كُتَّاب الديوان في العهد النبوي
د . عبد الله بن محمد الحجيلي
أستاذ مشارك بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
قسم القضاء والسياسة الشرعية
ابتدأ الديوان النبوي الشريف كمؤسسة هامة مستقلة بعد قدومه المدينة المنورة مهاجرًا إليها من مكة المكرمة ، وهذا ما نص عليه جمهور المؤرخين المهتمين بالتاريخ الإداري للدولة الإسلامية من القدماء والمعاصرين .
ومن أجلّ هؤلاء قاطبة شيخ الكتَّاب في عصره وأعظم مؤرخ في التاريخ للإدارة الإسلامية وهو الإمام القلقشندي في كتابه الموسوعي : ( صبح الأعشى في صناعة الإنشا ) .(1/1)
يقول القلقشندي عن أصل الديوان في الإسلام : (( اعلم أن هذا الديوان وضع في الإسلام وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكاتب أمراءه ، وأصحاب سرياه من الصحابة رضوان الله عليهم ويكاتبونه ، وكتب إلى من قرب إليه من ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام ، وبعث إليهم رسله بكتبه ، فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة ، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس ، ودحية الكلبي إلى هرقل ملك الروم ، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر ، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة ، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين ، إلى غير ذلك من المكاتبات ، وكتب لعمرو بن حزم عهدًا حين وجهه إلى اليمن ، وكتب لتميم الداري وإخوته بإقطاع بالشام ، وكتب كتاب القضية بعد الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية ، وكتب الأمانات أحيانًا إلى غير ذلك ، وهذه المكتوبات كلها متعلقها ديون الإنشاء ، وبخلاف ديوان الجيش فإن أول من وضعه ورتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته ، على أن القضاعي قد ذكر في تاريخه ( عيون المعارف وفنون الخلائف ) أن الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت كانا يكتبان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أموال الصدقات ، وأن حذيفة بن اليمان كان كتب له خرص النخل ، وأن المغيرة بن شعبة وحصين بن نمير كانا يكتبان المداينات والمعاملات ، فإن صح ذلك فتكون هذه الدواوين قد وضعت في عهده - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنها ليست في شهرة وتواتر الكتابة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - ))(1) .
وهذا النص الثمين للقلقشندي يؤكد ظهور الدواوين كلها في عهده - صلى الله عليه وسلم - وليس ديوان الإنشاء فقط ، ويستفاد من كلامه الأمور التالية :
أ- وجود ديوان الرسائل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن النبي هو أول من وضعه ، وذكر الأدلة على ذلك .
__________
(1) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (1/26) .(1/2)
ب- أن ديوان الإنشاء واضح في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والأدلة عليه تفوق الحصر ، وهذه الكتب المصنفة في حصر المكتوبات النبوية من أوضح الأدلة على ذلك .
جـ- وجود دواوين أخرى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كديوان الصدقات ، والزكوات ، وديوان الجيش ، ولكنها لم تكن بشهرة ديوان الإنشاء والرسائل .
وقد ذهب إلى هذه النتيجة عدد كبير من الباحثين المعاصرين(1) .
مكان جلوس الكتاب
لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة المنورة ، واستقر به المقام اتخذ مسجده الشريف مجلسًا له ، وكان موضع جلوسه معروفا ؛ إذ يجلس عند إحدى الأسطوانات الخشبية التي عرفت عبر التاريخ الإسلامي وإلى اليوم باسم : ( أسطوانة الوفود) ، وتقع خلف أسطوانة الحرس من جهة الشمال ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس إليها ليقابل وفود العرب القادمة إليه ، وكانت تعرف أيضًا بمجلس القادة ، ويجلس إليها سروات الصحابة رضوان الله عليهم .
يقول الدكتور ناشد : (( لقد بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فور وصوله إلى المدينة بإقامة مسجد له يؤدي فيه مناسكه ، ويبلغ في رحابه رسالته الجامعة ، وكان مسجدًا في غاية البساطة ، لا يعلو ارتفاعه قامة الإنسان إلا قليلا ، شيدت جدرانه بالطين ، وأقيمت دعائمه من جذوع النخل ، واتخذ سقفه من الجريد ، إذ لم تعرف الدولة في مبتدئ نشأتها الدواوين مقرًا لأجهزتها الإدارية ، ومثابة لولي أمرها ، فكان طبيعيا أن يكون مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسجد - مكانه المختار - وهو مجلس الحكم ، يمارس منه سياسة المجتمع الإسلامي ، وتصريف شئونه العامة ))(2) .
__________
(1) انظر : صناعة الكتابة وتطورها للدكتور أحمد إبراهيم ص 12 ، ودراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية ص 30 د . حسان جلاق ، والحكم والإدارة في الإسلام للدكتور أكرم ديرانية ص 70 .
(2) الفكر الإداري في الإسلام ص 38 .(1/3)
وقد تميزت مظاهر الحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبساطة المطلقة والبعد عن التكلف وقيود المراسيم المتحفظة والشكليات الرسمية التي تحف الهيئات الحاكمة ، وتتسم بها الدواوين عادة .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس طيلة وقته من بعد صلاة الفجر إلى الظهر في الفترة الأولى ، ومن بعد العصر إلى غروب الشمس في الفترة الثانية في مسجده ، وكان الكتَّاب محدقين به ، ومن كانت له حاجة استأذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وانصرف ، وإذا حضرت وفود جلسوا بجانبه ، ولهذا نجد أن أكبر مكاتيب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت للوفد الزائرة للمدينة المنورة خاصة بعد صلح الحديبية في مسجده الشريف .
