجات العلمية التي تمنحها وفق بروتوكول موقع عليه من وزير التعليم ورئيس الجمهورية شخصياً.
وقد استفادت الجامعة من هذه الإجراءات استفادة كبيرة حيث عمقت اتصالها بجميع الأوساط، ونالت عن طريقهم ما لم تنل من قبل، بالإضافة إلى أن رواتب هؤلاء تبدو متواضعة، كما أنها لن تعدم من بين هؤلاء من ينفذ رغباتها خاصة بعد أن اطمأنت إلى أجيال من خريجي الجامعة ممن تبنوا فكر الجامعة، وربما كان الأمر مستحيلاً في بداية عمر الجامعة؛ لأنها كانت تريد بناء نسق معين يحتذى وقد كان.
وبدت الجامعة في أنشطتها الثقافية والتعليمية متكاملة مع الجامعات الوطنية المصرية، ولذلك حرصت الجامعة على تقديم تعليم مكثف للطلاب يقابل حاجات المجتمع الجديد، كما حرصت أن يكون طلابها ممن لديهم القدرة على تلقي هذا النوع من التعليم.
أما الممارسات والأنشطة المتعلقة بتحقيق الأهداف المعلنة فقد قدمت الجامعة خدماتها للمجتمع عبر مركز البحث الاجتماعي بتمويل من مؤسسة فورد ووكالة التنمية الدولية AID، وكانت الموضوعات: الزيادة السكانية، ووسائل منع الحمل، كما تقدم المركز ببحوث حول المواد الخام الصلبة المتوفرة في مصر(128).(69/129)
وفي الخاتمة تخلص الباحثة إلى أن الجامعة وإن خففت من الهدف الديني المباشر من أجل ضمان بقائها واستمراريتها إلا أنها بقيت على أهدافها الأخرى: الهدف الثقافي، وهدف خدمة المجتمع(129)، وهدف إعداد القادة، والحاصل أن الجامعة ظلت حريصة على تحقيق الهيمنة على المجتمع المصري مباشرة والمجتمعات العربية الأخرى بالتبعية، كما تبين وجود أهداف أخرى غير معلنة بدأ بعضها وربما ما خفي أكثر، ويمكن من خلال نتائج الدراسة استشراف الدور الحالي والمستقبلي للجامعة لخدمة أهدافها". انتهى .
(1) ... ستأتيك حقيقة هذه الخبرات! وفاقد الشيء لا يعطيه. (س) .
(2) ... ثم عزمت الأمر على نشرها بعد أن نُشر خبرٌ يقول بأن هذه الجامعة الموبوءة قد قررت فتح فرع لها في بلاد التوحيد: المملكة العربية السعودية !! –إنا لله وإنا إليه راجعون-.
(3) ... ثم ألغوا ذلك –كما سيأتي-؛ لأنه كان سبباً في انصراف كثير من أبناء المسلمين عنها. فأصبح هذا الأمر فيما بعد يتم في الخفاء .
(4) ... وسيأتي خلال البحث –إن شاء الله- نماذج لأفكار ومقالات بعض المسلمين ممن تخرجوا في الجامعة تنبئك عن مدى حقدهم على شرائع الإسلام!، حيث فاقوا في هذا –أخزاهم الله- أساتذتهم النصارى.
(5) ... أما العلوم الشرعية فهذه الجامعة ليست مؤهلة للخوض فيها أصلاً. إلا أن تكون علوم التوراة والإنجيل!
(6) ... وما قد أضيفه من هوامش فإني أتبعه بحرف (س) .
(7) ... صلى الله عليه وسلم. (س).
(8) ... وهما ممن درس في هذه الجامعة، كما يأتي في حديثهما.
(9) ... Bliss 163, 212.
(10) ... Bliss 162; cf. Penrose 8.
(11) ... cf. Jessup 241
(12) ... Presbyterian من فرق المذهب البروتستاني .
(13) ... Jessup 274.
(14) ... Bliss 163-9.
(15) ... cf. Jessup 298; Bliss (R) 329.
(16) ... Pliss (R) 392: Jessup 298, 817.
(17) ... Bliss 217.
(18) ... وهي اليوم "الجمعية المسيحية للشبان" أو جمعية الشبان المسيحية.
(19) ... Bliss 217-8 Brotherhood.(69/130)
(20) ... الجامعة الأميركية في بيروت .
(21) ... الكلام هنا للدكتور عمر فروخ.
(22) ... Richter 220
(23) ... Jessup 737
(24) ... Richter 74
(25) ... Gairdner 27-8
(26) ... Richter 221
(27) ... Penrose 307, 309, cf. 5. 13, 139
(28) ... cf. Bliss 214f. Gairdner 277-8; Jesstip, 274, 298, 737, 818; Riehter 74; 220; Bliss (R) 329; Addison 91.
(29) ... Penrone 46.
(30) ... ibid. 180, 181.
(31) ... ibid. 81 f.
(32) ... cf. Bliss 11, 214-5
(33) ... Bliss 130
(34) ... Bliss 214-5
(35) ... Bliss 228
(36) ... World Student Christian Federation 5, cf. 236 f.
(37) ... كذا في الأصل: ولعله (القس) طانيوس سعد، مؤسس مدرسة الشويفات الوطنية (ت 1953).
(38) ... World Student Christian Federation 5 cf. 6f.
(39) ... cf. Penrose 204 ff.
(40) ... ثخلي الدكتور مصطلى الخالدي عن الرئاسة في جمعيتي الشبان المسلمين والشابات المسلمات فيما بعد للانصراف إلى رئاسة مدرسة التمريض الوطنية التي أنشأها هو، وللسهر على المستشفى الذي أسسه.
(41) ... Penrose 204
(42) ... Penrose 301.
(43) ... الكلام هنا للدكتور عمر فروخ.
(44) ... انظرها في: (ص 104-105) من الكتاب. (س).
(45) ... الشيخ محمد عبده له انحرافات خطيرة نتيجة تعظيمه للعقل على حساب الشرع، ومحاولته تطويع الإسلام وأحكامه لأهواء العصر. انظر: "العصرانية قنطرة العلمانية" لمعد هذا البحث. (س).
(46) ... الصواب أن راكب القطار إذا لم يستطع أن يقيم شروط الصلاة فإنه يؤخرها حتى ينزل. إلا إذا خشي فوات الوقت فإنه يصليها مستقبلاً القبلة في أول صلاته ثم لا حرج عليه لو تغير اتجاهه؛ لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم). (س).
(47) ... Penrose 39
(48) ... ibid, 8, 36, 37 etc.
(49) ... ibid. 83. F.
(50) ... Penrose 46.
(51) ... Danby 31 etc.
(52) ... Penrose 135 f.
(53) ... Penrose 137 f.; ct. Biss (R) 331; Jessup 788
(54) ... Penrose 139.(69/131)
(55) ... نعم، إذا كان علماً دنيوياً تشترك فيه جميع الأمم. لكن الجامعة –كما هو معلوم- لم تعن بهذا العلم أصلاً. (س).
(56) ... الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الأزهر.
(57) ... المؤامرة على التعليم والمعلم، حسن جودة وآخرون ص 3 دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، جمهورية مصر العربية 1993م .
(58) ... اختراق العقل المصري، د.رفعت سيد أحمد ص 10،18،19، مجلة لواء الإسلام، عدد جمادى الأولى سنة 1408هـ.
(59) ... كتاب المعونة الأمريكية لمن؟ مصر أم أمريكا، دينا جلال ص 84 من سلسلة كتاب الأهرام الاقتصادي سنة 1988م، القاهرة (رسالة ماجستير: جامعة القاهرة).
(60) ... مجلة الهدى –28 سبتمبر- عام 1957م.
(61) ... محمود حلمي مصطفى (دكتور) – سياسة الولايات المتحدة نحو الباشوية المصرية (1832م-1881م) رسالة دكتوراه (غير منشورة)- جامعة القاهرة، 1962م. ص/282.
(62) ... نفس المصدر .
(63) ... أديب نجيب – المرجع السابق. ص/ 196.
(64) ... عبد المنعم الدسوقي الجميعي (دكتور) –الجامعة المصرية والمجتمع (1908م-1940م)، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1983م. ص/ 25.
(65) ... محمود حلمي مصطفى (دكتور) – المصدر السابق. ص/ 280.
(66) ... رينا هوج –"الأستاذ الجليل بين مرسلي وادي النيل" تاريخ الدكتور القس يوحنا هوج. القاهرة، 1917م. ص.126-127.
... وانظر كذلك: أديب سلامة –المرجع السابق. ص/ 152-153.
(67) ... أستاذ أصول التربية – جامعة طنطا .
(68) ... Altbach, Philip G., & Kelly, Gail P., Education and Colonialism New York: Longman, 1988, p.35.
(69) ... Mazrui, Ali A. “The African University as Multinational Corporation problems of penetration and Dependency” in Ibid, p,333.
(70) ... أيف أود. "غزو العقول: الجهاز الأمريكي لتصدير الثقافة" عرض وتقديم رضوى عاشور، المواجهة، الكتاب الثاني، فبراير 1984، ص 136.(69/132)
(71) ... Murphy, R. Lawrence The American University in Cairo: 1919-1987. Cairo: The American University in Cairo press, 1987, p,4 ...
ويود الباحث أن يسجل اعتماده بشدة على كثير من المعلومات المتعلقة بتطور الجامعة الأمريكية على هذا المؤلف، ومن المهم أيضاً الإشارة إلى دراسة رفعت سيد أحمد "اختراق العقل المصري: الجامعة الأمريكية والبحوث المشتركة" المنشورة في القاهرة عام 1985م.
(72) ... لينوار تشامبرز. سياسة الولايات المتحدة الأمريكية إزاء مصر 1830م-1914م. ترجمة ودراسة وتعليق فاطمة علم الدين عبد الواحد، مراجعة يونان لبيب رزق. القاهرة المصرية الهيئة المصرية العام للكتاب 1987م، ص177-1978.
(73) ... Murphy, R. Lawrence Op, Cit.,.
(74) لينوار تشامبرز رايت، مصدر مذكور، ص 186. ...
(75) المصدر السابق، ص 268.
(76) ... نفس المصدر، ص 186.
(77) ... Murphy, R. Lawrence, op, Cit, pp. 4-5
(78) ... Ibid, p,5
(79) ... Ibid, p,5
(80) ... Ibid, p,5
(81) ... لينوار تشامبرز رايت، مصدر مذكور، ص 267.
(82) ... Muphy, R. Lawrence, op. Cit, p,1
(83) ... Ibid,pp. 14-16
(84) ... Ibid, p.10
(85) ... Ibid, p. 14
(86) ... Ibid, p, 23
(87) ... Ibid, pp. 26-27
(88) ... Ibid, pp. 28-29
(89) ... Ibid, p, 25
(90) ... The College of Arts and Sciencces of the American University at Cairo, 1921-1922. Cairo: American University, 1921, pp. 1-2-6-8.
(91) ... Murphy, R. Lawrincce, Op. Cit p, 32
(92) ... Watson, C.R. “Memorandum to the Committee on Education Conceerning Arthur Jeffery”, May 17. 1922, Watson paapers, AUCA.
(93) ... Report of the Committee on Education, October 26, 1920, Appendix C.
(94) ... الأخبار ، 24 إبريل 1985.
(95) ... Murphy, R. Lawrence, Op Cit, pp. 198, 200.
(96) ... Ibid, p. 236
(97) ... Ibid, p, 239
(98) ... Ibid, p, 242
(99) ... Ibid, p, 206
(100) ... Ibid, pp. 206-207
(101) ... Ibid, p, 208(69/133)
(102) ... Ibid, p, 209
(103) ... Ibid, p, 209
(104) ... أمينة رشيد. "تقرير فرنسي عن التواجد الثقافي الأمريكي في مصر" المواجهة، الكتاب الثالث، نوفمبر 1984م، ص 33.
(105) المصدر السابق، ص 32-34.
(106) ... Murphy, R. Lawrence, Op. Cit, p, 239
(107) ... أمينة رشيد. مصدر مذكور ، ص 34.
(108) ... Murphy, R. Lawrence, Op. Cit, p,226
(109) ... Ibid, p, 227
(110) ... Ibid, p, 227
(111) ... Ibid, p, 255
(112) ... Ibid, p, 228
(113) ... Ibid, p, 228
(114) ... Ibid, p, 258
(115) ... لطيفة الزيات: "شبكة أبحاث الشرق الأوسط الولايات المتحدة أداة السيطرة على شعوب المنطقة" المواجهة، الكتاب الثاني، فبراير 1984، ص100.
(116) أمينة رشيد، مصدر مذكور، ص 34.
(117) ... المصدر السابق ص 34.
(118) ... Murphy, R. Lawrence, Op. Cit, p, 2245
(119) ... Ibid, p, 245
(120) ... Ibid, p, 267
(121) ... إيف أور، مصدر مذكور، ص 34-136.
(122) ... Murphy, R. Lawrence, Op. Cit, p, 97
(123) ... Ibid, pp, 89-100
(124) بل الإسلامية ! (س).
(125) ... في عام 1916م تقدم تشارلز واطسن أول رئيس للجامعة بطلب لسلطة الاحتلال وليس وزارة المعارف في مصر؛ حيث كانت الامتيازات الأجنبية تخول الأجانب فتح مدارس وإقامة أنشطة دون الرجوع إلى الحكومة!.
(126) ... بالطبع كانت حرية التعبير فقط في الإطار المرسوم من الجامعة بعناية أما ما يخالف ذلك فقد كان للتصرف معه أساليب ملتوية وقاسية؛ فالجامعة وإن تبنت ظاهراً الروح الليبرالية إلا أنها ما زالت تحتفظ لنفسها بمساحة يحظر الاقتراب منها وهي القضايا النصرانية والتبشير والإجبار على دراسة الإنجيل، لدرجة أن الجامعة خيرت الطلاب بين قبول هذه المواد وبين ترك الجامعة.
(127) ... انظر للفائدة: رسالة "العصرانية قنطرة العلمانية" لمعد هذا البحث. وهي منشورة في موقع "صيد الفوائد" على شبكة الأنترنت. (س).(69/134)
(128) ... قدمت مؤسسة فورد منحة قدرها 236 ألف دولار، كما قدمت وكالة التنمية الدولية منحة مالية قيمتها 800 ألف دولار لخدمة مشروعات البيئة المصرية.
(129) ... بل تدميره ! (س).(69/135)
(وقفات مع كتابه الأخير "ثورة في السنة النبوية")
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) (1) .
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "تلا رسول الله هذه الآية -ثم قال صلى الله عليه وسلم-: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم"(2).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل (فيتبعون ما تشابه منه) أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه"(3).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
فقد صدر للدكتور غازي القصيبي هذه الأيام كتيب صغير تحت عنوان مثير؛ هو "ثورة في السنة النبوية" !، ولا أدري سبب اختياره هذا العنوان الغريب رغم أنه لا يناسب مضمون كتيبه؛ الذي هو مجرد أحاديث قليلة يعرفها صغار الطلبة عندنا، انتقاها الدكتور غازي من كتاب (جامع الأصول) لابن الأثير، ثم علق على كل واحد منها تعليقاً موجزًا ربما لم يستغرق منه يوماً أو بعض يوم!(70/1)
ولعل سبب هذا ما عودنا عليه الدكتور من حبٍ للإثارة والمخالفة في كثير من كتاباته؛ لا سيما ما يتعلق منها بالأمور الشرعية، التي لا زال الدكتور مصرًا على الخوض فيها رغم أن ثقافته وتخصصه لا يؤهلانه لهذا الخوض، الذي كان الأجمل بالدكتور أن يدعه لغيره من علماء الشريعة؛ لاسيما وهو ما فتئ يردد بين حين وآخر وجوب احترام التخصص، ويوجه نصيحته الشهيرة للعلماء لدينا بأن يلتزموا بذلك ! قائلاً لهم : "نتمنى على علمائنا الكرام أن يبقوا في مجالات تخصصهم، وأن لا يزجوا بأنفسهم في بحار السياسة وهم لا يحسنون السباحة فيها.. حتى لا يغرقوا ويُغرقوا شبابنا الحائر معهم"(4) فالدكتور إذاً أولى من عمل بنصيحته هذه.
وكتيب الدكتور هذا حمده البعض عليه لكونه يصدر فيه عن أقواله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يؤكد التطور الملحوظ لكتاباته والاتجاه بها نحو الخضوع لنصوص الكتاب والسنة بعد أن جال يمينًا ويسارًا. وهو أمر لا شك يستحق الحمد والثناء والدعاء لصاحبه بالتوفيق، والحث على الاستزادة من ذلك؛ ليتحقق فيه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، لكني أرى أن هذا المسلك الجديد للدكتور وإن كان محمودًا إلا أنه يستحق التقويم والمناصحة أكثر من كتاباته الأخرى، لكونه أصبح يتكئ على نصوصٍ من الكتاب أو السنة يفهمها بغير فهم العلماء –كما سيأتي- ثم ينشرها في كتيباته التي لها صداها بين قرائه؛ فيزلوا عن الحق، وهنا مكمن الخطر.
وهذا ما حدث في كتيبه (ثورة في السنة النبوية)، حيث أورد –هداه الله- بعض الأحاديث النبوية الصحيحة ثم (جيرها) لصالح أفكاره وآرائه المخالفة التي لم يتخلص منها بعد، لاسيما ما يتعلق منها بموضوع (المرأة) –كما سيأتي- .
وقد كانت لي معه هذه الوقفات التي يحسن بقارئ كتابه أن يطلع عليها، لكي يسلم من زلاته:
تلخيص لمحتويات كتيب الدكتور:(70/2)
احتوى كتيب الدكتور على سبعة أحاديث مع التعليق عليها؛ هي باختصار كالتالي:
1- الحديث الأول (ص 11-16): حديث "ابن اللتبية" في النهي عن الرشوة، وقد أجاد الدكتور في التحذير منها.
2- الحديث الثاني (17-23) حديث غزو أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت –رضي الله عنهما- وفهم منه الدكتور أن الإسلام يجيز دخول المرأة العسكرية !! وستأتي مناقشته في هذا –إن شاء الله-.
3- الحديث الثالث (ص 25-30): حديث الإشهاد على الزنا بأربعة. وعلق عليه بأن المتهم بريئ حتى تثبت إدانته.
4- الحديث الرابع (ص 31-38): حديث الرجل الذي اطلع على بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يفقأ عينه. علق عليه الدكتور بوجوب احترام خصوصيات البيوت وعدم التجسس عليها(5).
5- الحديث الخامس (ص 39-46): حديث الرجل الذي سقى كلبًا فغفر الله له -وأحاديث أخرى مشابهة له- علق عليها الدكتور ببيان وجوب الرفق بالحيوانات.
6- الحديث السادس (ص 47-53): حديث عدم النهي عن العزل. وقد أجاد الدكتور في نقده للدعوة إلى منع النسل التي تصادم الفطرة، ثم بين أن هناك حالات يجوز فيها (تنظيم النسل) ناقدًا من يزعمون أن الإسلام يمنعه(6) .
7- الحديث السابع (ص 55-62): حديث "إن الله يعذب الذين يُعَذِّبون في الدنيا" وقد وفق الدكتور في تعليقه عليه بحملة عنيفة على من يمارسون تعذيب البشر.
الوقفات :
الوقفة الأولى: أن الدكتور أشار في مقدمة كتيبه أن مرجعه في الأحاديث التي انتقاها كتاب (جامع الأصول) لابن الأثير، وهو –كما يقول- (ص8) "من نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية" !
فهل معنى هذا: أن الدكتور يريد أن يُلزم العلماء لدينا بما جاء في كتاب ارتضوه وأشرفوا على طبعه ؟! أو أن يحرجهم أمام القراء بأنهم يشرفون على أحاديث صحيحة لا يفتون بها ويتحاشونها ؟! الله أعلم.(70/3)
مع أن هذا لا يلزمهم –إن كان هذا ظن الدكتور-؛ لأنهم يفهمون أقواله صلى الله عليه وسلم فهم العلماء الراسخين الذين يضعونها موضعها ولا يضربون بعضها ببعض، كحال أصحاب القلوب الزائغة –كما سيأتي إن شاء الله تعالى-.
الوقفة الثانية: أن الدكتور –كما سبق- قد أجاد في بعض تعليقاته على الأحاديث التي انتقاها، إلا أنه شان كتيبه بسوء فهمه لحديث غزو أم حرام وزوجها –رضي الله عنهما-، وحَمَّله ما لا يحتمل، ووجهه الوجهة التي يريد، عندما استنبط منه جواز دخول المرأة المسلمة للعسكرية!، مؤيدًا هذا الجواز بلغة ساخرة تلمز دعاة الفضيلة بأنهم "جماعة الجنابة"(7) ! كما يقول مدعيًا عليهم بأن النساء عندهم "مخلوقات دون الرجال، ليس لهن من دور سوى الإنجاب، لا يجب أن يتحركن من دار الأب أو الزوج إلا إلى القبر.." !! (ص 21-22) وأنهم يريدون "أن يحرموا بعقل المرأة من كل علم، وفكرها من كل ثقافة، وأن يشلوا كل ما منحها الله سبحانه وتعالى من طاقات وإمكانيات ومواهب، لتبقى تمارس دورًا يتيماً يبدأ بالجنس وينتهي بالجنس" ! (ص 22).
أما هو ومن معه من أنصار المرأة –كما يزعم- فإنهم "يذهبون إلى أنه من حق المرأة أن تتعلم إلى أقصى درجات التعليم، وأن تمارس وجوه الإبداع الفكري والعلمي كافة، وأن تكون عضوًا فعالاً في حياة المجتمع الثقافية والسياسية" (ص22).
قلت: يقع الدكتور ومن يوافقه ممن يدعون أنهم أنصار المرأة في مشكلات ثلاث عند بحثهم لقضايا المرأة:
الأولى: أنهم اتخذوا من النموذج الغربي للمرأة مقياساً لهم عند النظر إلى نساء المسلمين، فما تقوم به تلك النسوة الغربيات ينبغي على نسائنا أن يحاكينه، وعلى ولاة أمورهن أن يسهلوا ويشجعوا هذه المحاكاة، وإلا فإن الدكتور ومن معه سيلمزونهم بأنهم من "جماعة الجنابة" !(70/4)
أما جواز هذه الأعمال التي تقوم بها نسوة الغرب من عدمه أو وضع الضوابط الشرعية له فهذا لا مكان له عند الدكتور وجماعته. وكتاباتهم شاهد على هذا(8).
الثانية: أنهم عندما تبنوا النموذج الغربي وتشبعوا به، لم يقابلوا ذلك بفهم صحيح للنموذج الشرعي في قضايا المرأة، إنما دمغوه بالتخلف والظلم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء النظر في أقوال أهله وأدلتهم وأحوالهم، ولهذا تجدهم يتقولون عليهم ما لم يقولوه، ويبهتونهم بما ليس فيهم، كما فعل الدكتور –هداه الله- في كلامه السابق عندما كذب عدة كذبات كل واحدة أكبر من أختها على دعاة الفضيلة ورماهم بما هم بريئون منه. فتأمل ما ذكره وقارنه بحال أهل الإسلام ودعاة الفضيلة، هل تراه صدق في شئ منه ؟!
-فهل صحيح بأنهم –أي دعاة الفضيلة- يرون بأن النساء "ليس لهن من دور سوى الإنجاب"؟ (وأين أعمالهن الأخرى التي يعلمها الجميع؟! أم أنها لا ترضيك؟)
-أو أنهن –أي النساء- لا يجب أن يتحركن من دار الأب أو الزوج إلا إلى القبر" ؟! (وكل هذا الخروج شبه اليومي هل هو إلى المقبرة؟!)
-أو أنهم –أي دعاة الفضيلة- "ينزعون إلى أن يحرموا عقل المرأة من كل علم، وفكرها من كل ثقافة" ؟!
ولاحظ تعميم الدكتور: (كل علم) و(كل ثقافة) ! أي حتى العلم الشرعي والثقافة الشرعية !
-أو أنهم يرون أن دور المرأة "يبدأ بالجنس وينتهي بالجنس" ؟! (وأظن هذا من باب إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه!)(9) ثم تأمل ما أضفاه الدكتور من فضائل على (مدعي نصرة المرأة) مستخدماً في ذلك الألفاظ المطاطة العامة التي هي في حقيقتها من زخرف القول الذي يجيده كل أحد. ولو تفكر الدكتور لعلم أنها بهذا العموم تنطبق على خصومه أيضاً! ولكن بضوابطهم الشرعية .(70/5)
فهو يقول عن (الأنصار!): بأنهم "يذهبون إلى أنه من حق المرأة أن تتعلم إلى أقصى درجات التعلم". وهذا ما يذهب إليه دعاة الفضيلة ! ولكن بشرط أن تكون العلوم التي تتلقاها مفيدة (دينياً أو دنيوياً)، وأن لا يكون هناك اختلاط.
ويقول: "وأن تمارس وجوه الإبداع الفكري والعلمي كافة" وهم كذلك يقولون بهذا مالم يكن فيه مخالفة شرعية، كأن يكون الإبداع أن تتعلم الرقص أو التمثيل!، مثلاً.
ويقول: "أن تكون عضواً فعالاً في حياة المجتمع الثقافية والسياسية" وهم كذلك يقولون بهذا ما دام بضوابطه الشرعية التي تتبين عند الدخول في تفاصيل هذه الحياة التي يطمح إليها الدكتور ولا تفيدها لغته العمومية .
المشكلة الثالثة التي يقع فيها أدعياء نصرة المرأة عندما يتعرضون لقضاياها أننا نشاهد (تهويلاتهم) و(دعاواهم) الكثيرة لا تتوافق كثيرًا مع سلوكهم الشخصي تجاه نسائهم ومن هن تحت ولايتهم، والله يقول (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم).
إنما تجد دعواتهم منصبة على الآخرين لكي يقتنعوا بأفكارهم ويبدؤا بتنفيذها على أرض الواقع قبل أن يقوم بذلك هذا الداعي أو المبشر.
وهذه صفة قد خبرناها فيمن سبقهم من دعاة التغريب، فهذا قاسم أمين مثلاً يذكر عنه الصحفي مصطفى أمين بأن زوجته كانت تغطي وجهها إلى أن توفي ! (10)
الوقفة الثالثة: أن الدكتور غازي –هداه الله- صاحب سابقة ومهارة في التقاط وتصيد ما يراه يؤيد هواه، سواء كان حديثاً صحيحاً أم موضوعاً ! لا فرق، المهم أنه يوصله إلى مبتغاه، ويتمكن من خلاله من إحراج خصومه الذي لا يخضعون لشيء سوى للنص الشرعي.(70/6)
فإن كان الدكتور –في رسالته هذه- قد اقتنص حديثاً صحيحاً فهمه فهماً خاطئاً متوهماً أنه يشهد لما يريد الوصول إليه، فإنه قبل عشرين عاماً تقريباً قد التقط قصة مكذوبة على عمر –رضي الله عنه-؛ لأنه وجد فيها دليلاً على مشروعية الاختلاط! –كما يزعم- وقد ردّ عليه العلماء والباحثون حينها وبينوا له أن القصة مكذوبة على أمير المؤمنين –رضي الله عنه- فإليك قصة الدكتور القديمة مع التعليق عليها .
قال الدكتور في مقالٍ له بعنوان "ورقة عائلية من تاريخ الطبري"(11): ((في كتابه الشهير "تاريخ الرسل والملوك" يروي الطبري قصة مؤثرة عن سيدنا عمر بن الخطاب تصوره في جانب آخر من جوانب شخصيته المتقدة بالعظمة. كانت الجيوش الإسلامية تكتسح الإمبراطوريات وكان سيدنا عمر رضي الله عنه وقتها رئيساً لأعظم دولة على وجه الأرض. والقصة تتحدث عن قائد من قواد عمر اسمه سلمة بن قيس أرسل رجلاً من قومه برسالة إلى أمير المؤمنين .
ولندع هذا الرجل يروي لنا القصة: " ... فاتبعته فدخل داراً ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت. فأذن لي، فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفاً فنبذ إليّ بإحداهما، فجلست عليها، وإذا بهو في صُفّة فيها بيت عليه ستير فقال: يا أم كلثوم غداءنا! فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا ؟
قالت: إني أسمع عندك حس رجال؟ قال: نعم ولا أراه من أهل البلد.. قالت : لو أردتَ أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته! قال: أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر! فقال: كل، فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا..".
ما الذي نستخلصه من هذا النص، كما تقول الكتب المقررة والامتحانات المدرسية ؟
نستخلص منه ما يأتي :(70/7)
-أن سيدنا عمر لم يشعر بأي حرج وهو يدعو زوجته لتشاركه الغداء مع ضيف لا يعرفه ... إلى أن يقول: "ماذا يقول السادة الكرام الذين يتصورون أن المرأة مخلوقة من الدرجة الثانية، وربما الدرجة العاشرة)).
قلت: هذا ما ذكره الدكتور صاحب الدرجة الأولى في التعامل مع المرأة! لأن هذه الدرجة عنده –كما هو مفهوم كلامه- لا يحوزها إلا من تخالط زوجته الرجال وتشاركهم على مائدة الطعام. والدليل هذه القصة المكذوبة.
والغريب أنها قد كذبت على عمر –رضي الله عنه- الذي كانت غيرته سبباً في نزول آية الحجاب! فتأمل .
وهذا مما يزيد القصة وهناً.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله- رادًا على استدلال الدكتور بهذه القصة الموضوعة : "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد اطلعت على القصة المنقولة من تاريخ ابن جرير الطبري –رحمه الله- عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال ما نصه:
(فاتبعته فدخل داراً ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفاً، فنبذ إلي بإحداهما فجلست عليها وإذا بهوٌ في صفة فيها بيت عليه ستير فقال: يا أم كلثوم غداءنا، فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا. قالت: إني أسمع عندك حس رجل قال: نعم ولا أراه من أهل البلد، قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته، قال: أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر ؟! فقال: كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا) اهـ.
وهذه القصة باطلة رواية ودراية:(70/8)
أما الرواية: فلأن مدارها على جماعة من الضعفاء، وبعضهم متهم بالكذب، وتنتهي القصة إلى مبهم لا يعرف من هو ولا تعرف حاله وهو الذي رواها عن عمر؛ وبذلك يعلم بطلانها من حيث الرواية .
وأما من حيث الدراية فمن وجوه:
1- شذوذها ومخالفتها لما هو معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه وشدته في الحجاب وغيرته العظيمة وحرصه على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه حتى أنزل الله آية الحجاب.
2- مخالفتها لأحكام الإسلام التي لا تخفى على عمر ولا غيره من أهل العلم، وقد دل القرآن والسنة النبوية على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه يسبب الفتنة ودواعيها.
3- ما في متنها من النكارة الشديدة التي تتضح لكل من تأملها، وبكل حال فالقصة موضوعة على عمر بلا شك للتشويه من سمعته أو للدعوة إلى الفساد بسفور النساء للرجال الأجانب واختلاطهن بهم، أو لمقاصد أخرى سيئة. نسأل الله العافية.
ولقد أحسن الشيخ أبو تراب الظاهري، والشيخ محمد أحمد حساني، والدكتور هاشم بكر حبشي فيما كتبوه في رد هذه القصة وبيان بطلانها وأنه لا يصح مثلها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جزاهم الله خيراً وضاعف مثوبتهم وزادنا وإياهم علماً وتوفيقاً وجعلنا وإياهم وسائر إخواننا من أنصار الحق"(12).
قلت: هذا ما كان من الدكتور قديماً. فهل تغير مسلكه بعد كل هذه السنين؟! أقولها للأسف: لا ! فالمسلك هو هو لم يتغير حيث (الإيمان) و(الاعتقاد) بقضايا جاءت أدلة الشرع بتحريمها، ثم الاجتهاد في البحث عن ما يسوغها أمام المسلمين لكي يقبلوها و(تمرر) في مجتمعاتهم.
الأمر الذي تغير فقط هو أن الدكتور بعد أن كان يلجأ إلى القصص المكذوبة (لدعم) أفكاره أصبح يلجأ إلى أحاديث صحيحة بعد أن يلوي أعناقها ويُحملها ما لا تحتمل.(70/9)
والسبب أن الدكتور علم أن القصص المكذوبة لا تروج على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم في هذا الزمان، وسيقف لها العارفون بالمرصاد تكذيباً وتوهيناً .
ولهذا فقد أصبح السلاح الجديد الذي لن يجرؤ أحد على تكذيبه هو اللجوء إلى الأحاديث الصحيحة بعد أن يصرف معانيها لصالح أهدافه وأفكاره.
الوقفة الرابعة: أن الدكتور –في تعليقه على حديث أم حرام- وقع فيما حذر منه الله تعالى من النهي عن اتباع المتشابه وترك المحكم، ومن ذلك إقامة الحالات الجزئية مقام الأصول الكلية لينتج عن هذا الإيمان ببعض نصوص السنة دون بعض. ولو فهم الأحاديث النبوية بفهم علماء الأمة لما وقع في هذا الخلل والزيغ.
يقول الشاطبي –رحمه الله-: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال، والدليل على ذلك أمور ... -ثم ذكرها- إلى أن قال: وهذا الموضع كثير الفائدة، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان؛ فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة. فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي؛ فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الاشكالات في مهاوٍ بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين؛ لأنه اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات"(13) .
قلت: وهذا ما وقع فيه الدكتور؛ حيث فهم من قصة خروج أم حرام بنت ملحان للغزو مع زوجها عبادة بن الصامت –رضي الله عنهما(14)- أن الإسلام يجيز دخول المرأة المسلمة للعسكرية !!
متغافلاً –هداه الله- عن عشرات النصوص الشرعية التي يعلمها آحاد المسلمين وتبين أن الجهاد غير واجب على المرأة المسلمة.(70/10)
ومنها : حديث عائشة رضي الله عنها –في صحيح البخاري- استأذنتُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال: "جهادكن الحج"(15). وفي رواية عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: سأله نساؤه عن الجهاد فقال: "نِعْم الجهاد الحج"(16)
فدل الحديثان على أن الجهاد غير واجب على النساء.
وورد في الحديث الصحيح أن أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟ فأنزل الله (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) (17). فدل الحديث على أن عدم وجوب الجهاد على النساء هو مما تقرر عند الرعيل الأول استجابة وامتثالاً لأقواله صلى الله عليه وسلم التي سبق شيء منها.
وعلى هذا استقرت كلمة علماء المسلمين –رحمهم الله-(18) قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية،والسلامة من الضرر، ووجود النفقة"(19) .
ولاحظ أن المرأة لو خرجت للجهاد الشرعي فإنها ستخرج مع محرمها مستترة ملتزمة بالحجاب ومع هذا قيل ما سبق في حقها؛ وهو عدم وجوب الجهاد عليها.
فما ظنك بعد هذا بحالها في العسكرية؟! حيث ستتراكم عليها المحرمات؛ من تبرج، ولباس فاضح، واختلاط، وخلوات محرمة، وسفر بلا محرم ... إلخ المحرمات والمفاسد التي يدركها كل عاقل تأمل متطلبات العسكرية في بلاد العالم. مما يجعل حرمة هذا الأمر مما لا يشك فيها مسلم يعرف أحكام دينه؛ إلا أن يكون من أهل الشهوات ومحبي نشر الفساد بدعوى الإصلاح.
ورحم الله الشيخ أحمد شاكر الذي قال بعد أن صحح حديث أم سلمة السابق "يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو" :"وهذا الحديث يرد على الكذابين المفترين –في عصرنا- الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، فيخرجون المرأة عن خدرها وعن صونها وسترها الذي أمر الله به؛ فيدخلونها في نظام الجند"(20).(70/11)
الخلاصة: أن الجهاد غير واجب على المرأة المسلمة، ولكن إن تطوعت للخروج مع زوجها أو محرمها وهي بكامل حجابها فإنها لا تمنع من ذلك، وعلى هذا تحمل الوقائع التي ورد فيها أن فلانة خرجت للغزو أو قاتلت.
قال الدكتور عبد الرب نواب الدين في كتابه "عمل المرأة وموقف الإسلام منه" (ص 250): "كثيراً ما يتخذ بعض أدعياء العلم من بعض الأحداث دليلاً على وجوب الجهاد على النساء كوجوبه على الرجال.."
فتوى اللجنة الدائمة في جهاد المرأة :
قالت اللجنة في فتواها رقم (9533):
"س: هل جهاد المرأة غير واجب؛ أكان جهاد الدعوة أو جهاد الكفار؟
ج: ليس جهاد الكفار بالقتال واجباً على المرأة، ولكن عليها جهاد بالدعوة إلى الحق، وبيان التشريع، في حدود لا تنتهك فيها حرمتها، مع لبس ما يستر عورتها، وعدم الاختلاط بالرجال غير المحارم، وعدم الخضوع بالقول والخلوة بالأجانب، قال الله تعالى في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واذكرن ما يُتلى في بيوتكنَّ من آيات الله والحكمة) (21)، وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة"، رواه أحمد وابن ماجه، وثبت عنها أيضاً أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور"، رواه أحمد والبخاري.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو/ عبد الله بن غديان نائب رئيس اللجنة/ عبد الرزاق عفيفي الرئيس/عبد العزيز بن عبدالله بن باز(70/12)
وقال الأستاذ حافظ محمد أنور: "أما تجنيد النساء في العصر الحاضر حسب التنظيم العسكري فلا يجيزه الإسلام، فلا تجند الفتيات ضمن الفتيات ليقمن بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجال في الجيش ؛ لأنه مخالف لتعاليم الإسلام، حيث يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء، وقد يكون المدربون من الرجال، ثم يكون المبيت بعيدًا عن الأهل، وهذا محادة لله ولرسوله، وكذلك الأمر في الشرطة وفي الجهات الأمنية الأخرى"(22) .
