ما هو العقل؟ أين مكانه؟ ما موقف الإسلام منه؟ كيف نرد على من يعظمه على حساب النصوص الشرعية؟
? مقدمة
? ما هو العقل؟
? محل العقل
? العقل عند الفلاسفة و ظهور المدرسة العقلية عند الغرب
? العقل عند المعتزلة والمدرسة العقلية الحديثة
? الرد على العقلانيين من الوجه [1 إلى 4]
? الرد على العقلانيين من الوجه [5 إلى 33]
? الرد على العقلانيين من الوجه [34 إلى 73]
? نشر " العقلانية " في العالم الإسلامي هدف من أهداف اليهود !
? عقلانيون يتوبون قبل الموت !
? الخاتمة(1/1)
مقدمة
... إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
... أما بعد : فهذه عدة مباحث حول موضوع ((العقل)) و ((العقلانية)) أحببت أن أشارك بها في الحديث عن هذا الموضوع المتجدد الذي يخطف الشباب المسلم ببريقه ، لا سيما في هذا الزمن الذي تعاظم فيه دور هذا العقل المخلوق، وتنوعت إنجازاته ، فأصبح الحديث عنه وعن نظرة الإسلام له من المهمات للباحث المسلم .
... فسبب كتابة هذه المباحث هو أنني رأيت الفتنة بهذا العقل (المخلوق) قد طغت عند طائفة من الشباب الذين كانوا يسلكون درب الهدى والاعتدال، ثم انحرفوا مع هذه الفتنة الطارئة على بلادنا ، معتقدين في عقولهم الاعتقادات الخاطئة ومضخمين لدورها في سَوْقهم نحو الجادة والطريق القويم على حساب النصوص الشرعية .
... ومما حفزني كثيراً للكتابة –أيضاً- : النظرة القاصرة التي ينظر بها أولئك الشباب -اتباعاً لرؤس العقلانيين- إلى متبعي النصوص الشرعية ، معتقدين أنهم يبخسون العقل حقّه ، فلا يستخدمونه في أيٍ من نواحي الحياة أو الشريعة ، وفي هذا تشويه لأصحاب المنهج السلفي الذي كانوا وسطاً في نظرتهم إلى العقل، فلم يُلغوا دوره كما فعل غيرهم من الجامدين ، ولم يغلوا فيه ويقحموه في مجالات مغيّبة لم يكن أهلاً لها . إنما استخدموه فيما أذن به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ألجموه بلجام النصوص الشرعية لكي لا يطغى عليها .
...(2/1)
وليُعلم أنني في هذا المبحث عالةً على من هم أعلم مني وأجلد على البحث والنظر من أهل السنة ، فكنت معتمداً –بعد الله- على المصادر والمراجع التي سبقتني في الحديث عن هذا الموضوع ، لا سيما كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ((درء تعارض العقل والنقل)) الذي حاولت تلخيصه في مبحث : الرد على العقلانيين .
... وأسال الله أن ينفع بهذه الرسالة من قرأها ، وأن يجعلها سلاحاً بيد أهل السنة في صولاتهم المتكررة مع العقلانيين وأذنابهم في هذا الزمان.
... وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
في الرياض عام 1421هـ(2/2)
ما هو العقل؟
قال صاحب اللسان ([1]) ((العقل الحجر والنهي . ضد الحمق والجمع عقول)) وقال ابن الأنباري ((رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه)) ((وقيل العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها أخذ من قوله قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع الكلام)). ((والعقل التثبت في الأمور. والعقل القلب . والقلب العقل. وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك. أي يحبسه. وقيل العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان)) .
قلت: والألفاظ المرادفة للعقل هي : اللب ، الحِجْر، والنُهى، الحلم، الحجى.
العقل في القرآن :
ليس لإسم العقل وجود في كتاب الله العزيز وإنما يوجد ما تصرف منه نحو :
عقلوه : وردت في موضع واحد من القرآن .
تعقلون : وردت في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن .
نعقل: وردت في موضع واحد من القرآن.
يعقلها : وردت في موضع واحد من القرآن .
هـ- يعقلون : وردت في اثنتين وعشرين موضعاً من القرآن .
العقل في الحديث النبوي :
لا يكاد يوجد لفظ العقل المصدر في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح إلا في مثل الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال : ((يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار)) فقلنا: وبم يا رسول الله؟ قال : ((تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) . قلنا : وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ فقال : ((أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟)) قلنا : بلى. قال : ((هذا من نقصان عقلها)). قال : ((وإذا حاضت لم تصل ولم تصم)) . قلنا : بلى. قال : ((فهذا من نقصان دينها)) ([2]).
وبالنظر في الأحاديث الوارد فيها ذكر (العقل) نجدها ثلاثة أنواع:
قسم ورد فيه العقل بمعنى الدية وهذا لا يدخل في بحثنا.(3/1)
قسم ورد فيه لفظ العقل بصيغة الفعل ومثال ذلك ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المعتوه – أو قال المجنون – حتى يعقل وعن الصغير حتى يشب([3]).
قسم ورد فيه لفظ العقل بصيغة المصدر وهو المقصود هنا كما في حديث أبي سعيد السابق . وأما غيره من الأحاديث فقد ضعفها العلماء كما سيأتي
العقل عند العلماء :
قال القاضي أبو يعلى ((العقل ضرب من العلوم الضرورية وهو مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين ونقصان الواحد عن الاثنين)) ثم ذكر تعريفات بعض العلماء له فقال : ((وقال أبو الحسن التميمي.. العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر وإنما هو نور فهو كالعلم. وقال أبو محمد البربهاري : وليس العقل باكتساب وإنما هو فضل من الله)) ((وقال بعضهم : قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات . وقال أبو بكر بن فورك : هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح. وقال بعضهم ما حسن معه التكليف)) ثم قال أبو يعلى ((ومعنى ذلك كله متقارب ولكن ما ذكرناه أولى لأنه مفسر وهو قول الجمهور من المتكلمين)) .
... وعن أحمد بن حنبل رحمه الله قال : ((العقل غريزة)) قال القاضي ((ومعنى قوله غريزة أنه خلق لله تعالى ابتداءً وليس باكتساب للعبد خلافاً لما حكي عن بعض الفلاسفة أنه اكتساب)) ([4]) .
... وقال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله ((اختلف الناس في العقل ما هو فقيل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة يميز بها بين حقائق المعلومات)) ([5]).
... وقال الإمام أبو القاسم الأصبهاني ((وقال بعضهم العقل على ثلاثة أوجه عقل مولود مطبوع وهو عقل ابن آدم الذي به فضل على أهل الأرض وهو محل التكليف والأمر والنهي وبه يكون التدبير والتمييز .
...(3/2)
والعقل الثاني: ((عقل التأييد الذي يكون مع الإيمان معاً. وهو عقل الأنبياء والصديقين وذلك تفضل من الله تعالى . والعقل الثالث : هو عقل التجارب والعبر وذلك ما يأخذه الناس بعضهم من بعض)) ([6]) .
... قلت: والشاهد من قوله : العقل الأول.
... وقال ابن الجوزي ((إن أعظم النعم على الإنسان العقل. لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل))([7]).
... وقال النسفي ((هو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والادراكات)) ([8]).
... وقال شيخ الإسلام ((العقل في لغة العرب يتناول العلم والعمل بالعلم جميعاً ومن أهل الكلام من يجعله اسماً لنوع من العلم فقط فيقول هو نوع من العلوم الضرورية ومن الناس من يريد به العمل بالعلم كما ذكره أبو البركات . وقد يراد بالعقل القوة التي في الإنسان وهي الغريزة التي بها يحصل له ذلك العلم والعمل به ولهذا كان في كلام السلف كأحمد والحارث المحاسبي وغيرهما اسم العقل يتناول هذه الغريزة)) ([9]) .
... وقال في موضع آخر ((العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً وهو أيضاً غريزة في الإنسان فمسماه من باب الأعراض)) ([10]) . وقال ((العقل قد يراد به القوة الغريزية في الإنسان التي بها يفعل وقد يراد به نفس أن يعقل ويعي ويعلم فالأول قول الإمام أحمد وغيره من السلف : العقل غريزة والحكمة فطنة. والثاني قول طوائف من أصحابنا وغيرهم : العقل ضرب من العلوم الضرورية . وكلاهما صحيح فإن العقل في القلب مثل البصر في العين يراد به الإدراك تارة ويراد به القوة التي جعلها الله في العين يحصل بها الإدراك. فإن كل واحد من علم العبد وإدراكه، ومن علمه وحركته حول . ولكل منهما قوة ولا قوة إلا بالله)) ([11]) .
...(3/3)
قلت:هذه بعض تعريفات العقل عند علماء المسلمين تُفيد في مجملها بأن العقل غريزة قد وهبها الله سبحانه وتعالى لمخلوقه (الإنسان) ليتميز بها عن غيره من المخلوقات في إدراك عالمه الذي يحيط به أو إن شئت فقل ((هو ملكة في النفس تستعد بها للعلوم والإدراكات)) ([12]) مستعيناً بمجموعة من الحواس التي تشكل نافذة له على هذا العالم الرحيب ومعتمداً في أعماله على عدة ملكات وهبها الله للإنسان ليستقيم بها عمل العقل، حصرها بعض العلماء في خمس ملكات هي:
ملكة الإرادة .
ملكة الإدراك .
ملكة الاستنتاج .
ملكة الحافظة .
ملكة الذاكرة ([13]).
_____________________
([1]) مادة (عقل)
([2]) البخاري (1/116) ومسلم (1/86) .
([3]) صحيح أبي داود (3701) بعدة ألفاظ . وانظر الإرواء (2/5) .
([4]) العدة في أصول الفقه (1/83-86)
... وانظر : الأحياء 1/117 وكشاف الاصطلاحات 4/1027 والحدود للباجي 31 والتعريفات 157 والمسودة 556 وغيرها وكلها لا تخرج عما ذكرت .
([5]) شرح النووي على مسلم (2/68) .
([6]) الحجة في بيان المحجة (1/320).
([7]) تلبيس إبليس (3) .
([8]) نقلاً عن: العقل في مجرى التاريخ (30) .
([9]) الصفدية (2/257) .
([10]) الرد على المنطقيين (196) .
([11]) الاستقامة (2/161) .
([12]) العقل في مجرى التاريخ (10) .
([13]) العقل والنفس والروح – الوائلي (115)(3/4)
محل العقل
أما محل العقل فقد قال القاضي أبو يعلى ((محل العقل القلب ذكره أبو الحسن التميمي في كتاب العقل فقال : الذي نقول به أن العقل في القلب يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض منه إلى الحواس ما جرى في العقل . ومن الناس من قال هو في الدماغ. وقد نص أحمد رحمه الله على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص ابن شاهين في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضيل بن زياد وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ فقال : سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل في الرأس أما سمعت إلى قولهم : وافر الدماغ والعقل واحتج هذا القائل بأن الرأس إذا ضرب زال العقل . ولأن الناس يقولون: فلان خفيف الرأس وخفيف الدماغ ويريدون به العقل.
وهذا غير صحيح لقوله تعالى : (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) وأراد به العقل فدل على أن القلب محله . لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له أو كان بسبب منه.
واحتج أبو الحسن التميمي بقوله تعالى : (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقال تعالى : (لهم قلوب لا يفقهون بها) واحتج أيضاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المدائني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((والكبد رحمة والقلب ملك والقلب مسكن العقل)).(4/1)
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دخل عليه ابن عباس قال : (جاءكم الفتى الكهول له لسان قؤول وقلب عقول) فنسب العقل إلى القلب . وروى عياض بن خليفة عن علي رضي الله عنه أنه سمعه يوم صفين يقول: (إن العقل في القلب والرحمة في الكبد والرأفة في الطحال وإن النفس في الرئة) . وعن أبي هريرة وكعب أنهما قالا (العقل في القلب) وأيضاً فإن العقل ضرب من العلوم الضرورية ومحل العلم القلب. وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس فلا يدل على أنه محله كما أن عصر الخصية يزيل العقل والحياة. ولا يدل على أنها محله . وقول الناس : إنه خفيف الرأس وخفيف الدماغ فهو أن يبس الدماغ يؤثر في العقل وإن كان في غير محله كما يؤثر في البصر وإن كان في غير محله)) ([14]) .(4/2)
وقال النووي في شرحه لحديث ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) قال ((واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور مذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب وقال أبو حنيفة هو في الدماغ وقد يقال في الرأس وحكوا الأول أيضاً عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء . قال المازري واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى : (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقوله تعالى : (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) وبهذا الحديث فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل صلاح الجسد وفساده تابعاً للقلب مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعاً للقلب فعلم أنه ليس محلاً للعقل. واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم. ولا حجة لهم في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع من ذلك. قال المازري لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكاً والله أعلم)) ([15]).(4/3)
وقال شيخ الإسلام ((العقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل. وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقيل لابن عباس بماذا نلت العلم؟ قال : بلسان سؤول وقلب عقول. لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوداء كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً فإن قلب الشيء باطنه كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك . وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضاً. ولهذا قيل إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء. ونقل ذلك عن الإمام أحمد. ويقول طائفة من أصحابه إن أصل العقل في القلب فإذا كمل انتهى إلى الدماغ. والتحقيق أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ ومبدأ الإرادة في القلب والعقل يراد به العلم ويراد به العمل فالعلم الاختياري أصله الإرادة وأصل الإرادة في القلب والمريد لا يكون مريداً إلا بعد تصور المراد. فلابد أن يكون القلب متصوراً فيكون منه هذا وهذا ويبتدئ ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء وكلا القولين له وجه صحيح)) ([16]).(4/4)
قلت: علق الشيخ ابن عثيمين حفظه الله على قول شيخ الإسلام (قد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً ... ) فقال ((يعني به أنه إذا أريد بالقلب باطن الإنسان صار العقل متعلقاً بالقلب وبالدماغ لأن قوة التصور والإدراك في الدماغ وهي قوة باطنية ولكن هذا لا يعني أنه بالقلب باطن الإنسان في كل موطن حتى يقال إن العقل مشترك في تعلقه بين القلب الذي في الصدر والدماغ ولذلك لا يصح أن يراد بالقلب الدماغ في قوله تعالى : (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) ([17]) وكان قد أجاب حفظه الله قبل هذا الكلام على سؤال (أين محل العقل؟) فقال: ((الجواب عليه: أن الناس قد اختلفوا قديماً وحديثاً أين محل العقل؟ فقال بعضهم محله القلب.
وقال بعضهم محله الدماغ ونقل عن الإمام أحمد.
وقال آخرون محله القلب وله اتصال بالدماغ، فالقلب كالمولد للطاقة، والدماغ كالشمعة يضئ ويكشف الحقائق ولو احترقت لم نستفد من المولد شيئاً. وهذا القول جامع بين الدليل الشرعي والدليل الحسي.
فإن الدليل الشرعي –الكتاب والسنة- دل على أن محل العقل والتحكم في تصرفات الإنسان هو القلب، قال الله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) فتأمل قوله سبحانه قلوب يعقلون بها، حيث جعل القلوب آلة العقل ثم أكد أن المراد به القلب الحقيقي الموجود في الصدور بقوله: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) فدل هذا على أن القلب هو الذي يبصر المعاني ويميز بينها ويعقلها .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) فجعل مدار تصرف الجسد كله على القلب.(4/5)
وكم من آية وحديث يدل على مجازاة العبد على ما في قلبه ، كقوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور) .
وأما الدليل الحسي فقد قام الدليل على أن للدماغ تأثيراً كبيراً في إحساس الإنسان وتصوراته وأنه إذا اختل الدماغ اختل التصور والإحساس .
وأما قول من زعم أن العلم الحديث دل على أن المخ هو الذي يتحكم في تصرف الإنسان فيقال فيه: إن العقل قوة معنوية لا يمكن أن يدرك بواسطة الحس، فمن الجائز من حيث التصور أن يكون الله أودعه –أعني العقل- في أي جزء أو عضو من البدن، ونحن لا نشعر إلا عن طريق الوحي. والوحي قد دل على أن محله القلب فوجب اتباعه في ذلك .
ويقال فيه أيضاً: العلم الحديث علم مخلوق بُني على استنتاجات قد تخطئ وقد تصيب، وعلم الوحي عِلمُ خالق يعلم ما خلق، وأين يقع علم المخلوق من علم الخالق؟ قال الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) وتأمل قوله تعالى: (وهو اللطيف الخبير) حيث يدل على الخبرة وهي العلم ببواطن الأمور وعلى اللطافة وهي العلم بدقائق الأمور فالدقيق الخفي والباطن المستور كله مما يخفى على المخلوق، قال الله تعالى : (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) وقال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
ولنضرب مثلاً – ولله المثل الأعلى- بصانع صمم جهازاً وصار يتحدث عن تركيبه ووظائف جزئياته، فهل يكون أعلم أم المهندس الذي لم يفهم من هذا الجهاز وجزئياته إلا ما يدركه بعد اختبار الجهاز والتخرص في وظائف جزئياته؟ إن من المعلوم أن صانعه الذي صممه أدرى الناس به وأعلمهم بوظائف جزئياته.
وأما احتجاج من زعم أن العقل في المخ بأن المخ إذا اختل فقد عقله، وإن كان قلبه سليماً وأن القلب قد يمرض ويبقى عقله سليماً.(4/6)
فيقال في الرد عليه: لا شك أن للمخ تأثيراً على تصور الإنسان ووعيه، لقوة الصلة بينه وبين القلب كما مثله بعضهم بالشمعة والقلب بالمولد، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون المخ هو محل العقل والتصرف في البدن والتحكم فيه.
وأما كون القلب يمرض ويبقى العقل سليماً فالعقل قوة معنوية وليس قوة حسية، حتى يؤثر فيه المرض الحسي ، فالقوة المعنوية تبقى سليمة وإن مرض محلها مرضاً حسياً.
على أنه يمكن أن يقال إن المخ هو جهاز التصور والإدراك، فهو يتصور الأشياء ويدركها ثم يبعث بها إلى القلب والقلب يتصرف ويتحكم، كما نقول في حاسة السمع والبصر تدرك المسموع والمرئي وتبعث بها إلى القلب فيحكم ويتصرف وهذا جمع آخر بين الوحي وما يقال من العلم الحديث ، ويؤيده أن الله تعالى نفى العقل عن الكفار مع أن لهم تصوراً وإدراكاً لكن لفساد تصرفهم صاروا كمفقودي العقل .(4/7)
فعلى هذا يكون محل تصور المعاني والمعقولات الدماغ، أما الذي يحكم البدن ويتصرف فيه فهو القلب، ومعلوم أنه إذا اختل محل التصور لم يمكن العقل لأن محل التصور هو الجسر الذي يعبر منه إلى القلب فإذا اختل لم يصل إلى القلب شيء فيختل العقل.)) إلى أن قال ((وأما قولك ولأجل أن لا يتعارض العلم مع القرآن([18]) ألا يجوز أن نقول إن موضع التفكير هو المخ وإن القلب عضو كاليد والرجل وإنما نسب الله التفكير إلى القلب من باب مخاطبة الناس في ذلك بما يفهمون فجوابه: لا يجوز أن نقول ذلك فيما نرى لأن القرآن صريح في أن محل العقل القلب أو كالصريح في ذلك والسنة بينت ذلك أيضاً وما كان هكذا فلا يمكن تأويله لكن سبق أن ذكرنا أنه يمكن أن يكون أصل التفكير والتصور والإدراك في المخ ثم يبعث به إلى القلب والقلب يعقله ويدبر كما قلنا في حاستي السمع والبصر تدركان المسموع والمرئي ثم تبعثان به إلى القلب ليحكم بحسنه أو قبحه ثم يتصرف على ضوء ذلك)) إلى أن قال ((الذي ترجح عندي الآن أن التصور والإدراك للمعاني محله الدماغ ثم يبعث بذلك إلى القلب والقلب يأمر ويدبر فيبعث بأوامره إلى الدماغ والدماغ يحرك الأعضاء)) ([19]).
قلت: هذا ما كان يقوله شيوخ الإسلام الذين اتبعوا نصوص الكتاب والسنة وعظموها، وقدموها على غيرها من المعقولات التي يظن الجهلة أنها تخالفها، ثم جاء العلم الحديث شاهداً لما قالوه مؤيداً لما رجحوه، فلله الحمد والمنة.
فقد اكتشف العلماء حديثاً أن قلب الإنسان يحتوي على عقلٍ آخر! مصداقاً لما أخبر الله به في قوله: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها) فأثبت سبحانه أن القلب يعقل.(4/8)
فقد جاء في مجلة اليمامة (العدد 1607) تحقيق طبي عن آخر اكتشافات العلم الحديث حول وجود عقل في القلب اقتطف منه ما يلي لعله يكون عبرة لنا، فلا نبادر بمعارضة نصوص الكتاب والسنة بالمعقولات الساذجة فنكون ممن قال تعالى فيهم (بل كذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولمَّا يأتهم تأويله).
يقول الدكتور فهد العريفي: " سبحان الله القائل في محكم التنزيل: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وصدق رسوله الكريم القائل ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب)).
كان للقرآن الكريم السبق في التدليل على أهمية هذه العضلة في تحديد شخصية الإنسان، بدءاً من دينه وانتهاءً بمعاملاته.
وقد ساد عند كثير من العلماء فهماً مفاده أن القلب عبارة عن مضخة ميكانيكية للدم وأن مصدر العاطفة والمشاعر هو العقل ولمراد به المخ وليس القلب. فكل الأفكار والتصرفات والسلوك مصدرها المخ وأوّل بعض المفسرين دلالة القلب الواردة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن المراد هو العقل.
وأخيراً جاء العلم الحديث ليؤكد على أن القلب هو العقل الثاني المتحكم في المشاعر والسلوك".
قال الدكتور: "منذ قرون خالت، وعندما لم يكن متاحاً عن علم الأعصاب سوى النزر اليسير، فتن الغموض الذي أحاط بالقلب والعقل وكيفية عملهما الداخلي ولكن خلال العامين والنصف الماضيين ازدادت المعرفة حول علم الأعصاب، مما أدى إلى اكتشاف المزيد من التفسيرات عن الحافز للإنسان، إخلاصه وولائه، الثقة، الالتزام، التغير السلوكي، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية ولتوضيح هذه الاكتشافات دعونا نأخذ مثالاً بسيطاً:(4/9)
كلما كان لدينا خبرة مباشرة كمقابلة شخص لأول مرة مثلاً أو مواجهة تحد، أو مشكلة أو عندما تلوح لنا فرصة فهي تأتينا من خلال حواسنا الخمس وتنتقل عبر الجهاز العصبي حسب النموذج القديم الشبيه بدائرة كهربائية مباشرة إلى المخ فنفكر فيها ثم نستجيب بسلوك معين. وقد ثبت أن هذا الافتراض خاطئ بمعنى أننا نفكر في النهاية وليس في البداية.
وفيما يلي بعض الآراء التي ثبتت الآن صحتها، فعندما نقابل شخصاً لأول مرة أو نواجه تحدياً أو مشكلة أو عندما تلوح لنا فرصة، فإن الموقف سواءً تجربة أو خبرة لا تذهب مباشرة إلى المخ لكي نفكر فيها بل بدلاً عن ذلك تأتي الخبرة عن كل حواسنا بما فيها مجموعة من الحواس المادية وتذهب في البدء إلى الشبكة العصبية في القلب وليس المخ.
وهو ما يسمى حديثاً عند علماء الفسيلوجيا العصبية بالمخ الآخر.
تشير بعض البحوث الرائدة التي أجراها بعض العلماء إلى أنه يوجد (مخ آخر) داخل الأمعاء والقلب يعرف بالجهاز العصبي الداخلي وهو مستقل عن المخ بيد أنه يتصل به في الجمجمة وذلك حسب رأي (مايكل فيرشون) رئيس قسم التشريح وعلم الأحياء الخلوية بكولمبيا.
إن المكان الذي تذهب إليه كل تجربة أو خبرة هو القلب لا المخ. في التسعينات اكتشف علماء (علم القلب العصبي) الحقل الجديد الآخذ في الظهور، اكتشفوا عقلاً في القلب يتكون من 400.000 خلية عصبية من مختلف الأنواع إضافة إلى شبكة معقدة من المرسلات العصبية، البروتينات، الخلايا المساعدة وتؤدي عملاً مستقلاً عن الدماغ أو العقل.
وهذا (المخ القلبي) كبير ومتسع تماماً كما اتساع المناطق الرئيسية في المخ (الدماغ المفكر) ومعقد بالقدر الذي يجعله كالمخ تماماً.
وشبكة الاستقبال في القلب هي جهاز عصبي مستقل ولها طريق ذو اتجاهين يوصلها بالمخ.
وهناك اكتشاف مدهش آخر هو أن دقات القلب ليست نبضات ميكانيكية لمضخة، بل لديها لغة ذكية تؤثر عن كيفية فهمنا وتفاعلنا مع العالم الخارجي.(4/10)
إن الدراسات الحديثة في علم الأعصاب توضح أن كل خفقة للقلب تحدث هناك.
فمع كل خفقة للقلب يتدفق شلال عصبي يطلق خلايا عصبية من القلب لترسل فوراً إلى المخ عبر العصب الشوكي. إن الإشارات العصبية الخارجة من القلب ذات تأثير وأثر على ضبط العديد من إشارات الجهاز العصبي، الأوعية الدموية، العضلات، الغدد والأعضاء المحيطة بالقلب كما أن الرسائل العصبية من القلب تؤثر أيضاً على قشرة المخ الجزء المختص بعمليات التفكير والاستنتاج كما تؤثر إشارات القلب العصبية على مواقع الإدراك والأفعال ومناطق العاطفة.
يتصل القلب بالمخ بطريقة أخرى، من خلال رسول كيمائي في النظام الهرموني للجسد وهذا ما يرمز له بهرمون التوازن "ANF" ولهرمون التوازن تأثير مهم على الجسد، والأوعية الدموية، ومناطق ضبط وتحكم متعددة في المخ. ويعتبر هذا الهرمون من خلال الدراسات الحديثة بأنه الباعث الأساسي للسلوك التحريضي، كالإخلاص والولاء والقبول.
مع كل نبضة قلب هنالك شكل آخر من أشكال الاتصال الفوري مع كل الجسم، وهي عبارة عن موجة تنتقل عبر الشرايين بسرعة تفوق بمرات كثيرة سرعة تدفق الدم. يخلق نوعاً من لغة الاتصال بين القلب والمخ لأن عينات موجة الضغط الدموي عينات قلبية إيقاعية معقدة وبهذه الطريقة تؤثر على مجمل الجسم وكذلك المخ.
ظهرت دراسات حديثة تبين أن الحقل الكهرومغناطيسي للقلب يعد تقريباً الأقوى بين الحقول الكهرومغناطيسية التي ينتجها الجسم وفي الواقع إنه يفوق الحقل الكهرومغناطيسي للمخ بخمسة آلاف (5000) مرة وطبقاً لأبحاث نُشرت في مجلة (طب القلب) الأمريكية فإن التغيرات الكهربائية في الإحساس التي يرسلها القلب البشري يمكن أن تُحس وتقاس على بعد 5 أقدام على الأقل.(4/11)
والحقل الكهرومغناطيسي للقلب ليس محصوراً على الجسم في التأثير ولكن أيضاً لديه إشعاع خارجي، وفي الأبحاث الحديثة يمكن قياس هذا الإشعاع من على بعد 2 إلى 3 أمتار بواسطة جهاز كشف حساس يسمى الماغنيتوميتر.
وهذا أيضاً ما أكدته دراسات أجراها مجموعة من العلماء في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة والتي قدمت دلائل على اتصال طاقة بين الحقلين الكهرومغناطيسيين للقلب والمخ.
لذلك ليس غريباً أننا نستند في صدق علاقاتنا على شعورنا الفطري نحو الآخرين أكثر من اعتمادنا على الأفكار التي يتلفظون بها أو الكلمات التي يعتقدونها. وهذا ما يجعلنا نشعر أن شخصاً ما يبطن مشاعر الحب أو الكراهية وهذا ما يطلق عليه العامة عدم صفاء القلب تجاه الآخر.
لكي نستمر في المثال حول نموذج ما يحدث خلال كل تجربة أو خبرة في العمل إنه تنقل من خلال نبضات عصبية هي ما تسمى المديولا-me dulla تقع في قاعدة المخ ومن هذه المنطقة فصاعداً إلى أعلى منطقة في المخ تحدث مراحل التفكير الرئيسية:
جهاز تنشيط شبكي: توجد في قاعدة المخ نقطة توصيل تسمى بجهاز التنشيط الشبكي "ARS" متصل بالأعصاب الرئيسية من الحبل الشوكي والمخ، وتقوم بالبحث والفحص لحوالي 100 مليون نبضة تهاجم المخ في كل ثانية، فلا تسمح سوى للنبضات الهامة بالدخول لتنبه المخ فعلى سبيل المثال (جميع أجزاء الجسم تتلامس مع أشياء كالثوب والساعة والأشياء من حولنا جميعها ترسل إلى تلك المنطقة التي نقوم بتضبطها لعدم الأهمية مقارنة بمنظر أو مشهد أو صوت لشخص مهم) وهذا الجزء من الخ يقع بين منطقة رأس الحبل الشوكي وقاعدة ساق المخ وقد نمّى مع مرور الزمن نزعة موروثة على تضخيم الرسائل الورادة السالبة (كتصرف أو موقف أو كلمة من شخص) وتقليل الرسائل الإيجابية.(4/12)
فعندما يصيح شخص صيحة تحذيرية تقفز إلى أعلى، بغض النظر عن المتعة التي نكون منغمسين فيها، والتي نتركها لنهرب أو نستجيب لذلك الصوت، وفي عالم العمل اليومي يميل رد العقل المتأصل هذا إلى تعقيد الأمور، فكلمات نقد قليلة توجه إلينا، تُضخم وترسل من جهاز التنشيط الشبكي إلى مراكز المخ العليا الرئيسة كفيل بجعلنا نقف منزعجين وننبري للدفاع عن أنفسا.
لماذا في نهاية يوم عمل روتيني سارت فيه جميع الأمور بصورة طيبة عدا أمر واحد لم يكن كذلك نظل منشغلين بذلك الأمر؟
هذه غريزة جهاز التنشيط الشبكي.
بعد جهاز التنشيط الشبكي تكون المحطة التالية للأفكار وهي المنطقة الوسطى وتسمى "Limbic system" في المخ وهي منطقة المشاعر والإدراك وردود الفعل وكذلك تفسير العواطف في المخ.
وهو يعمل 80.000 مرة أسرع من قشرة المخ حيث مكمن وموضع التفكير في المخ.
وفي النهاية يصل الشلال العصبي (الأفكار) لانطباعاتنا عن التجربة التي مررنا بها أو الخبرة التي حصلنا علينا إلى منطقة التفكير في المخ والتي تسمى قشرة المخ.
أي أن كل تجربة أو خبرة قد أحسسناها قد فسرها القلب ومناطق أخرى كالأمعاء وأسفل منطقة المخ قبل أن تصل إلى قشرة المخ التي تحصل على التحليل النهائي.
بمعنى آخر إننا نفكر في النهاية وليس في البداية.
لذلك نحن نثق في الآخرين بالعاطفة أو العواطف ونبدع ونحلق بالعواطف! ومحاولة الاعتماد على القشرة المخية لوحدها قد يعود إلى شلل في القدرة على التحليل .
هذه هي المحطات التي تقطعها الأفكار والتجارب قبل أن تصل إلى قشرة المخ التي يتم فيها التحليل النهائي. وهذا القلب الذي منه وعبره تنطلق هذه التجارب والمشاعر.
في ختام هذه الرحلة عبر أعضاء الإنسان يتبين عظمة الخالق وعظمة الإبداع (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وصدق العامة عند رفضهم لقبول شخص بأنه لم يدخل القلب، فهذه المشاعر مصدرها القلب.
____________________
([14]) العدة (1/89-94) .(4/13)
([15]) شرح مسلم (11/29) .
([16]) الفتاوى (9/303) .
([17]) الجواب المختار (71) .
([18]) سيأتي قريباً –إن شاء الله- أن العلم لم يعارض القرآن في هذا، فلله الحمد.
([19]) الجواب المختار (66-71) .(4/14)
العقل عند الفلاسفة ([20])و ظهور المدرسة العقلية عند الغرب
فأما الفلاسفة فقد كثر اضطرابهم في ذلك كحالهم في كل قضية يناقشونها فالعقل عندهم يطلق على عدة معاني منها :
العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها ([21]).
وهذا الجوهر ليس مركباً من قوة قابلة للفساد، وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله.
العقل قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا ، فهو قوة تجديد تنتزع الصور من المادة، وتدرك المعاني الكلية ولهذه القوة عندهم مراتب :
مرتبة العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، ونسب إلى الهيولي لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولي الأولى الخالية في حد ذاتها من الصور كلها والعقل الهيولاني مرادف للعقل بالقوة، وهو العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء التي لم ينقش عليها شيء بالفعل.
مرتبة العقل بالملكة، وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.
مرتبة العقل بالفعل : وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا تشاهدها بالفعل .
مرتبة العقل المستفاد : وهو أن تكون النظريات حاضرة عند العقل لا تغيب عنه ([22]).
وعند هذا العقل الأخير يتم النوع الإنساني ، وكل عقل من هذه العقول قد يكون عقلاً بالقوة بالنسبة إلى ما فوقه، وعقلاً بالفعل بالنسبة إلى ما تحته، ولا يتم له الانتقال من القوة إلى الفعل إلا بواسطة عقل مفارق هو دائماً بالفعل ، وهو العقل الفعال([23])، ومنزلته فوق العقل الإنساني تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة، أما في عالم الكون والفساد فهي لا توجد إلا من جهة الانفعال، ، وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي.(5/1)
وهذا كله مأخوذ من قول أرسطو([24]) (إن العقل الفاعل هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية على حين أن العقل المنفعل هو الذي تنطبع فيه هذه الصور) .
وقد اختلف شراح أرسطو في هذا العقل الفاعل، أو الفعال المفارق للمادة.
فذهب الاسكندر الأفروديسي إلى أن هذا العقل الفعال هو الله ، لأن الله عقل محض مفارق للمادة عند أرسطو، وكذلك هذا العقل ، وهو التأويل الذي اختارته المدرسة الأوغسطينية عامة في العصور الوسطى.
وذهب متفلسفة الإسلام إلى أن هذا العقل هو أحد العقول أو الجواهر المفارقة التي تحرك الأجرام السماوية وبناء عليه أسندوا إليه ثلاث وظائف كبرى : تحريك عالم ما تحت القمر ، إفاضة الصور العقلية على النفس، فإفاضة الصور الجوهرية على الموجودات مطلقين عليه من جراء ذلك اسم ((واهب الصور)) .
وذهب فريق ثالث ، وعلى رأسهم ثامسطيوس (317-388م) والقديس توما الاكويني (1225-1274م) إلى أنه قوة من قوى النفس ([25]).
وذهب يوسف كرم إلى أن عبارة العقل الفعال من كلام الشراح وابتداعهم بسبب غموض كلام أرسطو في هذا المجال([26]). ومهما يكن فالخلاف حاصل بينهم لا محالة لأنهم يمشون على غير هدى من الله .
وينتهي أرسطو إلى القول بأن هناك علة أولى أو المبدأ الأول ويصفه بأنه عقل محض وعاقل ومعقول. وقد عجز في نهاية الأمر عن بيان كيفية الاتصال بين العالم الحسي والعقل الإلهي الذي تصوره ، وهذا شأن الفلاسفة كلهم فهم يبنون أفكارهم على خيالات ذهنية لأنهم اعتمدوا على عقولهم وتركوا دعوة الرسل جانباً .(5/2)
ولهذا نرى من جاء بعد أرسطو من الاسكندرانيين وعلى رأسهم أفلوطين وجدوا هذا التناقض العظيم بين الفلاسفة فكل منهم يخطئ الآخر، فحاولوا إصلاح تلك الفلسفة الفاسدة، وانتهى أمرهم إلى الإخفاق مثل غيرهم ، وكان من ضمن محاولات أفلوطين للجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو، القول بنظرية الفيض، وهي النظرية التي تبناها الفارابي فيما بعد ثم ابن سينا، حتى شاعت بين فلاسفة التصوف أمثال ابن عربي وابن سبعين .
ونظرية الفيض: عبارة عن تصوير صدور الموجودات عن الله أو صدور الكثرة عن الواحد.
ويرى هؤلاء ([27]). أن إحداث الأشياء ما هو إلا انتشار ما في العلة الأولى من القدرة على التعقل والتأثير مع بقاء ذاتها على ما كانت عليه من السكون والكمال المتعالي عن كل نوع من التغيير والحركة ، فإذا قيل : وما الباعث الذي حمل تلك العلة على إحداث العالم ؟
الجواب : أنها لم تكن محتاجة إلى العالم، بل كان ذلك لما فيها من الجود وإفراط القدرة .
ثم قال أفلوطين([28]) : لو لم يكن للعالم وجود، لما وجد في ذات المبدأ فرق.
فهو إذاً غير محتاج إلى العالم، مع شدة احتياج العالم إليه ، غير أنه لا يتصور في القدرة إذا بلغت أشدها وأدركت من الكمال غايته أن تبقى في نفسها منحازة معطلة، بل لا تأثير لها ولا فعل ، وهذا حال العلة الأولى فإنها لما لها من الكمال لا تبقى معطلة بل لابد أن تفيض قوتها فيضان الماء من العين الغزيرة وانتشار النور من الشمس .(5/3)
فالوجود عند أفلوطين وشيعته ينحصر في أصل واحد هو : العقل الفائض من العلة الأولى ، وما يفيض من العقل من مراتب الموجودات، فالكل أنوار عقلية أي : قوى إلهية انعكست ببعضها عن بعض يتناقص نورها شيئاً فشيئاً بقدر ما تباعدت عن المنبع الأولى إلى أن ينتهي هبوطها إلى رتبة يكاد أن ينعدم فيها النور بالكلية وهي المادة، وتلك عبارة عن الظلام وهو العدم، أي سلب التعيين وفقدان الوجود، فما العالم إلا إبراز ما كان مكنوناً من القوى في العلة الأولى، لا زال معلقاً بها كالظل بالشخص ، وكالنور بالشمس، والإله محيط به من جميع أكنافه، حال في جميع أجزائه كما يقع نور الشمس على الأرض .
ويقول أفلوطين أيضاً : ينبغي أن نعلم أن الأشياء الطبيعية متعلق بعضها ببعض، فإذا فسد بعضها صار إلى صاحبه علو إلى أن يأتي الأجرام السماوية، ثم النفس ، ثم العقل، فالأشياء كلها ثابتة في العقل، والعقل ثابت بالعلة الأولى، والعلة الأولى بدء لجميع الأشياء ومنتهاها ([29]).
تلك هي نظرة هؤلاء الفلاسفة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي نظرة تخالف عقيدة التوحيد وتناقضها ولا تلتقي معها أبداً، فهم قد جردوا الإله عن أسمائه الحسنى وصفاته العلى وخاصة صفة الخلق وجعلوا وجوده مجرد وجود في الذهن فقط.
وقد أخذ متفلسفة الإسلام تلك الآراء الفلسفية وهذبوها وشرحوها وحاولوا مزجها بالشريعة الإسلامية، ومن ذلك نظرية الفيض أو الصدور التي قال بها أفلوطين وشيعته من الاسكندرانيين، وأخذها عنهم هؤلاء المتفلسفة ممن حاول الجمع بين الشريعة والفلسفة وجعلوا الفيض أو الصدور الذي عناه هؤلاء الفلاسفة هو معنى صفة الخلق لله التي نزل بها القرآن ، ومن هؤلاء الفارابي، وابن سينا .(5/4)
يرى ابن سينا أن الإله عقل محض، يعقل ذاته، ففعله الأول أنه يعقل نظام الخير في الوجود وكيف ينبغي أن يكون، لا عقلاً خارجاً من القوة إلى الفعل، ولا عقلاً متنقلاً من معقول إلى معقول بل عقلاً واحداً معاً، ولما كان التعقل علة للوجود كان من الضروري أن يصدر عن تعقل الإله لذاته معلول أول هو أيضاً عقل، وهذا العقل الأول واجب بالإله ممكن بذاته وهو أيضاً يعقل الإله ويعقل ذاته ، فإذا عقل الإله لزم عنه بما يعقله وجود عقل ثان تحته، وإذا عقل ذاته صدر عن تعقله لها وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها وهي النفس، ووجود جرمية الفلك الأقصى، فالنفس تصدر عن تعقله لذاته واجبة الوجود بالإله، والجسم يصدر عن طبيعة إمكان الوجود المتدرجة من تعقله لذاته، فهناك إذن ثلاثة أشياء تفيض عن العقل الأول، العقل الثاني، وجرم الفلك الأقصى، وصورته التي هي النفس، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود .
والعقول المفارقة كثيرة العدة، إلا أنها ليست موجودة معاً عن الإله بل يجب أن يكون أعلاها العقل الأول ، ثم يتلوه عقل ثان وثالث، ولا يزال هذا التعقل ينتج عقولاً، ونفوساً، وأفلاكاً، حتى ينتهي الإبداع عند العقل العاشر، وهو العقل الفعال المدبر لعالم الكون والفساد.
فالأمور السماوية تؤلف إذن سلسلة ، كل حلقة منها تتضمن ثلاثة أشياء: العقل، والنفس، والفلك .
والإله لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا العقل الأول يلزم عنه ثلاثة أشياء: العقل الثاني، والفلك الأقصى، ونفسه.
والعقل الثاني يلزم عنه ثلاثة أشياء : العقل الثالث، وفلك الكواكب الثابتة وصورته التي هي النفس وهكذا إلى أن ينتهي الفيض إلى فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض ([30]).
فابن سينا كغيره من الفلاسفة يرى أن الموجودات صدرت عن الله لا على سبيل القصد والاختيار بل ضرورة.(5/5)
ولا شك أن كل عاقل يدرك بطلان تلك النظرية وفسادها ومنافاتها للفطرة السليمة التي لم تتلوث بالآراء الفلسفية، وقد قوبلت تلك النظرية وغيرها بالاستخفاف والاستهزاء من جانب العلماء فنجد مثلاً ابن خلدون يقول([31]) : (إن هذا الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول، واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك، ويخلق ما لا تعلمون) .
ونجد الغزالي مع أخذه بالفلسفة أحياناً ، يستنكر تلك النظرية فيقول([32]) : (ما ذكرتموه تحكمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الإنسان في نومه عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه).
والحق أن تلك الآراء ما هي إلا امتداد للوثنية القديمة التي ترى أن الكواكب أجسام سماوية، وأن لها نفوساً تحركها وأن لحركاتها تأثيراً في نفوسنا وأجسامنا، وكل كوكب يعتبر إلهاً عندهم، فالمريخ مثلاً إله الغضب، والشمس إله الحرارة، والقمر إله الرطوبة، وقد حكى القرآن ذلك عن قوم إبراهيم قال تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون* أئفكاً ألهة دون الله تريدون* فما ظنكم برب العالمين* فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) .
قلت : والذي عليه علماء المسلمين من أقوالهم –أي الفلاسفة- أن العقل جوهر مجرد قائم بنفسه. قال شيخ الإسلام عنهم ((ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه في لغة العرب فإنهم يعنون بالعقل جوهراً مجرداً قائماً بنفسه. والعقل في لغة العرب عَرَض هو علم أو عمل بالعلم وغريزة تقتضي ذلك)) ([33]) .(5/6)
وهذا القول الذي امتاز به فلاسفة اليونان في العقل دعاهم إليه دعوى تنزيه الإله أو الخالق عن أن تصدر عنه الكثرة المشاهدة في المحسوسات فاخترعوا لأجل ذلك قضية توالد العقول وتعاقبها والتي منها هذا العقل المزعوم الذي يشترك فيه الناس. ثم جاء فلاسفتنا فزادوا طينة هذا القول المضحك بلّة فتعسفوا التأويلات واحتجوا بالمأثورات الشاذة والموضوعة ليدللوا على أقوال أولئك الفلاسفة الوثنيين بدعوى الجمع بين الدين والفلسفة لئلا يعارض أحدهما الآخر فالأصل عندهم هو أقوال البشر من الفلاسفة فهي الأقوال المقدمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها . فينبغي حمل ما تيسر من النصوص الإسلامية وقسرها كرهاً على أن تدل على تلك الأقوال ذراً للرماد في أعين عامة المسلمين أن لا يتهمونا بشيء من المروق والإلحاد إن نحن أعرضنا عن نصوصهم ومأثوراتهم كلية !
قال الدكتور موسى الدويش ((حيث أن هؤلاء المتفلسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد ومن هو على شاكلتهم مؤمنون بالفلسفة إيماناً كاملاً وكأنها وحي منزل لذا قاموا بإبراز أفكار من سبقهم من الفلاسفة وخاصة أرسطو وأتباعه أصحاب الفلسفة المشائية، ولما كانت تلك الآراء الفلسفية تناقض الحقائق الدينية ولا تلتقي معها أبداً حاول هؤلاء المتفلسفة التوفيق بينهما وذلك بإخضاع النصوص الشرعية وتأويلها وتحريفها حسب أهوائهم ومحاولة تطبيق الاصطلاحات الفلسفية على المسميات النبوية وكان أفضل طريق يحقق هدفهم هذا هو سلوكهم طريق الباطنية في تحريف النصوص فجمع هؤلاء بين التفلسف والقرمطة)) ([34]) .(5/7)
وقال أيضاً ((إن محاولة الجمع أو التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة قديمة فهناك فئة من الناس اغترت بعقولها فذهبت تشرع للناس الشرائع في كل فن حتى وإن خالف شرع الله الذي جاءت به الرسل . وعندما اصطدمت تلك الآراء البشرية بشرع الله المنزل ظهرت فكرة الجمع بين الدين وتلك الآراء البشرية ومن هؤلاء فلاسفة اليونان قديماً . ثم جاء فيلون اليهودي([35]) فجعل شريعة نبي الله موسى أساس الفلسفة . فذكر أن الكائنات بادئة من الله ونازلة إلى المادة وتتحد في الكلمة الإلهية ((لوجوس)) التي عنها فاضت الكائنات([36]).
وفي النصرانية جاء كليمنتس([37]) فذكر أن الفلسفة في ذاتها ليست شراً فالمعرفة معرفتان:
إحداهما : عن طريق الوحي، بدأت في العهد القديم، واكتملت في العهد الجديد.
والثانية: عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان.
وذكر أيضاً: أن تاريخ المعرفة الإنسانية يشبه مجرى نهرين عظيمين : الناموس اليهودي، والفلسفة اليونانية، وقد تفجرت المسيحية عند ملتقى هذين النهرين.
فالناموس لليهود.
والفلسفة لليونان.
والناموس والفلسفة والإيمان للنصارى .
والفلسفة ليست متنافرة مع الإيمان، لأن لكل إنسان مزية تفرق بينه وبين الحيوانات العجم، وهذه المزية هي : الحكمة، وهي تدعي فكراً من حيث أنها تعرف المبادئ الأولى، وتدعي علماً ومعرفة من حيث أنها تستند إلى هذه المبادئ لتتوصل إلى المعرفة البرهانية، وهي تصبح ((تقنة)) إذا عالجت القضايا العلمية، وتصبح إيماناً عندما تنفتح على التقوى، وتؤمن بالكلمة وتقودنا نحو الخضوع لوصاياه تعالى، وهي في جميع مظاهرها هذه تظل واحدة لا تتعدد([38]) .
وجاء أوريجنس([39]) فحاول أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى([40]).(5/8)
إن محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء أدى إلى تحريف الدين والعقيدة الصحيحة التي جاءت بها الرسل، ولهذا دخل التحريف على التوراة والإنجيل وأصبح لكل فرقة كتاب يخصهم وعمت الفوضى الفكرية تلك الديانات وتسرّب الإلحاد إليها بسبب تلك المحاولات وغيرها.
أما عملية التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة فقد بدأت مع حركة النقل والترجمة للكتب الفلسفية، وقد ترجمت كتب كثيرة من المنطق والفلسفة من السريانية واليونانية والفارسية، وكان أكثرها لأرسطو، وكان لترجمتها إلى اللغة العربية الأثر الكبير في زعزعة عقائد بعض أهل البدع لأن تلك البحوث ترتكز على الوثنية اليونانية، وتصور وثنيتهم القومية التي ترجموها في لغتهم الفلسفية وأضفوا عليها صبغة من الفن، وما العقول والأفلاك إلا رموز للوثنية الإغريقية القديمة، وما أفعالها وحركاتها وتصرفاتها إلا عقائد توارثتها الأجيال عندهم، وهي وثنية تعارض التوحيد.
وتشتمل هذه الفلسفة –التي بهرت البعض وتسلطت على عقولهم من غير حق – على ظنون وتخمينات وطلاسم لفظية لا حقيقة لها ولا معنى ولا وجود لها في الخارج، وقد أقبلوا عليها في شيء من التمجيد والتقديس)) ([41]).
وقال الدكتور موسى –أيضاً- : ((أول من قام بعملية التوفيق من الفلاسفة الكندي([42]) ، فقد أخذ يجمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات محاولاً أن يقيم الدليل على عدم وجود تعارض بينهما، بل يغالي في الفلسفة فيعرفها بأنها([43]) ((علم الأشياء بحقائقها)) ويدخل في ذلك بحسب رأيه علم الربوبية والوحدانية وكل علم.
ويذكر أيضاً : أن الدين علم الحق، وفي رسالته إلى أحمد بن المعتصم توضيح ذلك إذ يقول([44]) : (ولعمري أن قول الصادق محمد صلوات الله عليه وما أدى عن الله عز وجل لموجود جميعاً بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلا من حرم صورة العقل واتحد بصورة الجهل من جميع الناس).(5/9)
وللمعرفة عند الكندي طريقان:
أحدهما : طريق العقل .
والثاني: طريق الوحي، وهذان الطريقان يوصلان إلى حقيقة واحدة حسب رأيه ([45]).
ثم جاء إخوان الصفا([46]) فقام مذهبهم على أساس التوفيق بين الدين والفلسفة ، وألّفوا لهذا الغرض رسائلهم، فهم يرون أن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية الحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية .
فقامت لهذا الغرض مؤكدة أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال([47]).
وهم يفسرون الشريعة الإلهية –أو الوحي- بشرح أفلوطيني فيقولون([48]): (واعلم أن الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية تبدو من نفس جزئية في جسد بشري بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى في دور من الأدوار والقرانات ، وفي وقت من الأوقات، لتجذب بها النفوس الجزئية وتخلصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة) .
ثم يوردون آيات من القرآن لتأييد مطلبهم، وكل هذا محاولة منهم للجمع بين الشريعة والفلسفة، فنراهم قد ربطوا بين الله والنفس الكلية من جهة، والعقل الإنساني المفاض عليه من جهة أخرى، كما ربطت الأفلاطونية الحديثة بين الله والنفس الكلية من جانب آخر، وجعلوا الخلاص من هذا العالم المادي غاية الإنسان.(5/10)
ولتأكيد هذه المحاولة نرى إخوان الصفا عندما يريدون تقرير أمر من الأمور فإنهم يجمعون بين النصوص الشرعية والآراء الفلسفية كاستشهادهم على تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك –بعد الموت- فإن كانت صافية صعدت هناك، وإن كانت عكس ذلك بقيت تحت فلك القمر حسب زعمهم، وهم يستدلون بأقوال الفلاسفة والأنبياء كي يقرروا هذا الرأي الفلسفي ويصبغوه بصبغة شرعية فيقولون([49]) : ((يقال أن بطليموس([50]) كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سلماً صعد به إلى الفلك . فمسح الأفلاك وأبعادها والكواكب وأعظامها، ثم دوّنه في المجسطي، وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد وهكذا.
ويحكى عن هرمس([51]) المثلث بالحكمة ، وهو إدريس النبي عليه السلام أنه صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة، حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم.
وقال أرسطاطاليس([52]) في كتاب ((الثالوجيا))شبه الرمز: إني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن فأكون داخلاً في ذاتي، خارجاً عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجباً باهتاً، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف.
وقال فيثاغورس([53]) في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا
ديوجانس([54]) وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلا في الجوّ، فتكون حينئذٍ سائحاً غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت.
... وقال المسيح عليه السلام للحواريين في وصية له : إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي، وأنا معكم حيثما ذهبتم فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غداً.
... وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في خطبة له طويلة: ((أنا واقف لكم على الصراط وإنكم ستردون على الحوض غداً فأقربكم مني منزلاً يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته، ألا لا تغيروا بعدي، ألا لا تبدلوا بعدي)).
...(5/11)
وهكذا فإن إخوان الصفا قد استدلوا بالسنة وقول عيسى بن مريم –عليه السلام- كما استدلوا بقول فيثاغورس وأرسطو على ما أرادوا تقريره من بقاء النفوس –وهي باقية- بعد مفارقة الأجسام، وهذا هو ما سلكوه في رسائلهم فعندما يستدلون على قول يجمعون بين أقوال الأنبياء والفلاسفة، وقد وضع إخوان الصفا الأساس لمن جاء بعدهم من الفلاسفة وفلاسفة التصوف حيث نهجوا نهجهم بل زادوا عليهم)) ([55]) .
... وقال شيخ الإسلام إن ((ابن سينا وأمثاله خلطوا كلامهم في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات وصار ابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء ويظهرون أن أصولهم لا تخالف الشرائع النبوية)) ([56]) . وقال سيد قطب رحمه الله ((إن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنّم عن سذاجة كبيرة وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية وعناصرها الوثنية العميقة وعدم استقامتها على نظام فكري واحد. وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثني مشحون بالأساطير ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس التوحيد المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن الحكماء – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام الحكماء وبين العقيدة الإسلامية ومن هذه المحاولة كان ما يسمى الفلسفة الإسلامية !)) ([57]).
...(5/12)
إذن ((إن محاولة الجمع بين الشريعة والفلسفة واحدة من المحاولات التي قام بها أعداء الدين من متفلسفة وقرامطة وصوفية وغيرهم من ذوي الأطماع والعصبية الحادة ضد تلك العقيدة الصافية وقد كانت تلك المحاولة من أخطر المحاولات التي مرت على الفكر الإسلامي. فقد أدت إلى خلق بلبلة وفوضى فكرية نتج عنها جمود في أمتنا الإسلامية وطغيان أهل البدع)) ([58]). ومن هذا الجمع المتهافت بين الإسلام والفلسفة ما نحن فيه من قضية (العقل) وما هيته فقد قام فلاسفتنا([59]) بتتبع المأثورات الشاذة والضعيفة وحملها على أقوال الفلاسفة وتم لهم ذلك في قضية (العقل) بوجود مقدار لا بأس به من الأحاديث الموضوعة في فضل العقل، كان منها حديث العقل المشهور الذي أصبح عمدتهم الأولى في هذه القضية يُدللون به على صحة قول الفلاسفة في تعريفهم له . وأعني به الحديث الذي يقول متنه ((أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل فقال له: أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) ([60]). وهذا الحديث موضوع وكذب عند أهل العلم بالحديث . قال شيخ الإسلام عنه ((اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل هو موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي وأبو الحسن الدارقطني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم أن الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقل لا أصل لشيء منها . وليس في رواتها ثقة يعتمد))([61]).
... قلت : وذكر ابن الجوزي في الموضوعات (1/171) والسيوطي في الآلي المصنوعة (1/129) عدة روايات لهذا الحديث وبينا اتفاق العلماء على أنها موضوعة .
...(5/13)
قال ابن الجوزي ((رويت في العقول أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت)) (1/171). وقال ابن القيم في المنار (66) ((ومنها –أي الأحاديث الموضوعة- أحاديث العقل كلها كذب)) وقال الدارقطني إن ((كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبّر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة وسرقه عبد العزيز ابن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر)) ([62]). وقال المحدث ناصر الدين الألباني –رحمه الله- ((مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء وهي تدور بين الضعف والوضع وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه : العقل وفضله فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء فالعجب من مصححه الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها؟!))([63]).
... قلت : ولم يكتف شيخ الإسلام ببطلان هذا الحديث المكذوب سنداً بل أبطل معناه ومتنه من عدة أوجه ليهدم أساس فلاسفتنا الموفقين بين الإسلام والفلسفة ويغلق عليهم منافذ التحريف والتأويل فقال رحمه الله :
... ((الأول: أن كلام ابن الجوزي على حديث العقل قد تقدم حيث بدأنا بالحديث وذكرنا ما قال فيه أئمة العلم وانقضى)) .
...(5/14)
الثاني : ((أن من تدبر الكتب المصنفة في العقل لأهل الآثار تبين له تحريف هؤلاء مع ضعف الأصل، ومن أشهرها كتاب العقل لداود بن المحبر وهو قديم في أوائل المائة الثالثة روى عنه الحارث بن أبي أسامة ونحوه، وكذلك مصنفات غيره رووا فيها عن ابن عباس أنه دخل على أم المؤمنين عائشة فقال: ((يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقلّ قيامه ويكثر رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إلى الله)) قالت: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما سألني عنه فقال : ((أحسنهما عقلاً)) فقلت: يا رسول الله إنما أسألك عن عبادتهما، فقال: ((يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما، فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة)) ([64]) .
... ورووا فيها عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن لكل إنسان سبيل مطية وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلاً)) ([65]).
... ورووا فيها عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله)) ([66]) فهل يشك من سمع هذه الأحاديث أن المراد بذلك الإنسان؟ ليس المراد ما هو أعظم المخلوقات الموجودات بعد الباري عندهم وهو عندهم أبدع كل ما سواه، وأن الاستدلال بهذا الحديث ونحوه على إرادة هذا المعنى من أعظم الضلال وأبعد الباطل والمحال ، هذا لعمري لو كان ذلك ثابتاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد قال أبو حاتم بن حبان البستي ((لست أحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبراً صحيحاً في العقل)).
...(5/15)
الثالث : (( أن العقل في لغة المسلمين كلهم أولهم عن آخرهم ليس ملكاً من الملائكة ولا جوهراً قائماً بنفسه بل هو العقل الذي في الإنسان ولم يسم أحد من المسلمين قط أحداً من الملائكة عقلاً ولا نفس الإنسان الناطقة عقلاً بل هذه من لغة اليونان، ومن المعلوم أن حمل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كلام الله تعالى على ما لا يوجد في لغته التي خاطب بها أمته ولا في لغة أمته –وإنما توجد في لغة أمة لم يخاطبهم بلغتهم ولم تتخاطب أمته بلغتهم- فهذا يبين أن الذين وضعوا الأحاديث التي رويت في ذلك ليس المراد بها عند واضعيها ما أثبته الفلاسفة من الجوهر القائم بنفسه، فهؤلاء المستدلون بهذه الأحاديث على قول المتفلسفة لم يفهموا كلام الكاذبين الواضعين للحديث بل حرفوا معناها كما حرفوا لفظها. فإذا كان هذا حالهم في الحديث الذي استدلوا به فكيف في غيره؟ فتبين أن استدلالهم باطل قطعاً)) .
... الرابع : ((أن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان الذي هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل الأعراض لا من قبيل الجواهر. وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلاً كما يجئ في القرآن (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
...(5/16)
وهذا كثير، وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعاً وكذلك البصر فإنه مثل الأبصار ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك فيقال للقوة التي في العين بصر والقوة التي يكون بها السمع وبهذين الوجهين يفسر المسلمون العقل . ومنهم من يقول العقل هو من جنس العلم كما يقوله القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وأبو الطيب الطبري وأبو يعلى بن الفراء ومنهم من يقول هو الغريزة التي بها يتهيأ العلم كما نقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ويدخل ذلك في العقل العلمي وهو العمل بمقتضى العلم. وأما تسمية الشخص العاقل عقلاً أو الروح عقلاً فهذا وإن كان يسوغ نظيره في اللغة فقد يسمون الفاعل الشخصي بالمصدر فيسمى عدلاً وصوماً وفطراً فليس هذا من الأمور المطردة في كلامهم فلا يسمون الآكل والشارب أكلاً وشرباً ولو كان ذلك مما يسوغ في القياس بحيث يسوغ أن يسمى كل فاعل باسم مصدره فهذا إنما يسوغ في الاستعمال لا في الاستدلال، فليس لأحد أن يضع هو مجازاً لنفسه يحمل عليه كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام من تكلم قبله، إذ المقصود بالكلام هو فهم مراد المتكلم سواء كان لفظه يدل على المعنى وهو الحقيقة أو لا يدل إلا مع القرينة وهو المجاز. فليس لأحد أن يسمي الجوهر القائم بنفسه عقلاً ثم يحمل عليه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومعلوم بالاضطرار لمن يعرف لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الذين يتكلمون بلغته أن هذا ليس هو مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في اسم العقل فليس هذا مراد المسلمين باسم العقل ولا يوجد ذلك في استعمال المسلمين وخطابهم . وإذا كان كذلك لم يجز أن يتمسكوا بشيء من كلام الرسول الذي فيه لفظ العقل –لو كان ثابتاً- على إثبات الجوهر الذي يسمونه عقلاً.(5/17)
ومن تدبر ما يوجد في كلام المسلمين عامتهم وخاصتهم سلفهم وأئمتهم وفقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم ومفسريهم ونحاتهم ومتكلميهم لم يجد في كلام أحد منهم لفظ العقل منقولاً على ما يزعمه هؤلاء من المتفلسفة)) .
... الخامس : ((مما يبين كذب هذا الحديث المروي كما رووه أن العقل إذا كان في لغة المسلمين هو عرض قائم بغيره لم يكن مما يخلق منفرداً عن العاقل. وإنما يخلق بعد خلق العقلاء. وأيضاً فإن مثل هذا لا يخاطب ولا يقبل ولا يدبر. وأيضاً فقوله (ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك) لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى فإنه من المعلوم أن الأنبياء والملائكة أكرم على الله منه إذ كان في بعض صفاتهم. ولو قدر أن العقل في لغتهم يكون جوهراً أو ملكاً وقدر أن هذا اللفظ قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجز أن يراد به ما يقوله الفلاسفة ومن سلك سبيلهم لما بينا أنه يدل على أنه خلق قبله خلقاً آخر. وأيضاً فقوله: ((بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) خصه بهذه الأعراض وعندهم هو المبدع لكل ما سواه من العقول والنفوس والأفلاك والنفوس البشرية والعناصر والمولدات فكيف يخصه بأربعة أعراض؟ وأيضاً فقوله: ((لما خلقه قال له أقبل فأقبل)) يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وعندهم يمتنع أن يكون خلقه في زمان بل يمتنع أن يكون مخلوقاً عندهم كما تقدم)) ([67]) .
... السادس ((أن قوله ((أول ما خلق الله العقل قال له)) يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا أنه أول المخلوقات كما تقول أول ما لقيت زيداً سلمت عليه وتقدير الكلام أول خلق الله قال له فأول مضاف إلى المصدر والمصدر يجعل ظرف زمان كما تقول كان هذا خفوق النجم وخلافة عبد الملك ومنه قوله تعالى: (وإدبار النجوم) مصدر أدبر يدبر إدباراً)) ([68]) .
... السابع : ((أن هذا يقتضي أنه خلق قبل العقل غيره لقوله: ((ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك)) وعندهم هو أول المبدعات)) ([69]) .
...(5/18)
وقال القاضي أبو يعلى تعليقاً على قولهم ((وهذا فاسد لأن الدليل على أن الجواهر كلها من جنس واحد خلافاً للملحدة في قولهم هي مختلفة لأن معنى المثلين ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه والجواهر على هذا لأن كل واحد منها متحرك وساكن وعالم فلو كان العقل جوهراً لكان من جنس العاقل ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلاً عن وجود مثله وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه فمحال أن يكون عاقلاً بجوهر من جنسه، ولأنه لو كان جوهراً لصح قيامه بذاته ووجوده لا بعاقل، ولصح أن يعقل ويكلف لأن ذلك مما يجوز على الجواهر، وفي امتناع ذلك دليل على أنه ليس بجوهر، فثبت أنه عَرَض)) ([70]).
... قلت: وبعد بيان بطلان هذا الحديث وجميع الأحاديث التي في العقل –سنداً ومتناً- ، يتضح لنا مدى جهل وافتراء من زعم أن تضعيف المحدثين لمثل هذه الأحاديث كان بسبب موقفهم من المعتزلة والفلاسفة الذي غلوا في العقل! أو كما يقول أحدهم : ((نتيجة للملاحقة السنية العمياء التي حاولت النيل من كل من اشتغل بأمور العقل والكلام)) ([71]) ! ، أو كما يقول غيره : ((لجمود المحدثين الذي اتصف به كثيرٌ منهم)) ([72]) ! وأن أحاديث العقل تتفق في جوهرها مع الإسلام ([73]).
... ((والذي يظهر أنهم ظنوا أن رد هذه الأحاديث فيه تهوين من شأن العقل، وإجحاف بحقه ، وهذا غير وارد ، حتى مع رد تلك الأحاديث ، فللعقل مقام كبير ومنزلة سامية في الإسلام جاء بها قرآنه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، كما سيأتي))([74]).
ظهور المدرسة العقلية عند الغرب :
قال الشيخ محمد قطب : ((العقلانية – بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه- مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة، ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو.(5/19)
ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية – التي تمثل العقلانية قسماً بارزاً منها – تسيطر على الفكر الأوروبي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافه حادة تكاد تكون مضادة لمجراه الأول الذي استغرق من تاريخ الفكر الأوروبي عدة قرون . فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي – كما تقدمه الكنيسة – وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب ((معقول))!.
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه ((الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي)) : ((كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين ((المسيحية)) وكان يراد من المسيحية (الكثلكة)) وكانت الكثلكة تعبر عن ((البابوية)) والبابوية نظام كنسي ركز ((السلطة العليا)) باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير ((الكتاب المقدس)) على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وإفهام الكنيسة الكاثوليكية ... )) ([75]).
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوربية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات التي لم تنشأ – كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة- من إهمال الفلسفة والعلوم الإغريقية والالتجاء إلى الفكر ((الديني)). فلم يكن ((الفكر الديني)) من حيث المبدأ ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطى في أوروبا ، إنما كان الخلل كامناً في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين ، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي ، بعد تحريفها ما حرفت منه ، وإضافتها ما أضافت إليه، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي.(5/20)
والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطى كان بسبب إهمالها، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها ، لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب ، ولا كانت في صورتها التي قدمها فلاسفة الإغريق القدامى زاداً صالحاً لحياة إنسانية مستقيمة راشدة، على الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها.. وإنما ظل الفكر الأوروبي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره الحاضر. فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الإحياء ، إلى جاهلية عصر ((التنوير)) إلى جاهلية الفلسفة الوضعية.. إلى الجاهلية المعاصرة .
كانت العقلانية الإغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه ، وإعطائه حجماً مزيفاً أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى ((قضايا)) تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بحركته الموارة الدائمة ، بمقدار ما يختلف ((القانون)) الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه .. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي ! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه!.
وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة ((لقضية)) الألوهية و((قضية)) الكون المادي وما بينهما من علاقة. ويتشعب هذا الانحراف شعباً كثيرة في وقت واحد.
فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلاً عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهية.(5/21)
والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل ، ويثبت ما يثبت منها وينفى ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها ... وأما الانحراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الألوهية، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر.
ولا عجب في ذلك ، فما دام ((العقل)) هو الحكم في هذه القضية، فعقل من ؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر. ولكل منهم طريقته الخاصة في ((تعقل)) الأمور، ولكل منهم ((نوازعه)) الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز على أمور ويغفل غيرها من الأمور ...
ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل .
من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلى عصر ((سيادة الدين)) .
وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلى النور. ولكنه في الحقيقة دخل إلى ظلمات حالكة ليس فيها حتى ذلك ((البريق)) الذي تميزت به الفلسفة الإغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقية لذلك البريق، وعن كونه بريقاً هادياً أم مضللاً عن الطريق ! .
كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي ، واستمد منه اليقين والهدى- في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده- أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصيلة يبدع وينتج، ويمد ((الإنسان)) بما يحتاج إليه في شؤون ((الخلافة)) وعمارة الأرض.(5/22)
ولكن الكنيسة الأوروبية أفسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف على الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية على الأرض، وتخبطت في قضية الألوهية تخطباً من نوع جديد، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاثة، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله، وشريك لله في تدبير شؤون الكون.
وفضلاً عن ذلك – أو ربما بسبب ذلك – حُجِرَ على العقل البشري أن يعمل وأن يفكر.
فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن ((معقولة)) ولا مستساغة. فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت. وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى ظل متفرداً بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون ما لا يحصى من الزمان، ثم إذا هو –فجأة- يوجد كائناً آخر ليكون شريكاً له في الألوهية ومعيناً له في تدبير الكون!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
ومن أجل كون هذا العبث ((المقدس!)) الذي ابتدعته المجامع ((المقدسة!)) غير معقول ولا مستساغ فقد سخرت الكنيسة ((العقل)) في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة ((فلسفية)) مستساغة (أو هم قالوا عنها إنها مستساغة!) وفي الوقت ذاته حجرت على العقل أن يناقشها، لئلا تجر المناقشة إلى القول بأنها غير معقولة على الرغم من كل الصناعة ((العقلية)) وضعت فيها !.(5/23)
ومن ثم نشأت في الفكر الأوروبي تلك ((المسلمات)) أو العقائد المفروضة فرضاً التي لا يجوز مناقشتها لا لأنها – في حقيقتها – من الأمور التي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة، ولكن لأنها مناقضة للعقل، ومفروضة عليه فرضاً من قبل رجال الدين، الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين. يجوز فيهم كل شيء حتى إهدار الدم وإزهاق الأرواح – كما مر بنا من شأن محاكم التفتيش التي قال عنها ((ويلز)) في كتابه ((معالم تاريخ الإنسانية (ص 902-903 من الترجمة العربية) .
((فأصبح قساوستها وأساقفتها على التدريج رجالاً مكيفين وفق مذاهب واعتقاديات حتمية وإجراءات مكررة وثابتة.. ونظراً لأن كثيراً منهم كانوا على الأرجح يسرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه . كانوا لا يحتملون أسئلة ولا يتسامحون في مخالفة ، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها .
((وقد تجلى في الكنيسة عندما وافى القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكمله، وقد تجعله أثراً بعد عين. فلم تكن تستشعر أي اطمئنان نفسي، وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان كما تبحث العجائز الخائفات –فيما يقال- عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن)).
ومن الأدلة التاريخية التي تثبت أن النصارى – على الرغم من تشبثهم الشديد بمقررات المجامع المقدسة بشأن قضية الألوهية – لم يكونوا يؤمنون بها في دخيلة أنفسهم إلى درجة اليقين، ما حدث من وفد نصارى نجران مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم – بأمر ربه – إلى المباهلة:
(قل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) .(5/24)
فقد امتنعوا عن المباهلة وانصرفوا رغم جدالهم الشديد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول نبوة عيسى لله وألوهيته مع الله .. ولو كانوا على يقين حاسم ما امتنعوا !
وأياً كان الأمر فقد استخدمت الكنيسة كل طغيانها الروحي للحجر على العقل .. وصنعت ذلك باسم ((الدين))!.
والدين الصحيح ليس في حاجة إلى شيء من ذلك الذي صنعته الكنيسة.. حقيقة إن في الدين الصحيح ((مسلمات)) لا تناقش، تعتبر من أصول الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام : ((قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)).([76])
وبعض هذه الأمور ليس للعقل سبيل إليها من ذات نفسه، إنما يتعرف عليها عن طريق الوحي، ويسلم بها تسليماً، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يشتمل عليه من بعث ونشور وحساب وجزاء وجنة ونار.. وكان هذا كله وراداً في ((مسلمات)) الدين الكنسي، ولا اعتراض عليه .
ولكن هناك فارقاً أساسياً بين ((مسلمات)) الدين الصحيح والمسلمات الكنسية الأخرى التي كانت تجبر الناس عليها إجباراً وتمنعهم من مناقشتها في أمر صحتها، وتتهمهم بالمروق عن الدين إن خالفوها أو هموا مجرد هم بمناقشتها!.(5/25)
فالمدخل إلى هذه المسلمات في الدين الصحيح هو الإيمان بالله والتعرف على صفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وفي مقدمتها أنه هو الخالق وأنه على كل شيء قدير، والإيمان بالرسول المرسل - صلى الله عليه وسلم - وصدقه وأمانته ([77]) ، والإيمان بأن ما يخبر به عن ربه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وكل هذه يدعى العقل دعوة صريحة إلى التفكير فيها، والتأكد منها قبل الإيمان بها، وخذ مثالاً على ذلك ما جاء في كتاب الله من خطاب للقوم المدعوين للإسلام: (أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟) (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات . إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. بل الظالمون في ضلال مبين) (قل إنما أعظكم بواحدة. أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة) (لو كان فيهما آلهة إلا لفسدتا..) (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله . إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . سبحان الله عما يصفون) (أفلا يتدبرون القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) .
فإذا آمن الإنسان – وهو مدعو للتفكر والتدبر وإعمال العقل ليؤمن- بأن الله هو الخالق وهو على كل شيء قدير، وآمن بصدق الرسول المرسل - صلى الله عليه وسلم - ، وآمن بأن ما يخبر به الرسول عن ربه وحي لا شبهة فيه، فقد أخبره الوحي بأمور لا سبيل للعقل أن يصل إليها من تلقاء نفسه لأنها ليست مما يقع في محيط رؤيته ولا تجربته، وطلب منه التسليم بها لأنها آتية من المصدر الحق الذي آمن بصدقه وصدق كل ما يجئ من عنده. وهي في الوقت نفسه لا يملك العقل دليلاً حقيقياً ينفيها.. فوجب عليه أن يسلم بها وقد آمن بمقدماتها التي توصله إلى التسليم بها.(5/26)
هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح: أمور لا يملك العقل أن يستدل عليها من تلقاء نفسه، ولا يملك في الوقت ذاته دليلاً حقيقياً ينفيها، ثم إنه لا يدعى إلى التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض .
أما المسلمات التي فرضتها الكنيسة فرضاً وأرهبت الناس من مناقشتها فهي غير ذلك تماماً .
فحيث يتجه العقل والتدبر والتأمل إلى الإيمان بأن الله واحد أحد، وأنه لو كان في السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا.. تقول له الكنيسة إن الله ثلاثة، ثم تزيد الأمر تعقيداً فتقول له إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، ثم تمنعه من المناقشة عن طريق الإرهاب..
وحيث يتجه العقل – بوسائل تفكيره- إلى الإيمان بأن الله الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً هو غني عن كل شريك لأنه ((بيده ملكوت كل شيء)) ولأنه يقول للشيء ((كن فيكون)) ومن ثم فهو الجدير بالعبادة وحده.. تقول له الكنيسة إن هناك شريكاً لله هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، هو إله مع الله، ومعبود كذلك مع الله، ثم تمنعه من المناقشة وتتهمه بالمروق إن خالف..
وحيث يتجه العقل –بمنطقه الذاتي- إلى الإيمان بأن الله ليس في حاجة إلى اتخاذ الولد- والخلق كلهم خلقه خلقهم بمشيئته وهم عباد له- وليس من شأنه سبحانه أن يتخذ مالا حاجة له إلى اتخاذه، وهو المهيمن الذي يدبر أمر الوجود كله بمفرده، بلا كلفة عليه سبحانه ولا جهد ولا حاجة إلى معين.. تقول له الكنيسة إن لله ولداً خلقه بمشيئته كما يخلق كل شيء بمشيئته ثم تبناه- سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً- ليضعه بعد ذلك على الصليب ، ويجرعه آلام الصلب، ليكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الابن إنما ارتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله ! ثم تفرض عليه ذلك فرضاً وتقول له هذه هي العقيدة .. ومن لم يعتقدها فقد حلت عليه لعنة السماء .(5/27)
تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها لأن العقل يملك كل دليل ينفيها، ولأنها لا تستند إلى شيء إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله، بينما الناس يرون رجال الدين في تلك المجامع يتناقشون وتحاورون ، ويختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف ، ثم يصدرون القرار من تفكيرهم الذاتي – ولو كان وحياً سماوياً لالتزموا به عقيدة ولم يجز لهم الاختلاف فيه- ثم يرون أسوأ من هذا أن الأقلية تصدر القرار أو تفرضه فرضاً على الأكثرية ثم تطرد الأكثرية بالقوة كما حدث في مجمع خلقدونية.. ولا تطردهم من المجمع فحسب ، بل تزعم كذلك أنها تطردهم من رحمة الله! .
ومن أجل أن هذه المسلمات المزعومة لا يمكن للعقل التسليم بها فقد حظرت الكنيسة على العقل أن يفكر فيها أو يناقشها، وزعمت للناس أن التفكير فيها مناف للإيمان ، وأن الموقف الصحيح للمؤمن هو التسليم بها بغير جدال، وتفويض الأمر فيها لا –لله!- بل ((لقداسة)) البابا ومن حوله من ((كبار)) رجال الدين!.
وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي وانحصر في التسليم بما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، ومحاولة التوفيق بينه وبين مقتضيات التفكير السليم، في مغالطات ((فلسفية)) هي أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق!.(5/28)
ومن ناحية أخرى انصرف الفكر الأوروبي عن النظر في هذا العالم وفي الحياة الدنيا بتأثير آخر من تأثيرات الدين الكنسي المحرف. فقد أوحت المسيحية المحرفة إلى الناس بأن هذه الدنيا لا سبيل إلى إصلاحها أو تقويم معوجها لأنها ناقصة بطبيعتها، وأن الطبيعة الإنسانية ناقصة كذلك ، ولا سبيل إلى إصلاحها إلا بصرفها عن الاهتمام بالحياة الدنيا جملة، وصرف اهتمامها إلى اليوم الآخر ... ... ... وأنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه –بالرهبانية- يكون أقرب إلى الصلاح ، وأقرب إلى الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر .
هذا اللون من التفكير صرف الفكر الأوروبي عن النظر في شئون العالم الأرضي والكون المادي في أضيق نطاق مستطاع. ففي أمور الحياة رضي الناس عامة – والمتدينون خاصة- بعيش الكفاف ([78]) ، ولم يتطلعوا إلى زيادة الإنتاج أو تحسينه لأن ذلك يخالف روح الدين. ومن ثم لم يسعوا إلى زيادة في العلم تمكنهم من زيادة الإنتاج أو تحسينه.
كذلك لم يهتموا بزيادة معلوماتهم عن الكون المادي من حولهم من فلك أو رياضيات أو كيمياء أو فيزياء.. إلخ، لأن الأمر – في حسهم – لا يستحق الاهتمام من ناحية، ولأن المعلومات التي تقدمها المصادر ((الدينية)) عن هذا الكون فيها كفاية لهم من ناحية أخرى. ولم تكن تلك المعلومات تعدو أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة هو يعلمها، ولغاية هو يريدها، وأن كل شيء يجري على النحو الذي أراده الله منذ الأزل بلا تغيير، وهذا في ذاته حق ولا شك، ولكنه لا يعطي التفسير التفصيلي لظواهر الكون المادي المحيط بالإنسان! ولا ما يحدث من التحول الدائم في الكون والحياة والإنسان!..
على هذا النحو الضيق المغلق المحصور كان الفكر الأوروبي فيما يسمى – هناك – بالعصور الوسطى المظلمة، التي استمرت زهاء عشرة قرون، خيم فيها على أوروبا ظلام الجهل والانحصار ، في ظل الطغيان الكنسي المتعدد الألوان المتشعب الأطراف .(5/29)
فلما بدأت أوروبا تفيق في عصر النهضة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية من ناحية، والاتصال السلمي بمراكز العلم والثقافة في الأندلس والشمال الأفريقي وصقلية وغيرها، كان العقل الأوروبي في حالة تشوق عنيف لاسترداد حريته في العمل، أي حرية التفكير. ولكن، كما اتسمت فترة العصور الوسطى المظلمة بالتطرف في إلغاء دور العقل والحجر على حرية الفكر، كذلك اتسمت فترة النهضة وما بعدها بالتطرف في الجانب الآخر، جانب إعمال الفكر في كل شيء ، سواء كان داخلاً في مجال العقل أو غير داخل فيه، وإعماله ((بحرية)) لا تقبل القيد، سواء كان القيد مشروعاً أو غير مشروع!.
كان عصر ((الإحياء)) هو عصر العودة إلى الجاهلية الإغريقية بكل انحرافاتها .. مع زيادة انحراف جديد .. هو النفور من الدين . ومحاولة إبعاده عن كل مجال من مجالات الحياة والحقيقة أن الحياة الأوروبية في تلك الفترة تستلزم نظرة فاحصة تقف على التيارات والعوامل المختلفة التي كانت تمور في كيانها. والتي تمخضت فيما بعد عن الصورة الحالية ((للحضارة)) الغربية.
لقد أخذت أوربا في نهضتها شيئاً كثيراً من الإسلام والمسلمين، ورفضت في الوقت ذاته أن تعتمد الإسلام ديناً وعقيدة ومنهج حياة .
وكان من جراء ذلك آثار بعيدة المدى في الحياة الأوربية إلى وقتنا الحاضر..
فقد صحت أوربا من غفوتها الطويلة بالاحتكاك الحربي والسلمي بالمسلمين في الشرق والغرب.
وتزعم أوربا أنها لم تأخذ عن المسلمين إلا التراث الإغريقي الذي كانت قد أضاعته في عصورها المظلمة، فوجدته محفوظاً عند المسلمين فاستردته ، وأقامت نهضتها على أساسه.
وفي هذا الزعم شيء قليل من الحق وشيء كثير من المغالطة التي لم ينج منها إلا عدد قليل من كتاب أوربا المنصفين.(5/30)
فأما أن التراث الإغريقي الذي فقدته أوربا في عصورها المظلمة كان محفوظاً عند المسلمين فيما يسمى ((الفلسفة الإسلامية)) وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية، وأن أوربا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين وأقامت جانباً من نهضتها عليه .. فهذا صحيح.
ولكن هذا التراث الإغريقي ، على كل اعتزاز أوربا به وتعصبها له، لم يكن صالحاً –وحده- لإقامة النهضة الأوربية ، ولا أي نهضة على الإطلاق ، باعتباره مجموعة من (الأفكار)) التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة. وهو –بكل لمعانه الفكري- لم يستطع أن يلائم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته، فضلاً عن أن يكون – وحدة- باعث نهضة جديدة على اتساع أوربا كلها، وعلى اتساع العالم كله في العصر الحديث!.
نعم، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زاداً لقوم ((يرغبون)) في الحياة، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة. ولكنها –وحدها- لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك.
إنما الرغبة في الحياة والرغبة في إقامة نهضة شاملة، كانت هي الأثر الذي أخذته أوربا من احتكاكها بالمسلمين، وملامستها للحياة الموارة في العالم الإسلامي ، وللنهضة الشاملة فيه ..
وليس هذا فقط .. فإن أوربا لم تغنم من احتكاكها بالمسلمين تلك الرغبة في الحياة والحركة وإقامة النهضة الشاملة فحسب، بل وجدت كذلك ((مقومات)) تلك النهضة بكاملها موجودة عند المسلمين، فأخذت منها كل ما وسعها أخذه، والعنصر الذي رفضت أخذه –وهو الإسلام- كان هو العنصر الوحيد القمين بترشيد تلك النهضة وإقالة أوربا من عثرتها.. ولكنها رفضت –بدافع من العصبية الصليبية – فخسرت العنصر الجوهري، وأقامت نهضة عرجاء.. هي التي يعاني منها اليوم كل سكان الأرض!.
نعم، لم تكن رغبة الحياة ورغبة النهوض وحدها هي كل ما أخذته أوربا عن المسلمين .(5/31)
لقد كانت أوربا في جهالة تامة من كل علم إلا ما تملكه الكنيسة ورجال دينها من معلومات سطحية معظمها محشو بالأخطاء .
وعند المسلمين وجدوا ((العلم)) .. في كل مجالات العلم.. في الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء إلى جانب العلوم الدينية الإسلامية التي كانت تدرس – جنباً إلى جنب- في الجامعات الإسلامية.
وقد قال ((روجر بيكون)): ((من أراد أن يتعلم ، فليتعلم العربية، فإنها هي لغة العلم)).
ونضيف هنا قولة ((ألفارو القرطبي)) قبل ذلك بقرون في الأندلس: ((يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانياً يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ وا أسفاه ! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة ، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم . فواحر قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية ، فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم)) ([79]) .
ولم يكن العلم وحده هو الذي أخذته أوربا عن المسلمين بجانب الرغبة في الحياة والرغبة في النهوض؛ إنما أخذت كذلك المنهج الذي تقيم عليه العلم، وهو المنهج التجريبي.(5/32)
يقول بريفولت في كتاب ((بناء الإنسانية)) ((فالعالم القديم –كما رأينا- لم يكن للعلم فيه وجود. وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية . وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات. ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها ، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة ، والبحث التجريبي ، كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليوناني. أما ما ندعوه ((العلم)) فقد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان.. وهذه الروح، وتلك المناهج العلمية، أدخلها العرب إلى العالم الأوربي)) ([80]).
كذلك لم يكن العلم وحده ولا المنهج التجريبي وحده .. يقول .. بريفولت: ((لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية (يقصد الإسلامية) على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل من اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام . ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد أوربا إلى الحياة. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية. فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون ، في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره: أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي)) ([81]) .(5/33)
ويطول بنا الاستطراد لو رحنا نحصي بالتفصيل ما أخذته أوربا في بدء نهضتها من الإسلام والمسلمين ، ولكنا نعود إلى موضوعنا الأصيل فنقول إن أوربا أخذت ما أخذت ولكنها رفضت أن تأخذ الإسلام ذاته عقيدة ومنهج حياة، وعادت إلى الجاهلية الإغريقية والرومانية تستمد منهما بدلاً من الدين الكنسي الذي لفظته، والدين الصحيح الذي رفضت بدافع العصبية أن تدخل فيه. ومن ثم عادت – كما قلنا – إلى العقلانية اليونانية بزيادة انحراف جديد هو النفور من الدين والسعي إلى إخراجه من مجالات الفكر والحياة .
لقد كانت الجاهلية الإغريقية جاهلية وثنية خالصة في واقع حياتها، ولكن ((المفكرين)) و ((الفلاسفة)) فكروا في الله سبحانه وتعالى، وحاولوا تصوره على قدر ما اجتهدت عقولهم، فاهتدوا إلى وحدانيته وكماله وجلاله، ولكن تشعبت بهم الظنون في متاهات لا قرار لها حين أخذوا يصفون كنة هذا الكمال وهذا الجلال ، كما مر بنا من تصور أرسطو.
أما جاهلية عصر الإحياء وعصر النهضة فقد سخرت ((عقلها)) في كيفية الاستغناء عن الله ، وإخراج موضوع الألوهية من ميادين الفكر والحياة واحداً إثر الآخر .
كان ((التفكير الحر)) معناه الإلحاد! ذلك أن التفكير الديني معناه الخضوع للقيد الذي قيدت الكنيسة به العقل وحجرت عليه أن يفكر . فمعنى الحرية الفكرية هو تحطيم ذلك القيد الذي يغل العقل من التفكير. ولم يكن أمام أوربا بعد أن رفضت الإسلام إلا ذلك السبيل الواحد إلى الحرية الفكرية .. وهو الخروج على الدين! .
يقول برنتون في كتاب ((منشأ الفكر الحديث)) (ص 103 من الترجمة العربية – ترجمة عبد الرحمن مراد): ((فالمذهب العقلي يتجه نحو إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون.. فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون..)) .(5/34)
ويقول عن قانون السببية الذي كشفه نيوتن: ((إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة (يقصد المعتقدات الدينية) في هذا العالم)) (ص 151 من المرجع السابق) .
ويقول : ((الإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة ولكن صانع هذه الساعة الكونية ونعني بها الكون، لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد.
((أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها . وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية ، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله)) !! .
ولنا وقفة عند هذه النصوص.. إن الاتجاه الفكري النافر من الدين، المتجه إلى الإلحاد، لم يكن رد فعل لخطأ واحد من أخطاء الكنيسة وهو الحجر على العقل خوفاً من مناقشة ((المسلمات)) المفروضة، إنما كان في الحقيقة رد فعل أو نتيجة لأخطاء متعددة في وقت واحد.. فالجهالة العلمية التي عانتها أوربا عدة قرون في ظل السيطرة الكنسية جعلت للعلم –حين بدأت أوربا تتعلم- فتنة ليست من طبيعته في الأحوال العادية وفي النفوس السوية، فضلاً عن أن حرب الكنيسة للعلم والعلماء في عهد النهضة – باسم الدين – جعلت طريق البحث العلمي هو طريق معاداة الدين .(5/35)
إن الدين والعلم ليسا ندين متنافرين متعاديين كل منهما يسعى للسيطرة على حساب الآخر ورغماً عنه! فنزعة العبادة ونزعة المعرفة كلتاهما نزعة فطرية، والفطرة – في النفس السوية- لا يتنافر بعضها مع بعض ، إنما تتعارض جوانبها المختلفة لبناء الشخصية السوية المتوازنة . وقد تختل الشخصية لزيادة أو نقص في أحد الجوانب بالقياس إلى حده المفروض، وبالقياس إلى الجوانب الأخرى في النفس، ولكنها لا تختل قط من اجتماع جوانب الفطرة كلها في النفس، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي لا تستقيم النفس بدونه، بل العكس هو الصحيح . تختل النفس خللاً مؤكداً حين يزاح جانب من جوانب الفطرة أو يضمر ليحل محله جانب آخر .
وفي العالم الإسلامي الذي استقت أوربا العلم منه ، كان هذا هو الأمر الواقع: كان الدين والعلم يعيشان معاً متساندين متعاونين بلا تنازع ولا تنافر ولا خصام. بل كان العلم في حقيقة الأمر نابعاً من العقيدة منبثقاً عنها، يعمل في خدمتها، ومع ذلك كان له ذلك المجال الواسع كله الذي يعمل فيه، والحرية التي يمارسها في البحث وتحصيل النتائج وتدوينها، والثمار العملية المفيدة التي تقوم عليها نهضة علمية زاهرة.
ولم يكن للعلم في نفوس المسلمين فتنة! لا هو فتنهم عن الدين، ولا صار في حسهم إلهاً مكان الله ! لأنهم كانوا يتناولونه كما تتناوله الفطرة السوية، التي تأخذ حظها من العبادة كما تأخذ حظها من المعرفة العلمية، وتطلب هذه وتلك بلا تنافر بينهما ولا صدام!.
وقد كان العالم الواحد – في كثير من الأحيان – عالماً في الطب أو الفلك أو الرياضيات .. الخ ، وعالماً بالعلوم الدينية في نفس الوقت، متبحراً في هذه وتلك، متوازناً في ذات الوقت، لا يصرفه الدين عن العلم ولا يصرفه العلم عن الدين.(5/36)
وكان الحسن بن الهيثم – على سبيل المثال – الذي ظلت أوربا تدرس نظرياته في علم الضوء (البصريات) إلى بداية القرن التاسع عشر لتفوقها وتقدمها الباهر، والذي أثبت ملاحظة كانت بالقياس إلى وقته من أعجب العجب، وهي انحناء الشعاع الضوئي عند ملامسته جسماً منحنياً وعدم سيره في خط مستقيم([82])- كان على كل عبقريته العلمية تلك يقدم إنتاجه العلمي باسم الله، ويحمده ويثني عليه ويشكره على فيض نعمه عليه!.
كلا! لم يكن العلم عند المسلمين مثاراً للفتنة، لأنهم صاحبوه عدة قرون على رزانة وروية فلم يفاجئوا به كما فوجئت أوربا في عصر النهضة، ولأنه نبع في حياتهم من نبع الدين فلم يثر بينه وبين الدين ذلك الخصام الذي ثار بين الدين والعلم في أوربا، ولأن المعرفة كلها في حس المسلم نفحة ربانية يفتح بها على عباده، فيكون جزاؤها في حسه مزيداً من التقرب إلى الله، لا بعداً عنه وازورارا عن عبادته. كذلك كان اكتشاف قانون السببية بالذات باعثاً من بواعث الإلحاد.(5/37)
والمسؤول في ذلك أيضاً هو الكنيسة ! لقد ظلت الكنيسة تصرف الناس عن العلم عدة قرون، وتوحي إليهم بالاكتفاء بما عندها هي من العلم، الذي لم يكن يتجاوز –كما قلنا – أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة يعلمها ولغاية يريدها.. أي إرجاع الأمور كلها والظواهر كلها إلى إرادة الله ومشيئته. ومن شأن الدين أن يركز دائماً على هذا المعنى. انظر إلى بعض ما جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن : (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر. والنجوم مسخرات بأمره. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه. إن في ذلك لآية لقوم يذكرون. وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها. وترى الفلك مواخر فيه. ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم. وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون. أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إن الله لغفور رحيم).
وحكمة ذلك واضحة.. ((فالدين)) يذكر الإنسان دائماً بالله لكي يظل قلبه معلقاً بالله في جميع حالاته، فيحبه ويخشاه، ويتطلع إليه في كل أمر من أموره. وبهذا وحده تصلح نفس الإنسان وتستقيم.. ولأن الإنسان عرضة دائماً أن ينسى فإن الدين الصحيح يلح في تذكيره حتى لا تدركه الغفلة التي ينشأ عنها كل شر في حياة البشر على الأرض.(5/38)
ولكن هذا التركيز الشديد في الدين الصحيح على رد الأمور كلها إلى مشيئة الله، لم يمنع المسلمين من البحث عن ((الأسباب الظاهرة)) في الكون المادي وفي الحياة البشرية، بلا تعارض في حسهم بين هذا وذاك.
وذلك أن الدين الصحيح –وقد رد كل شيء بحق إلى مشيئة الله وقدره([83])-نبه البشر إلى أن هناك سنناً كونية تعمل إرادة الله من خلالها في الكون المادي، كما أن هناك سنناً أخرى تعمل تلك الإرادة من خلالها في الحياة البشرية، ودعاهم إلى التعرف على هذه وتلك، الأولى ليقوموا بتعمير الأرض – وهو جزء من مهمة ((الخلافة)) التي خلق الإنسان من أجلها – والأخرى لتكون هذه الخلافة راشدة حين يتم تعمير الأرض بمقتضى المنهج الرباني .(5/39)
لقد ظل القرآن يلفت نظر الناس إلى آيات الله في الكون وانتظامها ورتابتها ودقتها وانضباطها: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً. ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً. ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً) (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم. أفلا يشكرون. سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها. ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وفهم المسلمون من هذه التوجيهات المتكررة أن الله يدعوهم إلى التأمل في هذا الكون من حولهم، ليتعرفوا على قدرة الله القادرة التي لا يعجزها شيء، وليتعرفوا كذلك على السنن الربانية التي أودعها في هذا الكون، والطاقات التي سخرها لهم فيه ليقوموا بعمارة الأرض، ويبتغوا من فضل الله : (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً) (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور) ومن ثم انطلقوا ((يدرسون)) هذا الكون ويتعرفون على أسراه.. فتقدم العلم على أيديهم تقدماً ضخماً، في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم النظرية والتجريبية.. واكتشفوا – من بين ما اكتشفوا – أن هناك سبباً لكل شيء يحدث في الكون المادي، من نور وظلام، وكسوف وخسوف، ورياح ومطر، وجدب وخصب وزيادة ونقص.. الخ .. الخ .
ولكن اكتشاف ((السبب الظاهر)) لم يكن فتنة لهم كما كان بالنسبة لنيوتن ومن بعده من ((العلماء)) ! .(5/40)
فلم يجعلوه بديلاً من السبب الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، ولم يستغنوا به عن الله ، ولم يتصوروا أن له حتمية تقيد مشيئة الله الطليقة بحيث يعجز سبحانه عن التصرف في الكون بما يشاء، كما توهم نيوتن ومن بعده.
إنما عرفوا أن هذا ((السبب الظاهر)) هو ((السنة الجارية)) التي تجري شئون الكون المادي من خلالها، ومن ثم فهي ليست بديلاً من الله سبحانه وتعالى، وهي جزء من مشيئته، ولا تعارض بين تفسير أي أمر من أمور هذا الكون بسببه الظاهر وتفسيره بأنه راجع إلى مشيئة الله، ما دام السبب الظاهر أو ((السنة الجارية)) من مشيئة الله، ومن ثم فلا تعارض بين ما سموه ((الطبيعة)) وما سموه ((ما وراء الطبيعة)) بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوربا، نتيجة أن ما وراء الطبيعة في ظل السيطرة الكنسية والحجر على العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون، وأن اكتشاف ((السبب الظاهر)) جاء في جو من العداء للدين والكنيسة، فوضع – من ثم – مناهضاً ومعادياً لما وراء الطبيعة، بالإضافة إلى أن القوم هناك ظلوا – في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة على الطريقة الكنسية – في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون، وكما لم تكن معرفة المسلمين المبكرة بالأسباب الظاهرة وثبوت السنة الجارية مانعاً لهم من الإيمان بالمعجزات التي جاءت في الكتب المنزلة، كذلك لم يكن إيمانهم بالمعجزات داعياً إلى الخرافة، ولا الاعتقاد بأن الكون فوضى لا يضبطه ضابط ولا يربطه نظام. و((العلم)) الذي أخرجوه هو البرهان على ذلك . فقد كان هذا العلم من الدقة والانضباط –بحسب المتاح في وقته من الأدوات- لدرجة شهد لها كل منصف في التاريخ . ولكه شاهد بأن المسلمين كانوا يتعاملون مع هذا الكون على أساس أن هناك نظاماً دقيقاً يربطه.(5/41)
نظاماً من ((الأسباب)) و ((النتائج)) معجز بدقته، رائع بانضباطه: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور) ؟ .
إنما كانوا على ((التوازن)) الذي علمهم إياه الإسلام.. أما ((عقلانية)) النهضة وما بعدها فقد خرجت على الناس بأمور، غير معقولة ((على الإطلاق.. من نفي لوجود الله تارة، ومن إثبات له تارة أخرى مع نفي قدرته على التصرف، ومن جعل السبب الظاهر بديلاً من السبب الحقيقي، ومن جعل ثبوت الأسباب الظاهرة حتميات ([84]) تفرض نفسها على مشيئة الله !.
ودار الزمن دورة أخرى فانتقلت أوربا – فيما يقال – من سيادة العقل إلى سيادة الطبيعة، حين كشف العلم مزيداً من أسرار الكون واقتنع ((المفكرون)) أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو ((الطبيعة)) لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار. فليس مصدر المعرفة إذاً هو الوحي الرباني –وقد نبذوه وراءهم ظهرياً سواء منه ما كان حقيقياً بلا تحريف، وما اخترعته الكنيسة من عندها، وقالت إنه من وحي الله – ولا هو العقل ، الذي لا ينشئ – ولا ينبغي له أن ينشئ – شيئاً من عنده، إنما هو الطبيعة: هو عالم الحس.. هو الحقيقة الموضوعية..
يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة : ((ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة – في نظرها – هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة. هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان –لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة، أي لا يملى عليه مما وراءها، كما يملى عليه من ذاته الخاصة، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست (هي) حقيقة أيضاً! .(5/42)
وبناء على ذلك يكون ((الدين)) – وهو وحي (أي ما بعد الطبيعة)- خداعاً ! وهو وحي ذلك الموجود الذي لا يحده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة . هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية.. وكذلك (المثالية العقلية)) وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي . إذ هي تصورات الإنسان من (عند) نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله.
إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة – أي ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية . إنه مخلوق، ولكن خالقه الوجود الحسي)) ([85]) .
ولقد يفهم من هذا لأول وهلة أن العقلانية التي تتبعنا أطوارها في عصر النهضة وما بعدها قد انتهت وحل محلها طور جديد لا يمت لها بصلة.. ولكن هذا غير الواقع.
لقد تغير الإله المعبود عندهم بالفعل فلم يعد هو العقل، وإنما صار هو الطبيعة التي قال عنها دارون ((الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق)).
ولكن الإله الجديد لم يقتل الإله الأول، ولم يخرجه من الساحة ليحل محله. إنما قيده فقط بقيوده وأخضعه لشروطه، وإنما كان قد شد على يديه في حرارة مؤيداً ومؤازراً في نقطة واحدة معينة هي نفي الإله الحقيقي – سبحانه وتعالى – وإخراجه نهائياً من الساحة (نستغفر الله) ، وإن اختلفت زوايا الرصد واختلف ((المنطق)) المستخدم فالإله الأول –العقل- ينبذه بحجة أنه ((غير معقول))!! والإله الثاني –الطبيعة- ينبذه لأنه لا يدرك بالحس ولا يخضع للتجربة في المعمل!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً..(5/43)
إن المنهج التجريبي الذي تعلمته أوربا من المسلمين لم يؤت ثماره الظاهرة في ميدان العلم إلا في القرن التاسع عشر على وجه التقريب، ولكنه تحول عندهم إلى فتنة طاغية.. لأن أوربا أخذته دون أن تأخذ القاعدة الإيمانية التي كان يقوم عليها عند المسلمين ، وهي قاعدته الأصلية . فكأنه نبات انتزع من بيئته انتزاعاً وغرس في بيئة أخرى لا تناسب الأولى، ولا تشبهها في مكوناتها ومقوماتها، فطال وارتفع ، ولكنه أثمر ثماراً شيطانية غير الثمار الطيبة التي كان يؤتيها من قبل.
ولم يشعر المسلمون أن تفكرهم في آيات الله في الكون من أجل إخلاص العبادة له، مانع لهم من البحث عن السنن الكونية الربانية من أجل عمارة الأرض، ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله. لأنه لا تعارض في الحقيقة . والله يقول لهم: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) .
ولا نستطيع أن نختم الحديث عن عقلانية الجاهلية ، والعقلانية المعاصرة بصفة خاصة، قبل أن نشير إلى قولة عجيبة وردت في كتاب من كتب سارتر، الكاتب الوجودي المعروف، ذات صلة بالموضوع ودلالة لا تحتاج إلى تعليق! وسارتر يهودي وإن كان كثير من الناس لا يعلمون ذلك! يقول في كتاب (تأملات في المشكلة اليهودية: إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى، هي عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني، ويقول إن التهم كلها صحيحة ! ثم يروح يقدم لكل منها ما يقدر عليه من المعاذير.
قال عن عبادة الذهب إن اليهود مضطهدون في كل الأرض وكل التاريخ، وإنهم لابد أن يسعوا إلى امتلاك القوة ليقاوموا هذا الاضطهاد. والوسيلة التي لجئوا إليها هي السعي إلى امتلاك الذهب وتجميعه ليكون لهم عدة وقوة ! .(5/44)
وقال عن تعرية الجسم البشري إن اليهود متهمون بقبح أجسامهم وعدم استقامتها؟ فأرادوا أن يثبتوا للبشرية أن القبح كامن في الجسم البشري ذاته لا في أجسام اليهود وحدهم ! فعملوا على تعرية الجسم البشري ليستيقن البشر من هذه الحقيقة ! (أرأيت إلى مدى السخف والتهافت.. ؟!) .
أما نشر العقلانية المضادة للإلهام الديني (كما ورد في الترجمة الإنجليزية) فقد كشف فيه الغطاء دون مواربة ! قال : إنه طالما كان البشر يؤمنون بالدين، فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض ، وتعامل البشر بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي، ويومئذ لن يتميز اليهود بكونهم يهوداً، ولن يقع عليهم التمييز المجحف، وسيعيشون في سلام مع غير اليهود)) (أي بعد أن يغطوا حقيقتهم ويندسوا في وسط البشرية مبهمين بين الجموع!!) .
ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية على الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال (وهي نشر الفساد في صفوف الأميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلى سلب أموالهم ، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير) . فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق([86]). ) ([87])
انتهى كلام الأستاذ محمد قطب حفظه الله، وهو كلام – بطوله – نفيس بيّن لنا فيه مراحل تطور العقلانية عند الغربيين إلى أن وصل بهم الحال إلى إقامته –أي العقل- مقام الإله فهو المرجع وإليه المآب.
_______________________
([20]) استفدت كثيراً مما جاء في هذا المبحث من مقدمة الدكتور: موسى الدويش لكتاب شيخ الإسلام (بغية المرتاد) مع ما تيسر من إضافات.
([21]) رسالة في حدود الأشياء للكندي ، تحقيق يوحنا مخيمر ص 33 دار المشرق بيروت .
([22]) انظر المعجم الفلسفي د- جميل صليبا 2/86 .
([23]) تاريخ الفلسفة العربية: د- جميل صليبا 255 .(5/45)
([24]) المعجم الفلسفي د- جميل صليبا ص 86، شروح على أرسطو ص 31 وما بعدها تحقيق د- عبدالرحمن بدوي.
([25]) أرسطو المعلم الأول ، لماجد فخري 73-74 ط الثانية 1977م الأهلية للنشر والتوزيع بيروت .
([26]) تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم ص 213 .
([27]) انظر كتاب الوجد الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة – ص 163 لسانتلانا .
([28]) المصدر نفسه 164 .
([29]) الوجود الإلهي ، سانتلانا 121-122 .
([30]) انظر النجاة لابن سينا 454؛ وانظر أيضاً من أفلاطون إلى ابن سينا مجموعة محاضرات للدكتور جميل صليبا ص88-89 .
([31]) مقدمة ابن خلدون ص 516 .
([32]) تهافت الفلاسفة للغزالي ص 29، وانتقدها من العلماء أيضاً ابن رشد في كتابه التهافت، وفخر الدين الرازي في كتابيه ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) ، و((الأربعين في أصول الدين)) والشهرستاني في كتابه ((نهاية الاقدام في علم الكلام)) وأبي البركات البغدادي في كتابه ((المعتبر في الحكمة)) وانتقدها من المحدثين: البيرنصري نادر ، في مقدمته لتحقيق كتاب الفارابي : آراء أهل المدينة الفاضلة، وسليمان دنيا في مقدمته للجزء الأول من الإشارات لابن سينا، وحمودة غرابة في كتابه ((ابن سينا بين الدين والفلسفة)) وغيرهم، انظر كتاب دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ص 149-156 للدكتور حسام الألوسي وقد استوفى غالب الأقوال التي انتقدت تلك النظرية .
([33]) درء التعارض (10/302) .
([34]) بغية المرتاد (المقدمة 58) .
([35]) أحد فلاسفة اليهود وهو من الاسكندرية عاش فيما بين سنة 20 قبل الميلاد وتوفي سنة 50م فهو من معاصري المسيح عليه السلام، افتتن بالفلسفة اليونانية وجعل هدفه في الحياة هو التوفيق بين الكتاب المقدس وعادات اليهود من جهة والآراء اليونانية وبخاصة فلسفة أفلاطون من جهة أخرى. انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 247، قصة الحضارة 11/103 ول ديورانت .(5/46)
([36]) انظر الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 250-251؛ تاريخ الفلسفة العربية 1/106-107- حنا الفاخوري، د- خليل الجر؛ تاريخ الفلسفة العربية ص 456 د- جميل صليبا .
([37]) هو كليمنتس الاسكندري عاش فيما بين سنة 150-207م ولد في الاسكندرية وقيل في أثينا،وجال في شبابه أنحاء فلسطين وسوريا واليونان وإيطاليا يتفرج على البلاد ويدرس على مشاهير المعلمين فعرف الأسرار الوثنية، والمذاهب وانتهى بتفضيل الأفلاطونية ولكنه لم يتحقق له فيها شيء من أمانيه الروحية فاعتنق المسيحية، رحل في آخر حياته إلى آسيا الصغرى هرباً من الاضطهاد وهناك توفي. انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص269 ليوسف كرم .
([38]) انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 270-271 يوسف كرم، تاريخ الفلسفة العربية 1/104-105 حنا الفاخوري، وخليل الجر.
([39]) هو تلميذ كليمنتس عاش فيما بين 185-254م وهو أول مسيحي حاول أن يرسم الحدود بين العقل والوحي. كانت أسرته وثنية ثم تنصرت ، درس في المدرسة الوثنية على يد أمونيوس ما كاس أحد مؤسسي الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، توفي في مدينة صور. انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 274-275 يوسف كرم.
([40]) انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 275، تاريخ الفلسفة العربية ص 456 د- جميل صليبا.
([41]) مقدمة الدكتور موسى الدويش لكتاب ((بغية المرتاد)) (62/65).
([42]) هو يعقوب بن إسحاق الكندي أبو يوسف فيلسوف، طبيب، رياضي، منطقي نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد وصار من جلساء المأمون والمعتصم، ولما جاء المتوكل ضربه وأبعده لكونه من المعتزلة، توفي ببغداد سنة 252هـ من تصانيفه كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات، رسالة في الحساب الهندي، الطب البقراطي وأسرار تقدمه وغيرها، انظر: الفهرست لابن النديم ص255، لسان الميزان 6/205؛ رسائل الكندي الفلسفية ص1-7 تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريده ؛ معجم المؤلفين 13/244.
([43]) رسائل الكندي الفلسفية ص 97.(5/47)
([44]) رسائل الكندي الفلسفية ص 244، والنص المذكور جزء من رسالة بعث بها الكندي إلى تلميذه أحمد بن المعتصم في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى وطاعته لله عز وجل، وقد طلب منه أحمد بن المعتصم شرح الآية (والنجم والشجر يسجدان) فأوضح الكندي معنى السجود وشرحه شرحاً فلسفياً بعيداً عن المعنى الصحيح الذي ذكره أهل التفسير.
([45]) انظر تاريخ الفلسفة العربية د- جميل صليبا ص 129-130.
([46]) انظر الكلام عن جماعة إخوان الصفا ص180، من بغية المرتاد.
([47]) انظر: رسائل إخوان الصفا 1/6 دار صادر بيروت .
([48]) رسائل إخوان الصفا 4/129.
([49]) رسائل إخوان الصفا 1/138.
([50]) هو أفلاديوس بطليموس نشأ في القرن الثاني للميلاد، ألف كتاب ((المجسطي)) بكسر الميم والجيم وتخفيف الياء، وهو أول كتاب دون فيه علم الفلك، نقل هذا الكتاب إلى العربية –انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 243 يوسف كرم؛ إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي ص 63.
([51]) عن هرمس انظر ص 413-414. من بغية المرتاد.
([52]) أي أرسطو.
([53]) فيثاغورس ولد في ساموس، وعاش بين سنة 572-497 قبل الميلاد وهو فيلسوف يوناني ذاع صيته لمعلوماته العلمية والرياضية، حيث كان رياضياً بارعاً ولقد برهن على أن قوة الأصوات تابعة لطول الموجات الصوتية، انظر : الوجود الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة لسانتلانا ص28، تاريخ الفلسفة اليونانية يوسف كرم ص20-21، إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص170.
([54]) ديوجانس فيلسوف يوناني عاش فيما بين 413-327 قبل الميلاد وهو من أنصار المدرسة الكلبية، يرى أن الرياضة البدنية والنفسية وسيلة الخلاص وسبب الفلاح من رق الأهواء، وكان يحتقر العرف ويرى أن الفرد غير مربوط بجماعة على عكس أفلاطون وأرسطو اللذين كانا يجعلان المدينة شرط الفضيلة، أنظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 212-213.
([55]) بغية المرتاد (المقدمة 66-69) .
([56]) الصفدية (1/237) .(5/48)
([57]) خصائص التصور الإسلامي (12) .
([58]) بغية المرتاد (المقدمة 78) .
([59]) قال ابن تيمية ((ليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا : ابن سينا من فلاسفة الإسلام . فقال : ليس في الإسلام فلاسفة )) (الرد على المنطقيين 199) .
... قلت : وأنا أطلق عليهم فلاسفتنا أحياناً مجاراة للمشهور لا مدحةً لهم .
([60]) الصفدية (1/238) .
([61]) بغية المرتاد (171) .
([62]) تاريخ بغداد (8/360) .
([63]) السلسلة الضعيفة (1/13) وانظر الصفدية (1/238) .
([64]) الموضوعات (1/176) .
([65]) ذم الهوى (7) تحقيق مصطفى عبد الواحد. الطبعة الأولى 1380هـ- تنزيه الشريعة (1/215) .
([66]) المجروحين (3/40) – الموضوعات (1/172)- تنزيه الشريعة (1/214)- الفوائد المجموعة (475).
([67]) بغية المرتاد (217-243-251-274) .
([68]) الصفدية (1/239) .
([69]) الصفدية (1/239) .
([70]) العدة (1/87) .
([71]) العقل وفهم القرآن – تحقيق حسين القوتلي (ص 127)
([72]) الإسلام والعقل ، لصلاح المنجد (ص 41) .
([73]) العقل وفهم القرآن (ص 125 وما بعدها) .
([74]) العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام ، للشيخ الدكتور عبد الرحمن الزنيدي (ص 54) رسالة ماجستير بجامعة الإمام ، والنقولات السابقة منه – حفظه الله - .
([75]) ص 279 من الطبعة الثامنة .
([76]) رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (نووي 1/157) .
([77]) وهو بالنسبة للنصارى المسيح عيسى ابن مريم .
([78]) ما عدا الإقطاعيين بطبيعة الحال! ومع ذلك فقد كانت الكنيسة تساندهم – بكل جشعهم وظلمهم- لأنها هي ذاتها كانت قد أصبحت من ذوات الإقطاع .
([79]) حضارة الإسلام ، جرونيباوم، ص 81-82 من الترجمة العربية .
([80]) عن كتاب ((تجديد الفكر الديني)) تأليف محمد إقبال ، ترجمة عباس محمود، ص 250 من الترجمة العربية.
([81]) المصدر السابق ، ص 149.(5/49)
([82]) وفسر بذلك أننا نرى الشمس قبل ظهورها الحقيقي بدقائق، ونظل نراها بعد غروبها بدقائق! وفي القرن العشرين اكتشف أنشتين أن الضوء في الكون الواسع لا يتخذ مساراً مستقيماً بل ينحني حول الأجرام السماوية بفعل الجاذبية.
([83]) يقول تعالى : (إنا كل شيء خلقناه بقدر) سورة القمر: 49.
([84]) ثاب العلم أخيراً إلى أنه لا توجد ((حتميات)) فيما سموه ((قوانين الطبيعة)) إنما هي ((احتمالات)).
([85]) 298-299 من كتاب ((الفكر الإسلامي الحديث)).
([86]) مما يلفت النظر في هذا الكتاب أيضاً قول سارتر إن تقسيم فلسطين إلى دولة عربية يهودية لن يحل المشكلة اليهودية . إنما الحل هو نشر الشيوعية العالمية . وهو أيضاً قول لا يحتاج إلى تعليق.
([87]) مذاهب معاصرة (500-531) بتصرف .(5/50)
العقل عند المعتزلة والمدرسة العقلية الحديثة
أما عند أصحابنا من علماء الكلام (وأعني بهم المعتزلة خاصة) فكيف تطورت أحوالهم حتى ضاهوا الشرع بعقولهم وجعلوه حاكماً على النصوص لا محكوماً لها؟
فأقول : ((لما ظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقاً وأحزاباً لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم فإنهم فقدوا نور النبوة ورجعوا إلى مجرد العقول فكانوا كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه أنه قال : ((إني خلقت عبادي حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) ([1]).(6/1)
فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر أو الحيرة والشك أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجاً منيراً وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكوراً فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه فكانوا كما قال الله تعالى : (الله ولي الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) وقال: (آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) وقال : (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلنه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) وقال: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم وأن لا يخرجوا عن طريقتهم)) ([2]) .
فكان من شأن الصحابة أنهم لم يقدموا عقولهم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بل كان دليل أحدهم إذا استدل إنما هو آية من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لما سمع بمقالة ابن عباس رضي الله عنهما الأولى في الربا – قبل أن يرجع عنها – وهي حديث (إنما الربا في النسيئة) قال أبو سعيد له ((أرأيت هذا الذي تقول شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله عز وجل ؟)) .(6/2)
فهاتان هما الحجتان الملزمتان للناس عند الصحابة: كتاب من الله أو سنة من رسوله - صلى الله عليه وسلم - مصداقاً لقوله تعالى : (يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وكان أحدهم رضي الله عنهم يغضب إذا عورض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول غيره من البشر ولو كان من حكماء اليونان! فقد جاء في صحيح مسلم أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر لأصحابه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) فقال أحدهم وهو بشير بن كعب ((أنه مكتوب في الحكمة أن منه وقاراً ومنه سكينة)) فقال عمران ((أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن صحفك))! وفي رواية: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال ((ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه)) قال فأعاد عمران الحديث. قال فأعاد بشير. فغضب عمران قال فمازلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به)) ([3]) قال النووي ((وقولهم إنه منا لا بأس به معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة)) .(6/3)
إذن فالصحابة لم يعارضوا ولم يرضوا بمعارضة حديث رسول - صلى الله عليه وسلم - بغيره من المعقولات، وإذا أشكل عليهم شيء من ذلك كانوا ((يوردون إشكالاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص البتة، ولا عرف فيهم أحد –وهم أكمل الأمم عقولاً – عارض نصاً بعقله يوماً من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار، كما تقدم، وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نوقش الحساب عذب))، فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: (فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً). فقال: ((بلى ولكن ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب)) ([4])، فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها صلوات الله وسلامه عليه أنه لا تعارض بينهما وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لابد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله، كما قال تعالى: (يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية). حتى إذا ظن أنه لن ينجو نجاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته فإذا ناقشه الحساب عذبه ولابد.
ولما قال : - صلى الله عليه وسلم - ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)) قالت له حفصة: أليس الله يقول : (وإن منكم إلا واردها) قال : ((ألم تسمعي قوله تعالى (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) )) فأشكل عليها الجمع بين النصين وظنت الورود دخولها كما يقال ورد المدينة إذا دخلها فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين فإن المتقين يردونها وروداً ينجون به من عذابها والظالمين يردونها وروداً يصيرون جثياً فيها به.(6/4)
فليس الورود كالورود)) ([5]) إلى غير ذلك من مراجعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج ، والقدرية والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأئمة، ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية ، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يَدَّع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها، دون من قبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرءوا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير، ولا يرون السلام عليهم ولا مجالستهم، وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة، وهو أكثر من أن يذكر هاهنا، فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ولهذا كان مروان يسمى مروان الجعدي وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة، فلما اشتهر أمره في المسلمين ، طلبه خالد بن عبد الله القسري، وكان أميراً على العراق، حتى ظفر به، فخطب الناس في يوم الأضحى ، وكان آخر ما قال في خطبته: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً ، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، ... ...(6/5)
ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليماً وتجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً إلى أن جاء أول
المائة الثالثة ، وولي على الناس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامراً بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حب المعقولات ، فأمر بتعريب كتب يونان ، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فعربت له، واشتغل بها الناس ، والملك سوق ما سوق فيه جلب إليه ، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ممن كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها، واستحسنها، ودعا الناس إليها، وعاقبهم عليها))([6]). ومنذ ذلك الحين تميزت فرقة أهل الاعتزال بمغالاتها في العقل ومقاييسه وتقديمه على ما يظن مخالفاً له من النصوص الشرعية وعرفت بذلك بين فرق الإسلام المختلفة . والذي دعاهم إلى هذا الالتفاف حول العقل في ظني أمور كثيرة –والعلم عند الله تعالى- منها :(6/6)
أولاً: أخذهم من تراث الأولين من فلاسفة اليونان ممّن لم ينعموا بمصاحبة وحي إلهي يقود مسيرتهم فصاروا يقضون في شؤونهم كلها بهذا العقل الذي زادوا من سلطانه وانفراده فكانت مصنفات أولئك الفلاسفة تضم المقاييس العقلية في شكل منطق يتحاكم إليه في القضايا العقلية. فتابعهم في ذلك المتكلمون والمعتزلة من أهل الإسلام وأعجبوا بصنيعهم ذلك. وكل هذا بفضل جهود الترجمة التي قام بها بعض الخلفاء فأوقعوا الأمة في هذه المصائب المتتالية من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعاً بها. ويشهد لذلك: أن المعتزلة لم يعلُ صيتهم وتظهر عقلانيتهم واضحة إلا في عهد الخليفة المأمون الذي مهّد السبيل للاقتباس من كتب اليونان وأعانهم عليها ([7]). حتى أحدثت الفلسفة – كما يقول زهدي حسين – ((في حياتهم انقلاباً خطيراً وفي تفكيرهم ثورة عنيفة لأنهم بعد أن وقفوا على مواضيعها وتعمقوا فيها أحبوها لذاتها وتعلقوا بها فنتج عن ذلك أمران:
أنهم صاروا يعظمون الفلاسفة اليونان وينظرون إليهم نظرة أسمى وأقدس من نظرتنا إليهم اليوم ويضعونهم في مرتبة تقرب من عتبة النبوة. ثم آمنوا بأقوالهم واعتبروها كما يقول أوليري مكملة لتعاليم دينهم. وانهمكوا لذلك في إظهار الاتفاق الجوهري بينها فبدأ عمل المعتزلة الآخر المهم ألا وهو التوفيق بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة اليونانية.. ذلك العمل الذي تركوه لمن خلفهم من الفلاسفة المسلمين كابن رشد والفارابي والكندي الذين قاموا بنصيبهم فيه وكانوا لا يقلون عنهم عناية به وتحمساً له.(6/7)
أن المعتزلة أخذوا يبتعدون عن أهدافهم الدينية ويهملون تدريجياً عقائدهم اللاهوتية ويزدادون انصرافاً إلى المسائل الفلسفية حتى جاء وقت كادت جهودهم فيه تقتصر على البحث في مواضيع الفلسفة البحتة كالحركة والسكون والجوهر والعرض والموجود والمعدوم والجزء الذي لا يتجزأ ... إن اشتغال المعتزلة بالتوفيق بين الدين والفلسفة وشغفهم بالأبحاث الفلسفية وتعمقهم فيها جعلهم يتأثرون بالفلسفة كثيراً ويصبغون بها معظم أقوالهم. ولهذا قال شتينز: إن الاعتزال في تطوراته الأخيرة كان أكثره متأثراً بالفلسفة اليونانية)) ([8]). فإن قيل بأنهم قد سبقوا هذه الترجمة . فنقول إن ترجمة تراث الأقدمين ليست مقصورة على الخليفة المأمون ولكنه هو الذي تولى كِبْرها. فقد بدأت الترجمة كما يُذكر في عهد الخليفة المنصور الذي أوعز إلى ابن المقفع بترجمة بعض كتب المنطق ككتاب (المقولات) ((وبعد مضي عصر المنصور أتى عصر المهدي وانتهى ومر عصر الهادي بعد عصر المهدي دون أن تُؤثر عنهما أو عن واحد من الأشخاص البارزة في وقتهما شيء يتعلق بالترجمة في عمومها فضلاً عن ترجمة الفلسفة بمعناها الخاص))([9]). أما الرشيد فقد أمر بإعادة ترجمة الكتب التي سبقت ترجمتها في العهود التي قبله أكثر من تشجيعه على ترجمة كتب جديدة . ثم جاء عصر المأمون وهو العصر الذهبي للترجمة كما يقال.
قال ابن صاعد في طبقات الأمم ((لما أفضت الخلافة إلى المأمون تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم من مواطنه واستخراجه من معادنه بفضل همته الشريفة! وقوة نفسه الفاضلة! فداخل ملوك الروم وأتحفهم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط ... وغيرهم من الفلاسفة فاختار لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما يمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها)) ([10]).(6/8)
قلت : والذي دعاه إلى هذه الهمة في الترجمة تشربه بمبدأ الاعتزال القائم على العقل ومقاييسه واستصغاره لنصوص الوحي – لا سيما الحديث – أن تفي بحاجات الأمة . إضافة إلى جلساء السوء من رموز الاعتزال وما يُذكر عنه من حبه للاطلاع والاستزادة من ثقافات الآخرين .
وأما اقتباس المعتزلة من تراث الديانة اليهودية والمسيحية فليس هذا مكانه لأن الحديث عن العقل والعقلانية التي تميزت بها الثقافة اليونانية دون غيرها فلهذا قصرت القول على كيفية استفادتهم منها .
ثانياً: ومما جعلهم ينحون هذا الاتجاه العقلاني هو ضعفهم في مجال الرواية وجهلهم لعلم الحديث النبوي واقتصارهم على آيات القرآن وبعض الأحاديث التي رأوا أنها تؤيد أقوالهم. فهذا الضعف في علم الحديث قد ألجأهم إلى المعقولات ليعوضوا بها ما عندهم من نقص ويسدوا به ثغرات مذهبهم. وهذا مصداق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ((إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم فلم يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا علم لنا فعارضوا السنة برأيهم إياك وإياهم)) ([11]) .
ومما صد كثيراً منهم عن طلب الحديث والسعي وراء حلقاته ما رأوه من كثرة الوضع وانتشار الأحاديث الضعيفة بين رواة الحديث واختلاطها بالصحيح منه وكان من تلك الأحاديث ما يعارض المعقول فظنوا لجهلهم أن لا ضابط يفرق بين الصحيح والسقيم منها. وإن زعم ذلك أهل الحديث . فرأوا أن الرأي الصائب أن يدعوا صحيحها وسقيمها وأن يقتصروا على ما يوافق بدعهم وآراءهم منها . ولا يخفى على دارس أن الأحاديث قد دُسَّ في جملتها –لأغراض شتى- الموضوعات والمكذوبات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى راجت على بعض العلماء فاحتجوا بها لا في الفقه وحده بل في أمور العقيدة . خاصة مسائل الصفات ولذا أنكر بعض المحققين كابن قدامة تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة وروايتها ضمن عقائد السلف .(6/9)
قال ابن قدامة (ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها. وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلةٍ فيها فلا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها. وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عامياً ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل : آمنت بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يثبت بها شيئاً، فإن كان هذا مما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد آمن به وإن لم يكن منه فما آمن به )) ([12]) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية منكراً على أبي يعلى روايته لبعض تلك الأحاديث الضعيفة في الصفات ((والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتاً عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج)) ([13]) .
لكن لا يعني رواج تلك الأحاديث على قلة من العلماء –غير المحدّثين- اجتهدوا في إدخالها ضمن عقائد السلف أن ندع الحديث جملة ونفر منه إلى غيره. فهل هذا إلا تولية للأدبار عن الدين كله؟ بل كان الأولى بهؤلاء أن يجتهدوا في معرفة الأحاديث الصحيحة التي لا تعارض المعقول أبداً ويميزوا بينها وبين ضعيف الحديث كما فعل جهابذة الحديث ونقاده الذي اصطفاهم الله لذلك.(6/10)
واعلم أن هذا الاختلاط في الأحاديث كان لِحكَم لا يحصيها إلا الله سبحانه: منها أن يظل كلامه تعالى متميزاً عن غيره من كلام البشر ولو كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها أن تكون فتنة للجهلة وأصحاب القلوب المريضة وامتحاناً يميز الله فيه الخبيث من الطيب، ومنها أن تظهر براعة علماء الحديث. ومنها أن يأجرهم الله تعالى على صبرهم واجتهادهم في تمييز الأحاديث، ومنها أن يتنافس العلماء في الصالحات، ومنها أن تكثر العلوم الإسلامية وتتنوع وينتشر لأجل ذلك طلب العلم والسعي فيه، ومنها أن يظهر فضل هذه الأمة في حفظ دين نبيها وأقواله والحرص على جمعها وتهذيبها بخلاف غيرها من الأمم ممن حرف وبدل، ومنها أن يغتاظ الشيطان وحزبه إذا رأوا هذا الجد من الأمة في حفظ سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، وحكم أخرى غيرها .
ثم اعلم أنه برغم هذا الاختلاط الظاهر في الأحاديث فإن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تظل محفوظة من قبل الله لا يشك مسلم في ذلك لأنه تعالى تكفل بحفظها في قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقوله : (وأنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس ما نزل إليهم من ربهم) وقوله: (أطيعوا الرسول) فإذا اعتُقِد أن بعضاً من تلك الأحاديث قد فقدت أو اختلطت بغيرها حتى لم تعد تعرف فكيف يطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر به تعالى؟ وكيف يُرَدُّ إلى حُكمه عند الاختلاف؟ فهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق؟ وهل هذا إلا إيذانٌ بعدم كمال الدين واستمراره إلى يوم القيامة؟(6/11)
وأيضاً فهذه الأحاديث ((ما اختلطت إلا على الجاهلين بها فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير فيميزون زيوفها ويأخذون جيادها ولئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث ورتوت([14]) العلماء حتى إنهم عدو أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في كم حديث غلط وفي كم حرف حرّف وماذا صحف؟ فإذا لم يرج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث))([15]).
ثالثاً: مما صرفهم عن المأثورات إلى تلك المعقولات هو حب التمايز على الآخرين وشهوة الانفراد بشيء غير معروف عند عامة الناس ليذكروا به ولا يكونوا كغيرهم من جملة أهل الحديث. وهذا السبب لم يزل في الناس قديماً وحديثاً فلو تدبرت حال كثير من أهل البدع لوجدت النشأة الأولى لهم هذه الشهوة الخفية.(6/12)
قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني واصفاً حال هؤلاء العقلانيين ((إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسوّل لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر السنّة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعدّ واحداً من الجمهور والكافة، فحرّكهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنّة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء ، ويتميزوا في الرتبة عمّن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة ، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا في حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسننه المأثورة عنه، وردّوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنّة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء ، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )) ([16]) .
هذه الأسباب الثلاثة: تأثرهم بالعلم الوافد وضعفهم في علم الحديث وشهوة التفاضل على الغير . هي في نظري أهم الأسباب التي أدارت وجوه القوم إلى العقل والعقلانية وألجأتهم إليها .(6/13)
إذن ... هذا هو حال العقلانيين الأوائل في هذه الأمة . فرقة سادت قليلاً ثم بادت. قال الدكتور مصطفى الشكعة ((أما المعتزلة فقد اندثر حزبهم كمذهب قائم بذاته فلم نعد في عصرنا الحديث نسمع عن الواصلية أو الهذيلية أو النظامية أو الجاحظية أو البشرية أوا لجبائية إلى غير ذلك من المدارس الاعتزالية الفرعية. وإنما ذاب المذهب في تعاليم الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية بحيث أخذ المذهبان أطيب ما عند المعتزلة من أفكار! واطرحا ما قد توسط فيه علماء الاعتزال من تطرف واندفاع)) ([17]).
قلت: ولكن بقيت من أصولها الفكرية الأصل الذي يغالي في دور العقل في أمور الشريعة وأصبح مناراً يهدي العقلانيين إلى سبيل الرشاد! ويدفعهم عن طريق الفساد !.
ثم جاء بعد المعتزلة آحاد الفلاسفة الإسلاميين المفترقين مكاناً وزماناً فزادوا في الميل إلى تلك المعقولات فكانت هي رأس مالهم . ولقد كانوا كما قال أحمد أمين ((فلاسفة أولاً ودينيين آخراً . لا ينظرون إلى الدين إلا عند ما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجدوا للتوفيق بينهما)) ([18]). فلذا لم يؤثروا في حياة المسلمين كتأثير المعتزلة الذي خلطوا الدين بالكلام وموًّهواً على المسلمين بنصرة دينهم . وإنما اندثرت أفكارهم النظرية بموتهم فلم تبن مجتمعاً ولم تُقم على سلطة ولكنهم تلازموا وإياهم في تعظيم (العقل) لأنه كما قلت بضاعتهم الوحيدة، فهذا الرازي يتحدث كثيراً عن العقل في كتبه. ويأتي بعده ابن سيناء فيغلو في العقل إلى أن أطلقه على الله تبارك وتعالى. وأقربهم مودة إلى العقلانيين فيلسوف المغرب ابن رشد.(6/14)
إذن بعد موت المعتزلة لم تقم فرقة واحدة تدعو إلى إعلاء العقل على حساب غيره وإنما لم تخل الأمة من أفراد يرفعون أصواتهم بين الحين والآخر مطالبين بتلك الفكرة لأسباب متنوعة. ويحضرني منهم فيلسوف المعرة – كما يُسَمّى- الشاعر أبا العلاء المعري . وهو من ملاحدة الشعراء في كثرة اعتراضه على الشرع بل على الديانات كلها . وتمجيده للعقل والإيمان الإلهي المجرد يقول عنه طه حسين ((لا يؤمن إلا للعقل وحده فخالف بهذا أهل السنة لأنهم يقدسون الشرع على العقل وإن آمنوا به وخالف مذهب المعتزلة لأنهم على تقديسهم للعقل يتخذون الشرع لنظرهم أصلاً ودليلاً يعتزون به ويلجئون إليه)) ([19]). ويقول الدكتور عمر فروخ ((يعتقد المعري أن من اتسع عقله لم يضل هذا إذا كان له عقل! أما إذا لم يكن له عقل فهو يعمل أعماله بالتقاليد أو يساق إليها كالعجماوات . ولم يكتف المعري بأن يحكم العقل في الأمور التي جرت العادة بتحكيمه فيها بل أراد أن يكون العقل والفكر في أكثر الأغراض التي تناولها المعري في لزومياته حتى في العبادات وهو في كل ذلك يزدري شيئين ازدراءً شديداً التقليد والأخبار المروية . ولذلك تراه يتلقى كل خبر مروي أو كل عادة شائعة بميزان العقل)) ([20]).
قلت : وهذا مصدق لما نبهتك عليه سابقاً من أن انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة كان صارفاً لبعض الجهلة في الحديث – كالمعري مثلاً – إلى إعظام دور العقل. فهو يقول ناصحاً للأمة :
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجون غير المهيمن راج
ولا تطفئوا نور المليك فإنه
ممتع كل من حجا بسراج ([21])
ويقف متحيراً أمام بعض الأحاديث الضعيفة التي تخالف العقل فيقول:
جاءت أحاديث إن صحت فإن لها
شأناً ولكن فيها ضعف إسناد
فشاور العقل واترك غيره هدراً
فالعقل خير مشير ضمه النادي([22])
أي لا تتعب نفسك بدراسة علم الحديث ومصطلحه وإنما انبذ ذلك كله وشاور عقلك !.
ويقول :
عليك العقل وافعل ما رآه(6/15)
جميلاً فهو مشتار الشوار([23])
وهو الإمام والقائد للإنسان
كذب الظن لا إمام سوى
العقل مقيماً في صبحه والمساء([24])
ويبلغ الغلو في تمجيد العقل عند هذا الملحد إلى أن ينزله منازل الأنبياء! كما صنع المعتزلة بالنصوص فهو يقول:
أيها الغِر إن خُصصت بعقل
فاسألنه فكل عقل نبي ! ([25])
لم يكن أبو العلاء معتزلياً ... كما ذكر طه حسين، فهو عندما أشاد بالعقل وقدسه قد ذم المعتزلة في شعره كثيراً وأعلن البراءة من مقولاتهم . خاصة قولهم بالقدر فهو يقول:
جنوا كبائر آثام وقد زعموا
أن الصغائر تجني الخلد في النار([26])
وينصح سامعه بأن لا يكون منهم :
لا تعش مجبراً ولا قدرياً
واجتهد في توسطٍ بين بينا([27])
ويخبر عن نفسه أنه بمعزل عنهم :
ارجوا واعتزلوا فإني
عن مقالتكم بمعزل([28])
أي كونوا مرجئة أو معتزلة فلست معكم .
يقول الدكتور عمر فروخ ((قد يعجب أحدنا فيقول إن المعري يهاجم المعتزلة مع أنهم يفضلون العقل على النقل كما يفعل هو . أجل إنه ليس معتزلياً وإن كان يرى رأي المعتزلة في تفضيل العقل على ما روي في الدين من أخبار وإنما هو يهاجم من المعتزلة أولئك الذين يضيعون أوقاتهم وأوقات غيرهم بالجدل العقيم لا الذين يحلون العقل مرتبة سامية)) ([29]) . فهو يلتقي معهم في العقلانية دون أصولهم الأخرى . ودعاه إلى ذلك ما دعاهم – كما سبق – فإن النفوس والأهواء واحدة .
ثم تمضي الأيام وتتعاقب الليالي فيظهر في هذه الأمة عقلاني آخر اشتهر بشعره الفلسفي كالمعري . هو الشاعر العراقي جميل الزهاوي الذي كان أبوه مفتياً لبغداد! ومن نسل خالد بن الوليد! وهذا الشاعر قد اشتهر عند الجمهور إضافة إلى عقلانيته بعداوته الشديدة للحجاب الإسلامي فهو صاحب القصيدة المشهورة .
مزقي يا ابنة العراق الحجابا
واسفري فالحياة تبغي انقلاباً
مزقيه واحرقيه بلا ريث
فقد كان حارساً كذاباً
مزقيه وبعد ذلك أيضاً
مزقيه حتى يكون هباباً(6/16)
وانزعيه بقوة وطئيه
واجعلي في فم الحنيق تراباً
وهي قصيدة طويلة وجريئة يستحق لأجلها على كل بيت من أبياتها أن يستتاب أو يعزر .
هذا في الحجاب([30]) ... . وأما العقل فقد عرف هذا الملحد بمحاكاته لسلفه المعري في التعويل على العقل وتقديمه على النصوص الشرعية. وإليك شيئاً من أشعاره :
على العقل في كل الأمور المعول
ولولاه لم ينحل للمرء مشكل
وما العقل في الإنسان إلا ابن رأيه
تولد فيه آخر وهو أول
وللعقل أنوار بها يهتدي الفتى
وأبهج بأنوار لها العقل يرسل([31])
ويقول :
خضعت لعقلي في حياتي كلها
وما كنت يوماً خاضعاً لعواطفي([32])
وأيضاً :
دع المحال وكلم
بلهجة المستدل
ما كنت أقبل إلا
ما ليس يأباه عقلي([33])
وأيضاً :
قالوا اترك العقل لا تعمل به
حتى يؤيد حكمه المنقول
قلت اترك المنقول لا تعمل به
حتى يؤيد حكمه المعقول([34])
المدرسة العقلية الحديثة :
وفي عصر الزهاوي بدأت تتكامل ملامح مدرسة التجديد الديني التي غرس بذرها جمال الدين الأفغاني وتلاميذه في مصر. وهي المدرسة الوحيدة التي استطاعت مع بعض الاختلافات الطفيفة أن تشكل تياراً عقلانياً كتيار المعتزلة، فهو القاسم المشترك بين أعضائها وإن اختلفت وجهات كل واحد منهم في الأصول الدينية الأخرى.
والحديث عن هذه المدرسة العقلانية الحديثة –أعني مدرسة الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذهما- مما يطول مداه وتكثر كلماته، حيث أن هذه المدرسة بحق قد خرَّجت كثيراً من العقلانيين المعاصرين الذي تتلمذوا على شيوخها مباشرة، أو عن طريق تراثهم، فأصبحوا يشكلون تياراً ضخماً في فترة من الفترات، فكان لهم رجالهم في السياسة وفي المجتمع وفي علوم الشريعة.. وهكذا في خليط عجيب لا يجمعهم سوى الالتقاء على مبادئ هذه العقلانية الجديدة التي زاحمت النصوص الشرعية وردت أو تأولت كثيراً منها بدعوى معارضتها للعقل أو للحضارة المادية المعاصرة.(6/17)
فكان منهم: سعد زغلول وقاسم أمين وعبد العزيز جاويش وأحمد أمين ومحمود شلتوت ... .. الخ .
ثم تبع آثارهم من بعدهم كالغزالي والقرضاوي ومحمد عمارة وحسين أحمد أمين .
ثم من بعدهم كفهمي هويدي ... . وهكذا في سلسلة يطول الحديث عنها. وفي ظني أن هذه المدرسة لم تحظ إلى الآن بدراسة شاملة عن أفكارها وأفرادها المنتمين إليها.. إنما هي أشتات دراسات([35]).
فلعل نابتها يقوم بهذه المهمة المفيدة (لتستبين سبيل) هذه المدرسة الغامضة التي احتفى بها الغرب كثيراً.
بعد هذه المدرسة القريبة العهد بنا، أصبحنا نسمع ونرى بين الحين والآخر رجالاً قد طالتهم أيدي هذا التيار فتمذهبوا بمذهبه في الرفع من شأن العقل والعقلانية على تفاوت في جرعات العقل فيما بينهم. فاسمع لأحدهم يقول ((أكاد واقطع بأننا لو سرنا في طريق التقليد مئات السنوات وانحرفنا عن نهر العقل فلن نستطيع التقدم خطوة واحدة في سبيل إرساء دعائم فلسفتنا العربية وكشف ما فيها من مواطن القوة والضعف)) ([36]). ويعني بالتقليد ... اتباع النصوص الشرعية! لا التقليد المتعارف عليه عند الفقهاء وأهل الأصول. لأنه جاهل لا شك بذلك!.
لا تثريب على فلاسفة اليونان وفلاسفة الغرب أن يقدسوا عقولهم ويرجعوا إليها في كل شاردة وواردة من أمور الغيب ونظم الحياة لأنهم قد ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. فقد حرموا نعمة الوحي الإلهي الذي يكشف للإنسان عن تلك العوالم المجهولة التي تخفى عليه ولا تطولها حواسه ولا عقله مهما عَظُم أو كبر وتكشف له قبل ذلك عن صفات الإله المعبود وذاته المقدسة وتريحه من عناء البحث المضني في ذلك والذي لن يأتِ بأي نتيجة لهذا الإنسان تكشف له عن أشياء كثيرة غائبة بل وحاضرة ولكن تخفى حكمتها عليه.