مكان الكتاب في الحضر والسفر :
قد يحتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الكتاب في أسفاره ، فيختار من الصحابة من يقوم بالكتابة ويصرح باسمه ، فقد طلب من علي بن أبي طالب كتابة صلح الحديبية بينه وبين قريش . وقد أشارت بعض النصوص إلى أن كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ملازمًا له في أسفاره ، ولم تشر إلى اختصاص أحد بذلك ، بل من طلب منه الكتابة كتب .
فقد ذكر الإمام أحمد في مسند عبد الله بن حوالة ما نصه : (( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر من أسفارنا فنزل ، فنزل الناس منزلاً ، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظل دوحة ، فرآني وأنا مقبل من حاجة لي ، وليس غيره وغير كاتبه ، فقال : أنكتب يا ابن حواله ))(1) .
فهذا النص الذي ذكره الإمام أحمد يدل دلالة أكيدة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلازمه أحد الكتبة في أسفاره ، أما في الحضر فلديه مجموعة من الكتاب ، ولكن كل كاتب قد خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمل ما ، فإذا غاب أشهر الكتاب كتب من حضر ، وهذا ما ذكره كل من كتب عن كتاب الوحي والديوان في العهد النبوي الشريف .
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/33) .(1/4)
روى البغوي بسنده إلى عبد الله بن الزبير كما أخرجه الحافظ ابن حجر في الإصابة قال : (( إنه كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن الأرقم وزيد بن ثابت فإذا لم يوجد كاتب أمر من حضر ))(1) .
وذكر القضاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ُ خصص كاتبًا معتمدًا خليفة لكل كاتب غائب(2) ، وقال الإمام ابن جماعة : (( وكان حنظلة الأسيدي خليفة كل كاتب غاب عن عمله ))(3) .
حصر عدد كتّاب الديوان في العهد النبوي الشريف :
اختلف علماء التاريخ والسير قديمًا وحديثًا في حصر وضبط العدد الكلي لكتاب الديوان النبوي الشريف ، وذهبوا مذاهب شتى ما بين مقلٍّ ومكثر ، فمنهم من أطلق ومنهم من حصر ، وأغلب المؤرخين يذكرونهم بلا حصر ، وفيما يلي ذكر لبعض مقولاتهم :
قال الإمام القسطلاني : (( أما كتّابه فجمع كثير ، وجم غفير ، وذكرهم بعض المحدثين في تآليف له بديعة ، استوعب فيه جملة من أخبارهم ، ونبذًا من سيرهم وآثارهم ، وصدَّر فيه بالخلفاء الأربعة الكرام خواص حضرته عليه الصلاة والسلام ))(4) .
ولكن ما هو الحصر التقريبي لهذا الجمع الكبير والعدد الكبير؟؟
- قال النويري : (( ذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية أن كتّابه عليه الصلاة والسلام ينتهون إلى ستة وعشرين والله أعلم ))(5) .
- وقال الحلبي : (( ذكر بعضهم أن كتابه - صلى الله عليه وسلم - كانوا ستة وعشرين كاتبًا على ما ثبت عن جماعة من ثقات العلماء ))(6) .
- وأوصلهم ابن عبد البر في (بهجة المحافل) ، و (الاستيعاب) إلى خمسة وعشرين فردًا .
- وأوصلهم الشبراملسي الشافعي إلى أربعين رجلاً .
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة (5/5) .
(2) تاريخ القضاعي 237
(3) المختصر الكبير في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن جماعة ص 112 .
(4) المواهب اللدنية (2/125) .
(5) نهاية الأرب (18/237) .
(6) السيرة الحلبية (3/457) . ...(1/5)
- وأوصلهم العراقي في نظمه للسيرة النبوية المعروفة بالألفية إلى اثنين وأربعين رجلاً ، فقال(1) :
كتّابه اثنان وأربعونا ... زيد بن ثابت وكان حينا
كاتبه وبعده معاوية ... ابن أبي سفيان كان واعيه
كذا أبو بكر كذا علي ... عمر عثمان كذا أُبي
وابن سعيد خالد وحنظلة ... كذا شراحبيل أمه حسنة
وعامر وثابت بن قيس ... كذا ابن أرقم بغير لبس
واقتصر المزي مع عبد الغني ... منهم على ذا العدد المبين
وزدت من متفرقات السير ... جمعًا كثيرا فاضبطنه واحصر
طلحة والزبير وابن الحضرمي ... وابن رواحة وجهمًا فاضمم
وابن الوليد خالدا وحاطبا ... هو ابن عمرو وكذا حويطبا
حذيفة بريدة أبان ... وابن سعيد وأبا سفيان
كذا ابنه يزيد بعض مسلمة ... الفتح مع محمد بن مسلمه
عمرو هو ابن العاص مع مغيرة ... كذا السجل مع أبي سلمه
كذا أبو أيوب الأنصاري ... كذا معيقيب هو الدوسي
وابن أبي الأرقم أرقم أعدد ... فيهم كذا ابن سلول المهتدي
كذا ابن زيد واسمه عبد الله ... والجد عبد ربه بلا اشتباه
واعدد جهيمًا والعلا ابن عقبة ... كذا حصين ابن نمير أثبت
وذكر ثلاثة قد كتبوا ... وارتد كل منهم وانقلبوا
ابن أبي سرح مع ابن خطل ... وآخر أبهم لم يسم لي
ولم يعد منهم إلى الدين سوى ... ابن أبي سرح وباقيهم غوى
- وأوصلهم القلقشندي إلى نيف وثلاثين كاتبًا وذكر أسماءهم مجملة(2) .