الشيخ علي الطنطاوي وإدخال المرأة المسلمة للعسكرية:
وقال الشيخ علي الطنطاوي –رحمه الله- مبيناً خطوات دعاة (تغريب) المرأة المسلمة في بلاد الشام: "ثم اخترعوا نظام المرشدات وهو مثل نظام الكشفية للأولاد، وصرن يذهبن في رحلات قصيرة في قرى دمشق، ثم جاءت المصيبة التي أنست ما قبلها من المصائب، وهي نظام الفتوة، أي إلباس الطالبات لباس الجند، وتدريبهن على حمل السلاح، لماذا؟ وهل انقرض الرجال حتى نقاتل بربات الحجال؟ ولمن تترك إدارة البيوت وتربية الأطفال؟
لماذا والشباب يتسكعون في الطرقات ويزدحمون على أبواب السينمات، فندع الشباب لهذا ونقاتل أعداءنا بالبنات ؟!"(23)
وأظن الدكتور غازي –الذي يدعو إلى دخول المرأة للعسكرية- يعلم الأعداد الهائلة من الشباب الأشداء الذين يرجعون بخفي حنين عند طلبهم الالتحاق بالكليات العسكرية لدينا نظرًا لعدم وجود أماكن لهم.
فكيف يغض الدكتور طرفه عن هؤلاء الألوف من الشباب العاطلين وبدلاً من أن يقترح التوسع في قبولهم لدى العسكرية يدعو إلى الاستعانة بدلهم بفتيات؟! .
أم أنه في سبيل إخراج هذه المرأة من خدرها، والعبث بكرامتها تهون كل الأمور .
مفاسد دخول المرأة الغربية للعسكرية :(70/13)
يقول الدكتور محمد علي البار –وفقه الله-: "وحتى في أقسام البوليس تتعرض المرأة للاعتداءات الجنسية.. وقد قامت شرطة واشنطون بتعيين مائتي امرأة في أوائل السبعينات .. واستخدمت المرأة كشرطية تعمل ليل نهار وصاحب دلك حملة دعائية ضخمة لإثبات مساواة المرأة بالرجل تحت برنامج مارشال.
وبعد ثلاث سنوات بدأت فضائح هذا البرنامج، ففي أكتوبر 1975م نشرت الوشنطن بوست مجموعة مقالات تفضح فيها استغلال ضباط البوليس للمرأة العاملة في الشرطة جنسياً وبدأت تذكر أمثلة كثيرة؛ منها ما قاله الضابط بيجي جاكسون لمرؤوسته "يجب أن تسمحي لي بمضاجعتك في مقابل إجازة يوم واحد" وذكرت المجلة أن اثنتي عشرة شرطية قلن إنهن تعرضن للابتزاز الجنسي ... ولكنهن طلبن أن لا تنشر أسماءهن.. واعترف ضابطان بأنهما قد سمعا شرطيتين تشتكيان من الابتزاز الجنسي الذي يواجهنه من رؤسائهن ولكنهما لا يستطيعان أن يفعلا أي شيء طالما أن المشتكيات يرفضن التوقيع على الشكاوى وهن يرفضن ذلك خوفاً من انتقام رؤسائهن.
وذكرت الضابطة بيني لولدن أن زميلها الضابط أوقف السيارة بجانب حديقة واشنطن وطلب منها أن تسافده ولكنها رفضت، فطلب منها أن تكتم الأمر وإلا انتقم منها.
وفي استفتاء لـ 333 شرطية قالت نصفهن بأنهن تعرضن للاعتداء الجنسي من رؤسائهن وأن اللاتي لا يستجبن ولا يرضخن لهذه الرغبات يلاقين عقوبات مختلفة من رؤسائهن، بينما أولئك اللائي يستجبن ويرضخن يعاملن معاملة طيبة وتخفف عنهن الواجبات الثقيلة.
ويقول أحد كبار الضباط في (وكالة التحقيقات الفيدرالية) F . B . I . بعد أن أدخلوا النساء في تدريبات الضباط:
"إذا وضعت ضابطتين تحت التدريب في سيارة واحدة تعاركتا وإذا وضعت ضابطاً وضابطة تسافدا"!(70/14)
ويقول ضابط كبير آخر "إن أكثر شيء محطم في قوة البوليس هو مزاملة ضابط لضابطة وكذلك تؤدي تلك الزمالة إلى تحطيم أسرتيهما" (لأن الضابط أو الضابطة في الغالب متزوجان فإذا ما تخاللا وخانا العلاقة الزوجية أدى ذلك إلى فصم عرى الزواج).
وتقول لين فارلي: أن المتدربة في أقسام البوليس والمخابرات تتحول بسرعة من زميل في العمل إلى فرج تدور حوله النكت البذيئة والتعليقات الجارحة.. بل والاعتداءات الجسمانية".
وتقول الضابطة السابقة في بوليس واشنطن J.J. والبالغة من العمر 21 عاماً إنها قد طردت من البوليس عام 1976م لأنها قدمت شكوى باغتصابها من قِبل أحد الضباط، وقد قيل إن تلك الدعوى لا دليل لها وكاذبة وتسيء إلى سمعة البوليس.. هذا بالرغم من أنها قد حصلت من قبل على ثلاث ميداليات لإخلاصها وتفانيها في العمل ... -إلى أن قال الدكتور-:
"إن هذه الوقائع غيض من فيض.. وابتزاز العاملة جنسياً وخضوعها للقسر والإكراه والإجبار أمر شائع في جميع أنواع العمل ابتداء من الجامعات وانتهاء بالموتيلات والمطاعم، ولا يكاد يوجد اليوم أي عمل من الأعمال لا تتعرض فيه المرأة العاملة إلى الابتزاز جنسياً.." (24)
قلت: وبعد هذا البيان، فإن الذي يدعو إلى اشتراك المرأة المسلمة في العسكرية متتبعاً المتشابه فإنما هو من متبعي الهوى وأهل الزيغ الذين قال الله فيهم –كما سبق-(فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة)، قال الشاطبي –رحمه الله- عن هؤلاء بأنهم: "يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة، فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة، فليس نظرهم إذاً في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر من حكم بالهوى ثم أتى بالدليل كالشاهد له"(25)
الوقفة الخامسة: ذكر الدكتور (ص21) قضية حجاب المرأة المسلمة، وأن هناك من العلماء من يرى جواز كشف وجهها ويديها أمام الأجانب، وآخرين منهم لا يرون ذلك، مدعيًا أن النصوص ترجح مذهب الأولين!(70/15)
والذي ينبغي أن يعلمه الدكتور ومن يرى رأيه –قبل الدخول في حكم الحجاب- أنه لم يكثر الخوض في هذه المسألة سوى في العصر الحاضر، وذلك بعد أن وقعت كثير من بلاد المسلمين في أيدي المستعمرين الذين كانت مصلحتهم في إفساد المسلمين تقتضي إثارة هذه المسألة وتوجيه متابعيهم من أبناء المسلمين إلى بحثها والتأليف فيها؛ لأنهم يعلمون أنها مقدمة لما بعدها(26). وإلا فإن الأمة الإسلامية كانت مجمعة (عمليًا) على تغطية وجه المرأة عن الأجانب. يقول الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب"(27) ونقل ابن رسلان "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(28) .
ومما يؤكد هذا أنك لا تجد مسألة كشف الوجه من عدمه قد أخذت حيزًا كبيرًا في مصنفات الأئمة، ولم تستغرق جهدهم ووقتهم، بل لا تكاد تجد –فيما أعلم- مصنفًا خاصًا بهذه المسألة، ولو على شكل رسالة صغيرة، مما يدل دلالة واضحة أن هذه القضية من الوضوح بمكان، وأن عمل المسلمين كما هو قائم، يتوارثه الخلف عن السلف. وهذا التواتر العملي يدلنا أيضاً على طبيعة تلقي العلماء لهذه المسألة وأنهم يرشدون أمتهم لما فيه العفة والطهر والاستقامة على أرشد الأمور، وأفضل السبل.
أما أدلة وجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب فقد بينها كثير من العلماء المعاصرين في مصنفات خاصة بعد أن كثر الحديث في هذه القضية.
فمن هذه المصنفات :
1- "عودة الحجاب" بأجزائه الثلاثة، للشيخ (المصري) محمد بن إسماعيل.
2- رسالة "الحجاب" للشيخ أبي بكر (الجزائري).
3- "الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس" للشيخ (المصري) محمد أحمد البولاقي.
4- "إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" للشيخ (الهندي) صفي الرحمن المباركفوري.
5- "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" للشيخ عبد القادر (السندي).(70/16)
6- "معركة الحجاب والنقاب ... " رد على محمد الغزالي، للشيخ (المصري) أحمد محمود الديب.
7- "مهلاً يا صاحبة القوارير" للكاتبة (المصرية) يسرية محمد أنور.
وغير ذلك من المصنفات المتعلقة بهذه المسألة، وقد اقتصرت منها على بعض ما ألفه العلماء أو الكتاب الذين هم من غير بلاد الحرمين الشريفين(29)؛ لكي يعلم الدكتور ومن يتابعه أن القول بوجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب ليس خاصًا بعلماء هذه البلاد فقط كما قد يظنه البعض تلبيسًا أو مغالطة.
فليحذر المسلم ولتحذر المسلمة اللذان أقيمت عليهما الحجة بوجوب تغطية المرأة لوجهها أن تشملهما هذه الآية –إن هما خالفا أو عارضا هذا الحكم- : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)
وليعلم الدكتور بعد هذا أنه حتى من زل من العلماء المعاصرين وقال بجواز كشف الوجه؛ كالشيخ الألباني –رحمه الله- فإنه يرى أن تغطية المرأة لوجهها هو الأفضل.
يقول الشيخ الألباني: "نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه وإن كان جائزًا فستره أفضل"(30)
ويقول: "فمن حجبهما –أي الوجه والكفين- أيضاً منهن؛ فذلك ما نستحبه وندعو إليه"(31)
فتأمل قوله: "وندعو إليه" !
فهل يليق بمسلم بعد هذا أن يدعو نساء المؤمنين اللواتي سترن وجوههن إلى كشفها؟! وإن كان يرى جواز ذلك؛ لأنه بهذا ينقلهن من الفاضل إلى المفضول.
فكيف: وتغطية الوجه واجب لا مستحب –كما سبق- ؟!
لهذا كان الأولى بالدكتور –إن كان يرى جواز كشف الوجه- أن يعمل به في خاصة أهله ولا يدعو إليه، وأن يسخر جهوده لدعوة المتبرجات إلى ستر ما أبدينه من أجسادهن وشعورهن باتفاق الطرفين!
أسأل الله أن يجعلني والدكتور من الهداة المهتدين، غير الضالين ولا المضلين، وأن نكون مفاتيح خير مغاليق شر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه/ سليمان الخراشي(70/17)
alkarashi1@hotmail.com
(1) سورة آل عمران، الآية : 7
(2) ... أخرجه البخاري (4547).
(3) ... تفسير ابن كثير (1/353).
(4) ... جريدة صوت الكويت بتاريخ 20/5/1411هـ، وانظر: "القصيبي والمشروع العلماني" لمجموعة من الدعاة، ص 21.
(5) ... إلا أنه بالغ –كعادته- في قوله: "يعج العالم الإسلامي بجماعات تحطم الأبواب (!) وتدخل المنازل عنوة بحجة منع الرذيلة والدفاع عن الفضيلة، من دون أن تجد من يعاتبها، فضلاً عمن يفقأ عيونها!" (ص37). وهذا من التشنيع على رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين كان من حقهم على الدكتور أن ينافح عنهم ويشكر جهودهم في إقامة هذا الركن العظيم من الدين الذي هو سبب –بإذن الله- للفلاح ولحفظ الأمن واستقرار المجتمع. وما يحصل من بعضهم من أخطاء فإنها تعالج بالنصيحة وهذا ما يقوم به كبار العلماء لدينا –ولله الحمد-، انظر إن شئت شيئاً من نصائحهم لرجال الهيئة في كتاب "الستر على أهل المعاصي" للشيخ خالد الشايع –وفقه الله- (ص 185-195)، حيث أورد عدة توجيهات للشيخ ابن باز –رحمه الله- في هذا الموضوع.
(6) ... ولهيئة كبار العلماء فتوى في هذا الموضوع أجازت فيها تنظيم النسل إذا كان ذلك لضرورة محققة. وكذا مثلها للمجمع الفقهي الإسلامي. انظر ذلك في كتاب: "تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه" للدكتور عبد الله الطريقي (ص 572-574).
(7) ... لو تروى الدكتور لعلم أن كل رجل ذو عيال هو من "جماعة الجنابة" !، والدكتور لا شك منهم!
فإن عبت قومًا بالذي فيك فكيف يعيب الناس من هو أعور؟
فليت الدكتور تنزه عن هذا التنابز.
(8) ... إلا أن توافق الأدلة الشرعية نموذجهم فإنهم يوردونها تأييداً لموقفهم وإحراجاً لغيرهم، وإلا فإن الأصل هو نموذجهم. وصدق الله القائل عن مرضى القلوب (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا، أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله).(70/18)
(9) ... والمتابع للساحة يعلم بأن كثيرًا ممن يدعي نصرة المرأة هو في حياته الخاصة متلبس بهذه الأمور التي يلمز بها الآخرين، فهذا تركي الحمد –تلميذ الدكتور غازي!- مثلاً: يدبج المقالات الكثيرة في مناصرة المرأة –كما يزعم- ثم تجد دور المرأة في رواياته –التي تصور واقع حياته!- يبدأ بالجنس وينتهي بالجنس!
... وللدكتور غازي نصيب من هذا أيضاً في روايته "شقة الحرية" أو في حديثه عن أميرة القلوب "ديانا"! أو في أشعاره الكثيرة (كما في: القصيبي والمشروع العلماني، ص 14،15،62،63،64).
... والله يقول: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً).
(10) ... انظر: "من واحد لعشرة" لمصطفى أمين، ص 119 وما بعدها.
(11) ... نشره في مجلة اليمامة، العدد 684.
(12) ... مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/204-205). وانظر:"القصيبي والمشروع العلماني"، ص 77-78.
(13) ... الموافقات (4/8-12).
(14) ... كما في الرواية الأخرى للبخاري : "فتزوج بها عبادة بن الصامت، فخرج بها إلى الغزو". (فتح الباري 6/103، حديث 2894-2895).
(15) ... حديث رقم 2875 .
(16) ... حديث رقم 2876.
(17) ... أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح. (حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبو زيد، ص 77).
(18) ... انظر النقول عنهم في رسالة: "الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل" للشيخ سعد الحربي (ص 299-300).
(19) ... المغني (9/163).
(20) ... عمدة التفسير (3/157).
(21) ... سورة الأحزاب، الآية 34.
(22) ... ولاية المرأة في الفقه الإسلامي (ص 475-476)، وانظر: "المرأة بين الجاهلية والإسلام" لمحمد الناصر وخولة درويش.
(23) ... ذكريات الشيخ علي الطنطاوي (5/ 272-273).
(24) ... عمل المرأة في الميزان ( ص 193 – 197).
(25) ... الاعتصام (2/7)، وانظر: "دراسات في الأهواء والفرق والبدع" للشيخ ناصر العقل (ص 322-328).(70/19)
(26) ... يقول الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه "عودة الحجاب" (1/80): "لقد بدأت حركة تحرير المرأة على أيدي المتفرنجين، فقلدهم بعض الخطباء الجهلة والكتاب الفسقة، ونشبت المعركة أول ما نشبت حول (كشف وجه المرأة) أي السفور، وأقام العلماء الناصحون الدنيا وأقعدوها ليحبطوا تلك الدعوة إلى السفور، لا لأنه الحكم الراجح في المسألة فحسب، ولكن لأنهم فطنوا لحقيقة الخطة المدمرة التي تستهدف القضاء على المرأة المسلمة..".
(27) ... فتح الباري (9/325-326).
(28) ... نيل الأوطار للشوكاني (6/114).
(29) ... أما ما ألفه علماء هذه البلاد فهو كثير ولله الحمد، ومن ذلك: "الصارم المشهور" للشيخ حمود التويجري -رحمه الله-، "المجلد السابع عشر من فتاوى اللجنة"، "رسالة الحجاب" للشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-، "تنبيهات على أحكام تختص بالمؤمنات" للشيخ صالح الفوزان، "حراسة الفضيلة" للشيخ بكر أبو زيد –وهو من أهمها-، "زينة المرأة المسلمة" للشيخ عبد الله الفوزان، وغير ذلك من الكتب والرسائل.
(30) ... جلباب المرأة .. ، ص 28.
(31) ... السابق، ص 32.(70/20)
الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله
لما كان أصل الموالاة: الحب. وأصل المعاداة: البغض وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك ([1]). فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله. وأدلة ذلك كثيرة من الكتاب والسُّنَّة.
أما الكتاب فمن ذلك قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران: 28] ويقول تعالى : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم* قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) [سورة آل عمران: 31-32]
ويقول تباركت أسماؤه عن أهداف أعداء الله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) [سورة النساء: 89] (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51] ويقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) [سورة المائدة: 54] .
أما الأحاديث والآثار فكثيرة وأذكر منها:
ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على أن "تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر"([2]) .
روى ابن أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"([3]) .(71/1)
روى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله"([4]) .
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قول ابن عباس هذا: (قوله: "ووالى في الله" هذا بيان للازم المحبة في الله، وهو الموالاة فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لابد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب. وهي النصرة والإكرام، والاحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً. وقوله: "وعادى في الله" هذا بيان للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه. أي إظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لابد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى : (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [سورة الممتحنة: 4].
ومما سبق يتضح أن الولاء في الله هو: محبة الله ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم. والبراء هو: بغض أعداء الله ومجاهدتهم. وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول: بـ"أولياء الله"، والفريق الثاني: بـ"أولياء الشيطان" قال تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [سورة البقرة: 257]. وقال تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) [سورة النساء: 76](71/2)
واعلم أن الله سبحانه لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، كما قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) ([5]) [سورة الأنعام: 112] .
(وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكُتب وحُجج كما قال تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) [سورة غافر: 83]
والواجب على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحاً يقاتل به هؤلاء الشياطين، ومن ثَمَّ لا خوف ولا حزن لأن: (كيد الشيطان كان ضعيفاً) [سورة النساء: 76] .
والعامّي من الموحّدين يغلب الألف من علماء المشركين كما قال تعالى: (وإن جندنا لهم الغالبون) [سورة الصافات: 173].
فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان)([6]).
حقد الكفار على المسلمين
قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [سورة البقرة: 109].
وفي سورة آل عمران: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) [سورة آل عمران: 69].
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [سورة آل عمران: 72].
(وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) [سورة البقرة: 135].
(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [سورة البقرة: 105].
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [سورة آل عمران: 118].(71/3)
فهذه الآيات وغيرها مما في مثل معناها: تبين كيدهم وما يتربصون به للإسلام وأتباعه. ولذلك جاءت آيات كثيرة في تحذير المؤمنون ونهيهم عن الاستماع للكفار عامة ولأهل الكتاب خاصة، أو طاعتهم، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم.
قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [سورة البقرة: 120].
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين* بل الله موالكم وهو خير الناصرين) [سورة آل عمران: 149-150].
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين* وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) [سورة آل عمران: 100-101](71/4)
ورد في سبب نزول هاتين الآتين: أن شاس بن قيس اليهودي – وكان شيخاً قد أَغبر في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم – مر على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم، وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار ! فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال: أعمد إليهم فأجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث –أحد أيامهم في الجاهلية- وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل. وتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، فتقاولا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت رددتها جذعة! وغضب الفريقان جميعاً وقالا: أرجعا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة –وهي الحرة- فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية .
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال : "يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً!!". فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب) الآية.(71/5)
قال جابر بن عبد الله، ما كان طالع أكره إلينا من رسول اله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى عليه وسلم، فما رأيت يوماً أقبح ولا أوحش أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم([7]).
ويوجه الله عباده المؤمنين ويرشدهم –بعد أن ذكر قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام في قصة ذبح البقرة – بقوله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون* وإذ لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [سورة البقرة : 75-77].
ثم يأتي التحذير الأقوى في سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51).
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [سورة المائدة: 55-57].
إن هذه النصوص وغيرها: قد ربت المسلمين على معرفة كيد أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، فقطعت ما في نفوس بعض المسلمين من ود وولاء لهؤلاء الأعداء، من أجل أن يكون الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين فقط.
المنافقون يوالون الكفار(71/6)
من أخطر ما ارتكبه المنافقون: موالاة اليهود والنصارى ضد المسلمين وقد فضحهم القرآن في عدة مواضع ومنها سورة الحشر، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون* لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) [سورة الحشر: 11-12].
وقال تعالى : (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) [سورة المجادلة: 14].
ذكر السدي ومقاتل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين: فقد كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود([8]). وهذا الآية كقوله تعالى : (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً). [سورة النساء: 143].
ولقد نزلت سورة كاملة فيهم هي سورة "المنافقون" بيّن الله فيها أنهم يظهرون ما لا يبطنون، وأنهم يحرضون على إضعاف صف المسلمين).
صور موالاة الكفار([9]) .
الرضى بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة([10]).
ويتضح هذا الأمر في كونه ولاء للكفار : إنه يسرهم ويسعدهم أن يروا من يوافقهم على كفرهم ويجاريهم على مذاهبهم الإلحادية.
ومن المعلوم في معتقد أهل السنة والجماعة: أن حب القلب وبغضه يجب أن يكون كاملاً. فالذي يحب الكافر لأجل كفره فهو كافر بإجماع الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين. يقول ابن تيمية رحمه الله:(71/7)
" أما حب القلب وبغضه، وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته. ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل، ذلك أن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) [سورة القصص : 50] ([11]).
إذن: فالمحبة والرضى أمران جازمان لا يخرجان عن كونهما كفراً إذا كانا للكفار أو إيماناً إذا كانا للمؤمنين .
التولي العام واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم وقد نهى الله عن ذلك فقال: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران: 28].
قال ابن جرير في تفسيرها: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء . أي قد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. (إلا أن تتقوا منهم تقاه) أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل) ([12]) .
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51].(71/8)
قال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (من تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم. أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه) ([13]) .
وقال ابن حزم: (صح أن قول الله تعالى : (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) إنما هو على ظاهره: بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) ([14]) .
وقال ابن تيمية: (أخبر الله في هذه الآية: أن متوليهم هو منهم وقال سبحانه: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) [سورة المائدة:81].
فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً) ([15]) .
وقال ابن القيم: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى، فهو منهم (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. وهذا عام، خص منهم من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يُقر ولا تُقبل منه الجزية. بل إما الإسلام أو السيف لأنه مرتد بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين؛ لأن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول القرآن فقد انتقل من دين إلى دين خير منه –وإن كانا جميعاً باطلين-، وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر على ذلك) ([16]).(71/9)
ويستبعد سيد قطب أن يكون بين المسلمين، من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. وإنما المراد ولاء التحالف والتناصر. يقول رحمه الله: (إن الولاية المنهي عنها هنا ولاية التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله. يوضح ذلك قوله تعالى بشأن المسلمين الذين لم يهاجروا: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) [سورة الأنفال: 72].
أي ولاية التناصر والتعاون وليس ولاية الدين. نقول هذا : لأن البعض يخلط بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبرّ بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم .
وسذاجة أية سذاجة، وغفلة أية غفلة: أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين!! أمام الكفار والملحدين. فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين.
فلندع من يغفل عن هذا ولنكن واعين للتوجيه القرآني (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الآية ) ([17]) .
الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) [سورة النساء: 51](71/10)
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) [سورة البقرة: 101-102].
فأخبر سبحانه أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب الله كما يفعله كثير من اليهود وبعض المنتسبين إلى الإسلام. فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار: من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة كإتيانه أهل الباطل واتباعهم في شيء من فعالهم ومقالهم الباطل: كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك([18]). وإن هذه الصورة من صور الموالاة قد وقع فيها معظم المنتسبين إلى الإسلام اليوم، فالإيمان ببعض ما هم عليه أمر واقع في "العالم الإسلام" لا ينكره إلا مكابر جاهل، فها هي الببغوات من أبناء أمتنا وممن ينطقون بألسنتنا قد آمنت بالشيوعية مذهباً تارة وبالاشتراكية تارة أخرى، وبالديمقراطية نظاماً أو العلمانية دستوراً، فأخذت هذه المبادئ الكافرة وطبقتها في بلاد المسلمين ملزمة الناس بعبادتها "في الطاعة والانقياد والتنفيذ" ونصبت العداء لكل مسلم موحد ينادي في الأمة أن تعود إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وإن من الإيمان ببعض ما هم عليه: مسألة فصل الدين عن الدولة وإنه لا علاقة للإسلام بالسياسة، فهذه أيضاً فرع للقضية السابقة، لم توجد إلا في أوروبا أيام الاضطهاد الكنسي لرجال العلم. ولكن أين الإسلام دين العدل ودين السياسة ودين القوة من "هرطقة" رجال الكنيسة حتى يأتي بعض الأقزام فيستورد تلك السموم من أوروبا ليلبس الإسلام قناعاً مزيفاً فيقول: الإسلام علاقة بين العبد وربه والسياسة لها رجالها ولها قضاياها التي لا تمت إلى الدين بصلة([19]).(71/11)
مودتهم ومحبتهم: وقد نهى الله عنها بقوله: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [سورة المجادلة :22].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادَّين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله. فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه؛ كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب) ([20]).
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [سورة الممتحنة: 1].
الركون إليهم :
قال تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [سورة هود: 113]
قال القرطبي: الركون حقيقته: الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضا به ([21]). وقال قتادة : معنى الآية : لا توادوهم ولا تطيعوهم. وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم .
وهذه الآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم فإن صحبتهم كفر أو معصية. إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة كما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي([22])
وقال تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) [سورة الإسراء: 74-75].
وإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلاة الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟([23]) .
مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين: قال تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) [سورة القلم: 9].(71/12)
والمداهنة والمجاملة والمداراة على حساب الدين أمر وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم. حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة ورمز القدوة –فأخذوا ينسلخون من تعاليم دينهم مجاملة للكفار ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم ‘‘متعصبون‘‘ ! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ يقول في مثل هؤلاء: "لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبَّ تبعتموهم".
قلنا : يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال : "فمن" ([24]).
إن المداهنة والمجاملة قد تبدأ بأمر صغير ثم تكبر وتنمو حتى تؤدي –والعياذ بالله- إلى الخروج من الملة. وهذه إحدى مزالق الشيطان فليحذر المسلم منها على نفسه، وليعلم أنه هو الأعز وهو الأقوى إذا امتثل منهج الله وتقيد بشرعه ومقتضيات عقيدته.
ومن الأمور الواضحة في تاريخ المسلمين: أن من أكبر العوامل في انتصارهم –بعد الإيمان بالله ورسوله- الاعتزاز بالإسلام. يصدّق ذلك ويؤيده قول الفاروق –رضي الله عنه- : "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" ([25]).
اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين: قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [سورة آل عمران: 118].
نزلت هذه الآية في أناس من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجلاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والجوار فأنزل الله هذه الآية تنهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم([26]).(71/13)
وبطانة الرجل: خاصته، تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم. وقد بيّن الله العلة في النهي عن مباطنتهم فقال: (لا يألونكم خبالاً) أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد، ثم إنهم يودون ما يشق عليكم من الضر والهلاك.
والعداوة التي ظهرت منهم: شتم المسلمين والوقيعة فيهم، وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المسلمين([27]). وفي سنن أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم : "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" ([28]).
طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به ([29]).
قال تعالى ناهياً عن ذلك: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: 28]. وقال : (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) [سورة آل عمران: 149] وقال: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) [سورة الأنعام: 121].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك، كما قال تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) [سورة التوبة: 31]). ([30])
مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله: قال تعالى في النهي عن مجالستهم: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً) [سورة النساء: 140].
قال ابن جرير: (قوله (إنكم إذاً مثلهم) أي إنكم إذاً جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثلهم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها.(71/14)
وفي الآية دلالة واضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من الكفرة والمبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم) ([31]) .
وفي الحديث: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابكم" ([32]).
توليتهم أمراً من أمور المسلمين :
كالإمارة والكتابة وغيرها، والتولية شقيقة الولاية لذلك فتوليتهم نوع من توليهم. وقد حكم الله أن من تولاهم فإنه منهم. ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم. والولاية تنافي البراءة فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً.
والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً. والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً. ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتّاب –مثلاً- ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان: لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال. فهذا الملك ‘‘الصالح‘‘ كان في دولته نصراني يسمى: محاضر الدولة أبا الفضل بن دخان ولم يكن في المباشرين أمكن منه. كان قذى في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين. بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين، وأعمالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها.(71/15)
وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحمل لهم الإدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عن الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام. وحدث أن اجتمع في مجلس ‘‘الصالح‘‘ أكابر الناس من الكتّاب والقضاة والعلماء فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى فبسط لسانه في ذلك وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق. وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً. والله تعالى يقول: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) [سورة المائدة: 73].
وأول أمانتهم وعقد دينهم: ‘‘بسم الأب والابن وروح القدس إله واحد‘‘ فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له:
كيف يدري الحساب من جعل الوا
حد رب الورى تعالى ثلاثه
ثم قال : كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة؟ وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة؟ .
وانصرف القوم واتفق أن كبت النصراني بطنته، وظهرت خيانته فأريق دمه وسلط على وجوده عدمه ([33]).
استئمانهم وقد خونهم الله: قال تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [سورة آل عمران: 75].
الرضى بأعمالهم والتشبه بهم، والتزيي بزيهم([34]).
البشاشة لهم والطلاقة وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم([35]).
معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم:
ويضرب القرآن لذلك مثالين هما : امرأة لوط التي كانت ردءً لقومها، حيث كانت على طريقتهم، راضية بأفعالهم القبيحة، تدل قومها على ضيوف لوط. وكذلك فعل امرأة نوح([36]).(71/16)
مناصحتهم والثناء عليهم ونشر فضائلهم([37]).
وهذه الصورة ظهرت واضحة في العصور الأخيرة فقد رأينا ‘‘أفراخ المستشرقين‘‘ –مثلاً- ينشرون فضائلهم وأنهم أصحاب المنهج العلمي السديد و..و.. إلخ كذلك جاء من ينشر ‘‘فضائل‘‘ الغرب أو الشرق مضفياً عليها ألقاب التقدم والحضارة والرقي، وواصماً الإسلام والمنتسبين إليه بالرجعية والجمود والتأخر عن مسايرة الركب الحضاري والأمم المتقدمة.
تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم:
مثل: السادة والحكماء ومبادأتهم بالسلام (ومما يجب النهي عنه ما يفعله كثير من الجهال في زماننا إذا لقي أحدهم عدوَّ الله سلم عليه ووضع يده على صدره إشارة إلى أنه يحبه محبة ثابتة في قلبه. أو يشير بيده إلى رأسه إشارة إلى أن منزلته عنده على الرأس، وهذا الفعل المحرم يُخْشى على فاعله أن يكون مرتداً عن الإسلام؛ لأن هذا من أبلغ الموالاة والموادة والتعظيم لأعداء الله) ([38]).
والتعظيم واللقب الرفيع رمز للعزة والتقدير وهما مقصورتان على المؤمن. أما الكافر فله الإهانة والذلة. وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن مبادأتهم بالسلام فقال صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"([39])
17 - السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم([40]).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"([41]). وقال : "لاتساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا"([42]).
18 - التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم، والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم، والقتال في صفهم([43]):(71/17)
وهذه الصورة من أخطر ما ابتُليت به أُمَّتُنا في هذا العصر. ذلك أن وجود ما يسمى في المصطلح الحديث‘‘الطابور الخامس‘‘ قد أفسد أجيال الأمة في كل مجال سواء في التربية والتعليم أم في السياسة وشؤون الحكم أم في الأدب والأخلاق أم في الدين والدنيا معاً. وصدق الشاعر محمود أبو الوفا فيما نقله عنه الشيخ محمد قطب أنه قال حين خرج الاستعمار الإنجليزي من مصر: (خرج الإنجليز الحمر وبقي الإنجليز السمر!!) – نعم إن داءنا هم الإنجليز السمر.
ترى من هو الساهر على تنفيذ خطة "دنلوب" في التربية والتعليم؟ ومن هو القائم بتنفيذ مخططات اليهود الثلاثة: فرويد وماركس ودور كايم في أفكارهم الخبيثة؟ ([44]). إنهم المستغربون من أبناء هذه الأمة الذين حققوا لأعداء الله مالا يحلمون به. ولكن هيهات لهم فإن الله يقول: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون)[ سورة الصافات: 171-173].
19 - من هرب من دار الإسلام إلى دار الحرب بغضاً للمسلمين وحباً للكافرين([45]).
20 - من انخرط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية كالشيوعية والاشتراكية والقومية والماسونية وبذل لها الولاء والحب والنصرة([46]).
ما يقبل من الأعذار
وما لا يقبل في هذه الصور
قد يعتذر بعض الموالين للكفار بأنهم يخافون على سلطانهم وأموالهم ومراكزهم وغير ذلك من المخاوف التي لا تصح، ولا يعتبرها الله عذراً لهم فيعذرهم من أجلها. لأنها جميعاً من تزيين الشيطان وتسويله، وحب الدنيا والطمع في زينتها.(71/18)
والله سبحانه وتعالى لم يقبل عذراً لأحد في إظهار موالاته للكفار وطاعتهم وموافقتهم على دينهم إلا عذراً واحداً هو : الإكراه. قال تعالى : (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم* ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) [سورة النحل: 106-107].
وقال سبحانه : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة) [سورة آل عمران:28]
والإكراه لا ينفع أحداً فيما يتعلق بالرضى القلبي، والميل الباطني إلى الكفار لأنه غير مأذون فيه على أية حال لقوله تعالى: (وقلبه مطمئن بالإيمان) ولأن الإكراه لا سلطان له على القلوب. فإنه لا يعلم ما في القلب إلا الله.
فمن والى الكفار بقلبه ومال إليهم فهو كافر على كل حال. فإن أظهر موالاته بلسانه أو بفعله عومل في الدنيا بكفره وفي الآخرة يخلد في النار، وإن لم يظهرها بفعل ولا قول وعمل بالإسلام ظاهراً عصم ماله ودمه وهو منافق في الدرك الأسفل من النار([47]).
متى تكون التقية؟
قال تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران:28].
قال البغوي: نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا من خوف القتل وسلامة النيّة قال تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم([48]).(71/19)
وقال ابن القيم : معلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم([49]). (ولأن باب التقاة باب يمكن أن ينفذ منه الشيطان بسهولة يزين للضعفاء ومرضى القلوب أن يركنوا إلى أعداء الله قال بعدها مباشرة: (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) يحذركم في الدنيا أن تتخذوا هذا الباب تكأة، وتستسهلوا هذه الكبيرة –وهي موالاة أعداء الله- وينذركم أن إليه المصير فيجازيكم على ما فعلتم في الدنيا، فلا تحسبوا أن ترتكبوا هذه الكبيرة في الأرض –مخادعين أنفسهم أو مخادعين الناس- ثم تنجوا من عذاب الله في الآخرة) ([50]).
وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) [سورة آل عمران:28].
:أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل([51]).
الإكراه : قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) [سورة النحل: 106-107].(71/20)
قال ابن عباس –رضي الله عنهما- : نزلت الآية –الأولى- في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه وأمّه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً. فأما سمية فإنها رُبطت بين بعيرين ووجيء قُبلها بحربة فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ،وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فأُخبر النَّبُّي صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كَفَر، فقال، : "كلا: إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه"([52]) فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: "إن عادوا لك فَعُد لهم بما قلت"([53]) فأنزل الله هذه الآية([54]).
وقال الطبري في معنى الآية: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً اختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً: فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم([55]).
وسبب ذلك: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا([56]).
شروط الإكراه:
... قال ابن حجر : شروط الإكراه أربعة:
أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار.
أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك .
أن يكون ما هدد به فورياً، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غداً، لا يعد مكرهاً، ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جدَّاً، أو جرت العادة بأنه لا يخلف.
أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره.
ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق([57]).(71/21)
قال الخازن: قال العلماء : يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد، والإيلامات القوية مثل التحريق بالنار ونحوه([58]). واجمعوا أيضاً: على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة الكفر تصريحاً، بل يأتي بالمعاريض وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر حتى قتل كان أفضل لفعل ياسر وسمية وصبر بلال على العذاب([59]).
لقد كان بلال رضي الله عنه تُفعل به الأفاعيل حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحدٌ. أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقتلها([60]).
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري([61]) لما قال مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع ،فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك([62]).
وكما فعل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي([63]): فإنه لما أسرته الروم جاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصَّر وأنا أُشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت . فقال: إذاً أقتلك قال: أنت وذاك، فأمر به فصُلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأُنزل، ثم أمر بقدر. وفي رواية ببقرة من نحاس فأُحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة من جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله! .(71/22)
وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياماً ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: أما أنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشمتك في، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه([64]).
أنواع الإكراه:
الإلجاء: حيث ينعدم الرضا والاختيار، وتنتفي الإرادة والقصد، وذلك بالوقوع تحت التعذيب الشديد أو نحو ذلك، وهذه الحالة هي التي نزلت فيها آية النحل: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [سورة النحل: 106].
التهديد: حيث ينعدم الرضا، ولا ينعدم الاختيار تماماً وهذه في مثل الحالة التي يختار فيها الإنسان أخف الضررين مثل حال شعيب عليه السلام مع قومه إذ خيروه بين العودة إلى الكفر أو الخروج من قريتهم: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا علىالله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [سورة الأعراف: 88-89].