لا تثريب على فلاسفة اليونان والغرب! الذين ضلوا مع قوة عقولهم وذكائهم، ولكن كما قال الإمام الذهبي ((لعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى))([37]).(6/18)
ولكن اللوم والأسى على من أنار الله بصيرته بالإسلام وشرح صدره بالقرآن من فلاسفتنا ومتكلمينا فنبذ كل ذلك وراء ظهره وآثر الضلال بعد الهدى والعمى بعد البصيرة جانحاً إلى فلاسفة اليونان الوثنيين وعقولهم يزاحم بها نصوص الكتاب والسنة .
قال الحافظ ابن حجر ((قد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف)) ([38]) .
__________________
([1]) رواه مسلم (1598) وهذا الحديث دليل على دم العرب ما لم يكن معهم إسلام .
([2]) الصواعق المرسلة لابن القيم (3/1068) .
([3]) مسلم بشرح النووي (2/7) .
([4]) رواه البخاري (فتح الباري 1/196،197)، ومسلم (4/2204) .
([5]) الصواعق (3/1052) .
([6]) الصواعق (3/1069) .
([7]) نقل السيوطي عن شيخ الإسلام أنه ((كان يقول: ما أظن الله يغفل عن المأمون ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخاله هذه العلوم الفلسفية بين أهلها أو كما قال)) (صون المنطق 9) .
([8]) المعتزلة (49) .
([9]) الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي – محمد البهي (169) .
([10]) الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي – محمد البهي (169) .
([11]) الحجة (1/205) .
([12]) ذم التأويل (47) .
([13]) درء التعارض (5/239) .
([14]) قال ابن الأعرابي : الرت : رئيس البلد جمعها (رتوت) (الصحاح 249) .
([15]) الحجة (2/134) .
([16]) الحجة (1/372) .
([17]) إسلام بلا مذاهب (619) .
([18]) ضحى الإسلام (3/204) .
([19]) تجديد ذكرى أبي العلاء (239) .(6/19)
([20]) تاريخ الفكر العربي (448) .
([21]) لزوم ما لا يلزم (1/366) .
([22]) المصدر السابق (1/500) .
([23]) المصدر السابق (2/756) .
([24]) المصدر السابق (1/61) .
([25]) المصدر السابق (3/1716) .
([26]) المصدر السابق (2/736) .
([27]) المصدر السابق (3/1579) .
([28]) المصدر السابق (3/1357) .
([29]) تاريخ الفكر (448) ويرى طه حسين أن المعري كان جبرياً لأن ((حياته المادية وشعره في اللزوميات ينطقان بذلك))، تجديد ذكرى أبي العلاء (262) .
([30]) وللزهاوي أيضاً كتاب في الرد على (الوهابية)! حيث زعم أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجسّم! ويكفر المسلمين جميعهم .
... انظر : الزهاوي وديوانه المفقود – هلال ناجي (33) (56) .
والطريف أنه بعد سنوات مدح الملك عبد العزيز ! وهذا من التناقض الذي اشتهر به كالمعري .. رحم الله المسلمين.
([31]) الزهاوي وديوانه المفقود – هلال ناجي (83) .
([32]) المصدر السابق (84) .
([33]) المصدر السابق (84) .
([34]) المصدر السابق (84) .
([35]) من أهمها دراسة الدكتور فهد الرومي عن منهج هذه المدرسة في التفسير – كما سبق -،
([36]) ثورة العقل في الفلسفة العربية – د. محمد العراقي (13) .
([37]) سير أعلام النبلاء (14/62) .
([38]) فتح الباري (13/267) .(6/20)
الرد على العقلانيين
من الوجه [1 إلى 4]
بعد هذا الطواف مع العقل وتعريفه ومكانه وموقف المعظِّمين له، يأتي دور الرد على أصولهم العقلية التي فُتنوا بها طويلاً وظنوها يقينيات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ! وثق كثيراً أن هذه الأصول التي وضع معظمها أسلاف هؤلاء العقلانيين الذين نراهم في كل عصر وآن هي المتكأ الوحيد لكل عقلاني جاء بعد أولئك القوم، مصداقاً لمن قال: لكل قومٍ وارث.
ولعل من تدبر كتابات القوم ومقالاتهم يضيف على هذه الأوجه التي سأذكرها ما يُكملها ويجعلها على هذه الأوجه التي سأذكرها ما يُكملها ويجعلها تحيط بجميع شبهاتهم. فأقول مستعيناً بالله-:
الوجه الأول : أن يقال أن حجتكم وعمدتكم الأولى في تقديم العقل على النقل أن النقل لم يثبت إلا بالعقل وبعبارة أحدهم : ((فالعقل هو أول الأدلة وليس ذلك فقط بل هو أصلها الذي به يعرف صدقها وبواسطته يكتسب الكتاب والسنة والإجماع قيمة الدليل وحجيته. لأن حجية القرآن متوقفة على حجية الرسالة وهما متوقفتان على التصديق بالألوهية لأنها مصدرها فوجب أن يكون لإثبات الألوهية طريق سابق عليهما وهذا الطريق هو برهان العقل!)) ([39]).
وهذه حجة ضعيفة بل مضطربة شرحها أنه إذا كان الإله سبحانه وتعالى يُسْتدل على وجوده وإدراكه بالأدلة العقلية، فإذا ثبت وجوده بها التزمنا ما بعده وهو ثبوت الكتاب والسنة لأن الإله سبحانه أصلها وقد ثبت وجوده بالعقل فيلزم تقديم العقل على النقل .(7/1)
وهذه الحجة لا تقال إلا لكافر ! لا تقال لمؤمن قد ثبت يقينه بوجود الله سبحانه وتعالى وبصفاته وأسمائه أو كما قال ابن القيم ((إن الرجل إما أن يكون مقراً بالرسل أو جاحداً لرسالتهم، فإن كان منكراً فالكلام معه في تثبيت النبوة، فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن المعارض، فمن لم يقر بالدليل العقلي لم يخاطب في تعارض الدليل العقلي والشرعي وكذلك من لم يقر بالدليل الشرعي لم يخاطب في هذا التعارض، فمن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلاً شرعياً فهذا يتكلم معه في إثبات النبوات أولاً . وإن كان مقراً بالرسالة فالكلام معه في مقامات:
أحدها : صدق الرسول فيما أخبر به .
الثاني : وهو هل يقر بأنه أخبر بهذا أو لا يقر به ؟
الثالث : وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه؟
الرابع : وهو أن هذا المراد حق في نفسه أم باطل؟
الخامس: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق أو لم يكن ذلك ممكنا له؟))([40]). ثم وهو الأهم إذا ثبت وجود الإله سبحانه وتعالى بالعقل وأدلته فيجب أن يقف العقل إلى هذه النقطة ولا يتجاوزها إلى غيرها فهو قائد أمين إلى إثبات وجود الله ودالّ عليه ثم يعود إلى مستقره الطبيعي الذي خلقه الله لأجله ولا يستلزم من إثباته لوجود الله تعالى أن يتجاوز به مقداره فيصبح سلطاناً على الكتاب والسنة، فما دمت أيها العقل قد أوصلتنا إلى معبودنا الذي أرسل إلينا الرسل بوحيه وأمرهم بتبيين ذلك للناس فالتزم ما أمرا به ونهيا عنه ولا تتقدم عليهما.
قال ابن القيم ((قال بعض أهل الإيمان: يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي بينك وبينه. وقال آخر: العقل سلطان وَلَّي الرسول ثم عزل نفسه)) ([41]).(7/2)
الوجه الثاني: أن يقال إن العقل الإنساني برغم تعظيمكم من شأنه محدود وضعيف لمن تأمل في طاقاته وخبرها؛ لأنه مقيد بحواس الإنسان وتابع لها في أحكامه ويمكن أن يقع في الخطأ والخلل، وكما قال ابن القيم ((لا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويتخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه)) ([42]). ثم هو أيضاً مرتبط في أحكامه بحالات الإنسان النفسية والاجتماعية، يقول ألكسيس كارليل ((من الواضح أن النشاط العقلي يتوقف على وجوه النشاط الفسيولوجي فقد لوحظ أن التعديلات العضوية تتصل بتعاقب حالات الشعور وعلى العكس من ذلك فإن حالات وظيفية معينة للأعضاء هي التي تقرر الظواهر السيكولوجية ويعدل الكل المكون من الجسم والشعور بالعوامل العضوية والعقلية أيضاً، فالعقل والجسم يشتركان معاً في الإنسان مثلما يشترك الشكل والرخام في التمثال فالإنسان لا يستطيع أن يغير شكل التمثال دون أن يحطم الرخام)) ([43]) .
قلت: وفي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - للقاضي أن يحكم وهو غضبان خير دليل على تأثر العقل بالحالات النفسية للإنسان فهو في تلك الحالة سيقضي بما يجانب الصواب مما يؤكد قصور العقل عن أداء مهمته في مطلق الأحوال وقد اعترف بقصور العقل ومحدوديته كثير من علماء المسلمين وغير المسلمين وأنا ذاكر لك شيئاً من أقوالهم بادئاً بالغربيين منهم لأنهم عمدة عند العقلانيين ! .
1-قال الفيلسوف كانت ((يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى كنه الأشياء ولبابها إلى الأشياء في أنفسها. فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي تعرف بها الظواهر –أي الزمان والمكان والسببية وغيرها– تورطنا في التناقض والخطأ))([44]).(7/3)
2-قال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ((إن كل فكرة توجد في العقل إنما يكون أساسها راجعاً إلى الحواس ومن تعطلت حواسه جميعاً أو إحداهما فلا يمكن أن تتكون في ذهنه أية فكرة عن محسوسها وبذلك فلن يكون هناك شيء في عقل الإنسان ما لم يكن من قبل في حواسه إذ أن العقل عبارة عن صفحة بيضاء ليس عليها أي انطباع أو أي شيء سابق على خبرة الحواس)) ([45]).
3-قال أحمد أمين عن الفيلسوف برجسون ((هاجم العقل وأرادنا أن نأخذ بحكم البصيرة لأنها أصدق نظراً)) ((لقد كان جميلاً من برجسون أن يصرخ هذه الصرخة العالية ليقف تطرف المذهب العقلي الذي يعتد بالعقل اعتداداً كبيراً ولكنه لم يصب حين دعا إلى اتخاذ البصيرة وحدها بدل العقل لأن ذلك كمن يصحح خيال الصبا بخرافات الطفولة)) ([46]).
قلت: وما دعاه إلى مهاجمة العقل إلا لأنه رأى ضعفه وقصوره عن إدراك جميع الحقائق.
4-يقول الأستاذ الباقوي ((إن العقل مهما بلغ من القوة والذكاء ليس إلا حاسة من الحواس التي تربطنا بعالمنا المحدود، فكما يكون للعين مدى تنتهي عنده مقدرتها على الإبصار فلا تدرك ما وراء هذا المدى من مرئيات إلا أشباحاً باهتة وصوراً شائهة لا تغني من الحق شيئاً.. وكذلك الشأن في كل حاسة من حواسنا
لكل مجال تعمل فيه، وتؤدي وظيفتها كاملة في حدوده، فإذا أريد بها الخروج عن هذا المجال ضلت وأضلت. وكذلك شأن العقل وهو حاسة الإدراك له مجاله المحدود الذي يعمل فيه ويدرك حقائق الأشياء في محيطه، فإن أبى إلا أن يركب متن الشطط ويستوي على ظهر الغرور، انزلق إلى ظلمات الضلال وتقطعت به إلى الحقيقة الأسباب .(7/4)
ولسنا نريد بهذا أن نمسك العقل عن التفكير والبحث في التعرف إلى الله، فهو الطريق الطبيعي إليه، وإنما نريد أن ينهج العقل نهجاً قاصداً في البحث عن الله فلا يندفع وراء الخيالات والفروض، ولا يشتط في التطلع إلى ما فوق طاقته، وليعترف بقصوره عن إدراك الحقيقة وعجزه عن تناولها، وليرجع إلى القلب يطلب عنده الاطمئنان والسكينة)) ([47]).
5-يقول الشيخ سيد سابق (( إن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء. فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة. وهو عاجز عن معرفة حقيقة الضوء، والضوء من أظهر الأشياء وأوضحها. وعاجز عن معرفة حقيقة المادة، وحقيقة الذرات التي تتألف منها، والمادة ألصق شيء بالإنسان.
ولا يزال العلم يقف عاجزاً أمام كثير من حقائق الكون والطبيعة، لا يستطيع أن يقول فيها الكلمة الأخيرة.
قال العلامة الفلكي المشهور (كاميل فلامَرْيون) في كتابه (القوى الطبيعية المجهولة): ((نرانا نفكر، ولكن ما هو الفكر؟ لا يستطيع أحد أن يجيب على هذا السؤال. ونرانا نمشي، ولكن ما هو العمل العضلي؟ لا يعرف أحد ذلك، أرى أن إرادتي قوة غير مادية، وأن جميع خصائص نفسي غير مادية أيضاً، ومع ذلك فمتى أردت أن أرفع ذراعي، أرى أن إرادتي تحرك مادتي، فكيف يحدث ذلك، وما هو الوسيط الذي يتوسط للقوى العقلية في إنتاج نتيجة مادية ؟ لا يوجد من يستطيع أن يجيبني عن هذا أيضاً، بل قل لي : كيف ينقل العصب البصري صور الأشياء إلى العقل؟ . وقل لي كيف يدرك العقل هذا؟ وأين مستقره؟ . وما هي طبيعة العمل المخي؟ . قولوا لي أيها السادة (يريد الملحدين) ... ولكن كفى كفى! فإني أستطيع أن أسألكم عشر سنين، ولا يستطيع أكبر رأس فيكم أن يجيب على أحقر أسئلتي)) .(7/5)
فإذا كان موقف العقل هكذا حيال النفس والضوء والمادة، وما في الكون المنظور وغير المنظور من أشياء، فكيف يتطلع إلى معرفة ذات الباري جل شأنه، ويحاول إدراك كنهه!)). ([48])
6-يقول الأستاذ خالد الرفاعي ((إن العقل يعتمد على ما تمده به الحواس من مادة أولية وعلى ما أودع فيه من قوة فطرية لتمييز الأشياء عن بعضها البعض.. معتمداً على مبادئ أطلقنا عليها اسم المبادئ الأولية، ومن ذلك نستنتج أن مجال عمل العقل محصور في المادة وصفاتها فقط، أو بكلمة أوضح بما يصله من إحساسات خارجية تمده بها الحواس، لأن الحواس لا تعطيه أحكام العقل حيث أن ما يعتمد عليه ليس إلا ظواهر بسيطة من الكون وأن الحواس نفسها قد تخطئ في ما تصل إليه أو أن الطبيعة كثيراً ما تصور للحواس ما هو خلاف الواقع. فمثلاً إن من أصيب بعمى الألوان لا يفرق بين الألوان ولا يرى إلا اللون الأحمر)) ((ولذلك فإننا نستطيع أن نجزم أن ما يبنى على المحدود فهو محدود دوماً، وما يبنى على الناقص فهو ناقص، فمعرفة العقل لا تعطينا إلا نتائج ضمن المادة، بل ضمن ظواهرها فحسب، نتائج قد تكون أحياناً خاطئة وغير دقيقة وناقصة)).(7/6)
((إن العقل يقف في سلسلة من الأسئلة الغائبة عنه إلى حد لا يستطيع أن يتجاوزه ... وإلى مجال من الكون لن يخترقه، وذلك لأن حواسه تتركه عند حد تعجز بعده من مرافقته في سيره الطويل لمعرفة كل شيء .. وللإحاطة التامة به ... فأنا أستطيع أن أعرف كيف يشتعل عود من الحطب، فأرى لون النار وأشم رائحتها ... وأسمع حسيسها، وأستطيع أن أدرك أسباباً بسيطة لذلك.. ولكنني أصل إلى حد من الأسئلة ليس لها عندي جواب مقنع إلا التسليم والعجز، هذا التسليم الذي يظهر واضحاً في أن ذلك من صفة الشيء دون أن أستطيع معرفة لم كان ذلك من صفة هذا الشيء ولم يكن من صفة غيره؟ ... .لم كانت نتائج الاحتراق الحرارة.. ولم تكن البرودة ؟؟! ولم اشتعل الحطب في الدرجة المعينة له ولم يشتعل القصدير في تلك الدرجة؟ ... ولم كانت الرائحة من نتيجة الاحتراق؟ كل ذلك وغيره لا يجاب عنه إلا بما قال الله تعالى لنا : (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) فمن هذا نعلم أن مجال عمل العقل هو المادة وصفاتها وكل عمل للعقل فيما وراء ذلك إنما هو فيما وراء الحس مباشرة، لأنه عند ذلك يخترق مجاله الطبيعي ويفقد المادة الأولية التي يعتمد عليها في بحثه ذلك، ولذلك فإن القرآن الكريم كان يوجه النظر دائماً إلى ما يحس في الكون، سمائه وأرضه، إنسانه وحيوانه، ولم تر آية واحدة وجهت النظر لما هو وراء الحس.. فيقول تعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) .. (فلينظر الإنسان إلى طعامه). (فلينظر الإنسان ممَّ خُلق) الخ )). ((إن العقل محدود بالمادة وقوانينها وصفاتها ويمكننا أن نلخص حدود العقل بالأمور التالية:
بالزمان : لأن الزمان إنما هو صورة عن تغير المادة.
بالمكان: لأن المكان صفة المادة في تحيزها .
وبالحجم والوزن: لأن المادة لا تظهر لنا إلا بهذه الصفات.(7/7)
ولكن هذه الحدود كلها رغم سيطرتها على الإنسان فإنه لا يمتنع عقلاً أن يكون وراء هذه الحدود قوانين أخرى تغاير ما تعودنا عليه)) ([49]) .
7-يقول الأستاذ أنور الجندي: ((لقد أُعطي الإنسان أمانة الحياة، وأُعطي العقل والقلب، ولم يكن عقله إلا جهازاً في وظيفته في حدود المعطيات والقوى المختلفة، ولم يعط هذا العقل القدرة الكاملة على كشف كل شيء، أو الوصول إلى كنه الوجود وأعماق الغيب.
ولكنه أعطي مفاتيح الحقائق عن طريق الوحي أو العلم، فأصبح له طريقه الواضح من خلال هذه المعطيات المتاحة فإذا مضى في هذا الطريق، أضاء وأعطى، أما إذا أراد أن يمضي بالعقل وحده ليكشف كل شيء، لم يجد الطريق واضحاً، وعجز عن أن يصل إلى الحقيقة.
ومن هنا كان خطر القول بقداسة العقل، أو سلطان العلم، هذه الدعوى التي حملتها الفلسفات، ورفع لواءها الفكر البشري في محاولة للاستقلال أو التجرد عن (مفاتيح) المعرفة الأصيلة التي ألقاها الحق تبارك وتعالى لخلقه عن طريق رسالات الأنبياء والكتب المنزلة)) ([50]) .
8-يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني ((العقل مقيد بعالم الحس لا عمل له في الحكم على عالم الغيب (المتيافيزيك) . ذلك لأن القوة العاقلة فينا التي تجمع بين الصورة والذاكرة والمخيلة والذكاء تقوم بعملها الجبار في التحليل والتركيب، والجمع والتفريق، واستنتاج القواعد العامة والكليات، وقياس الأشباه والنظائر على بعضها، بعد أن تنقل الحواس المختلفة إلى المصورة أشرطة مشاهداتها في الكون: شريطَ المرئيات، وشريطَ المسموعات، وشريط المذوقات، وشريط المشمومات، وشريط الملموسات، وشريط الوجدانيات الداخلة في الإنسان، ثم تكون أحكامها مقيدة بحدود هذه الأشياء التي جاءتها عن طريق الحس.(7/8)
وهذه القوة العاقلة فينا لا تستطيع أبدأ أن تصدر أحكامها على مغيبات لم يعرض أمامها شريط مسجل عنها، لأن كل حكم تحكم به إنما تقوله متأثرةً بواقع أشرطة الحواس التي جاءتها، وقد يختلف عالم الغيب عن عالم الحس كل الاختلاف فلا يمكن الحكم عليهما بالتشابه، والقاعدة الثابتة عند العلماء: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
فعالم الغيب لا تستطيع عقولنا أن تحكم على شيء فيه بإثبات أو نفي استقلالاً ذاتياً، إلا أن يأتيها خبر يشهد العقل بإمكان وجوده ويصدق ناقله، وعند ذلك تسلم بمضمونه تسليماً تاماً دون مناقشة أو اعتراض)) ([51]).
9-يقول الأستاذ محمد حسين ((قد أثبتت العلوم الحديثة – وعلم الفلك خاصة- عجز العقل البشري الذي لا مفر منه إلا إلى الله ولا ملجأ إلا إليه سبحانه وتعالى وأصبح تمسح المشككين والملاحدة بالعلم ضرباً من الجهل أو المكابرة)) ([52]) .
10-ويقول الشاطبي ((إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه. ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون . إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى . ومعلومات العبد متناهية. والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى .
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلاً. وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلاً. فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تُخرّجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه)) ([53]) .(7/9)
11-قال أبو الحسن الندوي ((إن العقل وحده عاجز عن أداء وظيفته الطبيعية بل هو مضطر إلى الاستعانة بأشياء هي أقل منه قيمة، ففي إدراك ما لم يدركه العقل من قبل، يحتاج إلى استخدام المعلومات التي حصلت له مسبقاً، ولا تكون هذه المقدمات إلا المحسوسات فلو حللت المعقولات كلها تحليلاً دقيقاً، وسمعت قصة رحلة العقل الطريفة والطويلة المدى، عرفت أن وسيلة العقل في اكتشاف العوالم الجدد والغوص في البحار المجهولة، إنما هي هذه المحسوسات التي تبدو تافهة حقيرة، والمعلومات البدائية التي لولاها ولولا ترتيبها ترتيباً خاصاً، لما وصل العقل إلى هذه النتائج الخطيرة ذات القيمة الكبيرة، فحيث تشلُّ الحواس البشرية، وحيث لا تكون لدى الإنسان ذخيرة من معلومات، وإذا كان في أمر على جهل تام بمباديه، فهناك يعجز عقله عن شق الطريق إلى الأمام، والوصول إلى نتيجة في هذا الموضوع كما يعجز أحدنا عن أن يعبر البحر من غير سفينة، وأن يطير في الجو من غير طائرة.
فإن شئت جربت ولا تخطئك التجربة، هب أن رجلاً ذكياً فطناً ليست له معرفة بمبادئ العلوم الرياضية الأولية، حتى أنه لا يعرف العدد، لا يستطيع مثل هذا الرجل أن يحل معضلة من المعضلات الرياضية، ولو كان على جانب كبير من الذكاء والألمعية كذلك من لم يكن عنده معرفة بالأصول الموضوعة في علم الأقليدس لن يسعه أن يثبت شكلاً من الأشكال، ولو كان هذا الرجل على قمّة من الذكاء والفطانة، كذلك إذا كان الرجل يجهل حروف لغة من اللغات وخطها، لم يستطع أن يقرأ سطراً من السطور التي كتبت في هذه اللغة، ولو صبّ ذكاءه وأمعن في القياس، فالذي لا يعرف مفردات لغة لا يستطيع أن يفهم عبارة من عبارات هذه اللغة بمجرد ذكائه أو بقوة قياسه، وعلى ذلك تقاس مبادئ كل فن وعلم)) ([54]).(7/10)
قلت : فإذا كان العقل البشري كما رأيت من الضعف والقصور فكيف يقول عاقل بتقدمه على كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا إلا من تقديم الناقص على الكامل، والمفضول على الفاضل؟ .
الوجه الثالث: أن يقال إذا ثبت ضعف العقل البشري وقصوره عن إدراك كثير من الحقائق الثابتة فاعلم أنه لا مجال له في إدراك ذات الباري وصفاته وأسمائه وحِكَم أفعاله وأوامره ونواهيه وإنما يُتَلقى ذلك من الوحي وأما العقل فلا يقوده اجتهاده إلا لإثبات خالق لهذا الكون دون معرفة مفصلة له.
قال شيخ الإسلام ((ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر، وقد اعترف عامة الروؤس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال بها الظن والحسبان)) ([55]).
وقال الإمام أبو يعلى ((إن العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته ولا تحليل شيء ولا تحريمه)) ([56]).
وقال الشيخ ابن عثيمين ((السمعيات كل ما ثبت بالسمع أي طريق الشرع ولم يكن للعقل فيها مدخل وكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبار فهي حق يجب تصديقه سواء شاهدناه بحواسنا أو غاب عنا وسواء أدركناه بعقولنا أم لم ندركه لقوله تعالى : (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)([57]).(7/11)
وقال سيد قطب : ((إن هنالك مجالاً للعقل البشري معيناً في ارتياد آفاق المجهول: والإسلام يدفعه إلى هذا دفعاً.. ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده. وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه، ولا حكمة في إعانته عليه. لأنه ليس من شأنه، ولا داخلاً في حدود اختصاصه. والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له، لأنه أكبر من طاقته. وبالقدر الذي يدخل في طاقته. ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير .. فأما الذين اهتدوا بهدى الله، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله. وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق، وحكمته في الخلق، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح . وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم. واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها، على هدى من الله، متجهين إليه، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع.(7/12)
وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين: فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى: والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة. وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلاً شاهقاً لا غاية لقمته، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء ! وكانت لهم تصورات مضحكة – وهم كبار فلاسفة – مضحكة حقاً حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن . مضحكة بعثراتها. ومضحكة بمفارقاتها. ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتها بالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها.. لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير. ولا فلاسفة العصر الحديث! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .
فهذه فرقة. فأما الفرقة الأخرى، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة. فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي. ضاربة صفحاً عن المجهول.، الذي ليس إليه سبيل. وغير مهتدية فيه بهدى الله. لأنها لا تستطيع أن تدرك الله! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع ((مجهول الكنه)) ويكاد يكون مجهول القانون! وبقي الإسلام ثابتاً على صخرة اليقين. يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير. ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض. ويهيئ لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول!)) ([58]).(7/13)
الوجه الرابع : ويكشف مجال العقل ودوره في الإسلام فيقال: ((إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض –بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص – ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها- بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له – ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها..
إن هذه الرسالة تخاطب العقل.. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم ؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه..
إن دور العقل – في هذا الصدد – هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله.(7/14)
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير.. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة.. أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى .. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا.. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها – أي إذا فهم ماذا يعني النص – لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ.. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات، وفق مفهوم نصوصها.. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها. ليحكم بصحتها أو خطئها.. وقد علم أنها جاءته من عند الله. الذي لا يقص إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير.
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة – بعد أن يدرك المقصود بها – بمقررات له سابقة عليها، كونها لنفسه من مقولاته ((المنطقية)) ! أو من ملاحظاته المحدودة، أو من تجاربه الناقصة.. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي- قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة – ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين- متى صح عنده أنها من الله- إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!.. إن العقل ليس إلهاً، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله)) ([59]) .(7/15)
قال الشيخ محمد قطب: ((يمنح الإسلام العقل مجالاً واسعاً للعمل هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها أو ينكر عليه حق التفكير. وهي أمور ثلاثة: التفكير في ذات الله والتفكير في القَدَر والتشريع من دون الله)) ((وإذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثة التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر أو منع منعاً جازماً منها كقضية التشريع فكل المجالات الأخرى مباحة للعقل ومتاحة له بل هو – في الإسلام – مدعو إليها دعوة صريحة ويعتبر مقصراً إذا لم يقم بها . وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظل الإسلام .
أولاً : في قضية الإيمان يخاطب الإسلام الإنسان كله، بكل جانب من جوانبه، ويركز على الجانب الوجداني لأن العقيدة دائماً تخاطب الوجدان وتحيى فيه وتتحرك به، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل، لتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلى الحقيقة، حقيقة الألوهية، وما يترتب على معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك .
يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق.. خلق الكون وخلق الإنسان .. هل من خالق غير الله؟ (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السماوات والأرض. بل لا يوقنون) (خلق السموات بغير عمدٍ ترونها. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم . وبث فيها من كل دابة. وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. بل الظالمون في ضلال مبين) .(7/16)
وما زال هذا التحدي قائماً.. وسيظل قائماً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي، بالقول بالمصادفة تارة، وبالخلق الذاتي تارة، وبأي كلام تارة أخرى إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها ((العقل)) لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره، وليصل إلى النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شيء، ويتخلى عن الهوى الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل.. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين. (أفمن يخلق كمن لا يخلق. أفلا تذكرون) (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض..) وكما يخاطبه ليستيقن –بطرق استدلالاته الخاصة من استقراء واستنباط وقياس ومنطق.. الخ – من حقيقة الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير.. يخاطبه ليرتب على يقينه ذلك ما يستتبعه من تبعات.. فإذا كان الله متصفاً بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره، ومن الجدير بالطاعة غيره؟ .
كذلك يخاطبه ليستيقن من الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً. ذلك ظن الذي كفروا..) (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. ويتفكرون في خلق السموات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا. وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد) .(7/17)
إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن عقلاً أن يخلق شيئاً عبثاً، أو أن يخلق شيئاً باطلاً، إنما يخلق كل شيء بالحق، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الحياة الدنيا، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يرى الإنسان بنفسه.. فكم من ظالم ظل يظلم حتى مات، وكم من مظلوم ظل مظلوماً حتى مات. فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون على السيئة والحسنة، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق .. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فإن ((العقل)) يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.. وألا تفتنه اللذة العاجلة عن النعيم المقيم. (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).
وهذه الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان – مع العقل – لتترتب عليها حركة سلوكية واقعية، ولكن العقل فيها واضح لا يحتاج إلى تأكيد.
ثانياً: يوجه العقل بعد ذلك إلى تدبر آيات الله في الكون للتعرف على أسراره. للتعرف على خواص ذلك الكون، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض. والتسخير قائم من عند الله ابتداء، (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك، فهو ليس إلهاً يقول للشيء كن فيكون. إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان. جهد عقلي يتعرف به الإنسان على أسرار الكون وخواصه، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج.(7/18)
وكل ذلك يوجه العقل لأدائه. بل هو ميدانه الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته، والذي لا يشاركه فيه غيره. وليس معنى ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولا يتوهم، فكثيراً ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون. ولكنه يوجه إلى ذلك بعد أن يوجه إلى التعرف على الخالق، وعلى كل قضايا العقيدة . ولذلك حكمة واضحة.
فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق- كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها على العقل أن يفكر – مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان والفاعلية، من أجل الحصول على القدر من ((المتاع)) الذي قدره الله للإنسان في الأرض . (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) .
ولكن العبرة في حياة ((الإنسان)) ليست بمجرد العمارة المادية للأرض، ولا مجرد الحصول على المتاع من أي لون ومن أي طريق، إنما ((الإنسان)) خلق لشيء أرفع من ذلك وأسمى.. خلق لحمل ((الأمانة)) التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها . وحملها الإنسان..) وحمل الأمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي.. إنما يتم بإقامة ذلك كله على أساس من ((القيم)).. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة. ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولاً –والكيان الإنساني كله في الحقيقة – للتعرف على الله والإيمان به وطاعته، حتى إذا جاء العقل يتعرف على الكون، ويعمل على تسخير طاقاته في عمارة الأرض، كان مهتدياً بالهدى الرباني، فأقام عمارة الأرض على أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة .(7/19)
وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية على ((قيم)) أخرى غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض. وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق.
فتوجيه العقل – في الإسلام- إلى التعرف على السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلى الإيمان بالله، هو المنهج الصحيح لتنشئة ((الإنسان الصالح)) الذي تسعى البشرية –نظرياً- إلى تنشئته، ولكنها تخفق دائماً حين تتنكب المنهج الرباني، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلى البوار.
وإن كان لنا من شيء نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال، فهو أن الأمة المسلمة –بتوجيه الإسلام- هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة ((إنسانية)) حقيقية، تمثل ((الإنسان)) كله لا جانباً واحداً من جوانبه وتمثله متوازناً كما ينبغي للإنسان، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض. ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنه عن السبب الحقيقي، ولا العلم يفتنه عن الدين.. إلى آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حيث رفضت الهدى الرباني وجعلت ((عقلها)) يرسم لها الطريق!.
ثالثاً: يوجه العقل في الإسلام إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه. ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد . وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين، لأنه لا يتيسر لكل الناس –وإن كانوا مؤمنين – أن يتفقهوا في أحكام الدين. إنما الفقهاء لهم استعداد خاص، ويحتاجون إلى دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان.(7/20)
ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة –ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة – فيسقط التكليف عن الآخرين. فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها آثمة حتى تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) وإعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة . فالتشريع أولاً لا ينطبق انطباقاً آلياً على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر.
إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه.
ثم إن هذه الشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلى قيام الساعة، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير حياة الناس.
فأما الثابت –الذي لا يتغير، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فساداً في الأرض- فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات .
وأما المتغير – الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها- هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل –بحكم تغيره الدائم- إنما وضعت له الأسس التي ينمو نمواً سليماً في داخل إطارها، وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدى الرباني، المتفقة في أمور الدين، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من أطواره.
لذلك كان الفقه عملاً دائم النمو لا يتوقف، ولا يجوز له أن يتوقف.. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة .(7/21)
ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقه في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع، ما زال يُعد تراثاً إنسانياً ثميناً إلى هذه اللحظة، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!.
والذي يطلع على هذا الفكر يدرك مدى شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها على مواكبة النمو البشري من جهة، ويدرك من جهة أخرى ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام.
رابعاً: ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدره في حياة البشر. وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق. ويوجه العقل إلى تدبر هذه السنن من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يتمشى مع مقتضياتها ولا يصادمها.
فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضى بلا ضابط. إنما يضبطها نظام رباني دقيق، يسير بحسب سنن ثابتة، ترتب نتائج محددة على السلوك البشرى في جميع أحواله. ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه، لا رجماً بالغيب، ولكن تحقيقاً لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير .
وهذه السنن تتناول حياة الجماعة، فهي سنن اجتماعية في غالبها، أما ما يرد بشأن الفرد فغالباً ما يكون متعلقاً بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) .(7/22)
خامساً: يوجه العقل إلى دراسة التاريخ: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) .
وواضح أن دراسة التاريخ المطلوبة هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ، ولكن ينبغي أن نعرف مواطن العبرة من دراسة التاريخ..
إن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية، والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلى تدبرها والتفكر فيها من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم على المنهج الرباني.. هذه السنن – بطبيعتها –نادراً ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق أجيالاً متوالية حتى يتم التحول الاجتماعي سواء إلى الخير أو إلى الشر (فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير، تأييداً لنبي أو تمكيناً لجماعة مؤمنة، كما حدث مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار) .
وانظر مثلاً إلى هذه السنة: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) .(7/23)
فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوربي في وقته الحاضر .. نسوا ما ذكروا به، وكفروا وجحدوا، ففتح الله عليهم أبواب كل شيء، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة عملية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية .. وكل ما يمكن أن يدخل في ((أبواب كل شيء)). وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان، ولد فيه أفراد –بل أجيال- قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية، (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلى الأبد لا تغلق ولا تتهدم على أصحابها مهما ارتكبوا من آثام!.
واليوم بدأ مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن ((حضارتهم)) آيلة إلى الانهيار.. وبدءوا ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن ((القيم الروحية)) كما يسمونها([60]) أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمماً من قبلهم.. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان؟ جيلاً أو أجيالاً كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله!.
لذلك يوجه الله ((العقل)) أن يتدبر التاريخ ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال، والأغلب هو الأخير!.(7/24)
تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون، وبرؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها، ولا يقول قائل لنفسه –على سبيل المثال- ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه ! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفسي في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي.. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تسنده وتمنعه من الدمار! ولا يقول قائل لنفسه: ما قيمة ((القيم))؟ وما فائدة ((الدين))؟ وما معنى ((الأخلاق))؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكاً قوياً بغير ذلك كله عدة قرون؟!. تلك عبرة دراسة التاريخ)) ([61]) .
ويقول الدكتور فهد الرومي: ((ليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب أطلق سراح العقل وغالى بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم كتاب الإسلام بل إن القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له .
ولذلك نجد عبارات (لعلكم تعقلون) و (لقومٍ يتفكرون) و (لقومٍ يفقهون) ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل.
ولقد أبرز الإسلام مظاهر تكريمه للعقل واهتمامه به في مواضع عدة نذكر منها:-
أولاً: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي :
فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله ويعتقد بل دعاه إلى إعمال ذهنه وتشغيل طاقته العقلية في سبيل وصولها إلى أمور مقنعة في شؤون حياتها، وقد وجه الإسلام هذه الطاقة بتوجيهات عدة لتصل إلى ذلك :
فوجهها إلى التفكر والتدبر.
في كتابه .(7/25)
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) .
ثم يستثير العقل الإنساني ويتحداه أن يأتي بمثل هذا القرآن حتى إذا ما أدرك عجزه عرف أنه من عند الله (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين) .
وفي مخلوقاته :
(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون) (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) .
ثم يتحدى العقل بحواسه أن يجد خللا في شيء منها ليزداد بعد عجزه إيماناً وتسليماً (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير)
وفي تشريعاته :
(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) .
فأمر بالتفكر في تلك التشريعات لتحري الحكمة فيها لأن الحياة لا تسير آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية انطباقاً آلياً، وإنما هناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة، وما لم يكن الإنسان مدركاُ للحكمة الكامنة وراء التشريع وفاهماً لترابط التشريعات في مجموعها فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية وقد عني الإسلام بإيقاظ العقل لتدبر هذه التشريعات ليستطيع تطبيقها على خير وجه.(7/26)
وفي أحوال الأمم الماضية وما أدت بهم المعاصي إليه :
(قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) .
هـ- وفي الدنيا ونعيمها الزائل:
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً) .
وهذا التأمل والتدبر ليس هو المقصود لذاته وإنما ليؤدي ثمرة نافعة لا أعني بها فلسفة يتشدق بها الفلاسفة ويتبارون في إغماض الكلام فيها وإبهامه ثم لا ينتهون إلى شيء، وإنما أعني بها الإصلاح ... إصلاح القلب .. إصلاح العقيدة ... إصلاح الحياة في الأرض على منهج الدين الصحيح.
2-ووجه الإسلام الطاقة العقلية لمراقبة نظام الحياة الاجتماعية مراقبة توجيه وإصلاح لتسير الأمور على منهج صحيح (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) .
وحمل المسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع وهدده بالعقاب إذا علم ولم يصلح ولو كان صالحاً في نفسه (واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
وقال - صلى الله عليه وسلم - ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
ثانياً: ولم يقصر الإسلام بعد هذا العقل على الإيمان وإنما ترك له الخيار بين الإيمان والكفر (لا إكراه في الدين) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) فلم يكره الإسلام العقل على الإيمان([62]) .(7/27)
ثالثاً : وحرص على قيام العلاقة بين العبد وربه على الوضوح العقلي في العقيدة والشريعة وعدم تقييده له بعد اقتناعه وإيمانه بالرهبانية فلا رهبانية في الإسلام([63]) لما فيها من تقييد للعقل([64]) فضلاً عن الغرائز والحواس ولما فيها من تعطيل للطاقة والقوى البشرية والمخالفة لنظام الحياة مخالفة تقضي بالفناء على البشر فيما لو اعتنق الناس الترهب والانعزال ديناً.
رابعاً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل نعيه على المقلدين الذين لا يُعملون أذهانهم وحذر من التقليد الأعمى والتعصب الأصم لنظريات واهية وآراء زائفة ناشئة عن الخرافات والأهواء (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) (فلا تكُ في مريةٍ مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) .
وأمر بالتثبت في كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) .
خامساً : ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل أمره بالتعلم والحث على ذلك فكما أن نمو الجسم بالطعام فإن نمو العقل بالعلم إذ بهذا يكون الإيمان عن إدراك أوسع وفهم أعمق وإقناع أتم، بل قرن سبحانه ذكر أولي العلم بذكره عز وجل وذكر ملائكته (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ) .
وجعل العلم مشاعاً لأنه غذاء العقل الذي به ينمو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم).(7/28)
لذا لم يعرف الإسلام ((رجل الدين)) الذي يحتكر علومه ويعطي صكوك الغفران ويملك التحليل والتحريم ولكنه يعرف فكرة ((عالم الدين)) الذي يرجع إليه لمعرفة حكم الله فيما اشتبه على الناس من أمور دينهم مستنداً إلى دليل معتبر شرعاً من غير إلزام إلا بحجة قطعية من كتاب أو سنة أو إجماع مسلم به.
سادساً: ومن ذلك إسناده استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع إلى العقل وما حديث معاذ عنا ببعيد حين بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضياً قال : ((كيف تقضي يا معاذ؟)) قال : بكتاب الله قال: ((فإن لم تجد)) قال : سنة رسول الله. قال : ((فإن لم تجد)) قال : أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال : ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) ([65]) فجعل من اجتهاد العقل أساساً للحكم وقاعدة للقضاء عند فقدان النص .
سابعاً : ومنها الأمر بتكريمه والمحافظة عليه والنهي عن كل ما يؤثر في سيره أو يغطيه فضلاً عما يزيله.
فحرم لذلك شرب الخمر (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه) وحرم كل مسكر ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام))([66]) وامتد التحريم إلى الكمية التي لا تسكر منها ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))([67]) كل هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه .
وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته عن آخر، قال ابن قدامة (لا نعلم في هذا خلافاً وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم ((وفي العقل الدية)) ولأنه أكبر المعاني قدراً وأعظم الحواس نفعاً فإن به يتميز من البهيمة ويعرف حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس) ([68]) .(7/29)
ولكن الإسلام بعد هذا التكريم كله وذلك الاهتمام قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك، لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوص فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوية متن العديد من الأخطار .
فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك، وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام (قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين) فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه، فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة .
لذا منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) ([69]) وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ورسله)) ([70]) . وعن الروح قال تعالى: (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فصرف الجواب عن ماهيتها لأنه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك وغيرها من المغيبات التي ليست في متناول العقل ومداركه)) ([71]) .
ويقول الشيخ ناصر العقل –حفظه الله-: ((قيمة العقل في الإسلام)):(7/30)
قد يتبادر لأذهان البعض، عند ما يقرأ مثل هذا البحث، في ذم الاتجاهات العقلية – أن الإسلام، يمقت العقل والفكر، أو يستنقص منهما ويهضمهما قيمتهما، وأننا إنما نذم أصحاب الاتجاهات والفرق العقلية لمجرد أنهم استعملوا عقولهم، التي وهبهم الله .
والحق: أن الأمر ليس كذلك، لأن الإسلام بحق قد رفع قيمة العقل وأعلى من شأنه، وجعل التعقل والتفكير فريضة إسلامية، يلزم كل مسلم أن يؤديها حقها، وجعل العقل هو مناط التكليف، ونعى على أولئك الذي لم يستعملوا عقولهم في معرفة الحق والهداية، فهلكوا . (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) ([72]) .
وإذا كان العقل هو وسيلة النظر، ووسيلة التفكير والتدبر، فقد جعل الله ذلك كله واجباً، مفروضاً على كل إنسان ومن تركه فهو آثم لا محالة قال تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا) ([73]) .
وقد وردت في مواضع كثيرة .
وقال تعالى في ذم الذين لا يعقلون :
(وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون) ([74]).
وقد ورد هذا التوبيخ (أفلا تعقلون) في القرآن أكثر من أربع عشرة مرة.
وقال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) ([75]). وقد وردت في القرآن (لعلكم تعقلون) أكثر من سبع مرات.
وقال تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون) ([76]) .
وقال تعالى :
(كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعقلون) ([77]) .
وإذا كان العقل وسيلة النظر والاعتبار فقد قال تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)([78]).
وقال تعالى :
(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) ([79]).
وكذلك الأمر بالتفكر، قال تعالى :
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) ([80]). (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) ([81]). (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنّة) ([82]) . (أولم يتفكروا في أنفسهم) ([83]).(7/31)
وقد ذكر التفكر في القرآن في أكثر من سبعة عشر موضعاً . وقد ذم الله أولئك الذين يتابعون آباءهم دون تعقل ولا تفكير . فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) ([84]).
وقال تعالى:
(إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون) ([85]).
والإسلام إنما كرّم الإنسان وفضله على سائر المخلوقات بل جعله سيد الكون بالعقل، وبالعقل سخّر له ما في السماوات وما في الأرض وجعله خليفة فيها يعمرها .
فهل يبقى بعد ذلك شك عند أحد في أن الإسلام يحترم العقل ويقدره كل التقدير؟
ثم إن الإسلام عندما حظر على العقل التفكر في ذات الله تعالى، والخوض في أمور الغيب، وألزمه بالتسليم والتوقف عند كل ما ورد عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وما يتعلق بالغيب كله- إنما فعل ذلك إشفاقاً على هذا العقل الكريم من العماية في متاهات المجهول .
ثم إن الإسلام في الوقت نفسه فتح للعقل البشري مجالات الانطلاق الواسع في حدود الواقع في حياته هو والمخلوقات من حوله ، بل وفي الأرض كلها والسماء ، وهذا الكون الرحب الواسع الفسيح .
فللعقل البشري أن يبدع، وأن ينظر ويحكم، وأن يتفكر ويعتبر ما وسعه الإبداع والنظر والتفكر والاعتبار ، عليه أن يفعل ذلك كله، وله مع ذلك عليه الأجر والمثوبة إذا هو امتثل أمر الله .
أما الغيب والتفكر في ذات الله، بأكثر مما ورد عن الله، فإنه ليس بمقدور العقل، وليس من وظيفته أن يفعل ذلك، وإن فعل ذلك خرج عن نطاق الواجب عليه، ولن يعود عليه فعله إلا بالحرج والعنت العقلي والنفسي، والخروج عن نطاق مصلحة الإنسان في معاشه ومعاده.(7/32)
والعقلية الحديثة، هي التي دعت أتباعها إلى الخوص في أمور الغيب ومعارضة أمر الله، ولم تسلّم بما جاء عن الله تعالى، مما هو خارج عن نطاق العقل، وأقحمته فيما لا طاقة له به، ونحن نذمها من هذا الوجه.
فإن مُقْتَضى الإيمان بالغيب :- التسليم لله فيه، بما ورد في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
والإنسان في هذا العصر أكثر العصور تقدماً في الكشوف والاختراعات- أعلن عجزه وقصوره عن إدراك أكثر حقائق الكون وكُنْهِ طاقاته، حتى تلك الأشياء التي يمارسها ويعيشها ويومياً، إن العقل يجهل نفسه، ويجهل الروح التي تُمدّه بالحياة بأمر الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ([86]).
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) ([87]).
فإكراماً لهذا الإنسان ، وإشفاقاً عليه، وعلى عقله المحدود، من التشرد والتبدد والتيه، وإشفاقاً عليه بعد ذلك من الضلال والهلاك، وسوء العاقبة، أراحه الله من الخوض في الغيب بعقله؛ فجاءه الوحي يخبره عما فيه صلاحه من أصول العقيدة السليمة، ومسائل الغيب ، ورسم له سبيل الخير والسعادة في الدنيا، وأطلق لعقله فيما عدا ذلك الحرية كل الحرية.
فقد فتح الإسلام للعقل من مجالات البحث والفكر والتأمل والنظر في ملكوت السماء والأرض، ما يكفي لانشغال العقل، وإشباع رغبة التطلع والإنتاج المفطورة فيه)) ([88]).
ويقول الشيخ عبد الرحمن الزنيدي – حفظه الله - :
((لعل من أبرز السمات التي امتاز بها الدين الإسلامي عن سائر المذاهب والأديان الأخرى، هو ذلك المقام السامي الذي وضع الإسلام العقل الإنساني فيه والدور الجليل الذي أناطه به، والآفاق الواسعة التي فتحها أمامه، بشكل لم تصل المذاهب البشرية إليه حتى تلك المذاهب التي تنادي بأنها حررت العقل البشري، وأطلقته من آساره، واحتكمت إليه، هي في الحقيقة التي سخرت منه، واستهانت به:(7/33)
فمن جانب دفعته إلى الإيغال في مجالات ليست من اختصاصه فتاه فيها وضل.
ومن جانب آخر تجد هذه المجتمعات العلمانية – التي تدعى أنها تحكم العقل في أمورها- قد نبذته وراءها ظهرياً، فأحكامه وتقريراته في جانب وواقعها في جانب آخر، فالعقل يحكم بأن الخمر والزنا ضار ومفسد للجنس البشري والواقع يبيحها ، بل ويحببها، والعقل يقول إن المرأة تختلف عن الرجل والواقع يقول يجب أن نجعلها كالرجل تماماً ... ، فأي إهانة للعقل بعد هذا، ونعود لنقول إن أبعاد تلك المنزلة التي جعلها الإسلام للعقل تتلخص فيما يأتي :
تعظيم الإسلام لعمل العقل في سبيل الوصول إلى الحقائق بطرق شتى منها:
الثناء على أصحاب العقل الذين يستعملونه في الحكم على الأشياء والتعامل معها: فالله سبحانه يخاطب أصحاب العقول حينما يذكر أحكامه لأنهم هم الذين يفهمون أنها أحكام عدل وحق (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) ([89]).
وكذلك حينما يأمر بشيء فإنه يخصهم بالخطاب لأنهم يسارعون إلى امتثال أمر الله ، والنهوض به، يقول سبحانه (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) ([90])،فقد خص أولي الألباب بعد حث جميع العباد على التقوى([91]).
ومدحهم بأنهم هم الذين يتذكرون موجبات الهدى، ودلائله، وينتفعون بها خلاف اللاهين الغافلين، يقول سبحانه (وما يذكر إلا أولوا الألباب) ([92])، وأثنى عليهم بأنهم هم الذين يعتبرون بقصص التاريخ وحوادث الحياة فيتخذون منها عبرة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) ([93])، وقال سبحانه بعد قصة لوط وقومه (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون) ([94]) .(7/34)
جعله مدخلاً تأسيسياً لإثبات أخطر قضايا الدين وهي العقيدة: فقد جعل القرآن هذا العقل إذا تجرد عن الهوى والمصلحة والتأثر بالمحيط الخارجي الفاسد هو الطريق الموصل إلى الحق ، وإثبات صحة العقيدة، وصدق النبوة يقول سبحانه (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بِصاحبكم من جِنّة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) ([95]).
وإنها لدعوة جليلة إلى إعمال الذهن، وتشغيل الطاقة العقلية، لتقتنع بالحق فتأخذ به ، وتعرف الزيف فترفضه، لا دعوة إلى إطفاء مصباح العقل، والاعتقاد على عمى فيما لا يقبله العقل كما في المسيحية الكنسية .
ذم المقلدين الذين ألغو عقولهم:
أزرى القرآن الكريم بمن عطلوا تفكيرهم وأغلقوا منافذ الهداية والمعرفة، وأخذوا أمور حياتهم عن طريق التقليد، والتبعية، والوراثة لآبائهم، ولما وجدوا عليه مجتمعاتهم ، قال سبحانه (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون) ([96]) .
فالله يشبههم بالأنعام التي تسمع صوت المنادي، ولا تفقه ما يقول، كل هذا بسبب جمودهم على ما هم عليه، وتعطيل عقولهم عن التفكر لتبحث عن الحق فتتبعه، فكان نتيجة اهدارهم هذه النعمة التي تميزوا بها عن البهائم أن أصبحوا مثلها ، بل أحط منزلة (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ([97]) .
بيان عظيم ثمرات استخدام العقل :
وقد بين القرآن أن من أبرز النتائج التي يحصل عليها العقل المتجرد إذا تفكر وتدبر:(7/35)
التوصل إلى الإيمان بوحدانية الله ، والشعور بعظمته سبحانه، ومعرفة الحق الذي خلقت به السموات والأرض، يقول سبحانه (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذي يذكرون الله قياماُ وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) ([98]).
ولذلك يعقب سبحانه كثيراً بعد ذكر آياته في الأنفس والآفاق بقوله (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) – وكفى بهذه النتيجة نفعاً وعظمة .
الثبات على الحق الذي توصل إليه، والاطمئنان القلبي الذي يصاحبه، خلافاً للذي انعدمت بصيرته فهو في أمر مريج، لا يستقر على حال، ولا يطمئن إلى وجهة معينة، فهو مشتت تتنازعه الأهواء، يقول سبحانه (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) ([99]).
هـ- حثه على العلم والمعرفة التي تقود الإنسان في حياته العملية خلافاً لما عليه الجهلة:
ولقد أثنى الله سبحانه على العلماء ورفع مقامهم، فقرنهم سبحانه بذكره حينما قال (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ([100]).
وقال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) ([101]) .
وقال سبحانه (يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)([102]) .
وحث العلماء على إشاعة المعرفة بين الناس، وتعليمهم الحق (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) ([103]) .
الحث على تحريك العقل، واستثارة طاقاته في كل وقت، وعلى كل حالة بشتى الأساليب : (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) ([104]) (أولم يتفكروا في أنفسهم) ([105]) (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ... )([106]) الآية .(7/36)
موافقة الإسلام للفطرة وإقناعه للعقل :
خلق الله الإنسان على هيئة خاصة به لا يشترك فيها معه شيء من مخلوقات الله –(فجاء فذاً في هذا الكون، إن في تكوينه العضوي، أو في خاصيته الجوهرية- التي هي التفكير العقلي) ([107]) .
ومن مميزات فردية هذا الإنسان أن الهيئة التي فطر عليها معجزة حيرت العلم القديم والحديث " حيث تمتزج الفرديات العقلية، والتركيبية والأخلاطية بطريقة غير معروفة للإنسان"([108]) .
كذلك فإن مما لاحظه علم الإنسان أن هذا المخلوق يشتمل على عوالم متفردة متعددة بتعدد أفراده، فكل فرد له خاصية لا يشاركه فيها غيره من بني البشر "كل فرد يدرك أنه فريد، وهذه الوحدانية حقيقية"([109]) .
ولقد قرر القرآن الكريم من قبل هذه الحقيقة، حقيقة تفرد الإنسان في خلقه وطبيعته ووظيفته:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) ([110]).
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً) ([111]) .
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) ([112]) .
والإنسان بهذه الطبيعة الخاصة التي فطر عليها ، والسنن التي قام عليها وجوده يحتاج إلى نظام حياة خاص به يتسق مع ما فطر عليه، ويراعي هذه السنن فلا يصطدم معها .
وهنا تبدو ميزة كبرى للإسلام عن غيره من المذاهب باتساقه مع فطرة الإنسان وتكوينه العقلي، يقول سبحانه (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ([113]).
قال العلماء "الفطرة هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل، التي هي معدة، ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله ، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه ويؤمن به" ([114]).(7/37)
والله سبحانه هو الذي خلق هذا الإنسان ، وهو أعلم بالسنن ، والأسرار التي خلقه عليها ، وقد أنزل له نظاماً شاملاً لجوانب حياته، ومطابقاً لهذه الفطرة وهو الإسلام" إذ هو في سننه وفروضه وأحكامه ومبادئه يشمل الفطرة كلها ويطابقها تمام المطابقة" ([115]).
فالإنسان أي إنسان يحس بجوع روحي عارم، ولم تستطع فلسفة أو منهج بشري أن يسد هذا الجوع ، أما الإسلام فقد أشبع هذه الروح وسد هذه الجوعة وهذه حقيقة أقر بها حتى غير المسلمين، تقول الباحثة فاجليري (إن الناس ليشعرون بالحاجة إلى الدين، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون منه أن يكون ديناً يفي بحاجاتهم، قريباً من مشاعرهم، يقدم الأمن والراحة للحياة الدنيا كما يقدمها للآخرة ، ويلبي الإسلام هذه الحاجات بدقة لأنه عقيدة وفلسفة للحياة، فهو يعلم التفكير الصحيح ، والتصرف السليم، والكلام الأمين ، ولذا يجد طريقه في غير صعوبة إلى كل من العقل والقلب الإنساني) ([116]).
ولعل من أبرز الجوانب التي جاء الإسلام بالقول الفصل فيها، وقد تاهت البشرية فيها، ولا تزال تائهة ضالة جانب تصور الكون المشهود وما وراءه .
ذلك أن هذا الكون من حولنا ينطوي في تضاعيفه على أسرار كبيرة في بدئه ومصيره، والهدف من ورائه، والعقل البشري طلعة يقف أمام المجهول ليستبين منه ما استطاع غير قانع بالعالم المحس ومظاهره الواضحة، ولقد جاء الإسلام يحل هذه الألغاز فأعطى تصوراً عن الكون والحياة وخالقهما – يلبي فطرة الإنسان، ويجد فيه العقل ما يشبع نهمته - .
وقد توهم البعض أن العلم المادي الذي قفز قفزاته الكبيرة إبان نهضة الغرب المعاصرة، سيجهز على الدين تماماً ، ذلك أنه سيحل ألغاز الكون كلها وسيكتشف مجهولاته جميعها، فعند ذاك ينطفئ ذلك الشوق العقلي إلى ما وراء المجهول ، وبذا تزول غريزة التدين .(7/38)
ولكن العلم أثبت – واقعا- عكس هذه النتيجة، إذ كلما زاد ما يكتشفه العلم من دلائل عظمة الكون وامتداده كلما انفتح معه أفق أوسع للسؤال عما يكتنفه من أسرار وغوامض " وأقرب مثال لذلك الذرة التي كانت إلى عهد قريب متماثلة الأجزاء ، فظهر أنها مركبة من نوعين من الكهرباء – سالب وموجب- وأنه من الممكن تحطيمها وفصل أجزائها، فتعود قوة مجردة – طاقة – تحتاج إلى بحث عن مصدرها خارج هيكل الذرة المحطم([117]) .
وهكذا يعود الإنسان بعد تطوافه في الكون أكثر تساؤلاً عما يحيط به من رموز وأسرار ، ويبقى "الإسلام" الذي أنزله خالق الكون والحياة والعليم بهما هو الذي يقدم الحل الناجع لهذه المشكلة، فيقنع العقل ويريحه من القلق والشقاء الذي يساوره أثناء وقوفه أمام هذه المجهولات.
محاربة الإسلام للخرافات والعوامل التي تحطم العقل :
جاء الإسلام والمجتمعات البشرية –خاصة العربية- تعج بأنواع الخرافات، والشعوذة، والأوهام التي استعبدت عقول الناس، وتلاعبت بها، من كهانة، وعيافة، وعرافة، وسحر، واعتقاد بتصرف بعض المخلوقات في أجزاء من هذا الكون، كالجن، والشياطين ([118]).
فحارب الإسلام هذه الخرافات، وحرر العقل البشري من سيطرتها، وتلاعبها به ، جاء في صحيح مسلم ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) ([119]). قال العلماء : هو من يذهب إلى من يدعي معرفة الأمور الغيبية، فيسأله على وجه التصديق لما يقول ([120]).
وقال - صلى الله عليه وسلم - ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) ([121]) .
فقوله : لا عدوى : نهي لهم عن الاعتقاد بأن المُعدي يخلق العدوى بالصحيح كما كان سائداً عندهم.
ونهاهم عن التشاؤم بالطير، حيث كانوا ينصرفون عن المضي في مقاصدهم بسبب اتجاه الطير إلى الجهة المخالفة لاتجاههم، أو بسبب نوع الطير الذي يقابلهم فور خروجهم.(7/39)
والهامة : البومة: وكانوا يتصورون أن من وقعت على داره، فإنها تنذره بموت أحد أفراد عائلته- أو أن المقصود ما كانوا يتصورونه من أن روح المقتول- تخرج من القبر وتصيح مطالبة بأخذ الثأر من القاتل.
وصَفَر: هو الشهر المعروف، وكانوا يعتقدون أنه شهر دماء ، وقتل، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقت كسائر الأوقات لا يقتضي بذاته شؤماً ولا ضرراً إلا ما يفعله الإنسان .
وفي حديث آخر عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الرقى والتمائم والِتَولة شرك)) ([122]) .
التميمة : شيء يعلق على الأولاد يعتقدون أنه يدفع عنهم الشياطين.
والتولة: شيء يصنع، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها .
عدا عن هذا فإن القرآن والسنة حينما يعرضان حوادث الطبيعة والكون فإنهما يبعدان الخرافات، ويربطان بين الحوادث ربطاً موضوعياً- بين المقدمات والنتائج، وبين الأسباب والمسببات -كما في قوله سبحانه (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله) ([123]).
وعندما كسفت الشمس في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك في اليوم الذي مات فيه (إبراهيم) ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن الناس أن كسوف الشمس كان بسبب موت إبراهيم ، ووصل هذا التعليل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته))([124]) .
وحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاد أن الأفلاك والكواكب تتصرف بإنزال المطر إذا رضيت على من تشاء .. وجعله شركاً ممن اعتقده ([125]).
4) حفظ الإسلام للعقل ومنع الاعتداء عليه :
جاءت الشريعة الإسلامية لتحفظ على الإنسان تلك الأسس التي تقوم عليها حياته ، وهي ما يسميها الفقهاء " الكليات الخمس" : الدين ، والعقل، والنفس، والمال، والنسل([126]).(7/40)
أما العقل –مدار حديثنا – فقد شدد الشرع في العقوبة على من تعدى عليه :
فحرم شرب الخمر لأنه يزيل العقل، قال سبحانه (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)([127])
وحرم كل مسكر : أي كل ما يذهب بالعقل مهما تغيرت أشكاله، وتعددت أسماؤه ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام))([128]). وورد عن أنس رضي الله عنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر أربعين بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين)) ([129]).
أما من جنى على العقل فأزاله، فإن الشرع يلزمه بالدية كاملة، يقول ابن قدامة –رحمه الله- في المغني (لا نعلم في هذا خلافاً، وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما، وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء ، وفي كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزام (وفي العقل الدية)، ولأنه أكبر المعاني قدراً، وأعظم الحواس نفعاً، فإن به يتميز من البهيمة، ويعرف حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، وينفي ما يضره، ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولاية، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس([130])))([131]) .
______________________
([39]) تيارات الفكر الإسلامي، لمحمد عمارة (ص70) .
([40]) الصواعق (3/866) .
([41]) الصواعق (3/807) .
([42]) بدائع الفوائد (3/200) .
([43]) الإنسان ذلك المجهول (165) .
([44]) قصة الفلسفة الحديثة (1/291) أحمد أمين والعبارة له .
([45]) العقل والإيمان في الإسلام . د.صابر طعيمة (28) .
([46]) قصة الفلسفة الحديثة (2/575) .
([47]) العلم يدعو إلى الإيمان (25) .
([48]) العقائد الإسلامية (37) .
([49]) وجود الله (10-16) .
([50]) شبهات التغريب (185) .
([51]) العقيدة الإسلامية (195) .
([52]) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/291) .
([53]) الاعتصام (2/318) .(7/41)
([54]) بين الدين والمدنية (15). وانظر كتاب (الإسلام والعقل) لعبد الحليم محمود، ففيه يشن حملة شديدة على العقل.
([55]) الصارم المسلول (249) .
([56]) الأحكام السلطانية (19) .
([57]) شرح لمعة الاعتقاد (59) .
([58]) في ظلال القرآن (6/3731) .
([59]) ظلال القرآن (2/806) .
([60]) لأنهم مازالوا في جاهليتهم يكرهون أن يذكروا الدين باسمه الصريح ! .
([61]) مذاهب معاصرة (533-551) بتصرف .
([62]) ولا يقصد بلا إكراه في الدين- التقليل من شأن الجهاد كما حصره بعضهم بأن المراد به الدفاع وعللوا كل حركة بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق فأسقطوا – وهم مشتطون في حماسة الدفاع عن الإسلام ضد من اتهموه بأنه دين السيف – إن للإسلام بوصفه المنهج الأخير للبشرية حقه الأصيل في أن يقيم ((نظامه)) الخاص في الأرض. فـ(لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أما من ناحية إقامة ((النظام الإسلامي)) ليظلل البشرية كلها مسلمين وغير مسلمين فتوجب الجهاد لإنشائه وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة ولا يتم هذا إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض)) أ هـ.
... ((بتلخيص من خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)) لسيد قطب ص 18 .
([63]) لما روى أحمد في مسنده 6/226 (( ... .فقال يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أفمالك فيَّ أسوة.. الحديث ولما روى الدارمي في سننه ك النكاح ب3 من حديث سعد بن أبي وقاص قال (( ... يا عثمان إني لم أؤمر بالرهبانية أرغبت عن سنتي)) وعثمان هذا هو ابن مظعون رضي الله عنه .(7/42)
([64]) ولا يصح القول بأن الرهبانية تفتح آفاق العقل وتضمن له الصفاء للتفكير بل النزول إلى معترك الحياة هو الذي يزيد العقل اشتعالاً ويوري زناده ويفتح له أبواب التفكير عكس الرهبانية التي تخبو فيها نار العقل لانطواء صاحبها على نفسه واعتزاله المجتمع، فتؤدي إلى خمود الذهن وعدم الاطلاع على المعارك الضارية بين الخير والشر وبين الإيمان والكفر وعلى كيد الملحدين ومكر الماكرين والرد على ذلك والنزول إلى معتركهم وحلبتهم .
([65]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، و ضعفه الألباني في (السلسلة الضعيفة 2/274) لإرساله وجهالة بعض رواته في بحث طويل له.
([66]) رواه مسلم .
([67]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب وابن حبان .
... وصححه وقال الحافظ بن حجر رجاله ثقات (صحيح أبي داود 3128) .
([68]) المغني لابن قدامة (8/37).
([69]) رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص 159 وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح. والحديث صححه الألباني –رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (1788) .
([70]) رواه البخاري ومسلم .
([71]) منهج المدرسة العقلية (29-39) وكتاب الدكتور الرومي هذا من أجود الكتب التي درست منهج المدرسة العقلية في التفسير .
([72]) (10-11) الملك .
([73]) (36 النحل) .
([74]) (80 المؤمنون) .
([75]) (2 ، يوسف) .
([76]) (62، يس) .
([77]) (28، الروم) .
([78]) (2 ، الحشر) .
([79]) (101 ، يونس) .
([80]) (219، البقرة) .
([81]) (50 ، الأنعام) .
([82]) (184، الأعراف) .
([83]) (8 ، الروم) .
([84]) (170 ، البقرة) .
([85]) (69، 70 الصافات) .
([86]) (21، الذاريات) .
([87]) (85 ، الإسراء) .(7/43)
([88]) المدرسة العقلية الحديثة في ضوء العقيدة الإسلامية ، بحث مرقوم على الآلة الكاتبة لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام . (ص18-22) .
([89]) البقرة – 179 .
([90]) البقرة ، 197.
([91]) فتح القدير 1/201 .
([92]) البقرة 269، آل عمران 7.
([93]) يوسف آخر آية.
([94]) العنكبوت 35 .
([95]) سبأ 46 .
([96]) البقرة 170-171.
([97]) الأنفال 22 .
([98]) آل عمران 190-191 .
([99]) الرعد 19 .
([100]) آل عمران 18 .
([101]) فاطر من آية 28 .
([102]) المجادلة من آية 11 .
([103]) البقرة 159-160 .
([104]) يونس من 101 .
([105]) الروم من 8 .
([106]) الأعراف من 185 .
([107]) الإنسان في العالم الحديث – جوليان هكسلي نقلاً عن الإسلام ومشكلات الحضارة – سيد قطب /(39).
([108]) الإنسان ذلك المجهول ( 287) .
([109]) المصدر السابق (289) .
([110]) البقرة من آية 30 .
([111]) الإسراء 70 .
([112]) التين 4 .
([113]) آية 30 الروم .
([114]) الجامع لأحكام القرآن (7/29) .
([115]) الإسلام في عصر العلم للغمراوي (23) .
([116]) تفسير الإسلام لفاجليري (51) .
([117]) الدين لدراز (119) .
([118]) ليس هذا خاصاً بالمجتمعات القديمة، فحتى مجتمعات القرن العشرين –البعيدة عن هدى الله- ما تزال مرتعاً خصباً لهذه الخرافات مع بلوغها هذا الشأو البعيد في العلم المادي .
([119]) صحيح مسلم، كتاب السلام ، حديث رقم 2230 جـ 4 .
([120]) انظر مجموعة التوحيد 119 (قرة عيون الموحدين شرح كتاب التوحيد) .
([121]) صحيح البخاري ، كتاب الطب ، باب الجذام .
([122]) رواه أبو داود في كتاب الطب باب تعليق التمائم 4/112 ، وابن ماجه في نفس الكتاب والباب 7/1167 .
([123]) الروم من آية 48 .
([124]) صحيح البخاري ، كتاب الكسوف، الباب رقم 6 .
([125]) انظر مجموعة التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب (197)، والإسلام والفكر العلمي (34) .
([126]) انظر الموافقات للشاطبي (3/47).(7/44)
([127]) المائدة من 90 .
([128]) رواه مسلم – كتاب الأشربة – حديث رقم 1587. جـ4 .
([129]) متفق عليه – انظر كتاب الحدود في كل من البخاري باب رقم 4 ومسلم حديث 1331 جـ3.
([130]) المغني لابن قدامة 8/37 .
([131]) العقل مجاله وآثاره في ضوء الإسلام ، بحث مرقوم على الآلة الكاتبة مقدم لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام .( ص 55 – 65 ) .(7/45)
الرد على العقلانيين
من الوجه [5 إلى 33]
الوجه الخامس: ([1]) قولكم (إذا تعارض العقل مع النقل قدم العقل أو أُوِّل النقل) إما يراد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ. وإما أن يراد به الظنيين فالمقدم هو الراجح مطلقاً. وإما أن يراد به ما أحدهما قطعي فالقطعي هو المقدم مطلقاً وإذا قُدَّر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً. فعلم أن تقديم العقل مطلقاً خطأ . كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ.
الوجه السادس: أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكر من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعي أخرى فأيهما كان قطعياً قدم وإن كانا جميعاً قطعيين فيمتنع التعارض وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم. فدعوى المدعي أنه لابد من تقديم العقلي مطلقاً أو السمعي مطلقاً أو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين دعوى باطلة بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام كما ذكرناه بل هو الحق الذي لا ريب فيه.
الوجه السابع: قولهم: إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل فيكون طعناً فيه. غير مسلم وذلك لأن قولهم: إن العقل أصل للنقل إما أن يُراد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في علمنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو غيره هو ثابت سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها .(8/1)
فما أخبر به الصادق المصدوق ( هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه. ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر: ليس موقوفاً على وجودنا، فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا، وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه .
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه .
فإن العلم نوعان: أحدهما العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه.
والثاني العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزّل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً .(8/2)
وأما إن أردوا أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا على صحته –وهذا هو الذي أردته- فيُقال: أتعنون بالعقل هنا الغريزة التي فينا، أم العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة؟ .
أما الأول فلم تريدوه، ويمتنع أن تريدوه، لأن تلك الغريزة ليست علماً يتصور أن يعارض النقل، وهي شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة، وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له؛ فالحياة والغريزة شرط في كل العلوم سمعيّها وعقليها، فامتنع أن تكون منافية لها، وهي أيضاً شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال، وإن لم تكن علماً، فيمتنع أن تكون منافية له ومعارضة له.
وإن أرادوا بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل؛ فيقال: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للسمع ودليلاً على صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يُعلم صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله، مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات، وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلاً للنقل، لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها، ولا بمعنى الدلالة على صحته، ولا بغير ذلك.
وحينئذٍ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن القدح فيه قدحاً في أصل السمع، وهذا بيّن واضح، وليس القدح في بعض العقليات قدحاً في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحاً في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها، كما لا يلزم من صحة بعض لسمعيات صحة جميعها.
وحينئذٍ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلاً عن صحة العقليات الناقضة للسمع .(8/3)
فكيف يقال: إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع؟ فإن ما يعلم السمع، ولا يعلم السمع إلا به، لازم للعلم بالسمع، لا يوجد العلم بالسمع بدونه، وهو ملزوم له، والعلم به يستلزم العلم بالسمع، والمعارض للسمع مناقض له مناف له. فهل يقول عاقل: إنه يلزم من ثبوت ملازم الشيء ثبوت مناقضه ومعارضه !؟ .
ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعاً واحداً متماثلاً في الصحة أو الفساد، ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له، لا صحة البعض المنافي له. والناس متفقون على أن ما يسمى عقليات منه حق، ومنه باطل، وما كان شرطاً في العلم بالسمع وموجباً فهو لازم للعلم به، بخلاف المنافي المناقض له، فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطاً في صحته ملازماً لثبوته، فإن الملازم لا يكون مناقضاً، فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله .
الوجه الثامن : أن يقال : العقل إما أن يكون عالماً بصدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإما أن لا يكون عالماً بذلك.
فإن لم يكن عالماً امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوماً له، لأن المعلوم لا يعارضه المجهول، وإن لم يكن المعقول معلوماً له لم يتعارض مجهولان.
وإن كان عالماً بصدق الرسول امتنع –مع هذا- أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر. غايته أن يقول : هذا لم يخبر به، والكلام ليس هو فيما لم يخبر به، بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا، فهل يمكنه –مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا- أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر، أم يكون علمه بثبوت مخبره لازماً له لزوماً ضرورياً، كما تلزم سائر العلوم لزوماً ضرورياً لمقدماتها ؟ .(8/4)
وإذا كان كذلك فإذا قيل له في مثل هذا : لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق؛ كان حقيقة الكلام: لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه، فيقول: وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور، فإذا قيل: لا تصدقه لئلا يلزم أن لا تصدقه، كان كما لو قيل : كذبه لئلا يلزم أن تكذبه. فيكون المنهي عنه هو المخوف المحذور من فعل المنهي عنه، والمأمور به هو المحذور من ترك المأمور به . فيكون واقعاً في المنهي عنه، سواء أطاع أو عصى، ويكون تاركاً للمأمور به سواء أطاع أو عصى، ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطاعة لهذا الآمر الذي أمره بتكذيب ما تيقن أن الرسول أخبر به أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية، والمنهي عنه على التقدير هو التصديق، والمأمور به هو التكذيب، وحينئذ فلا يجوز النهي عنه، سواء كان محذوراً أو لم يكن، فإنه إن لم يكن محذوراً لم يجز أن ينهى عنه، وإن كان محذوراً فلابد منه على التقديرين، فلا فائدة في النهي عنه، بل إذا كان عدم التصديق هو المحذور كان طلبه ابتداء أقبح من طلب غيره لئلا يُفضي إليه، فإن من أمر بالزنا كان أمره به أقبح من أن يأمر بالخلوة المفضية إلى الزنا.
فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به، بعد علمهم أنه رسول الله؛ لئلا يفضي تصديقهم له إلى عدم تصديقهم له، بل إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان هذا أمراً له بما يناقض ما علم به صدقه، فكان أمراً له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز تلك في غيره.(8/5)
ولهذا آل الأمر بمن سلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالى وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم، لاعتقادهم أن هذه فيها ما يُردّ بتكذيب أو تأويل وما لا يرد، وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة، بل هذا يقول: ما أثبته عقلك فأثبته، وإلا فلا، وهذا يقول: ما أثبته كشفك فأثبته، وإلا فلا، فصار وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده – على قولهم – أضر من عدمه، لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئاً، واحتاجوا إلى أن يدفعوا ما جاء به: إما بتكذيب، وإما بتفويض، وإما بتأويل.
الوجه التاسع : أنه إذا علم صحة السمع وأن ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو حق فإما أن يعلم أنه أخبر بمحل النزاع أو يظن أنه أخبر به أو لا يعلم ولا يظن، فإن علم أنه أخبر به امتنع أن يكون في العقل ما ينافي المعلوم بسمع أو غيره فإن ما علم ثبوته أو انتفاؤه لا يجوز أن يقوم دليل يناقض ذلك. وإن كان مظنوناً أمكن أن يكون في العقل علم ينفيه وحينئذٍ فيجب تقديم العلم على الظن لا لكونه معقولاً أو مسموعاً بل لكونه علماً، كما يجب تقديم ما علم بالسمع على ما ظن بالعقل وإن كان الذي عارضه من العقل ظنياً. فإن تكافئا وقف الأمر، وإلا قدّم الراجح، وإن لم يكن في السمع علم ولا ظن فلا معارضة حينئذٍ، فتبين أن الجزم بتقديم العقل مطلقاً خطأ وضلال.
الوجه العاشر: أن يقال : إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أُخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل .(8/6)
ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم، كما قال بعضهم : يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه. وقال بعضهم: العقل متول، وَلَّي الرسول ثم عزل نفسه، لأن العقل دل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
والعقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة. وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره وبين له أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفت، قال له المستفتي : أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله، وإن لم تكن مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه عالم مفت يجب عليك تقليده. هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فتقديمه قول المعصوم على ما يخالفه من استدلاله العقلي أولى من تقديم العامي قول المفتي على قوله الذي يخالفه.(8/7)
وكذلك أيضاً إذا علم الناس وشهدوا أن فلاناً خبير بالطب أو بالقيافة أو الخرص أو تقويم السلع ونحو ذلك، وثبت عند الحاكم أنه عالم بذلك دونهم، أو أنه أعلم منهم بذلك، ثم نازع الشهود الشاهدون لأهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم أهل العلم بذلك. وجب تقديم قول أهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم على قول الشهود الذين شهدوا لهم، وإن قالوا: نحن زكينا هؤلاء، وبأقوالنا ثبتت أهليتهم، فالرجوع في محل النزاع إليهم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولهم.
كما قال بعض الناس : إن العقل مزكي الشرع ومعدله، فإذا قدم الشرع عليه كان قدحاً فيمن زكاه وعدله، فيكون قدحاً فيه.
قيل لهم: أنتم شهدتهم بما علمتم من أنه من أهل العلم بالطب أو التقويم أو الخرص أو القيافة ونحو ذلك، وأن قوله في ذلك مقبول دون قولكم، فلو قدمنا قولكم عليه في هذه المسائل لكان ذلك قدحاً في شهادتكم وعلمكم بأنه أعلم منكم بهذه الأمور، وإخباركم بذلك لا ينافي قبول قوله دون أقوالكم في ذلك، إذ يمكن إصابتكم في قولكم: هو أعلم منا، وخطؤكم في قولكم: نحن أعلم ممن هو أعلم منا فيما ينازعنا فيه من المسائل التي هو أعلم بها منا، بل خطؤكم في هذا أظهر.
والإنسان قد يعلم أن هذا أعلم منه بالصناعات كالحراثة والنساجة والبناء والخياطة وغير ذلك من الصناعات، وإن لم يكن عالماً بتفصيل تلك الصناعة، فإذا تنازع هو وذلك الذي هو أعلم منه لم يكن تقديم قول الأعلم منه في موارد النزاع قدحاً فيما علم به أنه أعلم منه .(8/8)
ومن المعلوم أن ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذوي العقول أعظم من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الاجتهادية كالطب والقيافة والخرص والتقويم لسائر الناس، فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالماً بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها بها، ولا يمكن من لم يجعله الله رسولاً إلى الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله تعالى رسولاً إلى الناس، فإن النبوة لا تنال بالاجتهاد، كما هو مذهب أهل الملل، وعلى قول من يجعلها مكتسبة من أهل الإلحاد من المتفلسفة وغيرهم فإنها عندهم أصعب الأمور، فالوصول إليها أصعب بكثير من الوصول إلى العلم بالصناعات والعلوم العقلية .
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره – كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب.
فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات، واستعمالها على وجه مخصوص، مع ما في ذلك من الكلفة والألم، لظنه أن هذا أعلم بهذا مني، وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلى حصول الشفاء لي، مع علمه بأن الطبيب يخطئ كثيراً، وأن كثيراً من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب، بل قد يكون استعماله لما يصفه سبباً في هلاكه، ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده، وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ !.(8/9)
والرسل صادقون مصدوقون لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط، والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط؟ .
الوجه الحادي عشر : أن يقال: تقديم المعقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض، وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول، وذلك لأن كون الشيء معلوماً بالعقل، أو غير معلوم بالعقل، ليس هو صفة لازمة لشيء من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية الإضافية، فإن زيداً قد يعلم بعقله مالا يعلمه بكر بعقله، وقد يعلم الإنسان في حال يعقله ما يجهله في وقت آخر.
والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء، ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا، بل كل من العقلاء يقول: إن العقل أثبت، أو أوجب، أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاه، أو أحاله، أو منع منه، بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا : نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلوم بالضرورة العقلية .
كما يقول أكثر العقلاء: نحن نعلم بالضرورة العقلية امتناع رؤية مرئي من غير معاينة ومقابلة، ويقول طائفة من العقلاء : إن ذلك ممكن .
ويقول أكثر العقلاء: إن كون الموصوف عالماً بلا علم قادراً بلا قدرة حياً بلا حياة ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك .
ويقول أكثر العقلاء: إن كون الشيء الواحد أمراً نهياً خبراً ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك.
ويقول أكثر العقلاء: إن كون العقل والعاقل والمعقول، والعشق والعاشق والمعشوق، الوجود والموجود والوجوب والعناية أمراً واحداً، هو ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك.(8/10)
ويقول جمهور العقلاء: إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث، وإن لفظ الوجود يعمهما ويتناولهما، وإن هذا معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من ينازع في ذلك.
ويقول جمهور العقلاء: إن حدوث الأصوات المسموعة من العباد بالقرآن أمر معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من ينازع في ذلك.
وجمهور العقلاء يعلمون أن كون نفس الإنسان هي العالمة بالأمور العامة الكلية، والأمور الخاصة الجزئية معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من نازع في ذلك، وهذا باب واسع .
فلو قيل بتقديم العقل على الشرع، وليست العقول شيئاً واحداً بيناً بنفسه، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب؛ لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته، ولا اتفاق للناس عليه .
وأما الشرع فهو في نفسه قول الصادق، وهذه صفة لازمة له، لا تختلف باختلاف أحوال الناس، والعلم بذلك ممكن ، ورد الناس إليه ممكن، ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً) فأمر الله تعالى المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، وهذا يوجب تقديم السمع، وهذا هو الواجب، إذ لو ردوا إلى غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافاً واضطراباً، وشكاً وارتياباً .(8/11)
ولذلك قال تعالى : (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين منذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) فأنزل الله الكتاب حاكماً بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزّل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبته، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط.
الوجه الثاني عشر: أن يقال: المسائل التي يقال : إنه قد تعارض فيها العقل والسمع ليست من المسائل البينة المعروفة بصريح العقل، كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات الظاهرة والإلهيات البينة ونحو ذلك، بل لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من هذا الجنس، ولا في القرآن شيء من هذا الجنس؛ ولا يوجد ذلك إلا في حديث مكذوب موضوع يعلم أهل النقل أنه كذب، أو في دلالة ضعيفة غلط المستدل بها على الشرع .
فالأول : مثل حديث عرق الخيل الذي كذبه بعض الناس على أصحاب حمّاد بن سلمة، قالوا: إنه كذبه بعض أهل البدع، واتهموا بوضعه محمد بن شجاع الثلجي([2]) ، وقالوا: إنه وضعه ورمى به بعض أهل الحديث، ليقال عنهم أنهم يروون مثل هذا، وهو الذي يقال في متنه: ((إنه خلق خيلاً فأجراها، فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق)) ([3]) تعالى الله عن فرية المفترين وإلحاد الملحدين؛ وكذلك حديث نزوله عشية عرفة إلى الموقف على جمل أورق، ومصافحته للركبان، ومعانقته للمشاة، وأمثال ذلك: هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم، فلا يجوز لأحد أن يدخل هذا وأمثاله في الأدلة الشرعية.(8/12)
والثاني: مثل الحديث الذي في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يقول الله تعالى : عبدي مرضتُ فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي جُعْتُ فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي))([4]).
فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول: إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولا سمع، إلا من يظن أنه قد دل على جواز المرض والجوع على الخالق سبحانه وتعالى، ومن قال هذا فقد كذب على الحديث. ومن قال إن هذا ظاهر الحديث أو مدلوله أو مفهومه فقد كذب، فإن الحديث قد فسره المتكلم به، وبيّن مراده بياناً زالت به كل شبهة، وبيّن فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العوّاد، وأن الله سبحانه لم يأكل ولم يُعَد.
بل غير هذا الباب من الأحاديث، كالأحاديث المروية في فضائل الأعمال على وجه المجازفة، كما يروى مرفوعاً: ((أنه من صلى ركعتين في يوم عاشوراء يقرأ فيها بكذا وكذا كُتب له ثواب سبعين نبياً)) ([5]) ونحو ذلك، هو عند أهل الحديث من الأحاديث الموضوعة، فلا يعلم حديث واحد يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف، بل موضوع، بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه، إلا أن يكون له حديث صحيح يدل على أنه منسوخ، ولا يعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح أجمع المسلمون على نقيضه، فضلاً عن أن يكون نقيضه معلوماً بالعقل الصريح البيّن لعامة العقلاء، فإن ما يُعلم بالعقل الصريح البيّن أظهر مما لا يعلم إلا بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية .(8/13)
فإذا لم يوجد في الأحاديث الصحيحة ما يعلم نقيضه بالأدلة الخفية كالإجماع ونحوه، فأن لا يكون فيها ما يعلم نقيضه بالعقل الصريح الظاهر أولى وأحرى، ولكن عامة موارد التعارض هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء، كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي، وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم، ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجّرد رأيهم إما متنازعين مختلفين، وإما حيارى منهوكين، وغالبهم يرى أن إمامة أحذق في ذلك منه.
ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فنجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات مع أن كثيراً منهم قد يرى بعقله ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البيّن ما لا ريب فيه .
وأما كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي([6])، وبرقلس([7])، وناسطيوس([8])، والفارابي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير والتقصير العظيم ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض مالا يكاد يُستقصى.
وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضاً من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاّف، وأبي إسحاق النّظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم.(8/14)
وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء، كأتباع حسين النّجار، وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي، وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاب، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن كرام، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم .
بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائماً يجد في كلامهم ما يراه هو باطلاً، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلاً وعلماً وديناً، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحداً من هؤلاء يقول : إذا تعارض قولي وقول متبوعي قدّست قولي مطلقاً، لكنه إذا تبيّن له أحياناً الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدّمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه .
فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟ وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قدّم رأيه على نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أنباء الغيب التي ضلّ فيها عامة من دخل فيها لمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدي الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب؟.
ففي الجملة: النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بَيّن قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق، لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق .(8/15)
بل نقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقلية. ومما يوضح هذا :
الوجه الثالث عشر : وهو أن يقال: القول بتقديم الإنسان لمعقوله على النصوص النبوية قول لا ينضبط، وذلك لأن أهل الكلام، والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمُّونه عقليات، كل منهم يقول: إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضرورة العقل أو بنظره نقيضه.
وهذا من حيث الجملة معلوم؛ فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون: إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر –الذي يسمونه التوحيد والعدل- معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون: إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية.
بل الطائفتان ومن ضاهاها يقولون: إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع، كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال، وهذا هو الذي يجعلونه قطعياً، ويؤثمون المخالف فيه .
وكلٌ من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس؛ وهذا يقول: إن العقل الصريح دل على النفي، والآخر يقول: العقل الصريح دل على الإثبات .
وهم متنازعون في المسائل التي دلت عليها النصوص، كمسائل الصفات والقدر. وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه، وكل منهم يدعي فيها القطع العقلي.(8/16)
ثم كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم، فالمعتزلة أكثر اختلافاً من متكلمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره. والبصريون أقرب إلى السنة والإثبات من البغداديين، ولهذا كان البصريون يثبتون كون البارئ سميعاً بصيراً مع كونه حياً عليماً قديراً، ويثبتون له الإرادة، ولا يوجبون الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يؤثمون المجتهدين، وغير ذلك. ثم بين المشايخية([9]) والحسينية – أتباع أبي الحسين البصري- من التنازع ما هو معروف.
وأما الشيعة فأعظم تفرقاً واختلافاً من المعتزلة، لكونهم أبعد عن السنة منهم، حتى قيل : إنهم يبلغون اثنتين وسبعين فرقة.
وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافاً من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفه، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ .
واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية، كما نقله الأشعري عنهم في كتابه في ((مقالات غير الإسلاميين)) .
فكلامهم في العلم الرياضي – الذي هو أصح علومهم العقلية – قد اختلفوا فيه اختلافاً لا يكاد يحصى، ونفس الكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم- وهو كتاب ((المجسطي)) لبطليموس([10]) – فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح، وفيه قضايا ينازعه غيره فيها، وفيه قضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب.(8/17)
وكذلك كلامهم في الطبيعيات في الجسم، وهل هو مركب من المادة والصورة، أو الأجزاء التي لا تنقسم، أو ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا؟.
وكثير من حذاق النظار حار في هذه المسائل، حتى أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله بن الخطيب – حاروا في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وإن كانوا قد يجزمون بها أخرى، فإن الواحد من هؤلاء تارة يجزم بالقولين المتناقضين في كتابين أو كتاب واحد، وتارة يحار فيها، مع دعواهم أن القول الذي يقولونه قطعي برهاني عقلي لا يحتمل النقيض!
وهذا كثير في مسائل الهيئة ونحوها من الرياضيات، وفي أحكام الجسم وغيره من الطبيعيات، فما الظن بالعلم الإلهي؟ وأساطين الفلسفة يزعمون أنهم لا يصلون فيه إلى اليقين، وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى والأخلق.
الوجه الرابع عشر: أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه.(8/18)
وهذا بين واضح؛ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم؛ فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته، كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل، وهو المطلوب. وأما تقديم النقل عليه فلا يستلزم فساد النقل في نفسه.
ومما يوضح هذا أن يقال:
معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها، وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها، وإن لم يعلم صحتها. وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده، أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب، والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه، فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه على قول المجهول الذي لم يعلم كذبه لا يجوز، فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟!
والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله، وشهد له بأنه لا يجب قبوله، وشهد بأن الأدلة السمعية حق، وأن ما أخبر به السمع فهو حق، وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق، فكان مثله مثل من شهد لرجلٍ بأنه صادق لا يكذب، وشهد له بأنه قد كذب، فكان هذا قدحاً في شهادته مطلقاً وتزكيته، فلا يجب قبول شهادته الأولى ولا الثانية، فلا يصلح أن يكون معارضاً للسمع بحال.(8/19)
ولهذا تجد هؤلاء الذي تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرةٍ وشك واضطراب، إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم، كما أنهم أيضاً في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدماً على ما جاءت به الرسل، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.
فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي. فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزماً قاطعاً أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمنع أن يعارضه دليل قطعي، لا عقلي ولا سمعي، وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة، وشبه من جنس شبه السوفسطائية .
وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك، وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح، كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل والسمع جميعاً شهد ببطلان العقل المخالف للسمع .
فإن قيل : فهذا يوجب القدح في شهادة العقل، حيث شهد بصدق الرسول، وشهد بصدق العقل المناقض لخبره.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: إنا نحن يمتنع عندنا أن يتعارض العقل والسمع القطعيان، فلا تبطل دلالة العقل، وإنما ذكرنا هذا على سبيل المعارضة، فمن قدّم دلالة العقل على السمع يلزمه أن يقدّم دلالة العقل الشاهد بتصديق السمع، وأنه إذا قدم دلالة العقل لزم تناقضها وفسادها، وإذا قدم دلالة السمع لم يلزم تناقضها في نفسها، وإن لزمه أن لا يعلم صحتها، وما علم فساده أولى بالرد مما لم تعلم صحته ولا فساده.(8/20)
والجواب الثاني: أن نقول: الأدلة العقلية التي تعارض السمع غير الأدلة العقلية التي يعلم بها أن الرسول صادق، وإن كان جنس المعقول يشملها. ونحن إذا أبطلنا ما عارض السمع إنما أبطلنا نوعاً مما يسمى معقولاً، لم نبطل كل معقول، ولا أبطلنا المعقول الذي علم به صحة المنقول، وكان ما ذكرناه موجباً لصحة السمع وما علم به صحته من العقل.
ولا مناقضة في ذلك، ولكن حقيقته أنه قد تعارض العقل الدال على صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول، فقدّمنا ذلك المعقول على هذا المعقول، كما نقدّم الأدلة على صدق الرسول على الحجج الفاسدة والقادحة في نبوات الأنبياء، وهي حجج عقلية. بل شبهات المبطلين القادحين في النبوات قد تكون أعظم من كثير من الحجج العقلية التي يعارض بها خبر الأنبياء عن أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعاده، فإذا كان تقديم الأدلة العقلية الدالة على أنهم صادقون في قولهم: ((أن الله أرسلهم)) مقدمة على ما يناقض ذلك من العقليات، كذلك تقديم هذه الأدلة العقلية المستلزمة لصدقهم فيما أخبروا به على ما يناقض ذلك من العقليات، وعاد الأمر إلى تقديم جنس من المعقولات على جنس.
وهذا متفق عليه بين العقلاء، فإن الأدلة العقلية إذا تعارضت فلابد من تقديم بعضها على بعض، ونحن نقول: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان: لا عقليان ولا سمعيان، ولا سمعي وعقلي، ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما.
فإن قيل : نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة، إما لكذب الناقل عن الرسول، أو خطئه في النقل، وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل في محل النزاع.(8/21)
قيل : هذا معارض بأن يقال: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة لبطلان بعض مقدماتها، فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلى مقدمات الأدلة السمعية.
ومما يبين ذلك أن يقال: دلالة السمع على مواقع الإجماع مثل دلالته على موارد النزاع، فإن دلالة السمع على علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره، كدلالته على رضاه ومحبته وغضبه واستوائه على عرشه ونحو ذلك، وكذلك دلالته على عموم مشيئته وقدرته كدلالته على عموم علمه.
فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها، لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل، بل كثير من الأدلة السمعية التي يردّونها تكون أقوى بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها، وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها، لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها، والسمع جعلوه عاضداً للعقل، وحجة على من ينازعهم من المصدّقين بالسمع، لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم، كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم.
وإذا كان كذلك، تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحة بمجرّد مخالفة عقل الواحد، أو لطائفة منهم، أو مخالفة ما يسمونه عقلاً لا يجوز، إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية، ويقولون: إنها لا تدل على شيء، وإن أخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به، وحينئذٍ فما لم يكن دليلاً لا يصلح أن يُجْعل معارضاً .(8/22)
والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق، وأن ما أخبر به ثابت، وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقاً بثبوت ما أخبر به، فمن كان هذا معلوماً له امتنع أن يجعل العقل مقدماً على خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل يضطره الأمر إلى أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ في الخبريات، ويصيب أو يخطئ أخرى في الطلبيات. وهذا تكذيب للرسول، وإبطال لدلالة السمع، وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون، وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله.
وغايته إن أحسن المقال: أن يجعل الرسول مُخبراً بالأمور على خلاف حقائقها لأجل نفع العامة. ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول على شيء، فعاد الأمر جذعاً؛ لأنه إذا جوز على خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب. وحينئذٍ فلا يكون مجرّد إخبار الرسول موجباً للعلم بثبوت ما أخبر به، وهذا –وإن كان زندقة وكفراً وإلحاداً – فهو باطل في نفسه.
الوجه الخامس عشر : أن ما يسميه الناس دليلاً من العقليات والسمعيات ليس كثير منه دليلاً، وإنما يظنه الظان دليلاً . وهذا متفق عليه بين العقلاء، فإنهم متفقون على أن ما يسمى دليلاً من العقليات والسمعيات قد لا يكون دليلاً في نفس الأمر.
فنقول: أما المتبعون للكتاب والسنة – من الصحابة والتابعين وتابعيهم –فهم متفقون على دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر وما يتبع ذلك، لم يتنازعوا في دلالته على ذلك، والمتنازعون في ذلك بعدهم لم يتنازعوا في أن السمع يدل على ذلك، وإنما تنازعوا: هل عارضه من العقل ما يدفع موجبه ؟ وإلا فكلهم متفقون على أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات، مثبتان لما جاءا بها من أحوال الرسالة والمعاد.
والمنازعون لأهل الإثبات من نفاة الأفعال والصفات لا ينازعون في أن النصوص السمعية تدل على الإثبات، وأنه ليس في السمع دليل ظاهر على النفي.(8/23)
فقد اتفق الناس على دلالة السمع على الإثبات، وإن تنازعوا في الدلالة: هل هي قطعية أو ظنية؟ .
وأما المعارضون لذلك من أهل الكلام والفلسفة فلم يتفقوا على دليل واحد من العقليات، بل كل طائفة تقول في أدلة خصومها: إن العقل يدل على فسادها، لا على صحتها، فالمثبتة للصفات يقولون: إنه يعلم بالعقل فساد قول النفاة، كما يقول النفاة : إنه يعلم بالعقل فساد قول المثبتة.
ومثبتة الرؤية يقولون: إنه يعلم بالعقل إمكان ذلك، كما تقول النفاة: إنه يعلم بالعقل امتناع ذلك.
والمتنازعون في الأفعال هل تقوم به؟ يقولون: إنه علم بالعقل قيام الأفعال به، وإن الخلق والإبداع والتأثير أمر وجودي قائم بالخالق المبدع الفاعل.
وكذلك القول في العقليات المحضة كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ودوام الحوادث في الماضي أو المستقبل أو غير ذلك، كل هذه مسائل عقلية قد تنازع فيها العقلاء، وهذا باب واسع، فأهل العقليات من أهل النفي والإثبات كل منهم يدعي أن العقل دل على قوله المناقض لقول الآخر، وأما السمع فدلالته متفق عليها بين العقلاء.
وإذا كان كذلك قيل : السمع دلالته معلومة متفق عليها، وما يقال إنه معارض لها من العقل ليست دلالته معلومة متفقاً عليها، بل فيها نزاع كثير، فلا يجوز أن يعارض ما دلالته معلومة باتفاق العقلاء، بما دلالته المعارضة له متنازع فيها بين العقلاء.
واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة، وليس في ذلك – ولله الحمد – دليل صحيح في نفس الأمر، ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء، ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل.(8/24)
الوجه السادس عشر : إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده، وإن لم يعارض العقل، وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع. وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام على حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها، وهذا –ولله الحمد- ما زال الناس يوضحونه؛ ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله .
الوجه السابع عشر : أن يقال: الأمور السمعية التي يقال: ((إن العقل عارضها)) كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك، هي مما علم بالاضطرار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها، وما كان معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلاً، مع كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقاً، فمن قدح في ذلك وادعى أن الرسول لم يجئ به، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين.
الوجه الثامن عشر: أن يقال: إن أهل العناية بعلم الرسول، العالمين بالقرآن، وتفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعالمين بأخبار الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان، عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم، ولهذا كانوا كلهم متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر، كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن ، ونقل الصلوات الخمس والقبلة، وصيام شهر رمضان. وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر، كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر.(8/25)
ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني، سواء كان التواتر لفظياً أو معنوياً، كتواتر شجاعة خالد وشعر حسّان، وتحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفقه الأئمة الأربعة، وعدل العمرين، ومغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين وقتاله أهل الكتاب، وعدل كسرى، وطب جالينوس، ونحو سيبويه. يبين هذا أن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس، والنحاة من كلام سيبويه، فإذا كان من ادعى في كلام سيبويه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو الحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان، فمن ادعى في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلاناً وفساداً، لأن هذا معصوم محفوظ.(8/26)
وجماع هذا : أن يعلم أن المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئان: ألفاظه وأفعاله، ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله، وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس، وإن كان عند غيره مجهولاً أو مظنوناً أو مكذوباً، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم، وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول، كما يتواتر عند النحاة من أقوال الخليل وسيبويه والكِسَائي والفراء وغيرهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند الأطباء من معاني أقوال أبقراط وجالينوس وغيرهما ما لا يتواتر عند غيرهم، وتواتر عند كل أحد من أصحاب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وأبي داود وأبي ثور وغيرهم من مذاهب هؤلاء الأئمة ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند اتباع رؤوس أهل الكلام والفلسفة من أقوالهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند أهل العلم بنقلة الحديث من أقوال شعبة ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأمثالهم في الجرح والتعديل ما لا يعلمه غيرهم، بحيث يعلمون بالاضطرار اتفاقهم على تعديل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد والليث بن سعد وغير هؤلاء، وعلى تكذيب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري ووهب بن وهب القاضي وأحمد بن عبد الله الجويباري وأمثالهم.(8/27)
الوجه التاسع عشر : أن يقال: كون الدليل عقلياً أو سمعياً ليس هو صفة تقتضي مدحاً ولا ذماً، ولا صحة ولا فساداً، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم، وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لابد معه من العقل، وكذلك كونه عقلياً أو نقلياً، وأما كونه شرعياً فلا يقابل بكونه عقلياً، وإنما يقابل بكونه بدعياً: إذ البدعة تقابل الشرّعة، وكونه شرعياً صفة مدح، وكونه بدعياً صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل .
ثم الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً، فإن كون الدليل شرعياً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوماً بالعقل أيضاً، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعياً عقلياً .
وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً.
وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه. ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة.
وهذا غلط منهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبيّنها ونبّه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه، كما قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحقْ أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيءٍ شهيد) .
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات.(8/28)
والشارع يحرم الدليل لكونه كذباً في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب، والله يحرم الكذب، لا سيما عليه، كقوله تعالى : (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه) ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم) وقوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقوله: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم) ويحرمه لكون جدالاً في الحق بعد ما تبين، كقوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين) وقوله تعالى: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) .
وحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي، ويكون مقدماً عليه، بل هذا بمنزلة من يقول: إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالى تكون مقدمة على الشرعة التي أمر الله بها، أو يقول: الكذب مقدم على الصدق، أو يقول : خبر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون مقدماً على خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو يقول: ما نهى الله عنه يكون خيراً مما أمر الله به، ونحو ذلك، وهذا كله ممتنع.
وأما الدليل الذي يكون عقلياً أو سمعياً من غير أن يكون شرعياً، فقد يكون راجحاً تارة ومرجوحاً أخرى، كما أنه قد يكون دليلاً صحيحاً تارة، ويكون شبهة فاسدة أخرى، فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخباراً أو أمراً لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقاً تارة باطلاً أخرى، وهذا مما لا ريب فيه، لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا على جنس الأدلة، لا على أعيانها.(8/29)
الوجه العشرون: أن يقال: غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم، من المشهورين بالإسلام، هو التأويل أو التفويض أو الرد فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة .
والتأويل المقبول : هو ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص.
وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم، كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد.
وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟.
وأيضاً، فالخطاب الذي أُريد به هدانا والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب بما بيّن فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر.
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبيّن الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبيّن به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه. وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد.(8/30)
وبهذا احتج الملاحدة، كابن سينا وغيره، على مثبتي المعاد، وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم، وزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبين ما الأمر عليه في نفسه، لا في العلم بالله تعالى ولا باليوم الآخر، فكان الذي استطالوا به على هؤلاء هو موافقتهم لهم على نفي الصفات، وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم .
ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول : ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف، يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول، وأولئك جعلوا الجميع تخييلاً وتوهيماً. ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة .
ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون: إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر على خلاف ما هو عليه، وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج، لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة .
والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون: إنه أراد أن يعتقدوا الحق على ما هو عليه، مع علمهم بأنه لم يبين ذلك في الكتاب والسنة، بل النصوص تدل على نقيض ذلك، فأولئك يقولون: أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به، وهؤلاء يقولون: أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا على نقيضه.
والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل، للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا : وإذا كان كلاهما باطلاً كان تأويل النفاة للنصوص باطلاً: فيكون نقيضه حقاً وهو إقرار الأدلة الشرعية على مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد .(8/31)
الوجه الحادي والعشرون: أن يقال : الذي يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه لفظاً ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع فإن البدعة لو كانت باطلاً محضاً لظهرت وبانت وما قبلت ولو كانت حقاً محضاً لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه لكن البدعة تشتمل على حق وباطل، والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لابد أن تشمل على لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لابد له أن يلبس فيه حقاً بباطل، بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة.
الوجه الثاني والعشرون: أن يقال: إن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المرسل وإن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا من التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة .(8/32)
الوجه الثالث والعشرون: أن يقال: ما سلكوه من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر، حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم، ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال: كالصلوات الخمس، الزكاة، والصيام، والحج، فجعلوها للعامة دون الخاصة، فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل، كما قال تعالى : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . فأفضى الأمر بمن سلك سبل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق، من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف، حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب ((فصوص الحكم)) وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحداً، وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وهذا تعطيل للخالق .
وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن، وهو قول فرعون، ولهذا كانوا معظمين لفرعون. ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، فكفروا بحقيقة اليوم الآخر، ثم ادّعو أن الولاية أفضل من النبوة، وأن خاتم الأولياء – وهو شيء لا حقيقة له – زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء، بل ومن جميع الأنبياء، وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله، الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق.
وكان قولهم كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم، لا عقل ولا قرآن، فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس، والأنبياء أفضل من غيرهم، فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع.(8/33)
الوجه الرابع والعشرون: أن يقال : معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها، هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كلّ كفر، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبيّن أن المتبعين لما أنزله هم أهل الهدى والفلاح، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال.
كما قال تعالى : (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)
وقال تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل، قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) إلى قوله : (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) .
وقال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جنهم زمراً حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين).
وقال تعالى : (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير. قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير).
ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان: إما إنشاء وإما إخبار والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة، فأصل السعادة تصديق خبره، وطاعة أمره، وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى، وهذا هو معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع.(8/34)
ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري، بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم، وضلال من ضل من أهل العبادة الفقه في النوع الطلبي، بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم.
والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفّار، كما قال تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) إلى قوله: (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب).
وقال تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) . وقوله تعالى : (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) مصدق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((مراء في القرآن كفر)).
ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن، وجادل في ذلك بعقله ورأيه، فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله، فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدّم على نصوص الكتاب والسنة؟ ! .
وقال تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كِبر ما هم ببالغيه) . وقال : (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) . والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء، كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين وشواهده كثيرة كقوله تعالى : (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) وقوله: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) ... . فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه، دخل في معنى هذه الآية.
وهذا مما يبيّن أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله، لا يجوز معارضته بغير ذلك.(8/35)
وكتاب الله نوعان: خبر وأمر، كما تقدم. أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يُفسر أحد الخبرين الآخر ويبيّن معناه. وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله، فمن أراد أن ينسخ شرع الله، الذي أنزله، برأيه وهواه كان ملحداً، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحداً.
الوجه الخامس والعشرون: وهو أن يقال: إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا.
كما قال تعالى : (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون. قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافلٍ عما تعملون) وقال تعالى: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم) الآية . وقال : (ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً) وقال: (وويل للكافرين من عذاب شديد. الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله) ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث به رسله مما أمر به وأخبر عنه، فمن نهى الناس نهياً مجرداً عن تصديق رسل الله وطاعتهم، فقد صدهم عن سبيل الله، فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل، وبين أن العقل يناقض ذلك، وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل؟!.
ومعلوم أن من زعم أن العقل الصريح الذي يجب اتباعه، يناقض ما جاء به الرسل، وذلك هو سبيل الله، فقد بغى سبيل الله عوجاً، أي طلب لها العوج، فإنه طلب أن يبين اعوجاج ذلك وميله عن الحق، وأن تلك السبيل الشرعية السمعية المروية عن الأنبياء عوجا لا مستقيمة، وأن المستقيم هو السبيل التي ابتدعها من خالف سبيل الأنبياء. ويوضح هذا :(8/36)
الوجه السادس والعشرون: وهو أن يقال: من المعلوم أن الله أخبر أنه أرسل رسله بالهدى والبيان، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال تعالى : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) . وقال تعالى: (كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) إلى قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم) .
وقد قال تعالى: (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) وقال: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) وقال: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبلَ السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم) وقال تعالى: (ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وقال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وإذا كان كذلك فيقال: أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق، أو بما يدل على الباطل، أو لم يتكلم: لا بما يدل على حق، ولا بما يدل على باطل.(8/37)
ومعلوم أنه إذا قدر في شخص من الأشخاص أنه لم يتكلم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: لا بحق ولا بباطل، ولا هدى ولا ضلال، بل سكت عن ذلك، لم يكن قد هدى الناس، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا بيّن لهم، ولا كان معه ما يستضئ به السالك المستدل.
فإن قدّر أن هذا الشخص تكلم بما يُفهم منه نقيض الحق، وبما يدل على ضد الصواب، وكان مدلول كلامه في ذلك معلوم الفساد بصريح العقل –لكان هذا الشخص قد أضل بكلامه وما هدى، وكان مخرجاً لمن اتبعه بكلامه من النور إلى الظلمات، كحال الطاغوت الذين قال الله فيهم: (والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) .
ومن زعم أن ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، قد عارضه صريح المعقول الذي يجب تقدمه عليه، فقد جعل الرسول شبيهاً بالشخص الثاني الذي أضل بكلامه من وجه، ويجعله بمنزلة من جعله كالساكت الذي لم يضل ولم يهد من وجه آخر.
فإنه إذا زعم أن الحق والهدى هو قول نفاة الصفات الذي يعلم بالعقل عنده، فمعلوم أن كلام الله ورسوله لم يدل على قول النفاة دلالة يحصل بها الهدى والبيان للمخاطبين بالقرآن. إن كان قول النفاة هو الحق .
ومعلوم أن كلام الله ورسوله دل على إثبات الصفات المناقض لقول النفاة، دلالة بيّنة بقول جمهور الناس: إنها دلالة قطعية على ذلك.
والمعتزلة ونحوهم من النفاة معترفون بأنها دلالة ظاهرة، فإذا كان الرسول لم يظهر للناس إلا إثبات الصفات دون نفيها، وكان الحق في نفس الأمر نفيها، لكان بمنزلة الشخص الذي كتم الحق وذكر نقيضه.
وهذا خلاف ما نعته الله في كتابه، فدل على أن هذه الطريق التي يسوغ فيها تقديم عقول الرجال –في أصول التوحيد والإيمان- على كلام الله ورسوله. تناقض دين الرسول مناقضة بينة، بل مناقضة معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، لمن تدبر حقيقة هذا القول، وعرف غائلته ووباله.(8/38)
الوجه السابع والعشرون : إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن أو الحكمة الذي بلّغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله، مع أن عقولنا تناقض ذلك، لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدى ولا علم –لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول، ولم يرض الرسول منه بهذا بل يعلم أن هذا لو ساغ، لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشيطان لا يزال يلقي الوساوس في النفوس، فيمكن حينئذ أن يلقي في قلب غير واحدٍ من الأشخاص، ما يناقض عامة ما أخبر به الرسول وما أمر به.
وقد ظهر ذلك في القرامطة الباطنية، الذين ردُّوا عامة الظاهر الذي جاء به من الأمر والخبر، وزعموا أن العقل ينافي هذا الظاهر الذي بيّنه الرسول.
ثم قد يقولون: الظاهر خطاب للجمهور والعامة، حتى يصل الشخص إلى معرفة الحقيقة التي يزعمون أنها تناقض ما بينه الرسول، وحينئذ فتسقط عنه طاعة أمره، ويسوغ له تكذيب خبره.
ومن المعلوم لعامة المسلمين أن قول الباطنية، الذي يتضمن مخالفة الرسول، معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام.
وكذلك ما أخبر به في المعاد، قد قال متكلمة المسلمين: إن قول الفلاسفة المناقض لذلك معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. وهكذا ما أخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته، يعلم أهل الإثبات أن قول النفاة فيه معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. وأصل هذا الإلحاد جواز معارضة ما جاءت به الأنبياء بالعقول والآراء .
الوجه الثامن والعشرون: وهو أن الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كتابه أن معارضة مثل هذا فعل الشياطين المعادين للأنبياء .(8/39)
قال تعالى : (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين. ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل. ولا تسبوا الذي يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمةٍ عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) أي : وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة . فقوله: (نقلب أفئدتهم) معطوف على قوله: (لا يؤمنون)، وكلاهما داخل في معنى قوله: (وما يشعركم) وبهذا تزول شبهة من لم يفهم الآية، فظن أن (أن) بمعنى (لعل) لتوهمه أن قوله: (ونقلب) فعل مبتدأ، إلى قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون. أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).
ومن تدبر هؤلاء الآيات علم أنها منطبقة على من يعارض كلام الأنبياء بكلام غيرهم بحسب حاله، فإن هؤلاء هم أعداء ما جاءت به الأنبياء .
وأصل العداوة البغض، كما أن أصل الولاية الحب، ومن المعلوم أنك لا تجد أحداً ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط ذلك من المصحف لفعله.(8/40)
قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه. وقيل عن بعض رؤوس الجهمية –إما بشر المريسي، أو غيره- : أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر، ثم صرفوه بالتأويل. ويقال إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل .
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافاً لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه. كما قال: ((ليبلغ الشاهد الغائب))([11]) وقال : ((بلّغوا عني ولو آية)) ([12]) وقال: ((نضّر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلّغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) ([13]) .
وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزل الله، لأنه معارض لما يقولونه، وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر: قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها، وتفلّتت منهم أن يعوها، وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم، فذكر أنهم أعداء السنن.
وبالجملة، فكل من أبغض شيئاً من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك، وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك.
قال عبد الله بن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله. وعدو الأنبياء هم شياطين الإنس والجن.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: ((تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن)). فقال: أو للإنس شياطين؟ فقال: ((نعم شر من شياطين الجن، وهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)) .
والزخرف هو الكلام المزين، كما يزين الشيء بالزخرف، وهو المذهب، وذلك غرور لأنه يغر المستمع، والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مزخرف يغر المستمع .(8/41)
(ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، كما رأيناه وجربناه. ثم قال: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً) وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله تعالى بما أنزله من الكتاب المفصل. كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)، وقوله تعالى : (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً) جملة في موضع الحال. وقوله: (أفغير الله أبتغي حكماً) استفهام إنكار، يقول : كيف أطلب حكماً غير الله، وقد أنزل كتاباً مفصلاً يحكم بيننا؟
وقوله: (مفصلاً) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين، بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال، ويقول: إنه لا يفهم معناه، ولا يدل على مورد النزاع، فيجعله: إما مجملاً لا ظاهر له، أو مُؤوّلاً لا يعلم معناه، ولا دليل يدل على عين المعنى المراد به.
ولهذا كان المعرضون عن النصوص، المعارضون لها، كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد به، وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة، ويقولون: يجوز أن يكون المراد واحداً منها. ولهذا أمسك من أمسك منهم عن التأويل، لعدم العلم بعين المراد.
فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصّلاً، بل مجملاً ملتبساً أو مؤوّلاً بتأويل لا دليل على إرادته.
ثم قال: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن، فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، علم علماً يقيناً لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاء من مشكاة واحدة، لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها.(8/42)
وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك، ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن، بل هو من الحق الذي صدقهم عليه. ولهذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات، ولا يجعلون ذلك مما بدّله اليهود، ولا يعيبونهم بذلك ويقولون هذا تشبيه وتجسيم، كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة، ويقولون: إن هذا مما حرّفوه، بل كان الرسول إذا ذكروا له شيئاً من ذلك صدّقهم عليه، كما صدقهم في خبر الحبر، كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، وفي غير ذلك. ثم قال: (وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً)، فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق، وما أمر به فهو عدل.
وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدّق به، لا نعرض عنه ولا نعارضه، ومن دفعه لم يصدق به، وإن قال: أنا أصدق الرسول تصديقاً مجملاً، فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول، وعارضه هو بعقله ودفعه، لم يصدق به تصديقاً مفصلاً، ولو صدق الرجل الرسول تصديقاً مجملاً، ولم يصدقه تصديقاً مفصلاً، فيما علم أنه أخبر به، لم يكن مؤمناً له، ولو أقر بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بينه الرسول، أو صرفه إلى معانٍ لا يدل عليها مجرى الخطاب بفنون التحريف، بل لم يُردها الرسول، فهذا ليس بتصديق في الحقيقة، بل هو إلى التكذيب أقرب.
الوجه التاسع والعشرون: وهو أن يقال: إن الله ذمّ أهل الكتاب على كتمان ما أنزل الله، وعلى الكذب فيه، وعلى تحريفه، وعلى عدم فهمه.(8/43)
قال تعالى : (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون. أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
فذمَّ المحرِّفين له، والأميين الذين لا يعلمونه إلا أمانيّ، والذين يكذبون فيقولون لما يكتبونه هو من عند الله، وما هو من عند الله، كما ذم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، وقد ذمّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في غير هذا الموضع.
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في الذين يعرضون عن كتاب الله ويعارضونه بآرائهم وأهوائهم، فإنهم تارة يكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم، ومنهم طوائف يضعون أحاديث نبوية توافق بدعهم، كالحديث الذي تحتج به الفلاسفة: أول ما خلق الله العقل.
والحديث الذي يحتجون به في نفي الرؤية : لا ينبغي لأحد أن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة.
والحديث الذي يحتجون به في نفس العلو، كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الذي أَيَّنَ الأين فلا يقال له: أين))، وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره، الذي قال فيه : ((يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك))، وأكثر فيه في القدح في ابن إسحاق، مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث، وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب.(8/44)
والأحاديث التي تحتج بها الاتحادية من هؤلاء وغيرهم، مثل: قولهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ربي زدني فيك تحيُّراً)) .
ومثل الأحاديث التي يحتج بها الواصفون له بالنقائص، كحديث الجمل الأورق ونزوله عشية عرفة إلى الأرض يصافح الركبان ويعانق المشاة، ونزوله إلى بطحاء مكة، وقعوده على كرسي بين السماء والأرض، ونزوله على صخرة بيت المقدس، وأمثال ذلك.
وكذلك ما يضعونه من الكتب بآرائهم وأذواقهم ويدّعون أن هذا هو دين الله الذي يجب اتباعه.
وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرّفون بها الكلم عن مواضعه، فأكثر من أن يذكر، كتأويلات القرامطة الباطنية، والجهمية، والقدرية، وغيرهم.
وأما عدم الفهم، فإن النصوص التي يخالفونها، تارة يحرّفونها بالتأويل، وتارة يعرضون عن تدبرها وفهم معانيها، فيصيرون كالأميين الذي لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث، فمنهم طوائف لا يقرّون القرآن، مثل كثير من الرافضة والجهمية، لا تحفظ أئمتهم القرآن، وسواء حفظوه أو لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه، بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبّره، كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة.
وأما الحديث : فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه، وكثير منهم لا يصدق به، ثم إذا صدقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه، أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه، حتى أن منهم طوائف يقرّون بما أخبر به القرآن من الصفات، وأما الحديث إذا صدّقوا به فهم لا يقرّون بما أخبر به.(8/45)
وإذا تبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بالمعقولات، لابد له من كتمان أو كذب أو تحريف أو أمية، مع عدم علم، وهذه الأمور كلها مذمومة – دل ذلك على أن هؤلاء مذمومون في كتاب الله، كما ذم الله أشباههم من أهل الكتاب، وأن هؤلاء وأمثالهم دخلوا في قوله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي ثبت عنه في الصحيح، الذي قال فيه: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)). قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟))([14]) .
الوجه الثلاثون: وهو أن يقال : الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم: إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة . قالوا: إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور. حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات: إما للعامة. وإما للخاصة دون العامة. ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام. وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوّف الذين لا يقولون ذلك. فلابد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
ولفظ ((التأويل)) يراد به التفسير، كما يوجد في كلام المفسرين: ابن جرير وغيره ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام. وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن.
وهذان الوجهان لا ريب فيهما. والتأويل بمعنى التفسير والبيان كان السلف يعلمونه ويتكلمون فيه.
وأما بالمعنى الثاني. فمنه ما لا يعلمه إلا الله. ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن .وينفون العلم بالكيفية. كقول مالك وغيره الاستواء معلوم. والكيف مجهول.
فالعلم بالاستواء من باب التفسير، وهو التأويل الذي نعلمه. وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وهو المجهول لنا.(8/46)
ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفات والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة .
وهؤلاء قولهم متناقض، فإنهم على أصلين فاسدين: فإنهم يقولون لابد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله: ((جعت فلم تطعمني)). وقوله: ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض))، ونحو ذلك. ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب، فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر، ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسداً، وهم مخطئون في هذا وهذا.
ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد، من غير بيان من الله ورسوله للمراد .
وهذا قول ظاهر الفاسد، وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد. أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بيّنت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: ((عبدي، مرضت فلم تعدني. فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)).
فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض. وإنما الذي مرض عبده المؤمن. ومثل هذا لا يقال ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قرن به ما بيّن معناه، كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام، إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة، كقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) وقوله: (فصيام شهرين متتابعين) ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفاً كاملة ولا شهرين، سواء كانا متفرّقين أو متتابعين([15]).(8/47)
وأما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فهو أولاً: ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا نحتاج أن ندخله في الباب. ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأول الجميع، كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب ((مشكل الحديث)) حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات.
فحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، هو معروف من كلام ابن عباس، ورُوى مرفوعاً، وفي رفعه نظر. ولفظ الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض. فمن صافحة أو قبّله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض، وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه. ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به. فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله، فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد. من غير بيان للنص أصلاً. فالحمد لله الذي سلّم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. والحمد لله رب العالمين .
وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معانٍ دلالة بينة، بل صريحة قطعية، كأحاديث الرؤية ونحوها، مما فيه إثبات الصفات. فيقولون: هذه تحتاج إلى التأويل كتلك، وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف، وأن التفسير الذي به يعرف الصواب قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب: إما مقروناً به، وإما في نص آخر.(8/48)
ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم، في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب، فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة، كأبي حامد وأمثاله، ممن ينظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم، يعوّلون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم، فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقّرره، وما لم تعرفه فأوّله.
ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا .
ثم المعتزلي –والمتفلسف الذي يوافقه – يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية .
ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان، وإثبات أكل وشربٍ في الآخرة، ونحو ذلك.
فهؤلاء، مع تناقضهم، لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه دليلاً يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم.
ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئاً من معرفة صفات الله تعالى، بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفياً وإثباتاً، وإنما ولايته عندهم في العمليات – أو بعضها- مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم.
ثم يقولون مع ذلك: إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر: صار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم. وهذا مناقض لقولهم: إنه أعقل الخلق وأكملهم، أو من أعقلهم وأكملهم، وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم.(8/49)
فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد، يقولون قولاً مختلفاً، يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض، فاسد غاية الفساد.
الوجه الحادي والثلاثون : وهو أن يقال : حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال، أن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل، فالإنسان لا يخلو من حالين، وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأياً مخالفاً للنص، أو ليس له رأي يخالفه، فإن كان عنده مما يسميه معقولاً ما يناقض خبر الله ورسوله، وكان معقوله هو المقدّم، قدّم معقوله وألغى خبر الله ورسوله وكان حينئذٍ كل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله، ولم يكن مستدلاً بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره، بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ.(8/50)
ومعلوم أن المقصود بالخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام، فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله، والمعنى الذي دلّ عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه، وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه، قد كان عالماً بثبوته بدون الخطاب، ولم يدله عليه الخطاب الدلالة المعروفة، بل تعب تعباً عظيماً حتى أمكنه احتمال الخطاب له، مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب، فلم يكن في خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء، لا إفهام ولا بيان، بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان، وحصول العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد والطغيان، من الطعن في القرآن والإيمان.
وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص، مما يسمى رأياً ومعقولاً وبرهاناً ونحو ذلك، فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به ورسوله.
ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات، ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمةٍ إلا ولهم ما يسمونه معقولات.
واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مدة إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعاً: يزعم أنها معقولات.
ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة عليّ، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدّعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص.
ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم ما لم تكن عند متبوعهم، فيكون –بزعمهم- قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم.
واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه، وما تجده لأبي هاشم، ولأبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم .(8/51)
بل أبو المعالي الجويني، ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد، والاستواء.
فتبين أن من جوز على خبر الله، أو خبر رسوله، أن يناقضه شيء من المعقول الصريح، لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به، أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له.
بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من العلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس –أو أكثرهم- حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل.
ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحدٍ علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية.
فهكذا تصديق خبر الله ورسوله، قد علم علماً يقينياً أنه صدق مطابق لمخبره، وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فردٍ من علومنا الحسية والعقلية، وإن كنا جازمين بجنس ذلك، فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية.(8/52)
وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه، فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره.
وهذه حال المؤمنين للرسول، الذي علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح: لا عقلي، ولا سمعي، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات، أو برهانيات، أو وجديات، أو ذوقيات، أو مخاطبات، أو مكاشفات، أو مشاهدات، أو نحو ذلك من الأمور الدهّاشات، أو يسمون ذلك تحقيقاً، أو توحيداً، أو عرفاناً، أو حكمة حقيقية، أو فلسفة، أو معارف يقينية، ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها، فنحن نعلم علماً يقينياً لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات، وضلالات، وخيالات، وشبهات مكذوبات، وحجج سوفسطائية، وأوهام فاسدة، وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسمّاها، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأرباباً، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء : (إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) . والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك، لم يثق بشيء من علمه، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك.
فهكذا من جوّز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله.(8/53)
ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية.
ثم إن فضلاءهم يتفطّنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب.
وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه، علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته.
وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع.
الوجه الثاني والثلاثون: أن يقال: العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له. ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟ .
فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج: فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه.
وهذا هو الذي يسميه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر.
وبيان ذلك هاهنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه، وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته.(8/54)
فإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه.
وهذا كالمخلوقات، فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها.
وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي، وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام: يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه، إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر، اللهم إلا أن يكون الدليل لازماً للمدلول عليه، فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم، وإذا كان لازماً له أمكن أن يكون مدلولاً له، إذ المتلازمان، يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه.
وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه، ونقله دليل عليه، وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع، لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر.
لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع إلا ذلك العقل، لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه .
وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم. وهذا التلازم فيه قولان: قيل : إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها. وقيل: بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله، كاستلزام العلم للحياة، والصفة لموصوفٍ وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر، لامتناع ثبوت صفةٍ وعرض، بدون موصوفٍ وجوهر.
المقصود هنا: أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي، فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع، علمنا بالدليل العقلي الدال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي، علمنا بصحة الشرع.(8/55)
وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل، ويلزم أيضاً من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل.
وإذا كان العلم بصحة الشرع لازماً للعلم بالمعقول الدال عليه، وملزوماً له، ولازماً لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلاً عن تعارض المتلازمين، فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر،كالضدين والنقيضين.
والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين، أو متضادين؟
وإذا قال القائل : نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع، لم نقدح في كل الشرع.
قيل : ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل، لم يقدح في كل عقل، ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع. وإنما قلنا: ((مما يقال إنه عقل)) لأنه ليس بمعقول صحيح، وإن سمّاه أصحابه معقولاً.
فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقلية، كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة، وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقلية فاسدة.
قال الله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) وقال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) .
ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع، ومن قدّم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع، بل سَلِمَ له الشرع. ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان، خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعاً. وذلك لأن القائل الذي قال: العقل أصل الشرع، به علمت صحته، فلو قدّمنا عليه الشرع للزم القدح في أصل الشرع.(8/56)
يقال له: ليس المراد بكونه أصلاً له: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصل في علمنا به، لكونه دليلاً لنا على صحة الشرع.
ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه، فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل، فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحاً والشرع مرجوحاً، بحيث لا يكون خبره مطابقاً لمخبره، لزم أن يكون الشرع باطلاً، فيكون العقل الذي دلّ عليه باطلاً، لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم وقطعاً. ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلاً لمن يكن الدليل عليه إلا باطلاً.
إما إذا قدّم الشرع، كان المقدم له قد ظفر بالشرع، ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي، لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع، فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة. فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته؟! وإنما يناقض شيئاً آخر ليس هو دليل صحته، بل ولا يكون صحيحاً في نفس الأمر.
وأيضاً فلو قدر أنه ناقض دليلاً خاصاً عقلياً يدل على صحته، فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة، فلا يلزم من بطلان واحدٍ منها بطلان غيره، بخلاف الشرع المدلول عليه، فإنه إذا قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات.
وأيضاً فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل، هم يدعون في معقولات معينة أنه عرفوا بها الشرع، كدعوى الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام، المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض، والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها.(8/57)
وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفاً عليه، لأن الذين آمنوا بالله ورسوله، وشهد لهم القرآن بالإيمان، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل. وحينئذ فلو قُدر أن هذا الدليل صحيح، لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول، بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى، كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة. وحينئذ إذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول، لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه، القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به، فكيف إذا كان هذا الدليل باطلاً؟!. فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه، فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع.
ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريق إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا، فإنه من أجهل الناس شرعاً وعقلاً. أما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به.
وأما العقل، فإن قول القائل: إنه لا دليل إلا هذا، قضية كلية سالبة، وشهادة على النفي العام، وأنه ليس لأحدٍ من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا، وهذا مما لم يقيموا عليه دليلاً، بل لا يمكن أحدٌ العلم بهذا النفي لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً؟! .
وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات، فإنه لا تخلو من أمرين: إن كانت صحيحة فلم تصح الدلالة في المسلك العقلي، ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع، إذ كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعيّن العقلي، وإن كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة، وليست أصلاً للشرع، فجيب أن يعرف معنى كون العقل أصلاً للشرع: أن المراد به أنه دليل.
ونحن قد بيّنا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلاً صحيحاً، فضلاً عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع.(8/58)
فإن قيل: نحن إذا قدّمنا العقل لم يبطل الشرع، بل نفوضه أو نتأوله.
قيل: إن لم يكن الشرع دالاً على نقيض ما سميتموه معقولاً، فليس هو محل النزاع، وإن كان الشرع دالاً فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع، وذلك إبطال له، وإذا دل الشرع على شيء، فالإعراض عن دلالته كالإعراض عن دلالة العقل.
فلو قال القائل: أنا قد علمت مراد الشارع، وأما المعقول فأفوضه، لأني لم أفهم صحته ولا بطلانه، فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع، وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين، فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع- كان هذا أقرب من قول من يقول : إن الله ورسوله لم يبين الحق، بل تكلم بباطل يدل على الكفر، ولم يبين مراده، فإن المقدّم للمعقول عند التعارض لابد أن يقول: إن الشرع يدل على خلاف العقل: إما نصاً، وإما ظاهراً.
وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة، وحينئذ فحقيقة قوله: إن الله –ورسوله- أظهر ما هو باطل وضلال وكفر ومحال، لم يبين الحق ولا هدى الخلق، وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم.
والمقدّم للشرع يقول: إن الله – ورسوله- بيّن المراد، وهدى العباد، وأظهر سبيل الرشاد، ولكن هؤلاء المخالفون له ضلُّوا، وهم الذين قال الله فيهم : (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول، ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم، وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع، لا أطعن في العقليات الصحيحة الصريحة، الدالة على أن الرسول صادق بلّغ البلاغ المبين، فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه.(8/59)
فهذا القائل قد صدّق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح، وصدّق بموجب الأدلة العقلية والنقلية. وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق، ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصاً أو ظاهراً، بل طعن في دلالة الشرع، وفي دلالة العقل الذي يدل على صحة الشرع. فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح، دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل.
ومما يوضح هذا: أن ما به عرف صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على ثبوت ذلك كله، لا يميز بين خبر وخبر، بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به. وإذا كان ذلك الدليل عقلياً، فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض، فمن أقرَّ ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض، فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وقد أبطل الشرع، فلم يبق معه لا عقل ولا شرع.
وهذا حال من آمن ببعض الكتاب دون بعض قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً) .
ولا ريب أن من قدّم على كلام الله ورسوله ما يعارضه من معقول أو غيره، وترك ما يلزمه من الإيمان به، كما آمن بما يناقضه، فقد آمن ببعضٍ وكفر ببعض.(8/60)
وهذا حقيقة حال أهل البدع، كما في كتاب ((الرد على الزنادقة والجهمية)) لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم : ((مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب)). وقوله: ((مختلفون في الكتاب)) يتضمن الاختلاف المذموم المذكور في قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينان وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون، ويذم فيه الكافرون.
وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، وكاختلاف الثنتين وسبعين فرقة. وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى : (ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك)، وفي قوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) فأغرى بينهم العداوة والبغض، بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم. وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد: ((مخالفون للكتاب)) فإن كلاً منهم يخالف الكتاب.
وأما قوله بأنهم: ((متفقون على مخالفة الكتاب)) فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب.(8/61)
ومتى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزلٌ من السماء، كما قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم) .
وكما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً) وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها) .(8/62)
الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال: إن الشرع لا يمكن أن يخالفه العقل الدال على صحته، بل هما متلازمان في الصحة، وهذا القدر لا يمكن مؤمن بالله ورسوله أن ينازع فيه، بل لا ينازع مؤمن بالله ورسوله أن العقل لا يناقض في نفس الأمر، لكن الذي تقوله الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع أن تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبني على الأدلة النافية للصفات والقدر، كما يقولونه من أن صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه، وقيام المعجزة موقوف على أن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة، وذلك موقوف على أن فعل الله قبيح، والله لا يفعل القبيح، وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على أنه غنُّي عنه عالم بقبحه، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله، وغناه عنه موقوف على أن ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على نفي صفاته وأفعاله، لأن الموصوف بالصفات والأفعال جسم، ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث الجسم، فلو بطل الدال على حدوث الجسم بطل ما دل على صدق الرسول فهذا أصل قولهم، ومن وافقهم في نفي بعض الصفات أو الأفعال قال بما يناسب مطلوبه من هذا الكلام، فحقيقة قولهم إنه لا يمكن التصديق بكل ما في الشرع، بل لا يمكن تصديق البعض إلا بعدم تصديق البعض الآخر. وحينئذ فدليلهم العقلي ليس دالاً على صدق الرسول إلا على هذا الوجه، فلا يمكنهم قبول ما يناقضه من نصوص الكتاب والسنة .
وحينئذ فيقال لهم : لا نسلم أن مثل هذا هو الأصل الذي به علم صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا معارضة لقول الرسول بما لا يدل على صدقه، فبطل قول من يقول: إنّا إذا قدَّمنا الشرع كان ذلك طعناً في أصله. وهذه المقدمات التي ذكروها عامتها ممنوعة.
وإذا قال أحدهم: نحن لا نعلم صدق الرسول إلا بهذا، أو لا نعلم دليلاً يدل على صدق الرسول إلا هذا .(8/63)
قيل : لا نسلّم صحة هذا النفي، وعدم العلم ليس علماً بالمعلوم، وأنتم مكذّبون لبعض ما جاء به الشرع، وتدّعون أنه لا دليل على صدق الرسول سوى طريقكم، فقد جمعتم بين تكذيبٍ ببعض الشرع، وبين نفيّ لا دليل عليه، فخالفتم الشرع بغير حجة عقلية أصلاً.
________________
([1]) بهذا الوجه: تبدأ الأوجه التي استقيتها من كلام شيخ الإسلام في كتابه (درء التعارض) وابن القيم في كتابه (الصواعق) وسيكون النقل منهما بتصرف يسير مني واختصار ليوافق هدف هذه الرسالة. مع التنبيه إلى أنني قد أذكر الهوامش المفيدة للدكتور محمد رشاد سالم –رحمه الله- التي تساعد على توضيح الكلام.
([2]) هو محمد بن شجاع الثلجي البغدادي أبو عبد الله، فقيه العراق في وقته من أصحاب أبي حنيفة، وكان فيه ميل إلى الاعتزال، واحتج لفقه أبي حنيفة بالحديث وقواه به، وله مؤلفات منها: ((النوادر)) و ((المضاربة)) و ((الرد على المشبهة)) ولرجال الحديث فيه مطاعن كما نقل الفتني عن ابن عدي أنه كان يضع أحاديث في التشبيه ينسبها إلى المحدثين، انظر ترجمته في : تذكرة الحفاظ 2/184؛ تهذيب التهذيب 9/220؛ الجواهر المضيئة 2/60،438؛ ميزان الاعتدال 3/71؛ تاريخ بغداد 5/350؛ الوافي بالوفيات 3/147-148؛ الفهرست لابن النديم، ص206-207، تذكرة الموضوعات، ص291، لسان الميزان 6/692، الأعلام 7/28 .(8/64)
([3]) أورد السيوطي هذا الحديث ضمن الأحاديث الموضوعة في اللآلئ المصنوعة 1/3 عن الحاكم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور لا من أرض ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق))، ثم ذكر السيوطي قول الحاكم بأنه موضوع، واتهم بوضعه محمد بن شجاع الثلجي ، قال الحاكم: ولا يضع مثل هذا مسلم، زاد السيوطي: ((ولا عاقل)) ، ثم نقل كلام الذهبي عن ابن شجاع. وذكر ابن عراق هذا الحديث في تنزيه الشريعة 1/143، وذكره محمد بن طاهر الهندي الفتني في تذكرة الموضوعات، ص 291 .
([4]) ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ مختلفة 4/990 .
([5]) ذكر محمد بن طاهر الهندي في تذكرة الموضوعات ص 43 الحديث التالي ((من صلى يوم عاشوراء أربعين ركعة بعد الظهر يقرأ في كل ركعة آية الكرسي عشر مرات ، والإخلاص إحدى عشرة مرة، والمعوذتين خمس مرات)) . وقال: إنه موضوع. وفي الآلئ : ((فضل أربع ركعات بالفاتحة والإخلاص خمسين مرة يوم عاشوراء)). وقال إنه موضوع . وانظر : الفوائد المجموعة، ص 47 .
([6]) من أعظم شراح أرسطو، ولد في أفروديسيا من أعمال آسيا الصغرى، وتولى تدريس الفلسفة الأرسطية في أثينا ما بين سنتي 198، 211م .
... انظر : تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم، ص32، ط. القاهرة، 1958. وانظر ترجمته ومصنفاته في: طبقات الأطباء 1/105-107؛ الفهرست لابن النديم، ص252-253؛ الملل والنحل 2/1037-1040 وقد نشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي بعض مقالاته في كتابه ((أرسطو عند العرب)).(8/65)
([7]) هو آخر وأشهر ممثلي الأفلاطونية الجديدة، ولد بالقسطنطينية سنة 412م. وتلقى الفسلفة في الإسكندرية ثم في أثينا حيث صار زعيم مدرستها الفلسفية، وقد كان برقلس من القائلين بقدم العالم، توفي سنة 485م. ترجم له ابن النديم في الفهرست (ص 252) وذكر مصنفاته، وأورد الشهرستاني في الملل والنحل 2/1025-1032 أدلته على قدم العالم. وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي رسالة له في قدم العالم (مع رسائل أخرى) في كتابه ((الأفلاطونية المحدثة عند العرب)) القاهرة، 1955 .
([8]) من شراح أرسطو مع أنه كان أفلاطونياً محدثاً. ولد سنة 317م. وعاش في القسطنطينية وأيد الإمبراطور جوليان في العمل على بعث الوثيقة وتوفي سنة 388م.
... انظر : يوسف كرم، المرجع السابق 303. وانظر ترجمته والكلام عن آرائه ومصنفاته في : الفهرست لابن النديم، ص253، ابن القفطي، ص107؛ الملل والنحل 2/1033-1036. وقد نشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي مقالة وشطرا من شرحه لمقالة (اللام) في كتابه ((أرسطو عند العرب)) .
([9]) قال الأستاذ رشاد سالم –رحمه الله-: لم أجد فرقة من الفرق تدعى المشايخية، ويبدو أن ابن تيمية يشير إلى مشايخ المعتزلة البغداديين الذين خالفهم أبو الحسين البصري. وانظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي، ص 45؛ الملل والنحل 1/1078. وانظر أيضاً : المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (ط. دمشق، 1384/1964) الفهرست: مادة شيوخكم (المعتزلة)، شيوخنا البغداديون .
([10]) بطليموس القلوذي العالم المشهور صاحب كتاب المججسطي في الفلك إمام في الرياضة، كان في أيام اندرياسيوس وفي أيام أنطمبوس من ملوك الروم وبعد أيرقس بمائتين وثمانين سنة . فأما كتاب المجسطي فهو ثلاث عشرة مقالة. وأول من عني بتفسيره وإخراجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك .
...(8/66)
انظر عنه : تاريخ الحكماء ص 95-98، طبقات الأطباء ص 35-38؛ الفهرست لابن النديم، ص267-268؛ خطط المقريزي 1/154. وانظر منهاج السنة 1/127 .
([11]) البخاري (1/20) .
([12]) البخاري (4/170) .