- وأوصلهم الحافظ مغلطاي إلى أربعين رجلاً في كتابه (الإشارة)(3) .
- وأوصلهم ابن عساكر في تاريخ دمشق إلى أربع وعشرين كاتبًا ، وترجم لبعضهم في مواطن تراجمهم ، وذكر نماذج من كتاباتهم ، وتابعه في ذلك ابن منظور في مختصره لتاريخ دمشق .
- واستقصى الباقلاني ذكر عددهم في كتابه (الانتصار للقرآن)(4) ، وانفرد بذكر بعضهم وهم :
1 - حويطب بن عبد العزى .
2 - أبو حذيفة بن عنيد بن ربيعة .
3 - عبد الله بن مسلمة .
4 - أبو أمامة أسعد بن زرارة .
__________
(1) الدرر السنية في نظم السيرة الزكية ، ص : 55 .
(2) 1/126) .
(3) الإشارة .402-404 .
(4) 1/413-418 .(1/6)
5 - المنذر بن عمرو .
6 - مالك بن العجلان .
7 - أسيد بن الحضير .
8 - معن بن عدي .
9 - أبو عيسى بن جبير .
10 - سعد بن الربيع .
11 - أوس بن سعد .
12 - أسد بن الصامت .
13 - سعد بن عبادة
- وحصرهم وترجم لكل واحد منهم ابن حديد الأنصاري فأوصلهم إلى أربع وأربعين رجلاً .
- وذكرهم الصالحي في ( سبل الهدى والرشاد في سير خير العباد )(1) وحصرهم في أربع وثلاثين رجلاً ، وترجم لكل واحد منهم ، مع ذكر بعض ما كتبه الكاتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
- وذكر المسعودي مشاهير الكتاب وقال : (( وإنما ذكرنا من أسماء كتابه - صلى الله عليه وسلم - من ثبت على كتابته ، واتصلت أيامه فيها ، وطالت مدته ، وصحت الرواية على ذلك من أمره ، دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة ، إذ كان لا يستحق بذلك أن يسم كاتبًا ، ويضاف إلى جملة كتابه ))(2) ، وما ذكره المسعودي ذكره كثير ممن تصدى لحصر أسماء كتبة الديوان النبوي الشريف ، ونحن لا نشاطر المسعودي ما ذهب إليه من حصرهم فيمن طالت مدته واشتهر أمره ، فكل من كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستحق أن يسمى كاتبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يؤمر بالكتابة إلا من هو موطن ثقة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وبمجرد الكتاب اكتسى حلة الشرف هذه ، فهو جدير بأن يسمى كاتبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم تطل مدته ويشهر خبره .
اختصاصات كتاب الديوان في العهد النبوي الشريف :
خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الكتاب ببعض المهام الكتابية في حال وجود غيره من كتبة الديوان ، أما إذا قل العدد وانحصر في واحد ونحوه أمر الكاتب الحاضر بالكتابة بحسب الحاجة ، دون النظر إلى تخصصه ، وهذه الاختصصات يمكن إجمالها في الآتي :
1 - كُتَّاب الوحي
2 - كتّاب الرسائل إلى ملوك العجم والعرب
3 - كتّاب الرسائل إلى العرب والبوادي
__________
(1) 11/375-394 .
(2) التنبيه والإشراف ، ص : 345 .(1/7)
4 - كتّاب العهود والمواثيق والأمان
5 - كتّاب الإقطاعيات والأموال النبوية
6 - كاتب السر
7 - كتّاب الوثائق والشروط والمدانات
8 - كتّاب الغنائم والخمس
9 - كاتب الصدقات والحوائج الشخصية
10 - كاتب الجيش وحصر المقاتلة
وهذا تفصيل لما أجمل فيما مضى كالتالي :
1 - كتّاب الوحي (القرآن الكريم) :
منذ أن أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيه القرآن الكريم سجله في الصدور والسطور ، فقد كتبه منذ أن أنزل إليه أول آية حتى آخر آية ، وكان يقول : (( ألحقوا آية كذا بكذا )) ، وقد فصل العلماء القول في ذلك في كتبهم المفردة في علوم القرآن الكريم ، وكان من أوائل من كتب له القرآن :
شرحبيل بن حسنة ، ويقال : إنه أول من كتب له في مكة .
وقيل : إن أول من كتب له : خالد بن سعيد بن العاص في مكة .
وقيل : بل أول من كتب له في مكة عبد الله بن أبي السرح ثم ارتد ، ثم أسلم يوم الفتح ، فهؤلاء جميعًا كتبوا له في مكة .
أما في المدينة المنورة فأول من كتب له بإجماع المؤرخين هو : ( أبي بن كعب ) .
حكى ابن عبد البر عن الواقدي : (( أول من كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي مقدمه المدينة أبي بن كعب ، فإذا غاب كتب له زيد بن ثابت )) .
وكان ألزم الصحابة لكتابة الوحي زيد بن ثابت .
وقد كتب له ابن خطل ثم ارتد ، ثم ظفر به يوم الفتح فقتل .
وكتب له شخص لم يعين اسمه فمات فلفظته الأرض مرارًا فترك تأكله الطير .
وقد اعتنى العلماء قديمًا وحديثًا بحصر كتّاب الوحي ، والحديث عن مناقبهم وحياتهم بكتب مخصصه .