فلا تجوز الاستجابة لمثل هذا الإكراه لهذا النص ولقوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) [سورة العنكبوت: 10].(71/23)
الاستضعاف : وهنا لا تعذيب ولا تهديد ولكن المستضعف داخل تحت وضع مفروض عليه من غيره كالمقيم في مكّة بعد هجرة المسلمين عنها، فإذا كان دخوله تحت هذا الوضع لعجزه عن دفعه وعن الخروج منه، ولو أمكنه ذلك لفعل مهما كانت تضحياته وتكاليفه فهذا قد عفا الله عنه([65]). أما إذا كان قادراً على الدفع أو الخروج ولم يفعل ذلك إيثاراً للعاقبة فقد سبق كلام الشيخ ابن عتيق وغيره في ذلك.
قال ابن تيمية: تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نصَّ في غير موضع، أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب وقيد، ولا يكون الكلام إكراهاً ([66]).
كلمة أخيره حول الإكراه
إنه من المهم والواجب التفريق بين الإكراه وبين مشاعر الخوف التي تتزاوج مع مشاعر الرجاء والتعظيم فإن هذه مشاعر عبادة.
كما أنه يجب أن نفرق بين الاستضعاف وبين الهزيمة الداخلية، والاستكانة للعدو والركون إليه وفقدان الثقة في الله وترك التوكل عليه.
ذلك أن الإنسان يملك في أحلك الظروف قوة عظيمة –هي قوة الرفض بقلبه- وهذه القوة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاداً في قوله: "..ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"([67]) .(71/24)
فالانهزام أمام الباطل والموالاة التي يحتاجها الباطل حتى وهو قوي لابد من الامتناع عنها وهذا هو جهاد القلب، والله سبحانه يقول للمؤمنين بعد وقعة أحد: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين * يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) [سورة آل عمران: 146-150].
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: "بحسب امرئ يرى منكراً لا يستطيع أن يغيره يعلم الله من قلبه أنه له كاره" ودلالة الكره: الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل).
إن استعلاء القلب على الهزيمة الداخلية، وبقاء قوة رفضه للباطل مهما استطال وانتفش وقوة ضبطه للسلوك لتأكيد الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل لهو جهاد القلب وإنه لجهاد له أثره الواقع في حياة الناس([68]).
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
تنبيه : هذا البحث السابق مختصر من كتاب الدكتور الفاضل : محمد بن سعيد القحطاني : ( الولاء والبراء في الإسلام ) ، انتقاه الأخ : سليمان الخراشي لأهميته هذه الأيام ، مع تصرف يسير .
([1]) "الرسائل المفيدة" للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : (ص296)، تصحيح عبدالرحمن الرويشد، طبع سنة 1398هـ بدار العلوم بمصر.
([2]) "المسند" للإمام أحمد: (ج4/357، 358)، الطبعة الثانية سنة 1398هـ، الناشر المكتب الإسلامي وهو حديث حسن.(71/25)
([3]) "الإيمان" لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شبية، توفي سنة 235هـ: (ص45)، تحقيق الألباني وقال: أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً وهو حسن، المطبعة العمومية بدمشق وانظر "المسند": (4/286).
([4]) ذكره السيوطي في "الجامع الصغير": (1/69) وقال الألباني: حديث حسن.
... انظر "صحيح الجامع الصغير": (2/343، ح2536).
([5]) "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (ص422)، الناشر: إدارات البحوث العلمية بالرياض بدون تاريخ.
([6]) بتصرف : انظر "كشف الشبهات" للإمام محمد بن عبد الوهاب: (ص 20)، الطبعة الثالثة سنة 1388هـ، الناشر مؤسسة النور بالرياض. وانظر "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية": (ج 4/46).
([7]) انظر "تفسير الطبري" : (ج4/23)، و"أسباب النزول" للواحدي: (ص66)، و"أحكام القرآن" للقرطبي : (ج4/155)، و "تفسير البغوي" : (ج1/389).
([8]) "أسباب النزول" للواحدي: (ص 235)، و"تفسير القرطبي": (ج17/304)
([9]) من أحسن من كتب في ذلك الإمام/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأبناؤه، لذلك فمعظم هذه الصور منقولة من كتبه.
([10]) انظر نواقض الإسلام في "مجموعة التوحيد" : (ص 129) مطبعة الحكومة بمكّة.
([11]) "شذرات البلاتين" : (ج1/354)، "رسالة الأمر بالمعروف" .
([12]) "تفسير الطبري" : (ج3/228).
([13]) المصدر السابق : (ج6/277) .
([14]) "المحلى": (ج13/35) تحقيق حسن زيدان 1392هـ الناشر مكتبة الجمهورية العربية بمصر .
([15]) انظر "الإيمان" لابن تيمية: (ص14) طبع المكتب الإسلامي.
([16]) "أحكام أهل الذمة" لابن القيم: (ج1/67،69).
([17]) " في ظلال القرآن" : (ج2/909-910) بتصرف . وسيرد مزيد من التفصيل إن شاء الله عند الحديث عن زمالة الأديان! .
([18]) انظر "فتاوى ابن تيمية" : (ج28/199-201) .(71/26)
([19]) هناك كُتّاب أفاضوا الحديث في هذه القضية منهم : د. محمد البهي و سيد قطب و المودودي وغيرهم . ومن أراد التفصيل الدقيق فعليه بمراجعة كتاب "العلمانية وآثارها في العالم الإسلامي" للأخ الدكتور/ سفر بن عبدالرحمن الحوالي.
([20]) " الإيمان" : (ص 13).
([21]) "تفسير القرطبي": (ج9/108)، وانظر "البغوي والخازن" : (ج3/256). أما البيت فهو لطرفة بن العبد
([22]) المصدر السابق.
([23]) "مجموعة التوحيد" : (ص117) ط. دار الفكر.
([24]) "صحيح البخاري" : (ج13/300 ح7320) كتاب الاعتصام، و"صحيح مسلم": (ج4/2054 ح2669). واللفظ للبخاري.
([25]) أخرجه الحاكم في "المستدرك" : (ج1/62) كتاب الإيمان. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
([26]) "أسباب النزول" للواحدي: (ص 68).
([27]) انظر "تفسير البغوي": (1/409)، و"تفسير ابن كثير": (2/89).
([28]) "سنن أبي داود": (ج5/168، ح4833) كتاب الأدب، وفي "المسند" : (ج16/178، ح8398)، طبعة شاكر، والترمذي: (ج7/111، ح2379) في "الزهد"، وقال هذا : حديث حسن غريب .
([29]) "مجموعة التوحيد" : (ص 117).
([30]) "تفسير ابن كثير" : (ج3/322).
([31]) "تفسير الطبري" : (ج5/330).
([32]) رواه أحمد في "المسند" (ج8/80، ح5705) بتحقيق أحمد شاكر، و"صحيح البخاري": (ج8/125، ح4419) كتاب المغازي، و"صحيح مسلم": (ج4/2185، ح2980) كتاب الزهد.
([33]) "أحكام أهل الذمة" لابن القيم: (ج1/242-244) بتصرف يسير .
([34]) "مجموعة التوحيد" : (117).
([35]) "مجموعة التوحيد" (ص117)
([36]) "تفسير ابن كثير": (ج6/210).
([37]) "مجموعة التوحيد" (ص117) ، ورسائل سعد بن عتيق: (ص101).
([38]) "تحفة الإخوان" للشيخ حمود التويجري: (19)، الطبعة الأولى، مؤسسة النور بالرياض.
([39]) "صحيح مسلم" : (ج4/1707، ح2167) كتاب السلام، وأبو داود: (ج5/384، ح5205) في الأدب.(71/27)
([40]) "الرسائل المفيدة" للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ : (ص64).
([41]) أبو داود: (ج3/224، ح2787)) كتاب الجهاد، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر "صحيح الجامع الصغير": (ج6/279، ح6062).
([42]) الحاكم في "المستدرك": (ج2/141)، وقال صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
([43]) "الإيمان. حقيقته. أركانه. نواقضه" للدكتور محمد نعيم ياسين: (ص147).
([44]) يراجع كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية" للأستاذ محمد قطب: (ص35) فصل: اليهود الثلاثة، وكتاب "هل نحن مسلمون؟": (ص133)، وكتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
([45]) "الردة بين الأمس واليوم" : (ص33).
([46]) المصدر السابق: (ص40).
([47]) انظر "الإيمان" للدكتور محمد نعيم ياسين: (ص147-148) .
([48]) "تفسير البغوي" : (ج1/336)، وانظر "أحكام القرآن" للجصاص" (ج2/289).
([49]) "بدائع الفوائد": (ج3/69).
([50]) "دراسات قرآنية" (ص326-327).
([51]) "تفسير الطبري" : (ج3/228).
([52]) هذا اللفظ ضعيف، وإنما اللفظ الصحيح هو ما رواه الحاكم في "مستدركه" : (ج3/392-393)، وكذلك النسائي: (ج8/111) في كتاب الإيمان، هكذا: "ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه" وهو حديث صحيح كما قال الألباني. انظر "صحيح الجامع الصغير": (ج5/211، ح5764)، و "سلسلة الأحاديث الصحيحة": (ج2/466، ح807).
([53]) حديث مرسل ورجاله ثقات. انظر "فتح الباري" : (ج12/312).
([54]) "أسباب النزول"للواحدي:(ص162)،وانظر"تفسيرالطبري":(ج14/182)،و"تفسير ابن كثير":(ج4/525)
([55]) "تفسير الطبري" : (ج14/182).
([56]) "تفسير ابن كثير" : (ج4/525) .
([57]) "فتح الباري" : (ج12/311-312).
([58]) "تفسير الخازن" : (ج4/117).
([59]) "تفسير الخازن" : ((ج4/117).
([60]) انظر "تفسير ابن كثير": (ج4/525).(71/28)
([61]) حبيب بن زيد بن عاصم بن عمرو الأنصاري أخو عبد الله بن زيد، ذكره ابن إسحاق فيمن شهد العقبة من الأنصار وقال هو الذي أخذه مسيلمة فقتله. قال ابن سعد شهد حبيب أُحداً والخندق والمشاهد "الإصابة": (ج1/307).
([62]) "تفسير ابن كثير" : (ج4/525).
([63]) هو عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي وأمه آمنة بنت حرثان من بني حارث، وهو من السابقين الأولين، يقال إنه شهد بدراً، ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا غيرهما من أصحاب المغازي. وقصته مع ملك الروم ذكرت سابقاً، انظر ترجمته في "الإصابة": (ج2/296)، و "تهذيب التهذيب" : (ج5/185).
([64]) "تفسير ابن كثير": (ج4/526).
([65]) "المصدر السابق": (ص526).
([66]) نقلاً عن "الدفاع" لابن عتيق: (ص30).
([67]) "صحيح مسلم" : (ج1/70، ح50) كتاب الإيمان.
([68]) "حد الإسلام" للشاذلي: (ص527-528) بتصرف.(71/29)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد : فهذا مختصر لطيف للمسائل التي أجاب عنها العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتاب ( الروح) مع أجوبتها ، مقتصراً في ذلك على ذكر الجواب الصحيح. دون التعرض لنقل الخلافيات والأدلة المتشعبة ؛ لكي يسهل استحضارها لطلاب العلم ، ولعامة المسلمين.
وأسال الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها ... وصلى الله على نبينا محمد.
المسألة الأولى : هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أم لا ؟
الجواب : قال صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فَيُسَلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه ، حتى يرد عليه السلام" فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلّم : " السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين" وقد تواترت الآثار عن السلف بأن الميت يعرف زيارة الحي له ، ويستبشر به.
ويكفي في هذا تسمية المسلِّم عليه زائراً ، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائراً ، فإن المزور إذا لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال : زاره ، هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم. وكذلك السلام عليهم أيضاً ، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسَلِّم محال ، وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه.
المسألة الثانية: وهي أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا ؟
الجواب: الأرواح قسمان :
1- أرواح معذبة والعياذ بالله ، فهي في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي.(72/1)
2- أرواح منعمة ، وهي مرسلة غير محبوسة ، تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا ، وما يكون من أهل الدنيا. فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها ، وروح نبينا صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى. قال الله (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).
وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء. وقال تعالى ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) أي ادخلي في جملتهم وكوني معهم. وهذا يقال للروح عند الموت.
وقد أخبر الله تعالى عن الشهداء بأنهم ( أحياء عند ربهم يرزقون) وأنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) وأنهم ( يستبشرون بنعمة من الله وفضل). وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه :
1. أنهم ( أحياء ) والأحياء يتلاقون.
2. إنهم إنما يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.
3. أن لفظ ( يستبشرون) يفيد أنهم يبشر بعضهم بعضاً.
المسألة الثالثة: وهي هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا ؟
الجواب: نعم ، تلتقي أرواح الأحياء والأموات ، كما تلتقي أرواح الأحياء قال تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } .
عن ابن عباس في تفسير الآية : بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم ، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ، ويخبره الميت بما لا يعلمه الحي ، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل.
وفي هذا حكايات متواترة.
وهذا الأمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها.(72/2)
المسألة الرابعة: وهي أن الروح هل تموت أم يموت البدن وحده ؟
الجواب: أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت بلا شك ، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً ، فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خروجها من البدن في نعيم أو في عذاب.
المسألة الخامسة: كيف تتعارف الأرواح بعد مفارقة الأبدان ؟
الجواب: أنها بعد مفارقتها الجسد تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها ، فإنها تتأثر ، وتنتقل عن البدن ، كما يتأثر البدن وينتقل عنها ، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها ، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه.
المسألة السادسة: وهي : أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا تعاد؟
الجواب: قد جاء في الحديث الصحيح: قال البراء بن عازب: ( كُنَّا في جنازةٍ في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقعد ، وقعدنا حوله كأنَّ على رؤوسنا الطَّير ، وهو يلحد له ، فقال: " أعوذ بالله من عذاب القبر" – ثلاث مرات – ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في إقبالٍ من الآخرة ، وانقطاعٍ من الدنيا نزلتْ إليه ملائكةُُ ، كأنَّ وجوههم الشمسُ ، فيجلسون منه مدَّ البصر ، ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة ، أخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان.
... قال: فتخرج تسيلُ كما تسيل القطرةُ مِن فِيِّ السّقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحةِ مسكٍ وُجِدَتْ على وجه الأرض.
...(72/3)
قال: فيصعدون بها فلا يَمُرُّونَ بها – يعني على ملأ من الملائكة – إلا قالوا: ما هذا الروحُ الطَّيِّبُ ؟ فيقولون: فلان بن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له ، فيفتح له ، فيشيّعه مِن كلِّ سماءٍ مٌقَرَّبُوها إلى السماء التي تليها ، حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله تعالى ، فيقول الله عزّ وجلّ: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيِّين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أُعيدهم ، ومنها أُخرجهم تارة أخرى.
... قال: فتُعاد روحُه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له مَن ربُّك ؟ فيقول : ربي الله ؛ فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام ، فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم ؟ فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقولان له: وما عِلْمُك ؟ فيقول: قرأتُ كتابَ الله ، فآمنت به ، وصدَّقتُ ، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له باباً من الجنة ؛ قال: فيأتيه من ريحها وطيبها ، ويُفسح له في قبره مدّ بصره.
... قال: ويأتيه رجلُُ حَسَنُ الوجه ، حَسَنُ الثياب ، طَيِّبُ الرِّيح ، فيقول: أبشرْ بالذي يسرُّكَ هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له: مَن أنت ؟ فوجهُك الوجه الذي يجيءُ بالخير ، فيقول: أنا عملُك الصَّالح ، فيقول: ربّ أقمِ السَّاعةَ حتى أرجعَ إلى أهلي ومالي.
... قال: وإن العبدَ الكافرَ إذا كان في إقبالٍ من الدنيا وانقطاعٍ من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكةُُ سود الوجه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة ، أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب.
...(72/4)
قال: فتتفرَّق في جسده فينتزعها كما يُنتزع السَفُّود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريحِ جيفةٍ وُجِدَتُ على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يَمُرُّون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث ؟ فيقولون: فلان بن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح.
... ثم قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : { لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّماءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الجنَّةَ حَتَّى يَلِجُ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } (الأعراف: 40) فيقول الله عزّ وجلّ: اكتبوا كتابه في سِجّين في الأرض السفلى ، فتُطرح روحُه طرحاً ، ثم قرأ: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } (الحج: 31).
فتُعادُ روحُه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له: مَن ربك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري ، فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، " سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار ، فيأته من حرِّها وسمومها ، ويضيق عليه قبره حتى تختلفَ فيه أضلاعُه.
ويأتيه رجلُُ قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك ، هذا يومُك الذي كنت توُعد ، فيقول: مَن أنت ؟ فوجهُك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: ربِّ لا تقم الساعة ) رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وروى النسائي وابن ماجة أوله ، ورواه أبو عوانة الإسفراييني في صحيحه.
وذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث من سائر الطوائف.(72/5)
المسألة السابعة: هل عذاب القبر يكون على النفس ؟ أو على البدن ؟ أو على النفس دون البدن؟ أو على البدن دون النفس ؟ وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟
الجواب: مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه ، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحياناً ، ويحصل له معها النعيم أو العذاب. ثم إذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجساد ، وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
وعذاب القبر ثابت بالكتاب والسنة ، ومن كان مستحقاً له ناله نصيبه من العذاب سواء قبر أو لم يقبر ، فسواء أكلته السباع أو أحرق حتى صار رماداً ونُسف في الهواء ، أو صلب ، أو غرق في البحر ، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور ، بقدرة الله عز وجل.
المسألة الثامنة: وهي : ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقى ؟
الجواب : مجمل ومفصل :
الجواب المجمل: هو أن الله أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وحيين ، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما ، وهما الكتاب والحكمة. قال تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) والكتاب هو القرآن ، والحكمة هي السنة باتفاق السلف. فما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم يجب تصديقه والإيمان به.
أما الجواب المفصل : فهو أن عذاب القبر مذكور في القرآن في عدة آيات ؛ منها:
1- قوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون }
وعذاب الهون هو عذاب القبر ، قبل العذاب العظيم في النار.
2- قوله تعالى عن آل فرعون : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } .(72/6)
المسألة التاسعة : وهي : ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟
الجواب : مجمل ومفصل
الجواب المجمل : أنه يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه.
والجواب المفصل : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن أناس بأنهم يعذبون في القبر ، منهم على سبيل المثال:
1- النمام.
2- الذي لا يستبرئ من بوله.
3- الكذاب .
4- الزناة.
5- آكل الربا.
وغيرهم كثير ... أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر.
المسألة العاشرة: ما هي الأسباب المنجية من عذاب القبر؟
الجواب : مجمل ومفصل
الجواب المجمل : تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر ، ومن أنفعها أن يتوب الإنسان توبة نصوحاً ، ويحاسب نفسه.
الجواب المفصل : ما ورد في أحاديث كثيرة صحيحة ، منها :
1- الرباط في سبيل الله.
2- الشهادة في سبيل الله.
3- قراءة سورة ( تبارك).
4- الموت في ليلة الجمعة أو يومها.
المسألة الحادية عشرة :وهي : أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار ، أو يختص بالمسلم والمنافق؟
الجواب : أن السؤال يكون للجميع ، فقد جاء في حديث البراء ـ رضي الله عنه ـ " فإذا كان كافراً جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه .. فذكر الحديث وفيه ـ ويأتيه ملكان شديدا الانتهار ، فيجلسانه وينتهرانه ، فيقولان : من ربك؟ ... الحديث" وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه يسأل الكفار يوم القيامة ، قال سبحانه ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) وقال ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) فإذا سئلوا يوم القيامة فكيف لا يسألون في قبورهم؟
المسألة الثانية عشرة : وهي أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها؟
الجواب: والله أعلم ـ أن كل أمة من الأمم تسأل عن نبيها ، وأنهم معذبون في قبورهم بعد السؤال لهم وإقامة الحجة عليهم ، كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة.
المسألة الثالثة عشرة: وهي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم؟(72/7)
الجواب: أنهم لا يمتحنون ، لأن السؤال يكون لمن عقل الرسول والمرسل ، فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه ، أم لا؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له فكيف يسأل هذا السؤال؟
... وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة صبي فسُمع من دعائه: "اللهم قه عذاب القبر" رواه مالك ، فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعاً؟ فإن الله لا يعذب أحداً بلا ذنب عمله ، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره ، وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله.
... ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". أي يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" ، فالعذاب أعم من العقوبة. ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم به ، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل الله تعالى أن يقيه ذلك العذاب ، والله أعلم.
المسألة الرابعة عشرة: وهي: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟
الجواب: أن عذاب القبر نوعان:
1- نوع دائم: يدل عليه قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الذي يعذب: "فهو يُفعل به ذلك إلى يوم القيامة" رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الجريدتين اللتين وضعهما على قبري من يعذبان: "لعله يُخفف عنهما ما لم ييبسا" فجعل التخفيف مقيداً بمدة رطوبتها فقط. فالأصل أن عذابهما دائم.
... إلا أنه قد رويت بعض الأحاديث تفيد أن العذاب يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا).
2- نوع يبقى إلى مدة ثم ينقطع ، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه.
المسألة الخامسة عشرة: وهي: أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة؟(72/8)
الجواب: قد اختلف العلماء في هذا اختلافاً كثيراً ، ولكل واحد حجته ، فمنهم من قال: هي في الجنة ، ومنهم من قال: هي عند باب الجنة ، ومنهم من قال: هي على أفنية قبورها ، ومنهم من قال: هي مرسلة تذهب حيث شاءت ، ومنهم من قال: هي عند الله ، ومنهم من قال: أرواح المؤمنين عن يمين آدم – عليه السلام – وأرواح الكفار عن شماله.
والصواب: أن ( الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها: أرواح في أعلى علِّيين في الملأ الأعلى وهي أرواحُ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإِسراء.
ومنها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواحُ بعض الشهداء لا جميعهم ، بل من الشهداء من تُحَبسُ روحُه عن دخول الجنة لدَيْن عليه أو على غيره ، كما في المسند أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ، ما لي إن قُتلت في سبيل الله ؟ قال " الجنة " ، فلما ولى قال: (( إلاَّ الدَّين ، سارني به جبريلُ آنفاً)).
ومنهم: من يكون محبوساً على باب الجنة كما في الحديث الآخر: (( رأيتُ صاحِبكم محبوساً على باب الجنة)).
ومنهم: من يكون محبوساً في قبره ، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد ، فقال الناس: هنيئاً له الجنة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((والذي نفسي بيده إن الشَّملة التي غلَّها لتشتعل عليه ناراً في قبره)).
... ومنهم: من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس: (( الشهداءُ على بارق – نهر بباب الجنة – في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشية)) . رواه أحمد . وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
...(72/9)
ومنهم: من يكون محبوساً في الأرض ، لم تَعْلُ روحُه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت رُوحاً سفلية أرضية ، فإنَّ الأنفسَ الأرضيَّةَ لا تجامعُ الأنفس السماوية ، كما لا تجامعها في الدنيا ، والنفس التي لم تكتسبْ في الدنيا معرفةَ ربِّها ، ومحبته وذِكْره والأنس به ، والتقرُّب إليه ، بل هي أرضية سفلية ، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك.
... كما أنَّ النفسَ العلويَّة التي كانت في الدنيا عاكفةً على محبة الله عزّ وجلّ وذكْره ، والتقرُب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرءُ مع مَن أحبَّ في البرزخ ، ويوم القيامة ، والله تعالى يُزوِّجُ النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدَّم في الحديث ، ويجعل روحه – يعني المؤمن – مع النسيم الطيب ؛ أي الأرواح الطَّيبة المشاكلة ، فالروحُ بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك.
... ومنها: أرواح تكونُ في تنّور الزُّناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، فليس للأرواح سعيدها وشقيّها مستقر واحد ، بل روح في أعلى عليين ، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض).
المسألة السادسة عشرة: وهي: هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء ، أم لا؟
الجواب: أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة.
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
الثاني: دعاء المسلمين له ، واستغفارهم له ، والصدقة والحج.
... أما بقية العبادات البدنية: كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فقد اختلفوا في وصول ثوابها إليه. وقد اختار ابن القيم - رحمه الله – وصول ثواب ذلك كله للميت. وقال: "الذي أوصل ثواب الحج والصدقة والعتق هو بعينه الذي يوصل ثواب الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف ، وهو إسلام المهدى إليه ، وتبرع المهدي وإحسانه" (ص 334).(72/10)
ثم قال رحمه الله: (( وبالجملة فأفضل ما يُهدى إلى الميت: العتق ، والصدقة ، والاستغفار له ، والدعاء له ، والحج عنه)) " ص 345 ".
المسألة السابعة عشرة: وهي: هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة؟
الجواب: أجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مُدَبَّرَة. وهذا معلوم بالاضطرار من دينهم ، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهي القرون المفضلة على ذلك ، من غير اختلاف بينهم ، حتى نبغت نابغة من أهل الضلال فزعمت أنها قديمة غير مخلوقة!!
المسألة الثامنة عشرة: وهي: تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها؟
الجواب: قد اختلف العلماء في هذا:
1- فقال قوم: الأرواح مخلوقة قبل الأجساد.
2- وقال آخرون: بل الأجساد مخلوقة قبل الأرواح.
والصواب هو القول الثاني: وهو أن الأجساد خُلقت أولاً ، ثم الأرواح ، ودليل هذا أن الله خلق آدم – عليه السلام – من تراب (ثم) نفخ فيه الروح. قال ابن القيم – رحمه الله -: "والقرآن والحديث والآثار تدل على أن الله سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده" (ص410).
المسألة التاسعة عشرة: وهي: حقيقة النفس.
الجواب: أن هذه من المسائل التي تكلم فيها الناس من سائر الطوائف ، واضطربت فيها أقوالهم ، وكثر فيها خطؤهم ، وهدى الله أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
...(72/11)
فالصواب أن يقال: بأن الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهي - أي الروح – جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية. وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار ، فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح.
المسألة العشرون: وهي: هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟
الجواب: أن النفس في القرآن تُطلق على الذات بجملتها ، كقوله تعالى: (فسلموا على أنفسكم) ، وقوله: (ولا تقتلوا أنفسكم) ، وقوله: (يوم تأت كل نفس تجادل عن نفسها) ، وقوله: (كل نفس بما كسبت رهينة). وتطلق النفس على الروح وحدها ، كقوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة) ، وقوله: (أخرجوا أنفسكم). أما (الروح) فلا تُطلق على البدن ، لا بانفراده ولا مع النفس. فالفرق بين النفس والروح فرقٌ بالصفات لا فرقٌ بالذات.
المسألة الحادية والعشرون: وهي: هل النفس واحدة أم ثلاث؟
لأن الله يقول: (يا أيتها النفس المطمئنة) ويقول: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) ، ويقول: (إن النفس لأمّارة بالسوء) ، فهي مطمئنة ، ولوامة ، وأمارة.
الجواب: أنها نفس واحدة ، ولكن لها صفات ، فتسمى باعتبار كل صفة باسم، فتسمى (مطمئنة) باعتبار طمأنينتها لربها بعبوديته ومحبته ، وتُسمى (لوامة) لأنها تلوم صاحبها على التفريط ، وتُسمى (أمّارة) لأنها تأمره بالسوء ، وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها.
نسأل الله أن يجعل نفوسنا مطمئنة ، وأن يُدخلنا في عباده وفي جنته ، آمين
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين(72/12)
بحث مختصر يبين خطر انتشار الأفكار العصرانية على المجتمع المسلم
صيحة نذير إلى ولاة الأمور ودعاة الإسلام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد :
فاعلم -علمني الله وإياك ما ينفعنا- أني تأملت حال المجتمعات الإسلامية خلال القرن الأخير وكيف غزاها الانحراف والتغريب بواسطة أعداء الإسلام، فوجدتها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى : حال المجتمعات التي يكون الغزو فيها مباشراً؛ وهي المجتمعات الإسلامية التي لم تكن لها مرجعية علمية، أو هيئة شرعية تذكر، تقف سدًا منيعاً أمام ذلك الغزو. فهذه سهل اقتحامها واستباحتها من العدو وعملائه اللادينيين .
الحال الثانية: حال المجتمعات التي يكون فيها الغزو من خلال (وسيط) أو (ناقل) يلبس لباس الإسلام. وهي المجتمعات الإسلامية التي تأوي إلى مرجعية علمية أو هيئة شرعية في معظم أمورها أو في النوازل التي تحل بها، مع ارتباط (شرعي) بولاة أمرها. فمثل هذه المجتمعات لم يستطع العدو اقتحامها واستباحتها وخلخلة وحدتها القائمة بين الأمراء والعلماء إلا من خلال ذلكم الوسيط؛ نظراً لطبيعتها الدينية الشرعية.
وخير مثال لهذه الحال: مجتمع مصر في القرنين الأخيرين، حيث سلط عليه الأعداء الغزو العسكري([1]) والغزو الفكري في سبيل صرفه عن دينه، لكنهم باؤا بالفشل ولم يحققوا نجاحاً يذكر يوازي ما قاموا به من الجهود؛ نظراً لارتباط الشعب المصري بعلمائه الشرعيين الممثلين في الأزهر؛ حيث كانوا حصناً منيعاً أمام جهود الأعداء التغريبية([2]) .(73/1)
لكن الأعداء لم ييأسوا أو يملوا وهم يرون ضياع جهودهم وفشلهم، وإنما لجؤا إلى خطة أكثر مكراً، وأشد ضررًا، وهي تكرار محاولة الغزو للمجتمع المصري بواجهة إسلامية (مخدوعة) يتقبل الشعب المسلم اطروحاتها وأفكارها التغريبية دون نفرة أو استيحاش؛ يخلخلون بها وحدة المجتمع المصري المسلم؛ بتهييجه على ولاة أمره، إضافة إلى صرفه عن العلماء الكبار الراسخين الذين يصعب تطويعهم. وقد تم لهم ذلك من خلال ما يسمى (بالعصرانيين) أتباع مدرسة الأفغاني ومحمد عبده الذين ظنوا بجهلهم أنهم يخدمون الإسلام والدعوة بصنيعهم هذا، ويوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر –زعموا !- ولكنهم أصبحوا فيما بعد كما قال ألبرت حوراني: "قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر"([3]). ثم كان مصير أفراد هذه الطائفة العصرانية الخاسرة مصير أي وسيلة استخدمت فاستنفذت أغراضها، حيث (تمندل) ([4]) بهم الأعداء قليلاً ثم رموا بهم. فمنهم من مات بحسرته جراء ما جناه على مجتمعه، ومنهم من انحاز إلى الصف العلماني وكشف عن حقيقته، وقلة منهم أحست بخطورة دورها الذي قامت به فأرادت أن تُكَفّر عن سيئاتها بانحيازها رويدًا رويدًا إلى أهل الإسلام. ولكن بقيت تجربتهم جميعاً عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين .
وبلاد الحرمين –حماها الله وصرف كيد الفجار عنها- تتشابه في طبيعتها مع طبيعة المجتمع المصري خلال القرنين السابقين، قبل هبوب رياح التغريب عليه؛ فهي تأوي إلى ركن شديد من علمائها الكبار، وارتباط (شرعي) وثيق بولاة أمرها، وتنهل من معين دعوة سلفية شرعية قامت عليها ولأجلها . فلهذا لم يستطع العدو ولله الحمد اقتحامها أو تغريبها مباشرة أو من خلال أذنابه العلمانيين الأقحاح الذين نبذهم المسلمون وباؤا بفشل ذريع، رغم تكرر محاولاتهم([5]).(73/2)
ومثلما لم ييأس أعداء الإسلام من اقتحام هذا المجتمع المسلم وتغريبه فإنهم –لا شك- سيعاودون الكرة عليه، ولكن بواجهة إسلامية (عصرانية) تضفي الشرعية على أفكارهم ومطالبهم، وتحدث شرخاً في وحدته، وتحاول نزع ثقة الناس بعلمائه الكبار، وهي تُستدرج إلى ذلك بمكر وخفاء.
وقد بدأت بوادر تنذر بشيء من ذلك –للأسف!-؛ فتسللت الأفكار العصرانية إلى عقول بعض الإسلاميين الصالحين عندنا، فأخذوا يرددونها في مقالاتهم وكلماتهم، جهلاً منهم بخطورتها ومآلها على البلاد، وانخداعاً ببهرجها، وظناً منهم بأنها ستُبَلِّغهم أهدافهم. وفاتهم –هداهم الله- أن هذه الأفكار ما هي بجديدة في عالم المسلمين، وأن مجتمعاً إسلامياً آخر غير مجتمعنا هو مجتمع مصر قد خبرها وجُرِّبت عليه؛ فلم تنتج سوى النتاج المر الفاسد الذي لا زال يعاني منه إلى اليوم.
وقد اكتشف النبهاء من أهله –كما سيأتي- ولكن بعد
فوات الأوان، أن هذه الأفكار البراقة لم تكن سوى أحبولة صنعتها يد المكر لاستباحة ديار المسلمين وعقولهم واقتصادهم، وأنها لم تحقق للمسلمين إلا مزيداً من الذل والصغار والخضوع للأعداء، فضلاً عن التفريط بمهمات الدين وشرائعه.
وقد كان من حق التجربة (العصرانية) المصرية أن تكون عبرة للمعتبرين، وموعظة للآخرين، وأن لا يُلدغ المؤمنون بعدها من جحر مرتين.
ومن مظاهر تسلل هذه الأفكار بين أهل الإسلام في بلادنا هذه الأمثلة التي وقفت عليها، ولعل غيري قد وقف على مثيلاتها:
1-أحد الدعاة الأفاضل ممن لهم جهود لا تنكر في نشر الخير ينشئ موقعاً على شبكة الأنترنت لا تجد فيه حساً ولا خبرًا لأحدٍ من كبار العلماء لدينا ! فلماذا هذا ؟! ومعلوم خطورة عزل جيل الشباب عن علمائه الكبار، حيث ينصرف بعدها إلى أناس لا علم عندهم ولا ورع، إنما هي المصالح والتحزبات التي تقود البلاد إلى فرقة وضعف.(73/3)
2-أحد الأفاضل من حاملي الدعوة لدينا يقول: بأنه لا مانع من وصف اليهود والنصارى بأنهم (إخوان لنا) !! ويعني بذلك الأخوة الإنسانية !([6])
3-داعية آخر يدعو إلى (المجتمع المدني) ! القائم على الانتخابات والبرلمانات.. الخ. وفاته أن المجتمع المدني في اصطلاح القوم هو المجتمع العلماني الذي لا يرجع إلى شريعة تحكم أفعاله([7]). وأن في دعوته هذه (تهييجاً) لعامة الناس على ولاة أمرهم بطريقة تفسد ولا تصلح. متغافلاً –هداه الله- عن الطرق الشرعية.
4-داعية آخر يكتب مقالاً بعنوان "المرأة إنسان"، يصوغه بلغة حداثية غريبة! يطالب فيه بإعادة النظر في قضايا المرأة!! ويحيل قارئه للفائدة على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للعصراني عبدالحليم أبو شقة! ([8])
5-كاتب إسلامي آخر يزعم –بجهل لا شك- أن "الحق المطلق لا يملكه أحد" !!وهذا مصطلح (كفري) يؤدي بصاحبه إلى الشك والحيرة والتذبذب([9]).
6-كاتبة إسلامية مرموقة تكتب عدة مقالات عن المرأة، تردد فيها أفكار العصرانيين والعلمانيين. حتى ليخال للقارئ بأنه يقرأ لإحدى داعيات تحرير المرأة في بلادنا ! فكيف حدث هذا ؟!
7-جريدة أسبوعية إسلامية تفتح صفحاتها لكتبة العصرانية من كل مريض وفاشل وطالب شهرة؛ ليلمز ويهمز من خلالها في دعوة الكتاب والسنة ويصفها بأبشع الصفات، ويبث شبهاته وانحرافاته تحت بصر وسمع الفضلاء أصحاب الجريدة ممن لهم تاريخ مشرف في مجال الدعوة والإعلام الإسلامي.
لأجل هذا كله ودرءً للخطر قبل وقوعه؛ فقد أحببت أن أنصح لإخواني دعاة الإسلام وحملته في هذه البلاد ببيان : كيف أصبحت العصرانية في مصر قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى مجتمعهم كما سبق؟ ليأخذوا حذرهم ويتبصروا أمرهم وما يكيده الأعداء لهم، فلا ينساقوا وراء الأفكار العصرانية مهما تزخرفت وتزينت كما انساق غيرهم، فيكون حالهم مع مجتمعهم كحال من :
رام نفعاً فضرَّ من غير قصدٍ ومن البر ما يكون عقوقًا(73/4)
وتضيع جهودهم السابقة المشكورة في التصدي لأهل العلمنة بهذه النهاية الموجعة –لا قدر الله- التي يخدمون بها أولئك المفسدين عن غير قصد، فيحق فيهم قول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً). عندها نقول لهم :
وإخوانٍ تخذتهمو دروعاً فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد سعينا كل سعي فقلت نعم ، ولكن في (فسادي)
أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام لأن (يأخذوا حذرهم) فلا يكونوا مطية لغيرهم، وأن يحسن لنا ولهم الخاتمة، ويستعملنا إلى أن نلقاه في طاعته.
مقدمة:
لقد كتب كثير من العلماء والباحثين عن المدرسة العصرانية الحديثة التي نشأت في ديار المسلمين نتيجة التقائهم بالغرب المتقدم مادياً، وأجادوا في بيان انحرافها عن الإسلام بلا مزيد عليه([10])، ولهذا فإنني لن آتي بجديد في هذا الموضوع، ولكني أردت من خلال هذا البحث المختصر التركيز على انحرافٍ واحدٍ من انحرافات تلك المدرسة –كما سبق- لعله يكون أخطرها، وتوسعت فيه بعض التوسع، ونقلت كلمات مهمة تتعلق به.