([13]) رواه الترمذي وصححه الألباني في المشكاة (230) .
([14]) البخاري (4/169) .
([15]) أي أن الناس متفقون على أن نوحاً لم يعش ألف سنة كاملة بل أقل من ذلك لوجود الاستثناء في الآية. ومتفقون على أنه لا يجب صيام شهرين متتابعين على كل مسلم، بل على من لم يجد رقبة مؤمنة يحررها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد لعسرته بثمنها (وانظر تفسير الطبري للآية الكريمة).(8/67)
الرد على العقلانيين
من الوجه [34 إلى 73]
الوجه الرابع والثلاثون: أن يُقال : القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها، من عقل أو كشف أو غير ذلك، يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية، ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به، ولا يستفاد من أخبار الله ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق، بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله، وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد، وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام، كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل.
وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق، كما يجد ذلك من اعتبره، وذلك لأنه إذا جوّز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله، وبلّغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته من القرآن والحديث، وما فيه من ذكر صفات الله تعالى، وصفات ملائكته وعرشه، والجنة والنار، والأنبياء وأممهم، وغير ذلك مما قصّه الله في كتابه، أو أمر به من التوحيد والعبادات والأخلاق، ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك، إذا جوّز المجوّز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية، التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض، ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه، لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول، إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور، وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض، إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول، وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته، وليس معه ما يدله على ثبوته إلا إخبار الله ورسوله –وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه – فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية، إلا أن يحيط علماً بكل ما يخطر ببال بني آدم، مما يظن أنه دليل عقلي.(9/1)
وهذا أمر لا ينضبط، وليس له حد، فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر، ويقع لهم من الآراء والاعتقادات، ما يظنونه دلائل عقلية، وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس، فإذا جوّز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها، لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبداً، فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول –بمجرد إخباره- أبداً، فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول، لكونه الرسول أخبر به أبداً، ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علماً ولا هدي، بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبداً.
وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه. ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدّم بقي لا مصدقاً بما جاء به الرسول ولا مكذباً به، وهذا كفر باتفاق أهل الملل، وبالاضطرار من دين الإسلام. وإن قام عنده المعارض المقدّم كان مكذباً للرسول، فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب، وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط .
ويتناول كلاً منهما قوله تعالى : (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً. وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً). وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) وأمثال ذلك.
ولهذا كان هذا الأصل الفاسد مستلزماً للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه، فمن طرده أدّاه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد.(9/2)
ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنة الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل مناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه .
الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به، وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به، وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، بل إذا أقر أنه رسول الله، وأنه صادق فيما أخبر، ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب –لجواز أن يكون ذلك متيقناً في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع، ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك – فإن هذا ليس مؤمناً بالرسول.
وإذا كان هذا معلوماً بالاضطرار، كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه، وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله فيصدّقه في كل ما أخبر به، ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفياً في نفس الأمر، وأنه لا دليل يدل على انتفائه، وإمّا أن يكون الرجل غير مصدّق للرسول في شيء مما أخبر به، إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول، ومن لم يقرّ بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمناً به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه، وإلا لم يوافقه.
ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل، لا المؤمنين بهم، ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته) .(9/3)
الوجه السادس والثلاثون: أن الذين يعارضون الشرع بالعقل. ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل الشرع، فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع – إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقرُّوا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول، وبأنه قال هذا الكلام، وبأنه أراد به كذا، وإلا فمع الشك في واحدةٍ من هذه المقدمات، لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فيكف مع معارضة العقل؟!.
أما النبوة : فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها، وأنه معصوم أن يقول فيها غير الحق، لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره، فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها، يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب، لم يستفد بخبره علماً، ومن كانت النبوة عنده مكتسبة، من جنس نبي الفلاسفة، وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم، وقوة يتصرف بها في العالم، وقوة تجعل المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع، فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه، كما يقوله ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة – لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله، معصوم أن يقول غير الحق، فكيف إذا كان يقول : إن الرسول قد يقول ما يعلم خلافه؟!. فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علماً، فكيف يتكلمون في المعارضة؟ وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها، وكذلك من قال: إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم، كما يقول الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم، فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول، فكيف يعارضون ذلك المعقول؟ .(9/4)
وكذلك أيضاً من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة، امتنع أن يعارض بها دليلاً ظنياً عنده، فضلاً عن أن يعارض بها دليلاً يقينياً عنده، ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقاً، ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علماً بما أخبروا به، إذا لم يكونوا مقرّين بأن الرسول بلّغ البلاغ المعصوم، بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب: إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم وإما لتجويز أن لا يكون عالماً بذلك، وإما لأنه جائز في النبوة –لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله، وأنه بلّغ البلاغ المبين، فلا تجد أحداً ممن يقدّم المعقول مطلقاً على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول، فهذا محتاج أولاً إلى أن يعلم أن محمداً رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا يقول على الله إلا الحق، وأنه بلّغ البلاغ المبين، وأنه معصوم عن أن يقرّه الله على خطأ فيما بلّغه وأخبر.
الوجه السابع والثلاثون: أن يقال: قول هؤلاء متناقض، والقول المتناقض فاسد. وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض، وليس في المنتسبين إلى القبلة، بل ولا في غيرهم، من يمكنه تأويل جميع السمعيات.
وإذا كان كذلك قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله، فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البيّن وبين ما أقررتموه؟ .
فهم بين أمرين: إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه، وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه.
فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء، فإنه لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية، كما تقدّم بيانه.(9/5)
وأيضاً فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنه –على قولكم-: إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولاً له معنى مفهوم، وهو لا يريد ذلك، لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس، أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك- جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك، لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك، أو لكون ذلك ليس معلوماً بدليل عقلي ونحو ذلك، فإنه إذا جاز أن يكون موقوفاً على أمثاله من الشروط، إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط، يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به.
وإن قالوا بتأول كل شيء، إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده، كان ذلك أبلغ، فإن ما من نص واردٍ، إلا ويمكن الدافع له أن يقول: ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا. فإن كان للمثبت أن يقول: أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده. كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضاً مثل ذلك.
فعلم أن قولهم باطل، وأن قولهم: لا نتأول إلا ما عارضه القطعي –قول باطل، ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه، وأنه لا يستفاد من السمعيات علم، مع أنهم يستفيدون منها علماً، فيتناقضون، ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول: أخبار الرسول ثلاثة أقسام: ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به، وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولاً، وما لا يعلم بدليل منفصل لا يمكن لا ثبوته ولا انتفاؤه، وكان مشكوكاً فيه موقوفاً.(9/6)
الوجه الثامن والثلاثون: أن يقال : هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان: إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية: وهي الطريقة العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الطريقين علم أن ما لم يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا ربّ العباد، ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلاً دخل في الشطح والطامات التي لا يصدّق بها إلا أجهل الخلق .
فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى، فحذّاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك، كما هو معروف عن غير واحد منهم، كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو لم يتحول عما كان عليه: فقال إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال: دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه، يعني أن هذا يعلم بالسمع، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط: يا الله، إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهل عندك من جواب على هذا ؟ .(9/7)
الوجه التاسع والثلاثون: أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودين أمته المؤمنين به، بطلان لوازم هذا القول، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، بل نعلم باضطرار أن من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد، وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: لا علم ولا هدى، ولا كتاب منير، فلا يستفاد منه علمٌ بذلك، ولا هدى يعرف به الحق من الباطل، ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلّغهم بلاغاً بيناً، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد.
ومعلوم أن كثيراً من خطاب القرآن، بل أكثره، متعلق بهذا الباب، فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة.
فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفةً، ولم يبيّن لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب، بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها، إلى مجرد رأيه وذوقه، فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدّق بمفهوم ذلك ومقتضاه، وإلا أعرض عنه، كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب – كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول.
وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن كل من بلغته دعوة الرسول، وعرف ما كان يدعو إليه، علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة.
فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول، وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر، ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد.(9/8)
الوجه الأربعون: أن يقال: إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بيّن للناس أصول إيمانهم، ولا عرّفهم علماً يهتدون به، في أعظم أمور الدين، وأجل مقاصد الدعوة النبوية، وأجل ما خلق الخلق له، وأفضل ما أدركه الخلق وحصّلوه وانتهوا إليه، بل إنما بين لهم الأمور العملية، فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من علّمهم وبيّن لهم أشرف القسمين، وأعظم النوعين، كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح.
وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها، وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة، وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد، كابن سينا، والفارابي، وابن عربي، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء .
ثم من هو أمثل هؤلاء، كأئمة الجهمية: مثل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وأبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام وبشر المريسي، وثمامة بن أشرس، وأمثال هؤلاء، فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة، أفضل وأشرف مما أتى به موسى بن عمران، ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم، وأمثالهم من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا أفضل العلم وأشرف المعرفة، وإنما بينها أولئك على قول النفاة.
ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله، وقد صرّح أئمة هؤلاء بهذا، فابن عربي وأمثاله يقولون : الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحي به إلى الرسول.
وابن سبعين يقول: إنه بيّن العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الأولية، ورامت إفادته الهداية النبوية. فعلى قوله: إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه.(9/9)
وطائفة من المتفلسفة يقولون: إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه، وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم، يقولون إن أئمتهم، كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه، أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين.
الوجه الحادي والأربعون: أن يقال يلزم من هذا القول أن كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارةً ويبين أخرى، كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام الفلسفة، كابن الخطيب، وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذّاب، الذي ليس فيه كذب في نفسه، وإن كانت نسبته إلى الله كذب، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا لجليل – عند هؤلاء الملاحدة خيراً من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيراً من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع – كما يضحك الناس – من أمثاله.
وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا – إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعباً عظيماً في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من اتباع الرسل.(9/10)
الوجه الثاني والأربعون: أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور، بكلام عظم قدره وكبر أمره، وذكر أنه بيّن لهم به وعلم. وهدى به وأفهم، ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات، ولا معرفة لتلك المطلوبات، بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل، وهي على غير العلم أدلّ –كان هذا : إما مفرطاً في الجهل والضلالة، أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلّم في الأمور الإلهية، والحقائق الربانية، التي هي أجل المطالب العالية، وأعظم المقاصد السامية، بكلام فضّله على كل كلامٍ، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيهاً بالأنعام، وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغاة، وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية، ولا أفاد علماً في مثل هذه القضية، بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان، مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجع إليه ذوو الإيقان، فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال، أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال!؟..
فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله، الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله، وأعظمهم هدى لخلق الله، لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، الذي هو أعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق في بيان هدى الله، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه، فإما أن يكون قد أُتي من علمه أو قصده أو عجزه، فإنه قد يكون جاهلاً بالحق، وقد لا يكون جاهلاً به، بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم، كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم، وإما أن يكون علمه تاماً وقصده البيان والإيضاح.(9/11)
فإن الفعل يتعذر لعدم العلم، أو لعدم القدرة، أو لعدم الإرادة، فأما إذا كان الفاعل له مريداً له، وهو قادر عليه وعالم بما يريده، لزم حصول مطلوبه.
ومن المعلوم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده، وأمثال ذلك من الغيب، وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم .
كما قال تعالى : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) .
ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم يهتدوا، حتى يُسلّيه ربه ويعزيه كقوله تعالى: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) . وقال تعالى : (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال تعالى : (لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين) وقال تعالى: (وإن كان كبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآيةٍ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين).
ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين، فقال تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمل وعليكم ما حُملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغُ المبين) وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) وقال تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) .(9/12)
فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه، ويصفه ويخبر به، وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم، وتعليمهم وهداهم، وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده، كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبيناً للعلم والهدى والحق، فيما خاطب به، وأخبر عنه، وبينه ووصفه، بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالاً على العلم والحق والهدى، وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام، أحق الكلام بأن يكون جهلاً وكذباً وباطلاً.
وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله، فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله، ويطلبونه في كلام غيره، من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم، هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم، فكيف بمن يعارض كلامه بكلام هؤلاء الذين عارضوه وناقضوه، ويقول: إن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين، المعارضين لكلام رسول رب العالمين، دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة، وبعث به رسوله من العلم والرحمة ؟!.(9/13)
الوجه الثالث والأربعون: أن يقال : كل من سمع القرآن من مسلم وكافر، علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن أتّبعه، دون من خالفه، كما قال تعالى: (آلم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). وقال تعالى: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين. أتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وقال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) . وقال تعالى: (وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون). وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعال: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) . وكذلك نعلم أنه ذم من عارضه وخالفه، وجادل بما يناقضه، كقوله تعالى (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) . وقال تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك، فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن، أخبر أن من صدّق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى، ومن أعرض عن ذلك كان جاهلاً ضالاً، فكيف بمن عارض ذلك وناقضه؟! وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر وغيرها .
كان عند من جاء بالقرآن جاهلاً ضالاً، فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟!
فالأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط، وهؤلاء في الجهل المركب.(9/14)
ولهذا ضرب الله تعالى مثلاً لهؤلاء، ومثلاً لهؤلاء، فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) ... فهذا مثل أهل الجهل المركب.
وقال تعالى: (أو كظلمات في بحر لُجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، فهذا مثل أهل الجهل البسيط .
ومن تمام ذلك أن يعرف أن الضلاّل تشابها في شيئين: أحدهما الإعراض عمّا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والثاني معارضته بما يناقضه، فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة.
فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قاله بلسانه.
وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة .
ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه، فهو من أهل الجهل البسيط، وهؤلاء من أهل الظلمات.
وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط، فإن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق، واعتقاده والتصديق به، كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به، لا سيما في الأمور الإلهية، التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى، كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال، كفرعون وقومه.
قال الله تعالى في أولئك: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) . وقال تعالى في الآخرين: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) . فمن لم يكن على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحاً لأئمة الضلال.(9/15)
الوجه الرابع والأربعون: أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني، وقد تناقضا على وجهٍ لا يمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وإن ما ناقضها من الأدلة البدعية – التي يسمونها العقليات- تفيد اليقين، فينفون اليقين عن الأدلة السمعية الشرعية، ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة، التي يدعون أنها براهين قطعية.
ولهذا كان لازم قولهم الإلحاد والنفاق، والإعراض عمّا جاء به الرسول، والإقبال على ما يناقض ذلك، كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل، كما قال: (وهمت كل أمةٍ برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب). وقوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) ، وقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) . وأمثال ذلك.
الوجه الخامس والأربعون: أن يقال : العقليات التي يقال أنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلاً له بل هي باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة.(9/16)
الوجه السادس والأربعون: أنكم إذا اعتقدتم في الدليل السمعي أنه ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتموه من العقل جهل أمكن أتباع الرسل المصدقين بما جاءوا به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلة في نفس الأمر وأن اعتقاد دلالتها جهل ويرمون أدلتكم بما رميتم به الأدلة السمعية ثم الترجيح من جانبهم من وجوه متعددة وكانوا في هذا الرمي أحسن حالاً منكم وأعذر، فإن معهم من البراهين الدالة على صحة ما أخبر به السمع إجمالاً وتفصيلاً من المعقول أصح مما معكم، ولا تذكرون معقولاً يعارض ما ورد به الوحي إلا ومعهم معقول أصح منه يصدقه .
الوجه السابع والأربعون: أن يقال: إن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع؛ لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارضه إلى الوحي، أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تَعْلق بالإصبع بالنسبة إلى البحر، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، فتقديم العقل على الوحي، يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه :(9/17)
الوجه الثامن والأربعون: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيداً بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة، ويستحسنه تارة، ويجوزه تارة، ويكع عن دركه تارة، ولا سبيل له إلى الإحاطة به، ولابد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول، وهناك يسقط ((لم))، ويبطل ((كيف))، ويزول ((هلا))، ويذهب ((لو)) ((وليت)) في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة، واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل، فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علماً وعملاً التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكن لها إليها نسبة، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان، فهي متكفلة بتعريف الخليقة بها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه، وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه، ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل، والطرق الموصلة إليه، وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها.
فبين ناصر باللغة السائغة، وحام بالعقل الصريح، وذاب عنه بالبراهين، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان، ومتفقه في الحلال والحرام، ومعين بتفسير القرآن، وحافظ لمتون السنة وأسانيدها، ومفتش عن أحوال رواتها، وناقد لصحتها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، فهي الشريعة ابتداؤها من الله، وانتهاؤها إليه، فمنه بدأت وإليه تعود.(9/18)
الوجه التاسع والأربعون: أن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) . وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره، فقال: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون). ذكر هذا جواباً لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلاً على صدقه فضلاً عن أن يكون كافياً، وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهاناً على صحة النبوة، والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه، فلو عارضه العقل، وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافياً للأمة ولا كان تاماً في نفسه. في مراسيل أبي داود([1]) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم. أُنْزل على نبي غير نبيهم، فأنزل الله عز وجل: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). وقال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).(9/19)
فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى منها حرج، ونسلم لحكمه تسليماً فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذي يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله). وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده، وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان، فلو كان للعقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل؟(9/20)
الوجه الخمسون: أن الأدلة السمعية هي الكتاب والسنة، والإجماع. وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما، فهو في المرتبة الأخيرة، ولهذا أخره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه: ((اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن لم يكن في السنة فبما قضى به الصالحون قبلك)) ([2]). وهذا السلوك هو كان سلوك الصحابة والتابعين، ومن درج على آثارهم الأئمة. أول ما يطلبون النازلة من القرآن، فإن أصابوا حكمها فيه لم يعدوه إلى غيره، وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أصابوها لم يعدوها إلى غيرها، وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء، وقد صان الله الأمة أن تجمع على خطأ أو على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإذا كان الإجماع معصوماً أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح، بل إذا وجدنا معقولاً يخالفه الإجماع علمنا قطعاً أنه معقول فاسد، فلأن يصان كتاب الله، وسنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.
الوجه الحادي والخمسون: أنه إذا قدر تعارض العقل والكتاب فرد العقل الذي لم تضمن لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب.
الوجه الثاني والخمسون: أن طالب الهدى في غير القرآن والسنة. قد شهد الله ورسوله له الضلال، فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدماً على كتاب الله وسنة رسوله؟ قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) . وقال: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) .
وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى)، والقرآن مملوء بوصف من قدم عقله على ما جاء به بالضلال.(9/21)
وروى الترمذي، وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنها ستكون فتنة)) قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً. يهدي إلى الرشد) من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم)) .
الوجه الثالث والخمسون: أن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم، وكفى به شهيداً بالعلم واليقين والهدى، وأنهم على بصيرة وبينة من ربهم، وأنهم هم أولو العقل والألباب والبصائر، وأن لهم نوراً على نور؛ وأنهم المهتدون المفلحون.
قال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب، ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم: (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) . وقال: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). وهذا دليل ظاهر أن الذي نراه معارضاً للعقل، ويقدم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير، ولا قليل ولا كثير.(9/22)
وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك، وشهادة المؤمنين عليهم. وقال: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجةٍ الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور. يهدي الله لنوره من يشاء. ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) .
فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع المشهود وأنه نور على نور. نور الوحي ونور العقل. نور الشرعة، ونور الفطرة. نور الأدلة السمعية، ونور الأدلة العقلية. وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) وقال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .(9/23)
ثم أخبر سبحانه عن حال المعرضين عن النور المعارضين للوحي بالعقل بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب، والآخر بالجهل البسيط، لأنهم بين ناظر وباحث ومقدر ومفكر، وبين مقلد يحسن الظن بهم. فقال في الطائفتين: (والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب. ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) .
الوجه الرابع والخمسون: أن الآيات والبراهين اليقينية، والأدلة القطعية، قد دلت على صدق الرسل، وأنهم لا يخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض، فهم صادقون فيما يبلغونه عن الله في الطلب والخبر، وهذا أول درجات النقيضين أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي، فإن كل ما يظن أنه يعارضه من ذلك فهي حجج داحضة، وشبه فاسدة، من جنس شبه السفسطة والقرمطة وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول، قد شهد له بذلك، وأنه ممتنع أن يعارض خبره دليلاً صحيحاً، كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما عارض ما أخبر به الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل الصحيح، والسمع قد شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع.(9/24)
الوجه الخامس والخمسون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله، ولم يجعله منقاداً لهم، مسلماً لما جاءوا به، مذعناً له، بحيث يكون مع الرسول كمملوكة المنقاد من جميع الوجوه، فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس، حيث لم ينقد به لأمره، وعارض النص بالعقل، وذكر وجه المعارضة، فأفسد عليه عقله غاية الإفساد، حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين، وقدوة الملحدين، وشيخ الكفار والمنافقين. ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به، فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه، ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين، ورضوا بإلهٍ من الحجر، ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما، وبدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار.
وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة، التي قدموها على ما جاءت به الرسل، حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار، واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود، ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخراً، مدبراً، مقهوراً على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكان لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب، ووضعه في هذا الموضع، وقهره على هذه الحركة.(9/25)
وكون سافله منفعلاً غير فاعل، متأثراً غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد، وشواهد الفقر والحاجة والحدوث ظاهرة على أجزائه وأنواعه، فجعلوه قديماً غير مخلوق، ولا مصنوع، فعطلوه عن صانعه وخالقه، ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، فلم يثبتوا له ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً، ولا تصرفاً باختياره في ملكه ولا عالماً بشيء مما في العالم العلوي والسفلي، وعاجزاً من إنشاء النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.
وفي الحقيقة لم يثبتوا رباً أنشأ شيئاً، ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة، ولا رسلاً، ولا كلاماً، ولا إلهية، ولا ربوبية.
وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا رباً، وظنوا أن في الخارج إنساناً كلياً، وحيواناً كلياً، وجعلوا وجود الرب وجوداً مطلقاً، مجرداً عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج.
وبالجملة: فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة، بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء. وأما متكلمو الجهمية، والمعتزلة، فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله، كما تقدم التنبيه على اليسير منه، وقالوا: يتكلم الرب بغير كلام يقوم به، وخالق بلا خلق يقوم به، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وحي بلا حياة، وقدير بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وفعال لما يريد، ولا فعل له ولا إرادة، وقالوا: الرب موجود قائم بنفسه، ليس في العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، وقالوا: إنه لم يزل معطلاً عن الفعل، والفعل ممتنع، ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلاً، وقالوا: إن الأعراض لا تبقي زمانين، وأنكروا القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب، والحِكَم، وجعلوا الأجسام كلها متماثلة. وأثبتوا أحوالاً لا موجودة ولا معدومة، وأثبتوا مصنوعاً بلا صانع ومخلوقاً بلا خالق، إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء .(9/26)
وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد، فأكمل الناس عقولاً أتباع الرسل، وأفسدهم عقولاً المعرض عنهم، وعما جاءوا به، ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس، وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب –سبحانه- به، فإنه يفسده على صاحبه، فمن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده، فأي فساد أعظم من فساد قلب خربٍ من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس به، والفرح بالإقبال عليه؟ وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده؟ والمصاب لا يشعر، وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره، وما جاء به، وتلاوة كلامه، ونصيحة عباده وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله، وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته، والمبادرة إلى مرضاته ؟
وبالجملة فما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله، وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول، وبما جاء به، وموجباً لشدة تمسكهم به، ولقد أحسن القائل:
وإذا نظرت إلى أميري زادني نظري له حباً إلى الأمراء(9/27)
الوجه السادس والخمسون: أن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته، وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه، وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له، فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة، وصاحب الوحي مُلقى وصاحب العقل كادح طالب، هذا يقول أمرت ونهيت وأوحي إليّ، وقيل لي وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري، وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت، والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات اهتدى بها، والرسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه، والمتخلف يقول معي العقل، والرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدى وأهتدي، والرسول يقول : قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، والمتخلف يقول: قال أفلاطون قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي: فيسمع من الرسول ظاهر التنزيل وصحيح التأويل وشرع سنة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبر عن السماء والملائكة واليوم الآخر.(9/28)
ويسمع من الآخر الهيولي والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس، وعكس النقيض والعكس المستوي، وما شاكل هذا([3]) مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه، وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء، فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به، ويسلم إليه أعظم من تسليم الصبي لأستاذه ومعلمه بكثير، فإن التباين الذي بين النبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ.
ومن العجب، أن هؤلاء المقدمين عقولهم على الوحي، خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمور كثيرة، يقولون: هم أعلم بها منا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله؟ .
وجماع الأمر أن قضايا المعقول، مشتملة على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق، فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عجز للخطأ، من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟!.(9/29)
الوجه السابع والخمسون: أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي، لا تتأتى على قواعد المسلمين، المؤمنين بالنبوة حقاً، ولا على أصول أحد من أهل الملل، المصدقين بحقيقة النبوة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة، ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة، ويجريها على أوضاعهم وأن الإيمان بالنبوة عندهم، هو الاعتراف بموجود حكيم، له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم، وقدموها على خبره، فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، في هذه الأصول الخمس بعقولهم فلم يصدقوا بشيء منها على طريقة الرسل، ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل، فتقاسموها تقاسم الوارث لتركه مورثهم، فكل طائفة كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلدوه لجأوا إلى هذه المعارضة، واعتصموا بها دون نصوص الوحي، ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة، وإن تناقض القائل به فغايته أن يثبت كون النبي رسولاً للعمليات دون العلميات أو في بعض العلميات التي أخبر به دون البعض وهذا أسوأ حالاً ممن جعله رسولاً إلى بعض الناس دون بعض، فإن القائل بهذا يجعله رسولاً في العلميات والعمليات، ولا يعارض بين خبره وبين العقل، وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف، فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا، فإنه يقال لهذا: إن كان رسول الله إلى هؤلاء حقاً فهو رسوله إلى الآخرين قطعاً لأنه أخبر بذلك، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته، ويقال للآخر: إن كان رسول الله في العمليات وإنها حق من عند الله فهو رسوله في العلميات فإنه أخبر عنه بهذا .(9/30)
الوجه الثامن والخمسون: وهو أنك إذا جعلت العقل ميزاناً ووضعت في أحد كفتيه كثيراً من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجدت ترجيحه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى، ولولا الحس والمشاهد تمنعه من إنكار ذلك لأنكره، وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة، وقلة التحصيل، والخطابة التي تليق بالعامة ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان.(9/31)
فنقول وبالله التوفيق: أنسب إلى العقل حيواناً يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل فغشيه أمر ألقي له كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله بحيث لا يعلم شيئاً، فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به، وانسب إليه أيضاً حيواناً خرج من إحليلة مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دماً قد تغير لونها وشكلها وصفاتها فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت قطعة لحم فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت عظاماً وأعصاباً وعروقاً وأظفاراً مختلفة الأشكال والأوضاع وهي جماد لا إحساس لها ثم عادت حيواناً يتحرك ويتغذى وينقلب ثم أقام ذلك الحيوان مدة طويلة في مكان لا يجد فيه متنفساً وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض، ثم انفتح له باب ضيق عن مسلك الذكر فلا يسلكه إلا بضغطة وعصره، فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها وهو النار، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر بزر الخشخاش([4]) يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيواناً يتغذى بورق الشجر برهة ثم إنه يبني على نفسه قباباً مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكماً متقناً فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة، فينقلب في القبة طائراً له أجنحة يطير بها بعد أن كان دوداً يمشي على بطنه فيفتح على نفسه باب القبة ويطير، وذلك دود القز إلى أضعاف ما ذكرنا مما يشاهد بالعيان مما لو جلي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له، وقال: وهل يصدّق بهذا عاقل، وضرورة العقل تدفع هذا، وأقام الأدلة العقلية على استحالته، فقام في النائم مثلاً القوى الحساسة أسباب(9/32)
لإدراك الأمور الوجودية وآلة لها، فمن لا يدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها، فأن يتعذر عليه إدراكه مع وجودها وبطلان أفعالها أولى وأحرى وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء والحس والعيان يدفعه ومن له خبرة بمواد الأدلة، وترتيب مقدماتها، وله أدنى بيان يمكن أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو أصح منها، وانسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها، وما لم نذكره، ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير نجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ولولا المشاهدة لكذب بها.
فيالله العجب! كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لو لا الحس لأنكره غاية الإنكار، ومن ها هنا قال من صح عقله وإيمانه: إن نسبة العقل إلى الوحي أدق، وأقل بكثير من نسبة منادي سن التمييز إلى العقل.
الوجه التاسع والخمسون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم: إحداها : ردهم لنصوص الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم-
الثانية: إساءة الظن به، وجعله منافياً للعقل، مناقضاً له.
الثالثة: جنايتهم على العقل بردهم ما يوافق النصوص من المعقول؛ فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها،
الرابعة: تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم، التي اخترعوها، وأقوالهم التي ابتدعوها، مع أنها مخالفة للعقل والنقل، فصوبوا رأي من تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل، وخطئوا من تمسك بما يوافقهما، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نوراً، ولم يشرق على قلبه نور النبوة .(9/33)
الوجه الستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة، لأن العقل الصحيح لا يكذب، والوحي أصدق منه، وهما دليلان صادقان، فإذا تعارضا تكافئا، فإن لم يقدم أحدهما بقي في الحيرة والشك وإن قدم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح، وأخرجه عن كونه دليلاً، فيبقى حائراً بين أمرين لابد له من أحدهما، إما أن يسيء الظن بالوحي، أو بالعقل، والعقل عنده أصل الوحي، فلا يمكنه أن يسيء الظن به، فيسطو على الوحي تارة بالتحريف، والتأويل، وتارة بالتخييل، وتارة بالدفع والتكذيب، إن أمكن، وذلك في نصوص السنة، وتارة يدعي ذلك في نصوص القرآن، كما يدعيه غلاة الرافضة وكثير من القرامطة وأشباههم، وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة، أن العقل الصحيح يعارض الوحي الصريح، وأما أهل العلم والإيمان، أهل السمع والنقل، فعندهم أن فرض هذه المسألة محال، وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النبوة والرسالة، وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده، ومعارضة هؤلاء ومن وافقهم على بعضها، تُبَين له أن القوم لا عقل ولا نقل.(9/34)
الوجه الحادي والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقديم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به، فهو أعصى الناس لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه، وما جاء به؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثاً في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره، بقضائه وقدره.
الوجه الثاني والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة([5])، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين:
إحداهما: قوله: (أنا خيرٌ منه) فهذه هي الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها و((الفاضل لا يسجد للمفضول))، وذكر مستند المقدمة الأولى وهو أيضاً قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين).
والمقدمة الثانية كأنها معلومة، أي: ومن خلق من نار أفضل ممن خلق من طين، فهما قياسان متداخلان، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة، فالقياس الأول هكذا: أنا خير منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.(9/35)
والقياس الثاني هكذا: خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه، ونتيجة الأول ولا ينبغي لي أن أسجد له.
وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم، التي عارضوا بها الوحي، وقدموها عليه، ولكل باطل، وقد اعتذر أتباع الشيخ له بأعذار : ومنها أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل. ومنها أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله اسجدوا لا عموم له، فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. ومنها: أنه وإن كان اللفظ عاماً، فإنه خصه بالقياس المذكور، ومنها أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب، بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعاً للاشتراك والمجاز. ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور، ومنها : أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه، فبالله تأمل هذه التأويلات، التي يذكرها كثير من الناس،
والمعارضات التي عارض بها النصوص، وفي بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه، ويقول الصواب معه، ولهم في ذلك تصانيف وكان بشار بن برد الأعمى الشاعر على هذا المذهب، يقول في قصيدته الرائية:
الأرض مظلمة سوداء مقتمة والنار معبودة مذ كانت النار
ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع، وإبطاله من معارضته بالعقول، أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارض به الوحي، وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدمتم الوحي عليها فسدت عقولكم،
قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون).(9/36)
ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شبه عقلية، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذي لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون. أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرضون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) .
الوجه الثالث والستون: أن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي، والذي دل عليه السمع هو الإثبات، على عرشه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وإثبات وجهه الأعلى، ويديه اللتين كلتاهما يمين وغير ذلك، والعقل عندهم دل على نفي ذلك كله، فالمعارضة التي ادعوها هي معارضة بين النفي والإثبات، فالرسل جاءوا بالإثبات المفصل للأسماء والصفات والأفعال، فجاء أرباب هذا العقل بالنفي المفصل لها، وادعوا التعارض بين دليل هذا الإثبات ودليل النفي، ثم قدموا دليل النفي.
فيقال الكلام معكم في مقامين:
أحدهما: أن العقل لم يدل على ثبوتها.
والثاني: أنه دل على انتفائها، فإن أردتم بدلالة العقل المقام الأول، فنفيها خطأ؛ فإنه لو نفي كل ما لم يدل عليه عقل أو حس نفيت أكثر الموجودات التي لا ندركها بعقولنا ولا حواسنا، وهذا هو حاصل ما عند القوم عند التحقيق، ومن تدبر أدلتهم حق التدبر، علم أنه ليس فيها دليل واحد يدل على النفي، ومعلوم أن الشيء لا ينفى لانتفاء دليل يدل عليه، وإن انتفى العلم به، فنفي العلم لا يستلزم نفي المعلوم، فكيف والعقل الصريح قد دل على ثبوتها.(9/37)
وإن أردتم الثاني، وهو: أن العقل دل على انتفائها، فيقال: العقل إنما يدل على نفي الشيء إذا علم ثبوت نقيضه. فيعلم حينئذ أن النقيض الآخر منتف، فأين في العقل المقطوع بحكمه، أو المظنون ما يدل على نقيض ما أخبرت به الرسل، بوجه من وجوه الأدلة الصحيحة؟ فالمسلمون يقولون: قد دل العقل والوحي معاً على إثبات علم الرب تعالى آمراً ناهياً، وعلى كونه فوق العالم كله وعلى كونه يفعل بقدرته ومشيئته وعلى أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض، فقد شهد بذلك العقل والنقل، أما النقل فلا يمكنكم المكابرة فيه، وأما العقل فلأن ذات الرب أكمل من كل ذات على الإطلاق، بل ليس الكمال المطلق التام من كل وجه إلا له وحده، فيستحيل وصفه بما يضاد كماله، وكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فهو صفة كمال ثبوتها له أكمل من نفيها عنه، وقد اتفقت الأمم على أن الله سبحانه موصوف بالكمال، منزه عن أضداده.
الوجه الرابع والستون: أن كل من عارض بين الوحي والعقل ورد نصوص الكتاب والسنة بالرأي الذي يسميه عقلاً لابد أن ينقض تلك النصوص المخالفة لعقله ويعاديها، ويود أنها لم تكن جاءت، وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله، واشمأز لها قلبه، والله يعلم ذلك من قلوبهم وهم يعلمونه أيضاً، حتى حمل جهماً الإنكار والبغض لقوله: (الرحمن على العرش استوى) على أن قال: لو أمكنني كشطها من المصحف كشطتها وحمل آخر بغض قوله: (وكلم اللهُ موسى تكليماً) على أن حرّفها وقرأها بالنصب وكلم اللهَ موسى تكليماً أي أن موسى هو الذي كلم الله وخاطبه والله لم يكلمه، فقال له أبو عمرو ابن العلاء فكيف تصنع بقوله: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) فبهت المعطل.(9/38)
الوجه الخامس والستون: وهو قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً). وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله عز وجل وحده، بما أنزله من الكتاب المفصل كما قال في الآية الأخرى: (وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله). وقال تعالى: (كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) وقال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
الوجه السادس والستون: أنه سبحانه أخبر أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى، لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية، لا من حكم العلم والهدى، فقال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون).
فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكمه إلا حكم الجاهلية، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول، هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية، وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية، والبراهين اليقينية، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقاً.
الوجه السابع والستون: أن هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بعقولهم ليس عندهم علم، ولا هدى، ولا كتاب مبين، فمعارضتهم باطلة، وهم فيها أتباع كل (شيطانٍ مريد. كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) .(9/39)
فهذا حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، ليس عنده إلا الجهل والضلال، ورتب سبحانه هذه الأمور الثلاثة أحسن ترتيب فبدأ بالأعم وهو العلم، وأخبر أنه لا علم عند المعارض لآياته بعقله، ثم انتقل منه إلى ما هو أخص، وهو الهدى، ثم انتقل إلى ما هو أخص، وهو الكتاب المبين، فإن العلم أعم مما يدرك بالعقل والسمع والفطرة، وأخص منه الهدى الذي لا يدرك إلا من جهة الرسل، وأخص منه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، فإن الهدى قد يكون كتاباً، وقد يكون سنة وهذه الثلاثة منتفية عن هؤلاء قطعاً، أما الكتاب والهدى المأخوذ عن الرسل، فقد قالوا: إنه لا يفيد علماً ولا يقيناً، والمعقول يعارضه، فقد أقروا أنهم ليس معهم كتاب ولا سنة، وبقي العلم فهم يدعونه، والله تعالى قد نفاه عنهم، وقد قام البرهان والدليل العقلي المستلزم لمدلوله، على صدق الرب في خبره، فعلم أن هذا الذي عارضوا به الوحي، ليس بعلم، إذ لو كان علماً لبطل دليل العقل الدال على صدق الرب تعالى في خبره، فهذا يكفي في العلم بفساد كون ما عارضوا به علماً، فكيف وقد قام الدليل العقلي الصحيح المقدمات على فساد تلك المعارضة، وأنها تخص الجهل المركب؟ فكيف وقد اتفق على فساد تلك المعارضة العقل والنقل؟ ونحن نطالب هؤلاء المعارضين بواحدة من ثلاث: إما كتاب منزل، أو أثارة من علم يؤثر عن نبي من الأنبياء، أو معقول صحيح المقدمات، وقد اتفق العقلاء على صحة مقدماته .
وهم يعلمون والله شهيد عليهم، بأنهم عاجزون عن هذا وهذا، أفنترك ما علمناه من كتاب ربنا، وسنة نبينا، وما نزل به جبريل من رب العالمين، على قلب رسوله الأمين، بلسان عربي مبين، لوحي الشياطين، وشبه الملحدين، وتأويلات المعطلين؟(9/40)
الوجه الثامن والستون: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها ومقدماتها أصح من مقدماتها فيجب تقديمها عليها. لو قدر تعارضهما، ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه المعقولات، وحينئذ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص، فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارة وبالنصوص تارة وبهما تارة، ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلا بمقدمات يردها النص وهذا العقل، فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك، وهذا قاطع لمن تدبره؟
الوجه التاسع والستون: أن يقال لمن جوّز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا؟ هل تبادر إلى رده وإنكاره؟ أم إلى قبوله واعتقاده؟ أم تتوقف فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده؟ أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط، وتقول أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده؟ فلابد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة، فالأول والثالث والرابع مناقض للإيمان بالرسول مناقضة صريحة والثاني لا سبيل لك إليه، لأنك قد جوزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به، فكيف تجزم مع ذلك بصحته، فالقسم الإيماني قد سددت طريقه على نفسك والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان، وهذا إنما ينشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به.(9/41)
الوجه السبعون: أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول إلا بعد أن يقوم على صحته عنده دليل منفصل من عقل، أو كشف، أو منام، أو إلهام، لم يكن مؤمناً به قطعاً، وكان من جنس الذين قال الله فيهم: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله) بل قد يكون هؤلاء خيراً منهم من وجه، فإنهم علقوا الإيمان بأن يؤتوا سمعاً مثل ما أوتيه الرسل، وهؤلاء علقوا الإيمان على قيام دليل عقلي على صحة ما أخبروا به، وإذا كان من فعل هذا ليس بمؤمن بالرسل فكيف من عارض ما جاءوا به بمعقوله ثم قدمه عليه ؟!
الوجه الحادي السبعون : أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين، ولعلك تقول: إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم، قال الرازي في نهايته: في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع، فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله، وذكر القياس، وذكر الإلزامات، ثم قال: ((والرابع هو التمسك بالسمعيات)) .
وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة، وأخذ في تقرير ذلك، فقال: ((المطالب على أقسام ثلاثة: منها: ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع. ومنها ما يستحيل حصول العلم بها إلا من السمع. ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى .
قال: ((أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته، استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختاراً وعالماً بكل المعلومات.. وصدق الرسول)).
قال: ((وأما القسم الثاني: فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه، ولم يدركه بشيء من حواسه، فإنّ جلوس غراب على قلة جبل قاف، إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقاً، وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلاً، وهو غائب عن الحس والنفس، استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق .(9/42)
وأما القسم الثالث: وهو معرفة وجوب الواجبات أو إمكان الممكنات أو استحالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها، مثل: مسألة الرؤية، والصفات، الوحدانية وغيرها)) ثم عدد أمثلة .
ثم قال : ((إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول، فهو ظاهر وإلا وقع الدور، وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني، فهو ظاهر كما سلف.
وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال، وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يكن الجمع بين ظاهر النقل، وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما أن نكذب بالعقل، وإما أن يأول النقل، فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا بالعقل، فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذاً لا يكون العقل مقطوع الصحة، فإذاً تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً وتعين تأويل النقل.
فإذاً الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب إلا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين، إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه .(9/43)
وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات، فوجب نفيه، ولو كنا زيفنا هذه الطريقة يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى، وحينئذ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر.
فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين لعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك، فإذاً الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل عقلي، وكل ما يبتنى صحته على ما لا يكون يقيناً لا يكون هو أيضاً يقيناً، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيداً لليقين))
قال: ((وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى فيها بأن لا يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية)).
ثم قال ((فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيساً من الله تعالى وإنه غير جائز.(9/44)
قلنا: هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح، وأنه يجب على الله سبحانه شيء ونحن لا نقول بذلك ثم إن سلمنا ذلك، فلم قلتم: إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟، وبيانه، أن الله تعالى إنما يكون ملبساً على المكلف لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره، وليس الأمر كذلك، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام، فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقدير تقصيراً واقعاً من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضوع القطع، فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبساً)).
قال: ((فخرج مما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية.. نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد، وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية)) انتهى .(9/45)
فليتدبر المؤمن هذا الكلام وليرد أوله على آخره وآخره على أوله، ليتبين له ما ذكرنا عنهم من العزل التام للقرآن والسنة عن أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله، وما يجب له، وما يمتنع عليه، وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال، وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته، وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك، إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه، فإن غاية ما يمكن أن يحج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غراباً صنعته كيت وكيت، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد، وأن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة، ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة الصحة، وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فَضْلة لا يحتاج إليها، بل هو مستغنىً عنه إذا كان موافقاً للعقل .
فتأمل هذا البنيان الذي بنوه، والأصل الذي أصلوه، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدماً منه لقواعد الدين، وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين؟! وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل وعند جميع أهل الملل.
الوجه الثاني والسبعون: أن الدين تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وكل منهما نوعان: مطلق ومقيد.(9/46)
فالمقيد مثل أن يقول: لا أصدقه إلا فيما علمت صحته بعقلي، أو فيما يخالف عقلي، أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي، والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظه وهواه، فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظه وهواه عليه، فهذا غير مطيع للرسول في الحقيقة، بل هو متبع لهواه، كما أن ذاك غير مصدق له في الحقيقة، بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله، لا لكونه قاله، كما أن مطيعه فيما وافق هواه، إنما هو متبع لما يحبه ويهواه، فإن جاء الأمر بما يهواه فعله، وإلا لم يفعله، وهذا حال أكثر الناس، وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم). ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون). فالتصديق والطاعة لا يكون إيماناً حتى يكون مطلقاً، فإذا تقيد فأعلى أحواله –إن سلم من الشك- أن يكون إسلاماً ويكون صاحبه من عوام المسلمين لا من خواص المؤمنين.(9/47)
الوجه الثالث والسبعون: أنه لو كان ظاهر الكتاب مخالفاً لصريح المعقول لكان في الصدور أعظم حرج منه وضيق، وهذا خلاف المشهود بالباطن لكل ذي عقل سليم، فإنه كلما كان الرجل أتم عقلاً كان الحرج بالكتاب أبعد منه، قال تعالى: لرسوله: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه) والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمن به كما قال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) ومن آمن به من وجه دون وجه ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه، فمن أقر أنه منزل من عند الله أنزله على رسوله، ولم يقر بأنه كلامه الذي تكلم به، بل جعله مخلوقاً من جملة مخلوقاته، كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك، ومن أقر بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الآخر وهو حروفه كان في صدره من الحرج منه ما يناسب ذلك، ومن زعم أنه غير كاف في معرفة الحق، وأن العباد يحتاجون معه إلى معقولات وآراء ومقاييس وقواعد منطقية ومباحث عقلية ففي صدره منه أعظم حرج، وأعظم حرجاً منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح، ويشهد العقل بخلافه. وكذلك من زعم أن آياته لا يستفاد منها علم ولا يقين ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم.
قلت : وبهذا الوجه ينتهي ما أردت تسطيره في هذا المبحث، وإني لأرجو أن يكون فيه إعلاءٌ من شأن النصوص الشرعية ودحر للعقل الطاغي إلى داخل حدوده الطبيعية.
______________
([1]) حسنه الألباني في مشكاة المصابيح (177) لطرقه وشواهده.
([2]) صحيح النسائي (4989) .
([3]) انظر لتعريف هذه الألفاظ: الصواعق المرسلة (3/892) .
([4]) بزر الخشخاش: البزر هو كل حب يبذر، والخشخاش نبت ثمرته حمراء وهو ضربان: أسود وأبيض واحدته خشخاشة.
...(9/48)
انظر : المصباح المنير 1/60، مادة بزر، لسان العرب 2/164، مادة خشش.
([5]) هو الشيطان !(9/49)
نشر " العقلانية " في العالم الإسلامي هدف من أهداف اليهود !
لماذا ؟
لأن اليهود يعلمون كثرة النصوص القرآنية والنبوية الفاضحة لهم ولمخططاتهم عبر التاريخ، الكاشفة لشخصيتهم المريضة المنحرفة، المحذرة للمسلمين منهم، المحقرة لسلوكهم.
فهذه النصوص تعطي المسلمين شحناً نفسياً ضد يهود وأدائهم المستحكم لأمتنا، وتوضح لهم الطريق الأمثل في التعامل معهم .
وحيث أن هذه النصوص هي بين أيدي المسلمين صباح مساء فلا سبيل إلى صرفهم عنها سوى بإحلال العقلانية بدلاً منها، لأن هذه العقلانية التي لا تحتكم إلى نص مقدّس يسهل تعامل يهود معها في المستقبل، حيث لا ثوابت ولا أصول. فما كان حراماً اليوم يكون حلالاً غداً بمباركة هؤلاء العقلانيين!
ومن ذلك: الموقف من يهود وأسلوب التعامل معهم، فبعدما كان (النص) الإسلامي يحشد نفوس المسلمين لمواجهة (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، سيأتي العقل (المزعوم) ويتجاوز تلكم النصوص كلها مقدماً ما يراه مصلحة عليها؛ من التسامح معهم، ونبذ العداوة والبراءة تجاههم.
إضافة إلى أنهم بواسطة العقلانية يتساوون مع البشر الآخرين الذي كانوا يحتقرونهم ويزدرونهم لسوء مسلكهم .
يقول الأستاذ عبد السلام بسيوني في بحثه حول العقلانية : ((وإنني بالبحث لم يخامرني دهشٌ ولا عجب حين قرأت أن بذور الدعوة العقلانية بذور يهودية، يبرر سارتر الوجودي اليهودي نشرها في العالمين (بأن البشر ما داموا يؤمنون بالدين فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف، على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض وتعامل الناس بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي. ولن يقع عليهم التمييز المجحف))([6]).
ويقول سارتر اليهودي – أيضاً - : ((إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى هي : عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني)) ([7]).
____________________(10/1)
([6]) العقلانية : هداية أم غواية (ص 10) . وقد سبق في كلام الأستاذ محمد قطب.
([7]) المصدر السابق (ص 18) .(10/2)
عقلانيون يتوبون قبل الموت !
رغم فتنة العقلانية الساحرة التي تُخيل للمرء أنه سيستطيع من خلالها الوقوف على كثير من أسرار الخلق والوجود، وأنه من الممكن بواسطتها الاستغناء عن جميع أو كثير مما جاءت به الأديان من العبادات والسلوكيات .
رغم كل هذا، وأن المتابع لهذا السراب الخادع قلّما يعود إلى فطرته ويراجع دينه ويعلم حدود عقله المخلوق، إلا أن الله بحكمته ورحمته يجتبي بين الحين والآخر بعضاً من هؤلاء العقلانيين ويقذف نور الهداية في قلوبهم من جديد بعد أن يكونوا قد أمضوا شوطاً طويلاً في اللهاث خلف سراب العقلانية الذي يكتشفونه بهداية الله لهم أنه (سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً).
وإليك أخي القارئ مواقفَ لبعض هؤلاء العقلانيين قيدوا فيها خواطرهم عندما أراد الله لهم الهداية من جديد بعد رحلة مضنية خلف معقولاتهم .
هذه المواقف سجلها لنا السلف الصالح لنكون حذرين لا ننزلق فيما انزلق فيه الآخرون الذين ندموا على ما أضاعوه من ساعات عمرهم في تحصيل ما لا حاصل منه ..
فهذا الرازي مع سبقه في باب المعقول، وفرط ذكائه يشكو حيرته وعجزه فيقول :
نهاية إقدام العقول عقال
وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا في رجال ودولة
فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات : (الرحمن على العرش استوى) .(إليه يصعد الكلم الطيب) .
وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء) . (ولا يحيطون به علماً)
ثم قال : ((ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)) ([8]) .(11/1)
وقال الشهرستاني: ((فقد أشار إليَّ من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له مشكلات الأصول، وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهاية النظر، وفزت بغايات مطارح الفكر، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم: لعمري :
لقد طفت في تلك المعاهد كلها
وسَيَّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
على ذَقَن أو قارعاً سن نادم ([9])
((وقال الجويني: لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنذا أموت على عقيدة أميّ !
وقال الخونجي : اشهدوا عليّ أني أموت وما عرفت شيئاً إلا الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال: والافتقار أمر عدمي، فلم أعرف شيئاً !
وقال آخر: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام. وقال آخر وقد نزلت به نازلة من سلطانه فاستغاث برب الفلاسفة فلم يغث قال: ثم استغثت برب الجهمية فلم يغثني، ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني، ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني. قال: فاستغثت برب العامة فأغاثني)) ([10]).
___________________
([8]) شرح العقيدة الطحاوية ص 208-209، وانظر : سير أعلام النبلاء 21/501.
([9]) نهاية الإقدام في علم الكلام ص 3 .
([10]) الصواعق المرسلة لابن القيم (1/166) .(11/2)
الخاتمة
ختاماً: أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إلى العودة إلى تحكيم (نصوص) الكتاب والسنة في جميع شئونه لكي ينعم ويسعد ويُفلح مع المفلحين الذين قال الله فيهم (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : تضمن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة([11]).
ولا يكونوا ممن قال سبحانه فيهم (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى)
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
كتبه/ أبو مصعب : سليمان بن صالح الخراشي
الرياض / ص ب 522
الرمز / 11321
______________________________
([11]) تفسير الطبري (8/469) .(12/1)
الفهرس
? المقدمة
? ترجمة موجزة للأستاذ راشد الغنوشي
? إرهاصات نشوء الحركة
? نشأة الحركة وارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين
? لماذا تغير الغنّوشي ؟!
? تعليق للغنُّوشي على أحوال تونس الإسلامية
? انحرافات الغنّوشي
? لماذا (تساهل) الغنُّوشي ؟
? طه جابر العلواني يعترف !
? تلون الغنُّوشي ! وختام البحث(13/1)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
أما بعد:
... يُعد الأستاذ راشد الغنُّوشي – وفقه الله للحق – واحداً من أبرز رموز الحركة الإسلامية في البلاد التونسية في عالمنا المعاصر ، وله مع إخوانه في تلك البلاد جهود لا تنكر في محاولة بعث الإسلام من جديد في نفوس أبنائه عبر حركاتهم الإسلامية المتنوعة.
... وكما يعلم المتابع لهذه الحركة (أو الجماعة) منذ بداية نشأتها أنها خرجت من تحت عباءة جماعة الإخوان المسلمين ، الحركة الإسلامية الشهيرة التي أسسها حسن البنا – رحمه الله – عام1928م.
... يقول الدكتور صلاح الجورشي أحد أعضاء الحركة بتونس وهو يؤرخ لنشأة الجماعة الإسلامية في تونس في بداية السبعينات الميلادية التي كان الغنُّوشي أميراً لها: ( لم يكن خطاب "الجماعة" في البداية إخوانياً صرفاً. بل كان خليطاً من السلفية والتصوف والمودوديات(1) وشيئاً مما كتبه مالك بن نبي الذي التقت به عناصر من النواة الأولى للجماعة في مطلع السبعينات ، وتحاورت معه في بيته قبل أن يوافيه الأجل بحوالي سنة ... الخ(2). هذا التمازج بين مصادر متعددة للفكر الإسلامي ، يفسر إلى حد ما المرونة التي ميزت العمل في الجانب التنظيمي ، حيث سعت المجموعة في البداية إلى افتكاك موقع داخل جمعية المحافظة على القرآن الكريم لتتخذ منه غطاء قانونياً . ثم لما فشلت المحاولة ، تبنت الجماعة طريقة " جماعة التبليغ " التي تتمحور حول الوعظ المسجدي ، وتحريض المتعاطفين إلى الخروج إلى الناس ودعوتهم إلى الإيمان والصلاة. غير أن هذا التنوع في عناصر الخطاب سرعان ما تراجع لصالح أدبيات حركة " الإخوان المسلمون " ، التي كان يطلق عليها كبرى الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي)(3).
...(14/1)
أما فكر سيد قطب – رحمه الله – فهو يحتل المكان الأعلى في نظر أبناء الحركة الإسلامية في تونس خلال سنوات التكوين الأولى. يقول الدكتور صلاح عن هذا الفكر بأنه: ( كان المصدر الرئيسي لثقافة الجماعة )(4) بل إن الغنُّوشي نفسه يعترف بهذا الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين من البداية قائلاً: ( كنا ننظر لسيد قطب ، البنا ، المودودي .. هؤلاء شيوخنا ، لأنهم حملوا اللواء لواء الإصلاح الإسلامي. ولكن ما الذي يجعلنا نحترم رموز الموروث الديني الموجودين في بلادنا. أنا أقرأ الظلال ، ولكن ما الذي يجعلني أقرأ التحرير والتنوير؟. لم أكن أبحث عن العلم كعلم .. المكتبات مملوءة بالعلوم الدينية . كنت أبحث عن رمز ، عن أداة نضالية عن شخص أقتدي به كمصلح يخوض المعركة ضد العلمنة وضد الفساد ... ويضيف " كنت أقرأ وأكاد أحفظ عن ظهر قلب الظلال لأنه عندما أقرؤه كان يملأني حماساً. كنت أشعر بأنه يعطيني نظارات أنظر بها إلى هذا العالم ، وأحلل به الواقع العالمي ، ولكن ماذا يعطيني التحرير والتنوير غير ما يعطيني إياه الرازي وابن كثير؟ يعطيني مادة لغوية ، يعطيني رؤية عن إسلام ليس هو الذي أعيشه .. هذا قرآن معلق وليس قرآناً يمشي على الأرض..).(5)
... قلت: هذا الارتباط العضوي من الغنُّوشي وجماعته بالجماعة الأم (جماعة الإخوان المسلمين) منذ بداية التكوين أوقعه وهو الرجل المثقف المفكر المنِّظر(6) في الانحرافات المتنوعة التي لازمت هذه الجماعة منذ مؤسسها الأول (حسن البنا) الذي ارتضى لها هذا المنهج ، من حيث عدم وضوح رؤيتها العقدية في كثير من المسائل المهمة ، مما جعلها تحاول المزج بين مذاهب ومشارب متباينة لتكوِّن منها خليطاً عجيباً يُدعى " الإخوان المسلمون "! ، أدها إلى ( التمايع) مع المذاهب المنحرفة عن طريق أهل السنة والجماعة غاضة الطرف عن زيغ هذه المذاهب في سبيل ( التجميع ) الموهوم.
...(14/2)
هذا ، إضافة إلى السعي الدؤوب لهذه الجماعة نحو الوصول إلى الحكم (وهو من أساسيات أهدافها) بأي طريقة كانت ، ولو أداها ذلك إلى ارتكاب المحظورات فضلاً عن الشبهات.
... مع عدم نسيان سير فقهاء الإخوان ( كالغزالي والقرضاوي وغيرهم ) نحو ما يسمونه مذهب التيسير في الفقه ، الذي عن طريقه أحلوا كثيراً من المحرمات! مقدمين عقولهم وأهواءهم في سبيل ذلك على نصوص الكتاب والسنة . والأمثلة على هذا كثيرة ليس هذا موضعها.
... كل هذا الانحراف الذي رافق مسيرة الإخوان المسلمين منذ البداية كان له صداه وأثره في فكر الغنُّوشي وآرائه ، حيث تابعهم في كل ذلك الانحراف:
فوجدنا عنده عدم الوضوح العقدي.
ووجدنا عنده ( التمايع ) مع أهل البدع.
ووجدنا عنده الاختيارات الفقهية الشاذة.
ووجدنا عنده التنازل عن كثير من مبادئ الإسلام في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم.
كان هذا الانحراف من الغنُّوشي متوقعاً لدى الكثير من المتابعين للعمل الإسلامي. لأنه ما من فردٍ يندمج مع هذه الجماعة إلا وتطبعه بطابعها العام الذي تميز به أفرادها ، ومن شذَّ عن هذا الأمر ونجح – بسبب عوامل كثيرة – في التخلص من بعض تلكم الانحرافات السابقة(7)، فإنه لا شك سيتبقى معه شيء من آثارها تلوح بين الفينة والأخرى في مواقفه أو أقواله.
فالتربية الحزبية الجماعية المغروسة منذ الصغر أو منذ اندراج الإنسان في العمل الإسلامي عبر هذه الجماعة لا يزول أثره بالكلية مهما حاول المرء التخلص منه.
كم منزلٍ في الدهر يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل!
... وهكذا كان الغنُّوشي! فهو منذ تطلعه للعمل من أجل الإسلام ساقته قدماه نحو الانضمام إلى هذه الجماعة المنتشرة بين قطاعات الشباب في زمنه ، فتربى على أدبياتها ، وانغرست في نفسه معالمها المميزة لها عن غيرها ، وهو ما يسميه العارفون بالحق الكامن في الكتاب والسنة (انحرافات) ، وإن كان غيرهم يراه (فضائل) أو مميزات!!
...(14/3)
إذن: لم يكن هناك استغراب من وقوع الغنُّوشي في تلكم الزلات ، لأنه مجرد فرد ضمن منظومة كبرى من الأفراد الذين تضلعوا في هذا الأمر فأصبحوا يرونه خلاف ما يراه الآخرون ولات حين خلاص.
... بمعنى آخر: كيف تريد من شخص أن يتخلص من انحراف يراه هو من ضروريات العمل الإسلامي في هذا الزمان ، ويسخر ويسفه من ينتقده أو يعترض عليه؟
... لا شك أن الخلاص من أمر كهذا يعد من أعسر الأمور ، وأشدها على نفس الإنسان ، والتوفيق من عند الله يمن به على من يشاء من عباده.
... هذا ما كان قديماً: عندما كان الغنُّوشي مجرد عضو من أعضاء تلكم الجماعة ، أو وكيل لها في أرض تونس لا يملك تجاه إرشاداتها ومتطلباتها إلا السمع والطاعة ، لذا فلم يكن انحرافه مما يثير أي متابع للساحة ، لتعود المرء على مثل هذه الانحرافات من أفرادٍ كثيرين ينتمون لهذه الجماعة ، ممن هم أعلم وأفقه من الشيخ راشد(8)، فكانت انتقادات المنتقدين لمسالك الجماعة المنحرفة تنصب عليهم دون غيرهم من الأعضاء الآخرين الذين هم مجرد متابعين لتلك الزعامات: ومن هؤلاء الأعضاء الذين لم يكن يُلفت انحرافهم أحداً الشيخ راشد! فالتركيز كان منصباً على الأصول لا الفروع ، وعلى القيادات لا المتابعين.
... ثم تلاحقت الأحداث وتوالت ما بين تقلبات سياسية وفكرية شملت قطاعاً عريضاً من العاملين للإسلام في السنين الأخيرة ، فإذا بالشيخ راشد بعد أن شب عن الطوق (يتمرد) على مدرسته الأولى ويتفلت من كثيرمن ضوابطها ولوازم الانتساب لها. ويبدأ ينظر إلى تراثها نظرة الناقد المتفحص لا نظرة المريد الناشئ(9). وهذا في حد ذاته مما يسر أهل الحق لو أن الشيخ استثمر انقلاباته تلك في عرض مبادئ تلك الدعوة على الكتاب والسنة ، فأخذ والتزم منها ما وافقهما ، وتخلص مما خالفهما ، وهو ما نتمناه من كل (إخواني).
...(14/4)
ولكن المؤسف أن الشيخ – هداه الله – قد زاد الطين بلة ، والخرق اتساعاً، بانسياقه المتسارع خلف تيارات عقلية منفلتة من سلطة نصوص الكتاب والسنة ، مقدمة عقولها وأهواءها على شريعة ربها ، مما جعل المسافة تزداد بينه وبين الحق.
... فأصبح يتهاوى بين حين وآخر في منزلق خطير قاده إليه تنازلاته المتكررة لصالح التيار ( العقلاني ) الجديد الذي استطاع أن يجد له موطئ قدم في عقلية الغنُّوشي الجديدة!
ومع تكرر هذه المزالق التي سقط فيها الشيخ راشد كان لا بد من التصدي لهذا السقوط الشنيع ، ومحاولة إيقافه على الأقل إن صعبت إعادته إلى جادته الأولى – على ما فيها -.
لهذا فقد أحببت أن أبين للناصحين من أبناء الإسلام التدرجات الفكرية التي مر بها الشيخ إلى أن استقر على حاله الحاضر ، مع ذكر أهم الأسباب التي قادته لهذا التدرج. ثم أوجز أهم الانحرافات التي وقع فيها الشيخ وجانب الصواب ، لعل ناصحاً أميناً يكون عوناً له ليتدارك زلله في مستقبل عمره ، ويعود إلى صراط الله المستقيم قبل أن تتفرق به سُبل الضلال ، وتتمكن من قبله الأهواء والشبهات ، فيقال له بعدها { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } .
ولعل ( بعض الدعاة ) – هداهم الله – يتنبهون إلى خطورة مسلك (التدرج) الذي يسيرون فيه ، والذي يتعاظم انحرافاً بصاحبه وهو لا يشعر ، بل يسول له الشيطان بأنه على الجادة وغيره ( المتعنت ) أو ( المتشدد ) ! وما درى المسكين بمكر الشيطان به ، حيث ( درّجه) في خطواته التي حذر الله من اتباعها بقوله { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } .
أسأل الله أن يوفقني والشيخ الغنُّوشي وسائر المسلمين إلى اتباع الحق والثبات عليه إلى أن نلقاه غير مبدلين ولا مفتونين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف
سليمان الخراشي
الرياض ص.ب 522
الرمز 11321(14/5)
(1) نسبة لأبي الأعلى المودودي ، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان ، الذي ترجمت كتاباته للعربية ، ووجدت رواجاً كبيراً في صفوف الإسلاميين العرب ، وكان سيد قطب من أكثرهم تأثراً به.
(2) كما كان هناك تأثر ببعض الزيتونيين الذين حافظوا على موقف معاد للبورقيبية أمثال الشيخين محمد صالح النيفر وعبد القادر سلامة صاحب مجلة المعرفة التي ستصبح الناطقة باسم " الجماعة ".
(3) الإسلاميون التقدميون (ص 2).
(4) الإسلاميون التقدميون (ص 33).
(5) حوار معه نشرته مجلة" (تونس الشهيدة ) نقلاً عن ( الإسلاميون التقدميون ، ص33).
(6) يقول الجورشي عن حركة الاتجاه الإسلامي بتونس: " باستثناء الأستاذين راشد الغنُّوشي وعبد المجيد النجار بقيت الحركة لفترة طويلة لا تنتج كفاءات جديدة في مجال الإنتاج الفكري " (الإسلاميون التقدميون ، ص 126).
(7) وهم من يُسمون ( سلفيو الإخوان! ) ، وهم من التزم العقيدة السلفية ، ولكنه غلَّب الجانب الحزبي على حساب عقيدته ، فوالى أهل البدع (الإخوانيين) وعادى غيرهم من السلفيين الذين ينكرون أخطاء وانحرافات جماعة الإخوان ، فأصبحت سلفيتهم تعاني من نقص شديد واضمحلال واضح لمبدأ الولاء والبراء الشرعي . أصلح الله أحوالنا وأحوالهم.
(8) كالغزالي والقرضاوي مثلاً. ولأهل السنة ردود كثيرة على انحرافاتهما.
(9) والمتمردون على منهج جماعة الإخوان المسلمين - ممن كانوا رموزاً فيها – كثيرون ، كالترابي وعبد الله النفيسي وإسماعيل الشطي وغيرهم.
... وفي ظني أن سبب تمرد الكثيرين على الإخوان يعود إلى أمرين:(14/6)
طول الأمد وعدم تحقيق الهدف الذي قامت الجماعة لأجله ، وهو إعادة الحكم الإسلامي ، برغم السنين الطويلة التي مرت على الجماعة ، وهذا ما يدعو هذه الفئة ( المتمردة ) إلى الانفضاض عن مبادئ الجماعة ، والطعن فيها ، وانتقادها ، وأنه لا شك في جود خلل فيها ، فلهذا يلجأ هؤلاء إلى غيرها أو إلى الإنشقاق عنها بفكر جديد يزعم أنه يتفادى به ما وقعت فيه جماعته ، وهكذا دواليك!
ضجرهم من حصر الجماعة نفسها طوال هذه السنين الماضية منذ نشأتها في تراث حسن البنا ، وعدم محاولتها تجديده ، أو تقبل النقد له ، فيلجأ هؤلاء ( المتمردون ) بما أوتوه من عقل نقدي إلى تسليط مجهر النقد على ذلك التراث (البنائي) ، مما يثير رؤوس الجماعة ، وعندها يحدث الانشقاق أو الانفصال . كما سيأتي في مثل حالة ( الإسلاميين التقدميين ) في تونس.
ولكن المؤسف أن معظم هؤلاء المتمردين يلجأ بعد انفصاله عن الإخوان إلى الفكر العقلاني المتحرر من الضوابط الشرعية ، فيفسد أكثر مما يُصلح ، ويزيد من جراح الأمة وخلافاتها . ولو أنه لجأ إلى منهج الكتاب والسنة لوجد الأجوبة الشافية لحيرته وشتاته ، ولقلل من الخلافات والنزاعات بين أفراد الأمة ، والله المستعان.(14/7)
ترجمة موجزة للأستاذ راشد الغنوشي
ترجمة موجزة للأستاذ راشد الغنوشي(1)
ولد في 27 جمادى الأولى من عام 1360هـ بمدينة الحامة ، بولاية قابس ، بالجنوب الشرقي بتونس.
تلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي في بلدته.
انتقل إلى القاهرة في بداية الستينات ميلادية لمواصلة دراسته العليا بها. ثم اضطر بعد عام ونصف إلى الإنتقال إلى سوريا بسبب تدهور العلاقات المصرية التونسية ذاك الوقت.
تخرج في جامعة دمشق عام 1968م حاصلاً على "ليسانس" الفلسفة.
انتقل إلى باريس ليواصل دراسته ، إلا أنه انقطع عن الدراسة بعد عام لظروف عائلية ، وعاد إلى تونس ، ليستقر بها كمدرس للفلسفة.
بدأ نشاطه الإسلامي في منتصف السبعينات.
اعتُقل عدة مرات في أواخر السبعينات.
حُكم عليه في صيف 1981م بالسجن عشر سنوات ، ثم أُطلق سراحه في عام 1984م.
عاد سنة 1985م رئيساً للمكتب السياسي العلني لحركة الاتجاه الإسلامي.
اعتُقل مرة أخرى عام 1987م.
ثم أُخرج عنه بعد سقوط نظام بورقيبة.
يعيش الآن في المنفى بعد الصدامات العنيفة بين نظام بن علي والإتجاه الإسلامي.
نشاطاته:
شارك في تأسيس حركة الإتجاه الإسلامي ، واختير رئيساً لها عام 1981م ، ثم رئيساً لها بعد تحولها إلى حزب النهضة عام 1989م.
عمل بالصحافة في تونس ، فرأس تحرير مجلة ( المعرفة ) ، ثم عمل بمجلة (المجتمع) ، ومجلة (الجيب) ، وكتب في العديد من المجلات والدوريات العربية.
شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والفكرية في أرجاء العالم الإسلامي.
مؤلفاته : من أهمها:
1- "مقالات": نشر دار الكروان بباريس.
2- " الحركة الإسلامية والتحديث ": بالاشتراك مع حسن الترابي ، دار الجيل بيروت.
3- المرأة المسلمة في تونس بين توجيهات القرآن وواقع المجتمع التونسي ، دار القلم بالكويت.
4- طبيعة المشروع الصهيوني وضرورة التصدي له، شركة الزاد ، أسبانيا.(15/1)
5- حقوق المواطنة: حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي ، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، بأمريكا.
6- الحريات العامة في الدولة الإسلامية.
- الأستاذ راشد الغنُّوشي – كما علمنا – رمز تونسي من رموز جماعة الإخوان المسلمين ، وهو لا يجد غضاضة في هذه النسبة.
... وقد سار الشيخ على مبادئ هذه الجماعة منذ انخراطه في العمل الإسلامي إلى تسلم قيادة فرع هذه الجماعة في تونس.
... ولكي نحيط جيداً بالتطورات التي طرأت على هذه الجماعة في البلاد التونسية حتى أدت إلى أن ينتهج الغنُّوشي النهج الأخير الذي ارتضاه ، لا بد لنا أن نستمع إلى مؤرخٍ شاهد لهذه الحركة من نشأتها وارتباطها بالإخوان ، مروراً بما أصابها من انشقاقات وتطورات ، إلى أن استقرت على ما هي عليه الآن ، هذا المؤرخ هو الدكتور صلاح الجورشي في كتابه المهم ( الإسلاميون التقدميون ) الصادر عام 1421هـ حيث كشف فيه حقائق كثيرة عن أحوال فرع جماعة الإخوان بتونس ، وهو ما يجهله أكثر أهل المشرق الإسلامي.
... وهو ما سأعرض له فيما يلي ، مقتطعاً بعض عبارات الدكتور التي أرى فيها خلاصة لتسلسل الأحداث في هذه القضية ، مع التعليق على شيء من ذلك.
(1) استفدتها من المقابلة التي أجرتها معه مجلة ( قراءات سياسية) ، السنة الأولى ، العدد الرابع ، 1411هـ ومن مقدمة كتابه ( حقوق المواطنة).(15/2)
إرهاصات نشوء الحركة
يقول الدكتور: (كان التونسيون مع أواخر الستينيات ، يخرجون من مرحلة أرهقتهم على أكثر من صعيد . كان تأسيس الدولة الوطنية قد تم على حساب حرياتهم الأساسية ، واستقلالية منظماتهم وشبكات مجتمعهم المدني ، حيث غابت كل مظاهر التعددية التي ميزت حياتهم العامة حتى من قبل نشوء الحركة الوطنية. كما أسهمت سياسة الاقتصاد الموجه والتخطيط المركزي والاشتراكية الزراعية التي اتخذت شكل النظام التعاضدي ، في تمتيع البلاد ببنية تحتية متطورة نسبياً ، لكنها أربكت التجار والفلاحين الصغار والكبار ، نظراً لحجم الارتجال وسوء التطبيق اللذين صاحبا التجربة مركزياً وجهوياً ، وتجذر قيمة الملكية الفردية في الأنفس ، والرفض الطبيعي عند الناس لكل أشكال مصادرة حقوقهم وممتلكاتهم. كما زادت تجربة الستينات برمتها في توسيع دائرة تدخل الدولة في حياة المواطنين، والتحكم بشكل مخيف في مصائرهم . كان لذلك أثر بالغ في اهتزاز شرعية السلطة السياسية لديهم. وإذا كان الطلبة ، خاصة اليساريين منهم ، أول من عارض بقوة وجرأة على منطق وصاية الدولة وأبوة الحكم منذ أواسط الستينات ، فإن آخرين أخذوا يشككون في سلامة الاختيارات الاجتماعية والثقافية الرسمية ، ويتحدثون عن وجود رغبة شعبية للعودة إلى التدين وتنشيط مظاهر الانتماء والهوية. وهو ما يفسر الحركية التي بدأت تشهدها المساجد منذ أواخر الستينات ، والمساجلات التي عكستها بعض الصحف في تلك المرحلة. كما كشفت تلك الحركية عن وجود شريحة من الرأي العام التونسي لم يهضم الإصلاحات التي أنجزتها البورقيبية خاصة في مجال تطوير أوضاع المرأة والأسرة. ...
...(16/1)
تأكد ذلك عندما قررت السلطة عام 1969م القيام باستشارة عامة في أعقاب تجربة التعاضد ، محاولة منها لامتصاص الغضب والخيبة الجماعية ، وبحثاً عن فرصة للتأمل وإعادة ترتيب البيت. عندئذ تبين لها أن الهاجس الثقافي الديني قد احتل مكانة بارزة في نقاشات المواطنين ، شملت حتى أبناء الحزب الحاكم. ورغم بعض الإجراءات الشكلية التي لجأت إليها الحكومة قصد إرضاء الشعور الأخلاقي لدى قطاعات عريضة من المواطنين ، كالقيام بحملة ضد حاملات " الميني جيب " وإجبار الشباب على قص شعورهم الطويلة ، إلا أن السلطة والنخبة لم يفكرا بشكل أعمق في المسألة الدينية وآفاق تطورها.
...(16/2)
تاريخياً مرت علاقة بورقيبة بالإسلام بمرحلتين مختلفتين تماماً. في الأولى، كان يعمل من جهة على الانفراد بزعامة الشعب التونسي وتعبئته ضد السياسات الاستعمارية ، وكان من جهة أخرى يلتزم بالدفاع الشديد عن القيم الإسلامية ، داعياً إلى الحفاظ حتى على بعض التقاليد التي ليست بالضرورة ملزمة من الناحية الشرعية. وبلغ به الأمر إلى التخلي عن المصلح الطاهر الحداد عندما شن عليه المحافظون حرباً لا هوادة فيها بسبب كتابه " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " ، رغم إيمان بورقيبة بكل حرف ورد فيه. كانت الأولوية عنده كسب الرأي العام ، والحرص على ربط صلات وثيقة ببعض العلماء والشخصيات الزيتونية الذين رأوا فيه صفات الرجل السياسي المصلح الذي سيعيد للدين شأنه وسموه. حتى عندما انفجر الخلاف بينه وبين منافسه الأمين العام للحزب الدستوري صالح بن يوسف عام 1955م ، حاول كل منهما استعمال الشعور الإسلامي والحجة الدينية لاستمالة الرأي العام. فإذا كان بن يوسف قد علل رجوعه إلى تونس لمقاومة رئيس الحزب بالعمل " من أجل خدمة مصلحة الوطن ودين الله" ، فإن بورقيبة اضطر لإقناع التونسيين بضرورة القبول باتفاق الاستقلال الذاتي الذي أبرمه مع فرنسا واعتبره خصومه خيانة وعمالة ، فدعاهم إلى الاهتداء بسلوك الرسول الذي لم ينكث عهوده واتفاقياته.
...(16/3)
بعد الاستقلال تغيرت علاقة بورقيبة بالمسالة الدينية تغيرا يكاد يكون جذرياً. فإذا كان قد حاول في المرحلة السابقة أن يوظف الشعور الإسلامي لصالح الأفكار الوطنية المناهضة للاستعمار، فإنه عمل في المرحلة الثانية على إخضاع الإسلام من خلال الهيمنة على مؤسساته أو إلغائها ، ولو بشكل تعسفي أحياناً ، لصالح سياسات الدولة وأولوياتها. لم يكن بورقيبة مع مبدأ فصل الدين عن الدولة الذي دافع عنه بعض اليساريين والعلمانيين في ما بعد. لو فعل ذلك لاضطر أن يعطي للحياة الدينية ومؤسساتها قسطاً هاما من الحرية والاستقلالية بينما كان تصوره للدولة تصوراً شمولياً. لهذا عمل منذ البداية على تفكيك المؤسسات الدينية الفاعلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وإلغائها ، كما حصل للمؤسسة الزيتونية. اعتبر الدولة مسؤولة عن تنظيم الشؤون الإسلامية من خلال هيئة إدارية ملحقة بالوزارة الأولى. ثم أدمج خريجي الزيتونة في السلك الإداري والتعليم العام بهدف تهميشهم. ورأى أن له الصلاحية المطلقة لتفسير النصوص الدينية بطريقة أوقعته في تناقضات عديدة ، وبينت خطبة له في هذا الجانب فقرة المعرفي ، وتعامله الساذج أحياناً مع النص القرآني وعلاقته العدوانية مع شخصية الرسول واستخفافه بالتاريخ الإسلامي(1). لم تسلم حتى العبادات من تعليقاته الساخرة وقراراته التعسفية ، إذ أن إحساسه بالثقة المفرطة في نفسه ، وتضخيمه لدوره ، وعدم إدراكه للطبيعة المستقبلية للإسلام وعظمته الرمزية والتاريخية. كل هذا جعله لا يولي أهمية تذكر لوضع سياسة دينية واضحة المعالم وبعيدة الأهداف ، مما نتج عنه تأخر كبير في تطوير الفكر الإسلامي التونسي والارتقاء بالوعي الديني الشعبي اللذين بقيا يتحركان في معزل عن الخطاب التحديثي للسلطة السياسية في قطيعة شبه تامة مع النظام التربوي)(2).(16/4)
(1) مثل تساؤله كيف يصلي الله على الرسول؟ أو قوله بأن الرسول كان أمياً بينما هو ، أي بورقيبة ، يحمل كدساً من الشهادات العلمية !
(2) الإسلاميون التقدميون (ص 22-24).(16/5)
نشأة الحركة وارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين:
... يقول الدكتور: ( لم تولد " الجماعة الإسلامية بتونس " في السرية ، كما حصل مع حزب التحرير الإسلامي فيما بعد. بدأت الخطوات الأولى علنية ، تحت أنظار الجميع: خطب وحلقات في المساجد ، مقالات في الصحافة(1)، محاضرات في المدارس ونوادي الشباب. كما أن المؤسسين كانوا يتحركون دون تخف، يدعون لأفكارهم بدون تقية ، ويثيرون اهتمام الرأي العام المسجدي والشبابي بخطابهم الثقافي (الجديد) وأحياناً الغريب ، خاصة عندما اختلط بمضمون وأشكال جماعة التبليغ.
... كان هذا الخطاب في بدايته مزيجاً من العناصر الفكرية المتنوعة بتنوع تكوين العناصر المؤسسة. لكنه في عمومه كان يجنح إلى التفسير الأخلاقوي للقضايا. أي تفسير الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعناصر ثلاثة هي: فساد أخلاق الأفراد والأمة ، ابتعاد التونسيين عن مرجعية الإسلام وقيمه وقوانينه، نقد الغرب والتصدي لتقليده والتشبه به. الغريب أنه بقدر ما كان ذلك الخطاب سطحيا في بعض أطروحاته وضعيفاً في بنائه الداخلي ، فإن تأثيره في تلك المرحلة كان سريعاً وواسعاً. إن دل هذه على شيء فإنه يدل من جهة على تآكل الخطاب الرسمي وانعزاله عن الشباب والعامة ، ومن جهة أخرى كشف عن عزلة النخبة و"الطبقة السياسية" عن الرأي المستبطن في الأعماق. فالخطاب الحركي لتلك الفترة كان يستمد " قوته " وتأثيره من تآكل شرعية الدولة ، وتعاظم شعور الأفراد بأزمة نمط ما بعد الاستقلال ، وفشل الخطاب المقابل في الوفاء بوعوده في الحرية والعدالة ، سواء على المستوى الرسمي أو النخبوي.
...(17/1)
لم يكن هناك سوى خطاب وحيد يملك بعض مقومات المواجهة ، خاصة داخل الفضاء الجامعي ، إنه الخطاب اليساري الماركسي. وهو يفسر حدة الصراع الذي انفجر منذ ظهور الإسلاميين في أروقة المبيتات الجامعية والكليات والمعاهد العليا التي كان يعتبرها اليساريون في مطلع السبعينات بمثابة معاقلهم المحررة.
... لم يكن خطاب " الجماعة " في البداية إخوانياً صرفاً. بل كان خليطاً من السلفية والتصوف والمودوديات وشيئاً مما كتبه بن نبي الذي التقت به عناصر من النواة الأولى للجماعة في مطلع السبعينات ، وتحاورت معه في بيته قبل أن يوافيه الأجل بحوالي سنة ... الخ.
... هذا التمازج بين مصادر متعددة للفكر الإسلامي ، يفسر إلى حد ما المرونة التي ميزت العمل في الجانب التنظيمي ، حيث سعت المجموعة في البداية إلى افتكاك موقع داخل جمعية المحافظة على القرآن الكريم لتتخذ منه غطاء قانونياً. ثم لما فشلت المحاولة ، تبنت الجماعة طريقة " جماعة التبليغ " التي تتمحور حول الوعظ المسجدي ، وتحريض المتعاطفين إلى الخروج إلى الناس ودعوتهم إلى الإيمان والصلاة.
... غير أن هذا التنوع في عناصر الخطاب سرعان ما تراجع لصالح أدبيات حركة "الإخوان المسلمين " ، التي كان يطلق عليها كبرى الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
... يعود ذلك إلى اعتبارات متعددة ، فإضافة إلى التأثير الشخصي لأدبيات الإخوان على بعض المؤسسين ، كانت هناك جوانب أخرى موضوعية:(17/2)
كان التدين في تونس عند مطلع السبعينات متقلصاً ومتقوقعاً. فالمساجد مقفرة أو تكاد ، والنشاط الديني منعدم أو محدود. وكان التدين يومها أنواعاً ، منها الدين الرسمي المنحصر في شخص المفتي ونشاطه البروتوكولي والشكلي ، إضافة إلى إدارة تابعة للوزارة الأولى تعنى بشؤون المساجد. ومن جهة تدين شعبي أغلبه طرقي وخرافي. وهناك تدين زيتوني أزيح من الحياة الثقافية ، واعتزل مشايخه الحياة العامة بعد إحالتهم إلى المعاش. من هذين الوسطين انحدر أغلب العناصر المكونة للجماعة ، الذين تكونوا في معاهد تعليم عصرية أريد منها أن يكون خريجوها " علمانيين " فإذا بهم يشتبكون مع الأوساط العلمانية والزيتونية والطرقية. ويبحثون عن زاد معرفي من خارج الدوائر التونسية.
شكل " الإخوان المسلمون " تجربة متكاملة اكتسبت إلى حد ما أهمية تاريخية ، من حيث بنائها التنظيمي والأيديولوجي. وكانت في مرحلة سابقة تعتبر في مقدمة الحركات الإسلامية السنية التي رفعت شعار " شمولية الإسلام" وحاولت تجسيده في صيغة تنظيمية شمولية. خلافاً لدعوات أخرى ركزت جهودها على جانب دون آخر.
كان الإخوان أيضاً أكثر الحركات التي ألحت على القول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يتم ضمن جماعة تجعل من الإسلام منهج حياة. وهو ما يقتضي تجاوز العمل الفردي المحكوم عليه بالفشل أو الانحصار داخل دائرة التأثير المحدود ، وخلق آليات العمل الجماعي ، بما في ذلك من إعادة صياغة الأفراد وتربيتهم حسب متطلبات الحياة الجماعية الجديدة.(17/3)
مما زاد في دعم حضور الحركة في وجدان النواة الأولى المؤسسة ، صورة البطولة والصمود والشهادة سواء في المعارك التي خاضتها كتائبهم عام 1948م ضد الصهيونية ، أو كانت تحيط بالإخوان داخل سجونهم وفي مختلف محنهم وصراعاتهم. وهي صور كانت تنقل إلينا من خلال الشهادات التي ترويها بتفصيل مثير وفي مناسبات عديدة مجلة " الدعوة " ، أو في بعض الكتابات الذاتية التي طبعت في هذا الشأن.
هكذا اكتملت مقومات التأثير والاستقطاب الثلاثة. العامل الأيديولوجي في مرحلة صعود الأيديولوجيات الشمولية. والعامل التنظيمي ممثلا في الانخراط في تجربة جاهزة وخبرة ترجع إلى أواخر العشرينات. وعامل القدوة المحرضة على الالتزام الأخلاقي والشجاعة الأدبية والتضحية في سبيل فكرة والصمود عند المحنة.
سرعت هذه العناصر ، إضافة إلى غياب نموذج محلي يمكن الاقتداء به ، في إجراء الاتصالات الأولى بالتنظيم الدولي للإخوان ، دون دراسة معمقة ونقدية لتاريخ وتجارب هذه الحركة قصد معرفة إمكانية الانتماء إليها. كان ذلك أو لقرار عاطفي وارتجالي تتخذه " الجماعة " في بداية نشأتها. لقد اتخذ القرار المبدئي للانتماء إلى جسم هلامي ، لم يقدر حجمه الحقيقي ، ولم يدرس برنامجه الثقافي والسياسي ولم يقع التساؤل حول الأسباب العميقة التي جعلته متعثراً في مساره ، ومتأزماً في علاقاته الداخلية والخارجية. لم يطرح سؤال على هذا الجسم الذي ما أن خرج أصحابه لتوهم من أجواء السجون والإبعاد ، حتى عادت قيادته لتنشيطه بأي طريقة دون الرغبة في دراسة عوائقه الذاتية والأسباب التي وراء عجزه عن التصدي للضربات المتوالية. كان الحرص أكثر على إظهاره في صحة جيدة ، وتجنب إخضاع تاريخه للنقد الذاتي.(17/4)
هذا الانتماء غير المدروس والمتعجل أسهم بشكل قوي في وقوع الجماعة في نوع من الاغتراب المحلي. فالعناصر الأولى لم تتلق ثقافة أولية تربطها بالواقع الثقافي التونسي ، وتحدد لها علاقتها بتاريخ تونس الحديث بدءاً من الحركة الإصلاحية وصولاً إلى العهد البورقيبي ، مما كان له التأثير السيئ على علاقة الأفراد المنتمين ببيئتهم الثقافية والسياسية ، ومما دفع إلى ظهور عوامل الاختلاف والافتراق.
أما الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية أن النواة الأولى التي تولت استقطاب وتكوين العناصر الموالية لم تكن متسلحة بعقلية نقدية تمكنها من التعامل مع تراث الإخوان بموضوعية وحذر. كان الانبهار والاستهلاك السريعان غالبين في عملية استيعاب الأدب الإخواني وترويجه. وهو الأمر الذي ساعد كثيراً على ابتلاع الفكر القطبي ( نسبة لسيد قطب رحمه الله ) ، بما فيه من متطلبات وانزلاقات خطيرة.(17/5)
كان حسن البنا بمثابة الشخصية التاريخية التي استشهدت لأنها حاولت أن تعيد إحياء الإسلام ، ونجحت في بناء نموذج جديد من العمل الإسلامي ، في ظل رهانات وموازنات محلية ودولية لها خصائصها التاريخية المدهشة. كانت إلى جانب ذلك كتابات سيد قطب وشقيقه الأصغر محمد الأكثر تأثيراً على المجموعة الأولى التي شكلت قاعدة التنظيم في المستقبل. لم يكن الأمر من باب الصدفة ، وإنما لارتباط ذلك بالصراع الأيديولوجي الذي بدأت تشهده الجماعة ، خاصة الأستاذة والطلبة منهم بالخصم الشرس ممثلاً في اليسار الماركسي ، فالأيديولوجيا لا تواجه إلا بأيديولوجيا منافسة وقادرة على الرد " الحاسم ". وإذا كانت كتابات محمد قطب قد تناولت " الرد " على الشبهات المهددة للفكر الديني التي يروجها خصوم الحركة ، مع محاولة بلورة ما اعتبر " بدائل إسلامية " ، فإن سيداً بعد سجنه كان مشغولاً بمسألة أكثر أهمية وخطورة ، وهي مسألة المنهج التي سبق وأن شغلت شخصاً آخر في مجال معرفي مناقض هو لينين. معظم ما كتبه سيد خلال محنته القاسية كان محاولة للإجابة عن سؤال: ما العمل؟ ، أي كيف نحدث التغيير المنتظر؟. ولا تخفى أهمية هذا السؤال والإجابة عنه بالنسبة إلى الحركات والجماعات التي ترشح نفسها لمثل هذه المهمة. كان الشيخ البنا يملك إجابة واضحة ، ولو بشكل نسبي عن هذا السؤال: نشر الفكرة ، تجميع الأنصار وتربيتهم في صلب الجماعة ، والعمل في الإطار القانوني ، عرض قائمة إصلاحات اجتماعية تتعلق بالأخلاق العامة.(17/6)
لكن أهمية سيد قطب لا تقف عند حدود ما قدمه من إجابات ، أثارت وما تزال جدلاً واسعاً في أوساط الحركيين الإسلاميين ، بل إن تأثيره الذي بلغ حد السحر والسيطرة الكاملة على الألباب ، متمثلاً في أسلوبه الأدبي القوي المصحوب بثقة كبيرة في النفس وتعال عن الواقع بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة ، كل ذلك مكنه من قدرة على التعبئة والتجييش تجعلان القارئ المؤمن بما يقوله ، يستسلم بين يديه ليقوده إلى المعركة الفاصلة مع الأعداء. فأنت مع قطب تصبح مسكوناً بإحساس عميق بأنك تحمل رسالة مقدسة ، وأنك مطالب بتغيير سلوكك ومفاهيمك وعلاقتك العامة والخاصة ، وتتهيأ للدخول في حياة جديدة لا علاقة لها بما عهدته من نمط اجتماعي وثقافي. بل كانت له القدرة على جعلك تحس بمسؤولية تغيير العالم وأنك قادر على مواجهة كل قوى الشر والطغيان.
لم ينتج الإخوان " مُنظراً " أقوى وأكثر تأثيراً من سيد قطب ، ولكن في المقابل لم يعان الإخوان من مآزق نظرية وعملية مثلما عانوا من منهج التغيير الذي صاغه ذهنياً – رحمه الله - في تفسيره للقرآن وفي مؤلفة الشهير " معالم في الطريق)(2).
بداية الأزمة:
(نما الجسم الحركي بسرعة كبيرة لم تكن متوقعة. فقد كانت هناك قابلية شديدة ، خاصة في صفوف الشباب والعنصر النسائي. كانت هذه أيضاً من المفارقات التي تعددت محاولات فهمها وتعليلها دون التوصل إلى فهم علمي مقنع. فيكف يفسر إقبال قطاع من النساء التونسيات ، المتعلمات منهن بالخصوص ، اللاتي يتمتعن بحقوق لم تعرفها معظم نساء العامل الإسلامي بفضل الإصلاحات التي جاءت بها مجلة الأحوال الشخصية ، الانخراط بكثافة في مشروع محافظ لم يطور خطابه بعد ، خاصة تجاه المسألة النسائية؟(17/7)
ندرك صحة المثل القائل " فما راء كمن سمع " عندما نستحضر البدايات الأولى لأزمة الحركة. عند التعامل عن بعد مع أسماء كبيرة وحركات ضخمة يتشكل لديك انطباع إيجابي يصل إلى حد التعظيم والتقديس ، لكن ما أن تتوفر لديك المناسبة وتلتقي مباشرة بهذه الرموز حتى تهزك المفاجأة وتكتشف البون الشاسع بين الواقع والمثال ، بين النصوص وأصحابها. هذا ما حصل للعديد من أبناء " الجماعة " ، عندما توفرت لهم فرص زيارة المشرق العربي. وفي مقدمتهم أحميدة النيفرالذي صدم في مكة عند أول لقاء له بالأستاذ سيد قطب الذي رفض حتى الحوار معه قائلاً له " أرفض التحاور مع أتباع نظام بورقيبة الطاغوتي"؟. كانت خيبته الثانية خلال زيارته القاهرية التي كان يرغب خلالها بالتعرف على حركة الإخوان المسلمين والتحاور مع قيادييها ، فوجد نفسه أمام شرط مسبق هو أداء البيعة ؟. وقائع متفرقة وحالات تماس محدودة بالتنظيم الدولي للإخوان ، كانت كافية ليبدأ النموذج مهتزاً عند البعض من الأعضاء وطارحاً لأسئلة لقيت شيئاً من التجاوب لدى البعض الآخر.(17/8)
مع التوسع العددي والتعقد التنظيمي والاحتكاك بالواقع المعيش ، أخذت بعض المشكلات تطفو على السطح. كان فرع العاصمة التابع " للجماعة " ، الجهة الرئيسية التي أخذت ترصد هذه المشكلات التربوية والتنظيمية ، وتحاول فهمها واقتراح حلولها لمعالجتها. ومن بين ما تم رصده التغيير السلبي الذي طرأ على شخصية العديد من العناصر. اتضح أنه قبل استقطاب الفرد كان له من الاستقلالية والتحفز وروح المبادرة ، وميل إلى الإبداع في مجالات كالمسرح أو بقية الفنون ، أو في مستوى العلاقات الاجتماعية ومدى الانفتاح المحيط. لكن بعد الانتماء تتغير كل هذه المميزات ويتخلى عن هواياته السابقة ، وتتوتر علاقاته أحياناً بمحيطه الأسري والاجتماعي ليصبح أميل إلى الصلابة والتشدد. كان طموح الكثير من الشباب المنتمي لا يكاد يتجاوز ، إضافة إلى اختصاصاتهم العلمية ، مجال الوعاظ وإمامة المساجد. ويضاف إلى هذا ظهور نزعة تقليد ما كان يسمى بـ " أمير الجماعة " في كل ما يتعلق بشخصيته ومظهره.
تميزت مدرسة الإخوان عن غيرها من الحركات بإلحاحها الشديد على عامل الفرد ، والعمل على إعادة نحت شخصيته. لذلك يجد المنتمي إلى الجماعة نفسه مدعوا لبرمجة حياته الخاصة والعامة وفق حاجيات الحركة ومتطلباتها. هذا أمر هام ، لأن من يدعي الإقدام على تغيير المجتمعات والعالم عليه أن يبدأ بنفسه وبالذين معه. والحركة الإسلامية ، كغيرها من الحركات الدينية والأيديولوجية ، ليست مجرد تنظيم سياسي يعمل على تعبئة الأتباع لخوض حملة انتخابية ، وإنما كانت بمثابة المحاضن شبه المغلقة التي تستوعب أعضاءها وتخضعهم لأجواء وشروط وطقوس لتحويلهم إلى نماذج مؤثرة في المجتمع ، ومهيأة لخوض معارك مختلفة. كان لا بد لذلك من الحرص على الاستقامة الصارمة للسلوك ، والابتعاد عن الازدواجية والتناقض بين الشعارات والممارسات اليومية)(3).(17/9)
قلت: بعد هذا بدأ التململ يدب في صفوف بعض مثقفي الجماعة الذين أزعجهم أن تحصر الجماعة عقول كوادرها في تراث البنا وسيد قطب جاعلةً على فكرهما هالةْ من القداسة والتبجيل السطحي ، فبدأ هؤلاء المثقفون يسلطون أقلامهم على نقد هذا التراث المقدس ، ويعيدون النظر في كثير من ثوابته لدى أفراد الجماعة.
وليت هذه الفئة إذ صنعت هذا: حاكمت ذلكم التراث في ضوء الكتاب والسنة إذاً لساهمت بشكل جاد في تقويم مسيرة الجماعة الأم وهو ما يتمناه كل محب لهذه الجماعة ، لكن الذي حدث هو أن هذه الجماعة المثقفة اتبعت أهواءها وسط ضغط الواقع العلماني ، ولم يكفها ما قدمه الإخوان من تنازلات وما لجأوا إليه من تساهلات يعرفها الجميع ، حتى بدؤوا يتخلصون من كثير من أحكام الإسلام الثابتة ، وقضاياه المحكمة إما بردٍ أو تأويل ، لعل ذلك يتناسب مع عصرهم وعقولهم – زعموا - ، فهم كما قيل:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها!
... فحكموا عقولهم القاصرة في نصوص الكتاب والسنة ، ورفضوا منها ما لم تستسغه أفكارهم الضيقة مكونين من ذلك ما يسمى بـ (الإسلاميين التقدميين)!! الذين من اطلع على بعض اطروحاتهم وآرائهم علم علم اليقين أنها علمانية جديدة قد لبست مسوح الإسلام ، تضليلاً للمسلمين ، سواء كان ذلك عن عمدٍ منهم ، أم عن خَوَرٍ وضعف عن الالتزام ( بجميع ) شرائع الإسلام ، والاعتزاز بها فضلاً عن الفرح ، كما قال تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .
... عندما قامت هذه الفئة ( التقدمية!) بذلك على رؤوس الأشهاد ، استاء من هذا شيوخ الإخوان وقادتهم في تونس ، وكذا في خارجها.
يقول الدكتور صلاح عن هذا الأمر:
...(17/10)
(عند هذا الحد تكون رقعة التمرد قد اتسعت لتتجاوز سيد قطب ، وتعيد النظر في العلاقة بالإخوان كتنظيم ومرجعية ، وتبلغ الأسئلة حد ملامسة ما كان يعتبر في ذلك الوقت ثوابت. لذلك كان من الطبيعي أن يرد التنظيم بقوة على ما اعتبرته القيادة آنذاك (انحرافاً). ولقد أحس الجسم أنه يواجه عاصفة فكرية وتنظيمية هي الأولى من نوعها في تاريخه القصير. جاءت الردود قاسية وعنيفة كشفت بدورها عن جوانب أخرى من الأزمة ، ومن طبيعة الثقافة المرجعية التي كانت سائدة في تلك المرحلة).(4)
... (فشلت " الجماعة " في الحفاظ على وحدة صفها ، وأخفق الجناحان في تحقيق التعايش بينهما تحت سقف تنظيمي واحد. في البداية بدأ وكأن الجسم الجماعي قادر على تحمل التنوع الفكري ، لهذا نشرت سلسلة مقالات الأستاذ أحميدة النيفر دون اعتراض إداري على صاحبها ، رغم الصدمة التي أحدثتها منذ المقالة الأولى. لكن مع توسع دائرة النقد والتباين في الطرح انتفض الجهاز التنظيمي مذعوراً ، ومارس كل ما يملك من ضغوط لإسكات الصوت المغاير. كما لجأ الخط المحافظ يومها إلى مختلف الوسائل الإقصائية ، مدعوما بأغلبية صامتة لم تتوفر لها الظروف المساعدة لإدراك طبيعة الخلاف والتعبير الحر عن رأيها ، نتيجة الرغبة في عزلها عن كل " تأثير سلبي " ، وسماع وجهات نظر قد تربك التنظيم وتجعله ينحرف عن خطه العقدي والحركي).(5)
... إذاً: انتهت هذه الأزمة التي عصفت بجماعة الإخوان المسلمين في تونس إلى تمرد البعض عليها وانفصالهم ( أو فصلهم !) عنها ، مكونين ما أطلقوا عليه (الإسلاميين التقدميين) – كما سبق –.
... وفي ظني أن جماعة الإخوان المسلمين في تونس قد أحسنت صنعاً بإقصائها لهذه الفئة التقدمية التي أرادت أن تجر الجماعة بأكملها إلى التخلي عن ثوابت الإسلام في قضايا كثيرة ، وتقودها إلى انحرافات (بل كفريات) أملتها عليهم الأهواء ، تباعد بينها وبين دعوة الكتاب والسنة.
...(17/11)
فإنه بالرغم من الملاحظات غير القليلة على جماعة الإخوان المسلمين ، إلا أننا لا نرضى لهم أن يتعاظم انحرافهم ، وتزداد الفجوة بينهم وبين الحق ، لذا فقد كان من مصلحتهم وأد ذاك التمرد في مهده قبل أن يستطير شره ، ويعظم خطره ، ولو ألجأهم ذلك إلى آخر العلاج وهو الكي ، أو الإقصاء.
... هذا ما حدث لجماعة ( الإسلاميين التقدميين ) الذين انفصلوا عن جماعتهم الأم ، جماعة الإخوان المسلمين ، وأمرهم لا يهمنا كثيراً لعدة أمور:
1- أن هذا البحث غير مخصص لهم.
2- أنهم مجرد أفراد لا يتجاوزون العشرات.
3- توقف حركتهم وسكونها.
... وإنما عرضت لهم لكي يَّطلع القارئ على شيء من الأحداث التي رافقت نشوء جماعة الإخوان المسلمين في تونس ، وأثرها على تطور فكر الغنوشي. - كما سيأتي –
(1) انظر مقالات راشد الغنُّوشي في جريدة الصباح بعد عودته مباشرة بين عام 1969و1970 من دمشق وباريس
(2) الإسلاميون التقدميون (ص 26 – 29).
(3) المصدر السابق (ص 29 – 30).
(4) الإسلاميون التقدميون (ص 46).
(5) الإسلاميون التقدميون (ص 67).(17/12)
لماذا تغير الغنّوشي ؟!
بعد انفصال ( الإسلاميين التقدميين ) عن جماعة الإخوان ، استمرت الجماعة في خط سيرها دون أن تتأثر تنظيمياً بذلك الانفصال ، وقام أميرها (الشيخ راشد الغنُّوشي ) بقيادتها إلى بر الأمان – كما يقال - إلا أن ذلكم الانفصال لم يمر دون أن يحدث هزة فكرية في بعض رموز حركة الاتجاه الإسلامي ، وعلى رأسهم الغنُّوشي. ...
وفي هذا يقول الدكتور صلاح:
... (كانت قيادة " الجماعة الإسلامية " تخشى أن يؤدي انسحاب التيار النقدي من صفوفها في أواخر السبعينات ، إلى تصدع التنظيم برمته ، وأن يتمكن المفارقون لخط " الجماعة " من التأثير على عدد كبير من الأعضاء. ولكنها عندما تأكدت من أن عدد المنسحبين لم يتجاوز العشرات أغلبيتهم من أبناء العاصمة، اطمأنت قليلاً ، واكتفت في البداية باتخاذ سلسلة من الإجراءات التنظيمية الاحتياطية حتى تحول دون تسرب الأفكار التمردية داخل بقية الجسم . لكن رغم أن عملية الانشقاق حسم أمرها دون أن تحدث ارتباكاً يذكر على المستوى التنظيمي إلا أن آثارها بقيت محل سجال ومناقشة. وبرغم الجهود التي بذلت يومها للتقليل من أهمية مجموعة " الإسلاميين التقدميين " وإحاطة أفكارهم وتوجهاتهم بالكثير من الغموض والشكوك والطعون في الأشخاص والمفاهيم إلا أن عملية الانشقاق المبكر مثلت استفزازاً هائلاً للصف الداخلي ولمستنداته الفكرية والأيديولوجية.
...(18/1)
منذ اللحظة ولد إحساس داخل " حركة الاتجاه الإسلامي " بأن أشياء كثيرة في حاجة إلى المراجعة ، وأن الجسم لم يعد طيعاً كما كان الشأن من قبل ، مما مهد السبيل لتكرر محاولات الإصلاح من الداخل ، ومعظمها خلف وراءه ضحايا وتوترات. إذ لم تمض سوى فترة وجيزة عن تنصيب قيادة جديدة في العاصمة حتى حصل تململ جديد انتهى إلى خلافات شديدة حول أسلوب العمل مع القيادة المركزية ، إذ حاول الفريق الذي عين بطريقة تعسفية وانقلابية لإدارة النشاط كبديل عن الهيئة القيادية التي تم عزلها أن يعمل بنوع من الحرية في إعادة تشكيل النشاط ، فإذا به يواجه بنوع من الوصاية البيروقراطية حالت دون إحداث تطور فعلي في العقلية التنظيمية ، مما جعل المسئول الجديد يعلن استقالته ويدرك بعض الأسباب الحقيقية للخلافات السابقة.
... بعد ذلك تولت مجموعات طلابية ممارسة الضغط في مناسبتين على الأقل، الأولى كانت في عام 1981م والثانية عام 1983م. ورغم النتائج المحدودة التي حققتها المحاولتان ، إلا أن ذلك ساهم في تعميق الحيرة الفكرية والسياسية البناءة داخل الجسم العام ، وأدى إلى توسع ظاهرة ما يسمى يومها بـ " الإسلاميين المستقلين " الذين انسحبوا بشكل فردي وحافظوا على بقائهم خارج التنظيمات.
...(18/2)
أمام هذا الغليان الفكري والروح النقدية المتحررة اللذين أخذا يتسعان ويخترقان جسم الحركة الإسلامية بمختلف مستوياتها ، وجدت قيادة "حركة الاتجاه الإسلامي" نفسها مدعوة للتفاعل مع هذه الحالة الفكرية الجديدة ، وذلك بانتهاج سياستين متعاكستين. من جهة التخلي التدريجي عن جزء هام من المنظومة الفكرية لحركة الإخوان المسلمين . تم ذلك بنقد اطروحات سيد قطب ، أو تبني شعارات المرحلة خاصة على المستوى السياسي مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومشاركة المرأة في العمل السياسي ونبذ العنف كوسيلة للتغيير والانفتاح على بقية الأحزاب السياسية بما في ذلك الحزب الشيوعي. لذلك وقعت المطالبة بأن" تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيداً عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية وذلك بإقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية " كما اعتبر رئيس الحركة أن الاستبداد لم يأت عن طريق العملاء الغربيين ، إنه عميق في تاريخنا وتفكيرنا وثقافتنا ... إن المسلم كان منسحقاً سياسياً أمام السلطات ، وعقائدنا أمام الجبر ، وإرادياً أمام رجال الصوفية، وفكرياً أمام رجال المذاهب .. وما زال الاستبداد مكرساً في الحركة الإسلامية .. إننا ثمرة مجتمع متخلف ورغم عهر الغربي إلا أنه يعيش تجربة حضارية متقدمة علينا.
...(18/3)
ومن جهة أخرى حاولت قيادة حركة الاتجاه الإسلامي التصدي لهذا الكم من الأسئلة والمراجعات التي لم تعد تقتصر على تيار الإسلاميين التقدميين ، بل تعدته إلى الحصون الداخلية للحركة. يضاف إلى ذلك صعود " حزب التحرير الإسلامي " (فرع تونس) الذي بدأ يتغلغل ويستقطب عناصره من داخل الحزام التنظيمي لحركة الاتجاه مستغلاً تذبذبها الفكري ووجود قيادتها داخل السجن. هذا الوضع الصعب والمحفوف بالمخاطر دفع رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنُّوشي إلى أن يصدر من داخل السجن في صيف 1983م رسالة تحت عنوان "حق الاختلاف وواجب وحدة الصف " بهدف مواجهة الوضع الداخلي بكثير من الحزم والحكمة. ثم حتى لا تنال المحاولات التي يقوم بها خصوم ومنافسون إسلاميون وغيرهم في الداخل والخارج بغية استقطاب بعض النجاح في إحداث الخلل والتمزق).(1)
... إذاً: لقد أحدث انفصال ( الإسلاميين التقدميين ) عن حركة الاتجاه الإسلامي رجّة فكرية دعت الغنُّوشي إلى مراجعة اطروحاته السابقة وإعادة النظر فيها ، ومن ثم تبني اطروحات جديدة تقتبس كماً لا يستهان به مما كان يطرحه التقدميون ، وإن لم يُشر إلى ذلك ، فكان هذا السبب الأول في ظهور الوجه الجديد للغنُّوشي وانجرافه خلف التيار ( العقلاني ) ( المستنير )! وترديده لأفكارهم وآرائهم في كتبه وأحاديثه.
يقول الدكتور صلاح مؤكداً هذا:
... (في هذا السياق يمكن فهم ما يصدر من حين لآخر من كتابات ونصوص عن وجوه بارزة في هذه الحركة خاصة السيد راشد الغنُّوشي ، مثل كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية " ... لا شك في أن هذه التحول يشكل تطوراً في الخطاب وفي زوايا النظر للقضايا ، لكن ما كان لهذا التطور أن يتم لو لا وجود صراع على الساحة).(2)
...(18/4)
ويقول – أيضاً – مدللاً على أن أدبيات جماعة الإخوان المسلمين لا "تناسب البلاد التونسية وطبيعة أهلها المنفتحة"!: (عندما نشأت الحركة الإسلامية في أوائل السبعينات كانت غريبة عن تونس في جل اهتماماتها وأهدافها، لكن ذلك لم يصمد أمام الخصوصيات التونسية المطالبة بجعل الفكر الإسلامي أكثر معاصرة وتفاعلاً مع الحداثة ، وهو ما سيقع ملامسته بوضوح في التطورات الفكرية التي تمت داخل خطاب حركة الاتجاه الإسلامي ، خاصة لدى رمزها الأول: راشد الغنُّوشي).(3)
... ويقول: (يصعب الادعاء بأن الإسلاميين التقدميين هم وحدهم الذين أجبروا الحركة التونسية على تجذير نفسها في واقعها الوطني ، والتخلص من قمقم الإخوان المسلمين ، واكتساب الخصوصية التي يشير إليها أكثر الذين درسوا الحركة ، وتعرفوا على قياداتها ، لكن لا نجافي الحقيقة عندما نؤكد بأن مجموعة الإسلاميين التقدميين كانت بمثابة حركة الوعي الأولى داخل الجسم الحركي المغترب ، وأسهمت مع عوامل أخرى في ممارسة الضغط والاستفزاز لحركة الاتجاه الإسلامي ، مما اضطرها إلى تغيير خطابها وتعديل رؤيتها).(4)
السبب الآخر لتغير الغنُّوشي:
... إذا كان ظهور فئة من المثقفين تدعو إلى ما يسمى ( الإسلام التقدمي ) له دور كبير في ما طرأ على الشيخ من تغيرات أصابت فكره وآراءه ، فإن هناك سبباً آخر يفوق - في ظني – هذا السبب تأثيراً على الغنُّوشي ، ألا وهو تأثره بحسن الترابي الذي كان إخوانياً صرفاً في بداية أمره ، ثم انشق عن جماعته مكوناً خطاً آخر في بلاده أكثر جرأة على اقتحام المحرمات ، وتجاوز المقدسات ، تحت دعاوى التجديد والتقدم وتوسيع قاعدة (التجميع) لتستوعب جماعات وفئات قد لا تمت إلى الإسلام بصلة ! لهدف الوصول إلى الحكم ، وقد تحقق له شيء من ذلك في ظل التنازلات والتحالفات المشبوهة.
...(18/5)
كل هذا من الترابي صادف له قبولاً ومحلاً حسناً في عقل الغنُّوشي الذي أراد أن يكرر تجربة صاحبه في تونس ! بعد موافقته على كثير من أطروحات الترابي التي لا زال يستنكرها أفراد جماعة الإخوان المسلمين ، فضلاً عن غيرهم من المسلمين.
... فاجتمع على الغنُّوشي أمران قاداه إلى تغيير كثير من أطروحاته ، هما: تأثره بحركة ( الإسلاميين التقدميين ) في تونس ، إضافة إلى إعجابه بالترابي وأنموذجه ، مما دعاه إلى مقابلته والاستفادة منه ومن توجيهاته!.
... يقول الدكتور صلاح: (تعمقت المعرفة بين حسن الترابي عند أول زيارة أقوم بها إلى السودان في أواخر السبعينات مع المرحوم الشيخ محمد صالح النيفر والأستاذ راشد الغنُّوشي ، وهي الزيارة التي كان لها تأثير كبير على التطور الفكري والسياسي والحركي للغنُّوشي).(5)
... قلت: فأصبح الغنُّوشي بعدها يردد ما يردده أستاذه الترابي من أفكار ، مع شيء من التقديم والتأخير – كما سيأتي -.
... ولهذا السبب نفهم إلحاح كثير من السلف على تكرار النهي عن مخالطة أهل البدع ومجالستهم ، نظراً لأنهم – مهما حاول المرء – يقرون بدعتهم في عقله، ويزينونها له بأطايب الكلام ، وتكرار الشبهات ، حتى تؤثر في المرء المسلم ويتابعهم عليها ويكون داعية لها مثلهم إن لم يفقهم في ذلك . والأمثلة من تاريخ المسلمين وواقعهم كثيرة فيمن كان من طلبة العلم وأهله في أول أمره حتى إذا خالط المبتدعة – لأسباب عديدة – وسمع كلامهم وزخارفهم أُعجب بها وتغيرت نظرته الأولى ، لا سيما إذا كانت قاعدته غير صلبة ، وتكوينه العقدي والعلمي هش البناء ، يشتكي من شروخ قديمة جاء المبتدعة فاستغلوها وزادوا منها . كما هو حال الغنُّوشي مع الترابي (المبتدع)(6).
(1) الإسلاميون التقدميون (ص 128 – 130).
(2) الإسلاميون التقدميون (ص 139).
(3) المصدر السابق ( ص 140 – 141)
(4) الإسلاميون التقدميون (ص 144).
(5) الإسلاميون التقدميون (ص 69)(18/6)
(6) انظر نماذج لتحذير السلف من الجلوس مع المبتدعة في رسالة " موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع " للدكتور إبراهيم الرحيلي.(18/7)
تعليق للغنُّوشي على أحوال تونس الإسلامية
... في تعليقه على بحث ( الإسلام الاجتماعي في تونس ) للدكتور محمد الهرماسي(1) بين الغنُّوشي بأن (الظاهرة) الإسلامية في تونس يتنازعها ثلاثة تيارات ، هي بحسب تعبيره(2):
1- (التدين التقليدي التونسي: ويتكون من عناصر ثلاثة متآلفة: التقليد المذهبي المالكي ، والعقائد الأشعرية ، والتربية الصوفية).
2- (التدين السلفي الإخواني ، الوارد من المشرق(3) ، وهو بدوره تآلف بين العناصر التالية:
أ- المنهجية السلفية التي تقوم على رفض التقليد المذهبي الفقهي والعقائدي ، والعودة في كل ذلك إلى الأصل: الكتاب والسنة وتجربة الخلفاء والأصحاب والتابعين ، ومحاربة الوسائط بين الخالق والمخلوق بتقديس الأضرحة والتقرب إليهم ومحاربة الطرقية والبدع في الدين ، وتقويم هذه المنهجية أساساً على أولوية النص المطلقة على العقل.
ب- الفكر السياسي والاجتماعي الإخواني القائم على تأكيد شمولية الإسلام ، ومبدأ حاكمية الله سبحانه ، وتكفير الأنظمة القائمة والعمل على إزالتها.
ج- منهج تربوي يركّز على التقوى والتوكل والذكر والجهاد والجماعية والاستعلاء الإيماني والأخوة ، والتقلل من الدنيا وتحري السنة ، حتى في الجزئيات.
د- منهج فكري يضخم الجانب العقائدي الأخلاقي على حساب الجوانب السياسية والاجتماعية ، ويقيس الأوضاع والجماعات بمقياس عقيدي ، مما ينتهي معه الأمر إلى تقسيم الناس إلى أخوة وأعداء ، ويغلب جانب الرفض في تعامله مع الواقع والثقافات الأخرى ، وحتى مع المدارس الإسلامية الأخرى. فهو أحادي النظر ، ويكاد يشكل منظومة مغلقة).(19/1)
3- (التدين العقلاني: وهذا العنصر ، وإن لم يعبر عن نفسه في شيء من الوضوح ، إلا في مرحلة متأخرة نسبياً في النصف الثاني من السبعينات ، إلا أنه كان موجوداً منذ وقت مبكر من دون وعي كاف بنفسه ، وقد جرفته في النصف الأول من السبعينات موجة التدين الإخواني السلفي العاتية ، فسار في طريقها فترة ، ولكن لم يلبث أن توقف متحيراً متسائلاً ، باحثاً عن نفسه حتى اكتشفها على مراحل اكتملت مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات . ويتألف التدين العقلاني من الأجزاء التالية:
أ- التراث العقلاني الإسلامي الذي عمل أيضاً أنصار هذا التيار بعد الوعي بأنفسهم ، على إحيائه والدفاع عنه ، بإعادة الاعتبار إلى المنهج الاعتزالي في التعامل مع الإسلام ، حسب فهمهم لهذا المنهج ، وبالقدر المحقق لمطالبهم في التحرر من ظواهر النصوص ، وفق منظومة فكرية محددة ، كالتوحيد والعدل والإنسانية ، وكذلك إعادة الاعتبار للمعارضة السياسية في التاريخ الإسلامي ، كالخوارج والشيعة والزنج وللتيارات المناوئة للسلفية وأهل السنة عموماً.
ب- النقد الجذري الصارم للإخوان ، ومن هم على شاكلتهم ، في فهم الإسلام باعتبارهم ممثلين للسلفية في هذا العصر ، نقدا لا يرى في الإخوان غير كونهم أكبر عائق في طريق نهضة الإسلام.
ج- إعادة الاعتبار للمدرسة الإصلاحية التي اجتهد "الإخوان" أو أكثر كتابهم المقروء لهم ، في الحط من شأنها ، باعتبارها منهجاً حرّف الإسلام وأوله ، بما يناسب المدنية المعاصرة ، مثل عبده والكواكبي والأفغاني والطهطاوي وقاسم أمين.
د- اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي ، فالنصوص ينبغي أن تفهم وتؤوّل في ضوء المقاصد ( العدل ، التوحيد ، الحرية ، الإنسانية ..) ونصوص الحديث يحكم على صحتها أو ضعفها ، لا حسب منج المحدثين في تحقيق الروايات ، وإنما حسب موافقتها أو مخالفتها للمقاصد.(19/2)
هـ- إعادة الاعتبار للغرب وللتيار اليساري فيه بالذات ، فخلافاً للفكر السلفي الإخواني الذي لا يرى في الغرب إلا مدنية مادية منحلة متداعية إلى السقوط ، لا مجال للاستفادة منها إلا في جوانبها العلمية والتقنية البحتة ، نادى هذا التيار بضرورة الاستفادة من الغرب – أيضاً – في تنظيماته وثقافته وعلومه الإنسانية.
و- وفي مقابل اعتماد التدين الإخواني المقياس العقيدي في تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، اعتبر التدين العقلاني ذلك تهميشاً للصراع الحقيقي ، إذ التقسيم الحقيقي ينبغي أن يكون على أسس سياسية واجتماعية: وطني وخائن ، ثوري ورجعي ، فلاح وإقطاعي ، إذ يمكن أن يكون مسلماً عميلاً وماركسياً وطنياً.
ز- إعادة الاعتبار للمدرسة الإصلاحية في تونس ( خير الدين ، الحداد ) ولمنجزاتها في امتدادها الحديث ، من خلال ما أنجزته البورقيبية ، مثل تحرير المرأة والعقلانية في التعليم).
ثم ذكر الغنُّوشي بأن هذه التيارات الثلاثة كانت تتفاعل مع بعضها داخل الحركة الإسلامية بتونس ، مع تقديم كل منها للتنازلات الضرورية ليتم التعايش بينها بسلام !
ولكن فات الغنُّوشي في خاتمة تعليقه ( الوصفي ) لحال الحركة الإسلامية بتونس أن يفيد القارئ عن أي من تلكم التيارات ينبغي على المسلم السير معه ليقوده إلى الحق الواجب اتباعه ؟!
أم أن هذه التيارات سواء عند الغنُّوشي ؟! رغم تباينها الشديد ، ما بين سلفية ، إلى أشعرية ، إلى معتزلة !
الذي يظهر – والله أعلم – أن الغنُّوشي – هداه الله – حاله كحال غيره من الحركيين المعاصرين ، لا تهمهم هذه التصنيفات (العقدية) السابقة ، ما دام أصحابها يعملون لهدف واحد هو الإنتظام في الحركة الإسلامية وإعادة مجد الإسلام ، وما داموا - كما يزعم! - يلتقون على " الحد الأدنى من الإسلام "(4)
ولكن السؤال: ماذا سيكون حال الدولة الإسلامية ( المنشودة ) عند تحقيقها من قبل أفراد التيارات السابقة ؟(19/3)
أتراها تقوم على السلفية ؟ أم الأشعرية ؟ أم تحيي تراث المعتزلة ؟ أم ... ؟
كل هذا لا جواب عنه عند الغنُّوشي وغيره من الحركيين.
وهو – في ظني – حيدة عن أمر مهم واقع لا محالة ، وهو تصارع وتناحر التيارات حال وصولها إلى الهدف . فينقل الصراع من كونه بين إسلاميين ولا إسلاميين الآن ، إلى أن يصبح صراعاً عنيفاً بين الإسلاميين أنفسهم(5)، بسبب هذا الإرجاء في تنقية الساحة الإسلامية وتصفيتها من كل ما يخالف الكتاب والسنة، دون مجاملة أو مداراة لأحد ، ودون الاغترار بفكرة ( التجميع ) التي غرت الكثير من دعاة الإسلام ، فأصبحوا يحرصون عليها (بهدف التكاثر) أكثر من حرصهم على تراص وترابط والتقاء الصف المؤمن على مذهب السلف الذي يضمن لهم – بإذن الله – التآخي والمحبة والاجتماع ، كما قال تعالى { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } .
نسأل الله أن يعي الغنُّوشي وإخوانه من الدعاة هذا الأمر المهم الذي يقود التساهل فيه إلى التناحر والتفرق ولو بعد حين ، أما الاهتمام به الآن فإنه – وإن سبَّب تضايقاً من البعض – لا شك موصلنا إلى تحقيق الجسد المؤمن الواحد – بإذن الله.
فما مثل من يتساهل فيه إلا كمثل رجل مريض يُخشى عليه تزايد مرضه ، إلا أنه لم يصبر على ألم العلاج ، ورضي بأن يوهم نفسه بأنه في صحة وعافية ، إلى أن قضي عليه بعد فترة يسيرة.
وآخر رضي بألم العلاج المؤقت ، فعاش بقية عمره الطويل في عافية وخير. والله الهادي.
(1) المنشور ضمن كتاب ( الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي ) (ص 247 – 299) نشر: مركز دراسات الوحدة العربية ، ط 4 ، 1998م.
(2) المرجع السابق (ص 301 – 302).(19/4)
(3) الواقع أن ما ذكره الغنوشي تحت هذا العنصر لم يلتزم به فقهاء ومفكرو الإخوان المسلمين ، لمن تأمل كتاباتهم ومواقفهم. وليتهم التزموا به إذاّ لسلموا من شرور كثيرة.
(4) كما في مقابلته مع مجلة قراءات سياسية (ص 10) . وهذا ظن من الغنوشي ، ,وإلا فكثير منهم – لا سيما التيار العقلاني – قد ارتكب البلايا – بل الكفريات ! – والعياذ بالله – وليس هذا موضع تفصيلها ، فكيف يحل للمسلم أن يلتقي معهم ؟!!
(5) ويذكرني هذا بما حدث في أفغانستان ، حيث كان الناصحون أيام الجهاد مع الروس يطالبون القادة بتصفية خلافاتهم والتقائهم على عقيدة السلف الصالح ، ونبذ البدع والخرافات والتعصبات المذهبية قبل النصر على الأعداء ، خشية أن ينشب الصراع بينهم إذا ما تساهلوا في ذلك ، ولكن البعض لم يعجبه هذا المسلك ، ورأى أن من المناسب إرجاء الخلافات إلى ما بعد النصر على العدو ! بل شنعوا على المصلحين أنهم أهل فتنة ! فلما تم النصر – ولله الحمد – ماذا كان الحال ؟! الجواب يعرفه كل متابع.(19/5)
انحرافات الغنّوشي
وقد قسمتها على خمسة مواضيع (كبرى)
أولاً: موقفه ( العقدي).
ثانياً: موقفه من الكفار.
ثالثاً: موقفه من الرافضة.
رابعاً: موقفه من المرأة.
خامساً: موقفه السياسي.
أولاً: موقف الغنوشي من العقيدة:
... لم يتبين لي حال عقيدة الرجل! أهو يدين الله باتباع عقيدة السلف ، كشأن بعض أفراد ( جماعة الإخوان ) ، أم أنه يتبع عقيدة الأشاعرة ! كشأن أهل بلده ؟! والسبب أنه ليس للغنُّوشي كتاب واحد في مسائل العقيدة ليتبين لنا رأيه فيها ، فهو كشأن الحركيين لا يوليها اهتمامه: إلا أن له فلتات وعبارات هنا وهناك تجعل القارئ يتحير في مذهب الرجل.
فمرة تقول: هو سلفي العقيدة.
وأخرى تقول بل خلفي!
فمما يشهد للأولى:
قوله عن مقومات الحركة الإسلامية بأن من أهم العناصر التي تشكل ماهيتها: "السلفية"(1) ويعني بها: " استمداد الإسلام من أصوله دون تعصب لما وجد في تاريخ الإسلام من نظريات واجتهادات ، فالأصل ما ورد في الكتاب والسنة وعصر الخلفاء"(2)
اعتقاده بتوحيد الألوهية ، كما في كتابه ( حقوق المواطنة )(3)
إهداؤه كتاب ( الحريات العامة في الدولة الإسلامية ) إلى " داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب"(4)
أما ما يشهد للأخرى فهي:
أنه عندما يخوض – أحياناً ! – في بعض القضايا العقدية لا يعرف مذهب السلف ! ولا يذكره ! فمن ذلك أنه عندما خاض في مسألة ( الحسن والقبح في الأفعال) ذكر رأي المعتزلة والأشاعرة دون مذهب السلف(5).(20/1)
قوله منتصراً لمذهب الخلوف !!: " إن الاختلاف بمعنى الثراء والتنوع في الاجتهاد في الأمة قديم ، أباحه الإسلام إن لم يكن قد شجع عليه من خلال تأكيده على نسبية المعرفة البشرية ، ومسؤولية الإنسان على نفسه ومصيره وحقه في الاجتهاد ، وقابليته للخطأ والتوبة ، ومن خلال ورود نصوص الدين في معظمها على صياغات كلية عامة وقدر كبير من التشابه { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } . فانقسم الناس تجاهها { فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } (6). ثم انقسم المؤمنون في منهاجهم المعرفي إلى صنفين عظيمين لا زالا يتصارعان حتى يوم الناس هذا ، وذلك حسب نوع تقطيعهم لهذا الشطر من الآية ، فمن أوقف تلاوته عند { إلا الله } أمكن إدراجه ضمن مدرسة الجمهور من علماء وفقهاء الأمة ، ومعظم الأمة لهم تبع ، وذؤابة هذه المدرسة أهل الحديث وكبار الفقهاء.
أما الصنف الآخر منهم ، أولئك الذين واصلوا التلاوة دون توقف { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } فكانوا أهل التأويل والنظر والرأي و" الحكمة " والعرفان (7).
...(20/2)
وكما غالى قوم من أهل المدرسة الأولى فكانوا مجسمة وظاهرية حرفيين ، نصوصيين(8)، فقد تطرف قوم من أهل المدرسة الثانية حتى ضحوا بالنصوص جملة مكتفين بما استنبطوه منها من مقاصد فكان منهم فئة الفلاسفة العقلانيين وكان منهم أهل الذوق والعرفان أقطاب الصوفية. وراوح جمهور الأمة بين هؤلاء وأولئك مع ترجيح كفة التأويل العقلانية وتغليب جانب المقاصد في عصور النهضة ، والميلان المجحف في عهود الانحطاط والانكماش والتخلف إلى الوقوف الجامد عند ظواهر النصوص بل عند ظواهر تأويلاتها في العصور السالفة)(9) قلت: فتأمل – يرعاك الله – كيف مزج الغنُّوشي أهل السنة بأهل البدعة ! معتبراً أن الفئتين يلتقيان حول الكتاب والسنة ! وإنما الخلاف هو في الفهم فقط. فليست القسمة عنده هي: أهل سنة يتبعون الكتاب والسنة ، وأهل بدعة وتأويل يحكمون أهواءهم وعقولهم في النصوص ، كما هو تقسيم أهل العلم(10)، إنما القسمة عنده هي بين فهمين ومدرستين إسلاميتين ، لا حرج على المسلم في اتباع أيٍ منهما !! ثم تأمل – وفقك الله – إلى جنوح الغنُّوشي إلى ترجيح كفة الخلوف أهل البدعة الذين سماهم " أهل الحكمة والعرفان " !! وأنهم الأنسب " لعصر النهضة " ! بخلاف أتباع الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، الذين سماهم " الجامدين أهل النصوص " ! الذين لا يظهرون ويعلون إلا في " عهود الإنحطاط والإنكماش والتخلف " !!
... نعوذ بالله من مشايعة الضالين.(20/3)
ومما يشهد لهذا – أيضاً – أنه عند ذكره السابق لمقومات الحركة الإسلامية وأن منها " السلفية " تخبط في مفهوم هذه السلفية ! فبعد أن بين بأنها " استمداد الإسلام من أصوله دون تعصب لما وجد في تاريخ الإسلام من نظريات واجتهادات ... . الخ "(11). استشهد بكلام للخميني !!! يقول فيه هذا الطاغوت الهالك عندما سئل عن نظام الحكم الذي يسعى له: هل هو سني أم شيعي ؟ قال الهالك: " إننا نريد أن نحكم بالإسلام كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا فرق بين السنة والشيعة ، لأن المذاهب لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(12)!! قلت استطاع هذا الرافضي الهالك أن يخدع الغنوشي بتقيته المعروفة ! وتصديق ما قاله يكون بالنظر في أحوال أهل السنة في إيران بعد قيام ثورته الرافضية!!
ثم قال الغنُّوشي: " ولا تعني السلفية هنا كما هي عند البعض حرباً على المذاهب الفقهية أو العقدية. كلا ، فهذا تمزيق لكيان الأمة "(13) فهو يقول: كن سلفياً، ولكن لا تُحذر من أهل البدع أو تنابذهم أو تهجرهم أو ترد عليهم ! فكل هذا مما يُمزق الأمة – عند الغنُّوشي -! فهي دعوة إلى " التمايع " و " الاختلاط " بأهل البدع والأهواء على حساب مذهب القرون المفضلة.
ألم أقل– سابقا – بأن الغنوشي – هداه الله – يسير في ركاب جماعة الإخوان " التجميعية " ويحقق لهم بهذا الكلام أهدافهم؟
ثم قال الغنُّوشي: " ويلحق بالمعنى السلفي تجميع المسلمين حول ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، إبعاداً للخلاف وتوحيداً للصفوف حسب القاعدة: نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"(14)(20/4)
والسؤال يا غنُّوشي: ما هو المعلوم من الدين بالضرورة الذي تريدنا أن نجتمع عليه ؟! لأن كل أهل بدعة سيعتقدون أن بدعتهم هي من المعلوم بالدين بالضرورة ، وسيلزمون البقية بوجوب اتباعها ! وحينها يحدث الاختلاف الذي تفر منه وجماعتك! الذي قال الله عنه { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } (15)
فهلاَّ لزمت مذهب السلف والتزمت به ما دام الخلاف حاصلاً لا محالة ؟!
أم أنك لا زلت تحلم بهذه التجمع (الطوباوي) الموهوم ؟!
ثانياً: موقف الغنُّوشي من الكفار:-
... موقفه هنا – أيضاً – كموقف أشياخه المستنيرين ؟ من أمثال الغزالي والقرضاوي ، حيث التمايع ، وتحريف الأحكام الإسلامية لتوافق أهواء الكفرة.
... ويعد كتابه (حقوق المواطنة ) مثالاً جامعاً لكل ألوان التمايع معهم(16).
فمن ذلك:
1- أنه لا مانع عنده من إلغاء وصف (أهل الذمة) الثابت في النصوص الشرعية إرضاءً لعُبَّاد الصليب !، كما في كتابه ( حقوق المواطنة ) (ص 50 ، 56 ، 57).
2- ادعاؤه أن للكفار ما للمسلمين وعليهم ما عليهم(17)! كما في كتابه السابق (ص 66) (ص 83) ، ولهذا فهم مساوون لنا ! (ص 66 ، 72).
3- لا مانع لديه بأن يدعوا هؤلاء الكفار المسلمين إلى دينهم داخل الدولة الإسلامية!! (ص 68 ، 72) ( الحريات العامة: ص 293).
4- لا مانع عنده – أيضاً – أن ينشئ هؤلاء الكفرة معابدهم داخل البلاد الإسلامية!! (ص 68) بكل هذا ( الإطلاق غير المقيَّد)!.
5- يدعو إلى إعطائهم من الزكاة المفروضة !! (ص 91).
6- يدعو إلى إسقاط الجزية عنهم !! (ص 102 ، 136).
7- يدعو إلى أن يُقتل المسلم بالكافر ! (ص 108).
8- لا مانع عنده من توليهم الوظائف العليا في الدولة الإسلامية ( كوزارة التنفيذ!) (ص 79).
9- لا مانع عنده من إنشائهم للأحزاب داخل الدولة الإسلامية !! ولا يستثني من ذلك حتى الوثنيين !! ( الحريات العامة ، ص 293 –294 ).
... فاللهم ثبت قلوبنا على دينك!(20/5)
ثالثاً: موقف الغنُّوشي من الرافضة:-
... موقفه هنا – أيضاً – كموقف شيوخ جماعته (الإخوان المسلمين) من الرافضة ، حيث التمايع والتقارب معهم ، ولو على حساب دين المرء.
... فهو يعد ثورتهم الرافضية في إيران ثورة إسلامية ، ويدخلها ضمن الحركات الإسلامية المعاصرة ! بل يُبالغ في مدحها ومدح القائمين عليها من أعداء الصحابة.
فيقول في كتابه ( الحركة الإسلامية والتحديث ):(18) (ليس أمام الحركة الإسلامية إلا الثورة الشعبية التي تنتهي بتكتيل الشعب صفاً واحداً في وجه السلطة الجائرة ، كما حدث في إيران ... )
ويقول في كتابه السابق متحدثاً عن التيار الإسلامي في المجتمعات الإسلامية بأنه (قد عبر عن نفسه على لسان عدد من المفكرين والعلماء المجددين ، كالأفغاني وإقبال ومصطفى صبري والسوسي وابن باديس ، وتبلور وأخذ شكلاً واضحاً على يد الإمام البنا والمودودي وقطب والخميني ممثلي أهم الاتجاهات الإسلامية في الحركة الإسلامية المعاصرة )(19).
ويقول: ( واليوم يبدأ الإسلام مع نجاح الثورة في إيران وباكستان دورة حضارية جديدة )(20).
ونجده يهدي كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)(21) إلى (قائد الثورة الإسلامية المعاصرة الإمام الخميني ، والشهيد ! العلامة الصدر ، والشهيد علي شريعتي ..) !!. والثلاثة كلهم من غلاة الرافضة ! وإن ادعى بعضهم – كشريعتي – العصرنة ، لكنها عصرنة لا تخرج عن مذهبهم القبيح.
ونراه في كتابه السابق ينعي على أهل السنة الذين كشفوا مكايد وخبائث الرافضة ، ويدعوهم إلى ( الاعتدال والوحدة والتعاون)(22)!!
فأي تعاون مع أعدا الصحابة – أخزاهم الله – وهم يبيتون لك العداء صباح مساء تحت ستار من التقية الماكرة ؟! لقد حاول ذلك من قبل رجالٌ كانوا أعلم منك وأحرص على وحدة الأمة ، ولكنهم عادوا بالخسران المبين من جراء هذه الصفقة الخاسرة مع أشباه اليهود(23) ، والسعيد من وُعظ بغيره.(20/6)
يقول في كتابه السابق: (وفي لبنان حصد التيار الإسلامي ثمار صموده وجهاده في طرد الأساطيل الأجنبية ومنازلته البطولية للاحتلال الصهيوني ، فعمل بتوفيق ويسر كبيرين على جبهتي الجهاد القتالي ، والجهاد السياسي في منابر البرلمان بعد أن حققت فصائله الشيعية والسنية انتصارات صارخة ضد البنية العشائرية والطائفية التقليدية ، مما له دلالة واضحة – كما صرح الشيخ السيد حسين فضل الله أحد أبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر - على تجذّر الوعي الإسلامي في الواقع)(24)
ومن ذلك قوله عن أحد علمائهم: (العلامة الشيعي ... )(25)!
رابعاً: موقف الغنُّوشي من المرأة وأحكامها:
... موقفه منها هو موقف أشياخه من المستنيرين ، من أمثال الغزالي والقرضاوي وغيرهم ، ممن يٌقدم التنازلات في هذه القضية – كحالهم في غيرها – لعل الغرب يرضى عنهم ، أو ينظر نظرة إنصاف إلى الإسلام !! – زعموا -.
... وما دروا أن الغرب يضحك عليهم بملء فيه لأجل هذه التنازلات ، وينظر إليهم نظرة ازدراء لهوان دينهم وأحكامه عليهم ، ولو أن أهل العلم صانوه صانهم! فمن تلكم التنازلات التي قدمها الغنوشي في قضية المرأة:
1- ادعاؤه – تبعاً للمدرسة العقلانية – أن حواء لم تُخلق من ضلع آدم عليه السلام !! وإنما خلقت من نفس مادته بشراً سوياً(26)!! مخالفاً بذلك قوله تعالى { وخلق منها زوجها } وما جاء من أحاديث كثيرة وصحيحة في تفسيرها ، من أن حواء مخلوقة من ضلع آدم عليه السلام . وهو الذي عليه مفسرو السلف.
... والأعجب في هذا ، أن الغنُّوشي – هداه الله – راح يؤيد ما اختاره بأقوال شيخ العقلانيين محمد عبده ، وشيخ الروافض في عصره ! (العلامة الشيعي محمد حسين الطباطابائي)(27) !! كما يقول.
...(20/7)
وسبب هذا الاختيار العجيب من الغنُّوشي هو أن الرأي الأول الذي عليه مفسرو السلف ، وجاءت به الأحاديث الصحيحة ، هو – عند الغنُّوشي -: (تكريس تبعية المرأة للرجل على الصعيد الاجتماعي ، وانمحاء شخصيتها وذوبانها في شخصيته ، وتكريس التمييز والأفضلية على أساس الجنس ، مما يتنافى مع مقاصد الشريعة )(28) !!
... أما الرأي الثاني الذي اختاره فهو: (تحقيق استقلال شخصية المرأة ، وتحملها مسؤولية وجودها ومصيرها كاملاً ، والقضاء على أول وأقدم اضطهاد للإنسان لأخيه الإنسان على أساس الفوارق الجسمية ... )(29) !!!
... فالرجل يعتقد ثم يبدأ في التقاط ما يشهد لانحرافاته من أقوال شاذة ، أو تأويلات سامجة.
... وفي كلامه الأخير انحراف كبير ! حيث نفى أفضلية جنس الرجال على جنس النساء ، مخالفاً بذلك قول الله تعالى { وللرجال عليهن درجة } وقوله { وليس الذكر كالأنثى } وقوله { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسالوا الله من فضله } .
... كل هذا تكريماً لسواد عيون الغربيين أن يرضوا عن ديننا وأحكامه التي مسخها الغنُّوشي وأضاع معالمها الحقيقية لعلها تحوز على ذلك الرضى ! إذا صح منك الود فالكل هين !.
2- اختياره جواز أن تكون المرأة نبية(30) !!! ولا أدري ما سر بث هذا الرأي الشاذ والغريب والخيالي ؟! أم أنها من متطلبات الرضى السابق ؟!
... أما كونه خيالياً ؛ فلأن النبوة انقطعت بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا نتوقع أن تأتينا نبية في قادم الأيام ! وأما في الماضي فلم يعرف أن الله قد بعث نبيةً ! فأصبح هذا الرأي مجرد خيال وحلم زائف يدغدغ به الغنوشي عواطف الغرب ، وعواطف النساء !
دعوته إلى الإختلاط (في جو جاد بعيد عن الإثارة ، ومفعم بروح الفطرة العفوية)(31) !! وألحق – رعاك الله – هذا الرأي بذلك الرأي الخيالي السابق ! لأنه لا وجود له بهذه الشروط – على أرض الواقع !(20/8)
وليته اكتفى بهذا – هداه الله – بل راح في صفحات كثيرة (يُهيّج) المرأة المسلمة على نبذ ( القرار ) في البيت ، زاعماً أن ( ليس في الإسلام ما يوجب على المرأة القيام برعاية لبيت الزوجية والأطفال )(32) !! مدعياً أن تفسير قوله تعالى: { وقرن في بيوتكن } هو من الوقار(33) !! وهذا تلبيس متعمد من الغنُّوشي في تفسير الآية خالف به جمهور العلماء الذين قالوا بأن (قرن) من القرار لا من الوقار _وهو المعنى الشاذ الذي رجحه الغنوشي اتباعاً لهواه– بدليل ما بعدها ، وما كان موجهاً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فغيرهن أولى به – كما يبن ذلك العلماء – ما لم يكن هناك ما يدل على تخصيصه بهن ، ولا يوجد شيء من ذلك هنا(34).
- اختياره جواز تولي المرأة رئاسة الدولة الإسلامية ( الإمامة العظمى ) ! والولايات العامة(35) ! وهو مما أجمع علماء السنة على عدم جوازه.(36)
خامساً: موقفه السياسي:
... الغنُّوشي من أبرز دعاة ( الديمقراطية الغربية ) في هذا العصر ، وقد خصص جزء كبيراً من كتابه ( الحريات العامة ) لهذا الشأن.