2 - كتاب الرسائل إلى الملوك من عرب وعجم :
لما وقع الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة في الحديبية اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إبلاغ الأمم المجاورة بالإسلام وكتب إليهم بذلك كتبًا مشهورة معروفة .(1/8)
قال ابن قيم الجوزية : (( لما رجع من الحديبية كتب لملوك الأرض ، وأرسل إليهم رسله ، فقيل له : إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا إذا كان مختومًا ، فاتخذ خاتمًا من فضة ، ونقش عليه ثلاثة أسطر ، محمد سطر ، ورسول سطر ، والله سطر ، وختم به الكتب إلى الملوك ، وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم من سنة سبع ))(1) .
وقد عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض كتّابه بكتابةِ الكتب إلى الملوك ، وأشهر هؤلاء الكتاب على الإطلاق : عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم الزهري ، فقد ذكر كل من ترجم له أنه كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك ، وكان يجيب عنه .
قال ابن الاثير : (( وكان من المواظبين على كتابة الرسائل عبد الله بن أبي الأرقم الزهري )) ، وقال أيضًا : (( ولما استكتبه أمن إليه ، ووثق به ، فكان إذا كتب إليه بعض الملوك يأمره أن يختمه ، ولا يقرؤه لأمانته عنده ))(2) .
ولم ينفرد ابن الأرقم بهذا الشرف ، بل شاركه جملة من الصحابة :
قال البلاذري والجهشياري : (( كان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك ، مع ما كان يكتبه من الوحي ))(3) .
وقالا أيضا : (( كان حنظلة بن الربيع بن المرقع الأسيدي خليفة كل كاتب من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غاب عن عمله ، فغلب عليه اسم الكاتب ))(4) .
وقال القضاعي : (( وأما زيد بن ثابت : فإنه كان ترجمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان كاتبه إلى الملوك ، لأنه يعرف الفارسية واليونانية ))(5) .
__________
(1) زاد المعاد (1/121) .
(2) أسد الغابة 2/549 ، 1/58) .
(3) الوزراء الكتاب ص : (12) ، وفتوح البلدان ص : (581 - 582) .
(4) المصدر السابق .
(5) تاريخ القضاعي : ص 238 ، تخريج الدلالات السمعية : ص 181 .(1/9)
وقال المسعودي : وكان زيد بن ثابت الأنصاري ثم الخزرجي ... يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يترجم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية ، تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن ))(1) .
وقال ابن عساكر مسندًا إلى عبد الله بن الزبير : (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث - كذا نسبه حميد - وكان يجيب عنه الملوك ... واستكتب أيضًا زيد بن ثابت ، وكان يكتب الوحي ، ويكتب إلى الملوك أيضًا ، فلم يزالا يكتبان حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر ))(2) .
3 - كاتب العرب والبوادي :
لما وقعت الهدنة بين المسلمين وقريش في صلح الحديبية كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أغلب زعماء العرب يدعوهم إلى الإسلام ، فمن أطاع منهم رفع قدره ، وولاه على قومه ، ومن عصى عاقبه بعقوبة عاجلة بالحرب مع ما له من العقاب الأخروي .
وفي سنة تسع عندما علمت قبائل العرب انتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش أوفدت إلى المدينة مئات من الوفود من ملوك وزعماء العرب فرحب بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكتب لهم كتب الإقطاع بما طلبوه ، أو كتب التأمير على قومهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما سئل شيئًا قط ، فقال : لا ، وأحال العهدة في تلك الطلبات عليهم ، وإن نازعهم أحد منهم في شيء ما ردهم إلى حكم الشرع الشريف .
وبتأمل الكتب التي وصلت نصوصها إلى عصرنا الحاضر نجد أن أغلب كتبة الديوان النبوي الشريف قد شاركوا في هذا الشرف ؛ لأن من حضر من الكتاب كتب ، وإن كان هنالك بعضا من الكتّاب نص العلماء على أنهم أشهر من غيرهم .
قال ابن عبد البر نقلاً عن الواقدي : (( كان أبي وزيد بن ثابت يكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك ))(3) .
__________
(1) التنبيه والإشراف : ص 246 .
(2) تاريخ دمشق 4/228 .
(3) الاستيعاب ص : 43 .(1/10)
وقال الخزاعي عن ابن إسحاق : (( كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ويكتب للملوك أيضًا ، وكان إذا غاب عبد الله بن الأرقم وزيد بن ثابت واحتاج إلى أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد أو الملوك أو إلى أي إنسان بقطيعة ، أمر من حضر أن يكتب ))(1) .
4 - كاتب العهود والمواثيق والأمان :
لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة كانت فيها ثلاث قبائل يهودية ، وهم بنو قينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة ، فلما سكن المدينة شرع في طمأنة تلك القبائل وإشعارهم بأنهم جزء لا يتجزأ من مواطني الدولة الإسلامية إذا أسلموا أو عاهدوا ، فلم يسلم منهم إلا نفر قليل ، فعقد معهم مصالحة عرفت بـ (صحيفة المدينة) ، ثم بعد ذلك توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى فرض سلطته على الجزيرة العربية بمحاربة الكفار من العرب وغيرهم ، فاستطاع في خلال ثماني سنوات أن يسيطر على كامل الجزء الغربي للجزيرة العربية ، من تبوك إلى اليمن ، ومن أواسط نجد إلى سواحل البحر الأحمر .
وفي تلك الفترة غزا قبائل غير عربية كيهود خيبر بعد طرده وقتله لقبائل يهود المدينة الذين خانوا الله ورسوله ، فلما رأت فعله بعض القبائل العربية وغير العربية التي تدين بغير الإسلام سارعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تطلب إجراء معاهدة .
