كاشفة السجا
في
شرح سفينة النجا
لمحمد نووي بن عمر الجاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لأداء أفضل الطاعات، واكتساب أكمل السعادات، وأشهد أن لا إله إلا الله المتصف بجميع الكمالات، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل المخلوقات صلى الله عليه وسلّم، وعلى آله وأصحاب الأنجم النيرات، صلاة وسلاماً دائمين ما دامت الأرض والسموات.
((1/1)
أما بعد) فيقول العبد الفقير المضطر لرحمة ربه العليم الخبير، لكثرة التقصير والمساوي، أبو عبدالمعطي محمد نووي بن عمر الجاوي، الشافعي مذهباً البنتني إقليماً التناري منشأ وداراً غفر الله ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه (هذه) تقييدات نافعة إن شاء الله تعالى على المختصر الملقب بسفينة النجا في أصول الدين والفقه للشيخ العالم الفاضل سالمبن سمير الحضرمي، إقليماً والبتاوي وفاة نور الله ضريحه تتمم مسائله وتفك مشكله وتفصل مجمله وضعتها لتكون تذكرة لنفسي، وللقاصرين مثلي من أبناء جنسي، وسميتها: (كاشفة السجا في شرح سفينة النجا) وأوضحته بالتراجم بالفصل وغيره اقتداء بكتاب الله تعالى في كونه مترجماً مفصلاً سوراً سوراً ولأنه أبعث على الدرس والتحصيل منه وأقحمت فيه فصل الصيام، إن شاء الله تعالى ليزيد النفع على العوام، بعون الملك العلام، وجعلته كهيئة المتن مع الشرح في المشابكة لتوافق صورة الفرع صورة الأصل فإن شرط المرافقة الموافقة نسأله سبحانه تبارك وتعالى أن يعيننا على إكمالها وييسر الأسباب في افتتاحها واختتامها، وما حملني على جمعها إلا رجاء دعوة رجل صالح ينتفع منها بمسألة فيعود نفعها علي في قبري لحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وأنا وإن كنت لست أهلاً لهذا الشأن والحال قصدت التشبه بالرجال لأفوز بصحبتي إياهم لما ورد في الخبر: من تشبه بقوم فهو منهم، وأردت الغوص في محبتهم لأحشر معهم لحديث البخاري: "يحشر المرء مع من أحب" وينبغي لمن وقف على هفوة أن يصلحها بعد التأمل نسأل الله تعالى أن يبدل حالنا إلى أحسن الأحوال وأن يجعلنا ممن تسعى إليه الناس لأخذ العلم لا لحظوظ الدنيا الفانية وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الباقية.(1/2)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) أي بكل اسم من أسماء الذات الأعلى الموصوف بكمال الأفعال أو بإرادة ذلك أؤلف متبركاً أو مستعيناً فسره بذلك شيخنا أحمد الدمياطي في حاشيته على أصول الفقه. ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز في إبدائه بها أي في اللوح المحفوظ أو بعد جمعه وترتيبه في المصحف، وأما ما روي أن أول ما كتبه القلم أنا التواب وأنا أتوب على من تاب فهو في ساق العرض. وامتثالاً وإطاعة لأمره صلى الله عليه وسلّم في قوله: "إن أول ما كتبه القلم بسم الله الرحمن الرحيم فإذا كتبتم كتاباً فاكتبوها أوله وهي مفتاح كل كتاب أنزل ولما نزل على جبريل بها أعادها ثلاثاً وقال: هي لك ولأمتك فمرهم لا يدعوها في شيء من أمورهم فإني لم أدعها طرفة عين مذ نزلت على أبيك آدم عليه السلام وكذا الملائكة". وفي رواية: "إذا كتبتم كتاباً فاكتبوا في أوله بسم الله الرحمن الرحيم وإذا كتبتموها فاقرؤوها". وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "تخلقوا بأخلاق الله" ولا شك أن عادته تعالى في ابتداء كل سورة الإتيان بالبسملة سوى براءة فنحن مأمورون به وعملاً بحديث أبي داود وغيره: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أو أقطع أو أجذم" والبال الشرف والعظمة أو الحال، والشأن الذي يهتم به شرعاً، ومعنى الاهتمام به طلبه أو إباحته بأن لا يكون محرماً لذاته ولا مكروهاً لذاته، لكن لا تطلب البسملة على محقرات الأمور ككنس زبل ولا تطلب للذكر المحض كالتهليل. وقال الشيخ عميرة: والبال أيضاً: القلب كأن الأمر لشرفه وعظمه ملك قلب صاحبه لاشتغاله به وفي قوله فيه للسببية على قياس قوله صلى الله عليه وسلّم: "دخلت امرأة النار في هرة" أي بسببها حبستها وهي امرأة من بني إسرائيل، والأبتر مقطوع الذنب، والأقطع من قطعت يداه أو إحداهما، والأجذم بالذال المعجمة المقطوع اليد وقيل الذاهب الأنامل.(1/3)
وقال البراوي: هو علة معروفة فهو من باب التشبيه البليغ، ومعنى الحديث: كل شيء له شرف وعظمة. أو كل شيء يطلب أو يباح أو كل شيء له قلب أي يملك قلباً لا يبدأ بسبب ذلك الشيء ببسم الله الرحمن الرحيم فهو كالحيوان المقطوع الذنب أو كمن قطعت يداه أو كمن ذهبت أنامله أو كمن به جذام في نقصه وعيبه شرعاً وإن تم حساً.(1/4)
واختلف في البسملة هل هي آية من الفاتحة ومن كل سورة؟ فعند مالك أنها ليست آية من الفاتحة ولا من كل سورة، وعند عبد اللهبن المبارك أنها آية من كل سورة، وعند الشافعي أنها آية من الفاتحة وتردد في غيرها ولم يختلفوا فيها في النمل في عدها من القرآن. ومن خواصها إذا تلاها شخص عند النوم إحدى وعشرين مرة أمن تلك الليلة من الشيطان وأمن بيته من السرقة وأمن من موت الفجأة وغير ذلك من البلايا أفاده أحمد الصاوي. (الحمد) أي الثناء بالكلام على الجميل الاختياري مع جهة التبجيل والتعظيم سواء كان في مقابلة نعمة أم لا مستحق (لله) وهذا هو الحمد اللغوي الذي طلبت البداءة به، وأما الحمد الاصطلاحي فلا يطلب البداءة به وهو فعل يدل على تعظيم المنعم من حيث كونه منعماً على الحامد أو غيره سواء كان ذلك قولاً باللسان أو اعتقاداً بالجنان أو عملاً بالأركان التي هي الأعضاء (رب) أي مصلح (العالمين) لما افتتح بالبسملة افتتاحاً حقيقياً افتتح بالحمدلة افتتاحاً إضافياً جمعاً بين حديثي البسملة والحمدلة واقتداء بالكتاب أيضاً. وعملاً بحديث ابن ماجه: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم" وفي رواية: "فهو أقطع". وفي رواية: "فهو أبتر" والمعنى على كل مقطوع البركة وناقصها وقليلها. قال النووي رحمه الله تعالى: يستحب الحمد في ابتداء الكتب المصنفة وكذا في ابتداء دروس المدرسين وقراءة الطالبين بين يدي المعلمين سواء قرأ حديثاً أو فقهاً أو غيرهما، وأحسن العبارات في ذلك الحمد لله رب العالمين. وقال بعض الشافعية: أفضل المحامد أن يقال: الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده. وقيل: أفضل المحامد أن يقال: الحمد لله بجميع محامده كلها ما علمت منها وما لم أعلم، زاد بعضهم؛ عدد خلقه. كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم.(1/5)
وفي خبر ابن ماجه عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال رب إني أعوذ بك من حال أهل النار (وبه) لا بغيره (نستعين) أي نطلب المعونة، فتقديم الجار والمجرور لإفادة الاختصاص (على أمور الدنيا والدين) يطلق الدين لغة على معان كثيرة منها الطاعة والعبادة والجزاء والحساب، وشرعاً على ما شرعه الله على لسان نبيه من الأحكام وسمي ديناً لأننا ندين له أن نعتقد وننقاد، ويسمى أيضاً ملة من حيث إن الملك يمليه أي يلقيه على الرسول وهو يمليه علينا، ويسمى أيضاً شرعاً وشريعة من حيث إن الله شرعه لنا أي بينه لنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلّم (وصلى الله) أي زاده الله عطفاً وتعظيماً (وسلم) أي زاده الله تحية عظمى بلغت الدرجة القصوى.
[(1/6)
مسألة] قال إسماعيل الحامدي: فإن قيل إن الرحمة للنبي حاصلة فطلبها تحصيل الحاصل. فالجواب: أن المقصود بصلاتنا عليه طلب رحمة لم تكن فإنه ما من وقت إلا وهناك رحمة لم تحصل له، فلا يزال يترقى في الكمالات إلى ما لا نهاية له فهو ينتفع بصلاتنا عليه على الصحيح، لكن لا ينبغي أن يقصد المصلي ذلك بل يقصد التوسل إلى ربه في نيل مقصوده، ولا يجوز الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلّم بغير الوارد كرحمه الله بل المناسب واللائق في حق الأنبياء الدعاء بالصلاة والسلام وفي حق الصحابة والتابعين والأولياء والمشايخ بالترضي وفي حق غيرهم يكفي أي دعاء كان انتهى. (على سيدنا محمد) هو أفضل أسمائه صلى الله عليه وسلّم والمسمي له بذلك جده عبدالمطلب في سابع ولادته لموت أبيه قبلها فقيل له: لم سميته محمداً وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ فقال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض وقد حقق الله رجاءه. وقيل: المسمي له بذلك أمه أتاها ملك فقال لها: حملت بسيد البشر فسميه محمداً، وإنما أتى بالصلاة في أول كتابه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عملاً بالحديث القدسي وهو قوله تعالى: عبدي لم تشكرني إذا لم تشكر من أجريت النعمة على يديه، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلّم الواسطة العظمى لنا في كل نعمة بل هو أصل الإيجاد لكل مخلوق آدم وغيره، وبقوله صلى الله عليه وسلّم: "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب" قال عبدالمعطي السملاوي في معنى هذا الحديث أي من كتب الصلاة وصلى أو قرأ الصلاة المرسومة في تأليف حافل أو رسالة لم تزل الملائكة تدعو بالبركة أو تستغفر له (خاتم النبيين) بفتح التاء وكسرها والكسر أشهر أي طابعهم كما في المصباح فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلّم فهو آخرهم في الوجود باعتبار جسمه في الخارج. ((1/7)
وآله) وهم جميع أمة الإجابة لخبر: "آل محمد كل تقي" أخرجه الطبراني وهو الأنسب بمقام الدعاء ولو عاصين لأنهم أحوج إلى الدعاء من غيرهم، وأما في مقام الزكاة فالمراد بالآل هم بنو هاشم وبنو المطلب.
[تنبيه] أصل آل أهل قلبت الهاء همزة توصلاً لقلبها ألفاً ثم قلبت الهمزة ألفاً لسكونها وانفتاح ما قبلها هذا مذهب سيبويه، وقال الكسائي: أصله أول على وزن جمل تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً. (وصحبه) وهو من اجتمع مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلّم بعد الرسالة ولو قبل الأمر بالدعوة في حال حياته اجتماعاً متعارفاً بأن يكون في الأرض ولو في ظلمة أو كان أعمى وإن لم يشعر به، أو كان غير مميز أو ماراً أحدهما على الآخر ولو نائماً أو لم يجتمع به، لكن رأى النبي أو رآه النبي ولو مع بعد المسافة ولو ساعة واحدة بخلاف التابعي مع الصحابي فلا تثبت التابعية إلا بطول الاجتماع معه عرفاً على الأصح عند أهل الأصول والفقهاء أيضاً، ولا يكفي مجرد اللقاء بخلاف لقاء الصحابي مع النبي لأن الاجتماع به يؤثر من النور القلبي أضعاف ما يؤثره الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره، لكن قال أحمد السحيمي التابعي هو من لقي الصحابي ولو قليلاً وإن لم يسمع منه. ثم اعلم أن الخلفاء الأربعة في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة عند أهل السنة فأفضلهم أبو بكر واسمه عبد الله ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ويدل لذلك حديث ابن عمر: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يسمع: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فلم ينهنا. ويليهم في الأفضلية الستة الباقون وهم: طلحة والزبير وعبدالرحمن وسعد وسعيد وعامر ولم يرد نص بتفاوت بعضهم على بعض في الأفضلية فلا نقول به، أما من اجتمع بالأنبياء قبله صلى الله عليه وسلّم فيقال لهم حواريون. (أجمعين) توكيد لآله وصحبه.
[(1/8)
تنبيه] قال محمد الأندلسي: أما أجمع وتوابعه فمعارف بالعلمية الجنسية، وأما النفس والعين وكل فمعارف بإضافتها لضمير المؤكد. (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) أي لا تحول عن معصية الله إلا بالله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله، هكذا ورد تفسيره عنه عليه السلام عن جبريل أفاده شيخنا يوسف السنبلاويني والمعلي المرتقع الرتبة المنزه عما سواه والعظيم ذو العظمة والكبرياء قاله الصاوي، وإنما أتى المصنف بالحوقلة لأجل التبري منهما، فهذه علامة الإخلاص منه رضي الله عنه كما قاله بعضهم: صحح عملك بالإخلاص وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة، وأيضاً هي غراس الجنة كما في حديث المعراج لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيدنا إبراهيم عليه السلام جالساً عند باب الجنة على كرسي من زبرجد أخضر قال لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة فإن أرضها طيبة واسعة فقال: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقال القليوبي في شرح المعراج، فائدة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من مشى إلى غريمه بحقه يؤديه إليه صلت عليه دواب الأرض ونون البحار أي حيتانها وغرس له بكل خطوة شجرة في الجنة وغفر له ذنب، وما مني غريم يلوي غريمه أي يماطله ويسوف به وهو قادر إلا كتب الله عليه في كل وقت إثماً". ومن خواصها ما في فوائد الشرجي قال ابن أبي الدنيا بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "من قال كل يوم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مائة مرة لم يصبه فقر أبداً". اهـ. وروي في الخبر أيضاً: "إذا نزل بالإنسان مهم وتلا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثلاثمائة مرة فرج الله عنه أي أقلها، ذلك ذكره شيخنا يوسف في حاشيته على المعراج".
[(1/9)
تنبيه] قال العلماء رضي الله عنهم: اعلم أنه لا يثاب ذاكر على ذكره إلا إذا عرف معناه ولو إجمالاً بخلاف القرآن فيثاب قارئه مطلقاً، نبه على ذلك القليوبي.
[فائدة] قال المقدسي رحمه الله تعالى: الألف واللام في أسمائه تعالى للكمال لا للعموم ولا للعهد، قال سيبويه: تكون لام التعريف للكمال تقول: زيد الرجل أي الكامل في الرجولية وكذلك هي من أسمائه تعالى، ذكر هذين القولين أحمد التونسي في نشر اللآلي. واعلم أن لفظ الجلالة أعرف المعارف باتفاق. ويحكى أن سيبويه رؤي في المنام وأخبر بأن الله تعالى أكرمه بكرامة عظيمة بقوله ان اسمه تعالى أعرف المعارف.
(فصل): في بيان دعائم الإسلام وأساسها وأجزائها (أركان الإسلام خمسة) فلا ينبنى بغيرها فإضافة الأركان من إضافة الأجزاء إلى الكل أي الدعائم والأساس والأجزاء التي يتركب الإسلام منها خمسة فلا يكون من غيرها، قال الباجوري: الإسلام لغة مطلق الانقياد أي سواء كان للأحكام الشرعية أو لغيرها، وشرعاً: الانقياد للأحكام الشرعية، وقيل الإسلام هو العمل انتهى.(1/10)
أولها (شهادة) أي تيقن (أن لا إله) أي لا معبود بحق موجود (إلا الله) وهو متصف بكل كمال لا نهاية له ولا يعلمه إلا هو ومنزه عن كل نقص ومنفرد بالملك والتدبير، واحد في ذاته وصفاته وأفعاله. (وأن محمداً)بن عبد اللهبن عبدالمطلببن هاشمبن عبدمناف (رسول الله) واختلف العلماء في بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الملائكة على قولين، وجزم الحليمي والبيهقي أنه لم يكن مبعوثاً إليهم، ورجح السيوطي والشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مبعوثاً إليهم، وزاد السبكي أنه صلى الله عليه وسلّم مرسل إلى جميع الأنبياء والأمم السابقة وأن قوله صلى الله عليه وسلّم: بعثت إلى الناس كافة شامل لهم من لدن آدم إلى قيام الساعة ورجحه البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات من رمل وحجر ومدر، وزيد على ذلك أنه مرسل إلى نفسه، ذكر ذلك في تزيين الأرائك، قال صلى الله عليه وسلّم: وأرسلت إلى الخلق كافة.
[فائدة] قال الباجوري: وقد ذكر بعضهم أن من تمام الإيمان أن يعتقد الإنسان أنه لم يجتمع في أحد من المحاسن الظاهرة والباطنة مثل ما اجتمع فيه صلى الله عليه وسلّم.
(و) ثانيها (إقام الصلاة) وهي أفضل العبادات البدنية الظاهرة وبعدها الصوم ثم الحج ثم الزكاة ففرضها أفضل الفرائض ونفلها أفضل النوافل ولا يعذر أحد في تركها ما دام عاقلاً. وأما العبادات البدنية التقلبية كالإيمان والمعرفة والتفكر والتوكل والصبر والرجاء والرضا بالقضاء والقدر ومحبة الله تعالى والتوبة والتطهر من الرذائل كالطمع ونحوه فهي أفضل من العبادات البدنية الظاهرة حتى من الصلاة فقد ورد: تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة وأفضل الجميع الإيمان.
[(1/11)
فائدة] قال جمهور العلماء: إن التفكر على خمسة أوجه: إما في آيات الله ويلزمه التوجه إليه واليقين به، أو في نعمة الله ويتولد عنه المحبة، أو في وعد الله ويتولد عنه الرغبة، أو في وعيد الله ويتولد عنه الرهبة، أو في تقصير النفس عن الطاعة ويتولد عنه الحياء بالفتح والمد وهو الانقباض والانزواء. قال أحمدبن عطاء الله: من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فعلته من وجود الزلات. وقال أيضاً: الحزن على فقدان الطاعات في الحال مع عدم النهوض أي الارتفاع إليها في المستقبل من علامات الاغترار.
[فائدة] قال بعضهم: محبة الله على عشرة معان من جهة العبد. أحدها: أن يعتقد أن الله تعالى محمود من كل وجه وبكل صفة من صفاته. ثانيها: أن يعتقد أنه محسن إلى عباده منعم متفضل عليهم. ثالثها: أن يعتقد أن الإحسان منه إلى العبد أكبر وأجل من أن يقابل بقول أو عمل منه وإن حسن وكثر. رابعها: أن يعتقد قلة قضاياه عليه وقلة تكاليفه. خامسها: أن يكون في عامة أوقاته خائفاً وجلاً من إعراضه تعالى عنه وسلب ما أكرمه به من معرفة وتوحيد وغيرهما. سادسها: أن يرى أنه في جميع أحواله وآماله مفتقراً إليه لا غنى له عنه. سابعها: أن يديم ذكره بأحسن ما يقدر عليه منه. ثامنها: أن يحرص على إقامة فرائضه وأن يتقرب إليه بنوافله بقدر طاقته. تاسعها: أن يسر أي يفرح بما سمع من غيره من ثناء عليه أو تقرب إليه وجهاد في سبيله سراً وعلانية نفساً ومالاً وولداً. عاشرها: إن سمع من أحد ذكر الله أعانه.
[(1/12)
تنبيه] الصلاة والزكاة والحياة إذا لم تضف تكتب بالواو على الأشهر اتباعاً للمصحف ومن العلماء من يكتبها بالألف، أما إذا أضيفت فلا يجوز كتابتها إلا بالألف سواء أضيفت إلى ظاهر أو مضمر كما قاله ابن الملقن. (و) ثالثها (إيتاء الزكاة) أي إعطاؤها لمن وجد من المستحقين فوراً إذا تمكن من الأداء مع وجوب التعميم وهم ثمانية أنواع. الأول: فقير وحده: هو الذي لا مال له أصلاً ولا كسب كذلك حلالين والمراد بالكسب هنا هو طلب المعيشة أوله مال فقط حلال لا يسد من جوعته مسداً من كفاية العمر الغالب على المعتمد عند توزيعه عليه إن لم يتجر فيه بحيث لا يبلغ النصف كأن يحتاج إلى عشرة دراهم، ولو وزع المال الذي عنده على العمر الغالب لخص كل يوم أربعة أو أقل بخلاف من قدر على نصف كافيه فإنه مسكين، وأما إن اتجر فالعبرة بكل يوم أوله كسب فقط حلال لائق به لا يسد مسداً من كفايته كل يوم كمن يحتاج إلى عشرة ويكتسب كل يوم أربعة فأقل أوله كل منهما ولا يسد مجموعهما مسداً من كفايته. والثاني: مسكين وهو من قدر على مال أو كسب أو عليهما معاً يسد كل منهما أو مجموعهما من جوعته مسداً من حيث يبلغ النصف فأكثر ولا يكفيه كمن يحتاج إلى عشرة ولا يملك أو لا يكتسب إلا خمسة أو تسعة ولا يكفيه إلا عشرة، ويمنع فقر الشخص ومسكنته كفايته بنفقة الزوج أو القريب الذي يجب الإنفاق عليه كأب وجد لا نحو عم وكذا اشتغاله بنوافل والكسب يمنعه منها فإنه يكون غنياً ولا يمنع ذلك اشتغاله بعلم شرعي أو علم آلات، والكسب يمنعه لأنه فرض كفاية إذا كان زائداً عن علم الآلات وإلا فهو فرض عين كما بين ذلك شيخنا أحمد النحراوي، ولا يمنع ذلك أيضاً مسكنه وخادمه وثياب وكتب له يحتاجها مال له غائب بمرحلتين أو مؤجل فيعطى ما يكفيه إلى أن يصل ماله أو يحل الأجل لأنه الآن فقير أو مسكين.(1/13)
والثالث: عامل كساع يعمل في أخذها من أرباب الأموال وكاتب يكتب ما أعطاه أربابها وقاسم يقسمها على المستحقين وحاشر يجمع الملاك أو ذوي السهمان لا قاضٍ ووالٍ. والرابع: المؤلفة أن قسم الإمام وهم أربعة: من أسلم ولكن ضعيف يقين وهو الإيمان أو قويه ولكن له شرف في قومه يتوقع بإعطائه إسلام غيره من الكفار أو من يكفينا شر من يليه من الكفار ومن يكفينا شر مانعي الزكاة فهذان القسمان الأخيران إنما يعطيان إذا كان إعطاؤهما أهون علينا من تجهيز جيش نبعثه لكفار أو مانعي الزكاة أما القسمان الأولان فلا يشترط في إعطائهما ذلك. والخامس: الرقاب وهم المكاتبون لأن غيرهم من الأرقاء لا يملكون ذلك إذا كانوا لغير المزكي ولو لنحو كافر وهاشمي ومطلبي فيعطون ما يعينهم على العتق إن لم يكن معهم ما يفي بنجومهم ولو بغير إذن سيدهم، ويشترط كون الكتابة صحيحة بأن تستوفي شروطها وأركانها، فأركانها أربعة: أحدها رقيق وشرط فيه اختيار وعدم صبا وجنون وأن لا يتعلق به حق لازم كالمرهون. وثانيها: صيغة وشرط فيها لفظ يشعر بالكتابة إيجاباً ككاتبتك أو أنت مكاتب على دينارين تأتي بهما في شهرين فإن أديتهما إلي فأنت حر وقبولاً كقبلت ذلك. وثالثها: عوض وشرط فيه كونه ديناً أو منفعة مؤجلاً بنجمين فأكثر ولا يجوز أقل من نجمين ولا بد من بيان قدر العوض وصفته وعدد النجوم وقسط كل نجم ورابعها: سيد وشرط فيه كونه مختاراً أهل تبرع وولاء فلا تصح من مكره ومكاتب وإن أذن له سيده، ولا من صبي ومجنون ومحجور سفه وأوليائهم لا من محجور فلس ولا من مرتد لأن ملكه موقوف، ويجوز صرف الزكاة إليهم قبل حلول النجوم على الأصح، ولا يجوز صرف ذلك إلى سيدهم إلا بإذن المكاتبين، لكن إن دفع إلى السيد سقط عن المكاتب بقدر المصروف إلى السيد لأن من أدى دين غيره بغير إذنه برئت ذمته، أما المكاتب كتابة فاسدة وهو من لم يستوفٍ تلك الأركان والشروط فلا يعطي شيئاً من الزكاة.(1/14)
والسادس: الغارم وهو ثلاثة من تداين لنفسه في أمر مباح طاعة كان أو لا وإن صرف في معصية أو في غير مباح كخمر وتاب وظن صدقه في توبته، أو صرفه في مباح فيعطى مع الحاجة بأن يحل الدين ولا يقدر على وفائه أو تداين لإصلاح ذات الحال بين القوم كأن خاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا بسبب قتيل ولو غير آدمي بل ولو كلباً فتحمل ديناً تسكيناً للفتنة فيعطى ولو غنياً، أو تداين لضمان فيعطى إن أعسر مع الأصيل وإن لم يكن متبرعاً بالضمان أو أعسره وحده وكان متبرعاً بالضمان بخلاف ما إذا ضمن بالإذن. والسابع: سبيل الله وهم الغزاة المتطوعون بالجهاد أي الذين لا رزق لهم في الفيء فيعطون ولو أغيناء إعانة لهم على الغزو. والثامن: ابن السبيل وهو على قسمين: مجازي وهو منشىء سفر من بلد مال الزكاة وحقيقي وهو مار ببلد الزكاة في سفره وذلك إن احتاج بأن لم يكن معه ما يوصله مقصده أو ماله فيعطى من لا مال له أصلاً، وكذا من له مال في غير البلد المنتقل إليه بشرط أن لا يكون سفره معصية، قال في المصباح: وقيل للمسافر ابن السبيل لتلبسه به أي بالسبيل والطريق، قالوا: والمراد بابن السبيل في الآية من انقطع عن ماله انتهى.
[(1/15)
خاتمة] وشرط آخذ الزكاة من هذه الثمانية حرية وإسلام وأن لا يكون هاشمياً ولا مطلبياً لقوله صلى الله عليه وسلّم: "إن هذه الصدقة أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" ووضع الحسن في فيه تمرة أي من تمر الصدقة فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلعابه وقال: كخ كخ إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقات. ومعنى أوساخ الناس أن بقاءها في الأموال يدنسها كما يدنس الثوب الوسخ. وقوله: كخ كخ كما قال الصبان نقلاً عن ابن قاسم هو بكسر الكاف وتشديد الخاء ساكنة ومكسورة. وعن القاموس جواز تخفيف الخاء وجواز تنوينها وجواز فتح الكاف وهي اسم صوت وضع لزجر الطفل عن تناول شيء، ونقل عن الاصطخري القول بجواز صرف الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب عند منعهم من خمس الخمس. قال البيجوري: ولا بأس بتقليد الاصطخري في قوله الآن لاحتياجهم، وكان الشيخ محمد الفضالي رحمه الله يميل إلى ذلك محبة فيهم نفعنا الله بهم. (و) رابعها (صوم رمضان) وفرض في شعبان من السنة الثانية من الهجرة فصام صلى الله عليه وسلّم تسع رمضانات واحداً كاملاً وثمانية نواقص.
[تنبيه] اعلم أن رمضان غير منصرف للعلمية إلا إن كان المراد به كل رمضان من غير تعيين وإذا أريد به ذلك صرف لأنه نكرة، وبقاء الألف والنون الزائدتين لا يقتضي منعه من الصرف كما قال الشرقاوي، وقال أبو القاسم الحريري في كتابه بنت الليلة من بحر الرجز:
ومنه ما جاء على فعلانا >< على اختلاف فائه أحيانا
تقول مروان أتى كرمانا >< ورحمة الله على عثمانا
فهذه إن عرِّفت لم تنصرف >< وما أتى منكَّراً منها صرف(1/16)
قال عبد الله الفاكهي: أي ومن غير المنصرف العلَم المزيد في آخره ألف ونون الجائي على وزن فعلان مثلث الفاء كمروان وكرمان وعثمان فهذه إن قصد بها التعريف بالعلمية لم تنصرف لوجود العلتين كمررت بمروان، وإن قصد بها التنكير صرفت لزوال العلمية تقول: رب مروان لقيته بالجر والتنوين، قال عثمان في تحفة الحبيب: وإنما سمي هذا الشهر بهذا الاسم لأنه مأخوذ من الرمض وهو الإحراق لرمض الذنوب فيه أي إحراقها. قال أحمد المقري في المصباح: ورمضان اسم الشهر قيل سمي بذلك لأن وضعه وافق الرمض وهو شدة الحر وجمعه رمضانات وأرمضاء. (تبصرة) قال أحمد الفشني: وقد قيل الصوم عموم وخصوص الخصوص؛ فالعموم كف البطن والفرج عن قصد الشهوة والخصوص هو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام وخصوص الخصوص صرف القلب عن الهمم الدنية وكفه عما سوى الله بالكلية. (و) خامسها (حج البيت) أي قصده للحج أو العمرة (من استطاع إليه سبيلا) وهو من الشرائع القديمة بل ما من نبي إلا وحج خلافاً لمن استثنى هوداً وصالحاً. وروي أن آدم حج أربعين سنة من الهند ماشياً، وعيسى يحتمل أنه حج قبل رفعه إلى السماء أو أنه يحج حين ينزل الأرض، وفي الخبر: من قضى نسكه وسلم الناس من يده ولسانه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وإنفاق الدرهم الواحد في ذلك يعدل ألف ألف فيما سواه، رواه الترمذي. وورد في الخبر: أن البيت الحرام يحجه كل عام سبعون ألفاً من البشر فإذا نقصوا عن ذلك أتمهم الله عز وجل من الملائكة، وإذا زادوا على ذلك يفعل الله ما يريد، وأن البيت المعمور في السماء الرابعة تحج إليه الملائكة كما تحج البشر إلى البيت الحرام.
[(1/17)
نكتة] حكي عن محمدبن المنكدر أنه حج ثلاثاً وثلاثين حجة فلما كان آخر حجة حجها قال وهو بعرفات: اللهم إنك تعلم أني وقفت في موقفي هذا ثلاثاً وثلاثين وقفة فواحدة عن فرضي والثانية عن أبي والثالثة عن أمي وأشهدك يا رب أني قد وهبت الثلاثين لمن وقف موقفي هذا ولم تتقبل منه فلما دفع أي رحل من عرفات نودي يا ابن المنكدر أتتكرم على من خلق الكرم والجود وعزتي وجلالي قد غفرت لمن يقف في عرفات قبل أن أخلق عرفات بألف عام (توضيح) قوله حج بفتح الحاء وكسرها وهو مصدر مضاف لمفعوله ومن فاعله وهو اسم موصول مبني على السكون في محل رفع والتقدير وأن يحج البيت المستطيع ومثل ذلك ما في الحديث الذي رواه الشيخان وهو قوله صلى الله عليه وسلّم، بني الإسلام على خمس إلى أن قال: وحج البيت كما قاله علي الأشموني في كتابه الملقب بمنهج السالك. وأما حج البيت في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ((3) آل عمران:97) فلا يتعين من للفاعلية بل يحتمل كونه بدلاً من الناس بدل بعض من كل حذف رابطه لفهمه أي من استطاع منهم، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يحج، أو شرطية جوابها محذوف أي فليحج كما قاله محمد الصبان في حاشيته. وقوله إليه عائد إلى البيت متعلق باستطاع وسبيلاً إما مفعول به لاستطاع أو تمييز على ما استحسنه شيخنا عمر البقاعي وعمر الجبرتي أي من جهة السبيل.
((1/18)
فصل): في بيان جميع ما وجب به الإيمان والبراهين الدالة على حقيقة الإيمان (أركان الإيمان ستة) فإضافة الأركان من إضافة المتعلق بفتح اللام إلى المتعلق بكسرها أي جميع ما وجب الإيمان به، والبراهين الدالة على حقيقة الإيمان ستة لأن الإيمان الذي هو التصديق القلبي يتعلق بمعنى يتمسك بذلك، فالإيمان لغة مطلق التصديق سواء كان بما جاء به النبي أو بغيره، وشرعاً التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم مما علم من الدين بالضرورة لا مطلقاً، ومعنى التصديق هو حديث النفس التابع للجزم سواء كان الجزم عن دليل ويسمى معرفة أو عن تقليد، ومعنى حديث النفس أن تقول تلك النفس أي القلب: رضيت بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم.
[(1/19)
غرة] مراتب الإيمان خمسة. أولها: إيمان تقليد وهو الجزم بقول الغير من غير أن يعرف دليلاً وهو يصح إيمانه مع العصيان بتركه النظر أي الاستدلال إن كان قادراً على الدليل. ثانيها: إيمان علم وهو معرفة العقائد بأدلتها وهذا من علم اليقين وكلا القسمين صاحبهما محجوب عن ذات الله تعالى. ثالثها: إيمان عيان وهو معرفة الله بمراقبة القلب فلا يغيب ربه عن خاطره طرفة عين بل هيبته دائماً في قلبه كأنه يراه وهو مقام المراقبة ويسمى عين اليقين. رابعها: إيمان حق وهو رؤية الله تعالى بقلبه وهو معنى قولهم العارف يرى ربه في كل شيء وهو مقام المشاهدة ويسمى حق اليقين وصاحبه محجوب عن الحوادث. وخامسها: إيمان حقيقة وهو الفناء بالله والسكر بحبه فلا يشهد إلا إياه كمن غرق في بحر ولم ير له ساحلاً، والواجب على الشخص أحد القسمين الأولين، وأما الثلاثة الأخر فعلوم ربانية يخص بها من يشاء من عباده. أحدها: (أن تؤمن بالله) بأن تعتقد على التفصيل أن الله تعالى موجود قديم باق مخالف للحوادث مستغن عن كل شيء واحد قادر مريد عالم سميع بصير متكلم وعلى الإجمال أن لله كمالات لا تتناهى، واعلم أن الموجودات بالنسبة للاستغناء عن المحل والمخصص وعدمه أربعة: الأول ما لا يفتقر لهما معاً وهو ذات الله. الثاني: عكسه وهو صفات الحوادث. الثالث: ما يقوم بمحل دون المخصص وهو صفة الباري أي الذي يخلق الخلق ويظهرهم من العدم. الرابع: عكسه وهو ذات المخلوقين.
[(1/20)
فائدة] من ترك أربع كلمات كمل إيمانه أين وكيف ومتى وكم فإن قال لك قائل: أين الله؟ فجوابه ليس في مكان ولا يمر عليه زمان. وإن قال لك: كيف الله؟ فقل: ليس كمثله شيء. وإن قال لك: متى الله؟ فقل له: أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء. وإن قال لك قائل: كم الله؟ فقل له: واحد لا من قلة قل هو الله أحد. (و) ثانيها: أن تؤمن (بملائكته) بأن تعتقد أنهم أجسام نورانية لطيفة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً ولا خناثى لا أب لهم ولا أم لهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتوالدون ولا ينامون ولا تكتب أعمالهم لأنهم الكتاب، ولا يحاسبون لأنهم الحساب، ولا توزن أعمالهم لأنهم لا سيئات لهم ويحشرون مع الجن والإنس يشفعون في عصاة بني آدم ويراهم المؤمنون في الجنة ويدخلون الجنة ويتناولون النعمة فيها بما شاء الله، لكن قال أحمد السحيمي: وجاء عن مجاهد ما يقتضي أنهم لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون وأنهم يكونون كما كانوا في الدنيا وهذا يقتضي أن الحور والولدان كذلك اهـ. ويموتون بالنفخة الأولى إلا حملة العرش والرؤساء الأربعة فإنهم يموتون بعدها أما قبلها فلا يموت أحد منهم، فيجب الإيمان بأنهم بالغون في الكثرة إلى حد لا يعلمه إلا الله تعالى على الإجمال إلا من ورد تعيينه باسمه المخصوص أو نوعه فيجب الإيمان بهم تفصيلاً. فالأول: كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ومنكر ونكير ورضوان ومالك ورقيب وعتيد ورومان. والثاني: كحملة العرش والحفظة والكتبة، قال أحمد القليوبي: واعلم أن جبريل أفضل الملائكة مطلقاً حتى من إسرافيل على الأصح، قال الجلال السيوطي: وإنه يحضر موت من يموت على وضوء.(1/21)
قال بعضهم: وأفضل الملائكة جبريل ثم إسرافيل وقيل عكسه ثم مكيائيل ثم ملك الموت وقال الفخر الرازي: أفضل الملائكة مطلقاً حملة العرش والحافظون به ثم جبريل ثم إسرافيل ثم ميكائيل ثم ملك الموت ثم ملائكة الجنة فملائكة النار ثم الموكلون بأولاد آدم ثم الموكلون بأطراف العالم وقال الغزالي: أقرب العباد إلى الله تعالى وأعلاهم درجة إسرافيل ثم بقية الملائكة ثم الأنبياء ثم العلماء العاملون ثم السلاطين العادلون ثم الصالحون انتهى. وأنت خبير بأنه لا يلزم من القرب التفضيل فالوجه تقديم جبريل على إسرافيل انتهى قول القليوبي. (و) ثالثها: أن تؤمن ب (كتبه) معنى الإيمان بالكتب التصديق بأنها كلام الله المنزل على رسله عليهم الصلاة والسلام وكل ما تضمنته حق ونزولها بأن كانت مكتوبة على الألواح كالتوراة أو مسموعة من السمع بالمشاهدة كما في ليلة المعراج أو من وراء حجاب كما وقع لموسى في الطور، أو من ملك مشاهد كما روي أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى، ونظر إليه فقال: لم ينظر موسى إلى الله فنزل: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} ((42) الشورى:51) قال السحيمي في تفسير ذلك: أي ما صح لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه وحياً أي كلاماً خفيّاً يدرك بسرعة كما سمع إبراهيم في المنام أن الله يأمرك بذبح ولدك، وكما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر أو من وراء حجاب أو أن يرسل رسولاً أي ملكاً جبريل فيكلم الرسول أي المرسل إليه بأمر ربه ما يشاء.