... وهو كثيراً ما يردد – كغيره من الحركيين – بأن الديمقراطية – على ما فيها – هي خير من الديكتاتورية التي وقعت تحت حكمها كثير من بلاد المسلمين . ويرى أن من يرفض الديمقراطية من دعاة الإسلام سيكون خادماً للدكتاتورية ! (الحريات العامة ، ص 314). ويرى – كذلك – أننا لكي نصل إلى الدولة الإسلامية ( ويسميها دولة العدل) لا بد أن نمر بالديمقراطية ( ويسميها دول العقل!) ( مقابلته مع مجلة قراءات سياسية ، ص 17).
... ونحن نقول للغنُّوشي ما قاله الأول:
المستجير بعمرٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار!
...(20/9)
فأنت تزعم أنك ستفر من رمضاء الديكتاتورية ، ولكنك واقع لا محالة في نار الديمقراطية التي تستتر خلف ما ظاهره الرحمة ، وباطنه الكفر والعذاب . فهذه الديمقراطية المزعومة قد خبرناها في مواقع عديدة ، ولم نجدها إلا أشد ديكتاتورية على أهل الإسلام من غيرها ! وإن تظاهرت بخلاف ذلك في الظاهر ، ولكن عند وصول أهل الإسلام إلى السلطة سرعان ما تكشف عن وجهها القبيح ، ولا يخفى الأستاذ ما حصل للجزائر قريباً.
... والديمقراطية فكرة جاهلية كافرة قد وضح باطلها جمع من علماء ودعاة الإسلام في هذا الزمان(37) ، ولم يعد يخفى ما فيها من مفاسد على عاقل.
وفي ظني – أن الدكتاتورية في أحيان قد تكون خيراً للإسلام وأهله من الديمقراطية ! وأعني بأن تكون ديكتاتورية تراعي المعلوم بالضرورة من دين الإسلام ، ولا يزال فيها نوع حياء أو تمسح بالإسلام – ولو ظاهراً – لأنها في هذا الحال لن تسمح للكفر وأهله بالتبجح بإعلان كفرهم ، وإعلان أحزابهم ، بل ستحاربهم وتمنعهم من ذلك – كما هو حاصل في بعض البلاد ، بخلاف ما لو طبقت الديمقراطية المزعومة ، حيث سيجد الكفرة الزنادقة مرتعاً خصباً لنشر باطلهم (علناً).
قد تقول: ولكن الدكتاتورية ستتسلط على دعاة الإسلام وأهله؟! بخلاف الديمقراطية.
فأقول: لو سلك الدعاة – ومنهم الغنُّوشي - مسلك السلف في التعامل مع الحكام لما رأيت كثيراً من هذا التسلط ، لأن الحاكم لن يتسلط إلا على من ينازعه سلطانه ، ولو كان أقرب قريب ، وقديماً قالوا: " المُلك عقيم " فهو حتماً إذا علم أن دعاة الإسلام هدفهم الأول هو الوصول إلى السلطة وإزاحته من على كرسي الحكم، سينازعهم ويتسلط عليهم (دفاعاً) عن ما حصَّله . وسيعدهم أعداء له ولملكه.(20/10)
ولكن لو تعامل الدعاة معه بحكمة ، وأعانوه على أمور الخير ، وتجنبوا باطله ، وناصحوه برفق ، واستمروا في دعوتهم إلى تعبيد الناس لرب العالمين ، وتحقيقهم التوحيد ، لتم على أيدهم خيرٌ كثير ، وتدبر قول موسى - عليه السلام – لقومه لما شكوا له ما يلاقونه من (ديكتاتورية) الفراعنة ! { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } { قال موسى استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } .
وقبل هذا: الالتزام بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الآمرة بالصبر على جوّر الولاة وظلمهم ، والاستمرار في الدعوة ، لأن الله بيده الأمر كله ، وهو القادر على استبدال هؤلاء الطواغيت بغيرهم من الصالحين ، ولكننا قوم نستجعل و" ننازع الأمر أهله ".
إذاً: القسمة عند الغنُّوشي: إما ديكتاتورية جائرة ، أو ديمقراطية غربية ! لا ثالث لهما.
ولكنها عند متبعي الكتاب والسنة: إما حكم جائر (أو كافر) نتعامل معه وفق ما جاء في الأحاديث النبوية إلى أن يأذن الله بتغييره ، أو ديمقراطية كافرة مستقدمة من الغرب تزيد من انتشار الكفر والضلال في بلاد المسلمين ، ثم هي لا توصل – مهما حاولنا – إلى تحكيم شرع الله . فالأولى أولى بلا شك ، والله المستعان.
(1) الحركة الإسلامية والتحديث ( ص 21).
(2) المرجع السابق (ص 21).
(3) (ص 36).
(4) (ص 6).
(5) حقوق المواطنة (ص 44).
(6) سورة آل عمران ( الآية : 7 ) .
(7) تأمل !!
(8) هلاَّ وضحتهم لنا؟!
(9) مجلة قراءات سياسية (ص 33 – 34).
(10) انظر لبيان بطلان مذهب أهل التأويل: " الفتوى الحموية الكبرى " لشيخ الإسلام (ص 286 وما بعدها ) تحقيق الشيخ حمد التويجري.
(11) الحركة الإسلامية والتحديث ( ص 21).
(12) المرجع السابق ( 21 – 22 ).
(13) المرجع السابق (ص 22).
(14) المرجع السابق (ص 22).
(15) سورة هود (الآية: 119).(20/11)
(16) وهو يذكرني بكتاب ( مواطنون لا ذميون ) للمستنير الآخر: فهمي هويدي ، من حيث لي أعناق الأدلة ، وتتبع الشواذ والغرائب ، إرضاءً لعابدي الصليب.
(17) يستشهد المستنيرون – ومنهم الغنُّوشي كما في كتابه ( حقوق المواطنة ) (ص 83) و ( الحريات العامة ، ص 260 – 261) بحديث لا أصل له يقول عن الكفار: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا ". انظر لبيان بطلان هذا الحديث – سنداً ومتناً – " السلسلة الضعيفة " للشيخ الألباني – رحمه الله ( 1103 ).
(18) (ص 35).
(19) المرجع السابق (ص 16).
(20) المرجع السابق (ص 17).
(21) (ص 5).
(22) (ص 144).
(23) انظر تجاربهم الخاسرة في الرسالة القيمة للشيخ ناصر القفاري ( مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة).
(24) (ص 265).
(25) المرأة المسلمة في تونس (ص 12).
(26) المرأة المسلمة في تونس (ص 7 – 17) ، ويكفي للرد على هذا الرأي المتهافت حديث الشفاعة في الصحيحين الذي جاء فيه أن الناس عندما ذهبوا إلى آدم - عليه السلام - ليتشفع لهم إلى الله ذكروا من خصائصه " أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده " ولو كانت حواء مخلوقة مثله – بيد الله – من تراب ، لما كانت له ميزة على غيره في هذا ! فهل يعي الغنُّوشي تهافت هذا الرأي (العقلاني) الذي رجحه ؟! وليس المقام هنا مقام بسط في رد انحرافاته _ كما سبق _
(27) المرأة المسلمة في تونس (ص 12).
(28) المرجع السابق (ص 17).
(29) المرجع السابق (ص 17).
(30) المرجع السابق (ص 38 وما بعدها ).
(31) المرجع السابق (ص 99) ، (ص 106-111).
(32) المرجع السابق (ص 100).
(33) المرجع السابق (ص 109).(20/12)
(34) يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والإنكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة" (تفسير القرطبي 14/117) ، وانظر أيضاً: تفسير ابن كثير (3/464) ط دار الأندلس بحائل ، وتفسير السعدي (4/144) ط عالم الكتب.
(35) الحريات العامة في الدولة الإسلامية (ص 128 وما بعدها).
(36) انظر: "المرأة والحقوق السياسية في الإسلام" لمجيد أبو حجير.
(37) انظر: " الديمقراطية في الميزان " لسعيد عبد العظيم ، و " خمسون مفسدة جلية من مفاسد الديمقراطية " لعبد المجيد الريمي ، و "حقيقة الديمقراطية " لمحمد شاكر الشريف(20/13)
لماذا (تساهل) الغنُّوشي ؟
... قد يتساءل المسلم بعد أن يرى مدى تدرج الغنُّوشي – هداه الله – نحو الإنحراف ومخالفة شرع الله وأحكامه ، فيقول: لماذا كل هذا التمايع؟! ولأجل ماذا؟!
... الجواب: - والله أعلم – أن من غَلَّب جانب ( الحركة ) و( السياسة ) من دعاة الإسلام سوف ينجرف – بلا شك – نحو التساهل في دينه ، وتقديم التنازلات المتتالية التي يتطلبها الواقع المتحرك بما فيه من ضغوطات ، عرض المرء نفسه لها ، وهو في غنية عن ذلك كله.
... ويعود الأمر كله – في نظري – إلى محاولة هؤلاء الدعاة كسب ود الغرب، وأن يجدوا لديه شيئاً من الحظوة والرضا لعله يوصلهم إلى مقاعد الحكم بدلاً من الطواغيت ! أو يغض الطرف عنهم ويرضى عن نشاطاتهم !
... ولا تعجب من هذا ، فحال القوم يفيده ، وفلتات ألسنتهم بين الحين والآخر تشهد له.
... وحق هؤلاء الدعاة أن نذكرهم بقوله تعالى { فلا تخشوا الناس واخشوني } { أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } وقوله { ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد } .
ونحذرهم من عقوبة اتباع أهواء الكفرة الغربيين بترك شيء من أحكام الإسلام أو (تمييعه) أو ( التساهل فيه ). وندعوهم إلى تأمل هذه الآيات القرآنية وتفسيرها ، قال تعالى محذراً نبيه من ذلك { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين } . وقال سبحانه { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا } وقال { ودوا لو تدهن فيدهنون } وذكر تعالى أن { المنافقين } هم الذين طلبوا رضا الكفرة بالتخلي عن بعض أحكام دينهم بقوله عنهم { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم } ثم بين عقوبتهم { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } .
...(21/1)
فأنت يا داعية: عندما تتبع أهواء الكفرة فإنك تعرض نفسك لأمرين عظيمين:
1- عقوبة الله تعالى ، كما سبق.
2- توالي التساهل منك والتنصل رويداً رويداً من دين الله ، والعياذ بالله ! ، لأن الله يقول { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } ، فمهما قدمت من تنازلات فإنهم لن يرضوا منك إلا بالكفر ، أعاذنا الله وإياك منه.
فهلاَّ رفقت بنفسك وحفظت دينك ما دام رضاهم عسيراً ! والتزمت وعرضت أحكام دينك لهم كاملة دون مداهنة ، متبعاً قوله تعالى { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ؟ !
وصدق من قال فيمن يطلب رضا الغربيين:
والله لا يبُدي لك الغرب حُرمة ولو رحت في أذياله تتمسحُ
يقول لك الغرب المُدل بنابه وقد جئتَ تستجدي رضاه وتمدح
مكانك ياشرقي وأرجع بذلةٍ فمن ذا رأى الشرقيَّ للعز يَصلح
ومهما سما الشرقي فالشرق نعجة تسمن للغرب النهوم وتُذبح
فلا تلتمس عطفاً من الغرب صاغراً ذليلاً فما يحنو القوي ويسمح
ولا تعبد الغربي جهلاً فإنما ستكسب منه كل ذُل وتربح
ألست تراه رابضاً متربصاً يود لو أنّ الصيد يبدو ويُمنح؟
... أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام إلى اتباع (كامل) أحكامه ، وعدم الحياء من بعضها! وأن يعرضوه للناس كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يفرحوا بهذه النعمة ، لا أن يتواروا خجلاً منها ! فقد قال تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } .(21/2)
طه جابر العلواني يعترف !
... قلت لك سابقاً بأن أفراد التيار المستنير – ومنهم الغنُّوشي للأسف – يحاولون كسب ود الغرب وعملائه من العلمانيين وغيرهم ؛ لعلهم يرضوا عنهم ويمكنونهم من تولي الحكم أو المشاركة فيه ، وقد اعترف بهذا الأمر – ولعلها فلتة أو زفرة هموم !- رأس من رؤوس هذا التيار في عالمنا اليوم ، هو الدكتور طه جابر العلواني(1) رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي . وذلك في تقديمه لكتاب الغنُّوشي (حقوق المواطنة) ، حيث وضح أن تياره المستنير لا زال يقدم التنازلات تلو التنازلات عن دين الله ؛ لعل أذناب الغرب يرضون عنه ، ولكن دون فائدة ! فهو يتحسر لهذا.
فاسمع إليه ماذا يقول:
يقول العلواني:
(وهاهو الأخ الأستاذ راشد الغنُّوشي يعلن في كتابه هذا اتساع الإسلام لقبول مفهوم " المواطنة" كما هو في الوعي المعاصر ويدلل لهذا القبول ويعلل له ويؤصله ليكون اجتهاداً معتبراً شرعاً تستجيب له القلوب المسلمة وتقبله العقول . ومع ذلك فلا تزال العديد من الفصائل العلمانية الدنيوية على مواقفها من رفض المشروع السياسي الإسلامي وتخوفها منه ، وشكها في أصحابه . بل إن بعضهم يفضل العيش في ظل الاستبداد والدكتاتوريات السافرة والمقنعة على قبول أي مشروع سياسي إسلامي مهما أدخلت عليه من تعديلات )(2)(حقوق المواطنة ، ص11). ثم يبين أمراً مهماً وخطيراً ، وهو أن العلمانيين يعلمون أن الإسلام (الصحيح ) هو غير الذي يدعو إليه التيار المستنير !! فانظر كيف عرف الأعداء الحق – وإن لم يؤمنوا به – وكيف تنازل المستنيرون عنه!!
يقول العلواني:
(فمثلنا ومثل رفاقنا العلمانيين الدنيويين كمثل قول القائل:
بِكلِّ تَدَاوَيْنا فلم يَشْفِ ما بنا لأنَّ الذي نهواه ليس بذي وُدِّ
...(22/1)
فهؤلاء الدنيويُّون العلمانيُّون حين يأخذ الإسلاميون هذه المواقع الاجتهادية التأويلية المتقدمة يسارعون هم إلى احتلال مواقع الماضويين(3) والتمترس بذات النصوص التي تمترس الماضويُّون وراءها ، يقول أحدهم: " ... كنّا نعرف بالطبع أن المساواة المطلقة التي يتحدث عنها التيار الإسلامي الثوري غير صحيحة شرعا والآيات والأحاديث تتحدث بوضوح عن تفاوت الدرجات" ) (المرجع السابق ص 19).
قلت: والله لن يرض عنك الغرب ولا أذنابهم مهما قدمت لهم ، ولن يُرْضهم منك سوى الكفر ، وأن تعلن تبرؤك من الإسلام ، فارفق بنفسك يا علواني أنت وصحبك ، واحفظوا ما بقى من دينكم.
... فما حالكم معهم إلا كحال الشيطان مع ابن آدم الذي ما زال به حتى أوقعه في ذنوب تترى إلى أوصله إلى الشرك – والعياذ بالله – فقال سبحانه عنه { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك } فالغرب وأذنابه سيستدرجونكم إلى أن تقعوا في الكفر – والعياذ بالله – والردة عن دينكم ، وعندها لن ينفعوكم بشيء ، بل ستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. فهل من إفاقة وعودة إلى الكتاب والسنة ؟! نسأل الله ذلك.
(1) كان يعمل في جامعة الإمام قبل ذهابه إلى أمريكا!! ولكنه عندما كان عندنا يطبق قول القائل ( ودارهم ما دمت في دارهم)! كشأن غيره من المستنيرين أو الخرافيين عندما يأتون إلينا ، كابي غدة والعسال وغيرهم.
(2) بل تنازلات يا علواني !.
(3) ويعني بهم أهل السنة !!(22/2)
تلون الغنُّوشي ! وختام البحث
... هذا المبحث لم أذكره بهدف إحراج الغنُّوشي ، كما قد يتوهم البعض ، ولكني ذكرته لأبين لأهل الإسلام أن ( الحركية ) قرينة (التلون) فهما متلازمان ، فلا تجد حركياً إلا ويكون متلوناً في مواقفه – إلا من رحم الله - والسبب أنه يٌغلب جانب ( السياسة ) و(المصلحة) في مواقفه المتعددة ، دون جانب ( الحكم الشرعي ) . وهذا ملاحظ على أبرز الحركيين في عصرنا ، كالترابي والنحناح وغيرهما.
... وأقصد (بالحركي) من أراد خدمة الإسلام(1) في عالم السياسة والواقع دون ضوابط شرعية ، بل تقحم جانب المحرمات أو الشبهات تحت مختلف الدعاوى. ومن هؤلاء صاحبنا الغنوشي – هداه الله - ! فمن ذلك موقفه من حكومة المملكة العربية السعودية ، فتأمل له هذين الموقفين منها وسترى أنه لا ينقضي عجبك من حال الحركيين الحزبيين:
يقول الغنُّوشي في مقابلته مع مجلة ( قراءات سياسية ) مبرراً سلوكه المسلك الديمقراطي ودعوته إلى الدولة ( العلمانية !!) مقابل (الديكتاتورية):(23/1)
(هل نذهب بعيداً إذا قلنا بأن حكامنا العلمانيين المعاصرين رغم أننا نميل إلى إلحاقهم وتبعيتهم بالحكومات الغربية ، إنهم أي حكامنا العلمانيين هم الامتداد الطبيعي من حيث نموذج الحكم الذي يمثلونه لأسلافهم من الطغاة الذين ازدحم بهم تاريخنا منذ قرون طويلة ، والفارق هو الخلاف الديني الذي يستر أولئك ولا يزال يستر البعض حتى الآن ، وربما كان المتسترون أسوأ وأنكأ من العراة. أوليس المنافقون في الدرك الأسفل من النار ، الأمر الذي يجعل ظهور الدولة العلمانية في أمتنا من حيث مضمونها الثقافي مرحلة مهمة في تطورها تاريخياً في اتجاه دولة العدل الإسلامي ، مروراً بمرحلة دولة العقل أو الدولة العلمانية الديمقراطية . أليس أمراً بالغ الدلالة تأخر الحركة الإسلامية لدرجة الغياب في دول العالم الإسلامي التي لا تزال تجر أذيال الإسلام وتنسب نفسها لحكم الشريعة ، وخاصة تلك التي لم تمر بالمرحلة الاستعمارية . الإسلام هناك يختنق تحت وطأة الكهنوت. مقعد الإسلام هناك مشغول ممتلئ بالكهنوت .(23/2)
فأي مكان للحركة الإسلامية إذن ؟ وهل من عجب أيضاً أن نجد أول خيط لفجر الحركة الإسلامية في قلب الجزيرة العربية يسطع نوره على إثر الاحتلال الأمريكي الغربي الأخير ، وقد تجلى من خلال العريضة الشهيرة لكبار العلماء ورجال الدعوة هناك(2) كإشارة على ولادة الحركة الإسلامية وانفصال الدين عن الدولة والحاكم عن المحكوم ، وتحرر الدين من هيمنة الحكام ، وفقدان هؤلاء تحت وطأة الغزو الغربي لرداء الكهنوت وظهورهم على حقيقتهم حكاماً علمانيين لا تضبطهم إرادة أو مصلحة شعب أو حكم دين وإنما مصلحة العائلة والكرسي فوق كل شيء ، لقد ألحق الغزو الغربي الأخير للخليج بعض أجزاء العالم الإسلامي التي تخلف تطورها بالوضع العام للأمة الإسلامية أي النضال من أجل تحرير إرادة الأمة من الطغاة واستعادة سيطرتها على الثروات ، أي عقلنة الحياة السياسية وديمقراطيتها كخطوة ضرورية تهيؤها لعدالة أشمل وحرية أرسخ وخيرٍ أعظم).
... قلت: تأمل هذا الغلو والحقد في نقد الدولة السعودية المعاصرة ، ويضيف إليها ( أهل الكهنوت )! وهم كبار العلماء لدينا الذين أفتوا بجواز الإستعانة بالأجنبي لطرد المرتد البعثي، وعلى رأسهم الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين – رحمهما الله -.
قد تقول: نحن لا نلوم الغنُّوشي على موقفه هذا ، لأنه حرٌ في مواقفه ، وهو يتحمل مسئوليتها أمام الله.
فأقول: نعم ، لن نلومه على هذا لو كان شجاعاً وجاهر برأيه هذا في كل محفل ومكان ! أما أن يقوله هنا ، ثم يقول نقيضه في مكان آخر ، فهذا ما نلومه عليه ، وهو (التلون) الذي قصدته ، وهو ليس من صفات المؤمن ، بل من صفات الجبناء (ذوي الوجهين) الذين ذمهم صلى الله عليه وسلم.
ونقيض موقفه هذا قاله في مقابلته مع منتدى (ايلاف)(3) على شبكة الإنترنت ، شهر ربيع الأول من عام 1422هـ ، حيث سئل. " كيف ترى التجربة السعودية(23/3)
الحاكمة الآن ؟ أليست حكماً إسلامياً سيدي؟ أم أنكم تختلفون مع الحكم السعودي ولا تعتبرونه حكماً إسلامياً ؟ ثم ما رأيكم في الدعوة الوهابية(4) .. هل تصلح معتقداتها للتعامل مع مقتضيات الدولة الحديثة؟"(5)
قال الغنُّوشي: (الدولة السعودية قد تأسست على تحالف بين دعوة وقبيلة وهو نموذج الدولة الإسلامية التقليدية وكان لها دورة معتبر في إنجاز خطوات مهمة في اتجاه توحيد جزيرة العرب وتأمين المناسك ووفود بيت الله الحرام. صاحب الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يمثل أهم جذر تاريخي للحركة الإسلامية المعاصرة ، نفض غبار الانحطاط عن جوانب مهمة من فكر ابن تيمية فجسر العلاقة المفقودة بين الوحي والسياسية. ولقد بينت في كتابي " الحريات العامة في الدولة الإسلامية " أن الركن الأول للدولة الإسلامية هو تسليمها بالوحي مرجعية عليا واعتمادها الشورى أسلوباً في إدارة الدولة وعلاقة الحاكم بالمحكوم . وعلى هذا فالدولة السعودية هي دولة إسلامية من جهة قيامها على الشريعة. ونأمل أن الخطوة التي قطعتها على طريق الشورى بقيام مجلس شورى معين أن تتعزز بخطوات أكبر في اتجاه قيام مؤسسات شورية منتخبة وحياة سياسية وإعلامية أكثر انفتاحاً وهو الإنجاز المتوقع من حكم الأمير عبد الله يعزز به منجزات سلفه ويحقق التحول المنشود)!!
قلت: فالدولة السعودية هنا (دولة إسلامية ) ، وهناك (دولة علمانية) !! والفرق: المكان!
هداك الله يا غنوشي ، فأنا لم أسق هذا الموقف لإحراجك أمام أحد ، وإنما لأبين لشباب الإسلام خطورة المسلك ( الحركي ) ( الحزبي ) غير المنضبط ضوابط الإسلام ، الذي يجر المرء إلى ( التلون ) و ( المواقف غير الرجولية ) و(غير الشجاعة) ، مما يؤدي إلى تردد الناس في قبول الإسلام والالتزام به إذا كان هذا هو حال دعاته.
...(23/4)
أخيراً: عسى أن يجد القارئ ما يفيده في هذا البحث من حيث تبيين حال الغنُّوشي وتدرجاته ، وأن يجد فيه الغنُّوشي نفسه مرآة صادقة تعكس له أخطاءه وانحرافاته فيتجنبها قبل الرحيل إلى دار القرار ، والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
الرياض
ص.ب 522
الرمز 11321
(1) وهذا من إحسان الظن بهؤلاء ، وإلا فإن البعض (يتهمهم) بأنهم طلاب سلطة وحكم قد ركبوا موجة الدين ! فهم ممن يصدق فيهم قوله تعالى { فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } وقارن هذا بحال بعض النواب ( الإسلاميين ! ) في بعض البلاد الإسلامية ، قبل دخولهم للحكومة ، وحالهم بعد أن (حظوا !!) بذلك الدخول.
(2) يقصد ( مذكرة النصيحة ) الشهيرة!
(3) لصاحبه الصحفي السعودي المشهور (عثمان العمير) ، الذي فتح – هداه الله – منتداه هذا لكل حاقد على الإسلام وأهله ، من محلد وعلماني ورافضي وشهواني ، بدعوى الحوار وحرية الفكر !! والأولى أن تسمى (حرية الكفر!) ؛ لأن الحرية الفكرية في الإسلام مضبوطة بأحكام الشرع لا تخرج عنه ، فهل يعي العمير هذا ويسخر منتداه للدعوة إلى الإسلام والذب عنه؟ لئلا يكون ممن قال الله فيهم { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون } .
(4) ليس هناك شيء اسمه (الدعوة الوهابية) ! بل هي دعوة الكتاب والسنة وفق الله لها الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله-.(23/5)
(5) معتقداتها هي ما جاء في الكتاب والسنة – ولله الحمد -! فإن ظننت أن الكتاب والسنة لا يتفقان مع ما تزعمه من ( الدولة الحديثة ) فقد ظننت ظن السوء بربك وبشرعه ، وهذه الدولة السعودية شاهد على إمكانية توافق الإسلام مع مقتضيات العصر – ولله الحمد – وما كان من قصور ونقص فإنه يعالج بالنصيحة. والعجب أن من يسأل هذا السؤال نجد بلاده غائبة عن مقتضيات العصر وعن الدين الصحيح! ثم تزعم بأنها (دولة تقدمية)!! فنعوذ بالله من انتكاس القلوب والأبصار.(23/6)
الفهرس
شيخ (العصرانيين) في القصيم !!
? مقدمة
? تعريف بالدكتور خالص جلبي
? فإلى انحرافات الدكتور
? الانحراف الأول: دعوته إلى مذهب "السِّلم" أو "السلام"
? الانحراف الثاني: تحريفه للآيات والأحاديث والمعاني الشرعية
? الانحراف الثالث: دعوته إلى ما يسمى (الحرية الفكرية) !
? الانحراف الرابع: أن الدكتور كثيراً ما يردد : بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد!!
? الانحراف الخامس , السادس , السابع , الثامن , التاسع و العاشر
? الانحراف الحادي عشر: إنكار الدكتور لحد الردة !!
? الانحراف الثاني عشر : مبالغته في ذم الدولة الأموية
? خاتمة
? ملحق - 1 -؛ مقال للأستاذ محمد الأحمري في الرد على خالص جلبي ، نشر في مجلة العصر على شبكة الأنترنت(24/1)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زالت بلادنا –حفظها الله وثبتها على الحق- ملاذاً آمناً لكل من يريد إقامة دينه ودنياه من أبناء المسلمين على اختلاف هوياتهم، وملتقىً لهم بما خصها الله به من وجود الحرمين الشريفين على أراضيها. وقد أمَّها الكثير منهم، ما بين كبير وصغير، وعالم وجهل، فعاد فئام إلى أهاليهم وقد استقامت أحوالهم الدينية –ولله الحمد- بعد أن تبصروا وتفقهوا في تلك الأحوال وفق ما جاء في الكتاب والسنة، وهو ما لم يجده كثير منهم في بلاده نظراً للظروف التي مرت بالعالم الإسلامي، مما لا يجهلها أحد.
ولكن بقي فئات قدمت إلى هذه البلاد (متشربة) البدعة ومخالفة الكتاب والسنة، راضية بما هي عليه من انحراف، قد انتكست فطرتها، فرأت المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
أتت وقد تشبعت قلوبها من أئمة الضلال ببغض دعوة الكتاب والسنة التي تقوم عليها بلادنا –ولله الحمد- ، فلم ترض أن تتنازل عن ما هي عليه من باطل.
وهذه الفئة صنفان:
صنف أتى لهذه البلاد طالباً للعيش، وجوار الحرمين الشريفين، غير ساعٍ في نشر بدعته وانحرافه بين أهلها، إما خوفاً([1]) أو عدم حماس لها، مما جعله يتستر عليها ولا يُسر بها إلا لخواصه الأدنين ، جاعلاً شعاره قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُ !
وقول الآخر :
ودارهم ما دمت في ( دارهم ) وأرضهم ما دمت في ( أرضهم ) !
وهذا الصنف قد كفانا مؤنة الرد عليه وفضحه، لما هو عليه من تستر وتحفظ من نشر بدعته وانحرافه، فهو (مبتدع) غير داعية إلى بدعته .
فمثل هذا يناصح برفق، ولا يرد عليه علناً، لكي لا تشتهر بدعته، أو تأخذه الحمية في نصرتها.(25/1)
والصنف الآخر: كالأول تماماً في بدعته وانحرافه، لكنه لم يخضع كما خضع الأول ! ولم يستتر كاستتاره ، بل جاهر ببدعته وانحرافه، مستعملاً كل أسلوب متاح لترويج ذلك بين شباب هذه البلاد؛ لكي يصرفهم عن دعوة الكتاب والسنة إلى ما يوافق مشربه.
فهو لأجل ذلك يُصنف الكتب، ويكتب في الصحف والمجلات، ويشارك في الندوات .
وهؤلاء يختلفون في بدعهم ومشاربهم؛ فمنهم الأشعري الخَلَفي، والصوفي الخرافي، والمعتزلي العقلاني.. الخ
إنما يجمعهم كلهم: (بغض دعوة الكتاب والسنة) ومحاولة صرف الشباب عنها إلى أهوائهم.
فهذا الصنف يجب على دعاة الكتاب والسنة أن يتصدوا له، وأن يفضحوه بين الناس، ويُشهّروا به في الآفاق؛ حتى يدع بدعته أو يكف عن بثها ونشرها.
والطبيب خالص جلبي من هذا الصنف ! فهو قد قدم إلى هذه البلاد منذ عشرات السنين مستقراً في بلاد القصيم! ليعمل في أحد مستشفياتها.
قدم وقد تشربت نفسه انحرافات عديدة ظنها حقاً يجب أن يبشر به الناس حوله.
قدم وفي نفسه (أشياء) من دعوة الكتاب والسنة التي لم يجد فيها بغيته! ولم تُرض طموحه! لهذا فما أن ألقى عصاه في بلاد القصيم وطاب له المقام فيها، حتى شمر عن ساعديه في نشر انحرافاته وأفكاره التي استولت على نفسه. فبدأ يؤلف الكتب، وينشر مقالاته في مختلف الصحف، ويجتمع بالآخرين لينقل إليهم ما عنده؛ هادفاً من هذا إلى تجميع الشباب حول أفكاره التي آمن بها ورضيها، ولا زال على هذا الحال!
قد يقول قائل ممن يعرف ما عند الدكتور: يا فلان لقد ضخَّمت القضية، فالرجل ليس عنده سوى مذهب (السِّلم ونبذ العنف) الذي آمن بجدواه بعد أن جرَّب غيره، في بلاده، وهذا المذهب (السلمي) الخانع مع أعداء الأمة لن يؤمن به الشباب مهما حاول الدكتور؛ نظراً لمخالفته للفطرة ولطبائع البشر قبل مخالفته لشريعة رب العالمين –كما سيأتي- .(25/2)
فأقول: نعم ، فكرة الدكتور الكبرى وهي الدعوة إلى السِّلم (مع الجميع!) لن تشد أحداً من الشباب إليها كما قلت ، بل سيتخذها بعضهم سخرياً في زمنٍ لا يؤمن إلا بمبدأ واحد هو القوة، ولو تعامى الدكتور عن ذلك.
لذا فأنا لا أخاف على الشباب من هذه الفكرة الخيالية الحالمة، إنما أخاف عليهم من حواشيها! ومتطلباتها! ؛ لأن الدكتور –كما سيأتي- جعل لنجاح هذه الفكرة شروطاً ينبغي أن تتحقق في المؤمنين بها، وهو ما أخافني منه على الشباب!؛ فهو يرى أن العالم ينبغي أن يعيش في سلم عام، يتحقق له عن طريق:
احترام وجهات النظر والرأي الآخر مهما كان !
حرية الإنسان في الدعوة إلى ما يعتقده في كل مكان!
حرية الإنسان في التنقل بين العقائد والأديان!!
إلغاء ما يعارض ذلك، وهو حد الردة !!
أن الحقيقة المطلقة لا يملكها أحد من البشر!!
إلى غير ذلك من الشروط والحواشي الخطيرة! ، وهي ما نجح الدكتور في بثها في عقول بعض الشباب ممن يسمون (بالعصرانيين) ، وساعده على ذلك أن هذه الحواشي والأفكار الفرعية تلائم عصر العولمة! وترضخ للضغوط المعاصرة التي لا يجهلها أحد، إضافة إلى أنها تريح النفوس البطالة التي تعبت من الدعوة إلى دين الله الحق وأصابها (طول الأمد) والملل !
فجاء الدكتور يستثمر هذا كله، ويستفيد منه في نقل أفكاره إلى عقول بعض شبابنا ممن نراهم يدندنون كما ما يدندن الدكتور.
أما فكرته الكبرى (وهي الدعوة إلى مذهب السلم) فلا أظنها تلقى الرواج والقبول عن الشباب ، كما لقيته هذه الأفكار الفرعية.
لهذا كله: كان لابد من عرض أفكار الدكتور –ولو بإيجاز- تحت مجهر الكتاب والسنة؛ ليتبين للشباب ما عند الرجل من انحرافات ، لتكون هذه الرسالة عوناً لهم تركها أو الحذر منها .(25/3)
ولعل الشباب الذي تأثر بدعاوى (العصرنة) و (التمييع) يراجع نفسه، ويجدد حياته ، ويعود إلى سبيل النجاة بعد أن تنكب عنه سنين عددًا ، أضاعها في الترويج لهذه الأفكار ( العصرانية ) المنحرفة .
وليتعظ المرء من هؤلاء بحال من سبقوه من أساطين العصرنة الذين أرادوا تشذيب الإسلام حتى يوافق عقولهم القاصرة وعصرهم المتقلب ، ولكنهم لم يجنوا من ذلك سوى ضياع الدين وخسارة الدنيا ، والعياذ بالله .
ولا تزال لهم قدم سوء في هذه الأمة التي ضللوها عن دينها القويم .
فليعتبر ناصح نفسه بحالهم ومآلهم ، ولا تأخذه العزة بالإثم أن يعود إلى الحق ؛ فإن ( الحق قديم ).
أسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى صراطه المستقيم ، وأن يباعد بيننا وبين البدعة وأهلها ، وأن يوفق الدكتور جلبي للخلاص مما وقع فيه من انحرافات .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (أجمعين)
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
1/7/1422هـ
([1]) ولتعلم صدق هذا : انظر إلى حالة بعد خروجه من هذه البلاد، كيف ينقلب ! (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها).(25/4)
تعريف بالدكتور خالص جلبي([2]) :
- هو الدكتور خالص مجيب جلبي كنجو من مواليد القامشلي، سورية 1945م، تخرج من كلية الطب ، جامعة دمشق 1971م، وتخرج من كلية الشريعة، جامعة دمشق 1974م، وحصل على الزمالة الألمانية (تخصص جراحة) من ألمانيا الغربية 1982م.
يعمل حالياً رئيساً لوحدة جراحة الأوعية الدموية في مستشفى الملك فهد التخصصي بالقصيم .
من مؤلفاته:
الطب محراب الإيمان (جزءان).
ظاهرة المحنة.
النقد الذاتي .
الإيدز الطاعون الجديد.
عندما بزغت الشمس مرتين: قصة السلاح النووي.
أين يقف العلم اليوم .
ثلاث مقالات ، أبحاث في العلم والسلم.
مخطط الانحدار .
سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي.
العصر الجديد للطب .
جدلية القوة والفكر والتاريخ .
يكتب الدكتور مقالاته في صحف ومجلات متنوعة، أبرزها جريدة الشرق الأوسط، ومجلة الفيصل، وزاويته بجريدة الاقتصادية .
الدكتور متزوج من ليلى سعيد أخت المفكر (المادي) المشهور جودت سعيد، الذي كان له أثر كبير في فكر خالص جلبي –كما سيأتي- ، وكما يعترف الدكتور نفسه.
خالص جلبي متأثر بجودت سعيد:
لكي نفهم خالص جلبي لابد أن نفهم (أخ زوجته) جودت سعيد، فالدكتور متأثر به جداً، ويكاد أن يكون رجع صدى لصوته بصورة شكلية مغايرة. والدكتور لا يخفي هذا الأمر بل يفخر به، فهاهو يهدي كتابه (في النقد الذاتي) إليه قائلاً ((إلى أخي المفكر جودت سعيد، فهو الذي غرس النباتات الأولى لهذا الإتجاه عندي)) (ص7).
ويقول في نفس الكتاب: ((لابد من ذكر فضل خالص للأستاذ جودت سعيد في إثارة هذا الجانب العقلي ودفعه للنمو)) (ص11).
ويثني في كتابه (سيكولوجية العنف) (ص12) على كتاب (شيخه) جودت (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ويرى أنه "جدير بالمراجعة والتأمل" .(26/1)
يقول الأستاذ عادل التل بعد أن عرض لمجموعة من أفكار جودت سعيد: (( يتابع جودت على هذه الأفكار : خالص جلبي وزوجته ليلى سعيد ... )) (النزعة المادية في العالم الإسلامي ، ص 83 ) . (وانظر أيضاً ص 69 و ص99)
قلت : ولكي نفهم جودت سعيد لابد من قراءة كتبه ومقالاته التي ينشرها بين المسلمين ، وكذا قراءة كتاب الأستاذ عادل التل (النزعة المادية في العالم الإسلامي: نقد كتابات جودت سعيد، محمد إقبال ، محمد شحرور، على ضوء الكتاب والسنة) وقد قمت بهذا ولخصت كتاب الأستاذ التل مع بعض الزيادات في بحث بعنوان (انحرافات جودت سعيد) سأنشره قريباً –إن شاء الله-
وأوجزه في نقاط :
يعد جودت سعيد أبرز دعاة مذهب (السّلم) ونبذ ما يسميه (بالعنف)، فهو يدعو إلى هذا بكل ما أوتي من استطاعة، وقد خصص له جلَّ كتبه ومقالاته، وعلى رأسها كتيبه الشهير (مذهب ابن آدم الأول) .
يرى أن هذا المذهب (مذهب السلم) هو الأنجح في حل قضايانا، وتحقيق أهدافنا ، بخلاف غيره، ولو كان الجهاد! .
يرى أن (الوحي) و (النبوة) قد انتهى دورهما !! وأن لنا أن نستبدل ذلك (بقراءة التاريخ والسنن الكونية) ! ، ولهذا نجده لا يُعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يجعله مرجعاً له. بل –والعياذ بالله- يرى أن الرجوع إلى الكتاب والسنة مما يزيدنا فرقة واختلافاً!!
يتابع الفلاسفة (أهل التخييل) في أمور الغيب !
يمجد الفلاسفة والكفرة ويُعظم أفكارهم؛ من أمثال سقراط وغاندي وماركس وكونت وغيرهم، لاسيما إذا كانوا يخدمون فكرته.
يحرف المعاني الشرعية؛ كمعنى الشرك ومعنى العبادة ... ، بمعانٍ مخترعة من عنده.
يطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يؤمن بفكرة (النشوء والارتقاء) البائدة ! .
يُحرف آيات القرآن الكريم بما يخدم أفكاره.
قلت : هذه بعض انحرافات جودت سعيد، ولتوثيقها ومعرفة المزيد عنه، مع تفنيد هذه الانحرافات ، انظر : (انحرافات جودت سعيد) .
التلميذ يتابع شيخه :(26/2)
تابع خالص جلبي شيخه جودت سعيد في أفكاره السابقة كلها، وعلى رأسها (الدعوة لمذهب السلم) الذي استحوذ على معظم كتاباته –كما سيأتي- وفي ظني أن الذي دعاه لهذا أمران :
قربه من جودت سعيد، فهو متزوج من أخته – كما سبق- ، ومعلومٌ أن القرين بالمقارن يقتدي، وأن الصاحب ساحب، ولهذا نعلم حكمة (النهي عن مجالسة المبتدعة) الذين يلقون الشبه في ذهن المرء فيشككونه في أمر دينه ، حتى يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً. مهما ادعى المرء أنه ذو حصانة من هذا التأثر، أو أن مبدأ (النهي عن مجالسة المبتدعة) ينبئ عن عدم ثقة بما لدى الإنسان من حق .. الخ ما يردده (العصرانيون) في زماننا.
أنه اتخذ مبدأ (العنف) و (العمل السري) في مطلع حياته، فلما لم يثمر هذا المبدأ سوى التعرض للسجن والتنكيل من قبل السلطة الحاكمة في بلاده، انقلب الرجل إلى الضد من ذلك، و (كفر) بما كان يؤمن به سابقاً من جدوى (العنف) و(العمل المسلح)، وأصبح لفعله الأول ردة فعل عليه بعد خروجه من السجن قادته إلى (تطرف) آخر على الجهة المقابلة، وهو الدعوة إلى (مذهب السِّلم) ونبذ كافة أنواع (العنف) ولو كان من ضمنها الجهاد المشروع !
بل قاده ذلك إلى تقبل (الآخر) والدفاع عن معتقداته وحريته في نشر تلكم المعتقدات مهما كانت ! بدعوى (الحرية) و (الحوار) و (قبول وجهات النظر) و (الآراء المختلفة) ... الخ ما يدندن حوله عصرانيو اليوم .
يقول خالص في مقدمة كتابه (سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي) –الذي خصصه للدعوة إلى مذهب السلم- : ((منذ ظروف المعتقل في عام 1974م ما زال هذا البحث ينمو عندي ويترسخ)) (ص 24).
ويقول –أيضاً- : ((ثم سجلت خطة العمل المستقبلية في كتابي (ظاهرة المحنة) مؤكداً على ضرورة تطهير ساحة العمل من (العنف) و (التنظيمات السرية) (المرجع السابق، ص 25) .(26/3)
فالرجل قد عالج الخطأ بخطأ آخر أعظم منه. فهو في مطلع شبابه لم يلتزم منهج السلف أهل السنة والجماعة في التعامل مع الحكام، من حيث الصبر على جَوْرهم وظلمهم مع الاستمرار في الدعوة إلى الحق إلى أن يقضي الله أمره، استجابة للأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمرة بذلك، مع عدم الالتفات إلى دعاوى (التثبيط) أو الاتهام بالخوف أو التخاذل إلى آخر دعاوى المتحمسين أو المبتدعة من الخوارج أو المعتزلة.
ولكن الدكتور آثر مذهب (الخروج) على الحاكم والتأليب عليه، والانخراط في الأعمال السرية للإطاحة به، مما أدى به إلى السجن ؛ لأن الحاكم سيدافع حتماً بما أوتي من قوة عن سلطته ولن يفرط فيها بسهولة، كما قد يتوهم البعض .
فلما علم الدكتور –بعد حين- خطأ مسلكه الأول ، لم يصححه بالتزام مذهب السلف أهل السنة والجماعة في عقيدته ودعوته، بل ارتد إلى الطرف الآخر وهو نبذ (العنف) بكافة ألوانه والتنفير منه، والدعوة إلى (مذهب السلم) الذي ظن بجهله اتباعاً لشيخه جودت أنه سيسود العالم في يومٍ ما !! –كما سيأتي- .
فقاده هذا (التطرف) تجاه الجهة المقابلة إلى عدة انحرافات خطيرة سترى شيئاً منها فيما يلي –إن شاء الله-. فكان كما قيل:
إذا استشفيتَ من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاك !
وأنا لن أتهم الدكتور –وكذا شيخه- كما فعل البعض، بأنهما مجردُ صنيعتين من صنائع أعداء الأمة (من اليهود والنصارى) ، استخدموهما لترويج مذهب (السلم) بين أفراد الأمة وشبابها لإماتة روح الجهاد التي تقلق الأعداء -كما هو معلوم- .
أنا لن أفعل هذا؛ لأنه لا دليل مؤكد عليه حتى الآن، بل سأتعامل معهما كمنحرفَيْن من مئات المنحرفين الذين مروا على أمة الإسلام، هادفاً التحذير من أطروحاتهما التي قد تروج على البعض ؛ نظراً لتماشيها مع ضغط الواقع المعاصر!
([2]) نقلاً عن مجلة " الفيصل" (العدد 225، وغلاف كتابه "جدلية القوة والفكر والتاريخ " ، مع إضافات يسيرة.(26/4)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الأول: دعوته إلى مذهب "السِّلم" أو "السلام"
الانحراف الأول: دعوته إلى مذهب "السِّلم" أو "السلام"، ونبذه لجميع أنواع ما يسميه "بالعنف" دون تفريق بين حقٍ وباطل. وحصره مفهوم الجهاد الشرعي في الدفاع عن البشر المظلومين (أياً كان دينهم) المكرهين على تغيير آرائهم واعتقاداتهم، وذلك بعد قيام الدولة الإسلامية بواسطة الطريق السلمي، أما قبل قيامها فلا يجوز أيُّ نوع من أنواع الجهاد (المسلح) ! .
وإليك شيئاً من أقواله تبين هذا ، ثم التعقيب عليها:
يقول الدكتور تحت عنوان (أنظمة فكرية أربعة في كيفية استعمال العنف): ((توجد أربعة أنظمة فكرية، أو أربع لغات في جواز استخدام العنف ومشروعيته من حرمته وعدم جواز استخدامه:
فاللغة الأولى هي شريعة الغاب : القوي فيها يأكل الضعيف ولا يوجد أي ظل لأي قانون ضمن الدولة الواحدة أو بين الدول، وهي مرحلة مشى فيها الجنس البشري، وهو يودعها تقريباً الآن، وقد يعترض من يقول: لا ، إن الوضع لم يتغير، وهذا ينسف كل إمكانية أو تحقيق أي تطور عن الإنسان والجنس البشري عموماً، وهو تصور غير صحيح، في ضوء إنجازات الجنس البشري حتى الآن، من نظام الأمم المتحدة، ومحكمة لاهاي للعدل الدولي، ومنظمات حقوق الإنسان، ومعاهدة جنيف لأسرى الحرب، ومنظمة الهلال والصليب الأحمر الدوليين ... الخ . وهذا لا يعني الكمال في الإنجاز، ولكنها خطوة متواضعة، في طريق تحقيق الكمال الإنساني، والدولة العالمية الواحدة، لتأمين الخبز، ودحر المجاعات، واحتكار السلاح ، وإيقاف الحروب.(27/1)
واللغة الثانية هي لغة الديموقراطيات الغربية: وتؤمن بالعنف لإطاحة الحكومات الظالمة المستبدة، وتحرم العنف بعده، ويصب معهم في الاتجاه نفسه تيار (الخوارج) من التاريخ الإسلامي، الذين لم يؤمنوا باستقراطية الحكام (أن يكونوا من قريش مثلاً)، فالإنسان الأسود (كونه من الشرائح المستضعفة في قاع المجتمع) يمكن أن يتولى منصب الرئاسة، كما هو الحال في نيلسون مندلا، في جنوب أفريقيا الآن، وهذا التصور كان مستحيلاً في تلك الأيام، كما آمنوا بالثورة المسلحة، لتغيير الحاكم المنحرف (وهو ما تفعله جماعات الإسلام السياسي في الوقت الحاضر، حيث أحيت مذهب الخوارج من جديد)، فالخوارج رأوا في الحكم الأموي، أنه غير إسلامي وظالم؛ فوجب الإطاحة به، على كل حال هم يُكَفِّرون مرتكب الكبيرة ، ولقد كفَّروا عليّاً واستباحوا دمه، ثم قتلوه في النهاية، وقد استنفدوا طاقتهم في الصراع مع الأمويين، وجعلوا الدولة الأموية تنزف حتى الموت، وسقطت كالتفاحة الناضجة ليست بأيديهم، ولا بأيدي آل البيت المنتظرين بفارغ الصبر، بل بيد العبّاسيِّين المحنَّكين، المختبئين في الظلام المجهولين!(27/2)
واللغة الثالثة هي لغة الأنبياء: الذين حَرّموا صناعة الحكم بالقوة المسلحة وبالعنف، من خلال الانقضاض على الحكومات القائمة، حتى لو كان مجيئها إلى السلطة بالسيف وبالعنف، فاللاشرعية لا تزال باللاشرعية، بل بالشرعية، والخطأ لا يزال بالخطأ ، بل يُقَوم بالعمل الصحيح، وهذا ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي غيّر المجتمع بالفكر وسلميّاً، فحين فشل في اختراق مجتمع مكة والطائف، نجح في نشر دعوته في أهل يثرب، التي ستأخذ اسم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (المدينة المنورة) ، حتى تفشى الإسلام في مجتمع المدينة، فلم يذهب إليهم على ظهر الدبابات بانقلاب عسكري، بل خرجوا لاستقباله، في مظاهرة ضخمة، ضمت أهل المدينة من الرجال والنساء، في مشاركة رائعة، مع فرقة موسيقية كاملة،([3]) والكل ينشد: طلع البدر علينا،([4]) معلنين خضوع مجتمع المدينة للفكرة الجديدة ، دون سفك قطرة دم واحدة، وهذا التحول المدهش، في مجتمع المدينة المنورة سابقاً وبهذه الطريقة السلمية، غاب عن أعين المسلمين منذ ذلك الوقت، وعطلوا سنة عظيمة من سُنن الإسلام، في كيفية بناء المجتمع أو معالجته حين الانحراف، وتبخر الحكم الراشدي تحت حرارة العنف ودمويته، وانزلق المجتمع الإسلامي، إلى ليل التاريخ، حيث المغامرون والانقلابيون يتناوبون قنص السلطة الدموي دون رحمة، ولم يخلص العالم الإسلامي من هذا المرض حتى اليوم، وأعيد مذهب الخوارج، بكل عنفوانه وقوته مرة أخرى، في مناطحة الحكومات، واستنفاد الجهود في معارك مدمرة، بحيث توقفت عملية نقل السلطة السلمي، وتحول المجتمع إلى شرائح، لا يثق بعضها ببعض، وتوقف الحوار، وأضمرت النفوس الحقد والتآمر، وسُفِكت الدماء غزيرة.
وأما اللغة الرابعة: فهي بعد قيام الحكم الشرعي، فإذا صار الحكم شرعياً، استطاع وسُمح له بالجهاد المسلّح، بعد أن بنى مجتمع (اللاإكراه).(27/3)
عند ذلك، من لا يريد أن يدخل في السلم، ويريد أن يُكره الناس على أي دين ومبدأ وفكرة، فهذا يتصدى له المجتمع الإسلامي (مجتمع لا إكراه في الدين)، فهذا هو مجال الجهاد، أي حماية الناس من الفتنة (الإكراه) ([5]) (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، (والفتنةُ أشدُّ منَ القتلِ)، وهذا يتولد منه مجموعة هامة من المعاني: الجهاد هو لحماية المخالف، والجهاد أداة واحتكار للعنف بيد السلطة، والسلطة أي سلطة، لا يسمى ما تفعله جهاداً، حتى يتم وصولها إلى الحكم برضا الناس، فالجهاد هو ذو جانبين في المجاهِد (بكسر الهاء) والمجاهَد (بفتح الهاء) ضدّه، فلا جهاد إلا بيد سلطة وصلت إلى الحكم برضا الناس، ولا جهاد إلا ضدّ من يمارس الظلم على الآخرين بإخراجهم من ديارهم وأديانهم بالقوة المسلحة (لا يَنهَاكُمُ الله عنِ الذينَ لم يُقاتلُوكُمُ في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسِطُوا إليهِمْ)) ([6]) .
قلت: هذا المقطع الطويل يوجز لنا الفكرة التي يدندن حولها الدكتور في كثير من كتاباته .
فالتغيير (أي تغيير السلطة الظالمة) يكون سلمياً دون (عنف) أو (استخدام سلاح)، وبعد الوصول إلى السلطة من قبل (السلميين) يجوز استخدام (الجهاد) أو (السلاح) أو (العنف) لا لنشر الإسلام وحماية الدولة الإسلامية !! إنما لحماية المكرهين على تغيير آرائهم ومعتقداتهم فقط !! .
وهذا فيه تلبيس عجيب من الدكتور الذي لو تابع مذهب السلف أهل السنة والجماعة بعد نبذه للعمل السري الحربي المسلح لأراح نفسه وجنبها تحريف الحقائق الشرعية وتزويرها – هداه الله- .(27/4)
فنصوص السنة تفصل في هذه المسألة التي أرقت الدكتور حتى جعلته يصنف كتابه هذا، وتخبر بأن الحاكم (المسلم) الظالم الجائر لا يجوز الخروج عليه بالسلاح ، وعلى هذا استقر مذهب السلف . أما إذا ارتكب هذا الحاكم كفراً بواحاً ظاهراً فإنه يجوز الخروج عليه بالسلاح وتغييره إذا كان المسلمون لديهم القدرة على ذلك، وأقواله صلى الله عليه وسلم كثيرة مشهورة في تقرير هذا؛ من أوضحها ما رواه عوف بن مالك –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم))، قال: قلت : يا رسول الله ! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال : ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) أخرجه مسلم .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ستكون بعدي أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع)) قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال : ((لا ، ما صلوا )) أخرجه مسلم([7]).
فالجهاد أو ما يسميه الدكتور (بالعنف!) يجوز استخدامه من قبل المسلمين قبل الوصول للسلطة –لا كما يزعم الدكتور- وذلك في الحالة السابقة ، وأقواله صلى الله عليه وسلم تشهد بهذا ، وهي لا تخالف سيرته صلى الله عليه وسلم التي حاول الدكتور أن يوهمنا أنها تعارض هذا ، لأنه هو نفسه الآمر بذلك الجهاد أو (الخروج) الشرعي.
انحرافات أخرى للدكتور تفرعت عن انحرافه الأول:
قلت : فترتب على (غلو) الدكتور في هذا المذهب الغريب مذهب السِّلم وعدم العنف انحرافات كثيرة، سأذكرها مع مقولة أو أكثر للدكتور تشهد لكل واحدة منها ، ثم أعقب عليها بإيجاز بما يبين للقارئ بطلانها:
الدكتور يؤمن بأن الحروب ستنتهي !
يقول الدكتور: "كانت الحروب قديماً تؤدي دوراً من الغنائم والأسلاب والرقيق ، واليوم فات وقتها ، فكما تم إلغاء الرق فالعالم في طريقه لإلغاء مؤسسة الحرب" (سيكولوجية العنف، ص143).(27/5)
قلت : هذا مقولة إنسان خيالي يسبح عقله في ما يتخيله مثالياً، لا أساس لها من الواقع.
وهي –أيضاً- مقولة إنسان لا يؤمن بحكمة مشروعية الجهاد في الإسلام! حيث ارتبطت الحروب عنده فقط بالغنائم والأسلاب والرقيق والأمور (المادية) التي تناسب تفكيره (المادي)! التي متى ما استغنى الناس عنها –كما يزعم الدكتور- سيتوقف (القتال)!! ([8]) متغافلاً عن أن الجهاد في الإسلام لا تأتي هذه الأمور (المادية) إلا تبعاً لحِكَمِهِ العالية ومقاصده الشريفة؛ وعلى رأسها (إعلاء كلمة الله في الأرض)، ونشر دينه، واكتساب المجاهدين الأجر العظيم الوارد فيمن جاهد لأجل ذلك، وغير ذلك من المقاصد الشريفة([9]).
فليست مقاصد الجهاد في الإسلام هي مجرد الغنائم والرقيق كما يزعم جلبي الذي ينظر للأمور بتفكير (مادي).
وأيضاً: ففي كلامه هذا مصادمة لنصوص الشريعة (الآمرة) بالجهاد والمخبرة عن استمراره إلى يوم القيامة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم في مسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين:(الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
بل هذا من جملة عقائد أهل السنة الثابتة عندهم دون شك، قال الطحاوي –رحمه الله- في عقيدته : ((والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين ، برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما)) ([10])
ويقول الشيخ علي العلياني في كتابه (أهمية الجهاد، ص 186): "لا ينتهي جهاد الكفار إلا إذا أسلموا أو خضعوا لحكم الإسلام ودفعوا الجزية" .(27/6)
وأيضاً: ففي كلامه السابق مصادمة للنصوص الشرعية (المخبرة) عن استمرار القتال (من جميع الأطراف) ! على وجه الأرض إلى أن تقوم القيامة، ومن راجع ما جاء في أشراط الساعة علم هذا ، ويأتي على رأس ذلك مقاتلة المسلمين لليهود التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وكذا خروج يأجوج ومأجوج ، وغير ذلك .
فكلام الدكتور باطل (شرعاً) و (قدراً) .
ثم قوله (تم إلغاء الرق) ليس فيه دليل على (تحريم) الرق أو أن الإسلام قد جاء بما يشين –كما يوهم كلامه- .
بل الرق باقٍ ما بقي الجهاد ، ولا حرج منه . وإجماع (العالم) على إلغائه لا يغير من حكمه شيئاً في الإسلام ؛ لأن الإسلام يُحْتج به ولا يُحتج عليه بالأمور الواقعة. ولو فعلنا هذا لحللنا كثيراً من المحرمات التي (استباحها) أو (أذن بها) العالم اليوم .
يقول الشيخ عبدالله بن يابس –رحمه الله- في تعقبه على بعض الكتاب : ((وإذا كان القتال ماضياً إلى قيام الساعة، والكفار موجودين في كل زمن فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا عليه بطريق الحرب)) ([11]).
ويقول الدكتور علي العلياني راداً على بعضهم ممن يرى رأي الدكتور: ((من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد التي حرفها تلاميذ الاستشراق والاستعمار: حكم الرق، حتى إنا نرى بعض أولئك الضعاف المهازيل من قليلي العلم والتقوى الذين أعجبوا بمبادئ الدول الغربية والشرقية من الدول الكافرة والملحدة يعتذرون عن رب العالمين في تشريعه للجهاد، ويعللون إباحة الإسلام للرق بتعليلات ساقطة من عند أنفسهم، لم يدل عليها دليل من كتاب ولا سنة ... ))([12])(27/7)
وقال رداً على من قال: بأن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم اليوم !: ((هذا كذب صراح وافتراء على الإسلام ... . وهل يظن هذا الكاتب أن المسلمين منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عام 1842م عندما وُقعت اتفاقية دولية تحرم الرق كانوا يعملون غير مباح؟! نعوذ بالله من هذا التحريف المشين)) ([13]) .
الدكتور يتمنى قيام دولة عالمية واحدة !!
يقول الدكتور تحت عنوان (الدولة العالمية كمقصد أعلى للبشر) : "إن وجود دولة عالمية تحتكر العنف من الدول سيحقق الأمن عالمياً، فندخل العصر الذي تتوقف فيه الحروب" ويقول : "الأمل أن تتحقق الدولة العالمية الواحدة في مدى القرنين القادمين أو ربما أسرع ... . عندها تنتهي لعبة الحروب نهائياً ، ويلغى عصر الجوع" !! (سيكولوجية العنف..، ص158) .
ويقول في موضع آخر : "الطريق ما زال طويلاً لإقامة الدولة العالمية التي ستحتكر السلاح والخبز، فتلغي الحروب بين الدول، وتنهي عصر المجاعات" (المرجع السابق، ص 218)
قلت : لا زال الدكتور يحلم ويمني النفس! وليته إذ مارس (حلمه) و (أمنياته) هذه مارس ذلك لوحده أو بين أهله إذاً لكففت القلم عنه وقلت
إذا تمنيتُ بتُّ الليل مغتبطاً إن المنى رأس أموال المفاليس !
ولكن حلمه هذا تحول إلى فكرة تشغل ذهنه ، ثم سوّلت له نفسه نشرها وتكتيل الأنصار حولها ، فعندها لزم الرد، وإيقاظ الدكتور من نومه.
أما أن فكرته عبارة عن حلم ، فهذا يعرفه كل مسلم، وكل من له عقل، وقد قضى الله (كوناً) هذا الخلاف بين البشر وقدَّره .
يقول سبحانه عن البشر (ولا يزالون مختلفين) .
وليس معنى هذا –كما يتوهم البعض- أن يرضى المسلم بهذا الاختلاف ويقره ولا يحاول تغييره ؛ لأن هذا الأمر مما يحبه الله ولذلك قدره!! .(27/8)
فهذا قول من لا يفرق بين إرادة الله (الكونية) وإرادته (الشرعية)، -كما هو معتقد أهل السنة-، ويخلط بينهما ، فيظن أن الله إذا قدر وأراد (شيئاً) بإرادته (الكونية) ينبغي للمسلم أن يقر ذلك ويرضاه ، وهذا قول شنيع، يلزم منه أن يقر صاحبه الكفر والمعاصي ويرضى بها، ولا يحاول تغييرها! والله تعالى يقول (ولا يرضى لعباده الكفر) ، مع أنه واقع في الأرض بإرادته سبحانه (الكونية) لا (الشرعية) .
فاختلاف البشر واقع ولا يزال مستمراً ، وقد أراده الله بإرادته (الكونية) التي لا يخرج عنها شيء من المقدَّرات، ولكنه لم يرده (شرعاً)، بل أراد لعباده جميعاً أن يعبدوه ويوحدوه ، والمسلم مطالب بعدم الرضا بهذا الاختلاف ، والسعي لإزالته بما يستطيع، ومحاولة جمعهم على الكتاب والسنة. والله أعلم.
ثم ليت الدكتور حينما خالف هذا الأمر الكوني بحلمه وأمنيته تلك حلم وتمنى بأن يجتمع العالم في دولة (إسلامية) واحدة، تحكم بشريعة الله –سبحانه وتعالى-، وهو حلم كل مسلم.
لكنه لم يفعل هذا ، بل تمنى دولة عالمية واحدة تطعمه من الجوع وتؤمنه من الخوف!! مهما كان دينها أو مذهبها!! كل هذا لا يهم عند الدكتور، مادام ينام هانئاً آمناً ممتلئاً بطنه بالخبز والماء البارد، ونعوذ بالله من دناءة المطلب.
الدكتور يدعي أن الغرب المتحضر ترك (العنف) و (الحرب) !
يقول الدكتور: "غدت الحرب موضة قديمة يمارسها المتخلفون، وكل بؤر النزاع والحروب في العالم اليوم هي في معظمها مناطق المتخلفين " !! (المرجع السابق، ص 164) .
قلت : كل متابع للأحداث يعلم بطلان هذا القول ومخالفته للواقع، بل (العنف) و (الحروب) مستمرة ما دام هناك بشر مختلفون ، دون تفريق بين (متحضر) و (متخلف) كما يزعم الدكتور.
وشاهد ذلك من الواقع كثير: فهذه زعيمة التحضر (أمريكا) لا تزال تمارس عنجهيتها وعنفها مع المسلمين ؟ كما حدث في السودان وأفغانستان .
وهذه روسيا تفعل ذلك في الشيشان .(27/9)
وهذه إسرائيل وهي من الدول المتحضرة عندك بلا شك! لامتلاكها للتكنولوجيا والصناعة المتطورة، غارقة في أوحال الحرب مع العرب بين حين وآخر .
إن قال الدكتور: ما يحدث من روسيا وأمريكا ليست حروباً، إنما هي حملات تأديب ! أو نحو ذلك. أقول له :
هذه التي تسميها (حملات تأديب) أليست هي عنفاً في نظرك؟! هي كذلك بلا شك، وهذا مما ينقض قولك ؛ لأن من مارس (العنف) الجزئي سيمارسه (كلياً) عندما يحتاج إليه ! ويحمى الوطيس.
أيضاً: فقل لي –بالله- متى خلت البلاد (المتقدمة) من الحروب؟! أليست الحرب العالمية الثانية لم تضع أوزارها إلا قبل خمسين عامًا تقريباً، فكيف حكمت بهذا الحكم خلال هذه المدة القصيرة ؟ ! ومثل هذه الأحكام لا تبنى إلا خلال قرون.
ثم أقول: لقد غاب عنك، أن هذه الدول المذكورة لم تدع (الحروب) في السنوات الأخيرة نظراً (لتقدمها) أو (لتحضرها) كما تزعم بل ودعتها لأنها تعلم أن حروب اليوم لو وقعت لأكلت الأخضر واليابس، ولأحرقت الجميع بنارها؛ نظراً لتطور الأسلحة ، فسبب تركهم -إن سلمناه لك – هو خوفهم من الموت ومن الهلاك ، ولا علاقة (بالتحضر) في هذا الأمر.
(المتقدم) يحل مشاكله بالحوار لا بالعنف ، عند الدكتور!
يقول الدكتور: "العالم اليوم فيه شريحتان: شريحة ودعت الحرب وتحل مشاكلها بالحوار، وشريحة لم تصل إلى هذا المستوى، فتحل مشاكلها بالصدام والسلاح" ! (المرجع السابق، ص144) . (وانظر ص 164 و219 وما بعدها)
قلت: وهذه كذبة أخرى للدكتور يؤيد بها (أحلامه) !
ونحن لم نر هذا الحوار في تعامل أمريكا مع السودان أو أفغانستان !
ولم نره في تعاملها مع العراق !
وهكذا لم نره في تعامل الروس مع الشيشان .
ولا في تعامل اليهود مع المسلمين الفلسطينيين .
الصراع بين الناس لا يمكن حله إلا بالسلام !(27/10)
يقول الدكتور: "هذا الصراع بين الإنسان وأخيه لا يمكن تحويله أو إلغاؤه إلا بالسلام" (المرجع السابق، ص184) وكثيراً ما يردد الدكتور بأن (العنف لا يحل المشكلة) (سيكولوجية العنف ، ص152، وانظر : ص168، 211).
قلت : وهذا ليس على إطلاقه ! بل بعض الصراعات تُحل بالسلام وبالصلح ، وبعضها –وهي الأكثر- لا تحل إلا بالقوة والعنف !! وشاهد هذا من التاريخ القديم والمعاصر كثير لا يخفى على عاقل . فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا لو تعامل بمنهجك هذا مع الكفار لما استجابوا له، ولما خضد شوكتهم ، وكسر هيبتهم، وحل بديارهم .
ولقد أحسن القائل:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجب
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
فلما دعا والسيف صلتٌ بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وهكذا خلفاؤه لو فعلوا ذلك مع الفرس والروم وغيرهم لما ازدادوا إلا ضعفاً وتراجعاً .
وفي عصرنا الحاضر رأينا السلاح والعنف يحل كثيراً من الأمور والصراعات المستعصية، فعلى سبيل المثال: حادثة توحيد البلاد السعودية لم تتم -بعد توفيق الله- إلا بهذا ، وإلا لكنا شراذم شتى لو طبقنا فكرة الدكتور! وهكذا توحيد اليمن لم تحله المؤتمرات والحوارات ، إنما حلته أفواه الرشاشات وأزيز العربات والطائرات ! قال الشاعر:
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
وإن تلقه بالشر ينحسم
بل شاهد ذلك من الدول التي يزعم الدكتور أنها (متقدمة) واضح جداً، فهذه الولايات المتحدة لم يتحقق لها هذا الارتفاع الدنيوي في الأرض إلا بسبب خوضها للحروب الطويلة مع مستعمريها من الإنجليز وغيرهم .
ثم مع جاراتها في سبيل توحيد الولايات إلى أن تحررت، ثم تطورت، ثم سيطرت([14]) ولو أخذت بمبدئك هذا لما كان لها هذا الشأن .
والأمثلة كثيرة
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
إلغاء الحروب وقيام هيئة الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية هو حلم الأنبياء عند الدكتور!! .(27/11)
يقول :" إن الجنس البشري بلغ من النضج ما يجعله يحقق الحلم النبوي القديم ، في إلغاء مؤسسة العنف جملة وتفصيلاً ، وكل ما قرب إليها من قول وعمل، والمؤسسات الدولية اليوم هي نطف بدائية لأفكار عظيمة نادى بها الأنبياء" !! (سيكولوجية العنف، ص 151)
قلت : هذا من الافتراء على الأنبياء -عليهم السلام – الذين كان حلمهم ودعوتهم بنص القرآن هو أن يعبد الناس رب العالمين وحده، ولا يشركوا به شيئاً، قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
وما من نبي إلا وقد مارس (القتال) وأمر به لتحقيق هذا الحلم والهدف، لا كما يُلبّس الدكتور. قال سبحانه (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) ، وهذه سيرهم عليهم السلام حافلة بذلك .
أما المؤسسات الدولية فحاشا الأنبياء أن تكون هي أحلامهم ! وما هي إلا مؤسسات صليبية متسترة ، قامت لأجل خدمة مصالح دول الكفر –أخزاها الله، وهذا مما قد تبين صراحة لكل عاقل يتدبر مواقفها المخزية في العالم. ([15])
الإسلام (سلمي) عند الدكتور!
يقول الدكتور : محاولاً تقرير فكرته (الباطلة) بإلصاقها بالإسلام " التربية (السلمية) تنطلق من روح الإسلام ، التي تريد المحافظة على الإنسان وليس قتله وتدميره" (المرجع السابق، ص 199) .
قلت : بل التربية (الجهادية) هي التي تنطلق من روح الإسلام التي تريد أن تكون كلمة الله هي العليا في الأرض، وتقتل كل من (يعترض) ذلك، وآيات الكتاب العزيز وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تشهد لهذا، وهي مما يعلمه كل مسلم يقرأ القرآن، فلا نحتاج لبسطها للدكتور الذي لا تخفاه ! ولكنه يتابع هواه !
الدكتور يطالبنا بعدم رد الأذى !
يطالب الدكتور قراءه كثيراً بـ( عدم رد الأذى بالأذى) اتباعاً لمنهجه السلمي (المرجع السابق، ص52) .(27/12)
قلت : وهذا معارض للقرآن الكريم ! يقول الله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ويقول (وجزاء سيئة سيئة مثلها)
فرد الأذى بالأذى لا حرج منه، بل هو مطلوب أحياناً؛ إذا كان الأذى المقابل لا يندفع إلا به ، كما سبق .
ومع ذلك فالصفح والعفو ( في محله) أفضل، قال سبحانه (وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين* ولمن انتصر من بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل *إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) . فهل بعد قول الله من قول ؟ !
الجهاد ليس لنشر الإسلام عند الدكتور !
يقول الدكتور:" الجهاد ليس لنشر الإسلام ، بل لحماية الرأي الآخر، ولتطبيق مبدأ "لا إكراه في الدين" أي دين أو مذهب أو عقيدة ، تركاً أو اعتناقاً، فالجهاد هو لحماية التعددية داخل المجتمع الإسلامي" !! (سيكولوجية العنف، ص12-13) (وانظر : ص 128،155) .
وفي (ص 163) يفتري الدكتور على شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بأنه يرى بأن الجهاد في الإسلام دفاعي وليس هجومياً ! بل زاد في الافتراء زاعماً بأن الشيخ يرى أن الجهاد هو للدفاع (عن المظلوم) ! .
يقول هذا المفتري : " وقرر هذا الإمام ابن تيمية ، وهو أن الجهاد لم يُشرع لنشر الإسلام، بل للدفاع عن المظلوم، ويدخل ضمنه حماية حرية الرأي والعقيدة ، والتعبير داخل المجتمع الإسلامي" .
قلت : الدكتور لا يستطيع إلغاء الجهاد من الإسلام بالكلية، نظراً للأدلة الصريحة الواضحة الكثيرة الواردة في تقريره، ولو استطاع ذلك لفعله دون تردد!! لأن هذا الجهاد يؤرقه وينقض عليه فكرته الباطلة من الأساس ، ويجعلها غريبة على الإسلام والمسلمين .(27/13)
عندما علم الدكتور ذلك، لجأ إلى طريقة أخرى لإزاحة هذا الجهاد من طريقة، ومحاولة إذابته وتمييعه، وهي أنه وافق إخوانه من المنهزمين بأن الجهاد في الإسلام لم يُشرع إلا للدفاع عن الدولة الإسلامية ، لا لنشر الإسلام في الأرض، ثم زاد الدكتور انحرافاً أو لم يرضه صنيع إخوانه، فزعم أن الجهاد إنما هو للدفاع عن المظلومين في الأرض لا للدفاع عن الدولة الإسلامية !! فزاد ضغثاً على إبالة([16]).
وقضية الجهاد هل هو دفاعي أم هجومي ، هي من القضايا التي أثارها المنهزمون في العصر الحديث استجابة لضغوط الأعداء ، وادعوا أن فيها خلافاً ، وأن الصواب هو أن يكون الجهاد دفاعياً ، كل هذا استحياء من دينهم أن يعلنوه كما هو دون خوف أو مجاملة لأحد، وكأنهم يسترون عورة من العورات! والعياذ بالله.
وقد تصدى علماء المسلمين في هذا الزمان وبعض الكتاب لهذه الفكرة الباطلة (وهي أن الجهاد في الإسلام دفاعي فقط) ، وبينوا ما فيها من تلبيس وتمييع للدين، كالشيخ سليمان بن سحمان ، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبدالرحمن الدوسري، والشيخ ابن باز –رحمهُ الله-، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ الجعوان، والشيخ قادري، والشيخ عابد سفياني ، وسيد قطب، وأخيه محمد، وعبد الكريم زيدان، وغيرهم.
وخلاصة رأي علماء أهل السنة في هذه المسألة هو ما ذكره الشيخ الألباني –يرحمه الله- في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص 49)، حيث قال :" اعْلَمْ أن الجهاد على قسمين:
الأول: فرضُ عين، وهو صد العدو المهاجم لبعض بلاد المسلمين، كاليهود الآن الذين احتلوا فلسطين، فالمسلمون جميعاً آثمون حتى يخرجوهم .(27/14)
والآخر: فرضُ كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهو الجهاد في سبيل نقل الدعوة الإسلامية إلى سائر البلاد حتى يحكمها الإسلام، فمن أسلَمَ من أهلها فبها، ومن وقف في طريقها قوتِل حتى تكون كلمةُ الله هي العليا، فهذا الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، فضلاً عن الأول، ومن المؤسف أن بعض الكتاب اليوم ينكره، وليس هذا فقط، بل إنه يجعل ذلك من مزايا الإسلام!" .
أما افتراء الدكتور على شيخ الإسلام بأنه يرى أن الجهاد هو للدفاع ، فهو افتراء قديم من المنهزمين الذي طاروا فرحاً برسالة عن القتال منسوبة زوراً إلى الشيخ –رحمه الله- ذكر فيها هذه الفكرة الباطلة التي تخالف أقوال الشيخ وأفعاله الصريحة في نقضها. ولهذا فما زال العلماء -بين حين وآخر- يبينون كذب هذه الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام-رحمه الله-، وأترك المجال للشيخ علي العلياني ليزيد هذا الأمر تفصيلاً([17]) . قال –حفظه الله- :
"وزعم أهل الدفاع بأن شيخ الإسلام ابن تيمية المعروف بفضله وعلمه واطلاعه على مذاهب العلماء يوافقهم فيما ذهبوا إليه بأن القتال في الإسلام للدفاع! واعتمدوا في هذا الزعم على رسالة تباع في الأسواق بعنوان (قتال الكفار) طبعت مع مجموعة رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية عام 1368هـ وضربوا صفحاً عن أقوال ابن تيمية المتعلقة بالجهاد في سائر كتبه التي قد ثبتت نسبتها إليه يقيناً ككتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول وكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح وكتاب السياسة الشرعية ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يشيروا ولو من طرف خفي بأن لابن تيمية أقوالاً تخالف ما في رسالة القتال التي يعتمدون عليها ويذيعونها بين الناس، وهكذا الهوى المنحرف يفعل بأصحابه الأفاعيل !! .(27/15)
ورسالة القتال المنسوبة إلى ابن تيمية لم تصح نسبتها إليه فلم يذكرها أعرف الناس بكتب ابن تيمية وهو تلميذه المحقق ابن القيم ضمن مؤلفات ابن تيمية وقد أفرد لمؤلفات ابن تيمية رسالة خاصة عدد فيها أكثر ما ألفه ابن تيمية من كتب ورسائل وفتاوى فذكر ما يقرب من المائتين ولم يكن من بينها رسالة القتال([18])، وقد رفض هذه الرسالة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم جامع فتاوى ابن تيمية ولم يدخلها ضمن الفتاوى إذ قال([19]) (ولم أضع في هذا المجموع إلا ما أعرفه لشيخ الإسلام وقد أعرضت عن نزر قليل نسب إليه كمنظومة في عقائد ونقل محرف لترك البداءة بقتال الكفار وقد رد عليه الشيخ سليمان بن سحمان وأوضح تحريفاته في عدة كراريس) قلت : وقد ردّ على هذه الرسالة المنسوبة إلى ابن تيمية العالم المحقق الشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان المدرس بالمسجد الحرام رحمه الله رحمة واسعة وذلك بكتابه القيم (دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع) المطبوع في دار الطباعة والنشر في عَمّان، جاء في مقدمته ما يلي :(27/16)
(أما بعد فقد وقفت على رسالة منسوبة لشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه مضمونها أن قتال الكفار سببه المقاتلة لا مجرد الكفر وأنهم إذا لم يقاتلونا لم يجز لنا قتالهم وجهادهم على الكفر، وأن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار واستدل لما زعمه ببعض آيات شبه بها ولبس، وأولها على غير معناها المراد؛ بها مثل قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الآية وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) وقوله (لا إكراه في الدين) وحديثين حرفهما لفظا ومعنى وضرب صفحاً عن الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل التأويل والأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ حد التواتر في الأمر بقتال الكفار والمشركين حتى يتوبوا من كفرهم ويقلعوا عن شركهم، وهذه طريقة أهل الزيغ والضلال يَدَعون المحكم ويتبعون المشابة كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ولما رآها بعض من ينتسب إلى العلم وليس من أهل الدراية والفهم صادفت هوى في نفسه فطار فرحاً ظاناً أنها الضالة المنشودة وراجت لديه بمجرد نسبتها لشيخ الإسلام فسعى في طبعها ونشرها على كذبها وقشرها.(27/17)
وما علم المسكين أنه قد استحسن ذا ورم وأنها محض افتراء وتزوير على الشيخ وقد نزه الله شيخ الإسلام عن هذا الخطل الواضح والجهل الفاضح والخوض في شرع الله بغير علم ولا دراية ولا فهم، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحارث بن الأحوص لما قال له أتظن: أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: (يا حارثه إنه لملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله). فهذا الذي طبعها ونشرها ممن لا يعرف الحق إلا بالرجال فهو ملبوس عليه كما قال أمير المؤمنين. لأنه لو عرف الحق في هذا الباب لما راجت عنده هذه الرسالة ولقابلها بالإنكار والرد ونبذها نبذ النواة لأنها تتضمن إبطال فريضة دينية هي ذروة سنام الإسلام، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وقد جاء في حديث مرسل (أن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند حلول الشهوات) فبالبصر النافذ تندفع الشبهة وبالعقل الكامل تندفع الشهوة .(27/18)
وحيث أن ما جاء في هذه الرسالة مخالف لنصوص الكتاب والسنة ولما أجمعت عليه الأمة في الصدر الأول ومخالف أيضاً لما نص عليه شيخ الإسلام نفسه في كتبه المشهورة المتداولة المعروفة لدى الخاص والعام: الجواب الصحيح والصارم المسلول ومنهاج السنة والسياسة الشرعية وغيرها من كتبه التي سنذكر نصه فيها بالحرف ونحيل على الكتاب ليسهل الوقوف عليه لمن أحب ذلك، وليعلم أن هذه الرسالة مزورة عليه ولا تصح نسبتها إليه بوجه من الوجوه وأن من نسبها إليه فقد شارك المفتري في عمله وما يترتب عليه من إثم، وبما أن الله تعالى قد أوجب على أهل العلم البيان وعدم الكتمان في قوله عز من قائل (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ولما لم أر من قام بهذا الواجب ولا أعاره من العناية والأهمية جانباً إلا أنه بلغني أن شيخنا الشيخ سليمان بن سحمان قد رد عليها ولكن أصبح رده غير موجود، وخوفاً من أن يظن أن هذه المسألة من مسائل النزاع فضلاً عن أن يظن أنها من مسائل الإجماع فيغتر بها جاهل لا تفريق له بين الحق والباطل والحالي والعاطل أو يحتج بها ملحد منافق مجادل مشاقق تصديت لبيان ما فيها من فساد وتحريف وإلحاد ... . وقد ارتكب واضع هذه الرسالة ومفتريها بعمله هذا أنواعاً من المحرمات والعظايم؛ فمنها الفرية على الله تعالى بأن هذا شرعه ودينه الذي شرعه لعباده وقد قال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم) ، قال قتاده هي لكل مفتر إلى يوم القيامة . ومنها الإلحاد في آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وتأويلها على غير معناها المراد بها.(27/19)
ومنها الكذب على إمام من أئمة المسلمين ونسبة ما لم يقل إليه وقد نقل فيها بعض عبارات من الصارم المسلول وغيره من كتب الشيخ تصرف فيها أسوأ التصرف ليوهم أنها من كلام الشيخ ولكن ركاكة مبانيها وتناقض عباراتها ومعانيها يدل دلالة ظاهرة على أنها لم تصدر من كاتب قدير فضلاً عن عالم نحرير كشيخ الإسلام رحمه الله تعالى، إنه لو فرض أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أو غيره من أهل العلم المقتدى بهم غلط في مسألة من المسائل مع قيام الدليل من الكتاب والسنة على خلاف ما قاله لم يوافق على ذلك لأنه ليس بمعصوم من الخطأ فهو أسوة غيره من المجتهدين الذين يصيبون وقد يخطئون وهم مأجورون على اجتهادهم في الصواب والخطأ فمن أصاب فله أجران أجر على اجتهاده في تحري الحق وأجر على إصابته، ومن أخطأ فله أجر على اجتهاده في تحري الحق وخطؤه مغفور له؛ لما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) رواه البخاري. ولكن هذه المسألة ليست من أفراد المسائل التي ربما يحصل فيها الاشتباه ويقع فيها الخطأ ويكون فيه مجال للاجتهاد بل هي أصل من أصول الدين وفرض من فروضه ينبني عليها كثير من أحكامه ولا مجال للاجتهاد فيها لوضوح أدلتها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم([20])، وقد اطلعت على الرسالة المذكورة فاتضح لي ما اتضح للشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله من أن الرسالة منحولة على الشيخ وفيها عبارات كثيرة مأخوذة من كتبه، ولقد حرص واضعها على عدم ذكر جهاد الابتداء والطلب بينما الناظر في مؤلفات ابن تيمية المشهورة يجد أن قوله في الجهاد لا يخالف إجماع المسلمين بل يوافقهم وقد نقل بنفسه الإجماع كما تقدم قريباً ونص على وجوب جهاد الابتداء والطلب في مواضع من كتبه فقال في كتابه القيم الجواب الصحيح ( ... ..(27/20)
فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعاً فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعاً لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى ... )([21]) وقال في كتابه الصارم المسلول ( ... . لما نزلت براءة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كَفّوا أم لم يكفوا) ([22]).
وبهذا تظهر براءة ابن تيمية من تلك الرسالة المخالفة للإجماع ولأقواله هو بنفسه)) ([23])
مبالغته في الاستدلال بقصة ابَنْي آدم –عليه السلام- على مذهب شيخه الفاسد:
كما فعل شيخ جلبي: جودت سعيد من الغلو في قصة ابَنْي آدم –عليه السلام- والاستشهاد بها على مذهبه الفاسد، وبنى على هذه القصة كتابه المشهور (مذهب ابن آدم الأول)، كذلك صنع تلميذه جلبي، فَحَمَّل هذه القصة من المعاني (الباطلة) مالا تحتمله، ومن ذلك قوله: "عندما استخدم القرآن في قصة ولدي آدم كان يهدف إلى تدشين أسلوب جديد في الصراع الإنساني، وحلّ النزاعات، فبعد أن أعلن إبراهيم عليه السلام إلغاء القربان الإنساني والتضحية به، حمل مع كل إمكانات الانتقال من العالم العتيق وفكره المتخلف، إلى العالم الجديد في تدشين آليات نفسية جديدة، لحلَّ نزاعات الجنس البشري، فولد آدم الأول أراد إزالة فشله، في عدم قبول القربان منه، بالتصفية الجسدية للطرف الآخر، كأسلوب لحل المشكلات (لأقتلنَّك) بالتشديد، ولكن ابن آدم الثاني الذي يمثل حركة انتقال الإنسان من مرحلة الرعي والصيد إلى مجتمع الزراعة والقانون، شرح موقفه بشكل واضح، إنه تخلى عن القوة من طرف واحد، في حركة ذكية لفهم طبيعة التطور الجديدة في مسار الحياة الإنسانية.(27/21)
في قصة ولدي آدم يجتمع الاتجاهان (الرَّجعي) الذي يريد حلّ مشاكله (بيده) فيقتل، و (التَّقدمي) الذي يرى في تدشين مؤسسة (الدولة) الفرصة التاريخية لأمن المجتمع، ونزع العنف من يد الأفراد، واحتكار الدولة له، وتطبيق القانون، فيقفز الوجود الإنساني إلى عتبة جديدة في تطوير نفسه، في التّخلي عن العنف، داخل مؤسسة الدولة، سواء في مقاومتها، أو الوصول إليها، فلا تزال اللاشرعية باللاشرعية، وهي حركة الأنبياء في التاريخ،(سيكولوجية العنف، ص216-217).
قلت: هذا من مبالغاتك وتهويلاتك في سبيل نصرة مذهبك الفاسد! ويكفي للرد عليك أن يُقال بأن الذي قصَّ هذه القصة علينا، وهو الله سبحانه وتعالى، هو الذي فرض الجهاد وقتال الكفار! فكيف تزعم أن الله أراد بهذه القصة (تدشين أسلوب جديد في الصراع الإنساني وحل النزاعات)؟ أليس هذا من الكذب والتلبيس على القارئ؟! عندما حملت هذه القصة القرآنية على معانٍ باطلة قد استقرت في نفسك، وهذا من التفسير بالهوى .
فابن آدم (المقتول) لم يقتل أخاه بعد أن علم بنيته في قتله تورعاً منه رحمه الله أن يبوء بإثم قتل النفس بغير الحق الأول في تاريخ البشرية ، فتُحمل عليه أوزار من تبعه في هذه السنة السيئة، كما قال صلى الله عليه وسلم : ((ما من نفس تُقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل))([24])
الدكتور يقول: مفاهيمنا ستسود العالم !
يقول الدكتور: "هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية؛ لأنها صوت الحفاظ على الجنس البشري" (المرجع السابق ،ص 91)
قلت: يقول الله تعالى (تلك أمانيّهم) ! ويقول (ليس بأمانيكم) !
ويقول الشاعر:
منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
([3]) !!(27/22)
([4]) ذكر ابن القيم في الزاد (3/551) : أن هذا كان عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من تبوك وقال : ((بعض الرواة يهم في هذا ويقول : إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهذا وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام)).
([5]) الفتنة : الشرك، ولكن هذا من تحريفات الدكتور للآيات حتى توافق هواه ! _كما سيأتي-.
([6]) سيكولوجية العنف ... (ص 123-126).
([7]) وانظر للزيادة : كتاب "الورد المقطوف في وجوب طاعة ولاة أمر المسلمين بالمعروف " للأخ فوزي الأثري، تقديم الشيخ صالح الفوزان.
([8]) قلت: وهذا الافتراء في أن غايات الجهاد اقتصادية تلقفه جلبي من المستشرقين وأذنابهم، الذين نشروا هذه الفكرة الخبيثة محاولين تشويه الجهاد الإسلامي. يقول صاحب كتاب (تاريخ العرب المطول) (ص195): ((لم تكن الحماسة الدينية بل الحاجة الاقتصادية هي التي دفعت بمعاشر البدو الذين تكونت منهم أكثر جيوش الفتح إلى ما وراء تخوم البادية..))! وانظر في الرد عليه: رسالة (افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي) للأستاذ عبد الكريم علي باز (ص 53 وما بعدها) ، وكذا انظر كتاب (افتراءات حول غايات الجهاد) للأستاذ محمد نعيم ياسين.
([9]) يقول الشيخ علي بن نفيع العلياني في أهداف الجهاد في الإسلام : (الهدف الرئيسي هو تعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً) (ص158)، ثم ذكر أهدافاً أخرى .
([10]) العقيدة الطحاوية (ص 387، بتحقيق الألباني) .
([11]) مجلة المنار ( ج 2 م 34 ص141) .
([12]) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية (ص 371) .
([13]) المرجع السابق (ص 374)
([14]) انظر نماذج لحروبها في كتاب (تاريخ الأمريكيتين ) للدكتور عبد الفتاح أبو علية.(27/23)
([15]) وليتك تراجع كتاب (مفتريات اليونسكو على الإسلام) لمحمد السمان، لتعلم حقيقة هذه المؤسسات .
([16]) أي بلية على بلية، والضغث هو القبضة من الحشيش، مختلطة الرطب باليابس، والإبالة الحزمة من الحطب. (انظر: مجمع الأمثال للميداني، 1/ 523-524)
([17]) وقد بين هذا – أيضاً- سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله- في محاضرته (ليس الجهاد للدفاع) المنشورة ضمن مجموع فتاواه (3/171 وما بعدها) ، وأثنى على رسالة الشيخ ابن حمدان –رحمه الله- التي ألفها في إبطال نسبة رسالة (القتال) لشيخ الإسلام.
([18]) انظر مؤلفات ابن تيمية لابن القيم بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد –دار الكتاب الجديد- بيروت.
([19]) انظر مجموع الفتاوى جـ 8 ص 5
([20]) دلالة النصوص والإجماع لابن حمدان ص 1-5
([21]) الجواب الصحيح 1/75 .
([22]) الصارم المسلول ص 112، وانظر كتاب (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية) للدكتور محمد خير هيكل (1/768) ، حيث ذكر نصوصاً أخرى عن شيخ الإسلام تؤيد هذا
([23]) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ( ص 342 – 346) .
([24]) أخرجه البخاري (3335) ومسلم (1677) .(27/24)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الثاني: تحريفه للآيات والأحاديث والمعاني الشرعية:
الانحراف الثاني: تحريفه للآيات والأحاديث والمعاني الشرعية:
وهذا من الانحرافات التي استقاها واستفادها جلبي من شيخه جودت سعيد، حيث أن هذا الأخير قد تميز وتفرد في تحريف معاني النصوص الشرعية بما يوافق هواه، غير عابئ بمعانيها الحقيقية التي أجمع عليها المسلمون، وليس المقام مقام تبيين ذلك من كلام جودت لأن له موعداً لن نخلفه إن شاء الله.
أما تلميذه النجيب فسأذكر لك شيئاً من تحريفه للتفاسير والمعاني الشرعية بما يبين لك مقدار تعظيم هذا الرجل للنصوص ، حيث يقوم بمهارة بتحريفها ولي أعناقها زاعماً أنها تشهد للمعنى الفاسد الذي تقرر في ذهنه مسبقاً، وإليك نماذج من ذلك:
أولاً: تحريفه لآيات الكتاب العزيز:
مضى تفسيره (الفتنة) في قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) بأنها الإكراه، وإنما هي الشرك([25])
ومن ذلك : قوله: (يجب أن نعترف أن الحوار الفعَّال النشط يحتاج دون شك إلى أرضية فكرية خصبة، وطاقة نفسية، وتحرر فكري، وانكسار قيد التقليد، ولكنه مع هذا يبقى مفتاح دخول وتجاوز العقبة (فلا اقتحم العقبة)) ! (سيكولوجية العنف، ص 98)
قلت : (العقبة) فسرها الله بقوله بعدها (وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يومٍ ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
ومن ذلك : قوله: (بقدر نمو الوعي والتراكم المعرفي ، والسمو الأخلاقي، تتراجع وتضمر مؤسسة العنف، حتى يتخلص الجنس البشري من العنف كلية (حتى تضع الحرب أوزارها) ! (سيكولوجية العنف، ص 120) .(28/1)
قلت: آية (حتى تضع الحرب أوزارها) ليس معناها كما يزعم هذا الضال نهاية الحرب (أو الجهاد) من العالم !! بل معناها يشهد له ما قبلها، قال تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعدُ وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها) قال ابن كثير –رحمه الله- : ((حتى إذا أثخنتموهم) أي أهلكتموهم قتلاً (فشدوا الوثاق) الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجاناً، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه) ([26]) وقال ابن عباس (حتى تضع الحرب أوزارها): حتى لا يبقى أحد من المشركين([27]) وقال قتادة: حتى لا يكون شرك([28]).
قلت : بل جاء في تفسير هذه الآية ما يُكذِّب هذا الفهم الفاسد الذي فهمه الدكتور، فقد قال النواس بن سمعان –رضي الله عنه- فُتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحٌ فأتيته فقلت: يا رسول الله ، سُيِّبت الخيل ووضعوا السلاح ، فقد وضعت الحرب أوزارها وقالوا: لا قتال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كذبوا الآن جاء القتال، الآن جاء القتال، إن الله جل وعلا يزيغ قلوب أقوام يقاتلونهم ويرزقهم الله منهم؛ حتى يأتي أمر الله على ذلك، وعقر دار المؤمنين الشام)) ([29])
فحق لنا بعد هذا أن نُكذِّب الدكتور على فهمه السقيم !
ومن ذلك : قوله تحت عنوان (المغزى العميق لتأسيس المفهوم السلمي في المجتمع) : (إن القرآن استخدم كلمات جميلة حينما اعتبر أن الذي يلقي بالسلام يجب عدم اعتباره كافراً (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) (سيكولوجية العنف، ص 133) .(28/2)
قلت: وما دخل هذا بما تدندن حوله؟! فالآية تطالب المؤمنين بأن يحكموا على الأشخاص بظواهرهم، فمن سلَّم علينا لا يجوز لنا أن نرميه بالكفر قبل أن نتبين ذلك منه. وليس فيها أي دليل أو إشارة إلى ما تردده من مفهوم السلم الذي يلغي الجهاد الشرعي.
ومن ذلك : قوله : (ربما لا يوجد كتاب كالقرآن استخدم مصطلح (ظلم النفس) ؛ لأن وضع اليد على هذه البؤرة الحساسة يقود إلى حل مشكلة الإنسان والتخلص من علاقات القوة، والعودة إلى العلاقات الإنسانية، عندما يعتاد الإنسان أن يلغي آلية لوم الآخرين (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)) (سيكولوجية العنف، ص 181-182).
قلت: تفسير الآية هو أن الإنسان شهيد على نفسه بما عمل، وسيشهد عليه سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه يوم القيامة ، (ولو ألقى معاذيره) أي ولو جادل واعتذر بباطل فلن يُقبل منه([30]) .
فليس في الآية ما يحاول أن يوهمنا الدكتور إياه ؛ من عدم لوم الآخرين مهما خالفوا الحق وجانبوا الصراط المستقيم !
ومن ذلك : قوله بعد أن تحدث عن أهمية (التعددية الفكرية) في المجتمع ! قال بأن ذلك (بداية تأسيس مناخ يسمح للمجتمع بالتعبير والوجود والنمو المتبادل (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً))!!(سيكولوجية العنف، ص244-245)، وهذه من أغرب تحريفات الدكتور للآيات ! فكل مسلم يعلم بأن الآية خطاب من الله لموسى عليه السلام بأنه سيشد عضده بأخيه هارون، ويمده بالسلطان والحجة لمواجهة فرعون وقومه، والدكتور حرَّفها إلى أن الأفكار المتعددة في المجتمع المسلم (مهما كانت !!) يشد بعضها بعضاً!
ألا بعداً لهذا التحريف !
قال سبحانه محذراً الدكتور ومن شاكله ممن يحرفون آيات الله ويفسرونها بأهوائهم (إن الذين يلحدون في آيات الله لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة ، اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) . قال ابن عباس : الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه([31]).(28/3)
قلت : ومن صنع هذا الصنيع بكلام الله –تعالى- فقد شابه اليهود الذين (كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) فليحذر الدكتور أن يصيبه ما أصابهم .
ثانياً : تحريف الدكتور للسنة
من ذلك : قوله عن حديث :(( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ([32]): (يظن بعض الناس أن هذا الحديث يخص المسلمين باعتبار أنه قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . في محاولة لفهم عنصري مغلق ... الخ) (سيكولوجية العنف، ص 172).
قلت : فالدكتور يرى بأن هذا الحديث عام لكل الناس! فلوا التقى مسلم بكافر بسيفيهما ، فالاثنان في النار وإن كان الكافر حربياً !! وهذا ما لم يقل به أحد من المسلمين([33]) ، وهو من الشذوذات الكثيرة لهذا الرجل.
ثالثاً: تحريفه للمعاني الشرعية
من ذلك : قوله (حق الفيتو: الشرك الأكبر، هو الذي يعيق ولادة عالم سليم ... ) ! (سيكولوجية العنف، ص159).
فالشرك الأكبر عند الدكتور هو حق الفيتو ! وهذه من آثار (العصرنة) التي قلبت مفاهيم الرجل ! ولكنه عند أهل السنة : ((أن يجعل الإنسان لله نداً في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته)) ([34]).
ومن ذلك : قوله: (الحج إذن احتشاد تظاهرة الإنسان لإيقاف تقديم القرابين البشرية، وتدشين السلام العالمي) !! (سيكولوجية العنف، ص210) (وانظر ص227).
قلت: انظر -وفقك الله- كيف تضخمت فكرة (السِّلم) في ذهن الدكتور حتى لم يعد يرى سواها أينما اتجهت به قدماه! وتأمل كيف (جيَّر) الركن الخامس من أركان الإسلام في سبيل دعم هذه الفكرة الباطلة ، زاعماً أن الحج إنما فُرض لإيقاف (الحرب)! متغافلاً عن أن من فرض الحج لعبادته قد فرض الجهاد أيضاً! فنعوذ بالله من التلبيس .
([25]) انظر : زاد المسير (3/357)
([26]) تفسير ابن كثير (4/176) . ط مكتبة العلوم والحكم
([27]) زاد المسير (7/397) .
([28]) تفسير الطبري (13/42) .(28/4)
([29]) أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان، وصححه الأرنؤط في (الإحسان) (برقم 7307) .
([30]) انظر تفسير ابن كثير (4/449) . ط مكتبة العلوم والحكم .
([31]) تفسير ابن كثير (4/104) ط مكتبة العلوم والحكم
([32]) أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888)
([33]) انظر : فتح الباري (13/34) وقد حمل العلماء ((الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل –أي من المسلمين- بغير تأويل سائغ، بل بمجرد طلب الملك)). (المرجع السابق).
([34]) انظر : معارج القبول (2/483) وفتاوى اللجنة (1/516-517)، ورسالة (بعض أنواع الشرك الأصغر) للدكتور عواد المعتق (ص9) .(28/5)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الثالث: دعوته إلى ما يسمى (الحرية الفكرية) !
الانحراف الثالث: دعوته إلى ما يسمى (الحرية الفكرية) !
يقول جلبي معلقاً على قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) : (إن الإسلام – بكلمة ثانية – سوف يجاهد من أجل أن يسمح للطرف الآخر الذي لا يؤمن به بالبقاء ، بل بالمحافظة عليه ، بل بحمايته من أجل أن يعبر عن رأيه حتى ولو كان معارضاً للإسلام) (سيكولوجية العنف، ص56)، ويقول هازئاً من حد الردة في الإسلام!: (لنتصور سيارة تملك إمكانية المشي للأمام فقط، بدون إمكانية الرجوع للخلف، إن هذا يمنع إمكانية المناورة، بل سيجعل حركة السيارة قريبة من المستحيل ... الخ ) (المرجع السابق ، ص 127).
ويقول أيضاً: "المجتمع الإسلامي المكان الوحيد المسموح به بممارسة كل الأفكار، والتقاء كل الثقافات بالتعايش والتعبير" (المرجع السابق، ص234)
ويقول أيضاً: "إن صلاح الكون وجماله بالتنوع والتعددية" (المرجع السابق، ص239).
ويقول أيضاً: "إن المحافظة على الآخر هي محافظة على الذات" (المرجع السابق، ص244).
قلت : هذه بعض عبارات الدكتور في تقرير الحرية الفكرية في المجتمع المسلم، وأن الإسلام يقبل الاختلافات بل يحميها!، وهذا يعني أن الإسلام –والعياذ بالله- يقبل أن يُعلن الكافر كفره، والمبتدع بدعته دونما حساب أو عقاب !! وهذا لا يقول به مسلم يفقه دينه.(29/1)
ومشكلة جلبي ومن يرى رأيه ممن يسمون بالمفكرين المسلمين أنهم لا يفرقون بين إرادة ومشيئة الله الكونية وبين إرادته ومشيئته الشرعية. فهم عندما يرون الكفر والبدع والانحرافات واقعة في المجتمع المسلم في زمان ما يظنون -بجهلهم- أن الله يرضى بهذا وأن الإسلام يُقره، جاهلين أن الأمر قد يقدره الله (كوناً)؛ لأنه لا شيء يخرج عن قدرته سبحانه، ولكنه تعالى لا يرضاه شرعاً؛ كما قال تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر) فالله لا يرضى الكفر (شرعاً) ، رغم وقوعه في الأرض بقدرته (الكونية) .
فوقوع الكفر والانحراف في الأرض ليس مسوغاً للمسلم أن يرضى به أو يقره أو يفرح به ! بل مطلوب منه أن يكافحه بما استطاع .
فهولاء المفكرون عندما يقرؤون التاريخ الإسلامي ويرون أن الفرق المبتدعة؛ كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة، بل والفلاسفة، وغيرهم منتشرة في فترة من الفترات، يتخذون من هذا الأمر مدحة للإسلام وأنه يقر الاختلافات الفكرية –زعموا- !! متغافلين عما سبق ذكره.
ومما يشهد لهذا أنه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة للمسلمين، لم يكن صلى الله عليه وسلم يرضى بهذا الذي رضي به المفكرون، بل حذر صلى الله عليه وسلم من الاختلافات ومن البدع، وأمر بقتال مشركي العرب، وبقتل المرتد –كما سيأتي- وبقتال الخوارج ... الخ. فأي حرية فكرية يزعمها الدكتور ؟!
ولا يظنن ظان أن هذا مما يُذم به الإسلام –والعياذ بالله- ، بل هذا مما يُمدح به ؛ لأنه يقود معتنقيه إلى رضا الله –سبحانه- ، ويباعدهم عن الكفر ويحذرهم منه، نفعاً لهم، وقبل هذا كله: ينبغي أن يعلم المسلم أن لله الأمر كله، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد .
أما اليهود والنصارى من أهل الكتاب فإنهم إنما يُقَرون على كفرهم إذا رضوا بدفع الجزية، والتزام عدم دعوة المسلمين لكفرهم ، ولهم الحماية بموجب عقد (الذمة) بالشروط التي بينها العلماء ، فأي تعبير للرأي المخالف يدعيه الدكتور ؟ !(29/2)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الرابع: أن الدكتور كثيراً ما يردد : بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد!!
الانحراف الرابع: أن الدكتور كثيراً ما يردد : بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد!!
فمن ذلك قوله :" إن الحقيقة النهائية والمطلقة والشمولية لن يملكها أحد" (سيكولوجية العنف، ص243). ويقول :" ليس كل رأي يصدق في قول الحقيقة أو يرويها أو يزعم قنص الحقيقة الحقيقية النهائية المطلقة، أو يحتكر الوصاية على الحقيقة" (المرجع السابق، ص240) (وانظر: ص101،109)
قلت: هذه الفكرة من الأفكار (الكفرية) –والعياذ بالله- التي تورط بها الدكتور؛ لأنها تساوي بين الحق والباطل، والإسلام والكفر، بدعوى أننا لا ندري في أيٍ تكون (الحقيقة)!! .
فإن كان الدكتور يشك في (إسلامه) –والعياذ بالله- ويظن أنه قد لا يكون فيه الحق! فنحن –ولله الحمد- لا نشك في أن الإسلام هو دين الله الحق الذي يجب على كل إنسي وجني أن يدين الله به، ومن لم يعتنقه فهو كافر.
وأما دعوى (نسبية الحقيقة) فهذه دعوة قد تلقفها الدكتور من الغربيين، انظر لردها مقالاً مفيداً للأستاذ غازي التوبة في مجلة المجتمع (عدد 1337) بعنوان (بين نسبية الحقيقة والنص القطعي الثبوت والدلالة) ([35]) جاء فيه قوله:
(والآن أعود إلى نسبية الحقيقة التي تتصادم مع النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يؤدي إلى ثبات الحقيقة، وأتجاوز الظروف التاريخية التي جعلت نسبية الحقيقة جزءاً أساسياً من ثقافة الغرب، التي تختلف عن ظروفنا التاريخية وأتساءل: هل حقاً ليس هناك ثبات في الحقيقة؟ ومن أين جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في ثقافتنا الإسلامية؟ وما سنده الواقعي في صيرورة الكون؟(30/1)
إن الإجابة عن الأسئلة السابقة تقتضي أن نقرر أن هناك ثباتاً في الحقيقة، وإلا لما سميت حقيقة، وبشكل أدق جاء الثبات في الحقيقة من ثبات بعض النواميس التي تحكم الكون، ومن الفطرة التي قال الله عنها : (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) ([36]) .
ومن مظاهر الفطرة الثابتة على مدار التاريخ: التعبد، وحب التملك، والتجاذب بين الذكر والأنثى، وإعلاء قيم الصدق والأمانة، وإسفال قيم الكذب والخيانة.. الخ لذلك جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الشريعة ليعبر عن تلك الحقائق الثابتة المنغرسة في الفطرة، فكانت أحكام العقيدة وأحكام العبادات ثابتة، لأنها تتعلق بفطرة التعبد، وكانت أحكام فرضية الزكاة وتحريم الربا، وتشريع حد السرقة ثابتة، لأنها تتعلق بفطرة حب التملك، وكانت أحكام الخطبة والزواج والطلاق ثابتة لأنها تتعلق بفطرة التجاذب بين الذكر والأنثى، وكانت أحكام مدح الصادقين وإجزال مثوبتهم ثابتة لأنها تتعلق ببعض الأخلاق الفطرية.
وفي النهاية نقول: طالما أن هناك فطرة ثابتة لا تتغير فهناك حقائق ثابتة لا تتغير، وهذا ما قادت الظروف التاريخية أوروبا لإنكاره، وليس بالضرورة أن يكون الصواب مع أوروبا).
قلت: ومما يشهد لهذا ما حكاه الله عن المشركين الذي كانوا يغيرون الحقائق ويدعون نسبيتها ! ويحللون الشهر المحرم عاماً ويحرمونه عاماً آخر، فأنكر الله عليهم ذلك التلاعب بالحقائق ، وقال (إنما النسيء زيادة في الكفر يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله زُين لهم سوء أعمالهم).(30/2)
والدكتور جلبي قد زُين له سوء عمله ، فأصبح يتلاعب بالحقائق ، ويشك فيها، فحق لنا بعدها أن نتلو عليه الآيات الربانية التي فيها ذم (الشكاكين)؛ كقوله تعالى عن الكفار (وإنهم لفي شك منه مريب) وقوله (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) ؛ لعله يتنبه إلى خطورة هذه الفكرة التي تورط بها؛ لأجل الدفاع عن أهل الباطل والكفر والضلال.
ونعوذ بالله أن نكون في (شك) من ديننا، أو أن نساوي بين الإسلام والكفر ، وبين الحق والباطل .
([35])و انظر –أيضًا -رسالة الشيخ ابن باز – رحمه الله - (لا أخوة بين المسلمين والكافرين، ولا دين حق غير دين الإسلام)، في مجموع فتاواه (2/173 وما بعدها) .
([36]) سورة الروم: 30 .(30/3)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الخامس , السادس , السابع , الثامن , التاسع و العاشر
الانحراف الخامس : قوله الشنيع بأن النصوص لا تحل المشاكل !!
يقول جلبي عن معركة صفين : "إن التحاكم القديم إلى النصوص لم يحل المشكلة، إن لم يكن قد زادها تعقيداً ؟ " !! (سيكولوجية العنف، ص42)
قلت : نعوذ بالله من (الكفر) و (الضلال) ! فما أشنعها من كلمة يا دكتور ، كيف تكون نصوص الكتاب والسنة لا تحل المشاكل والله قد أمرنا عند الاختلاف بالرجوع إليها ؟! قال سبحانه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكم خير وأحسن تأويلاً) "وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتابُ والسنة"([37]) .
وقوله تعالى (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) يدل على "أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر"([38]) .
قلت : وقد أخبر الله تعالى عن المنافقين بأنهم هم الذين لا يريدون حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ويفرون منهما، ويلجئون إلى حكم (الطاغوت) ، أياً كان هذا الطاغوت: رئيس قبيلة ، أو حاكم دولة، أو قانوناً، أو سنناً وتاريخاً –كما يردد جلبي!- أو غيرها من الطواغيت المختلفة .
قال تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً) ([39]).
فنعوذ بالله أن نكون من أهل (النفاق) .
الانحراف السادس: دعوته إلى الديمقراطية (الكفرية) :
(انظر كتابه السابق، ص12،56) .(31/1)
قلت : والديمقراطية فكرة جاهلية كافرة، تجعل التشريع بيد البشر، وتقر الكفر وترضى به ، وتفرق الأمة ... الخ مفاسدها وكفرياتها التي بينها العلماء والكتاب([40]).
الانحراف السابع: ادعاءاته المتكررة تبعاً لشيخه بأن الله قد أمرنا أن نأخذ أحكامنا من النظر في أحوال الماضين والنظر في الكون:
وقوله الشنيع ((بانتهاء النبوة))!! (انظر : ص49 من كتابه السابق).
قلت: هذه الفكرة (المادية) قد استقاها جلبي من شيخه جودت سعيد، الذي ما فتئ يرددها في كتبه، محاولاً صرف الأمة عن (الوحي) إلى (السنن) كما يزعم! وقد ناقشها –بما لا مزيد عليه- الأستاذ عادل التل في كتابه (النزعة المادية في العالم الإسلامي) فليراجع. وهي فكرة (كفرية) تُحَقر الكتاب والسنة وأنه لا حل فيهما للبشرية الآن، إنما انتهى دورهما !! وبقي دور (السنن) المستمرة! .
فهي فكرة يكفي ذكرها ليتبين بطلانها لكل مسلم، يعظم الكتاب والسنة، ويتبرأ من (الكفر) وأهله.
الانحراف الثامن: غلوه في مدح الغرب
وزعمه بأن حضارته "ليست حضارة مادية كما يزعم البعض" ! بل يراها جلبي حضارة روحية أيضاً!! وفي مقابل هذا يقول عنا بأننا "لا نملك نحن حضارة روحية" !! (المرجع السابق، ص 241-242) .
قلت : حبك الشيء يعمي ويصمّ !
وقارن ما قاله هذا المغرم بالغرب بما قاله الشيخ محمد قطب –وفقه الله- : " المسلم إذا عرف دينه وعرف تاريخه سينظر إلى الحضارة الغربية نظرة الأجيال الأولى من المسلمين للحضارات الجاهلية التي كانت تحيط بهم، فيها أشياء نافعة يستفيد منها من أجل ترسيخ قدمه في الأرض، وفيها مفاسد ومهاوٍ وموبقات، فيأخذ النافع الذي يستفيد به، ويطوعه لعقائده ولقيمه ولمبادئه ولمفاهيمه، وينظر باستعلاء المؤمن إلى المفاسد والمهاوي والموبقات، فيبتعد عنها ويحاذر أن يقع فيها ... فيكتب له الفلاح في الدنيا والآخرة"([41])(31/2)
قلت: فقارن بين نظرة الكاتب المسلم المعتز بدينه، ونظرة المعجب بالغرب، الظان بدينه وحضارته ظن السوء .
ومفاسد الغرب وتهاويه في الأمور الأخلاقية وأمور القيم لا يحتاج لكثير عناء لإثباته، فهو واضح وضوح الشمس، لكن العيون الرمد تعمى عنه! .
" وعين الرضا عن كل عيب كليلة "
الانحراف التاسع: عدم تأدبه مع نوح – عليه السلام –
وذلك بقوله عنه : " نوح عليه السلام فشل في مهمة تغيير المجتمع "!! (في النقد الذاتي،ص 71)
قلت: هذه كلمة شنيعة في حق نبي الله نوح –عليه السلام- ، الذي لم يفشل –كما يزعم الدكتور-، بل عمل ما كلفه الله به؛ وهو تبليغ رسالته إلى قومه، كما قال سبحانه (وما على الرسل إلا البلاغ المبين) ، فهذه هي مهمة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وقد أدوها بنجاح لا فشل فيه، وأما هداية الخلق أو غيرها، فليست من مهماتهم ، كما قال سبحانه (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) .
وأذكر أن بعض العلماء قد كفروا الدكتور الكويتي أحمد البغدادي عندما استخدم هذه العبارة في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم .
فهل يتعظ الدكتور، ويتورع عن إطلاق هذه العبارة الشنيعة؟!
الانحراف العاشر : دفاع الدكتور عن الزنادقة والملحدين في تاريخنا !
ومن ذلك : أنه كتب مقالاً في جريدة الشرق الأوسط (عدد 7532) بعنوان (أحرقوا أحياء لآرائهم) ، يشنع فيه على خالد القسري لذبحه الزنديق الجعد بن درهم شيخ الجهمية، ويدافع فيه عن السهروردي الملحد وعن الحلاج!! الذي قال فيه الذهبي –رحمه الله- :"مقالته نبرأ إلى الله منها؛ فإنها محض الكفر، نسأل الله العفو والعافية، فإنه يعتقد حلول البارئ –عز وجل- في بعض الأشراف، تعالى الله عن ذلك"([42])(31/3)
قلت: وهذا الانحراف من الدكتور سببه اقتناعه بفكرة حرية الفكر والتعبير عن الرأي ، مهما كان هذا الرأي ، كفرياً أو مبتدعاً!! كل هذا لا يهم عند الدكتور –كما سبق- ، ولهذا فهو يدافع عن كل زنديق أو ملحد أظهر زندقته وإلحاده.
وسيأتيك أنه يعارض حد الردة !! نعوذ بالله من الضلال
([37]) تفسير ابن كثير (1/419).
([38]) المرجع السابق .
([39]) انظر تفسير الآية، وانظر ما ذكره شراح كتاب (التوحيد) في هذه الآية، في الباب الذي عقده الشيخ محمد بن عبدالوهاب لأجلها.
([40]) انظر على سبيل المثال: (خمسون مفسدة جلية من مفاسد الديمقراطية) لعبد المجيد الريمي، و (الديمقراطية في الميزان) لسعيد عبد العظيم، و (الإسلاميون وسراب الديمقراطية) لعبد الغني الرحال.
([41]) المستشرقون والإسلام (ص 305-306) .
([42]) السير (14/351)(31/4)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الحادي عشر: إنكار الدكتور لحد الردة !!
الانحراف الحادي عشر: إنكار الدكتور لحد الردة !!
يقول :" الخطأ يحق له أن يعيش ، ولا يُقتل الإنسان من أجل آرائه مهما كانت " !! (سيكولوجية العنف، ص148).
ويقول معترضاً على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بقتل المرتد : ((في المجتمع الإسلامي مجتمع اللاإكراه لا يُقتل إلانسان من أجل آرائه أيا كانت الأفكار ، سواءً تركاً أو اعتناقاً ... إلى أن قال : وهذا يفند الاتجاه العام للمفهوم السائد بقتل المرتد؛ لأن المرتد هو الذي يعتنق مبدأ ثم يتركه، فكيف تسمح الحرية الفكرية لاعتناق مبدأ ثم تحبسه فيه ؟! إنه لا حرية فكرية مع هذا الحجر ، فهذه المقولة –أي قتل المرتد- تدشن العصبية الفكرية باتجاه واحد ... الخ ما قال " ! (المرجع السابق، ص126-127) .
قلت : قتل المرتد ليس من المفاهيم السائدة يا دكتور، بل هو حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنك تتبع هواك، فما وافقه أخذت به ولو لم يكن من دين الإسلام ، وما عارضه رفضته ولو جاءت به النصوص القطعية والعياذ بالله.(32/1)
والاعتراض على حكم المرتد شنشنة قديمة نعرفها من العصرانيين الذين يخجلون من أحكام دينهم، ولقد أعجبني ردٌ للشيخ أحمد شاكر –رحمه الله- على واحدٍ من هؤلاء([43]) قد اعترض على هذا الحكم زمن الشيخ ، فقال الشيخ :(تحدث المؤلف عن عقوبة الاعتداء على الدين بالردة" حديثاً غريباً، لا ندري ما وجهه! فكان مما قال: "أما العقاب الدنيوي لهذه الجناية، وهو القتل، فيثبته الفقهاء بحديث يروى عن ابن عباس رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه . وقد تناول العلماء هذا الحديث بالبحث من جهات : هل المراد من بدل دينه من المسلمين فقط، أو هو يشمل من تنصر بعد أن كان يهودياً مثلاً؟" إلى أن قال .. "وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة، إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين" إلى آخر ما قال!
أما أولاً: فإن حديث ((من بدل دينه فاقتلوه)) حديث صحيح لا شك في صحته، والراجح عند العلماء أنه فيمن ارتد عن الإسلام فقط. فاختلاف العلماء في فهمه وذهاب بعضهم إلى أنه عام يشمل غير المرتد، ممن خرج من دين غير الإسلام إلى دين آخر غير الإسلام، لا يكون علة للحديث حتى يبطل كل معناه، كما يريد المؤلف أن يذهب. فإن هذا مذهب عجيب في إبطال السنة ونقض دلالتها على الأحكام، فما من حديث إلا اختلف الناس في تأويله وفهمه، فمصيب ومخطئ.(32/2)
وأما ثانياً: فما أعرف "أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بأحاديث الآحاد" وما أرى لهذا دليلاً ولا شبه دليل . وإنما يتلاعب بعض المتقدمين ممن يرون نفي السنة كلها، منهم من يصرح، ومنهم من يتحايل بمثل هذه الألفاظ الموهمة. وقد تكفل العلماء بالرد على نفاة الأحاديث، وعلى متأوليها المتلاعبين بها، وعلى من زعم تحكيم اصطلاحات المتكلمين في الشريعة وأدلتها، فيفرقون بين "القطعي" و"الظني" ويزعمون أن الأحاديث كلها من "الظني" وأن "الظن" الذي هو الشك أو نحوه لا يصلح دليلاً. وأنا أعتقد أن الأستاذ المؤلف العلامة يعرف من هذا الشيء الكثير ويعرف أن دلالة الأحاديث الصحيحة دلالة قطعية في مجموعها، وأن اختلاف العلماء على اختلاف الروايات في بعض الشيء منها، لا ينفي حجتها القطعية فيما دل عليه مجموعها، ولا يبطل الاحتجاج بتفاصيلها المختلف فيها في الرواية بعد الاجتهاد في الترجيح. وقد قلت في نحو هذا المعنى في شرحي على "اختصار علوم الحديث" تأليف الحافظ ابن كثير (ص25) "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما. وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل" .
وأما ثالثاً: فإن الأمر بقتل المرتد عن الإسلام لم يثبت بما يسميه المؤلف العلامة "حديث الآحاد" ، وإنما هو شيء ثابت بالسنة المتواترة، معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه العلماء، أعني لم يختلفوا في أن "المرتد يقتل"، أعني أنهم لم يختلفوا فيما يسميه الناس في اصطلاحهم اليوم "المبدأ" وإن اختلفوا في بعض التفصيل، تبعاً لاختلاف النظر في التطبيق، تطبيق "المبدأ" على الفروع، وتطبيقه على الحوادث.(32/3)
نعم ، إن الدستور المصري نص على"حرية الأديان" ففهم الناس أن قصد واضعيه إباحة الردة عن الإسلام لمن شاء وحماية المرتدين، ثم صار هذا كالعقيدة البديهية عندهم، حتى صاروا يرون غيرها منكراً، يعرفون المنكر، وينكرون المعروف، فأظن أن الأستاذ المؤلف، وهو يلقي هذا الكتاب دروساً على خريجي كلية الحقوق (طلبة الليسانس) أراد أن يتألفهم ويقرب إليهم أحكام الشريعة حتى لا ينفروا منها، فغلبه ما أراد من ذلك، ليجمع بين ما ورد من الأحاديث في قتل المرتد، وبين ما قرره الدستور طبقاً لمبادئ "التشريع الحديث" !! التي تأكد ضربها على بلادنا بما جاء في معاهدة "منترو".
وإن الأستاذ المؤلف العلامة لأجلّ في نفسي وأعلم، من أن أظن به أنه لم ير الأحاديث الصحيحة التي وردت في ذلك، ولم يقرأها في مصادرها من دواوين الحديث، فيما تلقى من شيوخه وأساتذته كما تلقينا، وفيما قرأ لطلابه ومريديه كما يقرأ شيوخ العلم وأساطينه. ولكنه حين أراد أن يكتب هذا البحث، وجهه حرصه على تألف طلابه ورغبته في إقناعهم بفضل التشريع الإسلامي وجهة أخرى، أنسته شيئاً كثيراً، وهو العالم الباحث الواسع الاطلاع.
ولقد جاء هو في كتابه (ص128) في نصوص النهي عن القتل بحديث من الأحاديث الواردة في قتل المرتد، قال : ((ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) وهذا حديث عبدالله بن مسعود في البخاري وغيره.(32/4)
وقد جاء في معناه أيضاً حديث عثمان بن عفان، حين ثار به الثائرون وحصروه وأرادوا أن يقتلوه، فقال: " وبم يقتلونني؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً فيقتل بها. فوالله ما أحببت أن لي بديني بدلاً منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا قتلت نفساً، فبم يقتلونني؟". وأظن أن هذا صريح وواضح في أن عثمان ومن سمعه من الصحابة، وهم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه، وهم الذي حضروا التشريع وفهموا مقاصد رسول الله وأسرار الشريعة: فهموا أن الردة عن الإسلام وحدها موجبة لقتل المرتد، فما يظن واحد منهم أن عثمان كان خارجاً على الدولة محارباً للمسلمين! وهو رئيس الدولة، والذين حرصوا على قتله هم الخارجون المحاربون.
ومن ذلك أيضاً: حديث أبي موسى الأشعري إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم والياً على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل "فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال : هذا كان يهودياً فأسلم، ثم راجع دينه فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقْتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس ، نعم، قال: لا أجلس حتى يُقْتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فقتل" . وهذا حكم بَيّن كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم)([44]) .
([43]) هو محمود شلتوت أحد أبرز شيوخ العصرانيين في هذا الزمان، وأحد تلاميذ مدرسة محمد عبده، قال هذا الرأي الباطل في كتابه (فقه القرآن والسنة: القصاص)
([44]) مجلة الكتاب (المجلد الثالث / ص 299-302).(32/5)
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الثاني عشر : مبالغته في ذم الدولة الأموية :
الانحراف الثاني عشر : مبالغته في ذم الدولة الأموية :
كقوله : "كارثتان دخلتا المجتمع الإسلامي ولم يعاف منهما حتى الآن: الكارثة الأولى في تسلل بني أمية إلى السلطة ... " (في النقد الذاتي، ص304) وقد أداه هذا الغلو في ذمهم إلى لمز معاوية –رضي الله عنه- (كما في كتابه سيكولوجية العنف، ص157).
وبنو أمية برغم ما قد يقعون فيه من الأخطاء إلا أن دولتهم كانت من أفضل الدول الإسلامية ، وانتشر الإسلام فيها انتشاراً لا يجحده إلا مكابر، فكان الأولى بالدكتور أن يحفظ لهم حسناتهم كما أحصى عليهم أخطاءهم .
وأما معاوية –رضي الله عنه- فيكفيه شرفاً صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولن يضيره حقد أو عداء الرافضة ومن تابعهم من الجهلة .
الانحراف الثالث عشر: إعجابه الشديد –كشيخه- بغاندي الهندوسي!
بل والإدعاء بأنه أحد "أعلام الإصلاح الاجتماعي " ! (ظاهرة المحنة، ص97-98).
قلت: العجوز (غاندي) كان من أعلام الإصلاح الهندوسي!! وكان حاقداً على المسلمين ، وإن ستر هذا الحقد بتقيته المعروفة . يقول الأستاذ محمد المجذوب في كتابه (مشاهداتي في الهند) (ص59):
"وقد بلغني من مصادر موثوقة أن ثمة حواراً جاداً قد ينتهي قريباً إلى تحول مليون من الطبقة المنبوذة إلى الإسلام. وقبل ثلث قرن ظهرت بادرة تاريخية من هؤلاء المنبوذين أوشكت أن تصير بهم إلى المجموعة الإسلامية في تحول جماعي، إلا أن المسلمين لم يحسنوا متابعة الحدث إلى نهايته فأفلتت الفرصة من أيديهم، وكان لغاندي أثره الكبير في تجميد تلك الحركة أيامئذ إذ فتح للمنبوذين أبواب المعابد التي كانت مغلقة في وجوههم ، وتعهد لهم برد الكثير من الاعتبار الإنساني إليهم بعد الاستقلال إذا هم حافظوا على انتمائهم للنحلة الهندوسية، وإنما فعل ذلك خشية أن تزداد بهم قوة المسلمين" .(33/1)
قلت: هذا نموذج واحد لحقده على المسلمين ، ومن تتبع أقواله وأفعاله وجد الكثير.(33/2)
خاتمة
وبهذا الانحراف ينتهي ما أردت جمعه من انحرافات هذا الدكتور النازل بأرضنا؛ لعله أن يكون فيها ما يوقظ القلوب الغافلة التي قد تنخدع بكتب الرجل ومقالاته، وتغفل عن انحرافاته التي لابس (الكفر) شئ غير يسير منها ، ولعل من دقق في تلكم المقالات والكتب وجد انحرافات أخرى غيرها.
وإنني لا أستبعد أن يكون الدكتور قد تورط في فكرة (الدعوة إلى وحدة الأديان)!!؛ لأن شيخه قد قال بها –كما سيأتي في رسالة (انحرافات جودت سعيد)- ، ولأنه في كثير من أفكاره وانحرافاته يحوم حولها. فهو مثلاً –كما عرفنا- لا يفرق بين المسلم والمرتد والكافر ، فالجميع له الحق في إبداء رأيه، والجميع يؤمن بحرية الفكر، ورأينا دندنته حول نسبية الحقيقة .
فمن يقرأ كتابات الرجل لأول مرة لا يدري أهو مسلم أم غير مسلم! لأن أفكاره توافق الجميع!! ومصدره –كما علمنا- ليس هو مصدر المسلمين (الوحي) ، بل مصدراً مشتركاً بين البشر؛ هو التاريخ والسنن ! .
فلعل الدكتور إلى الآن لم يجد الفرصة المناسبة للتعبير عن هذه الفكرة الباطلة (وحدة الأديان)!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم([45]) .
قال تعالى (قل انتظروا إنا منتظرون)
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
المؤلف
سليمان بن صالح الخراشي
الرياض
ص ب 522
الرمز 11321
([45]) ليتبين لك خطورة هذه الفكرة وتشبعها بالكفر والضلال ، انظر رسالة الشيخ بكر أبو زيد (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان).(34/1)
ملحق – 1 –
مقال للأستاذ محمد الأحمري في الرد على خالص جلبي ، نشر في مجلة العصر على شبكة الأنترنت
قال : ( لوددت أنني لا أكتب مخالفا للدكتور خالص لأنه يكتب في أحيان عديدة مقالات تنفع قارئها ويجتهد في بحث كثير من الموضوعات التي يكتبها ويصيد فيحسن القنص.
ولكن حقيقة صارخة أخرى تسيطر على عقله منذ قرابة عشرين سنة فيما أعرف، -وهنا إشارة للموضوع وطرف منه فقط- وهذه الظاهرة هي التنظير للسلبية والخمول، والتبشير بأفكار نهاية الحروب، وغياب للإنسان المحارب، وللأسلحة وأدوات العنف ووضع تشريعات وسنن لأناس ليس لهم في الكون المشهود وجود، جاءت هذه الأفكار استجابة لهلع الغربيين من هول الحروب التي توالت عليهم، ووجدت بعد الحرب الثانية سوقا رائجا، وجاء غاندي مبشرا بها ودليلا جديدا.(35/1)
هؤلاء المبشرون كانوا يثيرون السخرية مرة، والاستغراب أخرى، ويحوزون على إعجاب ذوي التمني الفكري آنا ثالثا. فلسنا أمام قول جديد، ولكنا أمام حملة شاعرية جديدة، مليئة بالترداد والعاطفة. مشحونة بالبحث عن عالم للأنس والسلم والسعادة بلا حرب ولا مواجهة أفكار لو زينت واستكملت لكانت أشبه بالمدن الفاضلة أو بجمهوريات الفلاسفة التي يسمونها طوباويات. وجمهوريات الفلاسفة مهما أغرقوا في خيالهم ففيها طابع الإنسان وطباعه مهذبة حسب ذوق وعصر كل فيلسوف! ويحافظون غالبا في مدنهم الخيالية على طبقة المحاربين، على خلاف فريق كاتبنا، ومهما زعم أي منهم أن جمهوريته هي النهائية وأن مدينته هي "مدينة الله" كما زعم أوغسطين فإنها لم تتحقق بعد كما أرادوا، وتنهمر الدماء على أطرافها كل يوم. وأنجح تجارب الناس في جمهورياتهم الخيالية المثالية التي طبقت بالعسف جمهورية القرامطة وجمهورية لينين -ولا أقول ماركس- وهي جمهوريات بشرية ورغم انحرافها الشديد فقد بقي فيها الناس ناسا. أما جمهورية الدكتور خالص جلبي فهي عيادة طبيب، دون مقصات ولا مشارط ولا شيء مما يزعج الجسد والعين، ممرضات وممرضون وأطباء يمرحون في سلام وأمن وينصحون بأنواع نافعة من غذاء البدن والعقل، قد صحت العقول والأجسام فهي حتى لا تحتاج لأي عملية جراحية مهما صغرت. وغابت المطامع والأهواء وتحققت الحاجات، وتساوت الأرزاق، ومات الغضب بتهذيبه والترويع من نتائجه "الحروب".(35/2)
لا تقل بالغت في وصف وداعة جمهورية الدكتور وأقرأ معي افتتاحه لكتابه "جدلية القوة والفكر والتاريخ"* : "لن يطول قدوم ذلك اليوم، حين يقف الناس في المتحف مشدوهين يتأملون فوهات المدافع أو أصناف الأسلحة التي لا تنتهي، والتي صممت بعناية من أجل الفتك بالإنسان؟! سوف يتعجبون من نوعية ذلك الإنسان البدائي (القاتل) ، وينظرون إليه كما ننظر نحن اليوم إلى الديناصورات التي اختفت من وجه اليابسة. وإذا كانت الديناصورات قد غيبها الثرى قبل (65) مليون سنة، وإذا كانت الحياة قد بدأت قبل (3,5) مليار سنة، وإذا كان أمام الحياة أن تتابع سيرها في الأرض ( 5،5) مليار سنة أخرى، فقد نتحسر أننا ولدنا مبكرين للغاية، لأن التاريخ الفعلي للإنسان لما يبدأ بعد." ص 17 هكذا يبدأ الكتاب.
إنني أرثي للذين يسمعون بفكرة أو يقرأون عنها كتابا، أو يستكملون السير في طريق التأييد لها بألوان أخر من الكتب والمقالات تؤكد الفكرة ولا تناقشها، فتستولي عليهم وينفقون بقية أعمارهم يبشرون بها، ولا يرون سواها حتى تكون هذه الفكرة الخاطئة أو المقطوعة من سياقها أو التي تمثل عقلا منحرفا، أو قد تصدق على قوم في زمن ما تصبح هذه الفكرة دينا شموليا، يدين به كتاب العالم الثالث وكتابه وموجهوه، وكلما نقص عليهم في فكرتهم نقص طلبوا المدد من كاتب ما غربي أو شرقي.(35/3)
ويا سامح الله مالك بن نبي رحمه الله، فقد غرس الفكرة في رأس خالص، ثم نصب له غاندي نبيا لحركة السلم في العالم. وموسيقى الهند ويوغاه. وجره هذا لغاستون بوتول الكاتب الفرنسي الذي استقى منه بعض مادة بحثه عن الحرب، ثم كتب من الغربيين قوم حول نهاية التحدي النووي، وما شابه، فترسخ الدين الجديد ودعني أقول لك يا دكتور هذه الحقيقة أن الناس مع مصالحهم، ومع من يستجيب لشهواتهم، ويأمنونه على أهوائهم. حتى وإن كان كثير المال قليل الفكر بسيط المعرفة ك: "بوش الابن". وليسوا مع قادر أو كفؤ مثل بعض من نافس وانتهى مبكرا خاسرا.
وفي أمريكا تقدم مرة أحد المفكرين الموهوبين للإنتخابات فخسر وكأن الناس لم يعلموا بوجوده، وفاز من لا يساوي شيئا مقابل المفكر الكبير فقال أحدهم مسليا له على هزيمته الشنيعة لا تجزع يا أستاذ فقد فزت بأصوات المفكرين فقط وهم ندرة في الأمم!
وخرج مرة برتراند رسل وهو من أوائل رواد طريق خالص محتجا على الأسلحة النووية ومتظاهرا مع أعدائها، فما زاد إلا أن رسم ابتسامة على الشفاه تسخر به وتقول وعقل الفيلسوف يكون مضحكا أحينا، ألم يكن في بريطانيا وطائرات هيتلر تصب النيران والهدم على لندن؟ وهل ستوقف الفلسفة الجميلة كل هيتلر؟ فبنت بريطانيا سلاحها وبنت أمريكا وروسيا، ولم تستمع لوصايا أوبن هايمر ولا اينشتاين ولا راسل ولا من لف لفهم. فمصالح الأمم ومصائرها قد لا يفهمها الفيلسوف. ثم سيقول ولكنهم لم يستخدموها بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت طريقا للسلم! أقول نعم فالقوي يصنع السلم، بعد أن يصنع الحرب، أما دعاة الوداعة في مجتمعات الضعف والهزيمة والإندحار فهم بحاجة لقول آخر. لا يدفعهم للجنون ولا يدفعهم للإخبات والإستخذاء.
وقد يقول قارئ حريص أين الأدلة الشرعية على قولنا تأييدا وتوجيها. وأين ما جاء في فضائل الجهاد؟ أقوال ليس الآن مساقها، وقد لا نصل بها مع بعض المخالفين لنتيجة.(35/4)
ثم يسوق كاتبنا أهوال الحرب ويستنتج في نهاية الفصل الأول هذه الحكمة :"العالم المتقدم يطير الآن إلى المستقبل بجناحي العلم والسلم ويبقى الذي لم يشترك في صناعة العالم المعاصر يحترم أحلام عنتر والمتنبي ويكرر: السيف أصدق أنباء من الكتب ص 27"
ينسى أن العرب قبل نفوذهم انقسموا إلى قسمين العرب الباقية والعرب البائدة. وهكذا كثير من الشعوب، تشويها الحروب حتى تميتها أو تنضجها لصناعة مجد جديد على أرض جديدة.
إن نماذج عربية وغربية، تملي عليه القول، فينطلق وينطق بالمسكوت عنه، شواهد محزنة عاشها في بلده فهي حق، ثم ذهب لألمانيا واستغراق في الإعجاب بها، ألمانيا التي سالمت فيما يرى وتقدمت، وبلده وبقية بلاد العرب التي أهلكتها شعارات الحرب.
من المهم أن يدرك الأستاذ أن ألمانيا تمتد بعمر الحروب أكثر مما امتدت أمة أخرى في أوروبا ولم تهدأ إلا بجيوش جاثمة عليها بعد عام 1944. وهي مسامة مكرهة، كاليابان، ألا ترى أنها استراحة المحارب؟ ولو أنصفت قراءة بعض مراجعك نفسها لا غيرها، لوجدتها ضد قولك تماما، وتنشد الحرب والمجالدة.(35/5)
فمجد الإسلام بناه مجاهدون، وأسلمه مسالمون، متمدنون خاضعون، والعالم القوي المتقدم القوي الحديث صنعته الحروب، والحريات والسلم صنعتها الحروب، وأمريكا القوية السائدة صنعتها الحروب. فالحرب الأولى والحرب الثانية عادت على أمريكا بخير ما عادت به الحروب للدول، وسموها الحرب الجيدة، واقرأ كتاب "الحرب الجيدة" أو "ذا جود وور" وحرب التوسع في أمريكا وحرب الشمال والجنوب في مسائل الحرية ومن قبل حرب الإستقلال، والحروب الصليبية كانت خير هدية للشعوب الأوربية. كنت أتصفح كتابا عن الحروب الصليبية يقول فيه أن هذه الحروب الصليبية طورت الأسلحة والسفن، وسوغت المغامرات البعيدة والإكتشافات والأسفار في البحار ولذة القوة والغنائم والبلاد الجديدة والبحار الدافئة والأطعمة الحارة، وغيرها فأخرجت الأوروبي القابع في ظلامها إلى العالم وأسس الإمبراطوريات البرتغالية والأسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وتطورت الأسلحة ولحقتها الصناعات الأخرى. ولعل الأستاذ يدرك أن الجيوش هي سبب تطور الطائرات المدنية، والدعاية الحربية سبب كبير لتطور الآلة الإعلامية، والتجسس طور وسائل الإتصال، والطرق الواسعة التي تربط شرق أمريكا بغربها وشمالها بجنوبها بنيت لأسباب عسكرية، والإنترنت التي ننعم بفوائدها كانت شبكة تواصل للجيش الأمريكي.(35/6)
لو كان يكتب خالص للأمريكان والروس لربما كان قادرا ولكان هناك سبب معقول، أما أن ينشر أفكار الرضوخ والإستسلام في عقول مهزومين مستسلمين فهذه هجرة لفكرة غريبة، وجلب لها لغير مكانها، فليس عندنا مشروع لحرب النجوم، وليس عندنا مشروع نووي، وهاهم اليهود يدوسون أرضنا وأعراضنا بسبب قوتهم العسكرية والمالية والعلمية، والمستعمرون يجوبون أقطارنا لهم ثمرتها ولسكانها الحجر. ونحن نذوق مرارة ذلنا لا حربنا، ونذوق عواقب جبننا لا شجاعتنا، وجهلنا بالحرب لا علمنا بها. ثن نترجم ونتفلسف، ونحمل حملة لا أول لها ولا آخر على القوة وعلى ثقافة القوة، وكأن مشكلتنا من القوة وأسلحتنا النووية، وليست مشكلة الضعف والخمول والجهل. لقد كانت هذه الفكرة وهذا الكتاب أكبر شواهد استيراد الفكرة واستنباتها في غير أرضها
وأقف هنا عن بقية قول يطول) .
* "جدلية القوة والفكر والتاريخ" دار الفكر بيروت 1999. 166صفحة.(35/7)
الفهرس
? مقدمة
? أولاً : دراسة متخصصة حول أثر الإنجليزية على اللغة العربية في المرحلة الإبتدائية
? ثانيًا : دراسة بعنوان ( تدريس اللغة الإنجليزية في المملكة العربة السعودية : لمن ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ )
? ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي (البيان)و(المعرفة) وغيرهما
? قبل أن نبدأ النفل
? من الرطانة إلى المسخ
? تعليم اللغة الأجنبية للأطفال
? أطفالنا ومدارس اللغات الأجنبية
? علة اهتمام الأمم بلغاتها
? المدارس الإبتدائية وتدريس اللغة الإنجليزية... نظرة تأمل!
? رابعًا : خطبة للشيخ صالح بن حميد بعنوان( الأمن اللغوي )
? خامسًا : أقوال لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مستفادة من كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم )
? سادسًا : تعليق للشيخ الدكتور ناصر العقل على كلام شيخ الإسلام
? سابعًا : كلمة فيها عبرة للأستاذ الأديب محمود شاكر رحمه الله
? ثامنًا : فتوى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله وختام الملف(36/1)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ..
أما بعد : فقد اطلعت كما اطلع غيري على تصريح وزير المعارف : الدكتور محمد بن أحمد الرشيد – وفقه الله للخير – المنشور في جريدة الرياض بتاريخ: 10/6 / 1422 هـ ، عن عزم الوزارة على تدريس اللغة الإنجليزية لطلاب المرحلة الإبتدائية في ( جميع ) مدارس المملكة العربية السعودية ، بعد سنتين من الآن .
وبما أنني كنت سابقًا قد جمعت بحثًا عن هذا الموضوع مما اطلعت عليه من المقالات والدراسات وغير ذلك مما يخص هذا الموضوع ، فقد أحببت نشره في هذا الوقت ؛ لعل القائمين على الوزارة وعلى رأسهم الدكتور محمد –وفقه الله– يتروون في هذا الأمر الخطير الذي يمس حياة أبناء الأمة ومستقبلهم ، ولعلهم يجدون فيه ما قد ينبههم إلى أمر قد غفلوا عنه .
مع التنبه إلى أن مثل هذه الخطوة لو أقرت سوف يصعب التراجع عنها مستقبلاً ، أما الآن مادمنا – كما يقال – في بر الأمان ، فإن ذلك سيكون سهلاً يسيرًا .
أسأل الله الكريم أن يمن علينا جميعًا بالهداية ، وأن يجعلنا مفاتيح خير مغاليق شر، ممتثلين لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ) ، موفقين إلى مايبقى لنا أجره وأثره بعد الممات ، كما قال تعالى ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) ، وصلى الله على نبينا محمد .(37/1)
أولاً : دراسة متخصصة حول أثر الإنجليزية على اللغة العربية في المرحلة الإبتدائية
نُشرت في جريدة الوطن الكويتية بتاريخ 8 / 10 / 1419هـ.
كتب طه أمين: أكد باحث أكاديمي أن غالبية من تحمس لفكرة تدريس اللغة الإنجليزية أو عارضها كان لا يستند في رأيه على دراسة علمية جادة من خلال نتائجها بحيث يستطيع تبني موقفا من تلك التجربة.