__________
(1) تخريج الدلالات السمعية ص : 181 .(1/11)
وأجلّ تلك العهود قاطبة هو (عهد الحديبية) الذي جرى بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين كفار قريش ، فقد سماه الله - عز وجل - فتحًا ، ودخلت بعض القبائل المجاورة لمكة مع عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان هذا الحلف سببًا في الفتح الأعظم فتح مكة ، حيث دخل الناس بعده في دين الله أفواجًا ، فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة منتصرًا ، جاءت وفود القبائل العربية إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - العهود والمواثيق ، فكتب لكل من جاءه طالب الأمان كتابًا ، وقد تشرف مجموعة من الكتّاب بكتابة هذه العهود والمواثيق والأمانات .
وممن كتب هذه العهود أبو بكر وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وغيرهم من كتاب الوحي .
قال ابن عبد البر نقلا عن الواقدي : (( وكان الكاتب لعهوده - صلى الله عليه وسلم - إذا عهد وصلحه إذا صالح علي بن أبي طالب ))(1) .
وقال الباقلاني عن أبي بن كعب : (( وكان يكتب هو وأبو بكر وعلي في آخر كتب رسول - صلى الله عليه وسلم - من العهود والسير وكتب أبي وهو أول من كتب ذلك ))(2) .
وقال ابن منظور : (( كانوا يقولون : أول من كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ابن السرح ، ثم ارتد فكتب له عثمان ... وكتب له علي بن أبي طالب الموادعة في غزوة الحديبية ، وكتب علي كتابًا لأهل نجران ))(3) .
5 - كتاب الإقطاع والتمليك :
__________
(1) الاستيعاب ص : 42 .
(2) الانتصار (1/416) .
(3) مختصر تاريخ دمشق (1/331) .(1/12)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم الناس لا يرد من سأله ألبتة ، وكانت العرب قاطبة تنظر إلى الحرب بينه وبين أعدائه على أنها حرب بين فئتين من قريش ، وكانوا يقولون : ننظر إلى هذا الرجل فإذا غلب على قومه أعطينا له يد الطاعة ، فلما استقر الأمر بعد فتح مكة ؛ جاؤوا إلى المدينة فرادى وجماعات بين راغب وراهب ، وكان لهؤلاء الوفود طلبات ورغبات وضعوها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأغلب تلك المطالب منهم كانت للأراضي والأماكن والمياه التي قاتلوا عليها في الجاهلية ، وحموها بسيف القبيلة ، وذلك خشية أن يأتي من ينازعهم عليها بعد ، ويطلب ما ليس له ، فقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم إقطاعات على حسب رغباتهم ، وكانت بعض تلك القطائع لبعض الصحابة الذين قدموا إلى المدينة المنورة من المهاجرين والأنصار ، فقد أقطع بعضهم أرضًا للسكنى ، والآخر أرضًا للزراعة كالزبير بن العوام أقطعه الغابة - وهي منطقة زراعية معروفة إلى اليوم - .
ومن أشهر كتّاب القطائع : زيد بن ثابت وأبي بن كعب ، قال ابن عبد البر نقلاً عن الواقدي : (( وكان أبي وزيد بن كعب يكتبان الوحي بين يدي - صلى الله عليه وسلم - ، ويكتبان كتبه إلى الناس ، وما يقطع وغير ذلك ))(1) .
ونقل الخزاعي عن ابن إسحاق قوله : (( كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ، ويكتب إلى الملوك أيضًا ، وكان إذا غاب عبد الله بن الأرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد أو الملوك أو إلى أي إنسان بقطيعة ، أمر من حضر أن يكتب ))(2) .
6 - كاتب السر :
المراد به الكاتب الذي يجالس السلطان في مقر جلوسه(3) ، ويأتي ترتيبه في المقام الأول بين طبقات الكتاب .
__________
(1) الاستيعاب ص : (43) .
(2) تخريج الدلالات السمعية ص : 181 .
(3) معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص : (363) .(1/13)
وهذا اللقب قديم يرجع تاريخ إنشائه إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما عرف به (صاحب ديوان الإنشاء) عبر العصور الإسلامية المختلفة ، غير أنه في بداية العصر المملوكي وبالتخصيص منذ عهد السلطان المنصور قلاوون أصبح ذلك اللقب هو الذي يعرف به بصفة دائمة صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية ، ومن ثم شاع استخدامه على ألسن العامة والخاصة ، ولذلك وقر في الأذهان أن هذا اللقب من الألقاب التي يرجع تاريخ إنشائها إلى العصر المملوكي من تاريخ مصر الإسلامية(1) .
وقد اشتهر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بأنه صاحب سر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى البيهقي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وعثمان بين يديه ، وكان كاتب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
ولم ينفرد عثمان - رضي الله عنه - بأنه المطلع الوحيد على أسرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل كان للنبي أمناء منهم :
عبد الله بن الأرقم الزهري القرشي ، فعن عبد الله بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكتب عبد الله بن الأرقم ، فكان يجيب عنه الملوك ، وبلغ من أمانته عنده أن يأمره بالكتابة إلى بعض الملوك ، فيأمره أن يطينه ويختمه وما يقرؤه لأمانته عنده(3) .
وأشهر أمين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذه الأمة المحمدية هو الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح ، فعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل نجران : لأبعثن عليكم رجلاً أمينًا حق أمين ، فاستشرف لها الناس ، فبعث أبا عبيدة بن الجراح(4) .