[(1/22)
فرع] قال سليمان الجمل وعن الحرثبن هشام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. والجرس بفتح الجيم والراء وهو ما يعلق على عنق الحمار. وقوله: فيفصم عني أي ينفصل عني ويفارقني. وقوله: وعيت من باب وعى أي حفظت ما قال، والمراد بالكتب ما يشمل الصحف وقد اشتهر أنها مائة وأربعة وقيل إنها مائة وأربعة عشر. وقال السحيمي: والحق عدم حصر الكتب في عدد معين فلا يقال إنها مائة وأربعة فقط لأنك إذا تتبعت أي فتشت الروايات تجدها تبلغ أربعة وثمانين ومائة فيجب اعتقاد أن الله أنزل كتباً من السماء على الإجمال، لكن يجب معرفة الكتب الأربعة تفصيلاً وهي التوراة لسيدنا موسى والزبور لسيدنا داود والإنجيل لسيدنا عيسى والفرقان لخير الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين.
[(1/23)
تتميم] روي من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت كلها أمثالاً منها: أيها الملك المسلط المبتلي المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر. ومنها: وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه عز وجل وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها صنْع الله تعالى وساعة يخلو أي يتجرد فيها لحاجته من المطعم والمشرب. ومنها: وعلى العاقل أن لا يكون طامعاً أي مؤملاً إلا في ثلاث تزود لمعاد ومرمة لمعاشٍ ولذة في غير محرم. قوله مرمة بفتحات وتشديد الميم أي إصلاح. ومنها: وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شانه حافظاً للسانه ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه بفتح أوله من باب رمى أي ما تتعلق عنايته به كما قال ابن حجر في فتح المبين. قال أبو ذر أيضاً: قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت كلها عبراً بكسر العين وفتح الباء جمع عبرة بسكونها مثل سدر، وسدرة أي مواعظ. ومنها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يتعب وفي نسخة: كيف يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل. وفي التوراة: يا ابن آدم لا تخف من سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني باق لا ينفد أبداً بفتح الفاء وبالدال المهملة أي لا يفنى ولا ينقطع: يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب؛ يا ابن آدم لا تخافن فوات الرزق ما دامت خزائني مملوءة وخزائني لا تنفد أبداً. يا ابن آدم خلقت السموات والأرض ولم أعي بخلقهن أيعييني رغيف واحد أسوقه إليك في كل حين. وقوله أعي مضارع عي بكسر عين الفعل من باب تعب أي ولم أعجز ويعيى بضم حرف المضارعة من أعيا الرباعي: يا ابن آدم كما لا أطالبك بعمل غد فلا تطالبني برزق غد.(1/24)
يا ابن آدم لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإن خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك على ما كان منك يا ابن آدم إن رضيت بما قسمته لك أرحت بدنك وقلبك وإن لم ترض بما قسمته لك سلطت عليك الدنيا حتى تركض فيها كركض الوحش في البرية أي الصحراء، وعزتي وجلالي لا ينالك منها إلا ما قسمته لك وأنت عندي مذموم. (و) رابعها أن تؤمن ب (رسله) وهم أفضل عباد الله قال تعالى: وكلاًّ فضلنا على العالمين} ((6) الأنعام:86) بأن تعتقد ان الله تعالى أرسل للخلق رسلاً رجالاً لا يعلم عددهم إلا الله أولهم آدم وخاتمهم وأفضلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم وكلهم من نسل آدم عليه السلام، وأنهم صادقون في جميع أقوالهم في دعوى الرسالة وفيما بلغوه عن الله تعالى، وفي الكلام العرفي نحو: أكلت شربت، وأنهم معصومون من الوقوع في محرم أو مكروه، وأنهم مبلغون ما أمروا بتبليغه للخلق وإن لم يكن أحكاماً، وأنهم حاذقون بحيث يكون فيهم قدرة على إلزام الخصوم ومحاججتهم وإبطال دعاويهم، فهذه الصفات الأربعة تجب للمرسلين. وأما الأنبياء غير المرسلين فلا يكونون مبلغين وإنما يجب عليهم أن يبلغوا الناس أنهم أنبياء ليحترموا والصحيح فيهم الإمساك عن حصرهم في عدد لأنه ربما أدى إلى إثبات النبوة والرسالة لمن ليس كذلك في الواقع، أو إلى نفي ذلك عمن هو كذلك في الواقع، فيجب التصديق بأن لله رسلاً وأنبياء على الإجمال. قال السحيمي: نعم يجب على المؤمن أن يعلم ويعلم صبيانه ونساءه وخدمه أسماء الرسل المذكورين في القرآن حق يؤمنوا به ويصدقوا بجميعهم تفصيلاً، وإن لا يظنوا أن الواجب عليهم الإيمان بمحمد فقط فإن الإيمان بجميع الأنبياء سواء ذكر اسمهم في القرآن أو لم يذكر واجب على كل مكلف وهم أي المذكورون في القرآن ستة وعشرون أو خمسة وعشرون ونظمتها فقلت:
أسماء رسل بقرآن عليك تجب >< كآدم زكريا بعد يونسهم
نوح وإدريس إبراهيم واليسع >< إسحاق يعقوب إسماعيل صالحهم(1/25)
أيوب هارون موسى مع شعيبهم >< داود هود عزير ثم يوسفهم
لوط والياس ذي الكفل أو اتحدا >< يحيى سليمان عيسى مع محمدهم
هذا من بحر البسيط، ومعنى اتحدا أن ذا الكفل قيل هو الياس وقيل يوشع وقيل زكريا وقيل حزقيل ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد بعد كبرها فوهب لها حزقيل اهـ. قول السحيمي: وقال صاحب بدء الخلق قال وهب: بشربن أيوب يسمى ذا الكفل كان مقيماً بالشام مدة عمره حتى مات وكان عمره خمساً وسبعين سنة وكان قبل شعيب انتهى. وأولو العزم منهم خمسة فيجب أن يعلم ترتيبهم في الأفضلية لأنهم ليسوا في مرتبة واحدة، والمراد من العزم هنا الصبر وتحمل المشاق أو الجزم كما فسره به ابن عباس في الآية، فأفضلهم سيدنا محمد فسيدنا إبراهيم فسيدنا موسى فسيدنا عيسى فسيدنا نوح صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن، ويليهم في الأفضلية بقية الرسل ثم بقية الأنبياء وهم متفاوتون فيما بينهم عند الله لكن يمتنع التعيين علينا على تفاوتهم لأن لم يرد فيه تعليم ثم رؤساء الملائكة كجبريل ونحوه ثم الأولياء خصوصاً سيدنا أبا بكر وبقية الصحابة لحديث: "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين ثم عوام الملائكة ثم عوام البشر"
[(1/26)
إيضاح] قال الفشني: وقدمت الملائكة على الرسل في الذكر اتباعاً للترتيب الوجودي فإن الملائكة مقدمة في الخلق أو للترتيب الواقع في تحقيق معنى الرسالة فإن الله تعالى أرسل الملائكة إلى الرسل. (و) خامسها أن تؤمن (باليوم الآخر) بأن تصدق بوجوده وبجميع ما اشتمل عليه كالحشر والحساب، والجزاء والجنة والنار، سمي بذلك لأنه لا ليل بعده ولا نهار، ولا يقال يوم بلا تقييد إلا لما يعقبه ليل أو لأنه آخر الأوقات المحدودة أي آخر أيام الدنيا فليس بعده يوم آخر، أو لتأخره عن الأيام المنقضية من أيام الدنيا وأوله من النفخة الثانية إلى ما لا يتناهى وهو الحق، وقيل إلى استقرار الخلق في الدارين الجنة والنار، فصدره من الدنيا وآخره من الآخرة وهو يوم القيامة، وسمي بذلك لقيام الموتى فيه من قبورهم والقبر من الدنيا وقيل: فاصل بين الدنيا والآخرة، وقيل: أوله من موت الميت فالقبر من الآخرة ولذا يقولون: من مات قامت قيامته أي الصغرى، وسمي قيامه على هذا القيام الميت فيه من الاضطجاع إلى القعود لسؤال الملكين ثم ضم القبر عليه فأشبه يوم القيامة الكبرى. وقال الزمخشري: أوله من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ومقداره بالنسبة إلى الكفار خمسون ألف سنة لشدة أهواله وهو أخف من صلاة مكتوبة في الدنيا بالنسبة إلى المؤمن الصالح ويتوسط على عصاة المؤمنين، وقيل يوم القيامة فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة نسأل الله تعالى أن يخففه علينا بمنه وفضله حكاه السحيمي والفشني. ((1/27)
و) سادسها: أن تؤمن (بالقدر خيره وشره من الله تعالى) قال الفشني: ومعنى الإيمان به أن تعتقد أن الله تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وأن جميع الكائنات بقضاء الله وقدره وهو مريد لها، ويكفي اعتقاد جازم بذلك من غير نصب برهان، وقال السيد عبد الله المرغني: والإيمان بالقدر هو التصديق بأن ما كان وما يكون بتقدير من يقول للشيء كن فيكون خيراً أو شراً نفعاً أو ضراً حلواً أو مراً. وقال صلى الله عليه وسلّم: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس" وقال صلى الله عليه وسلّم: "لا يؤمن عبد بالله حتى يؤمن بالقدر خيره وشره" رواه الترمذي. وأما حديث مسلم في دعاء الافتتاح والشر ليس إليك فمعناه ولا شر يتقرب به إليك أو لا يضاف إلى الله تأدباً لأن اللائق نسبة الخير لله والشر للنفس تأدباً، قال الله تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله - أي إيجاداً وخلقاً - وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ((4) النساء:79) أي كسباً لا خلقاً كما يفسره قوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} ((42) الشورى:30) لأن القرآن يفسر بعضه من بعض. وأما قوله تعالى: قل كل من عند الله} ((4) النساء:78) فرجوع للحقيقة وانظر إلى أدب الخضر عليه السلام حيث قال: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} ((18) الكهف:82) وقال: فأردت أن أعيبها} ((18) الكهف:79) وتأمل قول إبراهيم الخليل عليه السلام: الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين} ((26) الشعراء:62) حيث نسب الهداية والإطعام والشفاء لله والمرض لنفسه، فلم يقل أمرضني تأدباً منه عليه السلام وإلا فالكل من أفعال الله تعالى. قال الله تعالى: والله خلقكم وما تعملون} ((37) الصافات:96) أي من خير وشر اختياري واضطراري، وليس للعبد إلا مجرد الميل حالة الاختيار ولذلك طولب بالتوبة والإقلاع والندم واستحق التعزير والحدود والثواب والعقاب وهذا هو الكسب وهو تعلق القدرة الحادثة وقيل هو الإرادة الحادثة.
[(1/28)
فرع] اختلفوا في معنى القضاء والقدر، فالقضاء عند الأشاعرة إرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه في غير الأزل، والقدر عندهم إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص على وفق الإرادة فإرادة الله المتعلقة أزلاً بأنك تصير عالماً قضاء وإيجاد العلم فيك بعد وجودك على وفق الإرادة قدر، وأما عند الماتريدية فالقضاء إيجاد الله الأشياء مع زيادة الإتقان على وفق علمه تعالى أي تحديد الله أزلاً كل مخلوق بحده الذي يوجد عليه من حسن وقبح ونفع وضر إلى غير ذلك أي علمه تعالى أزلاً صفات المخلوقات وقيل: القضاء علم الله الأزلي مع تعلقه بالمعلوم، والقدر إيجاد الله الأشياء على وفق العلم، فعلم الله المتعلق أزلاً بأن الشخص يصير عالماً. بعد وجوده قضاء، وإيجاد العلم فيه، بعد وجوده قدر، هذا وقول الأشاعرة هو المشهور، وعلى كل فالقضاء قديم والقدر حادث، بخلاف قول الماتريدية وقيل كل منهما بمعنى إرادته تعالى.
[تفصيل] قال سليمان الجمل كما قاله الفيومي في المصباح: والقدر بالفتح لا غير ما يقدره الله تعالى من القضاء والقدر بسكون الدال وفتحها هو المقدار والمثل يقال هذا قدر هذا أي يماثله، وأما القدر في قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر} ((97) القدر:1) فالمعنى ليلة التقدير سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغير ذلك ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبريل عليهم السلام. وقال مجاهد ليلة الحكم وقيل ليلة الشرف والعظم، وقيل ليلة الضيق لضيق القضاء بازدحام الملائكة فيها. وعن ابن عباس أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر، هذا وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا في تلك الليلة لأنه تعالى قدر المقادير في الأزل قبل خلق السموات والأرض بل المراد إظهار تلك المقادير للملائكة.
[(1/29)
تنبيه] إنما أتى المصنف أولاً بذكر أركان الإسلام والإيمان لأنه عظيم الموقع وقد اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة، والباطنة، قال الجفري: ويقبح بالعاقل أن يسأل عن أركان الإسلام والإيمان فلا يرد جواباً وهو يزعم أنه مسلم ومؤمن انتهى، وهو مأخوذ من حديث سيدنا جبريل عليه السلام كما في الأربعين للنووي، قال رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت، فتعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبث ملياً ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" رواه مسلم. قوله: "ووضع كفيه على فخذيه" أي وضع الرجُل كفيه على فخذيه صلى الله عليه وسلّم وفعل ذلك للاستئناس باعتبار ما بينهما من الأنس في الأصل حين يأتيه بالوحي وقد جاء مصرحاً بهذا في رواية النسائي من حديث أبي هريرة وأبي ذر حيث قال: وضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلّم.(1/30)
قوله: فأخبرني عن الإحسان، يعني به الإخلاص ويجوز أن يعني به إجادة العمل وهذا التفسير أخص من الأول. قوله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم لأنه شمل مقام المشاهدة ومقام المراقبة. بيان ذلك وإيضاحه أن للعبد في عبادته ثلاثة مقامات: الأول أن يفعلها على الوجه الذي يسقط معه طلب الشرع بأن تكون مستوفية الشروط والأركان. الثاني: أن يفعلها كذلك وقد استغرق في بحر المكاشفة حتى كأنه يرى الله تعالى وهذا مقامه صلى الله عليه وسلّم كما قال صلى الله عليه وسلّم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" الثالث: أن يفعلها كذلك وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده وهذا هو مقام المراقبة. فقوله: فإن لم تكن تراه، نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة أي إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية فاعبده وأنت بحيث تعتقد أنه يراك فكل من المقامات الثلاثة إحسان إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول لأن الإحسان الذي هو في الأخيرين من صفة الخواص ويتعذر من كثير. قوله: فأخبرني عن الساعة، أي عن وقت القيامة. قوله: ما المسؤول عنها، أي عن وقتها. قوله: بأعلم من السائل، أي أنت لا تعلمها وأنا لا أعلمها فالمراد التساوي في نفي العلم بوقتها لا التساوي في العلم بوقتها.(1/31)
قوله: عن أماراتها، بفتح الهمزة أي علاماتها كما قال في المصباح الأمارة العلامة وزناً ومعنى، وأما الإمارة بكسر الهمزة فهي الولاية والإمامة والمراد علاماتها السابقة عليها ومقدماتها لا المقارنة المضايقة لها كطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة فلذا قال: أن تلد الأمة ربتها وفي رواية ربها. واختلف في معناها على أقوال أصحها أنه إخبار عن كثرة السراري وأولادهن وأن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين إما بالإذن أو بقربته الحال أو عرف الاستعمال، وعبر بعضهم بأن يستولي المسلمون على بلاد الكفار فتكثر السراري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه بأبيه. ثانيها: أن معناها أن الإماء تلد الملوك فتكون أمه من جملة رعيته إذ هو سيدها. ثالثها: أن معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان فيكثر تردادها في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها من غير علم أنها أمه ومن ذلك يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه بما يعامل السيد أمته من الإهانة والسب. قوله: وأن ترى الحفاة، بضم الحاء المهملة جمع حاف هو من لا نعل في رجله. قوله: العراة، جمع عار وهو من لا شيء على جسده. قوله: العالة، بفتح اللام المخففة جمع عائل والعالة هي في تقدير فعلة مثل كافر وكفرة معناه الفقراء. قوله: رعاء الشاة، بكسر الراء والمد جمع راع وأما بالضم فلا بد من التاء المربوطة مثل قاض وقضاة كما في المصباح وأصل الرعي الحفظ والشاء بالهمزة الغنم جمع شاة وهو من الجموع التي يفرق بينها وبين واحدها بالهاء، وتجمع أيضاً على شياه بالهاء وخصهم بالذكر لأنهم أهل البادية.(1/32)
قوله: يتطاولون في البنيان، أي يتباهون في ارتفاعه والقصد من الحديث الإخبار عن تبديل الحال وتغيره بأن يستولي أهل البادية والفاقة الذين هذه صفاتهم على أهل الحاضرة ويتملكون بالقهر والغلبة فتكثر أموالهم وتتسع في الحطام أي في الفانية وهي المتاع الكثير الهمة فتصرف هممهم إلى تشييد البنيان أي تطويله ورفعه بالجص، والهمة بالكسر أول العزم وقد يطلق على العزم القوي كما في المصباح. قوله: ثم انطلق، أي الرجل السائل عما ذكر. وقوله: فلبث أي النبي صلى الله عليه وسلّم أي استمر ساكتاً عن الكلام في هذه القضية، وجاء في رواية فلبثت بتاء مضمومة فيكون عمر هو المخبر بذلك عن نفسه. قوله: مليّاً، بتشديد الياء أي زماناً كثيراً وكان ذلك الزمان ثلاثاً كما جاء في رواية أبي داود والترمذي وغيرهما. قوله: ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، أي قواعد دينكم ففيه أن الدين اسم للثلاثة الإسلام والإيمان والإحسان وفهم منه أنه يستحب للمعلم تنبيه تلامذته وللرئيس تنبيه أتباعه على قواعد العلم وغرائب الوقائع طلباً لنفعهم وفائدتهم قاله الفشني.
((1/33)
فصل): في بيان مفتاح الجنة. وهي كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص وكلمة النجاة، وقد ذكرت في القرآن في سبعة وثلاثين موضعاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: (ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق) كائن (في الوجود إلا الله) أي لا يستحق أن يذل له كل شيء إلا الله قوله: إلا الله بالرفع بدل من محل لا مع اسمها لأن محلها رفع بالابتداء عند سيبويه أو بدل من الضمير المستتر في خبر لا المحذوف والتقدير لا إله موجود أو ممكن بالإمكان العام إلا الله أو بالنصب على الاستثناء، ولا يصح جعله بدلاً من محل اسم لا لأن لا لا يعمل في المعارف كذا قال شيخنا يوسف، قال السنوسي واليوسي: والمنفي في لا إله إلا الله المعبود بحق في اعتقاد عابد نحو: الأصنام والشمس والقمر وذلك أن المعبود بباطل له وجود في نفسه في الخارج ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلاً ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقاً فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا ينفى لأن الذوات لا تنفى، وكذا من حيث وجوده في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلاً إذ كونه معبوداً بباطل أمر محقق لا يصح نفيه وإلا كان كاذباً وإنما ينفى من حيث وجوده في ذهن الكافر بوصف كونه معبوداً بحق فلم ينف في لا إله إلا الله إلا المعبود بحق غير الله فالاستثناء متصل وليس المنفي أيضاً المعبود بباطل في ذهن الكافر لأنه الله تعالى والقصد بهذه الجملة الرد على من يعتقد الشركة (وفضائلها) لا تحصى منها قوله صلى الله عليه وسلّم: "من قال لا إله إلا الله ثلاث مرات في يومه كانت له كفارة لكل ذنب أصابه في ذلك اليوم" وعن كعب الأحبار رضي الله عنه أوحى الله تعالى إلى موسى في التوراة لولا من يقول لا إله إلا الله لسلطت جهنم على أهل الدنيا. قال السحيمي: أفضل الأشياء الإيمان وهو قلبي، وأفضل الكلام كلام الله وأفضله القرآن، وأفضل الكلام بعده لا إله إلا الله فهي أفضل من الحمد على الصحيح لأنها تنفي الكفر.(1/34)
وقال بعضهم: إن كلمة لا إله إلا الله اثنا عشر حرفاً فلا جرم أي فلا بد أنه وجب بها اثنتا عشرة فريضة سنة ظاهرة وسنة باطنة؛ أما الظاهرة فالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، وأما الباطنة فالتوكل والتفويض والصبر والرضا والزهد والتوبة. قوله: والجهاد، أي القتال في سبيل الله لإقامة الدين وهذا هو الجهاد الأصغر، وأما الجهاد الأكبر فهو مجاهدة النفس وقوله التوكل، هو ثقة القلب بالوكيل الحق تعالى بحيث يسكن عن الاضطراب عند تعذر الأسباب ثقة بمسبب الأسباب. وعن أويس القرني أنه قال: لو عبدت الله عبادة أهل السموات والأرض لا يقبل الله منك حتى تكون آمناً بما تكفل الله من أمر رزقك وترى جسدك فارغاً لعبادته. قال تعالى: فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} ((5) المائدة:23) وقال صلى الله عليه وسلّم: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً أي تذهب بكرة وهي جياع وتروح بطاناً أي وترجع عشية وهي ممتلئة الأجواف، فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق، والمعنى: لو اعتمدتم على الله في ذهابكم ومجيئكم وتصرفكم وعلمتم أن الخير بيده لم تنصرفوا إلا غانمين سالمين ولأغناكم التوكل على الله عن الادخار كالطير لكنكم اعتمدتم على قوتكم وكسبكم وهذا ينافي التوكل. وروي عن بعض العلماء أن أشد الخلق توكلا الطير وطمعاً النمل، وليس المراد بالتوكل ترك الكسب بالكلية.(1/35)
وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي فقال: هذا رجل جهل العلم فقد قال صلى الله عليه وسلّم: ان الله جعل رزقي تحت ظل رمحي أي الرمح سبب لتحصيل الرزق، ومراده أن معظم الرزق كان من الغنائم وإلا فقد كان يأكل من جهات أخرى غير الرمح ذكره السحيمي. قوله التفويض، هو التسليم لله في جميع أموره وهو أعلى من التوكل، قال الغزالي: وهو إرادة أن يحفظ الله عليك مصالحك فيما لا تأمن فيه من الخطر وضد التفويض الطمع. قوله: الصبر، وهو حبس النفس على المشاق وعن الجزع.(1/36)
قال العلقمي: الصبر حبس النفس على كريه تتحمله وعن لذيذ تفارقه. قوله الرضا، هو غنى القلب بما قسم، وقال العلماء: الرضا ترك السخط والسخط ذكر غير قضاء الله تعالى بأنه أولى به وأصلح فيما لا يتيقن إصلاحه وفساده. روي أنه تعالى قال: من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليتخذ رباً سوائي. قوله: الزهد، هو أن لا يكون بما في أيدي الناس أوثق منه بما عند الله وليس الزهد هو ترك الحلال وإضاعة المال. وفي الحديث: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده" فقوله من سره بهاء الضمير معناه من أحب كما قاله السيد أحمد دحلان. وفي مختصر منهاج العابدين روي: ركعتان من رجل عالم زاهد قلبه خير وأحب إلى الله تعالى من عبادة المتعبدين إلى آخر الدهر أبداً وسرمداً. قوله: والتوبة، ولها ثلاثة أركان: الأول الإقلاع عن الذنب فلا يصح توبة المكاس مثلاً إلا إذا أقلع عن المكس. والثاني: الندم على فعلها لوجه الله تعالى فلا تصح توبة من لم يندم أو ندم لغير وجه الله تعالى كأن ندم لأجل مصيبة حصلت له. والثالث: العزم على أن لا يعود إلى مثلها أبداً فلا يصح توبة من لم يعزم على عدم العود وهذا إن لم تتعلق المعصية بالآدمي فإن تعلقت به فلها شرط رابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه تفصيلاً لا إجمالاً.
[(1/37)
فائدة] قال الغزالي: وجملة الأمر أنك إذا برأت قلبك من الذنوب كلها بأن توطنه على أن لا تعود إلى ذنب أبداً وتندم على ما مضى وتقضي الفوائت بما تقدر عليه وترضي الخصوم بما أمكنك بأداء واستحلال وترجع إلى الله تعالى في ما تخشى في إظهاره هيجان فتنة بالتضرع إلى الله ليرضيه عنك تذهب فتغسل ثيابك وتصلي أربع ركعات وتضع جبهتك بالأرض في موضع خال ثم تجعل التراب على رأسك وتمرغ وجهك في التراب بدمع جار وقلب حزين وصوت عال، وتذكر ذنوبك واحداً واحداً ما أمكنك وتلوم نفسك عليها وتقول: أما تستحين يا نفس؟ أما آن لك أن تتوبي؟ ألك طاقة بعذاب الله سبحانه؟ ألك حاجة؟ وتذكر من هذا كثيراً وتبكي ثم ترفع يديك إلى الرب الرحيم سبحانه وتقول: إلهي عبدك الآبق رجع إلى بابك عبدك العاصي رجع إلى الصلح عبدك المذنب أتاك بالعذر فاعف عني بجودك وتقبل مني بفضلك وانظر إلي برحمتك اللهم اغفر لي ما سلف من الذنوب واعصمني فيما بقي من الأجل فإن الخير كله بيدك وأنت بنا رؤوف رحيم. ثم تدعو دعاء الشدة وهو: يا مجلي عظائم الأمور، يا منتهى همة المهمومين، يا من إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون أحاطت بنا ذنوبنا وأنت المدخور لها مدخوراً لكل شدة كنت أدخرك لهذه الساعة فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، ثم تكثر من البكاء والتذلل وتقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ولا تشتبه عليه الأصوات يا من لا تغلطه المسائل، ولا تختلف عليه اللغات يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك إنك على كل شيء قدير، ثم تصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وتستغفر ربك لجميع المؤمنين وترجع إلى طاعة الله جل جلاله فتكون قد تبت توبة نصوحاً وصرت طاهراً من الذنوب ولك من الأجر والرحمة ما لا يحصى والله الموفق.
[(1/38)
فرع] حكي أن ابن أبي رأى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له: ادع بهذا الدعاء وقدمه في أول دعائك ثم تدعو بعده بما شئت يستجاب لك به، ومن دعا به قوي إيمانه وهو هذا: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم لا مضل لمن هديت ولا هادي لمن أضللت ولا مشقي لمن أسعدت ولا مسعد لمن أشقيت، ولا معز لمن أذللت ولا مذل لمن أعززت، ولا رافع لمن خفضت ولا خافض لمن رفعت، اللهم اهدنا لما أمرتنا ووفِّ لنا بما ضمنت لنا من خيري الدنيا والآخرة، وقوِّ يقيننا فيما رجيتنا وانصرنا على أعدائنا في الظاهر والباطن، وأسألك اللهم بما سألك به خليلك إبراهيم عليه السلام من النور واليقين، وما سألك به سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلّم من النصر والتوفيق إنك حميد مجيد.
[فائدة] وفي الحديث: ما أصاب عبداً هم أو غم أو حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك نافد فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وغمه وأبدله مكانه فرجاً أي وسعاً وخلاصاً. قوله: استأثرت به، أي انفردت بالاسم من غير مشارك لك فيه. قوله: ربيع قلبي، أي مطر قلبي. قوله: جلاء حزني، بفتح الجيم وبالمد أي كشف حزني. قوله: همي، الهم أول المشقة أو ما يصيب الشخص من مكروه الدنيا والآخرة والغم والحيرة والإشكال أو الكرب وهو ما شق عليه حتى ملأ صدره غيظاً، وقيل الهم ما تعلق بالماضي والغم ما تعلق بالمستقبل وقال الشرقاوي: الهم ما يتعلق بما يكون في المستقبل، والحزن ما يتعلق بما كان في الماضي اهـ.
((1/39)
فصل): في بيان بلوغ المراهق والمعصر (علامات البلوغ ثلاث) في حق الأنثى واثنان في حق الذكر أحدها (تمام خمس عشرة سنة) قمرية تحديدية باتفاق (في الذكر والأنثى) وابتداؤها من انفصال جميع البدن. (و) ثانيها (الاحتلام) أي الإمناء وإن لم يخرج المني من الذكر كأن أحسب بخروجه فأمسكه وسواء خرج من طريقه المعتاد أو غيره مع الانسداد الأصلي وسواء كان في نوم أو يقظة بجماع أو غيره. (في الذكر والأنثى لتسع سنين) قمرية تحديدية عند البيجوري والشربيني والذي اعتمده ابن حجر وشيخ الإسلام أنها تقريبية، ونقل عبدالكريم عن الرملي أنها تقريبية في الأنثى وتحديدية في الذكر. ((1/40)
و) ثالثها (الحيض في الأنثى لتسع سنين) تقريبية بأن كان نقصها أقل من ستة عشر يوماً ولو بلحظة وأما حبلها فليس بلوغاً بل علامة على بلوغها بالإمناء قبله، وأما الخنثى فحكمه أنه إن أمنى من ذكره وحاض من فرجه حكم ببلوغه فإن وجد أحدهما أو كلاهما من أحد فرجيه فلا يحكم ببلوغه، وإنما ذكر المصنف أول مسألة في الفقه علامات البلوغ لأن مناط التكليف على البالغ دون الصبي والصبية لكن يجب على سبيل فرض الكفاية على أصلهما الذكور والإناث أن يأمرهما بالصلاة وما تتوقف عليه كوضوء ونحوه بعد استكمالهما سبع سنين إذا ميزا، وحد التمييز هو أن يصيرا بحيث يأكلان وحدهما ويشربان وحدهما ويستنجيان وحدهما، فلا يجب الأمر إذا ميزا قبل السبع بل يسن، وأن يأمرهما أيضاً بشرائع الدين الظاهرة نحو الصوم إذا أطاقا، ولا بد مع صيغة الأمر من التهديد كأن يقول لهما: صليا وإلا ضربتكما، وأن يعلمهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم ولد بمكة وأرسل فيها ومات في المدينة ودفن فيها، ويجب أيضاً أن يضربهما على ترك ذلك ضرباً غير مبرح في أثناء العاشرة بعد كمال التسع لاحتمال البلوغ فيه وللمعلم أيضاً الأمر لا الضرب إلا بإذن الولي، ومثله الزوج في زوجته فله الأمر لا الضرب إلا بإذن الولي، والسواك كالصلاة في الأمر والضرب وحكمة ذلك التمرين على العبادة ليعتادها فلا يتركها إن شاء الله تعالى.
(واعلم) أنه يجب على الآباء والأمهات على سبيل فرض الكفاية تعليم أولادهم الطهارة والصلاة، وسائر الشرائع ومؤنة تعليمهم في أموالهم إن كان لهم مال، فإن لم يكن ففي مال آبائهم فإن لم يكن ففي مال أمهاتهم، فإن لم يكن ففي بيت المال، فإن لم يكن فعلى أغنياء المسلمين.
[(1/41)
فائدة] إذا قيل لك: لم وجب على الصبي غرامة المتلفات، وقد قال العلماء برفع القلم عنه؟ قلت: الأقلام ثلاثة: قلم الثواب وقلم العقاب وقلم المتلفات، فقلم الثواب مكتوب له، وقلم العقاب مرفوع عنه، وقلم المتلفات مكتوب عليه ومنها الدية، وكذلك المجنون والنائم إلا أن قلم الثواب والعقاب مرفوعان عنهما. وأما القصاص والحد فلا يجبان عليهم لعدم التزامهم للأحكام قال صلى الله عليه وسلّم: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل" أخرجه أبو داود والترمذي، فالمراد بالقلم قلم التكليف دون قلم الضمان لأنه من خطاب الوضع فيجب ضمان المتلفات والدية عليهم من مالهم بخلاف القصاص والحد.
((1/42)
فصل): في بيان الاستنجاء بالحجر وهو المسمى بالمطهر المخفف وأما الماء فهو المطهر المزيل، ويجب الاستنجاء على الفور عند خشية تنجيس غير محله أو إرادة نحو الصلاة من كل خارج من الفرج نجس يلوث المحل يغسل بالماء أو يمسح بالحجر. (شروط أجزاء الحجر) لمن يقتصر عليه (ثمانية) أحدها (أن يكون بثلاثة أحجار) أو ثلاثة أطراف الحجر ولو حصل الإنقاء بدونها لقوله صلى الله عليه وسلّم: "وليستنج بثلاثة أحجار" فلو لم يحصل إلا بأكثر من الثلاثة وجبت الزيادة عليها، ويسن الإيتار إن حصل الإنقاء بشفع والأفضل في الكيفية أن يبدأ بالأول من مقدم الصفحة اليمنى ويديره قليلاً قليلاً إلى أن يصل إلى الذي بدأ منه ثم الثاني من مقدم الصفحة اليسرى كذلك ثم يمر الثالث على الصفحتين والمسربة جميعاً قال في المصباح: والمسربة بفتح الراء لا غير مجرى الغائط ومخرجه سميت بذلك لانسراب الخارج منها فهي اسم للموضع. (و) ثانيها (أن ينقى المحل) بحيث لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء أو صغار الخزف. (و) ثالثها (أن لا يجف النجس) لأن الحجر لا يزيله حينئذٍ. وقوله يجف بكسر الجيم من باب ضرب وفي لغة لبني أسد بفتحها من باب تعب فإن جف كله أو بعضه تعين الماء ما لم يخرج بعده خارج آخر ولو من غير جنسه ويصل إلى ما وصل إليه الأول وإلا كفى الاستنجاء بالحجر. (و) رابعها: (لا ينتقل) أي عن المحل الذي أصابه عند الخروج واستقر فيه فإن كان المنتقل متصلاً تعين الماء في الجميع أو منفصلاً تعين في المنتقل فقط، ويشترط أيضاً أن لا يتقطع فإن تقطع بأن خرج قطعاً في محال تعين الماء في المتقطع. وأجزأ الجامد في غيره. (و) خامسها: (لا يطرأ عليه آخر) أي نجس مطلقاً أو طاهر رطب غير العرق، أما هو وكذا الطاهر الجاف كحصاة فلا يضر فإن طرأ عليه نجس سواء كان رطباً أو جافاً أو طاهر رطب ولو من رشاش الخارج تعين الماء لأن مورد النص الخارج والأجني ليس في معناه. ((1/43)
و) سادسها: (لا يجاوز) الخارج (صفحته) أي جانب دبره في الغائط وهي ما ينضم من الأليين عند القيام (وحشفته) أي رأس ذكره في البول وتسمى أيضاً عند العوام بالبلجة بفتحات، وإن انتشر الخارج حول المخرج فوق عادة الإنسان من غير انتقال وتقطع ومجاوزة ومثلها قدرها من مقطوعها أو فاقدها خلقة فلا تجزىء في حشفة الخنثى ولا في فرجه للشك فيه، ويشترط في الثيب أن لا يصل بولها مدخل الذكر وهو تحت مخرج البول وفي البكر أن لا يجاوز ما يظهر. عند قعودها وإلا تعين الماء كما يتعين في حق الأقلف إن وصل بوله للجلدة. (و) سابعها: (لا يصيبه ماء) غير مطهر له وإن كان طهوراً أو مائع آخر بعد الاستجمار أو قبله لتنجسهما ويؤخذ من ذلك أنه لو استنجى بحجر مبلول لم يصح استنجاؤه لأنه ببلله يتنجس بنجاسة المحل ثم ينجسه فيتعين الماء. (و) ثامنها: (أن تكون الأحجار طاهرة) فلا يجزىء الاستنجاء بحجر متنجس، واعلم أن كل ما هو مقيس على الحجر الحقيقي وهو ما إذا وجدت القيود الأربعة فيسمى حجراً شرعياً يجوز الاستنجاء به، الأول: أن يكون طاهراً فخرج به النجس كالبعر والمتنجس كالحجر المتنجس. والثاني: أن يكون جامداً فلو استنجى برطب من حجر أو غيره كماء الورد والخل لم يجزئه. والثالث: أن يكون قالعاً للنجاسة منشفاً فلا يجزىء الزجاج والقصب الأملس ولا التراب المتناثر بخلاف التراب الصلب، قال في المصباح: والقصب بفتحتين كل نبات يكون ساقه أنابيب وكعوباً انتهى. فالمراد بالأملس هو الذي فقد كعبه. والرابع: أن يكون غير محترم خرج به المحترم كمطعوم الآدميين كالخبز ومطعوم الجن كالعظم وكالجزء منه كيده ويد غيره وكذنب البعير المنفصل، وأما الجلد فالأظهر أنه إن كان مدبوغاً جاز الاستنجاء به وإلا فلا كما قاله الحصني
(تتمة) وإذا استنجى بالماء سن تقديم قبله على دبره وعسكه في الحجر.
((1/44)
فصل): في الوضوء وهو المسمى بالمطهر الرافع والمعتمد أنه معقول المعنى لأن الصلاة مناجاة الرب تعالى فطلب التنظيف لأجلها، وإنما اختص الرأس بالمسح لستره غالباً فاكتفى فيه بأدنى طهارة، وخصت الأعضاء الأربعة بذلك لأنها محل اكتساب الخطايا أو لأن آدم مشى إلى الشجرة برجليه وتناول منها بيديه وأكل منها بفمه ومس رأسه ورقها. وموجبه الحدث مع القيام إلى الصلاة ونحوها، وقيل القيام فقط، وقيل الحدث فقط بمعنى أنه إذا فعله وقع واجباً سواء أدخل في الصلاة أم لا. والقيام إلى الصلاة شرط في فوريته وانقطاع الحدث شرط في صحته.