نشأة المدرسة العصرانية الحديثة: الأفغاني ومحمد عبده :
تعود نشأة المدرسة العصرانية الحديثة في البلاد العربية إلى جهود رجلين اجتمعا زمناً بمصر؛ هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده([11]) .
أما الأفغاني فقد كان غامض الأمر محيرًا للباحثين في حياته وبعد مماته، مما جعلهم يضطربون في مكان نشأته ومذهبه وأهدافه([12]). إلا أنه بعد نشر كثير من الوثائق والدراسات حوله لم يعد هناك مجالٌ للشك في كونه شيعياً إيرانياً([13]) أخفى ذلك ترويجاً لأفكاره بين أهل السنة الذين لن يجد منهم أي احتفاء لو كشف تلك الحقيقة بينهم .
ولكن الخلاف بعد تقرير أمر شيعيته وإيرانيته سيكون حول حقيقة أفكاره، وماذا كان يريد؟
هناك وجهتا نظر للباحثين كلاهما تمتاز بالقوة([14]):(73/5)
1-الأولى: أن الأفغاني كان يريد إعادة الدولة الشيعية إلى بلاد مصر، ولهذا اختار المقام فيها على غيرها من البلاد الأخرى. وأنه لأجل هذا كان يخفي شيعيته ويدعي الانتساب لآل البيت؛ ليتمكن من تكوين عصبة حوله تعينه على هذا الأمر إذا ما حانت ساعة الصفر –كما يقال-. وأنه كان لا يفضي بهذا الأمر إلا لخاصته؛ كمحمد عبده. وهذه ليست بغريبة على الشيعة الذين لا زالت قلوبهم تهفو إلى هذه البلاد منذ أن طردوا منها، فقد قاموا بعدة تجارب لأجل هذا الأمر؛ من أهمها تجربة السيد ! البدوي الذي أرسله أساطين الرفض في العراق إلى بلاد مصر، فكانت غايته –كما يقول الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف- : "أن يجمع عصبية في الديار المصرية للعلويين([15])، كتلك العصبيات التي كان يجمعها غيره من الصوفية في أقطار العالم الإسلامي حتى تكون عوناً لهم إذا ما تهيأت الفرصة، ونهضوا لطلب الملك"([16])
ومما يشهد لهذا : الغموض الذي أحاط الأفغاني به نفسه، حيث لم يوضح (بصراحة) حقيقة أفكاره؛ إنما هي أمور عامة يشترك معه فيها غيره.
ومما يشهد لهذا –أيضاً- أن تلميذه محمد عبده كان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات([17]):
ذرني وأشياء في نفسي مخبأة
لألبسن لها درعاً وجلبابا
والله لو ظفرت نفسي بطلبتها
ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبا
حتى أطهرهذاالكون من دنس
وأوجب الحق للسادات إيجابا
وأملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت
ظلماً وأفتح للخيرات أبوابا
فما هي هذه "الحاجات المخبأة في نفسه" ؟! ومن هم "السادات" الذين سيوجب لهم الحق، ويضرب لأجلهم أعناق الناس؟!
وجهة النظر الثانية: تقول بأن الأفغاني ما كان يحفل بالمذاهب كلها، سنيها وشيعيها، بل ما كان يحفل بالأديان نفسها! فالجميع –عنده- شيء واحد، فكانت دعوته موجهة نحو إيقاظ (الشرق) المتخلف –دون نظر إلى أديانه- لمواجهة أطماع (الغرب) المتحضر مادياً، والتحرر من سلطانه وضغوطه، والتخلص كذلك من حكم المستبدين .(73/6)
فما كان الإسلام عنده إلا ديناً من ضمن الأديان الكثيرة التي يدين بها أبناء الشرق. ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم بعدة أدلة:
أولها: أنه في كثير من مقالاته يصرح بأن دعوته (شرقية) لا إسلامية. فمن ذلك مثلاً: ما جاء في منهج العروة الوثقى وأهدافها بأنها "ستأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان"([18]) وقوله عنها : "إنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين"([19]) ويقول أيضاً مبيناً منهاج جريدته : "الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم. وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجنبيون وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجميع خيراتها"([20]) فسبب تركيز الأفغاني على المسلمين كونهم الأغلب في الشرق، ولو كان غيرهم يغلب عليهم لركز عليهم !
أما قضية دعوته إلى الجامعة الإسلامية فيقول عنها الأستاذ عثمان أمين:"إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين، وإنما هي في صميمها: الجامعة الشرقية"([21])
وقال الدكتور فهد الرومي : "أرى في مقالاته ومقالات تلميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق: مسلمها وغير مسلمها ضد الاستعمار"([22]) .
ويقول محمود أبو رية: "العروة الوثقى كانت تعمل للشرقيين عامة"([23]) ويقول الأستاذ: مصطفى غزال: "لو رجعنا إلى كتابات جمال الدين لوجدنا أن دعوته إلى الجامعة الإسلامية في حقيقتها دعوة إلى جامعة شرقية تضم العالم الإسلامي بما فيه من أديان مختلفة وجنسيات متنوعة"([24])
2-ومما يشهد لما سبق –أيضاً- : دخول الأفغاني في الماسونية التي لا تفرق بين الأديان([25]).(73/7)
3-ومما يشهد لذلك –أيضاً-: ما يصدر من الأفغاني بين الحين والآخر من كلمات في حق الإسلام، تدل على أنه لا ينظر إليه كخاتم للأديان أو أنه الحق دون ما عداه من الأديان الباطلة، وإنما تدل كلماته على أنه ينظر للإسلام كنظرته لأي دين آخر ظهر في الشرق، لا مانع من مجاملته إذا اقتضى الحال ذلك! ولا مانع –أيضاً- من نقده!! فمن ذلك مثلاً: أنه في رده على رينان الذين اتهم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين أيده على هذا! وقال :"في الحقيقة: إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم، وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية"([26]) وقال: "إن دين المسلمين يعوق من تطور العلم.. إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً"([27]) وقال : "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر، ما هو معروف، نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته. وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه"([28])! ويقول: "إن هذا الدين –أي الإسلام- حيثما حل حاول خنق العلوم"!([29]) .
مثال ذلك أيضاً: قوله للمصريين: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين ... تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين([30])، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه"([31]) فالمسلمون –عند الأفغاني- لم يكن فتحهم لمصر في سبيل نشر للإسلام ودعوة العباد إليه، إنما هم مجرد عرب ظالمين كغيرهم من الفاتحين.(73/8)
4-ومما يشهد لذلك أيضاً –كما يقول الدكتور فهد الرومي- :"هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ما سوني، ... وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية ... وكان من المحيطين به من النصارى : جورج كوتجي، وطبيبه الخاص هارون يهودي. ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي، وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود"([32])
5-ومما يشهد لذلك أيضاً: إنشاء تلميذه محمد عبده في بيروت "جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية"([33]) وقد اشترك معه في ذلك خليط من المسلمين وغير المسلمين.
كل هذه الأدلة تشهد على أن الأفغاني كان من الداعين إلى "الفكرة الشرقية" في مواجهة "الاستعمار الغربي"، وأما أمر الأديان فلم يكن يلقي له بالاً إلا ما يفيده في فكرته هذه .
فملخص دعوته كما يقول أنور الجندي: "الحرية، والدعوة إلى الحكم النيابي والدستور، والتخلص من النفوذ الأجنبي المتمثل في سلطان الدولة الأجنبية المقنع وراء الامتيازات الأجنبية والسيطرة على الاقتصاد والارساليات، والتحرر من الاستبداد السياسي المتمثل في حكم الفرد ونفوذ الخديو وحاشيته"([34]).
أما حكم الإسلام لديار المسلمين والتزامهم بشريعته، فهذا لا يأتي في اهتمامات الرجل، بل إنه كما سبق يرى أن الإسلام من الأديان المستبدة الخانقة للحرية!! ويعني بها حرية الكفر التي يسميها: الفلسفة .
هاتان وجهتا نظر في حقيقة الأفغاني وأهدافه، ولعل الثانية منهما أصوب من الأولى نظراً لقوة أدلتها لمن تأمل .
ماذا فعل الأفغاني بأهل مصر ؟ !(73/9)
عندما قدم الأفغاني مصر زمن الخديو إسماعيل (1871م) كانت البلاد تعيش في انسجام وألفة بين الرعية وولاة أمورهم، ولا يمنع ذلك من وجود الانحراف([35]) الذي كان يعالج من خلال النصيحة الشرعية التي يقوم علماء البلاد المتمثلين في شيوخ الأزهر. وكان للبلاد مجلس شورى يتم من خلاله التشاور حول ما يتعلق بالشئون الداخلية والخارجية([36]).
ولكن هذا الوضع (الشرعي) للبلاد لم يُرض الأفغاني (العصراني) (الثوري) الذي رأى فيه ذلاً واستكانةً للحاكم المنحرف، ورأى أن حل مشاكل البلاد لا يكون بما يقوم به شيوخ الأزهر ومناصحاتهم. إنما يكون من خلال الثورة (وتهييج) الناس على ولاة أمرهم. وقد سعى إلى ذلك من خلال دروسه التي كان يلقيها على مريديه([37])، ومن خلال الصحف والمجلات التي سعى كثيراً إلى إصدارها عبر تلاميذه، وحثهم على نشر أفكاره فيها، وكلها تدور حول الثورة وما يسميه زورًا بالحرية! ([38])
أحس ولاة الأمر([39]) وعلماء البلاد بخطورة ما يقوم به هذا القادم الغريب، مما لمسوه من انتشار أفكاره الثورية بين بعض الأفراد مما يشكل خطراً على أمن البلاد ووحدتها؛ فقرر الحاكم (الخديو توفيق) بمشورة من العلماء نفي الأفغاني وطرده من البلاد لئلا يزداد شره، وذلك عام (1879م). أي بعد سبع سنوات من قدومه.
يقول تلميذه محمد عبده متحسراً بأن الخديو "أظهر سروره مما فعل، وتحدث به في محضر جماعة من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان"([40])
لقد طُرد الأفغاني ولكن بعد أن بذر بذرة الفساد في أرض مصر، وبعد أن تلقفت عقول بعض السُذج والحمقى أفكاره معتقده أن فيها صلاح البلاد، ولكنها –كما سيأتي- قادتهم إلى الهلاك والخسار بسقوطهم محتلين في يد أعداء الإسلام من الإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة في شق صف البلد المسلم؛ حتى يسهل عليهم احتلاله .(73/10)
رحل الأفغاني عن مصر ولكن أفكاره المفسدة بقيت تعمل في العقول إلى أن بلغت نهايتها بقيام الثورة العرابية على الحاكم المسلم بقيادة أحد المتأثرين بالأفغاني (وهو أحمد عرابي) ومعاونة من بقية تلاميذ الأفغاني، وعلى رأسهم محمد عبده وعبد الله النديم (خطيب الثورة!) وغيرهم([41])، فاستغلت بريطانيا الوضع وتدخلت تحت دعوى حماية الأجانب والدفاع عن الحاكم الشرعي!، واحتلت البلاد وقضت على الثورة، ولم تخرج إلا بعد سبعين عاماً تقريباً !!
فانظر –رعاك الله- واعتبر بمآل الأفكار الثورية العاطفية.
يقول محمد عبده : "كان السيد ! جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، شديد الميل إلى الحرية، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل.." ([42])!
قلت: بل نقلهم من ذل المسلمين إلى ذل الكافرين !
وقال سليم العنحوري النصراني تلميذ الأفغاني ! في ترجمته لشيخه بعد أن ذكر شيئاً من خطبه الثورية : "وأخذ القوم يشكون من حكومتهم، متململين، ويتطاولون بأعناقهم إلى ما يقول مشرأبين، ومذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية"([43]) .
وقال -أيضاً-: "كان روح الثورة قد امتد في القطر، بحيث لم يكن إجلاء الأفغاني إلا ليزيده سرياناً وانتشارًا"([44]) .
ويقول أبو رية عن الثورة العرابية : "إن هذه الثورة قد شبت من تعاليم جمال الدين"([45]) .
ويقول الدكتور عثمان أمين: "ليس هناك شك في أن لجمال الدين يدًا في الحركة العرابية"([46])
ويقول الدكتور مجدي عبد الحافظ –وهو معجب بصنيع الأفغاني!-: "إن الثورة العرابية لم تكن إلا غرسًا طيبًا من تعاليم الأفغاني"([47])
محمد عبده :
أما محمد عبده، فهو أبرز تلميذ للأفغاني، تعرف عليه وهو في عمر صغير يبلغ الثانية والعشرين، فصادفت أفكار الأفغاني قلباً خالياً فتمكنت منه. فأصبح عبده يرددها ويبشر بها من حوله .(73/11)
يقول الدكتور فهد الرومي: "لئن كان السيد ! جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة، فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها، ونشرها بين الناس، فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وإمامها الأول، فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه"([48]) .
وقد فاق عبده شيخه في مسألة تطويع الإسلام وتشكيله بما يوافق حضارة الغرب وثقافته، نظراً لخلفية عبده الدينية التي افتقدها الأفغاني .
محمد عبده (الثوري) :
لقد تشرب محمد عبده الأفكار (الثورية) (التهييجية) من شيخه الأفغاني -كما سبق- وآمن بها، ولم يكن يعارضه فيها، وهذا من المآخذ العظيمة عليه، حيث كان يعلم –وهو الشيخ الأزهري- عدم شرعية هذه الطريقة([49])؛ وهي تأليب الشعب والعامة على ولاة أمورهم، وتجرئتهم عليه بنشر معايبه، وكان الأولى به أن يقف في وجه انتشار هذه الأفكار الثورية، وأن يسلك الطريق الشرعي الذي سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ وهو مناصحة الحاكم فيما أخطأ فيه وانحرف، وتقديم المقترحات النافعة للبلاد لتتخلص من
مشاكلها، والصبر على جور الحاكم وأثرته، كما قال صلى الله عليه وسلم : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عملهم ولا تنزعوا يدًا من طاعة"([50]) وقال صلى الله عليه وسلم : "عليك السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرةٍ عليك"([51]) .(73/12)
فكان الواجب على محمد عبده الشيخ الأزهري أن لا تأخذه العاطفة فينساق مع تلكم الأفكار الضارة التي لا تزيد الأمر إلا شدة وسوءً وضررًا. كما هي سنة الله الثابتة في هذه القضية على مدار التاريخ الإسلامي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"([52])
وقال : "إن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد.." ([53])
المهم: أن محمد عبده سكت عن هذه الأفكار الثورية ولم يساهم في وأدها، بل غض الطرف عنها، وتعاطف معها، إلى أن نمت وتعاظمت، حتى كانت نهايتها قيام جهلة العسكريين بقيادة أحمد عرابي بثورتهم ثم (خروجهم) على ولي أمرهم([54])، الأمر الذي دعاه –وهو ضعيف الدين والعقل- أن يستعين بعدوه وعدوهم (إنجلترا النصرانية) في سبيل إخماد هذه الثورة والحفاظ على ملكه وكرسيه، فما كان من (إنجلترا) –المستعدة لمثل هذا الأمر!- إلا أن لبت النداء ونزلت بجيشها إلى أرض مصر، وقضت على (الثوريين) بقيادة عرابي، ثم طاب لها المقام هناك! فلم تخرج من أرض مصر إلا بعد أكثر من سبعين عاماً !!! فانطبق على محمد عبده وعرابي ومن معهم المثل القائل : (أراد أن يبني قصرا فهدم مصرا)!، فهم أرادوا إنكار ظلم وجور الحاكم بطريقتهم الثورية الخرقاء التي ورطهم بها الأفغاني؛ فتسببوا في ضياع بلادهم وتسليمها لقمة سائغة للنصارى، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. نسأل الله العافية، وأن يجعل من هذه الحادثة عبرة لأبناء الإسلام لكي لا يندفعوا خلف الأفكار الثورية التي تدغدغ العواطف في بداية أمرها، ولكنها سرعان ما تسيل الدماء بدل الدموع في نهايته. (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) ([55]) .
نهاية ثورته :(73/13)
قبض على محمد عبده بعد إخماد ثورة عرابي نظراً لتعاطفه معه ومؤازرته له، فكان نصيبه من الأحكام السجن، ثم النفي خارج البلاد المصرية. وقد نال غيره نصيبهم من الأذى والانتقام.
محمد عبده والانقلاب من (الثورية) إلى (العصرانية) :
لقد أصيب محمد عبده بذهول وصدمة شديدة بعد فشل حركة عرابي وقمعها وتمزيقها، مما جعله –وقد توحد وتفرد في السجن- يعيد النظر في هذا المسلك (الثوري) الخاطئ الذي سار فيه فكانت نهايته موجعة عليه وعلى بلاده. ولكن عبده بدلاً من أن ينتقل من (الثورية) إلى الاعتدال والطريق الوسط القائم على العلم الشرعي ونشره بين الناس وتربيتهم عليه، مع الصبر على جور الحاكم ومناصحته إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر، بدلاً من هذا ارتد إلى الطرف الآخر المقابل للفكر (الثوري) وهو الاستسلام للواقع والتبشير بالفكر (العصراني) الذي يُطَوع الإسلام وأحكامه بما يوافق العصر، ويجعل ما يسمى "بالتعايش السلمي"([56]) مع الكفار هدفاً له، ورأى أن علاج مشاكل المسلمين وضعفهم سيكون في تبني مثل هذا الفكر، إضافة إلى تضخيمه لدور العقل على حساب النصوص الشرعية([57])؛ فانتقل من النقيض إلى النقيض، ومن مفسدة إلى أخرى أشد منها –كما سيأتي-.
ولهذا: فقد أصبحت مهمة محمد عبده بعد أن عاد من المنفى –كما يقول الدكتور محمد محمد حسين- : "التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالاً مختلفة؛ فظهر أحياناً في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر. وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه السلف في تفسيرها، ليقرب بها أقصى ما تحتمله، بل إلى أكثر مما تحتمله في بعض الأحيان من قُرب لقيم الغرب وتفكيره؛ لكي يصل آخر الأمر إلى أن الإسلام يساير حضارة الغرب، ويتفق مع أساليب تفكيره ومذاهبه"([58])
جهود الكفار في نشأة العصرانية وصناعتها :(73/14)
لقد أذن الإنجليز بعودة محمد عبده من منفاه إلى مصر بعد أن تأكدوا من هجره لأفكاره الثورية السابقة، وتبنيه (الفكر العصراني) المتعاون مع الإنجليز والمهادن لهم. يقول الأستاذ غازي التوبة: "كان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر، وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: "إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني.."([59])
لقد كان الإنجليز رغم احتلالهم لمصر يعلمون أن المجتمع المصري لن يقبل بهم وبأفكارهم بسهولة، بل سيظل يجاهدهم ويعمل على الخلاص منهم؛ لأنهم في نظره (كفار) نصارى محتلون لبلاده. فقد كانت الصفوف وقت احتلال الإنجليز لمصر متمايزة: الشعب المصري المسلم ومن خلفه شيوخ الأزهر من جهة، والمحتل الكافر من جهة أخرى.
وهذا التمايز كان يضيق به الإنجليز، ويعلمون أنه يحول بينهم وبين تنفيذ خططهم في (تغريب) البلاد و(علمنتها) وجعلها تتقبل فكرة أن تكون مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية البريطانية([60]) .
والإنجليز –أيضاً- يعلمون أن الشعب المصري المسلم لم يكن ليتقبل الأفكار العلمانية الصريحة التي ينادي بها المحتل وأعوانه من أقباط مصر أو النصارى العرب القادمين من الشام.
إذاً فالحل هو صنع طائفة جديدة ترتدي المسوح الإسلامية وتقوم بمهمة (تمرير) الأفكار التغريبية العلمانية بين أفراد المجتمع، وخير من سيقوم بهذه المهمة: الشيخ! محمد عبده الذي كان محبطاً من جدوى العمل (الثوري) –كما سبق-، ومن معه من النبهاء أصحاب الطموح السياسي أو أصحاب الشذوذ الفكري([61]). يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله بأن المستعمر الإنجليزي قام لأجل ذلك بـ"تربية جيل من المصريين العصريين الذين يُنَشؤن تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير ... "([62])(73/15)
وقال الدكتور مبيناً خطورة المهمة التي قام بها محمد عبده ومدرسته العصرانية: "وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يُشوّش قيمه ومفاهيمه الأصيلة بإدخال الزيف على الصحيح، ويثبت الغريب الدخيل ويؤكده. فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أن هذا الذي غُلبوا على أمرهم فيه ليس من الإسلام، والأمل قائم في أن تجيئ من بعدُ نهضة صحيحة ترد الأمور إلى نصابها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءهم من بعدُ من يريد أن يردهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتهموه بالجمود والتمسك بظاهر النصوص دون روحها"([63]).
-كانت عملية صناعة الطائفة (العصرانية) تتم من خلال الصالونات التي انتشرت بعد الاحتلال الإنجليزي، لا سيما صالون الأميرة (نازلي فاضل) ([64]) التي كانت –كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- المرأة "الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تُبث منه الدعوة إلى التغريب.." ([65]) فكان صالونها شبكة صيد لكل طامح نابه مؤهل لتأدية الدور "العصراني" الذي سيقوم به ! وكانت هذه الصناعة تتم تحت نظر المندوب الإنجليزي في مصر (اللورد كرومر) الذي كان من خلال هذا الصالون كما يقول الدكتور رفعت السعيد "يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية"([66])، وقد وجد بغيته وصيده في الشيخ! محمد عبده وتلاميذه المتأثرين به.(73/16)
يقول الدكتور فهمي الشناوي عن الثعلب كرومر: "ابتداء من 1905م بدأ أخطر وأخبث حيلة؛ حيث ابتدأ في اصطياده نبهاء الأمة الإسلامية في شبابهم، ليلتقطهم ويسند إليهم مناصب كبيرة تخدم خط تكوين قومي على حساب الأمة: التقط سعد زغلول([67]) وأسند إليه وزارة المعارف 1906م أهم الوزارات. والتقط الشيخ محمد عبده وجعله مفتي للديار، وبذلك ضمن أولاً تفريغ صفوف الأمة الإسلامية من رجالها ونقلهم إلى صف التفاهم مع الغرب، والتفاوض مع الغرب، واتخاذ الغرب نموذجاً ولو جزئياً ولو ثقافياً.
وأنشأ لنفسه مكاتب وصالونات تروج لفكرة اصطياد نبهاء الأمة –مثل صالون الأميرة ناظلي فاضل، وتم اصطياد لطفي السيد الذي اندفع اندفاعا أعمى ضد الأمة بمقولة "مصر للمصريين" أي ليست للإسلاميين حتى لو صارت للقبط ما داموا مصريين! وأسموه فيلسوفاً دون أن تكون له أدنى علاقة بالفلسفة.
واصطاد عبد العزيز فهمي حتى أصبح قاضي قضاة مصر، ولكن بالقانون النابليوني لا بالشريعة !
واصطاد قاسم أمين الذي روج بدعوى مساواة المرأة إلى خلخلة تقاليد وأعراف المجتمع الإسلامي([68]).
واصطاد عبد الرحيم باشا الدمرداش ليجعل للصوفية على الوعي السياسي الإسلامي قدحا معلى.
واصطاد خلفاؤه من بعد نبهاء؛ أمثال عبد الخالق ثروت وطه حسين، وعناصر قبطية؛ مثل البروتستانتي مكرم عبيد سكرتير المستشار القضائي، الذي وصل لقمة الحركة الوطنية، واليهودي رينيه قطاوي الذي وصلوا به إلى وزير مالية لسعد زغلول وزوجته وصيفة للسراي، ومئات غير هؤلاء. وهذا كله لصياغة مجتمع جديد من عجينة جديد"([69]) .
ويقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز"([70]) لعلمه بأن المجتمع المسلم قد يتقبل من هذه الطائفة المتدثرة باللباس الإسلامي ما لا يتقبله من الاحتلال أو من العلمانية.(73/17)
أما عن الأفكار التي كان الاحتلال يريد ترويجها بين المسلمين عن طريق الطائفة (العصرانية) بقيادة الشيخ ! محمد عبده فهي:
1-التقريب بين المسلمين والكفار، وقد ابتدأت جهود محمد عبده في هذا الأمر عندما كان منفياً في بيروت حيث أسس جمعية للتقريب بين الأديان –كما سبق- ومن أقواله: "نستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما على الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين"([71]) !
ويقول لتلميذه رشيد رضا: "إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي"([72]) .
2-إماتة روح الجهاد في الأمة الإسلامية، وهو أمر مترتب على السابق، يقول الدكتور فهد الرومي: "لعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان: القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام. فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق، وليس بينها من فرق، فليس هناك من داعٍ لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً"([73]) .
قلت: ولهذا كان محمد عبده يرى بأن الجهاد في الإسلام هو للدفاع فقط! ويقول: "القتال فيه –أي الإسلام- لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله"([74]). وهكذا كان رأي تلاميذه من بعده([75]).
بل لم تقتصر محاولة إماتة الجهاد عند محمد عبده على بلاد مصر فقط بل كان يرسل النصائح بذلك إلى علماء الجزائر المحتلة حينذاك من فرنسا!
ومن ذلك قوله للشيخ الجزائري عبد الحميد سمايا سنة 1903م بعد أن نصحه: "الناس محتاجون إلى نور العلم، والصدق في العمل، والجد في السعي؛ حتى يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم من أهل الأمم الأخرى"([76]) !! فالمهم عند عبده ومن سيتبعه من العصرانيين! "أن يعيش في سلام وراحة" وإن كانت بلاده محتلة مستعبدة من عبّاد الصليب !(73/18)
والعجب لا ينقضي من حال محمد عبده، الذي انعكست الأمور عنده، فجعل جهده وجهاده –كما سبق- في تهييج المسلمين على ولي أمرهم، والمساهمة في الخروج عليه. وهو أمر لا يقره الشرع. ثم تجده هنا عندما احتاج المسلمون إلى جهاد الكافر المحتل، وهو أمر شرعي، يثبط عن ذلك ويرضى بالمسالمة ! فحُق أن يقال له ما قاله أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى!
3-الدعوة إلى الوطنية الإقليمية، وعزل مصر عن العالم الإسلامي. ولمحمد عبده في هذا المقام أقوال كثيرة تؤسس لمثل هذه الفكرة الجاهلية التي تطورت من بعد على يد تلاميذه؛ لاسيما أحمد لطفي السيد صاحب شعار "مصر للمصريين"!
ومن ذلك: قول محمد عبده: "يا أبناء الوطن: لئن فرق بينكم اختلاف الآراء، وتنوع المشارب، وتلون التصورات، فقد وجدتم في الجامعة الوطنية ما تأتلفون به وتجتمعون عليه.." ([77])
ثم تبنت الثورة العرابية التي هي ثمرة أفكار العصرانيين هذه الوطنية الجاهلية. يقول الدكتور فهمي الشناوي: "الثورة العرابية هي مأساة إجهاض الأمة الإسلامية؛ حيث انتهت بانفصال مصر عن الخلافة، وبدأت تتكون مصر كوطن.." ([78])
4-الدعوة إلى "تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية"([79]) من خلال: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حتى دخل منه القادر وغير القادر، وصاحب الورع وأصحاب الهوى؛ فظهرت الفتاوى الشاذة من جراء ذلك([80]).(73/19)
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "إن الاجتهاد في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطر غير مأمون العواقب؛ يخشى معه أن يتحول –من حيث لا يدري المجتهد إن وجد ومن حيث لا يدري- إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو معجب بها. فإذا لم يكن معجباً بها فالمجتمع الذي هو معجب بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهاله الذي يتصدون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون حتى يفقد ثقته في نفسه، ويعتبر به غيره، فيفتي حين يُستفتى وعينه على الذين يفتيهم يريد أن يرضيهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاء للخلق، ويذهل عما عند الله تعجلاً لما عند الناس"([81]).
قلت: وللشيخ! محمد عبده نصيب كبير من هذه الفتاوى (العصرية) التي طوعت أحكام الإسلام لما يريده المحتل الأجنبي أو ما يريده أهل العصر؛ كفتواه بإباحة ربا صناديق التوفير، وإباحة ذبائح النصارى التي يضربونها بالبُلط ولا يذكرون عليها اسم الله! ولدى العصرانيين في كل زمان ومكان مزيد !([82]).
يقول الدكتور محمد محمد حسين معلقاً على فتاوى عبده : "مثل هذه الآراء قد تبدو في ظاهرها لا بأس بها، ولا غبار عليها، بينما هي في حقيقة الأمر تدعو إلى مذهب التحرر (Liberalism) الذي يذهب في التسامح الديني إلى درجة تكاد تنمحي معها الحدود الفاصلة بين المذاهب والنحل"([83]). وهذا كلام نفيس يغيب عن السذج الذين ينظرون إلى مثل هذه الآراء على أنها مسائل فقهية مجردة.
5-الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، وهو هدف أساس لدى الكفار في كل حين وآن، وقد قام الشيخ ! محمد عبده ومدرسته بتحقيقه أيما تحقيق.(73/20)
أما الشيخ! فقد صدرت مجلة (السفور) بإشارة منه([84]). وقد شارك مشاركة فعالة في تأليف كتاب (تحرير المرأة) لتلميذه قاسم أمين كما أثبت ذلك بعض الباحثين([85]). وأما تلاميذه فقد اشتطوا أكثر منه في هذه القضية؛ فتلميذه قاسم بعد ست سنوات من تأليفه (لتحرير المرأة) كشر عن أنيابه وأبان عن حقيقة فكرته التغريبية في كتابه الآخر (المرأة الجديدة) "الذي بدأ فيه أثر الحضارة
الغربية واضحاً"([86]) "وبينما كنت تراه هادئا في كتابه الأول، يحوم حول النصوص الإسلامية، ويمتص رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة، انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه، عبارات لا تقرها المرأة ذاتها. فهو لا يقبل بزعمه: حق ملكية الرجال للنساء!" ([87])
وتلميذه الآخر سعد زغلول كان من المؤيدين بشدة لهذه الفكرة وكان –كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- : "المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين"([88]) وذلك بواسطة زوجته صفية التي كانت من أوائل المتحررات.
وأما لطفي السيد، فقد قال الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر"([89]) .
وقال –أيضا- : "ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة"([90]) .
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حسن تفكيره"([91]) .(73/21)
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة،([92]) وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجامعة المصرية) هو وأصحابه -وعلى رأسهم طه حسين!- بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهن في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها".
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
والخلاصة كما يقول الشيخ ناصر العقل –حفظه الله-: "تركيز الاتجاهات العقلية الحديثة على إفساد المرأة من الأمور التي أصبح يدركها ويدرك آثارها وخطرها جميع الناس على مختلف مستوياتهم، وقد فعلت وقطعت في ذلك خطوات واسعة، ولا أظنني مبالغاً حين أرى أن نجاح الاتجاهات العقلية في إفساد الأمة والعقيدة والناشئة الإسلامية عن طريق إفساد المرأة أكثر منه عن طريق غيره من الوسائل الأخرى الفكرية والعملية"([93])
كيف صُنعت العصرانية ؟ !
لقد استخدم الإنجليز في مصر بقيادة الثعلب كرومر خطة ماكرة في سبيل صناعة الطائفة العصرانية وتقديمها لأبناء المجتمع المصري المسلم كممثل للصوت الإسلامي، وهي في حقيقتها مجرد وسيط ناقل للأفكار العلمانية التغريبية التي ترسخ الوجود الأجنبي والثقافة الغربية. ومن المهم جدًا معرفة نقاط هذه الخطة الماكرة؛ لأنها مما كرره ويكرره الغرب وأذنابه في مختلف بلاد المسلمين ؛ليحذرها أهل الإسلام – لا سيما الدعاة - . فإليك ما تبين لي منها:(73/22)
1-الثناء والمديح من الغرب على الطائفة العصرانية: وأنها تمثل (وسطية) الإسلام! واعتداله! فمن ذلك: قول اللورد كرومر عن محمد عبده ومدرسته: "لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883م كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق([94]) فعين الشيخ بعد ذلك قاضياً في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة. وفي سنة 1899م رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع مابه من سعة العقل واستنارة الذهن. وأذكر مثالاً على نفع عمله: الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير، فقد وجد لهم باباً به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء([95]).
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عاماً([96]). والغاية العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني. فعملهم شاق وقضاؤه عسير: لأنهم يُسْتهدفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين.(73/23)
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ولكنهم قليلون، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلالة والخروج عن الصراط المستقيم، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة. فهم وسط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غير أن معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين إذ هؤلاء لا يكاد يسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية المصرية أولا، وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام، إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه. فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين"([97]).
وقال أيضاً: "إن حزب الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر"([98])
وقال عنه أيضاً: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى"([99])
ويقول الأستاذ سيد يوسف في كتابه (الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد..، ص67): "أدرك كرومر منذ البداية دور التهدئة الذي يمكن أن يقوم به محمد عبده؛ فأثنى عليه، وتظاهر له بتشجيع مشاريعه وطموحاته..".
ويقول أحد المستشرقين عن محمد عبده : "يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث ... .. إن كتابات الشيخ محمد عبده تمتاز بشيء من الجدة في روحها ... إلخ المديح"([100])(73/24)
ويقول الدكتور الإنجليزي ادوارد براون عنه : "ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله"([101]) !!
يقول الدكتور محمد محمد حسين عن محمد عبده: "كثرة من النصوص في كتب ساسة الغرب ودارسيه تصور رأيهم فيه وفي مدرسته وتلاميذه ومكانه من الفكر الحديث، وهي جميعاً تتفق على تمجيده والإشادة به وبما أداه للاستعمار الغربي من خدمات؛ بإعانته على تخفيف حدة العداء بينه وبين المسلمين.." ([102])
2-تسليط الأضواء عليهم وتلميعهم عبر وسائل الإعلام!
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في كلام خطير ينبغي تأمله: "والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال –أي العصرانيين- قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها، والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه. فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام –كما لاحظ جب في كتابه (Modern Trends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاء الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن يُنسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائم ما اتصف به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهماً أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سو قصد، وليس مهماً أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنتهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأت بعيدة عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلها وعمل على ترويجها. المهم في الأمر هو أن المجد الذي ينسب لهؤلاء الأفراد ليس من صنعهم ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها، ولكنه من صنع القوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن تستغلهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار أو هي الصهيونية العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.(73/25)
وخطة الاستعمار والصهيونية العالمية في ذلك كانت تقوم –ولا تزال- على السيطرة على أجهزة النشر التي نسيمها الآن (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَون ويُنَشَّؤن بالطريقة التي يُبْنى بها نجوم التمثيل والرقص والغناء، بالمداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرين الذين يصورون وجهات النظر المعارضة، أو تشوَّه آراؤهم وتُسفَّه، ويُشهَّر بهم. ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل"([103])
قلت: وهذا كلامٌ نفيس من رجل خبر القوم، يحق لأهل الإسلام أن يتأملوه ؛ فيتثبتوا من خطواتهم .
ويقول رحمه الله متحدثاً عن رأسي العصرانية في هذا الزمان: الأفغاني وعبده، وهو حديث ينطبق على مدرستهما : "كان من وراء الأفغاني ومحمد عبده كليهما قوتان كبيرتان تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذكرهما، وهما: الماسونية –قمة الأجهزة الصهيونية السرية- والاستعمار. وقد نجحت هاتان القوتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كله، وفي إضعاف أثر أعدائهما الكثيري العدد من علماء الإسلام المعاصرين، وحجب ما كتبوه عن جمهور القراء، فلم يمض على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر –موطن المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني- عامراً بأنصارهما الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)" ([104])
3-تشجيعهم ودعمهم في تولي المناصب المهمة:
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "وقد ظل أصدقاء محمد عبده وأنصار دعوته يكثرون بما يلقون من تشجيع الإنكليز، الذين كانوا يمكنون لهم في إدارات الحكومة وفي مناصب الدولة الكبرى"([105])(73/26)
ويقول اللورد كرومر: "إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة، ولكنه عمل شاق، فضلاً عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين، كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء، لولا أن الإنكليز أيدوه بقوة"([106])
وأما سعد زغلول فقد اختاره اللورد كرومر –كما سبق- وزيراً للمعارف([107]). وكان سعد يقول عن اللورد كرومر –كما في مذكراته- : "كان يجلس معي الساعة والساعتين، ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية"!([108])
وبعد وفاة محمد عبده استمر الدعم لتلاميذه وتياره الذي تمثل في حزب "الأمة". يقول أحد الباحثين الأجانب: "لقد تلقى حزب الأمة عونًا حقيقياً وأكيدًا من اللورد كرومر"([109])
العصرانية والعلمانية وجهان لعملة واحدة !
من تأمل جيدًا أهداف وأفكار (العصرانيين) وجدها نفسها أهداف وأفكار (العلمانيين)، وإنما الفارق شكلي: وهو أن (العصرانيين) قدموا أفكارهم بعد أن غلفوها وألبسوها اللباس (الشرعي)، وأما (العلمانيون) فلم يفعلوا هذا.
فالطائفتان تلتقيان في نهاية الأمر حول أهداف واحدة: كالتقارب بين الأديان، والدعوة للديمقراطية الغربية، والتهوين من شأن الحكم بما أنزل الله، والتحايل على إسقاط أحكام الشريعة؛ لاسيما الحدود، والدعوة إلى تحرير المرأة.. الخ.(73/27)
لهذا: فإن عقلاء الباحثين ممن ينظرون إلى مآل الأفكار لا حاضرها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من غيرهم لم يخفَهم هذا الالتقاء بين الطائفتين، ورأوا أن الطائفة العصرانية إنما هي بوابة وقنطرة للعلمانية، وأنه لا مكان في جميع الأفكار التي طرحوها للون الرمادي الذي يزعمون أنهم يتبنونه، وأنه وسط بين الأبيض والأسود، فهذا اللون –في الحقيقة- لا يوجد إلا في الأذهان، أما في أرض الواقع فلا مجال إلا بالتزام أحكام الإسلام وهو اللون الأبيض، أو اللحاق بركب العلمانيين، وهو اللون الأسود. ومن ادعى أنه سيسير بينهما فهو واهم، وعن قريب هو صائر إلى أحدهما كما حدث لتلاميذ المدرسة العصرانية؛ حيث انضم أكثرهم إلى العلمانية (الخالصة)، وتراجع قلة منهم عندما عرفوا مصير السير وراء الأفكار التوفيقية الرمادية؛ كرشيد رضا([110]).