__________
(1) صناعة الكتابة ص : (26) .
(2) الاستيعاب ص : (381) .
(3) السنن الكبى للبيهقي (1/126) .
(4) البخاري برقم (3745) ، ومسلم برقم (2420) .(1/14)
وقال الخطيب في تاريخه : (( حذيفة بن اليمان كان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقربه منه ، وثقته به ، وعلو منزلته عنده ))(1) .
وقال ابن عبد البر : (( وحذيفة معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين ، لا يعلمهم إلا حذيفة ، أعلمه بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله عمر : أفي عمالي أحد من المنافقين ؟ قال : نعم ، واحد ؛ قال : من هو ؟ قال : لا أذكره ، قال : حذيفة : فعزله عادل عليه ، وكان عمر إذا مات ميت يسأل عن حذيفة ، فإن حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر ، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة لم يحضر عمر )) .
وقد اعتنى كثير من المؤرخين بحصر أمنائه - صلى الله عليه وسلم - ، منهم ابن عساكر ، وابن كثير ، والحلبي ، وغيرهم .
قال الحلبي : (( أمناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عبد الرحمن بن عوف ، كان أمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نسائه ، وكذا أبو أسد بن أسيد الساعدي ، كان أمينه على نسائه ، وهو آخر من مات من أهل بدر ، وبلال المؤذن كان أمينه على نفقته ، ومعيقيب كان أمينه على خاتمه الشريف ))(2) .
7 - كاتب الوثائق والصكوك والشروط :
أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بالكتب والإشهاد في بيوع الآجال فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } (3) .
واختلف العلماء هل هذه الأوامر على الوجوب أو على الندب ؟ وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :
- القول الأول : الوجوب ، وذهب إليه جمع من الصحابة والتابعين وبعض الفقهاء .
- القول الثاني : الندب ، وذهب إليه أبو سعيد الخدري من الصحابة ، وابن جرير الطبري ، وغيرهما .
- القول الثالث : الإباحة وهو قول الجمهور من العلماء من الصحابة إلى عصرنا الحاضر .
__________
(1) تاريخ بغداد ص (2/61) .
(2) السيرة الحلبية 3/549 ، وتاريخ دمشق 4/351 .
(3) البقرة : 282 .(1/15)
وقد ذكرت لنا كتب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من العداء بن هوذة الحنفي عبدًا أو أمة ، فكتب في ذلك كتابًا ، وشرط شروطًا .
قال الإمام البخاري رحمه الله يذكر عن العداء بن خالد قال : (( كتب لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا ما اشترى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العداء بن خالد ، بيع المسلم المسلم ، لا داء ولا خبثة ولا غائلة ))(1) .
وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة إلى كتابة الأوقاف ، وأملى على سيدنا عمر نص الوقفية العمرية لأراضيه في خيبر والمدينة .
وقد ذكر علماء السير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصص بعض الكتاب لكتابة المداينات والمعاملات ، وهذه بعض مقاولاتهم :
قال القضاعي : (( كان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات ))(2) .
وقال المسعودي : (( كان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهري والعلاء بن عقبة يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات ))(3) .
وقال الجهشياري : (( كان عبد الله بن الأرقم والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء ))(4) .
وقال الإمام ابن حجر : قرأت في التاريخ المصنف للمعتصم بن صمادح : أن العلاء بن عقبة والأرقم كانا يكتبان بين الناس في المداينات والعهود والمعاملات(5) .
8 - كتّاب الغنائم والخمس :
الغنائم هي : الأموال المأخوذة من أهل الحرب عنوة .
وليست الغنائم هي المورد المالي الوحيد للدولة الإسلامية ، بل هنالك الصوافي ، والفيء ، والصدقات ، والهبات ، والجزية ، وغير ذلك مما هو مفصل في الكتب التي اعتنت بالنظام المالي للدولة الإسلامية .
__________
(1) صحيح البخاري 3/67 ط القاهرة 1958م .
(2) تاريخ القضاعي ص 238 .
(3) التنبيه والإشراف ص : 283 .
(4) الوزراء الكتاب ص : 12 .
(5) ألإصابة 1/40 .(1/16)
وقد خاض النبي - صلى الله عليه وسلم - خلال العشر سنوات التي هي مدة قيام الدولة الإسلامية العديد من الغزوات والسرايا .
وبما أن الله - عز وجل - أغلظ في ذم الغلول فقال تعالى : { ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة } (1) ، وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحصي المغانم بعد المعركة ويقسمها على الغانمين ، واتخذ من أجل ذلك كاتبًا يحصي هذه الأموال ، ومثل ذلك فعل الصحابة أمراء السرايا والغزوات .
ومن أشهر كتّاب المغانم ما يلي :
قال الجهشياري : (( روي أن معيقيب بن أبي فاطمة حليف ابن أسد كان يكتب مغانم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(2) .
وقال المسعودي : (( وكان ابن أبي فاطمة الدوسي يكتب مغانم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(3) .
وقال أيضًا : كان حنظلة بن الربيع بن صيفي الأسيدي ، يكتب بين يديه في هذه الأمور إذا غاب من سمينا من سائر الكتاب وينوب عنهم في سائر ما ينفرد به كل واحد منهم لذا كان يدعي حنظلة الكاتب .
ولم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحصائها بل جعل عليها ولاة يحفظونها حتى تحصى وتقسم ، ومن ذلك عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف كان على النفل يوم بدر ، وبديل بن ورقاء الخزاعي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرًا على السبايا والأموال يوم حنين ، ومسعود بن عمر القاري كان على المغانم يوم حنين(4) .