((1/45)
فروض الوضوء) ولو كان الوضوء مندوباً أي أركانه (ستة) وعبر المصنف بالفرض هنا وفي الصلاة بالأركان لأنه لما امتنع تفريق أفعال الصلاة كانت كحقيقة واحدة مركبة من أجزاء فناسب عد أجزائها أركاناً بخلاف الوضوء لأن كل فعل منه كغسل الوجه مستقل بنفسه ويجوز تفريق أفعاله فلا تركيب فيه. (الأول: النية) لقوله صلى الله عليه وسلّم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى" قال الفشني: أي إنما تحسب التكاليف الشرعية البدنية أقوالها وأفعالها الصادرة من المؤمنين إذا كانت بنية وإنما لكل امرىء جزاء ما نواه إن خيراً فخير وإن شراً فشر انتهى. وتكون النية عند غسل أول جزء من الوجه سواء كان ذلك الأول من أعلى الوجه أو وسطه أو أسفله، وإنما وجب قرنها بذلك ليعتد بالمغسول لا ليعتد بها، فلو غسل جزء منه قبلها وجب إعادته بعدها. وكيفيتها كما قال الحصني إن كان المتوضىء سليماً لا علة به أن ينوي أحد ثلاثة أمور: أحدها أن ينوي رفع الحدث أو الطهارة عن الحدث أو الطهارة للصلاة. الثاني: أن ينوي استباحة الصلاة أو غيرها مما لا يباح إلا بالطهارة. الثالث: أن ينوي فرض الوضوء أو أداء الوضوء أو الوضوء، وإن كان الناوي صبياً أو مجدداً، أما صاحب الضرورة كسلس البول ونحوه فلا تكفيه نية رفع الحدث أو الطهارة عنه لأن وضوءه مبيح لا رافع، وأما المجدد فيمتنع عليه نية الرفع والاستباحة والطهارة عن الحدث، وكذا الطهارة للصلاة كما قاله الشوبري، ولا بد أن يستحضر ذات الوضوء المركبة من الأركان ويقصد فعل ذلك المستحضر كما في الصلاة، نعم لو نوى رفع الحدث كفى وإن لم يستحضر ما ذكر لتضمن رفع الحدث لذلك.
[(1/46)
تنبيه] النية بتشديد الياء من نوى بمعنى قصد والأصل نوية قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وتخفيفها لغة كما حكاها الأزهري من ونى يني إذا أبطأ لأنه يحتاج في تصحيحها إلى نوع إبطاء أي عدم مبادرة.(الثاني: غسل الوجه) وهو ما بين منابت شعر رأسه وتحت منتهى لحيته وما بين أذنيه، فمنه شعوره كالحاجبين والأهداب والشاربين والعذارين فيجب غسل ظاهر هذه الشعور وباطنها مع البشرة التي تحتها وإن كثفت لأنها من الوجه لا باطن الكثيف الخارج عنه. وأما اللحية والعارضان فإن خفا وجب غسل ظاهرهما وباطنهما مع البشرة التي تحتهما، وإن كثفا وجب غسل ظاهرهما دون باطنهما للمشقة إلا إذا كانا لامرأة وخنثى فيجب إيصال الماء لباطنهما مع بشرتهما لندرة ذلك مع كونه يندب للمرأة إزالتهما، قال السيد المرغني: ويجب غسل جزء من ملاقي الوجه من سائر الجوانب إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكذا يزيد أدنى زيادة في اليدين والرجلين انتهى ليتحقق غسل جميعهما.
[(1/47)
فرع] قال عثمان في تحفة الحبيب: حلق اللحية مكروه وليس حراماً وأخذ ما على الحلقوم قيل مكروه وقيل مباح، ولا بأس بإبقاء السيالين وهما طرفا الشارب وأخذ الشارب بالحلق أو القص مكروه فالسنة أن يحلق منه شيئاً حتى تظهر الشفة وأن يقص منه شيئاً ويبقي منه شيئاً. (الثالث: غسل اليدين مع المرفقين) أو قدرهما عند فقدهما والمعبرة بالمرفقين عند وجودهما ولو في غير محلهما المعتاد حتى لو التصقا بالمنكبين اعتبرا، والمرفقان تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء أفصح من العكس وهو مجموع العظام الثلاث عظمتي العضد وإبرة الذراع الداخلة بينهما وهو الذي يظهر عند طي اليد كالإبرة ويجب غسل ما عليهما من شعر وغيره، فإن أبين بعض محل الفرض وجب غسل ما بقي أو من مرفقه وجب غسل رأس عظم عضده أو من فوقه سن غسل باقي عضده محافظة على التحجيل ولئلا يخلو العضو من طهارة. (الرابع: مسح شيء من الرأس) ولو بعض شعرة أو قدرها من البشرة، وشرط الشعر الممسوح أن لا يخرج عن حد الرأس من جهة نزوله من أي جانب كان لو مده بأن كان متجعداً، ولو غسل رأسه بدل المسح أو ألقى عليه قطرة ولم تسل أو وضع يده التي عليها الماء على رأسه ولم يمرها أجزأه. (الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين) وإن لم يكونا في محلهما المعتاد، واتفق العلماء على أن المراد بالكعبين العظمان البارزان بين الساق والقدم في كل رجل كعبان، وشذت الرافضة قبحهم الله تعالى فقالت في كل رجل كعب وهو العظم الذي في ظهر القدم فإن لم يكن لرجل كعبان اعتبر قدرهما من معتدل الخلقة من غالب أمثاله بالنسبة، ولو قطع بعض قدميه وجب غسل الباقي فإن قطع من فوق الكعب فلا فرض عليه، ويسن غسل الباقي ويجب غسل ما عليهما من شعر وغيره. ((1/48)
السادس: الترتيب) في أفعاله والستة المذكورة أربعة منها بنص الكتاب وواحد بالسنة وهو النية وواحد بهما وهو الترتيب، ووجه دلالة الكتاب عليه هو كونه تعالى ذكر ممسوحاً بين مغسولات في قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} ((5) المائدة:6) وهو منزل بلغة العرب، والعرب لا ترتكب تفريق المتجانس إلا لفائدة وهي هنا وجوب الترتيب لا ندبه بقرينة قوله صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع لما قالوا: أنبدأ بالصفا أم بالمروة؟ "ابدؤوا بما بدأ الله به" فالعبرة بعموم اللفظ وهو ما من قوله بما بدأ الله به أي ابدؤوا بكل شيء بدأ الله به من أنواع العبادات لا بخصوص السبب الذي هو السعي بين الصفا والمروة. وأما سنن الوضوء فكثيرة منها التسمية والسواك وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء والمضمضة والاستنشاق ومسح جميع الرأس ومسح جميع الأذنين والتيامن والموالاة والدلك والتثليث وأن يقول بعده: أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((1/49)
فصل): في بيان أحكام النية وهي سبعة لكن ذكر منها ثلاثة فقال: (النية) أي حقيقتها شرعاً. (قصد الشيء مقترناً بفعله) فإن تراخى الفعل عن ذلك القصد سمي ذلك القصد عزماً لا نية. وأما لغة فهي مطلق القصد سواء قارن الفعل أو لا. (ومحلها القلب والتلفظ بها سنة) ليعاون اللسان القلب، وسمي القلب قلباً لتقلبه في الأمور كلها أو لأنه وضع في الجسد مقلوباً كقمع السكر وهو لحم صنوبري الشكل أي شكله على شكل الصنوبر قاعدته في وسط الصدر ورأسه إلى الجانب الأيسر (ووقتها) في الوضوء (عند غسل أول جزء من الوجه) هكذا عبارة بعضهم بتقديم لفظ غسل على لفظ أول وهو مرضى الشرقاوي نظراً إلى أن الواجب مقارنتها للفعل، وعبارة بعضهم بالعكس وهو مرضى البيجوري نظراً إلى أن المعتبر قرنها بأول الغسل، قال البيجوري: ومما يعتبر قرن النية به ما يجب غسله من شعوره ولو الشعر المسترسل لا ما يندب غسله كباطن لحية كثيفة ولو قص الشعر الذي نوى معه لم تجب النية عند الشعر الباقي أو غيره من باقي أجزاء الوجه ولا يكتفي بقرن النية بما قبل الوجه من غسل الكفين والمضمضة أو الاستنشاق إن لم ينغسل معها جزء من الوجه كحمرة الشفتين وإلا كفته مطلقاً وفاته ثواب السنة مطلقاً انتهى. ووقتها في غيره أول العبادات إلا في الصوم فإنها متقدمة عليه لعسر مراقبة الفجر، والصحيح أنه عزم قام مقام النية. وأما حكمها فهو الوجوب غالباً، ومن غير الغالب قد تندب كما في غسل الميت وكيفيتها تختلف باختلاف المنوي كالصلاة والصوم وهكذا. وشرطها إسلام الناوي وتمييزه وعلمه بالمنوي وعدم إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها في القلب حكماً وأن لا تكون معلقة فإن قال: إن شاء الله تعالى فإن قصد التعليق أو أطلق لم تصح أو التبرك صحت والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة كتمييز الجلوس للاعتكاف عن جلوسه للاستراحة أو تمييز رتبتها كتمييز الغسل الواجب من الغسل المندوب.(1/50)
وقد نظم تلك الأحكام السبعة بعضهم قيل هو ابن حجر العسقلاني وقيل التتائي من بحر الرجز في قوله:
سبع شرائط أتت في نية >< تكفي لمن حوى لها بلا وسن
حقيقة حكم محل وزمن >< كيفية شرط ومقصود حسن
قوله: شرائط بالصرف للضرورة. وقوله: وسن بفتحتين معناه نعاس وهو تتميم للبيت، وكذا قوله حسن وفيه إشارة إلى أنه يحسن أن يقصد الإخلاص في العبادة.
[تنبيه] في الترتيب قال: (والترتيب أن لا يقدم عضواً على عضو) بضم العين أشهر من كسرها وهو كل عظم وافر من الجسد أي حقيقة الترتيب وضع كل شيء في مرتبته قال الحصني: وفرضيته مستفادة من الآية إذا قلنا الواو للترتيب وإلا فمن فعله، وقوله صلى الله عليه وسلّم إذ لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ إلا مرتباً، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال بعد أن توضأ مرتباً: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به أي بمثله" رواه البخاري.
((1/51)
فصل): في الماء الذي لا يدفع النجاسة والذي يدفعها قال: (الماء) في قانون الشرع قسمان (قليل وكثير، القليل ما دون القلتين) بأن نقص منهما أكثر من رطلين (والكثير قلتان فأكثر) من محض الماء يقيناً ولو مستعملاً وقدرهما بالوزن خمسمائة رطل بالبغدادي التي هي أربعة وستون ألف درهم ومائتان وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم إذ كل رطل بغدادي مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وبالمكي أربعمائة رطلٍ واثنا عشر رطلاً وثلاثة عشر درهماً وخمسة أسباع درهم، على أن الرطل مائة وستة وخمسون درهماً، أفاد ذلك العلامة محمد صالح الرئيس، وبالطائفي ثلاثمائة وسبعة وعشرون رطلاً وثلثا رطل إذ كل رطل طائفي مائة وستة وتسعون درهماً نبه على ذلك عبد الله المرغني في مفتاح فلاح المبتدي، وبالمصري أربعمائة رطل وستة وأربعون رطلاً وثلاثة أسباع رطل، وبالدمشقي مائة وسبعة أرطال وسبع رطل وقدرهما بالمساحة في المربع ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً بذراع الآدمي وهو شبران تقريباً، وفي المدور ذراعان عمقاً بذراع الحديد وذراع عرضاً بذراع الآدمي فكان ذلك بذراع اليد ذراعاً عرضاً وذراعين ونصفاً عمقاً لأن ذراع الحديد بذراع الآدمي ذراع وربع وفي المثلث وهو ماله ثلاثة أبعاد متساوية ذراع ونصف طولاً وعرضاً وذراعان عمقاً بذراع الآدمي، فالعرض هو ما كان بين الركنين والطول هو الركنان الآخران. ((1/52)
القليل) حكمه (يتنجس بوقوع النجاسة) المنجسة يقيناً (فيه وإن لم يتغير) لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلّم: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً" وفي رواية نجساً إذ مفهومه أن ما دونها يحمل الخبث، وخرج بالنجاسة المنجسة النجس المعفو عنه كميتة لا دم لها سائل، ونجس لا يدركه طرف معتدل حيث لم يحصل بفعله ولو من مغلظ، كما إذا عف الذباب على نجس رطب ثم وقع في ماء قليل أو مائع فإنه لا ينجس مع أنه علق في رجله نجاسة لا يدركها الطرف وما على منفذ حيوان طاهر غير آدمي وروث سمك لم يغير الماء ولم يضعه فيه عبثاً وما يماسه العسل من الكوارة التي تجعل من روث نحو البقر وجرة البعير وألحق به فم ما يجتر من ولد البقر والضأن إذا التقم أخلاف أمه، وفم صبي تنجس ثم غاب واحتمل طهارته كفم الهرة فإنه لا ينجس الماء القليل وذرق الطيور في الماء وإن لم يكن من طيوره وبعر فأرة عم الابتلاء به، وبعر شاة وقع في اللبن حال الحلب وما يبقى في نحو الكرش مما يشق تنقيته، والقليل من دخان النجاسة ولو من مغلظ وهو المتصاعد منها بواسطة نار، واليسير من الشعر المنفصل من غير مأكول غير مغلظ، والكثير منه من مركوب والقصاص والدم الباقي على اللحم والعظم الذي لم يختلط بشيء كما لو ذبحت شاة وقطع لحمها وبقي عليه أثر الدم بخلاف ما لو اختلط بغيره كما يفعل في البقر التي تذبح في المحل المعد لذبحها الآن من صب الماء عليها لإزالة الدم عنها فإن الباقي من الدم على اللحم بعد صب الماء لا يعفى عنه وإن قل لاختلاطه بأجنبي فليتنبه له، والضابط في جميع ذلك أن العفو منوط بما يشق الاحتراز عنه غالباً، والمعتمد أنه لا يعفى عن دم البراغيث والقمل ونحوه بالنسبة للمائع والماء القليل وإن قل الدم دون الماء الكثير ولو قتل قملاً أو براغيث بين أصابعه، فإن كان الدم الحاصل كثيراً لم يعف عنه أو قليلاً عفي عنه على الأصح، هذا وخرج بدخان النجاسة بخارها وهو المتصاعد منها لا بواسطة نار(1/53)
فهو طاهر، ومنه الريح الخارج من الكنف أو من الدبر فهو طاهر، فلو ملأ منه قربة وحملها على ظهره وصلى بها صحت صلاته. (والماء الكثير لا يتنجس) بملاقاته النجاسة (إلا إذا تغير طعمه) وحده (أو لونه) وحده (أو ريحه) وحده أي عقب ملاقاته النجاسة فلو تغير بعد مدة لم يحكم بنجاسته ما لم يعلم بقول أهل الخبرة نسبة تغيره إليها وخرج بالملاقاة ما لو تغير بريح النجاسة التي على الشط لقربها منه فإنه لا ينجس لعدم الاتصال بل لمجرد استرواح، والمراد بالمتغير كل الماء، أما إذا غيرت النجاسة بعضه دون باقيه وكان هذا الباقي قلتين فإنه لا ينجس بل النجس هو المتغير فقط ولا يجب التباعد فيه عن النجاسة بقدر قلتين بل يجوز الاغتراف من جانبها، ولا فرق في التغير بالنجس بين الكثير واليسير ولا بين كونه بالمخالط أو المجاور ولا بين المستغنى عنه وغيره، ولا بين الميتة التي لا يسيل دمها وغيرها لغلظ أمر النجاسة ولو كان التغير تقديرياً بأن وقع في الماء نجس يوافقه في صفاته كالبول المنقطع الرائحة واللون والطعم فيقدر مخالفاً أشد الطعم طعم الخل واللون لون الحبر والريح ريح المسك، فلو كان الواقع قدر رطل من البول المذكور فنقول: لو كان الواقع قدر رطل من الخل هل يغير طعم الماء أو لا؟ فإن قال أهل الخبرة يغيره حكمنا بنجاسته، وإن قالوا لا يغيره نقول: لو كان الواقع قدر رطل من الحبر هل يغير لون الماء أم لا؟ فإن قالوا يغيره حكمنا بنجاسته وإن قالوا لا يغيره نقول: لو كان الواقع قدر رطل من المسك هل يغير ريحه أو لا؟ فإن قالوا يغيره حكمنا بنجاسته، وإن قالوا لا يغيره حكمنا بطهارته، هذا إذا كان الواقع فقدت فيه الأوصاف الثلاثة، فإن فقد بعضها حال وقوعه ولم يغير فيفرض المفقود فقط لأن الموجود إذا لم يغير فلا معنى لفرضه، وأما المتغير كثيراً يقيناً بشيء مخالط بأن لم يمكن فصله أو لم يتميز في رأي العين طاهر مستغنى عنه بأن سهل صونه عنه وليس تراباً وملح(1/54)
ماء طرحا فيه تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه فهو غير مطهر ولو كان الماء قلتين ما لم يكن الخليط ماء مستعملاً، ولو كان التغير تقديرياً بأن اختلط بالماء ما يوافقه في صفاته كماء الورد المنقطع الرائحة والطعم واللون فيقدر مخالفاً وسطاً بين أعلى الصفات وأدناها الطعم طعم الرمان واللون لون العصير والريح ريح اللاذن بفتح الذال المعجمة وهو اللبان الذكر كما هو المشهور، وقيل هي رطوبة تعلو شعر المعز وقشرها أي أنا نعرض عليه مغير اللون مثلاً فإن حكم أهل الخبرة بتغيره سلبنا الطهورية وإلا عرضنا مغير الطعم ثم مغير الريح كذلك، فلا يعرض عليه الثاني إلا إذا لم يحكم بالتغيير بالأول ولا الثالث إلا إذا لم يحكم بالتغير بالثاني، وخرج مما ذكر التغير اليسير والشك في كثرة التغير والتغير بالمجاور وهو ما يتميز في رأي العين أو ما يمكن فصله كدهن وعود ولو مطيبين أو بغير مستغنى عنه سواء كان خلقياً في الأرض كطين وإن منع الاسم أو مصنوعاً فيها كذلك بحيث يشبه الخلقي كالفساقي المعمولة بالجير وكالقرب المدبوغة بالقطران ولو مخالطاً ولو كثيراً لأنه وضع لإصلاحها فإن الماء في هذه الصور كلها مطهر والقطران بفتح القاف مع كسر الطاء وسكونها وبكسرها مع سكون الطاء دهن شجر يطلى به الإبل للجرب ويسرج به، بخلاف ما لو وضع لإصلاح الماء فإنه غير مطهر لاستغناء الماء عنه، ومما لا يستغني الماء عنه غير الممرية والمقرية ما يقع من الأوساخ المنفصلة من أرجل الناس من غسلها في الفساقي والمنفصلة من بدن المنغمس فإنها لا تسلب الطهورية نبه على ذلك السويفي، وخرج أيضاً التغير بتراب وملح ماء طرحا فيه ولو كان التغير بهما كثيراً وبمكثه لأنه لم يخالطه شيء فإن الماء في هذا مطهر، وكذا لو تغير بانضمام ماء مستعمل إليه فبلغ به قلتين فيصير مطهراً وإن أثر في الماء بفرضه مخالفاً وسطاً.(1/55)
واعلم أن التقدير المذكور مندوب لا واجب، فلو هجم شخص واستعمل الماء أجزأ ذلك إذ غاية الأمر أنه شاك في التغير المضر والأصل عدمه.
(اعلم) أن الماء الجاري كالراكد فيما مر، لكن العبرة في الجاري بالجرية نفسها لا مجموع الماء، فإن الجريات متفاصلة حكماً وإن اتصلت في الحس لأن كل جرية طالبة لما قبلها هاربة عما بعدها، فإن كانت الجرية وهي الدفعة التي بين حافتي النهر في العرض دون القلتين تنجس بملاقاة النجاسة سواء تغير أم لا ويكون محل تلك الجرية من النهر نجساً ويطهر بالجرية بعدها، ويكون في حكم غسالة النجاسة حتى لو كانت مغلظة فلا بد من سبع جريات عليها ومن الترتيب أيضاً في غير الأرض الترابية، هذا في نجاسة تجري في الماء، فإن كانت جامدة واقفة فذلك المحل نجس وكل جرية تمر بها نجسة إلى أن يجتمع قلتان منه في موضع كفسقية مثلاً فحينئذٍ هو طهور إذا لم يتغير بها. ويلغز به فيقال لنا ماء ألف قلة غير متغير وهو نجس أي لأنه ما دام لم يجتمع فهو نجس وإن طال محل جري الماء، والفرض أن كل جرية أقل من قلتين، وأما الذي لم يمر عليها وهو الذي فوقها فهو باق على طهوريته.
[مسألة] لنا جماعة يلزمهم تحصيل بولهم لطهرهم وذلك فيما لو كان عندهم ماء قلتان فأكثر ولا يكفيهم لطهرهم ولو كمل ببول وقدر مخالفاً أشد. لم يغيره فيلزمهم خلطه واستعمال جميعه وإنما احتيج للتقدير مع عدم تغيره حساً لإمكان تغيره تقديراً وهو مضر أيضاً.
((1/56)
فصل): في موجبات الغسل (موجبات الغسل) على الرجال والنساء (ستة) ثلاثة تشترك فيها الرجال والنساء وهي دخول الحشفة في الفرج وخروج المني والموت، وثلاثة تختص بها النساء وهي الحيض والنفاس والولادة. ثم اعلم أن لفظ الغسل إن أضيف إلى السبب كغسل الجمعة وغسل العيدين فالأفصح في الغين الضم، وكذا غسل البدن وإن أضيف إلى الثوب ونحوه كغسل الثوب فالأفصح الفتح. أحدها: (إيلاج الحشفة) أي دخولها كلها وإن طالت ولا اعتبار بغيرها مع وجودها أو قدرها من فاقدها ولو بلا قصد ولو حالة النوم (في الفرج) أي في أي فرج كان سواء كان قبل امرأة أو بهيمة أو دبرهما أو دبر رجل صغير أو كبير حي أو ميت أو دبر نفسه أو ذكر آخر، ويجب أيضاً الغسل على المرأة بأي ذكر دخل في فرجها حتى ذكر البهيمة والميت والصبي، وعلى الذكر المولج في دبره أو ذكره، ولايجب إعادة غسل الميت المولج فيه والمستدخل ذكره ويصير الصبي والمجنون المولج فيهما جنبين بلا خلاف، وكذا المولجان فإن اغتسل الصبي وهو مميز صح غسله ولا يجب إعادته إذا بلغ، وعلى الولي أن يأمر الصبي المميز بالغسل في الحال كما يأمره بالوضوء، ثم لا فرق في ذلك بين أن ينزل منه شيء أم لا. والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إذا التقى الختانان أو مس الختان الختان وجب الغسل" فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا ولا بد في وجوب الغسل من دخول الحشفة إلى ما لا يجب غسله في الاستنجاء، فإن لم تصل إلى ذلك بأن وصلت إلى ما يجب غسله فيه فقط لم يجب، ولو دخل شخص فرج امرأة وجب عليهما الغسل لأنه صدق عليه دخول حشفة فرجاً ولا اعتبار بكونه دخل تبعاً، ولا يجب على الزاني الغسل من الجنابة فوراً لانقضاء المعصية بالفراغ من الزنى وفارق من عصى بالنجاسة بأن تضمخ بها لبقاء العصيان بها ما بقيت فوجب إزالتها فوراً. ((1/57)
و) ثانيها: (خروج المني) أي من الشخص نفسه الخارج منه أول مرة في اليقظة أو في النوم من طريقه المعتاد مطلقاً أو من غيره وإذا كان مستحكماً بكسر الكاف أي إن خرج لغير علة لكن بشرط أن يكون من صلب الرجل وترائب المرأة إذا كان المعتاد منسداً انسداداً عارضاً بخلاف الانسداد الأصلي فإنه يجب معه الغسل بالخارج مطلقاً سواء أخرج من الصلب أم لا ما عدا المنافذ الأصلية، ولا بد من خروجه أي بروزه وانفصاله من قصبة الذكر أو نزوله بمحل يجب غسله في الاستنجاء في فرج الثيب أو مجاوزته البكارة في البكر، فلو قطع الذكر وفيه المني قبل بروزه وجب الغسل وإن لم يبرز من الجزء المنفصل شيء ولا من المتصل لأن بروز المني في الجزء المقطوع في حكم بروزه وحده لانفصاله عن البدن وإن كان مستتراً في ذلك الجزء، ولو أحس بنزول منيه فأمسك ذكره فلم يخرج منه شيء فلا غسل عليه لكن يحكم بالبلوغ بنزوله إلى القصة وإن لم يخرج منها حتى لو كان في صلاة أتمها وأجزأته عن فرضه هذا في الواضح، أما الخنثى فلا يجب عليه الغسل إلا إذا خرج من فرجيه معاً فإن خرج من أحدهما لم يجب لاحتمال زيادته مع انفتاح المعتاد، والحيض في حقه كالمني وإن أمنى من أحدهما وحاض من الآخر وجب عليه الغسل وخرج بمني نفسه مني غيره، كأن خرج من المرأة مني الرجل فيفصل في ذلك إن وطئت في دبرها وخرج منه المني بعد غسلها لم يجب عليه إعادتها أو في قبلها وخرج منه بعد ما ذكر، فإن قضت شهوتها حال الوطء بأن كانت بالغة مختارة مستيقظة وجب عليها إعادة الغسل لأن الظاهر أنه منيهما معاً لاختلاطهما، وأقيم الظن هنا مقام اليقين كما في النوم، وإن لم تقض شهوتها بأن لم يكن لها شهوة أصلاً كصغيرة أو لها شهوة ولم تقضها كنائمة ومكرهة لم يجب عليها إعادته وليس من ذلك المجنونة لإمكان أن تقضي شهوتها ولو استدخل منيه بعد غسله ثم خرج منه لم يجب عليه الغسل بخروجه ثاني مرة.(1/58)
واعلم أن خروج المني موجب للغسل سواء كان بدخول حشفة أم لا، ودخول الحشفة موجب له سواء حصل مني أم لا فبينهما عموم وخصوص من وجه، ولا يجب الغسل بالاحتلام إلا إن أنزل. ثم اعلم أن للمني ثلاث خواص يتميز بها عن المذي والودي أحدها له رائحة كرائحة العجين أو الطلع ما دام رطباً فإذا جف أشبهت رائحته رائحة البيض الثاني: التدفق أي التدافع قال الله تعالى: خلق - أي الإنسان- من ماء دافق} ((86) الطارق:6) أي مدفوق أي مصبوب في الرحم. الثالث: التلذذ بخروجه، ولا يشترط اجتماع الخواص بل يكفي واحدة في كونه منياً بلا خلاف، والمرأة كالرجل في ذلك على الراجح في الروضة. وقال في شرح مسلم: لا يشترط التدفق في حقها وتبع فيه ابن الصلاح. (و) ثالثها: (الحيض) وهو دم طبيعة يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات مخصوصة والرحم جلدة داخل الفرج ضيقة الفم واسعة الجوف كالجرة وفيها لجهة باب الفرج يدخل فيها المني ثم تنكمش أي ينسد فمها فلا تقبل منياً آخر بعد ذلك، ولهذا جرت عادة الله أن لا يخلق ولداً من ماء رجلين وحرج بذلك الاستحاضة وهي دم علة يخرج من عرق فمه في أدنى الرحم سواء أخرج عقب حيض أم لا سواء قبل البلوغ أم بعده على الأصح من أن دم الصغيرة وكذا الآيسة يقال له استحاضة، وقيل لا تطلق الاستحاضة إلا على دم خرج عقب حيض. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" رواه الشيخان. وفي رواية البخاري: "ثم اغتسلي وصلي". ((1/59)
و) رابعها: (النفاس) وهو الدم الخارج عقب فراغ رحم المرأة من الحمل ولو علقة أو مضغة وقبل مضي أقل الطهر خرج بذلك الدم الخارج مع الولد أو حالة الطلق فهو دم فساد إن لم يتصل بحيض قبله وإلا فهو حيض بناء على أن الحامل قد تحيض وهو الأصح، فلو لم تر الدم إلا بعد مضي خمسة عشر يوماً من الولادة فلا نفاس لها، فإن رأته قبل ذلك وبعد الولادة بأن تأخر خروجه عنها فابتداؤه من رؤية الدم ومن النقاء منه لا نفاس فيه لكنه محسوب من الستين فيجب قضاء الصلاة التي فاتت فيه. (و) خامسها. (الولادة) أي ولو لأحد التوأمين فيجب الغسل بولادة أحدهما ويصح قبل ولادة الآخر ثم إذا ولدته وجب الغسل أيضاً، ومثل الولادة إلقاء العلقة والمضغة فلا بد من إخبار القوابل بأن كلّاً منهما أصل آدمي ويكفي واحدة منهن فيجب الغسل بالولد الجاف وإن لم ينتقض الوضوء، ويجوز لزوجها وطؤها قبل الغسل لأن الولادة جنابة وهي لا تمنع الوطء، أما المصحوبة بالبلل فلا يجوز وطؤها بعدها حتى تغتسل ويبطل صومها بالولد الجاف سواء كان لها نفاس أو لا، لأن ذات الولادة مبطلة له وإن لم يوجد معها نفاس، بخلاف ما لو ألقت بعض الولد فإنه ينتقض الوضوء ولا يجب الغسل، وكذا لو خرج بعضه ثم رجع (و) سادسها: (الموت) لمسلم غير شهيد، أما الكافر فلا يجب غسله بل يجوز، وأما الشهيد فلا يجب غسله بل يحرم لقوله عليه الصلاة والسلام فيهم لا تغسلوهم فإن كل جرح يفوح مسكاً يوم القيامة فدخل في قوله الموت السقط النازل بلا حياة بعد تمام أشهره ولم تظهر فيه أماراتها، والموت موجب للغسل على الأحياء لا على الميت، فالموجب للغسل إما أن يكون قائماً بالفاعل أو بغيره لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال في المحرم الذي وقصته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر" رواه الشيخان وظاهره الوجوب والوقص كسر العنق.
((1/60)
فصل): في الغسل (فروض الغسل) أي أركانه واجباً كان الغسل أو مندوباً (اثنان) الأول (النية) كأن ينوي الجنب رفع الجنابة والحائض والنفساء رفع الحيض أو النفاس أو ينوي كل أداء الغسل أو فرضه أو واجبه أو الغسل الواجب أو الغسل للصلاة أو رفع الحدث فقط أو الطهارة عنه أو له أو لأجله، أو الطهارة الواجبة أو للصلاة لا الغسل ولا الطهارة فقط، إذ قد تكون عادة أو نوت الحائض أو النفساء حل الوطء من حيث توقفه على الغسل وإن كان حراماً كالزنى لأن له جهتين وإن لم تكن مسلمة ولا الواطىء مسلماً، قال الحصني: ولو نوى الجنب استباحة ما يتوقف على الغسل كالصلاة والطواف وقراءة القرآن أجزأه، وإن نوى ما يستحب له كغسل الجمعة ونحوه لم يجزئه لأنه لم ينو أمراً واجباً، ولو نوى الغسل للفروض أو فريضة الغسل أجزأه قطعاً قاله في الروضة انتهى. ولا بد أن تكون النية مقترنة بأول مغسول سواء كان من أسفل البدن أو أعلاه أو وسطه لأن بدن الجنب كله كعضو واحد، فلو نوى بعد غسل جزء منه وجبت إعادته لعدم الاعتداد به قبل النية، فوجوب قرنها بأوله إنما هو للاعتداد به لا لصحة النية لأنها قد صحت ولو لم يقرنها بأوله. ((1/61)
و) الثاني: (تعميم البدن) أي ظاهره (بالماء) ومنه الأنف والأنملة المتخذان من نحو ذهب فيجب غسله بدلاً عما تحته لأنه بالقطع صار من الظاهر والظفر يسمى بشرة هنا بخلافه في باب الناقض، ولا يجب غسل الشعر النابت في العين أو الأنف وإنما وجب غسله من النجاسة لغلظها، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الغرلة لأنه ظاهر حكماً وإن لم يظهر حساً لأنها مستحقة الإزالة، ومن ثم لو أزالها شخص فلا ضمان عليه، ولو لم يمكن غسل ما تحتها إلا بإزالتها وجبت فإن تعذرت صلى كفاقد الطهورين وهذا في الحي، وأما الميت فحيث لم يمكن غسل ما تحتها لا تزال لأن ذلك يعد ازدراء به ويدفن بلا صلاة على المعتمد عند الرملي، وقال ابن حجر: ييمم عما تحتها ويصلي عليه للضرورة، قال البيجوري: ولا بأس بتقليده في هذه المسألة ستراً على الميت، ويجب إيصال الماء إلى باطن الشعر ولو كثيفاً لكن يتسامح بباطن العقد التي لم يصل الماء إليها إذا تعقد الشعر نفسه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإن تعقد بفعل فاعل عفي عن القليل عرفاً ويعفى عن محل طبوع عسر زواله أو حصلت له مثلة أي عقوبة بإزالة ما عليه من الشعر، ولا يحتاج المتيمم عن محله ويجب نقض الضفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض.
((1/62)
تتمة) وسننه سبعة عشر: التسمية وغسل الأذى سواء كان طاهراً كمني ومخاط أو نجساً كودي ومذي وذلك إذا كانت النجاسة غير مغلظة وكانت حكمية أو عينية لكن تزول بغسلة واحدة، أما العينية التي لا تزول بذلك فإزالتها قبل الغسل شرط فلا يصح مع بقائها لحيلولتها بين العضو والماء، وأما المغلظة فغسلها بغير تتريب أو معه قبل استيفاء السبع لا يرفع الحدث والوضوء والتثليث والتخليل للشعر والأصابع بالماء قبل إفاضته والبداءة بالشق الأيمن وبأعلى بدنه والدلك وتوجه للقبلة وكونه بمحل لا يناله رشاش والستر في الخلوة وجعل الإناء الواسع عن يمينه والضيق عن يساره وترك الاستعانة إلا لعذر والشهادتان آخره والمضمضة والاستنشاق وهما سنتان مستقلتان غير اللتين في وضوئه وواجبتان عند أبي حنيفة، وكون ماء الغسل صاعاً إن كفاه وتعهد الصماخين وغضون الجلد.
(تذتيب) ومكروهات الغسل والوضوء أربعة: الإسراف في الماء وهو أخذ الماء زيادة عما يكفي العضو وإن لم يزد على الثلاث ولو بشط نهر، والزيادة على الثلاث إذا كانت متيقنة وكان الماء مملوكاً له أو مباحاً فإن كان موقوفاً حرم ولا يكره في الوضوء غسل الرأس وإن كان الأصل مسحه لأنه الكثير في أفعال الوضوء إذ تحصل به النظافة والنقص عنها ولو احتمالاً إلا لحاجة كبرد وفعل ذلك للجنب في ماء راكد، ولو كثيراً بلا عذر بأن يتوضأ أو يغتسل وهو واقف فيه إذا كان في غير المسجد وإلا حرم من حيث المكث فيه.
((1/63)
فصل): في شروط الطهارة (شروط الوضوء) وكذا الغسل (عشرة) الأول: (الإسلام) فلا يصح من كافر لأنه عبادة بدنية بغير ضرورة وليس هو من أهلها. (و) الثاني: (التمييز) فلا يصح وضوء غير المميز كطفل ومجنون لما ذكر. (و) الثالث: (النقاء) بفتح النون بالمد وماضيه نقي بكسر القاف ومضارعه ينقى بفتحها أي النظافة. (عن الحيض والنفاس و) الرابع: النقاء (عما يمنع وصول الماء إلى البشرة) كدهن جامد وشمع وعين حبر وحناء بخلاف أثرهما وشوكة لو أزيلت لم يلتئم محلها ودم وغبار على عضو لا عرق متجمد عليه ووسخ تحت الأظفار ورمض في العين وليس منه طبوع عسر زواله فيعفى عنه، وكذا قشرة الدمل بعد خروج ما فيها وإن سهلت إزالتها بل أولى من العرق لأنه جزء من البدن. (و) الخامس: (أن لا يكون على العضو ما يغير الماء) كزعفران وصندل. (و) السادس: (العلم بفرضيته) أي يكون كل من الوضوء والغسل فرضاً وهو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه لأن الجاهل بفرضيته غير متمكن من الجزم بالنية فلا تصح ممن جهل فرضيته. (و) السابع: (أن لا يعتقد فرضاً من فروضه) أي فروض كل منهما (سنة) سواء اعتقد أن أفعاله كلها فروض أو اعتقد أن فيه فرضاً وسنة وإن لم يميز أحدهما عن الآخر وهذا في حق العامي، أما العالم وهو من اشتغل بالفقه زمناً فلا بد فيه من تمييز فرائضه من سننه. (و) الثامن: (الماء الطهور) في ظن كل من المتوضىء والمغتسل واعتقاده وإن لم يكن طهوراً عند غيره كما لو اشتبه الطهور بالمتنجس من إناءين وقع في أحدهما لا بعينه نجاسة فظن كل شخص طهارة إنائه فتوضأ فطهارة كل منهما صحيحة فلا يصح الوضوء والغسل بمستعمل ومتغير تغيراً كثيراً. (و) التاسع: (دخول الوقت) أي في طهارة دائم الحدث كمستحاضة فلو تطهر قبل دخوله لم تصح لأنها طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت. ((1/64)
و) العاشر: (الموالاة) أي بين الأعضاء والموالاة بين أجزاء الوضوء الواحد (لدائم الحدث)وهذا القيد راجع لهاتين المسألتين كما علمت.