1-يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري واصفاً وضع المدرسة العصرانية: "فالحاصل إن إدخال الأفكار الوافدة –بعد تشذيبها- ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فهي نظراً لكونها جزيئات من حضارة أخرى ذات محتوى اعتقادي مغاير، فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية الخاصة المعدية، والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك –بوعي أو دون وعي من التوفيقيين (أي العصرانيين) الذين قبلوها بشروطهم وضوابطهم- تتحرك حسب منطقها الذاتي وقوانينها الحركية الوافدة معها من كيانها الحضاري الأول، إلى أن تخلق دينامية مستقلة تؤثر على المركب الفكري التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية، أو تخل بالمعادلة كلها لتشق طريقها في تيار متميز خارج مجرى التوفيق. هذا إذا لم تنشطر التوفيقية إلى نقيضيها نتيجة لذلك.
وهذا ما يفسر خروج أشهر العلمانيين في الفكر العربي مثل لطفي السيد وطه حسين من تحت العباءة التوفيقية للشيخ محمد عبده"([111])(73/28)
2-ويقول ألبرت حوراني عن محمد عبده: "كان يريد أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى العلمانية"([112])
3-ويقول الدكتور محمد كامل ضاهر: "أعطى الشيخ محمد عبده تشجيعاً كبيراً للعلمانيين ومنطلقاتهم الفكرية، بل إنهم اعتمدوا على الكثير من آرائه لدعم اتجاهاتهم وحركتهم في مجتمع مشبع بالقيم والتقاليد الدينية الراسخة. فماذا يطلب العلمانيون أكثر من رأيه في السلطتين الزمنية والدينية؟! ونظرته إلى العقل، ودوره في تنظيم شؤون الحياة والمجتمع؟ ورأيه في المرأة وفي كثير من المسائل المالية والاجتماعية التي اجتهد فيها لمصلحة الأمة والوطن والفقراء من الناس، وليس للمصالح الفردية؟. وإذا صح أن معظم ما كتبه قاسم أمين عن المرأة هو من بنات أفكار عبده فذلك يعني أن الرجل أصبح في أخريات عمره مشبعاً بالأفكار العلمانية الغربية ومتحمساً لها، حتى أنه كان في طليعة الدعاة لإنشاء الجامعة الأهلية المصرية التي افتتحت عام 1908. لقد تركزت استراتيجيته الحقيقية على إحياء حقائق الإسلام على ضوء الفكر الحديث، وعلى جعل الأخلاق قاعدة الحياة الاجتماعية والفكرية الجديدة في مصر، دون أن يحاول استئصال الماضي أو إحيائه كلياً، بل اعتمد هذا الماضي كأساس لبناء مجتمع متطور توفره ثقافة الغرب العقلية وعلومه الحديثة.(73/29)
وإذا كان عبده قد حاول أن يكون سدًا منيعاً أمام العلمانية المادية التي حملها المهاجرون الشوام المسيحيون إلى مصر، فإن ما طرحه من أفكار تنويرية جعل معظم العلمانيين المسلمين يتخذون من أفكاره سلاحاً يدافعون به عن معتقداتهم الهادفة إلى علمنة كاملة للمجتمع الإسلامي العربي، وفي طليعتهم قاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وزملاؤه في حزب الأمة"([113])
4-ويقول النصراني (جب) عن محمد عبده: "إن ما أثر على نفوس قرائه العلمانيين: تلك الروح التي عالج بها مسائل العقيدة والتطبيق؛ لاسيما القوة التي حارب بها التعليم التقليدي"([114])
5-ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه (تاريخ مصر السياسي) ([115]) عن محمد عبده وتلاميذه بأنهم: "كانوا أكثر فعالية من كل العلمانيين الصرف" !
6-ويقول الأستاذ نعيم عطيه : "ولا شك في أن محمد عبده لعب دوراً رئيسياً في محاولة التوفيق بين المبدأ الديني والعلم، وبذلك أعطى العقل سندًا قوياً منتصراً له على التقليد. وفتح في الخط الديني الملتزم ثغرة كبرى أتيح بفضلها للتيار العلمي أن يدخل حلبة الصراع الفكري ويثبت أقدامه قوة قائمة بذاتها. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحول التيار العلمي على صعيد العمل السياسي البحت إلى دعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة"([116]) .(73/30)
7-ويقول الشيخ سفر الحوالي([117]): "لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوربية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي، وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية. وهو قائم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً. أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار (الشيخ) الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغيير العلماني"([118])
8-ويقول الشيخ ناصر العقل عن محمد عبده وتلاميذه: "لهم آراء ومناهج ليست علمانية (صريحة) لكنها في سبيل العلمنة"([119])
9-ويقول الدكتور سعيد الزهراني: "لقد تركت أفكار محمد عبده أثرها على تلاميذه، ومن جاء بعده، بل لقد عظمت حتى وصلت إلى الصراحة بموافقة الفكر الغربي العلماني"([120])
10-ويقول الشيخ محمد بن إسماعيل : "لقد كان محمد عبده يريد أن يقيم سدًا في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية اللادينية:
رام نفعاً فضر من غير قصد
ومن البر ما يكون عقوقا"([121])
11-ويقول الأستاذ محمد حامد الناصر بعد دراسته لأفكار العصرانيين : "حقيقة العصرانية: دعوة إلى العلمانية"([122]) ثم ذكر أقوالاً لبعض العصرانيين الأحياء؛ كحسن حنفي ومحمد عمارة يصرحون فيها بتبني العلمانية.(73/31)
12-ويقول الدكتور عبد الرحمن الزنيدي: "لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية أن تقمص بعض أتباعها رداء الإسلام؛ ليتحركوا تحت رايته بعلمانيتهم بأسماء مختلفة؛ كالإسلام التقدمي، وفكر الإستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي ... "([123])
العلمانيون يدعمون العصرانيين!!
لقد عرف العلمانيون حقيقة أفكار العصرانيين، وأنها نفس أفكارهم، ولكنها تجد القبول من سُذج المسلمين نظراً لواجهتها الإسلامية، وكونها تستتر خلف الشيخ!! فلان، والداعية!! علان، بخلاف أفكارهم العلمانية الصرفة، ولهذا فقد تترسوا بهم، ووجدوا فيهم خير مطية يمتطونها لاختراق المجتمعات الإسلامية التي لم تجد العلمانية فيها موطئ قدم، وجعلوهم طليعة لهم في غزو تلك المجتمعات وخلخلتها بطرح الأفكار المتنوعة المناسبة لهم، التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وكسر هيبة كبار العلماء، وشق وحدة الصف فيها؛ ليسهل عليهم بعد ذلك التمكن منها.
ولهذا كله: فلا تعجب إن سمعت أو قرأت بأن فلاناً (العصراني) يُكال له المديح من جماعة العلمانيين، ويُصدر مجالسهم وندواتهم، وتُفتح له وسائلهم، ويكتب في صحفهم؛ لأن الجميع قد التقوا على أهداف واحدة؛ فانطبق عليهم قوله تعالى (ربنا استمتع بعضنا ببعض ... الآية) ([124]).
ودعم العلمانيين للعصرانيين يكون بالآتي:
1-إفساح المجال لهم ليبثوا أفكارهم عبر الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في مقابل تهميشهم لأهل الإسلام من دعاة الكتاب والسنة، الثابتين على الحق، غير المتلونين أو المتذبذبين.
2-المبالغة في مدحهم ووصفهم بصفات الاعتدال والوسطية وسعة الصدر للآخرين ... .الخ. مع لمز أهل الإسلام ودعاة الكتاب والسنة بضيق الأفق، والتحجر!، وعدم قبول الآخر!!..الخ(73/32)
فعلى سبيل المثال: هذا (العلماني) الشهير الدكتور جابر عصفور في كتابه "هوامش على دفتر التنوير" يهاجم علماء ودعاة الكتاب والسنة من أمثال الشيخ ابن باز –رحمه الله-([125]) والدكتور عوض القرني([126]) وغيرهم. ثم في المقابل يكيل المديح لمحمد عبده وتلاميذه ويختم مديحه قائلاً: "إن كرامة هذه الأمة في التاريخ قد أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وحين لم نبدأ من حيث انتهى إليه أمثال طه حسين وأحمد زكي أبو شادي، وحين قمعنا العقل بالتقليد، والشك بالتصديق، وحين استبدلنا بأمثال الشيخ محمد عبده ومحمد فريد وجدي قوماً آخرين"([127]) قلت: وهذا من قبيل "ليس حباً في علي وإنما بغضاً لمعاوية"!
ويقول في مقدمته لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق: "وبقي الكتاب نفسه وثيقة رائعة من وثائق التنوير، وثيقة تعلمنا أننا ننتمي إلى تراث عظيم، وأن لنا من المشايخ ما نفخر به: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وأمثالهم، هؤلاء هم الذين ننتهي إليهم، وهؤلاء هم الذين أسهموا في صنع وعينا الحديث وإيماننا الراسخ بالدولة المدنية وبالمجتمع المدني، وهؤلاء هم الذين علمونا أن لا تناقض ولا تعارض بين الدين والدولة المدنية التي تسعى إلى التقدم، أو بين رجل الدين والمجتمع المدني الذي يتسلح بالعلم، ويبني مستقبله بهذا العلم، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المشايخ العظام أقرانهم من الأفندية دعاة التنوير، أدركنا أن ما تقوم عليه نهضتنا وثقافتنا أقوى وأعظم من أن يتأثر بأية هبة من هبات الإظلام"!!([128])
3-عدم السماح لأحد بنقدهم أو النيل منهم، بل إحاطتهم بهالة من القداسة المصطنعة .(73/33)
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "ومن شاء أن يعرف المكان الصحيح والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني أن ينظر في الصحف اليومية والمجلات الدورية وفي كتب الكتاب اللبراليين الذين لا يسمحون بأن يُمس أي منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كل من يمسهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكتاب لا يُعرفُ عنهم غيرة على الإسلام في غير هذا الموضع، بل إنهم لا يثورون حين يُمس رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويرون أن ذلك مما تسعه حرية الفكر واختلاف الرأي، بل إنهم يلتزمون التزاماً دقيقاً أن لا يُذكر اسم محمد عبده إلا مقروناً بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسول صلى الله عليه وسلم مجرداً، ويستكثرون إذا ذُكر الرجل من أصحابه أن يقولوا "سيدنا فلان" أو يُتبعوه، كما تعود المسلمين أن يقولوا في الدعاء له: رضي الله عنه"([129])
4-التحسر عليهم وتكريمهم حتى بعد مماتهم !
وقد سبق تحسر العلماني جابر عصفور على أئمة العصرانية.
ويشهد لهذا ما قام به العلمانيون في مصر من تأبين لمحمد عبده بعد وفاته، وعمل حفلة خاصة به في الجامعة المصرية؛ لتعداد مآثره! ([130])
نهاية العصرانية :
لقد قام العصرانيون بمهمتهم خير قيام، ثم اختفوا بعد أن عبَّدوا الطريق لطلائع العلمانيين الذين تولوا قيادة المجتمع المسلم بعد أن تمت خلخلته من قِبَل أفراد التيار العصراني؛ فقطفت الجماعة العلمانية بقيادة (جمال عبد الناصر وإخوانه) الثمرة بعد حين، عند سقوط الملكية في مصر([131])، فقاموا –أخزاهم الله- بتنفيذ مخططات الغرب في علمنة وتغريب المجتمع المسلم علانية ودون خفاء.
أما العصرانيون بعد ذلك فلا تُحس منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا ؟! لقد اختفوا من الساحة([132]) يندبون حظهم ويجرون أذيال الخيبة والذل الذي أورثوه قومهم عندما جعلوا منهم لقمة هنيئة لبني علمان، فهل من معتبر ؟
نتائج مهمة :(73/34)
أولاً: أن العداوة بين المسلمين والغرب (اليهودي النصراني) مستمرة إلى يوم القيامة؛ بنصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً).. إلى غير ذلك من الآيات.
ثانياً: أن الغرب الكافر استغل تأخر المسلمين واصطدامهم بحضارته المادية في صنع العصرانية ليتخذها وسيلة لمسخ بلاد المسلمين.
ثالثاً: أن لجوء بعض الإسلاميين للثورة والتهييج قادهم بعد فشل مشروعهم المخالف للكتاب والسنة إلى الارتداد للفكر العصراني؛ لأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومخالفة له في الوجهة. ولو لزم هؤلاء المسلك الشرعي منذ البداية لما تورطوا في تبني طرفي النقيض: التهييج ثم العصرنة([133]).
رابعاً: قام بعض الإسلاميين –وقد يكون ذلك عن حسن نية منهم وبسبب تقصير بعض العلماء - بكسر هيبة كبار العلماء، وتنفير الشباب منهم؛ مما أدى بالشباب إلى الإنصراف عن علمائه ولجوئه –تعويضاً للمرجعية- إلى غيرهم من أهل الطموح السياسي، قليلي العلم والورع، ممن قد لا يرتضيهم ذلك البعض من الإسلاميين الذين يحق فيهم المثل العربي: (يداك أوكتا وفوك نفخ).
يقول الشيخ مصطفى صبري عن الشيخ العصراني محمد عبده: "لما أراد النهوض بالأزهر حارب علماءه القدماء، وفض المسلمين وخصيصًا الشباب المتعلمين من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى، فأصبح بفضل النهضة التي نادى بها الشيخ محمد عبده يقول رجل مثل الدكتور زكي مبارك "الرسالة" عدد 572: "نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة (يريد بهم علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين"([134]) .(73/35)
خامساً: أن تقصير كبار العلماء –إما في مكافحة الانحراف أو التصدي لقضايا المسلمين أو للظلم ونحو ذلك- ليس مسوغًا لصرف الشباب المسلم عنهم؛ لأنهم –أي الشباب- كما سبق سيلجئون إلى غيرهم من أهل الزيغ الذين يفوق زيغهم وانحرافهم تقصير أولئك العلماء الكبار([135]). إنما كان الواجب على دعاة الإسلام أن يوثقوا العلاقة بعلمائهم ويربطوا الشباب بهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويشدوا من أزرهم في الوقوف صفًا واحدًا أمام أعداء الإسلام ممن يريد خلخلة المجتمع المسلم ويستغل بخبث هذا الفصام بين الفئتين المؤمنتين. قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
سادساً: أن الطائفة العصرانية لابد لها من (شيخ) متزود بالعلم الشرعي -الذي يحجزه عن كثير من انحرافاتهم- تقف وتتترس وراءه! ([136]) أما بدون هذا (الشيخ) فإنها لن تفلح في مسعاها؛ لعدم قبول المسلمين لها؛ نظرًا لضحالتها الشرعية وزيغها الواضح.
وقد كان هذا (الشيخ) يتمثل في محمد عبده.
يقول الأستاذ بسطامي سعيد: "نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني؛ من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحياناً؛ بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورد للسنة الصحيحة أحياناً لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده، فتضخمت في مجموعة منهم، وصارت مضاعفة مكبرة"([137])(73/36)
سابعاً: أن هذه الفئة المتترسة خلف (الشيخ) العصراني، لن تكتفي باجتهادات (شيخها)، أو تقف عند الحدود التي حدها لهم ويرى أن في تجاوزها خطرًا على دينهم؛ نظرًا لمعرفته بالنصوص الشرعية! بل ستتجاوزها وتتخطاها باجتهادات كثيرة لا خطام لها ولا زمام؛ لأنه لا ضابط لهم حينها؛ نظرًا لضحالتهم الشرعية. لاسيما وقد استفادوا من (شيخهم) العصراني روح التجديد! والاجتهاد! وتجاوز الأعراف والتقاليد! ... الخ زخارف القوم.
ولقد تنبه أحد الأذكياء (وهو المنفلوطي) إلى خطورة هذا الأمر في دعوة شيخه العصراني محمد عبده فخص هذا بمقالة جميلة تخيل فيها أنه استمع إلى حوار بين شيخه محمد عبده وقاسم أمين في عرصات يوم القيامة ! فتأمل ماذا دار بينهما.
يقول المنفلوطي: "وبينما أنا أحدث نفسي بهذا الحديث، وأقلّب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر، إذ قال لي صاحبي: أتعرف هذين؟ وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان: أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسودّه، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين(!!) رجل الإسلام "محمد عبده" ورجل المرأة "قاسم أمين" فقلت لصاحبي: هل لك في أن ندنو منهما ونسترق([138]) نجواهما من حيث لا يشعران؟ ففعلنا، فسمعنا الأول يقول للثاني: ليتك يا قاسم أخذت برأيي وأحللت نصحي لك محلاً من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدّته من الأدب والدين، فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذُّلها وإراقة تلك البقية الصالحة التي كانت في وجهها من ماء الحياء، فقال له صاحبه: إني أشرت عليها أن تتعلم قبل أن تسفر، وأن لا ترفع بُرقُعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياء، قال له: ولكن فاتك ما كنت تنبّأت به من أنها جاهلة لا تفهم هذه التفاصيل، وضعيفة لا تعبأ بهذا الاستثناء، فكنت كمن أعطى الجاهل سيفاً ليقتل به غيره، فقتل نفسه.(73/37)
فقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك قد وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ، وإنك نصحتني بما لم تنتصح به، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول. وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة([139]) والمقاصد العالية الشريفة، فأرادوا غير ما أردت: وفهموا غير ما فهمت. فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين([140]). أوَّلت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار! وبيّنت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفّهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها
جملة واحدة! وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق؛ فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له: ما زلت يا قاسم في أخراك، مثلك في دنياك، لا تضطرب في حجة، ولا تنام عن ثأر"([141])
ثامنًا : أن المستفيد من نشوء العصرانية هو الغرب وإذنابه من العلمانيين المنافقين ، وأهل البدع . والخاسر هو المجتمع المسلم، ودعاة الإسلام وولاة الأمور. وهذا واضح.
شبهة وجوابها :
قد يقول قائل : نحن معك في أن الفكر العصراني خطرٌ على الإسلام وأهله، وأن المستفيد الوحيد منه هم الأعداء (كفارًا وأهل بدع ومنافقين) كما رأينا في الحالة المصرية، ولكن: ألا ترى بأن انتشار هذا الفكر المتميع والمتمسح بالإسلام يخدم ولاة الأمور ؛ حيث يحققون من خلاله بعض ما يريدون من المشاريع والأفكار الاجتماعية (لا سيما المتعلقة بالمرأة!) التي لن يتقبلها المجتمع المسلم؛ لأنه يرى تعارضها مع أحكام الإسلام، ولكنه يقبلها إذا ما تحلت بالزي الشرعي الذي سيُلبسه إياها أولئك العصرانيون، فيستفيد ولاة الأمور تمرير هذه المشاريع والأفكار التي يرون في قبول المجتمع المسلم لها تخفيفًا من ضغوط أعداء الإسلام عليهم ؟! .(73/38)
ولهذا كله سيقوم ولاة الأمور بدعم هذه الفئة العصرانية والتمكين لها، وتصديرها، وتهميش من يعارضها !
فأقول : الجواب عن هذه الشبهة يكون بفهم هذه الأمور:
أولاً: أن صاحب الشبهة جزم بأن ولاة الأمور يريدون تحقيق بعض المشاريع والأفكار الإجتماعية التي تخالف أحكام الشرع. وهذا سينازعه فيه آخرون يرون خلاف ذلك ومعهم من الأدلة أضعاف مامعه ، والأصل إحسان الظن .
ثانياً : أن صاحب هذه الشبهة لم يفهم العصرانية حق الفهم ! وظن أن طموح أصحابها هو مجرد تحقيق بعض المشاريع والأفكار في المجال (الاجتماعي) فقط، ناسيًا أو متغافلاً أن هذا الفكر لا يقتصر على هذا المجال وحده؛ بل يزامله أو يفوقه المجال السياسي([142]) والاقتصادي([143])، وما تجربه عصرانيي مصر عنا ببعيد. حيث كانت معظم جهودهم منصبة على المجال السياسي، أما غيره فيأتي تبعاً له؛ مع ملاحظة أن تلك المجالات تأتي متكاملة في منظومة هذا الفكر الذي خلاصته "تطويع الإسلام في جميع المجالات بما يناسب العصر" .
ولهذا : فمن يريد قبول أفكار ومشاريع العصرانيين في المجال (الاجتماعي) دون غيره من المجالات فهو واهم؛ لأن هذا أمر لن يتحقق؛ لأن الفكر العصراني لا يمكن تحقيق بعضه دون بعض([144]).
وولاة الأمور لدينا ليسوا سُذجًا أو غافلين عن حقيقة هذا الفكر ومنتهاه.
ثالثا : أن في تجربة العصرانية في مصر عبرة للمعتبرين؛ وعلى رأسهم ولاة الأمور في بلاد المسلمين، حيث تسبب انتشار هذا الفكر في المجتمع إلى تقويضه. وسقوط دولته بعد تنازع أهله واختلافهم، وجرأتهم على حكامهم وعلمائهم، ثم وقوعه تحت سيطرة الأعداء وتهاويه إلى أقصى درجات الذل والمهانة .
فهل يرضى عاقل بمثل هذه النهاية الموجعة لبلاده ؟! (وما ربك بظلام للعبيد).(73/39)
رابعًا: أن (الفكر العصراني) و(فكر التهييج) وجهان لعملة واحدة ! حيث خرج الفكران عن دعوة الكتاب والسنة ، وجرا على المجتمع المسلم الإنقسامات والتحزبات ، وأضعفا قوته واجتماعه .
فكيف يظن أحد أن ولاة الأمور قد يثقون في أصحاب هذا الفكر (بشقيه ) ، وهذا تاريخهم، وتلك مواقفهم تشهد عليهم بأنهم أصحاب (تقلب) و(تلون) ؟! .
وقارن هؤلاء بالعلماء الكبار من أتباع الكتاب والسنة، من الذين يصدرون في مواقفهم وأفكارهم عن عقيدة سلفية واضحة ثابتة تجاه ولاة أمور المسلمين، حيث يرون ولايتهم ولاية شرعية، ويطيعونهم في غير معصية الله ديانة واتباعًا للنصوص، بخلاف غيرهم من أهل (التهييج) أو (العصرنة) أصحاب (التقلب) و(التلون)، ممن يصدرون في مواقفهم تجاه ولاة الأمر من خلال (المصالح) وما يسمى (التكتيك المرحلي)!
فأي الفريقين أحق بثقة ولاة الأمور وتصديرهم والتمكين لهم ؟! .
يضاف إلى هذا أن كبار العلماء كانوا نعم النصير لولاة الأمور وقت الفتن والملمات، بخلاف غيرهم. فـ(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
خامسًا : أن ولاة الأمور –ولله الحمد- في غنية عن أفكار العصرانيين وطموحاتهم التي لا يخفى ضررها على عاقل، وذلك بما فضلهم الله به من قيام دولتهم على الكتاب والسنة، وبما أعانهم به من وجود علماء أجلاء ينيرون لهم الطريق وينبهونهم على ما يعترضهم من عقبات تخالف شرع الله. وما كان من تقصير فإنه يعالج بالنصيحة الشرعية المستمرة، دون (تهييج) أو (عصرنة).
سادساً: أن العاقل يعلم أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وتبديلها، فالأمور المحرمة والمخالفة لشرع الله لا يمكن أن تنقلب حلالاً وتصير موافقة للشريعة بمجرد تبني العصرانيين لها وادعائهم شرعيتها. فهذا كله ليس مسوغًا لأحد –وعلى رأسهم ولاة الأمور- أن يرتكب تلك الأمور المحرمة ويقرها. وهو ليس معذورًا عند الله تعالى بصنيعه هذا؛ لأن البينة قد جاءته، والحق قد ظهر له(73/40)
بنصوص الكتاب والسنة وبفتاوى كبار العلماء الموثوق بعلمهم . فهل تظن -مثلاً- أن الربا سيكون حلالاً بمجرد التحايل عليه وتسميته (فائدة) ؟! وقل مثل ذلك في المحرمات الأخرى. لا شك بأن هذا أعظم جرمًا عند الله ممن يقع في هذه المحرمات دون تحايل أو مخادعة لله ولعباده المؤمنين، إنما عن تقصير وتساهل.
سابعاً : أن مواجهة الضغوط المتنوعة على بلاد التوحيد من قبل (اليهود والنصارى) لا تكون بالتساهل والتفريط في أحكام الشريعة؛ لأن عاقبة ذلك ستكون وبالاً على هذه البلاد؛ بسبب أن هذه الضغوط لن تنتهي بمجرد التساهل والتهاون في عدة أمور، بل ستزداد ضراوة وشدة؛ لأن العدو سيطمع في غيرها عندما يرى ذاك الانصياع لمطالبه. "ومن يهن يسهل الهوان عليه" .
فتلك المطالب ستكون نهايتها –والعياذ بالله- قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
أما الحل الشرعي لهذه الضغوط فيكون بالتالي:
1-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: أن الله قد أخبرنا عن عداوة اليهود والنصارى لكل من يرفع راية الإسلام، منذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأنهم يتمنون أن يطاوعهم في كفرهم لكي لا يتميز عنهم. قال سبحانه (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)
2-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: بأن الله قد أخبر بأن كل مسلم محكم لشرع الله سيسمع الأذى ويلقى الضغوط من الكفار. قال تعالى (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا). ولكن هذا الأمر –ما لم يستجب له المسلم- سيبقى في دائرة الأذى الذي يصيب كل مسلم مستقيم على شرع الله يحتسب الأجر من الله في سماعه والتعرض له. قال تعالى (لن يضروكم إلا أذى).(73/41)
3-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: أن عاقبة الثبات على الحق أمام مثل هذه الضغوط ستكون سعادة وتمكينًا وعزًا نصرًا، وزوالاً لهذه الشدة، وفرجًا لهذا العُسْر. قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) فالمطلوب هو: الصبر على الأذى، والتقوى بلزوم أمر الله، والانتهاء عن معاصيه.
وقال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا)، وقال (سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). وهذا الأمر شامل للأفراد وللدول.
4-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: أن الاستجابة لضغوط الأعداء ومداهنتهم –ولو في أمر يسير- هو مما يسبب سخط الله وتسليطه العذاب والذل على من يسارع في رضا عدوه على رضاه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه محذرًا من هذا الأمر الشنيع: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا . فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله".
وقال سبحانه: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين). وقال: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق).
وقال صلى الله عليه وسلم : "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"([145]).
5-أن يتأمل ولاة الأمور –وفقهم الله-: حال من تابع الأعداء من الدول الإسلامية طالبًا رضاهم، وخائفاً من سخطهم، كيف تسلطوا عليه، وأذلوه واستباحوا حرمته، وأفقدوه حريته.
فخسر آخرته بمسارعته في رضا الكفار على حساب دينه. وخسر العيش السعيد العزيز بتحكم العدو في بلاده وتسلطهم عليه وإن كان يتخيل له خلاف ذلك!! فهو كما قال تعالى (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين).(73/42)
أما من حكم شرع الله واستقام وثبت عليه، ولم يأبه بضغوط العدو وتخويفه فإن عاقبته حميدة في الدنيا والآخرة، على هذا جرت سنن الله تعالى "ومن يتصبر يصبره الله".
أسأل الله أن يثبت ولاة أمورنا على الحق، وأن يوفقهم للبطانة الصالحة، ويجنبهم البطانة الفاسدة.
نصيحة أخيرة لكلٍ من :
1-علماء الإسلام ودعاته: بأن يحذروا تسلل الأفكار العصرانية إلى عقولهم ولو لم يكن ذلك عن تقصد منهم، وأن يثبتوا على الحق دون تنازلات أو مداهنة لأحد، وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) قال ابن كثير: "استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه، كفعل المنافقين".
وأن تكون مواقفهم مشرفة وقت الملمات التي تمر بالأمة، مبرئة لذمتهم أمام الله؛ لكي لا يلجأ الشباب إلى غيرهم –كما سبق-.
وأن يحذر بعض الدعاة بتستره على أهل العصرنة، ومجاملته لهم، والشد من أزرهم، أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من آوى محدثًا"([146]) قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: "والإحداث يشمل الإحداث في الدين؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة وغيرهم.. فمن آوى محدثًا فهو ملعون، وكذا من ناصرهم"([147])
2-شباب الإسلام: بأن يلزموا الراسخين في العلم ويلتفوا حولهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويَحْذروا ويُحَذّروا من المتلبسين بالفكر العصراني المفسد، مهما حاولوا التضليل عليهم أو مخادعتهم بترويجه بينهم.
3-ولاة الأمور: بأن يقضوا على هذا الفكر المتسلل إلى بلاد التوحيد قبل أن يستفحل، فيكون وبالاً على بلادهم؛ وذلك بالتمكين لأهل العلم ودعاة الكتاب والسنة، وتصديرهم، وتمكينهم من توجيه الشباب، والاستماع إلى نصحهم.
وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا تمكين، ولا أمن، إلا بالثبات على دعوة الكتاب والسنة، دون تفريط أو تتبع لأهواء العصرانيين وانحرافاتهم .(73/43)
أسأل الله أن يحمي بلادنا من الفتن، وأن يرد الكيد عنها، ويثبتها على الحق، ويباعد بينها وبين معاصيه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
سليمان الخراشي
Alkarashi1@hotmail.com
([1]) ... كحملة نابليون (الفرنسي)، وحملة فريزر (الإنجليزي)، ثم الاحتلال الإنجليزي الأخير.
([2]) ... انظر لذلك: "الأزهر في 1000 عام" لمحمد عبد المنعم خفاجي، و"كيف دخلت الخيل الأزهر" لمحمد جلال كشك.
... تنبيه: رغم جهود الأزهر الواضحة في التصدي لأعداء الإسلام ومخططاتهم؛ إلا أن هذا لا يمنعنا أن نعتب عليهم في تبنيهم للمذهب (الأشعري) المبتدع، وفي ميل كثير من رجالهم –وعلى رأسهم بعض شيوخ الأزهر- إلى (التصوف) المنحرف. (انظر: السياسة والأزهر، وهي مذكرات لشيخ الأزهر الظواهري، وفيها عجائب وغرائب! ص108 وما بعدها، وص 236 وما بعدها. وانظر أيضاً: صوفيات شيخ الأزهر –عبد الحليم محمود- لعبد الله السبت).
... وكما انتقل الأزهر من المذهب الرافضي إلى المذهب الأشعري، فنأمل أن يوفق الله القائمين عليه للانتقال به من المذهب الأشعري (المبتدع) إلى المذهب السلفي القائم على الكتاب والسنة، مذهب الصحابة والتابعين، وما ذلك على الله بعزيز.
([3]) ... سيأتي نقله وتوثيقه إن شاء الله.
([4]) ... أي اتخذوهم منديلاً.
([5]) ... سواء كانوا شيوعيين أم حداثيين أم غيرهم. اختلفت المسميات والهدف واحد.
([6]) ... هذا القول يردده شيخ العصرانية في زماننا : القرضاوي، ويتابعه المتأثرون به. (انظر: القرضاوي في الميزان).(73/44)
([7]) ... ولهذا تجد العلمانيين في بلادنا يسعون إلى تحقيقه! لأنه يُعجل بآمالهم، فانظر ما كتبوا حول هذا "المجتمع المدني" في مجلتهم "النص الجديد" (العدد 9 و 10)، حيث أفردوا للحديث عنه ملفاً كاملاً.ولعل هذا الداعية اغتر بالعصراني الغنوشي الذي طالب بهذا المجتمع في كتابه (مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني)ولكن بعد إلباسه اللباس الإسلامي ! كصنيعهم مع كل فكرة غربية وافدة ( الإشتركية ثم الديمقراطية ثم .. !!) .
([8]) ... وقد رددت عليه، وكتبت نقدًا لكتاب (أبو شقة) تجده في موقع صيد الفوائد على شبكة الأنترنت. ولم أسمِّ هذا الفاضل في ردي؛ لعله يعيد النظر فيما كتب. وفقه الله وسدد خطاه.
([9]) ... ثم رأيت إحدى العلمانيات لدينا تردده في مقالة لها بإحدى الصحف ! وسيأتيك –إن شاء الله- توافق الطائفتين: (العصرانية) و(العلمانية).
([10]) ... انظر على سبيل المثال: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" و "الإسلام والحضارة الغربية" كلاهما للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، وهما من أجود ما كتب في نقد هذه الطائفة. "دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام" لمصطفى غزال. "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" للدكتور فهد الرومي. "الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم" للأستاذ غازي التوبة. "دراسات في السيرة" لمحمد سرور. "اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر" للدكتور حمد بن صادق الجمال. "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي سعيد.(73/45)
([11]) ... ترجمتهما مشهورة منشورة. أما الأفغاني فإن ترجمة محمد عبده له المنشورة في مقدمة رسالته "الرد على الدهريين" ثم نشرها رشيد رضا في تاريخ أستاذه كانت مرجعاً لمن بعده من الباحثين، وأصبحت -كما يقول الدكتور علي شلش- : "عمدة السير" (الأفغاني بين دارسيه، ص28). وأما محمد عبده، فإن لتلميذه رشيد رضا تاريخاً شاملاً عن حياته يقع في ثلاثة مجلدات بعنوان "تاريخ الأستاذ الإمام" كان عمدة لمن بعده، مع ملاحظة ما فيه من غلو في المديح ودفاع عن شيخه بالباطل.
([12]) ... لمعرفة ما قيل حوله: انظر : "جمال الدين الأفغاني بين دارسيه" للدكتور علي شلش. وهو من أفضل من كتب عن الأفغاني.
([13]) ... ولهذا: لم يستطع أنصار الأفغاني من بعده أن ينكروا هذه الحقيقة الثابتة بالأدلة القاطعة. ولكنهم لجؤا إلى التهوين من شأنها! وأن شيعيته –كما يقولون- لا تضره !. انظر : "جمال الدين الأفغاني المفترى عليه"(ص145) لمحمد عمارة، و"حقيقة جمال الدين الأفغاني" (ص10) للدكتور عبد المنعم حسنين. وانظر ما قاله باحثو الشيعة عن الأفغاني وإثباتهم لشيعيته: مجلة "التوحيد" الشيعية! (العدد 81)، دراسة بعنوان: "جمال الدين الأسد بادي الأفغاني، حكيم الشرق وباعث نهضته" لحسن السعيد، ص 129-142.
([14]) ... وهناك وجهة نظر ثالثة تبناها تلاميذه والمستفيدون منه وضخموها حتى انخدع بها من بعدهم وطاروا بها في الآفاق، فلم يعد يُذكر غيرها، وهي أنه كان "مصلحاً إسلامياً" !! وأنى له ذلك، وهو المطعون في دينه وعقيدته وأهدافه؟!(73/46)
... انظر هذه الوجهة في الكتب التالية للمادحين له: "جمال الدين الأفغاني: ذكريات وأحاديث" لعبد القادر المغربي. "جمال الدين الأفغاني: حكيم الشرق" لقدري قلعجي. "جمال الدين الأفغاني" لعلي عبد الحليم محمود. "جمال الدين الأفغاني: باعث نهضة الشرق" لعبد الرحمن الرافعي. "جمال الدين الأفغاني: المصلح المفترى عليه" لمحسن عبد الحميد. "جمال الدين الأفغاني: المفترى عليه" لمحمد عمارة. "جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث" لعبد الباسط محمد حسن. "مصلحون ثائرون" لمحمد رجب الزائدي. "رواد الإصلاح" لأحمد أمين. "أعلام النهضة الحديثة: جمال الدين الأفغاني" لعثمان أمين. وغيرها.
([15]) ... أي الشيعة الرافضة. وهم يخدعون العامة بانتسابهم زورًا إلى العلويين.
([16]) ... السيد ! البدوي ودولة الدراويش بمصر، لمحمد فهمي عبد اللطيف، ص 75.
([17]) ... قطرة من مداد لأعلام المتعاصرين والأنداد، لمحمد لطفي جمعة، ص 311-312.
([18]) ... الأعمال الكاملة للأفغاني (2/344).
([19]) ... السابق (2/347).
([20]) ... السابق (2/349). وانظر أيضا: "الأفغاني" لأبي رية، ص 112-118
([21]) ... مجلة العربي الكويتية، عدد 42، ص 73.
([22]) ... منهج المدرسة العقلية، ص 91. وقد سار تلاميذ مدرسته على هذا الأمر؛ وهو الدعوة إلى نهضة (الشرق). يقول عبدالعزيز جاويش: "إن الشرق برمته كتلة واحدة لا يسلم منه جزء إلا بتماسكه هو وغيره.." (عبد العزيز جاويش، لأنور الجندي، ص7).
([23]) ... الأفغاني، لأبي رية ، ص 47.
([24]) ... دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام ، ص 238.
([25]) ... انظر لإثبات هذا الأمر بالأدلة: "دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام" (ص 161 وما بعدها).
([26]) ... مقال: "صلات أرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني" للأستاذ محمد حميد الله، نشر في مجلة الفكر الإسلامي، السنة الثانية، العدد الثاني، ذوا الحجة 1390هـ .
([27]) ... السابق.