قال الإمام ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة (محمية) : (( استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأخماس ، وأمره أن يصدق عن قوم من بني هاشم في مهور نسائهم منهم الفضل بن العباس ))(5) .
9 - كاتب الصدقات والحوائج الشخصية :
__________
(1) سورة آل عمران ، الآية 161 .
(2) الوزراء الكتاب ص :12 .
(3) التنبيه و الإشراف ص 246 .
(4) تخريج الدلالات السمعية ص : 500 وما بعدها .
(5) الاستيعاب : ص 706 رقم (2517) .(1/17)
الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة ، وأحد الموارد المالية في الدولة الإسلامية ، وهي طهرة لمال الغني ، ومساعدة للفقير ، وحفظ له من السؤال .
وقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بجمع الصدقات من أصحابها ، ونصب عمالا يقومون بجمعها ، وضع كتّابا يحصون ما جمع هؤلاء العمال ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب لكل عامل صدقة كتابًا حتى يطلع عليه أهل الأموال .
فقد روى الإمام أبو داود عن سويد بن غفلة قال : أتانا مصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بيده ، وقرأت في عهده ، قال : (( لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ))(1) .
وقد تولى ولاية الصدقات بعهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجموعة من الصحابة منهم :
عمر بن الخطاب العدوي القرشي ، فقد أخرج الإمام مسلم أنه بعثه على الصدقات(2) .
خالد بن سعيد بن العاص الأموي ، بعثه على الصدقات في بلاد مراد وزبيد ومذحج .
معاذ بن جبل الأنصاري ، بعثه إلى اليمن وكتب له كتابًا .
أبي بن كعب الأنصاري ، قال : (( بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدّقًا )) .
عدي بن حاتم الطائي ، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً على صدقات في بني أسد .
الزبرقان بن بدر التميمي ، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خصص كاتبًا لديه مختصاً بكتابة أموال الصدقات التي ترد إليه .
بل بلغ الحرص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تدوين كل حاجة تعن له وخصص لذلك كتابًا دائمين يكتبون حوائجه الشخصية .
وهذه بعض النصوص التي تؤيد ما ذهبت إليه :
__________
(1) سنن أبي داود 1/364 .
(2) صحيح مسلم : 1/268 .(1/18)
قال الجهشياري : (( كان خالد بن سعيد بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه ))(1) ، وهذا يشمل كل ما يحتاجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدعو الكتابة إليه من الحوائج العامة والخاصة .
قال القضاعي : (( كان الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات ، وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص النخل وثمار الحجاز ))(2) .
قال المسعودي : (( كان خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ... يكتب بين يديه في سائر ما يعرض من أموره .
وكان المغيرة بن شعبة الثقفي والحصين بن نمير يكتبان أيضًا فيما يعرض من حوائجه ))(3) .
وقال أيضًا : (( إن الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات ، وحذيفة بن اليمان يكتب خرص الحجاز ))(4) .
وقال ابن حزم في كتابه (جوامع السير والعدل) : (( وكان كاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات الزبير بن العوام ، فإذا غاب أو اعتذر كتب جهيم بن الصلت وحذيفة بن اليمان ))(5) .
10 - كتّاب الجيش :
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب أسماء الجنود الذين يتطوعون للخدمة في جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد خصص كاتبا لذلك ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو معروف في سيرته يتتبع أحوال أصحابه من كافة النواحي ، وكان بهم رفيقا حليمًا ، وإذا كان عند أحد منهم حاجة تمنعه من الاكتتاب في الجيش عذره ، ولو كان هذا العذر يسيرًا ، فقد روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجّة ، قال : ارجع . فحج مع امرأته(6) .
__________
(1) الوزراء والكتاب : ص 12 .
(2) تاريخ القضاعي ص 238 .
(3) التنبيه والإشراف : ص 245 .
(4) المصدر السابق ، نهاية الأر ب : 18/236 .
(5) تخريج الدلالات السمعية ص : 550 .
(6) صحيح البخاري مع الفتح 6/143 .(1/19)
وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول : (( لا يخلونّ الرجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : انطلق فحجّ مع امرأتك ))(1) .
والشاهد من الحديثين هو مشروعية كتابة الجيش ، ونظر الإمام لرعيته بالمصلحة ، وهذا هو ما فهمه البخاري من الحديث الأول فقال : (( باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له ))(2) .
الديوان النبوي الشريف هو الديوان الرئيسي الذي انبعثت منه كافة الدواوين الإسلامية في العصور الإسلامية وإلى عصرنا الحاضر .
والدارس لتاريخ الديوان النبوي الشريف يرى أنه لم يكن ديوان رسائل فحسب - كما هو الحال في ديوان الرسائل في العصور التالية له - بل كان يضم مجموعة من الكتّاب المختصين المختارين بعناية تامة وفق مواصفات عالية ، وقد اشتهروا بصفات قيادية وأخلاقية وكتابية عظيمة ، أهَّلت كل واحد منهم لأن يختاره النبي القائد - صلى الله عليه وسلم - لهذا المنصب الجليل ، وهذا ما أدركه بعض المؤرخين الكبار حيث يقول الباقلاني عن صفات هؤلاء الكتاب : (( وقد كان له عليه الصلاة والسلام جماعة أماثل عقلاء أفاضل ، كلهم كتبة له ، ومعروفون بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار ))(3) .