(فصل): في بيان الاحداث (نواقض الوضوء أربعة أشياء) أي أحد هذه الأشياء. (الأول: الخارج من أحد السبيلين من قبل أو دبر) هذا بيان للسبيلين أو من أي ثقب كان إذا كان أحدهما منسداً انسداداً خلقياً وكان الخارج من الثقبة مناسباً للمنسد كأن انسد القبل فخرج منها بول أو الدبر فخرج منها غائط، وكذا إذا كان غير مناسب لواحد منهما كالدم، وأما إن كان مناسباً للمنفتح فقط فلا نقض، وأما إن كان أحدهما منسداً انسداداً عارضاً فلا بد أن تكون الثقبة قريبة من المعدة، فإن كان في رجله أو نحوها لم ينقض الخارج منها (ريح) هذا بدل من قوله الخارج أي سواء خرج ذلك الريح من القبل أو الدبر. وسئل أبو هريرة رضي الله عنه عن الحدث فقال: فساء أو ضراط رواه البخاري، قال في المصباح: الفساء ريح يخرج بغير صوت يسمع. وقال الصاوي: فإن كان الريح الخارج من الدبر بلا صوت شديد سمي فسوة، وإن كان خفيفاً سمي فسية بالتصغير، وإن كان بصوت سمي ضراطاً اهـ. (أو غيره) أي سواء كان الخارج عيناً أو ريحاً طاهراً أو نجساً جافاً أو رطباً معتاداً كبول أو نادراً كدم انفصل أولا كدودة أخرجت رأسها وإن رجعت، وإذا ألقت المرأة جزء ولد فإنه ينتقض الوضوء، أما لو ألقت ولداً تاماً بلا بلل فلا ينتقض الوضوء وإن وجب الغسل. (إلا المني) أي الموجب للغسل فلا نقض به كأن أمني بمجرد نظره وهو التأمل برؤية العين لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوص كونه منياً فلا يوجب أدونهما وهو الوضوء بعموم كونه خارجاً. ((1/65)
الثاني: زوال العقل) أي التمييز الناشىء عنه (بنوم) أي في غير الأنبياء عليهم السلام وهو ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ فتغطي العين وتصل إلى القلب فإن لم تصل إليه كان نعاساً واسترخاء أعصاب الدماغ بسبب الأبخرة الصاعدة من المعدة، ودليل النقض بالنوم قوله صلى الله عليه وسلّم: "العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء فمن نام فليتوضأ" رواه أبو داود وابن ماجه. (أو غيره) كجنون وهو زوال الإدراك من القلب مع بقاء القوة والحركة في الأعضاء، أو صرع وهو داء يشبه الجنون وصاحبه غالباً يسيح على وجهه في الأرض، أو خبل وهو ذهاب العقل وفساده من الجنون، أوعته وهو نقص العقل من غير جنون أو ذهابه حياء أو خوفاً، أو سكر وهو فساد في العقل مع اضطراب واختلاط نطق أو مرض وهي حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، أو إغماء وهو زوال الإدارك من القلب مع انقطاع القوة والحركة في الأعضاء، وقيل هو امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ وقيل هو سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، والإغماء جائز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا نقض بإغمائهم لأنه مرض من غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة فقط دون القلب لأنه إذا حفظت قلوبهم من النوم الذي هو أخف من الإغماء كما ورد في حديث: "تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" فمن الإغماء أولى لشدة منافاته للتعلق بالرب سبحانه وتعالى وليس كالإغماء الذي يحصل لآحاد الناس ومثله الغشي في حقهم وأما في حقنا فهو تعطيل القوى المحركة والإرادة الحساسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط فينقض أيضاً ومما ينقض استغراق الأولياء بالذكر أو بالتفكر. (إلا نوم قاعد ممكن مقعده من الأرض) أي من مقره وهو متعلق بممكن أي ولو احتمالاً حتى لو تيقن النوم وشك هل كان متمكناً أو لا لم ينتقض وضوءه ولو زالت إحدى أليتي نائم متمكن عن مقره قبل انتباهه يقيناً انتقض وضوءه أو بعده أو معه أوشك في تقدمه فلا نقض. ((1/66)
الثالث: التقاء بشرتي رجل وامرأة كبيرين أجنبيين من غير حائل) وينتقض وضوء كل منهما من لذة أو لا عمداً أو سهواً أو كرهاً بعضو سليم أو أشل ولو كان الرجل هرماً أو ممسوحاً ولو كان أحدهما ميتاً لكن لا ينتقض وضوء الميت أو كان أحدهما من الجن، ولو كان على غير صورة الآدمي ككلب حيث تحققت الذكورة أو الأنوثة بخلاف ما لو تولد شخص بين آدمي وحيوان آخر غير جني فلا نقض بلمسه ولو على صورة الآدمي.(1/67)
وحاصله أن اللمس ناقض بشروط خمسة، أحدها: أن يكون بين مختلفي ذكورة وأنوثة.ثانيها: أن يكون بالبشرة دون الشعر والسن والظفر فلا نقض بشيء منها بخلاف العظم إذا كشط فإنه ينقض ولو اتخذت المرأة أو الرجل أصبعاً من ذهب أو فضة لم ينقض لمسها ولو سلخ جلد الرجل أو المرأة وحشي لم ينقض لمسه لأنه لا يسمى آدمياً، وكذا لو سلخ ذكر الرجل وحشي إذ لا يسمى ذكراً. ثالثها: أن يكون بدون حائل فلو كان بحائل ولو رقيقاً فلا نقض ومن الحائل ما لو كثر الوسخ المتجمد على البشرة من غبار بخلاف ما لو كان من العرق فإن لمسه ينقض لأنه صار كالجزء من البدن. رابعها: أن يبلغ كل منهما حد الكبر يقيناً وهو في حق الرجل من بلغ حداً تشتهيه فيه عرفاً ذوات الطباع السليمة من النساء كالسيدة نفيسة بنت الحسنبن زيد ابن سيدنا الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابن سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه وذلك بأن يميل قلب تلك النساء إليه، وفي المرأة من بلغت حداً يشتهيها فيه عرفاً ذوو الطباع السليمة من الرجال كالإمام الشافعي رضي الله عنه وذلك بأن ينتشر منهم الذكر فلو بلغ أحدهما حداً يشتهي ولم يبلغه الآخر فلا نقض.(1/68)
خامسها: عدم المحرمية ولو احتمالاً والمحرم من حرم نكاحها ويكون تحريمها على التأبيد بسبب مباح لا لاحترامها ولا لعارض يزول فاحترس بقولهم على التأبيد عن أخت الزوجة وعمتها وخالتها فإن تحريمهن من جهة الجمع فقط، وبقولهم بسبب مباح عن بنت الموطوأة يشبهه وأمها لأن وطء الشبهة لا يوصف بإباحة ولا تحريم، وعن الملاعنة لتحريم سبب حرمتها وهو الزنى، وبقولهم لا لاحترامها عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلّم فإن تحريمهن لاحترامهن فإنهن يحرمن على الأمم وعلى الأنبياء أيضاً لأنهم من أمته صلى الله عليه وسلّم ولو لم يدخل بهن بخلاف إمائه صلى الله عليه وسلّم فلا يحرمن على غيره إلا إن كن موطوآت له صلى الله عليه وسلّم، وأما زوجات بقية الأنبياء فيحرمن على الأمم خاصة لا على الأنبياء وبقولهم ولا لعارض يزول عن الموطوءة في نحو حيض والمجوسية والوثنية والمرتدة لأن تحريمهن لعارض يزول فيمكن أن تحل له من ذكر في وقت.
(تتمة) اعلم أن وطء الشبهة الذي لا يوصف بإباحة ولا تحريم هو شبهة الفاعل كأن يظن امرأة أجنبية زوجته فيطؤها وكوطء المكره بفتح الراء، وأما الوطء بشبهة المحل كوطء أمة ولده أو شريك الأمة المشتركة أو سيد مكاتبته أو بشبهة الطريق أي المذهب وهو أن يعقد عليها أي المرأة بجهة قالها عالم يعتد بخلافه كالحنفي ونحوه فإنه لا يوصف بحرمة، وسمي وطء أمة الولد بشبهة المحل لأن مال الولد كله محل لإعفاف أصله ومنه الجارية، فإعفاف الولد هو أن يهيىء للأصل مستمتعاً بالحليلة ويمونها، ومثال شبهة الطريق كالنكاح بلا شهود عند العقد عند مالك ويجب الإشهاد عنده قبل الدخول وبلا ولي عند أبي حنيفة وبلا ولي وشهود كما هو مذهب داود الظاهري كأن زوجته نفسها فلا حد على الواطىء في ذلك وإن لم يقصد تقليدهم وإن اعتقد التحريم، وقد نظم بعضهم الشبهات الثلاثة في قوله:
اللذ أباح البعض حله فلا >< حد به وللطريق استعملا(1/69)
وشبهة لفاعل كأن أتى >< لحرمة يظن حلاً مثبتا
ذات اشتراك ألحقن وسمِّيَن >< هذا الأخير بالمحل فاعلمن
(الرابع: مس قبل الآدمي) ولو سهواً ولو مباناً حيث سمي فرجاً ولو أشل ولو صغيراً أو ميتاً من نفسه أو غيره وهو في الرجل جميع نفس القضيب أو محل قطعه لا ما تنبت عليه العانة والبيضتان وما بين القبل والدبر، وفي المرأة شفراها الملتقيان وهما حرفا الفرج المحيطان به كإحاطة الشفتين بالفم أو الخاتم بالأصبع لا ما فوقهما مما ينبت عليه الشعر وخرج بالشفرين الملتقيين ما بعدهما، فلو وضعت أصبعها داخل فرجها لم ينتقض وضوءها وإن نقض خروجه ومن ذلك البظر بفتح الباء وهو لحمة بأعلى الفرج والقلفة حال اتصالهما فإن قطعا فلا نقض بهما، والتقييد بالآدمي يخرج البهيمة، وأما الجني فهو كالآدمي بناء على حل مناكحتنا لهم (أو حلقة دبره) وهو المنفذ المتلقى كفم الكيس لا ما فوقه وما تحته (ببطن الراحة أو بطون الأصابع) وهي ما يستتر عند وضع إحدى الراحتين على الأخرى مع تحامل يسير في غير الإبهامين، أما هما فيضع باطن إحداهما على باطن الأخرى فينتقض وضوء الماس دون الممسوس بخلاف اللمس فإنه ينتقض وضوء كل من اللامس والملموس. والحاصل أن المس يفارق اللمس في ثمان صور: أحدها: أن النقض في المس خاص بصاحب الكف فقط. ثانيها: أنه لا يشترط في المس اختلاف النوع ذكورة وأنوثة. ثالثها: أن المس قد يكون في الشخص الواحد فيحصل بمس فرج نفسه. رابعها: أن لا يكون إلا بباطن الكف. خامسها: أنه يكون في المحرم وغيره سادسها: أن مس الفرج المبان ينقض وإن لمس العضو المبان من المرأة لا ينقض. سابعها: اختصاص المس بالفرج. ثامنها: لا يشترط الكبر في المس دون اللمس.
((1/70)
فصل): في بيان ما يحرم بالحدث الأصغر والمتوسط والأكبر (من انتقض وضوءه حرم عليه أربعة أشياء) أحدها: (الصلاة) ولو نفلاً وصلاة جنازة لخبر الصحيحين: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" أي لا يقبل الله صلاة أحدكم حين حدثه إلى أن يتوضأ فيقبل صلاته إلا على فاقد الطهورين فيصلي الفرض دون النفل لحرمة الوقت ويقضي إذا قدر على أحدهما، وفي معنى الصلاة خطبة الجمعة وسجدة التلاوة والشكر. (و) ثانيها: (الطواف) فرضاً أو نفلاً كطواف القدوم لخبر الحاكم: الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله أحل فيه النطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير. (و) ثالثها: (مس المصحف) وهو كل ما كتب عليه قرآن لدراسة ولو عموداً أو لوحاً أو جلداً أو قرطاساً وخرج بذلك التميمة وهي ما يكتب فيها شيء من القرآن للتبرك وتعلق على الرأس مثلاً فلا يحرم مسها ولا حملها ما لم تسم مصحفاً عرفاً، فإذا كتب القرآن كله لا يقال له تميمة ولو صغر وإن قصد ذلك فلا عبرة لقصده، قال ابن حجر: والعبرة في قصد الدراسة والتبرك بحال الكتابة دون ما بعدها وبالكاتب لنفسه أو غيره تبرعاً أي بلا أجرة ولا أمر وإلا فآمره أو مستأجره. قال النووي في التبيان: وسواء مس نفس المصحف المكتوب أو الحواشي أو الجلد، ويحرم مس الخريطة والغلاف والصندوق إذا كان فيهن المصحف هذا هو المذهب المختار، وقيل لا تحرم هذه الثلاثة وهو ضعيف، ولو كتب القرآن، في لوح فحكمه حكم المصحف سواء قل المكتوب أو كثر حتى لو كان بعض آية كتب للدراسة حرم. وقال أيضاً: وفي المصحف ثلاثة لغات ضم الميم وفتحها وكسرها فالضم والكسر مشهوران والفتح ذكرها أبو حفص النحاس وغيره. قال الشبراملسي: وظاهر أن مسه مع الحدث ليس كبيرة بخلاف الصلاة ونحوها كالطواف وسجدتي التلاوة والشكر فإنها كبيرة. ((1/71)
و) رابعها: (حمله) إلا في متاع فيحل حمله معه تبعاً له إذا لم يكن مقصوداً بالحمل وحده بأن لم يقصد شيئاً أو قصد المتاع وحده، وكذا إذا قصده مع المتاع على المعتمد بخلاف ما إذا قصده وحده أو قصد واحداً لا بعينه فإنه يحرم، ولا يشترط كون المتاع ظرفاً له، ومحل جواز الحمل فيما ذكر حيث لم يعد ماساً له بأن غرز فيه شيئاً، وحمله إذ مسه حرام ولو بحائل ولو بلا قصد، قال النووي في التبيان: أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه. قال أصحابنا وغيرهم: ولو ألقاه مسلم في القاذورة والعياذ بالله تعالى صار الملقى كافراً قالوا: ويحرم توسده بل توسد آحاد كتب العلم حرام، ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار فالمصحف أولى.
((1/72)
ويحرم على الجنب) أي المحدث حدثاً أوسط (ستة أشياء) أحدها: (الصلاة) للحديث لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول والغلول بضم الغين المعجمة الحرام قال النووي: أما إذا لم يجد الجنب ماء ولا تراباً فإنه يصلي لحرمة الوقت على حسب حاله، ويحرم عليه القراءة خارج الصلاة، ويحرم عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على فاتحة الكتاب، وهل يحرم قراءة الفاتحة؟ فيه وجهان الصحيح المختار أنه لا يحرم بل يجب فإن الصلاة لا تصح إلا بها، وكما جازت الصلاة للضرورة مع الجنابة تجوز القراءة. والثاني لا يجوز بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها العاجز الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن لأن هذا عاجز شرعاً، فصار كالعاجز حساً والصواب الأول اهـ. (و) ثانيها: (الطواف) لخبر الحاكم: "الطواف بالبيت صلاة" أي كالصلاة في الستر والطهارة. (و) ثالثها: (مس المصحف) قال النووي: إذا كتب الجنب أو المحدث مصحفاً إن كان يحمل الورقة ويمسها حال الكتابة فهو حرام، وإن لم يحملها ولم يمسها ففيه ثلاثة أوجه الصحيح جوازه والثاني تحريمه والثالث يجوز للمحدث ويحرم على الجنب. (و) رابعها. (حمله) لأنه أعظم من المس فهو حرام بالقياس الأولوي، قال النووي: سواء حمله بغلافه أو بغيره انتهى. ويجوز حمل حامل المصحف ولا يجري فيه تفصيل المتاع لأنه لا يعد حاملاً للمصحف ولو قصده فلا عبرة بقصده ولو حمل مصحفاً مع كتاب في جلد واحد فحكمه حكم المصحف مع المتاع في التفصيل المار بالنسبة للحمل، أما المس فيحرم مس الجلد المسامت للمصحف دون ما عداه، وإنما حرم مس جلد المصحف مع أنه حائل والمس من ورائه لا يؤثر كما في عدم نقض الوضوء بالمس من وراء حائل لأن حرمة المس هنا تعظيم للمصحف فحرم من وراء حائل مبالغة فيه والنقض في الوضوء بالمس لما فيه من إثارة الشهوة المفقود ذلك مع الحائل.(1/73)
ولا يجب منع صبي مميز ولو جنباً من حمل مصحفه ومسه لحاجة تعلمه ومشقة استمراره متطهراً فمحل ذلك إن كان للدراسة قال الشبراملسي بخلاف تمكينه من الصلاة والطواف أو نحوهما مع الحدث انتهى. ويحرم تمكين غير المميز من نحو مصحف ولو بعض آية لما فيه من الإهانة.
[فائدة] قال النووي في التبيان: لا يمنع الكافر عن سماع القرآن لقوله عز وجل: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} ((9) التوبة: 6) ويمنع من مس المصحف، وهل يجوز تعليمه القرآن؟ قال أصحابنا: إن كان لا يرجى إسلامه لم يجز تعليمه وإن رجي إسلامه ففيه وجهان أصحهما يجوز رجاء لإسلامه والثاني لا يجوز كما لا يجوز بيع المصحف منه وإن رجى، وأما إذا رأيناه يتعلم فهل يمنع فيه وجهان انتهى. (و) خامسها. ((1/74)
اللبث) بضم اللام وفتحها مصدر لبث من باب سمع أي لبث مسلم بالغ غير نبي (في المسجد) وهو ما وقف للصلاة ولو كان اللبث بقدر الطمأنينة لا عبوره وهو الدخول من باب والخروج من آخر، بخلاف ما إذا لم يكن له إلا باب واحد فيمتنع الدخول أما التردد فإنه حرام كالمكث قال تعالى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} ((4) النساء: 43) أي لا تقربوا موضع الصلاة حال كونكم سكارى ولا في حال كونكم جنباً، نعم يجوز لبثه فيه لضرورة كأن نام فيه فاحتلم وتعذر خروجه لخوف من عسس ونحوه، لكن يلزمه التيمم إن وجد غير تراب المسجد، أما ترابه وهو الداخل في وقفيته كأن كان المسجد ترابياً فيحرم التيمم به ويصح، والعسس هو الحاكم الذي يطوف بالليل، ولو جامع زوجته فيه وهما ماران لم يحرم، أما لو مكثا فيه لعذر فإنه يمتنع مجامعتها حينئذٍ، ومن المسجد سطحه ورحبته وروشنه وجداره وسرداب تحت أرضه وخرج بالمسجد مصلى العيد والمدارس وهي المواضع التي يدرس فيها الشيخ مع الطلبة والرباط وهو البيت الذي يبنى للفقراء وللطلبة أو هو معبد الصوفية أو هو الثغور أي المواضع التي يخاف منها هجوم العدو، وأما الصبي فيجوز لوليه تمكينه من المكث كالقراءة، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فيحل مكثه بالمسجد جنباً وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلّم لأن احتياجه للمسجد أكثر لنشر السنة فجوز له ذلك لكنه لم يقع منه ولأن ذاته أعظم من ذات المسجد، وأما الكافر فلا يمنع من المكث في المسجد جنباً لأنه لا يعتقد حرمته وإن حرم عليه لأنه مخاطب بفروع الشريعة، ولا يجوز له دخول المسجد ولو غير جنب إلا بإذن مسلم بالغ مع الحاجة ومنها جلوس القاضي أو المفتي فيه أو عمارته. ((1/75)
و) سادسها: (قراءة القرآن) وشرط في حرمتها سبعة شروط: الأول كون القراءة باللفظ ومثله إشارة الأخرس المفهمة لأن إشارته معتد بها إلا في ثلاثة أبواب الصلاة فلا تبطل بها، والحنث فإذا حلف وهو ناطق أن لا يتكلم ثم خرس وأشار بالكلام لم يحنث والشهادة فإذا أشار بها لا تقبل، وإشارة الناطق غير معتد بها إلا في ثلاثة أبواب: أمان الكافر والإفتاء كأن قيل له أتتوضأ بهذا الماء؟ فأشار أن نعم أو لا، ورواية الحديث كأن قيل له: نروي عنك هذا الحديث؟ فأشار أن نعم أو لا وخرج باللفظ ما إذا أجرى القراءة على قلبه. الثاني: كون القارىء مسمعاً بها نفسه وخرج ما إذا تلفظ ولم يسمع نفسه حيث اعتدل سمعه ولا مانع. الثالث: كونه مسلماً فخرج الكافر فلا يمنع من القراءة لعدم اعتقاده الحرمة وإن عوقب عليها. الرابع: كونه مكلفاً فخرج الصبي والمجنون. الخامس: كون ما أتى به قرآناً حيث قال قراءة القرآن فخرج التوراة والإنجيل ومنسوخ التلاوة ولو بقي حكمه كآية الرجم وهم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً عن الله والله عزيز حكيم. والسادس: القصد للقراءة وحدها أو مع الذكر والقصد لواحد لا بعينه، فإن قرأ آية للاحتجاج بها حرم وإن قصد الذكر أو أطلق كأن جرى القرآن على لسانه من غير قصد لواحد منهما فلا يحرم فإنه لا يسمى قرآناً عند الصارف إلا بالقصد، وأما عند عدم الصارف فيسمى قرآناً ولو بلا قصد. السابع: أن تكون القراءة نفلاً بخلاف ما إذا كانت واجبة سواء داخل الصلاة كفاقد الطهورين فلا فرق بين أن يقصد القراءة وأن يطلق مثلاً فتكون قرآناً عند الإطلاق لوجوب الصلاة عليه فلا يعتبر المانع وهو الجنابة أو خارجها كأن نذر أن يقرأ سورة يس مثلاً في وقت كذا فكان في ذلك الوقت جنباً فاقداً الطهورين فإنه يقرؤها وجوباً للضرورة لكن بقصد القرآن لا مطلقاً ولا حرمة عليه فليس ذلك كالفاتحة من كل وجه.
((1/76)
ويحرم بالحيض) ومثله النفاس (عشرة أشياء) أحدها: (الصلاة) أي من العامدة العالمة ولا تصح مطلقاً أي ولو مع الجهل أو النسيان ولا يلزمها قضاؤها فلو قضتها كره وتنعقد نفلاً مطلقاً لا ثواب فيه على المعتمد وفارقت الصوم حيث يجب قضاؤه لأن الصلاة تتكرر كثيراً فيشق قضاؤها، ولا كذلك الصوم فلا يشق قضاؤه ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (و) ثانيها: (الطواف) سواء كان في ضمن نسك أم لا لأنه لا يكون إلا في المسجد. فإن قلت: إذا كان دخول المسجد حراماً فالطواف أولى فما الحاجة إلى ذكره؟ قلت: لئلا يتوهم أنه لما جاز لها الوقوف مع أنه أقوى أركان الحج فلأن يجوز لها الطواف أولى. (و) ثالثها: (مس المصحف) حتى حواشيه وما بين سطوره والورق البياض بينه وبين جلده في أوله وآخره المتصل به، ويحرم المس ولو بحائل ولو كان ثخيناً حيث يعد ما ساله عرفاً لأنه يخل بالتعظيم والمراد مسه بأي جزء لا بباطن الكف فقط، قال النووي: إذا مس المحدث أو الجنب أو الحائض أو حمل كتاباً من كتب الفقه أو غيره من العلوم وفيه آية من القرآن أو ثوباً مطرزاً بالقرآن أو دراهم أو دنانير منقوشة به أو مس الجدار أو الحلو أو الخبز المنقوش فيه فالمذهب الصحيح جواز هذا كله لأنه ليس بمصحف وفيه وجه أنه حرام. وقال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه الحاوي: يجوز مس الثياب المطرزة بالقرآن ولا يجوز لبسها بلا خلاف لأن المقصود بلبسها التبرك بالقرآن، وهذا الذي قاله ضعيف لم يوافقه أحد عليه فيما رأيته بل جزم الشيخ أبو محمد الجويني وغيره بجواز لبسها وهذا هو الصواب والله أعلم.(1/77)
وأما كتب التفسير والفقه فإن كان القرآن فيها أكثر من غيره حرم مسها وحملها وإن كان غيره أكثر كما هو الغالب ففيه ثلاثة أوجه أصحها لا يحرم والثاني يحرم والثالث إذا كان القرآن بخط متميز بلفظ أي باجتماع أو حمرة ونحوها حرم وإن لم يتميز لم يحرم، قال صاحب التتمة من أصحابنا: إذا قلنا لا يحرم فهو مكروه. وأما كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإن لم يكن فيها آيات من القرآن فلا يحرم مسها والأولى أن تمس على طهارة وإن كان فيها آيات فلا يحرم على المذهب بل يكره، وفيه وجه أنه يحرم وهو الوجه الذي في كتب الفقه، وأما المنسوخ تلاوته كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وما أشبه ذلك فلا يحرم مسه ولا حمله قال أصحابنا: وكذلك التوراة والإنجيل انتهى كلام النووي. (و) رابعها: (حمله) ولو وضع يده على قرآن وتفسير فهو كالحمل في التفصيل بين كون التفسير الذي تحت يده أكثر أو لا، قال النووي: إذا تصفح المحدث أو الجنب أو الحائض أوراق المصحف بعود وشبهه ففي جوازه وجهان لأصحابنا أظهرهما جوازه، وبه قطع العراقيون من أصحابنا لأنه غير ماسَ ولا حامل. والثاني وهو اختيار الرافعي تحريمه لأنه يعد حاملاً للورقة والورقة كالجميع فأما إذا لف كمه على يده وقلب الورقة فحرام بلا خلاف، وغلط بعض أصحابنا فحكى فيه وجهين والصواب القطع بالتحريم لأن القلب يقع باليد لا بالكم انتهى. قال الشرقاوي: فمحل جواز قلب الورقة بالعود إذا لم يلزم عليه حمل لها بأن يتحامل عليها بالعود فتنفصل عن صاحبتها أو تكون قائمة فيخفضها به وليس المراد أنه يدخل العود بين الورق ويفصل بعضه من بعض لأن ذلك حمل. (و) خامسها (اللبث) أي الإقامة (في المسجد) ومثله التردد لقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب" رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها.(1/78)
ودخل في المسجد هواؤه وما اتصل به من نحو روشن وغصن شجرة أصلها خارج لا عكسه ورحبته لا حريمه، فرحبة المسجد هي الساحة المنبسطة والحريم ما حوله من المرفق بكسر الميم وفتح الفاء لا غير أي كالمطبخ ونحوه.
[فائدة] لا بأس بالنوم في المسجد لغير الجنب ولو لغير أعزب وهو من لم يكن عنده أهل فقد ثبت أن أصحاب الصفة وهم زهاد من الصحابة فقراء غرباء كانوا ينامون فيه في زمنه صلى الله عليه وسلّم، نعم يحرم النوم فيه إذا ضيق على المصلين ويجب حينئذٍ تنبيهه، ويندب تنبيه من نام في نحو الصف الأول أو أمام المصلين، ولا ينبغي التصدق في المسجد ويلزم من رآه الإنكار عليه ومنعه إن قدر، ويكره السؤال فيه بل يحرم إن شوش على المصلين أو مشى أمام الصفوف أو تخطى رقابهم، وأما إعطاء السائل فيه فيندب ويحرم الرقص فيه ولو لغير شابة ويحرم النط فيه ولو بالذكر لما فيه من تقطيع حصره وإيذاء غيره. والنط: الوثب وهو نقل الرجل من محل إلى محل آخر مرة بعد أخرى، والحصر بضم الحاء والصاد جمع حصير وهو البارية الخشنة. (و) سادسها: (قراءة القرآن) قال النووي في التبيان: سواء كان آية أو أقل منها ويجوز للجنب والحائض إجراء القرآن على قلبهما من غير تلفظ به ويجوز لهما النظر في المصحف وإمراره على القلب، وأجمع المسلمون على جواز التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وغير ذلك من الأذكار للجنب والحائض، قال أصحابنا: وكذا إذا قالا لإنسان: خذ الكتاب بقوة وقصد به غير القرآن فهو جائز وكذا ما أشبهه، قالوا: ويجوز لهما أن يقولا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون إذا لم يقصد القرآن، وقال أصحابنا الخراسانيون: ويجوز أن يقول عند ركوب الدابة سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} ((43 )الزخرف:13) أي مطيقين وعند الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ((2) البقرة:201) إذا لم يقصد به القرآن.(1/79)
قال إمام الحرمين: وإن قال الجنب: بسم الله والحمد لله فإن قصد القرآن عصى وإن قصد الذكر أو لم يقصد شيئاً لم يأثم، ويجوز لهما قراءة ما نسخت تلاوته كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله. انتهى قول النووي رضي الله عنه. (و) سابعها: (الصوم) فمتى نوت الصوم حرم عليها، وأما إذا لم تنو ومنعت نفسها الطعام والشراب فلا يحرم عليها لأنه لا يسمى صوماً والأوجه أنه لم يجب عليها أصلاً، ووجوب القضاء إنما هو بأمر جديد وقيل وجب عليها ثم سقط. (و) ثامنها: (الطلاق) وهو من الكبائر إلا في سبع صور: فلا يحرم طلاقها فيها الأول إذا قال: أنت طالق في آخر جزء من حيضك أو مع آخره أو عنده، ومثل ذلك ما لو تم لفظ الطلاق في آخر الحيض لاستعقاب ذلك الطلاق الشروع في العدة. الثاني: أن تكون المطلقة في ذلك غير مدخول بها لعدم العدة بخلاف المتوفى عنها زوجها قبل الدخول فتجب عليها العدة. الثالث: أن تكون حاملاً منه لاستعقاب ذلك الطلاق الشروع في العدة. الرابع: أن يكون الطلاق يعوض منها إذا كانت حائلاً لأن إعطاءها المال يشعر بالحاجة إلى الطلاق، وخرج بالعوض منها ما لو طلقها بسؤالها بلا عوض أو بعوض من غيرها فيحرم. والخامس: أن يكون الطلاق في إيلاء بمطالبتها الطلاق في حال الحيض بعد مطالبتها بالوطء من الزوج في حال الطهر فيمتنع منه لأن حاجتها شديدة إلى الطلاق. السادس: ما إذا طلقها الحكم في شقاق وقع بينها وبين زوجها لحاجتها الشديدة إليه. السابع: ما لو قال السيد لأمته.(1/80)
إن طلقك الزوج اليوم فأنت حرة فعلم الزوج ذلك التعليق وعدم رجوع السيد فطلقها أو سألته ذلك فلا يحرم طلاقها للخلاص من الرق إذ دوامه أضر بها من تطويل العدة وقد لا يسمح به السيد بعد ذلك أو يموت فيدوم أسرها، والحكمة في تحريم الطلاق بالحيض تضررها بطول مدة التربص لأن بقية الحيض لا تحسب من العدة قال الله تعالى: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} ((65) الطلاق:1) أي إذا أردتم طلاق الأزواج الموطوآت اللاتي يعتددن بالأقراء فطلقوهن في أول الوقت الذي يشرعن فيه في العدة بأن يكون الطلاق في طهر لم تجامع فيه، والمراد بوقت شروعهن ما يشمل وقت تلبسهن بها، فلو طلقت في عدة طلاق رجعي فلا حرمة لتلبسها بالعدة. (و) تاسعها: (المرور) أي مجرد العبور (في المسجد) لغلظ حدثها وبهذا فارقت الجنب حيث لم يحرم في حقه مجرد العبور (إن خافت تلويثه) بالثاء المثلثة أي تلطيخه بالدم صيانة للمسجد فإن أمنته كان لها العبور لكن مع الكراهة عند انتفاء حاجة عبورها بخلاف الجنب فإن العبور في حقه بلا حاجة خلاف الأولى، فإن كان لها غرض صحيح كقرب طريق فلا كراهة ولا خلاف الأولى، وخرج بالمسجد المدرسة والربط، بضم الراء والباء جمع رباط ككتب جمع كتاب ومصلى العيد وملك الغير فلا يحرم عبورها إلا عند تحقق التلويث أو ظنه لا عند توهمه، والفرق أن حرمة المسجد ذاتية وحرمة هذه عرضية.(1/81)
وكالحائض فيما ذكر من له حدث دائم كمستحاضة وسلس بول أو مذي ومن به جراحة نضاحة بالدم، فإذا خيف التلويث بشيء من ذلك حرم العبور وإلا كره إلا لحاجة، وكذا سائر النجاسات الملوثة ولو في نعل أو ثوب فلا يجوز إدخال النجاسة على نحو النعل إلا بشرطين أن يأمن التلويث وأن يكون لحاجة كخوف الضياع (و) عاشرها: (الاستمتاع) أي المباشرة سواء كان بشهوة أم لا (بما بين السرة والركبة) بوطء سواء كانت بحائل أم لا وبغيره حيث لا حائل، ولا بد أن تكون المباشرة بما ينقض مسه الوضوء ليخرج السن والشعر فلا تحرم المباشرة به، والحاصل أن بدن المرأة حال الحيض بالنسبة إلى الاستمتاع والمباشرة على قسمين: أحدهما ما بين السرة والركبة فيحرم على الرجل المباشرة فيه مطلقاً سواء كانت بوطء أو بلمس إذا كانت تحت الثياب بخلاف الاستمتاع بغيرهما كنظر بشهوة فإنه لا يحرم، وأما المباشرة فوقهما إن كانت بوطء فيحرم أيضاً وأما بغيره فلا وثانيهما ما عدا ما بين السرة والركبة فلا يحرم مطلقاً ويحرم على المرأة وهي حائض أن تباشر الرجل بما بين سرتها وركبتها في أي جزء من بدنه ولو غير ما بين سرته وركبته لأن ما منع من مسه يمنعها أن تمسه به، ومما يحرم على الحائض الطهارة للحدث بقصد التعبد مع علمها بالحرمة لتلاعبها فإن كان المقصود النظافة كأغسال الحج لم يمتنع ولا يحرم على الحائض والنفساء حضور المحتضر على المعتمد خلافاً لما في العباب والروض، وعلله بتضرره بامتناع ملائكة الرحمة من الحضور عنده بسببهما، كذا ذكره السويفي نقلاً عن الرملي.
((1/82)
فصل): في بيان العجز عن استعمال الماء (أسباب التيمم) أي جوازه (ثلاثة) أحدها: (فقد الماء) في السفر أو في الحضر. وللمسافر أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يتيقن عدم الماء حوله بأن يكون في بعض رمال البوادي فيتيمم ولا يحتاج إلى طلب الماء لأنه والحالة هذه عبث.الحالة الثانية: أن يجوز وجود الماء حوله تجويزاً قريباً أو بعيداً فهذا يجب عليه الطلب بلا خلاف، ويشترط كونه بعد دخول الوقت لأن التيمم طهارة ضرورة ولا ضرورة مع إمكان الطهارة بالماء قبل دخول الوقت ولا يكفيه الطلب من لم يأذن له بلا خلاف، وكيفية الطلب أن يفتش رحله أي مسكنه لاحتمال أن يكون في رحله ماء وهو لا يشعر فإن لم يجد نظر يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، إن استوى موضعه وخص موضع الخضرة واجتماع الطير بمزيد احتياط، وإن لم يستو الموضع ففيه تفصيل إن خاف على نفسه أو ماله وإن قل أو اختصاصه كجلد ميتة أو انقطاعه عن رفقة أو خروج وقت لو تردد لم يجب التردد لأن هذا الخوف يبيح له التيمم عند تيقن الماء فعند التوهم أولى، وإن لم يخف وجب عليه التردد إلى حد يلحقه غوث الرفاق مع ما هم عليه من التشاغل بشغلهم والتفاوض في أقوالهم، ويختلف ذلك باستواء الأرض واختلافها صعوداً وهبوطاً، فإن كان معه رفقة وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع الصلاة على الراجح وقيل يستوعبهم ولو خرج الوقت، ولا يجب أن يطلب من كل واحد من الرفقة بعينه بل يكفي أن ينادي فيهم من معه ماء يجود به أو بثمنه ويجب أن يجمع بينهما ولو بعث النازلون ثقة يطلب لهم كفاهم كلهم. الحالة الثالثة: أن يتيقن وجود الماء حواليه وهذا له ثلاث مراتب.(1/83)
المرتبة الأولى: أن يكون الماء على مسافة ينتشر إليها النازلون للحطب والحشيش والرعي فيجب السعي إلى الماء، ولا يجوز التيمم إلا إن خاف على ما مر غير اختصاص وما يجب بذله في تحصيل الماء ثمناً وأجرة، قال محمدبن يحيى: لعله يقرب من نصف فرسخ وهذه المسافة فوق المسافة عند التوهم. المرتبة الثانية: أن يكون بعيداً بحيث لو سعى إليه خرج الوقت فهذا يتيمم على المذهب لأنه فاقد للماء في الحال، ولو وجب انتظار الماء مع خروج الوقت لما ساغ التيمم أصلاً بخلاف ما لو كان الماء معه وخاف فوت الوقت لو توضأ فإنه لا يجوز له التيمم على المذهب لأنه ليس فاقداً للماء في الحال. المرتبة الثالثة: أن يكون الماء بين المرتبتين بأن تزيد مسافته على ما ينتشر إليه النازلون وتقصر عن خروج الوقت وفي ذلك خلاف منتشر، والمذهب جواز التيمم لأنه فاقد للماء في الحال وفي السعي زيادة مشقة. الحالة الرابعة: أن يكون الماء حاضراً لكن تقع عليه زحمة المسافرين بأن يكون في بئرٍ ولا يمكن الوصول إليه إلا بآلة وليس هناك إلا آلة واحدة أو لأن موقف الاستقاء لا يسع إلا واحداً وفي ذلك خلاف، والراجح أنه يتيمم للعجز الحسي ولا إعادة عليه على المذهب، ومن أسباب الإباحة أيضاً إذا كان بقربه ماء ويخاف لو سعى إليه على نفسه من سبع أو عدو عند الماء أو يخاف على ماله الذي معه أو المخلف في رحله من غاصب أو سارق أو كان في سفينة لو استقى لاستلقى في البحر فله التيمم في ذلك كله، ولو خاف الانقطاع عن الرفقة إن كان عليه ضرر لو قصد الماء فله التيمم قطعاً وإن لم يكن عليه ضرر فخلاف والراجح أن له أن يتيمم للوحشة.