([28]) ... السابق .(73/47)
([29]) ... السابق. والغريب أن الأستاذ محمد حميد الله بعد نقله هذه الأقوال بنصها من المجلة الفرنسية، ادعى أن رينان كذبها على الأفغاني لتشويه صورته !!!. وفاته أن محمد عبده تلميذ الأفغاني قد حرص في خطاب له إلى شيخه على عدم ترجمة رده على رينان بسبب هذه الأقوال الشنيعة التي تدين الأفغاني، بل توقعه في الردة عن الإسلام –والعياذ بالله- . انظر صورة رسالة محمد عبده لشيخه في كتاب الدكتور فهد الرومي، ص162-164.
([30]) ... أي أسرة محمد علي باشا .
([31]) ... تاريخ الأستاذ الإمام، لرشيد رضا، (1/46-47).
([32]) ... منهج المدرسة العقلية الحديثة ، ص 112-113.
([33]) ... السابق، ص 137. وإنشاء محمد عبده لهذه الجمعية يعد تنفيذًا عملياً لأفكار شيخه الأفغاني الذي يقول عنه الدكتور أحمد القاضي بأنه "أول من جهر بالدعوة إلى التقريب بين الأديان من الإسلاميين في العصر الحديث" (دعوة التقريب بين الأديان: دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، 1/398) ثم نقل الدكتور شيئاً من أقوال الأفغاني الشنيعة في هذا الموضوع. وانظر أيضاً: "الأفغاني" لأبي رية، ص 72-77.
([34]) ... عبد العزيز جاويش ، ص 12.
([35]) ... كان أهم انحراف تعيشه البلاد هو قضية الديون المتراكمة عليها للأجانب بسبب إسراف وفساد الخديوي إسماعيل .
([36]) ... الأعمال الكاملة لمحمد عبده (1/479).
([37]) ... كقوله لهم –كما سبق- : "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون مذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور ... . الخ" (تاريخ الأستاذ الإمام 1/46).(73/48)
([38]) ... يقول الدكتور محمد الحداد: "عند إقامته في مصر شجع جمال الدين الأفغاني أصحابه على نشر الصحف، وكان هو الساعي لاستصدار تراخيصها (الامتياز)، والموجه لسياستها التحريرية ... " (الأفغاني: صفحات مجهولة من حياته، ص75). وانظر أثر الأفغاني في إنشاء كثير من الصحف المصرية عن طريق مريديه: كتاب "الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي" للدكتور سامي عزيز. ومن تلك الصحف: (التجارة)، (مصر)، (أبو نظارة)، (مرآة الشرق)، وغيرها، مع العلم أن أكثر القائمين عليها نصارى ويهود !!.
([39]) ... المنحرفون! –كما سبق-، ولكن هذا الانحراف يعالج بالنصيحة والصبر، لا بالتهييج والثورة التي تُفسد أكثر مما تُصلح كما سيأتي.
([40]) ... الأعمال الكاملة (1/493).
([41]) ... انظر أسماءهم في :"تاريخ الأستاذ الإمام" (1/46).
([42]) ... تاريخ الأستاذ الإمام (1/40).
([43]) ... السابق (1/47).
([44]) ... الأفغاني، صفحات مجهولة من حياته، للدكتور محمد الحداد، ص 98. وقد نقل في كتابه ترجمة عنحوري للأفغاني كاملة.
([45]) ... جمال الدين الأفغاني ، ص 27.
([46]) ... رائد الفكر المصري: الإمام محمد عبده، ص 22.
([47]) ... جمال الدين الأفغاني وإشكاليات العصر، ص 67.
([48]) ... منهج المدرسة العقلية الحديثة ، ص 124.
([49]) ... يقول محمد عبده : "إننا سلفيون أشعريون أو ماتريديون" (الأعمال الكاملة،1/614) (وانظر: الماتريدية، للشمس الأفغاني 1/335). ومن المعلوم أن الأشاعرة والماتريدية يوافقون أهل السنة في مسألة الخروج على السلطان. وتنبه إلى أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة –كما يزعم محمد عبده- إلا فيما وافقوا فيه أهل السنة، فيقال: وافقوا أهل السنة في كذا.
([50]) ... أخرجه مسلم (3/1481).
([51]) ... أخرجه مسلم (3/1467).
([52]) ... منهاج السنة (4/527-528).
([53]) ... السابق (4/531).(73/49)
([54]) ... ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية أمرًاً خطيرًا، وهو أن قنصل فرنسا "أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم في عزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل فيهم، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهددون به ... "!! (انظر: الأعمال الكاملة لمحمد عبده 1/528 و 531). وفي هذا دليل على أن الغرب النصراني يسره ويسعده ظهور الأفكار (الثورية) في المجتمع المسلم؛ لأنها تضعفه، وتخالف بين كلمة أهله، وتعطي الغرب مجالاً للتدخل في شئونه. وقارن هذا –وفقك الله- بدعم الغرب للثوريين والمنشقين الإسلاميين في زماننا هذا؛ لتعلم أن الخطة الصليبية لم تتغير، وأن قومي يُلدغون من الجحر الواحد مرات ومرات !
... تنبيه: ذكر بعض الباحثين أن "رياض باشا" كان يهودياً ثم أسلم، ومعلوم أن هذا الرياض هو الذي استضاف الأفغاني في مصر. فهل كان أمر قدومه قد دُبِّر بليل، لنشر الأفكار الثورية تمهيدًا للاحتلال ؟! العلم عند الله. وأنا لا أستبعد هذا؛ لأن مكر القوم تكاد تزول منه الجبال. انظر هذا بتوسع في بحثي القادم –إن شاء الله- (كيف احتل الإنجليز مصر؟).
... وانظر لبيان يهودية رياض باشا: "تطور الصحافة" لأنور الجندي، ص34، نقلاً عن أديب إسحاق تلميذ الأفغاني. و"دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام"، ص157.
تنبيه آخر : نشرت رابطة أهل السنة في إيران وثيقة مهمة عن الخطة الجديدة للروافض لنشر مذهبهم ، جاء فيها مما يتعلق بموضوعنا ؛ قول الخطة : "يجب بطريقه سريه وغير مباشره استثارة علماء السنة والوهابية ضد الفساد الاجتماعي والأعمال المخالفة للإسلام الموجودة بكثرة في تلك البلاد وذلك عبر توزيع منشورات انتقادية..الخ " انظر : (موقع البرهان على شبكة الأنترنت).
فعلم بهذا من المستفيد الحقيقي من دعوات ( التهييج ) . ألاليت قومي يعلمون .(73/50)
([55]) ... انظر تفاصيل ذلك كله في الكتب التي تتحدث عن الثورة العرابية؛ كـ"الثورة العرابية" لصلاح عيسى، و"الثورة العرابية في ضوء الوثائق المصرية" للدكتور عبد المنعم الجميعي، و"مذكرات الزعيم أحمد عرابي" لمحمد فريد السيد حجاج، و"أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه"! لمحمود الخفيف. والكتب التي تتحدث عن تاريخ مصر في العصر الحديث.
([56]) ... وهذا مصطلح كفري خطير لمن عرف مدلولاته، يلغي كثيراً من الثوابت. فالعجب كيف يستخدمه بعض من لا زلنا نظن به الخير متغافلاً عن ما تحته من شرور ؟!
([57]) ... يقول الأستاذ الفيلسوف! سليمان دنيا في كتابه (الشيخ! محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين، ص26): "إن الذي لا شك فيه عندي أن الشيخ محمد عبده قد تحيف من حق النصوص، وبالغ في تقدير قيمة العقل". ولبيان انحرافه في هذا الشأن ارجع إلى دراسة الدكتور فهد الرومي: "منهج المدرسة العقلية الحديثة..".
([58]) ... الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/337) .
([59]) ... الفكر الإسلامي المعاصر، ص 33. وانظر: تاريخ الأستاذ الإمام 1/895.
([60]) ... يقول الدكتور محمد محمد حسين: "كان للإنجليز في كل سياستهم هدفٌ واحد، وهو الارتباط مع المصريين بمعاهدة، وإنشاء علاقة مستقرة أساسها الود والتفاهم بين السادة والعبيد" (الاتجاهات الوطنية، 2/426).
([61]) ... لا يعدو أصحابه هذين الوصفين: فهم إما (طامح) وإما (شاذ). وتأمل حال العصرانيين الجدد تعرف صدق مقولتي!
([62]) ... الإسلام والحضارة الغربية ، ص 45.
([63]) ... السابق، ص 52.(73/51)
([64]) ... هي الأميرة نازلي فاضل ابنة الأمير مصطفى فاضل باشا ابن إبراهيم باشا، الذي كان يرى بأنه الأحق بعرش مصر من أخيه الخديو إسماعيل ابن إبراهيم باشا الذي سعى لدى السلطان العثماني لجعل ملك مصر فيه وفي ذريته، فحرم أخاه مصطفى من العرش. ولهذا كانت نازلي تحقد على هذه الأسرة وتتعاون ضد الإنجليز ضدها بواسطة صالونها الذي افتتحته بعد عودتها من الخارج وتحت رعاية الإنجليز وتوجيههم. وهي –كما هو معلوم- التي شجعت المرأة المصرية على "التحرر". هلكت عام 1914م. انظر عنها: "مذكرات سعد زغلول" (1/64 وما بعدها)، و" الحركة النسائية الحديثة" د. إجلال خليفة (ص27)، و"الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار" (ص72)، و"عودة الحجاب" (1/37 وما بعدها). و"حجاب المسلمة .." للبرازي.
([65]) ... عودة الحجاب (1/36).
([66]) ... سعد زغلول بين اليمين واليسار، ص 23
([67]) ... يقول الدكتور حسين النجار عنه: "وفي صالون الأميرة نازلي كان أول لقاء له مع لورد كرومر" (سعد زغلول: الزعامة والزعيم، ص16).
([68]) ... بل أحكام الشريعة؛ لأن الأمور التي أراد قاسم ومن معه التنصل منها هي أحكام شرعية وليست تقاليد أو أعرافاً. وإلا لهان الأمر.
([69]) ... بحث بعنوان "تطور الفكر الإسلامي في مصر، ودور اللورد كرومر" منشور ضمن أبحاث: الندوة العالمية عن فكر المسلمين السياسي خلال الحقبة الاستعمارية، بالمعهد الإسلامي، لندن، 1986م ، ص 11.
([70]) ... عقبات في طريق النهضة ، ص 59.
([71]) ... الأعمال الكاملة (2/363-364).
([72]) ... السابق (3/533).
([73]) ... منهج المدرسة العقلية ، ص139.
([74]) ... الأعمال الكاملة (3/260).
([75]) ... انظر فتوى تلميذه رشيد رضا بذلك في فتاواه (3/892، 1155). وللشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله تعقب عليه نُشر في "المنار" (المجلد 34 الجزء 2 ص140-143) .
([76]) ... الشيخ محمد عبده في أخباره وآثاره، د. رحاب عكاوي ، ص 61-62.(73/52)
([77]) ... الأعمال الكاملة (1/342).
([78]) ... تطور الفكر الإسلامي في مصر ..، بحث سابق، ص 10.
([79]) ... الإسلام والحضارة الغربية ، ص 49
([80]) ... وأكثرها –لمن تأمل- فتاوى "شهوانية" !
([81]) ... السابق، ص 51.
([82]) ... وهذا يذكرنا بموقف أحد تلاميذ المدرسة العصرانية؛ وهو الشيخ! محمد مصطفى المراغي حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية فكان يقول لأعضاء لجنة تنظيم الأحوال الشخصية: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم" !!! (المجددون في الإسلام، لعبد المتعال الصعيدي، ص 548).
... وذكر الأستاذ محمد مصطفى رمضان في كتابه "الشعوبية الجديدة، ص 118 أن محمود شلتوت كان يفتي حسب رغبة جمال عبد الناصر!
([83]) ... الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/343).
([84]) ... انظر: "الإمام محمد عبده" لمجموعة من المحررين ضمن سلسلة: نوابغ العرب، ص106
([85]) ... انظر مقدمة الأعمال الكاملة لمحمد عبده، للدكتور محمد عمارة (1/245 وما بعدها)
([86]) ... عودة الحجاب ، ص 62.
([87]) ... السابق، ص 63.
([88]) ... السابق، ص 82. وانظر للتأكيد: "سعد زغلول" لمحمد الجزيري الذي كان سكرتيراً له، ص 203-209.
([89]) ... أحمد لطفي السيد، ص 243.
([90]) ... السابق، ص 248.
([91]) ... المنتخبات (1/11).
([92]) ... انظر: المنتخبات، (1/268 وما بعدها) .
([93]) ... الاتجاهات العقلانية الحديثة، ص 418.
([94]) ... كرومر يكذب ! بل الذي صفح عنه هم الإنجليز بضغوط على الخديوي –كما سبق-
([95]) ... !! بل خالفوه، وتحريم الربا مما لا يجهله مسلم، ولكنه اتباع الهوى.(73/53)
([96]) ... هو سيد أحمد خان، المتوفى سنة 1315هـ-1898م. دعا إلى تقليد الحضارة الغربية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها. وفي سبيل ذلك اجتهد في إزالة الحواجز وتذويب الفوارق بين المسلمين والإنجليز؛ حيث دعا إلى مهادنتهم وترك جهادهم. انظر شيئاً من أفكاره مع الرد عليها في كتاب "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي سعيد (ص120 وما بعدها).
... قال عنه الشيخ ناصر العقل: "إن حركة السيد أحمد خان هي أول اتجاه علماني فكري حديث قام بشكل منظم في العالم الإسلامي" (الجاهلية الجديدة، ص40).
([97]) ... مجلة المنار (المجلد الحادي عشر، الجزء الثاني، ص 91).
([98]) ... السابق (ص 203).
([99]) ... تقريره السنوي عن عام 1905م، الفقرة (7). انظر : "الإسلام والحضارة الغربية"، ص 74.
([100]) ... وجهة الإسلام ، ص 49
([101]) ... مجلة المنار، المجلد 23، الجزء 8، ص 601 .
([102]) ... الاتجاهات الوطنية الحديثة في الأدب المعاصر (1/328).
([103]) ... الإسلام والحضارة الغربية ، ص 48.
([104]) ... السابق ، ص 80.
([105]) ... الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/353).
([106]) ... مجلة المنار، المجلد 11، الجزء 2، ص 95.
([107]) ... يقول الدكتور رفعت السعيد عن كرومر: "صاحب القول الفصل والكلمة الحاسمة في اختيار سعد وزيرًا" (سعد زغلول بين اليمين واليسار، ص 30). ويقول الدكتور عبد الخالق لاشين: "تكاد تتفق المصادر على اختلاف نزعاتها على أن كرومر هو الذي كان وراء تعيين سعد زغلول" "سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية"، ص47. وانظر: "سعد زغلول الزعامة والزعيم" للنجار، ص 16. ومقال "حرب الكلمة ومخططات كرومر ودنلوب وزويمر ضد الإسلام" لأنور الجندي رحمه الله، منشور في مجلة منار الإسلام، العدد 15، 1409هـ.
([108]) ... عن: عودة الحجاب، ص 85.
([109]) ... عن : "سعد زغلول بين اليمين واليسار" ، ص 40.
([110]) ... ومع هذا، بقيت فيه (لوثة) من لوثاتهم. وليس هذا مقام التفصيل.(73/54)
([111]) ... الفكر العربي وصراع الأضداد ، ص 262.
([112]) ... عن : الإسلام والحضارة الغربية، لمحمد حسين، ص 78-79.
([113]) ... الصراع بين التيارين الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث، ص 191-192.
([114]) ... الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص 71
([115]) ... ص 47
([116]) ... بحث "معالم الفكر التربوي في البلاد العربية" منشور ضمن بحوث مؤتمر هيئة الدراسات العربية المنعقد في تشرين الثاني 1966 في الجامعة الأمريكية ببيروت، بعنوان (الفكر العربي في مائة سنة)، ص 450.
([117]) ... أسأل الله أن يوفقه للتصدي لهذا التيار قبل تغلغله بين صفوف بعض الدعاة.
([118]) ... العلمانية، ص 579
([119]) ... الاتجاهات العقلانية الحديثة، ص 386.
([120]) ... الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين (رسالة دكتوراه لم تطبع بعد) (1/321) و(2/745 وما بعدها).
([121]) ... عودة الحجاب ، ص 31.
([122]) ... العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ، ص 407.
([123]) ... السلفية وقضايا العصر، ص24.
([124]) ... كما لا تعجب إذا سمعت بأن الداعية!! فلان يتعاطف مع العلمانيين، ويدافع عن كفرهم وزندقتهم أو (اجتهادهم!!) كما يزعم!، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
([125]) ... انظر: ص 90 من كتابه
([126]) ... انظر: ص 111 وما بعدها من كتابه.
([127]) ... ص 138.
([128]) ... انظر: "الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين" (2/752-753).
([129]) ... الإسلام والحضارة الغربية ، ص 80.
([130]) ... انظر تفاصيل ذلك في : "تاريخ الأستاذ الإمام" (1/1052 وما بعدها).
([131]) ... بدعم من الغرب (اليهودي –النصراني) كما لا يخفى على المتابع! حيث أقنعوا الملك فاروق بالتنحي ورفضوا التدخل لمساعدته.
([132]) ... لكنهم يُعاد بعثهم كلما احتاج الأعداء إليهم، وذلك عندما يرون انتشار المد الإسلامي. فلا تتعجب من كثرة طباعة المؤلفات الجديدة عن أئمتهم هذه السنوات! فلأمرٍ ما جدع قصير أنفه!(73/55)
([133]) ... الهدف الأول للمصلحين –وعلى رأسهم الرسل –عليهم السلام- هو تعبيد الناس لرب العالمين وحده. وهو هدف لا يفشل مهما تطاولت السنون –ولله الحمد-. أما إذا كانت أهداف المصلحين خلاف ذلك، فإنهم حال فشلهم في تحقيقها لا شك مرتدون إلى النقيض الآخر! فإذا كانت البداية خطأ فالنتيجة تبعٌ لها. "فكيف يستقيم الظل والعود أعوج" ؟!
([134]) ... موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين..، (1/57).
([135]) ... وهذا الانفصال بين الشباب وكبار العلماء مما يُفرح أهل الفساد من العلمانيين المتربصين بالطائفتين الدوائر. فهل يعي العقلاء هذا وينتهوا عن (تهييج) الشباب على علمائه ؟! .
([136]) ... ومعنى هذا أن (الشيخ) راضٍ عن مسلك تلاميذه والمتترسين خلفه من العصرانيين، وعمل الجميع يتم وفق (تنسيق) محدد!. فمن الخطأ الواضح ما يظنه بعض الباحثين؛ كأنور الجندي في عدد من كتبه (انظر مثلاً: اليقظة الإسلامية، ص203) أو الدكتور أحمد عبد الرحمن في مقاله بمجلة المنار الجديد، عدد 19، من أن تلاميذ عبده العلمانيين قد خالفوا شيخهم الذي لا يرضيه مسلكهم !! وسبب هذا الخطأ أن من يطالع سيرة عبده لن تخفاه العلاقات (الحميمة) ! سواء في مصر أو في خارجها بينه وبين تلاميذه العلمانيين؛ وعلى رأسهم سعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم. انظر على سبيل المثال: رسائل تلميذه سعد زغلول إليه التي نشرها رشيد رضا في تاريخ الأستاذ الإمام (1/1069 وما بعدها)، وكذا ما ذكره أحمد لطفي السيد في مذكراته (ص37) عن اجتماعهم –عبده، قاسم، سعد، لطفي- في جنيف !
... وانظر رد الأستاذ مصطفى غزال على أنور الجندي –رحمه الله- حول هذه المسألة في: مجلة المجتمع (العدد 696-25/3/1405هـ).
([137]) ... مفهوم تجديد الدين، ص 143.
([138]) ... نسترق: نسمع خفيةً.
([139]) ... بل المخالفة للنصوص الشرعية، ولكنها ليست كانحرافات المتترسين خلفه من تلاميذه –كما سبق-.(73/56)
([140]) ... فكيف إذا كان الدين سلفياً نقياً ؟! هل يليق بمن يتابع شيخ العصرنة أن يصد عنه ؟!
([141]) ... النظرات (1/152-154).
([142]) ... بإنشاء الأحزاب، ومساءلة الحاكم، بل تدوير السلطة بين أصناف الطامحين ! ونحو ذلك.
([143]) ... بالمطالبة بتوزيع الثورة ونحو ذلك.
([144]) ... وهذا يذكرنا بمن يريد تطبيق (الديمقراطية) الكافرة في بلاد المسلمين، مدعيًا أنه سيتجنب ما فيها من مخالفات شرعية ! .
([145]) ... صحيح الترغيب والترهيب للألباني (2250).
([146]) ... أخرجه مسلم (1567).
([147]) ... القول المفيد (1/223).(73/57)
أسئلة
قادت شباب الشيعة
إلى الحق
إعداد وجمع
سليمان بن صالح الخراشي
1427هـ
http://www.saaid.net/
http://www.alkashf.net/
مقدمة
الحمد لله القائل: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]، والصلاة والسلام على رسوله خاتم الأنبياء القائل «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة؛ كلها في النار إلا واحدة»، فقيل: يا رسول الله، ما الواحدة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (1) .
أما بعد:
فقد أراد الله ـ بإرادته الكونية القدرية ـ أن يتفرق المسلمون إلى شيع وأحزاب ومذاهب شتى، يعادي بعضهم بعضاً، ويكيد بعضهم لبعض؛ مخالفين بذلك أمر الله لهم حال الاختلاف بالرد إلى كتابه وسنة نبيه ?؛ في قوله: { إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء: 59].
ولهذا: كان من الواجب على كل ناصح لأمته، محب لوحدتها واجتماعها أن يسعى ـ ما استطاع ـ في لم شملها «على الحق»، وإعادتها كما كانت في عهده ? (عقيدة وشريعة وأخلاقاً)؛ اتباعاً لقوله تعالى: { َاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [آل عمران: 103].
ومن أهم ما يعجل بهذا الأمر: تنوير أبناء الفِرَق المخالفة لدعوة الكتاب والسنة بما هم عليه من تجاوزات وانحرافات تحول بينهم وبين الهدى ولزوم جماعة المسلمين.
__________
(1) ... «صحيح الترمذي» للألباني (2129). وانظر الكلام على هذا الحديث رواية ودراية في رسالة الشيخ سليم الهلالي «درء الارتياب عن حديث ما أنا عليه والأصحاب».(74/1)
ومن هنا جاء التفكير في جمع هذه الأسئلة والإلزامات الموجهة إلى شباب طائفة الشيعة الاثني عشرية لعلها تساهم في رد العقلاء منهم إلى الحق؛ إذا ما تفكروا في هذه الأسئلة والإلزامات التي لا مجال لدفعها والتخلص منها إلا بلزوم دعوة الكتاب والسنة الخالية من مثل هذه التناقضات.
وقد أعجبني ـ حقًّا ـ ما قام به أحد الإخوة الشيعة المهتدين إلى الحق (1) عندما تحدث عن تجربته في الانتقال من الضلال إلى الهدى في كتاب اختار له اسماً مناسباً هو:
«ربحتُ الصحابة.. ولم أخسر آل البيت»!
وقد وُفِّق ـ ثبَّته الله ـ في هذا الاختيار؛ لأن المسلم الحق لا يجد حرجاً في الجمع بين محبة آل البيت ومحبة الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ.
وهو يذكرني بذاك النصراني الذي أسلم؛ فألَّف كتاباً بعنوان: «ربحتُ محمداً.. ولم أخسر عيسى» ـ عليهما السلام ـ.
وليُعلم ـ بعد هذا ـ أنني انتقيت معظم هذه الأسئلة والإلزامات من منتديات الشبكة العنكبوتية ـ لاسيما منتدى الدفاع عن السنة ـ، وأضفتُ عليها مجموعة كبيرة من الإلزامات التي اطلعتُ عليها في الكتب التي حاورت الشيعة، ثم قمت بتهذيب ذلك كله، وسبكه في قالب متحد، وبنَفَسٍ واحد؛ فليس لي من هذا العمل إلا الجمع والتهذيب، سائلاً الله أن ينفع به الموفقين من شباب الشيعة، وأن يجعله مفتاح خير لهم، مذكرهم أخيراً بأن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، وأن الواحد منهم في حال لزومه السنة، والفرح بها، ونصرتها؛ قد يفوق في أجره ومكانته آلافاً من أهل السنة البطالين، المعرضين عن دينهم، اللاهين في الشهوات، أو الواقعين في الشبهات، والله يقول:
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44].
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) ... هو الأخ الفاضل: أبوخليفة القضيبي، من مملكة البحرين. وقد أكرمني بزيارته في منزلي بمدينة الرياض.(74/2)
كتبه/ أبو مصعب
Alkarashi1@hotmail.com
* * *
الإلزامات
1 يعتقد الشيعة أن عليًا رضي الله عنه إمام معصوم، ثم نجده ـ باعترافهم ـ يزوج ابنته أم كلثوم «شقيقة الحسن والحسين» من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه!! (1) فيلزم الشيعة أحد أمرين أحلاهما مر:
الأول: أن عليًّا رضي الله عنه غير معصوم؛ لأنه زوج ابنته من كافر!، وهذا ما يناقض أساسات المذهب، بل يترتب عليه أن غيره من الأئمة غير معصومين.
والثاني: أن عمر رضي الله عنه مسلمٌ! قد ارتضى علي رضي الله عنه مصاهرته. وهذان جوابان محيّران.
__________
(1) ... أثبت هذا الزواج من شيوخ الشيعة: الكليني في الكافي في الفروع (6/115)، والطوسي في تهذيب الأحكام (باب عدد النساء ج8/ص 148) وفي (2/380)، وفي كتابه الاستبصار (3/356)، والمازنداراني في مناقب آل أبي طالب، (3/162)، والعاملي في مسالك الأفهام، (1/كتاب النكاح)، ومرتضى علم الهدى في الشافي، (ص 116)، وابن أبي الحديث في شرح نهج البلاغة، (3/124)، والأردبيلي في حديقة الشيعة، (ص 277)، والشوشتري في مجالس المؤمنين. (ص76، 82)، والمجلسي في بحار الأنوار، (ص621). وانظر للزيادة: رسالة «زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ـ حقيقة لا افتراء» لأبي معاذ الإسماعيلي.(74/3)
2 يزعم الشيعة أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهم كانا كافرين، ثم نجد أن عليًا رضي الله عنه وهو الإمام المعصوم عند الشيعة قد رضي بخلافتهما وبايعهما الواحد تلو الآخر ولم يخرج عليهما، وهذا يلزم منه أن عليًا غير معصوم، حيث أنه بايع كافرين ناصبَيْن ظالمَيْن إقراراً منه لهما، وهذا خارم للعصمة وعون للظالم على ظلمه، وهذا لا يقع من معصومٍ قط، أو أن فعله هو عين الصواب!! لأنهما خليفتان مؤمنان صادقان عادلان، فيكون الشيعة قد خالفوا إمامهم في تكفيرهما وسبهما ولعنهما وعدم الرضى بخلافتهما! فنقع في حيرة من أمرنا: إما أن نسلك سبيل أبي الحسن رضوان الله عليه أو نسلك سبيل شيعته العاصين؟!
3 لقد تزوج علي رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها عدة نساء، أنجبن له عدداً من الأبناء، منهم : عباس بن علي بن أبي طالب، عبدالله بن علي بن أبي طالب، جعفر بن علي ابن أبي طالب، عثمان بن علي بن أبي طالب.
أمهم هي: «أم البنين بنت حزام بن دارم» (1) .
وأيضاً: عبيد الله بن علي بن أبي طالب، أبو بكر بن علي بن أبي طالب.
أمهم هي: «ليلى بنت مسعود الدارمية» (2) .
وأيضاً: يحيى بن علي بن أبي طالب، محمد الأصغر بن علي ابن أبي طالب، عون بن علي بن أبي طالب.
أمهم هي: «أسماء بنت عميس» (3) .
وأيضاً: رقية بنت علي بن أبي طالب، عمر بن علي بن أبي طالب ـ الذي توفي في الخامسة والثلاثين من عمره ـ.
وأمهما هي: «أم حبيب بنت ربيعة» (4) .
وأيضاً: أم الحسن بنت علي بن أبي طالب، رملة الكبرى بنت علي ابن أبي طالب.
__________
(1) ... «كشف الغمة في معرفة الأئمة».
(2) ... السابق ، و «الإرشاد » ، ص 167 ، «معجم الخوئي» ( 21/66).
(3) ... السابق.
(4) ... السابق. و «الإرشاد» ، ص 167 ، «معجم الخوئي» ( 13/45).(74/4)
وأمهما هي: «أم مسعود بنت عروة بن مسعود الثقفى» (1) .
والسؤال : هل يسمي أبٌ فلذة كبده بأعدى أعدائه؟ فكيف إذا كان هذا الأب هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فكيف يسمي علي رضي الله عنه أبناءه بأسماء من تزعمون أنهم كانوا أعداء له؟!
وهل يسمي الإنسان العاقل أحبابه بأسماء أعدائه؟!
وهل تعلمون أن عليًا أول قرشي يسمي أبا بكر وعمر وعثمان؟
4 يروي صاحب كتاب ( نهج البلاغة ) ـ وهو كتاب معتمد عند الشيعة ـ أن عليًا رضي الله عنه استعفى من الخلافة وقال: «دعوني والتمسوا غيري»! (2) وهذا يدل على بطلان مذهب الشيعة، إذ كيف يستعفي منها، وتنصيبه إمامًا وخليفة أمر فرض من الله لازم ـ عندكم ـ كان يطالب به أبابكر ـ كما تزعمون ـ؟!
5 يزعم الشيعة أن فاطمة رضي الله عنها بَضْعة المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أهينت في زمن أبي بكر رضي الله عنه وكسر ضلعها، وهُمّ بحرق بيتها وإسقاط جنينها الذي أسموه المحسن!
والسؤال : أين علي رضي الله عنه عن هذا كله؟! وهو ما يأنف منه أقل الرجال شجاعة . فلماذا لم يأخذ بحقها، وهو الشجاع الكرار؟!
6 لقد وجدنا كثيراً من سادة الصحابة أصهروا إلى أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وتزوجوا منهم، والعكس بالعكس، لاسيما الشيخين منهم، كما هو متفقٌ عليه بين أهل التواريخ ونقلة الأخبار سُنة منهم أو شيعة.
فإنَّ النبي عليه الصلاة والسلام:
- تزوج عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه.
- وتزوج حفصة بنت عمر رضي الله عنه.
- وزوج ابنتيه ( رقية ثم أم كلثوم ) لثالث الخلفاء الراشدين الجواد الحيِي عثمان بن عفان رضي الله عنهما، ولذلك لقِّب بذي النورين.
__________
(1) ... «كشف الغمة في معرفة الأئمة»؛ لعلي الأربلي (2/66). وانظر لمعرفة مراجع شيعية أخرى أثبتت الأسماء السابقة لأبناء علي رضي الله عنه : «الإمامة والنص» للأستاذ فيصل نور ، ص 683-686.
(2) ... «نهج البلاغة»، (ص 136)، وانظر: (ص 366ـ 367) و(ص 322).(74/5)
- ثم ابنه أبان بن عثمان تزوج من أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر ابن أبي طالب.
- ومروان بن أبان بن عثمان كان متزوجاً من أم القاسم ابنة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
- ثم زيد بن عمرو بن عثمان كان متزوجاً من سكينة بنت الحسين.
- وعبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان كان متزوجاً من فاطمة بنت الحسين بن علي.
ونكتفي بذكر الخلفاء الثلاثة من الصحابة، دون غيرهم من الصحابة الكرام الذين كانوا أيضاً مصاهرين لأهل البيت؛ لبيان أن أهل البيت كانوا محبين لهم، ولذلك كانت هذه المصاهرات والوشائج (1) .
وكذلك وجدنا أن أهل البيت كانوا يسمون أبناءهم بأسماء أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كما هو متفق عليه بين أهل التواريخ ونقلة الأخبار سُنة منهم أو شيعة.
فهذا علي رضي الله عنه كما في المصادر الشيعية يسمِّي أحد أبنائه من زوجته ليلى بنت مسعود الحنظلية باسم أبي بكر، وعلي رضي الله عنه أول من سمَّى ابنه بأبي بكر في بني هاشم (2) .
وكذلك الحسن بن علي سمَّى أبناءه : أبا بكر وعبدالرحمن وطلحة وعبيدالله (3) .
و كذلك الحسن بن الحسن بن علي (4) .
وموسى الكاظم سمى ابنته عائشة (5) .
__________
(1) ... ومن أراد التوسع في مصاهرات الصحابة مع أهل البيت فليرجع إلى كتاب (الدر المنثور من تراث أهل البيت) للفقيه الإمامي علاء الدين المدرس، ففيه غنية وزيادة على ما ذكرنا.
(2) ... انظر: الإرشاد للمفيد (ص 354)، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني الشيعي، (ص91)، وتاريخ اليعقوبي الشيعي (ج2 ص213).
(3) ... التنبيه والإشراف للمسعودي الشيعي، (ص 263).
(4) ... مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني الشيعي، (ص 188) طبعة دار المعرفة.
(5) ... كشف الغمة للأربلي (3/26).(74/6)
وهناك من كان يكنى بأبي بكر من أهل البيت وليس له باسم، مثل زين العابدين بن علي (1) ، وعلي بن موسى (الرضا ) (2) .
أمَّا من سمَّى ابنه باسم عمر رضي الله عنه؛ فمنهم علي رضي الله عنه، سمَّى ابنه عمرَ الأكبر وأمه أم حبيب بنت ربيعة، وقد قتل بالطف مع أخيه الحسين رضي الله عنهم، والآخر عمر الأصغر وأمه الصهباء التغلبية، وهذا الأخير عُمِّرَ بعد إخوته فورثهم (3) .
وكذلك الحسن بن علي سمَّى ابنه أبا بكر وعمر (4) .
وكذلك علي بن الحسين بن علي (5) .
و كذلك علي زين العابدين.
وكذلك موسى الكاظم .
وكذلك الحسين بن زيد بن علي.
و كذلك إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين.
وكذلك الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن.
وغيرهم كثير، لكن نكتفي بهذا القدر من المتقدمين من أهل البيت خشية الإطالة (6) .
أمَّا من سمَّى ابنته بعائشة فمنهم : موسى الكاظم (7) ، وعلي الهادي (8) .
و نكتفي بالشيخين رحمهم الله وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) ... كشف الغمة للأربلي (2/317).
(2) ... مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني الشيعي، (ص 561ـ 562) طبعة دار المعرفة.
(3) ... انظر: الإرشاد للمفيد ص 354، معجم رجال الحديث للخوني ج 13، ص51، مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني ص 84 طبعة بيروت، عمدة الطالب: ص 361 طبعة النجف. جلاء العيون ص 570.
(4) ... الإرشاد للمفيد ص 194، منتهى الآمال ج1 ص 240، عمدة الطالب ص 81. جلاء العيون للمجلسي ص 582، معجم رجال الحديث للخوئي ج13 ص29. رقم (8716)، كشف الغمة (2/201).
(5) ... «الإرشاد للمفيد» (2/155)، و«كشف الغمة» (2/294).
(6) ... تفاصيل ذلك موجودة في «مقاتل الطالبيين» وغيرها من مصادر الإمامية، انظر على سبيل المثال: (الدر المنثور) لعلاء الدين المدرس ص 65ـ ص69.
(7) الإرشاد ص 302، الفصول المهمة 242، كشف الغمة ج 3 ص26.
(8) الإرشاد للمفيد (2/312).(74/7)
7 ذكر الكليني في كتاب الكافي: «أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم» (1) . ثم يذكر المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) حديثاً يقول: «لم يكن إمام إلا مات مقتولاً أو مسموماً» (2) . فإذا كان الإمام يعلم الغيب كما ذكر الكليني والحر العاملي، فسيعلم ما يقدم له من طعام وشراب، فإن كان مسموماً علم ما فيه من سم وتجنبه، فإن لم يتجنبه مات منتحراً؛ لأنه يعلم أن الطعام مسموم! فيكون قاتلا لنفسه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن قاتل نفسه في النار! فهل يرضى الشيعة هذا للأئمة؟!
8 لقد تنازل الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ وسالمه، في وقت كان يجتمع عنده من الأنصار والجيوش ما يمكنه من مواصلة القتال. وفي المقابل خرج أخوه الحسين ـ رضي الله عنه ـ على يزيد في قلة من أصحابه، في وقت كان يمكنه فيه الموادعة والمسالمة.
فلا يخلو أن يكون أحدهما على حق، والآخر على باطل؛ لأنه إن كان تنازل الحسن مع تمكنه من الحرب (حقاً) كان خروج الحسين مجرداً من القوة مع تمكنه من المسالمة (باطلاً)، وإن كان خروج الحسين مع ضعفه (حقاً) كان تنازل الحسن مع ( قوته) باطلاً!
وهذا يضع الشيعة في موقف لا يحسدون عليه؛ لأنهم إن قالوا : إنهما جميعا على حق، جمعوا بين النقيضين، وهذا القول يهدم أصولهم. وإن قالوا ببطلان فعل الحسن لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته، وبطلان إمامته يبطل إمامة أبيه وعصمته؛ لأنه أوصى إليه، والإمام المعصوم لا يوصي إلا إلى إمام معصوم مثله حسب مذهبهم.
وإن قالوا ببطلان فعل الحسين لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته وعصمته، وبطلان إمامته وعصمته يبطل إمامة وعصمة جميع أبنائه وذريته؛ لأنه أصل إمامتهم وعن طريقه تسلسلت الإمامة، وإذا بطل الأصل بطل ما يتفرع عنه!
__________
(1) انظر: «أصول الكافي للكليني» (1/258)، وكتاب: الفصول المهمة للحر العاملي، (ص 155).
(2) (43/364).(74/8)
( حاول بعض الشيعة التهرب من هذا الإلزام بالتفريق بين الخلافة والإمارة ! أي أن التنازل كان عن الأول لا الثاني ، وهذا هروبٌ يضحك منه العقلاء ) .