وقال الباحث محمد الظفيري في بحث يتعلق بأثر إدخال مادة اللغة الإنجليزية على اللغة العربية في المرحلة الابتدائية بدولة الكويت أن الهدف من تلك الدراسة التي قام بإعدادها هو معرفة الأثر الحقيقي لإدخال الإنجليزية على اللغة العربية، مشيراً إلى أنه تتبع أثر ذلك على ثلاثة محاور هي: أثر إدخال الإنجليزية على اللغة العربية من حيث تحصيل الطلبة وكذلك الاتجاهات والتداخل والمهارات اللغوية الأخرى.
يُذكر أن هذا البحث تقدم به أكثر من عضو بمجلس الأمة الشهر الماضي للاستشهاد به حول أثر إدخال مادة اللغة الإنجليزية على اللغة العربية في المرحلة الابتدائية منذ أن طبقت في الكويت اعتباراً من عام 93 وحتى الآن ومنذ هذا التاريخ هناك مؤيد ومعارض لتلك الخطوة.
ويشير الباحث الدكتور الظفيري إلى استخدامه أكثر من منهج للقيام بالدراسة والتي من بينها مقابلاته للطلبة والمدرسين وتصميم اختبار تفصيلي لمادة اللغة العربية وتحليل وثائق وكتابات للطلبة.(38/1)
عينة البحث: وقد اختار الباحث بشكل عشوائي: عينتين متكافئتين من الطلبة بهدف المقارنة وتحليل نتائج كلتا المجموعتين، المجموعة الأولى درست حتى مرحلة الثالث الابتدائي دون التعرض للغة الإنجليزية، أي قبل تطبيق تدريس اللغة الإنجليزية بسنة واحدة واستمروا إلى الفصل الثالث دون تدريسهم اللغة الإنجليزية. أما المجموعة الثانية، فدرست اللغة الإنجليزية منذ السنة الأولى وحتى السنة الثالثة، كما اختار الباحث أيضاً عينة تبلغ 100 مدرس ومدرسة موزعين على مناطق الكويت التعليمية. إذ اختار الباحث مدرستين عن كل منطقة تعليمية، واحدة للبنين وأخرى للبنات.
نتائج البحث: وقد أظهرت نتائج البحث أن الطلبة الذين لم يدرسوا اللغة الإنجليزية بجانب اللغة العربية تفوقوا في تحصيلهم في مقرر اللغة العربية وكان الفرق بين تحصيل المجموعتين ذا دلالة إحصائية حيث كان المعدل التحصيلي للمجموعة الأولى 74% والثانية 53%، وعند تقسيم كلتا المجموعتين إلى شريحتين: أعلى من المعدل وأقل من المعدل، وجد أن الهبوط في الدرجات كان أكثر عند الطلبة الأقل من المعدل منه للطلبة الأكثر من المعدل، وكانت نسبة الهبوط للطلبة الأكثر من المعدل 17%، بينما جاءت نسبة الهبوط في الدرجات للطلبة الأقل من المعدل 36%، وعند تقسيم نتائج الاختبار على مهارات اللغة مثل ((القراءة –الكتابة- القواعد- المفردات)) نجد أن الهبوط في التحصيل شمل جميع تلك المهارات.
وطبقاً للدراسة تبين للباحث وجود علاقة عكسية بين اعتقاد الطالب بصعوبة المادة ودرجة إقباله وحبه للمادة الدراسية، حيث كان معظم الطلبة أبدوا قناعات سلبية عن اللغة العربية كانوا من الطلبة الذين يعتقدون بسهولة اللغة العربية. وهذه النتيجة تتفق مع المنطق فغالباً ما يكره الإنسان ما يعجز عنه ويحب ما يستطيعه.(38/2)
فيما يخص الجانب الثالث من البحث وهو التداخل من اللغة الإنجليزية إلى العربية تأكد للباحث وجود ظاهرة التداخل من الإنجليزية إلى العربية على جميع الجوانب اللغوية. فعلى مستوى التداخل الصوتي أكد 35% من المدرسين أن نطق الطلبة أصبح أسوأ مما كان عليه قبل إدخال مادة اللغة الإنجليزية. ويتجلى ذلك في تسمية بعض أصوات اللغة العربية المفردة بأسماء أصوات اللغة الإنجليزية. على سبيل المثال عندما يسأل الطالب عن اسم الحرف ((الصوت)) ك يقول Kay والميم ((م)) إم((Ma)) والسين ((س)) أس ((Sa)) كما في اللغة الإنجليزية، وبدأ الخلط بين حرف الباء في العربية مع حرفي B.P في الإنجليزية ، وأشار الباحث إلى تداخلات أخرى متنوعة ضمنها بحثه .
أخطاء الطلبة: أما ما يخص نتائج تحليل أخطاء الطلبة فقد صنف الباحث أخطاء الطلبة إلى ثلاثة أقسام ، وبتصنيف أخطاء الطلبة على الأنواع الثلاثة، وجد الباحث أن الطلبة الذين درسوا اللغة الإنجليزية كانوا أكثر ارتكاباً للأخطاء الإملائية والغامضة والخارجية ، وبعد تحليل الجوانب الثلاثة ((التحصيل –الاتجاهات- التداخل)) أظهرت الدراسة وجود علاقة بين تلك الجوانب الثلاثة موضع الدراسة ، فالطلبة ذوو التحصيل العالي كانوا أكثر إيجابية تجاه اللغة العربية وأقل معاناة من التداخل. تؤيد هذه النتائج الكثير من الدراسات مثل دراسة Gardner عام 1985 وكل من Burs al, Iamieson Cohen, Hargreaves وغيرهم كثير، يقول الباحث الأمريكي القدير M.Iaughlin أن الطفل الثنائي يتحمل عبئا أكبر من الطفل الأحادي ويرجع إلى حاجته إلى التمييز بين نظامين لغويين وهذا يحتاج إلى مهارات ذهنية أكبر.
بعد ملاحظة الأثر السلبي لإدخال مقرر اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، على الجوانب الثلاثة موضع الدراسة يأتي السؤال الأهم وهو: كيف ولماذا أثر تدريس اللغة الإنجليزية على اللغة العربية؟(38/3)
ويجب الباحث :بأن تدريس اللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية ممكن أن يؤدي إلى غير تلك النتائج التي ظهرت لو تغيرت البيئة اللغوية التي ظهرت لو تغيرت البيئة اللغوية التي تدرس فيها اللغة العربية. فثمة أسباب عديدة ساعدت على تعميق الأثر السلبي للغة الأجنبية على اللغة العربية.
من هذه الأسباب :
الثنائية كعامل .
تقليص حصص المواد المحببة للطلبة ((الرياضة-الرسم)) وحصص النشاط الحر.
منافسة اللغة الإنجليزية للغة العربية .
إضافة مادة جديدة للطلبة ((الإنجليزي)) مما زاد في العبء الدراسي عليهم. ) انتهى . ( وتنبه إلى أن الباحث ركز على تأثير الإنجليزية على اللغة العربية ؛ نظرًا لمكان الدراسة وهو الكويت ، أما عندنا فسيكون تأثيرها على المواد الشرعية إضافة للعربية ! ) .(38/4)
ثانيًا : دراسة بعنوان ( تدريس اللغة الإنجليزية في المملكة العربية السعودية : لمن ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ )
للباحث / عبدالله بن سالم الشمري، نُشرت في مجلة جامعة الملك سعود ، المجلد الأول ، العلوم التربوية ،
جاء فيها ما يلي :
(سلبيات تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية
1-إن بدء تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية سيزاحم مناهج الدين واللغة العربية التي تشكل معظم مناهج المرحلة الإبتدائية. إذ إن الوقت الذي سيخصص لدراسة اللغة الإنجليزية، سيكون على حساب تلك المواد الأساسية في المرحلة الابتدائية، وسيكون تدريس اللغة الإنجليزية في مرحلة يكون الطالب فيها أحوج ما يكون لدراسة لغته الأم، ومبادئ دينه، في الوقت الذي تتجه نية القائمين على التعليم إلى تخفيف مناهج المرحلة الابتدائية وتطوير تعليم الدين واللغة العربية، وتركيزها في المرحلة الابتدائية !
يضاف إلى هذا أن بدء تعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية سيربك الطلاب لغوياً وعاطفياً، ويزعزع ثقتهم بلغتهم، وسيجعلهم يتشربون بعض المفاهيم الأجنبية منذ الصغر، وهذا قد يبقى تأثيره إلى مراحل لاحقة .(39/1)
2-استحدثت نظريات جديدة في تدريس اللغات تقول بتدريس اللغة عبر تدريس ثقافة تلك اللغة وثقافة الشعب الناطق بها وانتشرت هذه النظريات ولاقت هوى في نفوس الدول الإستعمارية، وذلك لأنها تحقق نشر لغاتها وثقافتها، ويتبع هذا انتشار نفوذها الإقتصادي والسياسي. وقد حصل هذا في الماضي في فَرنسَة المغرب العربي والعديد من الدول الأفريقية. ويحصل الآن في العديد من الدول الفقيرة، حيث يقضى على لغاتها وثقافتها، وبالتالي تتحول إلى مستعمرات ثقافية. ولقد ألفت كتب لتدريس اللغات تنطلق من هذه النظريات. وتدريس اللغة بهذا المضمون الثقافي في عمر مبكر له مخاطره، خاصة إن كانت اللغة لغة دولة أو حضارة مهيمنة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وعلمياً وتقنياً. فهذا سيهز ثقة الطفل بلغته وثقافته، ويجعله يتعاطف مع اللغة الأجنبية وثقافتها. وقد تؤثر على ولائه العاطفي لدينه ولغته وثقافته.
3-إن بدء تدريس الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية توجه يتناقض مع توجه الدول العربية في سياستها الرامية إلى تعريب التعليم عموماً، وتعريب التعليم الجامعي خصوصاً . وسيكون الوقت والمال الذي يصرف على تعليم اللغة الإنجليزية في المراحل المبكرة، على حساب اللغة العربية ومجهودات التعريب .(39/2)
4-إن بدء تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية يزيد من أزمة مدرسي هذه اللغة ، فحسب إحصائية العام الدراسي 1404/1405هـ يعمل 2272 مدرساً للغة الإنجليزية في المرحلتين المتوسطة والثانوية للبنين منهم 531 مدرساً سعودياً والبقية غير سعوديين ، ولو بدأ تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية – على افتراض أن اللغة مادة اختيارية أو إجبارية – في السنتين الخامسة والسادسة الإبتدائية ، فإن هذا يقتضي توفير مدرس واحد على الأقل في كل مدرسة ابتدائي في المملكة. وبعض المدارس تحتاج إلى أكثر من مدرس لكثرة الفصول. وهذا يعني ضرورة توفير ما يزيد على 4400مدرس للغة الإنجليزية إضافة إلى الموجودين ؛ لأن عدد المدارس الابتدائية حسب ما ورد في الكتاب الإحصائي لوزارة المعارف لعام 1404/1405هـ يزيد على 4400 مدرسة ابتدائية. أما إذا دُرست اللغة الإنجليزية منذ بداية المرحلة الإبتدائية فإن هذا يعني مضاعفة عدد المدرسين السابق عدة مرات. هذا في مدارس البنين فقط، فماذا ستكون الحال لو طبق هذا بالنسبة لمدارس البنين والبنات معاً؟!
إن الدعوة إلى تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية من شأنها أن تخلق أزمة في توفير العدد اللازم من مدرسي هذه المادة لا قبل لوزارة المعارف أو رئاسة تعليم البنات بحلها. هذا فضلاً عن الأعباء المالية الباهظة التي ستترتب على تنفيذ مثل هذا الاقتراح، علماً بأن كلا الجهتين تعاني حالياً من نقص حاد في عدد المدرسين والمدرسات السعوديين لتلك المادة.(39/3)
5-إن بدء تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية سيزيد من الهالة التي رسمت في عقول كثير من الآباء حول أهمية اللغة الإنجليزية، واقتران تعلمها بالمستقبل الجيد، وما إلى ذلك من الأوهام. ولقد أدت هذه الهالة إلى اندفاع بعض الآباء إلى تدريس أبنائهم اللغة الإنجليزية في الروضة، وفي المدارس الخاصة الإبتدائية. وساعد ذلك على انتشار تلك المدارس، وابتزاز تلك المدارس للآباء، واستغلال خوفهم من رسوب أبنائهم في اللغة الإنجليزية مستقبلاً. وأسهم هذا في اندفاع الناس إلى المدارس الخاصة، غير آبهين بما سيلحق بأبنائهم من مخاطر ثقافية ولغوية وعاطفية .
6-إن هذا الإجراء –وهو دفع تدريس اللغة الأجنبية إلى المرحلة الإبتدائية- قد جربته دول كالولايات المتحدة وبريطانيا في الستينيات (Foreign Language in the Elementary School(FLES movement) ولقد ثبت فشله، وكثرة تكاليفه، وخطورته على نمو الطلاب اللغوي والعاطفي، وولائهم لثقافتهم، الأمر الذي جعل تلك الدول تقصر تدريس اللغة الأجنبية على المرحلة الثانوية .
أما الطرف الآخر في الحوار حول تدريس اللغة الإنجليزية، فهو يدعو إلى إلغاء تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلتين المتوسطة والثانوية، ويدعو لتعريب التعليم، وإنشاء مؤسسة ترجمة وطنية، تهتم بالترجمة من كل اللغات إلى العربية. أو قصر تدريس اللغات الأجنبية في كليات للغات في الجامعات .
وهذا الطرف ينطلق في اقتراحه هذا من واقع تدريس اللغة الإنجليزية، وحصيلة خريجي الثانوية. ويبرز اقتراحه هذا بالمبررات والاعتبارات الآتية:
إن حصيلة الطالب بعد دراسة اللغة الإنجليزية لمدة ست سنوات بمعدل 4 حصص أسبوعياً لو جمعت لبلغت 48 ساعة فصلية، وهي لا تساوي ما بذل فيها من جهود وما أنفق عليها من مصروفات.
تشكل اللغة الإنجليزية سبباً من أسباب تسرب الطلاب، وذلك لارتفاع نسبة الرسوب، وفشل كثير من الطلاب في تعلمها.(39/4)
الواقع المشاهد أن كل من احتاج إلى اللغة الإنجليزية في حياته العملية من موظفي الدولة أو من القطاع الخاص، سواء كان حاصلاً على الثانوية أو الجامعة تعقد له دورات مكثفة فيها، ويبدأ دراسة الإنجليزية من جديد، في الداخل أو الخارج. وهذا دليل على عدم استفادة الطلاب من دراستها في المرحلتين المتوسطة والثانوية.
إن جميع الكليات العلمية في جامعات المملكة تعيد تدريس اللغة الإنجليزية لطلبتها كمبتدئين وذلك في سنة تحضيرية، كما في كليات الطب وجامعة البترول، وفي الدورات المكثفة في باقي الكليات العلمية الأخرى.
إن كليات التربية والآداب تقدم للطلبة المتخصصين في اللغة الإنجليزية دورة مكثفة في اللغة، وذلك لضعف حصيلتهم فيها، وعدم قدرتهم على مواصلة الدراسة في برنامج البكالوريوس .
إن طلبة البعثات في أمريكا وبريطانيا من خريجي الثانوية يبدأون دراسة اللغة الإنجليزية من جديد، وكأن دراستهم لها لمدة 6 سنوات لم تكن.
إن المؤسسات والشركات التي تحتاج إلى اللغة الإنجليزية في أعمالها كالخطوط السعودية وأرامكو أنشأت معاهد لتدريس اللغة الإنجليزية لخريجي المدارس الثانوية على شكل دورات مكثفة.
إن كثيراً من الآباء الموسرين يرسلون أبناءهم في العطلات الصيفية لتعلم اللغة الإنجليزية في بريطانيا وأمريكا حيث يعيدون دراسة اللغة الإنجليزية من جديد.
هذه نماذج من واقع تدريس اللغة الإنجليزية وشواهد على أن تدريس اللغة الإنجليزية لم يأت بالنتيجة المرجوة، رغم طول الوقت المخصص له في المنهج، ورغم سخاء الدولة في الصرف عليه.
إن تدريس اللغة الإنجليزية يعاد مرتين، الأولى في المرحلة المتوسطة والثانوية، والثانية بواسطة مؤسسات تعليمية أخرى في شكل دورات مكثفة، وسنوات تحضيرية في الجامعات، أو عبر معاهد في الداخل أو الخارج.(39/5)
هذا هو واقع تدريس اللغة الإنجليزية، الذي دعا البعض لاقتراح إلغاء تدريس اللغة الإنجليزية من مناهج المرحلتين المتوسطة والثانوية. ) انتهى .(39/6)
ثالثا: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما(/)
ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما
قبل أن نبدأ النفل
(كثر الأخذ والرد والعطاء والمنع، حول تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الإبتدائية ولكلٍ رأيه وتعليله، ولكني أصدح بكلمة الحق، ولا أزعم أني أعلم أو أعرف من الذين جالوا وصالوا في تلك القضية الحساسة، بل إني أجزم أن المنظرين ليسوا كالمطبقين مهما يكن، وصدق القائل:
لا يطعم الصبر إلا من يكابده ولا المرارة إلا من يقاسيها في تلك المرحلة يجب أن يوجه الطفل، ويُعطى من الموروث بقدر ما يجعله مرتبطاً بماضيه المشرق الذي هو امتداد له، فينمى فيه حب الانتماء إليه والاعتزاز به، بحيث يتحول هذا المورث إلى عمل تحريك وتنشيط للطفل نحو المستقبل على غرار كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أمر هز كياني ولعل الأخوة التربويين الميدانيين أحسوا بما شعرت به؛ إذ ليس من المعقول أن يدرس ذلك الطفل الغر الفطري تلك المادة في مرحلته الأم، لأسباب عدة، ولعل من أهمها: أن تلك المرحلة تحتاج إلى تعليم التلاميذ المهارات الأولية، مثل القدرة على القراءة، والكتابة، والرياضيات المبدئية، مع تعريفهم بالعقيدة الإسلامية، وتمكينهم من ترجمة ذلك وممارسته فكيف يرهق ذهن التلميذ، ويشحن جدوله بمادة ثانوية لا علاقة لها بما يتعلمه، أو هو مع ذلك لا يزال يئن تحت وطأة تلك الحقيبة التي تقارب وزنه، وتنوء بكاهله؟! .
بل إن هناك خللاً جلياً في كيفية تعلمه للغة العربية الأم التي هي مفتاح لمغاليق العلوم والمعارف الأخرى.(40/1)
يغادر التلميذ مقاعد الدراسة في المرحلة الإبتدائية –غالباً- وهو لا يعرف أن يفرق بين أنواع الفعل، أو قد لا يفرق بين الاسم والفعل! يرفع من صفه إلى صف آخر، ولما تكتمل عنده أركان اللغة الأساسية كالقراءة، والكتابة ،والتحدث، والاستماع، والفهم والاستيعاب! بل يغادر المرحلة الثانوية ومستواه في القراءة متدن، أقل مما ينبغي ! حتى إن أمالي الدارسين في المستوى الجامعي تنم عن ضعف وقصور في تلك المادة، وما ندوة ظاهرة الضعف الإملائي التي عقدت في كلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ ما يقارب الخمس سنوات إلا لتنفخ في صور المجتمع ليهب لعلاج تلك الفادحة! أسباب عدة تكالبت على أبنائنا، ليسيروا دفعاً لا اندفاعاً. أصابع عدة تشير إلى المنهج، وأخرى تشير إلى الطالب نفسه، وأخرى إلى المدرس وطريقة التدريس..
أليس من الإجحاف أن يوعز تدريس اللغة العربية في بعض المدارس الإبتدائية لمدرسين غير متخصصين.؟! كأن يوجه أحدهم إلى منطقة يرغبها ويشترط عليه تدريس اللغة العربية.؟! والضحية هو التلميذ الضاحك الباكي! في تلك المرحلة الأم، القاعدة الأساس!
إن أهم ما يمكن أن نسعى إليه هو إخراج أطفالنا من هذه الدائرة الضيقة المؤلمة وهي دائرة الفراغ اللغوي ،ينتقل الطفل إلى كل مراحل عمره حتى يصل إلى الشيخوخة وهو لا يجيد الحديث والتعبير.؟!
مأساة متلفعة بأثواب غليظة يجدر بنا معالجتها وعن كثب، والنفوذ إلى شغافها لاجتثاث تلك الظاهرة النشاز.
لنمضي بإذن الله والحق أبلج نعالج فرضاً قبل أن نبدأ النفل ).
فهد بن علي الغانم، مجلة المعرفة، العدد (57) .(40/2)
ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما
من الرطانة إلى المسخ
محمد بن حامد الأحمري ( البيان / 54) :
(هناك معارك تعترك فيها اللغات كما تعترك الجيوش على حدود الدول وفي أعماقها وقد لا تراها العيون، ولأن الناس يصلون نار المعارك العسكرية وتسيل الدماء وتهلك الجموع ؛ فلا يهتم أحد بالمعارك الثقافية الأخرى ، وبخاصة معارك اللغات..
اليوم تنكمش اللغة العربية، وتحاصر في كل ركن، وتحل محلها اللغة العبرية والإنجليزية والفرنسية . فدول المشرق العربي تعيش نهباً للغة الإنجليزية وأحياناً الفرنسية ، في القرى النائية وأعماق الصحراء تجد اللوحات باللغة الإنجليزية في الوقت الذي لم يقف على أبواب هذه الأماكن متحدث بهذه اللغة . بل وصل الأمر بشركتين عربيتين في بلد عربي أن تكتبا العقود بينها بالإنجليزية وتمنعا عمالها من الحديث بالعربية، وبلغ الجهل والتخلف بهؤلاء أن تكون جميع اللوحات الإرشادية بالإنجليزية، وأحياناً نصف اللوحات .
وفي دول المغرب العربي مشروع فرنسة شامل، ففرنسا تقوم بمعونات ثقافية مجانية بإرسال مدرسي اللغة الفرنسية وإغراق الأسواق بالكتب والأفلام الفرنسية بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية . وأوقف مشروع التعريب في هذه البلدان بحجة أن التعريب أدى للأصولية .
ويوم ينتهي النفوذ السياسي والاقتصادي للفرنسية والإنجليزية - وقد يكون قريباً - هل سترثها اللغات المتخلفة جداً كاليابانية والصينية والهندية وندرسها في مدارسنا ونحول وسائل إعلامنا لها ، أم أن المستقبل للعبرية والتي تتزايد شهرتها واهتمام العالم بها ، لأن اليهود احترموا لغتهم ففرضوها على العالم ، ولم يكن أحد يتحدث بها إلا كهنة معابد اليهود وكانت العبرية والديانة اليهودية أهم وسائل تكوين دولة مترابطة، لأن اليهود قدموا من شعوب شتى ولغات شتى فجمعتهم العبرية والديانة اليهودية.(41/1)
إننا لنلوي ألسنتنا بعجمتهم ورطانتهم في كل بلدانهم حيث لا يحترمون لنا لغة ولا ذات، ويوم يدخلون بلداننا ترانا نستبق تحت أقدامهم لنترجم لهم خدماً طيعين بلا أجر ، بل ونحرص ألا تعكر مزاجهم كلمة عربية واحدة ، بل إن المريض في الدول العربية عندما يشتد به المرض قد لا يفكر في الذهاب إلى المستشفى لأنه لا يستطيع أن يشرح مرضه بلغة أخرى ، وهم لا يفهمونه بل ربما أمرضوه أو قتلوه لأنه لا يعرف لغتهم ولا يعرفون لغته .
لقد انهارت الثقافة الإسلامية وعلومها العربية يوم أن كانت اللغة التركية لغة ثانية بل لغة مسيطرة في البلاد العربية، وعشنا زمناً طويلاً من الانطواء وضعف العلوم والثقافة ، لأن اللغة المهيمنة لم تكن لغة المجتمع فلم تكن العربية ، ولم يتعرب الأتراك ، واليوم سيكون بقاء اللغات الأجنبية مسيطرة في بلاد المسلمين علامة انهيار ثقافي وتبعية سياسية شاملة ، فمجتمع يعيش بلغتين ويحيا ثقافتين مجتمع مصيره المسخ والانهيار ، فاختاروا لكم حياة ثقافية وحضارية واحدة، إما أن تكون العربية، أو الفرنسية، أو الإنجليزية، وتجنبوا مشاريع التقليد الفاشلة قديماً وحديثاً . ونحن اليوم نعيد تجربة العهد التركي الفاشلة ثقافياً مع أنها حمت المسلمين عسكرياً زمناً طويلاً ، نعيد التجربة مع الغربيين. لقد آن لنا أن نعي ثقافتنا ونعرف أهمية لغتنا وألا نحيا حياة المسوخ ، وليس في هذا منع لوجود مختصين ونقلة لما نحتاجه من الغرب أو الشرق ، فتكون هناك حاجة دائماً لمن يعرف هذه اللغات سواء اليابانية أو الصينية أو العبرية أو الإنجليزية أو الفرنسية ، ولكن ليس بهذه العملية الماسخة لشعوبنا، الممزقة لها سياسياً وثقافياً، آن لنا أن نتخلص من هذا الاستعمار الفكري المزري).(41/2)
ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما
تعليم اللغة الأجنبية للأطفال
محمد الناصر( البيان ، 36) :
(إن إتقان اللغة الأجنبية لا يتم إلا على حساب اللغة الأم لغة العرب ، ومع اللغة تدخل المُثُل التي يريدها الأعداء ، فضلاً عن الإتقان الضائع على حساب لغة القرآن.
ولا يقول عاقل أو مخلص : بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال ونترك تعليمهم الفصحى لتشيع العامية وينتشر اللحن بين الناشئة.
"والوقت المناسب لدراسة اللغة الأجنبية يكون عادة في سن المراهقة أو قبلها بقليل ، وذلك عندما يبدأ الناشئ يهتم بالعالم الخارجي ، وبالأقوام الذين يعيشون خارج وطنه ممن لهم به صلة في تاريخ أمته القديم أو الحديث ... ففرنسا وإنجلترا ومعظم دول أوربا لا تعلّم في المرحلة الأولى إلا لغة الطفل القومية" ([1]).
"وقد أدرك الإنكليز وأمثالهم أن التربية الإسلامية أكبر خطر على الاستعمار ، ولكنهم لم يجابهوها بالعنف والإكراه ، وإنما عمدوا إلى إفسادها من الداخل باسم الإصلاح والتحديث . ومن النقط الأساسية التي أصبحت تحدد إطار التربية في البلاد المختلفة فرض لغة المستعمر ، واستعمال كل الوسائل التي تؤدي إلى ضياع لغة البلاد الأصلية.."([2]).
وقد فطن ابن خلدون إلى مضار الجمع بين لغتين أو علمين فيقول : "ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم : أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً ، فإنه حينئذ قلَّ أن يظفر بواحد منها لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر ، فيستغلقان معاً ويستصعبان ، ويعود منهما بالخيبة".[3](42/1)
والذي نلمسه بوضوح أن الإنكليز وكل الدول المستعمرة يحاولون أن يجعلوا لغتهم لغة التعليم أينما حلُّوا ، وقد أورد الدكتور محمد أمين المصري - رحمه الله - من كلام أبي الحسن الندوي قوله : "وإن الاهتمام الزائد باللغات الأجنبية ، وإعطاءها أكثر من حقها - يجعلها تنمو على حساب اللغة العربية. وإن تدريس عدة لغات في وقت ما قد أصبح موضع بحث عند خبراء التعليم خصوصاً في المراحل الابتدائية والمتوسطة"([4]) .
فما بالك - أيها القارئ الكريم - بَمن هم دون تلك المراحل ؟ ممن لم يتقنوا النطق الجيد بلغتهم بعد ، ثم يُطلب منهم معرفة لغة أقوام آخرين ؟! .
ومن الغرائب أن بدعة حديثة أصبحت تغزو المدارس الخاصة في ديار المسلمين ، إذ يخصص لمادة اللغة الإنجليزية مثلاً أربع حصص في الأسبوع وأين ؟ وفي أي مستوى ؟ في رياض الأطفال ، وسن التمهيدي ، أي قبل السنة الأولى من المرحلة الابتدائية .
وصار يعتبر ذلك معياراً لجودة هذه المدارس ، بسبب إقبال الأهالي ورغبتهم ثم المتاجرة بهذه الرغبات .
إن تعلم لغة أخرى لضرورة ملحة ، أو أمر طارئ - لا غبار عليه ؛ فزيد بن ثابت – رضي الله عنه – كان في الحادية عشرة من عمره ، لما قدم رسول الله – صلي الله عليه وسلم – المدينة المنورة ، وكان يكتب العربية ويروي عن نفسه فيقول : "أُتِيَ بي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – مقدمه المدينة ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا غلام من بني النجار ، وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأعجبه ذلك ، وقال : يا زيد تعلّم لي كتاب يهود ؛ فإني - والله - لا آمنهم على كتابي . قال : فتعلَّمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته"([5])
نلاحظ هنا : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب من زيد أن يتعلم لغة اليهود بعد أن حذق اللغة العربية كتابة ، وحفظ من القرآن الكريم ما حفظ .(42/2)
أما أن يعلم أطفال المسلمين لغة أجنبية - وهم لا يتقنون لغتهم نطقاً أو كتابة - فهذا لا يقوله عاقل أو منصف. ونستفيد من هذا الحديث أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يختار في تربيته الشخص المناسب للمكان المناسب ، فعلينا ألا نبدد الطاقة الحية ، والكفاءة الممتازة ، ونفوّت بذلك مصلحة من مصالح المسلمين .
وهاهو واقع المسلمين يشهد بأن الطاقات تهدر ، وفي أبناء هذه الأمة العباقرة والممتازون ، لأمر أو لآخر ، مما لا يُرضي الله ، ولا ينسجم مع مصلحة المسلمين.
وكثيراً ما نضع الشخص غير المؤهل لمنصب لا يصلح له ، ولسان الحال يقول :
"ليس بالإمكان أحسن مما كان" .
ونحن لا نتحدث هنا عن أبناء المسلمين في ديار غيرهم ، فهؤلاء يعانون من الضغوط عليهم - هم وأهلوهم - الكثير ، والحاجة هنالك ماسة لوجود مؤسسات تربوية تصون لغة الجيل الثاني وعقيدته ، وقد اضطر هؤلاء غالباً أن يعيشوا في تلك الديار مكرهين ، أعانهم الله وسدد خطاهم نحو الخير.
وأخيراً نختم هذه الفقرة بقول ابن تيمية - رحمه الله - : "وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه ، إذا اُحتِيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة .. وإنما كرهه الأئمة إذا لم يُحْتَجْ إليه")([6]).
([1]) أسس التربية وعلم النفس : أحمد يوسف ، ص36.
([2]) انظر بحثاً قُدم لندوة "أسس التربية الإسلامية" بمكة المكرمة للدكتور محمد خير عرقوسي.
([3]) مقدمة ابن خلدون : ص1032.
([4]) المسؤولية : ص 130.
([5])رواه أبو داود والترمذي وأحمد والطبراني ، وصححه الحاكم ، وعلقه البخاري في صحيحه ، وانظر أعلام النبلاء2/429.
([6]) الفتاوى : 3/306(42/3)
ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما
أطفالنا ومدارس اللغات الأجنبية
د. مصطفى حسين ( البيان ، 122) :
(شهدت بعض البلدان العربية في الآونة الأخيرة انتشاراً واسعاً لما يسمّى: (مدارس اللغات)، وهي نمطٌ من المدارس يُعنى بتدريس اللغات الأجنبية بشكل مكثّف منذ مرحلة (رياض الأطفال) إلى نهاية المرحلة الثانوية، ولا تكتفي هذه المدارس بلغةٍ أوروبيةٍ واحدة، بل تدرّس لغتين اثنتين، إحداهما هي اللغة الأوروبية الأولى، وتبدأ من مرحلة (رياض الأطفال)، والثانية هي اللغة الأوروبية الثانية، وتبدأ في مرحلة متأخرة نسبياً. ويتم في هذه المدارس تدريس موادّ العلوم والرياضيات باللغة الأوروبية الأولى إلى جانب مقرّر مكثّف لهذه اللغة، ومقرّر أقل كثافة للغة الأوروبية الثانية، يظل مرافقاً للتلميذ إلى نهاية المرحلة الثانوية. وبطبيعة الحال يتم تدريس مقرري اللغة العربية والدين، والموادّ الاجتماعية (وهذه تدرس باللغة العربية)، بالمستوى السائد في المدارس العربية.
وهذا النهج الدراسي يعتبر نمطاً خطيراً من (ازدواجية التعليم) يذكرنا بما صنعه (دنلوب) ـ الوزير البريطاني خلال العشرينيات الميلادية من هذا القرن ـ في مصر خلال حقبة الاحتلال البريطاني.
ومن الملاحظ أن هذا النمط من المدارس ينتشر ويتزايد إلى حدّ التفاقم، ويتزايد الإقبال عليه، حتى وصل الأمر إلى تحويل بعض المدارس الحكومية إلى مدارس للغات. وعلى حين كانت مدارس اللغات مقصورة ـ إلى عهدٍ قريب ـ على أبناء الأثرياء القادرين، فقد بدأت تشهد إقبالاً متزايداً من جانب محدودي الدخل، أولئك الذين يعانون إرهاقاً شديداً، ومع هذا يصرّون على احتمال هذا الإرهاق، بسبب تصورهم الواهم عن هذه المدارس، وما تصنعه لأبنائهم من مستقبل زاهرٍ مضيء.(43/1)
وأمام المنافسة الشديدة لهذه المدارس، وأمام رواجها المتزايد، اضطر بعض أصحاب المدارس الأهلية، التي أخذت على عاتقها تكثيف الجانب الإسلامي في الإعداد والتدريس، نقول: اضطرّت هذه المدارس الأهلية إلى أن تصدِّر إعلاناتها ولافتاتها بعبارات مثل: (تعلّم الإنجليزية) أو (مدارس... الأهلية الإسلامية للغات).
والأعجب من ذلك والأخطر أن المسؤولين عن التعليم في هذه البلدان يقفون صامتين أمام تلك الظاهرة، ويشاركهم صمتهم الجمهرة الغالبة من خبراء التربية. وقصارى ما يفعله الخبراء أن يكتبوا بحثاً عن (الثنائية اللغوية في المرحلة الابتدائية)، بين مرحِب ورافض، وحتى إن بعض أولئك الرافضين يتحدثون عن هذه الثنائية من ناحية القدرات دون أدنى تعرّض للخطر الداهم الذي تتعرض له الأمة نتيجة هذا الغزو الداهم لكيانها وهويتها، ممثلاً في الناشئة.
وهكذا، فإن هذا النمط من المدارس الذي يتكاثر ويتفاقم، ويستجيب لاندفاع جماهير الناس في موجاتٍ محمومة يوشك أن يكون الأصل والأساس، وأن تصبح (المدارس العربية) عنصراً طفيلياً دخيلاً، يفقد بالتدريج مقومات وجوده بل ومسوغات استمراره في ساحة التعليم.
ومع الاندفاع المحموم نحو (مدارس اللغات)، وأمام تكاثرها المتزايد، بدأ فريق من رجال الأعمال والمستثمرين يشاركون في تأسيس هذه المدارس، ولا همّ لهم إلا تحقيق الكسب المادي؛ والغريب المثير أن هذه الفئة لا صلة لها ـأصلاًـ بحقل التربية والتعليم، فبعضهم من التجار، والآخر من أصحاب المشاريع الصناعية.
ذريعة مدارس اللغات:
ولكن ما هي الذريعة التي يتشبث بها المؤيدون لهذا النمط من المدارس، سواء في ذلك الآباء أو التربويون؟(43/2)
وجوابهم هو: أن المستقبل والحاضر يقفان إلى جانب اللغات؛ فها هو العالم قد تحول إلى قرية صغيرة مفتحة النوافذ؛ مما يفرض تعلم لغة أجنبية واحدة على الأقل يستطيع الإنسان من خلالها أن يتصل ويتواصل، وأن ينفتح على المستجدات المتسارعة في المجالات المعرفية والتقنية، وأن الاقتصار على اللغة الأم يعني العزلة والانغلاق، وحتى يستطيع إنسان العصر المتجدّد أن يحافظ على بقائه، فإنه ينبغي عليه أن يتواصل مع الآخرين.
ونودّ قبل أن نردّ على أصحاب هذه الذريعة، أن نقرر حقيقة هامة: وهي أننا لا نعارض ـ قط ـ مبدأ تعلم اللغات الأجنبية، ولا نؤيد ـ قط ـ مبدأ الاقتصار على العربية لغتنا الأم، سواء في عصرنا أو في عصرٍ سبق أو عصر لاحق؛ ولكننا نقرر جملةً من الحقائق نفند بها ذرائع المؤيدين لمدارس اللغات، ونوجزها فيما يلي:
أولاً: نحن نؤيد تجربة اللغات ومدارس اللغات، شريطة أن تكون هذه التجربة في إطار هدف سامٍ نابع من هويتنا وجذورنا، وشريطة أن نُخضع هذه التجربة لنظام دقيق؛ بحيث لا يسمح لها بالانفلات والتكاثر المحموم، وشريطة أن يتوافر لها العناصر القادرة المدرّبة: تدريساً وتوجيهاً وإدارةً، وأن تقتصر على أبناء المبتعثين العائدين من دول أجنبية، أو من في حكمهم من أبناء الأجانب: أعضاء البعثات الدبلوماسية، ورجال الأعمال([7]).
ثانياً: لِنكنْ واقعيين مع أنفسنا، ومع الواقع ذاته ولْنتساءلْ: هل استطاعت الأسر التي ألحقت أبناءها بهذه المدارس أن تتابع أبناءها؟ وهل لدى غالبية تلك الأسر القدرات اللغوية التي تمكنهم من تلك المتابعة؟
ثالثاً: هل استطعنا أن نحسم قضية تعريب كليات الطب والعلوم والهندسة، حتى نضيف إلى القضية قضايا أخرى؟(43/3)
وللأسف الشديد فإننا نصرّ على المغالطة وإغماض أبصارنا وبصائرنا عن الحقيقةِ والواقعِ، والحقيقةُ والواقعُ أن طلابنا في كليات الطب ـ مثلاً ـ وكذلك أطباؤنا يجدون صعوبات جمّة تحول دون الاستيعاب الحقيقي للمادة الطبية، لا فرق في ذلك بين من حصل على (الثانوية العامة) من مدارس عربية أو مدارس اللغات.
رابعاً: وضع اللغة العربية: للغتنا الأم، وضعٌ مقلق مزعج إلى أبعد الحدود؛ والدليل واضح ماثل لكل ذي بصرٍ وبصيرة؛ فطلابنا يعانون ضعفاً مزرياً في لغتهم الأم، وقد بدت الشكوى متزايدة من هذا الضعف، فخريجو الجامعات ضعاف في اللغة العربية، لا فرق في ذلك بين خريجي أقسام اللغة العربية ومعاهدها، وبين غيرهم، والأغلاط اللغوية في الكتب والصحف متفشية. وهذا الضعف ليس في أساسيات اللغة العربية ومهاراتها ـ فقط ـ بل يمتد إلى معارفها وثقافاتها المتصلة بها. فكيف نضيف إلى ضعفنا في لغتنا الأم ضعفاً في سائر اللغات؟
خامساً: نشير هنا إلى رأي فريق من علماء التربية لا يستهان به؛ فالبعض يؤكد أن ثمة ظاهرةً تسمى ظاهرة: (الاعتماد أو التوافق المتبادل Interdependence ) بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، مما يؤثر في إتقانهما معاً؛ فالطفل الذي يتلقى دروساً في لغة ثانية (أجنبية)، قبل أن يتقن لغته الأولى لن يتقدم في هذه أو تلك([8]).
سادساً: يقسّم بعض علماء التربية الثنائية اللغوية إلى نوعين: (الثنائية اللغوية الطارحة، والثنائية اللغوية الجامعة) فالأولى هي تلك التي تسود بين أطفال يتهدد لغتهم الأم خطر الاندثار، وأما الثانية فهي تلك التي تسود بين أطفال تتمتع لغتهم الأم بقدرٍ كبيرٍ من الرسوخ والتفوق.
والسؤال: إلى أي النوعين تنتمي الثنائية اللغوية في ظل ما يسمّى بمدارس اللغات؟(43/4)
نضيف إلى ما تقدّم حقيقة تربوية لا يختلف عليها التربويون برغم اختلافهم حول قضية (الثنائية اللغوية)، وهي: (أنه كلما ازداد أساس اللغة الأم رسوخاً، واستمرت في تطورها ازدادت القدرة على اللغة الثانية)([9]).
سابعاً: يتشبث المتحمسون لمدارس اللغات بمنطق مغلوط معكوس؛ فالمعلوم ـ من واقع التاريخ الإنساني ـ أن المجتمع لا يحافظ على بقائه في عالم مفتّح متواصل، بالحفاظ على هوية الآخرين والذوبان المطلق فيهم، ولكن بحفاظه على هويته أولاً، وتحصين ذاته ضدّ عوامل الفناء والاندثار؛ فإن صنع الإنسان العكس، فقد غالط طبيعة الأشياء، ورضي لنفسه أن يكون التابع الذليل.
وإذا راجت بيننا اليوم مقولة أن (لا مكان في عالم اليوم لمن لا يتسلح باللغات)، فإن الأصحّ من هذه المقولة أنه (لا مكان لمن يدخل بيوت الآخرين، بعد أن نسف بيته، وأتى على بنيانه من القواعد).
ثامناً: نؤكد ـ ونحن مضطرون للتكرار ـ أننا لا نرفض مبدأ تعلم اللغات، ولكن شريطة أن يكون هذا المبدأ مؤسساً على أهداف وثيقة الصلة بوجودنا وكياننا وأصالتنا، ومرتبطاً بخطة مدروسة لا تتجاهل واقع مدارس اللغات، وحصاد هذه التجربة بعد اتساعها واستفحالها، على أن نخضع ذلك كله لدراسة علمية فاحصة، تسبر الواقع ونتائجه دون تجاهل أو تعصب.
تاسعاً: ليس من اللازم اللازب ـ لكي نحقق مبدأ التواصل مع عالمنا وعصرنا ـ أن نترك الحبل عل غاربه لمدارس اللغات، وأن يُرهق أبناؤنا وبيوتنا مادياً ونفسياً؛ إذ يكفي أن ندعِّم مقررات اللغات الأجنبية (اللغة الثانية) في المرحلة المتوسطة (الإعدادية)، وأن نعمل على تطويرها، مع الملاحقة والمتابعة لمقررات اللغة العربية، بالتطوير والدعم المستمر وتدريب المختصين بها: معلمين وموجهين، وإخضاع الكتب المقررة للدراسة الدائمة في ضوء مرئيات التلاميذ والمعلمين وأولياء الأمور وسائر من ينبغي الاستئناس بآرائهم من الخبراء وأساتذة التربية.(43/5)
عاشراً: إن قضية (ثنائية التعليم) منذ المراحل الأولى للتعليم (رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية) قضية ما تزال مثارة، والخلاف حولها ما يزال قائماً، فلماذا نتصرف على أنها قضية محسومة؟ ولماذا هذا التدافع المحموم نحو اللغات ومدارس اللغات.
حادي عشر: إن نجاح الأمم يقاس بمبدأ: (التوازن الثقافي) الذي تحققه لنفسها، وبقدر هذا التوازن بين كيانها وأصالتها من جانب وثقافات الآخرين من جانب آخر تكون قوتها وقدرتها على العطاء الإنساني الذي يكسبها الاحترام والوجود المتميز.
بقيت حقيقة أخرى نختم بها مقالنا وهي تتعلق بما يسمى دولة (إسرائيل) واللغة العبرية؛ فقد استطاع اليهود أن يجعلوا لغتهم الأم، (وهي العبرية)اللغةَ الدارجة السيّارة: في المدرسة والجامعة، والحقل والمزرعة، والمتجر والمصنع، والشارع العام؛ وهي لغة العلم والتعليم والإعلام والسياسة. وقد عاش اليهود ـ على آمادٍ طويلة من الأحقاب ـ يعملون بكل سبيل على أن تظل لغتهم حية تحتكّ بكل لغات العالم، لكي تبقى وتعيش لا لتفنى وتندثر.
وفي كل بلد عاش فيه اليهود، كانوا يتحدثون بلغتهم، ويشاركون بأقلامهم في الإبداع الأدبي والعلمي بلغة هذا البلد، ولكنهم داخل (الجيتو (الذي حرصوا على أن يصنعوه لأنفسهم، كانوا يتحدثون العبرية ويلقنونها أبناءهم.
فهل نتنكر نحن للعربية، ونذوب عشقاً وهياماً في الآخرين؟
إن العربية أعرق وآصل من العبرية ومن غير العبرية، وأيادي العربية على العبرية وغيرها من اللغات يؤكدها التاريخ. والناشئةُ من أبنائنا أحوج في هذا العصر، وأكثر من أي عصر مضى، إلى أن يرتبطوا بلغتهم حباً وولاءً.
والعربيةُ ـ بعدُ ـ ارتبطت بكتاب سماوي خالد، وارتبط بها ذلك الكتاب السماوي(*).
فهل تصحو ضمائرنا؟!!).(43/6)
([7]) أشار الكاتب في أول هذه الفقرة إلى تأييد مدارس اللغات ما دامت في إطار هدف سامٍ نابع من جذورنا وهويتنا؛ وانطلاقاً من هذا المبدأ فإنه ينبغي ألا نقصر هذا النوع من الدراسة على الفئات التي أشار إليها الكاتب الكريم ما دامت هذه المدارس تسير وفق خطة واضحة المعالم تخدم الأمة وتسهم في تحقيق تطلعاتها، وتحول بينها وبين إضعاف اللغة الأم.-البيان-
([8]) وانظر: الطفل العربي واللغات الأجنبية (سلسلة عالم العربية، الرياض 1993م)، تأليف د. نادية أحمد طوبا، ص 39، 83، دار النشر الدولي بالرياض.
([9]) وانظر: الطفل العربي واللغات الأجنبية (سلسلة عالم العربية، الرياض 1993م)، تأليف د. نادية أحمد طوبا، ص 39، 83، دار النشر الدولي بالرياض.
(*) أرجو أن أتفرغ لدراسة منهجية أصيلة حول هذه الفكرة؛ والله أسأل التوفيق والسداد.(43/7)
ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما
علة اهتمام الأمم بلغاتها
حبيب أبو قيس ( البيان ، 17) :
(إن وجود أمة قائمة ذات شخصية متميزة وكيان مستغل ، وذات تقاليد وأعراف وطبائع نفسية وسلوكية مرتبط تمام الارتباط ببقاء لغة هذه الأمة ، بل مرتهن بحياة هذه اللغة أو موتها ومحاذٍ لمستويات ازدهارها وضعفها.
إن الأمة عندما تفقد لغتها الأصلية وتهيمن عليها لغة أخرى غير لغتها فإن ما يحدث هو أن نجد بعد فترة من الفترات أمة أخرى لها كيانها وخصائصها التي تختلف عن تلك الأمة الأولى ، فكلاهما أمتان مختلفتان وإن كانوا في الأصل نفس الأمة السابقة في الموطن الجغرافي والسلالة البشرية ، وينطبق هذا إلى حد كبير على أفراد الجيل الذين يطرأ عليهم هذا التغير اللغوي ويعيشون في عصرين مختلفي اللغة ، فهؤلاء وإن كانوا جيلاً واحداً ، إلا أنهم يصح القول عنهم : إنهم كانوا في اللغة الأولى أناساً مختلفين عما هم عليه الآن من غير نسيان لما للبيئة الأولى ولغتها على وضعهم الجديد من تأثير على أيّ مستوى يكون.
إن اللغة ذات دلالة وسمة للأمة الناطقة بها ، بل : "إن لغة الأمة دليل نفسيتها وصور عقليتها ، بل هي أسارير الوجه في كيانها الاجتماعي الحاضر ، وفي تطورها التاريخي الغابر ، لأن وراء كل لفظة في المعجم معنى شعرت به الأمة شعوراً عاماً ، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظ خاص ، فوقع ذلك اللفظ في نفوس
جمهورها موقع الرضى ، وكان بذلك من أهل الحياة ، وما معجم اللغة إلا مجموعة من المعاني التي احتاجت الأمة إلى التعبير عنها ، فاختارت لكل معنى لفظاً يدل على الجهة التي نظرت الأمة منها إلى ذلك المعنى عندما سمته باللفظ الذي اصطلحت عليه ، فلغة الأمة تتضمن تاريخ أساليب التفكير عندها من أبسط حالاته إلى أرقاها ، يعلم ذلك البصير في أبنية اللغة وتلازمها ومن له ذوق دقيق في ترتيب تسلسلها الاشتقاقي"([10]).(44/1)
وتزداد أهمية اللغة وضوحاً عندما نتكلم عن ما يعرف بصراع اللغات.
الصراع اللغوي :
لا يعني هذا المقال بالحديث المباشر عن صراع اللغات أو أسبابه أو نتائجه ، وحسبنا هنا أن هذا الصراع قائم ، وله وجود في لغات الأمم ذات الاحتكاك الكثير والمباشر بأمة أو ذات لغات أخرى. وتزداد فاعلية هذا الصراع وحدّته عندما تكون أمة من الأمم لها أطماع في أمة أخرى.
ولا ريب أن الصراع اللغوي ينشأ من تجاور أو معايشة لغتين واحتكاكهما ببعضهما ، وسواء أكانت اللغتان لأمتين مختلفتين أو أمة واحدة ، ومعنى هذا أن الشعوب ذات اللغة الواحدة ولكنها تتخذ لغة أخرى في بعض شئونها الحيوية كتدريس بعض العلوم وبخاصة العلمية التطبيقية كالطب والهندسة وما إليهما في المعاهد أو الجامعات كشأن بعض البلاد العربية مثلاً ، فهذه الشعوب قد فرضت على نفسها صراعاً لغوياً كان بإمكانها دفعه لو استخدمت لغتها الأصلية في هذه المعاهد أو تلك المصالح الحيوية.
ولقد عرف الناس مغبة من أخذ العلم بغير لغة أمته من قديم ، وشاعت في الناس حكمة يرددونها : إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم ، ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة.
وتقع في شراك الصراع اللغوي أيضاً بعض الشعوب التي تفتح الباب لاستقدام أناس لا يتكلمون لغة من يستقدمونهم ليباشروا كثيراً من الأعمال الحيوية التي تقف على إحيائها شركات أو مؤسسات تستخدم أعداداً غفيرة من البشر ، فهذه الأفواج البشرية ستفرض صراعاً لغوياً مع لغة من وفدوا إليهم.(44/2)
ولا ريب أن نزوح العناصر الأجنبية إلى بلد ما -مع هيمنتهم لإدارة مصلحا هذا البلد مثلاً- مما يحدث هذا الصراع اللغوي كما هو مقرر عند علماء اللغة([11])، ولعل الأمة التي استخدمت هذه العناصر التي لا تتكلم لغتها تنجو من الصراع اللغوي لو استقدمت أناساً يتكلمون بلسانها ولا غرو أن الأمم التي توقع نفسها في مثل هذا الصراع اللغوى تعرض نفسها لداء خفي وتقع في خطأ يدل على قصر النظر.
الصراع اللغوي ليس بالأمر اليسر ، بل له أبعاده وخطورته العميقة ، ولا يشعر بحقيقة هذه الخطورة عامة الناس ، بل ولا كثير من المثقفين ، وإنما يفهم ذلك اللغويون الذين يعون ذلك جيداً ، ولذلك فلا غرابة لما نسمعه من أن أبا الأسود الدؤلي هاله ما رأى من ظهور اللحن في زمانه ، لقد شعر جيداً بالأمر فعدّه من الأهوال ، وهو كما رأى -رحمه الله- ، حتى أخذ يناشد الولاة ويستحثهم إلى وضع ما يدفع به ذلك الداء النازل بهم([12]).
إن الصراع اللغوي يحتاج إلى عشرات بل مئات من السنين حتى يتضح أثره وتتجلى خطورته ، إن هذا الصراع هو صراع بقاء ومحاولة هيمنة لإحدى هاتين اللغتين على الأخرى ، وهذه أمثلة يتجلى بها للقارئ آثار الصراع اللغوي ونتائجه الخطيرة الأثر في حياة الشعوب([13]) .
لقد نتج عن غزو الرومان لوسط أوربا وشرقها وجنوبها أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية لفرنسا وأسبانيا وايطاليا وغيرها ، ذلك مع قلة الرومان المغيرين على هذه البلاد بالنسبة لسكانها ، وفي العصر الحديث عندما انتشر الغزو الأوربي لأطراف الأرض كوّنت دول أوربا كتلاً بشرية في مناطق هجرتها ، وكثُر أفرادها مع قوة سيطرتها كان من ذلك أن نجم عن استعمار الانجليز لأمريكا الشمالية واستراليا وبعض نواح في جنوب أفريقيا انتشار اللغة الإنجليزية في هذه الأرجاء الواسعة. ونجم عن استعمار الأسبان في أمريكا الجنوبية أن كانت الأسبانية لغة معظم دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وغيرها.(44/3)
وإذا كان هذا الصراع السابق مرتبطاً بالصراع السياسي ، وكانت ظروفه تختلف عن صراع آخر أقل جرأة ووسائل كتغلب اللغة العربية بفضل انتشار الإسلام على كثير من لغات الشعوب الآسيوية وعلى لغة الأقباط ولغة البربر في أفريقيا ؛ فإن هذا لا ينكر خطورة الصراع اللغوي الذي قد تحدثه عوامل أخرى غير سياسية أو حربية.
وإنما قلت عن تغلب العربية : إنه أقل جرأة ووسائل ، لأن المسلمين لم يفرضوا لغتهم ويتشددوا في ذلك في البلاد التي فتحوها ، ولم يكن لهم من الوسائل العسكرية أو العلمية الحديثة ليستخدموا كل ذلك في نشر لغتهم كما حدث في الاستعمار في العصر الحديث ، ولا ننسى أن العربية لما كانت لغة الدين كان ذلك دافعاً روحياً للشعوب الداخلة في الإسلام أن ترغب في هذه اللغة وتقبل عليها وتنشرها في بلادها.
والذي ينتج من غلبة لغة على لغة وحلولها محلها أن تذوب شخصية الأمة صاحبة اللغة المغلوبة تدريجياً في الأمة الغالبة ، وتصبح بعد أن كانت لها مقوماتها وخصائصها وهي على لغتها الأصلية ، تصبح مندمجة في أمة أخرى ، وقد فقدت ما كانت تحمله في ذاكرتها من الأفكار والمعتقدات وسائر المعاني المختلفة عما كانت تراها وتفهمها ، وتراها بعد ذلك بمنظار فكر اللغة الأخرى الذي لابد أن يغاير فكر اللغة الأولى في كثير من المعاني والتصورات.
ويأتي بعد هذه النتيجة أيضاً أن تُقطع الأمة التي استبدلت لغتها عن تراثها وأصلها، فتنشأ أجيال هذه الأمة المقطوعة فاقدة الهوية ، لا تراث ولا انتماء ، وهذا مما ييسر احتواء هذه الأجيال وإذلالها والتحكم في توجيهها.(44/4)
إن الجيوش العسكرية التي تتخذها الأمم لنشر سيطرتها وبسط سلطانها تسبقها جيوش لغوية ، تحمل هذه الجيوش لغة الأمة الغازية وتبشر بأفكارها وتذيع مبادئها وترسم شخصيتها ، ولقد كانت هذه الجيوش اللغوية عظيمة الأثر في بث فكرها والدعوة إليه بين القوم الذين وفدت إليهم ، فقبل أن تجيء الجيوش العسكرية استطاعت جيوش اللغة الأجنبية أن تهيء لها أتباعاً وأنصاراً يحملون فكرها ويدافعون عنه ويدعون إليه فوق فخرهم بهذه اللغة وميلهم إلى أهلها.
إن الحديث بلغة قوم يفضي إلى الميل إليهم والتعايش معهم -إن لم يكن هناك حصانة فكرية لمن يتحدث بها- ويقوى هذا الميل عندما تكون هذه اللغة لأمة أرقى وأقوى من لغة من يعيش معهم من أهل لغته. إن أصدق ما أدلل به على هذا الأمر ما كان من أمر الاستعمار الأوربي الحديث لكثير من أجزاء العالم وبخاصة العالم العربي ، والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين([14]) .
لقد تركزت هذه الجيوش في المناطق الخصبة لنموها من حيث سعة الانتشار والأبعاد السياسية ، أتت جيوش اللغة إلى مصر والشام على وجه الخصوص في شكل إرساليات علمية ، اتخذت صوراً كثيرة منها المدارس والمعاهد ، ومنها الكنائس والأديرة والمصحات وغيرها.
لم تأت جحافل فرنسا وبريطانيا العسكرية إلا وللغة الفرنسية والإنجليزية في مصر والشام شأن لا يمكن تجاهله ، يتحدث بها كثير من الناس ، ولها مناطق ومصالح لا يمكن العيش فيها إلا بلسانها ، ولقد طغى الأمر في بعض الفترات حتى كان من أفراد الأمة ومثقفيها من يستنكف عن الحديث بلغة بلاده أو التعامل بلهجة أهله، وينظر إلى لغته وثقافة أمته بازدراء كبير ، وسمع من مثقفي الأمة العربية وعقلائها من صاح ورفع عقيرته في وجه هذه الظاهرة المزرية([15]).(44/5)
وأصبح من أفراد الأمة من يباهي بالثقافة الفرنسية لأنه يجيد لغتها ، وآخرون ينافحون عن الإنجليزية لأنهم يلوكونها وقد تعلّموا شيئاً من ثقافتها ، غدا كل منهم كأنما هو فرنسي أو إنجليزى وطبعوا حياتهم -في جوانبها المختلفة- بطابع الحياة الإنجليزية أو الفرنسية ، ولا شك أن ذلك يفصح للناس عن أثر اللغة البعيد الذي قد لا يظن بعضنا أنه يصل إلى نحو من هذا السلوك في حياة الإنسان.
ضرورة زيادة الاهتمام باللغة :
تأتي هذه الزيادة في أهمية اللغة العربية لارتباط هذا اللسان العربي بملة الحنيفية دين الإسلام ، ولا غرو فقد كانت خاتمة رسالات السماء إلى الأرض تفصح بلسان عربي مبين ، وقد كانت هذه الرسالة هي الدين الذي أراد الله سبحانه ظهوره وهيمنته في الأرض على سائر الملل والأديان الأخرى ، بل حذّر الله البشرية من العبودية بسواه ((ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)) فكان -كما هو معلوم- أن نزل القرآن بلغة العرب وبعث الله خاتم رسله وهو عربي الجنس واللسان ، وأوحى إليه من وحيه ما هو مماثل للقرآن من السنّة ، وكان من ذلك الأصلان العظيمان لهذا الدين ، أعني القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكلاهما بلسان العرب ولغتهم ، فكان من ذلك الأصل والمرجع والقاعدة التي يُعَوَّل عليها في فهم هذا الدين في أصوله وأحكامه ، وعلم أسراره وجزئياته ، وبخاصة عندما تضطرب المفاهيم وتقع الخلافات في شيء مما يتعلق بعلوم هذا الدين وأحكامه ، فالأصل موجود ولا مجال لبقاء النزاع ، ((فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ...)) ولا مراء أن بقاء هذا الدين متوقف على بقاء حياة هذين المصدرين الأساسيين ، وذهابه حاصل بفقدهما ، ومن هنا يمكن القول :(44/6)
أ- إنّ أي محاولة للقضاء على اللغة العربية أو النيل منها ، على أيّ وجه من أوجه النيل المتعددة ، سواء ما استتر تحت وجه الإصلاح ، أو تظاهر بادعاء التطوير ، أو التفجير اللغوي ، أو الدعوة إلى العامية كما حدث في عصرنا الحاضر أو غير ذلك ، كل ذلك سيصل في آخر الأمر إلى مس هذين المصدرين ، ومن ثمّ القضاء عليهما أو مسخهما وتحريفهما عن الحقيقة التي جاءا عليها ، وهذا هو القضاء المبرم والهدم الحقيقي لإزالة هذا الدين من الوجود والتخطيط لاقتلاع جذوره أو قلب حقائقه.
ب- إنّ معرفة حقيقة هذا الدين والإلمام بأصوله وفروعه والوقوف على أحكامه لاتكون دقيقة وصائبة إلا بالوقوف على أصول هذا الدين في لغتها الأصلية ، والتي جاء بها النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- فكما هو معلوم لأهل اللغة أن الترجمة لأي عمل إبداعي وحتى غير الإبداعي تنقص وتعجز كثيراً عن الوفاء الكامل بما يحمله الأصل من دقة في أفكاره وأساليبه وإيماءاته ، فكذلك الحالة هنا ، مع العلم أن القرآن لم يترجم إلا معانيه كما يرى ذلك علماء الإسلام ، ولا يغيب عن البال أن هذين المصدرين في الذروة العليا من الفصاحة والبيان ، وقمة الإبداع اللغوي.
ومن هنا ، من هذا الإبداع اللغوي العظيم لهذين المصدرين يتضح لنا القصور العظيم في أي ترجمة لمعانيهما أو لهما إلى لغات أخرى عن الوفاء بدلالات لغتهما العربية ، وذلك ، بلا ريب مدعاة إلى تحريف هذين الأصلين أو الوقوع في ذلك على أقل تقدير ، وتحريف الترجمة والفهم هنا هو تحريف لحكم شرعي أو استنباط فقهي ، مما قد لا يكون هو الحكم الشرعي الصائب ، أو ما جاءت به الشريعة المطهرة ، وهذا كله من نتائج الترجمة المباشرة لأي من هذين المصدرين.(44/7)
أما اعتماد هذه الترجمة لهذين الأصلين عند وجودها لتقوم مقام أصلهما ومن ثم الركون إليها في استنباط أحكام الشرع والاجتهاد في استخراج الأحكام ، فهنا تكون النتائج أشد خطراً وأبعد كثيراً عن مراد الشارع وما جاء به الدين ، وبذا يظهر لنا جلياً ما ذهب إليه علماء الأمة الإسلامية -رحمهم الله- من سداد الرأي وصائب الحكمة عندما وضعوا شرط الإلمام الواسع والفهم الدقيق للغة العربية من ضمن الشروط التي لابد من توفرها في المجتهد ، والذي قد بلغ درجة عالية في علوم الشريعة وفهم دقائقها وجزئياتها ، حتى يستخرج للمسائل التي لم يقف على جواب لها ما يهديه اجتهاده إليه([16]) .
ولا يذهب الفهم بالقارئ هنا إلى أن المقصود رفض الترجمة أو جهل قدرها وفائدتها ، وما تدعو إليه الضرورة منها ، أو أن الإسلام لا يُقبل ممن لا ينطق اللسان العربي ، فهذا لا يعتقده مسلم ، ولكن ما أريده هو التذكير ببعض مزالق الترجمة ، وعمق الطعنة التي تصيب الأمة ودينها من جراء ذلك.
وثمة أمر آخر لا يمكن تجاهله حول أهمية اللغة العربية وهو أن تكون العربية لغة الثقافة الدينية للأمة الإسلامية ، فهي بذلك اللسان الذي يصح اجتماعهم عليه ، بعدما اجتمعوا على دين واحد ، ولا غرو أن ذيوع اللغة العربية في الأمة الإسلامية كبير ويبشر بالمزيد ، بل إنه كان لسان كثير من الأمم الإسلامية قبل أن تحيق بها مؤامرات أعداء الإسلام ، والتي فرقت بين هذه الأمم في اللغة والثقافة حتى تصل إلى تفريق دين هذه الأمم ، ومتى تحقق انتشار اللسان العربي بدرجة أكبر في الأمة الإسلامية كان من أعظم العناصر وآكد الدعائم التي تحيا بها الوحدة الإسلامية وتزدهر ، وتتذلل في سبيلها كثير من العقبات والعراقيل التي منيت بها الأمة الإسلامية).
([10]) مجلة الزهراء المجلد الأول سنة 1343 ، ص 66.
([11]) انظر : علم اللغة ، د. علي عبد الواحد وافي / 229 ، ط دار نهضة مصر.(44/8)
([12]) انظر : طبقات النحويين واللغويين للزبيدي / 23.
([13]) راجع لمزيد من ذلك : علم اللغة ، د. علي عبد الواحد وافي / 70 232.
([14]) انظر على سبيل المثال : الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن ، علي المحافظة / 37.
([15]) انظر مجلة الرسالة للزيات ، السنة الرابعة ، ص 243 - 244.
([16]) راجع : أصول الفقه ، محمد أبو زهرة ، ص 302 ، ط. دار الفكر العربي القاهرة.(44/9)
ثالثاً: مجموعة مقالات عن الموضوع مستفادة من مجلتي ( البيان ) و (المعرفة) وغيرهما
المدارس الإبتدائية وتدريس اللغة الإنجليزية... نظرة تأمل!
للدكتور محمد بن علي الهرفي( جريدة الوطن ، 23/6/1422):
أعرف أنني سأسبح ضد التيار، وأعرف أنه تيار جارف، وأعرف أنني لا) أجيد السباحة في المياه الراكدة فكيف بمياه جارفة تأتي على من فيها.. المناداة بتدريس اللغة الإنجليزية لجميع الطلاب والطالبات مسألة قديمة لكنها تتجدد دائماً وأبداً، ذلك إن لها أنصارا كثيرين .
هؤلاء الأنصار متابعون جيدون لقضيتهم يثيرونها كلما هدأت ويقدمون الدليل تلو الدليل على صحة دعواهم وأهمية قضيتهم
ولعلهم يركزون ـ فيما أعلم ـ على القول إن هذه اللغة أصبحت لغة العصر ولغة العلم ولغة الأمم المتحضرة ومن هنا فإذا أردنا اللحاق بركب هذه الأمم فلا بد من معرفة هذه اللغة ومعرفة دقائقها وأسرارها.
وهذه المعرفة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا قدمناها لأطفالنا منذ سنيهم الأولى.
أنا أتفق مع هؤلاء على أهمية اللغة ومكانتها في عالمنا اليوم وأهمية تعلمها لكنني أختلف معهم على ضرورة تدريسها لأطفالنا في المدارس الابتدائية بل وأختلف معهم في تدريسها في المراحل الأخرى بالكيفية التي تدرس بها حالياً وأرى أن وجودها يقترب إلى حد كبير مع عدم وجودها.. وهنا تكمن السباحة ضد التيار..
لعلي أدلل على صحة قولي بالتجربة التي مررت بها شخصياً وإذا كان الإخوة الذين يرددون القول بأهمية اللغةوضرورتها لأطفالنا صادقين مع أنفسهم وأنا أجزم أنهم مروا بالتجربة نفسها التي مررت بها أوبمعظمها على الأقل فإنهم قد يغيرون آراءهم أو على أقل تقدير يجدون لي العذر فيما سأقوله...(45/1)
عندما كنت طالباً في الثانوية العامة كانت اللغة الفرنسية مقررة علينا بالإضافة إلى الإنجليزية. درسنا هذه اللغة ثلاث سنوات وأحسب أن الدولة أنفقت أموالاً طائلة لهذا الغرض وكانت محصلة دراستنا لها لا شيء على الإطلاق.. نسينا كل ما درسناه بعد فترة وجيزة من تخرجنا من الثانويةالعامة.. وفي كلية الآداب في جامعة الملك سعود وفي قسم اللغة العربية على وجه الخصوص درسنا اللغة الفارسيةبالإضافة إلى الإنجليزية، وأشهد أن أساتذتنا بذلوا جهداً كبيراً في سبيل تلقيننا هذه اللغة أذكر منهم الدكتور أحمد العدلي وفقه الله والدكتور العوضي رحمه الله... وكانت جهودهم مثمرة ولكن إلى حين.. تخرجنا من الكلية وانقطعنا عن دراسة هذه اللغة فضاعت منذ ذلك الوقت وإلى الآن.. مرة أخرى كم أنفقت الدولة في هذا السبيل وما هي النتائج التي تحققت؟!. أرجع إلى اللغة الإنجليزية بعد أن ذكرت تجربتين مررت بهما كما مر بهما كل الذين درسوا معي في تلك الفترة وأعرف أن النتائج متشابهة..
درست اللغة الإنجليزية منذ المتوسطة وحتى الجامعة، ثم درستها بعد ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية حتىأجدتها لكنني تركتها منذ سنوات لأن طبيعة عملي لا علاقة لها بهذه اللغة فنسيت معظمها والبقية في الطريق..
هذه الحالة ليست وقفاً علي وحدي وإلا لما تحدثت عنها، ووقفة صادقة مع النفس تجعلنا نعرف أنها حالة متكررة وتنطبق على الجميع.
ومن هنا لا بد من إعادة النظر في القرار الذي تحدثت عنه وزارة المعارف وقلدتها فيه ـ كعادتها ـ الرئاسة العامة لتعليم البنات، حتى لا نقع في الخطأ نفسه ـ أموال تصرف دون تحقيق فائدة من هذا الصرف-.. طلاب الثانوية العامة يشكون من الضعف في مستواهم العلمي عموماً وفي الإنجليزي خصوصاً ويتضح هذا عندما يدرس هؤلاء في كليات تدريس باللغةالإنجليزية حيث يكثر رسوبهم وقد يؤدي بهم تكرار الرسوب إلى الفصل من الجامعة واسألوا إن شئتم جامعة البترول وكليات الطب..(45/2)
ولكن يبقى السؤال قائماً: هل تدريس اللغة منذ السنوات الأولى سيحل هذه المشكلة؟!
قناعتي أنه لن يحلها، وسيبقى الطلبة على وضعهم، وستنشأ لديهم مشكلة أخرى وهي أنهم سيكونون أكثر ضعفاً في المواد التي ستلغى لتحل محلها مادة اللغة الإنجليزية.. ولعلي هنا أنصح الإخوة القائلين بضرورة تدريس اللغة الإنجليزية في الابتدائية بزيارة بعض الدول العربية التي سبقتنا في هذه التجربة ومعرفة مدى استفادة طلابهم منها. ولعلهم عندها يدركون أن هناك ما ينبغي عمله قبل الخوض في هذه التجربة أما أنا شخصياً فقد سبقتهم في هذا السؤال ووصلت إلى هذه القناعة التي أتحدث عنها.. اللغة الإنجليزية تدرس في مدارسنا بطريقة التلقين، يحفظ الطالب مجموعة من الكلمات وبعض قواعد اللغة ثم يقدمفيها امتحاناً آخر الفصل لينسى بعد ذلك معظم ما حفظه.. وهكذا يتكرر المشهد كل فصل دراسي لتكون المحصلة النهائيةبضع كلمات تبقى في الذاكرة لا تقدم ولا تؤخر ... هل لو درس الطلاب هذه اللغة في الابتدائية سيتغير هذا المشهد أم سيبقىكما هو؟ أهل اللغة يرون أنه لا بد من المعايشة الكاملة لفهم هذه اللغة والاستفادة منها، فهل وزارة المعارف أو الرئاسة لديهما القدرة على تحقيق هذه المعايشة؟! هل لديهم المدرسون الأكفاء والأماكن الصالحة والوقت الكافي لتحقيق هذه الغاية؟ أظنهم يعرفون أن هذه الوسائل غير متوفرة حالياً، وأن وضع المدارس لا يسمح بالبقاء فيها أكثر مما هو متاح حالياً وبالتالي فإن أقصى ما يمكن عمله تدريس الطلاب حصة واحدة يومياً ثم ينتهي كل شيء ليتكرر المشهد الذي ذكرته مرة أخرى مع زيادة بعض السنوات.(45/3)
قد يقول البعض إن هذه الحالة ليست خاصة باللغة الإنجليزية وحدها فهي تنطبق علىمعظم المناهج الدراسية أو كلها وأنا أتفق مع القائلين بهذا القول ولدي شواهد كثيرة على ذلك من خلال إجراء المقابلات الشخصية مع الطلاب المتقدمين للجامعة وكذلك من معرفة مستويات الطلاب الذي يدرسون في السنوات الأولى في الجامعة ولكن هذا الواقع ليس مبرراً لتدريس اللغة الإنجليزية منذ السنوات الأولى ولكنه قد يكون مبرراً لإعادة النظر في الطريقة التي تدرس بها المقررات كلها للطلبة والطالبات.. وإذا سألنا أنفسنا بأمانة وصدق لماذا تخلو بلادنا ـ أو تكاد ـ من علماء متخصصين في كل المجالات يقومون بدورهم في صنع حضارتنا وتقدمنا العملي والصناعي بدلاً من الاعتماد في معظم احتياجاتنا على الغير لوجدنا أن طريقة التعليم تتحمل الوزر الأكبر فيما وصلنا إليه.. لماذا يتقدم غيرنا ونحن في مكاننا لانتحرك؟ هل اللغة الإنجليزية وحدها هي التي ستحل المشكلة؟! ثم إنني أتساءل: لماذا بلادنا العربية بالذات هي التي تشعراللغة هي لغة التدريس في الكليات العملية في الجامعات؟! ولماذا نرى أن كثيراً من المؤسسات العاملة في بلادنا تستخدم اللغة الإنجليزية في محادثاتها؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة فمن يجيب عليها؟ وأنا أسأل: هل اليابان مثلاً تنظر إلى هذه اللغة كما ننظر إليها؟!
وهل تستخدمها كاستخدامنا لها؟
دعونا من اليابان، انظروا إلى إسرائيل ولغتها العبرية وهي
لغة كانت ميتة لمئات السنين ولا يتحدث بها حالياً إلا اليهود هل استخدم اليهود في مدارسهم وجامعاتهم غير لغتهم؟
إنهم بذلوا جهداً كبيراً لإحيائهاوجعلها لغة العلم عندهم، إنهم ينفقون أموالاً طائلة لترجمة العلوم الأخرى إلى لغتهم، أتدرون لماذا يفعلون ذلك؟ أو تدرون لماذا تصر الأمم كلها على استخدام لغاتها؟(45/4)
إنه الاعتزاز بالموروث القومي والثقافي لكل أمة، إنهم يدركون أن الاعتماد علىلغة أخرى سيجعلهم يبتعدون على الرغم من أنفهم عن حضاراتهم وتراثهم ومبادئهم.. ثم إني أسأل مرة أخرى: هل رأيتم شركة أو فندقاً أو مؤسسة في أمريكا ـ مثلاً ـ يتخاطب أفرادها باللغة العربية"؟
وهل رأيتم أحداً من هؤلاء عندما يريد مكاتبة دولة عربية
يستعمل اللغة العربية؟ الإجابة بالنفي طبعاً إذاً ما الذي يمنعنا أن نفعل كما يفعل الآخرون؟ وإذا كانت المسألةتتعلق بالمصالح المادية فإن مصالح هؤلاء القوم معنا وهم بحاجة إلينا.. شيء من الاعتزاز بالنفس وبما نملك من تراث يجعلنا نعيد النظر في كثير من أمورنا.. معرفة اللغة الإنجليزية، وغيرها من اللغات مسألة حيوية ومطلوبة وليست محل جدال ولكن ينبغي أن نبحث عن الوسائل الكفيلة لجعلنا نستفيد منها بصورة سليمة لا ترهق ميزانياتنا ولا تهدر أوقاتنا دون طائل).(45/5)
رابعًا : خطبة للشيخ صالح بن حميد بعنوان( الأمن اللغوي )
ألقاها بتاريخ : 22- 4-1422هـ
(الحمد لله، الحمد لله وهو الأحق أن يحمد، سبحانه وبحمده الواحد الأحد، الفرد الصمد، أستغفره وأتوب إليه، وأشكره وأثني عليه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، عطاءه جزيل وفضله عميم، وخزائنه لا تنفد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، نبيٌ لا يكذَّب ورسولٌ لا يعبد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ساروا على هدي محمد، فكانوا بالخير أسعد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وأخلص لربه وتعبَّد، أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس ونفسي- بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والذخيرة النافعة، واستعدوا للمنايا فهي لا بدّ واقعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلة، وليكن استكثاركم وازديادكم من التقوى، فهي خير زاد( ياأيهَا الَّذِينَ ءامَنُواْتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُو اْللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ).
أيها المسلمون:
من أحب الله أحب رسوله محمدًا ، ومن أحب رسوله محمدًا أحب لغة القرآن الكريم، لغةٌ كريمة، نزل بها أفضل كتاب، ونطق بها أفضل مخلوق ، هي وعاء علوم الدين، وذخائر التراث، لا تكون معرفة القرآن والسنة إلا بها، ولا يتم فهم علومهما ومقاصدهما بدونها، تعلُّمُها وإتقانها من الديانة، فهي أداة علم الشريعة ومفتاح الفقه في الدين.
أيها الإخوة المسلمون: لغة الأمة ميزان دقيق، ومعيار أساس في حفظ الهوية وتحديد الذات، فهي شريان الأمة، وأقنوم الحضارة، ومصدر عظيم من مصادر القوة، وإذا أضاعت أمة لسانها أضاعت تأريخها وحضارتها كما تُضيِّع حاضرها ومستقبلها.(46/1)
اللغة من أهم ملامح الشخصية الإنسانية، إن لم تكن أهمها، اللغة هي التي تربط المرء بأهله وأمته ودينه وثقافته، فهي التأريخ، وهي الجغرافيا، اللغة مظهر من مظاهر قوة الابتكار في الأمة، فإذا ضعفت قوة الابتكار توقفت اللغة، وإذا توقفت اللغة تقهقرت الأمة، وإذا تقهقرت الأمة فذلكم هو الموت والاضمحلال والاندثار.
إن شواهد التأريخ قديمها وحديثها تُظهر بجلاء أنه لم تتقدم دولة، ولم تُشَد حضارة ما لم تكن العلوم والتعليم بلغة الأمة نفسها، لا بلغة أجنبية عنها.
أيها المسلمون:
وفي شواهد التأريخ أيضًا: لقد استطاعت لغة القرآن الكريم أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات، الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية، في عصر النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما رافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم، والجيوش، والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس، وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي، في الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة، وغيرها.
الدولة الإسلامية على مرّ عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها، ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضارتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكًا وحرصًا.
والعجيب في هذا التأريخ الإسلامي العظيم، وهذا الدين الأخَّاذ أن أبناء الأمم الأخرى هم الذين كانوا يتسابقون إلى تعلم لغة القرآن، لغة الدين والعلم، بل هم الذين نبغوا فيها، وشاركوا على نحو مُدهش في وضع قواعدها، وجمع معاجمها، انطلاقًا من الشعور الإسلامي الرائع، الذي أحلّ لغة القرآن أرفع المنازل؛ لأنها لغة الدين والتنزيل.(46/2)
وفي كل أرجاء الأمة وأصقاعها تتردد أصداء هذا الحديث النبوي فيما يروى عنه أنه قال: ((إن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي اللسان، فمن تلكم العربية فهو عربي)) والحديث ضعيف في إسناده، ولكنه صحيح في معناه، كما يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أيها الإخوة في الله:
وإذا كانت لغة القرآن، ولغة الإسلام بهذه القوة، وبهذه المقدرة، وبهذه المنزلة، فلا غرابة أن تكون مستهدفة من أعدائها، فلقد عَلِمَ المشتغلون بدراسات التاريخ المعاصر، والمتابعون لمسيرة الاستعمار، وسياساته أن التهجم على اللغة، والتهوين من شأنها، والسخرية من المشتغلين بها، والتهكم بها في وسائل الإعلام، والقصص، والروايات، والمسرحيات، في سياسات مرسومة، وحملات مكثفة، ثم تلقّف ذلك مِن بعدهم وعلى طريقهم أذناب وأجراء وعملاء.
نعم، ليس من المستغرب أن تتعرض لغة شعب من الشعوب في مرحلة الغزو والاحتلال إلى الإذابة والمحو؛ لأن اللغة معلم بارز في تحديد الهوية وإثبات الذات، فكيف إذا كانت اللغة هي لغة القرآن، ولسان الإسلام؟!
وقد يكون من غير الحصيف -أيها الإخوة- أن نلوم أعداءنا فيما يقومون من أجل مصالحهم، وتحقيق أهدافهم، وسعيهم في تحطيم غيرهم، ولكنَّ الأسف والأسى أن يصدر ذلك ويتبناه فئات من بني قومنا، تعلقوا بالأجنبي، وولّوا وجوههم شطره، ثقافيًا وفكريًا، وأصبحوا ينظرون إلى ثقافة الإسلام بازدراء، وإلى لغة القرآن باحتقار، والأجنبي لم يضمن ولاءهم اللغوي فحسب، ولكنه ضمن ولاءهم الفكري والسياسي.
لماذا هانت علينا أنفسنا؟ وهانت علينا بلادنا؟ وهانت علينا لغتنا، لغة ديننا ولغة قرآننا؟
إن ما أصاب الأمة من ظروف سياسية واقتصادية وضعف في الديانة أدى إلى ركود الفكر، وضعف الثقافة حتى آل الأمر إلى هذه التبعية المشينة.(46/3)
إن الأزمة أزمة عزّة لا أزمة لغة، وأزمة ناطقين لا أزمة كلمات، لم تضعف اللغة ولم تعجز، ولكن ضعف أبناؤها، وقصَّر حُماتها، إن من الظلم والحيف أن يتَّهم هؤلاء الأبناء العاقون الكسالى لغتهم من غير حجة ولا برهان، ضعافٌ في أنفسهم، مهازيل في طموحاتهم، يُرهبون أنفسهم بثورة المعلومات، وترتجف قلوبهم لتقدم التقنيات.
مسكين هذا المثقف الذي ضعف وتخاذل، فشرَّق وغرَّب، يفتِّش لعله يجد له ملجأ أو مدَّخلا.
ما الذي يريده هؤلاء المساكين؟ هل يريدون أن ينسلخوا من هويتهم فيهاجروا بألسنتهم وعقولهم إلى أعدائهم ويتحولوا إلى مخلوقات تفكر بعقول غير عقولها، ورطانة بلسان غير لسانها؟! هل يتخلون عن هويتهم ودينهم وعزهم بسبب نظرة ضيقة ومنفعة آنية هي في مآلها ومصيرها ضرر ماحق، وخطر داهم، وبلاء محدق؟!
أيها المسلمون:
ويزداد الضعف ويتجلى الهوان عند هؤلاء المشككين حين يتفوّهون بقولهم: إن استخدام لغة الأمة قد يسبب عزوف الطلاب عن إتقان اللغة الأجنبية، مما يؤدي إلى ابتعادهم عن الأبحاث الجديدة، والتطور السريع.
ويحدثك آخرون عن سوق العمل، فترى مخذولين مبهورين، يفاخرون في بعض كلياتهم وأقسامهم بأنهم يدرسون جميع العلوم لديهم بلغة الأجنبي، بحجة أن سوق العمل يتطلب ذلك.
وهي حجج يعلم الله، ويعلم المؤمنون، ويعلم العقلاء أنها واهية، بل هي –والله- أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
ولكنها أحوال تذكِّر بعهود التسلط والاستعمار، في بعض البلدان في الماضي، وما أشبه الأجواء الثقافية لعهد العولمة الحاضر بالأجواء الثقافية بعهد الاستعمار الغابر، من حيث تسويغ الاستلاب الثقافي والديني عن طريق الهجوم الشرس على اللغة وزعزعتها في حياة الأمة، وإحلال اللغة الأجنبية بمسوّغات بالية.(46/4)
وحين يحدثونك عن اللغة وسوق العمل ليتهم يحدثونك عن مصطلحات علمية، وتقنيات متقدمة، واتصال بالجديد من العلم والتقنية، ولكنه مع الأسف ليس سوى إتاحة لعمالة وافدة متوسطة التأهيل، ومتدنية الكفاءة، تتربّع على مواقع العمل في المؤسسات والشركات، والأسواق والتجارة، مهمتهم عرض البضائع وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وقيد السجلات، وضبط المراسلات.
سوق عمل مخزي، تحولت فيه المستشفيات والفنادق وبعض أقسام الجامعات وبعض الأسواق ومعارض البضائع والتجارات واللوحات الإعلانية والتجارية، تحول كل ذلك إلى بيئات أجنبية، يتبادل فيها أبناء الأمة لغة أو لغات أجنبية، حتى تحولت قوائم الأطعمة والسلع والأسعار إلى اللغة الأجنبية، وفَرضت وجودها وأَنماطها على شرائح واسعة من أجيال الأمة، فاضطربت لغة التخاطب، وفسدت الألسن، وزادوا تخلفًا إلى تخلفهم، وضعفًا إلى ضعفهم، وامتلأت سوق العمل بالوافدين من غير حاجة حقيقية، ويريدون من أبناء الأمة أن يتحدثوا اللغة الأجنبية من أجل هؤلاء، زاعمين أنهم بهذا يهيئون لأبنائهم فرص العمل.
أيها المسلمون، أيها المخلصون:
إن وجود وافدين مهما كان عددهم، ومهما كانت الحاجة إليهم، بل مهما كان مستواهم العلمي والفني، لا يجوز أن يكون سبيلاً للتفريط في السيادة على أرضنا، وقد علم العقلاء والاجتماعيون، فضلاً عن العلماء والمربين أن اللغة من أهم مظاهر السيادة، وكم تمزقت بلاد حين تعددت لغاتها، بل لقد ظهرت مبادئ انشقاق وطني في بعض الشعوب، وتصدعت صفوفها، وتسببت في إثارة الفتن والنعرات من أبناء البلد الواحد مما تُشَاهَد آثاره المدمرة ماثلة أمام العيان، والأعداء لنارها يوقدون.
إن من الغفلة الشنيعة الزعم بأن مصلحة السوق، ودواعي الاستثمار تتطلب لغة أجنبية، فكل بلاد العالم ولا سيما المتصدرة منها قائمة التقديمة لا يمكن أن تُؤْثِر شيئًا على لغتها مهما كانت الأسباب والدواعي والدوافع.(46/5)
أما كان الأجدر بهؤلاء إن كانوا وطنيين مخلصين أن يجعلوا تحدث لغتنا شرطًا في العمالة الوافدة، بدلاً من إجبار أبنائنا أن يتحدثوا لغة أجنبية من أجل هؤلاء الوافدين؟! إنها –لوالله- لانتكاسة عجيبة.
وبعد أيها الأخوة:
وفي محاسبة جادة، ومساءلة صادقة، إن كثيرًا من الشعوب الموصوفة بالنامية قد انزلقت في تعليم أو تعميم اللغة الأجنبية في أبنائها، فماذا أفادت وماذا استفادت؟ هل خرجت من طوق النامية هذا؟!
إن أعداءكم اليهود قد أحيوا لهم لغة مندثرة، لا حضارة لها ولا تأريخ، فأصبحت هي لغة العلم والأدب والحياة.
إن أي أمة تروم التقدم والقوة والعزة والاعتماد بعد الله على نفسها لا يمكن أن تمتلك زمام العلم والتقنية إلا حين تُعلّم ذلك كلَّه بلغتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على توفيقه وهدايته، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه لا منتهى لغايته، وأستغفر الله وأستهديه، وأسأله الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وربوبيته ووحدانيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اجتباه من خلقه واصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله في كل حال، وأخلصوا له في الأقوال والأعمال، والزموا الطاعات والامتثال.
أيها الإخوة المسلمون:(46/6)
لقد ظهرت دعوات تطالب بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال الصغار، من الصفوف الأولى، وعلت نداءات تدعو إلى تدريس لغة الأجنبي في جميع العلوم، وتعالت أصوات تريد جعل اللغة الأجنبية شرطًا لتحصيل الوظيفة أو العمل.
أيها الإخوة المخلصون:
لا بد في الأمة من شموخ لا يحني هامتَه لإغراءات وضع اقتصادي طارئ، أو آليات سوق عابر، أو مكاسب وقتية، عاقبتها الهلاك والدمار، والذوبان والاندثار.
إن من التناقض الصارخ، والغفلة القاتلة أن يتحدث رواد الفكر والمثقفون عن توطين التقنيات، واستنبات العلوم في أرض الوطن، وهم في الوقت نفسه يُصرّون على الدعوة إلى تدريس العلوم والتقنيات باللغة الأجنبية، والتي لن يتقنها المتعلمون من غير أهلها، ولو أتقنوها -عياذًا بالله- كما يتقنها أهلها، فقل: على الأمة وعلى لغتها، بل على وجودها السلام.
أيها المسلمون:
إن الحل والسلامة، والحصانة والمشاركة الحقيقية في البناء، وسلوك مسالك التقدم الصحيح والنظيف هو بالتصدي لخطر الإذابة بالعمل المنظم الجادّ، بعيدًا عن الشعارات الجوفاء، والكتابات الخرساء، عملٌ جاد يُكسب المناعة ضد محاولات الإذابة، وطمس الهوية، ومن ثمَّ المشاركة في البناء، ومعطيات الحضارة الصالحة النافعة.
إن كان في الأمة غيرة، وإن كان ثمة صدق وجدّ في خدمة الدين، والأمة واللغة، فالطريق واضح والمحجّة بينة.(46/7)
الأمة تحتاج إلى سياسة لغوية، فليست المشكلة ولا القضية في المعرفة النظرية لقواعد اللغة وأصولها، بل الذي يحتاجه عموم الناس والمتكلمون هو الكفاءة اللغوية في النطق والكتابة والتعبير، نحتاج إلى سياسة لغوية تنسق عمل المؤسسات المعنية باللغة، وخطاب الناس، ولا سيما الإعلام بوسائله، والتعليم بمناهجه وطرائقه فتكون الفصحى الميسرة هي الهدف المنشود التحقيق، وحينئذ لا تكون اللغة مادة دراسية مجردة مفردة معزولة، محصورة بين حيطان قاعات الدراسة في ساعات محدودة، بل يجب أن تكون هي لغة الحياة في كل ميادينها. مطلوبٌ الاهتمام الخاص باللغة في التعليم العالي، في الأقسام العلمية والنظرية، وإلزام الالتزام بها تدريسًا وتحدثًا وكتابة. مطلوبٌ الغيرة الصادقة على اللغة في الوقفة الصارمة أمام هذه الأسماء التجارية والصناعية الوافدة، التي لا تعكس سوى الانهزام والتبعية، والشعور بالذلة والدونية.
وبعد أيها الأحبة في الله:
فإن قوة اللغة واستمرارها -بإذن الله- يعتمد بالدرجة الأولى على وعي الأمة وحرصها على رعايتها وحمايتها وانتشارها، واليقين الجازم بأنها صالحة لمقتضيات الحال، قادرة على متطلبات الوقت، ومعطيات التحضر، ومستجدات التطور.
وتلك أهداف كبرى تخطط لها الدولة المحترمة والأمة العظيمة فتقيم المؤسسات المتخصصة، وتبني مراكز البحوث المتقدمة، وتؤسس الهيئات الفنية لتعليم اللغة، وتطوير أساليب تدريسها، وترجمة المصطلحات الأجنبية لا بد أن يبقى للغتنا شموخها، ولا بد من تقوية المناعة الذاتية في جسم أبناء الأمة، والاعتزاز بالدين والدار، والتعامل مع اللغات الأجنبية ببصيرة، وحسن استفادة من غير ذوبان.
يجب أن نُعلن ونُلقن ونرسم أننا بحاجة إلى الأمن اللغوي، كما أننا بحاجة إلى الأمن الفكري، والغذائي، والمائي، فكل أولئك من ضروريات الحياة، والعيش الكريم.(46/8)
هذا هو الطريق، وذلكم هم المسار، وعلى الله قصد السبيل،( وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً).
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال عز قائلاً عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) .
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، نبي الرحمة والملحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعز به دينك وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.(46/9)
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد ، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير. اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم وانصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم إن اليهود المحتلين قد طغوا وبغوا وآذوا وأفسدوا وقتلوا وشردوا وهدموا وخربوا اليهود، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم واجعل بأسهم بينهم، اللهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون).(46/10)
خامسًا : أقوال لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مستفادة من كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم )
قال - رحمه الله - :( فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون ... ) ص203
( وأما الخطاب بها لغير حاجة في أسماء الناس والشهور : كالتواريخ ونحو ذلك . فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب ... ) ص204
( وأظنه - يعني الإمام أحمد - سئل عن الدعاء في الصلاة بالفارسية ؟ فكرهه . وقال: لسان سوء . وهو أيضاً قد أخذ بحديث عمر رضي الله عنه الذي فيه النهي عن رطانتهم . وعن شهود أعيادهم وهذا قول مالك أيضاً . فإنه لا يحرم بالعجمية ، ولا يدعو بها . ولا يحلف بها . وقال: نهى عمر عن رطانة الأعاجم . وقال : إنها خب ّ، فقد استدل بنهي عمر عن الرطانة مطلقاً ) ص204
( وقد روى السلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي حدثنا إسحق بن إبراهيم البلخي حدثنا عمر بن هرون البلخي حدثنا أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىالله عليه وسلم ( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق ) ص205
( وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ، ولأهل الداروللرجل مع صاحبه ولأهل السوق ، أو للأمراء ، أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه ؛ فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه كما تقدم ) ص206(47/1)
( وإنما الطريق الحسن : اعتياد الخطاب بالعربية ، حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب فيظهر شعار الإسلام وأهله ، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى لغة أخرى فإنه يصعب عليه .واعلم أن اعتياد اللغة : يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًا بينًا ، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزيد في العقل والدين والخلق ) ص207 ، انتهى كلامه رحمه الله .(47/2)
سادسًا : تعليق للشيخ الدكتور ناصر العقل على كلام شيخ الإسلام
قال: ( أرى أنه من الخطأ الفادح مزاحمة اللغة العربية باللغات الأخرى في مناهج التعليم في البلاد الإسلامية على العموم والعربية على وجه الخصوص .فليس هناك أي مبرر يجعل اللغات الأخرى تُفرض في المدارس على جميع الطلبة ، ولا على غالبهم ، وفي كل المستويات ، والواقع يثبت ما أقوله ، فإن طلاب المدارس التي تُفرض فيها اللغات الأجنبية اليوم ، هم أضعف في اللغة العربية، في حين أنهم لم يكتسبوا من اللغات الأخرى شيئاً يذكر ، فهم كالمُنبتّ : لاظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع ، كما أنها تشكل عبئاً ثقيلاً وشبحاً مخيفاً أمام أغلب الطلبة) ويستطرد الشيخ حفظه الله قائلا : ( نعم ، قد تكون هناك ضرورة للدول لتعلم بعض اللغات الأجنبية وحينئذ يجب أن يتعلمها من يقع عليه الاختيار ؛ لحاجة الأمة ، أو تفرض ذلك عليه طبيعة عمله ، أو دراسته ، فتتعلم طائفة من أبناء الأمة لغات الأمم بقدر الحاجة ، أما أن تكون اللغة الدخيلة مفروضة على كل ناشئة المسلمين ، فهذا ما أرى أنه خطأ ، ويخالف حكم الإسلام ، ولم يأت إلا عن جهل وإعجاب بالأعاجم أو قصد إفساد شباب المسلمين والتضييق على لغتهم العربية ، أوعن تصور في التفكير يكون سببه التقليد والشعور بالنقص) ا.هـ من تعليقه على كتاب (الإقتضاء ) لشيخ الإسلام ( ص 54) .(48/1)
سابعًا : كلمة فيها عبرة للأستاذ الأديب محمود شاكر رحمه الله
قال - رحمه الله - في كتابه ( أباطيل وأسمار ، ص 556-557) متحدثًا عن طفولته وأن :
أول درس تلقاه هو درس اللغة الإنجليزية التي ملكت عليه نفسه وشغلته، حتى كان لذلك من الأثر السيئ على تحصيله في جانب اللغة الأم، وهي اللغة العربية فكان لا يجتاز امتحانها إلا بعسر، يصف ذلك فيقول:
(ثم بدأ الدرس الأول على الريق وهو درس اللغة الإنجليزية ونسيت كل ما نالني حين سمعت هذه الحروف الغربية النطق التي لم آلفها، وفتنتني، وغلبني الاهتمام بها، وجعلت أسارع في ترديدها وحفظها ،اغتالت هذه الحروف الجديدة وكلماتها كل همتي، اغتالتها بالفرح المشوب بطيش الطفولة. وكأنَّ حبَّ الجديد الذي لم آلفه، قد بزَّ حسن الانتباه إلى القديم الذي ألفته منذ ولدت، فقل انتباهي إلى لغتي العربية، ومضت الأيام ففتر انتباهي إليها، بل لعلّي استثقلتها يومئذ وكنت أنفر منها. وكذلك صرت في العربية ضعيفاً جداً، لا أكاد أجتاز امتحانها إلا على عُسْر وعلى شفا. وهكذا أنفذ ((دنلوب)) اللعين أول سهامه في قلبي من حيث لا أشعر، ودرجت على ذلك أربع سنوات في التعليم الإبتدائي والبلاء يطغى عليّ عاماً بعد عام ) . انتهى كلامه رحمه الله ، و ( دنلوب ) هو الإنجليزي المسؤول عن التعليم في مصر فترة سيطرة الإنجليز عليها ، وكان ذا مكر ودهاء .(49/1)
ثامنًا : فتوى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله وختام الملف
قال : ( الذي أراه أن الذي يعلم صبيّه اللغة الإنجليزية منذ الصغر سوف يُحاسب عليه يوم القيامة ؛ لأنه يؤدي إلى محبة الطفل لهذه اللغة ، ثم محبة من ينطق بها من الناس ... .. هذا من أدخل أولاده منذ الصغر لتعلم اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات ) انتهى ، المرجع : شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح - الشريط الثاني الوجه الثاني ، في معرض إجابته على بعض الأسئلة.
فليتق الله من يريد تدريس وتعميم هذه اللغة على أبناء المسلمين ، والله الله أن يضيع من يعول ، وليتذكر قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) رواه مسلم .
اللهم هل بلغت ؟ اللهم فاشهد .(50/1)
تقديم لفضيلة الشيخ صالح الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده - وبعد : فقد قرأت هذا الكتاب : (ابن تيمية لم يكن ناصبياً) وهو الرد على من احترق غيظاً من كتاب شيخ الإسلام : " منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية" فاتهمة بأنه ناصبي يبغض علياً رضي الله عنه لأن الذي يخالف مذهب الشيعة في الكذب والافتراء في حب علي بزعمه وأن حبه يلزم منه بغض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفيرهم .
فمن لم يوافقهم على ذلك أو ردَّ عليهم مفترياتهم يعتبر ناصبياً .
ولذلك لما بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله افتراءات الشيعة في هذا الكتاب وفضح كيدهم وذب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيف دعواهم المحبة لعلي رضي الله عنه ، وأن الذين يحبون علياً رضي الله عنه هم أهل السنة والجماعة ، الذين يعتبرونه رابع الخلفاء الراشدين وأحد السابقين الأولين المهاجرين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، لذلك كله اشتدت عداوة الرافضة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، واتهموه بأنه ناصبي ومنهم أناس يندسون بيننا ويروجون في المجالس وبين شبابنا هذه الفكرة الخبيثة - فجاء هذا الكتاب : ( ابن تيمية لم يكن ناصبياً) تأليف الشيخ سليمان بن صالح الخراشي ، رداً على هذه الفكرة ومروجها ، بذكر مقاطع من كلام شيخ الإسلام تدحض هذه الفرية وتخرس مروجها - ولله الحمد - فجزى الله الشيخ سليمان خير الجزاء على نصرة الحق ودحض الباطل ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
كتبه : صالح بن فوازان بن عبدالله الفوزان(51/1)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد : فلم يزل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - منذ أن جهر بدعوة الحق يتلقى التهم والافتراءات التي يلفقها عليه خصومه في حياته وبعد مماته.
وهذه التهم والافتراءات يوصي بها سلف المبتدعة إلي خلفهم ، ويرجون بها إلي أوليائهم ، لتكون سلاحاً بيدهم أمام دعوة الشيخ التي عشت بنورها أبصارهم الكليلة .
فهم قد اتهموا الشيخ - رحمه الله - بتهم كثيرة تفوق الحصر ، منها ما هو مكذوب من أصله ، ومنها ما هو مساء فهمه .
فقيل في الشيخ - مثلا - بأنه يقول بعدم العالم ، وأنه مجسم ، وأنه مشبه ، وأنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم ويمنع من زيارته ، وأنه يفتي بمسائل شنيعة لم يقل بها أحد قبله ، وأنه ، وأنه ... في تهم عديدة يحسن بشيخ الإسلام أن يمثل أمامها بقول أبي الطيب :
رماني الدهر بالأزراء حتى ... في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... النصال على النصال
وهان فما أبالي بالرزايا ... ... لأني ما انتفعت بأن أبالي
قلت : ولكن الله القائل ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا )
لم تزل سنته ماضية في أن يهيئ لأوليائه من يقوم بالذب عنهم ، أحياءً وأمواتاً .
فقد قيض لشيخ الإسلام تلاميذ بررة ، وأنصاراً متلاحقين يدفعون تهم الأعداء عن عرض الشيخ - رحمه الله -
والكتب التي ألفت في رد خصوم الشيخ كثيرة جداً ، ليس هذا موضع استقصائها .
وهذه الرسالة التي قمت بإعدادها - راجياً أن تسلك مسالكهم - هي في دفع تهمة وفرية على شيخ الإسلام ، افتراها خصومه عليه عندما ألف كتابه العظيم ( منهاج السنة ).(52/1)
فهؤلاء الخصوم عندما قرأوا كتابه لم يفهموه حق الفهم – أو فهموه وغاضهم ما فيه ، أو لحسدهم وبغيهم – فانقلبت حسنات الشيخ – في تأليفه لهذا الكتاب – عندهم إلي سيئات.
إن يحسدوك فلا تعبأ بقائلهم هم الغثاء وأنت السيد البطل
فقالوا قولتهم الآثمة : بأن شيخ الإسلام ابن تيمية يبغض علياً – رضي الله عنه – ويتنقصه في كتابه هذا ؟؟
وقد اتخذا هؤلاء الجهال من عبارات خاطئه للحافظ ابن حجر أطلقها في هذا المقام سلماً للولوغ في عقيدة شيخ الإسلام ، فأصبحوا يرددون كلمات الحافظ – رحمه الله – في كتبهم ورسائلهم نكاية بأهل السنة، وشيخهم .
وأني شقي باللئام ولا ترى شقياً بهم إلا كريم الشمائل
وهذه الفرية ليست هي الأولى ولا ألاخيرة في سجل التهم الموجهة لشيخ الإسلام ، بل قد قيل فيه ما هو أعظم منها وقيل في غيره من الأئمة ما هو مثلها .
فهي تهمة باطلة قد تعودناها من أهل البدع في كل زمان . وأنا لم أكن لأعبأ بها ، أو أن أقيم رسالتي هذه عليها ، لولا أن سمعت من تأثر بها ممن يدعي طلب العلم آخذاً في ترديدها في رسائله على استحياء وفي مجالسه بتصريح دون تلميح
وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال ذوو العيوب
وخشية من أن يقع في نفوس الناشئين من شباب الإسلام أي حسيكة على شيخ الإسلام نظراً لترديد مثل هذه التهمة في بعض المجالس مقرونة بأقوال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – رغبت في دفع هذه التهمة الباطلة في رسالتي هذه بشيء من التفصيل الذي لم أجده في رسائل أخرى .
وكما قال الشيخ الألباني – حفظه الله – ( نحن إنما علينا أن ندافع عن الذين آمنوا ، ونبرئ ساحتهم مما اتهموا به من الأكاذيب والأباطيل التي يكون الدافع عليها تارة الجهل ، وأخرى الظلم ، وقد يجتمعان )
والله أسال أن يجعلني من الذابين عن عرض علم الإسلام وشيخه ابن تيمية – رضي الله عنه – وأن يكتب لي ولقارئها المنتفع بها الأجر والثواب .(52/2)
وأن يعظم أجر شيخنا : الشيخ صالح الفوزان الذي تفضل بتقديم هذه الرسالة .
وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم(52/3)
لمحة عن كتاب ( منهاج السنة )
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله
الذين اتهموا شيخ الإسلام بهذه التهمة كانت عمدتهم في هذا الاتهام عبارات لم يفهموا مغزاها عثروا عليها متفرقة في كتابه " منهاج السنة" وقبل أن أبين مقصود شيخ الإسلام منها أحب أن يعلم القارئ نبذة عن هذا الكتاب وظروفه ليكون على وعي وبصيرة بمنهج الشيخ .
كتاب " منهاج السنة " هو ( من أهم وأكبر كتب شيخ الإسلام ، وقد ورد ذكره في أكثر الكتب التي تحدثت عن مؤلفات ابن تيمية ) وهو قد ألفه ( حوالي سنة 710هـ . وهذا يعني أنه ألف هذا الكتاب أثناء وجوده في مصر)
وهو - رحمه الله - قد ألفه نقضاً لكتاب (منهاج الكرامة) للرافضي ابن المطهر .
يقول شيخ الإسلام في مقدمة كتابه بعد حمد الله والثناء عليه : ( أما بعد، فإنه قد أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتاباُ صنفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا ، منفقاً لهذه البضاعة ، يدعو به إلي مذهب الرافضه الإمامية من أمكنه دعوته من ولاة الأمور . .) قال : ( وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم من الملوك وغيرهم . وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه فيه ( خدابنده) وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب، لما في ذلك من نصر عباد الله المؤمنين ، وبيان بطلان أقوال المفترين الملحدين )
قلت : أما الرافضي المردود عليه فهو : ( أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي ابن المطهر الحلى المشهور عند الشيعة بالعلامة . ولد سنة 648 وتوفي سنة 726هـ قبل وفاة ابن تيمية بعامين ، وهو منسوب إلى الحلة السيفية التي بناها الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور المزيدي الأسدي من أمراء دولة الديالمة في محرم سنة 495هـ ، وهي واقعة بين النجف والخار علي طرفي شط الفرات )(53/1)
( أما الملك خدابنده الذي ألف ابن المطهر كتابه " منهاج الكرامة من أجله فهو أحد ملوك الدولة الإيلخانية ومن أحفاد جنكيز خان واسمه الجايتو ( أو أولجايتو ) خدابنده غياث الدين محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكيز خان . وقد تولى أخوة الملك غازان ( أو قازان ) الحكم سنة 694 وولاه حكم خراسان ، وكان غازان ميالاً لأهل السنة ( ولابن تيمية عدة وقائع معه ) واستمر حكمه مدة ثمان سنين وعشرة أشهر إلى أن توفي في شوال سنة 703، وتولى بعده أخوه خدابنده في شهر ذي الحجة من نفس العام . وقد استمر خدابنده بعض الوقت مقيماً على السنة إلى أن كانت سنة 709 حينما انتقل إلى مذهب الشيعة ) بسبب الرافضي (ابن المطهر) الذي ألف له كتاب : " منهاج الكرامة " ودعاه فيه إلى اعتناق مذهب الرافضة بعد أن حسنه له وقبح صورة مذهب أهل السنة في عينه .
وكتاب " منهاج الكرامة " يتحدث فيه الرافضي عن مسألة ألإمامة التي يقول عنها بأنها ( أهم المطالب في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ) ويلخص لنا الرافضي كتابه أو رسالته في هذه المسألة بقوله: ( وسميتها " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " ورتبتها على فصول :
الفصل الأول : في نقل المذاهب في هذه المسألة .
الفصل الثاني : في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع .
الفصل الثالث : في الأدلة على إمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الفصل الرابع . في الإثني عشر .
الفصل الخامس . في إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان )
قلت هذا بإجمال فصول الكتاب المردود عليه فهو قد حدد هدفه من تأليفه ، وهو تقرير إمامة علي – رضي الله عنه – بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – وغيرهم من الصحابة .(53/2)
وفي سبيل هذا الهدف الباطل الذي أقام عليه رسالته غلا غلواً فاحشاً في علي – رضي الله عنه – فصوره في صورة غير التي نعرف من سيرته ، وعظمه على غيره من الصحابة – بل والرسول صلى الله عليه وسلم – فجعل الأحداث تدور من حوله ، فهو صانعها ، وهو بطلها الوحيد .
وأقذع في تصويره – رضي الله عنه – وأهل البيت في صورة المظلومين، الذين قد هضم الصحابة حقوقهم ، وأما الصحابة الآخرين فقد صغر مواقفهم ، ونال منهم ، وجعلهم في صورة الظالمين الذين انتهكوا حق علي وأهل البيت ، وتفنن – في سبيل هذا الهدف – في توزيع التهم عليهم.
فعلي – رضي الله عنه – عنده هو الإمام المعصوم ، وهو أفضل البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أزهد الناس ، وأعبدهم ، وأعلمهم في جميع العلوم وأشجعهم ، وأنه يعلم الغيب وكان مستجاب الدعاء ، وأن الشمس قد ردت له ونزلت في شأنه آيات كثيرة ، وفضله الرسول صلى الله علية وسلم في أحاديث كثيرة ، وكانت له كرامات عظيمة ... إلخ .
وأما أبو بكر – رضي الله عنه – فهو عند الرافضي قد اغتصب الخلافة من علي ، وظلم فاطمة حقها ، وأنه لا علم عنده ، وهو لا يقيم الحدود على رعيته .... إلي آخر تهم الرافضي لأبي بكر – رضي الله عنه – التي فندها شيخ الإسلام في كتابه .
وهكذا صنع الرافضي مع عمر ومع عثمان ومع معاوية ومع طلحة والزبير – رضي الله عنهم أجمعين - .
فهو قد أخفى فضائلهم واختلق لكل واحد منهم تهمة باطلة ليشوه صورته أمام الناس .
هذا ملخص ما احتواه هذا الكتاب الآثم الذي حاءته جنود شيخ الإسلام من كل مكان : من فوقه ، ومن أسفل منه ، حتى جعله حصيداً خامداً كأن لم يغن بالأمس فذب بحماس عن أعراض أكرم الخلق بعد الرسل ، ونفى غلو الرافضة في علي ، وبين المنهج الحق في جميع المسائل التي تعرض لها الرافضي .(53/3)
ومما يأسف له المسلم أن هذا الكتاب العظيم لشيخ الإسلام – رحمه الله – الذي أصبح مرجعاً لكل طالب علم بعده يريد أن ينقض شبهات الروافض لم يعجب بعض من يدعون العلم ، ورأوا أنه كان الأولى أن لا يؤلفه شيخ الإسلام .
ومن هؤلاء : السبكي الذي كان خصماً من خصوم شيخ الإسلام ، حيث يقول في قصيدته حول الروافض وكتاب " منهاج السنة "
إن الروافض قوم لا خلاق لهم من أجهل الناس في علم وأكذبه
والناس في غنية عن رد إفكهم ... لهجنة الرفض واستباح مذهبه
فهو يرى أنه لا داعي للرد عليهم لافتضاح مذهبهم ، وهذا سوء فهم وجهل من السبكي لأن شبه الروافض وأكاذيبهم إذا كانت مفضوحة عند العلماء الذين يخبرون مذهبهم الباطل ، فإنها قد تروج على عامة المسلمين من عليه القوم وأسافلهم ممن لا علم عند برد شبهاتهم ، فيتأثر بأقوالهم ، وقد ينصر مذهبهم كما فعل الملك ( خدابنده ) الذي ألف له ابن المطهر كتابه . وتخيل لو كان عند هذا الملك علم بأباطيلهم كما وضحها شيخ الإسلام ، هل كان سيترفض ؟
قلت : وكأني بالحسد قد ملأ قلب السبكي حتى قال قولته السابقة ، لأن الله قد ادخر هذا العمل العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ولم يكتبه لغيره .
وقولة السبكي هذه أغضبت أحد علماء السنة ( يوسف السرمري ) فرد علي قصيدته السابقة بقصيدة أجمل منها جاء فيها :
وقعت في الشيخ إذ رد الروافض في قعر الحضيض وكانوا فوق مرقبه
أوهمتنا فيك رفضاً في كلامك والـ إنسان قد يبتلى من تحت مذربه
فهو يقول للسبكي بأنك أوهمتنا بأنك رافضي لأنك تدافع عن الروافض وترى عدم الرد على مذهبهم .
والصحيح أن السبكي ليس برافضي ، ولكنه العداء والحسد لشيخ الإسلام.
قلت : ومن هؤلاء الذين لم يروا أهمية لرد شيخ الإسلام على الروافض : الصفدي ، الذي لقي شيخ الإسلام عدة مرات ، وكان شيخ الإسلام يحثه على ملازمة التتلمذ على يديه ليستفيد ، ولكن غلبه حب الأدب ، فصرفه الله عن العلم .(53/4)
يقول الصفدي في كتابه : " أعيان العصر " عن شيخ الإسلام : ( وضيع الزمان في رده على النصارى والروافضة ومن عاند الدين أو ناقضه ، ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم لقلد أعناق أهل العلوم بدر كلامه النظيم )
قلت : لم يضيع شيخ الإسلام زمانه ، بل أفاد الأمة بردوده تلك وجعلها مرجعاً لمن بعده ممن أرد نقض شبهات الأعداء ، وأما التفسير وشروح البخاري فقد تتابع عليها علماء الإسلام بما يغني الأمة أن تنصرف ( جميع ) جهود علمائها إليها ، ومن تأمل كتب وفتاوى شيخ الإسلام يعلم أن له حظا وافراً من ذلك – أيضاً -.
وأخيراً : ما أجمل قول الأستاذ محمد كرد على – رحمه الله – في شيخ الإسلام :
( ولو لم يكن له إلا " منهاج السنة " لكفاه على الأيام فخراً لا يبلى ، ففيه مثال من علمه وقوة حجته ، ومعرفته بالملل والنحل ، وإذا قلنا : إنه لم يؤلف نظيره في الرد على المخالفين لأهل السنة لصدقنا كل منصف من أهل القبلة ) .(53/5)
المتهمون
لشيخ الإسلام بتنقص علي – رضي الله عنه – والانحراف عنه
لقد حاولت أن أذكر في هذا المبحث أبرز المتهمين لشيخ الإسلام بتلك الفرية ، ممن عثرت على أقوالهم ، مع توثيقها من كتبهم أو من كتب الناقلين عنهم ، وقد اتضح لي أنهم على نوعين :
الأول : أناس لم يفهموا مقاصد شيخ الإسلام من عباراته التي ذكرها في كتابه " منهاج السنة " والتي ظنوا أن فيها تنقصاً لعلي - رضي الله عنه - ، وأداهم لهذا عجلتهم في الحكم دون ترو ، ولا مراجعة لأقوال شيخ الإسلام الصريحة في نفي ذلك عن نفسه ، إضافة إلى عدم إدراكهم لعمق مذهب الشيخ في رده لأكاذيب الروافض ، فلهذ زلوا هذا الزلة العظيمة . وخير مثال لهؤلاء : الحافظ ابن حجر العسقلاني – عفا الله عنه-
الثاني : أناس قد أشربت قلوبهم مختلف أنواع البدع ، فطارت قلوبهم فرحاً عندما عثروا على تلك العبارات التي ظنوها تنقصاً لعلي – رضي الله عنه- فأذاعوا بها شرقاً وغرباً قاصدين بذلك ذم شيخ الإسلام والتنفير منه ومن كتبه وآرائه التي تخالف مشربهم .
وخير مثال لهؤلاء : ابن حجر الهثيمي ، والكوثري ، والغماري ، والسقاف ، والحبشي ، وغيرهم – كما سيأتي - .
المتهمون وأقوالهم
فمنهم العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله – الذي جرأت كلماته السفهاء على شيخ الإسلام ، واتخذوها متكأ للتطاول على مقامه – رحمه الله – وسهولة كيل التهم له بتنقص علي – رضي الله عنه – ما دام الحافظ – رحمه الله – قد ألمح إلى ذلك ومهد لهم الطريق بكلماته في شيخ الإسلام .
ونحن نعلم أن الحافظ – رحمه الله – هو ممن يقدرون شيخ الإسلام ، ويثنون عليه ، ويعرفون فضله .(54/1)
قال العلامة محمود شكري الألوسي : ( إن الحافظ ابن حجر العسقلاني موالاته ومحبته للشيخ ابن تيمية مما لا ينكره إلا جاهل ، وقد تلقى العلم عن تلامذة الشيخ وأصحابه وانتفع بكتبه ، وقرأ كثيراً منها درساً، وهذا هو اللائق به وبأمثاله من أهل الفضل والعلم ، وقد قيل : إنما يعرف ذا الفضل ذووه )
قلت : ومن ذلك قول الحافظ : ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السارة ، التي انتفع بها الموافق والمخالف : لكان غاية في الدلالة على عظيم منزلته ، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة )
أما كلام الحافظ في شيخ الإسلام حول موضوع تنقص على – رضي الله عنه – فهو اجتهاد خاطئ من الحافظ تعجل في إطلاقه لعدم فهمه مقاصد شيخ الإسلام .
ومن ذلك قوله في لسان الميزان في ترجمة الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام :
( صنف كتاباً في فضائل علي – رضي الله عنه – نقصه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتاب كبير ، وقد أشار الشيخ تقي الدين السبكي إلى ذلك في أبياته المشهورة حيث قال : وابن المطهر لم تطهر خلائقه........ )
قال ابن حجر : ( طالعت الرد المذكور فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء ، لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في الرد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر ، وان كان معظم ذلك من الموضوعات الواهيات ، لكنه رد في رده كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها ، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره ، والإنسان عامد للنسيان ، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدته أحياناً إلى تنقيص على رضي الله عنه ) .(54/2)
وقال – أيضاً – في ترجمة الرافضي في كتابه : ( الدرر الكامنة ) : ( له كتاب في الإمامة رد عليه فيه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمى بالرد على الرافضي ، وقد أطنب فيه وأسهب ، وأجاد في الرد إلا أنه تحامل في مواضع عديدة ، ورد أحاديث موجودة وإن كانت ضعيفة بأنها مختلقة ).
وقال في الدرر الكامنة في ترجمة ابن تيمية : ( وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث ، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس ، كأن هذه العلوم بين عينيه فأخذ منها ما يشاء ويذر ، ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه ، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم ، قعويهم وحديثهم ، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شئ ، فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فانكر عليه ، فذهب إليه واعتذر واستغفر ، وقال في حق علي : أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب ، منها اعتداد المتوفي عنه زوجها أطول الأجلين )
وقال ابن حجر – أيضاً - :
منهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ، ولقوله : إنه كان مخذولا حيث ما توجه ، وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها ، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ، ولقوله : إنه كان يحب الرياسة ، وإن عثمان كان يحب المال ، ولقوله : أبو بكر أسلم شيخاً يدري ما يقول وعلى أسلم صبياً ، والصبي لا يصح إسلامه على قول ، وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل ، ومات مانسبها من الثناء على ..... وقصة أبي العاص ابن الربيع وما يؤخذ من مفهومها ، فإنه شنع في ذلك ، فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا يبغضك إلا منافق ")
ومنهم : ابن حجر الهيتمي الذي قال في فتاواه الحديثية :(54/3)
( ابن يتمية عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية .
ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما – والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن ، بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال ، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته)
قال : ( ولا زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه ، بل كفره كثير منهم ، وقد كتب إليه بعض أجلاء عصره علماً ومعرفة سنه خمس وسبعمائة :
من فلان إلى الشيخ الكبير العالم إمام أهل عصره – بزعمه – أما بعد ، فإنا أحببناك في الله زماناً وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل إحساناً ، إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل والحس ، وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس ؟ وإنك أظهرت إنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والله تعالى أعلم بقصدك ونيتك ، ولكن الإخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول ، وما رأينا آل أمرك إلا إلى هتك الأستار والأعراض باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض ، فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات ولم يقنع بسب الأحياء حتى حكم بتكفير الأموات .
ولم يكفه التعرض على ما تأخر من صالحي السلف حتى تعدى إلى الصدر الأول ومن له أعلى المراتب في الفضل ، فيا ويح من هؤلاء خصماؤه يوم القيامة ، وهيهات أن لا يناله غضب وأنى له بالسلامة .(54/4)
وذكر سامعه منه تخطئة الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وقد تقدم ، ثم قال : فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ علي بزعمك كرم الله وجهه وعمر بن الخطاب ؟ والآن قد بلغ هذا الحال إلى منتهاه والأمر إلى مقتضاه ولا ينفعني إلى القيام في أمرك ودفع شرك ، لأنك قد أفرطت في الغي ووصل أذاك إلى كل ميت وحي ، وتلزمني الغيرة شرعاً لله تعلى ولرسوله ، ويلزم ذلك جميع المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين ، بحكم ما يقوله العلماء ، وهم أهل الشرع ، وأرباب السيف الذي بهم الوصل والقطع ، إلى أن يحصل منك الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين)
قلت : قال صاحب كتاب ( جلاء العينين ) : السيد نعمان الألوسي بعد نقله لهذا الكلام :
( كان ينبغي من ابن حجر أن يعزو هذا الكلام إلى كتاب الذي نقله منه ، ونسبه إلى ابن تيمية )
وقال أيضاً : ( إن ما نسبه الشيخ ابن حجر إلى شيخ الإسلام من سوء الاعتقاد في أكابر الصحابة الكرام لا أصل له )
ومن المتهمين لشيخ الإسلام بأنه منحرف عن على المدعو زاهد الكوثري أحد رؤوس البتدعة في هذا القرن والذي سخر كل تآليفه وتعليقاته على الكتب في النيل من علماء السلف ممن لم يوافق مشربه البدعي .
يقول هذا الكوثري راداً على شيخ الإسلام تضيفه حديث ( رد الشمس لعلي – رضي الله عنه - ) دون اعتبار لتصحيح الطحاوي له :
( فتراه يحكم عليه هذا الحكم القاسي لأنه صحح حديث لد الشمس لعلي كرم الله وجهه ، فيكون الاعتراف بصحة هذا الحديث ينافي انحرافه عن علي رضي الله عنه ، وتبدو على كلامه آثار بغضه لعلي عليه السلام في كل خطوة من خطوات تحدثه عنه )
ويقول في كتابه " اللإشفاق "(54/5)
( ولو لا شدة ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاجه إلى أن بلغ به الأمر أن يتعرض لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الوجه الذي تراه في أوئل الجزء الثالث منه ، بطريق يأباه كثير من أقحاح الخوارج مع توهين الأحاديث الجيدة في هذا السبيل – لما قامت دولة الغلاة من الشيعة في بلاد الفرس والعراق وشرق الآسيا ( كذا ) الصغرى وأذربيجان من عهد الملك المغولي " خدابنده " وابن المطهر الحلي لما وصل إليه كتاب ابن تيمية هذا ، قال : كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي ، ولكن جوابي يكون بالفعل ، حتى سعي سعياً إلى أن تمكن من قلب الدولة السنية من تلك الأقطار غالية في التشيع يحمل " خدابنده " الملك الشعوب على المتذهب بمذهب ابن المطهر ، ولم يزل الغلو في التشيع في تلك البلاد منذ علم ابن تيمية هذا ، ولم كان يسعى بحكمة لما بعدت شقة الخلاف بين الإخوان المسلمين على الوجه الذي تراه )
قلت : قال الشيخ محمد بهجة البيطار راداً هذا الاتهام عن شيخ الإسلام :
( أقوال : كلامه هذا الصريح في أن الإمام ابن تيمية هو الذي أثار ثائرة الشيعة بتعصبه عليهم ، وطعنه فيهم ، وتنقيصه علياً عليه السلام بما يأبى مثله الخوارج وأنه هو الذي حمل ابن المطهر على هذا الغلو في التشيع والسعي في نشر المذهب من عهد الملك المغولي " خدابنده " الذي تشيع وقلب دولته شيعية بسعي ابن المطهر الحلي هذا ، وأن منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لشيخ الإسلام هو الذي زاد النار ضراماً . ألخ .
سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل على تشوية الحقائق وإفساد التاريخ ، فهو ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً . وإليك الجواب عن الكذب الصريح :(54/6)
إن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يؤلف كتابه " منهاج السنة النبوية " ابتداءً ، ولكنه ألفه رداً على كتاب الحلي الشيعي الذي سماه " منهاج الكرامة " وقد قال رحمه الله في مقدمة كتابه : " أما بعد فإنه أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتاباً صنفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا منفقاً لهذه البضاعة ، ويدعو به إلى مذهب الرافضة الإماية من أمكنه دعوته من ولاة الأمور وغيرهم ( إلى أن قال ) وذكر من أحضر هذا الكتاب بأنه من أعظم الأسباب في تقرير مذهبهم عند من مال إليهم من الملوك وغيرهم ، وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه " خدابنده " وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب " ا هـ .
فأنت ترى أن كتاب منهاج السنة النبوية قد كتب رداً لا عتداء من اعتدى على أهل السنة وتهجم عليهم ، وطعن في دينهم ، وأن شيخ الإسلام قد أحضر إليه كتاب الشيعي ولم يكن رآه ، وطلب منه أهل السنة والجماعة رد مفترياته على أهل السنة وهو شيخهم ، بل شيخ الإسلام ، ومن أولى منه ببيان الحق وأقدر منه عليه ؟
إن الملك المغولي " خدابنده " قد ترفض أو تشيع على يد ابن المطهر الحلي قبل صدور رد شيخ الإسلام عليه كما هو ظاهر من كلامه.
إن أقصى ما في كلام شيخ الإسلام هو الدعوة إلى الاعتدال في الأقوال والاعمال ، وتخفيف غلو الغالين في العقائد ، وتقليص ظل عصبيات أهل البدع والأهواء ، ودفع أكاذيبهم وأباطيلهم ، والغرض من ذلك كله تنوير العقول ، وتقريب القلوب ، وتطهيرها مما تراكم عليها من أوضار الباطل ، وأوغار الحقد ، وإزالة ما استحكم فيها من جفوة وقسوة .
وهذه نبدة صغيرة من كلام شيخ الإسلام مصدقة لما ذكرناه .(54/7)
قال رحمه الله : " وأما الرافضي فإذا قدح في معاوية بأنه كان باغياً ظالماً ، قال له الناصبي : وعلي أيضاً كان باغياً ظالماً لما قاتل المسلمين على إمارته وبدأهم بالقتال ، وصال عليهم وسفك دماء الأمة بغير فائدة لا في دينهم ، وكان السيف مسلولاً في خلافته على أهل الملة ، كفوفاً عن الكفار – إلى أن قال – فالخوارج والمروانية وكثير من المعتزلة وغيرهم يقدحون في على ( رضي الله عنه ) وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون " ا هـ .
فأنت ترى شيخ الإسلام يحكي كلام الروافض والنواصب والخوارج ، ولكنه لا يحكم على فريق ، بل يحكم بأنهم مخطئون مبتدعة ضالون ، خلافاً لما يزعمه الكوثري ، المقلد الغبي ، من انتقاص مقام الإمام علي ، فما أضيع البرهان عند المقلد .
وأوضح وأفضح مما تقدم أن هذا المعتدي على التاريخ ، دعواه أن ابن تيمية هو سبب الغلو في التشيع ، وبسط سلطانه في الأرض ، ويوهم كلامه أو يفهم أن السلطان " خدابنده " قد ترفض ونشر مذهب ابن المطهر بسبب ابن تيمية ، وتحامله على الشيعة في منهاج السنة النبوية .
وقال : وابن المطهر الحلي لما وصل إليه كتاب ابن تيمية هذا ، قال : كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي ، ولكن جوابي يكون بالفعل حتى سعى سعياً إلى أن تمكن من قلب الدولة السنية من تلك الأقطار إلى دولة غالية في التشيع يحمل " خدابنده " الملك الشعوب على التمذهب بمذهب ابن المطهر ، ولم يزل الغلو في التشيع متغلغلاً في تلك البلاد منذ عمل ابن تيمية هذا . ا هـ .
ونحن ننقل لك بعد هذا الكلام ما ذكره الشيعة الإمامية أنفسهم في سبب ترفض الملك " خدابنده " ليعلم مبلغ هذا الرجل من تحريف التاريخ وقلب الحقائق الواقعية بكل وقاحة وصفاقة ، ونسجل عليه حقده وتعصبه على رجال الإسلام العظام ، وافتراءه عليهم الكذب الصريح .(54/8)
جاء في كتاب " روضات الجنات في تراجم الشيعة " تأليف ميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الميلاد ، والأصفهاني الموطن والمهاد – في ترجمة الحسن بن المطهر الحلي ما نصه : ثم نقل عن كتاب شرح مولانا التقي المجلس علي الفقيه نقلاً عن جماعة من الأصحاب أن الشاه " خدابنده " المذكور غضب يوماً على امرأته فقال لها : أنت طالق ثلاثاً ، ثم ندم وجمع العلماء فقالوا : لا بد من المحلل فقال : عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة ، أو ليس لكم هنا اختلاف ؟ فقالوا : لا ، فقال : أحد وزرائه : إن عالماً بالحلة وهو يقول ببطلان الطلاق ، فبعث كتابه إلى العلامة وأحضره – وهنا أطال في وصف اجتماعه بعلماء السنة ومناظرته لهم ، بما يضحك الثكلى ويشبه كلام الصبيان ثم قال : وعلى أي حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل ، لأنه لم يتحقق شروطه ، ومنه العدلان ، فهل قال الملك بمحضرهما ؟ قال : لا ثم شرع في البحث مع العلماء حتى ألزمهم جميعاً فتشيع الملك وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا بالأئمة الإثني عشر ، ويضربوا السكك على أسمائهم ، وينفقوها على أطراف المساجد ، والمشاهد منهم ( ثم قال ) والذي في أصفهان موجود الآن في الجامع القديم الذي كتب زمانه ثلاثة مواضيع منه ، وكذا في معبديه – مكوار لنجان ، ومعبد الشيخ نور الدين النطنزي من الفرقاء ، وكذا على منارة دار السيادة التي تممها هذا السلطان من بعد ما أحدثه أخوه غازان . ا هـ .
( ثم قال ) : وهذه اليد العظمى والمنة الكبرى التي له على أهل الحق مما لم ينكره أحد من المخالفين والموافقين ، حتى أنه في بعض تواريخ العامة ( أي أهل السنة ) رايت التعبير عن هذه الحكاية بمثل هذه الصورة . ومن سوانح سنة سبع وسبعمائة ، أظهر " خدابنده " شعار التشيع بإضلال ابن المطهر . ا هـ .(54/9)
أعلمت الآن أيها القارئ الكريم السبب الذي من أجله ترفض هذا الجاهل الأعجمي المغولي وأنه مسألة شخصية ، لا دخل فيها لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ولا لكتاب منهاج السنة النبوية ، وهو كونه طلق زوجته ثلاثاً وهو غضبان ، واستفتى أمثال الكوثري من علماء عصره فأفتوه بالمحلل ، وهو الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم التيس المستعار ، وقال الملك لهم : عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة ، أو ليس لكم هنا اختلاف ؟ قالوا : لا ، لابد من المحلل – أي الملعون بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المحلل له ، فاستنكف الملك عن هذا التحليل الذي هو زنا صريح ، ولو أخذوا بما كان عليه الطلاق الثلاث في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد صاحبيه ، لخرجوا من جحر الضب الذي أوقعوا الملك معهم فيه ، ولو اهتدى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لوجد لمسألته عنده حلاً نبوياً سنياً غير شيعي ، ولكن الكوثري يلبس شيخ الإسلام ذنب غيره فعليه ما يستحق من ربه ، ولماذا تسكت أيها الكوثري عمن أحرجوا الملك فأخرجوه من بينهم ، وتطعن في دين من يرده وقومه إلى حظيرة السنة ؟
أكان بالله إثما أن يؤلف ابن تيمية كتاب " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " ؟ ويرد به ضلالات ابن المطهر الحلي والكوثري السني فيما يزعم يتبجح بقول الحلي الشيعي لإمام السنة : كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي .
وفي كتاب " روضات الجنات " في تراجم الشيعة الذي لخصنا عنه ما تقدم ( ص171 – 174 ) نقلاً عن تذكرة الشيخ نور الدين علي بن عراق المصري – أن الشيخ تقي الدين بن تيمية الذي كان من جملة علماء السنة معاصراً للشيخ جمال الدين العلامة المذكور – منكراً عليه في الخفاء كثيراً – كتب إليه العلامة بهذه الأبيات :
لو كنت تعلم كل ما علم الورى طراً لصرت صديق كل العالم
لكن جهلت فقلت إن جميع من يهوى خلاف هواك ليس بعالم(54/10)
فكتب الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي في جوابه هذه القطعة وأرسلها إليه :
يا من يموه في السؤال مسفسطاً إن الذي ألزمت ليس بلازم
هذا رسول الله يعلم كل ما علموا وقد عاداه جل العالم
وترى الكوثري ينوه بكلمة ابن المطهر الحمقاء التي أخذها من شعره ولكنه لم يذكر جوابها السديد لبعض علماء السنة .
ويمكنك أن تقف مما أوردناه لك على دخيلته ، وتعرف حقيقة نحلته وخبيئته .
وجملة القول : أن هذا الرجل لا يتعد بعقله ولا بنقله ولا بعلمه ولا بدينه . ومن يراجع تعليقاته يتحقق صدق ما قلناه فيه ، على أنا أوردنا شواهد منها دلت على سائلها وعرفنا حقيقة قائلها ، فمن بقي له شك فيها فليرجع إليها ، ليرى كيف أن التعصب يعمي ويصم ، والله عليم بذات الصدور )
قلت : ومن المتهمين لشيخ الإسلام بالانحراف عن علي – رضي الله عنه – المدعو : عبدالله الغماري أحد مبتدعي زماننا الذي يقول في رده على الشيخ الألبان أثناء كلامه على حديث " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي عليه السلام "
قال الغماري : ( حديث صحيح ، أخطأ بان الجوزي بذكره في الموضوعات ، ورد عليه الحافظ في القول المسدد ، وابن تيمية لانحرافه عن عليه السلام كما هو معلوم لم يكفه حكم ابن الجوزي بوضعه فزاد من كيسه حكاية اتفاق المحدثين على وضعه )
وقال الغماري – أيضاً – في موضع آخر من رسالته السابقة – متحدثاً عن الألباني – حفظه الله - .
( وحاله في هذا كحال ابن تيمية ، وتطاول على الناس فأكفر طائفة من العلماء ، وبدع طائفة أخرى ، ثم اعتنق هو بدعتين لا يوجد أقبح منهما : إحداهما : قوله بقدم العالم ، وهي بدعة كفرية – والعياذ بالله تعالى – والأخرى : انحرافه عن علي عليه السلام ، ولذلك وسمه علماء عصره بالنفاق ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : " لا يحبك إلى مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ")(54/11)
ومن المتهمين – أيضاً – المدعو حسن بن علي السقاف أحد المبتدعة المعاصرين الذي عول على الغماري في هذا الاتهام الباطل فقال في كتابه: " التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد " نقلاً عن عبدالله بن الصديق الغماري من كتابه " الصبح السافر " ( وابن تيمية يحتج كثير من الناس بكلامه ، ويسميه بعضهم ( شيخ الإسلام ) وهو ناصبي عدو لعلي عليه السلام ، واتهم فاطمة عليها السلام بأن فيها شعبة من النفاق )
ومنهم صاحب كتاب " التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني ومؤلفه كما على غلافه ( لجماعة من العلماء )
يضع هذا الزائغ عنواناً في صفحة (85 ) يقول فيه : ( افتراؤه على الإمام على ) أي افتراء ابن تيمية على علي – رضي الله عنه – ثم نقل تحته أقوال الحافظ ابن حجر السابقة ، وشيئاً من أقوال شيخ الإسلام زاعماً الرد عليها .
ومن المتهمين لشيخ الإسلام بهذا الاتهام الشنيع : المدعو : عبدالله الحبشي وذلك في قوله : ( وابن تيمية هذا طعن في علي بن أبي طالب .
وقال : إن حروبه أضرت بالمسلمين .
قلت : وقد رد عليه الشيخ عبدالرحمن دمشقية – حفظه الله – في كتابه : " المقالات السنية في تبرئة شيخ الإسلام ابن تيمية ورد مفتريات الفرقة الحبشية "
ومن المتهمين لشيخ الإسلام بهذه التهمة : حسن المالكي الذي اشتهر بين أهل العلم بمحبته للمخالفة والانفراد بأقوال شاذة يلتقطها من كتب المبتدعة ، ويثيرها عند أهل السنة ، وليس هذا مقام ذكرها .
وقد سمعت هذا المالكي يقول في أحد المجالس بأن ابن تيمية ( فيه شئ من النصب )(54/12)
وأما في كتبه – أي المالكي – فقد ألمح إلى هذه التهمة ولم يصرح ، فمن ذلك قوله في كتابه " نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي " ( أقول لكم – وبلا فخر – خذوا مني هذه الحقائق التي هي خلاصة دراسة استمرت أربع سنوات في كتب التاريخ ، وهي : أن الكتب المفتقدة للتحقيق العلمي المتشدقة بمنهج أهل الحديث بالإضافة إلى ما سبق هي ......... ) ثم ذكر مجموعة من الكتب التي ينبغي عدم اعتمادها – كما يزعم – ثم قال في الحاشية ، ( كنت يومها قد ذكرت كتاب (منهاج السنة ) لابن تيمية ضمن هذه الكتب التي تفتقد التحقيق ويقلده المؤرخون بلا محاكمة للنصوص ، وقد حذفت دكره هنا مؤجلاً الحكم النهائي بعد دراسة الكتاب دراسة مستفيضة )
قلت : ونحن على شوق إلى رؤية هذه ( الدراسة المستفيضة ) لكتاب شيخ الإسلام .
ومن أقوال المالكي التي تلمح إلى هذه التهمة قوله في كتابه الآنف عن شيخ الإسلام : ( وهو معروف بدفاعه عن الخلفاء الثلاثة ) وليس الأربعة ؟ نعوذ بالله من الظلم والبهتان .
وممن قد يعد من المتهمين لشيخ الإسلام – أيضاً – أم مالك الخالدي ، وهي زوج حسن المالكي فقد ألفت كتاباً بعنوان " البرهان الجلي في دفاع ابن تيمية عن خلافة علي رضي الله عنه " ألمحتت إلى هذه التهمة بشئ من الحذر حيث أبهمت العبارة في أن لشيخ الإسلام أخطاءً عدة في كتابه : " منهاج السنة" ، وأن له أقوالاً متناقضة ...... إلخ اتهامها الذي لم تذكر عليه أي مثال ليتبين مرادها بدلاً من هذا التعمية والتعتعة وإليك شيئاً من أقوالها ، لعل أحداً من القراء يفهم ما لم أفهمه من هذا الغموض المطبق على حروفها :
تقول : ( يوجد لابن تيمية أقوال ظاهرها يناقض بعض ما أوردناه هنا فلعل ما أوردناه هو آخر ما كان عليه الشيخ لأنه الحق ومن عرف الحق يستبعد أن ينحرف عنه )(54/13)
قلت : ولم توضح – هداها الله – هذه الأقوال المتناقضه لشيخ الإسلام ، أو الأقوال التي فيها لبس واشتباه ، وكان الواجب عليها ما دامت تعتقد أن ما تقوله هو الحق أن تصرح بهذه الانتقادات لشيخ الإسلام وترد عليها رداً علمياً ، لا أن تطلق هذه العبارات والأقوال التي ( فيها لبس واشتباه )
هؤلاء هم أبرز المتهمين لشيخ الإسلام بهذا الاتهام وهم كما ترى من أقحاح أهل البدع – ما عدا ابن حجر العسقلاني – فلا يستغرب منهم هذا الكذب والافتراء على شيخ الإسلام الذي هذم بدعهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد فلهذا توارثوا هذا العداء الدفين له على مر الأجيال ، إلي أن يشاء الله .
وكما قلت سابقاً : لوكان المتهم للشيخ هم هؤلاء المبتدعة وحدهم لما أقمت لأقوالهم أي أهميمة ، لأننا قد تعودنا منهم الكثير من مثل هذه الافتراءات والتهم على علماء السلف ، ولكن وقوف الحافظ ابن حجر في صفهم ولو بالتلميح هو الذي دفعني لرد خطئه على شيخ الإسلام لكي لا يتسرب دون علم إلى ناشئة المسلمين ، أو يستغله أحد مرضى النفوس ممن في صدورهم إحن خفية على شيخ الإسلام لسبب من الأسباب الله أعلم به .(54/14)
منهج شيخ الإسلام في دفع شبهات الروافض
علمنا أن شيخ الإسلام يواجه كتاباً قد ألفه رجل من طائفة جاهلة ظالمة قد عرف أفرادها بالكذب المختلق لا يفوقهم فيه أحد ، فهذا الرافضي قد حشد أكاذيبه في هذا الكتاب من جهتين : من جهة الغلو في علي – رضي الله عنه – بشتى الأكاذيب والموضوعات ، ومن جهة الطعن في الصحابة الآخرين – رضي الله عنهم – فصاحب هذا الكتاب مندفع بحماسة إلى تقرير مذهبه الباطل بأي وسيلة ، ولو كانت الافتراءات والأكاذيب .
وشيخ الإسلام أمام سيل جارف من الغلو المكذوب في علي – رضي الله عنه – وأمام حمم متدفقة من الأكاذيب في سبيل الطعن في الصحابة – رضوان الله عليهم – فماذا يصنع ؟
إن المتأمل لهذه الظروف التي عاشها شيخ الإسلام أمام هذا الكتاب يجد أن له خيارين :
الخيار الأول : وهو المشهور عند العلماء وأصحاب التآليف : هو أن يقوم شيخ الإسلام بدفع الطعون عن الصحابة ببيان كذبها وأنها مختلقة ، فكلما رمى الرافضي بشبهة أو طعن على صحابي قام شيخ الإسلام بردها أو برده بكل اقتدار لينفيه عن هذا الصحابي . هذا هو الخيار الأول ، وهو في ظني الخيار الذي كان الحافظ ابن حجر يريد لشيخ الإسلام أن يسلكه مع الرافضي .