((1/84)
و) السبب الثاني: (المرض) وهو ثلاثة أقسام، الأول: أن يخاف معه بالوضوء فوت الروح أو فوت عضو أو فوت منفعة العضو. ويلحق بذلك ما إذا كان به مرض مخوف إلا أنه يخاف من استعمال الماء أن يصير مرضاً مخوفاً فيباح له التيمم. الثاني: أن يخاف زيادة العلة وهي كثرة الألم وإن لم تزد المدة أو يخاف طول مدة البرء وإن لم يزد الألم أو يخاف شدة الضنى وهو المرض الملازم المقرب إلى الموت أو يخاف حصول شين قبيح كالسواد على عضو ظاهر كالوجه وغيره مما يبدو غالباً عند المهنة وهي بفتح الميم وكسرها مع كسر الهاء وسكونها ومعناها الخدمة، وفي جميع هذه الصور خلاف منتشر والراجح جواز التيمم، وعلة الشين الفاحش أنه يشوه الخلقة ويدوم ضرره فأشبه تلف العضو. الثالث: أن يخاف شيناً يسيراً كأثر الجدري أو سواداً قليلاً أو يخاف شيناً قبيحاً على غير الأعضاء الظاهرة أو يكون به مرض لا يخاف من استعمال الماء معه محذوراً في العاقبة وإن تألم في الحال لجراحة أو برد أو حر فلا يجوز التيمم لشيء من هذا بلا خلاف.
[فرع] للمريض أن يعتمد في ذلك قول الطبيب العدل في الرواية ويعمل بمعرفة نفسه حيث كان عالماً بالطب ولا يعمل بتجربة نفسه على المعتمد لاختلاف المزاج باختلاف الأزمنة ومحل ذلك في الحضر، أما لو كان ببرية لا يجد بها طبيباً فإنه يجوز له التيمم حيث ظن حصول ما ذكر ولكن تجب عليه الإعادة وظنه ذلك مع فقد الطبيب مجوز للتيمم لا مسقط للصلاة.
((1/85)
و) السبب الثالث: (الاحتياج إليه) أي إلى الماء (لعطش حيوان محترم) وهو ما يحرم قتله قاله النووي في الإيضاح، ولو وجده وهو محتاج إليه لعطشه أو عطش رفيقه أو دابته أو حيوان محترم تيمم ولم يتوضأ سواء في ذلك العطش في يومه أو فيما بعده قبل وصوله إلى ماء آخر، قال أصحابنا: ويحرم عليه الوضوء في هذا الحال لأن حرمة النفس آكد ولا بدل للشرب وللوضوء بدل وهو التيمم والغسل عن الجنابة وعن الحيض وغيرهما كالوضوء فيما ذكرناه وسواء كان المحتاج للعطش رفيقه المخالط له أو واحداً من القافلة وهو المسافر، والركب بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب كصحب جمع صاحب ولو امتنع صاحب الماء من بذله وهو غير محتاج إليه لعطش وهناك مضطر إليه للعطش حالاً وإن احتاجه المالك مآلاً كان للمضطر أخذه قهراً أي وعليه قيمته وله أن يقاتله عليه فإن قتل أحدهما كان صاحب الماء مهدر الدم لا قصاص فيه ولادية ولا كفارة لكونه ظالماً يمنعه منه، وكان المضطر مضموناً بالقصاص أو الدية أو الكفارة لكونه مقتولاً بغير حق، ولو احتاج صاحب الماء إليه لعطش نفسه كان المالك مقدماً على غيره، ولو احتاج الأجنبي للوضوء وكان المالك مستغنياً عنه لم يلزمه بذله لطهارته، ولا يجوز للأجنبي أخذه قهراً لأنه يمكنه التيمم.
((1/86)
واعلم) أنه مهما احتاج إليه لعطش نفسه حالاً أو مآلاً أو رقيقه أو حيوان محترم وإن لم يكن معه ولو في ثاني الحال قبل وصولهم إلى ماء آخر فله التيمم وجوباً ويصلي ولا يعيد لفقد الماء شرعاً ولو لم يجد الماء أو وجده يباع بثمن مثله وهو واجد الثمن فاضلاً، عما يحتاج إليه في سفره ذاهباً وراجعاً لزمه شراؤه، وإن كان يباع بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه شراؤه لأن للماء بدلاً سواء قلت الزيادة أم كثرت، لكن يستحب شراؤه وثمن المثل هو قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة. انتهى قول النووي ملخصاً. ومثل احتياجه للماء احتياجه لثمنه في مؤنة ممونه من نفسه وعياله. قال الحصني: ولو مات رجل وله ماء ورفقته عطاش شربوه ويمموه ووجب عليهم ثمنه وجعله في ميراثه وثمنه قيمته في موضع الإتلاف في وقته اهـ. قال البيجوري: والعطش المبيح للتيمم يعتبر فيه قول الطبيب العدل وله أن يعمل فيه بمعرفته اهـ تكميل. (غير المحترم) وهو ما لا يحرم قتله (ستة) من الأشياء أحدها: (تارك الصلاة) أي بعد أمر الإمام والاستتابة ندباً وقيل وجوباً، وعلى ندب الاستتابة لا يضمن من قتله قبل التوبة لكنه يأثم.
(و) ثانيها: (الزاني المحصن) بفتح الصاد على غير قياس وشرائط الإحصان أربع: البلوغ والعقل والحرية ووجود الوطء في نكاح صحيح، قال الشافعي: إذا أصاب الحر البالغ امرأته أو أصيبت الحرة البالغة بنكاح فهو إحصان في الإسلام والشرك.
[(1/87)
فرع] قال الشرقاوي: والمعتمد أن غير المحترم من الآدمي فيه تفصيل إن كان قادراً على التوبة كتارك الصلاة والمرتد لم يجز له شرب ماء وإن احتاجه في إنقاذ روحه من العطش لتعينه للطهر مع قدرته على الخروج من المعصية، وإن لم يقدر عليها كالزاني المحصن جاز له التيمم وشرب الماء للعطش قرره شيخنا الخفي. (و) ثالثها: (المرتد) وهو من قطع ممن يصح طلاقه الإسلام. قال المدابغي فائدة: من دعاء ابن مسعود رضي الله عنه: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ومرافقة نبيك صلى الله عليه وسلّم في أعلى جنان الخلد اهـ. (و) رابعها: (الكافر الحربي) وهو الذي لا صلح له مع المسلمين قاله الفيومي، وخرج بالحربي ثلاثة أقسام: الذمي وهو من عقد الجزية مع الإمام أو نائبه ودخل تحت أحكام الإسلام فإنه محترم وسمي ذمياً لذلك نسبته إلى الذمة أي الجزية. والمعاهد: وهو من عقد المصالحة مع الإمام أو نائبه من أهل الحرب على ترك القتال في أربعة أشهر أو في عشر سنين بعوض منهم موصل إلينا أو بغيره لقوله صلى الله عليه وسلّم: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه أي خصمه يوم القيامة" رواه أبو داود. والمؤمن: وهو من عقد الأمان مع بعض المسلمين في أربعة أشهر فقط لقوله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} ((9) التوبة:6) أي إذا استأمنك أحد منهم من القتل فأمنه. ولقوله صلى الله عليه وسلّم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" رواه الشيخان وصححاه. أي عقود المسلمين كعقد شخص واحد منهم يقوم بهذا العقد أدناهم أي كالعبيد والنساء فمن نقض عهد مسلم فعليه لعنة من ذكر. قال شيخنا أحمد النحراوي: والمراد بالمعاهد في الحديث ما يشمل هؤلاء الثلاثة.
[(1/88)
فائدة] قال محمد الشربيني في كتابه التفسير الملقب بالسراج المنير: والكفر لغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو الستر وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء رسول به وينقسم إلى أربعة أقسام: كفر إنكار وكفر جحود وكفر عناد وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} ((2) البقرة:89) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد >< من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة >< لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وأما كفر النفاق فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب اهـ. وقال الباجوري: والكفر قيل هو عدم الإيمان عما من شأنه أن يكون متصفاً به، وقيل هو العناد بإنكار الشيء مما علم مجيء الرسول به ضرروة، فالتقابل بينه وبين الإيمان على الأول وهو الحق من تقابل العدم والملكة، وعلى الثاني من تقابل الضدين، والملكة هي صفة راسخة في النفس سميت بذلك لأنها ملكت محلها.
[(1/89)
فرع] قال البراوي؛ والذي نقله سيدي عبد الوهاب الشعراني عن السبكي أن عمه صلى الله عليه وسلّم أبا طالب بعد أن توفي أحياه الله تعالى وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم. قال شيخنا العلامة السحيمي: وهذا هو اللائق بحبه صلى الله عليه وسلّم وهو الذي اعتقده وألقى الله به، وأما إحياء الله تعالى أبويه صلى الله عليه وسلّم فللدخول في أمته فقط وإن كانا من الناجين انتهى لأنهما من أهل الإسلام. (و) خامسها: (الكلب العقور) أي الجارح، والكلب ثلاثة أقسام: عقور وهذا لا خلاف في عدم احترامه وندب قتله وما فيه نفع من اصطياد أو حراسة وهذا لا خلاف في احترامه وحرمة قتله وما لا نفع فيه ولا ضرر وهو كلب السوق المسمى بالجعاصي، ومعتمد الرملي فيه أنه محترم فيحرم قتله، وعند شيخ الإسلام يجوز قتله، فإن كان الكلب عقوراً ولكن فيه نفع سن قتله تغليباً لجانب الضرر. (و) سادسها: (الخنزير) وهو حيوان خبيث ويقال إنه حرام على لسان كل نبي، ويسن قتله سواء كان عقوراً أم لا على المعتمد وقيل يجب قتل العقور.
[(1/90)
فرع] يسن قتل المؤذيات أي التي تؤذي بطبعها كالفواسق الخمس وهي التي كثر خبثها وإيذاؤها: الغراب الذي لا يؤكل وهو الذي بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة، والحدأة والعقرب ولها ثمانية أرجل وعيناها في ظهرها ولذا يقال إنها عيماء لكونها لا تبصر ما أمامها تلدغ وتؤلم إيلاماً شديداً، والفأرة وهي التي عمدت إلى حبال سفينة سيدنا نوح فقطعتها وأخذت الفتيلة لتحرق البيت أيضاً فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتلها، والكلب العقور وقضية كلام النووي والرافعي أن اقتناء هذه الفواسق الخمس حرام، وكذلك العنكبوت فهي من ذوات السموم كما قال الأطباء وإن كان نسجها طاهراً، وكثير من العوام يمتنع من قتلها لأنها عششت في فم الغار على النبي صلى الله عليه وسلّم ويلزم على هذا أن لا يذبح الحمام لأنه عشش أيضاً على فم الغار، وفي كلام بعضهم أن العنكبوت ضربان ذو سم وغيره، وكالأسد النمر بكسر النون وإسكان الميم وهو سبع أخبث وأجرأ من الأسد يختلف لون جسده والذئب والدب بضم الدال المهملة وهو حيوان خبيث، والنسر وهو من الطير الجارح والعقاب وهو أنثى الجوارح والوزغ وروى مسلم أن من قتل الوزغ في أول ضربة كتب الله له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك وفيه حض على قتله قيل: لأنها كانت تنفخ النار على سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والبعوض والقراد مثل غراب وهو ما يتعلق بالبعير ونحوه وهو كالقمل للإنسان، والقرد وهو حيوان خبيث والصرد وزان عمر نوع من الغربان قال أحمد السجاعي: وهو طائر فوق العصفور أبقع نصفه أبيض ونصفه أسود ضخم الرأس والمنقار أصابعه عظيمة لا يقدر عليه أحد وله صفير مختلف يصفر لكل طائر يريد أن يصيده بلغته ويدعوه إلى التقرب منه فإذا اجتمعوا إليه شد على بعضهم ومنقاره شديد فإذا نقر واحداً بده من ساعته وأكله، والبرغوث والبق والزنبور بضم الزاي، ويحرم قتل النمل(1/91)
السليماني وهو الكبير لانتفاء أذاه، والنحل والخطاف بضم الخاء وتشديد الطاء ويسمى الآن عصفور الجنة لأنه زهد ما في أيدي الناس من الأقوات واكتفى بتقوته بالبعوض، والضفدع والهدهد والوطواط وهو الخفاش وهو طائر لا يكاد يبصر بالنهار، وكالقمل والصئبان وهو بيضه أما غير السليماني وهو الصغير المسمى بالذر فيجوز قتله بغير الإحراق لكونه مؤذياً وكذابه إن تعين طريقاً لدفعه، أما ما ينفع ويضر كصقر وهو من الجوارح يسمى القطا بضم القاف وفتحها وباز فلا يسن قتله ولا يكره بل هو مباح، وما لا يظهر فيه نفع ولا ضر كخنافس وجعلان جمع جعل وزن عمر والحرباء وهي أكبر من القطا تستقبل الشمس وتدور معها كيفما دارت وتتلون ألواناً، ودود وذباب يكره قتله لأنه ليس من إحسان القتلة، أما السرطان وهو حيوان البحر ويسمى عقرب الماء والرخمة وهو طائر يأكل العذرة وهو من الخبائث فإنه يحرم قتلهما على المعتمد، ويجوز رمي القمل حياً إن لم يكن في مسجد، ذكر ذلك كله الشيخ الشرقاوي في حاشيته على تحفة الطلاب في باب جزاء الصيد.
((1/92)
فصل): في شروط صحة التيمم (شروط التيمم) أي ما لا بد منه فيه (عشرة) الأولى: (أن يكون بتراب) أي خالص بجميع أنواعه حتى ما يداوي به وهو الطين الأرمني والمحرق منه ولو أسود ما لم يصر رماداً والبطحاء وهو ما في مسيل الماء والسبخ بفتح الباء أي الملح الذي لا ينبت ما لم يعله أي يغلبه ملح فجميع ما يصدق عليه اسم التراب كاف من أي محل أخذ ولو من ظهر كلب إذا لم يعلم تنجس التراب المأخوذ منه. (و) الثاني: (أن يكون التراب طاهراً) لقوله تعالى: فتيمموا صعيداً طيباً} ((4)النساء:43) أي تراباً طاهراً. (و) الثالث: (أن لا يكون مستعملاً) أي في رفع الحدث ومثله المستعمل في إزالة النجاسة المغلظة فإن كان في السابعة كان طاهراً فقط أو فيما قبلها فمتنجس، ولا يصير مطهراً بغسله والمستعمل منه في رفع الحدث ما بقي بعضو ممسوح بعد مسحه أو تناثر منه حالة التيمم بعد مسحه العضو، أما ما تناثر ولم يمس العضو بل لاقى ما لاصق العضو فليس بمستعمل كالباقي بالأرض، وكذا لو ألقت الريح على وجهه تراباً فأخذه بخرقة ثم أعاده على وجهه فإنه يكفي، وعلم من ذلك أنه لو تيمم واحد أو جماعة مرات كثيرة من تراب يسير في نحو خرقة جاز حيث لم يتناثر إليه شيء مما ذكر، كما يجوز الوضوء متكرراً من إناء واحد، ولو رفع إحدى يديه عن الأخرى قبل استيعابها ثم أراد أن يعيدها للاستيعاب جاز في الأصح لأن المستعمل هو الباقي بالممسوحة، أما الباقي بالماسحة ففي حكم التراب الذي يضرب عليه اليد مرتين فلا يكون مستعملاً بالنسبة للممسوحة، أي فلو أغفل فيها لمعة كان له أن يمسحها بما في الماسحة أما بالنسبة لغير الممسوحة كعضو متيمم آخر أو العضو الماسح فلا يجوز مسحه بما في الكف لارتفاع حدث ذلك الكف به فهو مستعمل. ((1/93)
و) الرابع: (أن لا يخالطه دقيق ونحوه) كزعفران ونورة من المخالطات وإن قل ذلك الخليط لمنعه وصول التراب إلى العضو لكثافته، قال الحصني: والكثير ما يرى والقليل ما لا يظهر انتهى. ولو اختلط التراب بماء مستعمل وجف جاز له التيمم به. (و) الخامس: (أن يقصده) أي يقصد التراب لأجل التحويل إلى العضو الممسوح فيتيمم ولو بفعل غيره بإذنه أو يمرغ وجهه أو يديه في الأرض لقوله تعالى: فتيمموا صعيداً طيباً} ((4)النساء:43) أي اقصدوه، فلو انتفى النقل كأن سفته ريح على عضو من أعضاء التيمم فردده عليه ونوى لم يكف، وإن قصد بوقوفه في مهب الريح التيمم لانتفاء القصد من جهته بانتفاء النقل المحقق للقصد، وأما قصد العضو فلا يشترط على المعتمد، فلو أخذ تراباً ليمسح به وجهه فتذكر أنه مسحه صح أن يمسح به يديه وبالعكس. (و) السادس: (أن يمسح وجهه ويديه بضربتين) أي ولا بد من الضربتين شرعاً وإن أمكن التيمم عقلاً بضربة بخرقة أو نحوها بأن يضرب بالخرقة على تراب ويضعها على وجهه ويديه معاً ويرتب في المسح بأن يمسح وجهه بطرفها ثم يديه بطرفها الآخر فلا يكفي ذلك شرعاً لأنه نقلة واحدة، فلا بد من نقلة ثانية يمسح بها ولو قطعة من يده، والمراد بالضرب النقل، فلو أخذ التراب من الهواء كفى، لا يقال إن النقل من الأركان فكيف يجعله من الشروط؟ لأنا نقول: إن الركن ذاته والشرط إنما هو تعدده لا ذاته. ((1/94)
و) السابع: (أن يزيل) أي المتيمم (النجاسة أولاً) أي فيشترط على المتيمم تقديم إزالة النجاسة غير المعفو عنها ولو عن بدنه وعن غير أعضاء التيمم من فرج أو غيره لا عن ثوبه ومكانه بخلافه في الوضوء لأن الوضوء لرفع الحدث وهو يحصل مع عدم ذلك والتيمم لإباحة الصلاة التابع لها غيرها ولا إباحة مع ذلك فأشبه التيمم معها التيمم قبل الوقت، قال الشرقاوي: فلو تيمم قبل إزالة النجاسة لم يصح تيممه على المعتمد في المذهب وجرى عليه الرملي وقيل يصح وجرى عليه ابن حجر، وينبني على الخلاف ما لو كان الميت أقلف وتحت قلفته نجاسة فعند الرملي يدفن بلا صلاة عليه لأنه لم يتقدم إزالة النجاسة، وعند ابن حجر يصلى عليه إذ لا يشترط عنده ذلك. (و) الثامن: (أن يجتهد في القبلة قبله) أي قبل التيمم. قال ابن حجر في المنهج القويم: فلو تيمم قبل الاجتهاد فيها لم يصح على الأوجه، قال الشرقاوي: هذا ضعيف فيصح التيمم بعد دخول الوقت ولو قبل الاجتهاد في القبلة ولهذا تصح صلاة من صلى أربع ركعات لأربع جهات بلا إعادة.(و) التاسع: (أن يكون التيمم بعد دخول الوقت) أي الذي يصح فعل الصلاة فيه لأن التيمم طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل دخوله والوقت شامل لوقت الجواز ووقت العذر وأوقات الرواتب وسائر المؤقتات كصلاة العيد والكسوف، ويدخل وقت صلاة الاستسقاء باجتماع أكثر الناس لها إن أراد فعلها جماعة وإلا فبإرادة فعلها والكسوف بمجرد التغير وإن أراد فعلها جماعة والفرق بينهما أن الكسوف يفوت بالانجلاء ولا كذلك الاستسقاء لا يفوت بالسقيا وتحية المسجد بدخوله والجنازة بتمام الغسل الواجب وهي الغسلة الأولى والتيمم للميت وإن لم يكفن.(1/95)
وبهذا يلغز فيقال شخص لا يصح تيممه حتى يتيمم غيره وهو الميت والنفل المطلق في كل وقت أراده إلا وقت الكراهة إذا أراد أن يصلي فيه، أما إذا تيمم ليصلي خارجه أو أطلق فإنه يصح ويدخل وقت التيمم للخطبة بالزوال كالجمعة فلو تيمم قبله لم يصح، ويجوز التيمم للجمعة قبل الخطبة لدخول وقتها وتقدم الخطبة إنما هو شرط لصحة فعلها، ويجوز تيمم الخطيب أو غيره قبل تمام العدد الذي تنعقد به الجمعة، ويشترط العلم أو الظن بدخول الوقت ولو بالاجتهاد، فلو تيمم شاكاً فيه لم يصح وإن صادفه. ((1/96)
و) العاشر: (أن يتيمم) أي المعذور وجوباً (لكل فرض) أي عيني فلا يجمع بتيمم واحد وإن كان المتيمم صبياً فرضين كصلاتين أو طوافين لأنه طهارة ضرورة فيقدر بقدرها، ويمتنع الجمع مع الجمعة وخطبتها بتيمم واحد لأن الخطبة وإن كانت فرض كفاية فقد ألحقت بفرائض الأعيان، وإنما جمع بين الخطبتين بتيمم واحد مع أنهما فرضان لأنهما لتلازمهما صارا كالشيء الواحد فاكتفي لهما بتيمم واحد، بل الظاهر امتناع إفراد كل واحد منهما بتيمم لعدم وروده ويجمع به فرضاً وما شاء من النوافل لأنها تكثر فيؤدي إيجاب التيمم لكل صلاة منها إلى الترك أو إلى ضيق عظيم، فخفف في أمرها كما خفف بترك القيام فيها مع القدرة وبترك القبلة في السفر، ومثل النوافل تمكين المرأة حليلها وصلاة الجنازة وتعينها بانفراد المكلف عارض فإذا تيممت للفرض فإنها تجمع بينه وبين التمكين، وكذا صلاة الجنازة، أما لو تيممت للتمكين فلا يباح لها إلا ما في مرتبته كمس المصحف والمكث في المسجد والاعتكاف وقراءة القرآن ولو فرضاً عينياً كتعلم الفاتحة، وكذا سجدة التلاوة والشكر، ولا يباح لها فرض ولا نفل أو تيممت لصلاة الجنازة أبيح لها ما في مرتبته من صلاة النافلة وما دونه مما تقدم ولا يباح لها الفرض فالمراتب ثلاث، ومس المصحف وما بعده في مرتبة واحدة حتى لو تيمم لكل واحد منها جاز له فعل البقية، وللمرأة إذا تيممت للتمكين أن تمكن من الوطء مراراً، ولو كان تيممها لفقد ماء ثم رأته في أثناء الجماع بطل تيممها وحرم عليها تمكينه ووجب عليه النزع، بخلاف ما إذا رآه هو وهو يجامعها فلا يجب عليه النزع لعدم بطلان تيممها برؤيته هو، إذ لو تيمم شخص لفقد الماء ثم رآه غيره لم يبطل تيمم الأول قاله الشرقاوي والله أعلم.
((1/97)
فصل): في أركان التيمم وهو المسمى بالمطهر المبيح (فروض التيمم) أي أركانه (خمسة) قال الشرقاوي: والمعتمد أنها سبعة بعد التراب والقصد ركنين وإنما لم يعد الماء ركناً في الوضوء والغسل لعدم اختصاصه بهما بخلاف التراب فإنه مختص بالتيمم، ولا يكتفى بالنقل عن القصد وإن استلزمه، والقصد هو قصد التراب لينقله فهو غير النية التي هي نية الاستباحة. (الأول: نقل التراب) أي تحويل المتيمم له ولو من وجه إلى وجه بأن سفته الريح عليه ثم نفله منه ورده إليه أو من وجه إلى يد بأن حدث عليه تراب بعد مسحه من تراب التيمم فنقله منه إليها أو من يد إلى وجه أو من وجه إلى يد بأن حدث عليه تراب بعد مسحه من تراب التيمم فنقله منه إليها أو من يد إلى وجه أو من يد إلى يد إما من اليمنى إلى اليسرى أو بالعكس فالصور خمس، ومثل المتيمم مأذونه، ولو كان المأذون كافراً أو صبياً لا يميز أو أنثى حيث لا مماسة ناقضة أو مجنوناً أو دابة كقرد فلا بد من الإذن في جميع ذلك ليخرج الفضولي وهو شغل من لا يقصده فإنه لا يكفي نقله، ولو أحدث أحدهما بعد النقل وقبل المسح لم يضر، أما الآذن فلأنه غير ناقل، وأما المأذون فلأنه غير متيمم. (الثاني: النية) كأن ينوي استباحة الصلاة، فلا فرق بين أن يتعرض للحدث بأن يقول: نويت استباحة الصلاة من الحدث الأصغر أو الأكبر أم لا أو مس المصحف أو سجدة التلاوة لا رفع حدث لأن التيمم لا يرفعه ولا الطهارة عنه ولا فرض التيمم لأن التيمم طهارة ضرورة لا يصلح أن يكون مقصوداً، فإن أراد صلاة فرض فلا بد من نية استباحة فرض الصلاة، ويجب قرن النية بالنقل لأنه أول الأركان، ومحل النية أول الواجبات وبمسح شيء من الوجه، ولا يضر عزوبها أي غيبتها بينهما فلو حدث بينهما فإن كان الناقل هو بطلت النية أو مأذونه فلا. ((1/98)
الثالث: مسح الوجه) حتى ظاهر مسترسل لحيته والمقبل من أنفه على شفته لقوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ((4) النساء:43) ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعر الذي يجب إيصال الماء إليها بل ولا يندب ولو خفيفاً لما فيه من المشقة. (الرابع: مسح اليدين إلى المرفقين) قال السيد يوسف الزبيدي في إرشاد الأنام: وكيفية التيمم المندوبة كما في الروضة أن يضع بطون أصابع يده اليسرى غير الإبهام على ظهور أصابع اليمين غير الإبهام بحيث لا تخرج أطراف أناملها عن مسبحة اليسرى ويمرها على ظهر كف اليمنى، فإذا بلغ كوعها ضم أطراف أصابعه على حرف ذراع اليمنى وأمرها إلى المرفق ثم أدار بطن كفه إلى بطن الذراع وأمرها عليه رافعاً إبهامه فإذا بلغ كوعها أمر باطن إبهام يسراه على ظاهر إبهام يمناه ثم يفعل باليسرى كذلك ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى. (الخامس: الترتيب بين المسحتين) ولو عن حدث أكبر وإنما لم يجب في الغسل لأنه لما كان الواجب فيه التعميم جعل البدن فيه كالعضو الواحد، أما بين النقلين فلا يجب إذ المسح أصل والنقل وسيلة، فلو ضرب بيديه على التراب ومسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يده الأخرى جاز ثم ينقل مرة ثانية ليده الثانية.
[(1/99)
تتمة] وسننه التسمية أوله ولو جنباً وحائضاً كما في الوضوء ويأتي بها بقصد الذكر أو يطلق ونفض اليدين أو نفخهما بعد الضرب وقبل المسح من الغبار إن كثر، أما نفضهما بعد التيمم فمكروه إذ يسن إبقاؤه حتى يخرج من الصلاة لأنه أثر عبادة، والتيامن بأن يمسح يده اليمنى قبل اليسرى والتوجه للقبلة وابتداء مسح الوجه من أعلاه واليدين من الأصابع، لكن إذا يمسه غيره فيبدأ بالمرفق والغرة والتحجيل وتفريق أصابعه في كل ضربة ونزع الخاتم في الضربة الأول وتخليل الأصابع إن فرق في الضربتين أو في الثانية فقط وإلا أي بأن لم يفرق أصلاً أو فرق في الأولى التي للوجه وجب التخليل في الثانية لأنها المقصودة لليدين بخلاف الأولى فإنها مقصودة للوجه فما وصل لليدين منها لا يعتد به فاحتيج إلى التخليل ليحصل ترتيب المسحتين والموالاة بين مسح الوجه واليدين. (تذييل) ومكروهه تكرير التراب وتكرير المسح لكل عضو.
((1/100)
فصل): في بيان ما يبطل التيمم. (مبطلات التيمم) بعد صحته (ثلاثة) أحدها: (ما أبطل الوضوء) فما اسم موصول أو نكرة موصوفة أي الذي أبطل الوضوء أو شيء أبطل الوضوء. (و) ثانيها: (الردة) ولو حكماً كما لو حكى صبي الكفر فيبطل تيممه لأنه طهارة ضعيفة لأنه لاستباحة الصلاة وهي منتفية معها، بخلاف الوضوء والغسل بالنسبة للسليم فلا يبطل بها ولو في أثنائهما، ولو توضأ أو اغتسل ثم ارتد في أثنائه ثم عاد للإسلام كمله لكن يجدد النية لما بقي، أما وضوء صاحب الضرورة وغسله فكالتيمم فيبطل بالردة على المعتمد. (و) ثالثها: (توهم الماء) وإن زال سريعاً لوجوب طلبه (إن تيمم لفقده) كأن رأى سراباً وهو ما يرى وسط النهار كأنه ماء أو جماعة جوز أن معهم ماء بلا حائل في ذلك التوهم يحول عن استعماله من سبع أو عطش أو نحوهما فإن كان ثم حائل وعلمه قبل التوهم أو معه لم يبطل تيممه، ومحل كون توهم الماء مبطلاً للتيمم إذا توهمه في حد الغوث فما دونه مع سعة الوقت بأن يبقى معه زمن لو سعى فيه إلى ذلك لأمكنه التطهر به والصلاة فيه، والمراد بالتوهم ما يشمل الشك ومحل البطلان برؤية السراب إن لم يتيقن عند ابتدائها أنه سراب، ومثله ما لو رأى غمامة مطبقة بخلاف توهم السترة لعدم وجوب طلبها.
((1/101)
فصل): في بيان الاستحالة والمطهر المحيل (الذي يطهر) هو من باب قتل وقرب أي ينفي ويبرأ (من النجاسات ثلاث) أحدها: (الخمر) بغير تاء وهي كل مسكر ولو من نبيذ التمر أي من المتروك منها حتى يشتد أو القصب أو العسل أو غيرها محترمة كانت الخمر وهي التي عصرت بقصد الخلية أو لا بقصد شيء أو التي عصرها الكافر أم لا وهي التي عصرت بقصد الخمرية وكان العاصر مسلماً ويجب إراقتها حينئذٍ قبل التخلل. (إذا تخللت بنفسها) أي من غير مصاحبة عين فهي طاهرة لأن علة النجاسة الإسكار وقد زال، ولأن العصير غالباً لا يتخلل إلا بعد التخمر، فلو لم نقل بالطهارة لتعذر اتخاذ خل من الخمر وهو حلال إجماعاً ويطهر دنها معها وإن غلت بنفسها حتى ارتفعت وتنجس بها ما تلوث فوقها بغير غليانها من دنها، أما إذا تخللت بمصاحبة عين وإن لم تؤثر في التخليل كحصاة فلا تطهر لتنجسها بعد تخللها بالعين التي تنجست بها قبل التخلل. (و) ثانيها: (جلد الميتة إذا دبغ) أي اندبغ ولو بوقوعه بنفسه أو بإلقائه على الدابغ أو إلقاء الدابغ عليه بنحو ريح، ومقصود الدبغ نزع فضوله وهي رطوبته التي يفسده بقاؤها ويطيبه نزعها بحيث لو نقع في الماء لم يعد إليه النتن والفساد، وذلك إنما يحصل بحريف أي ما يلدغ اللسان بحرافته عند ذوقه ولو كان نجساً كذرق طير أو عارياً عن الماء لأن الدبغ إحالة لا إزالة، فيظهر ذلك الجلد المدبوغ ظاهراً وهو ما ظهر من وجهيه، وباطناً وهو ما لو شق لظهر، ويبقى بعد اندباغه متنجساً فيجب غسله بالماء لتنجُّسه بالدابغ النجس أو المتنجس فلا يصلى عليه ولا فيه قبل غسله، ويجوز بيعه قبله ما لم يمنع من ذلك مانع بأن كان فيه نجس يسد الفرج كشعر لم يلاق الدابغ ولا يحل أكله سواء كان من مأكول اللحم أم من غيره، أما جلد المذكى بعد دبغه فيجوز أكله ما لم يضر.(1/102)
قوله: جلد الميتة، خرج به الشعر والصوف والوبر واللحم لعدم تأثرها بالاندباغ، وأما الجلد فيتأثر بالدبغ إذ ينتقل من طبع اللحوم إلى طبع الثياب والميتة ما زالت حياتها بغير ذكاة شرعية فيدخل في الميتة ما لا يؤكل إذا ذبح، وكذا ما يؤكل إذا اختل فيه شرط من شروط التذكية كذبيحة المجوسي والمحرم بالحج أو العمرة للصيد الوحشي لأن مذبوح المحرم ميتة ولو للاضطرار أو الصيال هكذا قال الرحماني، وقرر الحفني أنه يكون ميتة في صورة الاضطرار فقط دون الصيال وكما ذبح بالعظم ونحوه، ويدخل فيها أيضاً الموت حكماً كجلد الحيوان الذي سلخ منه حال حياته فإنه يطهر بالدبغ ويخرج بما ذكر ما كان طاهراً بعد الموت كجلد الآدمي وما كان نجساً في حال الحياة كجلد الكلب والخنزير فلا يفيده الدبغ شيئاً.
[تنبيه] الحيوان إن كان مأكولاً لا يجوز ذبحه إلا للأكل فقط فيحرم لأخذ جلده أو لحمه للصيد به وغير المأكول لا يجوز ذبحه مطلقاً ولو لأجل جلده إلا إذا نص على جواز قتله أو ندبه. (و) ثالثها: (ما صار حيواناً) كدود تولد من عين النجاسة ولو مغلظة لأنه لا يخلق من نفس المغلظة بل يتولد فيها كدود الخل فإنه لا يخلق من نفس الخل بل يتولد فيه.
[فرع] قال الشرقاوي: ومن الاستحالات انقلاب الدم لبناً أو منياً أو علقة أو مضغة وانقلاب البيضة فرخاً ودم الظبية مسكاً وطهر الماء القليل بالمكاثرة فإنه استحالة على الأصح.(1/103)
ثم اعلم أن الأعيان إما حيوان قال أحمد في المصباح: وهو كل ذي روح ناطقاً كان أو غير ناطق مأخوذ من الحياة يستوي فيه الواحد والجمع لأنه مصدر في الأصل، وإما جماد وهو ما ليس حيواناً ولا أصل حيوان ولا جزء حيوان ولا منفصلاً عن حيوان، وإما فضلات فالحيوان كله طاهر إلا نحو الكلب، والجماد كله طاهر لأنه خلق لمنافع العباد ولو من بعض الوجوه كالحجر فإنه وإن لم يؤكل ينتفع به في الإناء مثلاً قال تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} ((2) البقرة:29) والفضلات ثلاثة أقسام: ما استحال في باطن الحيوان إلى فساد فهو نجس كالدم، وما لا يستحيل فطاهر كالعرق من حيوان طاهر، وما يستحيل إلى صلاح فطاهر أيضاً كاللبن. واعلم أن المنفصل من الحيوان كميتته إلا شعر مأكول وصوفه ووبره وريشه فطاهر وإن شك في نجاسته كالملقى على الكيمان مثلاً وهو موضع القمامة.