قال القلقشندي : (( فإن صحّ ذلك فتكون هذه الدواوين أيضًا قد وضعت في زمنه إلا أنها ليست في الشهرة والتواتر كالكتابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ))(4) .
__________
(1) صحيح مسلم مع النووي 2/179 .
(2) صحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، 4/59 من الطبعة السلطانية .
(3) الانتصار 1/413) .
(4) صبح الأعشى 1/126 .(1/20)
ومع مرور الزمن أصبح ديوان الرسائل مجموعة من الدواوين ، وتنوعت الاختصاصات فيها أنواعًا عديدة بحسب حاجة الدول في تلك العصور ، وأصبحت تلك الدواوين واضحة جلية يعرفها كل دارس من العصر الأموي إلى العصر العثماني ، وفيما يلي بيان لألقاب الكتّاب ، واسم الديوان الذي كان يشغله(1) :
اسم الكاتب ... اسم الديوان
كاتب الرسائل ... ديوان الرسائل ، ديوان الزمامة
كاتب العرب والبوادي ... ديوان الخاتم
كاتب الأقطاع ... ديوان الخراج
كاتب العهود والمواثيق ... ديوان التوقيع والدار
كاتب السر ... ديوان الفض
كاتب الوثائق ... ديوان الوثائق والشروط
كاتب الجيش ... ديوان الجيش
كاتب الصدقات ... ديوان النفقات
كاتب الغنائم والخمس ... ديوان بيت المال
شروط وآداب كتاب الديوان الشريف :
هذه الشروط استقاها العلماء من سيرة كتّاب الديوان النبوي الشريف ، ومن بعض التوجيهات النبوية التي صدرت لبعض الكتّاب في عصره .
وأجمع من كتب حول هذا الموضوع هو القلقشندي في كتابه الموسوعي : (صبح الأعشى في ديوان الإنشاء) ، وهذا مختصر لما ذكره :
أولاً : الشروط العامة(2) .
1- الإسلام
وهذا من أهم الشروط التي يجب توافرها في كاتب الإنشاء ؛ لأن الكاتب يحتاج إلى الاستشهاد بالقرآن الكريم ، والكتابة ولاية ولا ولاية لكافر على مسلم ؛ لذا لم يتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتبًا كافرًا قط ولا الخلفاء الراشدون من بعده .
2- الذكورة
إن الكتابة ولاية من أجلّ الولايات الشرعية ؛ لذا لا يجوز لامرأة أن تتولى هذه الولاية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تولية المرأة ولاية عامة عندما قال : (( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ))(3) .
3- الحرية
__________
(1) انظر : فهرس الخراج وصناعة الكتابة ، لقدامة بن جعفر ص 610 .
(2) انظر : صبح الأعشى 1/93 – 100 ، ونهاية الأرب للنويري7/14 ، والبرد الموشَّى للموصلي ص 27 .
(3) متفق عليه .(1/21)
لا يجوز للعبد أن يتولى الكتابة ، إلا إذا وثق به سيده وهو الإمام فلا بأس بذلك عند بعض الفقهاء ؛ لأن عثمان استكتب مولاه حمران ، أما جمهور الفقهاء فمنع ذلك سواء أكان للسلطان أو القاضي أو غيرهم .
4- العقل
العقل هبة من الله - عز وجل - ، ولا يستطيع ناقص العقل أن يضطلع بأي عمل من الأعمال لنقصان إدراكه ، فالعقل أساس الفضائل وأصل المناقب ، ومن لا عقل له لا انتفاع به كما قاله القلقشندي .
5- معرفة أحكام الولايات
يجب على الكاتب أن يكون عليمًا بأحوال الأحكام السلطانية ، وأن يعرف ترتيب الولايات الدينية من عند الإمام ، وتقليد الوزراء ، وإمارة البلدان ، وإمارة الجهاد ، وولاية القضاء والمظالم ، ومخاطبة الملوك والوزراء والعمال وغيرهم ؛ لأن هذا من صميم عمله وأهم الواجبات المنوطة به .
6- الفقه في الأحكام الشرعية
يجب على الكاتب أن يكون مؤهلاً لهذه الوظيفة ، ولديه الدراية التامة بأحكام الفقه الإسلامي ؛ لأن عمله يتطلب معرفة هذه الأحكام .
7- الإلمام باللغة العربية والبلاغة
الكاتب يجب أن يكتب على قواعد اللغة العربية ، وأن يكون بعيدًا عن اللحن والخطأ في الإعراب ، وإلا أضحى أضحوكة بين الناس ، ويحسن به أن يصوغ الرسائل مطرزة بألوان علوم البلاغة العربية من البيان والبديع مع المعاني الرائقة ، والعبارات اللطيفة الرائعة .
الآداب العامة(1) .
يستحب لكاتب الإنشاء أن يتحلى بالآداب الإسلامية ، ومن أهمها :
1 - تقوى الله - عز وجل - في السر والعلانية .
2 - صلاح النية فيما يتولاه من أمور السلطان والولاية .
مجانبة الريب والبعد عنها .
3 - لزوم العفاف .
4 - القدرة على معاشرة الملوك ووجهاء الدولة وتنفيذ ما يطلب منه .
5 - النظر في عواقب الأمور وحفظ النفس عن الأخطاء .
6 - الإخلاص في كل ما يوجه إليه من أعمال .
7 - تقديم النصيحة والمشورة للولاة والحكام .
8 - كتمان السر وعدم إفشائه .
__________
(1) انظر : صبح الأعشى 1/102 – 106 .(1/22)
9 - الشكر لأنه من فضائل الأخلاق .
-(1/23)