9 ذكر الكليني في كتابه الكافي (1) : «حدثنا عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَجَّالِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَاهُنَا أَحَدٌ يَسْمَعُ كَلَامِي، قَالَ فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّه) (عليه السلام ) سِتْراً بَيْنَهُ وبَيْنَ بَيْتٍ آخَرَ فَاطَّلَعَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ : قلْتُ :جُعِلْتُ فداك ..... ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : وإِنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) ومَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ( عليها السلام )، قَالَ: قُلْتُ: ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ( عليها السلام )؟ قَالَ :مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، واللَّهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ، قَالَ: قُلْتُ :هَذَا واللَّهِ الْعِلْمُ، قَالَ :إِنَّهُ لَعِلْمٌ ومَا هُوَ بِذَاكَ». انتهى.
فهل كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يعرف مصحف فاطمة؟! إن كان لا يعرفه، فكيف عرفه آل البيت من دونه وهو رسول الله؟! وإن كان يعرفه فلماذا أخفاه عن الأمة؟! والله يقول:
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }ـ[المائدة:67-77].
__________
(1) انظر: «أصول الكافي» للكليني (1/239).(74/9)
10 في الجزء الأول من كتاب الكافي للكليني أسماء الرجال الذين نقلوا للشيعة أحاديث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونقلوا أقوال أهل البيت، ومنها الأسماء التالية :
مُفَضَّلِ بْنِ عُمَر، أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلَبِيِّ، عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عُمَرَ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ابْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ، مُوسَى بْنِ عُمَرَ، الْعَبَّاسِ بْنِ عُمَرَ والجامع بين هذه الأسماء هو اسم عمر! سواء كان اسم الراوي أو اسم أبيه.
فلماذا تسمى هؤلاء باسم عمر؟!
11 يقول سبحانه وتعالى: {ـ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }ـ [البقرة:155-157].
ويقول ـ عز وجل ـ : {ـوَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ }ـ [البقرة:177].
وذكر في «نهج البلاغة»: «وقال علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا إياه صلى الله عليه وسلم: لولا أنك نهيت عن الجزع وأمرت بالصبر لأنفدنا عليك ماء الشؤون» (1) .
وذكر أيضا : «أن علياً عليه السلام قال: من ضرب يده عند مصيبة على فخذه فقد حبط عمله» (2) .
وقد قال الحسين لأخته زينب في كربلاء كما نقله صاحب «منتهى الآمال» بالفارسية وترجمته بالعربية (3) :
«يا أختي، أحلفك بالله عليك أن تحافظي على هذا الحلف، إذا قتلت فلا تشقي عليّ الجيب، ولا تخمشي وجهك بأظفارك، ولا تنادي بالويل والثبور على شهادتي».
__________
(1) ... «نهج البلاغة»، (ص576). وانظر: «مستدرك الوسائل»، (2/445).
(2) ... انظر: «الخصال» للصدوق (ص621)، و«وسائل الشيعة» (3/270).
(3) (1/248)(74/10)
ونقل أبو جعفر القمي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال فيما علم به أصحابه: «لا تلبسوا سوادا فإنه لباس فرعون» (1) .
وقد ورد في «تفسير الصافي» في تفسير آية { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ }ـ [الممتحنة:12] أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء على أن لا يسوِّدْن ثوباً ولا يشققن جيباً وأن لا ينادين بالويل.
وفي «فروع الكافي» للكليني أنه صلى الله عليه وسلم وصى فاطمة ـ رضي الله عنها ـ فقال: « إذا أنا مت فلا تخمشي وجهاً ولا ترخي عليّ شعراً ولا تنادي بالويل ولا تقيمي عليَّ نائحة» (2) .
وهذا شيخ الشيعة محمد بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق يقول: «من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يسبق إليها:
« النياحة من عمل الجاهلية» (3) .
كما يروي علماؤهم المجلسي والنوري والبروجردي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«صوتان ملعونان يبغضهما الله:إعوال عند مصيبة، وصوت عند نغمة؛ يعني النوح والغناء» (4)
والسؤال بعد كل هذه الروايات :
لماذا يخالف الشيعة ما جاء فيها من حق؟! ومن نصدق: الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل البيت أم الملالي؟!
__________
(1) من لا يحضره الفقيه، لأبي جعفر محمد بن بابويه القمي (1/232)، ورواه الحر العاملي في «وسائل الشيعة» (2/916).
(2) ... (5/527).
(3) رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه (4/271 – 272) كما رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة (2/915)، ويوسف البحراني في الحدائق الناضرة (4/149) والحاج حسين البروجردي في جامع أحاديث الشيعة. (488/3) ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: «النياحة عمل الجاهلية» بحار الأنوار (82/103).
(4) ... أخرجه المجلسي في بحار الأنوار (82/103) ومستدرك الوسائل (1/143-144) وجامع أحاديث الشيعة (3/488)، ومن لا يحضره الفقيه (2/271).(74/11)
12 إذا كان التطبير (1) والنواح وضرب الصدور له أجر عظيم كما يدعون (2) ، فلماذا لا يطبر الملالي؟
13 إذا كانت الشيعة تزعم أن الذين حضروا غدير خم آلاف الصحابة قد سمعوا جميعاً الوصية بالخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة؛ فلماذا لم يأت واحد من آلاف الصحابة ويغضب لعلي ابن أبي طالب ولا حتى عمار بن ياسر ولا المقداد بن عمرو ولا سلمان الفارسي رضي الله عنهم فيقول : يا أبا بكر لماذا تغصب الخلافة من علي وأنت تعرف ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في غدير خم؟!
14 لماذا لم يتكلم علي رضي الله عنه عندما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، وهو الشجاع الذي لا يخشى إلا الله؟! وهو يعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس!!
15 أليست الشيعة تقول بأن معظم روايات الكافي ضعيفة؟! وليس لدينا صحيح إلا القرآن.
فكيف يدعون بعد هذا ـ كذباً وزوراً ـ أن التفسير الإلهي للقرآن موجود في كتاب معظم رواياته ضعيفة باعترافهم؟!
16 العبودية لا تكون إلا لله وحده؛ يقول سبحانه وتعالى : { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } [الزمر:66]، فلماذا يتسمى الشيعة بعبد الحسين،
وعبد علي، وعبد الزهراء، وعبد الإمام؟! ولماذا لم يسم الأئمة أبناءهم بعبد علي وعبدالزهراء؟ وهل يصح أن يكون معنى عبدالحسين (خادم الحسين) بعد استشهاد الحسين رضوان الله عليه؟ وهل يعقل أنه يقدم له الطعام والشراب ويصب له ماء الوضوء في قبره!!! حتى يصير خادماً له..؟؟
17 إذا كان علي رضي الله عنه يعلم أنه خليفة من الله منصوص عليه، فلماذا بايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ؟!
فان قلتم : إنه كان عاجزًا، فالعاجز لا يصلح للإمامة؛ لأنها لا تكون إلا للقادر على أعبائها.
__________
(1) ... التطبير هو : إدماء الرأس الذي يفعله الشيعة في عاشوراء. انظر: «صراط النجاة» للتبريزي (1/432).
(2) ... انظر: «إرشاد السائل» (ص184).(74/12)
وإن قلتم : كان مستطيعًا ولكنه لم يفعل، فهذه خيانة.
والخائن لايصلح إماما! ولا يؤتمن على الرعية.
ـ وحاشاه من كل ذلك ـ
فما جوابكم إن كان لكم جواب صحيح..؟
18 عندما تولى علي رضي الله عنه لم نجده خالف الخلفاء الراشدين قبله؛ فلم يخرج للناس قرآناً غير الذي عندهم، ولم ينكر على أحد منهم شيئاً، بل تواتر قوله على المنبر: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر» ولم يشرع المتعة، ولم يرد فدك، ولم يوجب المتعة في الحج على الناس، ولا عمم قول «حي على خير العمل» في الأذان، ولا حذف «الصلاة خير من النوم».
فلو كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كافرين، قد غصبا الخلافة منه ـ كما تزعمون ـ فلماذا لم يبين ذلك، والسُلطة كانت بيده؟! بل نجده عكس ذلك، امتدحهما وأثنى عليهما.
فليسعكم ما وسعه، أو يلزمكم أن تقولوا بأنه خان الأمة ولم يبين لهم الأمر. وحاشاه من ذلك.
19 يزعم الشيعة أن الخلفاء الراشدين كانوا كفاراً، فكيف أيدهم الله وفتح على أيديهم البلاد، وكان الإسلام عزيزاً مرهوبَ الجانب في عهدهم، حيث لم ير المسلمون عهدًا أعز الله فيه الإسلام أكثر من عهدهم.
فهل يتوافق هذا مع سنن الله القاضية بخذلان الكفرة والمنافقين؟!
وفي المقابل:رأينا أنه في عهد المعصوم الذي جعل الله ولايته رحمة للناس ـ كما تقولون ـ تفرقت الأمة وتقاتلت، حتى طمع الأعداء بالإسلام وأهله، فأي رحمة حصلت للأمة من ولاية المعصوم؟! إن كنتم تعقلون..؟!
20 يزعم الشيعة أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان كافرًا، ثم نجد أن الحسن بن علي رضي الله عنه قد تنازل له عن الخلافة ـ وهو الإمام المعصوم ـ، فيلزمهم أن يكون الحسن قد تنازل عن الخلافة لكافر، وهذا مخالف لعصمته! أو أن يكون معاوية مسلمًا!
21 هل سجد الرسول صلى الله عليه وسلم على التربة الحسينية التي يسجد عليها الشيعة؟!
إن قالوا: نعم، قلنا: هذا كذب ورب الكعبة.(74/13)
وإن قالوا: لم يسجد، قلنا: إذا كان كذلك، فهل أنتم أهدى من الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلا؟
مع العلم أن مروياتهم تذكر أن جبريل أتى إلى النبي ? بحفنة من تراب كربلاء.
22 يدعي الشيعة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدوا بعد موته صلى الله عليه وسلم، وانقلبوا عليه.
والسؤال: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قبل موته ـ «شيعة اثني عشريّة»، ثم انقلبوا بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى «أهل سنّة»؟
أم أنهم كانوا ـ قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ـ «أهل سنّة»، ثم «انقلبوا شيعة اثني عشريّة»؟
لأن الانقلاب انتقالٌ من حالٍ إلى حال..؟!!
23 من المعلوم أن الحسن رضي الله عنه هو ابن علي، وأمه فاطمة رضي الله عنهما، وهو من أهل الكساء عند الشيعة (1) ، ومن الأئمة المعصومين، شأنه في ذلك شأن أخيه الحسين رضي الله عنه، فلماذا انقطعت الإمامة عن أولاده واستمرت في أولاد الحسين؟!! فأبوهما واحد وأمهما واحدة وكلاهما سيدان، ويزيد الحسن على الحسين بواحدة هي أنه قبله وأكبر منه سناً وهو بكر أبيه؟
هل من جواب مقنع؟!
24 لماذا لم يُصل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بالناس صلاة واحدة في أيام مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه، مادام هو الإمام من بعده ـ كما تزعمون ـ؟! فالإمامة الصغرى دليل على الإمامة الكُبْرى..؟
__________
(1) ... حديث الكساء ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة وعليه كساء من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله في الكساء، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم تلا: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [الأحزاب:33] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة.(74/14)
25 أنتم تقولون : إن سبب غيبة إمامكم الثاني عشر في السرداب هو الخوف من الظَلَمة، فلماذا استمرت هذه الغيبة رغم زوال هذا الخطر بقيام بعض الدول الشيعية على مر التاريخ؛ كالعبيديين والبويهيين والصفويين، ومن آخر ذلك دولة إيران المعاصرة؟!
فلماذا لا يخرج الآن، والشيعة يستطيعون نصره وحمايته في دولتهم؟! وأعدادهم بالملايين وهم يفْدونه بأرواحهم صباح مساء..!!
26 اصطحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق أبا بكر في هجرته واستبقاه حياً وبالمقابل عرّض علي بن أبي طالب رضي الله عنه للموت والهلاك على فراشه... فلو كان علي إماماً وصياً وخليفة منصوباً فهل يُعَرض للهلاك ويُسْتبقى أبو بكر وهو لو مات فلا ضرر على الإمامة ولا سلسلة الإمامة من موته... وهنا السؤال: أيهما أولى أن يبقى حياً لا تمسه شوكة أو يطرح على فراش الموت والهلاك...؟
وإن قلتم إنه ـ أي علي ـ يعلم الغيب، فأي فضل له في المبيت؟!.
27 إن التقية لا تكون إلا بسبب الخوف.
والخوف قسمان :
الأول : الخوف على النفس.
والثاني : خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة.
أما الخوف على النفس فهو منتف في حق الأئمة لوجهين :
أحدهما: أن موت الأئمة الاثني عشر الطبيعي يكون باختيارهم ـ حسب زعمكم ـ.
وثانيهما: أن الأئمة يكون لهم علم بما كان ويكون، فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتخصيص ـ كما تزعمون ـ
فقبل وقت الموت لن يخافوا على أنفسهم، ولا حاجة بهم إلى أن ينافقوا في دينهم ويغروا عوام المؤمنين.
أما القسم الثاني من الخوف؛ وهو خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة فلاشك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة العلماء، وأهل البيت النبوي أولى بتحمل ذلك في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم.
فلماذا التقية إذاً؟!
28 إنما وجب نصب الإمام المعصوم ـ عند الشيعة ـ لغرض أن يزيل الظلم والشر عن جميع المدن والقرى، ويقيم العدل والقسط.(74/15)
والسؤال : هل تقولون : إنه لم يزل في كل مدينة وقرية خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا؟!
إن قلتم : لم يزل في كل مدينة وقرية خلقها الله تعالى معصوم.
قيل لكم :
هذه مكابرة ظاهرة، فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم؟ وهل كان في الشام عند معاوية رضي الله عنه معصوم؟
وإن قلتم : بل نقول هو واحد، وله نواب في سائر المدائن والقرى. قيل لكم : له نواب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها؟
إن قلتم : في جميع مدائن الأرض وقراها.
قيل لكم: هذه مكابرة مثل الأولى!
وإن قلتم : بل له نواب في بعض المدن والقرى.
قيل لكم: جميع المدن والقرى حاجتهم إلى المعصوم واحدة، فلماذا فرقتم بينهم؟!
29 بوّب الكليني باباً مستقلاً في الكافي بعنوان (إنّ النساء لا يرثن من العقار شيئا)، روى فيه عن أبي جعفر قوله: «النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً» (1) .
وروى الطوسي في التهذيب (2) عن ميسر قوله: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النساء ما لهن من الميراث؟ فقال: لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب فأما الأرض والعقار فلا ميراث لهن فيهما» وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً» وعن عبد الملك بن أعين عن أحدهما عليهما السلام قال: «ليس للنساء من الدور والعقار شيئًا». وليس في هذه الروايات تخصيص أو تقييد لا لفاطمة رضي الله عنها ولا غيرها.
__________
(1) ... انظر: «فروع الكافي» للكليني (7/127).
(2) ... (9/254).(74/16)
وعلى هذا فإنه لا حق لفاطمة رضي الله عنها أن تطالب بميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (حسب روايات المذهب الشيعي). وأيضاً كل ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم فهو للإمام، فعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد رفعه، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله ? : «خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم (ع ) فلرسول الله ? وما كان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد» (1) والإمام الأول بعد رسول الله حسب معتقد الشيعة هو علي رضي الله عنه، ولذا فالأحق بالمطالبة بأرض فدك هو علي رضي الله عنه، وليس فاطمة رضي الله عنها، ولم نره فعل ذلك، بل هو القائل: «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي وأن يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز واليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع» (2) .
30 لماذا قاتل أبو بكر رضي الله عنه المرتدين، وقال: لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، بينما يقول الشيعة بأن عليًا رضي الله عنه، لم يخرج المصحف الذي كتبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يرتد الناس!! وقد كان هو الخليفة، وله من الصفات والتأييد الإلهي كما يدعي الشيعة، ومع هذا يرفض أن يُخرج المصحف خوفاً من ارتداد الناس، ويرضى أن يدع الناس في الضلال، وأبو بكر يقاتل المرتدين على عقال بعير!!
__________
(1) ... أصول الكافي للكليني، كتاب الحجة ـ باب أن الأرض كلها للإمام عليه السلام، (ج1 ص476).
(2) ... نهج البلاغة، (1/211).(74/17)
31 لقد أجمع أهل السنة والجماعة، والشيعة بجميع فرقهم على أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه شجاع لا يشق له غبار، وأنه لا يخاف في الله لومة لائم. وهذه الشجاعة لم تنقطع لحظة واحدة من بداية حياته حتى قتل على يد ابن ملجم. والشيعة كما هو معلوم يعلنون أن علي بن أبي طالب هو الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل.
فهل توقفت شجاعة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه؟!
ثم بايع بعده مباشرة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟!
ثم بايع بعده مباشرة ذا النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه؟!
فهل عجز رضي الله عنه ـ وحاشاه من ذلك ـ أن يصعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في خلافة أحد الثلاثة ويعلنها مدوية بأن الخلافة قد اغتصبت منه؟! وأنه هو الأحق بها لأنه الوصي؟!
لماذا لم يفعل هذا ويطالب بحقه وهو من هو شجاعة وإقدامًا؟! ومعه كثير من الناصرين المحبين؟!
32 حديث الكساء شمل أربعة أنفس من بيت « علي » ـ رضي الله عنه ـ بالتطهير (1) .
فما هو الدليل على إدخال غيرهم في التطهير ؟!
33 يروى الشيعة عن الإمام جعفر الصادق ـ مؤسس المذهب الجعفري حسب اعتقادهم ـ قوله مفتخراً ( أولدني أبو بكر مرتين) (2) لأن نسبه ينتهي إلى أبي بكر من طريقين :
الأول : عن طريق والدته فاطمة بنت قاسم بن أبي بكر.
والثاني : عن طريق جدته لأمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر التي هي أم فاطمة بنت قاسم بن محمد بن أبي بكر.
ثم نجد الشيعة يروون عن الصادق روايات كاذبة في ذم جده أبي بكر رضي الله عنه!
__________
(1) ... وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين ـ رضي الله عنهم ـ، كما سبق.
(2) ... كشف الغمة، للأربلي، (2/374).(74/18)
والسؤال: كيف يفتخر الصادق بجده من جهة ثم يطعن فيه من جهة أخرى؟! إن هذا الكلام قد يصدر من السوقي الجاهل، ولكن ليس من إمام يعتبره الشيعة أفقه وأتقى أهل عصره وزمانه. ولم يُلزمه أحد قط لا بمدحٍ ولا بقدحٍ.
34 تم تحرير المسجد الأقصى في زمن عمر رضي الله عنه، ثم في زمن القائد السني صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
فما هي انجازات الشيعة على مدار التاريخ؟!
وهل فتحوا شبراً من الأرض أو نكأوا عدواً للإسلام والمسلمين؟
35 يدعي الشيعة أن عمر ـ رضي الله عنه ـ يبغض عليًا ـ رضي الله عنه ـ ثم نجد عمر يولي عليًا على المدينة عندما خرج لاستلام مفاتيح بيت المقدس؟! (1) علما بأن عليًا رضي الله عنه كان سيصبح خليفة على المسلمين في حال تعرض ـ عمر رضي الله عنه ـ لأية مكروه!
فأي بغض هذا؟!
36 يزعم الشيعة أن مهديهم إذا ظهر فإنه سيحكم بحكم آل داود! لايسأل البينة . فأين شريعة محمد صلى الله عليه وسلم الناسخه للشرائع السابقة ، والتي تنص على وجوب إظهار البينة عند التقاضي؟!
37 لماذا إذا خرج مهدي الشيعة صالح اليهود والنصارى وقتل العرب وقريش؟!! أليس محمد صلى الله عليه وسلم من قريش ومن العرب، وكذا الأئمة حسب قولكم؟!
38 يعتقد الشيعة أن الأئمة تحملهم أمهاتهم في الجنب، ويولدون من الفخذ الأيمن!! (2) أليس محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وأشرف البشر حمل في بطن أمه وخرج من رحمها؟!
39 يروي الشيعة عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ أنه قال : «صاحب هذا الأمر رجل لا يسميه باسمه إلا كافر..» (3) .
ويروون عن أبي محمد الحسن العسكري أنه قال لأم المهدي : «ستحملين ذكرًا واسمه محمد وهو القائم من بعدي....» (4) .
__________
(1) ... البداية والنهاية ، ( 7/57).
(2) ... «إثبات الوصية»، المسعودي، (ص196).
(3) ... الأنوار النعمانية، (2/53).
(4) ... الأنوار النعمانية، (2/55).(74/19)
أليس هذا من التناقض؟! مرة تقولون : من ناداه باسمه فهو كافر، ومرة تقولون بأن الحسن العسكري سماه محمدًا!
40 روى الكليني في الكافي عن أحمد بن محمد رفعه عن أبي عبدالله عليه السلام قال : «يكره السواد إلا في ثلاث الخف والعمامة والكساء» (1) .
وعنه أيضاً في كتاب الزي مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره السواد إلا في ثلاثة الخف والكساء والعمامة» (2) .
وروى الحر العاملي في وسائله عن الصدوق عن محمد بن سليمان مرسلا عن أبي عبد الله عليه السلام : قال ـ قلت له : «أصلى في القلنسوة السوداء؟ قال : لا تصل فيها فانها لباس أهل النار» (3) .
__________
(1) ... رواه عنه صاحب الوسائل (ج 3 ص 278) حديث (1)، وانظر: «فروع الكافي» للكليني (6/449).
(2) ... رواه في الكافي (ج 2 ص 205) باب لبس السواد من طبع طهران سنة 1315هـ إلا أن فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره السواد إلا في ثلاث، وتقديم العمامة على الكساء.
(3) ... رواه في الوسائل (ج 3 ص 281 باب 20 حديث 3 من أبواب لباس المصلي)، والصدوق في الفقيه (2/232): قال: وسئل الصادق عليه السلام عن الصلاة في القلنسوة السوداء؟ فقال: لا تصل فيها فإنها من لباس أهل النار. وانظر: «وسائل الشيعة» (3/281).(74/20)
وروى أيضاً عن الصدوق في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام مرسلا وفي العلل والخصال كما في الوسائل عنه ( ع ) مسنداً أنه قال لأصحابه: لا تلبسوا السواد فإنه لباس فرعون. وروى أيضاً بإسناده كما في الوسائل عن حذيفة بن منصور قال: كنت عند أبي عبدالله عليه السلام بالحيرة فأتاه رسول أبي العباس الخليفة يدعوه فدعى بممطرة، والممطرة ثوب من صوف يلبس في المطر يتوقي به من المطر كما في اللسان (1) .
بل وردت بعض الأخبار عندهم تبين أن السواد من زي بني العباس أعدائهم :
مثل ما روي عن الصدوق في الفقيه مرسلا أنه قال : روي أن جبريل عليه السلام أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه قباء أسود ومنطقة فيها خنجر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرائيل ما هذا الزي؟ فقال : زي ولد عمك العباس، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العباس فقال : ياعم ويل لولدي من ولدك، فقال: يا رسول الله أفاجب نفسي؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : جرى القلم بما فيه. والظاهر أن المراد بأهل النار في بعض مامر من الأخبار هم المعذبون بها المخلدون فيها يوم القيامة، وهم فرعون ومن حذا حذوه واحتذى مثاله ونحوه من الفرق الطاغية الباغية من أشباه الخلفاء العباسية وغيرهم من كفرة هذه الأمة المرحومة والأمم السابقة الذين اتخذوا السواد ملابس لهم (2) .
__________
(1) ... رواه في من لا يحضره الفقيه (ج 1 ص 251)، ونقله عنه صاحب الوسائل في (ج 3 ص 278) من أبواب لباس المصلي. والرواية الثانية في الوسائل في (ج 3 ص 279 حديث 7 من أبواب لباس المصلي)، ورواه الفقيه في (ج 2 ص 252) والكافي (ج 2 ص 205).
(2) ... أوفى العلل والخصال كما في الوسائل، ورواه في الفقيه (ج 2 ص 252).(74/21)
ومن ذلك ما روي عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام أنه قال : أوحى الله إلى نبي من أنبيائه عليهم السلام : قل للمؤمنين لا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي (1) .
وقال في كتاب عيون الأخبار على ما في الحدائق بعد نقل الخبر بسند آخر عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقلا عن المصنف رضي الله عنه : أن لباس الأعداء هو السواد، ومطاعم الأعداء النبيذ والمسكر والفقاع والطين والجرى من السمك والمار الماهي والزمير والطافي وكل ما لم يكن له فلس من السمك والأرنب.. إلى أن قال : ومسالك الأعداء مواضع التهمة ومجالس شرب الخمر والمجالس التي فيها الملاهي والمجالس التي تعاب فيها الأئمة عليهم السلام والمؤمنون، ومجالس أهل المعاصي والظلم والفساد. انتهى ملخصاً (2) .
وبعد هذه الأخبار الكثيرة في ذم الأئمة للسواد، وأنه لباس أعداء الشيعة : لماذا يلبس الشيعة السواد ويعظمونه، ويجعلونه لباس الأسياد...؟!!
41 لو أراد إنسان أن يتشيع، فما هو المذهب الذي يسلكه من جملة مذاهب الشيعة الكثيره المختلفة؟! مابين إمامية، وإسماعيلية، ونصيرية، وزيدية، ودروز...إلخ، وكلهم يزعم الانتساب لآل البيت، ويقر بالإمامة، ويعادي الصحابة؟! ويعتقدون جميعاً إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنها ركنٌ وأنه الخليفة بلا فصل، ومعهم أصل الدين...!!
42 هل أنزلت كتب أخرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن واختص بها علي رضي الله عنه؟!
إن قلتم : لا، فبماذا تجيبون عن رواياتكم التالية :
1- الجامعة:
__________
(1) ... رواه الفقيه (ج 1 ص 252)، وانظر: «وسائل الشيعة» (4/384)، و«بحار الأنوار» (2/291)، (28/48).
(2) ... ذكر ذلك في (1/26) من عيون الأخبار.(74/22)
عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال : أنا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟!
قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟.
قال: صحيفة طولها سبعون ذارعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإملائه من فلق فيه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش.. إلخ (1) .
تأمل :« وفيها كل ما يحتاجه الناس».
فلماذا أخفيت إذن، وحُرمنا منها ومما فيها؟!
ثم : أليس هذا من كتمان العلم؟!
2- صحيفة الناموس:
عن الرضا رضي الله عنه في حديث علامات الإمام قال :
«وتكون صحيفة عنده فيها أسماء شيعتهم إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة» (2) .
نقول : أية صحيفة هذه التي تتسع لأسماء الشيعة إلى يوم القيامة؟!
ولو سجل فيها أسماء الشيعة في إيران مثلا في يومنا هذا لاحتجنا إلى مائة مجلد على أقل تقدير!!
3- صحيفة العبيطة:
عن أمير المؤمنين رضى الله عنه قال: وأيم الله إن عندي لصحفاً كثيرة قطائع رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته وإن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة، وما ورد على العرب أشد منها، وإن فيها لستين قبيلة من العرب بهرجة، مالها في دين الله من نصيب (3) .
نقول : إن هذه الرواية ليست مقبولة ولا معقولة، فإذا كان هذا العدد من القبائل ليس لها نصيب في دين الله، فمعنى هذا أنه لا يوجد مسلم واحد له في دين الله نصيب!
ثم لاحظوا تخصيص القبائل العربية بهذا الحكم القاسي الذي يشم منه رائحة الشعوبية.
4 - صحيفة ذؤابة السيف:
عن أبي بصير عن أبي عبد الله رضى الله عنه أنه كان في ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله صحيفة صغيرة فيها الأحرف التي يفتح كل حرف منها ألف حرف.
قال أبو بصير: قال أبو عبد الله: فما خرج منها إلا حرفان حتى الساعة (4) .
__________
(1) ... انظر: «الكافي» (1/239).
(2) ... انظر: «بحار الأنوار» (25/117).
(3) ... «بحار الأنوار» (26/37).
(4) «بحار الأنوار» (26/56).(74/23)
نقول : وأين الأحرف الأخرى؟!
ألا يفترض أن تخرج حتى يستفيد منها شيعة أهل البيت؟!
أم أنها ستبقى مكتومة حتى يقوم القائم؟؟! وتهلك الأجيال تلو الأجيال والدين محبوس في السرداب..؟!
5 - صحيفة علي :
وهي صحيفة أخرى وجدت في ذؤابة السيف:
عن أبي عبد الله رضى الله عنه قال:
وُجِدَ في ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله صحيفة فإذا فيها مكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم، إن أعتى الناس على الله يوم القيامة من قتل غير قاتله، ومن ضرب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وآله، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً (1) .
6- الجفر:
وهو نوعان: الجفر الأبيض، والجفر الأحمر:
عن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله رضى الله عنه يقول: إن عندي الجفر الأبيض.
قال: فقلت: أي شيء فيه؟
قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم عليهم السلام والحلال والحرام..، وعندي الجفر الأحمر.
قال: قلت: وأي شيء في الجفر الأحمر؟
قال: السلاح، وذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل.
فقال له عبد الله بن أبي اليعفور: أصلحك الله، أيعرف هذا بنو الحسن؟
فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل والنهار أنه نهار، ولكنهم يحملهم الحسد وطلب الدنيا على الجحود والإنكار، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيراً لهم (2) .
نقول : تأمل : زبور داود وتوراة موسى وانجيل عيسى وصحف إبراهيم عليهم الله والحلال والحرام، كلها في هذا الجفر!
فلماذا تكتمونه؟!
7- مصحف فاطمة :
أ- عن علي بن سعيد عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال :
وعندنا والله مصحف فاطمة ما فيه آية من كتاب الله، وإنه لإملاء رسول الله صلوات الله عليه وآله بخط علي رضي الله عنه بيده (3) .
__________
(1) ... «بحار الأنوار» (27/65).
(2) ... «أصول الكافي» (1/24).
(3) ... «بحار الأنوار» (26/41).(74/24)
ب- وعن محمد بن مسلم عن أحدهما رضى الله عنه:
(وخلفت فاطمة مصحفاً، ما هو قرآن، ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها، إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي رضي الله عنه) (1) .
جـ- عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله رضى الله عنه:
(وعندنا مصحف فاطمة عليها السلام، أما والله ما فيه حرف من القرآن، ولكنه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي) (2)
فإذا كان الكتاب من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخط علي، فلماذا كتمه عن الأمة؟!
والله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ كل ما أنزل إليه، قال الله تعالى: { أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة:67-77].
فكيف يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أن يكتم عن المسلمين جميعاً هذا القرآن؟! وكيف يليق بعلي رضى الله عنه والأئمة من بعده أن يكتموه عن شيعتهم؟!
أليس هذا من خيانة الأمانة؟!
8 - التوراة والإنجيل والزبور:
عن أبي عبد الله رضى الله عنه أنه كان يقرأ الإنجيل والتوراة والزبور بالسريانية (3) .
نقول : وماذا يفعل أمير المؤمنين والأئمة من بعده بالزبور والتوراة والإنجيل يتداولونها فيما بينهم ويقرؤونها في سرهم، ونصوص الشيعة تدعي أن عليًا وحده حاز القرآن كاملاً وحاز كل تلك الكتب والصحائف الأخرى على حد زعمكم, فما حاجته إلى الزبور والتوراة والإنجيل؟! وبخاصة إذا علمنا أن هذه الكتب قد نسخت بنزول القرآن؟
بعد كل هذا نقول : نحن نعلم أن الإسلام ليس له إلا كتاب واحد هو القرآن الكريم،وأما تعدد الكتب فهذا من خصائص اليهود والنصارى كما هو واضح في كتبهم المتعددة.
43 لماذا لم يلطم النبي صلى الله عليه وسلم عندما مات ابنه إبراهيم؟!
__________
(1) ... «البحار» (26/41).
(2) ... «البحار» (26/48).
(3) ... انظر: «أصول الكافي» (1/227).(74/25)
ولماذا لم يلطم علي رضي الله عنه عندما توفيت فاطمة رضي الله عنها؟!
44 كثير من علماء الشيعة وخصوصاً في إيران لا يعرفون اللغة العربية, فهم عُجُم الألسنة. فكيف يستنبطون الأحكام من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! مع العلم أن المعرفة بالعربية هي أحد ضرورات العالم.
45 يعتقد الشيعة أن أغلب الصحابة كانوا منافقين وكفارًا إلا قلة قليلة جداً, فإذا كان الأمر كذلك : لماذا لم ينقض هؤلاء الكفار على القلة القليلة التي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟! إن قالوا : بأنهم إنما ارتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلا سبعة، فلماذا لم ينقضوا على المسلمين القلة ويرجعوا الأمر كما كان عليه آباءهم وأجدادهم؟!(74/26)
46 يقول شيخ الشيعة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في مقدمة كتابه «تهذيب الأحكام» (1) وهو أحد كتبهم الأربعة: «الحمد لله ولي الحق ومستحقه وصلواته على خيرته من خلقه محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً، ذاكرني بعض الأصدقاء أبره الله ممن أوجب حقه علينا بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم، وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلة ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا..», ويقول السيد دلدار علي اللكهنوي الشيعي الاثنا عشري في أساس الأصول (2) : إن «الأحاديث المأثورة عن الأئمة مختلفة جداً لا يكاد يوجد حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، ولا يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، حتى صار ذلك سبباً لرجوع بعض الناقصين ...». ويقول عالمهم ومحققهم وحكيمهم ومدققهم وشيخهم حسين بن شهاب الدين الكركي في كتابه «هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار» (3) : «فذلك الغرض الذي ذكره في أول التهذيب من أنه ألفه لدفع التناقض بين أخبارنا لما بلغه أن بعض الشيعة رجع عن المذهب لأجل ذلك».
نقول : لقد اعترف علماء الشيعة بتناقض مذهبهم (4) ، والله يقول عن الباطل: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراًـ}ـ [النساء:82].
47 يعتقد الشيعة أن علي بن أبي طالب أفضل من ابنه الحسين, فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تبكون عليه في ذكرى مقتله كبكائكم على ابنه؟! ثم ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منهما؟ فلماذا لا تبكون عليه أشد من بكائكم السابق؟!
__________
(1) ... (1/45).
(2) ... (ص 51) ط لكهنو الهند.
(3) ... (ص 164) الطبعة الأولى 1396هـ.
(4) ... انظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، للقفاري، (1/418 وما بعدها).(74/27)
48 إذا كانت ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وولاية أبنائه من بعده ركناً لا يتحقق الإيمان إلا به ومن لم يؤمن بذلك فقد كفر واستحق جهنم ولو شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج بيت الله الحرام ـ كما يعتقد الشيعة ـ؛
فلماذا لا نجد التصريح بهذا الركن العظيم في القرآن الكريم؟!
إنما نجد القرآن قد صرح بغيره من الأركان والواجبات التي هي دونه؛ كالصلاة والزكاة والصيام والحج، بل صرح القرآن الكريم ببعض المباحات كالصيد مثلاً... فأين الركن الأكبر من الثقل الأكبر...؟!.
49 لو كان مجتمع الصحابة كما يصفه الشيعة مجتمعًا متباغضًا يحسد بعضه بعضًا، ويحاول كلٌ من أفراده الفوز بالخلافة، مجتمعًا لم يبق على الإيمان من أهله إلا نفر قليل، لم نجد الإسلام قد وصل إلى ما وصل إليه من حيث الفتوحات الكثيرة، واعتناق آلاف البشر له في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
50 لماذا يعطّل كثير من الشيعة صلاة الجمعة التي ورد الأمر الصريح بإقامتها في في سورة الجمعة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون }ـ[الجمعة:9].
إن قالوا : نحن نعطلها حتى يخرج المهدي المنتظر!
نقول : وهل هذا الانتظار يسوّغ تعطيل هذا الأمر العظيم؟! حيث مات مئات الألوف من الشيعة إن لم يكن أكثر وهم لم يؤدوا هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام، بسبب هذا العذر الشيطاني الواهي.
51 يعتقد الشيعة أن القرآن حذفت منه وغيرت آيات من قِبَل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما!
ويروون عن أبي جعفر أنه قيل له : لماذا سمي ـ علي ـ أمير المؤمنين؟(74/28)
قال: الله سماه، وهكذا أنزل في كتابه : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وأن محمدًا رسولي وأن عليًا أمير المؤمنين) (1) !
ويقول الكليني في تفسير الآية: { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ } (يعني بالإمام) { وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }ـ [الأعراف:157].
يعني: الذين اجتنبوا الجبت والطاغوت أن يعبدوها. والجبت والطاغوت: فلان وفلان (2) !
قال المجلسي ( المراد بفلان وفلان أبو بكر وعمر ) (3) !
ولهذا يعتبرهما الشيعة شيطانين ـ والعياذ بالله ـ .
فقد جاء في تفسيرهم لقوله تعالى: { لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } [النور:21]، قالوا: خطوات الشيطان والله ولاية فلان وفلان (4) .
ويروون عن أبي عبد الله قال :{ ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي وولاية الأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما } قال: هكذا نزلت (5) .
وعن أبي جعفر قال نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية على محمد هكذا {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في علي بغيا} (6) .
وعن جابر قال : نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية على محمد هكذا {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي فأتوا بسورة من مثله} (7) .
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل جبرائيل على محمد صلى الله عليه وآله بهذه الآية هكذا { يا أيها الذين أوتوا الكتب آمنوا بما نزلنا في علي نورا مبينا } (8) .
__________
(1) ... «أصول الكافي» (1/412).
(2) ... السابق (1/429).
(3) ... «بحار الأنوار» (23/306).
(4) ... «تفسير العياشي» (1/214)، «تفسير الصافي» (1/242).
(5) ... انظر: كتاب «أصول الكافي» (1/414).
(6) ... السابق (1/417).
(7) ... «شرح أصول الكافي» (7/66).