(فصل): في بيان الأعيان النجِسة. تطلق النجاسة على العين مجازاً، وأما حقيقتها فهو الوصف القائم لمحل أي البدن أو المكان أو الثوب. (النجاسات ثلاث) بالأقسام المترتبة على حكمها وغسلها أحدها: (مغلظة) أي مشدد في حكمها. (و) ثانيها: (مخففة) في ذلك أيضاً. (و) ثالثها: (متوسطة) بين المغلظة والمخففة في ذلك أيضاً (المغلظة نجاسة الكلب) ولو معلماً (والخنزير) لأنه أقبح حالاً من الكلب إذ لا يحل اقتناؤه بحال مع إمكان الانتفاع به بنحو الحمل عليه فخرجت الحشرات وهي صغار دواب الأرض فإنها وإن لم يحل اقتناؤها بحال لكن لا يمكن الانتفاع بها. (وفرع أحدهما) أي مع الآخر تبعاً لهما أو مع غيره من حيوان طاهر تغليباً للنجس لأن الفرع يتبع أخس الأصلين في النجاسة وتحريم الذبيحة والمناكحة والأكل وعدم صحة الأضحية والعقيقة، وقد ذكر الجلال السيوطي أحكام الفرع في جميع أبواب الفقه نظماً من بحر الخفيف وهو فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مرتين فقال:
يتبع الفرع في انتسابٍ أباه >< ولام في الرق والحريه(1/104)
والزكاة الأخف والدين الأعلى >< والذي اشتد في جزاء وديه
وأخس الأصلين رجساً وذبحاً >< ونكاحاً والأكل والأضحيه
فالولد من الشريف شريف وإن كانت أمه غير شريفة لا عكسه. ومن الرقيقة رقيق وإن كان أبوه حراً ومن الحرة حر وإن كان أبوه رقيقاً غالباً، وخرج بالغالب ما لو أوصى مالك أمة بما تحمله كل سنة أو مطلقاً فأعتقها وارثه بعد موت الموصي ولو قبل قبول الموصى له الوصية فولدها مملوك للموصى له وإن تزوجها حر ويلغز بها حينئذٍ وبولدها فيقال لنا حرة لا تنكح إلا بشرط نكاح الأمة ولنا رقيق بين حرين وما لو ظن الواطىء الأمة أنها زوجته الحرة كأن كان متزوجاً بحرة وأمة فعلقت منه فولدها حر وإن كان الواطىء والموطوأة رقيقين ويقال في هذا حرٌّ بين رقيقين، وما لو غر بحرية أمة فانعقد الولد منها، قبل علمه بأنها أمة أو مع علمه بذلك فالولد منها حر لظنه حريتها حين نزول المني إليها حراً كان أو عبداً، وما لو ظن أنها أمته أو أمة ولده فالولد منها حر، ويجب في المتولد بين إبل وبقر مثلاً أخف الزكاتين، فلا يزكى حتى يبلغ نصاب البقر وهو ثلاثون ففيها تبيع، والمتولد بين ذمي ومسلمة أو عكسه مسلم والمتولد بين صيد بري وحشي مأكول وغيره يجب فيه الفدية على المحرم، والمتولد بين كتابي ومجوسية أو عكسه فيه دية كتابي، والمتولد بين كلب وشاة نجس، وكذا المتولد بين سمك وغيره من مأكول فتكون ميتته نجسة، والمتولد بين من تحل ذبيحته ومناكحته ككتابي ومن لا تحل كمجوسي لا تحل ذبيحته ومناكحته، والمتولد بين مأكول وغيره لا يحل أكله، والمتولد بين ما يضحي به وما لا يضحي به لم تجز التضحية به، وكذا العقيقة فلو تولد آدمي بين مغلظ ذكراً كان أو أنثى وآدمي كذلك وكان على صورة الآدمي ولو في النصف الأعلى فقط دون الأسفل فهو محكوم بطهارته في العبادات أخذاً بإطلاقهم طهارة الآدمي وتجري عليه الأحكام لأنه بالغ عاقل والعقل مناط التكليف فيصل ويؤمهم لأنه لا يلزمه الردة(1/105)
أي ويدخل المساجد ويخالط الناس ولا ينجسهم بمسه مع رطوبة، ولا ينجس به الماء القليل ولا المائع ويفطم عن الولايات كولايات نكاح وقضاء كالقن بل أولى على المعتمد في جميع ذلك، ولا تحل مناكحته ولا ذبيحته ولا توارث بينه وبين آدمي على المعتمد، وقال بعضهم: يرث من أمه وأولاده دون أبيه ولا قود على قاتله فله حكم النجس في الأنكحة لأن في أحد أصله ما لا يحل رجلاً كان أو امرأة ولو لمن هو مثله وإن استويا في الدين، وكذا التسري على المعتمد لأن شرط حل التسري حل المناكحة، وجوز له ابن حجر التسري حيث خاف العنت وحكم بأنه نجس معفو عنه ومعتمد الرملي ما تقدم، أما لو كان على صورة الكلب مع العقل والنطق فهو نجس على المعتمد وله حكم المغلظ في سائر أحكامه، وكذا ولد الولد لأنه فرع بالواسطة، قال ابن قاسم: إنه لا يكلف حينئذٍ وإن تكلم وميز وبلغ عدة بلوغ الآدمي، وكذا لو كان على صورة الآدمي وتولد بين مغلظين لأن الصورة لا تفيده الطهارة حينئذٍ لضعفها فنجس اتفاقاً، قال القليوبي: وإذا كان ينطق ويفهم فالقياس التكليف لأن مناطه العقل، وأما ميتته فهي نجسة نظراً لأصليه، ولو تولد بين مغلظ وحيوان آخر غير آدمي فهو نجس معفو عنه باتفاق، وأما المتولد بين آدميين فهو طاهر اتفاقاً ولو كان على صورة الكلب، فإذا كان ينطق ويعقل فقال بعضهم يكلف لأن مناط التكليف العقل وهو موجود فيه، وكذا المتولد بين شاتين وهو على صورة الآدمي إذا كان ينطق ويعقل ويجوز ذبحه وأكله وإن صار خطيباً وإماماً ولذا قيل لنا: خطيب يذبح ويؤكل.
[مسألة] لو ارتضع جدي وهو الذكر من أولاد المعز كلبة أو خنزيرة فثبت لحمه على لبنها أي تربى وسمن منه لم ينجس على الأصح.
[فائدة] نقل بعضهم أن كل الكلاب نجسة إلا كلب أهل الكهف فإنه طاهر ويدخل الجنة، ثم توقف في معنى طهارته هل أوجده الله تعالى طاهراً أو سلبه أوصاف النجاسة؟ فقال الباجوري: والظاهر الثاني.
((1/106)
والمخففة بول الصبي) دون الصبية والخنثى (الذي لم يطعم) بفتح أوله وثالثه أي لم يأكل ولم يشرب. (غير اللبن) أي للتغذي ولا فرق بين اللبن الطاهر والنجس ولو من مغلظ وإن وجب تسبيع فمه منه، قال الشرقاوي: من اللبن الجبن والزبد بضم الزاي وهو ما يستخرج بالمخض أي الخالص من لبن البقر والغنم والقشطة سواء كان قشطة أمه أم لا، ودخل فيه أيضاً الخاثر بالمثلثة أي الحامض وهو ما فيه ملوحة والمخيض وهو الذي أخرج زبده بوضع الماء فيه وتحريكه ولو بالإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتشديد الحاء وهي كرش الحمل والجدي ما دام يرضع وهي شيء يستخرج من بطنه أصفر، والأقط بفتح الهمزة وكسرها وهو الذي يتخذ من اللبن المخيض يطبخ حتى يعصر ماؤه وخرج باللبن السمن ولو من لبن أمه. أما تحنيكه بنحو تمرٍ وتناوله نحو السفوف بفتح السين وهو الدواء للإصلاح كإخراج الريح من جوفه فلا يضر. (ولم يبلغ الحولين) تقريباً فلا يضر زيادة نحو يومين هكذا قال الشرقاوي. وقال الشيخ عثمان في تحفة الحبيب: والمعتمد الضرر لأن الحولين تحديدية هلالية كما ذكره الشيخ علي الشبراملسي ونقل مثله عن القليوبي وقوله: بول الصبي الخ، البول قيد أول والصبي أي الذكر المحقق قيد ثان. وقوله: الذي لم يطعم غير اللبن قيد ثالث. وقوله: لم يبلغ الحولين قيد رابع انتهى.
((1/107)
والمتوسطة سائر) أي باقي (النجاسات) قال أبو القاسم الحريري في درة الغواص: ومن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يقولون قدم سائر الحاج واستوفى سائر الخراج فيستعملون سائر بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي، ومنه قيل لما يبقى في الإناء سؤر، والدليل على صحة ذلك أنه عليه السلام قال لغيلان حين أسلم وعنده عشر نسوة: اختر أربعاً منهن وفارق سائرهن أي من بقي بعد الأربع اللاتي تختارهن، والصحيح أن سائر يستعمل في كل باقٍ قل أو كثر لإجماع أهل اللغة على أن معنى الحديث إذا شربتم فاسئروا أي ابقوا في الإناء بقية ماء، لا أن المراد به أن يشرب الأقل ويبقي الأكثر، وإنما ندب للتأديب بذلك لأن الإكثار من المطعم والمشرب منبأة أي دالة على النهم وملامة عند العرب انتهى. والنهم بفتحتين إفراط الشهوة في الطعام.
ثم اعلم أن النجاسة لغة ما يستقذر ولو طاهراً كبصاق ومني ومخاط، ويحرم أكل ذلك بعد أن يخرج من معدته إلا لنحو صلاح وشرعاً بالحد مستقذر يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص أي لا مجوز، فإن كان هناك مرخص كما في فاقد الطهورين وعليه نجاسة فإنه يصلي لحرمة الوقت وعليه الإعادة وبالعد عشرون الأول: بول ولو من طفل ومنه الحصاة التي تخرج عقبه إن تيقن انعقادها منه فهي نجسة وإلا فهي متنجسة والثاني: المذي بالمعجمة وهو ماء أصفر ثخين يخرج غالباً عند ثوران الشهوة بلا لذة ولو بلا شهوة قوية أو بعد فتورها فلا يكون إلا من البالغين، وأكثر ما يكون في النساء عند ملاعبتهن وهيجان شهوتهن، وربما يخرج من الشخص ولا يحس به. الثالث: ودي بمهملة وهو ماء أبيض كدر ثخين يخرج إما عقب البول أو عند حمل شيء ثقيل وهذا لا يختص بالبالغين. الرابع: روث من غائط وغيره ولو من سمك وجراد ويجوز قلي السمك حياً وكذا ابتلاعه إذا كان صغيراً ويعفى عما في باطنه ويسن ذبح بقرة كبيرة يطول بقاؤها. الخامس: كلب ولو معلماً للصيد أو الحراسة أو نحوهما.
((1/108)
حكمة) في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي للؤمن أن لا يخلو منها: أولها: لا يزال جائعاً وهذه صفات الصالحين. الثانية: لا ينام من الليل إلا قليلاً وهذه من صفات المتهجدين. الثالثة: لو طرد في اليوم ألف مرة ما برح عن باب سيده وهذه من علامات الصادقين. الرابعة: إذا مات لم يخلف ميراثاً وهذه من علامات الزاهدين. الخامسة: أن يقنع من الأرض بأدنى موضع وهذه من علامات الراضين. السادسة: أن ينظر إلى كل من يرى حتى يطرح له لقمة وهذه من أخلاق المساكين. السابعة: أنه لو طرد وحثي عليه التراب فلا يغضب ولا يحقد وهذه من أخلاق العاشقين. الثامنة: إذا غلب على موضعه يتركه ويذهب إلى غيره وهذه من أفعال الحامدين. التاسعة: إذا أجدي له أي أعطي له لقمة أكلها وبات عليها وهذه من علامات القانعين. العاشرة: أنه إذا سافر من بلد إلى غيرها لم يتزود وهذه من علامات المتوكلين انتهى. السادس: خنزير قال الله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم أي المسفوح ولحم الخنزير} ((16) النحل:115) أي أكله وخص اللحم بالذكر لأنه معظم المقصود وغيره تبع له. السابع: فرع كل منهما مع غيره تبعاً لهما أو تغليباً للنجاسة إن لم توجد الصورة أما إذا وجدت فإنها تغلب كما مر. الثامن: منيها تبعاً لأصله وهو البدن بخلاف مني غير هؤلاء الثلاثة لذلك سواء كان مأكول اللحم أو لا. التاسع: ماء قرح تغير طعمه أو ريحه أو لونه لأنه دم مستحيل فإن لم يتغير فطاهر كالعرق خلافاً للرافعي أو اختلط بأجنبي لأن محل العفو عن ماء القروح وكذا المتنفط والصديد ونحوها ما لم تختلط بذلك ولو من نفسه كدمع عينه وريقه. العاشر: صديد وهو ماء رقيق يخالطه دم. الحادي عشر: القيح لأنه دم مستحيل.(1/109)
الثاني عشر: مرة بكسر الميم وهي ما في المرارة أي الجلدة وأما نفسها فمتنجسة تطهر بالغسل فيجوز أكلها إن كانت من حيوان مأكول كالكرش بفتح الكاف وكسر الراء والكبد والطحال بكسر الطاء، ومن جملة ما في المرارة الخرزة التي توجد في مرارة البقر وتستعمل في الأدوية فهي نجسة لتجمدها من النجاسة فأشبهت الماء النجس إذا انعقد ملحاً، ومثلها في النجاسة سم الحية والعقرب وسائر الهوام وتبطل الصلاة بلسعة الحية لأن سمها يظهر على محل اللسعة لا العقرب على الأوجه لأن إبرتها تغوص في باطن اللحم وتمج السم فيه وهو لا يجب غسله، وأما الأنفحة فإن كانت من حيوان لم يتناول غير اللبن فطاهرة وإلا فمتنجسة. الثالث عشر: مسكر مائع من خمر وغيره وخرج بالمائع الحشيشة والبنج بفتح الباء وهو نبت له حب يخبط العقل ويورث الخبال فإنهما مع تحريمهما طاهران، وكذلك الأفيون والزعفران والعنبر وجوزة الطيب وهي كبيرة تؤكل والذي يباع عند نحو العطار إنما هو نُواها لا هي فكثير ذلك حرام لضرره بالعقل، ويجوز تعاطي القليل منه عرفاً وضبطه بعضهم بما لا يؤثر، وينبغي كتم ذلك عن العوام، واستفتى شيخنا يوسف الجاوي للمفتي محمد صالح في بيع الأفيون وشرائه وأكله وشرب دخانه هل هو حلال أم حرام؟ وهل يجوز أكله وشرب دخانه لضرورة كوجع البطن وما أشبه ذلك أو لا؟ وهل هو نجس أو طاهر؟ فبين المفتي حكم ذلك بقوله: يحرم استعمال الأفيون إذا كان المستعمل منه قدراً يخدر العقل إلا إذا كان اضطر إلى استعماله بأن لم يجد غيره حلالاً وبيعه لمن يستعمله على وجه محرم حرام وشراؤه لاستعمال محرم حرام وهو في نفسه طاهر.(1/110)
الرابع عشر: ما يخرج من معدة يقيناً كقيء ولو بلا تغير، نعم إن كان الخارج حباً متصلباً بحيث لو زرع لنبت فمتنجس فإن كان بحيث لو زرع لم ينبت فنجس العين، وأما البيض إذا ابتلعه حيوان وخرج منه فإن كان بحيث لو حضن لفرخ فطاهر وإلا فنجس، أما الخارج من الصدر أو الحلق وهي النخامة ويقال النخاعة والنازل من الدماغ وهو البلغم فطاهران كالمخاط والبصاق بالصاد والزاي والسين كغراب وهو ماء الفم بعد خروجه منه وأما ما دام فيه فهو ريق، ومثله في الطهارة العنبر والزباد والعرق، وكذا المسك إن انفصل من الظبية حال الحياة ولو ظناً أو بعد الذكاة. وسئل المفتي محمد صالح في ماء يخرج من فم النائم هل هو نجس أو لا؟ وإذا كان نجساً فكيف الاحتراز عنه لمن ابتلي به؟ فأجاب بقوله: حيث لم يتحقق أنه من المعدة فهو طاهر، وإن تحقق أنه منها فهو نجس، ومن ابتلي به عفي عنه في حقه. الخامس عشر: لبن ما لا يؤكل غير الآدمي كلبن الأتان وهي بفتح الهمزة اسم لأنثى الحمير مستحيل في الباطن كالدم، أما لبن ما يؤكل ولبن الآدمي فطاهران. السادس عشر: ميتة غير آدمي وسمك وجراد والمراد بالسمك كل ما لا يعيش في البر من حيوان البحر وإن لم يسمَّ سمكاً، قال العمريطي في نظم التحرير من بحر الرجز:
وكل ما في البحر من حي يحلْ >< وإن طفا أو مات أو فيه قتل
فإن يعش في البر أيضاً فامنعِ >< كالسرطان مطلقاً والضفدع(1/111)
قوله: وإن طفا بالفاء أي مات في الماء ثم علا فوق وجهه ولم يرسب. السابع عشر: دم إلا كبداً وطحالاً فطاهران ما لم يدقا ويصيرا دماً وإلا فنجسان، وإلا منياً ولبناً خرجا على لون الدم وبيضة لم تفسد بأن لم تصلح للتخلق فطاهرة أيضاً، أما إذا صار البيض مذراً وهو الذي اختلط بياضه بصفاره فطاهر بلا خلاف. قال عثمان السويفي: قوله دم بتخفيف الميم وبتشديدها ولو في سمك قال في العباب: كل سمك ملح ولم يخرج ما في جوفه فهو نجس انتهى. قال الشرقاوي: قوله دم أي وإن سال من كبد وطحال ومنه الباقي على اللحم والعظام لكن إذا طبح اللحم بماء وصار الماء متغير اللون بواسطة الدم الباقي عليه فإنه لا يضر، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الماء وارداً أو موروداً هذا إذا لم يغسل قبل وضعه في القدر كلحم الضأن، فإن غسل قبل ذلك كلحم الجاموس وصار الماء متغيراً بما ذكر فإنه يكون مضراً لأن شرط إزالة النجاسة ولو معفواً عنها زوال الأوصاف، فلا بد من غسله قبل الوضع حتى تصفو الغسالة أفاده خضر، وقرر شيخنا عطية أنه يعفى عن الدم الذي على اللحم إذا لم يختلط بماء وإلا فلا يعفى عنه كما يقع في مجاز غير الضأن، أما الضأن فلا يختلط لحمه بماء، وهذا التفصيل في غير ماء الطبخ أما هو كأن خرج من اللحم ماء وغير الماء فلا يضر سواء كان الماء وارداً أو موروداً، فالتفصيل في الدم الذي على اللحم إنما هو قبل وضعه في القدر، والذي سمعته من شيخنا الحفني ما قاله خضر اهـ.
((1/112)
تتمة) لو اختلط ماء الحلق بالدم لم يعف عنه بالنسبة لماء التنظيف بعد إزالة الشعر، أما الماء الأول الذي يبل به الشعر ليحلق فيعفى عنه لمشقة حلق الشعر بدون بله. الثامن عشر: جرة بكسر الجيم وهي ما يخرجه البعير أو غيره للاجترار أي الأكل ثانياً، وأما ما يخرجه من جانب فمه عند الهيجان المسمى بالقلة فليس بنجس لأنه من اللسان. التاسع عشر: ماء المتنفط أي البقابيق الذي له ريح وإلا فطاهر خلافاً للرافعي. العشرون: دخان النجاسة وهو المنفصل منها بواسطة نار وكذا بخارها وهو اللهب الصافي من الدخان، ولا فرق في ذلك بين أن ينفصل من نجس العين كالجلة بالتثليث البعرة أو كالحطب المتنجس بالبول مثلاً.
ثم اعلم أن رطوبة الفرج على ثلاثة أقسام: طاهرة قطعاً وهي الناشئة مما يظهر من المرأة عند قعودها على قدميها، وطاهرة على الأصح وهي ما يصل إليها ذكر المجامع، ونجسة وهي ما وراء ذلك، لكن هذه الأقسام في فرج الآدمية لا في فرج البهيمة لأن البهيمة ليس لها إلا منفذ واحد للبول والجماع قاله السويفي.
[فرع] المشيمة الخارجة مع الولد طاهرة، قال الشبراملسي: والظاهر أنها لا يجب فيها شيء.
[فائدة] الفضلات من النبي صلى الله عليه وسلّم طاهرة وكذا سائر الأنبياء تشريفاً لمقامهم، ومع ذلك يجوز الاستنجاء بها إذا وجدت فيها شروط الحجر على المعتمد بخلاف البول، ولا يجوز أكلها إلا إذا كانت للتبرك، ويجوز وطؤها بالرجل، ولا فرق بين أن يكون زمن النبوة أو بعده. وقد وقع لواعظ ذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلّم فمن جملة ما قاله لمن يعظهم: إن بوله صلى الله عليه وسلّم خير من صلاتكم انتهى. قال المدابغي: وهو صحيح وصواب. ويوجه بأمور منها أن هذا الواعظ يحتمل أنه من أرباب الكشف. وقد أطلعه الله تعالى على رياءٍ في صلاتهم، أو يقال إن بوله صلى الله عليه وسلّم يستشفى به فهو نافع وصلاتهم غير محققة القبول.
((1/113)
فصل): في بيان إزالة النجاسة قال عثمان السويفي: والمراد بالنجاسة الوصف الملاقي للمحل سواء كانت النجاسة عينية أو حكمية (المغلظة) أي ما تنجس من الطاهرات بلعابها أو بولها أو عرقها أو بملاقاة أجزاء بدنها مع توسط رطوبة من أحد الجانبين (تطهر بسبع غسلات) تعبداً وإلا فيكفي من حيث زوال النجاسة مرة واحدة حيث زالت الأوصاف (بعد إزالة عينها) وهذا موافق لما قاله ابن حجر في المنهج القويم والسيد المرغني في مفتاح فلاح المبتدي، حيث قالا: وإنما يعتبر السبع بعد زوال العين فمزيلها وإن تعدد واحدة ويكتفى بالسبع وإن تعدد الولوغ أو كان معه نجاسة أخرى. انتهى والذي اعتمده العلماء هو ما صححه النووي وقالوا: ولو لم يزل عين النجاسة إلا بست غسلات مثلاً حسبت واحدة، وصحح الرافعي في الشرح الصغير المسمى بالعزيز على الوجيز للغزالي أنها حسبت ست غسلات وقواه الإسنوي في مهمات المحتاج، قال الباجوري: وأما الوصف فلو لم يزل إلا بست حسبت ستاً. (إحداهن) أي إحدى السبع ولو الأخيرة (بتراب) أي ممزوجة بتراب طاهر لكن الأولى أولى، والحاصل أن المزج له ثلاث كيفيات. الأولى: أن يمزج الماء والتراب معاً ثم يوضعا على موضع النجاسة وهذه أفضل كيفيات المزج بل منع الإسنوي غير هذه الكيفية، وفي هذه الحالة لو كانت الأوصاف موجودة من غير جرم وصب عليها الماء الممزوج بالتراب فإن زالت بتلك الغسلة حسبت وإلا فلا، فالمراد بالعين في قولهم مزيل العين واحدة وإن تعدد ما يشمل الأوصاف وإن لم يكن جرم. الثانية: أن يوضع التراب على موضع النجاسة ثم يوضع الماء عليه ويمزجا قبل الغسل وفي هذه الحالة شرط زوال جرم النجاسة ووصفها من طعم ولون وريح قبل الوضع.(1/114)
الثالثة: عكس الثانية بأن يوضع الماء أولاً ثم التراب ويمزجا قبل الغسل كما مر، وفي هذه الحالة لا يشترط زوال أوصاف النجاسة ولا جرمها أولاً لأن الماء أقوى بل هو المزيل وإنما التراب شرط، ولا يضر في هاتين الحالتين بقاء رطوبة المحل وإن كان نجساً إذ الطهور الوارد على المحل باق على طهوريته لأن الوارد له قوة، ولا يكفي ذر التراب على المحل من غير أن يتبعه بماء ولا مزجه بغير ماء ولا مزج غير تراب طهور كأشنان وتراب نجس أو مستعمل في تيمم أو غسلات نحو كلب والأشنان بضم الهمزة وكسرها وفتحها هو نوع من الحشيش، والواجب من التراب قدر ما يكدر الماء ويصل بواسطته إلى جميع المحل ويقوم مقام التتريب كدورة الماء كماء النيل أيام زيادته وكماء السيل المتترب، ولو غمس المتنجس بما ذكر في ماء كثير راكد وحركه سبعاً وتربه طهر ويحسب الذهاب مرة والعود أخرى وإن لم يحركه فواحدة أوفي جار وجرى عليه سبع جريات حسبت سبعه، أما مكثه في ماء كثير راكد فيحسب مرة وإن مكث زماناً طويلاً والأرض الترابية أي التي فيها تراب خلقي أو من هبوب الريح لا تحتاج إلى تتريب إذ لا معنى لتتريب التراب، ولا فرق في ذلك بين التراب المستعمل وغيره كالمتنجس، وخرج بالترابية الحجرية والرملية التي لا غبار فيها فلا بد من تتريبها، ولو انتقل شيء من الأرض الترابية المتنجسة نجاسة مغلظة إلى غيرها فإن أريد تطهير المنتقل من الطين لم يجب تتريبه، وإن أريد تطهير المنتقل إليه وجب تتريبه، ولو تطاير من غسلات غير الأرض الترابية شيء إلى نحو ثوب غسل المتطاير إليه بعد ما بقي من الغسلات، فإن كان من الأولى وجب غسله ستاً أو من الثانية غسل خمساً وهكذا مع التتريب إن لم يكن ترب وإلا فلا تتريب، وخرج بما بقي من الغسلات المتطاير من السابعة فلا يجب غسله، فلو جمع ماء الغسلات السبع في نحو طشت ثم تطاير منها شيء على نحو ثوب وجب غسله ستاً لأن فيه ماء الأولى وهو يقتضي ست غسلات، ووجب(1/115)
تتريبه إن كان التراب في غير الأولى هذا إذا كان الماء المجموع لم يبلغ قلتين بلا تغير وإلا فطهور.
[فائدة] وقع السؤال عما لو بال كلب على عظم ميتة، غير مغلظة فغسل سبعاً إحداهن بتراب فهل يطهر من حيث النجاسة المغلظة حتى لو أصاب ثوباً رطباً مثلاً بعد ذلك لم يحتج إلى تسبيع؟ والجواب لا يطهر فلا بد من تسبيع ذلك الثوب نقله المدابغي عن الأجهوري وابن قاسم.
(والمخففة) أي ما تنجس ببول الصبي الذي لم يأكل ولم يشرب سوى اللبن. ولم يبلغ الحولين. (تطهر برش الماء عليها مع الغلبة وإزالة عينها) أي فكيفي فيها الرش. والغسل أفضل خروجاً من الخلاف، ومحل ذلك إن لم يختلط برطوبة في المحل مثلاً وإلا وجب الغسل لأن تلك الرطوبة صارت نجسة وهي ليست بولاً، ولا بد في الرش من إصابة الماء جميع موضع البول وأن يعم ويغلب الماء على البول، ولا يشترط في ذلك السيلان قطعاً والسيلان والتقاطر هو الفارق بين الغسل والرش، فلا يكفي الرش الذي لا يعمه ولا يغلبه كما يقع من كثير من العوام، ولا بد مع الرش من زوال أوصافها كبقية النجاسة بعد إزالة عينها، ولا بد من عصر محل البول أو جفافه حتى لا يبقى فيه رطوبة تنفصل بخلاف الرطوبة التي لا تنفصل، هذا وخرج الغائط والقيء وبول الأنثى وأكله أو شربه غير اللبن للتغذي ورضاعه بعد حولين فلا يكفي رشه بل لا بد من غسله وهو تعميم المحل مع السيلان، ولو أصابه بول صبي وشك هل هو قبل الحولين أو بعدهما وجب الغسل لأن الرش رخصة فلا يصار إليها إلا بيقين، وسوَّى الإمامان أبو حنيفة ومالك بين الصبي الذكر المحقق وغيره من وجوب الغسل من بولهما وإن لم يأكلا الطعام وذهب لطهارة بول الصبي أحمدبن حنبل وإسحاق وأبو ثور من أئمتنا وحكي عن مالك، وأما حكاية بعض المالكية قولاً للشافعي بطهارة بول الصبي فباطلة وغلط أو افتراء.
((1/116)
والمتوسطة تنقسم على قسمين: عينية) وهي التي تشاهد بالعين (وحكمية) أي وهي التي حكمنا على المحل بنجاسته من غير أن ترى عين النجاسة (العينية) ضابطها هي (التي لها لون) من البياض والسواد والحمرة وغير ذلك (وريح) وهي بمعنى الرائحة عرض يدرك بحاسة الشم (وطعم) بفتح الطاء وهو ما يؤديه الذوق من الكيفية كالحلاوة وضدها (فلا بد من إزالة لونها وريحها وطعمها) إلا ما عسر زواله من لون أو ريح فلا تجب إزالته بل يطهر محله حقيقة بخلاف ما لو اجتمعنا في محل واحد من نجاسة واحدة لقوة دلالتهما على بقاء عين النجاسة، وبخلاف ما لو بقي الطعم لذلك أيضاً ولسهولة إزالته غالباً، فالواجب في إزالة النجاسة الحت والقرص ثلاث مرات. وفي المصباح قال الأزهري: الحت أن تحك بطرف حجر أو عود والقرص أن تدلك بأطراف الأصابع دلكاً شديداً وتصب عليه الماء حتى تزول عينه وأثره انتهى. فإذا بقي بعد ذلك اللون أو الريح حكم بالتعسر وطهارة المحل ولا تجب الاستعانة بالصابون والاشنان وإن بقيا معاً أو الطعم وحده تعينت الاستعانة بما ذكر إلى التعذر وضابطه أن لا يزول إلا بالقطع، فإذا تعذر زوال ما ذكر حكم بالعفو فإذا قدر على الإزالة بعد ذلك وجبت ولا تجب إعادة ما صلاه به أولاً وإلا فلا معنى للعفو، ويعتبر لوجوب نحو الصابون أن يفضل ثمنه عما يفضل عنه ثمن الماء في التيمم فإن لم يقدر عليه صلى عارياً، وإن لم يقدر على الحت ونحوه لزمه أن يستأجر عليه بأجرة مثله إذا وجدها، فاضلة عن ذلك أيضاً ذكره الشرقاوي، قال الحصني في شرح الغاية: ثم شرط الطهارة أن يسكب الماء الأقل من قلتين فقط على المحل النجس، فلو غمس الثوب ونحوه في طشت فيه ماء دون القلتين فالصحيح الذي قاله جمهور الأصحاب أنه لا يطهر لأنه بوصوله إلى الماء تنجس لقلته، ويكفي أن يكون الماء غامراً للنجاسة على الصحيح، وقيل يشترط أن يكون سبعة أضعاف البول، ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الراجح
((1/117)
والحكمية) ضابطها هي (التي لا لون ولا ريح ولا طعم) كبول جف ولم تدرك له صفة (يكفيك جري الماء عليها) أي سيلانه على المتنجس بها ولو مرة واحدة من غير فعل كالمطر، قال الحصني في شرح الغاية: اعلم أنه لا يشترط في غسل النجاسة القصد كما لو صب الماء على ثوب ولم يقصد فإنه يطهر، وكذا لو أصابه مطر أو سيل وادعى بعضهم الإجماع على ذلك لكن ابن سريج والقفال من أصحابنا اشترطا النية في غسل النجاسة كالحدث انتهى.
[(1/118)
تتمة] ولو تنجس مائع تعذر تطهيره لأنه صلى الله عليه وسلّم سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال: إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه أي لأنه نجاسة، ولا يحل الانتفاع بذلك المائع كسائر النجاسات الرطبة إلا في استصباح أو لعمل صابون ونحوه أو طلي دواب وسفن بدهن متنجس أو نجس من غير نحو كلب فيجوز مع الكراهة، ويستثنى المساجد فلا يجوز الاستصباح فيها بالنجس سواء انفصل منه دخان مؤثر في نحو حيطانه ولو قليلاً أم لا، أما العسل فيمكن تطهيره بإسقائه للنحل لأنه يستحيل قبل إخراجه ثم إن طال الزمن بعد شربه وقبل مجه فهو لمالك النحل وإلا فلمالك العسل، ويجوز سقي الدواب الماء المتنجس وتخمير الطين ونحوه به، ومثل الماء المتنجس الطعام المتنجس فيجوز إطعامه للدواب، وإذا تنجست الأرض ببول إو خمر مثلاً وتشربت ما فيها كفاه صب ماء يعمها ولو مرة، وإن كانت الأرض صلبة ولم يقلع ترابها أولم تتشربه كأن كانت نحو بلاط فلا بد من تجفيفها ثم صب الماء عليها ولو مرة قال في المصباح: البلاط كل شيء فرشت به الأرض من حجر وغيره انتهى. فإذا كانت النجاسة جامدة نظر، فإن كانت غير رطبة ولم تنجس الأرض رفعت عنها فقط أو رطبة رفعت ثم صب على الأرض ماء يعمها، ومثل الأرض في ذلك غيرها كسكين سقيت وهي محماة نجساً ولحم طبخ بنجس وحب نقع في الماء النجس حتى انتفخ فيكفي في تطهير ذلك كله صب ماء يعمه ولو مرة واحدة ولا يحتاج إلى سقي السكين مع الإحماء ماء طهوراً ولا لغلي اللحم وعصره ولا لنقع الحب في ماء طهور.
((1/119)
فصل): في بيان قدر الحيض وما يذكر معه وأما حكمه فقد تقدم (أقل الحيض) زمناً (يوم وليلة) أي قدرهما متصلاً وهو أربع وعشرون ساعة فلكية وكل ساعة خمس عشرة درجة وكل درجة أربع دقائق فإن نقص الدم عن هذا المقدار فليس بحيض بل هو دم فساد (وغالبه ست أو سبع) من الأيام بلياليها وإن لم تتصل الدماء لكن بلغ مجموعها قدر يوم وليلة. (وأكثره خمسة عشر يوماً بلياليها) أي مع لياليها سواء تقدمت أو تأخرت أو تلفقت، وإن لم تتصل الدماء، بأن ينزل عليها في كل يوم قدر ساعة مثلاً لكن لما تلفقت أوقات الدماء فبلغت يوماً وليلة فيحكم عليه بأنه حيض فإن زادت الدماء على الخمسة عشر فذلك الزائد دم استحاضة، وتسمى المرأة التي زاد دمها على الخمسة عشر مستحاضة، ويجوز وطء المستحاضة غير المتحيرة ولو مع نزول الدم ويجوز التضمخ للحاجة.(1/120)
واعلم أن كل ذلك بالتفتيش والفحص من الإمام الشافعي رضي الله عنه لنساء العرب (أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً) أي بلياليها متصلة، وخرج بقوله: بين الحيضتين الطهر بين حيض ونفاس فإنه يجوز أن يكون أقل من ذلك تقدم الحيض على النفاس أو تأخر عنه، وصورة تقدم الحيض كأن حاضت الحامل عادتها بناء على القول الأصح أن الحامل قد تحيض ثم طهرت يوماً أو يومين ثم ولدت ونزل بعده النفاس، وصورة التأخر كأن نفست المرأة أكثر النفاس ستين يوماً ثم طهرت يوماً أو يومين ثم نزل عليها الحيض وقد ينعدم الطهر بينهما بالكلية فيتصل النفاس بالحيض كأن ولدت متصلاً بآخر الحيض بلا تخلل نقاء، فمرادهم بالأقل ما يشمل العدم، وقد يكون بين نفاسين كأن وطئها في زمن النفاس فعلقت بناء على أنه لا يمنع العلوق ثم يستمر النفاس مدة يمكن أن يكون الحمل فيها علقة ثم ينقطع يوماً أو يومين مثلاً فتلقى تلك العلقة فينزل عليها النفاس (وغالبه أربعة وعشرون يوماً) أي إن كان الحيض ستاً (أو ثلاثة وعشرون يوماً) أي إن كان سبعاً أي غالب الطهر بقية الشهر بعد غالب الحيض لأن الشهر العددي لا يخلو غالباً عن حيض وطهر (ولا حد لأكثره) أي الطهر بالإجماع ولذا قال ابن قاسم الغزي في شرح الغاية: فقد تمكث المرأة دهرها أي أبدها بلا حيض أي كسيدتنا فاطمة عليها السلام، وحكمته عدم فوات زمن عليها بلا عبادة ولذلك سميت الزهراء، وقيل إنها ولدت وقت الغروب ونزل عليها النفاس مجة ثم طهرت وصلت.
[(1/121)
فرع] قال محمد الصبان في كتابه المسمى بإسعاف الراغبين: فاطمة تزوجها علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وهي بنت خمس عشرة سنة وخمسة أشهر عقب رجوعهم من بدر، وعليه تكون ولادتها قبل النبوة بنحو سنة وقيل غير ذلك، وتوفيت بعد أبيها لستة أشهر على الصحيح ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة ودفنها علي ليلاً، وفاطمة كما قال ابن دريد مشتقة من الفطم وهو القطع أي المنع، سميت بذلك لأن الله تعالى فطمها عن النار كما وردت به الأحاديث، فهي فاطمة بمعنى مفطومة انتهى. قال الشرقاوي: ولم يعش من أولاد النبي صلى الله عليه وسلّم بعده إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر انتهى.
واعلم أن سن اليأس من الحيض اثنتان وستون سنة قمرية تقريبية على الصحيح وهو المعتمد وقيل ستون وقيل خمسون وهذا باعتبار الغالب، فلا ينافي ما صرحوا به من أنه لا آخر لسن الحيض فهو ممكن ما دامت حية (أقل النفاس مجة) أي دفعة من الدم، وفي عبارة لحظة أي بقدر ما تلحظه العين أي إن ما وجد منه عقب الولادة يكون نفاساً ولو قليلاً ولا يوجد أقل من مجة. (وغالبه أربعون يوماً وأكثره ستون يوماً) وذلك باستقراء الشافعي رضي الله عنه وعبوره سنتين كعبور الحيض أكثره.
((1/122)
فصل): في بيان ما لا ملامة من الشرع على تأخير الصلاة عن وقتها بسببه (أعذار الصلاة اثنان) الأعذار جمع عذر بضم الذال للإتباع وسكونها أي الأشياء التي ترفع ذنوب الصلاة بتأخيرها عن وقتها اثنان: الأول (النوم) أي إذا لم يتعدَّ به أي لم يتجاوز الحد به فلو تيقظ من نومه وقد بقي من وقت الفريضة ما لا يسع إلا الوضوء أو بعضه فلا يجب قضاؤها فوراً، ولو بقي من الوقت ما يسع الوضوء ودون ركعة وله صلاة فائتة قدم تلك الفائتة على الحاضرة لأن صاحبة الوقت صارت فائتة أيضاً أخذاً مما قالوه من أنه لو نوى الأداء حينئذٍ وقصد الأداء الحقيقي لم تنعقد صلاته، ولو شك بعد خروجه هل فعلها أو لا لزمه قضاؤها لأن الأصل عدم فعلها كما لو شك في النية ولو بعد خروجه من الصلاة، بخلاف ما لو شك بعد خروجه هل الصلاة عليه أو لا بأن بلغ أو أفاق أول النهار وشك هل حصل ذلك قبل طلوع الشمس فيجب عليه الصبح أو بعده فلا تجب فإنه لا يلزمه شيء ويقضي الشخص ما فاته من مؤقت وجوباً في الفرض وندباً في النفل متى تذكره وقدر على فعله تعجيلاً لبراءة الذمة ولخبر الصحيحين: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" رواه الشيخان، فإن لم يتذكره أو تذكره ولم يقدر على فعله لم يقض ويقضيه متى تذكره ولو في وقت الكراهة، نعم إن تذكره وقت الخطبة امتنع عليه فيؤخره لما بعد الصلاة، وإن كانت الجمعة تقضى ظهراً لا جمعة، والمبادرة إلى قضاء النفل سنة وكذا إلى الفرض إن فات بعذر وإلا وجبت إلا إن خاف فوت حاضرة فيبدأ بها وجوباً، فلا يجوز أن يصرف زمناً في غير قضائها كالتطوع إلا فيما يضطر إليه كنوم أو مؤنة من تلزمه مؤنته.(1/123)
ثم اعلم أنه إذا نام قبل دخول الوقت ففاتته الصلاة فلا إثم عليه وإن علم أنه يستغرق الوقت ولو جمعة على الصحيح ولا يلزمه القضاء فوراً لقوله صلى الله عليه وسلّم: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" رواه مسلم قال السويفي في للسببية أي ليس بسبب النوم تفريط أي إن نام قبل دخول الوقت، وأما إن نام بعد دخوله فإن علم أنه يستغرق الوقت حرم عليه النوم ويأثم إثمين: ثم الذي حصل بسبب النوم فلا يرتفع إلا بالاستغفار، وإن غلب على ظنه الاستيقاظ قبل خروج الوقت فخرج ولم يصل فلا إثم عليه وإن خرج الوقت لكنه يكره له ذلك إلا إن غلبه النوم بحيث لا يستطيع دفعه، وإن لم يغلب على ظنه الاستيقاظ أثم، ويجب إيقاظ من نام بعد الوجوب، ويسن إيقاظ من نام قبل الوقت إن لم يخش ضرراً لينال الصلاة في الوقت.