وهو خيار جيد ومقبول لو كان الخصم غير الرافضي ، أي لو كان الخصم ممن يحتكمون في خلافاتهم إلى النقل الصحيح أو العقل الصريح ، أما مع الرافضي فإن هذا الأسلوب لا يجدي ، ولن يكف بأسه عن أعراض الصحابة ، فإنك مهما أجدت في رد الشبهة أو الطعن فإنه لن يقتنع بذلك أبداً – كما علم من طريقة القوم – ومهما أفنيت عقلك وجهدك في دفع أكاذيبه فإنه لن يألو جهداً في اختلاف غيرها من الأكاذيب .
إذاً فهذا الخيار الأول لن يثني الرافضي عن هدفه من النيل من الصحابة – رضوان الله عليهم –
نعم هو سينفع أهل السنة ، ولكنه لن يضر الروافض ولن يسكتهم .(55/1)
الخيار الثاني : وهو الذي اختاره شيخ الإسلام لأنه يراه ذا مفعول فعال في مواجهة أكاذيب الروافض وغلوهم المستطير وهذا الخيار يرى أن أجدى طريقة لكف بأس الروافض هو مقابلة شبهاتهم بشبهات خصومهم من الخوارج والنواصب ، أي مقابلة هذا الطرف بذاك الطرف المقابل له ، ليخرج من بينهما الرأي الصحيح الوسط .
فكلما قال الرافضي شبهة أو طعناً في أحد الخلفاء الثلاثة – أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – قابلها شيخ الإسلام بشبهة مشابهة للنواصب والخوارج في علي رضي الله عنه .
وهو لا يقصد بهذا تنقص على – رضي الله عنه – والعياذ بالله ، وإنما يقصد إحراج الروافض ، وكفهم عن الاستمرار في تهجمهم على الصحابة ، لأنه ما من شئ من الطعون والتهم سيثبتونه على واحد من الصحابة إلا وسيثبت الخوارج والنواصب مماثلاً له في علي رضي الله عنه .
وهذا مما يخرس ألسنة الروافض ، لأنهم في النهاية سيضطرون إلي أن تضع حربهم على الصحابة أوزارها عندما يرون شبههم وأكاذيبهم تقابل بما يناقضها في على – رضي الله عنه – فعندها سيبادرون إلى أن يختاروا السلم وعدم ترديد الشبهات حفاظاً على مكانة علي أن يمسها أحد بسوء .
فهذه ( حيلة ) ذكية من شيخ الإسلام ضرب بها النواصب بالروافض ليسلم من شرهم جميعاً ، وهذا ما لم يفهمه أو تجاهل عنه من بادر باتهامه بتلك التهمة الظالمة .
وشيخ الإسلام – أيضاً – يعلم أن الروافض والنواصب جميعاً أصحاب كذب وغلو ، ولكنه يقابل غلو هؤلاء وكذبهم بغلو أولئك وكذبهم ، ليسكت الجميع ويدفعهم عن الخوض في أعراض الصحابة .
فطريقة شيخ الإسلام أنه رأى قوماً يغلون في شخص من الأشخاص ، ويتنقصون من يكون مثله أو أفضل منه ، أن يقابل هؤلاء بمن يناقضهم في القول لكي يدفع الغلو عن الشخصين الفاضلين جميعاً .
وهذا مما قد تقرر عند علماء السنة ولم يستنكروه .
وأما أهل الباطل من الغلاة فإنهم يتهمون كل من لم يكن على مثل غلوهم بأنه عدو لذاك الفاضل .(55/2)
يقول العلامة المعلمي في كتابه " التنكيل " :
( ومن أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل ، ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفضل ومعاداتهم ، ويرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو ، لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره ، ومقتهم الجمهور وأوذوا ، فثبطهم هذا عن الانكار ، وخلا الجو للشيطان ، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين ، وحال غلاة المقلدين )
قلت : وأما شيخ الإسلام فإنه لم يأبه لتلك الاتهامات التي يلمز بها أهل الباطل كل من لم يكن على طريقتهم في الغلو ، وإنما كان – رحمه الله – ينزل كل إنسان منزلته التي أنزله الله تعالى .
وكان كثيراً ما يجري المقارنات بين الأشخاص الذين غلا فيهم قوم، وجفا عنهم آخرون ، فيصد غلو هؤلاء بجفاء أولئك ، ويخرج من بينهما الرأي الصحيح في ذا ك الشخص الفاضل .
فهذه الطريقة تميز بها شيخ الإسلام ، ولم يستخدمها مع على – رضي الله عنه – والخلفاء الثلاثة كما يعتقد أعداؤه ، وإنما هي طريقة مطردة له رحمه الله في كل موقف مشابه .
فمن ذلك أنه – رحمه الله – عقد مقارنة بين ما ثبت لموسى من فضائل وما ثبت لعيسى – عليهما السلام – قاصداً من ذلك الرد على النصارى الذين يغلون في عيسى عليه السلام ويحطون من قدر غيره من الأنبياء .
قال – رحمه الله – ( إنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها ، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى ، فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصعقة) ثم أحياهم الله بعد موتهم ، وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنيباء والنصارى يصدقون بذلك .(55/3)
وأما جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت ، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة وأما جعل خشبة يابسة حيواناً تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القدرة وأقدر ، فإن الله يحيي الموتى ولا يجعل الخشب حياة .
وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك ، فإن الحلو أو اللحم دائماً هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والمسك وغيرهما ، وذكرت له نحواً من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه ، وإن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل ، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه .
وأما خلقه من امرأة بلا رجل ، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك ، فإنه خلق من بطن امرأة ، وهذا معتاد ، بخلاف الخلق من ضلع رجل ، فإن هذا ليس بمعتاد ، فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم )
قلت : إذاً فشيخ الإسلام عندما عقد هذه المقارنة بين موسى وعيسى – عليهما السلام – وما ثبت لهما من فضائل إنما يريد الرد على من يغلو في عيسى – عليه السلام – مستغلاً ما ثبت له من خصائص على حساب غيره من الأنبياء ، فأراد شيخ الإسلام أن يوقف غلوه هذا ببيان أن ما ثبت لعيسى من خصائص فإنها ثابتة لغيره من الأنبياء ، مثلها أو أعظم منها ، فلماذا هذا الغلو ؟
وهو بهذا الموقف يحفظ لكل أنبياء الله حقوقهم ، ويدفع عنهم طعن الطاعنين وازدراء الشانئين ، ويصرف عنهم غلو الغالين ، ولا يقول عاقل قط بأن صنيع شيخ الإسلام هذا فيه ازدراء وتنقص لعيسى – عليه السلام –(55/4)
لأنه – رحمه الله – لم يتنقصه ، وحاشاه أن يفعل ذلك ، أو أن يظن به ذلك ، وإنما ذب عن عرض إخوانه من الأنبياء – عليهم السلام- دون أدنى تعرض لمقام عيسى – عليه السلام - .
وقارن بين صنيعه – رحمه الله – مع عيسى وموسى – عليهما السلام - وقارنه مع صنيعه مع على والخلفاء الثلاثة – رضوان الله عليهم – تجد أن الموقف متشابه وأن منهج شيخ الإسلام واحد لا يتغير أمام غلاة الكفار وغلاة المبتدعة الذين يغلون في شخوص بعض الأنبياء أو بعض الأولياء ، ويذمون غيرهم .
قلت : وفي موضع آخر يجري شيخ الإسلام مقارنة بين موسى وعيسى – عليهما السلام – وبين محمد صلى الله عليه وسلم وذلك رداً على اليهود والنصارى الذين يؤمنون بموسى وعيسى – عليهما السلام - ولا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الشيخ : ( إن الدلائل الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ، ومعجزاته أعظم من معجزات غيره ، والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره ، والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى – عليهما السلام – وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا . ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن مثله وأكمل منه , وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل ، فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى ، وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا ، لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك ، فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام مع التكذيب بنوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجل الناس وأضلهم ، أو أعظمهم عناداً واتباعاً لهواه )(55/5)
قلت : تأمل قوله : ( فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى )
إذا تأملت هذه العبارة تبين لك بوضوح منهج شيخ الإسلام المطرد في مثل هذه المواضع التي يعظم فيها نبي أو صحابي أو ولي على حساب نبي أو صحابي أو ولي آخر ، فإنه رحمه الله يلزم ذلك المعظم الجهول أن يعظم الجميع ويثني عليهم وإلا فإنه لا يستقيم له أن يعظم بعضهم ويطعن في بعضهم ، لأنه ما من طعن أو اتهام باطل يمكن أن يوجه لأحدهم إلا سيوجه للآخر مثله أو أعظم منه . لأن النفس الدنيئة لن تعدم مثل هذه الاتهامات الباطلة على الأفاضل ، فإذا كان أصحاب الإفك كاليهود مثلاً قد مسوا جانب الله وعظمته في فولهم ( يد الله مغلولة ) فما ظنك ببني البشر ؟ مهما علت منزلتهم .
إذاً : فخلاصة منهج شيخ الإسلام في مثل هذه المقامات التي يمجد فيها شخص على حساب آخر ، ويكونان جميعاً من أهل الفضل ، أو يكون المطعون فيه أفضل من الممجد كأبي بكر مع على مثلاً ، فإن الشيخ – رحمه الله – يبين لهم أنكم إذا طعنتم في هذا الشخص الفاضل بالطعونات الباطلة فسيأتي قوم مثلكم لا خلاق لهم يطعنون فيمن مجدتموه بنفس طعونكم ، فماذا سيكون موقفكم تجاههم ؟ إلا الكف عن الأفاضل وإنزالهم منزلتهم التي أرادها الله لهم .(55/6)
هذا هو منهج شيخ الإسلام ، وليس معنى هذا أنه يطعن فيمن مجده الغلاة ، لأن هذا الأمر لم يخطر بباله أصلاً ، لأنه ينقض شبهة هؤلاء بشبه غيرهم من أهل الباطل ، كاليهود مع النصارى ، والروافض مع النواصب ، ثم يبرز منهج الأسلام أو منهج أهل السنة ، كما فعل مع علي – رضي الله عنه – مثلاً ، حيث أكثر من ذكر فضله ومكانته في كتابه " منهاج السنة " الذي يدعي خصومة أنه تنقصه فيه ، وما كان لمثل شيخ الإسلام أن يتناقض فوله لا سيما في كتاب واحد ولكن القوم لم يفهموا مقصد شيخ الإسلام من عباراته تلك فبادروه بتلك التهمة ، ولا سيما والنفوس مولعة بالطعن فيمن على صيته وانتشرت تزكيته في الآفاق كشيخ الإسلام الذي لن يعدم حاسداً أو حاقداً فوق كل أرض وتحت أي سماء .
قلت : ومن هذه المقارنات التي يقوم بها شيخ الإسلام للحاجة أنه أجرى مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة – رضي الله عنهما – ليبين الفرق بين الحفظ وبين الاستنباط فيقول : ( وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره ، واستنباطه ، ومن فتاوى أبي هريرة وتفسيره ؟ وأبو هريرة أحفظ منه ، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه ، ويدرسه بالليل درساً ، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ ، وتبليغ ما حفظه كما سمعه ، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط ، وتفجير النصوص ، وشق الأنهار منها ، واستخراج كنوزها )
ومن ذلك أيضاً أنه أجرى مقارنة بين صالحي بني آدم وبين الملائكة ليبين رأيه في هذه المسألة التي طال فيها الجدل بين العلماء قبل شيخ الإسلام .
قال رحمه الله : ( وأما الصفات التي تتفاضل ، فمن ذلك : الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة ، وليس للملك أكثر من هذا ، وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين ، حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة .(55/7)
فنقول : غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر ، فإن الوحي للرسل على أنحاء ، كما قال تعالى : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآي حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء ) فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه : منها واحد يكون يتوسط الملك . ووجهان أخران ليس للملك فيهما وحي ، وأين الملك من ليلة المعراج ، ويوم الطور ، وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك ؟ )
قلت : وبهذه الأمثلة السابقة تعلم طريقة شيخ الإسلام ومنهجه الذي يسير عليه في هذه الظروف والقضايا المتشابهة ، ومنها قضية الرافضة مع علي – رضي الله عنه – حيث غلا فيه الروافض ورفعوه فوق مقامه الذي أراده الله له ، ولم يكفهم ذلك ، بل تنقصوا من يزيدون عليه في الفضل والمرتبة .
ولهذا فشيخ الإسلام – رحمه الله – في كتابه ساوى بين الروافض وبين النصارى الذين غلوا في عيسى – علية السلام – وتنقصوا غيره من الأنبياء – عليهم السلام –
يقول شيخ الإسلام في كلام بديع له ، يبين فيه منهجه الذي سبق أن عرفناه ، ويدلل عليه بالأمثلة من القرآن ، ومن أفعال العلماء السابقين ، فتأمله وتدبره فإنه يلخص لك هذه الرسالة كلها .(55/8)
يقول شيخ الإسلام : ( أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى ، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبدالله ورسوله ، ولا يغلون فيه غلو النصارى ، ولا يجفون جفاء اليهود . والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وابراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل ، كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع على كمحمد بن أبي بكر ، والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له ، فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي ، فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم ، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعاً مع اليهودي ، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن قدح في نبوته بشئ من الأشياء ، لم يمكنه أن يقول شيئاً إلا قال له اليهودي في للمسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح ، وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن الشبهة ، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى ، وإن كان القدح في المسيح باطلاً فالقدح في محمد أولى بالبطلان ، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان ، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات .(55/9)
ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره ، فخافوا أن لايسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنياً ، ففطن لمكرهم فدخل مستديراً متلقياً لهم بعجزه ، ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له : ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضاً ، فقال القاضي : ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذباً : ومريم وعائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج فأبهت النصارى .
وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى .
ومثل هذه المناظر أن يقع التفضيل بين طائفتين ، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ، ومساويها أقل وأصغر ، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم ، كقوله تعالى : ( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) ثم قال : ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) ، فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فقال تعالى : هذا كبير ، وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به ، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام .(55/10)
لكن هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين فيه على ما يذم وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم ، بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين ، وأدله أحد الصنفين أقوى وأظهر ، وشبهته أضعف وأخفى ، فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى .
وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة .
وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي ، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة – فضلاً عن إمامته – إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان ، وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة ، فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون علياً أو النواصب الذين يفسقونه : إنه كان ظالماً طالباً للدنيا ، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف ، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر ، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه ، فهذا الكلام إن كان فاسداً ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم ، وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجهاً مقبولاً فهذا أولى بالتوجه والقبول ، لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم ، ومن غير أن يضرب أحداً لا بسيف ولا عصا ، ولا أعطى أحداً ممن ولاه مالاً ، واجتمعوا عليه فلم يول أحداً من أقاربه وعترته ، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين ، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله ، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم ، وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء ونحو ذلك ، حتى قال عبدالرحمن بن عوف لعمر : أتسلب هذا آل أبي بكر ؟
قال : كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا . وقال : يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك .(55/11)
ثم مع هذا لم يقتل مسلماً على ولا يته ، ولا قاتل مسلماً بمسلم ، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار ، حتى شرع بهم في فتح الأمصار ، واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان .
فإن جاز للرافضي أن يقول : إن هذا كان طالباُ للمال والرياسة ، أمكن الناصبي أن يقول : كان علي ظالماً طالباً للمال والرياسة ، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضاً ولم يقاتل كافراَ ، ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم .
فإن جاز أن يقال : علي كان مريداً لوجه الله ، والتقصير من غيره من الصحابة ، أو يقال : كان مجتهداً مصيباً وغيره مخطئاً مع هذه الحال ، فأن يقال : كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين ، والرافضة مقصرون في معرفة حقهم ، مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى ، فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك ، وشبهة الخوارج الذين ذموا علياً وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وعثمان وكفروهم ، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه ؟ فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن أولئك قالوا : ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمناه ، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالماً ، وليس علينا أن نبايع عاجزاً أو ظالماً.(55/12)
وهذا الكلام إذا كان باطلاً ، فبطلان قول من يقول : إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للمال والرياسة أبطل وأبطل ، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة ، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمراً على عزل علي ومعاوية وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين ، من شبهة عبدالله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم ، أو أنه إله أو نبي ، بل أين شبهة الذين رأوا أن يولو معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك .
ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان على وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة ، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة ، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه : لا نسلم أنه كان مؤمناً بل كان كافراً أو ظالماً – كما يقولون هم في أبي بكر وعمر – لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل .
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده ، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء ، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس ، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار ، فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعي النفاق ، وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها .(55/13)
وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان ، أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول : كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد بينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة ، حتى سعي في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضاً له وعداوة ، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة ، وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية ، فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك ، وإلا فكان في الباطن معهم ، ولهذا كانت الباطنية من أتباعه ، وعندهم سره ، وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه .
ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة ، لأن شبه الرافضة أظهر فساداً من شبه الخوارج والنواصب ، والخوارج أصح منهم عقلاً وقصداً ، والرافضة أكذب وأفسد ديناً .
وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه .
قيل لهم : القرآن عام ، وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعي اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر ، فباب الدعوى بلا حجة ممكنة ، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما .
وإن قالوا : ثبت ذلك بالنقل والرواية ، فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر ، فإن ادعوا تواتراً فالتواتر هناك أصح ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر .
ثم هم يقولون : إن الصحابة ارتدوا إلا نفراً قليلاً ، فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ؟ ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم ، فطريق النقل مقطوع علهيم إن لم يسلكوا طريق أهل السنة ، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين .(55/14)
وهذا كمن أراد إن يثبت فقه ابن عباس دون علي ، أو فقه أبن عمر دون أبيه ، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشئ حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه ، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل ) .
قلت : ويقول شيخ الإسلام – أيضاً –
( والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع ، فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة ، تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا ، والآخر مأثوماً فاسقاً أو كافراً فيظهر جهلهم وتناقضهم ، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى ، مع قدحه في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه ، فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت بنوة محمد بمثلها أو بما هو أقوى منها ، وما شبهة تعرض في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وتعرض في بنوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها ، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين ، أو مدح الشئ وذم ما هو من جنسه ، أو أولى بالمدح منه أو بالعكس ، أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل )
قلت : وبعد أن عرفنا طريق شيخ الإسلام في دفع شبهات الروافض مما اضطره إلى تلك العبارات التي أسئ فهمها منه لغرض أو لآخر، سأذكر في المباحث التالية ما ينقض تلك الفرية بوضوح من كلام شيخ الإسلام في ذم النواصب ، وكلامه في فضل علي – رضي الله عنه – ثم ذكر المواضع التي حسبوها تنتقص من مكانة على – رضي الله عنه – مع توجيهها التوجيه الصحيح ، لكي لاتحمل على ما لم يرده شيخ الإسلام .(55/15)
أقوال شيخ الإسلام في : ذم النواصب
و فضل على – رضي الله عنه –
أولاً : ذم شيخ الإسلام للنواصب
مما يدفع هذه الفرية عن شيخ الإسلام أنه كان شديد الذم للنواصب بطوائفهم ، والخوارج الذين اتخذوا بغض علي – رضي الله عنه – ديناً يدينون الله به ، وتجرأ بعضهم على تكفيره ، أو تفسيقه ، أو سبه وشتمه ، والعياذ بالله .
وكان – رحمه الله – يكثر من ذم هؤلاء في كتابه " منهاج السنة " فلو كان ناصبياً كما يزعم أعداؤه لأثنى عليهم ، أو دافع عن مواقفهم ، والتمس العذر منهم .
ولكنه مع هذا الذم لهم يرى أنهم خير من الرافضة ، أهل الكذب والنفاق .
يقول شيخ الإسلام : ( لا تجد أحداً ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ، ولا تجد أحداً ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوراج من هو خير منه ، فإن الروافض شر من النواصب ، والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب .
وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ، ويتبرؤن من طريقة الروافض والنواصب جميعاً ، ويتولون السابقين والأولين كلهم ، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ، ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ، ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين ، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة ، لا عثمان ولا علي ولا غيرهما )(56/1)
ويقول : ( وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه ، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافراً ، وقتله أحد رؤوسهم " عبدالرحمن بن ملجم المرادي " فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذا قالوا : إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفاراً مرتدين ، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة ، وما ثبت بالكتاب السنة الصحيحة من مدح الله تعالى لهم ، وثناء الله عليهم ، ورضاء عنهم ، وإخباره بأنهم من أهل الجنة ، ونحو ذلك من النصوص ، ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله .
فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي : إن علياً كان كافراً ، أو فاسقاً ظالماً ، وأنه قاتل على الملك : لطلب الرياسة ، لا للدين وأنه قتل " من أهل الملة " من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجمل ، وصفين ، وحروراء ، ألوفاً مؤلفة ، ولم يقاتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كافراً ، ولا فتح مدينة ، بل قاتل أهل القبلة ، نحو هذا الكلام – الذي تقوله النواصب المبغضون لعلي – رضي الله عنه – لم يمكن أن يجيب هؤلاء النواصب إلا أهل السنة والجماعة ، الذين يحبون السابقين الأولين كلهم ، ويوالونهم .
فيقولون لهم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، ونحوهم ، ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم ، وثبت في القرآن ثناء الله عليهم ، والرضى عنهم ، وثبت بالأحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم خصوصاً وعموماً ، كقوله في الحديث المستفيض عن : " لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً " ، وقوله : " إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر " ، وقوله عن عثمان : " ألا أستحي ممن نستحي منه الملائكة " ؟ وقوله لعلي : " لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله علي يديه " وقوله : " لكل نبي حواريون ، وحواريي الزبير " وأمثال ذلك .(56/2)
وأما الرافضي فلا يمكنه إقامة الحجة على من يبغض علياً من النواصب ، كما يمكن ذلك أهل السنة ، الذين يحبون الجميع )
قلت : وفي كلام شيخ الإسلام الآتي صرح رحمه الله بأنه ليس ناصبياً ، وأن الشام كلها لم يبق فيها نواصب ، وهو قول صريح من الشيخ يرد به على من يظن به هذا الظن .
قال – رحمه الله - :
( وأما جواز الدعاء للرجل وعليه فبسط هذه المسئلة في الجنائز ، فإن موتى المسلمين يصلي عليهم برهم وفاجرهم ، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه ، لكن الحال الأولى أوسط وأعدل ، وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي ، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة ، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات ، فسألني فيما سألني : ما تقول في يزيد ؟ فقلت : لا نسبه ولا نحبه ، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه ، ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه .
فقال : أفلا تلعنونه ؟ أما كان ظالماً ؟ أما قتل الحسين ؟
فقلت له : نحن إذا ذكر الظالمون كالحججاج بن يوسف وأمثاله : نقول كما قال الله في القرآن : ( ألا لعنه الله على الظلمين ) ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه ، وقد لعنه قوم من العلماء وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد ، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن .
وأما من قتل " الحسين " أو أعان على قتله ، أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً .
قال : فما تحبون أهل البيت ؟(56/3)
قلت : محبتهم عندنا فرض واجب ، يؤجر عليه ، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعي خماً ، بين مكة والمدينة فقال " أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله " فذكر كتاب الله وحض عليه ، ثم قال : " وعترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " قلت لمقدم : ونحن نقول في صلاتنا كل يوم : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد "
قال مقدم : فمن يبغض أهل البيت ؟
قلت : من أبغضهم فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً .
ثم قلت للوزير المغولي : لأي شئ قال عن يزيد وهذا تتري ؟
قال : قد قالوا له إن أهل دمشق نواصب .
قلت بصوت عال : يكذب الذي قال هذا ، ومن قال هذا فعليه لعنة الله ، والله ما في أهل دمشق نواصب ، وما علمت فيهم ناصبياً ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون عليه ، لكن كان قديماً – لما كان بنو أمية ولاة البلاد – بعض بني أمية ينصب العداوة لعلي ويسبه ، وأما اليوم فما بقي من أولئك أحد )
ثانياً- أقوال شيخ الأسلام في فضل علي – رضي الله عنه
لشيخ الإسلام – رحمه الله – مواضع عديدة يمدح فيها علياً رضي الله عنه ، ويثني عليه ، وينزله في المنزلة الرابعة بعد أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – كما هو منهج أهل السنة والجماعة ، وهي واضحة صريحة تلوح لكل قارئ لكتب الشيخ ، فلا أدري كيف زاغت عنها أبصار أهل البدعة والشانئين لشيخ الإسلام ؟
وقد أحببت جمع بعضها في هذا المبحث ليقرأها كل منصف وطالب للحق من أولئك النفر ، ولكي تقر بها أعين أهل السنة ، فلا يحوك في صدر أحدهم وسواس أهل البدع تجاه شيخ الإسلام ، عندما يطلعون على تلك الاتهامات الظالمة .(56/4)
وقد أكثرت من النقل عن كتاب " منهاج السنة " لأنه عمدة الطاعنين والمتهمين للشيخ بأن فيه عبارات توحي بانحرافه عن علي – رضي الله عنه – أو توهم تنقصه له ، فوددت أن أبين لهؤلاء أنهم قوم لم يفقهوا مقاصد الشيخ من عباراته لأنهم ينظرون بعين السخط وعين العداوة في الدين ومثل هذه الأعين لا يفلح صاحبها .
وأبدأ هذه المواضع بذكر مجمل عقيدته – رحمه الله – في الصحابة نقلاً عن " العقيدة الواسطية " وهي عقيدته الشهيرة التي كتبها بيده ونافح عنها في حياته أمام أهل البدع .
قال رحمه الله : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة : سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما وصفهم الله في قوله تعالى : ( والذين جاءو من بعدهم يقولون رينا اغفر لنا ولإخوننا الذين سبقونا بالإيمن ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) .
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه "
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل – وهو صلح الحديبية – على من أنفق من بعده وقاتل ، ويقدمون المهاجرين على الأنصار ، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر – وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر - : " اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم " وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة –
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة ، وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة .(56/5)
ويقرون بما تواتر بن النقل عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ، ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم ، كما دلت عليه الآثار ، وكما أجمع على تقديم عثمان في البيعة ، مع أن بعض ... أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي – رضي الله عنهما – بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل ، فقدم قوم عثمان وسكتوا ، أو ربعوا بعلي وقدم قوم علياً ، وقوم توقفوا ، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي.
وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة ، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة ، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، ومن طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله )
وأما المواضع التي ذكر فيها فضل علي – رضي الله عنه – ودافع عنه :
فمن ذلك قوله – رحمه الله - :
( فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ، ولله الحمد ، ومن طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني ، لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يعلم صدقه )
ومن ذلك قوله :
( وأما كون علي وغيره مولى كل مؤمن ، فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، وبعد ممات علي ، فعلي اليوم مولى كل مؤمن ، وليس اليوم متولياً على الناس ، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وأمواتاً )
ومن ذلك قوله :
( وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله )
ومن ذلك قوله :
(لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن ، كما يجب على كل مؤمن موالاة أمثاله من المؤمنين )
ومن ذلك أنه سئل – رحمه الله - :
عن رجل قال عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – إنه ليس من أهل البيت ، ولا تجوز الصلاة عليه ، والصلاة عليه بدعة ؟(56/6)
فأجاب : أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت فهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ، وهو أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى دليل ، بل هو أفضل أهل البيت ، وأفضل بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عن النبي أنه أدار كساءه على علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فقال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنه الرجس وطهرهم تطهيراً "
وأما الصلاة عليه منفرداً فهذا ينبني على أنه هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم منفرداً ؟ مثل أن يقول : اللهم صلى على عمر أو علي . وقد تنازع العلماء في ذلك .
فذهب مالك ، والشافعي ، وطائفة من الحنابلة : إلى أنه لا يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم منفرداً ، كما روي عن ابن عباس أنه قال : لا أعلم الصلاة تنبغي على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم .
وذهب الإمام أحمد وأكثر أصحابه إلى أنه لا بأس بذلك ، لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب : صلى الله عليك. وهذا القول أصح وأولى .
ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلاة عليه دون غيره مضاهاة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بحيث يجعل ذلك شعاراً معروفاً باسمه : هذا هو البدعة )
ومن ذلك أنه يفضله بعبارة صريحة واضحة على معاوية ، وعلى من هو أفضل من معاوية ، ولو رغمت أنوف النواصب ، يقول رحمه الله:
( ليس من أهل السنة من يجعل بغض علي طاعة ولا حسنة ، ولا يأمر بذلك ، ولا من يجعل مجرد حبه سيئة ولا معصية ، ولا ينهي عن ذلك .
وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله مناقبه ، ويذم الذين يظلمونه من جميع الفرق ، وهم ينكرون على من سبه ، وكارهون لذلك ، وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين ، من جنس ما جرى من القتال ، وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب .(56/7)
بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدراً ، وأحق بالإمامة ، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيراً منه ، وعلي أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه ، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من معاوية ، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم ، وعلي أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة ، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة ، فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحداً غير الثلاثة ، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان ، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار )
ومن ذلك أنه : يرد علي قول الرافضي بأن علياً سيف الله المسلول وليس خالد بن الوليد ، فيقول :
( وأما قوله أي الرافضي : " علي أحق بهذا الاسم "
فيقال : أولاً من الذي نازع في ذلك ؟ ومن قال : إن علياً لم يكن سيفاً من سيوف الله ؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الصحيح يدل على أن لله سيوفاً متعددة ، ولا ريب أن علياً من أعظمها , وما في المسلمين من يفضل خالداً على علي ، حتى يقال : إنهم جعلوا هذا مختصا بخالد . والتسمية بذلك وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، فهو صلى الله عليه وسلم الذي قال : إن خالداً سيف من سيوف الله .
ثم يقال ثانياً : علي أجل قدراً من خالد ، وأجل من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؟ فإن عليا له من العلم والبيان والدين والإيمان والسابقة ما هو به أعظم من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ، فإن السيف خاصته القتال ، وعلي كان القتال أحد فضائله ، بخلاف خالد فإنه كان هو فضيلته التي تميز بها عن غيره ، لم يتقدم بسابقة ولا كثرة علم ولا عظيم زهد ، وإنما تقدم بالقتال ، فلهذا عبر عن خالد بأنه سيف من سيوف الله )
ومن ذلك قوله :(56/8)
( فكيف يظن بعلي – رضي الله عنه – وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف ديناً وقلوباُ من الأسرى في بلاد الكفر ، ومن عوام أهل السنة ، ومن النواصب ) .
ومن ذلك أنه يرد أكاذيب الروافض في فضل علي ، وأنه قاتل الجن ، وأن الجن تحتاجه ، بقوله :
( لا ريب أن من دون علي بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله ، وهذا معلوم قديماً وحديثاً ، فإن كان هذا قد وقع ، فقدره أجل من ذلك . وهذا من أدنى فضائل من هو دونه . وإن لم يكن وقع ، لم ينقص فضله بذلك )
ويقول – رحمه الله – مبيناً شجاعة علي – رضي الله عنه - :
( لا ريب أن علياً رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة ، وممن نصر الله الإسلام بجهاده ، ومن كبار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ، وممن قاتل بسيفه عدداً من الكفار )
ومن ذلك قوله :
( أما زهد علي رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه ، لكن الشأن أنه كان أزهد من أبي بكر وعمر )
ومن ذلك قوله :
( نحن نعلم أن علياً كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب ، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم كانوا أتقى لله من أن يتعمدوا للكذب )
ومن ذلك أنه سئل – رحمه الله - :
( عمن قال : إن علياً قاتل الجن في البئر ؟ وأنه حمل على اثني عشر ألفاً وهزمهم ؟
فأجاب : لم يحمل أحد من الصحابة وحده لا في اثني عشر ألفاً ولا في عشرة آلاف ، لا علي ولا غيره ، بل أكثر عدد اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم هم الأحزاب الذين حاصروه بالخندق ، وكانوا قريباً من هذه العدة ، وقتل علي رجلاً من الأحزاب اسمه " عمرو بن عبدود العامري " .
ولم يقاتل أحد من الإنس للجن ، لا علي ولا غيره ، بل علي كان أجل قدراً من ذلك ، والجن الذين يتبعون الصحابة يقاتلون كفار الجن ، لا يحتاجون في ذلك إلى قتال الصحابة معهم ) .(56/9)
ومن ذلك أنه – رحمه الله – يرى أن الذين لم يقاتلوا علياً – رضي الله عنه – هم أحب إلى أهل السنة ممن قاتله ، وأن أهل السنة يدافعون عنه بقوة أمام اتهامات النواصب والخوارج ، يقول :
( وأيضاً فأهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا علياً أعظم مما يحبون من قاتلفه ، ويفضلون من لم يقاتله على من قاتله ، كسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، ومحمد بن مسلمة ، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم .
فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا علياً عند أهل السنة . والحب لعلي وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله ، وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته ، وهم من أشد الناس ذبا عنه ، ورداً على من طعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب ، لكن لكل مقام مقال )
ومن ذلك أنه يفضل الصحابة الذين كانوا مع علي على الصحابة الذين كانوا مع معاوية – رضي الله عنهم أجمعين – يقول :
( معلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل : عمار وسهل بن حنيف ونحوهما كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية )
ومن ذلك أنه يرد على من تأول حديث " عمار تقتله الفئة الباغية " بأن علياً هو الذي قتله لأنه الذي أحضره إلى المعركة معه ، فيقول :
( وأما تأويل من تأوله : أن علياً وأصحابه قتلوه ، وأن الباغية الطالبة بدم عثمان ، فهذا من التأويلات الظاهرة الفساد، التي يظهر فسادها للعامة والخاصة ) .
ومن ذلك أنه يبرئه من دم عثمان – رضي الله عنهما – فيقول : ( وتولى علي على إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ، فإن عليا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به ، كما ثبت عنه – وهو الصادق – أنه قال ذلك ) .
ومن ذلك أنه يقول – رحمه الله - :
( إن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض )(56/10)
وينكر شيخ الإسلام علي الجهلة الذين يطعنون في علي – رضي الله عنه – في مقابل الروافض الذين يطعنون في الصحابة ، فهو يقول عن بعض أهل السنة بأن :
( فيهم نفرة عن قول المبتدعة ، بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له ، فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه ، أو يكذبون به ، كما قد يصير بعض جهالة المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت ، إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها ، بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى بعض ذلك ، حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب .
وعن بعض الجهال أنه قال :
سبوا علياً كما سبوا عتيقكم كفراً بكفر وإيماناً بإيمان
هذه مواضع يسيرة مما نقل عن شيخ الإسلام – رحمه الله – في فضل علي - رضي الله عنه – ودفاعه الحار عنه أمام أعدائه ، وتبرئته مما نسبوه إليه .
فهل يقال بعد هذا كما قال هؤلاء المبتدعة الجائرون بأنه – رحمه الله – كان منحرفاً عن علي – رضي الله عنه – أو أنه تنقصه في كتبه ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم ؟ لا يقوله أدنى مسلم فضلاً عن شيخ الإسلام الذي تصرمت حبال أيامه تقرير عقيدة السلف الصالح ، ومن ضمنها تفضيل علي رضي الله عنه وجعله الخليفة الرابع الراشد ، واعتقاد أنه على الحق أمام من حاربه وخالفه .
ولكن ذنب شيخ الإسلام عند هؤلاء المبتدعة أنه لم يغل في علي كما غلوا ، أو يتجاوز به قدره الذي أراده الله له .(56/11)
المواضع التي احتج بها الطاعنون في شيخ الإسلام ابن تيمية
من كتاب " منهاج السنة " مع الرد عليهم
بعد أن عرفنا منهج شيخ الإسلام في نقض حجج الرافضي وأنه رحمه الله متبع لمنهج السلف الصالح في محبة علي رضي الله عنه وأنه من الخلفاء الراشدين دون غلو فيه وتفضيله على الثلاثة وطعن فيهم كما تفعل الرافضة ، دون جفاء عنه وتنقص له كما تفعل النواصب ، بعد أن عرفنا هذا وهو جواب مجمل للرد على متهمي شيخ الإسلام ببغض علي وتنقصه سوف أعرض في هذا المبحث المواضع التي يزعم أولئك أن فيها تنقصاً أو إيهاماً بالتنقص من كتاب " منهاج السنة " بجميع أجزائه ، ثم أتبع كل موضع بتعليق موجز يوضح مقصد شيخ الإسلام منه .
الموضع الأول : قال شيخ الإسلام :
وأما قوله : " ثم علي بمبايعة الخلق له "
فتخصيصه علياً بمبايعة الخلق له ، دون أبي بكر وعمر وعثمان ، كلام ظاهر البطلان ، وذلك أنه من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان ، أعظم من اتفاقهم علي بيعة علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين ، وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم مما اتفقوا على بيعة علي . والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا علياً ، فإنه بايعه علي و عبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعبدالله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب وأبي بن كعب ، وأمثالهم ، مع سكينة وطمأنينة بعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام .
وأما علي رضي الله عنه فإنه بويع عقيب قتل عثمان رضي الله عنه والقلوب مضطربة مختلفة ، وأكابر الصحابة متفرقون ... )
تعليق
في هذا الموضع يدفع شيخ الإسلام فرية الرافضي في أن علياً رضي الله عنه بايع له جميع الخلق بخلاف غيره من الخلفاء الراشدين ، ويبين أن هذا القول باطل وأن الصحيح أن اتفاق الخلق على الخلفاء الثلاثة أكثر من اتفاقهم على علي رضي الله عنه .(57/1)
وهو في هذا القول لم يخطئ – رحمه الله – وإنما يبين حقيقة يتجاهلها الروافض ليتوصلوا من خلالها إلى الطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم أجمعين – وتقرير الحقيقة والواقع التاريخي لا يعد طعناً أو استنقاصاً من علي – رضي الله عنه – كما سبق .
الموضع الثاني : قال شيخ الإسلام :
( إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أعظم فتوحاً وجهاداً بالمؤمنين ، وأقدر على قمع الكفار والمنافقين من غيره مثل عثمان وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين )
تعليق
في هذا الموضع يقرر الشيخ حقيقة لا يستطيع أحد جحدها وهي أن عمر رضي الله عنه كان أعظم فتوحاً وجهاداً ، وأقدر على قمع الكفار والمنافقين من غيره ، كعثمان وعلي – رضي الله عنهما – وهذا واضح من مطالعة سيرهم ، والأحداث التي وقعت في عصرهم ، ففي عهد عمر – رضي الله عنه – امتدت التفوحات شرقاً وغرباً بخلاف من بعده . وتقرير الحقائق التاريخية لا يعد تنقصاً من عثمان أو علي – رضي الله عنهما - .
الموضع الثالث : قال شيخ الإسلام :
( من المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة ، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق ، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم ، وحصل له سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا علي وحده ، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة ، علم بالضرورة أن ما يدعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعاً )
تعليق(57/2)
في هذا الموضع يبين الشيخ – أيضاً – حقيقة تاريخية لا تعمي إلا على كل صاحب هوى ، وهي أن المؤمنين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان كانوا أسعد حياة وأعظم أمناً في عصرهم ، بخلاف حالهم في عهد علي رضي الله عنه ، بحيث وقعت الفتنة وحدث الانقسام والتفرق . وقصد الشيخ بتقرير هذه الحقيقة الرد على قول الروافض بأن أئمتهم معصومون ، ويحصل بهم اللطف والصلاح للأمة ، وهذا منتقض بحال الناس في عهد أفضل هؤلاء الأئمة عند الرافضة حيث لم يحصل في عهده من اللطف والمصلحة ما ادعاه الروافض ، وتقرير الحقائق التاريخية لنقض أقوال أهل الكذب ليس فيه أي منقصة لأمير المؤمنين على – رضي الله عنه – وليس في هذا تنقص لعلي رضي الله عنه لأن وقته وقت فتن واضطرابات لا وقت صفاء وطمأنينة .
الموضع الرابع : قال شيخ الإسلام :(57/3)
( وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو دار الحق مع علي حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهم من جهلهم يدعون ذلك ، ولكن من علم أنه لم يكن بأولى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ، وليس فيهم من هو معصوم ، علم كذبهم ـ وفتاويه من جنس فتاوى عمر وعثمان ليس هو أولى بالصواب منهم ، ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله ، ولا كان ثناء النبي صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم ، بل لو قال القائل : إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنه عبت على عثمان في شئ ، وقد عتب علي علي في غير موضع لما أبعد ـ فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت : إن الناس يقولون : إنك لا تغضب لبناتك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ، وقال : " إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوجوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، وإني لا آذن ثم لا آذن ، ثم لا أذن : إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم ، فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها " ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فقال : " حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي " والحديث ثابت صحيح أخرجاه في الصحيح .
وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلاً ، فقال : " ألا تصليان ؟ " فقال له علي : إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول : " وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً "
وأما الفتاوى فقد أفتى بأن المتوفى عنها وزجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين ، وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب أبو السنابل " وأمثال ذلك كثير . ثم بكل حال فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده ، كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه )
تعليق(57/4)
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على قول الروافض بأن الحق يدور مع علي أينما دار ويروون في هذا حديثاً موضوعاً رده شيخ الإسلام وبين أن الحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم ولكي يزيد في دحض هذه الشبهة الباطلة أوضح للروافض أن علياً – رضي الله عنه – ليس معصوما ً ، وله من الاختيارات المرجوحة كما لغيره أو أكثر ، وهذا ثابت يعرفه أهل العلم بالآثار لم يأت به شيخ من عنده ، وأنه رضي الله عنه قد يجتهد في فعل فيعاتبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قصة خطبته بنت أبي جهل وغيرها .
وتقرير الحقائق الثابتة لدفع غلو أهل الرفض لا يعد انتقاصاً من علي رضي الله عنه كما سبق .
الموضع الخامس : قال شيخ الإسلام :
( وأما قوله : " رووا جميعاً أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني ومن أذاني آذى الله " فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ ، بل روي بغيره ، كما روي في سياق حديث خطبة علي لابنة أبي جهل ، لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال : " إن بن هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، وإني لا آذن ، إلا أن يريد ابن طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم " وفي رواية : " إني أخاف أن تفتن في دينها " ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فقال : " حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي . وإني لست أحل حراماً ، ولا أحرم حلالاً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحدا أبداً " رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من رواية علي بن الحسين والمسور بن مخرمة ، فسبب الحديث خطبة علي رضي الله عنه لابنة أبي جهل ، والسبب داخل في اللفظ قطعاً ، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه ، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق .(57/5)
وقد قال في الحديث : " يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها " ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها ، والنبي صلى الله عليه وسلم رابه وآذاه ، فإن كان هذا وعيداً لاحقاً بفاعله ، لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب ، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً ، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي .
وإن قيل : إن عليا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها .
قيل : فهذا يقتضي أنه غير معصوم . وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها ، يذهب ذلك بتوبته ، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية ، فإن ما هو أعظم من هذا الذنب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفرة .
وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة ، ولو كان كذلك لكان علي – والعياذ بالله – قد ارتد عن دين الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أن الله تعالى نزه علياً من ذلك . والخوارج الذين قالوا : إنه ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يقولوا : إنه ارتد في حياته ، ومن ارتد فلا بد أن يعود إلى الإسلام أو يقتله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا لم يقع ، وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .
وإن قالوا : بجهلهم : إن هذا الذنب كفر ليكفروا بذلك أبا بكر ، لزمهم تكفير علي ، واللازم باطل فالملزوم مثله . وهم دائماً يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان ، بل ويكفرونهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها ، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أولى بالأجر والعذر ، وأن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقاً أو كفراُ ، كان استلزم الأغلظ لذلك أولى .(57/6)
وأيضاً فيقال : إن فاطمة رضي الله عنها إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها ، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب . وهذا حال أبي بكر وعمر ، فإنهما احتراز عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشئ ، فإنه عهد عهداً وأمر بأمر ، فخافا إن غيرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك ، وكل عاقل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم ، وطلبت فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم ، كان مراعاة حكم النبي صلى الله عليه وسلم أولى ، فإن طاعته واجبة ، ومعصيته محرمة ، ومن تأذى بطاعته كان مخطئاً في تأذيه بذلك ، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته . وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله .
ومن تدبر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما قصد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا أمراً آخر ، يحكم أن حاله أكمل وأفضل وأعلى من حال علي رضي الله عنهما ، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وعباد الله الصالحين ، ومن السابقين الأولين ، ومن أكابر المقربين ، الذين يشربون بالتسنيم ، ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول : " والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي " وقال : " ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " رواه البخاري عنه .(57/7)
لكن المقصود أنه لو قدر أن أبا بكر آذاها ، فلم يؤذها لغرض نفسه ، بل ليطيع الله ورسوله ، ويوصل الحق إلى مستحقه ، وعلي رضي الله عنه كان قصده أن يتزوج عليها ، فله في آذاها غرض ، بخلاف أبي بكر ، فعلم أن أبا بكر كان أبعد أن يذم بأذاها من علي ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لا حظ له فيه ، بخلاف علي ، فإنه كان له حظ فيما رابها به وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله ، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها . والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى ، فإذا أمر الله تعالى بشئ فعله ، وإن تأذى من تأذى من أهله وغيرهم ، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله ، وهذا الإطلاق كقوله : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني " ثم قد بين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الطاعة في المعروف " فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف ، فقوله : " من آذاها فقد آذاني " يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأولى والأحرى ، لأن طاعة أمرائه فرض ، وضدها معصية كبيرة . وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لزم أن يكون على قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله ، فإن معصية أمرائه معصيته ، ومعصيته معصية الله . ثم إذا عارض معارض وقال : أبو بكر وعمر وليا الأمر . والله قد أمر بطاعة أولي الأمر ، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله ، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه .(57/8)
ثم أخذ يشنع على علي وفاطمة رضي الله عنهما بأنهما ردا أمر الله ، وسخطا حكمه ، وكرها ما أرضى الله ، لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر ، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله ، والله يسخط لمعصيته ، ومعصية ولي الأمر معصيته ، فمن اتبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه .
وهذا التشنيع ونحوه على علي وفاطمة رضي الله عنهما أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر ، وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة ولاة الأمور ، ولزوم الجماعة ، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة ، بل لو قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا ، والصبر على جورهم ، وقال : " إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " وقال : " أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم " وأمثال ذلك . فلو قدر أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما ، لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما .(57/9)
ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في علي وفاطمة رضي الله عنهما ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة ، بل جزعوا وفرقوا الجماعة ، وهذه معصية عظيمة – لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجباً ، ولا فعلا محرماً أصلاً ، بخلاف غيرهما ، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر . وما ينزه علي وفاطمة رضي الله عنهما عن ترك واجب أو فعل محظور ، إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أولى بكثير ، ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجباً أو تعديهما حداً ، إلا والشبهة التي تقوم في علي وفاطمة أقوى وأكبر ، فطلب الطالب مدح علي وفاطمة رضي الله عنهما أما بسلامتهما من الذنوب ، وإما بغفران الله لهما ، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة ، من أعظم الجهل والظلم ، وهو من أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في علي ومعاوية رضي الله عنهما ، إذا أراد مدح معاوية رضي الله عنه ، والقدح في علي رضي الله عنه )
تعليق
في هذا الموضع الطويل يقلب الشيخ حجة الرافضي عليه ويحرجه أيما إحراج ن فالرافضي يزعم أن أبا بكر رضي الله عنه قد منع فاطمة رضي الله عنها حقها من ( فدك ) وإن هذا إيذاء لها كما أنه إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم القائل : " فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها " .
فبين له شيخ الإسلام أن هذا الحديث له سبب ، وقد قيل في علي رضي الله عنه لا أبي بكر رضي الله عنه .(57/10)
فهو صلى الله عليه وسلم قد قاله عندما أراد علي أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة ، فإذا كان أبو بكر قد آذى فاطمة كما تزعمون فعلي قد آذاها قبله ، فما قلتم في أبي بكر فقولوه في علي ، رضي الله عنهما وأبو بكر – أيضاً لم يمنعها إلا اتباعاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو قد قدم حقه صلى الله عليه وسلم عليها بخلاف علي الذي أراد الزواج عليها – وفيه أذية لها – لحظ نفسه .
ولك هذا من تقرير الحقائق الثابتة ، وفيه إنزال الصحابة منازلهم التي أنزلهم الله إياها دون غلو في بعضهم ، وذم لآخرين هم أفضل من الأولين .
وليس في هذا أي تنقص لعلي رضي الله عنه ، وإنما فيه إفحام الروافض الجهال .
الموضع السادس : قال شيخ الإسلام :
( واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره ، بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك ، فإن غزوة تبوك لم يأذي النبي صلى الله عليه وسلم لأحد بالتخلف فيها ، فلم يتخلف فيها إلا منافق أو معذور أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، وإنما كان عظم من تخلف فيه النساء والصبيان ولهذا لما استخلف علياً فيها خرج إليه باكياً ، وقال : أتدعني مع النساء والصبيان ؟ وروي أن بعض المنافقين طعنوا في علي ، وقالوا : إنما استخلفه لأنه يبغضه ، وإذا كان قد استخلف غير علي على أكثر وأفضل مما استخلف عليه علياً . وكان ذلك استخلافاً مقيداً على طائفة معينة في مغيبه ، ليس هو استخلافاً مطلقاً بعد موته على أمته ، لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع التقييد ، وإذا سمي علي بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أولى بهذا الاسم ، فلم يكن هذا من خصائصه.(57/11)
وأيضاً فالذي يخلف المطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس ، وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه ، فلا يجب أن يكون أفضل الناس ، بل العادة جارية بأنة يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله ، لأن الذين ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله ، فهو أعظم ممن يخلفه على العيال ، فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد .
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما شبه علياً بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ، ولعلي شركاء في هذا الاستخلاف يبين ذلك أن موسى لما ذهب ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك ، فاستخلف هارون علي جميع قومه ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى عزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور ، ولم يستخلف علياً إلا على العيال وقليل من الرجال ، فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون ، بل ائتمنه في حال مغيبه ، كما ائتمن موسى هارون في حال مغيبه ، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستخلاف ليس لنقص مربتة المستخلف ، بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه ، وكان علي خرج إليه يبكي وقال : أتذرني مع النساء والصبيان ؟ كأنه كره أن يتخلف عنه .
وقد قيل : أن بعض المنافقين طعن فيه ، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المنزلة ليست لنقص المستخلف ، إذ لو كان كذلك ما استخلف موسى هارون )
تعليق
في هذا الموضع يدحض شيخ الإسلام شبهة الرافضة في أن علياً هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد استخلفه في غزوة تبوك على المدينة ، وشبهه بهارون مع موسى عليه السلام ، ويبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف غير علي غير مرة في حياته ، فلم يكن هذا دليلاً على استحقاقهم الخلافة ، وإنما هو دليل على أمانة المستخلف حيث أئتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على الأهل والأولاد والأموال .(57/12)
فالشيخ رحمه الله قد أنزل علياً منزلته التي أنزله الرسول صلى الله عليه وسلم إياها وهي ائتمانه ، ولم يغل فيه كغلو الرافضة فيجعل هذا دليلاً على أحقيته في الخلافة على أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم - .
الموضع السابع :
قال شيخ الإسلام راداً على قول الرافضة " بأن محبة علي مفرقة بين أهل الحق والباطل "
( وإن أريد بذلك مطلق دعوى المحبة ، دخل في ذلك الغالية كالمدعين لإلهيته ونبوته ، فيكون هؤلاء أهل حق وهذا كفر باتفاق المسلمين .
وإن أريد بذلك المحبة المطلقة فالشأن فيها ، فأهل السنة يقولون : نحن أحق بها من الشيعة ، وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي كمحبة اليهود لموسى ، والنصارى للمسيح ، وهي محبة باطلة ، وذلك أن المحبة الصحيحة أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر ، فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء ، وأنه من السابقين الأولين فأحبه ، لكان قد أحب ما لا حقيقة له ، لأنه أحب ذلك الشخص بناءً على أنه موصوف بتلك الصفة ، وهي باطلة ، فقد أحب معدوماً لا موجوداً ، كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها ، ثم تبين أنها دون ما ظنه بكثير ، فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده ، إذا الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها .
فاليهودي إذا أحب موسى بناء علي أنه قال : تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض ، وأنه نهي عن اتباع المسيح صلى الله عليه وسلم يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب موسى على ما هو عليه ، وإنما أحب موصوفاً بصفات لا وجود لها ، فكانت محبته باطلة ، فلم يكن مع موسى المبشر بعيسى المسيح ومحمد .(57/13)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج ، فلا يكون مع موسى المبشر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحب موسى هذا ، والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد ، فهو فرع الشعور، فمن اعتقد باطلاً فأحبه ، كان محباً لذلك الباطل ، وكانت محبته باطلة فلم تنفعه ، وهكذا من اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك ، كمن اعتقد إلهية فرعون ونحوه ، أو أئمة الإسماعيلية ، أو اعتقد الإلهية في بعض الشيوخ ، أو بعض أهل البيت ، أو في بعض الأنبياء أو الملائكة ، كالنصارى ونحوهم ، ومن عرف الحق فأحبه ، كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته .
قال الله تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم (1) والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم واصلح بالهم (2) ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا البطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثلهم (3) . وهكذا النصراني مع المسيح : إذا أحبه معتقداً أنه إله – وكان عبداً – كان قد أحب ما لا حقيقة له ، فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول لم يكن قد أحبه ، فلا يكون معه .(57/14)
وهكذا من أحب الصحابة والتابعين والصالحين معتقداً فيهم الباطل ، كانت محبته لذلك الباطل باطلة . ومحبة الرافضة لعلي رضي الله عنه من هذا الباب ، فإنهم يحبون ما لم يوجد ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته ، الذي لا إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هو ، الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ظالمان معتديان أو كافران ، فإذا تبين لهم يوم القيامة أن علياً لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء ، وإنما غايته أن يكون قريباً من أحدهم ، وأنه كان مقرا بإمامتهم وفضلهم ، ولم يكن معصوماً لا هو ولا هم ، ولا كان منصوصاً على إمامته ، تبين له أنهم لم كونوا يحبون علياً ، بل هم من أعظم الناس بغضاً لعلي رضي الله عنه في الحقيقة ، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في علي أكمل منها في غيره : من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم فإن علياً رضي الله عنه كان يفضلهم ويقر بإمامتهم . فتبين أنهم مبغضون لعلي قطعاً .
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه قال : إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه : " لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " إن كان محفوظاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه ، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى ، بل الرافضة تبغض نعوت علي وصفاته ، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى ، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانا مقرين بها صلى الله عليهم أجمعين .
وهكذا كل من أحب شيخاً علي أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر ، كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه يوم القيامة ، وأنه يرزقه وينصره ويفرج عنه الكربات ويجيبه في الضرورات ، كما اعتقد أن عنده خزائن الله ، أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك ، وهو ليس كذلك في نفس الأمر ن فقد أحب ما لا حقيقة له.(57/15)
وقول علي رضي الله عنه في هذا الحديث : لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ، ليس من خصائصه ، بل قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار " وقال " لا يبغض الأنصار رجل مؤمن بالله واليوم الآخر " وقال " لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق . وفي الحديث الصحيح حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين ، قال : فلا تجد مؤمناً إلا يحبني وأمي .
وهذا مما يبين به الفرق بين هذا الحديث وبين الحديث الذي روي عن ابن عمر : " ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم علياً " فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب ، لأن النفاق له علامات كثيرة وأسباب متعددة غير بغض علي ، فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض علي ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " آية النفاق بغض الأنصار " وقال في الحديث الصحيح : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " .
وقد قال تعالى في القرآن في صفة المنافقين : ( ومنهم من يلمزك في الصدقت فإن أعطوا رضوا ) ( ومنهم الذين يؤذون النبي ) ( ومنهم من عهد الله ) ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) ( وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمنا ) .
وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه .(57/16)
يل لو قال : كنا نعرف المنافقين ببغض علي لكان متوجهاً كما أنهم أيضاً يعرفون ببغض الأنصار ، بل وببغض أبي بكر وعمر ، وببغض غير هؤلاء ، فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويواليه ، وأنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويواليه ، كان بغضه شعبة من شعب النفاق ، والدليل يطرد ولا ينعكس. ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقاً المبغضين لأبي بكر ، لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه ، ولا كان فيهم أعظم حباً للنبي صلى الله عليه وسلم منه فبغضه من أعظم آيات النفاق . ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه ، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم .
وإن قال قائل : فالرافضة الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدواً للنبي صلى الله عليه وسلم لما يذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فأبغضوه لذلك.
قيل : إن كان هذا عذراً يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلاً وتأويلاً ، فكذلك المبغضون لعلي الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد ، أو ظالم فاسق ، فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام ، أو لما أحبه الله وأمر به من العدل ، ولا عتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق ، وأراد علواً في الأرض وفساداُ ، وكان كفرعون ونحوه ، فإن هؤلاء وإن كانوا جهالاً فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة ، فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقاً لجهلهم وتأويلهم ، فكذلك بغض هؤلاء لعلي بطريق الأولى والأحرى ، وإن كان بغض علي نفاقاً وإن كان المبغض جاهلاً متأولاً فبغض أبي بكر وعمر أولى أن يكون نفاقاً حينئذ ، وإن كان المبغض جاهلاً متأولاً )
تعليق(57/17)
في هذا الموضع الطريف يبين شيخ الإسلام أن الرافضة يبغضون علياً ؟ لأنهم في الحقيقة قد أحبوا شخصاً لا وجود له إلا في أذهانهم ، ولا يحبوا علياً رضي الله عنه على حقيقته الثابتة عند المؤمنين ، فهم كاليهود مع موسى ، والنصارى مع عيسى عليهما السلام .
ثم بين الشيخ أن حديث علي – رضي الله عنه - : " لا يبغضني إلا منافق " ينطبق على الرافضة ، فهم منافقون لأنهم يبغضون علياً ( الحقيقي ) ، ويحبون علياً ( الوهمي ) .
وهذا الحديث ليس من خصائص علي أيضاً ، فقد شاركه غيره فيه كالأنصار .
ثم ذكر الشيخ أن الرافضة الذين يبغضون أبا بكر لا حجة لهم قائمة أمام الذين يبغضون علياً فما يدعونه في أبي بكر من أسباب البغض يمكن ادعاء أكثر منه في علي ، وكلاهما قد برأه الله من ذلك ، ولكن الروافض قوم لا يفقهون .
فهذا من باب ( الحجج المحرجة ) كما سبق ، ولا دخل له في ( التنقص ) من بعيد أو قريب .
الموضع الثامن : قال شيخ الإسلام :
( فإن جاز لرافضي أن يقدح فيهما يقول : بأي وجه تلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها ، مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر بأمرها ويطيعها ، ولم يكن إخراجها لمظان الفاحشة – كان لناصبي أن يقول : بأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها ، وسقطت من هودجها ، وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها ؟ ومعلوم أن هذا مظنة الإهانة لأهل الرجل وهتكها وسبائها وتسليط الأجانب على قهرها وإذلالها وسبها وامتهانها ، أعظم من إخراجها من منزلها بمنزلة الملكة العظيمة المبجلة التي لا يأتي إليها أحد إلا بإذنها ، ولا يهتك أحد سترها ، ولا ينظر في خدرها .(57/18)
ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الأجانب يحملونها ، بل كان في العسكر من محارمها ، مثل عبدالله بن الزبير ابن أختها ، وخلوة ابن الزبير بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع ، وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز بالكتاب والسنة والإجماع ، وهي لم تسافر إلا مع ذي محرم منها . وأما العسكر الذين قاتلوها ، فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب ، ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها قالت : يد من هذه ؟ أحرقها الله بالنار . فقال : أي أخية في الدنيا قبل الآخرة . فقالت : في الدنيا قبل الآخرة ز فأحرق بالنار بمصر .
ولو قال المشنع : أنتم تقولون : إن آل الحسين سبوا لما قتل الحسين ولم يفعل بهم إلا من جنس ما فعل بعائشة حيث استولى عليها ، وردت إلى بيتها ، وأعطيت نفقتها . وكذلك آل الحسين استولى عليهم ، وردوا إلى أهليهم ، وأعطوا نفقة ، فإن كان هذا سبياً واستحلالاً للحرمة النبوية ، فعائشة قد سبيت واستحلت حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشنعون ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترق فاطمة بنت الحسين ، وأنها قالت : لا هاً لله حتى تكفر بديننا . وهذا إن كان وقع فالذين طلبوا من علي رضي الله عنه أن يسبي من قاتلهم من أهل الجمل وصفين ويغنموا أموالهم ، أعظم جرماً من هؤلاء ، وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها .(57/19)
ثم إن هؤلاء الذين طلبوا ذلك من علي كانوا متدينين به مصرين عليه ، إلى أن خرجوا على علي وقاتلهم على ذلك . وذلك الذي طلب استرقاق فاطمة بنت الحسين واحد مجهول لا شوكة له ولا حجة ، ولا فعل هذا تديناً ، ولما منعه سلطان من ذلك امتنع ، فكان المستحلون لدماء المؤمنين وحرمهم وأموالهم وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسكر علي أعظم منهم في عسكر بني أمية ، وهذا متفق عليه بين الناس ، فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر علي رضي الله عنه هم شر من شرار عسكر معاوية رضي الله عنه . ولهذا أمر النبي صلى الله علية وسلم بقاتلهم وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم ز
والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل ، وأقرب إلى الكفر والنفاق ، لكنهم أعجز منهم وأذل ، وكلا الطائفتين من عسكر علي ، وبهذا وأمثاله ضعف علي وعجز عن مقاومة من كان يإزائه .
والمقصود هذا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب بما هو أعظم منه في حق علي ، فإن أجابوا عن ذلك بأن علياً كان مجتهداً فيما فعل ، وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير .
قيل : نعم ، وطلحة والزبير كان مجتهدين ، وعلي – وإن كان أفضل منهما – لكن لم يبلغ فعلهما بعائشة رضي الله عنها ما بلغ فعل علي ، فعلي أعظم قدراً منهما ، ولكن إن كان فعل طلحة والزبير معها ذنباً ، ففعل علي أعظم ذنباً ، فتقاوم كبر القدر وعظم الذنب .
فإن قالوا : هما أحوجا علياً إلى ذلك ، لأنهما أتيا بها ، فما فعله علي مضاف إليهما لا إلى علي .
قيل : هكذا معاوية لما قيل له : قد قتل عمار ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " تقتلك الفئة الباغية " قال : أو نحن قتلناه ؟ إنما قتله الذين جاءوا به حتى جعلوه تحت سيوفنا . فإن كانت هذه الحجة مردودة ، فحجة من احتج بأن طلحة و والزبير هما فعلا بعائشة ما جرى عليها من إهانة عسكر علي لها ، واستيلائهم عليها – مردودة أيضاً . وإن قبلت هذه الحجة قبلت حجة معاوية رضي الله عنه .(57/20)
والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم ، فإنه إن احتج بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوض بنظيرها ، وإن لم يحتج بنظيرها بطلت هي في نفسها ، لأنه لا بد من التسوية بين المتماثلين ، ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، أن الله لا يهدي القوم الظالمين .
وجماهير أهل السنة متفقون على أن علياً أفضل من طلحة والزبير ، فضلاً عن معاوية وغيره ، ويقولون : إن المسلمين لما افترقوا في خلافته فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه ، كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فهؤلاء هم الخوارج المارقون الذين مرقوا فقتلهم علي وأصحابه ،فعلم أنهم كانوا أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه . لكن أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل ، ويعطون كل ذي حق حقه .
تعليق
في هذا الموضع يقابل شيخ الإسلام بين حجج الرافضة في ذم طلحة والزبير – رضي الله عنهما – وحجج النواصب في ذم علي –رضي الله عنه – ويبين أنه ما من شبهة يقيمها الروافض على ذم طلحة والزبير إلا وللنواصب أشد منها ، وهذا من قبيل ( الحجج المحرجة ) كما سبق . وليس من قبيل التنقص ، وإنما ساق الشيخ ( هذيان ) النواصب لدفع (هذيان ) الروافض .
وتأمل ما خط بالأسود مما يدل على مقدار محبته وتعظيمه لعلي – رضي الله عنه – وإنزاله في منزلته التي أرادها الله له .
ثم تأمل قوله في الأخير : ( أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل ويعطون كل ذي حق حقه ) .
الموضع التاسع : قال شيخ الإسلام :(57/21)
( قالوا ومعاوية أيضاً كان خيراً من كثير ممن استنابه علي ، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة ، فإن علياً استناب زياد بن أبيه ، وقد أشاروا على علي بتولية معاوية . قالوا : يا أمير المؤمنين توليه شهراً واعزله دهراً . ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة ، إما لا ستحقاقه وإما لتأليفه واستعطافه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي ، وولى أبا سفيان ، ومعاوية خير منه ، فولى من هو خير من علي من هو دون معاوية .
فإذا قيل : إن علياً كان مجتهداً في ذلك .
قيل : وعثمان كان مجتهداً فيما فعل . وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية أو إمارة أو مال ، من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض ، حتى ذل المؤمنين وعجزوا عن مقاومة الكفار ، حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم ؟ ولا ريب أنه لو لم يكن قتال ، بل كان معاوية مقيماً على سياسة رعيته ،وعلي مقيماً على سياسة رعيته ، لم يكن في ذلك من الشر أعظم مما حصل بالاقتتال ، فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام ، بل سفكت الدماء ، وقويت العداوة والبغضاء ، وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق ، وهي طائفة علي ، وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما كانت تطلبه ابتداء .
ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته ، يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه ، وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة ، بل كان ألامر مع عدم القتال خيراً وأصلح منه بعد التقال ، وكان علي وعسكره أكثر وأقوى ، ومعاوية وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته ومصالحته ، فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفوراً لصاحبه ، فاجتهاد عثمان أن يكون مغفوراً أولى وأحرى .(57/22)
وأما معاوية وأعوانه فيقولون : إنما قاتلنا علياً قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا ، فإنه بدأنا بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه . فإذا قيل لهم : هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين . قالوا ما نعلم أنه إمام تجب طاعته ، لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص ، ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم نص بإمامته ووجوب طاعته . ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر ، فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق ، فإن هذا قد كتم وأخفى في زمن أبي بكر وأصحابه مثل ذلك لو كان حقا ، فكيف إذا كان باطلاً ؟ )
تعليق
في هذا الموضع يمارس الشيخ رحمه الله موهبته في ضرب شبهات الروافض بشبهات النواصب لتسقط الشبهتان ويبقي منهج أهل السنة المعتدل .
فهو يحرج الرافضة بأن جميع ما يقولونه في عثمان أو معاوية هو لازم لعلي ، لا مناص من ذلك .
وكما سبق : ليس هذا من قبيل التنقص ، ولكن من قبيل إسقاط شبهات الطرفين ، ليبقى أهل الوسط وهم أهل السنة ظاهرين .
الموضع العاشر : قال شيخ الإسلام :
( ثم يقال لهؤلاء الرافضة : لو قالت لكم النواصب : علي قد استحل دماء المسلمين ، وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله لعى رياسته . وقد النبي صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " وقال : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " فيكون علي كافراً لذلك – لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم ، لأن الأحاديث التي احتجوا بها صحيحة .(57/23)
وأيضاً فيقولون : قتل النفوس فساد ، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريداً للعلو في الأرض والفساد . وهذا حال فرعون . والله تعالى يقول : ( تلك الدار الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعقبة للمتقين ) ، فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة . وليس هذا كقتال الصديق للمرتدين ولمانعي الزكاة ، فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله ، لا على طاعته . فإن الزكاة فرض عليهم ،
فقاتلهم على الإقرار بها ، وعلى أدائها ، بخلاف من قاتل ليطاع هو).
( وفي الجملة فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به ، فلهذا كانوا مرتدين ، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين كمعاوية وأهل الشام ، فإن هؤلاء كانوا مقرين بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم : يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وقالوا : نحن نقوم بالواجبات من غير دخول في طاعة علي رضي الله عنه ، لما علينا في ذلك من الضرر ، فأين هؤلاء من هؤلاء ؟ )
تعليق
هذا الموضع – أيضاً – هو من قبيل التضييق على الروافض وأنهم إن طعنوا في أبي بكر – رضي الله عنه – بشبهات لا غية فسيوجد غيرهم من النواصب ممن يطعن في علي – رضي الله عنه – بشبهات أخرى لا غية ، فمهما ألصقوا بأبي بكر تهمة من التهم فسيندرج ذلك على علي أيضاً ولن يستطيعوا أن يدفعوا ذلك عنه إلا بأن يدفعوا شبهاتهم عن أبي بكر ، فهم في حرج وضيق يرتدعون معه عن التعرض لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى تعرض .
الموضع الحادي عشر : قال شيخ الإسلام :(57/24)
( اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل ، وأنتم وغيركم تقولون : إن علياً تخلف عنها مدة . فيلزم على قولكم أن يكون علي مستكبراً عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماماً ، فيلزم حينئذ كفر علي بمقتضى حجتكم ، أو بطلانها في نفسها . وكفر علي باطل ، فلزم بطلانها )
تعليق
الروافض يزعمون أن معاوية – رضي الله عنه – قد استكبر عن طاعة علي رضي الله عنه ، فلهذا هو شر من إبليس الذي استكبر على آدم فيجيبهم شيخ الإسلام دافعاً هذه الفرية عن معاوية بأن هذا يلزم علياً كما يلزم معاوية ، فإن علياً قد تأخر عن مبايعة أبي بكر بالخلافة عدة أشهر فيلزم من هذا على قولكم أنه قد استكبر عن طاعته فيلزم من ذلك اللوازم الشنيعة التي ألزمتم بها معاوية .
فإذا لم تلتزموا ذلك ، فالحجة من أصلها باطلة ، فإذا بطلت في حق علي فهي باطلة في حق معاوية سواء بسواء ؟
فهذا الموضع يبين موهبة شيخ الإسلام في إفحام الخصوم وإحراجهم بالحجة المنعكسة التي تجعلهم يقولون : اللهم سلم ، سلم ؟
الموضع الثاني عشر : قال شيخ الإسلام :
( إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعلي ، والأحاديث التي ذكره هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور ، وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم ، هو من أبين الكذب على علماء الجمهور ، فإن هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة علي ولا على فضيلته على أبي بكر وعمر ، بل وليست من خصائصه ، بل هي فضائل شاركه فيها غيره ، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر ، فإن كثير منها خصائص لهما ، لا سيما فضائل أبي بكر ، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره .
وأما ما ذكره من المطاعن ، فلا يمكن أن يوجه على الخلفاء الثلاثه من مطعن إلا وجه على علي ما هو مثله أو أعظم منه .(57/25)
فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل ، ونحن نبين ذلك تفصيلاً .
وأما قوله : " إنهم جعلوه إماماً لهم حيث نزهه المخالف والموافق ، وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته "
فيقال : هذا كذب بين ، فإن علياً رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون ، بل القادحون في علي طوائف متعددة ، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان ، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه ، فإن الخوارج متفقون على كفره ، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته ، بل هم – والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين – خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الإثنى عشرية ، الذين اعتقدوه إماماً معصوماً .
وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة ، والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما ، والمروانية الذين ينسبون علياً إلى الظلم ، ويقولون : إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم ن فكيف يقال مع هذا : إن علياً نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ؟
ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل ، وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفة ، وهم أعلم من الرافضة وأدين ، والرافضة عاجزون معهم علماً ويداً ، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم .(57/26)
والذين قدحوا في علي رضي الله عنه وجعلوه كافراً وظالماً ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام ، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة ، كالغالية الذين يدعون إلهيته من النصيرية وغيرهم ، وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية ،وكالغالية الذين يدعون نبوته ، فإن هؤلاء مرتدون كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام ، فمن اعتقد في بشر الإلهية ، أو اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ، أو أنه لم يكن نبياً بل كان علي هو النبي دونه وإنما غلط جبريل ، فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة .
بخلاف من يكفر علياً ويلعنه من الخوارج ، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم ، فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه : يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ،ويصومون رمضان ، ويحجون البيت العتيق ، ويحرمون ما حرم الله ورسوله ، وليس فيهم كفر ظاهر ، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم ، وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام ، فكيف يدعى مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة ؟
بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون علياً ، وجد هؤلاء خيراً من أولئك من وجوه متعددة ، فالمنزهون لعثمان القادحون في علي أعظم وأدين وأفضل من المنزهين لعلي القادحين في عثمان كالزيدية مثلاً .
فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذموه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان ، ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته ، لم يكن في المتولين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية ، فإن هؤلاء طوائف كثيرة )
تعليق(57/27)
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على مقولة الرافضي بأن علياً قد نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الراشدين الثلاثة ، فبين رحمه الله أن علياً قد خالفه أقوام وظعنوا فيه ولم يتفقوا عليه كما يزعم الرافضي .
ثم عقد مقارنة بين الذين غلوا فيه وبين الذين طعنوا فيه ووضح أن الأخرين أفضل من ألأولين فمتابعتهم وتصديق شبهاتهم أولى من متابعة وتصديق الروافض ، ولكن الله نزه أهل السنة وحماها من سلوك مسلك الطائفتين ، فحفظت لعلي حقه وعرفت فضله ، فلم تغل فيه أو تجف عنه .
وتأمل – أخي القارئ – ما خط بالأسود في نهاية الموضع تجد أن شيخ الإسلام – بذكائه الواسع – قد أخبرنا بأن أهل السنة هم المدافعون حقاً عن علي رضي الله عنه أمام أعدائه ، بخلاف الروافض الذين سيعجزون عن مقاومة النواصب الشانئين له ، لأنه ما من مطعن للروافض على الخلفاء الثلاثة إلا واللنواصب أشد مه وأعظم في علي . أما أهل السنة فإنهم يترضون عن الجميع ويتعاملون كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
الموضع الثالث عشر قال شيخ الإسلام :
عن علي رضي الله عنه :( وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر : هذا بإبراهيم وعيسى ، وهذا بنوح وموسى ، فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون ، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد ، فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي ، مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابة .
وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه ، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ، ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص .(57/28)
وكذلك قوله : " لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال : فتطاولنا ، فقال : ادعوا لي علياً ، فأتاه وبه رمد ، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ، ففتح الله على يديه" وهذا الحديث أصح ما روي لعلي من الفضائل ، أخرجاه في الصحيحين من غير وجه . وليس هذا الوصف مختصاً بالأئمة ولا بعلي ، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي ، وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله ، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ولا يحبونه ، بل قد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .
لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم ، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك ، لكن هذا باطل ، فإن الله ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافراً )
( وكذلك حديث المباهلة شركه فيه فاطمة وحسن وحسين ، كما شركوه في حديث الكساء ، فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة ، بل يشركه فيه المرأة والصبي ، فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة ، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة ستع أو عشر ، والنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يكمل الحسين سبع سنين ، والحسن أكبر منه بنحو سنة ، وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من الأقربين : والنساء والأنفس ،فيدعو الواحد من أولئك : أبناؤه ونساءه ، وأخص الرجال به نسباً .
وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً ، وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده ، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه ، لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخص الناس به ، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه ، ولهذا خصهم في حديث الكساء .(57/29)
والدعاء لهم والمباهلة مبناها على العدل ، فأولئك أيضاً يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبهم ، وهم يخافون عليهم مالا يخافون على الأجانب ، ولهذا امتنعوا عن المباهلة ، لعلمهم بأنه على الحق ، وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بهلة الله وعلى الأقربين إليهم ، بل قد يحذر الإنسان على ولده مالا يحذره على نفسه .
فإن قيل : فإذا كان ما صح م فضائل علي رضي الله عنه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ، وقوله : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " ، وقوله : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " ليس من خصائصه ، بل له فيه شركاء ، فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك ، كما روى عن سعد وعن عمر ؟
فالجواب : أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطناً وظاهراً ، وإثباتاً لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له . وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه ، كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم " وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله ، ولهذا قتله واحد منهم ، وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي ، مع كونه كان من أعبد الناس .(57/30)
وأهل العلم والسنة يحتاجون إلى إثبات إيمان علي وعدله ودينه للرد على هؤلاء ، أعظم مما يحتاجون إلى مناظرة الشيعة ، فإن هؤلاء أصدق وأدين ، والشبه التي يحتجون بها أعظم من الشبه التي تحتج بها الشيعة ، كما أن المسلمين يحتاجون في أمر المسيح صلوات الله وسلامه عليه إلى مناظرة اليهود والنصارى ، فيحتاجون أن ينفوا عنه ما يرميه به اليهود من أنه كاذب ولد زنا ، وإلى ما تدعيه النصارى من الإلهية ، وجدل اليهود أشد من جدل النصارى ، ولهم شبه لا يقدر النصارى أن يجيبوهم عنها ، وإنما يجيبهم عنها المسلمون ، كما أن للنواصب شبهاً لا يمكن الشيعة أن يجيبوا عنها ، وإنما يجيبهم عنها أهل السنة .
فهذه الأحاديث الصحيحة المثبتة لإيمان علي باطناً وظاهراً رد على هؤلاء ، وإن لم يكن ذلك من خصائصه ، كالنصوص الدالة على إيمان أهل بدر وبيعة الرضوان باطناً وظاهراً ، فإن فيها ردا على من ينازع في ذلك من الروافض والخوارج ، وإن لم يكن ما يستدل به من خصائص واحد منهم ، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة ، أو دعا له بدعاء ، أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير ، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه ).
تعليق
في هذا الموضع يبين شيخ الإسلام قضية سبق توضيحها في المقدمة وهي أن الفضائل الثابتة لعلي رضي الله عنه هي فضائل مشتركة بينه وبين غيره ولم ينفرد بشئ منها ، وفي هذا رد على الروافض الذين سيستغلون مثل هذه الفضائل في ادعاء عصمته أو أحقيته بالخلافة أو نحو ذلك من الغلو .
ثم وضح – رحمه الله – أن هذه الفضائل الثابتة له فيها أعظم الرد على النواصب الذين يبغضونه ، فهي سلاح بيد أهل السنة يقطعون به شبهاتهم .
ففي فضائله الثابتة رد على الطائفتين الخائبتين : رد على الروافض لأنها مشتركة ورد على النواصب لأنها ثابتة .(57/31)
وتقرير الحقائق ليس فيه أي تنقص لعلي رضي الله عنه .
الموضع الرابع عشر : قال شيخ الإسلام :
( استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر ، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له . فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه ، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك . وكانوا إذا أمرهم أطاعوه . وعلي رضي الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ، ثم رأى أن يبعن ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني : رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة .
وكان يقول : اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الخلاف ، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي .
وكانت رعيته كثيرة المعصية له ، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه ، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم . كما أشار عليه الحسن بأمور ، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة ، وأن لا يخرج إلى الكوفة ، وأن لا يقاتل بصفين ، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية ، وغير ذلك من الأمور .
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنظم لعلي رضي الله عنهم . فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية ، وكانوا هم ورعيتهم أفضل . وإن كان لكمال المتولي وحده ، فهو أبلغ في فضلهم . وإن كان ذلك لفرط نقص رعيه علي ، كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان .
ورعيته هم الذين قاتلوا معه ، وأقروا بإمامته . ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم . فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي ، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.
وأيضاً فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنظم لعلي ،(57/32)
فيلزم أن تكون رعية معاوية خيراً من رعية علي ، ورعية معاوية شيعة عثمان ، وفيهم النواصب المبغضون لعلي ، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي ، فيلزم على كل تقدير : إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي : ، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض .
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة ، فإنهم يدعون أن علياً أكمل من الثلاثة ، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة ، فضلاً عن أصحاب معاوية .
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي . فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة – على رأيهم – أعظم اضطراباً وأقل انتظاماً من الإمام الناقص والرعية الناقصة ؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ؟
ولم يكن في أصحاب على من العلم والدين والشجاعة والكرم ، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة . فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين . ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي ن فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع هو دونه أولى وأحرى . فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم )
تعليق
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على طعن الرافضي في أبي بكر بأنه قد احتاج إلى رعيته في قوله : " إن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني " قال الرافضي : ( وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟ )
فأجابه الشيخ بما سبق ، وهو أن استعانة علي برعيته أكثر من استعانة أبي بكر ، فإذا لم تجز إمامة أبي بكر بزعمكم ، لم تجز إمامة علي .
ثم بين عكس هذا الذي يزعمه الرافضي من خلال الواقع التاريخي ، فقرر أن خلافة أبي بكر بل عمر وعثمان ومعاوية كانت السياسة فيها منتظمة أكثر مما انتظمت في عهد علي ، فإذا لم تجز إمامتهم وهم كذلك ، فإمامة علي غير جائزة على قولكم .(57/33)
وتقرير الحقائق الثابتة للرد على الغلاة ليس فيه أي تنقص من علي – رضي الله عنه – كما سبق .
الموضع الخامس عشر :
( قال الرافضي : " وأحرق الفجاءة السلمي بالنار ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار " )
فقال شيخ الإسلام : ( الجواب : أن الإحراق بالنار عن علي أشهر وأظهر منه عن أبي بكر وأنه قد ثبت في الصحيح أن علياً أتى بقوم زنادقة من غلاة الشيعة ، فحرقهم بالنار ، فبلغ ذلك أبن عباس ن فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار ، لنهي النبي صلى لله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه : .
فبلغ ذلك علياً ، فقال : ويح ابن أم الفضل ما أسقطه على الهنات .
فعلي حرق جماعة بالنار . فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً ، ففعل علي أنكر منه ، وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة ، فأبوبكر أولى أن لا ينكر عليه )
تعليق
في هذا الموضع – وقد مر مثله كثير – يقلب شيخ الإسلام شبهة الروافض على رؤؤسهم ليجعلهم يطلبون النجاة من هذا المأزق الذي ورطوا به أنفسهم بجهلهم .
ولم يكذب شيخ الإسلام على علي في هذا الموضع وإنما أبرز للروافض هذه الحادثة الثابتة ليفحمهم بها ، وهي اجتهاد من إمام المسلمين في زمانه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لا يذم بفعله .
الموضع السادس عشر :
قال الرافضي طاعناً في أبي بكر رضي الله عنه :( وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حيث قتل مالك بن نويرة ، وكان مسلماً ، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها ، وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل )(57/34)
قال شيخ الإسلام : ( والجواب : أن يقال : أولاً إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة ، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي ، فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة ، وهو خليفة المسلمين ، وقد قتل مظلوماً شيهداً بلا تأويل مسوغ لقتله ، وعلي لم يقتل قتلته ، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي ، فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان ، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى ، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان .
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة ، وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي ، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم .
وكذلك إنكارهم على عثمان كون لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ، هو من هذا الباب .
وإذا قال القائل : علي كان معذوراً في ترك قتل قتلة عثمان ، لأن شروط الاستيفاء لم توجد : إما لعدم العلم بأعيان القتلة ، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ، ونحو ذلك .
قيل : فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة ، وقتل قاتل الهرمزان ، لوجود الشبهة في ذلك ، والحدود تدرأ بالشبهات .
وإذا قالوا : عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد ،وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر .
قيل : وطلحة والزبيروغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان ، مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود ، أقام عليهم حجة سلموا لها : إما لظهور الحق معه ، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.
وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود ، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم ، وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ، ففي ذلك أولى .
وإن قالوا : عثمان كان مباح الدم .(57/35)
قيل لهم : فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان ، بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم ، ولم يثبت ذلك عندنا . وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم . وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى .
ومن قال : أن عثمان كان مباح الدم ، لم يمكنه أن يجعل علياً معصوم الدم ، ولا الحسين ، فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين . وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين . وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين ، فإن عثمان لم يقتل مسلماً ، ولا قاتل أحداً على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلاً ، فإن وجب أن يقال : من قتل خلقاً من المسلمين على ولايته إنه معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله ، فلان يقال : عثمان معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى .
ثم يقال : غاية ما يقال في قصة مالك ابن نويرة : إنه كان معصوم الدم وإن خالداً قتله بتأويل ، وهذا لا يبيح قتل خالد ، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله . وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ " فأنكر عليه قتله ، ولم يوجب قوداً ولا دية ولا كفارة.(57/36)
وقدر روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية : قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً ) نزلت في شأن مرداس ، رجل من غطفان ، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى قومه ، عليهم غالب الليثي ، ففر أصحابه ولم يفر . قال : إني مؤمن ، فصحبته الخيل ، فسلم عليهم ، فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك .
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولاً ، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ".
ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولاً .
فإذا كان النبي لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل ، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك بن نويرة بطريق الأولى والأحرى .
وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة ، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله ، فيكف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله ؟ لكن من كان متبعاً لهواه أعماه عن أبتاع الهدى.
وقوله : إن عمر أشار بقتله .
فيقال : غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد ، كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً ، وكان رأي عمر فيها قتله ،وليس عمر بأعلم من أبي بكر : لا عند السنة ولا عند الشيعة ، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح ، فيكف يجوز أن يجعل مثل هذا عيباً لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علماً وديناً ؟
وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد .(57/37)
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله ، فهذا مما لم يعرف ثوته . ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم . والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة : هل تجب للكافر ؟ على قولين . وكذلك تنازعوا : هل يجب على الذمية عدة وفاة ؟ على قولين مشهورين للمسلمين ، بخلاف عدة الطلاق ، فإن تلك سببها الوطء ، فلا بد من براءة الرحم . وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد ، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا ؟ فيه نزاع . وكذلك إن كان دخل بها ،وقد حاضت بعد الدخول حيضة .
هذا إذا كان الكافر أصلياً . وأما المرتد إذا قتل ، أو مات على ردته ، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة ، لأن النكاح بطل بردة الزوج ، وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد ، وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ، ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة ، بل عدة فرقة بائنة ، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها ، كما ليس عليها عدة من الطلاق .
ومعلوم أن خالداُ قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتداً ، فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء ، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم ، وفي الآخر بثلاث حيض ، وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم . وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت . ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء ، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم .
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد ، والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم ، وهذا مما حرمه الله ورسوله )
تعليق(57/38)
في هذا الموضع يجيب شيخ الإسلام على شبهة أخرى من شبهات الروافض في الطعن على أبي بكر بأنه لم يقتل خالداً لقتله مالك بن نويرة ، فبين الشيخ أن هذا قد وقع مثله أو أعظم منه لعلي رضي الله عنه حيث لم يقتل قتلة عثمان ، وهو – أي عثمان – ( خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة ) فإذا لمتم أبا بكر فلوموا علياً . الذي تتهمه النواصب بمثل اتهامكم لأبي بكر ، وأما عند أهل السنة فلا لوم على الاثنين لأن لكل منهما عذره المقبول . وتقرير الثابت ليس فيه أي تنقص لعلي – رضي الله عنه - .
الموضع السابع عشر : قال شيخ الإسلام :
( وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه ، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، لكن نصف رعيته يطعنون في عدله ، فالخوارج يكفرونه ، وغير الخوارج من أهل بيته وغير أهل بيته يقولون : إنه لم ينصفهم ، وشيعة عثمان يقولون : إنه ممن ظلم عثمان . وبالجملة لم يظهر لعلي من العدل ، مع كثرة الرعية وانتشارها ، وما ظهر لعمر ، ولا قريب منه .
وعمر لم يول أحداً من أقاربه ، وعلي ولى أقاربه ، كما ولى عثمان أقاربه . وعمر مع هذا يخاف أن يكون ظلمهم ، فهو أعدل وأخوف من الله من علي . فهذا مما يدل على أنه أفضل من علي .
وعمر ، مع رضا رعيته عنه ، يخاف أن يكون ظلمهم ، وعلي يشكون من رعيته وتظلمهم ، ويدعو عليهم ويقول : إني أبغضهم ويبغضوني وسئمتهم وسئموني . اللم فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرا مني .
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ )
تعليق(57/39)
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على طعن الرافضة في عمر وأحقيته بالخلافة ، وقد قال قبله عن الرافضة بأنها ( لما غلت في علي جعلت ذنب عمر كونه تولى ، وجعلوا يطلبون له ما يتبين به ظلمه ، فلم يمكنهم ذلك ) لأنه ما من شبهة لهم ضده إلا وللنواصب مثلها ضد علي ، ففي هذا إلزام لهم بأن يحفظوا ألسنتهم ولا يطلقوها في عرض عمر ، لأنهم سيقابلون بالمثل من النواصب .
وأما أهل السنة فيردون ( غلو ) الروافض ( بجفاء ) النواصب .
وليس في هذا أي تنقص لعلي – رضي الله عنه - .
الموضع الثامن عشر : قال شيخ الإسلام :
راداً قول الرافضي بأن فاطمة قد دعت على عمر لأنه ظلمها ، فسلط الله عليه أبا لؤلؤة المجوسي حتى قتله .
( والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر ، كان ذلك دعاء له لا عليه ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك ، كقوله : " يغفر الله لفلان " فيقولون : لو أمتعتنا به وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد .
ولو قال قائل : إن علياً ظلم أهل صفين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم ، لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا . وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فعل به )
تعليق
هذا رد مفحم يشابه الردود السابقة ، وهو مقابلة شبهات أهل الرفض بضدها ، فما قالوه في غير علي ، قد يقوله غيرهم في علي ، فالأولى بهم أن يصمتوا عن تلفيق الأكاذيب . وليس في هذا أي تنقص – كما سبق – بل هو من قبيل الحجج ( المحرجة ).
الموضع التاسع عشر : قال شيخ الإسلام :
متابعاً ردوده على طعن الرافضي بعمر – رضي الله عنه - :( وأما قول الرافضي : " وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة " .(57/40)
فالجواب : أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة ، وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود . ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد . وقد تقدم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم فإذا كان القادح في علي مبطلاً ، فالقادح في عمر أولى بالبطلان )
تعليق
ونحن نعلم ، كما أن الشيخ يعلم ، أن هذا القدح باطل في عمر وفي علي رضي الله عنهما ، ولكنه ذكر هذا للتضييق على الرافضة ،ومقابلة شبهتهم بما يكسرها من شبه غيرهم .
الموضع العشرون : قال شيخ الإسلام:
متابعاً ردوده على الرافضي في اتهامه عمر بأنه يجهل السنة :( وعلي رضي الله عن قد خفي عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف ذلك ،ومنها ما مات ولم يعرفه )
تعليق
قد علمنا أن الروافض إذا أبغضت أحداً تقولت عليه الأقاويل ، واتهمته بما ليس تهمة عند العقلاء ، ومنه هذا الموضع ، وهو أن عمر قد تخفى عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس في هذا أي مطعن أو نقص فيه رضي الله عنه ، لأن أحداً لا يدعي بأنه قد أحاط بجميع مسائل الدين جليلها ودقيقها . فبين لهم الشيخ أن ما تقولونه في عمر هو حاصل لعلي من خلال الوقائع الثابتة ، فإن طعنتم في عمر فاطعنوا في علي ، وهذا من قبيل إفحام الخصم كما سبق .
الموضع الحادي والعشرون : قال شيخ الإسلام:
متابعاً رده على طعون الرافضي في عمر رضي الله عنه بأنه قد قال بالرأي ؟(57/41)
( فإن كان القول بالرأي ذنباً فذنب غير عمر – كعلي وغيره – أعظم ، فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي ، هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه ، وإن كان منه ما هو صواب ومنه ما هو خطأ ، فعمر رضي الله عنه أسعد بالصواب من غيره ، فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره ، والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه ، وإن كان الرأي كله صواب ، فالصواب الذي مصلحته أعظم هو خير وأفضل من الصواب الذي مصلحته دون ذلك ، وآراء عمر رضي الله عنه كانت مصالحها أعظم للمسلمين )
تعليق
كما سبق معنا كثيراً ، فهذا الموضع من قبيل مقابلة الشبهة بشبهة تدحضها ثم تتساقط الشبهتان سوياً ويبقى الرأي الصحيح .
وقد علمنا في المقدمة أن هذا من الجوانب التي بذ فيها شيخ الإسلام من سواه من العلماء ، فكما أن الشبهة الساقطة ليس فيها أي تنقص من الفاضل فليس فيها أي تنقص من المفضول .
الموضع الثاني والعشرون : قال شيخ الإسلام:
راداً على الرافضي قوله بأن عثمان قد صدرت منه من الأفعال ما توجب عدم أحقيته بالخلافة ، وأن عمر قد أخطأ في اختياره مع أصحاب الشورى .
( وأين إيثار بعض الناس بولاية أو مال ، من كون الأمة يسفك بعضها دماء بعض وتشتغل بذلك عن مصلحة دينها ودنياها حتى يطمع الكفار في بلاد المسلمين ؟ وأين اجتماع المسلمين وفتح بلاد الأعداء من الفرقة والفتنة بين المسلمين ، وعجزهم عن الأعداء حتى يأخذوا بعض بلادهم أو بعض أوالهم قهراً أو صلحاً)
تعليق
يبين هنا شيخ الإسلام أن ما حصل في عهد عثمان من خير لللأمة واستقرار لأفرادها وتوسع في الفتوح الإسلامية لم يحصل مثله في عهد علي ، وهذه حقيقة لا ينازع فيها من له أدنى علم بالتاريخ ، ففيها أعظم الرد على مزاعم الرافضة في عثمان والأخطاء التي قد حصلت في عهده فإن أصررتم على ذلك فقولوا مثلها في علي ، لأنه قد حدث في عهده ما هو أعظم من ذلك .(57/42)
وقد مر معنا كثيراً أن هذا من قبيل مقابلة الحجج المتهافتة بعضها ببعض ليخرج من بينها الرأي الصائب سليماً معافى .
الموضع الثالث والعشرون : قال شيخ الإسلام:
راداً طعون الروافض في عثمان – رضي الله عنه - :( نواب علي خانوه وعصوه أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه ، وقد صنف الناس كتباً فيمن ولاه علي فأخذ المال وخانه ، وفيمن تركه وذهب إلى معاوية ، وقد ولى علي رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ، وولى الأشتر النخعي ، وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء .
ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيراً من هؤلاء كلهم .
ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن علياً كان أبلغ فيه من عثمان . فيقولون : إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية . ومعلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه ، كعبد الله وعبيد الله ابن العباس . فولى عبيد الله بن عباس على اليمن ، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس . وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف . وقيل ثمامة بن العباس . وأما البصرة فولى عليها عبدالله بن عباس . وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره )
تعليق
هذا أيضاً من مقابلة الشبهة بالشبهة ، فما قلتم في عثمان فقولوه في علي ، لأنهما قد تشابها في الفعل ، ولكنكم قوم لا تعدلون .
وقد برأ الله علياً رضي الله عنه كما برأ عثمان رضي الله عنه .
الموضع الرابع والعشرون : قال شخ الإسلام :
( والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن علي فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى منه عن عثمان ، فإن عليا قاتل على الولاية ، وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم ، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ، ولا فتح لبلادهم ، ولا كان المسلمون في زيادة خير ، وقد ولى من أقاربه من ولاه ، فولاية الأقارب مشتركة ، ونواب عثمان كانوا أطوع من نواب علي , وأبعد عن الشر .(57/43)
وأما الأموال التي تأول فيها عثمان ، فكما تأول علي في الدماء ، وأمر الدماء أخطر وأعظم )
تعليق
وهذا الموضع كسابقه في رد الطعون عن عثمان ، فإن ما اتهمتموه به قد حصل من علي مثله أو أعظم منه – على حد زعمكم – فقولوا فيه ما قلتم في عثمان إن كنتم صادقين .
وأما أهل السنة فيوالون الاثنين ، ويقيمون لهم العذر فيما صنعوا .
الموضع الخامس والعشرون : قال شيخ الإسلام :
( ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير .
لقيل له : علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه ، فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم.
كذلك عثمان فيمن أقام عليه حداً أو تعزيراً هو أولى بالعلم والعدل منهم . وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك ، فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى )
تعليق
يبين شيخ الإسلام هنا أن أهل السنة كما يدافعون عن علي رضي الله عنه – في حروبه ، فكذلك يدافعون عن عثمان في أفعاله ، وليسوا كالرافضة التي لا ترى عثمان إلا بعين السخط :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
... ... ... ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
الموضع السادس والعشرون : قال شيخ الإسلام :
( وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار ، واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة . وكان ذلك في خلافة علي : وكان ابن عباس نائبه بالبصرة : فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون علياُ فيما سنه ، كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه ، وآخرون من العلماء ، كمالك وغيره ، لا يتبعون علياً فيما سنه ، وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه ، فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله ،فلان يقدح في علي بما سنه – وهذا حاله بطريق الأولى .
وإن قيل : بأن ما فعله علي سائغ لا يقدح فيه ، لأنه باجتهاده ، أو لأنه سنة يتبع فيه ، فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى )
تعليق(57/44)
وهذه كسوابقها من قبيل ( قلب الحجة ) على الخصم وقد مر مثلها كثير .
الموضع السابع والعشرون : قال شيخ الإسلام :
( نحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية ، وكان يواليهم ويعطيهم أموالاً كثيرة . وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء ، الذين ليس لهم غرض ، كما أننا لا ننكر أن علياً ولى أقاربه ، وقاتل وقتل خلقاً كثيراً من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويصومون ويصلون ، لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ، ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم .
وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال . والشر الذين حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال .
فإذا كنا نتولى علياً ونحبه ، ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله ، مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان ، وجرى في خلافة عثمان من الخير ما لم يجر مثله في خلافته ، فلأن نتولى عثمان ونحبه ،ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى ).
تعليق
تأمل رأي شيخ الإسلام الواضح في أفعال علي رضي الله عنه وقتاله لغيره وهي قسمان :
الأول : من قاتلهم بالنص والإجماع كالخوارج فالحق لا شك معه .
الثاني : من قاتلهم بالاجتهاد ، فلا مأخذ عليه .
فهو رحمه الله يبرئ علياً في جميع أفعاله التي قد يستغلها النواصب في الطعن فيه . ثم يقول بأننا إذا برأنا علياً من ذلك كله وهو في أمر الدماء وهي عظيمة عند الله ، أفلا نبرئ عثمان مما أخذتموه عليه ، وهي من أمور المال ، وأمره أسهل من الدماء فهل يعقل الرافضة هذه الحجة القوية ؟
الموضع الثامن والعشرون : قال شيخ الإسلام :(57/45)
( ولم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي صلى الله عليه وسلم دون أمثاله ، ولا عرف موطن احتاج النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلى معونة علي وحده ، ولا باليد ولا باللسان ، ولا كان إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له لأجل علي ، بسبب دعوة علي لهم ، وغير ذلك من الأسباب الخاصة ، كما كان هارون مع موسى ، فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جداً ويهابون موسى ، وكان هارون يتألفهم .
والرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون علياً ، وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه . فكيف يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم احتاج إليه ، كما احتاج موسى إلى هارون ؟
وهذا أبو بكر الصديق أسلم على يديه ستة أن خمسة من العشرة : عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبدالرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة ، ولم يعلم أنه أسلم على يد علي وعثمان وغيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ) .
تعليق
واضح من هذا الموضع أن شيخ الإسلام كما يفضل أبا بكر على علي كذلك يفضله على عثمان ، وهذا هو منهج أهل السنة . فهل يقول عاقل بأنه يتنقص عثمان ؟ أم أنه أنزله في منزله الذي يستحقه دون غلو فيه ، أو تفضيله على من هو أفضل منه ، وما يصدق على عثمان يصدق على علي .
الموضع التاسع والعشرون : قال شيخ الإسلام :
( لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنة والإجماع ، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة ، فيكون هو الإمام.
فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه . يقول الله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصحبه لا تحزن إن الله معنا ) .(57/46)
ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعاً ، بخلاف الوقاية بالنفس ، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه . وهذا واجب على كل مؤمن ، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة .
والأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات . يبين ذلك أنه لم ينقل أحد أن علياً أو ذي في مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أوذي غيره في وقايتهم النبي صلى الله عليه وسلم : تارة بالضرب ،وتارة بالجرح ، وتارة بالقتل ، فمن فداه وأوذي أعظم ممن فداه ولم يؤذ .
وقد قال العلماء : ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة ، شاركه فيها غيره ، بخلاف الصديق ، فإن كثيراً م فضائله – وأكثرها – خصائص له ، لا يشركه فيها غيره . وهذا مبسوط في موضعه )
تعليق
تزعم الرافضة أن علياً يستحق الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه ثبت له من الفضائل ما لم يشركه فيها أحد غيره ، ومنها أنه بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ، فبين لهم شيخ الإسلام أن وقاية النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة له ولغيره ، بخلاف فضائل أبي بكر التي اختص بها ، ومنها مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته . فعلى قولكم يكون هو الإمام .
الموضع الثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد أبغضهما وسبهما الرافضة والنصيرية والغالية والإسماعيلية . ولكن معلوم أن الذين أحبوا ذينك أفضل وأكثر ، وأن الذين أبغضوهما أبعد عن الإسلام وأقل ، بخلاف علي ، فإن الذين أبغضوه وقاتلوه هم خير من الذين أبغضوا أبا بكر وعمر ، بل شيعة عثمان الذين يحبونه ويبغضون علياً ، وإن كانوا مبتدعين ظالمين ، فشيعة علي الذين يحبونه ويبغضون عثمان أنقص منهم علماً وديناً ، وأكثر جهلاً وظلماً .
فعلم أن المودة جعلت للثلاثة أعظم .
وإذا قيل : علي قد ادعيت فيه الإلهية والنبوة .(57/47)
قيل : قد كفرته الخوارج كلها ، وأبغضته المروانية ، وهؤلاء خير من الرافضة الذين يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فضلاً عن الغالية ) .
تعليق
يرد شيخ الإسلام هنا على زعم الرافضة بأن آية : ( إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت سيجعل لهم الرحمن ودا ) نزلت في علي رضي الله عنه ، وأن ألله قد جعل له في قلوب المؤمنين مودة فبين شيخ الإسلام بأن هذا من أكاذيب الرافضة وأن المودة التي كانت للخلفاء الثلاثة أكثر من المودة التي كانت له في قلوب المؤمنين ، حيث خالفه ونازعه أناس مؤمنون ، بخلاف غيره فإن الذين أبغضوهم كانوا أبعد عن الإسلام من الأولين وتقرير الحقائق ليس فيه أي تنقص لعلي ، لأن الهدف دفع فرية الرافضة على غيره من أجلاء الصحابة .
الموضع الحادي والثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( إن علياً لم يكن أعظم معاداة للكفار والمنافقين من عمر ، بل ولا نعرف أنهم كانوا يتأذون منه كما يتأذون من عمر ، بل ولا نعرف أنهم كانوا يتأذون منه إلا وكان بغضهم لعمر أشد ) .
تعليق
قد سبق مثل هذا الكلام في الموضع الثامن ، وهو من قبيل رد اتهامات الروافض لعمر – رضي الله عنه - .
الموضع الثاني والثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( ولا يشك من عرف أحوال الصحابة أن عمر كان أشد عداوة للكفار والمنافقين من علي ، وأن تأثيره في نصر الإسلام وإعزازه وإذلال الكفار والمنافقين أعظم من تأثير علي ، وأن الكفار والمنافقين أعداء الرسول يبغضونه أعظم مما يبغضون علياً .
ولهذا كان الذي قتل عمر كافراً يبغض دين الإسلام ، ويبغض الرسول وأمته ، فقتله بغضاً للرسول ودينه وأمته . والذي قتل علياً كان يصلي ويصوم ويقرأ القرآن ، وقتله معتقداً أن الله ورسوله يحب قتل علي ، وفعل ذلك محبة الله ورسوله – في زعمه – وإن كان في ذلك ضالاً مبتدعاً .(57/48)
والمقصود أن النفاق في بغض عمر أظهر منه في بغض علي . ولهذا لما كان الرافضة من أعظم الطوائف نفاقاً كانوا يسمون عمر فرعون الأمة . وكانوا يوالون أبا لؤلؤة – قاتله الله – الذي هو من أكفر الخلق وأعظمهم عداوة لله ورسوله )
تعليق
هذا الموضع مثل الذين قبله .
الموضع الثالث والثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( من المعلوم بالتواتر أن جهاد أبي بكر بماله أعظم من جهاد علي ، فإن أبا بكر كان موسراً ، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " ما نفعني مال كمال أبي بكر " وعلي كان فقيراً ، وأبو بكر أعظم جهاداً بنفسه ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ).
تعليق
قد عرفنا طريقة شيخ الإسلام في مواجهة اتهام الروافض للخلفاء الثلاثة ، وهي أنه يحرجهم بأن ما حصل منهم من خير كان أكثر مما حصل من علي ، وهذا لا خلاف فيه عند أهل السنة ، ويشهد له الواقع التاريخي ، وإبراز هذا الشيء من الشيخ هو لهدف إسقاط شبهة الرافضة بتفضيل علي عليهم .
ومن المعلوم للجميع أن أبا بكر كان أكثر إنفاقاً على الدعوة الإسلامية أكثر من علي ، لأن أبا بكر كان موسراُ ، وأما علي فكان فقيراً ، وفي هذا عذر له عند أهل العقول الصحيحة التي لم تختلق له الأكاذيب .
الموضع الرابع والثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( وعمر قد وافق ربه في عدة أمور ، يقول شيئاً وينزل القرآن بموافقته . قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : ( وأتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، وقال إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن بالحجاب ، فنزلت آية الحجاب . وقال : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات ، فنزلت كذلك . وأمثال ذلك . وهذا كله ثابت في الصحيح . وهذا أعظم من تصويب علي في مسألة واحدة .(57/49)
وأما التفضيل بالإيمان والهجرة والجهاد ، فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ، فليس ها هنا فضيلة اختص بها علي ، حتى يقال : أن هذا لم يثبت لغيره ) .
تعليق
قد مر معنا أن شيخ الإسلام يركز على تقرير حقيقة مهمة تنقض أصول الروافض ، وهي أن جميع الفضائل الثابتة لعلي هي مشتركة بينه وبين غيره ، فلهذا لا يحق للرافضة أن تجعل من هذه الفضائل المشتركة وسيلة إلى بيان أحقيته بالخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنهم إن قالوا بهذا ، فسيأتي غيرهم ممن ينازعهم ويدعي لغيره هذا الحق ، ممن شاركوه في الفضائل .
وهذا الموضع هو مثال للحقيقة السابقة .
الموضع الخامس والثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( وبالجملة فباب الإنفاق في سبيل الله وغيره ، لكثير من المهاجرين والأنصار فيه من الفضيلة ما ليس لعلي ، فإنه لم يكن له مال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )
تعليق
قد سبق مثل هذا .
الموضع السادس والثلاثون : قال شيخ الإسلام :
( إنه لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن ، إلا ولغيره من الصحابة مثله ، ولعضهم آثار أعظم من آثاره . وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل ، وأما من يأخذ بنقل الكذابين وأحاديث الطرقية ، فباب الكذب مفتوح ، وهذا الكذب يتعلق بالكذب على الله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جآءه )
ومجموع المغازي التي كان فيها القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع مغاز ، والمغازي كلها بض وعشرون غزاة ، وأما السرايا فقد قيل : إنها تبلغ سبعين .(57/50)
ومجموع من قتل من الكفار في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم يبلغون ألفاً أو أكثر أو أقل ، ولم يقتل علي منهم عشرهم ولا نصف عشرهم ، وأكثر السرايا لم يكن يخرج فيها . وأما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يشهد شيئاً من الفتوحات ، لا هو ، ولا عثمان ، ولا طلحة ، ولا الزبير إلا أن يخرجوا مع عمر حين خرج إلى الشام . وأما الزبير فقد شهد فتح مصر ، وسعد شهد فتح القادسية ، وأبو عبيدة فتح الشام .
فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه دون سائرهم والحال هذه ؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان ؟
وقد كان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، ويوم أحد نحو سبعمائة ، ويوم الخندق أكثر من ألف أو قريباُ من ذلك ، ويوم بيعة الرضوان ألفاً وأربعمائة ، وهم الذين شهدوا فتح خيبر ، ويوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف ، ويوم حنين كانوا اثني عشر ألفاً : تلك العشرة ، والطلقاء ألفان . وأما تبوك فلا يحصى من شهدها ، بل كانوا أكثر من ثلاثين ألفاً . وأما حجة الوداع فلا يحصى من شهدها معه ، وأيده الله بهم في حياته باليمن وغيرها ، وكل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم ،بل كل من آمن وجاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى )
تعليق
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على ادعاء الروافض بأن علياً هو الذي أيد الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه وغزواته دون غيره من الصحابة ؟
الموضع السابع والثلاثون : قال شيخ الإسلام :(57/51)
( وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله ، ولكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء ، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء ، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء ، فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون ، الذين قضوا بالحق ، وبه كانوا يعدلون .
وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم ، فيجعلهم كفاراً أو فساقاً ظلمة ، ويأتي إلى من لم يجر علي يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم ، فيجعله الله أو شريكاً لله ، أو شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الإمام المعصوم الذين لا يؤمن إلا من جعله معصوماً منصوصاً عليه ، ومن خرج عن هذا فهو كافر ويجعل الكفار المرتدين الذين قاتلهم أولئك كانوا مسلمين ، ويجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان ، ويحجون البيت ، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم كفاراً لأجل قتال هؤلاء .
فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام ، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان )
تعليق
هذا الموضع سبق نقله عند تقدير موقف شيخ الإسلام من علي رضي الله ومن الروافض ، وهو من أهم المواضع ، لأنه يبين حقيقة موقف الشيخ من علي رضي الله عنه ، وأنه يحبه ويجعله من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، ولكنه لا يغلو فيه كغلو الرافضة فيفضله على الثلاثة .
الموضع الثامن والثلاثون : قال شيخ الإسلام:(57/52)
عن تسلسل الخلافة بين الخلفاء الراشدين : ( ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يختلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة.
وأما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه ، لكن تخلف فإنه كان يريد الإمرة لنفسه ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، ولم يقاتل المسلمين ، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة ، وأخذ يزيد الإسلام فتوحاً ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ،وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم بشيء ، ولا أمر له قرابة .
ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ، ففتح الأمصار ، وقهر الكفار ، وأعز أهل الإيمان ، وأذل أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصر الأمصار للمسلمين ، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولى أحداً من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقر قلبه بسكينة وحلم ، وهدى ورحمة وكرم ن ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطمع فيه بعض الطمع ، وتوسعوا في الدنيا ، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا ،وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل م أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة ، حتى قتل مظلوماً شهيداً.(57/53)
وتولى علي على إثر ، ذلك والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، والمبغضون له ن كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ، فإن علياً لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به ، كما ثبت عنه – وهو الصادق – أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفاً ، وجانب من حاربه إلاقوة ، والأمة إلا افتراقاً ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف .(57/54)
وضعفت خلافة النبوة ضعفاً أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكاً برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور : " تكون نبوة ورحمة ، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم تكون ملك ورحمة ن ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيراً من معاوية ، فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلي آخر الخلفاء الراشدين ، الذين هم ولايتهم خلافة نبوية ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه أفضل أولياء الله المتقين ، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، وأنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ، وأنهما – ومن أعانهما – ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة ، مع ما قد عرف من سيرتهما – كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا لهو أولى بمن قاتل عليها حتى غلب ، وسفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ، لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضاً في كرب وشدة .
وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى .
وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل ، مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل على الولاية – ولم يحصل له مقصوده – أولى وأحرى .
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامي مسجد ، وشيخي مكان ، أو مدرسي مدرسة – كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .(57/55)
فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصداً للحق والدين ، وغير مريد علوا في الأرض ولا فساداً ، فظن ذلك بأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – أولى وأحرى .
وإن ظن ظان بأبي بكر أنه كان يريد العلو في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلي أجدر وأولى .
أما أن يقال : أن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فساداً ، مع ظهور السيرتين – فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر أفضل .
ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي أحالوا على ما لم يعرف ، وقالوا: ثم نص على خلافته كتم ، وثم عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها منع حقه.
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة ، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئاً ؟
فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلي ، فضلاً عن علي وحده ، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة )
تعليق
في هذا الموضع الطويل يعيد شيخ الإسلام ما سبق أن قرره كثيراً ، وهو أن الرافضة إذا طعنت في الخلفاء الثلاثة ، فسيطعن الخوارج والنواصب في علي بمثل طعنهم ، فالأولى بالطائفتين أن تلزما منهج أهل السنة والجماعة الذي يحب الخلفاء الأربعة جميعاً ، ويحفظ جهادهم ، ويحمل ما حصل من بعضهم من اجتهادات على المحمل الحسن ، لأنهم قوم قد زكاهم الله وأثنى عليهم .
الموضع التاسع والثلاثون : قال شيخ الإسلام :(57/56)
( وبالجملة فلا بد من كمال حال أبي بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علي ( فلا بد ) من إضافة ذلك : وإما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علي وأتباعه ، فإنه كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .
وهذا بين لمن تدبره ، فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا علياً وقاتلوا معه ، فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفي منهم أو قتل في حياته قليل منهم .
والذين بايعوا علياً كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريره ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .(57/57)
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا علياً وقاتلوا معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن علياً كان موجوداً على عهد الثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقوله الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله به إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهو عنه ، وكان الذين بايعوا علياً وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقاً أن يكون أتباع علي أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادي والحضار ، فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه ، وانتصاره ، وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم – ما لم يجر بعدهم مثله .
وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقصير ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شيء من الفتن ، فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ، ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال ، وأهل الكفر في إدبار )
تعليق(57/58)
قد تكرر مثل هذا الموضع ، وهو من زيادة التفصيل لمنهج شيخ الإسلام – الذي عرفناه – في مواجهة شبه الرافضة .
الموضع الأربعون : قال شيخ الإسلام :
( وأيضاً فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة ، وأبو بكر لم يتعلم من علي شيئاً . ومما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعلياً ، كعلقمة والأسود وشريح وغيرهم ، كانوا يرجحون قول عمر على قول علي . وأما تابعوا المدينة ومكة والبصرة ، فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر ، وإنما ظهر علم علي وفقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته ، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر ، لا في فقه ولا علم ولا دين ، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر ، إلا من كان ينكر عليه ويذمه ، مع قتلهم وحقارتهم وخمولهم ) .
تعليق
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على شبهة الرافضة في ادعاء أحقية علي بالخلافة لأنه أعلم من غيره ، فيثبت الشيخ عكس ذلك .
الموضع الحادي والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( ومما يبين ذلك أن علياً لم يعرف المستقبلات أنه في ولايته وحروبه في زمن خلافته كان يظن أشياء كثيرة فيتبين له الأمر بخلاف ما ظن ، ولو ظن أنه إذا قاتل معاوية وأصحابه يجري ما جرى لم يقاتلهم ، فإنه كان لو لم يقاتل أعز وانتصر ، وكان أكثر الناس معه ، وأكثر البلاد تحت ولايته ، فلما قاتلهم ضعف أمره ، حتى صار معهم كثير من البلاد التي كانت في طاعته ، مثل مصر واليمن ، وكان الحجاز دولاً.
ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكما لم يحكمهما . ولو علم أن أحدهما يفعل بالآخر ما فعل حتى يعزلاه ، لم يول من يوافق على عزله ، ولا من خذله الحكم الآخر ) .
تعليق
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على غلو الرافضة في ادعائهم أن علياً يعلم المستقبلات ؟ ويوضح لهؤلاء الجهلة خطأ ذلك من خلال ما ثبت تاريخياً عنه – رضي الله عنه - .(57/59)
الموضع الثاني والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( وأما الطريق النظرية فقد ذكر من ذكره من العلماء ، فقالوا : عثمان كان أعلم بالقرآن ، وعلي أعلم بالسنة ، وعثمان أعظم جهاداً بماله ، وعلي أعظم جهاداً بنفسه ، وعثمان أزهد في الرياسة ، وعلي أزهد في المال ، وعثمان أورع عن الدماء ، وعلي أورع عن الأموال ، وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل ما لم يحصل مثله لعلي .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله " .
وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي ، فقالوا : فثبت أن عثمان أفضل ، لأن القرآن أعظم من علم السنة .
وفي صحيح مسلم – وغيره – أنه قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة " .
وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب ، وكان أحياناً يقرؤه في ركعة . وعلي قد اختلف فيه : هل حفظ القرآن كله أم لا ؟
والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس ، كما في قوله تعالى : ( وجهدوا بأمولكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم ) الآية ، وقوله : ( الذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم ) الآية ، وقوله : ( إن الذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا بأمولهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أوليآء بعض ) .
وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم ، فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله ، والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة ، لا يوافق أنه يقتل في الجهاد . ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ، ولا يهون عليه إخراج ماله ، ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم، ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم .(57/60)
وأيضاً فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي ، وله من الهجرة إلى أرض الحبشة ما لم يحصل مثله لعلي ، وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبية ما لم يحصل مثله لعلي ، وإنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان ، وبايع بإحدى يديه عن عثمان، وهذا من أعظم الفضل ، حيث بايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما الزهد والورع في الرياسة والمال ، فلا ريب أن عثمان تولى ثنتي عشرة سنة ، ثم قصد الخارجون عليه قتله ، وحصروه وهو خليفة الأرض ، والمسلمون كلهم رعيته ، وهو مع هذا لم يقتل مسلماً ، ولا دفع عن نفسه بقتال ، بل صبر حتى قتل .
لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء ما لا يعطيه لغيرهم ، وحصل منه نوع توسع في الأموال ، وهو رضي الله عنه ما فعله إلا متأولاً فيه ، له اجتهاد وافقه عليه جماعة من الفقهاء ، منهم من يقول : إن ما أعطاه الله للنبي من الخمس والفيء هو لمن يتولى الأمر بعده ، كما هو قول أبي ثور وغيره ، ومنهم من يقول : ذوو القربى المذكورون في القرآن هم ذوو قربى الإمام . ومنهم من يقول : الإمام العامل على الصدقات يأخذ منها مع الغنى . وهذه كانت مأخذ عثمان رضي الله عنه ، كما هو منقول عنه . فما فعله هو نوع تأويل يراه طائفة من العلماء .
وعلي رضي الله عنه لم يخص أحداً من أقاربه بعطاء ، ولكن ابتداء بالقتال لمن لم يكن مبتدئاً له بالقتال ، حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين ، وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلات وافقه عليه طائفة من العلماء . وقالوا : أن هؤلاء بغاة ، والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله : ( فقتلوا التي تبغي ) .
تعليق(57/61)
في هذا الموضع يرد الشيخ على مزاعم الرافضة وطعونهم في عثمان رضي الله عنه وأنه قد حصلت منه أمور استوجبت عدم أحقيته بالخلافة ، فبين لهم الشيخ أن ما اتهمتموه به فقد حدث أعظم منه – على رأيكم – من علي – رضي الله عنه - ، فلماذا لا تتهمونه أيضاً ؟
وفي هذا إسكات للرافضة عن قول الإثم .
الموضع الثالث والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( ما ذكره من فضائله التي هي عند الله فضائل ، فهي حق . لكن للثلاثه ما هو أكمل منها .
وأما ما ذكره من الفضيلة بالقرابة ، فعنه أجوبة :
أحدها : أن هذا ليس هو عند الله فضيلة ، فلا عبرة به ، فإن العباس أقرب منه نسباً ، وحمزة من السابقين الأولين من المهاجرين ، وقد روي أنه " سيد الشهداء " وهو أقرب نسباً منه.
وللنبي صلى الله عليه وسلم من بني العم عدد كثير ، كجعفر ، وعقيل ، وعبدالله ، وعبيد الله ، والفضل ، وغيرهم من بني العباس، وكربيعة ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب .
وليس هؤلاء أفضل من أهل بدر ، ولا من أهل بيعة الرضوان ، ولا من السابقين الأولين ، إلا من تقدم بسابقته ، كحمزة وجعفر ، فإن هذين – رضي الله عنهما – من السابقين الأولين . وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر .
وحينئذ فما ذكره من فضائل فاطمة والحسن والحسين لا حجة فيه ، مع أن هؤلاء لهم من الفضائل الصحيحة ما لم يذكره هذا المصنف ، ولكن ذكر ما هو كذب ، كالحديث الذي رواه أخطب خوارزم : أنه لما تزوج علي بفاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سموات ، وكان الخاطب جبريل ، وكان إسرافيل وميكائيل في سبعين ألفاً من الملائكة شهوداً .
وهذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث .
وكذلك الحديث الذي ذكره عن حذيفة .(57/62)
الثاني : إن يقال إن كان إيمان الأقارب فضيلة ، فأبو بكر متقدم في هذه الفضيلة . فإن أباه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الناس ، وأبو طالب لم يؤمن . وكذلك أمه آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأولاده ، وأولاد أولاده ، وليس هذا لأحد من الصحابة غيره . فليس في أقارب أبي بكر – ذرية أبي قحافة – لا من الرجال ولا من النساء إلا من قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته ، وكانت أحب أزوجه إليه . وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر ، ولكن لم تكن حفصة ابنته بمنزلة عائشة ، بل حفصة طلقها ثم راجعها ، وعائشة كان يقسم لها ليلتين ، لما وهبتها سودة ليلتها .
ومصاهرة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على وجه لا يشاركه في أحد ، وأما مصاهرة علي فقد شركه فيها عثمان ، وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنتاً بعد بنت ، وقال : " لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان " ولهذا سمي ذو النورين : زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب وحمد ومصاهرته ) .
تعليق
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على زعم الرافضة بأن علياً أحق بالخلافة لأنه قريب للنبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم أن هذا ثابت لغيره من الصحابة فلماذا لا تدعون ذلك فيهم ؟
الموضع الرابع والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد ؟ فهو لم يعرف . فلا يمكن الجزم بأن علياً أو الزبير ونحوهما لم يسجدوا لصنم ، كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك ، بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم . بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام ، وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان ، كما هو العادة في مثل ذلك ) .
تعليق(57/63)
يرد شيخ الإسلام في هذا الموضع على زعم الرافضة بأن علياً أفضل من الثلاثة لأنه لم يسجد لصنم فبين لهم الشيخ بأن هذا لم يثبت بطريق صحيح ، كما أنه لم يثبت أن أحداً من الخلفاء الثلاثة سجد لصنم ، فلماذا التفضيل بالكذب ؟
الموضع الخامس والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( الذين أنكروا على علي وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه ، فإن علياً قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافاً مضاعفة ، وقطعه كثير من عسكره : خرجوا عليه وكفروه ، وقالوا : أنت ارتددت عن الإسلام ، لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الإسلام .
ثم إن أحداً من هؤلاء قتله قتل مستحل لقتله ، متقرب إلى الله بقتله ، معتقداً فيه أقبح مما اعتقده قتله عثمان فيه .
فإن الذين خرجوا على عثمان لم يكونوا مظهرين لكفره ، وإنما كانوا يدعون الظلم ، وأما الخوارج لكانوا يجهرون بكفر علي ، وهم أكثر من السرية التي قدمت المدينة لحصار عثمان حتى قتل .
فإن كان هذا حجة في القدح في عثمان ، كان ذلك حجة في القدح في علي بطريق الأولى . والتحقيق أن كليهما حجة باطلة ، لكن القادح في عثمان بمن قتله أدحض حجة من القادح في علي بمن قاتله ، فإن المخالفين لعلي المقاتلين له كانوا أضعاف المقاتلين لعثمان ، بل الذين قاتلوا علياً كانوا أفضل بإتفاق المسلمين من الذين حاصروا عثمان وقتلوه ، وكان في المقاتلين لعلي أهل زهد وعبادة ، ولم يكن قتله عثمان لا في الديانة ولا في إظهار تكفيره مثلهم . ومع هذا فعلي خليفة راشد ، والذين استحلوا دمه ظالمون معتدون ، فعثمان أولى بذلك من علي ) .
تعليق
في هذا الموضع يدافع شيخ الإسلام عن عثمان – رضي الله عنه – ويبين فضله على علي كما هو منهج أهل السنة ، لا كما تدعي الرافضة .
الموضع السادس والأربعون : قال شيخ الإسلام :(57/64)
( وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله يوم خيبر : " لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " . وقوله في عزوة تبوك : " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " . ومنها دخوله لي المباهلة وفي الكساء ، ومنها قوله : " أنت مني وأنا منك " . وليس في شيء من ذلك خصائص .
وحديث " لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " ومنها ما تقدم من حديث الشورى ، وإخبار عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن .
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث ، ليس فيها ما يختص به . ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثاً أكثرها خصائص .
وقول من قال : صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره ، كذلك لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث ، لكن قد يقال : روي له ما لم يرو لغيره ، لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه . ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة ، خير من عشرين دليلاً مقدماتها ضعيفة ، بل باطلة ، وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها .
والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق ، لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها ، فإن لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع في أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والزمان الذي كان يجتمع به فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة ، لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم ، لا أقول ضعفه .
وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد .
وأما كمال معرفته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له ، فهو مبرز في ذلك على سائرهم تبريزاً باينهم فيه مباينة لا تخفى من كان له معرفة بأحوال القوم ، ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته .
وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين فكذلك .(57/65)
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها ، التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم ، لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد.
ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء ، قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما صاحبكم فقد غامر فسلم ) . وقال : إن كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي ، فأبى علي ، فأقبلت إليك ، فقال : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ) ثلاثاً . ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر ، فسأل : أثم أبو بكر ؟ قالوا : لا 0فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر ، حتى أشفق أبو بكر ن فجثا على ركبتيه ، وقال : يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم . مرتين .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت . وقال أبو بكر : صدق . وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي " مرتين . فما أوذي بعدها ) .
تعليق
في هذا الموضع يبين شيخ الإسلام فضل أبي بكر على غيره من الصحابة – ومنهم علي - ، وأن له من الفضائل ما لم يشركه فيها أحد ، بخلاف علي ، وقد مر مثل هذا .
الموضع السابع والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) وهذه لأبي بكر ودون علي ، لأن أبا بكر كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الإيمان أن هداه الله به ، وتلك النعمة لا يجزى بها الخلق ، بل أجر الرسول فيها على الله ، كما قال تعالى : ( قل مآ أسئلكم عليه من أجر ومآ أنا من المتكلفين ) ، وقال ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله ) .(57/66)
وأما النعمة التي يجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا ، وأبو بكر لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الدنيا ، بل نعمة دين ، بخلاف علي ، فإنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة دنيا يمكن أن تجزى .
الثالث : أن الصديق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب يواليه لأجله ، ويخرج ماله ، إلا الإيمان ، ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة ، وكان كاملاً في إخلاصه لله تعالى ، كما قال : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( 20 ) ولسوف يرضى ) .
وكذلك خديجة كانت زوجته ، والزوجة قد تنفق ما لها على زوجها ، وإن كان دون النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلي لو قدر أنه أتفق ، لكان على قريبه ، وهذه أسباب قد يضاف الفعل إليها بخلاف إنفاق أبي بكر ، فإنه لم يكن له سبب إلا الإيمان بالله وحده ، فكان من أحق المتقين بتحقيق قوله : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) .
تعليق
يرد شيخ الإسلام في هذا الموضع على زعم الرافضي بأن آية ( وسيجنبها الأتقى ).. الآية لم تنزل في أبي بكر ، ثم وضح أن أبا بكر – رضي الله عنه – له من بذل المال في سبيل الدعوة ما ليس لعلي – رضي الله عنه- ، وقد مر مثل هذا الموضع .
الموضع الثامن والأربعون : قال شيخ الإسلام :
( وأما قتال علي بيده ، فقد شاركه في ذلك سائر الصحابة الذين قاتلوا يوم بدر ، ولم يعرف أن علياً قاتل أكثر من جميع الصحابة يوم بدر ولا أحد ولا غير ذلك .
ففضيلة الصديق مختصة به لم يشركه فيها غيره ، وفضيلة علي مشتركة بينه وبين سائر الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين ) .
تعليق
يقرر شيخ الإسلام هنا ما قرره في مواضع عديدة أن فضائل علي –رضي الله عنه - مشتركة بينه وبين الصحابة ، بخلاف أبي بكر – رضي الله عنه - ، فإذا قلتم بأحقية إنسان في الخلافة لتفرده في الفضائل فليس إلا أبو بكر ، وهذا ما لم تقولوا به ، فظهر تناقضكم وكذبكم .(57/67)
الفهرس التشعبي
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
? تقديم لفضيلة الشيخ صالح الفوزان
? المقدمة
? لمحة عن كتاب ( منهاج السنة ) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله
? التهمون لشيخ الإسلام بتنقص علي - رضي الله عنه - والانحراف عنه
? منهج شيخ الإسلام في دفع شبهات الروافض
? أقوال شيخ الإسلام في : ذم النواصب و فضل على - رضي الله عنه -
? المواضع التي احتج بها الطاعنون في شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب " منهاج السنة " مع الرد عليهم(58/1)
تركي الحمد
في ميزان
أهل السنة والجماعة
تأليف الشيخ : سليمان بن صالح الخراشي
... المقدمة ... ...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
أما بعد : فهذه دراسة أخرى من سلسة ( رجال وكتب في الميزان ) اخترت أن تكون من نصيب مفكر سعودي بارز ، هو الدكتور تركي الحمد ، الذي عرفه الكثير كابتاً صحفياً سياسياً ، متفرداً باطروحاته وآرائه التي تثير الصخب والضجة من حولها ، حيث تميز بصفة لازمت كتاباته وأقواله ، هي صفة ( المعارضة ) ، ( الصوت النشاز ).
... حتى قيل فيه بأنه رجل ( لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب ) !
... لهذا : فقد اخترت أن تكون هذه الدراسة من نصيبه لكي نستبين فكره الذي لم يتضح للجميع من خلال ما خطه بيده في مؤلفاته ، ولكي نعلم ما يريد الدكتور قوله أو إيصاله إلى أفراد مجتمعنا .(59/1)
وقد اخترت مؤلفين هامين من مؤلفات الدكتور ( القليلة ) رأيت أنهما يوجزان أفكاره التي يدور حولها في ( أغلب ) مقالاته لتكون ساحةّ لنقاشي معه .
ثم أعقبت ذلك بدراسةٍ لروايته الثلاثية التي صدرت قريباً ، مع مقارنتها برواية نجيب محفوظ الثلاثية .
وقد تعمدت في هذه الدراسة أن تكون كغيرها من دراسات هذه السلسة تتميز بالوضوح وسهولة العبارة مع الإيجاز غير المخل ، لأن القصد منها هو معرفة مراد الدكتور ثم التعقيب عليه بما يجلي وجه الحق في المسألة المطروحة دون لجوء إلى إطالة مملة أو لغة مغلقة أو نقولات مطولة .
... ... وقد جعلت هذه الدراسة في أربعة مباحث .
... ... أولاً : تعريف بالدكتور ومؤلفاته .
... ثانياً : نقد كتابه ( الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ) .
... ثالثاً : نقد كتابه ( دراسات أيدلوجية في الحالة العربية ) .
... رابعاً : دراسة ثلاثيته .
... ثم خاتمة موجزة .
... والله أسأل أن ينفع بهذه الدراسة من قرأها ، وأن يكتب لي أجرها ، وأن تكون خالصة في سبيله سبحانه ، تعلي دينه وتكبت أعداءه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
... ... ... ... ... ... ... ... المؤلف
تعريف بتركي الحمد (1)
...
... هو : تركي حمد التركي الحمد ، المشهور بـ( تركي الحمد ) من أسرة قصيمية انتقلت إلى المنطقة الشرقية ، وسكنت الدمام ، وكان والده يعمل في شركة (أرامكو ) .
__________
(1) نقلاً عن المقابلة التي أجرتها معه قناة اقرأ الفضائية في يوم 13/8/1419هـ ، ومجلة "فواصل "( العدد 50 ) وقد وصفته هذه المجلة ـ هدى الله القائمين عليها ـ بأنه " أحد الذين بنور أفكارهم تستضئ العقول ، وأحد الذين بلمعان جواهرهم تنير الآفاق " !!! ومن كتب هذا الكرم حريّ به أن يقرأ هذا الكتاب الذي له حقيقة هذا المفكر المنير للعقول ! لعله يتراجع عن مدحه السابق امتثالاً لقوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله }(59/2)
ـ من مواليد 10 /3/1952م الأردن ، الكرك " العقيلات " .
ـ درس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية بمدينة الدمام .
ـ حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الرياض عام 1975م .
ـ ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات كاملة ! حصل منها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ( كلورادو ) عام 1979م .
ـ ثم حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ـ أيضاً ـ عام 1985م ، من جامعة جنوب كاليفورنيا .
ـ عمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الملك سعود منذ عام 1985م إلى عام 1995م.
ـ ثم طلب التقاعد المبكر ليتفرغ للكتابة. ! (1)
مؤلفاته :
1- الحركات الثورية المقارنة عام 1986 م
2- دراسات أيدلوجية في الحالة العربية عام 1992م
3- الثقافة العربية أمام تحديات التغيير عام 1993م
4- عن الإنسان أتحدث 1995م
5- رواية ثلاثية بعنوان (أطياف الأزفة المهجورة )
... أ ـ العدامة .
... ب ـ الشميسي .
... ج ـ الكراديب .
... سيصدر له قريباً :
ـ كتاب ( الثقافة العربية في عصر العولمة ) .
ـ ورواية بعنوان ( شوق الوادي ) (2)
__________
(1) سألت مجلة "فواصل " في مقابلتها تركي الحمد عن سبب طلبه للتقاعد المبكر من الجامعة وتفرغه للكتابة ، فقال : "لأني شعرت أنني أستطيع أن أنتج فكرياً خارج الجامعة أكثر مما لو بقيت داخل الجامعة ، وأنا أقول لكم بصراحة شديدة جداً : إن الجامعات العربية بشكل عام تحولت إلى نوع من القيد على الفكر ... " !! فما هو هذا ( الفكر ) (المنير ) الذي يريد تركي التفريغ له ونشره بين الناس !؟ هذا ما ستعرفه عند فراغك من هذا الكتاب ـ إن شاء الله ـ.
(2) صدرت قريباً وهي رواية رمزية مغرقة في الغموض، ولأجل هذا لم يستطع الدكتور غازي القصيبي نفسه فهمها ! كما صرح بذلك في المجلة العربية .(عدد )(59/3)
ـ له العديد من المشاركات الصحفية عبر المقالات ، كمقالاته الأسبوعية في جريدة الشرق الأوسط ، أو مقالاته في جريدة الحياة ، أو مجلة الاتصال وغيرها من المجلات غير السعودية .
...
نقد كتاب
(الثقافة العربية أمام تحديات التغيير )
يقول تركي الحمد في مقدمة كتابه هذا :
... ) يعيش الإنسان ( بصفته فرداً أو جماعة) ضمن محيط طبيعي واجتماعي (1) .
... )إدراك واستيعاب هذا المحيط لا يكون إلا عن طريق وسيط معين ، ألا وهو مجموعة من المفاهيم والتصورات والمصطلحات والكلمات التي من خلالها تنتقل صورة الموضوع إلى الذهن (2) .
... ) المفهوم ليس إلا تصور ذهني يقوم بنقل الموضوع ( المحيط ) الذي هو متغير بطبيعته ، وبالتالي لا بد للمفاهيم والتصورات أن تكون متغيرة بدورها ، وإلا فإنها سوف تتحول إلى وسيط مزيف عندما تثبت في محيط متغير (3) .
) الإشكالية تنبع من أن الإنسان ( فرداً أو جماعة ) ينحو في كثير من الأحيان إلى تقديس الكلمات والمفاهيم والمصطلحات ، وإعطائها بُعداً ثابتاً بحيث تتحول مثل هذه المفاهيم والمصطلحات والتصورات والأحكام إلى قيد على الإدراك ، ومن ثم التمثل ، ومن ثم الحكم على الأشياء والعلاقات (4) .
__________
(1) الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ( ص10) .
(2) المصدر السابق ( ص10، 11 ) .
(3) المصدر السابق ( 12، 13 ) .
(4) المصدر السابق : ( ص20) .(59/4)
ثم يؤكد تركي هذا حين يزعم ) أن الأزمة المعاصرة للثقافة ( العربية ) إنما تكمن في هذه النقطة المتُحدَّث عنها آنفاً . مجموعة من المفاهيم والتصورات والقيم اكتسبت صفة الثبات المطلق ( بل السكون ) وفقدت بالتالي الصلة مع الواقع أو المحيط المتغير فأصبح الإدراك الذي تنقله وبالتالي الأحكام الصادرة عنها إدراكاً وأحكاماً مزيفة أو مشوشة على الأقل ، وهذا ما نتبينه من خلال التعامل العربي المعاصر مع أحداث هذا العالم وتحولاته من حيث عدم القدرة على فهم مجريات الأمور وعدم القدرة على تحقيق الأهداف ، وبالتالي المراوحة في مكانك سر رغم كل دعوات النهضة والثورة والإصلاح وغيرها من اتجاهات ايديولوجية تختلف شكلاً ولكنها ذات بنية واحدة مضموناً ، حيث إنها في نهاية المطاف تتحدَّد بذات الثقافة العاملة في إطارها وتنتمي إلى ذات الخطاب وتصدر عن نفس العقل (1)
قلت : فملخص أزمتنا عند تركي الحمد هو أن :
1 ـ ... العالم ( أو المحيط ) من حولنا متغير .
2 ـ ... إدراكنا لهذا العالم ( المحيط ) يتم بواسطة ( مجموعة من المفاهيم والتصورات والمصطلحات والكلمات ) تنقل لنا ( المحيط ) الذي هو بطبيعته متغير . إذاً :
3 ـ ... لا بد أن تكون تلكم المفاهيم متغيرة ، وإلا فإنها ستتحول إلى وسيط مزيَّف إذا ( ثبتت ) و ( سكنت ) .
4 ـ ... أزمتنا أننا ثبَّتنا المفاهيم وقدسناها لتكون حاكمة على الأشياء والعلاقات .
... هذا هو ملخص الأزمة في نظر تركي ، ومشكلته أنه يستخدم مصطلحات عامة وليست محددة لنتبين مقصده بكل وضوح .
... فهو ما دام قد نصَّب نفسه مفكراً يسعى إلى خدمة وطنه وأمته ومشخصاَ لأدوائها ومقترحاً حلول مشاكلها كان الأولى به أن يلجأ إلى لغة ( صريحة ) يفهمها من يوجه لهم هذه النصائح والحلول ، أما اللجوء إلى اللغة حمَّالة الأوجه فهو مما يزيد الأزمة تعقيداً ويشغل الأذهان ، يجول بها بين الظنون والاتهامات .
__________
(1) المصدر السابق (ص22) .(59/5)
... وجوباً على مقولتك أو ( تشخيصك ) السابق أقول نقضاً له :
أولاً : قولك بأن ( المحيط من حولنا متغير ) ما تقصد بالمحيط أو العالم من حولنا الذي هو متغير في نظرك ؟ وهو ما سيترتب عليه أن تتغير مفاهيمنا لأجله .
... إن كنت تقصد بهذا العالم ظواهره الجغرافية الطبيعية من حولنا فهي لم تتغير مكوناتها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها فالسماء هي السماء ، والشمس هي الشمس ، والقمر هو القمر ، والجبال هي الجبال ، والأرض هي الأرض ، والبحار هي البحار وهكذا: الأنهار والماء والهواء والنار والشجر والحيوانات .
... كل هذا لم يتغير منذ أول مخلوق وهو آدم ـ عليه السلام ـ إلى يومنا هذا .
... وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير الأعراض الملازمة للأشياء ، من صحة ومرض ، أو سواد وبياض ، وحار وبارد ، وخشن وناعم . . . . الخ فهذه أيضاً لم تتغير منذ وُجدت الأرض .
... وأن كنت تقصد بالمحيط المتغير هو الإنسان وطبائعه المختلفة فهذه لم تتغير ـ فالإنسان هو الإنسان ، يغضب ويرضى ، ويحب ويكره ، ويفرح ويحزن ، ويسعد ويتألم .
... وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير هو ( الأخلاق ) فهذه ـ أيضاً ـ لم تتغير، والناس مجمعون عليها من قديم الزمان ، فالصدق هو غير الكذب ، والكرم غير البخل ، والشرف غير الذل ، والشجاعة غير الجبن ، والمروءة غير الخسة وهكذا .
... الناس مجمعون على مدح الأخلاق الشريفة ، من صدق وشرف وشجاعة وكرم ومروءة وشهامة ونُصرة و . .
... وهم مجمعون ـ أيضاً ـ على ذم الأخلاق الدنيئة ، من كذب ومهانة وجُبن وبخل وخسة ونذالة ومكر وخديعة و . . .
... فهذه ( الأخلاق ) لم تتغير . والناس منذ نشأتهم إلى يومنا هذا يحرصون على أشرفها ويجانبون أرذلها .(59/6)
... وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير المحللات والمحرمات ، فهذه الأصل فيها الحل كما قال العلماء (1) ، وألا يُنتقل عن هذا الأصل إلا بوحي من الله . فهو المحلل والمحرم سبحانه . وقد نهى عباده أن يحللوا ويحرموا دون استناد على الوحي ، فقال: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب } .
فما أحله الله فهو حلال طيب .
وما حرمه فهو محرم خبيث .
وما كان من الأشياء محرماً ثم حُلَّل فهو حال تحريمه لا نفع للناس فيه ، وحال تحليله أصبح من الطيبات .
... وما كان منها محللاً ثم حُرَّم ، فإنه حال حله نافع للناس ، وحال تحريمه أصبح من الخبائث التي لا نفع فيها .
... إذاً فالمحللات والمحرمات تتبع الوحي ، وهي لا تتغير إلا بتغيير الوحي لها .
... فالزنا ـ مثلاً ـ محرم في جميع الأحوال ، فلا يأتي يوم يُحلَّل فيه ، لأن الوحي انقطع بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي أكمل الله به الدين ، فالزنا باقٍ على تحريمه إلى يوم الدين.
... أما أكل لحم الحمار الأهلي ـ مثلاً ـ فإنه كان محللاً في بداية الإسلام ، ثم تغير حكمه إلى التحريم ، لأن الوحي جاء بتحريمه بعد تحليله ، بالمرجع الوحي لا تعقب السنين وتغيرات الأحوال .
... والوحي قد انقطع بوفاة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستقرت الأحكام بعده ، وعُرف الحلال والحرام ، وهو باقٍ على حكمه ـ من حل وحرمه ـ إلى يوم القيامة ، لا يستطيع أحد أن يغير هذا الحكم .
__________
(1) على القول الراجح . وانظر المسألة مع توثيق أقوالها في " العدة في أصول الفقه " للقاضي أبي يعلى ( 4/1238 وما بعدها ) مع تعليقات المحقق احمد سير المباركي ـ حفظه الله ـ .(59/7)
... نعم : قد يرتكب انسان أو دولة المحرَّم ، بل وتقر القوانين لتحليله ، كمساواة المرأة بالرجل في الميراث ـ مثلاً ـ ولكن حكمه باقٍ عند الله على الحرمة لا يغيره اجتراء الناس على ارتكابه ، وسيلاقي من ارتكب هذا المحرم جزاءه ، سواء كان ارتكابه ذلك ينم عن كفر أو معصية .
... وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير هو أمور ( العقيدة ) وما يتبعها من غيبيات ، فهذه ـ أيضاً ـ لم تتغير . فالله ـ سبحانه ـ لم تتغير أسماؤه الحسنى ولاصفاته العُلى .
... وهكذا الملائكة ، وهكذا الجن ، وهكذا الشياطين ، وهكذا الجنة وهكذا النار. . . الخ .
... كل هذا لم يتغير .
... قد تقول : بل هو متغير ، إن بعض البشر كانوا يعتقدون بإلهين اثنين ، وبعضهم بثلاثة ، وبعضهم بأكثر .
... وبعض البشر ينكر الملائكة والجن والشياطين ، أو يتأولها ، وبعضهم لا يعتقد وجوب جنة ولا نار بل يكذب بمجمل البعث بعد الموت .
فأقول : كل هذا لم يغير شيئأ من ذلك ولو اعتقده بعض الناس . فالحق واحد لايتغير سواء عرفه الناس أم لم يعرفوه ـ وسواء اعتقدوه أم لم يعتقدوه .
مثال ذلك : لو أن شخصاً أبرز لنا رقماً من ألأرقام ، هو رقم واحد مثلاً ، ثم قال لنا : كم هذا ؟ فقال بعضنا : أثنان ! ، وقال بعضنا : بل ثلاثة ! ، وقال آخرون بل أربعة ! ، وقال غيرهم : بل خمسة ! ، وهكذا .
هل يُقال بأن الواحد قد تغير ؟! لا أحد يقول بهذا ، فالواحد هو الواحد ، ولو لم يعرفه الناس ، أو لم يصيبوه .
وهكذا أمور العقيدة والغيب .
بقي أن يقال للحمد بأن المتغير الذي يجب أن تقصده هو الوسائل أو عادات الناس .
أما الوسائل فهي متغيرة ، ولا يجحد هذا عاقل .
فالناس عندما كانوا يستخدمون أرجلهم أو رواحلهم في السفر أو التنقل أصبحوا يستخدمون السيارة والطيارة .
وبعد أن كانوا يطبخون بواسطة إيقاد النار في الحطب ، أصبحوا يستخدمون الفرن بأنواعه .
وبعد أن كانوا ياكلون في أواني قديمة أصبحوا ياكلون في أواني حديثة .(59/8)
وبعد أن كانوا يكتبون بالريشة والحبر أصبحوا يكتبون بالقلم .
وبعد أن كانوا يتحدثون مع البعيد بواسطة رفع الصوت ، أصبحوا يتحدثون معه بجهاز يكبر صوتهم أو ينقل صوت الاخر لهم .
وهكذا . . .
وهذه الوسائل هي نعمة من نعم الله على الإنسان الذي وفقه لاختراعها لتسهل له أمور معيشته . وقد امتن الله على السابقين بتيسير الوسائل المريحة لهم ـ في عهدهم ـ فقال سبحانه : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } .
وقال: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}.
وقال: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
وهكذا أبناء هذا الزمان سخَّر الله لهم من الوسائل المريحة والميسرة لمعيشتهم الشيء الكثير ، فالواجب عليهم شكرها لتدوم وتزيد . { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .
وحكم هذه الوسائل أنها حلال طيب مالم يلابسها محرم .
مثال ذلك : الساعة للرجل حلال طيب ، مالم تكن مصنوعة من ذهب ، فإنها تكون محرمة لاحتوائها على محرم ( أصلي ) وهو الذهب . وقس على هذا .
أما عادات الناس فإنها تتبع مجتمعاتهم ، وأذواقهم ، فتختلف باختلاف البلدان ، وهي ـ أي العادات ـ قسمان :
1ـ قسم يخالف الشرع (1) ، مثال ذلك عادة بعض المجتمعات في التحاكم إلى شيوخهم بدلاً من الكتاب والسنة ، فهذه عادة كفرية والعياذ بالله ، والواجب تغييرها ، وإرجاع الناس إلى التحاكم بالشرع ، وهكذا .
__________
(1) . قد تكون المخالفة: كفراً أو تحريماً أو كراهية، باختلاف طبيعة هذه العادة .(59/9)
2ـ قسم لا يخالف الشرع : فهذا يترك أمره لأهل ذاك المجتمع أو البلد ، فإن رأوا فيه نفعاً أو معيناً على منفعة أبقوه ، وإن رأوا فيه ضرراً ، أو كان معيقاً لهم عن المنافع أزالوه باحسن منه .
... مثال ذلك : عادة رجال بعض المجتمعات أو البلدان بعدم تغطية رؤسهم .أو عادتهم في تأخير جزء من المهر وهكذا غيرها من العادات التي لم يحرمها الشرع ، فهذه ترجع إلى حال الناس .
... إذن : اتضح لنا أن المتغير أمور يسيره تتبع وسائل الناس وعاداتهم ، ولكن الحمد قد ضخَّم الأمر وهوَّله على القارئ ليجعله متهيئاً لكل تغيير يريده ( المفسدون ) ، ولو كان تغييراً إلى الأسوأ والأحط والأسفل .
... وهذه ( النغمة ) التي استخدمها الحمد قد استخدمها قبله آخرون من أبالسة هذا الزمن وكبراء رهط المفسدين الذين قال الله عنهم : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} . ولكنهم فشلوا في تحقيق مايريدون .
... ثم جاء الحمد متأخراً ليردد نغمتهم ويُرَجَّع صداهم في بلاد لا تتأقلم مع أي تغيير مفسد ، لكي يجعل لهذا التغيير ( المأمول ! ) قاعدة ( عقلية ) أو ( ثقافية ) .
وإلا فإنه لو كان مخلصاً لدينه ، أو صادقاً مع مجتمعه لطالبهم بالالتزام بالإسلام التزاماً جاداً ، لأته يدعو إلى كل فضيلة ، ويُبعد أبناءه عن كل رذيلة ، وطالبهم ( بتغيير ) عاداتهم المخالفة اللإسلام ، أو الضارة بالمجتمع .(59/10)
... ثم طالبهم وحثهم على الارتقاء في سلم الحضارة ( الدنيوية ) التي تزدهر بها البلاد ، وتترفع بها عن الاتكال على الآخرين ، من انشاء المصانع النافعة المتنوعة وتطوير لأساليبها وتسهيل لمرتاديها وتشجيعهم على خوض غمارها وجلب كل نافع لها من خبراء أو معدات متطورة ، وتوسع في مجالات الزراعة ، وتنويع انتاجها ، واهتمام بكل عقل نابه من ابنائنا ومساعدتهم على تطوير موهبتهم والتفرغ لها وجلب لهم ما يحتاجونه ، وتأمين وسائل المعيشة لهم ليُنتجوا وينافسوا غيرهم دون ( خوف ) أو ( حذر ) .
... وهكذا مطالبتهم بالاهتمام بأمر المرأة المسلمة وأن تنال حقها من العلم الذي ينفعها والمناسب لطبيعتها ، كمعرفة أمور دينها ، ومعرفة الطرق السليمة للتعامل مع الطفل منذ ولادته ، ومعرفة أساسيات الصحة ، والأجهزة المتنوعة التي تتعامل معها في البيت .ومعرفتها كل جديد مفيد لها - كتعلم الحاسب الآلي أو الاقتصاد المنزلي ، أو فن التنسيق أو الديكور. . الخ .
... والمطالبة بأن تعمل المرأة ( المضطرة لذلك ) في ما يتوافق مع الإسلام ، ويتلاءم مع تكوينها وطبيعتها لكي تسهم في شغل وقتها بما ينفعها ويفيد مجتمعها دون أن تضطر لارتكاب محظور .
... كان الأولى بالحمد ـ وهو المفكر الذي يدعي النصح لمجتمعه ـ أن يطالب بهذا ليكون من ( المصلحين ) الذين ينفع الله بهم ويبارك في آثارهم ، ويُصلح في الآخرة بالهم .
... أما ترديد كلمة ( التغيير ) باسلوب مجمل لا ينقل معنى محدداً ، فهو من تضييع الجهود ، وتعميق جراح الأمة ، والتمهيد لها أن تتنكب سبيل الحق والفلاح في الدنيا والآخرة . وهذا ما لا نرضى للحمد أن ( يقدم ) قومه فيه .فإن ( التقدم ) أحياناً قد يقود إلى النار! قال سبحانه عن فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} .(59/11)
... أما دعوة ( نسبية ) الحقيقة وهو ما يُلمح من وراء أسطر الحمد في كتاباته فيقال في رده بأن " نسبية الحقيقة" إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة ، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع ، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة ، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى .
... فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس " والذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره ، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت ، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين والعلم ، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت ، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم ، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم ، وصار الربط عنذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة ، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
... ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين : الغربية والإسلامية ، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة " في الثقافة الإسلامية .
... من أول صور التصادم ما أثاره طه حسين في كتابه " في الشعر الجاهلي " عام 1926م ، فقد تعرض لنصوص قطعية الثبوت قطيعة الدلالة ، تحدثت عن ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام للكعبة ، وتشكك في تلك الحقيقة ، وحتى في وجودهما التاريخي ، وفي هجرتها ، ورأي أن قريشاً اختلقت تلك القصة لأسباب سياسية واقتصادية ، ورأي فيها نوعاً من الحيلة لأثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية ، والقرآن والتوراة من جهة أخرى .(59/12)
... ومن صور التصادم أيضاً حديث الدكتور حسين أحمد أمين في كتابه (( حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية )) عن حد السرقة الذي ورد فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة في قوله سبحانه وتعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فقد ربط الدكتور بين ذلك الحد وبين الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية آنذاك ، وبين أن العربي كان ينقل كل متاعه على راحلته ، وإن سرقته تعني كل مايملك من جهة ، وتعني هلاكه من جهة ثانية ، لذلك جاء الحكم بتلك الصورة ، لأنه مرتبط بالأموال المنقولة ، والآن أصبحت الأموال غير المنقولة أثمن وأغلى من الأموال المنقولة ، لذلك فهو يقترح تغير الحكم انطلاقاً من تغير الوضع الاقتصادي .
... أما نصر حامد أبو زيد ، فقد تحدث في كتابه (( نقد الحطاب الديني )) عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجالات عدة منها : صفات الله ، وفي الحسد والسحر والجن والشياطين ، وقد اعتبر أن الألفاظ الأخيرة مرتبطة بواقع ثقافي معين ، ويجب أن نفهمها في ضوء واقعها الثقافي ، وإن وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني ، وقد أصبحت الآن ذات دلالة تاريخية ، وهذا ينطلق في أحكامه السابقة من أن النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة ، تم إنتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي ، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة (( دي سوسير )) في التفرقة بين اللغة والكلام ، وينتهي أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية للمناهج اللغوية المشار إليها سابقاً .(59/13)
... أما الدكتور محمد شحرور في كتابه (( الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة )) ، فقد اعتبر أن جميع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجال الحياة الاجتماعية: كالنكاح ، والطعام ، وفي مجال الحدود : كحد السرقة ، والزنى ، والحرابة ، والقتل العمد ... إلخ وفي مجال الأحكام : كتوزيع الميراث ، وأخذ الربا ... إلخ ، جميع تلك النصوص خاضعة لاجتهاد رسم له حدين : أدنى وأعلى ، وقد اعتبر أن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي اجتهاد محمد - صلى الله عليه وسلم - لتطبيق حدود الإسلام ضمن بيئة الجزيرة العربية ، وبالتالي ، فإن تطبيقه لها ليس ملزماً لنا في شيء !(59/14)
... لاشك في أن نسبية الحقيقة هي النظام الذي يشمل كل تلك الطروحات بدءاً من تشكك طه حسين في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وفي واقعة بنائهما الكعبة ، ومروراً بربط حسين أحمد أمين لحد السرقة بظاهرة الأملاك المنقولة ، وباعتبار نصر حامد أبو زيد السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالة تاريخية ، وانتهاء باعتبار محمد شحرور جواز تأرجح الحد بين اجتهادين أعلى وأدنى .. ولا أريد أن أكرر الحديث عن الخصوصية التاريخية التي جعلت ثقافة الغرب تقوم على نسبية الحقيقة ، ولا أريد أن أفصل مناقشة رأي كل كاتب فيما يتعلق بالنصوص القطعية الثبوت ، القطعية الدلالة التي تعرض لها ، ولكني أرد موجزاً مختصراً فأتساءل : هل يجوز لطه حسين أن يرد نصوصاً قطعية الثبوت قطعية الدلالة في شأن وجود إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ وفي شأن بنائهما الكعبة لا لشيء سوى لوجود أساطير مشابهة قبلها الرومان عن بناء روما من باينياس بن بريام صاحب طرواده اليونان ؟ لماذا يربط حسين أحمد أمين بين حد السرقة والأموال المنقولة ولا يربط ذلك بفعل السرقة الشنيع ، وما يشتمل عليه من ترويع وتخويف واعتداء على المسروق ، وما يصوره من طمع السارق ودناءته وتطلعه إلى ما في يد الغير بغير حق مشروع ؟ لماذ يعتبر نصر حامد أبو زيد الكلمات : السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية ؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نعفي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات دلالات تاريخية ؟ لماذا يخضع محمد شحرور الألفاظ القرآنية للتحليل اللغوي المعجمي ، مع أن الإسلام أخرج كثيراً من الألفاظ من معناها اللغوي وجعلها مصطلحات أعطاها معاني أخرى أمثال : الصلاة ، الزكاة ، الأيمان ، الكفر ، الحد ... - إلخ ، وعليه أن يحترم هذة المصطلحات عند أي بحث علمي ؟(59/15)
... والآن أعود إلي نسبية الحقيقة التي تتصادم مع النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يؤدي إلى ثبات الحقيقة ، وأتجاوز الظروف التاريخية التي جعلت نسبية الحقيقة جزءاً أساسياً من ثقافة الغرب ، والتي تختلف عن ظروفتا التاريخية وأتساءل : هل حقاً ليس هناك ثبات في الحقيقة ؟ ومن أين جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في ثقافتنا الإسلامية ؟ وما سنده الواقعي في صيرورة الكون ؟
... إن الإجابة عن الأسئلة السابقة تقتضي أن نقرر أن هناك ثباتاً في الحقيقة ، وإلا لما سميت حقيقة ، وبشكل أدق جاء الثبات في الحقيقة من ثبات بعض النواميس التي تحكم الكون ، ومن الفطرة التي قال الله عنها : {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
... ومن مظاهر الفطرة الثابتة إلى مدار التاريخ : التعبد ، وحب التملك ، والتجاذب بين الذكر والأنثى ، وإعلاء قيم الصدق والأمانة ، وإسفال قيم الكذب والخيانة ... إلخ لذلك جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الشريغة ليعبرعن تلك الحقائق الثابتة المنغرسة في الفطرة ، فكانت أحكام العقيدة أحكام العبادات ثابتة ، لأنها تتعلق بفطرة التعبد ، وكانت أحكام فرضية الزكاة وتحريم الربا ، وتشريع حد السرقة ثابتة ، لأنها تتعلق بفطرة حب التملك ، وكانت أحكام الخطبة والزواج والطلاق ثابتة لأنها تتعلق بفطرة التجاذب بين الذكر والأنثى ، وكانت أحكام مدح الصادقين وإجزال مثوبتهم ثابتة لأنها تتعلق ببعض الأخلاق الفطرية .(59/16)
... في النهاية نقول : طالما أن هناك فطرة ثابتة لا تتغير فهناك حقائق ثابت لا تتغير، وهذا ماقادت الظروف التاريخية أوروبا لإنكاره ، وليس بالضرورة أن يكون الصواب مع أوروبا )) (1) .
... ثم قال الحمد تحت عنوان ( الخصائص العامة للثقافة العربية ) بأن ( هناك ثقافة عربية واحدة ، وهنالك ثقافة عربية فرعية) (2) كما أن هناك (ثقافة إنسانية شاملة ) (3) وهناك (ثقافات قومية مختلفة ذات تباين وتمايز واضح) (4) وهناك (الثقافات الوطنية (القطرية) والمختلفة والمتباينة) (5) وهناك (ثقافات فرعية متباينة في ذات الإطار الوطني) (6) .
__________
(1) . مقال للأستاذ غازي التوبة بعنوان: ( بين نسبة الحقيقة والنص القطعي الثبوت والدلالة) في مجلة المجتمع (العدد 1337)
(2) . الثقافة العربية (ص25)
(3) . المصدر السابق ( ص26)
(4) المصدر السابق ( ص26)
(5) المصدر السابق ( ص26)
(6) المصدر السابق ( ص26)(59/17)
... ثم يقول تركي : (ما نريد قوله إن المسالة ليست قطعية ومطلقة أو آحادية الجانب بحيث يمكن القول مثلاً إن هنالك ثقافة عربية واحدة ولا شيء عداها ( التيارات القومية ) أو إن هنالك تراث إنساني وحسب ( التيارات الأممية ) أو إن هناك تراث ديني وحسب ( التيارات الدينية ) أو إن هتاك ثقافة وطنية وحسب ( التيارات القطرية ) ، بل إن المسالة متشابكة ذات أبعاد تعددية وليست آحادية . نعم هناك ثقافة عربية واحدة ذات خصائص محددة ومعينة مشتركة ولكن إلى جانبها ، أو في إطارها ، هناك ثقافات فرعية لا يمكن حصرها . فعلى المستوى الأفقي هنالك ثقافات وطنية ( قطرية ) متمايزة ، وفي ذات الأقطار هنالك ثقافات إقليمية متمايزة هي الأخرى ، وعلى مستوى الإقليم هنالك تمايز أيضاً وهكذا . وعلى المستوى الرأسي (سواء على مستوى الجامعة القومية أو الجماعية الوطنية وما هو أقل من ذلك ) هنالك ثقافات متمايزة أيضاً : ثقافية قبلية ، مدنية ، جماهيرية نخبوية ، فلاحية ، عمّالية ، طلابية ، أكاديمية . . . الخ. موطن الداء والعلة ليس في التمايز والاختلاف بين الثقافات على اختلاف أنواعها ، إذ أن ذلك من طبيعة الوجود البشري على هذه الأرض ، ولكن الداء والعلة يكمنان في الوقف " الصفري " أو الآحادي من هذه الثقافات وتمايزها . وبذلك نعني أنه عندما توضع المسألة على أن الاعتراف بإحدى هذه الثقافات لا بد وأن يكون على حساب الثقافات الأخرى .(59/18)
... ولتوضيح المسألة نقول : عندما يقول الأممي بثقافة إنسانية معينة شاملة : (إسلامية ، مسيحية ، بروليتارية ، . . . ، الخ ) فإن ذلك لاعيب فيه ولا تثريب ولكن عندما يقول بآحادية هذه الثقافة وإطلاقها ونفي ما عداها فإننا والحالة هذه بصدد موقف دوغماتي شوفيني مناقض لواقع الأمور وطبيعتها ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الموقف القومي أو الوطني القطري أو نحو ذلك عندما ينحو منحىً آحادياً صفرياً . هذه هي العلة وهذا هو الداء). (1)
... ثم يقول : (خاتمة القول : هنالك ثقافة عربية مشتركة ، كما أن هنالك ثقافة وإرثاً إنسانياً مشتركاً ، ولكن في ظل هذه الثقافة المشتركة هنالك ثقافات فرعية أخرى ( أفقية ورأسية ) متمايزة ومتعددة . ويجب الاعتراف بمثل هذه التعددية الثقافية إذا كان المراد الانطلاق من أرض الواقع وآليات هذا الواقع للتحكم في تحديد مسار هذا الواقع من أجل تحقيق الأهداف والغايات المرجوة . أما إذا بقيت الآحادية هي المنهج والدوغما هي المعتقد والشوفينية هي منطق الايديولوجيا فإننا في هذه الحالة لن ندرك الواقع ولن نستوعبه ونفهمه وبالتالي لن نستطيع التحكم فيه وفي مساره ومن ثم لا أهداف تتحقّق ولا غايات تتجسّد بل تبقى طواحين الهواء ودون كيشوت (2) (3)
... قلت :لم يأتِ تركي بجديد في هذا الموضوع ، فالجميع ـ كباراً وصغاراً ! ـ يعلمون أن هناك أدياناً وثقافاتٍ متباينة تعيش على هذه الأرض ، في زماننا هذا ، وفي الأزمان الماضية منذ أن تفرق الناس أشتاتاً بعد أن كانوا مجتمعين على دين واحد ، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل .
__________
(1) ... المصدر السابق ، ( ص26 ـ 28 ).
(2) دون كيشوت الذي يشير إليه تركي رجل موسوس ، مغرم بالفروسية والبطولة ، حارب طواحين الهواء يعتقدها الأعداء فقذفته هو وحصانه ورمحه بعيداً !
(3) ... المصدر السابق ، ( ص 28 ـ 29 ) .(59/19)
... يقول الله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}. (1)
... قال ابن عباس _رضي الله عنه _ : (كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعةٍ من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين) (2) .
... فالناس قد كانو مجتمعين على دين وثقافةٍ واحدة قبل أن يسلك بهم الشيطان ذات اليمين وذات الشمال ويغويهم عن دينهم .
... مما ترتب عليه أن كانت الرسل تُبعث فيهم لتدعوهم إلى ما كانو عليه من توحيد ربهم ، وتردهم إلى الصراط المستقيم ، وتبشر المتقين ، وتنذر الضالين .
... ثم كان خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله رسولاً إلى الإنس والجن _ جميعاً _، وختم به الوحي ، فلا يُقبل من أحدٍ ديناً بعده سوى دين الإسلام.
... قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) ، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) ، وقال : {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (5) ، وقال : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (6) ، وقال : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
... أما قول الحمد بأنه (يجب الأعتراف بمثل هذه التعددية الثقافية ) .
... فماذا يعني بهذا الإعتراف ؟
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 213
(2) تفسير ابن كثير ( 1/257)
(3) ... سورة الأنبياء ، الآية : 107 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 158 .
(5) سورة الأحزاب ، الآية : 40 .
(6) سورة المائدة ، الآية : 3 .(59/20)
... إن كان يعني الاعتراف ( بوجود ) هذه التعددية ، فهذا لم ولن يعارضه فيه عاقل ، لأنه واقع بلا ريب ، يراه الجميع .
... وإن يعني الاعتراف ( بصحة ) هذه التعددية ، فهذا يحتاج إلى تفضيل :
1 ـ إذا كان يعني بصحة تلك التعددية ، أي صحة مايعتقده أهل الأرض من ثقافات وأديان مخالفة لدين الإسلام ، فهذا ـ والعياذ بالله ـ كفر صريح ، لأنه رضي واعتراف بصحة ( الكفر ) وما عليه أهله ، وهذا مناقض للمعلوم من دين الله بالضرورة : وهو صحة الإسلام وبطلان ما عداه من أديان ، سواء كانت أديان المشركين على مختلف أصنافهم ، أم أديان أهل الكتاب (اليهود والنصارى) التي حرّفوها ثم جاء الإسلام بنسخها (1) .
... وهذه - - والله - من أعظم المصائب أن يقع فيها كاتب مسلم تربى في بلاد التوحيد ، ودرس وتعلم الكتاب والسنة ، ثم بعد هذا يدعونا إلى الاعتراف ( بصحة ) ما عليه أهل الكفر من عقائد وثقافات ، وهو ـ كما سبق ـ كفر صريح تجب التوبة منه .
2- أما إن كان يعني ( بصحة التعددية ) أي صحة ما عليه ( بعض ) تلك الأمم من تطور مادي لا دخل له بأمور الدين ، فقد أخطأ في العبارة ، وكان الأولى به أن يُطالب أمته ـ كما سبق ـ بالاستفادة مما عليه الآخرون من تطور مادي ، وهو مبذل للجميع يستطيع أن يناله من أتخد له الأسباب الموصلة إليه ، دون رضىً بأديان الكفار وثقافاتهم !.
... والذي أظنه أن الحمد لا يعني هذا وإنما يعني الاعتراف بما عند الآخرين من أديان وثقافات وأن لا نحاول أن نكون آحادي النظرة فندعوهم إلى ديننا (الإسلام)!!.
... وهذا واضح من عبارته ، لأنه عمم التعددية الثقافية ، ولو كان يعني التطور المادي ـ مثلاً ـ لخصص ذلك بالدول المتقدمة ( دنيوياً ) أو استخدم لفظ (الحضارة) بدلاً من (الثقافة ) على أقل تقدير .
__________
(1) انظر : " الابطال النظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان "
للشيخ بكر أبو زيد .(59/21)
... إذاً : فتركي الحمد يدعو إلى الاعتراف بوجود أديان الكفار على مختلف أجناسهم ، ويدعو المسلمين إلى عدم تغيير هذا الواقع بدعوتهم إلى الدين الحق .
... وأيضاً : يدعوهم إلى عدم الاعتزاز بالإسلام وأنه الدين الصحيح ، وأنما هو مجرد دينٍ من الأديان ، لا ينبغي لأهله الفخر به !!!
... كما سيأتي في كلام هذا (الضال ) .
... بعد هذا قام الحمد بوصف ثقافتنا العربية المعاصرة بعدة خصائص عبر نقاط متتالية .
... يقول تركي : (إذا نظرنا إلى الثقافة العربية وما يتفرَّع عنها من ثقافات فرعية رأسية وأفقية ، نجد أنها كلها ورغم تمايزها وعند مستوى معين من التجريد تتَّصف بالخصائص التالية :
أولاً : ماضوية في مقابل المستقلة) (1)
... ومعنى هذا عند تركي : (أن المستقبل في حالة الثقافة العربية وآلية إدراكها يقع هناك في الماضي وليس هناك في المستقبل التاريخي المحسوس والمحكوم بآليات الواقع وديناميكية التحول والتغير . والعقل العربي المنبثق عن هذه الثقافة القياسية والمنبث في مختلف أوجه الفعل الإنساني ( العقل السياسي ، الاجتماعي ، الاقتصادي ، والتاريخي . . . الخ ) ينقل هذه الآلية إلى كافة تفصيلات الحياة العربية بحيث إنك قد تجد أحدهم يرفض استخدام الملعقة في الطعام مثلاً لأن الأوائل ( النموذج المتسامي ) لم يفعلوا ذلك بكل بساطة . نعم إن هذا مثال موغل في المبالغة ولكنك تجد أمثلة مشابهة تؤكد القياسية والمدرسية في الثقافة العربية بشكل عام ، وما بعض التيارات الإسلامية المغالية في إسلاميتها ، حسب فهمها وزعمها ، إلا التعبير الأشد تطرفاً لهذه الخصيصة من خصائص الثقافية العربية ، وإلا فإن المسألة عامة وشاملة وإن اختلفت درجة الاقتراب أو الابتعاد) (2) .
__________
(1) ... الثقافة العربية . . . ( ص29 ) .
(2) ... المصدر السابق ( ص 31 ـ 32) .(59/22)
قلت : هذه هي الخصيصة الأولى من خصائص ثقافتنا عند تركي الحمد ، وهي أنها ماضوية ) ، أي أنها تعيش في الماضي ، وتقيس أحداث الحاضر والمستقبل على الماضي ، وهو ( النموذج المتسامي ) ، ويعني به عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ، رضوان الله عليهم ـ !!
... تعليقاً على هذه الخصيصة أقول :
أولاً : إن هذه ( الماضوية ) التي جعلتها وصمة عار في جبين ثقافتنا هي مايدعونا الله إليه في كتابه الكريم ! وذلك في قوله تعالي : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ) (1) فهو تعالى يطلب منا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوتنا واسوتنا في أقوالنا وأعمالنا ، يحذرنا سبحانه من مخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم - {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) .
... ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عاش في هذا الماضي الذي تزدريه ، وهكذا خلفاؤه الكرام الذين أمرنا - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنتهم ، وبقية الصحابة والسلف الصالح الذين أمرنا باللحاق بركبهم .
... فإن كنت يا تركي تزدري ثقافتنا بأنها ( ماضوية ) أي أنها تتخذ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي عاش في ( الماضي ) أسوة وقدوه لها في أقوالها وأعمالها فقد هويت بنفسك في مكانٍ سحيق عندما اجترأت على القول ( الكفري ) المزدري لشريعة الإسلام .
... وإن زعمت أن ( بعض ) المعاصرين قد يجتهد في أمور يزعم أنها غير جائزة لأن السلف لم يعملوها كالأكل بالملعقة ، وهو المثال الذي ذكرته ، وهو مثال في غاية الندرة لا يكاد أحد يفعله ـ فلا أدري لماذا قمت بتضخيمه وإبرازه !!؟
__________
(1) ... سورة الأحزاب ، الآية : 21 .
(2) ... سورة النساء ، الآلية 14 .(59/23)
... فهو اجتهاد فردي يُطالب صاحبه بالدليل الشرعي عليه ، وهل هو من الابتداع في الدين أم أنه من العوائد التي لا تخالف الشرع وتتبع عرف الناس،وهذا مبحث طويل ليس هذا موضوع التعرض له .
... وإنما الاعتراض هو على تعميمك هذا المسلك النادر حتى وصمت به ثقافتنا كلها .
... ثانياً : أنك أزدريت ثقافتنا ( الإسلامية ) بأنها ( ماضوية ) أي تعتز بالاسلام وبنبيها - صلى الله عليه وسلم - وبصحابته وبالسلف الصالح ، ونسيت أن الثقافات الأخرى التي تقدمت دنيوياً ، والتي قد اشرأب عنقك إليها هي أيضاً ثقافات ماضوية ، فهاهم اليهود يفخرون بدينهم وبعاداتهم في زيهم وماكلهم ومشربهم ، وهي تسبق الإسلام بمئات من السنين ، ولم تتخذ من هذه الماضوية مطعناً فيهم أو ازدراءً بثقافتهم ، ومثلهم النصاري الذين درستَ عندهم ، وهم أيضاً ماضويون باتخاذهم ( النصرانية ) ديناً لهم ، وإقامتهم كنائسها ( وتبشيرهم ) بها ، والاعتزاز بمبادئها وأعيادها ، ولم ينلهم منك ما نال أمة الإسلام من الازدراء بثقافتهم .
... بل هذه الثقافات ( الماركسية ) و ( البعثية ) و ( القومية ) وهي ما تدندن حوله ! لاتزال تفخر بروادها الذين أبلى التراب أجسادهم وتردد مقولات (ماركس) (1) ، و( عفلق) (2) و(ساطع الحصري) (3) وكأنها قرآن منزل من عند الله ! ولم ينلهم منك أي ازدراء لهذا التمجيد والدعوة لاحتذاء أفكار ( الماضين ) .
__________
(1) ... المنظرالأول للماركسية ، يهودى الديانة ! وإن ادعى التنصل من ذلك، فهل يعى الحمد هذ؟
(2) ... نصراني ماكر ، استطاع الترويج لمبادئ حزب البعث حتى تسلط على رقاب المسلمين في
سوريا والعراق، ثم ادعى صدام _ وهو أحد حسناته ! _ أن شيخه قد مات على الإسلام
ولكنه كان يخفى إسلامه !! ...
(3) المنظر الأول للقومية العربية التي اتخذها ديناً ، أصله من حلب وعاش في اليمن ثم تنقل في بلاد الشام والعراق ، ولا يزال القوميون يخضعون له .(59/24)
... أما نحن المسلون فيغيظك ـ يا تركي ـ أننا نتبع أفضل رسول بعثه الله إلى الناس ، بخير رسالة نزلت فيهم ، فتزعم أن هذا مما يعيبنا ويعيب ثقافتنا .
... فلا حول ولا قوة إلا بالله .
أما إن زعمت بأن ثقافتنا ( الماضوية ) قد دخلتها البدع والخرافات ، فليس الحل بأن ننسلخ من جميع هذه الثقافة ونلغي ارتباطنا ـ والعياذ بالله ـ وإنما الحل يكون بتطهير هذه الثقافة من البدع والزيادات فيها ، والدعوة إليها صافية نقية كما أُنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
... ثالثاً : نقول لك بأن الماضي ـ سواء كان زماناً أو أفعالاً أو أقوالاًـ لايذم لأجل أنه ( ماضي ) فهذا لا يقوله عاقل ، وإلا لذممنا كل مامر من حياتنا ولو للحظات. فحياتنا الماضية مذمومة ، وحياة آبائنا مذمومة ، وحياة آبائهم مذمومة . . . وهكذا ، وهذا ـ كما سبق ـ لا يقوله عاقل .
... فالذي يوصف بالذم هو ما وقع في هذا الماضي من أقوال أو أفعال ذميمة ، أما الأقوال والأفعال النافعة فهي مما يمدح أينما وقعت ، سواءً في الماضي أم الحاضر ، والله سبحانه قد آثنى على أمم قد عاشوا في الماضي لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فقال : {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1) .
... وعاب أمماً عاشوا في ( الماضي ) لأنهم كفروا وعملوا السيئات ، فأهلكهم ، وقال عنهم : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) .
__________
(1) سورة يونس ، الآية : 98 .
(2) سورة النحل ، الآية : 52 .(59/25)
... الحاصل : أن صفة ( الماضوية ) ليست صفة ذم مطلقاً وليست ـ أيضاً ـ صفة مدح مطلقاً ، وإنما الذم والمدح يتبع الأقوال والأعمال ، فما كان من الأقوال والأعمال نافعاً يرضاه الله فهو ممدوح في أي زمانٍ كان ، وما كان منها ضاراً لا يرضاه الله فهو مذموم في أي زمان كان .
... أما إن قال تركي : أنا لا أذم الماضي لمجرد كونه ماضياً ، وإنما أذم ثقافتنا لأنها اتخذت الماضي مثالاً ومقياساً تقيس به حياتها .
... فأقول : هذه أشد وأدهى لأنك عبتنا لأننا نتخذ من ديننا ميزاناً لأقوالنا وأعمالنا ، ومعنى هذا أنك تطالبنا بأن نتنكر للإسلام ولا نؤمن به ولا نلتزم بأوامره وننتهي عن نواهيه ، وهذا كفر مخرج من الملة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
ثم أخبرك أنت وأمثالك ممن يدعي أن الالتزام بالإسلام مما يعوق الأمة عن التقدم ، وهو ما تلمحون إليه ولا تصرحون ، أخبرك بأن هذه شبهة باطلة ، لأن دين الإسلام يدعو إلى اتخاذ كافة الوسائل المشروعة للارتقاء بأهله في سلم الحضارة المادية فالله يقول : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) .
... وهذه القوة تشمل كل أمر دنيوي يرقي الأمة ، ويجعل أعداءها يهابونها ويقدرونها ولا يستهينون بها ، من اعتناء بالتقنية الحديثة ، والصناعات المتنوعة . . . الخ الأمور المادية التي ترهب العدو وتُعز الأمة .
... فهل عارض الإسلام ( الصحيح ) يوماً ما مثل هذا ؟ هل عارض الإسلام مثلاً انشاء المصانع وتشييد الآت الحرب أو النقل وتطوير وسائل الاتصال المتنوعة ؟
... لا . . لم يعارض هذا ، وإنما عارض أن ينتشر الفساد الفكري والأخلاقي في ديار الإسلام تحت دعاوي ( التقدم ) و( التطور )، وهو ماتسعى إليه أنت وأضرابك!.
... ثم قال تركي واصفاً ثقافتنا بالصفة الثانية : وهي أنها (اسطورية في مقابل الواقعية) (2) !
__________
(1) سورة الأنفال ، الآلية : 60 .
(2) الثقافة العربية . . ( ص32 ) .(59/26)
... ومعنى هذا عنده (أن ما يُميز الثقافة العربية في هذا المجال هو ميلها إلى "أسطرة " الوقائع التاريخية إن صح التعبير بشكل أكبر ، وخاصة في أعقاب ما يُسمى بعصور الانحطاط وحتى هذه اللحظة تقريباً ، إذ أن " الثبات " هو أيضاً من خصائص الثقافة العربية على اختلاف وجوهها ومستوياتها وتفرعاتها وذلك في ما يتعلق ببنيتها الأساسية . فالعقل العربي ( من ثم الثقافة العربية ) يميل إلى أن يصبغ أحداثاً تاريخية معينة بـ " الفرادة " والتفرُّد ورفعها إلى مصاحف الرمز المتسامي الذي لا يتكرر ، فتتحول هذه الأحداث وأبطالها إلى " أساطير " ( بعد الاختزال والإضافة ) لايمكن أن تتكرر في التاريخ المعلوم ولكنها تبقي أملاً وحلماً مانحاً قيماً معنية يُهتدى بها ولكن لا يمكن الوصول إليها بشكل مطلق) (1) .
... قلت : يقصد تركي بالاحداث التاريخية المعينة التي جعلتها الأمة كالأساطير هي أحداث الفتوحات الإسلامية منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعهد أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ مروراً بالفاتحين من أمثال قتيبه بن مسلم ، وموسى بن نصير ، وطارق بن زياد ، ومحمود بن سبكتكين ، ونور الدين زنكي ، وصلاح الدين وغيرهم من الأبطال.
... والأمة ـ كما يعلم كل أحد ـ لم تجعل بطولات هؤلاء العظماء أساطيراً ! إنما افتخرت بها ، وتغنت بتلك لأمجاد الماضية التي اعتز فيها الإسلام ، وذل فيها أهل الكفر و ( النفاق ! ) .
... والأمة لم تقل بأن تلك الأحداث لا يمكن الوصول إليها ولا إلى مثلها ، فإن هذا من اختراعات تركي الحمد ، بل الأمة تحاول استعادة تلك الأمجاد والبطولات في كل زمان ومكان ؛ لأن الجهاد " ماضٍ إلى يوم القيامة " فلا مانع من أن تكون تلك البطولات مثالاً يحتذى في واقع المسلمين ، ولا مانع أن يتكرر مثلها ـ ولو رغم أنف تركي ! ـ .
__________
(1) المصدر السابق ( ص 32-33 )(59/27)
... فلا أدري بعد هذا ماذا يعني تركي بقوله بأن ثقافتنا ( أسطورية وليست واقعية) ؟ أم أنها كذبة من كذباته يتكثر بها في كتابه (1) .
... ثم قال تركي مبيناً الصفة الثالثة من صفات ثقافتنا بأنها : (أحادية في مقابل التعددية) (2) .
... أي : (إنها ثقافة تنظر إلى نفسها على أنها تتمتع بـ "فرادة " معينة تميزها عن غيرها من الثقافات . مثل هذا الموقف لا غبار ولا تثريب إذ أن التمايز صفة من صفات الثقافات في تعددها واختلافها . غير أن الثقافة العربية ، كما تطرح نفسها من خلال الخطاب والممارسة ، تتجاوز مسألة التمايز لتقول بالفرادة ومن ثم ، كنتيجة منطقية ، القول بعلوية الثقافة العربية على ما عداها من ثقافات) (3) .
... ثم يقول : (إن ما يُميَّز الثقافة العربية وانعكاساتها السياسية والاجتماعية على وجه الخصوص ، هو أن الشمولية العربية تطرح نفسها ( من خلال الخطاب والممارسة) على أنها أبدع ما بالإمكان مقارنة بالآخرين وتربط هذه الآحادية والشمولية بالمرجعية " الرمزية الماضوية " فتمنحها بالتالي نوعاً من القداسة والفردية والعلوية) (4) .
__________
(1) ... وقد يقال بأنه يقصد بالنموذج المتسامي الذي لا يمكن الوصول إليه هم " الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ " الذين هم أفضل الأمة بشهادة القرآن والسنة ، وهذا مما يغيظ تركي !
وقد يقال هذا ، ولكن ( الرجل ) كما قلتُ في المقدمة مُظلم العبارة ، لايُصَرح بما يريد !
(2) الثقافة العربية . . . ( ص34 ) .
(3) ... المصدر السابق ( ص34-35 ) .
(2) ... المصدر السابق ( ص36) .(59/28)
... ثم يقول : (إن كل ثقافة تلجاً إلى آلية الدفاع عن الذات بشكل من الأشكال ، وهذا حق مشروع ، ولكن الملاحظ أن الثقافة العربية في دفاعها عن ذاتها تلجأ إلى عمليات النكوص والارتداد إلى الماضوية البحتة ( انظر الخاصية الأولى ) والرفض المرضي لكل وافد أو ما يعتقد أنه وافد لا يتواءم مع النموذج ـ المرجع ( انظر الخاصية الثانية ) المحدد ايديولجياً بشكل دوغماتي مغلق . والحقيقة أن الثقافة العربية في تعاملها مع " الآخر " تقع في نوع من " الشيزوفرانيا " والازدواجية القلقة من حيث انها تعرف في داخلها أن هذا الآخر متفوق عليها ولكنها ، وفق آليات الدفاع ، ترفض هذا التفوق وتحاول أن تبرز ضعفها ( المرحلي ) بكافة التبريرات الايديولوجية والقول بأن تفوق " الآخر " هذا هو مسألة مرحلية لا تلبث أن تنتهي وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي الذي هو علوية الثقافة العربية في نهاية المطاف . ومن ناحية أخرى ، فإن الثقافة العربية ( الذهنية العربية ) تنظر إلى الآخر على أنه " نموذج " يمكن الاستفادة منه ، ولكنها في ذات الوقت ترفضه وتحاول التمسك بأصالتها التي هي في حقيقة الأمر تلك النزعة الماضوية ( النكوصية ) المتحدث عنها سابقاً . بمعنى أنها ، أي الثقافة العربية ، تريد ولا تريد في نفس الوقت ، وهذا يُدخلنا في إشكالية ليس من السهل حلها وإن لجأ البعض إلى محاولات التلفيق والتوفيق التي ، وكما يقول الواقع المعاش ، لم تنجح كثيراً في مسعاها) (1) .
... قلت : خلاصة هذا الكلام الطويل أن تركي الحمد يخبرنا بأن لا ننظر إلى ثقافتنا ( وهي الإسلام ! ) على أنها أفضل الثقافات ! أو أنها متفردة على غيرها !! والدليل أن الغرب قد تفوق علينا !! ولا زلنا ـ كما يقول تركي ـ نبرر هذا التفوق بأنه مرحلي ، وسرعان ماتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي وهو أن تعلو ثقافتنا عليه .
__________
(1) المصدر السابق (ص37 ) .(59/29)
... وقد احتوى هذا القول السابق من تركي الحمد على خلط وجهل ، و (كفريات ) لا يشك فيها مسلم ، حيث زعم هذا الجهول بأن علينا أن لا ننظر إلى ثقافتنا بأنها متفردة وأنها أعلى من غيرها ، فقارن بين الكفر والإسلام ، ثم فضُّل الكفر وأهله عليه ، لأنهم تقدموا ( مادياً ) ونحن لم نتقدم بعدُ ، فلهذا هم أفضل منا ، وثقافتهم ( ومن ضمنها دينهم ! ) أفضل من ثقافتنا ( ومن ضمنها الإسلام ! ) والعياذ بالله من هذا الكفر البيِّن .
... ونسي هذا ( الأحمق ) بأن تقدم الغرب (مادياً ) لا يعني صحة ثقافته وأديانه ، كما أن تخلف بلاد المسلمين ( ماديًا ) لا يعني بطلان ثقافته ودينه ( الإسلام ) ، لأن هذا التقدم أو التخلف ( المادي ) لا دخل له بالأديان والثقافات ، فهو مبذول للجميع ، من اخذ بأسبابه وجَدَّ وثابر فقد حاز السبق فيه ومن تكاسل عن اسبابه ، وركن واعتمد على غيره فقد باء بالتخلف .
... ولهذا نجد أن بعض البلاد غير الغربية كاليابان مثلاً قد وصلت إلى قمة التقدم ( المادي ) وتفوقت على الغرب فيه ، لأنها اتخذت الأسباب الموصلة إليه من استثمار أمثل للطاقات التي أودعها الله في الأرض ، ودعم لكل صاحب عقل مبدع في مجال التقنية دون وضع معوقات أو تثبيط كما يحصل في بلاد المسلمين ، ولهذا فقد وصلت إلى ما تريد .
... وهكذا غيرها من الدول التي تخالف ( الغرب ) في ثقافته، ككوريا أو الصين.
... الحاصل : أن ربط التقدم ( المادي ) بالأديان هو جهل عن حقيقة الواقع .
... ثم يُقال : بأن من تقدم ( دنيوياً ) وكان غارقاً في الكفر فهو مذموم عند الله . وقد عاب سبحانه على أقوام مضوا كانوا متقدمين ( دنيوياً ) وعمروا الأرض مالم نعمرها ، وكانوا أشد منا قوة وبطشاً ومع هذا فقد عابهم الله ، ولم يعبأ بتقدمهم ولا بحضارتهم ، لأن المعول عليه عنده سبحانه هو اتباع أمره واجتناب نهيه ، أما الحضارة والتقدم فهي موهبة لمن أدرك اسبابها وتمثل بقول الشاعر :(59/30)
وقَلَّ من جدَّ في أمرٍ يحاوله
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفرِ
قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) ، وقال تعالى : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واقٍ ) (2) .
وهؤلاء الكفار المعاصرون هم كأسلافهم الماضين مذمومون عند الله تعالى لكفرهم وإعراضهم عن دين الإسلام ، ولن تنفعهم حضارتهم المادية عند الله شيئاً ، قال تعالى : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (3) .
... فلا يجوز شرعاً وصفهم بعلو أو رفعة أو عزة لأن الله يقول {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (4) .
فالعلو والعزة هو للمؤمنين ، وأن كانوا غير متقدمين دنيوياً ، قال تعالى : {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) .
... فوصف الله عباده المؤمنين بالعلو والعزة ، ووصف الكافرين بالذلة ، وأخبر بأنهم : ( شر البرية ) (6) ؛ لأن المقياس عنده تعالى هو الأمر والنهي .
... وأما أمور ( الدنيا ) فهي حاصلة لمن أراد الله تحصيله إياها بفعله أسبابها .
__________
(1) سورة الروم ، الآية 9 .
(2) ... سورة غافر ، الآية :21 .
(3) سورة القمر . الآية 43 .
(4) ... سورة المنافقون ، الآية : 8 .
(5) سورة آل عمران ، الآية : 139 .
(6) سورة البينة ، الآية :6 .(59/31)
... قال سبحانه : {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (1) .
... وليس معنى هذا أن نرضى بواقعنا ( المادي ) غير المتطور فنكون كلاً على الناس من شرق وغرب ، وإنما نجد ونسعى في سبل الفلاح الدنيوي وننافس القوم في تحصيل أسباب القوة .
... الحاصل : أن تركي الحمد قد خلط بجهل بين أمور الدين وأمور الدنيا ، فجعل التخلف الدنيوي دليلاً على التخلف الديني ! وجعل التقدم الدنيوي دليلاً على التقدم الديني! ففضل الكافرين على المسلمين ، ولم يرتض للمسلمين أن ينظروا لإسلامهم على أنه المهيمن على سائر الأديان ، وهذا ـ كما سبق ـ كفر ، لايمحوه إلا التوبة النصوح إلى الله ، والانتهاء عنه .
... ثم قال تركي مواصلاً حديثه عن ثقافتنا بأنها : (رغبوية في مقابل التاريخية) (2) .
... ويعني بهذا (اسقاط رغبات الذات على أحداث التاريخ الفعلي لا المفترض ، والنظر إلى أي حدث وكل حدث على أنه يسير في صالح هذه الذات ، وهذا ما نراه واضحاً بشكل خاص في الخطاب العربي المعاصر بشكل أخص الذي يرى ، مثلاً ، في كل حادثة وأي حادثة دليلاً أو مؤشراً على سقوط الغرب أو انتصار قيم الثقافة العربية وغير ذلك) (3) .
__________
(1) سورة الإسراء ، الآية : 20 .
(2) الثقافة العربية . . . ( ص38 ) .
(3) المصدر السابق ( ص39 )(59/32)
... ثم يقول : (مسألة الرغبوية في الثقافة العربية المعاصرة خاصية ، تقودنا إلى آلية أخرى من آليات دفاع هذه الثقافة عن ذاتها في وجه الآخر المتفوق والعدو بالضرورة ، ألا وهي ما نسميه النزعة التبريرية في هذه الثقافة . فعندما تبدو معالم ضعف معين وانكسار محدّد فإن السبب في ذلك ، مثلاً ، ليس ذات الثقافة وبعض محدداتها ولكن أمور طارئة شكلية إذا ما استبعدت فإنه لا ريب أن ذلك العقل والثقافة راجعان إلى موقعهما الذي يجب أن يكونا فيه من علوية مفترضة . وإذا لم يحدث ذلك فإن الخلل أيضاً لا يمكن في بنية العقل والثقافة ولا يعني ذلك ضرورة مراجعة هذه البنية . بقدر ما أن أصابع الاتهام تشير دوماً إلى " الآخر " العدو دائماً والذي يمنع معالجة هذه الأمور الطارئة والشكلية . بمعنى آخر ، تتحول العملية في نهاية المطاف إلى قناعة دوغماتية بأن شرط العلاج الأول هو اختفاء " الآخر " ( غائية رغبوية ) وبدون ذلك فإن كل محاولة للعلاج لابد وأن تبوء بالفشل ( فعل تبريري ) . أما ذات العقل ومكوناته وذات الثقافة المفرزة لمثل هذه التطورات ومحدداتها فإنها تبقى بعيدة عن أي اتهام وبمنأى عن أي تحليل وتعليل ونقد) (1) .
... قلت : أما مسألة سقوط الغرب ( أو الكفار عموماً ) فهي بأمر الله تعالى الذي لو شاء اسقاطهم لأسقطهم ، ولكنه يبقيهم لحكمة ـ وجميع أفعاله تعالى ذات حكمةـ فهو سبحانه يقول عن الكفار في كل زمان ومكان {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (2) .
... فحكم بقائهم كثيرة إليك شيئاً منها :
1- ... أن يبلو المؤمنين بهم ـ كما سبق ـ فيعلم الصابرين والمجاهدين ، ويثيبهم على جهاد الكفار والانتصار لدينه ، كما في الآية السابقة .
__________
(1) المصدر السابق ( ص 40 – 41 ) .
(2) سورة محمد ، الآية : 4 .(59/33)
2- ... أن الدنيا ليست دار جزاء ، وإنما هي دار ابتلاء ، ولو كانت دار جزاء لأهلك الله جميع الكافرين في طرفة عين . قال سبحانه {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} (1) . وقال : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (2) .
فالدنيا يموج فيها المؤمن والكافر ، ويسعى كل منهم سعيه الذي سيلاقيه يوم الحساب .
3- ... أن لايبقى لهم نصيب ولا حظ في الآخرة ، حيث وافاهم الموت وقد أخذوا نصيبهم من الاستمتاع في الدنيا ، فلم يعد لهم عنده تعالى إلا النار مثوىً لهم خالدين فيها .
يقول سبحانه : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) .
ويقول : {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (4)
ويقول : {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (5) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ (إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم ، وقهرهم ، وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة عظيمة ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل .
__________
(1) سورة الكهف ، الآية : 58 .
(2) سورة فاطر ، الآية : 45 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 178 .
(4) )3) سورة التوبة ، الآية 85 .
(5) سورة آل عمران ، الآية : 196 ، 197 .(59/34)
... فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله . وانكسارهم له ، وافتقارهم إليه ، وسؤاله نصرهم على أعدائهم ، ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا . ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ، ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صَرَّفهم بين غَلَبهم تارة ، وكونهم مغلوبين تارة ، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم ، وأنابوا إليه ، وخضعوا له ، وانكسروا له ، وتابوا إليه ، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وجاهدوا عدوه ، ونصروا أولياءَه .
... ومنها : أنهم لو كانوا دائماً منصورين ، غالبين ، قاهرين ، لدخل معهم من ليس قصده الدين ، ومتابعة الرسول . فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد . فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة ، وعليهم تارة . فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه .
... ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء ، وفي حال العافية والبلاء ، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم . فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال . لا تحصل إلا بها ، ولا يستقيم القلب بدونها كمالا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد ، والجوع والعطش ، والتعب والنصب ، وأضدادها ، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .(59/35)
... ومنها : أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحّصهم ، ويخلصهم ، ويهذبهم . كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
... فذكر سبحانه أنواعاً من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار ، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان ، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله ، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله .
... ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولاً بين الناس فيصيب كلاً منهم نصيبه منها . كالأرزاق والآجال .
... ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم ، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين ، فيلعم واقعاً .
... ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء ، فإن الشهادة درجة عالية عنده ، ومنزلة رفيعة لاتنال إلا بالقتل في سبيله ، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه ، وأنفعها للعبد .(59/36)
... ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين ، أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو ، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم ، وعدوانهم إذا انتصروا .
... ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر . وأن حكمته تأبى ذلك . فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم .
فهذا بعض حكمه في نصره عدوهم عليهم ، وإدالته في بعض الأحيان) .
... هذا عن مسألة انتفاش الكفار ـ والغرب منهم ـ في هذه المرحلة من الزمان، أما المستقبل فإن كل مؤمن يجزم ويؤمن بأن دين الإسلام سيهيمن على كل الأديان ، لقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
... وسيكون هذا ـ والله أعلم ـ في زمن عيسى ـ عليه السلام ـ عندما يأذن الله بنزوله من السماء فينزل ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام .
... قال صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده ، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الحرب ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها )) .
... قلت : أما (تلميح) تركي الحمد بأن الخلل قد يكون في ثقافتنا ، فهو لم يوضح كعادته ما يعني بهذه الثقافة التي هي سبب تخلفنا ؟
... إن كان يعني بالثقافة (الإسلام) فقد سبق توضيح أن الإسلام يحث أبناءه ويحرضهم على الأخذ بأسباب التقدم الدنيوي ، وهذا لا يخفى إلا على جاهل يريد أن لايفهم ! وإن كان يعني بالثقافة شيئاً آخر في سلوكياتنا ومفاهيمنا فنرجو من هذا المفكر الألمعي ! أن يوضحه لنا .(59/37)
... بعد هذا عقد تركي الحمد فصلاً بعنوان (الثقافة العربية والثقافة العالمية) ملخصه أن العالم بعدها تحول إلى قرية صغيرة بفضل الاتصالات نشأ عن ذلك ثقافة (عالمية) يتفق عليها كل البشر ، ومثّل لهذا بـ (العقلانية ، والعلم التجريبي ، وضرورة التحول الدائم (الحداثة إن شئت) ، والتقنية وما يقف وراءها من عقل وذهن، ونحو ذلك) وهذه الثقافة قد (علت وسادت حتى أصبحت ثقافة عالمية بغض النظر عن المصدر والجذور ، وبغض النظر عن مشاعر الحب أو الكره ، القبول أو الرفض لمثل هذه الثقافة).
... ثم بين أن اليابان قد استفادت من أسس هذه الثقافة العالمية دون أن تفقد شخصيتها الخاصة .(59/38)
ثم قال : ( أما إذا جئنا إلى المنطقة العربية والثقافة العربية السائدة فإننا نجد أن العلاقة مع هذه الثقافة العالمية أو الثقافة الغربية إن شئت فالمسألة سيَّان ، أقول : إذا جئت إلى المنطقة العربية والثقافية فإنك ستجد مثل هذه العلاقة تشكل إشكالية معينة بل ومعضلة عويصة منذ أول احتكاك للعرب مع الغرب الحديث وحتى هذه اللحظة . ما الخطب هنا وما الذي جعل هذه " الفرادة" للثقافة العربية في تعاملها مع ثقافة هذا العالم المعاصر ( الثقافة الغربية ) بشكل لا يوجد تقريباً في الثقافة الأخرى عند تعاملها مع مثل هذه الثقافة ؟ في اعتقادي فإنه وبالنظر إلى خصائص الثقافة العربية والعقل العربي المتحدث عنها سابقاً فإنه يمكن الوصول إلى جواب معين اعتقد أنه مرضٍ وكافٍ. من خلال هذه الخصائص السابقة يتبين لنا أن الثقافة العربية تعتقد " العلوية " في ذاتها كانت تدرك حسياً أنها ليست كذلك في هذه المرحلة من التاريخ على الأقل . الإحساس بالعلوية هذا يجعل الثقافة العربية تتقوقع على ذاتها وعلى أصولها المُدَّعاة "الثابتة" خشية الاحتراف ومن ثم الذوبان في الثقافة العالمية الجديدة مما يفقدها "أصالتها" وبالتالي أحقيتها في العلوية وقدرتها على السيادة والصدارة . إنه هاجس العلوية والصدارة والسيادة العالمية للثقافة العربية هو ما يعيقها عن الاندماج في العصر والاستفادة من منجزات الثقافة الحديثة ) (1) .
__________
(1) الثقافة العربية ( ص 47 .(59/39)
... ( وقد يقول قائل : ( وما العيب في أن تطلب الثقافة العربية الصدارة ؟ أليست اليابان المعاصرة في طريقها إلى السيادة العالمية في ظل النظام الدولي الجديد الآخذ في التكوين ؟) وهذا سؤال مبرر ومشروع ، ولكننا نقول إن النهضة اليابانية والتي ابتدأت في عصر الميجي انطلقت دون أن تكون أسيرة مفاهيم ثقافية كالتي رأيناها عند الحديث عن خصائص الثقافة العربية .وهي ذات المفاهيم التي عرقلت حركة النهضة العربية الحديثة .هذا لا يعني القول بالانفصال المطلق في التجربة اليابانية بين القيم الثقافية الوطنية ومحاولات النهضة ، ولكن المعني منصرف هنا إلى القول إن النهضة اليابانية لم تكن أسيرة هذه المفاهيم بمعنى النظر إليها نظرة ثبوت وسكون وقدسية وإلا فإن إعادة تشكيل هذه المفاهيم كان أحد الحوافز التي أدت إلى النهضة اليابانية الحديثة . هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية فإن الثقافة اليابانية لم تكن أسيرة مفهوم الصدارة والعلوية والسيادة الواجبة كمضمون للنهضة ( الموقف الايديولوجي ) بل إنها اتجهت اتجاهاً براغماتياً شبه صرف أدى في النهاية إلى سيادة يابانية من نوع معين وبشكل معين ) (1) .
... قلت : عجيب أمرك يا تركي ! تطالب المسلمين بأن لا يعتزوا بإسلامهم ، وأن لا يروه خاتمة الأديان الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه وتطالبهم بأن يساووا أنفسهم مع الكافرين ، إن لم يكونوا أقل منهم ـ عندك ـ
... ثم تقترح عليهم أن يتخلوا عن دينهم وينساقوا مع الثقافة العالمية ( المزعومة ) لكي يتقدموا ويتحضروا ! هذا هو ملخص فلسفتك السابقة .
... والذي يَعْجب المرء منه أنك لا زلت تخلط بين مسألة التقدم ( الدنيوي ) وبين مسألة الأديان ، فمن كان عندك متقدماً في أمور الدنيا فهو خير من غيره . ولو كان يدين بدين ( الإسلام ) ! .
... ومن كان مسلماً متأخراً في أمور الدنيا فهو شر من الكافرين ـ والعياذ بالله ـ .
__________
(1) . الثقافة العربية (ص 50-51)(59/40)
وأجهل من هذا أنك ربطت التقدم ( الدنيوي ) بالتخلي عن الإسلام ، والأخذ بهذه الثقافة العالمية التي اخترعتها .والعقلاء جميعاً يعلمون أن التقدم ( الدنيوي ) لا دخل له بالثقافات ، وإنما هو مبذول للجميع ، فمن أخذ بأسبابه حصل عليه ومن آثر الدعة والكسل حُرمه ـ كما سبق ـ .
... ودليل هذا أننا نجد بلاداً ( غير غربية ) قد نالت من هذا التقدم ( الدنيوي ) حظاً لا بأس به ، بالرغم من تباين ثقافتها كاليابان ، والهند ، وكوريا وغيرها .
... بل نجد بلاداً إسلامية ـ ولله الحمد ـ بدأت تفيق من غفوتها وتسعى حثيثاً إلى حجز مكانها في هذا التقدم . كالباكستان مثلاً .
... ودليل هذا ـ أيضاً ـ أننا نجد كثيراً من الخبراء الذين ساهموا في تطور أرقى بلاد الغرب ( مادياً ) وهي أمريكا ، هم ممن يدينون بثقافات غير ثقافتها ، وإنما وهبهم الله مواهب عقلية استطاعوا بها استثمار طاقات الأرض وكنوزها ، ولما لم يجدوا من يعينهم في ديارهم لجؤا إلى بلاد الكفر فكانوا عوناً لها على تقدمها .
... الحاصل : أن التقدم ( الدنيوي ) لا علاقة له ألبته بالأديان والثقافات، وإنما هو حاصل لمن استثمر مابثه الله في هذا الكون من طاقات ومخزونات .
... والإسلام ـ كما سبق ـ يدعو إلى هذا الاستثمار ويحث أبناءه عليه ، فما على بلاد المسلمين وقد حباها الله الكنوز المدفونه في الأرض إلا أن تستثمر هذا كله ، وتتوكل على الله وحده ، وتشجع النابغين من أبنائها ، وتفتح لهم مجال الانطلاق في هذا التقدم ، دون أن تَحْذَر منهم ! أو تثبطهم ، أو تضع في دربهم العراقيل . فإنها بهذا كله واصلة ـ بلا شك ـ إلى ماوصل إليه الآخرون ، وجامعة بين سعادة الدنيا والآخرة ، وغيرها من الكفار وإن وصلوا إلى هذا التقدم فمثواهم النار وبئس المصير ولو رغمت أُنوف ( المنبهرين ) !(59/41)
... فليت الدكتور الحمد يفهم هذا ولا يربط التقدم الدنيوي لنا بالتخلي عن (الإسلام ) والأخذ بالثقافة العالمية التي اخترعها من عند نفسه . والله المستعان .
... بعد هذا عقد الحمد فصلاً بعنوان (الثقافة العربية والسلوك السياسي العربي ) ملخصة أن السلوك السياسي هو عبارة عن ترجمة للثقافة التي يحملها المجتمع .
... ولتوضيح ذلك ضرب الحمد مثالين لهذا .
... أولهما : قضية حرب الخليج الأخيرة ، وحيث استخدم صدام في شعاراته أثناء الحرب ، لغة ( ماضوية ) تتحدث عن الدين وعن الصراع بين الإسلام والصليبية ... الخ .
... في لغة لا تعبر عن الواقع .
... المثال الثاني : هو تعامل العرب مع قضية فلسطين حيث الرفض والتعالي على الواقع حتى خسرنا كل شيء .
... ثم قال الحمد ( الماضوية والرمزية ـ الأسطورية ـ خلقت بالنسبة لقضية فلسطين انطباعاً ، بل اعتقاداً ميتافيزيقياً هلامياً معينأ من أن فلسطين لابد وأن تتحرر في يوم ما ، وينتهي الوجود الإسرائيلي برمته كيف ، اين ، ومتى ؟ هذه أسئلة عقلانية لا تجد إجابة لها لدى النخب فما بالك بالجماهير . هنالك مجرد حلم " رغبوي " بذلك يسقط على واقع الحال فتنبثق عنه ثلة من الرموز والأساطير . عندما يُقبل ذلك "المنقذ" من الغيب تتحرر فلسطين كما أقبل صلاح الدين وطرد الصليبيين من فلسطين ، وكما جاء قطز والظاهر بيبرس وهزموا أبناء التتار . هنالك بعد ميتافيزيقي غيبي بالنسبة لهذا المنقذ المفترض تعبر عنه الثقافة العربية عموماً والشعبية خصوصاً أفضل تعبير حين تربط الأشياء بالزعامة الفردية وقدرتها على الانقاذ الخارق ) (1) .
__________
(1) الثقافة العربية ( ص 65 ) .(59/42)
قلت : أما أن صدام حسين استخدم شعارات ( ماضوية ) فيعني بها تركي أن صداماً قد استغل الشعارات الإسلامية عند مواجهته للغرب ، وهذا أمر واقع ، والذي دعاه لهذا هو محاولته كسب تعاطف الجماهير الإسلامية المتعطشة لجهاد أعداء الله ، لاسيما مع تنامي المد الإسلامي في كل البلاد ـ ولله الحمد ـ
... فلهذا لجأ صدام إلى دغدغة الشعوب باستخدام اللغة التي يؤمنون بها ، ويتمنون دعوتها ، ولكنه لم يُفلح كثيراً في هذا لأن الشعوب الإسلامية قد انتشر بينها الوعي الإسلامي فلم تعد تخدعها الشعارات دون الأفعال ، والكثير يعلم أن صداماً وحزبه ( البعث ) هم أكفر وأضر على الأمة من اليهود والنصارى لأنه حزب علماني النشأة وخصم لدود للإسلام ، ولولا مصلحة صدام ومن معه من أعضاء حزب البعث في استخدام الشعارات الإسلامية لكانوا قد داسوا تلكم الشعارات ـ والعياذ بالله ـ تحت أقدامهم ، ولكنهم أناس يدورون مع مصلحتهم ، فهم قد أيقنوا أن الشعوب الإسلامية لم تعد كما كانت بالأمس تحركها الشعارات القومية ، وإنما آمنت وأيقنت بعد أن جربت تلكم الحلول ( القومية ) المنابذة للإسلام بأن الحل الوحيد لمشاكلنا جميعاً هو الالتزام بالإسلام وعودة الحكم الإسلامي إلى ديار المسلمين بعد أن عُطَّل وأُبعد عن الواجهة ـ إلا مارحم الله ـ
... وأما من تعاطف مع صدام وأيده وانساق مع شعارته ، ففي ظني أنه إنما فعل ذلك ليس حباً في صدام وحزبه ، وإنما بغضاً لأهل الصليب .
... أما سخريتك باعتقاد المسلمين بأن فلسطين سوف تتحرر يومأ ما ، ووصمك هذا الاعتقاد بأنه غير واقعي ، وإنما أسطوري غيبي أو ميتافيزيقي كما تقول ، فهذا دليل جهلك بدينك وبأحاديث نبيك? ، أو إعراضك عنها وعدم تصديقها .(59/43)
... فقد قال ? مبشراً بهذا : " لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر . فيقول الحجر أو الشجر : يامسلم ! يا عبد الله ! هذا يهوديٌ خلفي فتعالَ فاقتله . إلا الغرقد ، فإنه من شجر اليهود " (1) .
... هذا هو الذي جعل الشعوب الإسلامية تؤمن بأن يوم تحرير فلسطين آت لا ريب فيه ، لأنها تصدق بقول نبيها ? الذي قال الله فيه:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) (2) .
... وليس معنى هذا أن تركن الأمة إلى أن يأتي هذا اليوم الموعود ، وإنما الواجب عليها أن تحرص على الالتزام بدين نبيها ? كما أنزل دون بدع أو تحريف ثم تجاهد أحفاد القردة إلى أن يأتي وعد الله .
... قلت : وما سبق من سخريتك بهذا الحديث وما جاء فيه هو دليل على عدم إيمانك بالغيب الذي أخبر به الله وأخبر به رسول الله ? ، والله الهادي .
... ثم عقد الدكتور فصلاً بعنوان ( الحالة الثقافية العربية : خلاصات ونتائج ) قال فيه :
... ( نحن أمة لا تعرف ماذا تريد ، وإن عرفت فعن طريق الأسطورة والحلم البحت المجرد ) (3) .
... ( نحن أمة لا تعرف ماذا تريد ، لأنها أمة محكومة بمفاهيم ثقافية ذات خصائص تُقيد من حرية الفعل والحركة لديها بمفاهيم وتصورات لا تعبر عن الحركة في التاريخ بقدر ماتعبر عن السكون واللاتاريخية ) (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 2922 ) . وقد بدأت الأحداث تؤكد كلام الصادق المصدق ? من حيث تجمع اليهود من جميع بلاد العالم في فلسطين ، وتعاظم ( المد ) الإسلامي الذي سيجعل من فلسطين مقبرة لأحفاد القردة . نسأل الله أن يعجل بهذا وأن يرزقنا شرف المشاركة فيه ! وأن يخذل المنافقين الذين يكذِّبون محمداً ? ، والذين يقولون كما قال أسلافهم (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ) .
(2) سورة النجم ، الآية :3 .
(3) الثقافة العربية ( ص 17 ).
(4) الثقافة العربية ( 27 ) .(59/44)
... ( العالم يتحدث عن المستقبل ويغير من الحاضر ، ونحن لا نتحدث إلا عن الماضي ، وننقسم حول هذا الماضي المتصور شيعاً وأحزاباً متناحرة في قضية لا وجود لها أصلاً ، وإن وجدت فلا أثر لها في تحولات المستقبل في هذا العالم ، وإذا أردنا أن ندرك حقائق الأمور في هذا العصر حاولنا ذلك من خلال تصورات ومسميات لا علاقة لها بالعصر وثقافته ، أي أننا نسبل الماضي على الحاضر فنخسر المستقبل ) (1) .
... قلت : لا زال الدكترو يتحدث بلغة رمزية عائمة ، فلم يبين الدكتور ماهي الاسطورة التي لا زلنا نعيش فيها ؟ وما هو الماضي الذي يعيب علينا اتباعه ؟ وما هي المفاهيم الثقافية التي تقيدنا ؟
... إن كان يعني بذلك : الإسلام ( الصحيح ) الذي أنزل على محمد ? ، فبئس ما سولت له نفسه ، حيث زعم أن اتباع الإسلام يورث الأمة التخلف ويعيقها عن الحركة .
... وإن كان يعني بذلك شيئاً آخر فليبينه ( بوضوح ) لا رمز فيه ، لأنه في مقام النُصح للأمة ، فلماذا الخوف ؟ والماذا التعتعة ؟ والماذا التخفي خلف العبارات (المطاطة) ؟
... أما تلميحه إلى أننا نختلف حول الماضي ، فهو يعني بذلك اختلاف أهل السنة مع أهل البدع وعلى رأسهم الرافضة ، حول قضية الصحابة والخلافة ، وهي قضية قد مضت ، وهدى الله فيها أهل السنة إلى القول الوسط ، والذي يحفظ للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مكانتهم مع ترديد قوله الله تعالي {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .
__________
(1) الثقافة العربية ( ص 72-73 ) .
(2) سورة الحشر ، الآية : 10 .(59/45)
... أما وقد خاض أهل البدع في هذه القضية وتجرؤا على أعراض خير الخلق بعد الرسل ، فكان من واجب أهل السنة توضيح الحق في هذه المسألة ، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح ليهلك من هلك عن بينه ويحيا من حيَّ عن بينه ، وتبيين الحق في هذه القضية (الماضية ) ليس مما يعيب أهل السنة الذين هم أهل الإسلام ، فاللوم ليس عليهم وإنما على أهل البدع الذين آثروا تفريق الأمة وتحزبها بالخوض في أحداث قد مضت وانتهت ولم يقولوا : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ماكسبتم ولاتسئلون عما كانوا يعملون ) (1) .
... فاللوم منصب على المبتدعة ـ وعلى رأسهم الرافضة ـ فهم الأحق بتقريع الدكتور حتى يرعووا عن بدعتهم ويعودوا إلى الإسلام ، ليكونوا عوناً لإخوانهم أهل السنة في نشر دعوة الحق ، والترقي في مراقي التطور والتقدم .
... ثم عقد الدكتور خاتمة لكتابة أسماها ( نحو ثقافة عربية جديدة ) ومن يطلع على هذه الخاتمة يتوقع أن يسعفنا الدكتور فيها بخلاصة ما يريد قوله للأمة بعد أن أنهكته اللغة ( الرمزية ) طوال بحثه ! ولكن القارئ لخاتمته يفاجأ بأن الدكتور لا زال يتخبط ويتعثر في سبيل التوضيح عن مراده ويستخدم نفس اللغة السابقة التي سار بها طوال بحثه .
... يقول الدكتور ما ملخصه بأن ( لكل النهضات الإنسانية المعروفة تاريخياً ابتدأت بنوع من الثورة الابستمولوجية (2) !
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 134 .
(2) قال الأستاذ منذر الأسعد في تعريفها :
" إبستمولوجيا : فرع من الفلسفة العامة يبحث في أصل العلوم الإنسانية وطبيعتها ومداها ومدارسها المختلفة . وبعض المفكرين المعاصرين يذهبون إلى أن الإبستمولوجيا تبحث في ما يتعلق بفلسفة العلوم ومبادئها الأولى .
أما عن طبيعة المعرفة ومداها فتتناقض آراء المفكرين الغربيين بين الأوهام والتطرف المادي الإلحادي ، وحيث يصل الشك أحياناً إلى الزعم باستحالة الحصول على معرفة يقينية .
ومعظم هؤلاء ينكرون الوحي كمصدر للمعرفة !! ) ( المغني الوجيز ـ ص12 ) .(59/46)
التي غيرت من نظرة الإنسان إلى نفسه ، وإلى مجتمعه ، وإلى العالم من حوله ) (1) ( فكانت النهضة ، وكان الابداع ، وكان الفعل الحضاري ) (2) .
... ( وعندما نقول مثل هذا الكلام ، فإن ذلك لا يعني الانفصال التام أو القطيعة المطلقة بين الثقافة السائدة والثقافة اللاحقة ) (3) .
... ثم يقول تركي ( كل الطروحات النهضوية العربية تقريباً ( الإسلامية منها والقومي ) تدور في فلك التراث ولكنها لاتنطلق منه بمعنى أنها تدور في النسق التراثي ولا تبني أنساقاً جديدة ) (4) .
... ( لأجل ذلك ، فإن المفاهيم والتصورات والقيم الماضوية ( التراث ) تبقى حاملة لمضمونها السابق في الأنساق السابقة وذلك لانعدام النسق الجديد ومن ثم تفقد فاعليتها لأنها تنتمي إلى زمان غير الزمان ومكان يختلف عن المكان . ومهما حاولنا تحديث هذه المفاهيم والتصورات والقيم باعطائها مضامين جديدة عن طريق التوفيق وإعادة التفسير والتأويل فإن ذلك لا يجد إذا كان النسق العام للأشياء ( ومنه النسق الابستمولوجي والثقافي عامة ) وبنية العقل ذاتها ثابتة لا تتغير وهذا النسق لا يكون إلا بالإنطلاق من حيث انتهى الآخرون ( وفق ما تقضي به التجارب النهوضية الناجحة ) سواء كان هؤلاء الآخرون هم " الآخر " الغربي أو التراث ذاته وليس الفرق في كل ذلك. بمعنى آخر ، إن المطلوب هو سيطرة الحاضر على الماضي وليس سيطرة الماضي على الحاضر ) (5) .
__________
(1) الثقافة العربية ( 77 ) .
(2) الثقافة العربية ( ص 77 ) .
(3) الثقافة العربية ( ص 78- 79 ) .
(4) الثقافة العربية ( ص 82 ) .
(5) الثقافة العربية ( ص82-83 ) .(59/47)
... ثم ختم تركي دراسته بقوله : ( من أجل الاندماج في العصر الحديث ، ومن أجل أن يكون للعرب دورٌ في هذا العالم وإيجابية معينة لابد أن تكون البداية على مستوى الثقافة ، مستوى العقل ، مستوى الخطاب ، قبل أي شيء آخر وذلك من خلال نسق جديد للمعرفة يستوعب الحديث ولا يرفض القديم ولكنه لايغرق فيه أو يسجن نفسه فيه في ذات الوقت . كيف يكون هذا النسق وكيف تكون محدداته وبُناه مسألة لا أجيب عنها وحدي ولا أستطيع الإجابة وليس لي حق الإجابة وحدي إنها مسألة مطروحة ومتروكة لكل قطاعات الانتلجنسيا (1) العربية كي تقدم رؤاها ورؤياها وفق إحساس بالمسؤولية معين ووفق نظرة منفتحة متفتحة ليست أسيرة أي نوع من أنواع الدوغما والثقافة المدرسية (2) وذات منهج متوازن يوائم ما بين الأمل والألم ، الحلم الواقع ، وهذه هي خصائص الانتلجنسيا الجديدة التي على عاتقها يقع الجزء الأكبر من مسؤولية بناء ثقافة عربية جديدة فهل توجد مثل هذه الانتلجنسيا ؟ وهل ستوجد مثل هذه الثقافة الجديدة وتكون نهضة عربية حقيقية أم أن الانقراض هو المصير ، هذه هي المسألة ) (3) .
... قلت : كما هي عادة الدكتور فإنه يستخدم لغةً هي أشبه بالألغاز أو لغة (المجذوبين ) من غلاة الصوفية ، وإلا فما معنى قوله ( كل الطروحات النهوضية العربية تقريباً . . . تدور في فلك التراث ) ثم يوضح هذا بقوله ( بمعنى أنها تدور في النسق التراثي ولا تبني أنساقاً جديدة ) !!! فما هذا اللغو الكلامي الذي لا طائل تحته ؟ فليس الفهم وادعاء ( العقلانية ) يكون باستخدام هذه المعميات ، وأن يخبط المرء خبط عشواء ، لا يدري ما يقول فهذا لا يعجز المرءَ صنعُه ، فالجميع يجيد مثل هذا التلاعب بالألفاظ وتعمية المعاني تحت دعاوى التحليل والتفكير العقلاني !
__________
(1) معناه : الفئة المثقفة ( المغني الوجيز ) للأسعد ( 92) .
(2) !!!
(3) الثقافة العربية ( 86-87) .(59/48)
... وإنما الفهم والذكاء يكونان باستخدام لغة واضحة يتم من خلالها تشريح المشكلة القائمة ثم طرح الحلول التي يرى الكاتب أنها مناسبة لها ، لكي يستفيد من كلامه الناس الذين يخاطبهم هذا المفكر ، بدلاً من تصديع رؤسهم بمثل هذا اللغو غير المثمر .
... ثم أقول : ما يقصد الدكتور بأن كل الطروحات العربية والإسلامية تدور في فلك التراث ؟ هل يعني أنه يطالب بأن يُنبذ التراث !؟ والتراث كما نعلم يدخل في مسماه عند الإطلاق : الكتاب والسنة . فهل يقصد الدكتور هذا ؟ وما هي الأنساق الجديدة التي يريد الدكتور أن نبنيها لنتقدم ونتحضر بزعمه ؟
... هلاَّ وضح ذلك .
... الذي يعلمه العقلاء أننا نحتاج ـ لنتطور ونتقدم دنيوياً ـ إلى أن نتمسك بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة في أحكامنا وسلوكنا ، وعبادتنا ، ثم نفتح آفاق المعرفة ( الدنيوية ) لأفراد الأمة لكي يساهموا فيها بما يستطيعون ، مع دعمهم ، وتسهيل مهمتهم ، ورفع العوائق عن دربهم ، فبهذا نحصل على سعادة الدارين :
... الدنيا: بترقينا فيها مع التزامنا بديننا وعدم التفريط فيه .
... والآخرة : بديننا الذي استقمنا عليه ، فأوصلنا ـ بعد رحمة الله ـ إلى جنة رب العالمين .
... نعم ! بهذه البساطة يمكن علاج مشاكلنا التي لبَّسها علينا الدكتور ، ودعانا إلى نبذ ديننا تحت دعاوى ( نقد العقل ) أو ( الثورة الابستمولوجية ) !! إلى آخر هذا الهراء .
... وكما قلت ـ سابقاً ـ يخلط الدكتور كثيراً بين التقدم ( الدنيوي ) وبين الدين والتزامه ، فيرى أننا لنتقدم ( دنيوياً ) لابد أن نتخفف من ديننا ـ والعياذ بالله ـ ونسي مدعي العقل أن لا علاقة بين الاثنين ـ كما سبق ـ(59/49)
... أما خاتمة دراسة الدكتور فهي أيضاً لغز معمىً يضاف إلى قائمة ألغازه السابقة ، فهو يطالبنا بأن تكون ( البداية على مستوى الثقافة ، مستوى العقل ، ومستوى الخطاب ، قبل أي شيء آخر ، وذلك من خلال نسق جديد للمعرفة ، يستوعب الحديث ، ولايرفض القديم ، ولكنه لايغرق فيه أو يسجن نفسه فيه ، في ذات الوقت) (1) .
... كيف يكون هذا ؟ وما هو هذا النسق الجديد ؟
... يقول الدكتور : ( لا أستطيع الإجابة ، وليس لي حق الإجابة وحدي ) (2) !!!
... كيف لا تستطيع الإجابة ، وأنت الذي نظرَّت ، وحلَّلت ، ودرست حالتنا الثقافية الراهنة ، ثم لما جدَّ الجد ، وجاء وقت تقديم الحل لمشاكلها تسللت لواذاً هرباً من الجواب ! كيف تدعي أنك مفكر ، وأنت لا تستطيع تقديم حلٍ لمشكلة أنت أنشاتها ، وهوًّلتها ، وبنيت عليها كتابك ؟
... حقيقةً ، هذا من العجائب أن يختم الدكتور كتابه بهذه الخاتمة ، وهذا دليل على أن فكر الدكتور من النوع ( الهدمي ) لا ( البنائي ) .
... فهو كالأستاذ الذي يخطَّئ طالبه في أجوبته ، فإذا طالبه الطالب بالحل الصحيح عيَّ وسكت !
... فهل يعقل مثل هذا !؟
... أم أن المسألة مجرد هدم لبناء هذه الأمة ، ولو لم يُقَدم لها البديل ، كما يفعل أبالسة الحداثة عندما يهدمون ولا يبنون ، ويُقيَّضون ولا يشيدون ، والهدم ـ كما يعلم الجميع ـ من أسهل الأشياء ، أما بناء الأمم فهو أمر لا يستطيعه إلا أفذاذ الرجال ، ولا أظن الدكتور ( الهدمي ) منهم ! .
نقد كتاب
دراسات ايدلوجية في الحالة العربية
... هذا الكتاب هو عبارة عن مجموعة من الدراسات والمقالات التي كتبها الحمد في أوقات متفاوتة ، وفي أماكن متفرقة ، ومناسبات مختلفة .
... وعند تأملي لها وجدت أنها لا تخرج في محتواها عن الكتاب السابق للدكتور الحمد ( الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ) .
... لهذا فقد اخترت التعليق على أبرز ما فيها مما يحتاج إلى مراجعة وتعقيب .
__________
(1) الثقافة العربية ( ص86) .
(2) المصدر السابق ( ص 87 ) .(59/50)
المسلمون ليسوا أفضل البشر عند الحمد
... يقول الحمد عن لحظة ( التقاء ) المسلمين بحملة نابليون على مصر : ( إن تلك اللحظة التاريخية تشكل في محيطها العام نوعاً من الحَجَر ألقي في بركة ساكنة من الماء محدثاً بذلك دوائر ودوائر ما زالت تتفاعل وتتداخل حتى هذه اللحظة دون أن تهدأ ودون أن يعود إلى البركة هدؤها واستقرارها . لقد بينت هذه اللحظة الفريدة البسيطة في عرف الزمان لسكان هذه المنطقة من العالم ، أن العالم غير العالم الذي عهدوه وخبروه وأن الكون يحتوي غيرهم من الشعوب وغيرهم من الأمم ليسوا بتلك الدونية التي كانت " مفاهيمهم " (1) المتوارثة تصورها لهم . بمعنى من المعاني ، نستطيع القول أن هذه اللحظة التاريخية قد بينت لهم أنهم ليسوا وحدهم في الكون وأن هذا الكون (العالم ) أوسع مما يتصورون أو تصوره لهم المفاهيم السائدة حوله . بل لقد بينت هذه اللحظة أنهم ليسوا أسياد الكون كما كانوا يعتقدون بل ليسوا أفضل من فيه ) (2)
قلت : لازال الحمد مصراً على تفضيل ( الكفار ) على ( المسلمين ) ، وتفضيل (ثقافاتهم ومن ضمنها أديانهم المحرفة ) على ( ثقافتنا وهي الإسلام ) ولا زال لم يفهم ـ وأظنه لا يريد أن يفهم ـ أن التطور ( المادي ) الذي حظي به الغرب (3) لا يعود إلى أديانهم أو ثقافاتهم ، وإنما يعود إلى استغلالهم خزائن الأرض والكون ( المبذولة لكل أحد ) واندفاعهم في سبيل استثمارها دون معوقات أو مثبطات ، بل بتشجيع العقول ( النابغة ) عندهم ، وتسهيل مهمتها لتنتج وتثمر . . . إلى أن أدركوا هذا التطور (المادي ) المشاهد الذي هو ليس حكراً عليهم .
__________
(1)
(2) دراسات ايدلوجية في الحالة العربية ( ص8) ط1- 1992م .
(3) وكذا غيرهم ، كاليابان ( الشرقية ) . فلا أدري لماذا الإصرار على الغرب وحده من الحمد أم أن دراساته الأولى في أحضانهم قد آتت أكلها في عقليته فلم يعد يرى سواهم (59/51)
... بل ـ كما سبق ـ كل من بذل أسبابه سينال منه ما قدره الله {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } (1) .
... فلا أدري لماذ يتجاهل تركي هذا ولماذا يضخم الموضوع تضخيماً مبالغاً فيه ، ويصور أن تحقيقه لن يكون إلا بأن تتخلى الأمة عن دينها ( وهو يسميها مفاهيمها المتوارثة ) .
وقوله بأن المسلمين ليسوا أفضل من في العالم ، هو قول ( كفري ) والعياذ بالله ، لا يخفى على من عرف مبادئ الإسلام . حيث فضَّل ( الكافرين ) على ( المسلمين ) . نعوذ بالله من الخزي والمهانة ودناءة النفس التي تجعل المرء يستصغر نفسه وأمته أمام أعداء الله ، فينظر إليهم نظر المتسول المستشرف لما عندهم من ( مفاهيم ) و (ثقافات).
... وليعلم الحمد أن الغرب وإن تطور ( مادياً ) فهو باقٍ على ( نصرانيته ) القديمة ، معتز بها . وهكذا اليهود ، وهكذا غيرهم من ( الوثنيين ) كأهل الشرق ـ مثلاً ـ
... فلم يتغير شيء على وجه الأرض منذ ظهر الإسلام ، كما يزعم الحمد ، لأن الكل باقٍ على ( ديانته ) ومعتز بها ، بل ومنافح عنها .
... وإنما الذي تغير أن هذه الأمة تأخذ بأسباب التطور ( المادي ) فتتطور ، وتلك تقصر عنها فتبقى في مكانها .
... فلماذا التهويل يا تركي ؟ وكأن العالم قد نقلب رأساً على عقب كما تريد أن تصوره لنا .
الحضارة ( المادية ) مرتبطة بأديان وثقافات الكفار عند الحمد:
... لا يرتضي الحمد لنا أن نأخذ بحضارة الغرب ( المادية ) لأنها مرتبطة (بثقافتهم) ، فإما أن نأخذهما جميعاً ، أو نذرهما جميعاً .
__________
(1) سورة الإسراء ، الآية :20 .(59/52)
... يقول الحمد : ( إن التاريخ العربي الحديث والمعاصر يبين أن عملية " التوفيق " هذه هي عملية كمية وليست كيفية. بذلك نعني محاولة دمج ما لا يدمج ومزج ما لا يمزج وذلك وفق مقولة " نأخذ منهم ما يتفق وقيمنا ونترك الباقي " وقد ترجمت هذه العبارة في كثير من الأحيان على أساس " استيراد" المنتجات المادية لحضارة الغرب المعاصر دون التعرض لمسألة القيم والايديولوجيا ( وفق الفهم الشمولي ) . بمعني آخر فإن هذا الموقف يفصل ما بين منتجات الحضارة المادية وما بين منتجاتها أو إفرازاتها الثقافية والأيديولوجية ، ويدعو إلى أخذ الأولى ورفض الثانية .
... وهذا الموقف ، في رأينا يشكل استحالة منطقية واجتماعية في آن واحد . فالحضارة أية حضارة ، هي عبارة عن كل واحد ليست افرازاتها المادية إلا نتاج لإفرازاتها الثقافية والايديولوجية وهذه بدورها ليست إلا إفرازاً للنتاج المادي وذلك في وحدة جدلية فاعلة ومنفعلة في آن معاً . والاستحالة تنبع ، من الناحية السوسيولوجية ، من استحالة الجمع " الكمي " بين الشق المادي لحضارة ما والشق الثقافي الايديولوجي لحضارة أخرى ) (1) .
... قلت : يحاول الحمد من خلال هذا القول ( الكاذب ) أن يسد جميع المنافذ على الأمة ، ويحاول أن يقودها إلى ما يريد .
... فإن هي التزمت بدينها وصمها بالتخلف والانغلاق ، وفضل غيرها عليها .
... وإن هي حاولت أن تستفيد من حضارتهم ( المادية ) صاح بها بأنها لن تستطيع هذا لأن حضارتهم ( المادية ) مرتبطة بثقافتهم ، فإما أن تأخذها جميعاً ، أو تتركها جميعاً
... فماذا تفعل الأمة بعد أن سدَّ الحمد عليها المنافذ ؟ سيأتي ما يريده منها .
... أما هنا فلنناقش قوله بأننا لا نستطيع أخذ التطور ( المادي ) دون أخذ الايدلوجيا أو الثقافة .
فأقول : ما المانع من أن نفعل هذا ؟
ثم ما هو هذا التطور ( المادي ) الذي سيرتبط بالثقافة ؟
__________
(1) دراسات ايدلوجية . . . ( ص 76 ) .(59/53)
الذي يعلمه الجميع أن قمة الحضارة المادية اليوم هي في :
ـ بلوغ الذروة في مجال الفضاء : صناعة طائرات مدنية أو حربية ، صناعة صواريخ متنوعة ، اطلاق أقمار صناعية ومركبات فضائية .
ـ بلوغ الذروة في انتاج أنواع الأسلة الحربية المتنوعة .
ـ انشاء المصانع المختلفة المتطورة : صناعات حربية ، صناعات استهلاكية ، صناعات ثقيلة . . . الخ
ـ التفوق في عالم الاتصالات والحاسب : إنشاء شبكاته ، صناعة أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية ، أنظمة وأجهزة الحاسب الآلي ، الإنترنت .
ـ التفوق في الزراعة : أجهزة زراعية متطورة ، تخطيط نافع لما يُزرع وكميته ونوعيته ..
... هذه ـ في ظني ـ أبرز ملامح التطور (المادي) المعاصر الذي من حصَّله فقد فاق غيره في القوة ، وأصبحت له سيادة ومهابة.
... فما دخل كل هذه بالايدلوجيا والثقافة !؟
... وهل كل ما سبق سوى عقول بشرية استفادت مما بثه الله على سطح وفي أعماق الأرض وفي الكون من طاقات كامنة تنتظر من يتوصل إليها فيستغلها ، فاستطاعت أن تسخرها لخدمة أوطانها وبلادها .
... فما الذي يمنعنا من :
1 ـ استقدام خبراء وفنيين يكونون نواةً لمن بعدهم في استغلال طاقات وكنوز بلادنا.
2 ـ تشجيع النابغين من أبنائنا ، وجلب ما يحتاجونه من مواد ومعدات لكي ينتجوا ويحققوا أهدافهم كما فعل غيرنا .
3 ـ ومن ثمّ نحصّل ما حصله غيرنا بعد أن أسسنا البنية التحتية السليمة .
... أعود فأقول : ما دخل كل هذا بالايدلوجيا والثقافة التي يوهمنا بأنها مرتبطة بهذا التطور (المادي) !؟
... هل يخشى الحمد أن تسير الأمة على هذا الدرب فتصل إلى ما وصل إليه غيرها دون أن تفقد هويتها أو تفرط في دينها !؟ فأراد أن يسد عليها هذا المنفذ ، لكي تضطر إلى الاستجابة إلى (فكرته) التي تدعو إلى (الشك) في كل شيء و(هدم) كل شيء لنبدأ مشوارنا من جديد ـ كما زعم الحمد ! ـ
الحمد يدعو إلى نقد الكتاب والسنة الصحيحة !!
... يقول الحمد موضحاً فكرته :(59/54)
... ( إن المطلوب في هذه المرحلة التاريخية الحرجة ( وكل فترة تاريخية هي فترة حرجة في حقيقة الأمر ) هو سيادة العقل النقدي لدى المثقف العربي خاصة ومثقف العالم الثالث عموماً ، وذاك يعني أول ما يعني التخلص بوعي كامل من محددات العقل ( الدوغماتي) (1)
__________
(1) الدوغماتية : مصطلح نصراني كاثوليكي مشتق من كلمة (دوجما) ومعناها : المبدأ ذو الصحة المطلقة ، ويرتبط هذا المصطلح بالإلهام الذي تزعمه الكنيسة لنفسها ، ويدخل في نطاقه الادعاء المثير للسخرية وفحواه أن بابا الفاتيكان معصوم ، وذلك بموجب دوجما صدرت عام (1870م) !! وأصبحت الدوجماتية وصفاً يطلق على الحركات الشمولية كالشيوعية والفاشية .
وفي نطاق ببغاوية اللادينيين العرب أصبحوا يفترون على الإسلام بإلصاق الدوجماتية به ظلماً وعدواناً ، مع أنهم هم الأجدر به ، لأن الاقتناع بالإسلام أمر اختياري يلي التفكير والتدبر قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ( البقرة : 256.
فالدوجماتية ـ فعلاً ـ هي نقل مصطلح كنسي وتعميمه ليشمل الدين الذي يرفض الإكليروس وادعاء العصمة لأي مخلوق سوى الأنبياء ـ عليهم الصلاة و السلام ـ ، وهو الدين الذي لا تتناقض مبادؤه مع أي حقيقة علمية !! )) ( المغني الوجيز ) للأسعد ( ص161 ـ 162 ) .(59/55)
بكافة تفرعاته الايديولوجية والخطابية سواء ما كان منها يتجه شرقاً أو غرباً وما يتجه منها إلى أعماق التاريخ يستفتيه أو ما يسيح منها في عالم الجغرافيا يستنطقه . وعندما نقول سيادة العقل النقدي والتخلص من العقل الدوغماتي فإن ذلك يفرض علينا بادىء ذي بدء التخلص من فرضية نجدها سائدة في حنايا العقل العربي قديمة وحديثة ألا وهي فرضية الحقيقة المطلوبة في مقابل النسبية وحركية الحياة والتاريخ ، فمن الملحوظ أن المثقف العربي على اختلاف مواقعه الايدلوجية والمعرفية والاجتماعية ، يشكل البحث عن الحق والمطلق ثابت الثوابت في تنظيره وخطابه سواء كان ذلك بشكل واع أو غير واع . ولأجل ذلك ، كما أرى ، فإن حياتنا الثقافية والعقلية وإن كان ظاهرياً تتصف بالتعددية إلا أنها هيكلياً ليست ألا انبثاق لعقلية واحدة ونظرة أحادية واحدة للكون والمجتمع ، ولأجل ذلك عجزت النهضة العربية المعاصرة عن تحقيق النهضة وعجزة الثورة عن تحقيق الثورة وعجزة الأصالة عن تحقيق الأصالة وكذلك الحداثة عجزة عن تحقيق الحداثة .(59/56)
... إن المطلوب إذن هو عقل نقدي وهذا لا يكون إلا بإلغاء محددات العقل الدوغماتي من حياتنا ، ولا يكون ذلك إلا باعتناق النسبية وديمومة الحركة ، وكل ذلك لا يكون إلا بنوع من الثورة المفاهيمية في الحياة العقلية العربية . ثورة مفاهيمية شبيهة بتلك الثورة التي استهلها عصر النهضة الأوروبية حيث كان الانقلاب الجذري في نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى مجتمعه والى الكون من حوله . بمعنى آخر ، فنحن بحاجة إلى نوع من النظرة النقدية التي تعيد موضعة الإنسان بالنسبة إلى نفسه ( مفهومه عن نفسه ) وبالنسبة إلى مجتمعه ، وبالنسبة إلى الكون الذي يعيش فيه . وعندما نقول نظرة نقدية أو عقل نقدي فإن البعض قد يعتقد أن ما نقوله هنا ليس إلا جزءاً من موقف القبول المطلق بالغرب ومفاهيم الغرب والذي انتقدناه بدءاً وإن ذلك سوف يؤدي إلى انقطاع كامل وجذري مع التراث والتاريخ الخاص بنا كأمة وجماعة . نرد هنا فنقول إن المسألة ليست كذلك ، فالنظرة النقدية أو العقل النقدي يقف دائما موقف ((المرتاب)) أو الشاك تجاه ما يأتيه من هنا أو هناك ، من أعماق التاريخ أو من مجاهل الجغرافيا فيصيغ كل ما يأتيه وفق ما تقتضيه حركة التاريخ والمجتمع غير ناسف في ذلك عمومية المفهوم أو خصوصية المجتمع الذي يعمل فيه . إن القبول المطلق أو الرفض المطلق أو التلفيق الكمي هي مواقف دوغماتية في جوهرها حيث أنها تأخذ كلاً أو ترفض كلاً دون مراعاة عامل الحركة في التاريخ والمجتمع ) (1) !!
... إذن فقد صرّح الحمد بمراده بعد طول تردد !
... فهو باختصار يريد من الأمة !
1 ـ أن يسود فيها (العقل) .
2 ـ أن تتخلص من ( العقل الدوغاني بكافة تفرعاته الايدلوجية والخطابية.. ) أي أن تتخلص من كل ما يقيد هذا العقل ، ولو كان قول الله ـ عز وجل ـ ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم !! فإن هذين ـ كغيرهما عند الحمد ـ سيخضعان للعقل النقدي الذي يبشّر به ويدعونا إليه !!
__________
(1) دراسات أيدلوجية ... (77) .(59/57)
3 ـ أنه ليس لدينا (حقيقة مطلقة) ، لأن كل شيء قابل للنسبية والتطور ! فكما أن كل شيء يتطور فكذلك الحقيقة تتطور ! فليس شيء ثابتاً عند الحمد ولو كانت أقوال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يُصرّح بهذا !
4 ـ يطالبنا الحمد لتحقيق (العقل النقدي) أن نكون من (الشاكين) (المرتابين) فلا نقبل أي شيء دون عرضه على هذا العقل النقدي ، فإن قبله قبلناه ، وإن رفضه رفضناه ، ولو كان قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلابد من الشك والارتياب فيهما لكي نتطور ! وصدق الله إذ قال عن الكافرين والمنافقين : { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب } (1) فهذا نهاية ما يدعونا إليه الحمد من (الشك) ، و( الارتياب ) أن يحال بيننا وبين ما نشتهي ـ والعياذ بالله ـ
... ثم إن الحمد في دعوته إلى ( العقل النقدي ) لم يأت بجديد ، وإنما مردد لما قام به طه حسين تقليدأ لديكارت من الشك في كل شيء ولو نصاً من القرآن أو من السنة الصحيحة !
... فجاء الحمد مردداً هذه الفكرة ( البائدة ) في بلادنا ، التي لم ترض بغير الإسلام بديلاً ، ولو كره الشاكون المرتابون (2)
الحمد يزعم أن حياة الرسول ? متناقضة !!
__________
(1) سورة سبأ ، الآية : 54 .
(2) انظر في الرد على العقلانيين : " موقف المدرسة العقلية من السنة " للأمين الصادق الأمين ، و" العقلانيون " لعلي حسن عبد الحميد ، " والعقلانية هداية أم غواية " لعبد السلام البسيوني .(59/58)
يقول الحمد تحت عنوان ( ايدلوجيا المثقف التقليدي ) : ( إن الايديولوجيا التقليدية ، والتي يحملها الشيخ كما في كتابات العروي ، أو السلفي كما في كتابات الجابري ، هي ايديولوجيات تقرأ الحاضر في الماضي ، وتنفي البعد الزماني في قراءتها . بمعنى آخر ، ووفق تعبير الجابري فإنه : " عندما يقرر السلفي أن العرب والمسلمين عامة لن ينهضوا إلا بمثل ما نهضوا به بالأمس ، مستعيداً قوله الإمام مالك " لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " ، فهو يفكر في النهضة داخل مجال خاص ، داخل منظومة مغلقة هي تلك يقدمها له النموذج الحضاري العربي الإسلامي في القرون الوسطي والتي تشكل إطاره المرجعي الوحيد . . . " (1) بمعنى آخر ، فإن أيديولوجيا التقليدي تتضمن استلاباً زمنياً معيناً ، يتلخص في أن المثقف التقليدي ( الشيخ ، السلفي ) إنما يعيش في " حلم زاه " مفصول الجذور عن الواقع المعاش واللحظة التاريخية الراهنة . أي أن الايديولوجيا التي يحملها التقليدي هي بمعنى من المعاني وفق المفهوم الماركسي الكلاسيكي : وعي زائف وغيوم تحجب الحقيقة التاريخية الفاعلة . وكل شيء وفق ايديولوجيا هذا المثقف خاضع لإطاره المرجعي ، أو نموذجه المثالي وفق مفهوم ماكس فيبر ، الذي هو في غالب الأحيان لا يتجاوز فترة حياة الرسول والمرحلة الراشدة ، رغم تناقضاتها العديدة إذا درست وفق منهج تاريخي موضوعي ) (2) !!
__________
(1) الجابري ، الخطاب العربي المعاصر ، ص92
(2) دراسات ايدلوجية . . . ( ص 90 ) .(59/59)
... قلت : مقولة الإمام مالك ـ رحمه الله ـ لم يفهمها هؤلاء الجهلة ( العروي ـ الجابري ـ الحمد ) (1) فالإمام مالك يبين في كلمته تلك بأن المسلمين لن تصلح أحوالهم ، وعلى رأسها الأحوال الدينية ، إلا بأن يتمسكوا بالإسلام الذي جاء به القرآن والسنة الصحيحة ، وهو الذي كان زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ دون أن يزيدوا عليه ببدع وخرافات ومقولات كلامية ما أنزل الله بها من سلطان ، ودون أن يفرطوا فيه وينقصوا منه .
... لأنه تعالى يقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) .
... ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول " ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " قالوا : يارسول الله ومن هم ؟ قال : " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " (3) وهذا في أمر ( الدين ) كما هو معلوم لكل عاقل يريد أن يفهم ، وهذا هو الذي يقصده الإمام مالك (4) .
... أما أمر ( الدنيا ) فهي خاضعة للتطور ، وعلى الأمة أن تسعى لتحصيلها والاستفادة من تطورها .
... أما إن كان العروي والجابري والحمد يقصدون أن الحق قد يكون في غير (الإسلام ) أي في غير ( الكتاب ) و ( السنة الصحيحة ) ، وأنه ليس مقصوراً عليها ، وأن من حصر الحق في ماجاء به الإسلام فهو ( مثقف تقليدي ) فهذا ـ والعياذ بالله ـ ردة عن دين الله ، حيث اعتقدوا أن غيره من الأديان أو الثقافات ألاخرى قد تكون أفضل منه ، أو أنها مصيبة وهو مخطئ ، نعوذ بالله من ذلك .
__________
(1) انظر بيان حال ( العروي والجابري ) كتاب الاستاذ أنور الجندي ـ حفظه الله ( كتّاب العصر تحت ضوء الإسلام).
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .
(3) أخرجه الترمذي ( 5/ 26) وصححه ابن القيم في مختصر الصواعق ( 2/410 ) .
(4) فتطبيق مقولته ـ رحمه الله ـ ليس مستحيلاً كما يدعي الحمد في كتابه (ص 103 ) .(59/60)
... فهي طعن بدين الإسلام ، وعدم رضىً بما جاء فيه ، بل والشك والارتياب في مبادئه الثابتة بالكتاب والسنة ، بل شك وارتياب بالكتاب والسنة نفسهما ! كما لا يخفى على عاقل يفهم ما يلمحون إليه .
... ومما يؤكد هذا : اتهام الحمد في آخر كلامه ( حياة الرسول (1) المرحلة الراشدة) بأن فيها تناقضات عديدة !! ( إذا دُرست وفق منهج تاريخي موضوعي ) !! فهل بعد هذا ( الفكر ) من كفر !؟ حيث يدعي هذا ( الضال ) بأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين متناقضة !
... ولا ندري ماهو المنهج التاريخي ( الموضوعي ) الذي سيطبقه الحمد على حياة أشرف أنبياء الله حتى يبين تناقضها !؟ أهو منهج الشك ، أم منهج ( بقايا) الشيوعيين !؟
... لقد خبت وخسرت في قولك هذا عندما اتهمت حياة نبيك صلى الله عليه وسلم بأنها متناقضة ، ولا ندري متناقضة مع ماذا ؟
... وصدق الله إذ يقول لنبيه : ( إن شانئك هو الأبتر ) (2) .
الحمد يتهم آل سعود بالاستغلالية والنفاق !!
... يقول الحمد : ( إن تعاليم الشيخ (3) لعبت ـ وتلعب ـ دوراً محورياً في التاريخ السياسي للجزيرة العربية بشكل عام ، فقد أعطت الوهابية الأسرة السعودية المالكة أساساً ايدلوجياً لاضفاء الشرعية على مطالبها وطموحاتها السياسية في السيطرة والسلطان ) (4) !! إذن فآل سعود ـ عند الحمد ـ منذ محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ وإلى اليوم ( خادم الحرمين ) وفقه الله لطاعته ، مروراً بالملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ قد استغلوا تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أي الدعوة السلفية ، لتحقيق طموحاتهم في الحكم .
__________
(1) صلى الله عليه وسلموالحمد من عادته المطردة أن لا يصلي ولا يُسلم على نبي الله صلى الله عليه وسلم ذكره ! .
(2) سورة الكوثر ، الآية 3 .
(3) محمد بن عبد الوهاب ـ رحمة الله ـ .
(4) دراسات ابدلوجية . . . ( ص 140 ).(59/61)
... فهم لم يناصروها حباً في الإسلام أو في الدعوة السلفية وإنما طعماً في مُلك زائل يتسلطون به على رقاب المسلمين !
... فهو يُشَبّه آل سعود بالمنافقين الذين يبطنون مالا يُظهرون ـ والعياذ بالله ـ .
... ونسي هذا الجهول جهاد محمد بن سعود وأبنائه وأحفاده ( عبد العزيز ـ سعود ـ عبدالله ) في سبيل هذه الدعوة السلفية ونشر مبادئها ، بل وتعلمها وتعليمها ، وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف ، مع أن بإمكانهم مهادنة أعداء الدعوة مع الاحتفاظ بملكهم .
... ونسي ـ أيضاً ـ جهود تركي بن عبد الله وابنه فيصل في سبيل إعادة مبادىء الدعوة ونشرها بين الناس ، والذود عنها ، وعدم الرضا بغيرها ، مع أنهم ـ كأسلافهم ـ يستطيعون مهادنة الأعداء ، الذين سيقبلون ذلك ، مع الاحتفاظ بملكهم دون أن تمسه يد مغتصب .
... ونسي أيضاً جهاد الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في سبيل انشاء دولة (سلفيه ) معاصرة ، تحرص على نشر الدعوة السلفية ، ولا ترضى عنها بديلاً من أفكار وثقافات كان يعج بها العالم العربي والإسلامي .
... نسي الحمد كل هذا واتهم آل سعود بالنفاق ، لأته لم يرتضِ مشربهم ولا مبادئهم ، وإنما نفسه تنزع إلى غيرهم من ( شياطين ) حزب البعث والماركسية – كما سيأتي ـ .
ثلاثية
تركي الحمد
ثلاثية تر كي الحمد تسمى ( أطياف الأزقة المهجورة ) وهي من ثلاث حلقات أو روايات متسلسلة تحكي قصة بطل واحد هو ( هشام العابر ) .
الحلقة الأولى : بعنوان ( العدامة ) (1)
الحلقة الثانية : بعنوان ( الشميسي ) (2)
__________
(1) وسأعتمد على الطبعة الثانية الصادرة عام ( 1998م ) عن دار الساقي بلبنان . والعدامة حي مشهور من أحياء مدينة الدمام .
(2) وسأعتمد على الطبعة الأولى ، الصادرة عام ( 1997م )عن دار الساقي بلبنان . والشميسي شارع وحي مشهور في مدينة الرياض .(59/62)
الحلقة الثالثة : بعنوان ( الكراديب ) (1)
1 ـ العدامة :
بطل هذه الثلاثية هو ( هشام بن إبراهيم العابر ) شاب صغير السن يعيش مع والديه في مدينة الدمام في فترة الثمانينات الهجرية . وأما اصلهم فيعود إلى القصيم ! .
وكان هذا الفتى الصغير مولع بالقراءة ومتابعة مايدور من حوله من أحداث وأفكار في تلكم الفترة الصاخبة بالشعارات ، فاعتنق لأجل هذا الفكر القومي الماركسي الذي كان متوهجاً ساحراً لكل متفتح على الحياة ، لا سيما بعد نجاح هذا الفكر ( على اختلاف درجاته ) في الاستيلاء على البلاد العربية مما زاد من رصيد معتنقيه الذين رأوا فيه خير موحد للأمة العربية التي مزقها الاستعمار .
... لهذا : اعتنق هشام هذا الفكر وآمن به ، ثم استطاع تنظيم ( حزب البعث بالسعودية !! ) أن يضمه إليهم كعضو جديد في الحزب بعدما أعجبوا به وبأفكاره .
... استمر هشام يحضر اجتماعات الحزب ( السرية ) ، ويشارك في نقاشاتهم وفي إعداد التقارير لهم عن الأحوال السياسية الجارية .
... كما أنه استطاع أن يضم صديقه ( عدنان العلي ) إلى هذا الحزب ، إلا أنه برغم كل هذا يود التخلص من الارتباط بعضوية الحزب ، مع البقاء على أفكاره دون أن يشعر بأي تقييد .
... سافر هشام إلى الرياض لتقديم أوراقه إلى كلية التجارة مؤملاً أن يدرس شيئاً عن الأفكار والأنظمة السياسية المختلفة . فاضطر للسكن في بيت خاله ( المتدين ) .
... كان أولاد خاله يختلفون عنه كثيراً في أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم ، وحيث كانوا مقبلين على اللهو والتمتع بالحياة ولم تكن الأفكار الفلسفية والأحداث السياسية تستهويهم لا سيما ( عبدالرحمن ) الذي تميز عنهم بحبه للمغامرات (النسائية) مع شربه للخمر ( أو العَرَق ) .
__________
(1) وسأعتمد على الطبعة الأولى ، الصادرة عام ( 1998م ) عن دار الساقي بلبنان ، والكراديب رمز للسجن .(59/63)
... تغيرت أحوال هشام بسبب ابن خاله عبدالرحمن الذي أغراه بالتمتع بشبابه ومعاقرة الخمر والنساء فانساق هشام معه تدريجياً إلى أن سقطت جميع المثل التي كان يراها في السابق من عينيه بفضل رعاية والديه له في الدمام . فأقبل على حياته الجديدة بنهم شديد وبعلاقات نسائية متتالية .
... كان هشام قد سافر من قبل مع أهله إلى بلدهم الأصلي ( القصيم ) لزيارة جده وجدته .
... وهناك تعرف هشام على (عبد المحسن التغيري ) الذي عرَّف هشاماً على بقية زملائه من خلال ( كشتات ) البر . وهم ( محمد الغبيرة ) و( دعيس الدعيس ) و(سليم السنور ) و ( صالح الطرثوث ) و( مهنا الطعيري ) وكانوا جميعاً من المهووسين بجمال عبد الناصر وبقوميته لا سيما ( مهنا الطعيري ) .
... عاد هشام إلى الدمام مواصلاً ترقب أخبار الاعتقالات التي حدثت لأفراد الحزب والأحزاب والتنظيمات الأخرى المعارضة ( للحكومة السعودية ) ومواصلاً أيضاً غزله المتبادل مع بنت الجيران ( نورة ) .
... وبهذا انتهت الرواية ألأولى من ثلاثية تركي الحمد .
... لتبدأ بعدها أحداث الرواية الثانية ( الشميسي ) .
2 ـ الشميسي :
... تكاد تكون أحداث رواية الشميسي مخصصة لحال هشام في مدينة الرياض ، وهذا مايوحي به اسمها ( الشميسي ) الذي هو أسم شارع شهير في مدينة الرياض .
... سجل هشام في كلية التجارة وانتقل إلى السكن عند خاله في الرياض ، وكثرت ملابسته للمحرمات من شراب ونساء بواسطة ( عبد الرحمن ) ابن خاله .
... ثم ارتبط بعلاقة غير شرعية مع جارة خاله ( سارة ) أو ( سوير) وأصبح يتردد عليها .
... تفاجأ هشام بالتزام صديقه عدنان ، الذي اختار سبيل الخير مسلكاً له وارتبط مع شباب صالحين أثناء قدومه للدراسة الجامعية في الريا ض ـ أيضاً ـ .
... انتقل هشام للسكن في عزبة مع ( عبد المحسن التغيري ) الذي قدم الرياض من القصيم لكي يأخذ ـ أي هشام ـ حريته الكافية التي كانت مقيدة نوعاً ما في منزل خاله .(59/64)
... انتهت امتحانات نصف العام فذهب هشام إلى الدمام لزيارة أهله مواصلاً علاقته العاطفية مع ( نورة ) بنت الجيران بعد أن علم بزواجها .
... رجع هشام إلى الرياض مواصلاً ـ أيضاً ـ مغامراته النسائية لا سيما مع (سوير ) التي حملت منه
... جاء والده فجأة لزيارة الرياض لاخباره بأنه مطلوب من قبل رجال الأمن (المباحث ) .
... وبعد أخذ ورد قرر الوالد اخفاءه عن أعين الأمن عند أحد زملائه إلى حين استصدار جواز مزور له لكي يتمكن من الهرب إلى بيروت (1) عن طريق البحرين ، ولكن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حيث قبضوا عليه وحققوا معه ثم قرروا ترحيله إلى جدة لمواصلة التحقيق ( الجاد ! ) معه .
... بهذا الحدث انتهت رواية الشميسي وهي الحلقة الثانية من ثلاثية تركي الحمد ، لتبدأ بعدها أحداث الحلقة الأخيرة من الثلاثية وهي رواية ( الكراديب ).
3ـ الكراديب :
هذه الرواية مخصصة أحداثها لبيان أحوال هشام في السجن في جدة بعد أن حُقق معه ولكنه أبى الاعتراف بانتسابه إلى تنظيم ( حزب البعث ) ، فقرروا أن يلبث في السجن إلى حين ، حيث تعرف من خلال السجن على ( عارف ) وهو أحد الشيوعيين فبدأت بينهما نقاشات حول أفكار بعضهما مع شد وجذب ، لأن كل واحد منهما يؤيد فكرته لتصحيح الأوضاع .
... اعترف هشام بما يريده السجانون فنقلوه من مكانه إلى مكان آخر أفضل منه. حيث تعرف ـ أيضاً ـ على ( وليد ) الذي يؤمن بالقومية كحل لأفراد الأمة ، و (عبد الله ) الذي ينتمي إلى ( الجبهة الديمقراطية ) وهي جبهة منفصلة عن حزب البعث ، ( ولقمان ) الذي ينتسب إلى الإخوان المسلمين ! .
... استمرت النقاشات بين هؤلاء الأربعة ، وكلٌ منهم يحاول أن يبين صحة نظرة واختياره هذا المسلك الذي سلكه ، وارتضاه دون غيره .
__________
(1) كانت ملجأ للمعارضين ذاك الزمان (59/65)
... بعد مدة من الزمن تم الافراج عن هشام الذي عاد فوراً إلى الدمام ، ولكنه وجد كل شيء حوله قد تغير ولم يعد يحمل ذكرى الماضي لا سيما وأبوه قد انتقل إلى في بيتٍ جديد بدل بيتهم القديم الذي عاش فيه سنيه الأولى .
... بعد أخذ ورد قرر أهله أن يعود إلى مواصلة دراسته في الرياض ، فعاد إليها مندهشاً لمدى تغيرها عن عهده القديم بها ، في مبانيها وفي أفرادها ( وهو ينظر بعينين فقدتا بريقهما ، إلى أزقة كانت مأهولة ، فلم تعد إلا أزقة مهجورة تجوبها أطياف لاحياة فيها ، ولكنها لا تريد أن تموت ) (1) ، وبهذا انتهت .
أحداث الحلقة الأخيرة من ثلاثية تركي الحمد .
ملامح بطل الثلاثية : هشام العابر :
لنتبين ملامح ( هشام العابر ـ أو تركي الحمد ) في هذه الرواية سأقتطف بعض العبارات من الثلاثية تُكون لنا صورة متكاملة لشخصية ( صفاته وطموحاته ) لتأتي بعدها مناقشته في أفكاره :
1ـ هو شاب يحب القراءة : لاسيما قراءة الكتب ( المحرَّمة ) الفلسفية والماركسية .
( لقد خرج إلى الدنيا وهو لا يعرف إلا هواية واحدة ، ولذة واحدة هي القراءة ، ويقرأ أي شيء ، وكل شيء تقع عليه يده ) (2)
( أخذت القراءات الفلسفية والسياسية تجذبه كثيراً منذ أن أهداه أحد أصدقاء والده كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد " لعبد الرحمن الكواكبي ، حتى أنه كان يقضي ليالي بطولها في قراءة النصوص الماركسية والقومية والوجودية وغيرها من التيارات الفلسفية والسياسية مما تقع عليه يده في المكتبات المحلية ، أو يحصل عليه مما هو غير متاح في المكتبات ) (3)
... ( في المرحلة الثانوية أهمل الدراسة إهمالاً تاماً ، ولولا خشيته من جرح كبرياء والده وقلب أمه لما درس إطلاقاً ، وتفرغ لعالمه الجديد من القراءة واكتشاف النصوص المحرمة ) (4)
__________
(1) الكراديب ( ص288)
(2) العدامة ( ص9 ) .
(3) العدامة ( ص9 ).
(4) العدامة ( ص10) .(59/66)
... ( لم تعد الكتب المتوفرة في المكتبات المحلية ترضي شغفه بالعالم الجديد الذي اكتشف ، فكان في كل رحلة مع والديه إلى الدول المجاورة ، الأردن أو سوريا ولبنان يجلب معه بعضاً من تلك الكتب الممنوعة والمحرمة ، والتي تكون زاده المعرفي طوال الفترة اللاحقة ) (1) .
... ( كان ينفق كل مصروفه على الكتب الماركسية غير المتاحة في بلده ، وخاصة مؤلفات آرنستوتشي غيفارا ، وريجس دوبريه ، وفرانز فانون ، بالإضافة إلى مؤلفات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وترو تسكي وستالين ، التي تشكل الزاد الفكري الرئيسي .أما ما كان يهزه من الداخل فعلاً ، فقد كانت مؤلفات غيفارا التي كانت تدغدغ شيئاً ما داخل ذاته . كانت هذه الكتب ، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والروائية العالمية الخالدة ، تباع بأرخص الأسعار على أرصفة الشوراع في عمان ودمشق وبيروت ، وعلى عربات أشبه بعربات الخضار . التهم خلال رحلاته ، وبعد العودة ، كل روايات مكسيم غوركي خاصة ، وأهم الروايات الخالدة في الأدب الروسي عامة . قرأ " آنا كرنينا " و " البعث " لليو تولستوي ، " والجريمة والعقاب " "والأخوة كارامازوف " لفيدور دوستويفسكي ، " الدون الهاديء " لميخائيل تشولوكوف . وقد أثارت فيه رواية " الأم " لغوركي أحاسيس وانفعالات عنيفة متداخلة ، من الغضب إلى الحماس إلى البكاء إلى العطف إلى القسوة إلى الرقة ، مما جعله يعيد قراءتها مرات ومرات . بكى عدة مرات مع العم توم في كوخه ، وعاش مع لانغ وزوجته في أرضهما الطيبة ، وتعاطف كثيراً مع مدام بوفاري بنفس القدر الذي حنق فيه على سكارليت أوهايرا . وكان يختلس لحظات طويلة يقرأ فيها ألبرتو مورافيا وبلزاك واميل زولا ، لا حباً في ذات هذه الأعمال دائماً ، ولكن بحثاً عن مشهد جنسي هنا ، أو وصف لعلاقة حميمة هناك ويتصور في لحظة حلم يقظة أنه البطل في كل هذه العلاقات.
__________
(1) . العدامة (ص12)(59/67)
أما ذلك الوصف الأخاذ للحياة الاجتماعية في هذه الأعمال ، فلم يكن يهمه كثيراً ، إذ كان يعتقد أن الأدب الروسي لا يعلى عليه في هذا المجال كما قرأ بعض روايات تشارلز ديكنز ، وأعجبته خاصة " قصة مدينتين " ، التي اعتبراها ، مع " الأم" أفضل أعمال يمكن كتابتها . كان ينفق مصروفه على هذه الكتب ) (1) .
2ـ هو يريد أن يكون مفكراً طليقاً ، لا يتقيد بأي دين أو مذهب سوى ( العلم ! ) .
... ( يذكر ذات مرة أنه دخل في مجادلة مع مدرس الدين حول نظرية النشوء والإرتقاء لدارون ، حين شتم هذا المدرس النظرية واصفاً إياها بالفكر والإلحاد ، وشتم صاحبها واصفاً إياه باليهودية والمؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين . يذكر يومها أنه قال للمدرس إن هذه النظرية إنتاج علمي ، والعلوم هو سيد العصر شئنا أم أبينا . قد يخطىء دارون وقد يصيب بشأن أصل الإنسان وأصل الأنواع ولكن التطور حقيقة تفرض نفسها ، كما أن دارون ليس يهودياً لا أباً ولا أماً . يومها اتخذ منه مدرس الدين موقفاً عدائياً ، واصبح لا يناديه إلا بالفاسق . ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً بل لم يكن يهمه على الإطلاق، مع ذلك الحماس وذلك الإنطلاق الذي وجده في عالمه الجديد ) (2) .
... ( أريد أن أكون مفكراً طليقاً ، لا مناضلاً سياسياً في تنظيم ) (3) .
3ـ هو ماركسي المذهب ، ليس كالماركسيين ، بل يحب المزج بين الماركسية والقومية العربية :
__________
(1) العدامة ( 12-13) .
(2) العدامة (ص 14-15)
(3) العدامة ( ص26) .(59/68)
... ( أعجبته كتابات ياسين الحافظ وكذلك المنطلقات ، إذ وجد فيها مزيجاً أخاذاً ومثيراً من الماركسية والقومية . وجد فيها شيئاً كان أنه ينقص الكتابات الماركسية التي قرأ ، وكذلك الكتابات القومية على اختلافها . فقد سبق له أن قرأ " في سبيل البعث" لميشيل عفلق ، وبعض كتابات منيف الرزاز وصلاح البيطار ، والكتابات الناصرية القليلة مثل فلسفة الثورة ، لجمال عبد الناصر ، وكتابات أنور السادات حول ثورة يوليو وعبد الناصر ، وكذلك " بصراحة " محمد حسنين هيكل التي ينشرها في جريدة الأهرام كل يوم جمعة ، ويستمع إليها من خلال إذاعة "صوت العرب " من القاهرة ، فقد كانت الأهرام ممنوعة من الدخول في بلده . كانت الكتابات الماركسية تركز على المسألة الاجتماعية والأممية ، وبقدر ما كان متحمساً للمسألة الاجتماعية ومؤمناً بها ، بقدر ما كان متردداً بشأن المسألة الأممية .إنه يشعر أنه قومي حتى النخاع ، والقومية تسري في عروقه . وتهزه خطابات جمال عبد الناصر ، وتثمله الشعارات القومية التي يطلقها البعثيون والناصريون والقوميون العرب . لكن رغم ذلك ، كان يحس أن هنالك شيئأ ناقصاً ، كان يشعر أن هؤلاء لم يعطوا المسألة الاجتماعية حقها من الإهتمام ، وخاصة قضايا مثل الصراع الطبقي والإشتراكية العلمية والحتمية التاريخية . ولذلك اعتقد أن الفكر الماركسي ، رغم بعض التحفظات ، هو الذي من الممكن أن ينير الطريق ويعطي فلسفة متكاملة للحياة . أعجبته كتابات الحافظ والمنطلقات لأنها تمزج المسألة القومية بالإجتماعية . جامعة ما يشعر بميل إليه في فلسفة واحدة ) (1)
... ( لا تعجبني أفكار عفلق والبيطار والرزاز . أعتقد أنها عاطفية أكثر من اللزوم ، رغم إيماني بإطارها العام . نحن بحاجة إلى فلسفة متكاملة . وأعتقد أن الماركسية هي الحل رغم النواقص التي من الممكن إكمالها ) (2)
__________
(1) العدامة ( 61-62) .
(2) العدامة ( 63 ).(59/69)
... ( إذا كان ما في المنطلقات هو فكر البعث ، فإني أجد نفسي فيه ، فهو يمزج القومية بالماركسية . . . وهذه هي قناعاتي ) (1)
... ( أحس بالهلع والنفور من كل ما يمت إلى التنظيم وفكره بصلة . وبقيت علاقته الحميمية بالماركسية ) (2)
... هو يتبنى فكراً ماركسياً لا يتعقد بدور البطل في التاريخ ، بل هي التناقضات المادية والاجتماعية التحتية ، وانعكاساتها الفوقية السياسية والثقافية ) (3)
( الماركسية . . . هي الفكر العلمي الشامل القادر على منحنا مفاتيح التاريخ والمجتمع والسياسة ، ومن لديه هذه المفاتيح لا خوف عليه ولا هو يحزن ) (4)
( الحقيقة أني ميال إلى الفكر الماركسي ) (5)
( سوف يتعلم الماركسية على أصولها ) (6)
( من قال لك أني شيوعي ؟ . . . أنا اشتراكي ) (7) .
( أنا أميل إلى الماركسية ، ولكني لست شيوعياً ) (8) .
... ولكن هشاماً برغم هذا الحسم (الماركسي) لتوجهه إلا أنه بقي متردداً متحيراً في أمره تصارعه أفكار شتى حول هذا الكون ، وخالقه ، وأحداثه ، مما لم يستطع أن يستوعبه فأصبح ينادي بتفاهة هذه الحياة وأهلها ، وعبثية أحداثها وأقدارها ، مع ترقب وتوجس لهجوم الموت (الغادر!) عليه :
... (ليست الحياة إلا حفلة ماجنة يُدخن فيها الحشيش ويؤكل الخبز مغموساً بالنبيذ والعرق الراشح من أجساد أدمنت الجنس ، وأدماها الهوى ، ومزقت نفسها بوحشة أخلاقية .نحاول أن نضفي المثال والجمال على هذه الحفلة العابثة ، ولكن كل شىء ينكشف ولو بعد حين ، وتقف الحقيقة عارية من جديد ، كما ولدت عارية من قديم ... العدم يقف بالمرصاد ، والمجهول يتربص من بعيد ، والعجز يقيد المجتمع ) (9)
__________
(1) العدامة ( ص64 ) .
(2) العدامة ( ص 224 )
(3) العدامة ( ص 278 )
(4) العدامة ( 283)
(5) العدامة (ص 57 )
(6) العدامة ( ص105)
(7) الشميسي (ص123) .
(8) الشميسي (ص24) .
(9) الكراديب (ص186)(59/70)
... (الموت قادم لا محالة .. إنه مصير ملموس ، وليس كمصير الأمة أو الطبقة مشكوك فيه بقدر ما هو مشكوك في الأمة والطبقة ذاتهما . فلماذا الإحتياط ، ولماذا الخوف ؟ ... ولماذا هذه اللعبة السمجة ، لعبة القط والفأر ... ما نحن إلا ممثلون في مسرحية ، وسواء طال دور أحدنا في هذه المسرحية أم قصر ، فإنه لايلبث أن ينتهي ، وتنتهي كل المسرحية في النهاية ...
... ثم بعد تردد طفيف .
ـ ولو كان لي من الأمر شيئاً (1) في البداية ، لما اخترت الاشتراك في المسرحية من الأساس ) (2) .
... ( هل ما يجري هو حكمة خافية لاندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدنا عليه فأصبح نظاماً ، أم هو مزيج منهما ، أم لا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد ) (3) .
... ( يالهذا الموت الجبان الغادر ... إنه يأخذ أجمل ما في الحياة ويضحك ويهجرنا حين نريده ، ويحل ضيفاً ثقيلاً حين لانريده ... ليت موسى لم يفقأ عين عزرائيل حين أتى لقبض روحه ، ولكنه قصم ظهره أو دق عنقه ... ولكن حتى لو مات عزرائيل ، هل يموت الموت ؟ ويقلع عن أفكاره هذه ويقتنع بأهمية الموت لا ستمرار الحياة ، ولكنه يكرهه ، ولا زال يعتقد بجبنه وغدره ) (4) .
... (عليك الرحمة ياابن آدم . ظنت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة وأحقر من بعوضة يا لك من معتوه يا ابن آدم ، أردت أن تكون إنساناً كما أراد لك من أنسنك ، ولكنك وجدت نفسك في عالم تداس فيه كصرصار تائه ، وتسحق فيه كذبابة وقحة ) (5) .
__________
(1) هكذا ! والصحيح : شيءٌ .
(2) الكراديب (ص193) .
(3) الكراديب (ص215) .
(4) الكراديب (242) . وسيأتي خطاً تسمية ملك الموت بعزرائيل .
(5) الكراديب ، (252) .(59/71)
... قلت : هذه أبرز ملامح (هشام العابر) : فهو يحب القراءة منذ صغره في الكتب (المحرّمة) الفلسفية والماركسية ، التي كانت ممنوعة ـ لضررها ـ في بلاده (السعودية) ولهذا كان يحرص على تحصيلها من عدة منافذ .
... ولأجل قراءته هذه فقد تعلق قلبه بالفكر الماركسي والفكر القومي الذي كان عالياً صوته شديداً هيجانه في تلك الفترة ، فحاول أن يمزج بين (القومية والماركسية) متأثراً ببعض قيادات ومنظري (حزب البعث) .
... ولأجل هذا انضم (هشام) ـ على كرهٍ وتمنع ـ إلى هذا الحزب ، لأنه يود أن يكون مفكراً طليقاً ، بدلاً من حصره في صرامة التنظيمات .
... وكانت نظرته إلى الحياة سوداوية تشاؤمية ، لأنه لم يعرف لها هدفاً ، ولم يفقه حكمة الله من خلقها ، وجعل الخلق يتوارثونها ، لم يعد يرى منها سوى أنها حياة لا قيمة لها ، تجري أحداثها وأقدارها بعبثٍ لا حكمة فيه .
قلت : ويتضح بعد هذا الموجز عن هشام العابر (أو تركي الحمد !) وأفكاره أن الحديث ـ دون تطويل ـ سيكون حول :
1 ـ نقض الماركسية التي نادى بها الحمد (1) .
2 ـ نقض القومية العربية التي نادى بها الحمد .
3 ـ نقض مبادىء حزب البعث ، الذي انظم إليه الحمد .
4 ـ نقض مبدأ الإنسانية التي نادى بها الحمد .
5 ـ بيان عقيدة أهل السنة في (القدر) مع توضيح حكمة الله من خلق الخلق .
6 ـ بيان تنقص الحمد في ثلاثيته :
أ ـ الله .
ب ـ وملائكته .
جـ ـ وكتبه . ...
د ـ ورسله .
هـ ـ ودينه .
و ـ وعبادة الصالحين .
7 ـ مباحث أخرى .
__________
(1) أقول (الحمد) وليس (هشام العابر) ، لأن هشاماً لم يكن سوى تركي ! كما سيأتي .(59/72)
الماركسية (1)
تنسب هذه النحلة إلى مؤسسها ( اليهودي ) كارل ماركس الذي ولد في ألمانيا عام 1818م وهلك عام 1883 م . وهو ينحدر من أبوين يهوديين ينتميان إلى الحاخامات العالمين بشريعة اليهود .
... ( وبعد أن انتهى من التعليم الثانوي بمسقط رأسه التحق عام 1835م بجامعة بون ثم انتقل إلى برلين حيث درس التاريخ والفلسفة والاقتصاد .
... وفي أثناء دراسته ببرلين اتصل بجامعة الشباب الأحرار الذي كانوا يعتنقون الفلسفة الهيجلية ، وبعد ذلك انتقل كارل إلى الصحافة والتحق بتحرير جريدة رانيش نسياتنج الراديكالية إلى أن عطلت الجريدة بسبب دعوتها الثورية .
... وفي عام 1844 تزوج كارل من جيني فون فستنالين التي عاشت أحداث أسرته المتقلبة إلى أن ماتت عام 1881 وما لبث أن لحق بها بعد عدة شهور من وفاتها وذلك عام 1882 .
... وكان كارل ماركس قد هاجر وزوجته جيني إلى باريس عام 1844 حيث التقى بصديقه ورفيق حياته الشخصية والمذهبية فريدريك انجلز الذي شاطره الرأي والتفكير وشاركه في عدد من مؤلفاته منها : العائلة المقدسة ، والمثالية الالمانية ، كما التحق كلاهما بالحلف الشيوعي وهو منظمة للاجئين الألمان في فرنسا حتى طردا كلاهما من باريس فارتحلا إلى بروكسل الألمانية .وفي عام 1847 أصدر كلاهما ـ كاركس وانجلز ـ كتابهما المشهور " البيان الشيوعي " وهو في جملته يتضمن تحريضاً للعمال على الثورة ضد الطبقة الرأسمالية .
__________
(1) لخصتها من : " مذاهب فكرية معاصر ة " لمحمد قطب ، و"الشيوعية " مقال لعبد القادر شيبة الحمد ، في مجلة الجامعة الإسلامية ( سنة 2 عدد 3 ) " والإسلام والمذاهب الاشتراكية " للدكتور محمد تقي الهلالي . مقال في مجلة الجامعة الإسلامية ( سنة 3 عدد 2 ) ، و " التصور الماركسي للإسلام " للدكتور محمد بلتاجي ، مقال في مجلة أضواء الشريعة ( عدد8 ) ، و" الشيوعية في الميزان " للشيخ محمد عبد السميع ، مقال في مجلة الجامعة الإسلامية ( سنة 10عدد2) .(59/73)
... وبعد عودة قصيرة إلى ألمانيا هاجر ماركس وأسرته وزميله فريدريك انجلز إلى انجلترا . وفي لندن تابع ماركس إصدار مؤلفاته وأفكاره .
... ثم عكف بعد ذلك على أشهر مؤلفاته وأكبرها وهو كتاب " رأس المال " وقد ضمنه خلاصة أفكاره وتصوراته في الاقتصاد بما يشرح فيه تحليلاً مفصلاً عن المال وسيطرة الأثرياء والمستغلين وعن العمل المضيع المستغل لحساب البورجوازيين والرأسماليين فيما يسمى بفائض القيمة . وقد صدر الجزء الأول من " رأس المال " عام 1867م . أما الجزءان الآخران فقد اضطلع انجلز بمهمة تجميع المسودات لهما إلى أن تم نشرهما بعد وفاة ماركس ( .
مصادر فلسفته :
... استفاد ماركس من عدة مصادر لدعم فلسفته ونظريته ومن أبرزها :
1ـ الفيلسوف الألماني ( هيجل ) أخذ منه مبدأ التناقض في الحياة ، أو (الدياليكتيك).
... ) وقد أخذ ماركس الإطار الجدلي الهيجلي ، بيد أنه لم يقبل القول بأن الفكر أو العقل أو الروح أو المطلق المثالي هو الذي يؤثر على الحياة والواقع المادي ؛ فقد ذهب على نقيض ذلك إلى أن مجموعة الظروف المادية هي التي تؤثر في الفكر والعقل ، ثم انتقل من ذلك إلى اعتبار أن ( عوامل الإنتاج الاقتصادي ) خاصة هي التي تؤثر في كافة العلاقات والتطورات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تتكون منها حركة التاريخ ؛ فهذه العلاقات والتطورات كلها أثر من آثار ظروف الإنتاج الاقتصادي (.
أهداف الماركسية ومبادؤها :
... ) تقوم النظرية الماركسية على مجموعة من الأسس والمبادئ يمكن تلخيصها في النقاط الآتية :
1ـ إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا وإحلال الملكية الجماعية بدلاً منها .
2 ـ إلغاء الطبقات بإقامة دكتاتورية البرليتاريا وإبادة الطبقات الأخرى .
3ـ كفالة الدولة لجميع " المواطنين " في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالاً ونساء .
4ـ المساواة في الأجور .
5ـ إلغاء الدين ! .
6ـ تطبيق مبدأ " من كل بحسب طاقته ، ولكل بحسب حاجته " .(59/74)
7ـ إلغاء الصراع من المجتمع البشري بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية .
8 ـ إلغاء الحكومة في المستقبل ، وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة ( .
نقض الماركسية :
... نحاول فيما يلي نقض كل واحد من هذه المبادئ في إيجاز دون تفصيل :
1ـ ) فأما من حيث إلغاء الملكية الفردية فقد تم ذلك وبصورة حادة في المرحلة الأولى من التطبيق على عهد لينين وجزء من عهد ستالين . أما إحلال الملكية الجماعية محلها فقد تكشف عن أسطورة ضخمة ليس لها وجود حقيقي ! فلا أحد من طبقة البروليتاريا يملك شيئاً في الحقيقة أو يحس بملكية شيء .إنما الدولة ـ كما نصت النظرية ـ هي المالك الحقيقي لكل شيء والدولة ـ عند التطبيق ـ شيء والشعب شيء آخر . ومهما قيل من " نيابة " الدولة عن البروليتاريا في الملكية والإشراف عليها فهو مجرد كلام للاستهلاك النظري . أما الواقع فهو أن الدولة أصبحت كابوساً ثقيلاً بدكتاتوريتها البشعة التي لا تدع للناس فرصة للإحساس بوجودهم فضلاً عن أن يحسوا بأنهم يملكون شيئاً على الإطلاق !
... فجو الإرهاب الدائم الذي تمارسه الدولة على الشعب بحجة المحافظة على النظام من أعدائه وجو الجاسوسية الذي يعيش فيه إلى حد أن الوالد لا يأمن ولده ولا الزوج يأمن زوجته ولا الأخ يأمن أخاه ـ ضمانا ألا يجتمع اثنان على سر خشية أن يكون السر مؤامرة على " النظام " ! ـ هذا الجو الذي يمكن أن يؤخذ فيه الإنسان بالظنة فيحاكم ويحكم عليه بالإعدام أو الاعتقال في ثلوج سيبيريا أو بأي عقوبة أخرى "رادعة " .. وهو جو لا يسمح بوجود " التعاطف " بين الشعب والدولة ، ذلك التعاطف الذي يحس فيه أن الدولة نائبة عنه في الملكية والإشراف عليها . . فالنيابة لا تكون بالحديد والنار والتجسس . . إنما يخضع الشعب للدولة بعامل الإرهاب المسلط عليه ، ويفقد في النهاية أي شعور بملكية شيء على الإطلاق ! ولا يبقى له إلا شعوره بالحرمان ! ( .(59/75)
... ) لقد زعمت النظرية الشيوعية أن الأصل في الإنسان هو الملكية الجماعية، وأن الملكية الفردية هي إنحراف شرير وقعت فيه البشرية بعد اكتشاف الزراعة ، وأن الشيوعية الثانية سترد الإنسان إلى أصله " فيستمتع " بالملكية الجماعية ويشفى من هذا الانحراف الخطير الذي أفسد إنسانيته وأشاع الظلم في المجتمع البشري لقرون عديدة من الزمان !
... ثم فرضت " الدولة " الأمر فرضاً بالحديد والنار . .
... فهل شفيت النفوس من الداء وسلمت من الانحراف ، وارتدت إلى أصلها الملائكي المزعوم ؟!
... إن الذي حدث بالفعل ـ أشرنا إليه من قبل ـ أن " النظام " تراجع في عهد ستالين ثم في عهد خر وشوف عدة تراجعات .
... ففي المرحلة الثانية من عهد ستالين كان " النظام " في حاجة إلى زيادة الإنتاج ، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال ـ بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى ـ أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافي يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشتري أنواعاً من الطعام أفخر ، أو كميات أكبر ، وأنواعاً من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية .
... وموضع الدلالة : أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردي والالتجاء إليه .ولو كانت ترى ـ أو تعتقد في دخيلة نفسها ـ أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردي لفعلت ، خاصة وهي تملك الحديد والنار وتستخدمهما ـ بإسراف ـ في جميع المجالات ، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردي ـ أيا تكن مبرراته التي تلقى أمام الناس ـ هو تراجع عن أصل من أصول النظرية ، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئاً فطرياً وأن الأصل في الناس هو الملكية الجماعية !(59/76)
... موضع الدلالة إذن أن كل بطش الدولة لم يستطع أن " يشفي" الناس من الحافز الفردي ويضع الحافز الجماعي مكانه . ومعنى ذلك أن الحافز الفردي ـ الوثيق الصلة بالملكية الفردية ـ عميق في الفطرة إلى حد لا يمكن انتزاعه ، ولو استخدمت في انتزاعه كل وسائل البطش والإرهاب ( .
2ـ ) أما إنشاء مجتمع غير طبقي ، وإلغاء جميع الطبقات ما عدا طبقة البروليتاريا وإقامة دكتاتورية البروليتاريا ، فقد اختلف التطبيق فيها اختلافا واسعاً عن النظرية !
... ولسنا نتحدث هنا عن " محاسن " إنشاء مجتمع غير طبقي ، ولا كون هذا الأمر واجباً أو غير واجب ، ممكنا أو غير ممكن ، إنما نتحدث عن الواقع التطبيقي لنرى مقدار قربه أو بعده عن الشيء الذي قالوا إنه واجب أن يكون .
... لقد زالت طبقة الاقطاعيين نعم ، وحال تطبيق الشيوعية في الدولتين الشيوعيتين الكبيرتين دون ظهور الطبقة الرأسمالية ، وما كان منها موجوداً في الدول الأخرى التي اعتنقت الشيوعية فقد أزيل إما بنزع الملكية الفردية وإما بالإبادة الثورية.
... ولكن ما الذي حدث بعد ذلك ؟!
... الذي حدث بالفعل أن " طبقة " جديدة بكل تعريف الطبقة ومواصفاتها قد برزت في المجتمع الشيوعي تحت أسم جديد بالمرة هو " الحزب " !(59/77)
... والفارق بين أفراد الحزب ـ بدرجاته المختلفة ـ وبين أفراد الشعب هو ذات الفارق بين أية طبقة كانت مالكة وحاكمة من قبل وبين الشعب ! فأدنى درجات الحزب ـ وهي العضوية العادية ـ تنشئ لتوها ضخما في كل شؤون الحياة . وليست العبرة بوجود الملكية الفردية أو عدم وجودها فلم يكن منشأ الطبقية في المجتمعات الطبقية هو مجرد وجود الملكية الفردية كما زعم التفسير الجاهلي للتاريخ ، إنما كان ما يترتب على الملكية من سلطان ونفوذ ، انطلاقاً من مبدأ أن الذي يملك هو الذي يحكم. أي أن الطبقية في الواقع ـ وإن نبعث في المجتمعات الجاهلية من الملكية الفردية كما يقول التفسير المادي ـ إنما هي طبقية السلطان والنفوذ ، التي تنبع من قدرة هذه الطبقية على التشريع لحساب نفسها وإلزام الآخرين بالخضوع لهذا التشريع .
... وقد ألغيت الملكية الفردية من المجتمع الشيوعي ، ولكن السلطان والنفوذ الذي تركز في " الحزب " قد جعل منه طبقة متميزة ، لها كل سمات الطبقة ومميزاتها سواء في نوع المعيشة ـ أي المتاع ـ أو في النفوذ والسلطان ( .
... ) إن تركيز النفوذ في " الحزب " و " الدولة " و " الزعيم " هو الذي ينشئ ذلك الفارق الضخم بين " اللاشيئية " و " الشيئية " في المجتمع الشيوعي . . ولذلك يصبح أكبر مطمح للفرد لعادي في المجتمع الشيوعي أن يضع قدمه ـ مجرد وضع ـ ولو على أدنى درجة من درجات ذلك البناء الشاهق الذي يمثل السلطان ، فيتغير وجوده كله ، بل يصبح في الحقيقة موجوداً بعد أن لم يكن له وجود ( .
... 3ـ ) أما كفالة الدولة لكل فرد من أفراد المجتمع فهي الشيء الوحيد الذي برزت به الشيوعية في عالم الواقع على كل جاهليات التاريخ .(59/78)
... لا يوجد فرد لا يأكل ولا يلبس ولا يسكن من كل أفراد الشعب . وهذا هو الواجب الذي نكلت عنه الدولة الاقطاعية والدولة الرأسمالية على السواء . وإذا كانت الدولة الرأسمالية الحديثة قد اقتربت من أداء هذا الواجب شيئاً من الاقتراب بالضمانات الاجتماعية والإعانات التي تصرف للمتعطلين من نقاباتهم أو من الدولة ، وبالرعاية الصحية المجانية ، وبالخدمات المجانية العامة .. الخ ، فإنها لم تبلغ بعد الحد الذي التزمت به الدولة الشيوعية ، فضلاً عن كونها قد فعلت ما فعلت لا بدافع إنساني ولكن خوفاً من الشيوعية ، من جهة ، وخوفاً من الضرر الذي يلحقها إذا لم تستجب لطلبات العمال المطالبين بهذه الحقوق .
... ولكن لنا على هذه الكفالة مجموعة من الملاحظات . إذا قسناها على الكفالة التي قررها الإسلام لكل فرد من أفراد الأمة قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان !
... تكفل الدولة الشيوعية أفرادها على الحد الأدنى الذي وصفناه من قبل ، ومع ذلك لا تكفلهم وهم كرماء على أنفسهم ولا على دولتهم ! ولا نتحدث الآن عن تكليفهم بالعمل ـ رجالاً ونساء ـ مقابل كفالتهم ، أي أن الدولة لا تتفضل عليهم بالكفالة إنما هي تجندهم لحسابها وتستصفي جهدهم كله قبل أن تعطيهم ضرورات حياتهم ، وتهددهم تهديداً صريحاً بقولها : من لا يعمل لا يأكل . . .
... لا نتحدث الآن عن هذا ، فالعمل على أي حال هو الأصل في حياة الإنسان وليست البطالة هي الأصل . . ولكنا نقول إن الدولة الشيوعية بإلغائها الملكية الفردية والعمل الحر ، وتحويل كل الناس أجراء للدولة ، إنما تستذلهم في الواقع بلقمة الخبز ، فلا يملكون أن يتوجهوا بكلمة نقد واحدة للقائمين بالأمر خوفاً على لقمة الخبز أن تضيع . . وذلك بخلاف الإرهاب بالحديد والنار والتجسس ، الذي يزيد من مذلة الناس وانكماشهم وخضوعهم للظلم الواقع عليهم دون التفوه بكلمة أو إشارة تدل على عدم الارتياح فضلاً عن الاحتجاج الصريح .(59/79)
... ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد في الأرض هو عمل الإنسان أجيراً لإنسان آخر ، وزعمت أنها هي التي ستخلص الناس من الظلم وتمنع الاستغلال حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر .
... نعم . . . ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر ، وتأجيره "للدولة " التي هي شخص معنوي في الكلام فقط ، ولكنها في الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذي يطلبونه منهم ، وما يعاقبونهم به إذا قصروا في أدائه ؟ وأيهما أذل ـ في عالم الواقع ـ الأجير الذي يملك ولو ذرة واحدة من الحرية في اختيار شخص ((السيد)) الذي يبيع له جهده ، والمساومة على زيادة هذا الأجر ، والاحتجاج على انخفاضه إذا رآه كذلك ، أم الأجير الذي لا يملك ذرة من الحرية في تلك الأمور كلها ، لا اختيار نوع العمل ولا مكانه ، ولا اختيار ((السيد)) الذي يخدمه ـ فهو مفروض عليه بالحديد والنار ـ ولا حق الاحتجاج على الأجر المنخفض ولا طلب زيادته .. وإن فتح فمه بكلمة يموت جوعاً ، إن لم يمت بوسيلة أخرى غير الجوع ؟!
... وأية سفسطة تلك التي تقول إن الذل لا يكون قائماً حين تكون ((الدولة)) هي التي تسخر الناس للعمل وهي التي تمنح الأجور؟! ما تعريف الذل ؟! وما اسم ذلك الإحساس الذي يحسه الإنسان حين يجد أنه لا يملك حريته في أي أمر من الأمور، وأن عليه أوامر ينبغي أن يطيعها ، وواجبات ينبغي أن يؤديها ، دون أن يكون له حق الاعتراض على شيء من الأشياء ؟!
... أم يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ؟!
... يحلونه إذا كان صادراً منهم ومحققاً لمصلحتهم ، ويحرمونه إذا صدر من غيرهم أو لم يكن في صالحهم ؟(
4 ـ ) أما قضية المساواة في الأجور فلا تزيد على أن تكون واحدة من الأساطير الكثيرة التي بددها التطبيق .(59/80)
... في عهد لينين والجزء الأول من عهد ستالين طبقت روسيا مبدأ المساواة في الأجور لجميع العمال في الاتحاد السوفيتي . ولكن هل كانت هناك مساواة عامة في الأجور بالنسبة لكل العاملين ؟
... هل كان أجر المهندس كأجر العامل ؟ وأجر الطبيب كأجر الممرض ؟ وأجر الجندي كأجر الضابط ؟
... إن هذا بداهة مستحيل !
... ومع استحالته فقد ظلت النظرية الشيوعية تنافح عن قضية المساواة وتندد بقضية التفاوت في الأرزاق !
... ثم جاء اليوم الذي انهارت فيه المساواة حتى في صفوف العمال أنفسهم ، بعد أن كانت منهارة ما بين العمال وغيرهم من العاملين . فقد لجأ ستالين ـ كما أسلفناـ إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لقاء أجر إضافي ينفق في ((الكماليات)).. وهكذا ضاعت المساواة تماماً ولم يعد لها وجود! ( .
5 ـ أما إلغاء الدّين فهو الأمر الذي نجح فيه الماركسيون في بلادهم !! فقالوا بأنه ( أفيون الشعب ) وخدرها .
... ) وفي التطبيق اشتد الماركسيون في محاربة الدين . فلم يكتفوا بتحريم الحديث فيه ، ومعاقبة من يضبط ((متلبساً)) بالحديث في الدين مع شاب أو فتاة دون الثامنة عشر ، بل بالغوا في الاحتياط فوضعوا في مناهجهم الدراسية درساً للإلحاد في مكان درس الدين ! فحيث يضع البشر كلهم درساً للدين في مدارسهم ـ مؤمنين وغير مؤمنين ـ يتحدثون فيه عن الله ، يضع الشيوعيون في مدارسهم درساً يقال للتلاميذ فيه إنه لا إله ، والكون مادة (أي بلا خالق) .
... ولا مكان للمتدينين في الدولة الشيوعية . وقد قتل ستالين وحده ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهده ، لأن الشيوعية كانت قد طلبت معونة المسلمين في الثورة ضد قيصر . ووعدتهم بأن تجعل لهم مكانة خاصة إذا نجحت الشيوعية ، وتترك لهم حرية ممارسة حياتهم الإسلامية ، فلما طالبوا بتحقيق الوعد ، حققه ستالين لهم على هذا النحو بالقتل والتعذيب والتشريد الجماعي ( .(59/81)
6 ـ أما تطبيق مبدأ ( من كلٍ بحسب طاقته ، ولكلٍ بحسب حاجته ) .
7 ـ وإلغاء الصراع في المجتمع بإلغاء الملكية الفردية .
8 ـ وإلغاء الحكومة .
... فكل هذه الأمور لم تستطع الدول الماركسية (جميعها) تحقيقها إلى الآن ، ولن تستطيع في المستقبل لأمرين :
... أولهما : أن هذه الأمور (خيالية) .
... وثانيهما : أن الدول الماركسية بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى ، وعلى رأسها (الأم) روسيا ، ولله الحمد والمنة .
... ... * * *
القومية العربية
... هي حركة سياسية فكرية متعصبة ، تدعو إلى تمجيد العرب ، وإقامة دولة موحدة لهم ، على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ ، وإحلالها محل رابطة الدين ، وهي صدىً للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوربا .
... ظهرت بدايات الفكر القومي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها الجمعيات والخلايا في عاصمة الخلافة العثمانية ، ثم في حركة علنية في جمعيات أدبية تتخذ من دمشق وبيروت مقراً لها ، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس ! سنة 1912م .
... ظلت الدعوة إلى القومية العربية محصورة في نطاق الأقليات الدينية غير المسلمة ، وفي عدد محدود من أبناء المسلمين الذين تأثروا ـ كتركي الحمد ! ـ ، ولم تصبح تياراً شعبياً عاماً إلا حين تبني الدعوة إليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، حين سخر لها أجهزة إعلامه ، وإمكانات دولته .
... يعد (ساطع الحصر ي ت 1968م) داعية القومية العربية وأهم مفكريها وأشهر دعاتها ، وله مؤلفات كثيرة تعد الأساس الذي تقوم عليه فكرة القومية العربية ، ويأتي بعده في الأهمية النصراني ( ميشيل عفلق ) مؤسس ( حزب البعث ) .
... يرى دعاة القومية العربية أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي:
1ـ اللغة العربية .
2ـ الدم .
3ـ التاريخ .
4ـ الأرض .
5ـ الآلام والآمال المشتركة .(59/82)
... أما الدين فإنه مستبعد من مقومات القومية العربية ! بل يحارب ! لأنه بزعمهم يُفرق العرب ولا يوحدهم !
... وفي هذا يقول شاعرهم ( القروي ) :
هبوني عيداً يجعل العرب أمة
... ... ... وسيروا بجثماني على دين بَرهم !
سلامٌ على كفر يوحد بيننا
... ... وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم !
يقول الشيخ ابن باز ـ حفظه الله ـ :
... ) من خبر أحوال القوميين وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع ، ومن تلك الأمور: فصل الدين عن الدولة ، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع ، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى ، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة ـ لا بلغهم الله مناهم ـ ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طرباً ، ويساعد وجودها ورفع مستواها وإن تظاهر بخلاف ذلك ـ تغريراً للعرب عن دينهم ، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم ، والدعوة إليها والاعراض عن دينهم (1) .
... وقال ـ حفظه الله ـ ناقضاً هذه الفكرة الجاهلية :
... ) من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات ، دعوة باطلة وخطأ عظيم ومنكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله ، وذلك لوجوه :
__________
(1) نقد القومية العرية ( ص10) .(59/83)
... الأول : أن الدعوة إلى القومية العربية تفرَّق بين المسلمين ، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي ، وتفرّق بين العرب أنفسهم لأنهم كلهم ليسوا يرضونها ، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم ، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزاباً ، فكرة باطلة تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه ، وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى كما يدل على ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تهتدون ) (1) وقال {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وقال تعالى : {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(31)مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (3) .
... فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق والاختلاف ويدعو إلى الاجتماع والوئام والتمسك بحبل الحق والوفاة عليه ، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام ، وأن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام .
__________
(1) سورة آل عمران ، الآيات : 102 ، 103
(2) سورة الأنفال ، الآيات : 62 ، 63 .
(3) سورة الروم ، الآيات : 31،32 .(59/84)
ويدل على ذلك أيضاً أن هذه الفكرة أعني الدعوة إلى القومية العربية ، وردت إلينا من أعدائنا الغربيين ، وكادوا بها المسلمين ،ويقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض ، وتحطيم كيانهم ، وتفريق شملهم ،على قاعدتهم المشؤمة "فرّق تسد " وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة مما يحزن القلوب ويدمي العيون (1) .
... ) الوجه الثاني : أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة ، بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية لأنها دعوة إلى غير الإسلام ومناصرة لغير الحق وكم جرّت دعوى الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة وقودها النفوس والأموال والأعراض ، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب والتفريق بين القبائل والشعوب .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية ، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاري : يا للأنصار قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم " وغضب لذلك غضباً شديداً " انتهى .
__________
(1) ص (13ـ15 ).(59/85)
... ومما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (1) ، وقال تعالى : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} (2) ، وفي سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية " ، وفي " صحيح مسلم " أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية ، ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية ، ولا ريب أيضاً أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر لأن القومية ليست ديناً سماوياً يمنع أهله من البغي والفخر ، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء ، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم ) (3) .
... (الوجه الثالث : من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية : هو أنها سلّم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من أبناء غير المسلمين واتخاذهم بطانة والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم . ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير والمخالفة لنصوص القرآن والسنة الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة .
__________
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 33 .
(2) سورة الفتح ، الآية : 26 .
(3) ص ( 21ـ 22 )(59/86)
... والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، منها قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } الآية (1) . سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه ، هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا ، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا ، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم تحت لواء القومية العربية ، ويقولون : إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي وإن تفرقت أديانهم ، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله ومخالفة لشرع الله وتعد لحدود الله وموالاة ومعاداة وحب وبغض على غير دين الله ؟
... فما أعظم ذلك من باطل وما أسوأه من منهج !
... القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا ، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه {قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (2) ويقول الله سبحانه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ـ إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (3) ونظام القومية يقول : كلهم أولياء مسلمهم وكافرهم !!
__________
(1) سورة المائدة ، الآيات ( 51، 52 )
(2) سورة البقرة ، الآية : 140 .
(3) سورة الممتحنة ، الآية :1 .(59/87)
... والله يقول : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية (1) . ويقول سبحانه : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (2) .وقال تعالى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (3) . وشرع القومية ، أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول : أقصوا الدين عن القومية ، وافصلوا الدين عن الدولة ، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم ، وكأن الإسلام وقف في طريقهم وحال بينهم وبين أمجادهم ، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية ، سبحانك هذا بهتان عظم ! والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والتحذير من توليهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن ، فلا ينبغي أن نطيل بذكرها وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل وأبو لهب ، وعقبة ابن أبي معيط ، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده إلى يومنا هذا إخواناً وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ومن سلك سبيلهم من العرب إلى يومنا هذا . . هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل .
__________
(1) سورة الشورى : الآية : 12 .
(2) سورة الممتحنة ، الآية 4 .
(3) سورة المجادلة ، الآية :22.(59/88)
وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه وإن أنكره بعض دعاتها جهلاً أو تجاهلاً وتلبيساً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) (1) .
... ( الوجه الرابع : من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال : إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن ، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام .
__________
(1) (ص 34ـ37)(59/89)
... وقد صرح الكثير منهم بذلك . وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة ، كما قال تعالى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقال تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ) (2) قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) وقال تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) وقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات . يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله ، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته كم قال عز وجل : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (6) .
__________
(1) سورة النساء ، الآية 65.
(2) سورة المائدة ، الآية 50
(3) سورة المائدة ، الآية 44 .
(4) سورة المائدة ، الآية 45 .
(5) سورة المائدة ،الآية 47 .
(6) سورة الممتحنة ، الآية : 4 .(59/90)
... فالواجب على زعماء القومية ودعاتها أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشؤومة وغاياتها الوخيمة ، وأن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلاً من الدعوة إلى قومية أو وطنية )? (1)
حزب البعث العربي الاشتراكي (2)
حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب قومي علماني ، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي ، شعاره المعلن (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) وهي رسالة الحزب ، أما أهدافه فتتمثل في الوحدة والحرية والاشتراكية .
التأسيس وأبرز الشخصيات :
... ـ في سنة 1932م عاد من باريس قادماً إلى دمشق كل من ميشيل عفلق (نصراني ينتمي إلى الكنيسة الشرقية ) (3) وصلاح البيطار ( سني ) وذلك بعد دراستهم العالية محملين بأفكار قومية وثقافية أجنبية .
ـ عمل كل من عفلق والبيطار في التدريس ، ومن خلاله أخذا ينشران أفكارهما بين الزملاء والطلاب والشباب .
ـ أصدر التجمع الذي أنشأه عفلق والبيطار مجلة الطليعة مع الماركسيين سنة 1934 وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم ( جماعة الإحياء العربي ) .
ـ في نيسان 1947 تم تأسيس الحزب تحت اسم ( حزب البعث العربي ) ، وقد كان من المؤسسين : ميشيل عفلق ، صلاح البيطار ، جلال السيد ، زكي الأرسوزي ، كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث .
ـ كان لهم بعد ذلك دور فاعل في الحكومات التي طرأت على سوريا بعد الاستقلال سنة 1946 وهذه الحكومات هي :
1ـ حكومة شكري القوتلي : من 1946 وحتى 29/3/1949م .
2ـ حكومة حسني الزعيم : استلم السلطة عدة شهور من سنة 1949م .
__________
(1) ص ( 50 ـ 51) .
(2) لخصتها من " الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة " عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي(1/474) .
(3) بعد هلاكه أعلن صدام أنه كان قد أسلم ! ثم أمر بالصلاة عليه !!(59/91)
3ـ حكومة اللواء سامي الحناوي : بدأ حكمه وانتهى في نفس عام 1494م .
4ـ حكومة أديب الشيشكلي : استمر حكمه حتى سنة 1954م .
5ـ حكومة شكري القوتلي : عاد إلى الحكم مرة ثانية واستمر إلى توقيع الوحدة مع مصر سنة 1958م .
6ـ حكومة الوحدة برئاسة جمال عبد الناصر : 1958ـ 1961م .
7ـ حكومة الانفصال برئاسة الدكتور ناظم القدسي : وقد دام الانفصال من 28/9/1961م وحتى 8/3/1963م وقد قاد حركة الانفصال عبد الكريم النحلاوي .
... منذ 8/3/1963م وإلى اليوم فقد وقعت سوريا تحت حكم حزب البعث ، مرت هذا الفترة بعدة حكومات بعثية هي :
ـ حكومة قيادة الثورة : 1963م وفيها برز صلاح البيطار كرئيس للوزراء .
ـ حكومة أمين الحافظ : من 1963م وحتى 1966م .
ـ حكومة نور الدين الأتاسي : 1966م حيث لعب القيادة القطرية للحزب دوراً بارزاً في الحكم ، وقد برز في هذه الفترة كل من صلاح جديد الذي عمل أميناً عاماً للقيادة القطرية وحافظ الأسد الذي عمل وزيراً للدفاع .
ـ حكومة حافظ الأسد : من سنة 1970م وإلى يومنا هذا .
... لقد اندمج في سنة 1953م كل من ( حزب البعث ) و ( الحزب العربي الاشتراكي ) الذي كان يقوده أكرم الحوراني في حزب واحد أسمياه ( حزب البعث العربي الاشتراكي ) .
? أما عن الجناح العراقي من حزب البعث فقد استولى على السلطة في العراق بعد أحداث دامية سارت على النحو التالي :
ـ في الرابع عشر من شهر يوليو عام 1958 دخل لواء بقيادة عبد السلام عارف إلى بغداد قادماً من الأردن واستولى على محطة الإذاعة وأعلن الثورة على النظام الملكي وقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد وأعوانه وأسقط النظام الملكي وبذلك انتهى عهد فيصل ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية .(59/92)
ـ وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر يوليو عام 1958م أي بعد عشرة أيام من نشوء الثورة وصل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وزعيمه إلى بغداد وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ومصر ) ولكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه ونادى بعبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق.
ـ وفي اليوم الثامن من شهر فبراير لعام سنة 1963م قام حزب البعث بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم وقد شهد هذا الانقلاب قتالاً شرساً دار في شوارع بغداد ، وبعد نجاح هذا الانقلاب تشكلت أول حكومة بعثية ، وسرعان ما نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف من حزب البعث فاغتنم عبد السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق في 18 نوفمبر سنة 1963م وعين عبد السلام عارف أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين المعتدلين نائباً لرئيس الجمهورية .
ـ في شهر فبراير سنة 1964م أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي .
ـ في شهر سبتمبر سنة 1966م قام حزب البعث العراقي بالتحالف مع ضباط غير بعثيين بانقلاب ناجح أسقط نظام عارف .
ـ في اليوم الثلاثين من شهر يوليو عام 1968م طرد حزب البعث وعين أحمد حسن البكر رئيساً لمجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخلي .
ـ وفي 15 أكتوبر سنة 1970م تم اغتيال الفريق حردان التكريتي في مدينة الكويت وكان من أبرز أعضاء حزب البعث العراقي وعضواً في مجلس قيادة الثورة ونائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للدفاع .
ـ وفي شهر نوفمبر من عام 1971م تم اغتيال السيد فؤاد الركابي وكان المنظر الأول للحزب وأحد أبرز قادته في العراق وقد تم اغتياله داخل السجن .
ـ وفي 8 يوليو سنة 1973م جرى إعدام ناظم كزار رئيس الحكومة وجهاز الأمن الداخلي وخمسة وثلاثين شخصاً من أنصاره وذلك في أعقاب فشل الانقلاب الذي حاولوا القيام يه .(59/93)
ـ وفي 8 يوليو السادس من شهر مارس عام 1975م وّقعت الحكومة البعثية العراقية مع شاه إيران الاتفاقية المعروفة باتفاقية الجزائر وقد وقعها عن العراق صدام حسين وتقضي الاتفاقية المذكورة بأن يوافق العراق على المطالب الإقليمية للشاه في مقابل وقف الشاه مساندته للأكراد في ثورتهم على النظام العراقي .
ـ في شهر أكتوبر لعام 1978م طردت الحكومة البعثية الخميني من العراق وقامت في شهر فبراير عام 1979م الثورة الخمينية في إيران .
ـ في شهر يونيو عام 1979م أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية بعد إعفاء البكر من جميع مناصبه وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله .
تقييم لأفكار حزب البعث :
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي علماني انقلابي له طروحات فكرية متعددة يتعذر الجميع بينها أحياناً فضلاً عن الاقتناع بها ، لقد كُتِب عنه كثيراً وتحدث زعماؤه طويلاً ، ولكن هناك بون واسع بين ممارسات وأقوال فترة ما قبل السلطة ، وممارسات وأقوال فترة ما بعدها .
ـ الرابطة القومية عنده هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة وتكبح جماح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية حتى قال شاعرهم :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له
... ... وبالعروبة دينا ماله ثاني(59/94)
ـ تعلن سياسة الحزب التربوية أنها ترمي إلى خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالتها آخذاً بالتفكير العلمي ، طليقاً من قيود الخرافات والتقاليد والرجعية ، مشبعاً بروح التفاؤل والنضال والتضامن مع مواطنيه في سبيل تحقيق الانقلاب العربي الشامل وتقدم الإنسانية ، " والطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هو خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن بأن الله والأديان والإقطاع ورأس المال وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ "!! كما يقول إبراهيم خلاص ـ فيلسوف الحزب في العراق ـ .
من التوصيات العامة لمقررات المؤتمر القومي الرابع للحزب نقتطف الآتي لبيان نظرتهم :
ـ تقول التوصية الرابعة : " يعتبر المؤتمر القومي الرابع الرجعية الدينية إحدى المخاطر الأساسية التي تهدد الانطلاقة التقدمية في المرحلة الحاضرة ولذلك يوصي القيادة القومية بالتركيز في النشاط الثقافي والعمل على علمانية الحزب ، خاصة في الأقطار التي تشوه فيها الطائفية العمل السياسي ".
ـ التوصية التاسعة تقول : " إن أفضل سبيل لتوضيح فكرتنا القومية هو شرح وإبراز مفهومها التقدمي العلماني وتجنب الأسلوب التقليدي الرومنطيقي في عرض الفكرة القومية ، وعلى ذلك سيكون نضالنا في هذه المرحلة مركزاً حول علمانية حركتنا ومضمونها الاشتراكي لاستقطاب قاعدة شعبية لا طائفية من كل فئات الشعب " .
ـ أما عن الوحدة فهم يقولون : " ليست الوحدة العربية ، مجرد تجميع ولصق لأجزاء الوطن العربي بل هي التحام فصهر لهذه الأجزاء ، لذا فإن الوحدة ثورة بكل أبعادها ومعانيها ومستوياتها ، وهي ثورة لأنها قضاء على مصالح إقليمية عاشت وتوسعت وترسبت عبر القرون ، وهي ثورة لأنها تجابه مصالح وطبقات تعارض الوحدة وتقف في وجهها " ( المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس ) .(59/95)
ـ وأما الاشتراكية فهي تعني " تربية المواطن تربية اشتراكية علمية تعتقه من كافة الأطر والتقاليد الاجتماعية الموروثة والمتأخرة لكي يمكن خلق إنسان عربي جديد بعقل علمي متفتح ، ويتمتع بأخلاق اشتراكية جديدة ويؤمن بقيم جماعية " .
ـ الرسالة الخالدة : يفسرونها بأن الأمة العربية ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ ترمي إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم .
هذا ويمكن ملاحظة ما يلي :
ـ إن كلمة الدين لم ترد مطلقاً في صلب الدستور السوري أو العراقي .
ـ كلمة الإيمان بالله على عموميتها لم ترد في صلب الدستور ، لا في تفصيلاته ولا في عمومياته ، مما يؤكد على الاتجاه العماني لديه .
ـ في بناء الأسرة لا يشيرون إلى تحريم الزنى ولا يشيرون إلى آثاره السلبية (1) .
ـ في السياسة الخارجية لا يشيرون إلى أية صلة مع العالم الإسلامي .
ـ لا يشيرون إلى التاريخ الإسلامي الذي أكسب الأمة العربية مكانة وقدراً بين الشعوب .
ـ رغم مطالبة الحزب بإتاحة أكبر قدر من الحرية للمواطنين ، فإن ممارساته القمعية فاقت كل تصور وانتهكت كل الحرمات ووأدت كل الحركات ، وألجأت الكثيرين إلى الهجرة والفرار بعقيدتهم من الظلم والاضطهاد .
ـ القوانين في البلاد التي يحكمها البعث علمانية وحانات بيع الخمور مفتوحة ليل نهار ، والنظام المالي ربوي ، ودعاة الإسلام مضطهدون بشكل سافر .
الجذور الفكرية والعقائدية :
1ـ يعتمد الحزب على الفكر القومي الذي ظهر وبرز بعد سقوط الدولة العثمانية في العالم العربي والذي نادت به أوروبا ، والذي نادى به منظر القومية العربية في العالم العربي آنذاك ساطع الحصري .
__________
(1) بل يدعون له ويؤيدونه في آدابهم قصصاً كانت أم أشعاراً . كما سيأتي عند الحديث عن ( المواقف الجنسية ) في ثلاثية الحمد ، واستاذه نجيب محفوظ!(59/96)
2ـ يعتمد الحزب على الفكر العلماني إذ ينحي مسألة العقيد الدينية جانباً ولا يقيم لها أي وزن سواء على صعيد الفكر الحزبي أو على صعيد الانتساب إلى الحزب أو على صعيد التطبيق العلمي .
3ـ يستلهم الحزب تصوراته من الفكر الاشتراكي ويترسم طريق الماركسية رغم انهيارها ، والخلاف الوحيد بينهما أن اتجاهات الماركسية أممية ، أما البعث فقومي ، وفيما عدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الفقري في فكر الحزب ومعتقده ، وهي لا تزال كذلك رغم انهيار البنيان الماركسي فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي .
4ـ لقد كان الحزب واجهة انضوت تحته كل الاتجاهات الطائفية ( درزية ـ نصيرية ـإسماعيلية ـ مسيحية ) وأخذ هؤلاء يتحركون من خلاله بدوافع باطنية يطرحونها ويطبقونها تحت شعار الثورة والوحدة والحرية والاشتراكية والتقدمية ، وقد كانت الطائفة النصيرية أقدر هذا الطوائف على استغلال الحزب لتحقيق أهدافها وترسيخ وجودها ، إلى أن وصلت إلى الحكم في سوريا (1) .
الانتشار ومواقع النفوذ :
1ـ للحزب أعضاء ينتشرون في معظم الأقطار العربية ، بعضهم يعمل بشكل علني ، وبعضهم الآخر سري ! ويتفاوت وجودهم وتأثيرهم من بلد إلى آخر على حسب طبيعة البلد ونوعية حكمه!
__________
(1) وقد ذكر تركي الحمد أن أكثر أعضاء البعث الذي ارتبط به هشام العابر في السعودية كانوا من الرافضة ، فهم يريدون أن يستغلوا هذا الحزب للوصول إلى الحكم ـ زعموا ـ ثم ينزعوا الحجاب عن وجوههم ( الطائفية ) . والعجب أن ينخدع بهم شباب أهل السنة ـ كهشام العابر ! ـ الذي سيكون هو وغيره مطية لهم إلى الحكم ، ثم سيردد بعد ذلك مقولة ( أكلت يوم أكل الثور الأسود ) ! فهل آن لنا أن نعي ألاعيب أهل البدع ؟(59/97)
2ـ يحكم حزب البعث بلدين عربيين مهمين هما سوريا والعراق ، وقد عجز الحزب عن تحقيق الوحدة بين فصائله ، بل إن الصراع بين شطري البعث مستمر وعلى أشده ، واتهامات الخيانة بين الطرفين لا تنقضي ، وإذا كان هذا هو شأن الحزب في بلدين يخضعان له ، فهو من باب أولى عاجز عن تحقيق وحدة الأمة العربية بكاملها .
... والبعثيون يتطلعون إلى استلام السلطة في جميع أرجاء الوطن العربي باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزأ من طموحاتهم البعيدة ، وقد أدت بهم هذه الرغبة العارمة إلى السقوط في حمأة الإنذار المقنع والتهديد السافر والعدوان الصريح ، وربما يكون حزب البعث في العراق من أسوأ ما شهده التاريخ .
ويتضح مما سبق :
... أن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي سلطوي يحاد الله ورسوله ويسعى إلى قلب الأوضاع في العالم العربي ويتخذ العلمانية وتحقيق الاشتراكية مطلباً يبرر سياسته القمعية ، ورسالته التي يصفها ، على خلاف الحقيقة ، بالتقدمية ، ويجعل من الوحدة العربية هدفاً ينفذه بالضم والإرغام رغم إدارة الشعوب .
... والعلاقة معه يجب أن يحكمها قول الله سبحانه : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوآدون من حآد الله ورسوله ) (1) .
الإنسانية
عندما أعيت الحمد الأفكار والمذاهب ، فاحتار في أيها الصحيح : هل هو الإسلام : أم الماركسية : أم القومية ، أم .. أم . .
... تفتق ذهنه عن فكرة أخرى رآها تحل له مشاكله وتريحه من عناء التفرق والانقسام والخلافات بين الفرق والأديان والمذاهب تلكم الفكرة هي فكرة (الإنسانية)! وهي فكرة ( خيالية ) يتوهم بها الحمد أن يعيش الناس ـ من خلالها ـ إخوة متحابين ، لا تفرق بينهم الأديان ، وإنما هم بشر متساوون فيما بينهم كتساوي أسنان المشط .
ـ يقول الحمد على لسان هشام :
__________
(1) سورة المجادلة ، الآية 22 .(59/98)
... ) لماذا لا نتعامل مع الإنسان بصفته إنساناً أولاً ، أي صفته الأولى التي خرج بها إلى الحياة ، ثم تأتي اللواحق كأن يكون بروليتاريا أو برجوازياً عربياً أو أعجمياً؟ ... نحن نتعامل مع الناس بصفاتها اللاحقة وننسى الصفة الأولى التي أتي بها إلى الحياة ، ويخرج منها بها . . لو بحثت في أعماق الناس المستورة لوجدتهم مثل بعضهم ولكن قاتل الله اللواحق . . .
... وضحك عبد الله وهو يقول :
ـ هل تريد أن تعرج بنا على فرويد وصحبه ؟
... فضحك هشام أيضاً وهو يقول :
ـ ولا فرويد ولا عبد المتجلي . . أتدري من يطوف بخيالي الآن ؟
ـ من يا صاحب الحكمة ؟
ـ غاندي . . . المهاتما غاندي .
... وبانت نظرات الاستغراب وجه عبد الله وهو يقول :
ـ غاندي ؟! . . قديس الهند . . . ما علاقته بكل هذيانك ؟
ـ كل العلاقة . . .
... قال هشام وهو ينفخ الدخان إلى الأعلى :
ـ عندما كان يتعامل مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا ، ومع الاستعمار البريطاني في الهند ، لم يكن يقسم الناس إلى مستعمرين ومستعَمرين ، طبقات وفئات وجماعات متصارعة ، بل كان يتعامل مع الحس الإنساني المطمور في داخل الجميع . . . لم يكن يقاوم العنف بالعنف ، لأن العنف يأتي بالعنف بشكل تصاعدي ، ولكنه كان يتحمل عنف وقسوة الآخرين حتى الدرجة التي يستثير فيها حسهم الداخلي بالتعاطف معه ، ومن ثم يدركون أنهم مخطئون وظالمون . . . وقد نجح (1)
... ويقول : ) الإنسان لا يكون نفسه عندما يكون مقيداً بأي نوع من القيود ، قيود اجتماعية أو سياسية أو تنظيمية ، أو أي نوع من القيود التي تستر جوهر الإنسان فيه (2) .
__________
(1) الكراديب ( ص226)
(2) الكراديب ( 231)(59/99)
... قلت : لقد كذب الحمد على نفسه ثم صدقها ، حيث تخيل أن يعيش الناس متحابين في ما بينهم ، متعاونين متآزرين . . . ثم ادعى أن هذا هو حال الإنسان قبل الأديان والمذاهب . ولو صدق الحمد مع نفسه لعلم أن الإنسان الأول وهو آدم كان على دين التوحيد الخالص ، وهو الإسلام ، وهكذا أبناؤه وأحفاده إلى أن حدث الشرك في الأرض ، وعندها بدأ الانحراف ، وبدأت المذاهب الباطلة تنتشر بين البشر . وقد قال تعالى مبيناً هذا {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (1) .
... قال ابن عباس : ) كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق (2) .
... فلو صدق الحمد مع نفسه لكان مسلماً موحداً ، لأن هذا هو ما كانت (الإنسانية ) عليه فيما مضى إلى أن حدث الانحراف ، وهذا هو الموافق للفطرة التي يحملها الإنسان عند ولادته كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأ بواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " (3)
... أما الدعوة ( الإنسانية ) التي يدعو إليها الحمد فهي دعوة باطلة لأنها تساوي بين الحق والضلال ، وبين دين الإسلام وغيره من الأديان الباطلة ، وبين التوحيد والشرك ، وبين المسلمين والمشركين والكافرين ، وقد قال تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (4) .
... وقال سبحانه {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (5)
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 213 .
(2) تفسير ابن كثير ( 1/257) .
(3) أخرجه البخاري ومسلم ولم يقل في الحديث " أو يؤسلمانه ) لأن الفطرة هي الإسلام وانظر كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ على هذا الحديث في " شفاء العليل " ( ص 470وما بعدها ) و" أحكام أهل الذمة " (2/ 523ومابعدها) حيث أطال في شرحه .
(4) سورة القلم ، الآيات : 35، 36 .
(5) سورة ص ، الآية : 28 .(59/100)
... يقول الشيح محمد قطب ـ حفظه الله ـ : ( ولكن أناساً قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عند الحقيقة التي تنطوي عليها وقد لا يصدقون أصلاً أنها دعوة إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين في الأرض لأمر يراد ) (1) .
... قال الشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله ـ عن الإنسانية : ( اتسع انتشار هذه اللفظة البراقة بين المسلمين عامتهم وخاصتهم ، ويستملح الواحد نفسه حين يقول : هذا عمل "إنساني " وهكذا حتى في صفوف المتعلمين والمثقفين ، وما يدري المسكين أنها على معنى " ماسونية " وأنها كلمة يلوكها بلسانه ، وهي حرب عليه ، لأنها ضد الدين ، فهي دعوة إلى أن نواجه المعاني السامية في الحياة بالانسانية لا بالدين ) (2) .
... قلت : وانظر لبطلان هذه الدعوة : كتاب ( مذاهب فكرية معاصرة ) للشيخ محمد قطب ، وكتاب ( الإسلام والدعوات الهدامة ) للأستاذ أنور الجندي .
... أما عن مدح الحمد للهندوسي المتعصب غاندي بأنه إنساني النزعة ، فانظر حقيقة هذا في كتاب ( مشاهداتي في الهند ) للشيخ محمد المجذوب حيث بين حقيقة هذا الهندوسي الذي خدع كثيراً من المسلمين ( بانسانيته !) وذكر شيئاً من قبائحه .
... ومن ذلك أن المسلمين في الهند نشطوا في دعوة طائفة ( المنبوذين ) في الهند إلى الإسلام ، وكادوا يستجيبون لهم لولا تدخل الهندوسي ( غاندي ) ! يقول المجذوب : ( كان لغاندي أثره الكبير في تجميد تلك الحركة أيامئذٍ ، إذ فتح للمنبوذين أبواب المعابد التي كانت مغلقة في وجوههم ، وتعهد لهم برد الكثير من الاعتبار الإنساني إليهم بعد الاستقلال إذا هم حافظوا على انتمائهم للنحلة الهندوسية ، وإنما فعل ذلك خشية أن تزداد بهم قوة المسلمين ) (3) .
__________
(1) مذاهب فكرية معاصرة ( ص 591 ) .
(2) معجم المناهي اللفظية ( ص87 ) .
(3) مشاهداتي في الهند ( ص59) .(59/101)
عقيدة أهل السنة في القدر (1)
... من القضايا التي ألح عليها الحمد في ثلاثيته كثيراً قضية ( القدر ) حيث حاول الحمد أن ينقل جهله وعدم فهمه لهذه القضية إلى القراء فيوحي لهم في مواضع كثيرة من ثلاثيته بأن هذا القدر المزعوم هو مجرد عبث ! وأنه لا فرق في ذلك بين أفعال الله ـ عز وجل ـ وأفعال الشيطان !!! ـ تعالى الله عما يقوله الحمد علواً كبيراً ـ .
... وهذا الأمر قد جعله يتناثر بشكل مفتعل في كلمات ( هشام العابر) وأحاديثه مع نفسه خلال الأجزاء الثلاثية .
... فمن ذلك :
__________
(1) لخصتها من كتابي : " القضاء والقدر . . . " للشيخ عبد الرحمن المحمود ، و " الإيمان بالقضاء والقدر " للشيخ محمد الحمد .(59/102)
1ـ قوله عن هشام : ( عصر ذلك اليوم ذهب مبكراً إلى منزل عبد الكريم ، ولم تكن الشلة قد وصلت بعد . كان عبد الكريم مسترخياً وقد مد رجليه أمامه ، ولا يرتدي إلا سروالاً نصفياً وفانيلة بيضاء نصف كم ، ويحتسي الشاي الذي لا يفارقه أبداً ، وقد أمسك برواية " الغريب " لألبير كامو وهو مستغرق في قراءتها . كان باب "الحوش " مفتوحاً كالعادة في مثل هذا الوقت ، ولذلك لم يشعر عبد الكريم إلا وهشام يقف أمامه وهو يقول : " يا عيني على الأفخاذ الندية . . . " ألقى عبد الكريم الرواية من يده وابتسم محيياً هشام ، ثم دعاه للجلوس فيما هو ينهض وقد حمل صينية الشاي قائلاً : " دقيقه واحدة ويكون الشاي جاهزاً " ، ثم انطلق إلى داخل المنزل . وما هي إلا دقائق وعاد عبد الكريم وقد ارتدى ثوباً أبيض ، أو كان أبيض فقد كان مليئاً بالبقع الصفراء والبنية ، وجلس مقابل هشام وقال دون مقدمات " أنا يا أخي لا أفهم . . . هل هناك فعلاً أشخاص مثل الغريب الذي يتحدث عنه كامو ، أم أن المسألة مجرد أبداع مؤلف أو تعبير عن حالته النفسية في لحظة ما ؟ . . . شخص عبثي لهذه الدرجة ! لا يأبه بوفاة أمه ولا بمحاكمته وموته هو شخصياً ! . . . أعتقد أن هذه مبالغة . . . أليس كذلك ؟ " ومد هشام إحدى رجليه ، وشبك ذراعيه خلف رأسه ، واستند إلى الحائط وهو يقول : " ربما يكون مثل هذا العبث مبالغة بالنسبة لنا ، ولكن لو عرفت الظروف التي عاشها كامو ، وحالة المجتمع الأوروبي بعد الحرب ، لربما أدركنا أن العبث قد يكون جزءاً من الحياة . . . " ، ثم اعتدل هشام في جلسته وهو يقول : " ما الفرق بين العبث والقدر ؟ ، " لم أفهم . . . " قال عبد الكريم ، " ما نسميه قدراً قد يكون عبثاً ، وما يسمونه عبثاً قد نسميه قدراً . المسألة يا عزيزي هي في كيف ننظر إلى الأمور وليس في الأمور ذاتها ليس هناك حقيقة في ذاتها ) (1) .
__________
(1) العدامة ( ص 180ـ 181) .(59/103)
2ـ قوله على لسان هشام : ( طوال الطريق إلى المنزل ، كان هشام يفكر بالقدر واللعبة الغريبة التي يمارسها معه ) (1) .
3ـ قوله عن رحلتهم إلى القصيم عندما تاهوا في الصحراء : ( ولكن الصحراء مثل القدر يسحقك ويكتم أنفاسك ) (2) .
4ـ قوله على لسان هشام عندما علم بأن ( سوير ) حامل منه : ( كتب علينا أن نخطئ وطلب منا ألا نفعل . فماذا نفعل ؟ ... ماذا نفعل ... ماذا نفعل ... ) (3) .
5ـ قوله على لسان هشام محاوراً زميله في السجن عارف : ( إني كنت منتمياً إلى حزب البعث ... ولم أقل أني بعثي بل لم أكن بعثياً في يوم من الأيام .
... ـ عجيب ! .. وما الفرق ؟ أهذا لغز ؟
وسرح هشام بعيداً وهو يقول لنفسه هامساً : مثل لغز الحتم والإرادة ، والجبر والاختيار ) (4) .
6ـ قوله على لسان هشام مخاطباً الشيوعي عارف : ( وكما ترى يا أبا وحيد ،فنحن لسنا أحرار تماماً في اختيار مصائرنا .. أليس هذا هو جوهر المادية التاريخية ؟
... وضحك عارف في وجه هشام بشدة جعلته يشيح بوجهه قليلاً بعفوية ودون إرداة ، ثم قال وهو يهز سبابته في الهواء :
... ـ ليس تماماً يا صاحبي .ليس تماماً . المادية التاريخية والجدلية تتحدث عن مصير الشعوب والمجتمعات والأفكار ... إنها تتحدث عن الحتمية أما ما تقوله ، فهو جوهر الفكر الديني .أنت تتحدث عن القضاء والقدر ربما ، لا عن المادية التاريخية قطعاً .
ـ وما الفرق ؟ .. أليس كله حتم في حتم ؟ ) (5) .
7ـ قوله على لسان عارف الشيوعي متحدثاً عن الموت الذي يتربص بهم في السجن:
??( نهرب من قضاء الإله لنقع في قضاء المخلوق ... وكلها أقضية في أقضية . هل هناك عبث أكثر من ذلك ؟ ) (6) .
__________
(1) العدامة ( ص245) .
(2) العدامة ( ص259) .
(3) الشميسي ( ص 173 ) .
(4) الكراديب ( ص53 ).
(5) الكراديب ( ص74 ) .
(6) الكراديب ( ص56-57 ) .(59/104)
8ـ قوله على لسان هشام متحدثاً عن السجن : ( هذا المبنى القبيح .كيف كان الوزراء يحتملون الاجتماع فيه عندما كان مقراً لمجلس الوزراء في الأيام الخالية ؟ ولكنها إرادة مثل القدر والحتم ... مقر الوزراء يتحول إلى مقر للسجناء
)!? (1) .
9ـ قوله على لسان هشام متحدثاً مع نفسه :
... ( لماذا الاستمرار في مسرحية لا معنى لها ولا هدف ؟ ) (2) .
... ( أكل هذا جزء من قدر إلهي ، أم هو عبث شيطاني ، أم هي حكمة لا ندريها، مختبئة في عباءة قدر عابث ، أو عبث قادر ؟ لا أحد يدري ، فالله والشيطان واحدٌ هنا ، وكلاهما وجهان لعملة واحدة ... الصورة وعكسها ، ولكن الكائن واحد . الحياة كلها سؤال بلا جواب ) (3) .
... ( بأي منطق يموت طفل صغير لم يكد يتنسم ريح الحياة وأريج الزهور ؟ إن كان هناك منطق ومعنى في وجوده ، فكيف يختفي قبل أن يمنح فرصة الوجود ؟ وإن يكن هناك منطق في موته ، فلماذا يوجد أصلاً ؟ وإن لم يكن هناك منطق في وجوده أو في موته ، فلماذا يوجد ويموت ؟ بل بأي منطق تموت ذبابة حقيرة نسحقها لأنها مؤذية ولا تستحق الحياة ؟ إذا كانت مؤذية ولا تستحق الحياة ، فلماذا وجدت ؟ وإذا كان لها حق في الحياة ، فلماذا تقتل ؟ من الذي يحدد من يؤذي من ؟ هل ما يجري هو حكمة خافية لا ندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدناه فأصبح نظاماً ، أم مزيج منهما ، أم ولا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد ، فربما كتب علينا أن نعيش ونموت ونحن ملفوفون في خرق بالية من الجهل والضياع . قد لا يكون ذلك الجهل جزءاً من الحكمة الخفية ، أو من العبث المعربد ، ولكنه يبقى جهلاً ) (4) .
قلت : بهذا النقول السابقة من ثلاثية الحمد ، يتضح لنا أنه متحير في مسألة القضاء والقدر وهي أحد أركان الإيمان ـ كما هو معلوم ـ
__________
(1) الكراديب ( ص112) .
(2) الكراديب ( ص 144) .
(3) الكراديب ( ص137).
(4) الكراديب ( ص214-215) ونظر أيضاً ( ص134) .(59/105)
... وبتأمل عباراته نجده يميل إلى :
1ـ مذهب الجبرية الذين يقولون بأنه لا إرادة للعباد .
2ـ أن أفعال الله ـ تعالى ـ ليست لحكمة ، بل ربما تكون مجرد عبث !! تعالى الله عن ذلك .
... لهذا فإنه لابد من توضيح هذه المسألة العظيمة التي خاض فيها الحمد دون علم ـ بل جهل وحيرة وتقليد لغيره ـ وسيكون هذا التوضيح متضمناً لذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر ثم أقوال الفرق التي انحرفت فيها ـ ومن ضمنهم الجبرية الذين مال الحمد إلى قولهم ـ ثم الرد عليها .
فأقول مستعيناً بالله ـ :
ـ القدَر هو تقدير الله ـ تعالى ، الأشياء في القِدَم وعلمه ـ سبحانه ـ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة ، وكتابته ـ سبحانه ـ لذلك ومشيئته له ، ووقوعها على حسب ما قدرها ، وخلقه لها .
ـ لا فرق بين ( القضاء ) و ( القدر ) في المعنى فكلٌ منهما يدل على معنى الآخر ـ على القول الصحيح ـ .
ـ الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي وردت في قوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإيمان : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " (1) وقد ورد ذكر القدر في القرآن في قوله تعالى : ( إنا كل شئ خلقه بقدر ) (2) .
ـ مراتب القدر عند أهل السنة أربع :
أ ـ مرتبة العلم : أي أن الله علم ما الخلق عاملون ، بعلمه القديم وأدلة هذا كثيرة منه قوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } (3) .
__________
(1) رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإيمان والإسلام والإحسان ( رقم 1) .
(2) سورة القمر ، الآية ( 49 ) .
(3) سورة الحشر ، الآية 22 .(59/106)
ب ـ مرتبة الكتابة : أي أن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ . ودليل هذا قوله تعالى : {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) .
... وقوله - صلى الله عليه وسلم - " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه (2) "
ج ـ مرتبة الإرادة والمشيئة : أي أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله ـ سبحانه وتعالى ـ فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يخرج عن إرادته شيء .
... دليل هذا قوله تعالى : {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) . ، وقوله : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) .
د ـ مرتبة الخلق : أي أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ، ومن ذلك أفعال العباد ، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه ، لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (5) . وقوله : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (6) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " (7) .
قد يقول قائل هنا : إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله ، وهي فعل لهم حقيقة ، كيف نجمع بين هذين الأمرين ؟
... والجواب كما قال شيخ الإسلام :
__________
(1) سورة الحج ، الآية 70 .
(2) رواه مسلم ( 2653 ) .
(3) سورة الكهف ، الآية : 32-24) .
(4) سورة التكوير ، الآية : 29 .
(5) سورة الرعد ، الآية 16 .
(6) سورة الصافات ، الآية : 96 .
(7) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة ( 257و 358 ) وصححه الألباني في الصحيحة ( 1637) .(59/107)
... ( قول القائل : هذا فعل هذا ، وفعل هذا : لفظ فيه إجمال ، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل ، وتارة يراد به مسمى المصدر ، فيقول : فعلت هذا أفعله فعلاً ، وعملت هذا أعمله عملاً ، فإذا أريد بالعمل نفس العمل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك ، فالعمل هنا هو المعمول ، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجه الثوب ، وبناء الدار ونحو ذلك فالعمل هنا غير المعمول ، قال -تعالى - {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (1) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن ، ومن هذا الباب قوله ـ تعالى ـ : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (2) . أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها ... والمقصود أن لفظ " الفعل " و " العمل " و" الصنع " أنواع ، وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر ، وعلى المفعول ، وكذلك لفظ " التلاوة " و " القراءة " و " الكلام " و " القول " يقع على نفس مسمى المصدر ، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام ، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء والمتلو ، كما يراد بها مسمى المصدر .
__________
(1) سورة سبأ ، الآية : 13 .
(2) سورة الصافات ، الآية : 96 .(59/108)
... والمقصود أن القائل إذا قال : هذه التصرفات فعل الله ، أو فعل العبد ، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر ، فهذا باطل باتفاق المسلمين ، وبصريح العقل ، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق " ، ثم وضح المسألة فقال " وأما من قال ( وهم جمهور أهل السنة ) : خلق الرب ـ تعالى ـ لمخلوقات ليس هو نفس مخلوقاته ، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات ، ومفعولة للرب كسائر المفعولات ، ولم يقل :إنها نفس فعل الرب وخلقه ، بل قال : إنها نفس فعل العبد ، وعلى هذا تزول الشبهة ، فإنه يقال : الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له ، كما يفعلها العبد ، وتقوم به ، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره ، كم أنه ـ سبحانه ـ لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال ، والمقادير والحركات وغير ذلك ، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة ، أو طعماً مراً ، أو صورة قبيحة ، ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح ، لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة ، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها ، وسبباً لذمه وعقابه ، وجالبة لألمه وعذابه ، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره ) (1) .
... قال الشيح ابن سعدي ـ رحمه الله ـ : ( إن الله كما أنه الذي خلقهم ـ أي الناس ـ ، فإنه خلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم ؛ ثم هم فعلوا الأفعال المتنوعة : من طاعة ومعصية ، بقدرتهم وإرادهم اللتين خلقها الله ) (2) .
__________
(1) القدر لشيخ الإسلام ( ص 121-123 ) .
(2) الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية ، للشيخ ابن سعدي ( ص18) .(59/109)
ـ ( أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يفعل مايفعل لحكمة يعلمها هو ، وهو يُعْلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه ، وقد لا يعلمون ذلك ، والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرساله محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال ـ تعالى ـ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ " إنه سبحانه حكيم ، لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة ، وهي الغاية المقصودة بالفعل ، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل ، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل ، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا " (2) ، وأدلة أهل السنة مستفيضة في الكتاب والسنة لا تخفى على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنة ، وقد أطال ابن القيم النفس جداً للاستدلال لها ، فذكر أكثر من اثنين وعشرين نوعاً من الأدلة ، كل نوع يحوي مجموعة من النصوص ، وقد نقض في أثناء عرض الأدلة المذاهب المخالفة ، ورد عليها (3) ، كما رد ابن تيمية على المذاهب المخالفة وذكر الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة (4) ، وهذا هو المذهب الحق في هذه المسالة ) .
ـ إرادة الله ـ عز وجل ـ على قسمين :
__________
(1) سورة الأنبياء ، الآية : 107 ، وانظر في هذا " مجموعة الرسائل الكبرى " 1/335 .
(2) شفاء العليل ص 190.
(3) انظر شفاء العليل ص 185 إلى 206 ، وانظر أيضاً : مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/42 وما بعدها .
(4) انظر مجموع الفتاوى : المجلد الثامن ـ القدر ـ الصفحات 37ـ 39ـ 81ـ78- 377 وما بعدها ، ومجموعة الرسائل والمسائل ( 5/162) ـ ومجموعة الرسائل الكبرى ( 1/326) وما بعدها ، وانظر أيضاً : نقص تأسيس الجهمية لابن تيمية ( 1/ 198و 213 ) وما بعدها ، وانظر : ابن تيمية السلفي ( ص 183 ) وما بعدها(59/110)
أ ـ إرادة كونية قدرية : وهي مرادفة للمشيئة ، وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء ؛ فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواء ؛ فالطاعات ، والمعاصي ، كلها بمشيئة الرب ، وإرادته .
... ومن أمثلتها قوله ـ تعالى ـ : {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } (1) ، وقوله : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } (2) .
ب ـ إرادة شريعة دينية : وتتضمن محبة الرب ، ورضاه .
... ومن أمثلتها قوله ـ تعالى ـ : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وقوله : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } (4) ، وقوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } (5) .
الفرق بين الإرادتين : بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فروق تميز كل واحدة منهما عن الأخرى ، ومن تلك الفروق ما يلي :
1ـ الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها ، وقد لا يحبها ولا يرضاها أما الشرعية فيحبها الله ويرضاها ؛ فالكونية مرادفة للمشيئة ، والشرعية مرادفة للمحبة .
2ـ الإرادة الكونية قد تكون مقصودة لغيرها كخلق ابليس مثلاً ، وسائر الشرور ؛ لتحصل بسببها محاب كثيرة كالتوبة ، والمجاهدة ، والاستغفار .
... أما الشرعية فمقصودة لذاتها ؛ فالله أراد الطاعة وأحبها ، وشرعها ورضيها لذاتها .
3ـ الإرادة الكونية لابد من وقوعها ؛ فالله إذا شاء شيئاً وقع ولا بد ، كإحياء أحد أو إماتته ، أو غير ذلك .
__________
(1) سورة الرعد ، الآية : 11 .
(2) سورة الأنعام ، الآية 125 .
(3) سورة البقرة ، الآية 185 .
(4) سورة النساء ، الآية 27 .
(5) سورة المائدة ، الآية 6 .(59/111)
... أما الشرعية كالإسلام ـ مثلاً ـ فلا يلزم وقوعها ، فقد تقع وقد لا تقع ، ولو كان لابد من وقوعها لأصبح الناس كلهم مسلمين .
4ـ الإرادة الكونية متعلقة بربوبية الله وخلقه ، أما الشرعية فمتعلقة بألوهيته وشرعه.
5ـ الإرادتان تجتمعان في حق المطيع ، فالذي أدى الصلاة ـ مثلاً ـ جمع بينهما ؛ وذلك لأن الصلاة محبوبة لله ، وقد أمر بها ورضيها وأحبها ، فهي شريعة من هذا الوجه ، وكونها وقعت دل على أن الله أرادها كوناً فهي كونية من هذا الوجه ؛ فمن هنا اجتمعت الإرادتان في حق المطيع .
... وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر ، ومعصية العاصي ، فكونها وقعت فهذا يدل على أن الله شاءها ؛ لأنه لا يقع شيء الإ بمشيئته ، وكونها غير محبوبة ولا مرضية لله دليل على انها كونية لا شرعية .
... وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر ، وطاعة العاصي ، فكونها محبوبة الله فهي شرعية ، وكونها لم تقع ـ مع أمر الله بها ومحبته لها ـ هذا دليل على أنها شرعية فحسب ؛ إذ هي مرادة محبوبة لم تقع .
6ـ الإرادة الكونية أعم من جهة تعلقها بما لا يحبه الله ولا يرضاه ، من الكفر والمعاصي ، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر ، وطاعة الفاسق .
... والإرادة الشرعية أعم من جهة تعلقها بكل مأمور به ، واقعاً كان أم غير واقع ، واخص من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به .
... هذه فوارق بين الإرادتين ، فمن عرف الفرق بينهما سلم من شبهات كثيرة ، زلت بها أقدام ، وضلت بها أفهام ، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً ومن نظر إلى الشرع دون القدر أو العكس كان أعور ) .(59/112)
ـ ( الإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح ، وهو الاختبار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه ـ تعالى ـ ، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله ، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال ، وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها ، وقد كثر الاختلاف حول القدر ، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره ، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمن يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين عن طريق الكلام في القدر ، ودس الشبهات حوله ، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع الإ من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، مسلماً الأمر الله ، مطمئن النفس ، واثقاً بربه ـ تعالى ـ ، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً ، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقية الأركان ) .
... ـ خالف أهل في مسألة القدر فرقتان رئيسيتان :
أولا هما : القدرية .
ثانيهما : الجبرية .
أما القدرية فقالوا :
... ( إن العبد مستقل بعلمه في الإرادة والقدرة ، ليس لمشيئة الله ـ تعالى ـ وقدرته في ذلك أثر .
... ويقولون : إن أفعال العباد ليست مخلوقة الله ، وإنما العباد هم الخالقون لها ، ويقولون : إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله .
... وغلاتهم ينكرون أن يكون الله قد علمها ، فيجحدون مشيئته الشاملة ، وقدرته النافذة ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ؛ لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا : إن للكون إلهين : إله النور : وهو خالق الخير ، وإله الظلمة : وهو خالق الشر .
... وأما الجبرية ـ وهم الذين يؤيد الحمد مذهبهم ـ(59/113)
فإنهم ( غلو في إثبات القدر ، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل ـ حقيقة ـ بل هو في زعمهم لا حرية له ولا فعل ، كالريشة في مهب الريح ، وإنما تسند إليه الأفعال مجازاً ، فيقال : صلى وصام ، وقتل ، وسرق ، كما يقال : طلعت الشمس ، وجرت الريح ، ونزل المطر ، فاتهموا ربهم بالظلم ، وتكليف العباد بما لا قدرة عليه ، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم ، واتهموه بالعبث في تكليف العباد ، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي ، ألا ساء ما يحكمون .
... وهؤلاء في الحقيقة يزعمون أن الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم ، بخلاف ما عليه أهل السنة ، الذين يقولون : إن الله هوالخالق ، والعبد هو الفاعل ، ولذا ترتب على فعله الثواب والعقاب .
... هؤلاء ـ الجبرية ـ يسمون بالقدرية المشركية ، لأنهم شابهوا المشركين في قولهم : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (1) .
... وحيث أن تركي ا لحمد قد أيد مذهبهم ، واحتج على المعاصي والآثام التي يرتكبها ( هشام العابر ) بالقدر كقوله :
... ( كتب علينا أن نخطئ ) (2) .
... فإن الرد سيكون منصباً على مسألة : هل يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ؟
... فأقول :
الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات :
... (الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات ، أو فَعَلَ من المعاصي .
__________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 148 .
(2) الشميسي ( ص173 ) .(59/114)
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين ، وسائر أهل الملل ، وسائر العقلاء ؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال ، وسائر أنواع الفساد في الأرض ، ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه ، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه ، بل يتناقص، وتناقض القول يدل على فساده ، فالا حتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول " (1) .
... وبما أن هذا الأمر مما يعم به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية والعقلية ، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات .
1ـ قال الله- تعالى - : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (2) فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم ، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه.
2ـ قال تعالى : {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (3)
... فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لما كان هناك داع لأرسال الرسل .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 8/179) ، وانظر : اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/ 858-859 ) .
(2) سورة الأنعام ، الآية : 148.
(3) سورة النساء ، الآية : 165 .(59/115)
3ـ أن الله أمر العبد ونهاه ، ولم يكلفه إلا ما يستطيع ، قال ـ تعالى ـ : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (1) ، وقال : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
... ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه ، وهذا باطل ، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل ، أو إكراه ، فلا إثم عليه لأنه معذور .
4ـ أن القدر سر مكتوم ، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه ، وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله ، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علم بقدر الله ، فادعاؤه أن الله قدر عليه كذا وكذا ادعاء باطل ؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله ، فحجته إذاً داحضة ؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه .
5ـ أننا لو سلمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطلنا الشرائع .
6ـ لو كان الاحتجاج بالقدر ـ على هذا النحو ـ حجة لقبل من إبليس الذي قال : {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) .
7ـ ولو كان حجة هؤلاء مقبولة ـ أيضاً ـ لتساوى فرعون عدو الله ، مع موسى كليم الله ـ عليه السلام ـ .
8ـ الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعائب تصحيح لمذهب الكفار ، وهذا لازم لهذا المحتج ، لا ينفك عنه .
9ـ ولو كان حجة لا حتج به أهل النار ، إذا عاينوها ، وظنوا أنهم مواقعوها ، كذلك إذا دخلوها ، وبدأ توبيخهم وتقريعهم ، هل يحتجون بالقدر على معاصيهم وكفرهم ؟
__________
(1) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 286 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 16 .(59/116)
... الجواب : لا ؛ بل إنهم يقولون كما قال ـ عز وجل ـ عنهم : {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ } (1) ، ويقولون : ( ربنا غلبت علينا شقوتنا ) (2) ، وقالوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (3) ، وقالوا : {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (4) ، إلى غير ذلك مما يقولون .
... ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لا حتجوا به ؛ فهم بأمس الحاجة إلى ما ينقذهم من نار جهنم .
10 ـ ومما يرد هذا القول ـ أيضاً ـ أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه ، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر .
... فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر ؟!
... وإليك مثالاً يوضح ذلك : لو أراد إنسان السفر إلى بلد ، وهذا البلد له طريقان ، أحدهما آمن مطمئن ، والآخر كله فوضى واضطراب ، وقتل ، وسلب ، فأيهما سيسلك ؟
... لاشك أنه سيسلك الطريق الأول ، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار ؟
11 ـ ومما يمكن أن يُرد به على هذا المحتج ـ بناء على مذهبه ـ أن يقال له : لا تتزوج ، فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك ، وإلا فلن يأتيك ، ولاتأكل ولا تشرب ، فإن قدر الله لك شبعاً ورياً فسيكون ، وإلا فلن يكون ، وإذا هاجمك سبع ضار فلا تفر منه ، فإن قدر الله لك النجاة فستنجو ، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار ، وإذا مرضت فلا تتداو ، فإن قدر الله لك شفاءً شفيت ، وإلا فلن ينفعك الدواء .
... فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا ؟ إن وافقنا علمنا فساد عقله ، وإن خالفنا علمنا فساد قوله ، وبطلان حجته .
__________
(1) سورة إبراهيم ، الآية : 44 .
(2) سورة المؤمنون ، الآية : 106 .
(3) سورة الملك ، الآية : 10 .
(4) سورة المدثر ، الآية : 43.(59/117)
12 ـ المحتج بالقدر على المعاصي شبه نفسه بالمجانين ، والصبيان ، فهم غير مكلفين ، ولا مؤاخذين ، ولو عومل معاملتهم في أمور الدنيا لما رضي .
13 ـ لو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للإستغفار ، والتوبة ، والدعاء ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
14 ـ لو كان القدر حجة على المعائب والذنوب لتعطلت مصالح الناس ،ولعمت الفوضى ، ولما كان هناك داع للحدود ، والتعزيرات ، والجزاءات ، لأن المسيىء سيحتج مع القدر ، ولما احتجنا لوضع عقوبات للظلمة ، وقطاع الطريق ، ولا إلى فتح المحاكم ، ونصب القضاء ، بحجة أن كل ماوقع إنما وقع بقدر الله ، وهذا لا يقول به عاقل .
15 ـ أن هذا المحتج بالقدر الذي يقول : لا نؤاخذ ، لأن الله كتب ذلك علينا ، فكيف نؤاخذ بما كتب علينا ؟
... يقال له : إننا لا نؤاخذ على الكتابة السابقة ، إنما نؤاخذ بما فعلناه ، وكسبناه ، فلسنا مأمورين بما قدره الله لنا ، أو كتبه علينا ، وإنما نحن مأمورين بالقيام بما يأمرنا به ، فهناك فرق بين ما أريد بنا ، وما أريد منا ، فما أراده طواه عنا ، وما أراده منا أمرنا بالقيام به .
... ومما تجدر الإشارة إليه أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وأيمان ، وانما هو ناتج عن نوع هوى ومعاندة ، ولهذا قال بعض العلماء فيمن هذا شأنه : " أنت عند الطاعة قدري ، وعند المعصية جبري ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به" (1) .
... يعني أنه إذا فعل الطاعة نسب ذلك نفسه ، وأنكر أن يكون الله قدر ذلك له ، وإذا فعل المعصية احتج بالقدر .
... وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع ، والعقل ، والواقع .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن المحتجين بالقدر : " هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى " (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (8 / 107 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 8/262) .(59/118)
... متى يسوغ الاحتجاج بالقدر ؟
... يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر ، والمرض ، وفقد القريب ، وتلف الزرع ، وخسارة المال ، وقتل الخطأ ، ونحو ذلك ؛ فهذا من تمام الرضا بالله رباً ، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب ، لا المعائب ، " فالسعيد يستغفر من المعائب ، ويصبر على المصائب ، كما قال ـ تعالى ـ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1) . والشقي يجزع عند المصائب ، ويحتج بالقدر على المعائب " (2) .
... ويوضح ذلك المثال الآتي : لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق الخطأ ، ثم لامه من لامه ، واحتج القاتل بالقدر ، لكان احتجاجه مقبولاً ، ولا يمنع ذلك من أن يؤاخذ .
... ولو قتل رجلٌ رجلاً عن طريق العمد ثم قُرَّع القاتل ووُبَّخ على ذلك ، ثم احتج بالقدر ، لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً ؛ ولهذا حج آدم موسى ـ عليهما السلام ـ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في محاجتهما : " احتج آدم وموسى فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، ثم تلومني على أمر قد قدّر علي قبل أن أخلق ؟ فحج آدم موسى" (3) .
... فآدم ـ عليه السلام ـ لم يحتج بالقدر على الذنب كما يظن ذلك بعض الطوائف ، وموسى ـ عليه السلام ـ لم يلم آدم على الذنب ؛ لأنه يعلم أن آدم استغفر ربه وتاب ، فاجتباه ربه ، وتاب عليه ، وهداه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
__________
(1) سورة غافر ، الآية :55.
(2) مجموعة الفتاوى (8/454 ) ، وانظر : اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/857ـ 858 ) .
(3) أخرجه مسلم ، في كتاب القدر ( 8/50) برقم ( 2652) .(59/119)
... ولو أن موسى لام آدم على الذنب لأجابه : إنني أذنبت فتبت ، فتاب الله علي ، ولقال له : أنت يا موسى ـ أيضاً قتلت نفساً ، وألقيت الألواح إلى غير ذلك ، إنما احتج موسى بالمصيبة فحجه آدم بالقدر . (1) .
... " فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له ؛ فإنه من تمام الرضا بالله رباً ، أما الذنوب فليس لأحد أن يذنب ، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب ، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب " (2) .
... وممن يسوغ له الإحتجاج بالقدر التائبُ من الذنب ، فلو لامه أحد على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر .
... فلو قيل لأحد التائبين : لم فعلت كذا وكذا ؟ ثم قال : هذا بقضاء الله وقدره ، وأنا تبت واستغفر ، لقُبل منه ذلك الاحتجاج (3) .
... ثم إنه لايسوغ لأحد أن يلوم التائب من الذنب ، فالعبرة بكمال النهاية ، لابنقص البداية) .
الماركسيون جبريون :
__________
(1) انظر :مجموعة الفتاوى ( 8/178) ، ومنهاج السنة ( 3/78ـ81) ، والاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص(18ـ22) والفرقان لشيخ الإسلام ( ص103ـ 105) والآداب الشرعية لابن مفلح ( 1/258ـ 260) ، والبداية والنهاية لابن كثير ( 1/83ـ 87).
(2) شرح الطحاوية ص147، وانظر : الفتاوى الكبرى لابن تيمية ( 5/ 163) ، والتدمرية ص (231) ، وانظر : المسائل التي لخصها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من فتاوى ابن تيمية ص ( 34) .
(3) انظر : شفاء العليل (ص35) ، وانظر : القضاء والقدر ، لأسعد محمد الصاغرجي ص(24) ، وتقريب التدمرية لابن عثيمين ص(115) .(59/120)
... وليعلم ـ بعد هذا ـ أن الماركسيون الذين يدين (هشام العابر! ) بدينهم هم من الجبريين في مسألة القدر ، ولهذا رأينا( هشام العابر) (1) الماركسي ينصر هذا المذهب .
... يقول الاستاذ أنور الجندي : ( كل الدعوات الفلسفية الحديثة المادية الاتجاه : من الدارونية إلى الماركسية تُسقط الإرادة الحرة ، وتُعلن الجبرية ) (2) .
تركي الحمد يتنقص في ثلاثيته :
الله وملائكته وكتبه ورسله ودينه وعباده الصالحين
تنقص الحمد الله ـ عز وجل ـ :
... لم يقدر تركي الحمد الله ـ عز وجل ـ حق قدره ولم يعظمه كما يعظمه عباده المؤمنون ، بل تحدث عنه في روايته وكأنه يتحدث عن بشرٍ مثله حديث الند للند بعبارة مملوءة بالتحدي والسخرية ـ والعياذ بالله ـ ، وإن كان قد أخفى أشدها بالأسلوب الرمزي الذي عهدناه من هذا الصنف من البشر عندما يخوضون في مثل هذه الأمور .
... فالحمد جاء في روايته بلهجة غريبة شاذة عن أهل هذا المجتمع في حديثهم عن ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ حيث تجرأ في ذلك بصورة وقحة فاجرة .
... وهو مشابه في هذه الجرأة لتيار الحداثة في ديار المسلمين الذين كانوا أول من ترددت هذه الظاهرة ( الكفرية ) في أشعارهم وأحاديثهم ، حيث لم يتورعوا عن الحديث عن الله ـ عز وجل ـ بألفاظ سوقية بشرية ، فمن ذلك على سبيل المثال :
... قول صلاح عبد الصبور في قصيدته ( الناس في بلادي )
__________
(1) وهكذا (كمال عبدالجواد ) بطل ثلاثية نجيب محفوظ ، جبري لأنه ماركسي ، ونجيب محفوظ يعترف بهذا ويقول كما في ( حول الدين والديمقراطية ـ ص27) : ) في الماركسية مبادىء إنسانية وعدالة اجتماعية تستحق الإعجاب والاحترام ( ! . أما تركي فلم يعترف إلى الآن !
(2) الإنسانية إدارة وحرية ومسئولية (ص13) نقلاً عن القضاء والقدر للشيخ المحمود (ص149) .(59/121)
( يا أيها الإله ، كم أنت قاسٍ موحش يا أيها الإله ) (1) . ... وقول الشاعر (الماركسي) البياتي : ( الله في مدينتي يبيعه اليهود الله في مدينتي مشرّد طريد ) (2) !! ... وقول معين بسيسو : ( وطرقت جميع الأبوا ب أخفتني عاهرة ووشى بي قديس كان الله معي لكن الله هناك يدلي بشهادته .. في مركز بوليس ) (3) !! ... وقل توفيق زياد : ( ومداخن الأفراد ... قائمة .. كآلهة المنايا ) (4) !! ... وقول محمود دريش : ( نرسم القدس إلهً يتعرى فوق خطٍ داكن الخضرة أشباه عصافير تهاجر ) (5) !! ... وهكذا .. في عبارات (كفرية) كثيرة تتناثر في أشعارهم القذرة (6) ... وفي ظني أن هذه الظاهرة السيئة قد وفدت إلى ديار المسلمين عبر شعراء اليهود والنصارى وكتابهم ، الذين تُرجمت أشعارهم وعباراتهم وكانت مصدراً رئيسياً لشعراء المسلمين . ... وأولئك اليهود والنصارى ـ كما هو معلوم ـ لا يعظمون الله حق تعظيمه ، ولا ينزهون اسمه عن لغوهم وباطلهم . ... وسبب ذلك ـ والعلم عند الله ـ هو تأثرهم بما جاء في كتبهم الدينية المحرّفة (لا سيما التوراة) عند الحديث عن الله ـ عز وجل ـ وصفاته حيث تتحدث تلكم الكتب ( المقدسة !) عن الله وصفاته كحديثها عن الخلق وصفاتهم ، فجعلوا ( المولى سبحانه وتعالى في صورة بشر حقود ، سريع الغضب ، كثير الندم ) (7) . ... فمن ذلك قولهم في ( سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ) عن الله ـ عز وجل ـ : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله ... ) (8) !
__________
(1) ديوانه (ص30ـ31) .
(2) ديوانه ( ص 526 ).
(3) ديوان ( ص 440 ) .
(4) ديوانه (ص184) .
(5) ديوانه (ص398) .
(6) انظر لفضح شعراء الحداثة كتاب (الحداثة : مناقشة هادئة لقضية ساخنة ) للدكتور محمد خضر عريف . وكتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) للشيخ عوض القرني .
(7) (( الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة والعهد القديم )) للدكتور محمد الباز ، (ص5) .
(8) المصدر السابق (ص21) .(59/122)
... ومن ذلك إخبارهم عن الله ـ عز وجل ـ بأن اليهود عندما تاهوا نزل الله ـ عز وجل ـ فهداهم إلى طريق الخروج ! (جاء في سفر الخروج (( وارتحلوا من سكوت ، ونزلوا في إيثام في طرف البرية . وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق ، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم ... ) (1) .
... ومن ذلك زعمهم أن الله يبكي ويلطم وجهه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ (2) وأنه ـ تعالى ـ يصارع يعقوب عليه السلام ـ (3) !! وأنه ـ تعالى ـ اعترف بخطئه أما كبير الأحبار (4) !! وأنه ـ تعالى ـ يندم ويحزن وينسى (5) !!
... إلى آخر تلك الصفات السيئة التي ألصقها اليهود ـ لعنهم الله برب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ
... يقول الدكتور محمد البار بعد أن ذكر هذه الافتراءات :
(ومما تقدم نخلص إلى أن صفات الله سبحانه وتعالى في التوراة والتلمود ، لا يمكن أن تكون صفات الله خالق الأكوان ومدبرها .. بل لا يمكن أن تكون إلا من صفات أراذل البشر .
... هذا قليل من كثير من هذه الافتراءات والغثاء والكذب ، والتجديف في وصف المولى سبحانه وتعالى .. والتوارة والعهد القديم والتلمود كلها مليئة بهذه الأوصاف المنكرة والسجايا الخبيثة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا أحط البشر وأراذلهم ، فكيف يمكن أن يوصف بها المولى سبحانه وتعالى) (6) .
... وقال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد أن أورد شيئاً من تلكم الأكاذيب :
__________
(1) المصدر السابق (ص23) .
(2) المصدر السابق (27) .
(3) المصدر السابق ( 30 ) .
(4) المصدر السابق (30)
(5) المصدر السابق ( 31) .
(6) . المصدر السابق (41)(59/123)
... (فهذه الأمثلة من أوضح الأدلة على التحريف ، فإن الله عز وجل موصوف بصفات الكمال المطلق وكل ما يشعر بالنقص فالله عز وجل منزه عنه ، فتضمين اليهود كتابهم صفات تشعر بوصف الله بصفات لا تليق بمقام الألوهية والربوبية والكمال المطلق ، دليل واضح على التحريف والتبديل إذ لا يمكن أن يتضمن الكتاب الذي نزل من عند الله ما يطعن فيه جل وعلا .
... وبأمثال هذه الافتراءات من قبل متقدميهم تجرأ متأخروهم على الافتراء على الله ، واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لا يعذبهم وفي هذا قول الله عز وجل: { قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (1) (2) .
... قلت : فهذه العقيدة الفاسدة قد أخذها كتاب وشعراء أهل الكتاب من كتبهم ( المحرفة ) فأضحوا يرددونها في نثرهم وأشعارهم دون أي خوف أو خجل من رب العالمين ، لأن كتبهم ( المقدسة !) قد جرأتهم على نقل وترديد هذا الاستخفاف والطعن بربهم ـ عز وجل ـ وأسقطت هيبته من نفوسهم .
... ثم جاء من بعدهم ( نصارى ) العرب (3) فنقلوا تلك العقيدة في كتاباتهم ونظمهم .
... وعن هؤلاء الكفرة أخذها كتابنا وشعراؤنا الذين ( يدعون ) الإسلام ، فخاضوا فيها تقليدا لأولئك دون أن يعصمهم عن هذا الخوض المنكر رهبة من الله ـ عز وجل ـ
__________
(1) سورة آل عمران ، الآية 24.
(2) دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية ( ص93 ) .
(3) كيوسف الخال ، وجورج شحاده ، وجبرا إبراهيم جبرا ، وإيليا حاوي وغيرهم .(59/124)
... فأصبحنا نسمع ونقرأ عبارات لبعض الشعراء ( المسلمين ! ) تضاهي في كفرها عبارات اليهود والنصارى ، ويندى لها جبين المسلم الموحد ، ويأسى على حال إخوانه الذين تابعوا الكافرين في طعنهم برب العالمين ، مصداقاً لقول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الصنف " لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قيل : اليهود والنصارى ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - " فمن ؟ " (1) أي ليس إلا هم .
... وقد دخل شرذمة من كتابنا وشعرائنا هذا الجحر الذي أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل زادوا عليه بأن طعنوا في خالقهم ـ عز وجل ـ متابعة لمن هم شر البرية ـ كما سبق
... يقول الدكتور أنس داود في كتابه ( الاسطورة في الشعر العربي الحديث ) :
... (لجأ شعراؤها إلى الكتب المقدسة وبخاصة التوراة والإنجيل وقلما استفادوا من القرآن في هذا السبيل ، ربما لأنهم يعيشون في أمة إسلامية لا تستسيغ مثل هذه النظرة الفنية إلى أقدس مقدساتها الدينية ، ولأن الكتاب المقدس كان مصدر استلهام فني في الشعر الأوربي بمثل ما استلهم هؤلاء الشعراء أساطير لأقدمين . ولأن ثمة نسباً ـ كما نرى ـ بين كتاب كالتوراة ومجموعات الأساطير المتوارثة في قوة تصويرها لنوازع الإنسان ، وتجسيدها للأهواء البشرية حتى حين تتحدث عن الأنبياء لا تتحدث عنهم هذا الحديث المتطهر الذي تجده في القرآن ، بل نجد لديهم فيضاً من الغرائز ، وغلبة للشهوات أحياناً ولجوءً إلى الحيل والخديعة ، وغير ذلك مما نجده في الحديث عن داود وعن سليمان وغيرهما من الأنبياء مما يقربهم من الشخصيات الأسطورية في نوازعها الجارفة وسلوكها كل مسلك)
... قلت : ثم جاء ( الحمد ) منضماً إلى هذا الركب ومتحدثاً في ثلاثيته عن ربه عز وجل بعبارات بشعه لا تصدر عن مؤمن فمن ذلك :
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم .(59/125)
... قوله عن هشام : (أراد أن يتحدث مع عارف ، لكنه فقد الرغبة في الحديث . الله ، الحتمية ، الجبرية ، العلم .. كلها أشياء يتعلق بقشة منها . يريد الخروج ، فمن يوفر له ذلك ، فهو الله) (1) .
... وقوله عنه : (يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم) (2) .
وقوله : (دائماً المستقبل الذي لا يجئ ، والتاريخ الذي لا نعيه ، والله الذي لا نراه ، يقفون وراء كل شيء ، ويبررون كل شيء) (3) .
__________
(1) الكراديب ( ص154) .
(2) الكراديب ( 213).
(3) الكراديب ( ص 130 ).(59/126)
وقوله : (واستسلم لحلم يقظة جميل ... تصور نفسه من بني إسرائيل أو سام ، وود لو كان أسيره إلى الأبد . تصور أنه يوشع نفسه ، أو سوبرمان ذاته . قادر على إيقاف الزمن ذاته . لا شيخوخة ولا موت ولا ألم ولا ... تحقيق . تصور أنه الله ذاته ... ولم لا ... ما فرقه عن الحلاج والسهروردي وابن العربي ؟ (1) نحن الله والله نحن ... كانت تلك رسالة موسى والمسيح ومحمد ، ولكن أكثر الناس لا يدركون ، فجعلوه ابن الله إنه ذات الله الآن ، فماذا يفعل ؟ هل يجعل الكون أكثر راحه ، وينشر السعادة بين البشر ؟ ولكن ... ما هي السعادة ؟ ! سعادة سقراط أم أفلاطون أم أرسطوا أم ديوجين أم أبقور أم زينون أم كونفيشيوس أم بوذا أم وأم ، وأم ... جملة أمَّات لا نهاية لها . كالحياة ذاتها . ثم لو نشر السعادة وقضى على الألم ، فهل يكون للسعادة نقيض الشقاء أو نقيض الألم ، فكيف يمكن إدراك السعادة إذا ختفى الألم ؟ حتى الجنة بدت له عديمة اللذة في تلك اللحظة كما بدت جهنم عديمة الألم . الخمرة لا تسكر ذاتها ، والجمرة لا تحرق نفسها ... البراز لا يتأذى من رائحة نفسه ، والفل لا يستمتع بريح ذاته . لابد من البراز لاكتشاف لذة الفلة ، ولا بد من الفلة لاكتشاف قذارة البراز . ولذلك كان هناك جنة ونار معاً ، الله وشيطان ، نبي وفرعون ، وكل في قدر يسبحون ... تحقيق السعادة وحدها ، يعني توحيد الألوان . وعندما تتوحد الألوان ، تختفي ... المعنى في الاختلاف ، والعماء في التجانس . مشكلة ... وجود الحياة بشكلها الحالي مشكلة ... وجعلها أجمل وأحلى وأعدل مشكلة لم لا تكون ذات الحياة هي المشكلة ؟ لو كان ذات الله ، لألغى الحياة ذاتها . لألغى هذه المسرحية المملة ، وصرف ممثليها وألغى تلك الأدوار المقررة المعروفة .
__________
(1) الصواب ( ابن عربي ) بدون ( أل ) وهو الصوفي الملحد المشهور ، أما ( ابن العربي ) فهو الفقيه المالكي صاحب كتاب " العواصم " .(59/127)
لا حرية مع الوجود ، فكل الحرية في العدم ... ) (1) .
... وقوله : (الله أعلم ! مسكينٌ أنت يالله ... دائماً نُحَملك مانقوم به من أخطاء) (2) .
وقوله على لسان ( الشيوعي ) عارف : (إن الانتحار هو تحد للإله نفسه .
... ثم وهو يضحك بسرعة :
ـ هذا إن كان هناك إله ... الانتحار يا صديقي يعني أني قد اخترت الجحيم ورفضت النعيم بمل إرادتي ... فالنعيم الحق هو ما أختاره أنا ، لا ما يختاره لي ما ليس أنا ... الجحيم هو النعيم حين أختاره أنا ، والنعيم هو الجحيم حينما بختاره غيري لي أنا .
... ويضحك عارف مرة أخرى ، ثم يعتدل في جلسته ، وقد اتسعت عيناه ، وبرقت عينه السليمة ، وقال هو ينظر إلى هشام وقد اكتسى وجهه بعلامات نصر ما :
ـ الانتحار نصر على الله . ففي الانتحار تفوت الفرصة على الله أن يختار لك مصيرك . فأنت تدخل النار بإرادتك حين تنتحر وتعلم أن مصيرك هو النار . ليس الله هو من أدخلك النار ، بل أنت من فعل ...
... وابتسم هشام وهو يقول :
ـ ولكن افرض أن الله أدخلك الجنة بالرغم من انتحارك ، ألا يكون قد فوت عليك الفرصة واختار لك بالرغم منك ؟
... وضحك عارف بحبور وهو يقول :
ـ كلا ... فإذا دخلت النار فبإرادتي ، وإذا أدخلني الله الجنة فأكون قد فرضت إرادتي عليه ... لقد توعدني بالنار فيما لو انتحرت ، ولكنه أدخلني الجنة برغم الوعيد . لقد فرضت إرادتي عليه ، وجعلته يغير وعيده ، لقد أصبحت نداً له . أبعد هذا الانتصار انتصارا؟ ...
ـ ولماذا لا يكون هو قَدَّر عليك الاختيار منذ البدء ؟
ـ أكون قد فضحت اللعبة كلها حينذاك .
... وعاد عارف إلى الاسترخاء وهو يردد :
ـ الانتحار هو النصر النهائي على كافة أشكال السلطة وأنواعها) (3) .
الحمد يمتهن لفظ ( العبادة ) :
__________
(1) الكراديب ( ص137ـ 138) .
(2) الكراديب ( ص62 ) .
(3) الكراديب ( ص 78ـ 79 ) .(59/128)
... ومن تنقصه لخالقه ـ عز وجل ـ أنه امتهن لفظ ( العبادة ) وجعلها في غير موضعها ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإنما جعلها في عبادة البشر بعضهم لبعض .
... حيث قال على لسان ( عشيقته !) سويّر :
... ( أنا أعبدك يا هشام ، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً .
... وبدون هدف أو غاية أوقصد قال بشيء من المزاح ، وقد أحس بالزهو يسيطر عليه من الداخل :
... ـ ولكن الشرك لا يكون إلا بالله . هو المعبود الوحيد .
... وكنمرة متوحشة ، نظرت إليه بعينيها المبللتين ، وقد زادتا اتساعاً على اتساعهما ، وهي تقول :
... ـ إذا أنت ربي ... ترحمني وتعذبني .وكل شيء منك مقبول ومحمود .
... ولم يستطع الإحتمال فعلاً ، فقال بتلقائية :
... ـ أستغفر الله العظيم ... أستغفر الله العظيم .
ردّد ذلك وشعور من الزهو وشيء لا يعرفه ، أشبه ما يكون بالذنب ، يمتزجان في داخله . كانت يدها قابضة على يده ، فمدَّ يده الأخرى وأخذ يربت على خدها ويتحسسه بلذَّة ، فيما ارتمت هي في أحضانه بعنف ، وأخذت تشمه بصوت مسموع ، وهي تردد :
ـ أحبُّك ... أحبُّك يا هشام ... أعشقك ... أعبدك ) (1) .
تنقصّ عظيم :
... ومن تنقصه اللهَ ـ عز وجل ـ
قوله متحدثاً عن هشام وهو يحلم في منامه :
__________
(1) الشميسي ( ص169) .(59/129)
( وأخذ يسير على غير هدى في الصحراء ، وقشعريرة البرد تستولي عليه . كل شيء يوحي أنه لا يسير ، رغم أنه يسير . النجوم هي النجوم ، والصحراء والظلام عديمة الأبعاد لا يريد أن تنجلي ، واختفت البداية ، وتلاشت النهاية ،فلا يدري أهو يسير أم يهيء له أنه يسير . ولاح له بصيص نور من بعيد ، وأحس بالفرح الغامر رغم أنه يعلم أنه يحلم . وأخذ يغذ السير ، فيما النور يزداد سطوعاً وتتعدد ألونه ، أخضر وأحمر و أصفر ، ويتخللها لون أزرق باهت . وأخيراً وصل إلى حيث النور ، ثم فجأة أشرقت الشمس وهي تضحك بشكل هستيري لم تكن ذات الشمس التي يعرف ، فقد كانت شديدة الحرارة عديمة النور ، فرغم سطوعها ، إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً . وأخذ دماغه يغلي من الحرارة الشديدة ، إلا أن جسمه كان يرتعش برداً ، وأخذت النجوم ترسل سهاماً فضية في كل مكان ، حيث تتكسر بصوت أقرب إلى الرنين على صخور لا يراها ، ولكنه يعلم أنها هناك .
وفي خضم كل ذلك ، كانت نسمات هواء منعش تأتي من واحة وارفة الظلال تنبعث منها تلك الأضواء التي رآها من بعيد .كانت محاطة بأسلاك شائكة من كل جوانبها ، فلم يستطع الدخول . وأخذ يحوم حولها ، حتى تبين له الباب من بعيد .أتجه إليه ، وأراد الدخول بعجلة ، إلا أنه في اللحظة تلك ، برز له شخص من حيث لا يدري ، يحمل سوطاً طويلاً ، وملامح غريبة ، فقد كان له وجه ثور ، في رأس وجسم بشريين ، له مخالب في يديه ورجليه أشبه بمخالب الكلب ، وفي مؤخرته يبرز ذيل لولبي أشبه بذيل الخنزير ، استوقفه هذا الكائن وهو يخور قائلاً :
ـ إلى أين أيها الإنسان ؟
ـ أريد المأوى والطعام والسلام ... هل هذا كثير ؟
ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة ؟ ... الواحة واحتي ، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن . وثمنها بخس جداً ... قبول شروطي .
ـ واحتك ؟ ... شروطك ؟ ... من أعطاك إياها ؟
ـ قوتي هي من أعطاني إياها ... إنها لي وحدي .
ـ القوة لا تصنع حقاً.(59/130)
ـ الحاجة أساس الحق .
ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر :
ـ قوتي هي الحق هنا ، وإن كنت في شك من ذلك ، فحاول الدخول رغماً عني .
... ولم يجد بداً من الاستسلام ، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق ، فقال :
ـ حسنا ... وما هي شروطك ؟
... وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة ، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة ، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول :
ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .
... ثم استطر :
ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير ... أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .
ـ ياله من سعر باهظ !
ـ ويالها من ثمار طيبة !
ـ وإن رفضتُ؟
ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق .
ـ ولكني لا أستغني عن الحرية ...
ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :
ـ الحرية ... ماهي الحرية ؟ مجرد كلمة .
ـ ولكن في البدء كان الكلمة .
ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق .
ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية ؟
... وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء ، وهو يقول :
ـ دعك من هرائك هذا ... أمامك خياران ، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي ، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء .
... وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله ، رغم الألوان التي كانت تحيط بها ، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد ، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم . ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام ... وجوه حمراء ، وكروش منتفخه ، وأعين فقدت بريق الحياة ، وهم يأكلون طوال الوقت . وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه .
ـ ولكن قل لي ...
... قال هشام موجها حديثه للكائن :
ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟
... وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :(59/131)
ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .
ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء ، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة !
ـ النور مزعج للعين ، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينه . ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل ، وصمت الظلام .
ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور ، كي لا ترى أحد وجهك المسخ .
وهناك ثار الكائن ، وأخذ ينخر بشدة ، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام ، الذي فر من أمامه وهو يقول :
ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء ... فلابد للصحراء من نهاية ، ولا بد لليل من فجر ، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان ... واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام ، ولا أمساخ بشر ... وإن مت قبل ذلك ، فسوف أموت وأنا حر .
... وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها ، وانكفأت على نفسها ، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد :
ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه ، كل الواحات مثل واحتي ... سوف تعود إلى مهما طال بكل التجوال ، طالباً الصفح والغفران ، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي ، وساعتئذ ... ستعرف من أنا .
... وصاح هشام من بعيد :
ـ كلا ... كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .
... وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد ) (1) .
... قلت : تأمل ـ أخي المسلم ـ هذا الحلم الذي صاغه الحمد على لسان هشام جيداً ، ثم تساءل معي كما تساءلت :
ـ ماهي هذه الواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة ؟
ـ من هو هذا الشخص ( البشع !) الذي ساومه هشام على دخول الواحة ؟
__________
(1) الكراديب ( ص22ـ 26) .(59/132)
... لقد صاغ الحمد فكرته التي يريد إيصالها للقارئ بأسلوب رمزي شأنه في ذلك شأن أهل الرمزية الذين يروجون لفكرهم بتلك العبارات الغامضة خوفاً من عاقبة التصريح ( بالكفر) لا سيما في ديار التوحيد . وقد تابع الحمد هنا ( شيخه ) نجيب محفوظ في كفره عندما تحدث في روايته الشهيرة ( أولاد حارتنا ) عن الله ـ عز وجل ـ وعن أنبيائه بأسلوب رمزي (1) قاء من خلال بما يحمله قلبه من كفر وحقد تجاه رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وتجاه أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
... فجاء الحمد يهرع من ورائه مستعرضاً قدراته في ( تمرير ) كفرياته في مثل هذا الحلم .
... فالشخص البشع في نظر الحمد ـ هو الله ـ عز وجل ، وتعالى عن قول الحمد علواً كبيراً ـ . !!
... والواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة هي الجنة ومافيها من سعادة واطمئنان .
... فالحمد يريد أن يقول لنا بأن من أراد دخول الجنة فليلتزم بعبودية الله ـ عز وجل ـ وطاعة أوامره ، وأما من أنف من هذه العبودية واختار الحرية ! كما يزعم الحمد فلا بد أن يزهد في هذه الجنة ( أو الواحة ) ويضرب في أعماق الصحراء لعله يجد مصدراً آخر للسعادة لا تكون ضريبته فقدان الحرية !
__________
(1) حيث رمز إلى الله ـ عز وجل ـ بالجبلاوي ، وإلى آدم عليه السلام بأدهم ، وإلى موسى عليه السلام بجبل ، وإلى عيسى عليه السلام برفاعة ، وإلى محمد ? بقاسم ، إلى ( العلم ) الذي يدعو إليه نجيب محفوظ بديلاً عن الدين ! بعرفة . انظر : ( دراسة المضمون الروائي في أولاد حارتنا ) لعبد الله المهنا .(59/133)
... وقد اختار الحمد الطريق الثاني وهو الاستنكاف عن عبادته سبحانه وتعالى ، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم عن هذا الصنف من البشر : {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (1) .
... فمن استنكف عن عبادة الله وفرَّ منها طالباً الحرية كما يزعم ! فإنه لن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً ، فالمرد ـ وإن طال الزمان ـ إلى الله الذي : { إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) .
... ونحن نقول للحمد : من لم يرض بعبادة الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك سيعبد غيره لأن الإنسان لا يخرج عن العبودية بأي حال . فمن لم يعبد الرحمن عبد الهوى والشيطان ، ولذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (3) .
... قال ابن كثير : ( أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسناً فعله ، وما رآه قبيحاً تركه ) (4) .
... فهو وإن ادعى أنه قد ترفع عن ( عبودية ) الله المستحق لها فإنه قد جعل تلك العبودية في غير محلها باتخاذه إلهه هواه .
... وقال تعالى{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي ءَادَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5) .
__________
(1) سورة النساء ، الآيات : 172-173 .
(2) سورة الأنعام ، الآية 72 .
(3) سورة الجاثية ، الآية 23 .
(4) تفسير ابن كثير ( 4/ 162 )
(5) سورة يس ، الآية : 60 .(59/134)
فمن لم يعبد الله عبد الشيطان ، وعبادته ـ أي الشيطان ـ تكون باتخاذ الشيطان نفسه إليها (1) ، أو بعبادة ما يزين عبادته من الأصنام والأحجار والصور و ... الخ ، حتى وصل بأتباع الشيطان أن يعبدوا فرج المرأة ـ والعياذ بالله ـ
... الحاصل : أن من تكبر عن عبادة الله أذله الله بأن صيره عبداً لهوىً أو شيطان أو مخلوق مثله .
... قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله ، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته ، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب .
... قال أبو حازم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى "
... واعتبر ذلك بحال إبليس . فإنه امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل ، وطلب إعزاز نفسه ، فصيره الله أذل الأذلين ، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته ، فلم يرضى بالسجود له ، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
... وكذلك عباد الأصنام ، أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر ، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه ، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار .
... وكذلك كل من امتنع أن يذل لله ، أو يبذل ماله في مرضاته ، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته ، لابد أن يذل لمن لا يسوى ، ويبذل له ماله ، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته ، عقوبة له ، كما قال بعض السلف " من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته " ) (2) .
... وقال ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية عبادة الله وحده للعبد :
__________
(1) كعبدة الشيطان الذين ظهر أمرهم قريباً .
(2) إغاثة اللهفان ( 2/ 194ـ 195) وقد قال ـ رحمه الله ـ في نونيته عن مدعي الحرية !
... ... فروا من الرق الذي خلقوا له
... ... ... وبلوا برق النفس والشيطان(59/135)
... ( اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب ؛ أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر ، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك . وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه ، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره ، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة ، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب ، والعقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما ، والله الموفق المعين ، وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة) (1) .
... وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مفصلاً هذا المعنى :
__________
(1) طريق الهجرتين ( ص103ـ 104 ) .(59/136)
... ( " العبادة " هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم .والدعاء والذكر والقراءة ، وأمثال ذلك من العبادة .
... وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
... وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ، التي خلق الخلق لها ، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .(59/137)
... وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (1) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (2) وقال تعالى وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (3) كم قال في الآية الأخرى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } (4) وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (5) .
__________
(1) سورة النحل ، والآية : 36.
(2) سورة يوسف ، الآية : 109
(3) سورة الأنبياء ، الآية : 92 .
(4) سورة المؤمنون : الآية 51
(5) سورة الحجر ، الآية 99(59/138)
... وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (1) وقال {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (2) وذم المستكبرين عنها بقوله : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3) ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (4) وقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (5) الآيات ولما قال الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال الله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الأنبياء ، الآية 20 .
(2) سورة الأعراف ، الآية 206
(3) سورة غافر ، الآية 60 .
(4) سورة الأنسان ، الآية 6
(5) سورة الفرقان ، الآية 63
(6) سورة الحجر ، الآيتان ، 39، 40 .(59/139)
... وقال في وصف الملائكة بذلك : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (1) . وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (2) .
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله ) (4) .
__________
(1) سورة الحجر ، الآية 42 .
(2) سورة مريم ، الآيات 88ـ 95
(3) سورة الزخرف ، الآية : 59 .
(4) أخرجه البخاري ومسلم .(59/140)
... وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } (1) قال في الإيحاء : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (2) . وقال في الدعوة : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (3) . وقال في التحدي : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (4) . فالدين كله داخل في العبادة .
... وقد ثبت في الصحيح (5) أن جبريل لما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً " . قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين .
... " والذين " يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان أي : ذللته فذل ويقال يدين الله ، ويدين الله أي : يعبد الله ويطيعه ويخشع له ، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له .
... و" العبادة " أصل معناها الذل أيضاً ، يقال طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
__________
(1) سورة الإسراء ، الآية ، 1.
(2) سورة النجم ، الآية : 10 .
(3) سورة الجن ، الآية : 19 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 23 .
(5) أخرجه البخاري ومسلم .(59/141)
... لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو " التتيم " وأوله " العلاقة " لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم " الصبابة " لانصباب القلب إليه ، ثم " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، ثم " العشق " وآخرها " التتيم " يقال : تيم الله أي : عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
... ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله .
... وكل ما أُحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عُظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (1) ، فجنس المحبة تكون لله ورسوله ، كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله ) (2) .
__________
(1) سورة التوبة ، الآية : 24 .
(2) الفتاوي (10/ 149ـ 153 ) .(59/142)
... قلت : وأما ادعاء الحمد بأن عبودية الله وجنته ليس فيها نور ، وإنما النور والفجر ! في حريته ( المزعومة ) فهو من تلبيس الشيطان عليه ، ومن انتكاس قلبه حتى أصبح يبصر الأشياء على خلاف حقيقتها فغدا النور عنده ظلاماً ، والظلمة نوراً، وهذا حال أهل الباطل الذين يرون باطلهم حقاً والحق باطلاً منذ العهود القديمة . ولا أملك أن أقول للحمد في هذا المقام إلا ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " (1) فكذلك أقول : ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل والهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .
... فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البته . فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة ، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم وقلبه مظلم ، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولايناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .
بصائر غشاها النهار بضوئه
... ... ولاء مها قطع من الليل مظلم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : ( 2/176 ـ 197 ) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الإيمان : ( ص18) .(59/143)
يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها ، وملاءمتها إياها .
... والمؤمن علمه نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ] (2) .
الحلف بغير الله في روايته :
... ومن تنقصه الله ـ عز وجل ـ أنه استهان بالحلف بغيره ـ عز وجل ـ فذكره في روايته متغافلاً عن قدحه في عقيدة الإنسان وأنه من الشرك الأصغر (3) ، مصدقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من خلف بغير الله فقد أشرك " (4) وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت (5) .
... قال الحمد على لسان عبد الرحمن مخاطباً ابن عمته هشام ( أخبره أن ما يشعر به شيء طبيعي لشخص يشرب لأول مرة ، وأنه سوف يعتاد الشراب ولن يفعل به شيئاً بعد ذلك .إلا أن هشام صاح : " أول وآخر مرة ورأس أبوك ... " ) (6) .
__________
(1) سورة النور ، الآية : 35 .
(2) هداية الحياري ( ص591ـ 593) .
(3) قال الشيخ ابن باز –رحمه الله-: [ الحلف بغير الله من الشرك الأصغر .. ، وقد يكون شركاً أكبر إذا قام بقلب الحالف أن هذا المحلوف به يستحق التعظيم كما يستحقه الله ] . ( فتاوى ابن باز ـ 2/ 727 ـ ط دار الوطن .
(4) أخرجه أبو داود والترمزي . قال الشيخ ابن باز في فتواه السابقة [ بإسناد صحيح ] .
(5) أخرجه البخاري ومسلم .
(6) الشميسي ( ص45 ) .(59/144)
الحمد يعتقد أن الله في كل مكان !!!
... ومن طوام تركي الحمد في روايتة أنه _ وهو الذي درس عقيدة السلف في بلاد التوحيد _ يعتقد عقيدة الأشاعرة في أن الله موجود في كل مكان ! ! ! وهذا من الأمور التي مرت علي أثناء دراستي لثلاثيته . مما جعلني أتفكر كثيراً في كيفية تسرب هذه البدعة الغريبة على بلادنا إلى ذهن الحمد وروايته ، ثم اكتشفت أنه قد نقلها ـ بغباء ـ من ثلاثية نجيب محفوظ ، دون أي تفكير بمدى صحتها !!! وهذا من الأدلة على أن الحمد مجرد ببغاء لنجيب محفوظ يردد ما يقوله في ثلاثيته ولو كان مخالفاً للنقل والعقل كهذه المسألة .
... قال الحمد متحدثاً عن والد هشام :
... ( وضحك أبوه إحدى ضحكاته النادرة ، ثم عاد إلى وقاره وهدوئه المعتادين وهو يقول بحزم : اسمع يا ولدي ... إن الله موجود في كل مكان ، والتقوى في النية الطيبة والسلوك الطيب مع الناس ، ... ) (1)
... قلت :هذه عقيدة باطلة يدين بها متأخرو الأشاعرة ، والذي عليه سلف الأمة أن الله على عرشه فوق سماواته ، كما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقال : {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (3) وقال :{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (4) ... والأدلة على هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع فيها . فانظرها في كتاب ( العلو ) للذهبي و ( مختصره ) اللألباني ، و( علو الله على خلقه ) للدكتور موسى الدويش ، و( إثبات علو الله ... ) للشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ ، و ( الرحمن على العرش استوى ) للشيخ عبد الله السبت ، و( الرحمن على العرش استوى بين التنزيه والتشويه ) للدكتور عوض منصور.
__________
(1) الشميسي ( ص 136 ) .
(2) سورة طه ، الآية : 5 .
(3) سورة الملك ، الآية : 16 .
(4) سورة النحل ، الآية : 50 .(59/145)
... أما أن الحمد قد أخذ هذه العقيدة البدعية من نجيب محفوظ فلأن هذا الآخر قد ذكرها في ثلاثيته ـ التي هي عمدة الحمد ـ على لسان أحمد عبد الجواد .
... حيث قال له الحمزاوي : ( ربنا موجود ) فرد عليه أحمد عبد الجواد : ( نعم! ومشيراً إلى الجهات الأربع ) في كل مكان ) (1) .
الحمد يرى أن عبودية الله كالأغلال !!
... من تنقص الحمد لله عز وجل ، أنه لم يرض بعبوديته ، وإنما آثر عليها (الحرية) كما يدعي ! وهي في حقيقتها ليست ( حرية ) وإنما ( عبودية ) من نوع آخر ، إما للهوى أو الشيطان كما سبق .
__________
(1) بين القصرين ( ص448 ) .(59/146)
... يقول الحمد متحدثاً عن هشام : ( وطافت في ذهنه تجربته الدينية العميقة حين ذهب إلى المسجد مع ا لفجر ، وصلى بعمق غريب ولذيذ لأول مرة في حياته ، بعد تجربته الجسدية مع رقية فقد كانت صلواته السابقة مجرد حركات جسدية لا روح فيها ، ومجاملات اجتماعية بعض الأحيان . ورغم أنه يشعر بالضآلة حين يجامل في مثل هذه الأمور ، إلا أنه لا يستطيع إلا أن يجامل ، فالله غفور رحيم ، ولكن عباده لا يعرفون الرحمة والغفران ، لقد أحس بعد تلك التجربة العنيفة بتمزق لم يستطع إحتماله ، فكان بحاجة إلى أب رؤوف رؤوف يلقي بحمله عليه ... أب ليس ككل الآباء . أب يسامح على الخطأ والخطيئة ، ويأخذ بيده إلى الراحة بعد العذاب ، والصفاء بعد القلق وذاك الوخز المؤلم في الداخل ... ولكن شتان بين حاله مع رقية ، وهذا الإنقلاب العجيب في حال عدنان ... كل إنسان يبحث عن أب رحيم قادر ، وأم حنون في الأزمات والملمات، والكل يبحث عن كتف عطوف عطوف قوي يبكي عليه ويلقي عليه بأحماله ، ولكن القليل هو من يريد أن يبقى باكياً على ذلك الكتف ، فهو لذيذ حقاً ، ولكن الألذ منه أن تخطئ وتصيب فاللذة في وجود نقيضها وليس في مجرد وجودها .شيء لذيذ وجميل أن تجد من يكون مسؤولاً عنك طوال الوقت ، ولكن السعر باهظ جداً ... إنه الحرية ذاتها . الطفل وحده من يدفع هذا السعر بالرغم منه ، ولكن من يريد أن يبقى طفلاً طوال الوقت ؟! الكل يجد الدفء في حضن الأم ، والقوة في الأب ، ولكن قلةً من يريدون البقاء في ذلك الحضن وعلى الكتف ... ويبدو أن عدنان واحد من هؤلاء ) (1) .
... قلت : ومقصوده واضح لا يحتاج إلى إعمال ذهن ، وهو دليل تكبره عن عبادة ربه ـ كما سبق ـ وقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (2) .
تنقصه للملائكة الكرام :
__________
(1) الشميسي ( ص70 ـ 71 ) .
(2) سورة غافر ، الآية : 60 .(59/147)
... أما تنقص الحمد واستخفافه بالملائكة المكرَّمين فمن ذلك قوله متحدثاً عن هشام في السجن :
... ( ثم نظر إلى النافذة ، وتلك النجوم التي تتبدى من ورائها على استحياء ، وهو يتصور أن يأتي ملاك رحمة من هنا أو هناك فينقله على جناحيه إلى حيث نسمة هواء طليقة . ولكن حتى الملائكة اختفت في هذه اللحظة ، ويبدو أنها نفسها تخاف الدخول إلى هذا المكان ، وليس إلا الرعب والسكون والانتظار ) (1) !!
... قلت : كيف تخاف الملائكة الدخول في هذا المكان أو غيره ، وهي معك أينما سرت . قال تعالى عن الإنسان : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (2) .
... وقال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (3) .
... وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (4) .
... فالملائكة المكرمون قد خُصََّ بعضهم بأنه لا يفارق الإنسان في جميع أحواله ـ كما سبق ـ ولكن الحمد لا يفقه هذا بعد أن اعتاد لسانه على الجرأة عند حديثه عن كل شيء مقَّدس متأثراً بالكفرة الفجرة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
تنقص الحمد القرآن :
... أما سخريته بالقرآن ، وبآيات الله ، فهو أنه يضعها في غير موضعها ، بأسلوب هازل .
... فمن ذلك قوله :
... ( حانت التفاتة من عبد الرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه بقوة ، فقال وهو يضحك : " ما تلك بيمينك يا هشام ؟ " وابتسم هشام ... ) (5) فهو يشير إلى قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى) (6)
__________
(1) الكراديب ( ص19) .
(2) سورة ق ، الآية :18 .
(3) سورة الرعد ، الآية ، 11 .
(4) سورة الزخرف ، الآية : 80 .
(5) الشميسي ( ص39 ) .
(6) سورة طه ، الآية : 17 .(59/148)
... وقوله : ( وهز هشام رأسه وهو يبتسم محيياً ، فيما أخذ الآخرون يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم ويقولون : "شرَّفت الكراديب " "وما منكم إلا واردها " ) (1) .
... وهو يشير إلى قوله تعالى عن النار : ( وإن منكم إلا واردها ) (2) .
... قلت : لا يجوز أن يُنزل القرآن في غير منزله الذي أراده الله له ، وأن يُسْتدل به بهذه السخرية (3) .
... وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عن ( استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء ؟ ) فأجابت بأنه ( لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح ) (4) .
بغضه للقرآن :
... يقول الحمد متحدثاً عن ذكريات هشام ، وصديقه عدنان : ( كانا في الصف الرابع الابتدائي ، وكانت مادتي القرآن الكريم والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ) (5) !!
... قلت : أما ( أصعب ) فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (6) .
... وأما ( أبغض ) فهذه التي يريد الحمد ! والسؤال : لماذا كان كلام الله الذي فيه الهدى والنور أبغض المواد !؟ وكان الحب كله للكتب الفلسفية والماركسية و(المحرَّمة ) !
... وصدق الله إذ يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (7) .
تنقصه للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ :
__________
(1) الكراديب ( ص 37 ) .
(2) سورة مريم ، الآية : 71 .
(3) للسيوطي رسالتان حول هذا الموضوع بعنوان ( تنزيه الأغبياء عن تسفيه الأنبياء ) و( رفع البأس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس ) انظرها في ( الحاوي ) ( 1/309) و ( 1/344) . وهي في من اقتبس من القرآن جاداً لا هازلاً .
(4) فتاوى اللجنة ( 4/ 56) .
(5) الشميسي ( ص( 68) .
(6) سورة القمر ، الآية : 17 .
(7) سورة الإسراء : الآية ، 82 .(59/149)
... لقد أسرف الحمد على نفسه كثيراً واقتحم لجة من الكفر والضلال عندما تعرض لأنبياء الله تعالى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واصفاً إياهم بكل منقصة جرياً وراء أكاذيب اليهود والنصارى التي استولت على ذهنه عند حديثه عنهم ـ عليهم السلام ـ فقد نسخت قراءاته لكتب اليهود والنصارى كل تعظيم غرسه القرآن في صدره حول الأنبياء والرسل .
... ولنستمع إلى ( هرائه ) مع التعليق عليه بما تيسر .
... قال الحمد على لسان هشام :
... ( قتل قابيل هابيل من أجل المرأة ، وخرج آدم من الجنة من أجل المرأة ، وأذنب من أجل المرأة ، وسخر سليمان الجن من أجل المرأة ، وقال رسولنا الكريم (1) :" حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت الصلاة قرة عيني " ومزامير داود كلها عن المرأة ، وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ، وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ، وكانت المرأة وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو ... ) (2) .
... قلت : لقد تضمن هذا النص من الحمد عدة فتراءات على أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ حيث لم يتورع ـ هداه الله ـ عن متابعة اليهود والنصارى في تلفيق التهم والنقائص لخير البشر ـ عليهم السلام ـ ولتفنيد ذلك أقول :
ـ أما قابيل وهابيل فإنهما لم يكونا من الأنبياء هم بشر كغيرهم ، فلا شأن لنا بهما . ومع هذا تركي الحمد لم يذكر إلا قولاً واحداً في قصتهما ولم يذكر القول الثاني .
... فهو ألمع إلى القول الأول الذي يفيد بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب المرأة فقررا أن يتقربا إلى الله بقربان فمن تقبل منه كانت المرأة من نصيبه فتقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل ، فقام قابيل بقتل هابيل .
__________
(1) لا لزوم لهذه المخادعة بعد الذي خطته يمينك !
(2) الكراديب ( ص122) .(59/150)
... والقول الثاني الذي لم يذكره الحمد هو أنهما قررا أن يقوما بتقديم قربان إلى الله ـ عز وجل ـ فعمد قابيل إلى أسوأ ماله فقدمه قرباناً ، وعمد هابيل إلى أحسن ماله فقدمه ، فتقبل منه ولم يتقبل من أخاه قابيل ، فحسده قابيل وقام بقتله .
... وفي هذا يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ : ( عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل ، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ! وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته ، وإن لم يكن رضيه خبت النار ، فقربا قرباناً . وكان أحدهما رعياً وكان الآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها . وقرب الآخر أبغض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد عليّ ؟ فلا والله لاتنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ! فقال أخوه : ماذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين ) (1) .
__________
(1) تفسير الطبري ( 10/ 203 شاكر ) .(59/151)
... قلت : فهذا القول الثاني لم يشر إليه الحمد هو الذي يشهد له القرآن العظيم عندما تحدث عن قصة ابني آدم حيث قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ) (1) .
... ولذا فقد قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ بعد سياقه الأثر السابق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ([ فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لاعن سبب ولا عن تدارئ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن ) (2) .
... قلت : فالحمد لم يسق إلا القول الذي يتماشى مع هواه ، علماً بأن هذه الروايات جميعها لم تصح مرفوعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هي تنقل عن أهل الكتاب الذين أمرنا بعدم تصديقهم أو تكذيبهم إلا ما عارض شرعنا فإننا نكذبهم فيه ـ ولا كرامةـ.
__________
(1) سورة المائدة ، الآيات : 27-31 .
(2) تفسير ابن كثير ( 2/ 45) .(59/152)
... بل إن القرآن والسنة الصحيحة لم تذكر ( قابيل وهابيل ) وأنما ذكرت بأن القصة حدثت لابني آدم فقط دون تفصيلات . كما في سورة المائدة ، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين : " لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ، لأنه أول من سنَّ القتل " .
ـ أما قول الحمد بأن آدم ـ عليه السلام ـ قد خرج من الجنة من أجل المرأة فالذي في القرآن أن ( الشيطان ) قد وسوس لآدم وحواء جميعاً بالأكل من الشجرة ، وفي آيات أخرى يخبر الله بأن الشيطان قد وسوس لآدم بذلك دون ذكر لحواء .
... قال تعالى : وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (1) .
... وقال سبحانه : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)وَيَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ) (2) .
... وقال عز وجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى) (3) .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 35، 36 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 18-19 .
(3) سورة طه 115، 116 .(59/153)
... فهذه الآيات فيها أن الشيطان وسوس لهما جميعاً (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) وفي سورة طه أنه وسوس لآدم أولاً (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) .فهي تشهد لمن قال بأن الوسوسة كانت لهما جميعاً حيث أغراهما الشيطان بنيل الخلد في الجنة وأن يكونا كسائر الملائكة . ولم يذكر فيها أن حواء هي التي أغرت آدم على الأكل من الشجرة كما تقول ذلك الروايات الإسرائيلية . ولهذا قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ : ( دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة ، يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب ، بما حرفوا وكذبوا ) (1) .
__________
(1) عمدة التفسير ( 1/ 136) .(59/154)
... قلت : ولكن من يقول بأن حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، أو أنها سهلت له الأكل منها يستشهد بحديث رواه البخاري في صحيحه ويحمله على هذه القصة ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لولا حواء لم تخن انثى زوجها " . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : ( وقوله " لم تخن انثى زوجها " فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها ابليس حتى زينته لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا الحديث " جحد آدم فجحدت ذريته " وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى ، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور ، وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن ، والله المستعان ) (1) .
... وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها ، والله أعلم ، وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري ... ) ثم ذكر الحديث السابق (2) .
... قلت : ومع هذا فلا يحسن أن يقال بأن آدم خرج من الجنة بسبب المرأة ، وأنما يقال بأنه ـ عليه السلام ـ خرج من الجنة بسبب مخالفته لنهي الله ـ عز وجل ـ بوسوسة من الشيطان مما ترتب عليه ابتلاؤه وذريته من بعده . وكان هذا قبل أن يتوب الله عليه ، ويصطفيه كأول نبي على وجه الأرض .
__________
(1) فتح الباري ( 6/ 424) .
(2) البداية والنهاية ( 1/ 78) .(59/155)
ـ أما قول الحمد بأن داود ـ عليه السلام ـ أذنب من أجل المرأة فهذا من افترائه متابعة لأشياخه اليهود الذين افتروا على داود ـ عليه السلام ـ في توراتهم المحرفة بأنه عليه السلام قتل أحد قواده بواسطة الخدعة حيث جعله في مقدمة الجيش ، لكي يتزوج بامرأته التي أُعجب بها داود ـ عليه السلام ـ بعد أن رآها عريانه !!! كما جاء في ( سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح 11) .
... قلت : وقد تسللت هذه الكذبة الشنيعة من اليهود إلى تفاسير المسلمين عبر الاسرائيليات التي أخذوها منهم دون تمحيص لها .
... حيث تذكر هذه القصة المكذوبة في تفسير قوله تعالى : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) (1) .
... وقد أجاد ابن كثير ـ رحمه الله ـ عندما قال عند هذه الآية : ( قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ) (2) ثم ضعف القصة السابقة بأن في سندها ( يزيد الرقاشي ) أحد الضعفاء في الحديث عند الأئمة .
... وقبله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ :
... ( قد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم ، كما قالوا في سليمان ما قلوا ، وفي داود ما قالوا ) (3) .
... وقال القاضي عياض ( لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ) قال: ( وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ) (4) .
... وقال الشيخ محمد أبو شهبه في كتابه ( الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ) : ( والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي . قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم ) (5) .
__________
(1) سورة ص ، الآية : 24 .
(2) تفسير ابن كثير ( 4/ 34 ) .
(3) الفتاوى ( 15/ 149 ) .
(4) الشفا ( 2/158)
(5) ص 268 .(59/156)
... وقال الدكتور البار بعد أن ذكر هذه القصة المكذوبة : ( يالها من جريمة بشعة حقيرة تزعم التوراة ( المحرفة ) أن داود عليه السلام ارتكبها ، وهو لاريب منها برئ) (1) .
... قلت : شتان بين هذه القصة التي تصف نبي الله داود ـ عليه السلام ـ بالقتل والمخادعة في سبيل امرأة ، وبين قول الله تعالى عنه (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (2) .
فقد وصفه تعالى بالقوة في العلم والعمل وأبان ذلك - صلى الله عليه وسلم - بقوله عنه بأنه " كان يصوم يوماً ويفطر يومأ ، ولا يفر إذا لاقى " (3) . وقال عنه " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " (4)
... فأين هذا الوصف العالي من و صف التوراة المحرفة التي استساغ الحمد أن يتأثر بها وينقلها تشويهاً لصورة نبي الله ـ عليه السلام ـ !؟
ـ أما قول الحمد بأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد سخَّر الجن من أجل المرأة ، فهذا من كذبه الذي يعرفه صغار المسلمين الذي يقرأون القرآن .
... فسليمان ـ عليه السلام ـ لم يسخر الجن لنفسه ، وإنما الذي سخرها الله ـ عز وجل ـ .
__________
(1) الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة ( ص361) .
(2) سورة ص ، الآية : 17-20
(3) أخرجه البخاري ( 3419) .
(4) أخرجه البخاري ( 3420) .(59/157)
... قال تعالى عن سليمان : (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (1) .
... وأما قصته ـ عليه السلام ـ مع ( بلقيس ) ملكة اليمن التي يلمح إليها الحمد فهي إن سليمان غضب منها ومن قومها عندما أرسلوا له المال والهدايا لعله يكف عنهم . فأمر من حوله من الجن والإنس بأن يحضروا له عرش بلقيس الذي لا يكاد يوجد مثله في عظمته ، فقال : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولكن سليمان لم يقنع بهذا ، فقال (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو كاتبه آصف بن برخيا كما يُروى عن ابن عباس : (أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : أن تنظر مد بصرك فلا تكل إلا والعرش عندك : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ) أي سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (2) .
... أما سبب احضار العرش فليس لأجل المرأة كما يزعم الحمد ـ كذباً وافتراءً ـ وإنما لأجل أن يظهر سليمان عظمة ملكه لها ، وأنه نبي من عند الله ، قد سخر له الإنس والجن فتستجيب لدعوته لها إلى دين التوحيد بعد أن كانت تسجد هي وقومها للشمس .
__________
(1) سورة ص ، الآيات : 35-40 .
(2) سورة النمل ، الآيتان : 39-40 .(59/158)
... قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( إن سليمان أراد باحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا فارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه ) (1) .
... ـ أما قول الحمد بأن نبينا ? قد حُبب إليه النساء ، فهذا صحيح ، وقد ورد في هذا قوله ? : (( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة )) (2) .
... وليس معنى هذا ما قد يظنه الحمد أو غيره من الجهلة وهو أن هذه المحبة هي لأي امرأة ولو لم تحل له ـ والعياذ بالله ـ وإنما هذا خاص بزوجاته وما ملكت يمينه ? ، وليس في هذا أي نقص لمرتبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل هو بيان لكمال رجولته .
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/376) .
(2) أخرجه أحمد والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124) .(59/159)
... قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( أما محبة الزوجات فلا لوم فيها ، بل هي من كماله ، وقد امتن سبحانه على عباده فقال : ((وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (1) .فجعل المرأة سكناً للرجل يسكن قلبه إليها ، وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونه بالرحمة ) قال : ( ولا ريب أن النبي ? قد حُبب إليه النساء ، كما في الصحيح عن أنس عن النبي ? : (( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ) قال : ( فمحبة النساء من كمال الإنسان ، قال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ) قال : ( فعشق النساء ثلاثة أقسام : قسم هو قُربة وطاعة ، وهو عشق امرأته وجاريته ، وهذا العشق عشق نافع ، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يُحمد هذا العاشق عند الله ، وعند الناس ) (2) .
... ـ أما قول الحمد بأن مزامير داود ـ عليه السلام ـ كلها عن المرأة ، فهذا كذب منه ، يريد به التهويل قال الدكتور محمد البار ـ حفظه الله ـ وهو ممن اعتنى بدراسة المزامير :
... ( تنسب المزامير إلى مجموعة من أنبياء بني اسرائيل وأدبائهم وشعرائهم ، وتشتمل على 150 مزموراً ، منها 73 منسوبة إلى داود عليه السلام ، والأخرى منسوبة إلى موسى وسليمان ـ عليهما السلام ـ وإلى آساف وبني قورع وراجح وهيمان وأتيان ويدوتون ) قال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أيٍ من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره ، إلا أنها أصبحت جزء من الفولكلور الشعبي اليهودي ) (3) .
__________
(1) سورة الروم ، الآية : 21.
(2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ( ص393ـ395 ـ 399 ) .
(3) الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة والعهد القديم (ص385) .(59/160)
... قال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أي من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره ، إلا أنها أصبحت جزءً من الفولكلور الشعبي اليهودي ) (1) .
... قال : ( تُقسم المزامير إلى ثلاث مجموعات أساسية تندرج تحتها مجموعات أصغر . وهذه المجموعات الثلاث هي :
1 ـ مجموعة التسابيح .
2 ـ مجموعة صلوات الاستغاثة .
3 ـ مجموعة التعليم ) (2) .
... قلت : يتضح من هذا أن المزامير كلها عن دين اليهود وتسابيحهم وصلواتهم، وليست كما يزعم الحمد بأنها ( كلها عن المرأة ) !!!
... والذي نعتقده ـ كمسلمين ـ هو ماجاء في القرآن الكريم أن الله قد آتى داود ـ عليه السلام ـ كتاباً مقدساً هو ( الزبور ) قال تعالى : ((وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا )) (3) .
... ونعتقد أن داود ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله صوتاً جميلاً يترنم به عند تسبيحه الله فتردد الجبال والطير معه .
... قال تعالى : ((إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ)) (4) ، وقال : ((يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)) (5) ، وأما قوله ? لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ : (( يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود )) (6) .
... فقد قال الخطابي : ( قوله (آل داود ) يريد داود نفسه ، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي ) (7) وقال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالمزمار الصوت الحسن ، وأصله الآله ، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة ) (8) .
... ـ أما قول الحمد ( وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ) !!
__________
(1) المصدر السابق (ص386) .
(2) المصدر السابق (ص388 ـ 392 ) .
(3) سورة الإسراء ، الآية : 55 .
(4) سورة ص ، الآية :18 .
(5) سورة سبأ ، الآية : 10 .
(6) أخرجه البخاري (5048) .
(7) فتح الباري (8/ 711) .
(8) فتح الباري ( 8/ 712) .(59/161)
... فهذا من أقبح تشنيعاته على أنبياء الله ، والتعريض بهم بخُبثٍ وسوء طوية ، حيث لم يُعقب على هذا الكذب بما يبينه ، وإنما ساقه به متابعةً لأحفاد القردة .
... ثم أعاده في موضع آخر من روايته مبيناً قصده ، حيث قال على لسان هشام ـ كما سيأتي ـ ( وزنت بنات لوط مع أبيهم )!!
... وهذا الكذب الفاحش قد أخذه الحمد من التوراة ( المحرّفة ) حيث جاء فيها ـ كما في سفر التكوين ، الاصحاح 19: 30ـ 38 ـ أن ابنتي لوط ـ عليه السلام ـ قامتا بإسقائه خمراً حتى سكر ، ثم اضطجعتا معه ، فجبلتا منه !!!
... وهذه الكذبة لا يُستغرب صدورها من قوم قد قال الله ـ تعالى ـ عنهم : ((أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ )) (1) فمن كذب بعض الرسل وقتل بعضهم الآخر لا يستغرب عليه أن يفتري الكذب عليهم .
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذه القصة المفتراة ( هذه فضائح الأبد ، وتوليد الزنادقة والمبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام ) (2)
... وقال ابن القيم رحمه الله ـ:
... ( ومن قدحهم (3) في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة ، أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ، ونجى لوطاً بابنتيه فقط ، ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه تسلاً . فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ، ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر ، فهلمي نسقي أبانا خمراً ونضاجعه ، لنستبقي من أبينا نسلاً ، ففعلتا ـ بزعمهم ـ فنسبوا لوطاً النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما ... ) (4) .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 87.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 224 ) .
(3) أي اليهود عليهم لعنة الله .
(4) إغاثة اللهفان (2/ 342ـ 343 ) .(59/162)
... ـ أما قول الحمد بأن المسيح ـ عليه السلام ـ أبطل حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، فلعله يشير إلى اتهام اليهود لمريم ـ رضي الله عنها ـ بالزنا من أجل حملها بعيسى ـ عليه السلام ـ دون زوج ، ومن ثمّ تكلم عيسى في المهد مبرئاً أمه من هذه التهمة الشنيعة التي وبخ الله اليهود لأجلها بقوله ـ تعالى ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (1) فما دخل هذه الحادثة بما يتحدث عنه الحمد !؟
... ـ أما قول الحمد ( وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ) فيشير إلى ما ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متحدثاً عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (( بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى إلى جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة قال : ياسارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ : فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتوني بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي ، فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره ، وأخدم هاجر )) (2)
... قلت : وفي هذا الحديث بيان عصمة الله لابراهيم وزوجه أن تمسهما يد ظالم ، حيث كف سبحانه كيد هذا الملك عنهما .
... ـ أما قول الحمد بأن المرأة كانت ( وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو) فيشير إلى ما جاء في الإسرائيليات التي دخلت علينا من أهل الكتاب وقد ذكرها المؤرخون في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ
__________
(1) سورة النساء ، الآية : 156 .
(2) أخرجه البخاري (3358) .(59/163)
... قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية :( ذكر أهل الكتاب أن اسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبنه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل .
... قالوا : وكان اسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر .
... قالوا : فلما كبر اسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطحنه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجلد ويعقوب ليس كذلك ، فلما جاء به وقربه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إلى وجهه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده .
... فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلتُ منه ودعوتُ لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك ) (1) .
... قلت : فهذه من أحاديث أهل الكتاب ، لاتصدق ولا تكذب ، وإن صحت ففيها بيان محبة الأم لابنها وحرصها على أن يكون محظياً عند والده ، ولاحرج في هذا.
تنقصات أخرى :
... وقال الحمد في موضع آخر من روايته : ( رحماك يارب الكون ... لماذا
__________
(1) البداية والنهاية (1/194) .(59/164)
خلقت حام طالما أن سام هو الحبيب ؟ ولماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ، وزنت بنات لوط مع أبيهم ، في كتاب يقولون أنه كلماتك وإرادتك ؟ ) (1) .
... قلت : في قول الحمد مخاطباً ربه ( لماذا خلقت حام ؟ ) سوء أدب ، ووقاحة ، وعدم تعظيم له سبحانه ، حيث وجه إليه سؤاله تعنتاً واعراضاً ، وقد قال تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (2) .
... وهو يشير بقوله : ( لماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ؟ ) إلى ما ورد في التوراة ( المحرّفة ) (3) التي هي عمدة الحمد في قدحه بأنبياء الله ! من أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه ، فأبصره ابنه حام ( أبو كنعان ) ، وأخبر أخويه ( سام ويافث ) ، فأخذ ( سام ويافث ) الرداء وسترا عورة أبيهما دون أن ينظرا إليها ، فلما أفاق نوح وعلم بذلك لعن حاماً وابنه كنعان ، ودعا أن يكون عبداً لأخويه ، ودعا لسامٍ بالبركة من الله .
... قلت : وهذه احدى كذبات اليهود وتشويههم لصورة الأنبياء في كتبهم المحرفة ، التي نقل منها الحمد دون تورع أو خجل ، ولكن بمكرٍ وخبث ، ومحاولة منه لا سقاط المثل والرموز ـ كما سبق ـ بأسلوب حقير يناسب طبعه وعقليته التي لا تقيم وزناً لأي شيء مقدس ـ كما يحاول أن يدّعي ـ !
... قال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد إيراده هذه القصة المكذوبة على نوح ـ عليه السلام ـ : ( وهذا محض كذب وافتراء ، فإن الله عز وجل قد وصف عبده نوحاً في كتابه المهيمن بقوله : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (4) (5) .
__________
(1) الكراديب (ص137) .
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 23 .
(3) ( سفر التكوين ـ الإصحاح 9 : 20 ـ 27 ) ، وانظر ( الفِصَل ... ) لابن حزم ( 1/ 211 ) .
(4) سورة الإسراء ، الآية : 3 .
(5) دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية (ص94) .(59/165)
... ـ وأما قوله القبيح ( وزنت بنات لوطٍ مع أبيهم) فقد بينت كذبه ـ فيما سبق ـ وأنه مُتلقىً عن أبناء القردة ، من الذين جعلهم الحمد قدوته ، واتبع آثارهم في تعريضه بأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ دون خوف من الله ـ عز وجل ـ الذي قال عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (1) .
... ـ وقال الحمد على لسان هشام في السجن( يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم . إنه يحس في داخله أنه كان معاصراً لقابيل وهو يقتل أخاه ، ولنوح وهو يصارع أمواج الطوفان ، ليونس وهو يصيح في بطن الحوت ، ولأيوب والدود ينخره ، وليوسف في الجب ، ( والمسيح هو يصيح مصلوباً ، والنبي الأمي وهو يشكو ) (2) .
... قلت : أما قوله ( حشر الإله الروح في جسد آدم ) فهو من سوء أدبه مع ربه، واعتراض خفي على خلق آدم _ عليه السلام _ وكان الأولى به أن يقول : (نفخ الإلة الروح في آدم ) كما أخبر القرآن : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (3) .
الحمد يعتقد صلب المسيح ـ عليه السلام ـ !!!
... وكل هذا يهون أمام الطامة العظمى التي فاه بها الحمد ، وهي قوله : ( والمسيح وهو يصيح مصلوباً ) !!! فهو يخالف بقوله هذا نصوص الشريعة واجماع المسلمين من أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يصلب بل رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره ممن صلب ، قال تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (4) .
__________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 90 .
(2) الكراديب (ص213) .
(3) سورة ص : الآية : 71، 72 .
(4) سورة النساء ، الآية : 157 .(59/166)
... والذي دعا الحمد إلى هذه الزلة العظيمة هو ـ كما سبق ـ متابعته لليهود والنصارى الذين يزعمون أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد صلب ، وقد رد الله عليهم قولهم هذا في القرآن الذي يفترض أن يكون الحمد قد قرأه وآمن به ! قال تعالى عن اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) (1) . وهذه العقيدة وهي عدم صلب المسيح ـ لا يخالف فيها أي مسلم ، عامياً كان او عالماً ، وإنما خلاف بعضهم في أنه هل رفع ـ عليه السلام ـ بجسده كما عليه الجمهور وهو الصحيح لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) (2) .
... أم أنه تعالى توفاه بالنوم ثم قبض روحه كما يقبض أرواح البشر ، كما يختاره بعض العقلانيين من أمثال محمد عبده ومدرسته (3) .
... أما أنه عليه السلام قد صلب فهذا لم يفه به سوى المغضوب عليهم والضالين (وأذنابهم ! ) لأنه مصادم لما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو تكذيب لله ـ عز وجل ـ
... فهل يعي الحمد خطورة قوله هذا !؟ أم يتمادى في تجاوزه لكل ما هو قطعي تحت دعاوى ( الحرية ! ) عندها نقول له : (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (4) .
تنقص آخر لأنبياء الله :
... قال الحمد على لسان هشام :
( نحن نحاول أن نفهم سر ما يجري ، ولكننا ننتهي إلى صخرة سيزيف ، ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ، وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ... ) (5) .
قلت : أما صخرة سيزيف فهي أسطورة يونانية لا شأن لنا به ولا بصخرته التي يحاول الصعود بها .
__________
(1) سورة النساء ، الآية : 157 .
(2) سورة النساء ، الآية : 158 .
(3) انظر : تفسير المنار ( 6/ 18) .
(4) سورة المائدة ، الآية : 41 .
(5) الكراديب ( ص214 ).(59/167)
ـ أما قوله : ( ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ) ! فهو افتراء منه تابع فيه اليهود الذين اتخذهم قائده ودليله في روايته ، فالقول ما قالوا ، والرأي ما رأوا ، والرواية مارووا ، وإن كان فيها تنقص أو شتيمة لأنبياء الله ورسله ، فكل هذا لا يهم ( التوراتي ) تركي الحمد ! الذي شابه قلبه قلوبهم في حملها الغل على أكرم الخلق فأصبح يهذي بما يهذي به يهود .
... ومن ذلك متابعته لهم في اتهام سليمان ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر !!! وقد رد الله هذا الكفر بقوله تعالى مدافعاً عن نبيه سليمان : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (1) .
... قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( ان سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ـ عليه السلام ـ مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ) (2) .
ـ وأما قوله( وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ) ! فلا أدري ما الداعي لكلمة ( العابثة ) ! أم أن الحمد أصبح لا يرى في كل شيء إلا العبث ؟
... والذي ورد في تفسير قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (3) هو أنه آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم فدعا الله فاستجاب دعاءه وليس ذلك تعويذات عابثة كما يزعم ( العابث ) تركي الحمد .
سخرية الحمد وتنقصه شعائر الإسلام :
... أما سخريته بشعائر الدين ، وتهوينه من أمرها فمن ذلك أنه أخبر عن هشام بأنه ( صلى الفجر مع خاله دون اغتسال ) (4) !!
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 102 .
(2) تفسير ابن كثير ( 1/ 141) .
(3) سورة النمل ، الآية : 40 .
(4) الشميسي ( ص 44 ) .(59/168)
... وقوله مهوناً أمر الصلاة : ( حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان ، كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنزل غالباً ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم .. ) (1) .
... وقوله : ( وبقي هشام وحيداً لا يدري ما يفعل ، هل يلحق خاله إلى المسجد ، أم يواصل النوم مثل أبناء خاله .. وأخيراً عزم على مواصلة النوم ، فلا ريب أن الأبناء أدرى بحال الدار ، واستلقى على فراشه ، وأخذ النسيم البارد ورطوبة السحر يداعبان أجفانه . وعندما كان المؤذن ينادي : " الصلاة خير من النوم ... الصلاة خير من النوم " ، كان قد أغفى تماماً (2) .
... قوله : ( إنه لا يحب القصيم كثيراً . ففي الدمام أصحابه والأجواء التي اعتاد عليها والبحر ، وفي القصيم لا أصداء ولا بحر ، وفوق كل ذلك صلاة الفجر التي لا بد أن يؤديها جماعة في المسجد مع جده .عندما يلذ للعين الرقاد ) (3) .
سخريته وتنقصه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
... وأما سخريته بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمن ذلك قوله على لسان وليد مخاطباً هشاماً :
... ( أنت تتحدث عن الموت وكأنه كائن مجسد ، وليس حادثه أو حالاً .
... وضحك هشام باقتضاب وهو يقول :
ـ وما أدراك أنه ليس كائناً ؟ .. ألا يقولون إن الملاك عزرائيل هو قابض الأرواح ؟ أوليس ذاك الهيكل العظمي الأسود هو الموت بعينه ؟ ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يوم القيامة يؤتى بالموت على شكل خروف فيذبح على الحدود بين الجنة والنار ؟
ثم وهو يضحك :
ـ لقد ذكرتني بنزار وقصائده المتوحشة .
... ثم وهو يعتدل في جلسته :
ـ ولكن أتدري ما يحيرني يا وليد ... هل يمكن للموت أن يموت ؟ كيف يموت من هو ميت أصلاً ؟ وإذا كان الموت يميتنا ، فمن يميت الموت ؟ ... الله ؟ .. هو الحياة ذاتها فكيف يمكن للحياة أن تميت ؟ .. حقاً يا لها من حيرة ) (4) .
__________
(1) الشميسي ( ص 136 ).
(2) العدامة ( ص93 ) .
(3) العدامة ( ص 252 ) .
(4) الكراديب ( ص192) .(59/169)