(8) ... السابق.(74/29)
وعن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام قال :{ كبر على المشركين بولاية علي ما تدعوهم إليه يا محمد من ولاية علي}. هكذا في الكتاب مخطوطة (1) .
وعن أبي عبد الله قال: {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين بولاية علي ليس له دافع} قال: هكذا والله نزل بها جبرائيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله (2) .
وعن أبي جعفر أنه قال : نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله هكذا : { فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد حقهم رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون} (3) .
وعن أبي جعفر قال : نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية هكذا {إن الذين ظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم} ثم قال {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم في ولاية علي فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا بولاية علي فإن لله ما في السماوات وما في الأرض} (4) .
فهذه الآيات يزعم الشيعة أنها تدل صراحة على إمامة علي رضي الله عنه، ولكن أبابكر وعمر رضي الله عنهما حرفوها كما تزعم الشيعة.
وهاهنا سؤالان محرجان للشيعة :
الأول :مادام أن أبابكر وعمر قد حرفا هذه الآيات فلماذا لم يقم علي بعد أن صار خليفة للمسلمين بتوضيح هذا الأمر؟! أو على الأقل إعادة هذه الآيات في القرآن كما أنزلت؟!
لم نجده رضي الله عنه فعل هذا، بل بقي القرآن في عهده كما كان في عهد الخلفاء من قبله، وكما كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه محفوظ بحفظ الله القائل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }ـ [الحجر:9]، ولكن الشيعة لا يعلمون.
السؤال الثاني: أن بعض هذه الآيات التي حرفوها لكي يثبتوا لعلي ولايته وإمامته وخلافته تخبرنا صراحة بأن هذا لن يكون!!
__________
(1) ... السابق (5/301).
(2) ... انظر: كتاب «أصول الكافي» (1/422).
(3) ... السابق (1/423).
(4) ... السابق (1/424).(74/30)
فتأملوا في الآية التي حرفوها وهي تتكلم عن اليهود ونسبوها للمسلمين! :
{فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد حقهم رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}.
فحسب تحريفهم هذه الآية تتكلم عن أمر سيحدث مستقبلاً، وأن عليًا يعرف ذلك.
و بأي حق يطالب علي وأهل البيت بحقهم الذي اغتصب منهم والقرآن يخبرهم بأن ذلك سيقع؟ وأنه لن يقبل المسلمون من علي ولاية ولا وصاية ولن يكون الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ثم متى وقع الرجز الذي أنزله الله على الذين ظلموا آل محمد حقهم في الخلافة؟!
الكل يعلم بأن هذا لم يحدث أبدًا، ولكنه التحريف الساذج المكشوف.
52 يروي الشيعة عن أبي الحسن في قوله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }ـ «يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين»، { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } [الصف: 61] يقول: «والله متم الإمامة، والإمامة هي النور»، وذلك قول الله عز وجل: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا}ـ [التغابن:8] قال: «النور والله: الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة» (1) .
والسؤال : هل أتم الله نوره بنشر الإسلام أم بإعطاء الولاية والوصاية والخلافة لأهل البيت؟!
53 لقد وجدنا اثنين فقط من الأئمة ـ حسب مفهومكم ـ توليا الخلافة :علي وابنه الحسن رضي الله عنهما! فأين إتمام النور ببقية العشرة ؟ ونص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكررون الاحتجاج به على أئمتهم الاثني عشر ؛ فيه أنهم «خلفاء» أو «ولاة أمر» أو «أمراء» ؛ فأين خلافة أو إمارة بقية العشرة ؟!
54 تروي بعض كتب الشيعة عن جعفر الصادق أنه قال لامرأة سألته عن أبي بكر وعمر: أأتولاهما؟! قال : توليهما. فقالت : فأقول لربي إذا لقيته إنك أمرتني بولايتهما؟! قال لها : نعم (2) .
__________
(1) ... «الكافي» (1/149).
(2) ... روضة الكافي (8/237).(74/31)
وتروي أن رجلا من أصحاب الباقر تعجب حين سمع وصف الباقر لأبي بكر رضي الله عنه بأنه الصديق، فقال الرجل : أتصفه بذلك؟! فقال الباقر: نعم الصديق فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولا في الآخرة (1) .
فما رأي الشيعة بأبي بكر الصديق رضي الله عنه؟
55 لقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين (2) والأربلي في كشف الغمة (3) , والمجلسي في جلاء العيون (4) أن أبا بكر بن علي بن أبي طالب كان ممن قتل في كربلاء مع أخيه الحسين رضي الله عنهما، وكذا قتل معهم ابن الحسين واسمه أبو بكر! (ومحمد الأصغر المكنى أبا بكر).
فلماذا تخفي الشيعة هذا الأمر؟! وتركز فقط على مقتل الحسين؟!
السبب هو أن اسم أخ الحسين، واسم ابنه كذلك : (أبو بكر)!!
وهذا ما لا تريد الشيعة أن يعلمه المسلمون، ولا أتباعهم الغافلون؛ لأنه يفضح كذبهم في ادعاء العداوة بين آل البيت وكبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر رضي الله عنه. لأنه لو كان كافرًا مرتدًا، قد اغتصب حق علي وآله ـ كما يزعم الشيعة ـ لما رأينا آل البيت يتسمون باسمه!
بل هذا دليل محبة لمن تأمل.
ثم: لماذا لا يقتدي الشيعة بعلي والحسين رضي الله عنهما ويسمون أبناءهم ( بأبي بكر)؟!
56 إنّ الإيمان بِكوْن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين يحصل به مقصود الإمامة في حياته وبعد مماته، فمن ثبت عنده أنّ محمدًا عليه الصلاة والسلام رسول الله، وأنّ طاعته واجبة، واجتهد في طاعته بحسب الإمكان، إن قيل بأنه يدخل الجنة استغنى عن مسألة الإمامة ولم يلزمه طاعة سوى الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن قيل لا يدخل الجنة إلا باتباعه الإمام كان هذا خلاف نصوص القرآن الكريم، فإنه سبحانه وتعالى أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع من القرآن، ولم يعلق دخول الجنة بطاعة إمام
__________
(1) ... كشف الغمة (2/360).
(2) ... صفحة 88، 142، 188 طبعة بيروت.
(3) ... (2/66).
(4) ... ص 582.(74/32)
أو إيمان به أصلاً؛ كمثل قوله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [النساء:69] ، وقوله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }ـ [النساء:13].
فلو كانت الإمامة أصلاً للإيمان أو الكفر، أو هي أعظم أركان الدين التي لا يقبل الله عمل العبد إلا بها كما تقول الشيعة، لذكر الله عز وجل الإمامة في تلك الآيات وأكّد عليها؛ لعلمه بحصول الخلاف فيها بعد ذلك، ولا أظن أحداً سيأتي ليقول لنا بأنّ الإمامة في الآيات مذكورة ضمناً تحت طاعة الله وطاعة الرسول؛ لأنّ في هذا تعسفاً في التفسير، بل يكفي بياناً لبطلان ذلك أن نقول بأنّ طاعة الرسول في حد ذاتها هي طاعة للرب الذي أرسله، غير أنّ الله عز وجل لم يذكر طاعته وحده سبحانه ويجعل طاعة الرسول مندرجة تحت طاعته بل أفردها لكي يؤكد على ركنين مهمين في عقيدة الإسلام (طاعة الله، وطاعة الرسول)، وإنما وجب ذكر طاعة الرسول بعد طاعة الله كشرط لدخول الجنة لأنّ الرسول مبلّغ عن الله ولأن طاعته طاعة لمن أرسله أيضاً، ولمّا لم يثبت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جانب التبليغ عن الله، فإنّ الله عز وجل علّق الفلاح والفوز بالجنان بطاعة رسوله والتزام أمره دون أمر الآخرين.
57 كان فى عهد النبى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أناس يرونه مرة واحدة ثم يذهبون لديارهم، فلم يسمعوا ـ بلا شك ـ عن ولاية علي بن أبي طالب وأبنائه وأحفاده رضي الله عنهم جميعاً. خاصة وأن الشيعة تزعم أن أمر الولاية قد حدث في أوائل الدعوة في مكة محتجين بحديث الدار . فهل إسلامهم ناقص؟!(74/33)
إن قلتم: نعم. نقول : لو كان كذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتصحيح إسلامهم وتبيين أمر الإمامة لهم. ولم نجده فعل ذلك صلى الله عليه وسلم.
58 ورد في كتاب ( نهج البلاغة ) الذي تقدره الشيعة ما يلي :
( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية :
إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضاً فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك والسلام) (1) .
ففي هذا دليل على :
1- أن الإمام يختار من قبل المهاجرين والأنصار، فليس له أي علاقة بركن الإمامة عند الشيعة!
2- أن عليا قد بويع بنفس الطريقة التي بويع بها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
3- أن الشورى للمهاجرين والأنصار، وهذ يدل على فضلهم ودرجتهم العالية عند الله، ويعارض ويخالف الصورة التي يعكسها الشيعة عنهم.
4- أن قبول المهاجرين والأنصار ورضاهم ومبايعتهم لإمام لهم يكون من رضا الله، فليس هناك اغتصاب لحق الإمامة كما يدعي الشيعة، وإلا فكيف يرضى الله عن ذلك الأمر؟!
5- أن الشيعة يلعنون معاوية رضي الله عنه، ولم نجد عليًا رضي الله عنه يلعنه في رسائله!
__________
(1) ... انظر: كتاب «صفوة شروح نهج البلاغة» (ص593).(74/34)
59 لا يستطيع الشيعة أن ينكروا أن أبابكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين قد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأن الله أخبر بأنه قد رضي عنهم وعلم ما في قلوبهم (1) ، فكيف يليق بالشيعة بعد هذا أن يكفروا بخبر الله تعالى، ويزعموا خلافه؟! فكأنهم يقولون:
(أنت يا رب لا تعلم عنهم ما نعلم( ! ـ والعياذ بالله ـ.
60 بينما نجد الشيعة يتقربون إلى الله بسب كبار الصحابة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الثلاثة : أبوبكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، لا نجد سنيًا واحدًا يسب واحدًا من آل البيت! بل يتقربون إلى الله بحبهم.
وهذا ما لم يستطع الشيعة إنكاره، ولو بالكذب.
61 طالما ردد الشيعة في كتبهم عن مقتل الحسين رضي الله عنه أنه مات عطشانا في المعركة، ولذلك تراهم يكتبون على مخازن المياه العبارة التالية ( اشرب الماء وتذكر عطش الحسين)!
والسؤال: مادام الأئمة حسب مفهوم الشيعة يعلمون الغيب:
ألم يكن باستطاعة الحسين أن يعلم حاجته إلى الماء أثناء القتال، وأنه سوف يموت عطشاً، وبهذا يستطيع أن يجمع كمية من الماء كافية للمعركة؟!
ثم : أليس توفير المياه أثناء القتال يدخل في باب الأخذ بالأسباب؟! والله يقول : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال:60].
62 لقد اكتمل دين الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، ومذهب الشيعة إنما ظهر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؟!
__________
(1) ... قال تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ـ } [الفتح: 81].(74/35)
63 لقد أنزل الله عز وجل براءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك الشهيرة، وطهرها من هذا السوء، ثم نجد بعض الشيعة لا زالوا يرمونها بالخيانة (1) !! ـ والعياذ بالله ـ. وهذا كما أن فيه طعنًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه طعن بالله عز وجل الذي يعلم الغيب، ولم يخبر نبيه بأن زوجته خائنة؟! ـ حاشاها من ذلك ـ.
وبئس المذهب مذهبًا يطعن في زوجات خير البشر وأمهات المؤمنين.
64 إذا كان لعلي وولديه رضوان الله عليهم كل تلك الخوارق التي ترويها كتب الشيعة، وهم ينفعونهم الآن وهم أموات ـ كما يزعمون ـ فلماذا لم ينفعوا أنفسهم وهم أحياء؟!
فقد وجدنا عليًا رضي الله عنه لم يستقر له أمر الخلافة، ثم مات مقتولاً، ووجدنا الحسن كذلك يضطر للتنازل عن الخلافة لمعاوية، ووجدنا الحسين يتعرض للتضييق ثم للقتل ولم يحصل له مبتغاه.. وهكذا من بعدهم!
فأين تلك الخوارق التي كانت عندهم؟!
65 يزعم الشيعة أن فضائل علي متواترة عن طريق الشيعة، وكذا النص على إمامته. فيقال : أما الشيعة الذين ليسوا من الصحابة فإنهم لم يروا النبى صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوا كلامه، فنقلهم هو نقل مرسل منقطع إن لم يسندوه إلى الصحابة لم يكن صحيحا، والصحابة الذين تواليهم االشيعة نفر قليل بضعة عشر أو نحو ذلك، وهؤلاء لا يثبت التواتر بنقلهم! والجمهور الأعظم من الصحابة الذين نقلوا فضائله تقدح الشيعة فيهم وتتهمهم بالكفر!
ثم يلزمهم إذا جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز!
__________
(1) ... انظر: «تفسير القمي» (2/377)، و«البرهان» للبحراني (4/358).(74/36)
66 يدعي الشيعة : أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان قصدهم الرياسة والملك فظلموا غيرهم بالولاية، فيقال لهم : هؤلاء لم يقاتلوا مسلما على الولاية، وإنما قاتلوا المرتدين والكفار، وهم الذين كسروا كسرى وقيصر وفتحوا بلاد فارس وأقاموا الإسلام، وأعزوا الإيمان وأهله وأذلوا الكفر وأهله، وعثمان وهو دون أبي بكر وعمر في المنزلة طلب الثوار قتله وهو في ولايته فلم يقاتل المسلمين ولا قتل مسلما على ولايته وخلافته.
فإذا جوّز الشيعة على هؤلاء أنهم كانوا ظالمين في ولايتهم أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، لزمهم أن يقولو مثل ذلك في علي رضي الله عنه!!
67 لقد كفرت القاديانية بادعائها النبوة لزعيمها، فما الفرق بينها وبين الشيعة الذين يزعمون لأئمتهم خصائص الأنبياء وزيادة؟!
أليس هذا مدعاة للكفر؟! أو يذكرون لنا الفروق الجوهرية بين الإمام والرسول؟! وهل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشرنا باثني عشر ـ إماماً ـ أقوالهم كأقواله وأفعالهم كأفعاله معصومون مثله تماماً...؟
68 كيف يُدفن رسول الله صلى الله علية وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها؟! وأنتم تتهمونها بالكفر والنفاق والعياذ بالله؟! أليس هذا دليلاً على حبها ورضاه عنها؟!
69 مثله : كيف يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وهما ـ في نظركم ـ كافران؟! والمسلم لا يدفن بين الكفار، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! لم يحفظه الله من مجاورة الكافرين في مماتة ـ حسب زعمكم ـ.
ثم أين علي رضي الله عنه من ذلك كله؟! لماذا لم يعارض هذا الأمر الخطير؟!
يلزمكم : أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما مسلمان، وقد أنالهم الله هذا الشرف لشرفهم عنده وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وهذا هو الحق ـ، أو أن يكون عليًا رضي الله عنه قد داهن في دينه!! وحاشاه عن ذلك. وإلا فكيف لنبي مختار أن يدفن معه كفره فجار كما تزعمون؟(74/37)
70 يدعي الشيعة أن النص على إمامة علي رضي الله عنه، واستحقاقه الخلافة ثابت في القرآن ولكن الصحابة كتموه.
وهذه دعوى باطلة؛ لأننا وجدنا الصحابة رضي الله عنهم لم يكتموا الأحاديث التي يستشهد بها الشيعة على إمامة علي؛ مثل حديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وغيره من الأحاديث المشابهة، فلماذا لم يكتموها أيضًا؟!
71 لقد كان الخليفة الحق بعد رسول الله ? هو أبو بكر الصديق؛ والدليل على هذا :
1- اتفاق الصحابة وإجماعهم على طاعته وانقيادهم لأوامره ونواهيه وتركهم الإنكار عليه، ولو لم يكن خليفة حقا لما تركوا ذلك، ولما أطاعوه، وهم من هم زهدًا وورعًا وديانة، وكانت لا تأخذهم في الله لومة لائم.
2- أن عليًا رضي الله عنه ما خالفه ولا قاتله، ولا يخلو : إما أن يكون تركه لقتاله خوفًا من الفتنة والشر، أو لعجز، أو لعلمه أن الحق مع أبي بكر.
ولا يمكن أن يكون تركه لأجل اتقاء الفتنة وخوف الشر؛ لأنه قاتل معاوية رضي الله عنه، وقتل في الحرب الخلق الكثير، وقاتل طلحة والزبير رضي الله عنهما وقاتل عائشة رضي الله عنها حين علم أن الحق له ولم يترك ذلك خوفًا من الفتنة!
ولا يمكن أن يكون عاجزًا؛ لأن الذين نصروه في زمن معاوية كانوا على الإيمان يوم السقيفة ويوم استخلاف عمر ويوم الشورى، فلو علموا أن الحق له لنصروه أمام أبي بكر رضوان الله عليه؛ لأنه أولى من معاوية رضي الله عنه بالمحاربة والقتال.
فثبت أنه ترك ذلك لعلمه أن الحق مع أبي بكر رضي الله عنهما!
72 يدعي الشيعة أن معاوية رضي الله عنه كان كافرًا مرتدًا!، ويلزمهم لو كان الأمر كما يقولون : القدح في علي وابنه الحسن رضي الله عنهما، وتوضيح هذا :(74/38)
أن يكون عليٌّ مغلوبًا من المرتدين، وأن الحسن قد سلم أمر المسلمين إلى المرتدين. بينما نجد أن خالد بن الوليد قد حارب المرتدين زمن أبي بكر وقهرهم، فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعلي! والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحدًا منهما، فيكون أفضل عند الله منه، بل إن جيوش أبي بكر وعمر وعثمان ونوابهم كانوا منصورين على الكفار، بينما علي عاجز عن مقاومة المرتدين! أيضاً:
فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }ـ [آل عمران:139]، ويقول:
{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ـ} [محمد:35]، وعلي رضي الله عنه دعا معاوية
إلى السلم في آخر الأمر لما عجز عن دفعه عن بلاده، وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه، فإن كان أصحابه مؤمنين وأولئك مرتدين ـ كما تزعم الشيعة ـ وجب أن يكون أصحابه هم الأعلون، وهو خلاف الواقع!
73 إن الشيعة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة؛ لأنه إذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن يكفرون عليًا أو يفسقونه : لا نسلم أنه كان مؤمنًا، بل كان كافرا أو ظالما ـ كما يقول الشيعة في أبي بكر وعمرـ لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدالته إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل.
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء، بل تواتر إسلام معاوية وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار!
فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعي في علي النفاق!
وإن ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها!(74/39)
وإن قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان، أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي، ويوجه ذلك بأن يقول كان يحسد ابن عمه ـ والعداوة في الأهل ـ وكان يريد فساد دينه، فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة، حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضا له وعداوة، وكان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة، وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية، ولهذا كانت الباطنية من أتباعه وعندهم سره وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه!
وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه، قيل لهم : القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره، وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها واختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر، فباب الدعوى بلا حجة ممكنة، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما.
وإن قالوا: ثبت ذلك بالنقل والرواية، فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر، فإن ادعوا تواترا فالتواتر هناك أصح، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر!
74 يزعم الشيعة أن عليًا كان أحق الناس بالإمامة لثبوت فضله على جميع الصحابة ـ كما يدعون ـ ولكثرة فضائله دونهم، فنقول: هبكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة؛ كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعة العلم والزهد، فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما في مقابل سعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهم من المهاجرين والأنصار؟!(74/40)
هذا ما لا يقدر أحد على أن يدعيه لهما، فلم يبق إلا دعوى النص عليهما، وهذا مالا يعجز عن مثله أحد، ولو استحلت الأموية ـ مثلا ـ أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الشيعة؛ لقوله تعالى: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [الإسراء:33]. فسيقولون : المظلوم هو عثمان بن عفان، وقد نصر الله معاوية لتوليه دم عثمان!
75 تزعم الشيعة أن أبابكر وعمر اغتصبا الخلافة من علي وتآمرا عليه لكي يمنعوه منها..الخ افترائهم.
نقول : لو كان ما ذكرتموه حقا فما الذي دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها؟ ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة؟!
فصح ضرورة بما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير غالين ولا مقصرين، رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم قدموا الأحق فالأحق والأفضل فالأفضل، وساووه بنظرائه منهم.
ويؤكد هذا : البرهان التالي؛ وهو : أن علياً رضي الله عنه لما تولى بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته، فهل ذكر أحد من الناس أن أحدا منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان؟! أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إمامته؟! أو قال أحد منهم: لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر علي؟!
76 لقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون بسبب من هذه الأسباب :
1- أن يكون بالقوة.
2- أو أن يكون عن ظهور حق أبي بكر بالخلافة؛ فأوجب ذلك الانقياد لبيعته.
3- أو فعلوا ذلك لغير معنى. ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه.(74/41)
فإن قال الشيعة : إنما بايعوه بالقوة، فهذا كذب؛ لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا سلاح، ومحال أن يرهب الأنصار وهم أزيد من ألفي فارس أبطال كلهم عشيرة واحدة قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم، موطنين على الموت متعرضين مع ذلك للحرب مع قيصر الروم بمؤتة وغيرها، محال أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ولا إلى موال ولا إلى عصبة ولا مال، فيرجعوا إليه وهو عندهم مبطل! بل بايعوه بلا تردد ولا تطويل.
وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم وعن بيعة ابن عمهم، فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك، ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه، ثم يسلمون كل ذلك إلى رجل لا عشيرة له ولا منعة ولا حاجب ولا حرس على بابه ولا قصر ممتنع فيه ولا موالي ولا مال.
وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن الأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنهم لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنونهم.
فإذا بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرياسة عنهم، فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة علي؟! ومن المحال أن تتفق آراؤهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم!!
77 بما أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد نجحا في تنحية علي رضي الله عنه عن الخلافة ـ كما تزعم الشيعة ـ، فما هي المكاسب التي حققوها لأنفسهم؟!
ولماذا لم يخلف أبو بكر أحد أولاده على الحكم، كما فعل علي؟!
ولماذا لم يخلف عمر أحد أولاده على الحكم كما فعل علي؟!(74/42)
78 لقد وجدنا أن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان رضي الله عنهم، أمه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عنهم، فجدته هي فاطمة رضي الله عنها، وجده عثمان بن عفان رضي الله عنه!
وهنا سؤال محرج للشيعة : هل يصح عندهم أن يكون لفاطمة رضي الله عنها حفيدٌ ملعونٌ؟! لأن بني أمية عند الشيعة ـ ومنهم محمد الذي ذكرناه سابقًا ـ هم (الشجرة الملعونة في القرآن)! (1)
79 لقد جمع الشيعة لأئمتهم بين العصمة والتقية، وهما ضدان لا يجتمعان. لأنه ما الفائدة من عصمة أئمتكم إذا كنتم لا تدرون صحة ما يقولونه ويعملونه، طالما أن تسعة أعشار دينكم التقية؟!
وبما أنكم تجعلون التقية ثوابها ومرتبتها بمرتبة الصلاة، بحيث أن «تارك التقية كتارك الصلاة» (2) وأن «تسعة أعشار الدين هو التقية» (3) ، فلا شك أن أئمتكم قد عملوا بكل الأعشار التسعة! وهذا يضاد عصمتهم المزعومة!
80 يتناقض الشيعة عندما يستدلون على إمامة أئمتهم بحديث الثقلين (4) ، ثم نجدهم يكفرون من طعن في الثقل الأصغر؛ وهم أهل البيت، بخلاف من طعن في الثقل الأكبر وهو القرآن، بل يقولون إنه مجتهد مخطئ فقط، ولا يكفرونه.
81 يزعم الشيعة أن الصحابة ارتدوا كلهم إلا عددا قليلاً، لا يتجاوز سبعة (على أكثر تقدير).
والسؤال: أين بقية أهل البيت؛ كأولاد جعفر وأولاد علي..وغيرهم، هل ارتدوا مع من ارتد؟!
__________
(1) ... انظر: «الكافي» (5/7), «كتاب سليم بن قيس» (ص362).
(2) ... «بحار الأنوار» (75/421)، «مستدرك الوسائل» (12/254).
(3) ... «أصول الكافي» (2/217)، «بحار الأنوار» (75/423).
(4) ... وهو قوله ?: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» أخرجه الترمذي (5/328 ـ 329).(74/43)
82 جاء في حديث المهدي : «لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» (1) ، والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم اسمه: محمد بن عبد الله صلى الله علية وسلم، والمهدي عند الشيعة اسمه محمد ابن الحسن! هذه إشكالية عظيمة!
ولهذا حل أحد شيوخ الشيعة هذه الإشكالية بجواب طريف! حيث قال: ( كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبطان أبو محمد الحسن وأبو عبد الله الحسين، ولما كان الحجة ـ أي المنتظرـ من ولد الحسين أبي عبد الله، وكانت كنية الحسين أبا عبد الله، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم على الكنية لفظ الاسم، لأجل المقابلة بالاسم في حق أبيه، وأطلق على الجد لفظة الأب )!! (2) .
83 تناقضات في حياة مهدي الشيعة المنتظر :
1- من هي أم المهدي؟
هل هي جارية اسمها نرجس، أم جارية اسمها صقيل، أم جارية اسمها مليكة، أم جارية اسمها خمط، أم جارية اسمها حكيمة، أم جارية اسمها ريحانة، أم سوسن، أم هي حرة اسمها مريم؟!
2- ومتى ولد ؟
هل ولد بعد وفاة أبيه بثمانية أشهر، أم ولد قبل وفاة أبيه سنة 252، أم ولد سنة255،أم ولد سنة 256، أم ولد سنة 257، أم ولد سنة 258، أم ولد في 8 من ذي القعدة، أم ولد في 8 من شعبان، أم ولد في 15 من شعبان، أم ولد في 15 من رمضان؟!
3- كيف حملت به أمه؟
هل حملت به في بطنها كما يحمل سائر النساء؟ أم حملته في جنبها ليس كسائر النساء؟!
4- كيف ولدته أمه؟
هل ولدته من فرجها كسائر النساء؟ أم من فخذها على غير عادة النساء؟
5- كيف نشأ؟
__________
(1) ... أخرجه أبوداود (4/106)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5180). والشيعة يحتجون به ،ولكن تورطوا في الاسم كما يأتي !
(2) ... «كشف الغمة في معرفة الأئمة» للأربلي، (3/228) ، " أمالي الطوسي " ، ص 362 ، " إثبات الهداة " ( 3/594،598).(74/44)
رووا عن أبي الحسن : ( إنا معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم مثلما ينشأ غيرنا في الجمعة)!.
وعن أبي الحسن قال : ( إن الصبي منا إذا أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة)!.
وعن أبي الحسن أنه قال : ( إنا معاشر الأئمة ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في السنة) (1) !.
6- أين يقيم؟
قالوا : في طيبة، ثم قالوا : بل في جبل رضوى بالروحاء، ثم قالوا: بل في مكة بذي طوى، ثم قالوا : بل هو في سامراء!
حتى قال بعضهم :
(ليت شعري أين استقرت بك النوى ... بل أي أرض تقلك أو ثرى، أبرضوى أم بغيرها أم بذي طوى ... أم في اليمن بوادي شمروخ أم في الجزيرة الخضراء ) (2) .
7- هل يعود شاباً أو يعود شيخاً كبيراً؟
عن المفضل قال سألت الصادق : يا سيدي يعود شابا أو يظهر في شيبه؟ قال : (سبحان الله، وهل يعرف ذلك، يظهر كيف شاء وبأي صورة شاء) (3) .
و في رواية أخرى (يظهر في صورة شاب موفق ابن اثنين وثلاثين سنة) (4) .
و في وراية أخرى: (يخرج وهو ابن إحدى وخمسين سنة) (5)
و في رواية أخرى (يظهر في صورة شاب موفق ابن ثلاثين سنة) (6) .
8- كم مدة ملكه؟
قال محمد الصدر : ( وهي أخبار كثيرة ولكنها متضاربة في المضمون إلى حد كبير حتى أوقع كثيراً من المؤلفين في الحيرة والذهول ) (7) .
وقيل : ( ملك القائم منا 19سنة ) وفي رواية : ( سبع سنين، يطول الله له في الأيام والليالي حتى تكون السنة من سنيه مكان عشر سنين فيكون سني ملكه 70 سنة من سنيكم ) (8) .
وفي رواية أخرى أن القائم يملك 309 سنة كما لبث أهل الكهف في كهفهم.
9- كم مدة غيبته؟
__________
(1) ... انظر: «الغيبة»، للطوسي، (ص159 ـ 160).
(2) ... «بحار الأنوار» (102/108).
(3) ... بحار الأنوار (53/7).
(4) ... كتاب تاريخ ما بعد الظهور (ص 360).
(5) ... كتاب تاريخ ما بعد الظهور (ص 361).
(6) ... كتاب الغيبة للطوسي (ص 420).
(7) ... تاريخ ما بعد الظهور (ص 433).
(8) ... تاريخ ما بعد الظهور (ص 436).(74/45)
رووا عن على بن أبي طالب أنه قال : ( تكون له ـ أي للمهدي ـ غيبة وحيرة، يضل فيها أقوام ويهتدي آخرون، فلما سئل : كم تكون الحيرة؟ قال : ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين ) (1) .
وعن أبي عبد الله أنه قال : ( ليس بين خروج القائم وقتل النفس الزكية إلا خمس عشرة ليلة )، يعني 140 للهجرة!
قال محمد الصدر عن هذا الخبر : خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي ـ بحسب منهج هذا الكتاب ـ فقد رواه المفيد في الإرشاد عن ثعلبة بن ميمون عن شعيب الحداد عن صالح بن ميتم الجمال، وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاء (2) !
فلما لم يظهر كما حددت الرواية السابقة! جاءت رواية أخرى عنه أنه قال : ( يا ثابت إن الله كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة: فحدثناكم أنه سيخرج سنة 140، فأذعتم الحديث وكشفتم قناع الستر، فلم يجعل الله له بعد ذلك عندنا وقتا ) (3) !!
ثم جاءت رواية تكذب كل ما سبق عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال : (كذب الوقاتون إنا أهل البيت لا نوقّت) (4) .
و(ما وقتنا فيما مضى، ولا نوقت فيما يُستقبل) (5) .
__________
(1) ... الكافي (1/338).
(2) ... تاريخ ما بعد الظهور (ص 185).
(3) ... «أصول الكافي» (1/368)، «الغيبة» للنعماني (ص197)، «الغيبة» للطوسي (ص263)، «بحار الأنوار» (52/117).
(4) ... «أصول الكافي» (1/368)، «الغيبة» للنعماني (ص198).
(5) ... «الغيبة» للطوسي (ص262)، «بحار الأنوار» (52/103).(74/46)
84 يروي الشيعة عن علي رضي الله عنه أنه لما خرج على أصحابه محزونا يتنفس، قال:(كيف أنتم وزمان قد أظلكم تعطل فيه الحدود ويتخذ المال فيه دولا , ويعادى فيه أولياء اللّه , ويوالى فيه أعداء اللّه)؟ قالوا : يا أمير المؤمنين فإن أدركنا ذلك الزمان فكيف نصنع؟ قال : (كونوا كأصحاب عيسى (ع ) : نشروا بالمناشير , وصلبوا على الخشب، موت في طاعة اللّه عز وجل خير من حياة في معصية اللّه) (1) .
فأين هذا من تقية الشيعة؟!
85 ما الذي أجبر أبا بكر رضي الله عنه على مرافقة النبي عليه الصلاة والسلام في هجرته؟!
فلو كان منافقًا ـ كما يقول الشيعة ـ فلماذا يهرب من قومه الكفار وهم المسيطرون ولهم العزة في مكة؟! وإن كان نفاقه لمصلحة دنيوية، فأي مصلحة كان يرجوها مع النبي تلك الساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم وحيد طريد؟! مع أنه قد يتعرض للقتل من الكفار الذين لن يصدقوه!
86 لقد أثنى الله عزو جل على الصحابة في أكثر من موضع في كتابه الكريم، فقال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف:156-157].
__________
(1) ... نهج السعادة، (2/639).(74/47)
وقال تعالى : { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ{172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 172، 173].
وقال تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ{62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }ـ [الأنفال:62، 63].
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال:64].
قال تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران:110]
وآيات أخرى كثيرة جدًا.
والشيعة يقرُّون بإيمان الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم يزعمون أنهم ارتدُّوا بعد ذلك! فيا لله العجب، كيف اتفق أن يُجمعَ كل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم على الارتداد بعد موته؟ ولماذا؟
كيف ينصرون النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشدَّة واللأواء، ويفدونه بالنفس والنفيس، ثمَّ يرتدون بعد موته دون سبب؟!
إلاَّ أن تقولوا إنَّ ارتدادهم كان بتوليتهم أبي بكر رضي الله عنه عليهم، فيقال لكم :
لماذا يُجمِعُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة أبي بكر، وماذا كانوا يخشون من أبي بكر؟ وهل كان أبو بكر رضي الله عنه ذا سطوة وسلطان عليهم فيجبرهم على مبايعته قسراً؟ ثمَّ إنَّ أبا بكر رضي الله عنه من بني تيم من قريش، وقد كانوا من أقل قريش عددا، وإنما كان الشأن والعدد في قريش لبني هاشم وبني عبدالدار وبني مخزوم.(74/48)
فإذا لم يكن قادراً على قسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مبايعته، فلماذا يضحي الصحابة رضوان الله عليهم بجهادهم وإيمانهم ونصرتهم وسابقتهم ودنياهم وأُخراهم لحظِّ غيرهم، وهو أبو بكر رضي الله عنه؟!
87 إذا كان الصحابة ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما تزعمون ـ فكيف قاتلوا المرتدين من أصحاب مسيلمة وأصحاب طليحة بن خويلد وأصحاب الأسود العنسي، وأصحاب سجاح وغيرهم وأرجعوهم إلى الإسلام؟! فهلا كانوا مناصرين لهم،أو تاركين، ماداموا مثلهم مرتدين ـ كما تدعون ـ؟!
88 السنن الكونية والشرعيَّة تشهد بأن أصحاب لأنبياء هم أفضل أهل دينهم، فإنَّه لو سئل أهل كل دين عن خير أهل ملتهم لقالوا : أصحاب الرسل.
فلو سئل أهل التوراة عن خير أهل ملتهم لقالوا أصحاب موسى ـ عليه السلام ـ، ولو سئل أهل الإنجيل عن خير أهل ملتهم لقالوا : أصحاب عيسى ـ عليه السلام ـ وكذلك أصحاب سائر الأنبياء، لأنَّ عهد أصحاب الرسل بالوحي أقرب وأعمق، ومعرفتهم بالنبوة والأنبياء عليهم السلام أقوى وأوثق.
فإذن ما بالُ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي اختصَّه الله بالرسالة الخالدة الشاملة، والشريعة السمحة الكاملة، والذي وطَّأ لظهوره الرسل والأنبياء من قبله، وبشَّرت به الكتب السماويَّة السابقة، يَكفُرُ به ـ في زعمكم ـ أصحابُه الذين آمنوا به ونصروه، وعزروه ووقروه؟! فأيُّ معنىً أبقيتم لهذه الرسالة المحمديَّة، وأيُّ وزنٍ أقمتم لهذه الشريعة الربانية، بعد أن تخلَّى عنها في زعمكم خواصُّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدُّوا على أعقابهم؟! فمن جاء بعدهم أولى بالكفر والارتداد والخسران، ممَّن فارقوا لنصرة الرسول الأهل والأوطان، وقاتلوا دونه الآباء والإخوان، وافتتحوا من بعد وفاته الأقطار والبلدان، بالعلم والقرآن والتبيان، ثمَّ بالسيف والسنان.(74/49)
89 لقد وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل بالتقية في مواقف عصيبة، والشيعة تدعي ـ كما سبق ـ أن هذه التقية تسعة أعشار الدين! وأن أئمتهم استعملوها كثيرًا. فما بالهم لم يكونوا كجدهم صلى الله عليه وسلم؟!
90 لقد وجدنا عليًا رضي الله عنه لم يكفر خصومه، حتى الخوارج الذين حاربوه وآذوه وكفروه. فما بال الشيعة لا يقتدون به؟! وهم الذين يكفرون خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل وزوجاته أمهات المؤمنين؟!
91 الإجماع عند الشيعة ليس بحجة بذاته، بل بسبب وجود المعصوم ـ كما يقولون ـ (1) ، وهذا فضول من القول؛ لأنه لا داعي للإجماع إذن.
92 لقد وجدنا الشيعة يكفرون الزيدية، مع أن الزيدية موالون لآل البيت، فعلمنا أن العمدة عندهم هي بغض الصحابة والسلف الصالح لا محبة آل البيت كما يدعون (2) .
93 يزعم الشيعة أن عليًا يستحق الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» (3) . ثم نجد أن هارون لم يخلف موسى ـ عليهما السلام ـ! بل خلفه يوشع بن نون!
94 لقد جرأ الشيعة أتباعهم على ارتكاب الآثام والموبقات بدعواهم أن (حب علي حسنة لا تضر معها معصية)، وهذه دعوى يكذبها القرآن الذي يحذر في معظم آياته من المخالفات والنواهي تحت أي دعوى، ويقرر أنه { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [النساء: 123].
__________
(1) ... انظر: تهذيب الوصول لابن المطهر الحلي، (ص 70)، والمرجعية الدينية العليا لحسين معتوق، (ص 16).
(2) ... انظر للفائدة: رسالة «تكفير الشيعة لعموم المسلمين» للشيخ علي العماري، فقد ذكر كثراً من النصوص الصريحة لهم في تكفير غيرهم؛ ومنهم الزيدية.
(3) ... أخرجه البخاري ومسلم.(74/50)