[(1/124)
تنبيه] كثرة النوم مما يورث الفقر للغني وزيادته لمن هو فقير. وفي الحديث: "لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر" وإن الرجل ليحرم الرزق بذنب أذنبه خصوصاً الكذب، وكثرة النوم توجب الفقر وكذلك النوم عرياناً إذا لم يستتر بشيء والأكل جنباً والتهاون بإسقاط المائدة وحرق قشر البصل وقشر الثوم وكنس البيت ليلاً وترك القمامة بضم القاف أي الكناسة في البيت، والمشي أمام المشايخ ونداء الوالدين باسمهما وغسل اليدين بالطين والتهاون بالصلاة وخياطة الثوب وهو على بدنه، وإسراع الخروج من المسجد والتبكير بالذهاب إلى الأسواق والبطء في الرجوع منها، وترك غسل الأواني وشراء كسر الخبز من الفقراء السؤال وإطفاء السراج بالنفس والكتابة بالقلم المعقود والامتشاط بمشط مكسور وترك الدعاء للوالدين والتعمم قاعداً والتسرول قائماً، والبخل وهو منع السائل مما يفضل عنده والتقتير وهو التضييق في النفقة، والإسراف وهو مجاوزة التوسط ذكره السويفي وقال صلى الله عليه وسلّم: "خير الأمور أوسطها" وقال صلى الله عليه وسلّم: "الخلق السيىء يفسد العلم كما يفسد الخل العسل".
[(1/125)
فائدة] قال سليمان الجمل: قد روى أنسبن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: "من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة فإذا كان يوم القيامة يقول الرب عز وجل: يا عبدي ادخل بيمينك الجنة" قال: هذا حديث غريب من حديث ثابت عن أنس. وروى نوفل الأشجعي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلّم: أوصني فقال: "اقرأ عند منامك قل يا أيها الكافرون} ((109) الكافرون:1) فإنه براءة من الشرك" أخرجه أبو بكر الأنباري وغيره. وقال ابن عباس: ليس في القرآن أشد غيظاً لإبليس منها لأنها توحيد وبراءة من الشرك انتهى. قال النووي في التبيان: يستحب أن يقرأ عند النوم آية الكرسي وقل هو الله أحد والمعوذتين وآخر سورة البقرة فهذه مما يهتم له ويتأكد الاعتناء به فقد ثبت فيه أحاديث صحيحة، ويستحب أن يقرأ إذا استيقظ من النوم كل ليلة آخر آل عمران من قوله تعالى: إن في خلق السموات والأرض} ((3)آل عمران:190) إلى آخرها فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ خواتيم آل عمران إذا استيقظ.
وقال صاحب إتمام الدرة الملتقطة: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ سورة الإخلاص مع المعوذتين وينفث على يديه ويمسح بهما على جسده عند النوم إذا كان وجعاً متألماً ويأمر بذلك، قال بعض العلماء: من واظب على قراءتها نال كل خير وأمن من كل شر في الدنيا والآخرة، ومن قرأها وهو جائع شبع أو عطشان روي. (و) الثاني: (النسيان) أي إذا لم ينشأ عن تقصير كلعب الشطرنج بكسر أوله وهو المختار وفتحه معجماً ومهملاً وهو حرام لأنه إن شرط فيه مال من الجانبين فقمار أو من أحدهما فمسابقة على غير آلة القتال ففاعلها متعاطٍ لعقد فاسد قاله شيخ الإسلام في شرح المنهج.
((1/126)
فصل): في بيان شروط صحة الصلاة. وأما شروط وجوب الصلاة فلم يذكرها المصنف لوضوحها أو لعدم اختصاصها بالصلاة وسأذكرها إن شاء الله تعالى تتميماً للفائدة. قال المصنف: (شروط الصلاة) وهي ما تتوقف عليها صحة الصلاة ولسيت منها (ثمانية) الأول: (طهارة الحدثين) أي عند قدرته فلو صلى بدونها ولو ناسياً لم تصح صلاته وفي صورة النسيان يثاب على قصده دون فعله إلا القراءة ونحوها بما لا يتوقف على وضوء فيثاب على فعله أيضاً، نعم إن كان جنباً لم يثب على القراءة على الأقرب، أما فاقد الطهورين فلا تشترط الطهارة في حقه مع وجوب الإعادة عليه. (و) الثاني (الطهارة عن النجاسة) أي التي لا يعفى عنها (في الثوب) أي الملبوس من كل محمول له وإن لم يتحرك بحركته وملاق لذلك (والبدن) أي الشامل لداخل أنفه أو فمه أو عينه (والمكان) أي ما يلاقي شيئاً من بدنه أو ملبوسه. واعلم أن النجاسة على أربعة أقسام: قسم لا يعفى عنه في الثوب والماء وهو معروف. وقسم يعفى عنه فيهما وهو ما لا يدركه الطرف المعتدل. وقسم يعفى عنه في الثوب دون الماء وهو قليل الدم لسهولة صون الماء عنه ولأن كثرة غسل الثوب تبليه ومن هذا القسم أثر الاستنجاء فيعفى عنه في البدن والثوب حتى لو سال منه عرق وأصاب الثوب من المحل المحاذي للفرج عفى عنه دون الماء. وقسم يعفى عنه في الماء دون الثوب وهو الميتة التي لا دم لها سائل كالقمل حتى لو حملها في الصلاة بطلت ومن هذا القسم منفذ الطير فإنه إذا كان عليه نجاسة ووقع في الماء لم ينجسه عكس منفذ الآدمي ولو حمله في الصلاة لم تصح.
[(1/127)
خاتمة] قال الشهاب الرملي في شرح منظومة ابن العماد: وتعرف القلة والكثرة بالعادة فما يقع التلطخ به ويعسر الاحتراز عنه فقليل، وما زاد فكثير لأن أصل العفو إنما أثبتناه لتعذر الاحتراز، فلينظر أيضاً في الفرق بين القليل والكثير إليه، وقيل الكثير ما بلغ حداً يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان، وقيل: إنه ما زاد على الدينار، وقيل إنه الكف فصاعداً، وقيل ما زاد على الكف، وقيل إنه الدرهم البغلي فصاعداً، وقيل ما زاد عليه، وقيل ما زاد على الظفر اهـ. والبغلي قيل: هو نسبة إلى ملك، والدرهم البغلي هو ثمانية دوانق بخلاف الدرهم الطبري فإنه أربعة دوانق، والدرهم الغالي فإنه ستة دوانق. (و) الثالث: (ستر العورة) بجرم طاهر يمنع رؤية لون البشرة بأن لا يعرف بياضها من نحو سوادها في مجلس التخاطب لقادر عليه ولو بإعارة أو إجارة وإن صلى في خلوة ولو في ظلمة والواجب سترها من أعلى وجوانب، فلو كانت بحيث ترى له أو لغيره في ركوع أو سجود من طوقه مثلاً لسعته بطلت وإن لم تر بالفعل، وكذا لو كان ذيله قصيراً بحيث لو ركع يرتفع عن بعضها فتبطل إذا لم يتداركه بالستر قبل ركوعه لا من أسفل، فلو كان يصلي في علو وتحته من يراها من ذيله لم يضر. قال الشبراملسي في حاشيته على النهاية للرملي: ويسن أن يلبس أحسن ثيابه ويحافظ مع ذلك على ما يتجمل به عادة ولو أكثر من اثنين ويتسرول. روي عن مالكبن عتاهية أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "إن الأرض تستغفر للمصلي بالسراويل وأولى الستر القميص مع السراويل ثم القميص مع الإزار ثم الرداء". ((1/128)
و) الرابع (استقبال القبلة) أي لعينها يقيناً في القرب وظناً في البعد لا لجهتها على الصحيح وذلك بالصدر لا بالوجه في حق القائم أو القاعد وقت القيام والقعود، أما في الركوع والسجود فمعظم البدن، أما المضطجع فيجب بالوجه ومقدم البدن والمستلقي فكذلك مع أخمصيه، ويجب رفع رأسه قليلاً إن أمكن وهذا عند الكلبي هو المراد بالنحر في قوله تعالى: فصل لربك وانحر} ((108) الكوثر:2) قال في معنى وانحر أي استقبل القبلة بنحرك أي بصدرك. والأصل في اشتراط ذلك قبل الإجماع قوله تعالى: فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} ((2) البقرة:144) أي فاستقبل بذاتك في الصلاة قصده وجهته، قال الشرقاوي: والمراد بالجهة عند اللغويين العين وإطلاقها على غير العين مجاز كما قاله الزيادي، والمراد بالمسجد الحرام الكعبة بخلافه في غير هذا الموضع من القرآن فإنه متى اطلق فيه فالمراد به جميع الحرم اهـ. قال في المصباح: قوله تعالى: فثم وجه الله} ((2) البقرة:115) أي جهته التي أمركم بها. وعن ابن عمر أنها نزلت في الصلاة على الراحلة. وعن عطاء نزلت في اشتباه القبلة اهـ. ويجوز ترك استقبال القبلة في حالتين: الأولى في شدة الخوف فإذا التحم القتال ولم يتمكنوا من تركه بحال لقلتهم وكثرة العدو أو اشتد الخوف ولم يلتحم القتال ولم يأمنوا أن يركب العدو أكتافهم لولوا وتفرقوا صلوا بحسب الإمكان وليس لهم التأخير عن الوقت.(1/129)
الحالة الثانية من النافلة في السفر المباح فلا يشترط طوله وأقله أن يسافر إلى محل لا يسمع فيه نداء الجمعة فيجوز للمسافر التنفل راكباً وماشياً إلى جهة مقصده في السفر الطويل والقصير، ثم إن راكب الدابة ولو في نحو هودج لا يجب عليه وضع جبهته في ركوعه وسجوده على سرجها أو معرفتها بل يومىء بهما ويكون سجوده أخفض من ركوعه، هذا إذا لم يمكنه إتمامهما والاستقبال في جميع صلاته وإلا وجب ذلك لتيسره عليه، وإن سهل عليه غيرهما من بقية الأركان فلا يلزمه شيء في جميع ذلك إلا الاستقبال في تحرمه فقط إن سهل وإلا فلا يلزمه شيء، وأما الماشي فيمشي في أربعة أشياء: القيام والاعتدال والتشهد والسلام. ويستقبل القبلة في أربعة: الإحرام والركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، ولا يكفيه الإيماء بالركوع والسجود.(1/130)
ثم اعلم أن مراتب القبلة أربعة: الأولى العلم بها بنحو رؤية. الثانية: خبر ثقة عن علم كقوله: أنا شاهدت القبلة هكذا وفي معناه نحو بيت الإبرة المعروف. الثالثة: الاجتهاد قال النووي في الإيضاح: ولا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة وهي كثيرة أقواها القطب وأضعفها الريح اهـ. الرابعة: تقليد المجتهد وهو قبول قوله، ويعتمد إخبار صاحب البيت إن علم أنه يخبره عن علم كأن يقول له: من أين جاء لك أن القبلة هكذا؟ فيقول: حررتها على القطب أو شاهدت الكعبة مثلاً، أما إذا أخبره عن اجتهاد فلا يجوز تقليده بل لا بد من اجتهاده، وكذا لو قال: القبلة هكذا ولم يعلم حاله هل هو عالم أو مجتهد؟ فلا بد من اجتهاد السائل. (و) الخامس: (دخول الوقت) أي معرفة دخوله يقيناً أو ظناً بالاجتهاد فمن صلى بدونها بأن هجم وصلى لم تصح صلاته وإن وقعت في الوقت لعدم الشرط بخلاف ما لو صلى بالاجتهاد ثم تبين أن صلاته كانت قبل الوقت فإنه إن كان عليه فائتة من جنسها وقعت عنها وإلا وقعت له نفلاً مطلقاً، فلو كان يصلي الصبح كل يوم بالاجتهاد، مدة ثم تبين أنه كان صلاه في كل يوم في تلك المدة قبل الوقت لم يجب عليه إلا قضاء صبح اليوم الأخير فقط لأن صبح كل يوم يقع عن الذي قبله، وصبح اليوم الأول وقع نفلاً مطلقاً، وصح أداءً بنية قضاء وعكسه حيث كان جاهلاً بالحال، فلو ظن خروج وقتها لغيم ونحوه فنواها قضاءً فتبين بقاؤه أو ظن بقاءه فنواها أداءً فتبين خروجه صح لاستعمال أحدهما بمعنى الآخر لغة، فإن كان عالماً عامداً لم يصح لتلاعبه، نعم إن قصد بذلك المعنى اللغوي لم يضر.(1/131)
ثم اعلم أن مراتب معرفة دخول الوقت ثلاثة، الأولى: العلم بنفسه أو بأخبار الثقة عن معاينة أو برؤية المزاول الصحيحة والمناكب الصحيحة والساعات المجرية وبيت الإبرة لعارف به وفي معناه أذان المؤذن العارف في الصحو. الثانية: الاجتهاد بورد من قرآن أو درس أو مطالعة علم أو نحو ذلك كخياطة وصوت ديك أو نحوه كحمار مجرب، ومعنى الاجتهاد بذلك أن يتأمل فيه كأن يتأمل في الخياطة هل أسرع فيها أو لا؟ وفي أذان الديك هل هو قبل عادته أو لا؟ وهكذا، ولا يجوز أن يصلي مستنداً لديكٍ من غير اجتهاد فيه. الثالثة: تقليد ثقة عارف عن اجتهاد فلا يقلد إذا قدر على الاجتهاد هذا في حق البصير، وأما الأعمى فله تقليد المجتهد ولو مع القدرة على الاجتهاد لأن شأنه العجز عنه.(و) السادس. (العلم بفرضيتها) أي بكون الصلاة المفروضة فرضاً وهذا لا بد منه في حق العامي وغيره قال الشرقاوي: هذا شرط لكل عبادة فكان الأولى إسقاطه (و) السابع: (أن لا يعتقد فرضاً) أي معيناً (من فروضها سنة) هذا في حق العامي وهو من لم يحصل طرفاً من الفقه يهتدي به إلى باقيه. (و) الثامن (اجتناب المبطلات) كتطويل ركن قصير عمداً ونحوه مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في كلام المصنف، وإنما لم يذكر المصنف الإسلام والتمييز لأنهما معلومان من طهارة الحدثين إذ شرطها النية وشرط النية الإسلام والتمييز ويعلم التمييز أيضاً من اشتراط معرفة الوقت.
[(1/132)
تنبيه] (الأحداث اثنان) الأول بإدخال الجنابة في الأكبر (أصغر و) الثاني (أكبر فالأصغر ما أوجب الوضوء) قال الجفري في الأبريقية: هي نواقضه. (والأكبر ما أوجب الغسل) وهي الجنابة والحيض والنفاس والولادة هذا على طريقة بعضهم وبعضهم جعل الأحداث ثلاثة أقسام: أكبر وأوسط وأصغر، فلكون ما يحرم بالحيض أكثر من غيره يسمى حدثاً أكبر، ولكن ما يحرم بالجنابة أقل مما يحرم بالحيض وأكثر ما يحرم بالحدث الأصغر يسمى حدثاً أوسط، ولكون ما يحرم بناقض الوضوء أقل من ذلك يسمى حدثاً أصغر فأصغريته وأكبريته وتوسطه باعتبار قلة ما يحرم به وعدم قلته.
(تنبيه آخر) قال: (العورات أربع) وهي لغة النقص والشيء المتقبح وسمي المقدار الذي سيذكره المصنف بها لقبح ظهوره، وتطلق شرعاً على ما يجب ستره في الصلاة وعلى ما يحرم النظر إليه (عورة الرجل) أي الذكر المحقق ولو كافراً أو عبداً أو صبياً ولو غير مميز (مطلقاً) سواء في الصلاة أو خارجها ما بين السرة والركبة، لكن بالنسبة لنظر محارمه ومماثله، أما نفس السرة والركبة فليسا بعورة لكن يجب ستر بعضهما من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أما عورته بالنسبة لنظر الأجنبية إليه فجميع بدنه حتى الوجه والكفين ولو عند أمن الفتنة ولو رقيقاً فيحرم عليها أن تنظر إلى شيء من ذلك، وبالنسبة للخلوة السوأتان فقط على المعتمد فتحصل أن له ثلاث عورات.
[(1/133)
فرع] اعلم أن نظر المرأة إلى زوجها جائز في جميع بدنه كعكسه، نعم إن منعها من النظر إلى عورته امتنع عليها النظر إليها بخلاف العكس فإنه جائز قطعاً لأنه يملك التمتع بها ولا تملك التمتع به، لكن نظره إلى فرجها قبلاً أو دبراً مكروه إذا كان بغير حاجة وإلى باطنه أشد كراهة. (والأمة) بالجر معطوف على الرجل أي وعورتها ولو خنثى ولو مبعضة ومدبرة ومكاتبة وأم ولد (في الصلاة) أي وكذا عند الرجال المحارم وفي الخلوة وكذا عند النساء (ما بين السرة والركبة) أي فعورتها في جميع ذلك ما بين ذلك، وأما عورتها عند الرجال الأجانب فجميع بدنها كالحرة كما سيذكره المصنف. فتلخص أن لها عورتين وقيل إنها كالحرة بالنسبة لغير الأجانب إلا رأسها فتكون عورتها ما عدا الوجه والكفين والرأس، وقيل ما لا يبدو عند المهنة، وقيل الركبة منها دون السرة، وقيل عكسه، وقيل السوأتان فقط وبه قال مالك وجماعة.
((1/134)
وعورة الحرة) أي كاملة الحرية ومثلها الخنثى (في الصلاة جميع بدنها ما سوى الوجه والكفين) أي ظهراً أو بطناً إلى الكوعين فلا يجب سترهما ودخل فيما سواهما الشعر، وكذا باطن القدم فيجب ستره ولو بالأرض حال القيام فيكفي ذلك قياساً على ما لو انكشف بعض وركه في تشهده مثلاً فستْره بإلصاقه بالأرض، فإن ظهر من باطن القدم شيء عند سجودها أو ظهر عقبها عند ركوعها أو سجودها بطلت صلاتها، وأما الوجه والكفان فليسا بعورة وإنما لم يكونا عورة لأن الحاجة تدعو إلى إبرازهما. (وعورة الحرة والأمة عند الأجانب) أي بالنسبة لنظرهم إليهما (جميع البدن) حتى الوجه والكفين ولو عند أمن الفتنة فيحرم عليهم أن ينظروا إلى شيء من بدنهما ولو قلامة ظفر منفصلة منهما. (وعند محارمهما) أي بالنسبة للرجال المحارم (والنساء) أي مطلقاً غير الكافرات في الحرة خاصة، وكذا في الخلوة (ما بين السرة والركبة) أما بالنسبة للنساء الكافرات في الحرة فما عدا ما يبدو عند المهنة أي الخدمة والاشتغال بقضاء حوائجها، فتلخص أن للحرة أربع عورات، وأما الأمة فقد تقدم أن لها عورتين.
[تنبيه] منع الرافعي النظر إلى فرج الصغيرة، وقطع القاضي حسين بجواز النظر إلى فرج الصغيرة التي لا تشتهي والصغير أيضاً. وقطع المروزي بالجواز في الصغير خاصة وإباحة ذلك تبقى إلى بلوغ سن التمييز ومصيره بحيث يمكنه ستر عورته عن الناس.
[(1/135)
فرع] تجب الصلاة على من اتصف بهذه الصفات الست: أحدها: إسلام ولو فيما مضى كمرتد فلا يجب على الكافر الأصلي القضاء إذا أسلم بل لا ينعقد، وأما المرتد فيجب عليه القضاء حتى زمن الجنون دون زمن الحيض والنفاس. وثانيها: بلوغ بالسن أو بالاحتلام أو بالحيض فلا يجب القضاء على الصبي بعد البلوغ لكن يندب له إذا بلغ قضى ما فاته زمن التمييز إلى البلوغ دون ما قبله فإنه يحرم ولا ينعقد خلافاً لجهلة الصوفية قاله عبدالكريم. وثالثها: عقل فلا قضاء على المجنون إذا أفاق إلا المرتد ولا المغمى عليه إلا إذا تعدى فيجب عليهما حينئذٍ، وأما إذا لم يتعدَّ فليس بواجب بل يستحب على المعتمد. ورابعها: سلامة إحدى حواس السمع والبصر فلا تجب الصلاة على من خلق أصم أعمى ولو ناطقاً فلا يجب عليه القضاء إن زال مانعه. خامسها: بلوغ الدعوة فلا تجب الصلاة على من لم تبلغه الدعوة لكن لو أسلم من لم تبلغه وجب عليه القضاء قاله الشبراملسي. والسادس: نقاء من الحيض والنفاس فلا يجب على الحائض والنفساء قضاؤها ولو في ردة بل ولا يندب، قال محمد البقري: فلو أرادتا القضاء فإنه يصح مع الكراهة اهـ. وإذا زالت الموانع المذكورة منهم وقد بقي من وقت الصلاة ما يسع قدر تكبيرة تحرم لزمتهم تلك الصلاة، وكذلك الصلاة التي قبلها إن صلحت لجمعها معها.
[(1/136)
فرع آخر]: وتكره الصلاة على من اتصف بأحد هذه الأمور العشرين. أحدها: حاقب بالموحدة أي بالغائط. وثانيها: حاقن بالنون أي بالبول. وثالثها: حاقم بالميم أي بالبول والغائط معاً. ورابعها: صافن بالنون أي قائم على رجل. وخامسها: صافد بالدال أي قارن بين قدميه معاً كأنهما في قيد. وسادسها: حازق بالزاي والقاف أي بضيق الخف، قال الشرقاوي: فسره بعضهم بالمدافع للريح، وأما الذي يضيق الخف فيقال له حافز وكلٌّ صحيح اهـ. وسابعها: جائع إذا حضر الطعام والشراب أو قرب حضورهما. وثامنها: عطشان. وتاسعها: حافز بالفاء والزاي أي بالريح. وعاشرها: من حضره طعام تتوق نفسه إليه وإن لم يكن جائعاً وكالحضور قرب حضوره وكالتوقان للطعام التوقان للجماع مع حضور حليلته. وحادي عشرها: من غلبه النوم. وثاني عشرها: من في المقبرة غير المنبوشة وكذا المنبوشة إن فرشت وإلا فلا تصح الصلاة فيها. وثالث عشرها: من في مزبلة وهو بفتح الموحدة وضمها موضع الزبل. ورابع عشرها: من في المجزرة وهي موضع ذبح الحيوان. وخامس عشرها: من في الحمام غير الجديد ولو في مسلخه أي في مكان سلخ الثياب. وسادس عشرها: من في عطن الإبل ولو طاهراً وهو الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاربة ليشرب غيرها فإذا اجتمعت سيقت منه إلى المرعى. وسابع عشرها: من في قارعة الطريق أي أعلاه وذلك إذا كان في البنيان دون البرية. وثامن عشرها: من في ظهر الكعبة. وتاسع عشرها: من في الكنيسة والبيعة وسائر مأوى الشياطين كمواضع الخمر والمكس قال شيخنا أحمد النحراوي: الكنيسة باعتبار الزمن السابق هي معبد اليهود والبيعة معبد النصارى، وأما باعتبار هذا الزمن فبعكس هذا اهـ. قال الشرقاوي: ومحل الكراهة في المذكورات حيث لم يخف فوت المكتوبة وإلا فلا كراهة.(1/137)
وعشروها: منفرد والجماعة قائمة سواء كان منفرداً عن الجماعة والصف بأن أحرم بصلاته فرادى أو عن الصف فقط بأن أحرم بها جماعة وانفرد عن الصف الذي من جنسه فانفراده مكروه مفوت لفضيلة الجماعة كما ذكره الرملي لا لفضيلة الصف فقط كما زعمه بعضهم. وأما المكروهات في الصلاة فستأتي إن شاء الله تعالى وهي إحدى وعشرون.
((1/138)
فصل): في بيان أركان الصلاة (أركان الصلاة سبعة عشر) وهذه طريقة من جعل الطمأنينات في محالها الأربع أركاناً مستقلة كما في الروضة، وعدها بعضهم ثمانية عشر بزيادة نية الخروج من الصلاة كأبي شجاع والصحيح أنها سنة، وعدها بعضهم كذلك أيضاً لكن لا بما ذكر بل بزيادة الموالاة كما في الستين، والمعتمد أنها شرط للركن، وعدها بعضهم أربعة عشر بجعل الطمأنينات في محالها الأربع ركناً واحداً لاتحاد جنسها، وبعضهم خمسة عشر بزيادة قرن النية بالتكبير كما في التحرير والمعتمد أنها هيئة للنية، ومنهم من جعلها تسعة عشر بجعل الخشوع ركناً كالغزالي، ومنهم من جعلها عشرين بزيادة ذات المصلى، والصواب أنه لا يعد من الأركان في الصلاة لأن لها صورة في الخارج يمكن تعقلها وتصورها بدون تعقل مصلَ وفارقت نحو الصوم حيث عدوا الصائم ركناً بعدم وجود صورة محسوسة في الخارج فيه، وعد بعضهم فقد الصارف من الأركان، وعلى عد هذه الزوائد أركاناً تكون جملتها ثلاثة وعشرين، والمعتمد ما في المنهاج وغيره من جعلها ثلاثة عشر بجعل الطمأنينة هيئة تابعة للركن: ثمانية أفعالاً وهي: النية والقيام والركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين والجلوس الأخير والترتيب. وخمسة أقوالاً: تكبيرة التحرم والفاتحة والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم والسلام. قال محمد البقري: وقد شبهت الصلاة بالإنسان فالشرط كحياته والركن كرأسه والأبعاض كأعضائه والهيئات كشعوره التي يتزين بها. (الأول: النية) أي بالقلب فلا يجب النطق بها باللسان لكن يسن ليعاون اللسان القلب ولا عبرة بنطق اللسان بخلاف ما في القلب كأن نوى الظهر بقلبه وسبق لسانه إلى غيره، ويجب قرن النية بتكبيرة التحرم لأنها أول واجبات الصلاة.(1/139)
واعلم أن لهم مقارنة حقيقية واستحضاراً حقيقياً ومقارنة عرفية واستحضاراً عرفياً إجماليين، والمقارنة الحقيقية بعد الاستحضار الحقيقي والعرفية بعد العرفي، فالاستحضار الحقيقي أن يستحضر في ذهنه ذات الصلاة أي أركانها الثلاثة عشر التي من جملتها النية وما يجب التعرض له فيها تفصيلاً بأن يقصد كل ركن بذاته على الخصوص وتكون هيئتها أمامه كالعروس، والمقارنة الحقيقية أن يقرن هذا المستحضر بأول جزء من أجزاء التكبيرة ويستديم ذلك إلى آخرها، والاستحضار العرفي أن يستحضر هيئة الصلاة إجمالاً بأن يقصد فعلها ويعينها من ظهر أو عصر وينوي الفرضية، والمقارنة العرفية أن يقرن هذا المستحضر إجمالاً بأي جزء من أجزاء التكبيرة، واختار النووي في المجموع وغيره ما اختاره إمام الحرمين والغزالي أنها تكفي المقارنة العرفية أي الإجمالية بعد الاستحضار العرفي بأن لا يقصد الركوع بذاته والقراءة بذاتها وهكذا لأن المقارنة الحقيقية تعجز عنها القدرة البشرية غالباً. (الثاني: تكبيرة الإحرام) هذا من إضافة السبب للمسبب لأنه يحرم بها ما كان حلالاً قبلها كأكل وكلام فيقول: الله أكبر ولا تضر زيادة لا تمنع اسم التكبير ولكنها خلاف الأولى ك الله الأكبر بزيادة اللام والله الجليل الأكبر، وكذا كل صفة من صفاته تعالى إذا لم يطل بها الفصل كقوله: الله عز وجل أكبر لبقاء النظم والمعنى بخلاف ما تخلل غير صفاته كالضمير فإنه يضر نحو الله هو أكبر، وكذا النداء نحو الله يا رحمن أو يا رحيم أكبر والله يا أكبر. ((1/140)
الثالث: القيام على القادر في الفرض) هو نصب فقار ظهره أي عظامه التي هي مفاصله وإن أطرق رأسه بل هو مندوب ولو قدر على ذلك بمعين بأجرة مثل قادر عليها فاضلة عما يعتبر في زكاة الفطر، هذا إذا كان يحتاجه عند ابتداء النهوض لكل ركعة، فإن احتاجه في جميع صلاته لم يجب أو بعكازة وإن احتاجها في جميع صلاته، والعكازة بضم العين عصا أقصر من الرمح ولها زج أي حديد من أسفلها، وهذا الفرق بين الصورتين هو المعتمد، فالمعين يجب ابتداء لا دواماً بخلاف العكازة فإنها تجب دواماً أيضاً ولو بإعارة أو بإجارة قدر عليها كما في شراء ماء الوضوء لا بهبة لها أو لثمنها فلا يلزمه القبول. والأصل في وجوب القيام قوله صلى الله عليه وسلّم لعمرانبن حصين وكانت به بواسير: "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب" روى هذه الأحوال الثلاثة البخاري. زاد النسائي الحالة الرابعة وهي: "فإن لم تستطع فمستلقياً لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" قال في المصباح: والباسور قيل ورم تدفعه الطبيعة إلى كل موضع من البدن يقبل الرطوبة من المقعدة والانثيين والاشفار وغير ذلك، فإن كان في المقعدة لم يكن حدوثه دون انتفاخ العروق اهـ. واعلم أن سيدنا عمر إن كان من أكابر أعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل إن الملائكة كانت تسلم عليه جهاراً فلما شفي من مرضه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلّم احتجبت عنه الملائكة فشكا للنبي صلى الله عليه وسلّم احتجاب الملائكة عنه فقال له: احتجابهم عنك بسبب شفائك فقال له: ادع الله بعود المرض فلما عاد له مرضه عادت له الملائكة فيستجاب الدعاء عند ذكر اسمه كرامة له.
[(1/141)
فرع] لو طرأ العجز في أثناء الصلاة أتى بمقدوره كما لو طرأت القدرة في أثنائها فإنه يأتي بمقدوره أيضاً، وتجب القراءة في هوى العاجز لأنه أكمل مما بعده بخلاف نهوض القادر فلا تجزئه القراءة فيه لقدرته عليها فيما هو أكمل منه، فلو قرأ فيه شيئاً أعاده، ولو قدر على القيام بعد القراءة وجب قيام بلا طمأنينة ليركع منه، وإنما لم تجب الطمأنينة لأنه غير مقصود بنفسه، وإن قدر عليه في الركوع قبل الطمأنينة انتصب إلى حد الركوع ليطمئن، فإن انتصب ثم ركع عامداً عالماً بطلت صلاته أو بعد الطمأنينة فقد تم ركوعه، ولو قدر عليه في الاعتدال قبل الطمأنينة قام واطمأن، وكذا بعدها إن أراد قنوتاً في محله وهو اعتدال الركعة الأخيرة من الصبح وإلا فيجوز القيام، فإن قنت قاعداً عامداً عالماً بطلت صلاته لأنه أحدث جلوساً للقنوت مع القدرة على القيام هذا إذا طال جلوسه وإلا فلا يضر. قوله على القادر، خرج به العاجز سواء كان العجز حسياً كالمقعد أو شرعياً كاحتياجه في مداواته من وجع العين إلى الاستلقاء فلا يجب عليه القيام، ولا بد في ذلك من إخبار طبيب عدل أنه يفيد ويكفي معرفة نفسه إن كان طبيباً، ومثل ذلك ما لو خاف راكب سفينة دوران رأسه أو غرقاً فيصلي قاعداً ولا يعيد، بخلاف ما إذا صلى قاعداً لزحمة فيها فإنه يعيد لندرة ذلك، والضابط كل ما يذهب خشوعه أو كماله أو يحصل به مشقة لا تحتمل عادة وهي المرادة بالشديدة كان مجوز الترك القيام في الفرض أي العيني أو الكفائي فيشمل المنذورة والمعادة وصلاة الصبي وإن لم تجب فيها نيته بخلاف المعادة، وخرج بالفرض النفل فللقادر على القيام فعله قاعداً أو مضطجعاً، لكن إذا صلى مضطجعاً وجب أن يأتي بركوعه وسجوده تامين بأن يقعد لهما ولا يومىء بهما لعدم وروده، وأما إذا تنفل مستلقياً مع إمكان الاضطجاع لم يصح وإن أتم الركوع والسجود لعدم وروده.(1/142)
ثم اعلم أن القيام أفضل الأركان ثم السجود ثم الركوع ثم الاعتدال فالتطويل في القيام أفضل ثم في السجود ثم في الركوع ثم في الاعتدال. (الرابع: قراءة الفاتحة) أي حفظاً أو تلقيناً أو نظراً في المصحف أو نحو ذلك ولو بواسطة سراج لمن في ظلمة، وتجب في كل ركعة سواء الصلاة السرية أو الجهرية وسواء الإمام والمأموم والمنفرد لخبر الصحيحين: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" قال البغوي في المصابيح وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً" أي غير تمام، فقيل لأبي هريرة إنها تكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: أثني علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" أخرجه الشيخان. ثم إن عجز المصلي عنها لزمه قراءة قدرها من بقية القرآن ولو مفرقاً على المعتمد، ثم إن عجز عن ذلك لزمه قراءة قدرها من ذكر أو دعاء ويجب كونه سبعة أنواع مثالها في الذكر سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهذه خمسة أنواع وما شاء الله كان نوع وما لم يشأ الله لم يكن نوع فالجملة سبعة أنواع، لكن قال السويفي: وهذه ستة أنواع فيضم إليها البسملة إن كان يحفظها وإلا ضم إليها نوعاً آخر انتهى.(1/143)
ثم يكرر ذلك. أو يزيد عليه حتى يبلغ قدر الفاتحة والدعاء كالذكر ويعتبر تعلقه بالآخرة إن عرف ذلك وإلا أتى بدعاء دنيوي ويجب أن يكون بالعربية فإن عجز عنها ترجم بأي لغة شاء، فيجب تقديم ترجمة المتعلق بالآخرة على عربية غيره فإن لم يعرف غير المتعلق بالدنيا أتى به وأجزأ، ومن المتعلق بالآخرة: اللهم اغفر لي وارحمني وسامحني وارض عني. ومن المتعلق بالدنيا: اللهم ارزقني زوجة حسناء أو وظيفة. ثم إن عجز عن ذلك وقف بقدر الفاتحة وجوباً ولا يترجم عن الفاتحة ولا عن بقية القرآن إذا كان بدلاً عنها بخلاف التكبير عند العجز عن العربية فيترجم عنه، ولا يجب عليه تحريك لسانه بخلاف الأخرس الذي طرأ خرسه (الخامس: الركوع) وأقله للقائم أن ينحني قدر وصول راحتي معتدل الخلقة ركبتيه يقيناً، والمراد بالراحة بطن الكف خاصة ولا يكتفى بوصول الأصابع وأكمله أربعة أشياء: الأول تسوية ظهره وعنقه ورأسه بحيث تصير كلوح واحد من نحاس لا اعوجاج فيه. الثاني: نصب ركبتيه. الثالث: قبضهما بكفيه. الرابع: تفريق أصابعه للقبلة تفريقاً وسطاً، أما القاعد فأقله في حقه محاذاة جبهته أمام ركبته وأكمله محاذاتها محل سجوده من غير مماسة وإلا كان سجوداً لا ركوعاً.
((1/144)
واعلم) أنه يجب في الركوع أن لا يقصد به غيره فقط، ويسن أن يقول فيه: سبحان ربي العظيم وبحمده. وأقله مرة والاقتصار عليها خلاف الأولى، ويأتي الإمام بالثلاث وإن لم يرض المأمومون، فإذا زاد عليها بغير رضاهم كره وإلا كمل منها خمس إلى إحدى عشرة ويزيد المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وشعري وبشري وما استقلت به قدمي لله رب العالمين. فالإتيان بالثلاث في التسبيح مع هذا الدعاء أولى من الزيادة عليها مع عدمه. وفي المصابيح قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
((1/145)
السادس: الطمأنينة فيه) أي في الركوع ولا تقوم زيادة الهوى مقام الطمأنينة، وأقلها أن تستقر أعضاؤه راكعاً بحيث ينفصل رفعه عن هويِه. (السابع: الاعتدال) ولو في النفل وهو عود المصلي إلى ما ركع منه من قيام أو قعود، ويجب أن لا يقصد بالاعتدال غيره، وأما الرفع من الركوع فهو مقدمة له كالهوي للركوع والسجود، وقيل الركن مجموع الرفع والاعتدال، ويسن أن يقول في الرفع: سمع الله لمن حمده، وفي اعتداله: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، وزاد في التحقيق: حمداً كثيراً مباركاً فيه بعد ربنا لك الحمد ويزيد من مر ما لم يرد القنوت أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبيد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. (الثامن: الطمأنينة فيه) أي في الاعتدال، ولو سجد ثم شك هل تم اعتداله أو لا اعتدل ثم اطمأن وجوباً ثم سجد. (التاسع: السجود مرتين) أي في كل ركعة، ويسن أن يقول فيه: سبحان ربي الأعلى وبحمده فقد ورد عن عتبةبن عامر أنه قال: لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال صلى الله عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم، ويحصل أصل السنة بمرة وأدنى الكمال ثلاث ثم خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشرة ولا يزيد أحد على ذلك سوى المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل والمأموم ويزيد من ذكر: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين. وزاد في الروضة: بحوله وقوته قبل تبارك، ويسن إكثار الدعاء في السجود لحديث مسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه أي رحمته وعفوه وهو ساجد فأكثروا الدعاء أي في سجودكم فَقمِنٌ أي فحقيق أن يستجاب لكم، قال البغوي في المصابيح عن الشيخين: وقال أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره وعلانيته وسره.(1/146)
وقالت عائشة: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ويسن فتح عينيه حالة السجود. (العاشر: الطمأنينة فيه) أي السجود وهذه إحدى شروط السجود السبعة التي ستأتي في كلام المصنف رضي الله عنه. (الحادي عشر: الجلوس بين السجدتين) أي في كل ركعة ولو في نفل سواء أصلى قاعداً أو مضطجعاً فلا يكفي ما دون الجلوس وأقله أن يستوي جالساً، وهذا هو المراد بالنحر عند عطاء في قوله تعالى: وانحر} ((108) الكوثر:2) قال: أمره الله سبحانه وتعالى أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره. قال الشبراملسي: وقد جزم ابن المقري بعدم وجوب الاعتدال والجلوس بين السجدتين في النفل اهـ وأكمله أن يقول: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني واعف عني. قوله: رب اغفر لي أي استر ما وقع من ذنوبي وما سيقع منها. وقوله: وارحمني أي رحمة واسعة. وقوله: واجبرني أي أغنني واعطني مالاً كثيراً وهو من باب قتل. وقوله: وارفعني أي في الدنيا والآخرة. وقوله: وارزقني أي رزقاً واسعاً، ومحل جواز الدعاء بذلك إن قصد الرزق من الحلال أو أطلق وإلا حرم. وقوله: واهدني أي لصالح الأعمال. وقوله: وعافني أي سلمني من بلايا الدنيا والآخرة. وقوله: واعف عني أي امح ذنوبي، ويأتي في الضمائر المذكورة بلفظ الإفراد ولو إماماً لأن التفرقة بينه وبين غيره خاصة بالقنوت، قال السويفي في تحفة الحبيب: ويسن للمنفرد وإمام محصورين رضوا بالتطويل أن يزيدوا على ذلك: رب هب لي قلباً تقياً من الشرك برياً لا كافراً ولا شقياً اهـ.(1/147)
ولو طول الجلوس بين السجدتين عن الدعاء الوارد فيه بقدر أقل التشهد بطلت الصلاة كما لو طول الاعتدال زيادة عن الدعاء الوارد فيه بقدر الفاتحة إلا في محل طلب فيه التطويل كاعتدال الركعة الأخيرة من سائر الصلوات لطلب تطويله في الجملة بالقنوت وكصلاة التسبيح، قال السويفي: قوله في الجملة أي في غير هذه الصورة قاله الرحماني اهـ. وإنما بطلت الصلاة بتطويلهما لأنهما ركنان قصيران فلا يطولان ولو نام قاعداً متمكناً في الصلاة لم يضر إن قصر، وكذا إن طال في ركن طويل فإن طال في ركن قصير بطلت صلاته لأن مقدمات النوم تقع بالاختيار فنزل منزلة العامد. (الثاني عشر: الطمأنينة فيه) أي الجلوس بين السجدتين.
[(1/148)
فائدة] اعلم أن الأعداد المركبة كلها مبنية صدرها وعجزها وتبنى على الفتح نحو أحد عشر بفتح الجزأين إلا اثني عشر واثنتي عشرة فيعرب صدرهما كالمثنى، وأما عجزهما فيبنى على الفتح، قال عبد الله الفاكهي في شرح ملحة الإعراب: وإلا ثماني عشرة فلك فتح الياء وإسكانها ويقل حذفها مع بقاء كسر النون وفتحها اهـ. ويعرف الجزء الأول من جميع الأعداد المركبة بأل إذا أريد تعريفه خصوصاً إذا كان مبتدأ كما في هذا المتن كما قال أبو القاسم الحريري في شرح ملحة الإعراب أيضاً: وتفتح الياء من ثماني عشر وقد سكنها بعضهم، وإذا عرفت هذا النوع من العدد أدخلت الألف واللام على الأول فقلت: رأيت الأحد عشر رجلاً اهـ. وإنما بنى الصدر لأنه كجزء الكلمة على ما قاله الرضي وبنى العجز لتضمنه معنى حرف العطف وهو الواو قاله الأشموني. (الثالث عشر: التشهد الأخير) وهو الذي يعقبه سلام وإن لم يكن للصلاة تشهد أول كالصبح والجمعة أو التعبير بالأخير جرى على الغالب من أن أكثر الصلاة له تشهدان. اعلم أن التشهد أربع جمل: الأولى التحيات لله، الثانية سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الثالثة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، الرابعة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وشروطه تسعة، الأول: إسماع النفس به كالفاتحة. الثاني: قراءته قاعداً إلا لعذر. الثالث: أن يكون بالعربية للقادر عليها، ولو بالتعلم، الرابع: عدم الصارف كالفاتحة. الخامس: الموالاة بأن لا يفصل بين كلماته بغيرها ولو ذكراً أو قرآناً نعم يغتفر وحده لا شريك له بعد إلا الله لأنها وردت في رواية، وكذا زيادة يا في أيها النبي وزيادة ميم في السلام عليك. السادس: مراعاة الحروف ولا يجوز إبدال لفظ أقل من التشهد ولو بمرادفه كالنبي بالرسول وعكسه وأشهد بأعلم ومحمد بأحمد وغير ذلك.(1/149)
السابع: مراعاة الكلمات. الثامن: مراعاة التشديدات فيجب التشديد أو الهمزة في قوله أيها النبي وصلاً ووقفاً فلو تركهما لم تصح قراءته ولو أظهر النون المدغمة في اللام في أن لا إله إلا الله بطل تشهده لتركه شدة منه نعم يعذر في ذلك الجاهل لخفائه عليه قاله الشرقاوي، وكذا نقله السويفي عن الرملي، ويضر إسقاط شدة: محمداً رسول الله لكن قال الشيخ محمد الفضالي: يغتفر في هذه للعوام دون الأولى، وقال السويفي: المعتمد في هذه عدم البطلان كما في الشبراملسي على أن البزي خير بين الإدغام والإظهار في النون والتنوين مع اللام والراء ولأنه لما أظهر التنوين في الصيغة الأخرى وهي: أن محمداً عبده ورسوله لم يضر إظهاره هنا، وأما ترك الشدة والإظهار معاً سواء الوقف أو غيره فيضر خلافاً للقليوبي حيث جوز إسقاطهما معاً في الوقف. التاسع: الترتيب إن حصل بعدمه تغيير المعنى نحو: التحيات عليك السلام، وأما إذا لم يلزم على عدم الترتيب تغيير معناه كأن قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته التحيات لله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فلا يشترط الترتيب. (الرابع عشر: القعود فيه) أي الجلوس للتشهد الأخير، وكذا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم وللتسليمة الأولى ففي ههنا بمعنى اللام أي لأجل التشهد وذلك على طريقة قوله تعالى حكاية عن قول زليخا: فذلكن الذي لمتنني فيه} ((12) يوسف:32) أي لأجل حبي يوسف عليه السلام، ومثله في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة قاله ابن هشام في المغني. قال في المصباح: الجلوس هو الانتقال من سفل أو علو والقعود هو الانتقال من علو إلى أسفل، فعلى الأول يقال لمن هو نائم أو ساجد: اجلس، وعلى الثاني لمن هو نائم: اقعد. ((1/150)
الخامس عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فيه) أي في القعود بعد التشهد، قال الشرقاوي: وأقل الصلاة على النبي وآله: اللهم صلِّ على محمد وآله ويكفي صلى الله على محمد أو على رسوله أو النبي دون أحمد والماحي أو عليه لأن الصلاة يطلب فيها مزيد الاحتياط فلم يغتفر فيها ما فيه نوع إبهام، بخلاف الخطبة فإنها أوسع منها وأكملها الصلاة الإبراهيمية وهي أفضل الصيغ فيبر بها من حلف أنه يصلي بأفضلها اهـ. قال ابن حجر في المنهج القويم: وتتعين صيغة الدعاء هنا لا في الخطبة لأنها أوسع باباً إذ يجوز فيها الفعل الفاحش والكثير بخلاف الصلاة، وشروط الصلاة كشروط التشهد فلو أبدل لفظ الصلاة بالسلام أو بالرحمة لم يكف اهـ. والمراد بصيغة الدعاء هي صيغة الأمر والماضي وخرج بها المضارع للمتكلم واسم الفاعل كقوله: أصلي وأنا مصل فإنه لا يكفي، قال البقري وغيره من الفضلاء: والأكمل أن يأتي بلفظ السيادة لأن فيه سلوك الأدب. قال عبد العزيز في فتح المعين: والسلام تقدم في تشهد آخر فليس هنا إفراد الصلاة عنه انتهى. أي فلا يحكم بأن الصلاة هنا مكروهة، أو خلاف الأولى بسبب إفرادها عن السلام لأن السلام قد تقدم، وأيضاً إن محل ذلك في غير الوارد قال الشرقاوي: ولا يشترط الموالاة بينها وبين التشهد لأنها ركن مستقل فلا يضر تخلل ذكر بينهما. (السادس عشر: السلام) أي السلام الأول وشروطه عشرة: الأول: الإتيان بأل فلا يكفي سلام عليكم لعدم وروده. الثاني: كاف الخطاب فلا يكفي السلام عليه أو عليهما أو عليهم أو عليها أو عليهن. الثالث: ميم الجمع فلا يكفي السلام عليكما أو عليك. الرابع: أن يأتي به بالعربية إن قدر عليها وإلا ترجم وأن يتلفظ فلا يكفي الأمان عليكم مثلاً. الخامس: أن يسمع به نفسه حيث لا مانع من السمع فلو همس به حيث لم يسمع به نفسه لم يعتد به فتجب إعادته وإن نوى الخروج من الصلاة بذلك بطلت لأنه نوى الخروج قبل السلام.(1/151)
السادس: أن يوالي بين كلمتيه فلو لم يوال بأن سكت سكوتاً طويلاً أو قصيراً قصد به القطع ضر، وكذا لو فصل بين كلمتيه بكلام أجنبي كما في الفاتحة. السابع: أن يأتي به من جلوس أو بدله فلا يصح الإتيان به من قيام مثلاً. الثامن: أن يكون مستقبل القبلة بصدره فلو تحول به عن القبلة قبل إكماله بطلت بخلاف الالتفات بالوجه فإنه لا يضر بل يسن أن يلتفت به في الأولى يميناً حتى يرى من خلفه خده الأيمن وفي الثانية يساراً حتى يرى من خلفه خده الأيسر. التاسع: أن لا يقصد به غيره فيقصد به التحلل فقط أو مع الخبر أو يطلق فلو قصد به الخبر لم يصح. العاشر: أن لا يزيد فيه على الوارد زيادة تغير المعنى كأن قال: السلام وعليكم بالواو بين المبتدأ والخبر وأن لا ينقص عنه بما يغير المعنى كأن يقول: السام عليكم نعم لو قال السلام التام أو الحسن عليكم لم يضر، وكذا لو قال: السلم بكسر السين أو فتحها مع سكون اللام أو بفتح السين مع اللام وقصد به معنى السلام فإنه يكفي، فإن قصد به غير معناه وهو الصلح أو أطلق بطلت صلاته إن خاطب وتعمد، ولو جمع بين اللام والتنوين لم يضر، وكذا لو قال: والسلام عليكم بالواو في المبتدأ بخلاف التكبير ويجزىء عليكم السلام مع الكراهة فلا يشترط ترتيب كلمتيه لتأدية معنى ما قبله. ((1/152)
السابع عشر: الترتيب) أي للأركان المذكورة وجعل كل شيء في مرتبته فهو من الأفعال أو وقوع كل شيء في مرتبته فهو صورة الصلاة وصورة الشيء جزء منه، ودليل وجوب الترتيب والذي قبله الاتباع مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويتصور الترتيب بين النية والتكبير والقيام والقراءة والجلوس والتشهد والصلاة لكن باعتبار الابتداء لا باعتبار الانتهاء لأنه لا بد من استحضار النية قبل التكبير، وتقديم القيام على القراءة، وتقديم الجلوس على التشهد والصلاة كما استظهره شيخنا محمد حسب الله، وكذا في تحفة الحبيب، وأما بالنسبة إلى هذه الأركان مع محالها فليست مرتبات فهي مستثنيات من وجوب الترتيب، فلو ترك الترتيب عمداً بتقديم ركن فعلي على فعلي كأن سجد قبل ركوعه أو على قولي كأن ركع قبل قراءته أو بتقديم قولي وهو سلام على فعلي أو قولي كأن سلم قبل سجوده أو تشهده بطلت صلاته، أما لو قدم قولياً غير سلام عليهما كتشهد على سجود وكصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم على تشهد فلا يضر لكن لا يعتد بما قدمه بل يعيده في محله أو ترك ذلك سهواً فما بعده المتروك إلى أن يتذكر لغوٌ لوقوعه في غير محله، فإن تذكره قبل بلوغ مثله من ركعة أخرى فعله فوراً وجوباً فإن أخر بطلت صلاته، وإن لم يتذكر حتى بلغ مثله تمت به ركعته لوقوعه عن متروكه وتدارك الباقي، ويسجد للسهو في جميع صور ترك الترتيب سهواً، ومنها ما لو سلم في غير محله كذلك فيسجد له، أما لو ترك السلام أو تذكره قبل طول الفصل وأتى به فلا سجود، وكذا بعد طوله إذ غايته أنه سكوت طويل وتعمده غير مبطل فلايسجد لسهوه أفاده الشرقاوي.
[خاتمة] ويجب أن لا يقصد بالركن غيره فقط، فلو هوى لتلاوة فجعله ركوعاً لم يكف لأنه صرفه إلى غير الواجب فعليه أن ينتصب ليركع، وكذا لو رفع من الركوع فزعاً فلا يكفي فعليه أن يعود إلى الركوع ثم يرفع.
((1/153)
فصل): فيما يعتبر في النية قال المصنف (النية ثلاث درجات) بتجريد العد من التاء وجوباً لأن المعدود مفرده مؤنث مع كونه مذكوراً بخلاف ما لم يذكر فإنه لا يجب تجريده بل يجوز الإتيان بهما في العدد لكن الأولى عدم الإتيان بها في هذه الحالة كما قاله الباجوري.
[فرع] اعلم أنك إذا أضفت العدد إلى المعدود فإن كان واحداً لمعدود مذكراً أثبت الهاء في آخر العدد، وإن كان مؤنثاً حذفت الهاء منه كما قاله الحريري في شرح ملحة الإعراب عند قوله رضي الله عنه وأرضاه:
فأثبت الهاء مع المذكر >< واحذف مع المؤنث المشتهر
تقول لي خمسة أثواب جدد >< وازمم له تسعاً من النوق وقد
ثم قال الفاكهي في شرحه عليها المسمى بكشف النقاب: واستفيد من تمثيله أن العبرة في التذكير والتأنيث بالمفرد لا بالجمع وهو كذلك ولذلك يقال ثلاثة اصطبلات وثلاثة حمامات بالتاء فيهما ولا يقال ثلاث بتركها خلافاً للكسائي والبغداديين اهـ. وقال ابن مالك في الخلاصة:
ثلاثة بالتاء قل للعشره >< في عد ما آحاده مذكره
في الضد جرد والمميز اجرر >< جمعاً بلفظ قلة في الأكثر(1/154)
قوله: ثلاثة بالنصب مفعول مقدم بقل لتضمين قل معنى اذكر لأن القول لا ينصب المفرد إلا إذا كان مؤدياً معنى الجملة بالتاء متعلق بقل وكذا للعشرة واللام بمعنى إلى والغاية داخلة أو بالرفع مبتدأ وبالتاء نعته أي مصحوبة بالتاء وقل خبره والعائد محذوف تقديره قلة، ثم إن مميز الثلاثة وأخواتها لا يكون إلا مجروراً لكن بشروط أربعة: الأول: لا يكون المميز موصوفاً نحو أثواب خمسة. والثاني: أن لا يكون صفة نحو خمسة أثواب فالأحسن في هذا أن يكون عطف بيان لجموده وإنما لم يجب كونه عطف بيان لإمكان تأويل أثواب بمشتق كأن يقول مسماة بأثواب. الثالث: أن لا يكون العدد مضافاً إلى مستحقه نحو خمسة زيد. والرابع: أن لا يراد بها حقائقها نحو ثلاثة نصف ستة، ثم إن كان المميز اسم جنس أو اسم جمع جر بمن نحو فخذ أربعة من الطير ومررت بثلاثة من الرهط، وقد يجر بإضافة العدد نحو: وكان في المدينة تسعة رهط وإن كان غيرهما فبإضافة العدد إليه، وحقه حينئذٍ أن يكون جمعا مكسراً من أبنية القلة التي هي أفعلة وأفعل وأفعال وفعلة، وأما جمعا التصحيح فحكمهما حكم جمع القلة إلا في هذا الموضع فلا يميز بهما العدد، وقد يضاف للمفرد وذلك إن كان مائة نحو ثلاثمائة وسبعمائة، ويضاف لجمع التصحيح في ثلاث مسائل: إحداها: أن يهمل تكسير الكلمة نحو خمس صلوات. والثانية: أن يجاور ما أهمل تكسيره نحو سبع سنبلات في التنزيل لم يقل سبع سنابل لمجاورته لسبع بقرات. والثانية: أن يقل استعمال غيره نحو ثلاث ساعات فيختار في هاتين الأخيرتين التصحيح ويتعين في الأولى إهمال غيره. ويضاف لبناء الكثرة في مسألتين: إحداهما: أن يهمل بناء القلة نحو ثلاث جوار وأربعة رجال.(1/155)
والثانية: أن يكون له بناء قلة ولكنه شاذ قياساً بأن خالف القواعد أو سماعاً بأن ندر استعماله في لسان العرب فينزل لذلك منزلة المعدوم، فالأول نحو ثلاثة قروء فإن جمع قرء بالفتح على أقرؤ شاذ، والثاني نحو ثلاثة شسوع فإن أشساعاً قليل الاستعمال. قوله شسوع بمعجمة فمهملة جمع شسع بكسر أوله وسكون ثانيه أحد سيور النعل.(1/156)
ثم بين المصنف مراتب النية الثلاثة بقوله: (إن كانت الصلاة فرضاً) أي ولو فرض كفاية كصلاة الجنازة أو قضاء كالفائتة ومعادة نظراً لأصلها أو نذراً. (وجب) فيه ثلاثة أشياء أحدها: (قصد الفعل) أي نية فعل الصلاة التي استحضرها لتتميز عن سائر الأفعال ولا تجب الإضافة إلى الله تعالى لأن العبادة لا تكون إلا له سبحانه وتعالى لكن تستحب ليتحقق معنى الإخلاص، ويستحب نية استقبال القبلة وعدد الركعات ولو أخطأ في العدد كأن نوى الظهر ثلاثاً أو خمساً لم تنعقد صلاته. (و) ثانيها: (التعيين) أي من ظهر أو غيرها لتتميز عن سائر الصلاة (و) ثالثها: (الفرضية) أي ملاحظة الفرضية وقصدها فيلاحظ ويقصد كون الصلاة فرضاً لتتميز عن النفل فلا تجب الفرضية في صلاة الصبي لأن صلاته تقع نفلاً اتفاقاً بخلاف المعادة ففيها خلاف، وإنما وجبت نية الفرضية على الصبي في صلاة الجنازة لأن صلاته لما كانت لإسقاط الفرض عن المكلفين اعتبر فيها ذلك، ولا بد في المعادة والمنذورة من نية الفرضية ولكن تقوم نية النذرية في المنذورة مقام ذلك. (وإن كانت نافلة مؤقتة كراتبة أو ذات سبب) كاستسقاء (وجب) فيها شيئان أحدهما: (قصد الفعل) أي نية فعل الصلاة (و) ثانيهما (التعيين) فيعين قبلية وبعدية في صلاة الظهر والمغرب والعشاء لأن لكل قبلية وبعدية بخلاف سنة الصبح والعصر وفطر أو أضحى في العيد فلا يكفي سنة عيد فقط وشمساً وقمراً في الكسوف ولا يشترط نية النفلية لأن النفلية ملازمة للنفل بل تسن بخلاف الفرضية فإنها غير ملازمة لنحو الظهر فإنها قد تكون فرضاً وقد لا تكون كذلك كما في صلاة الصبي (وإن كانت نافلة مطلقة) وهي التي لم تقيد بوقت ولا سبب (وجب قصد الفعل فقط) أي فحسب ويحلق بها ذو سبب يغني عنه غيره كتحية وسنة وضوء واستخارة وإحرام وطواف ودخول منزل وخروج منه وغير ذلك، ولا حاجة إلى التعيين لحمله على المطلق فتكون مستثناة مما له سبب.(1/157)
واعلم أنه يمتنع جمع صلاتين بنية ولو نفلاً مقصوداً، أما غير المقصود كتحية واستخارة وإحرام وطواف وسنة وضوء أو غسل فيجوز جمعها مع نفل أو فرض غيرها بل تحصل ويثاب عليها وإن لم ينوها قاله الشرقاوي.
[تنبيه] قوله فقط الفاء جوابية لشرط محذوف عند الجمهور أو زائدة لازمة عند ابن هشام أو عاطفة عند ابن سيد واختاره ابن كمال والدماميني. وقوله: قط، اسم بمعنى حسب وهو الاكتفاء بالشيء ومن هنا يقال رأيته مرة قط أي فحسب، هكذا في المصباح وهو مبني على السكون مرفوع محلاً مبتدأ خبره محذوف أي فحسبها قصد الفعل أو خبر ومبتدؤه محذوف أي فقصده الفعل حسبها أو اسم من أسماء الأفعال بمعنى يكفي مبني على السكون وتحته ضمير هو راجع إلى قصد الفعل، وفي كلام سعدالدين التفتازاني مجيء قط بمعنى انته فيكون اسم فعل أمر مبيناً على السكون وتحته ضمير أنت وتبعه عصام الدين ولم يرتضه نور الدين في شرح المسالك، قال الروداني: والغالب إذا كان بمعنى حسب البناء على السكون وقد يبنى على الكسر وقد يعرف انتهى. وأما قط التي هي ظرف زمان لاستغراق ما مضى فتختص بالنفي يقال ما فعلت ذلك قط فالمعنى ما فعلته فيما انقطع من عمري أي في الزمان الماضي والعامة تقول: لا أفعله قط وهو لحن أو غلط لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى إذ المعنى: مذ أن خلقت إلى الآن وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات وقد تتبع قافه طاءه في الضم وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها هكذا بينه ابن هشام في المعنى، ثم مثل المصنف الأشياء التي تجب في النية بقوله: (الفعل) قوله (أصلي) ولو قال: نويت أصلي الظهر الله أكبر نويت، بطلت صلاته لأن قوله نويت بعد التكبيرة كلام أجنبي وقد طرأ بعد انعقاد الصلاة فأبطلها. (والتعيين) قوله (ظهراً أو عصراً) أي مثلاً (والفرضية) قوله (فرضاً).
((1/158)
فصل): في شروط التحريم (شروط تكبيرة الإحرام ستة عشر) شرطاً بل سبعة عشر إن اختل واحد منها لم تنعقد الصلاة الأول. (أن تقع حالة القيام في الفرض) أي بعد الانتصاب والوصول إلى محل تجزىء فيه القراءة. (و) الثاني (أن تكون بالعربية) أي للقادر عليها. (و) الثالث: (أن تكون بلفظ الجلالة) أي فلا يصح الرحمن أكبر لعدم لفظ الجلالة. (و) الرابع: كونها (بلفظ أكبر) فلا يكفي الله كبير لفوات التعظيم. (و) الخامس: (الترتيب بين اللفظين) فلا يكفي أكبر الله لأن ذلك يخل بالتكبير بخلاف نظيره في السلام فلا يضر فيه تقديم الخبر على المبتدأ لأنه لا يخل بالسلام فإن أتى بلفظ أكبر ثانياً كأن قال: أكبر الله أكبر فإن قصد بلفظ الجلالة الابتداء صح وإلا فلا. (و) السادس: (أن لا يمد همزة الجلالة) فإن مدها فلا تنعقد صلاته لأنه ينقلب من لفظ الخبر الإنشائي إلى الاستفهام أي الاستخبار، ويجوز إسقاطها إذا وصلها بما قبلها نحو: إماماً أو مأموماً الله أكبر لكنه خلاف الأولى بخلاف همزة أكبر إذا وصلها لا يجوز إسقاطها لأنها همزة قطع. (و) السابع. (عدم مد باء أكبر) فلو قال: الله أكبار لم تنعقد صلاته سواء فتح الهمزة أو كسرها، لأن أكبار بفتح الهمزة جمع كبر بفتحتين مثل سبب وأسباب وهو اسم للطبل الكبير له وجه واحد، ويجمع أيضاً على كبار مثل جبل وجبال، وإكبار بكسر الهمزة اسم من أسماء الحيض ولو تعمَّد ذلك كفَر والعياذ بالله تعالى. (و) الثامن: (أن لا يشدد الباء) فلو شدد بأن قال: الله أكبر لم تنعقد صلاته. (و) التاسع: (أن لا يزيد واواً ساكنة أو متحركة بين الكلمتين) فلو زادها كأن يقول: اللاهو أكبر بسكون الواو و: اللاهو أكبر بحركتها لم تنعقد صلاته. ((1/159)
و) العاشر: (أن لا يزيد واواً قبل الجلالة) فإن زادها بأن يقول: والله أكبر فلا تنعقد صلاته لعدم تقدم ما يعطف عليه بخلاف السلام (و) الحادي عشر: (أن لا يقف بين كلمتي التكبير وقفة طويلة ولا قصيرة) ولا يضر الفصل بينهما بأداة التعريف ولا بوصف لم يطل ك الله الأكبر أو الله الجليل أكبر أو الله الرحمن الرحيم أكبر بخلاف ما لو طال الوصف بأن كان ثلاثاً فأكثر ك الله الجليل العظيم الحليم أكبر، أو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر، وبخلاف الوصف كالضمير في قوله: الله هو أكبر، أو النداء في قوله: الله يا رحمن أكبر، والمراد بالصفة الصفة المعنوية لا صفة نحوية فتشمل نحو عز وجل فإنهما صفتان في المعنى دون اللفظ لأن عز وجل من قولنا الله عز وجل أكبر حال فيصح ذلك، بخلاف ما لو قال: الله جليل أكبر بتنكير جليل فإنه لا يصح لأنه حينئذٍ ليس صفة، وأما لو قال: جليل الله أكبر فلا يضر لأنه لم يدخل في الصلاة. (و) الثاني عشر (أن يسمع نفسه جميع حروفها) إذا كان صحيح السمع ولا مانع من لغط وغيره وإلا فيرفع صوته قدر الرفع الذي يسمع به لو لم يكن أصم، ويجب على من طرأ خرسه تحريك لسانه وشفتيه ولهاته بالتكبير وغيره كالتشهد والسلام وسائر الأذكار، أما من خرسه أصلي فلا يجب عليه ذلك. (و) الثالث عشر: (دخول الوقت في المؤقت) سواء كان فرضاً أو نفلاً وكذا ذو السبب. (و) الرابع عشر: (إيقاعها حال الاستقبال) حيث شرطناه. (و) الخامس عشر: (أن لا يخل) أي يفسد (بحرف من حروفها) ويغتفر في حق العامي إبدال همزة أكبر واواً أفاده الشرقاوي وكذا الباجوري ولو لم يجزم الراء من أكبر أفاده الباجوري. ((1/160)
و) السادس عشر: (تأخير تكبيرة المأموم عن تكبيرة الإمام) فلو قارنه في جزء منها لم تصح القدوة ولا تنعقد صلاته، ويشترط لها أيضاً فقد الصارف فإذا كبر المسبوق الذي أدرك الإمام في الركوع واحدة وأوقع جميعها في محل تجزىء فيه القراءة وقصد بها التحرم وحده انعقدت صلاته، وإن قصد بها التحرم والانتقال أو الانتقال وحده أو أحدهما مبهماً أو أطلق أو شك هل قصد التحرم وحده أو لا؟ لم تنعقد، وإذا قصد بها المبلِّغ الإعلام فقط وأطلق ضر، أو الإحرام والإعلام لم يضر.
[فرع] قال الباجوري: ويسن أن لا يقصر التكبير بحيث لا يفهم ولا يمططه بأن يبالغ في مده بل يتوسط. وقال الشبراملسي: ويستحب أن يمد التكبير ويشترط أن لا يمد فوق سبع ألفات وإلا بطلت إن علم وتعمد وتقدر كل ألف بحركتين وهو على التقريب، ويعتبر ذلك بتحريك الأصابع متوالية مقارنة للنطق بالمد.
(فصل): في واجبات أم القرآن (شروط الفاتحة عشرة) بل أكثر، الأول: (الترتيب) بأن يأتي بها على نظمها المعروف. (و) الثاني: (الموالاة) بأن لا يأتي بفاصل فإن تخلل ذكر أجنبي غير متعلق بالصلاة ولو قليلاً كحمد عاطس وإن سن خارجها وكإجابة المؤذن قطع الموالاة فيعيد القراءة ولا تبطل صلاته، ومثل ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم وقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فيعيد القراءة لقطع الموالاة بذلك، نعم إن وقع ما وقع نسياناً لم يقطعها بل يبني على ما قرأه، ومما يقطع الموالاة تسبيحه لمستأذن عليه. (و) الثالث (مراعاة حروفها) وهي مائة وثمانية وثلاثون بالابتداء بألفات الوصل، وأما إذا عد الشدات حروفاً مع عد ألفي صراط في الموضعين وألفي الضالين وضم ذلك مع المائة والثمانية والثلاثين صارت الجملة مائة وستة وخمسين بإثبات ألف مالك وخمسة وخمسين بحذفها ولو أسقط حرفاً منها لم تصح صلاته.
[(1/161)
فائدة] قيل: عدد حروف الفاتحة غير المكرر اثنان وعشرون حرفاً بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن وهو سر بديع، وكذا عدد حروف سورة الناس وأول القرآن ياء البسملة وآخره سين والناس كأنه قال: يس ما فرطنا في الكتاب من شيء، أي ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئاً لم نكتبه.
[تنبيه] أجمع القراء على إسقاط ألف مالك في سورة الناس بخلافه في الفاتحة. (و) الرابع: (مراعاة تشديداتها) قال شيخ الإسلام في فتح الوهاب: لأنها هيئات للحروف المشددة فوجوبها شامل لهيئاتها. (و) الخامس: (أن لا يسكت سكتة طويلة) أي مطلقاً بلا عذر فإن وجد عذر كجهل أو سهو أو نسيان أو إعياء لم يضر. (و) السادس أن (لا) يسكت سكتة (قصيرة يقصد بها) أي بالقصيرة (قطع القراءة) بخلاف ما لو قصد قطع القراءة ولم يسكت فلا تبطل قراءته وفارق ذلك نية قطع الصلاة بأن النية ركن فيها تجب إدامتها حكماً، ولا تمكن الإدامة الحكمية مع نية القطع، وقراءة الفاتحة لا تفتقر إلى نية خاصة فلا تؤثر نية القطع (و) السابع: (قراءة كل آياتها ومنها البسملة) أي عملاً لا اعتقاداً لأنه صلى الله عليه وسلّم عدها آية منها رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه، ويكفي في ثبوتها عملاً أي حكماً الظن كما قال شيخ الإسلام في فتح الوهاب وعدد آيات الفاتحة سبع وأما عدد كلماتها فتسع وعشرون كلمة. ((1/162)
والثامن: عدم اللحن المخل بالمعنى) قال الشرقاوي: واللحن عند الفقهاء يشمل تغيير الإعراب وإبدال حرف بآخر، وأما عند اللغويين والنحويين فهو تغيير الإعراب والخطأ فيه، والمراد بقوله المخل بالمعنى أن ينقل معنى الكلمة إلى معنى آخر كضم تاء أنعمت وكسرها أو يصيرها لا معنى لها أصلاً كالزين بالزاي، وكذا إشباع الشدة من لام الذين بحيث يتولد منها ألف لأنه يغير المعنى، بخلاف ما ليس كذلك كرفع هاء الحمد لله، وكفتح دال نعبد وكسر بائها ونونها، وكضم صاد الصراط وهمزة اهدنا وكنصب دال الحمد أو جرها لبقاء المعنى في الجميع، وأما لو فتح همزة اهدنا فقد غير المعنى فإنه حينئذٍ صار معنى اهدنا الصراط المستقيم ابعث إلينا إكراماً هدية وعطية وهو الطريق المعتدل أي غير المعوج، وأما معناه بغير الفتح فهو ارشدنا إلى الدين الحق وثبتنا عليه وهو دين الإسلام. (و) التاسع: (أن تكون) أي القراءة (حالة القيام في الفرض) أي يشترط إيقاعها بكل حروفها في القيام أو بدله. (و) العاشر: (أن يسمع نفسه القراءة) أي إسماعه نفسه جميع حروفها إن كان صحيح السمع ولا لغط. ((1/163)
و) الحادي عشر: (أن لا يتخللها ذكر أجنبي) بخلاف ما إذا تعلق ذكر بمصلحة الصلاة كتأمينه لقراءة إمامه وفتحه عليه ولو في غير الفاتحة، ولا يفتح عليه إلا إذا توقف وسكت فما دام يردد الآية لا يفتح عليه فإن فتح انقطعت القراءة، نعم إن ضاق الوقت فتح عليه ولا تنقطع القراءة حينئذٍ، ولا بد أن يكون الفتح بقصد القراءة ولو مع الفتح فإن قصد الفتح وحده أو أطلق أو قصد واحداً لا بعينه بطلت صلاته فخرج بقراءة إمامه قراءة غيره ولو مأموماً آخر فتنقطع بالتأمين لقراءته والفتح عليه، وكالتأمين سجود التلاوة مع الإمام، وإن سجد مع غيره عامداً عالماً بطلت صلاته، ويشترط أيضاً كونها بالعربية ولا يترجم عنها ولو كان عاجزاً، ومثلها بدلها إن كان قرآناً بخلاف ما لو كان ذكراً أو دعاء فيترجم عنه عند العجز عن العربية، ويشترط أيضاً عدم القراءة بالشاذ المغير للمعنى أيضاً وهو ما وراء القراءة السبعية، ويشترط أيضاً عدم الصارف فلو قصد بها الثناء لم يجزه لوجود الصارف ولا بد أن يقصد القراءة أو يطلق.
((1/164)
فصل): في بيان عدد الشدات في الفاتحة ومحالها (تشديدات الفاتحة أربع عشرة) فتشديد (بسم الله فوق اللام) واحد وتشديد (الرحمن فوق الراء) ثان وتشديد (الرحيم فوق الراء) ثالث وتشديد (الحمد لله فوق لام الجلالة) رابع وتشديد (رب العالمين فوق الباء) خامس وتشديد (الرحمن فوق الراء) سادس وتشديد (الرحيم فوق الراء) سابع وتشديد (مالك يوم الدين فوق الدال) ثامن وتشديد (إياك نعبد فوق الياء) تاسع وتشديد (وإياك نستعين فوق الياء) عاشر فلو خفف الياء من إياك لم تصح قراءته فوجب عليه إعادتها، وكذا صلاته إن تعمد وعلم وإن قصد المعنى كفر لأن إياك ضوء الشمس، أما لو شدد المخفف أساء وأجزأه وتشديد (اهدنا الصراط المستقيم فوق الصاد) حادي عشر وتشديد (صراط الذين فوق اللام) ثاني عشر وتشديد (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فوق الضاد واللام) ثالث عشر ورابع عشر.
((1/165)
فصل): في بيان مواضع رفع اليدين (يسن رفع اليدين في أربعة مواضع) وهو من سنن الهيئات وحكمة رفع اليدين في الصلاة كما قال الشافعي رحمه الله تعالى تعظيمه تعالى حيث جمع بين اعتقاد القلب ونطق اللسان المترجم عنه وعمل الأركان، وقيل الإشارة إلى طرح ما سواه تعالى والإقبال بكليته على صلاته، وقيل: الإشارة إلى رفع الحجاب بين العبد وبين ربه وقيل غير ذلك. أحدها: (عند تكبيرة الإحرام) فيبتدىء الرفع فيها مع ابتداء التكبير وينهيه مع انتهائه. وقال المحلي: ويكبِّر مع حط يديه. وقال الباجوري: فابتداؤهما كذلك فما يقع الآن من الرفع قبل التكبير خلاف السنة وإن فعله كثير من أهل العلم انتهى. والسنة تحصل بأي رفع كان وأكمله أن يرفع كفيه مقابل منكبيه ولا تبطل الصلاة به وإن ضم إليه فعلاً ثالثاً مع التوالي لأن ذلك مطلوب أفاده الشرقاوي. (و) ثانيها: (عند الركوع) أي عند الهوي للركوع فيبتدىء الرفع فيه مع ابتداء التكبير عند ابتداء الهوي ولا يديمه إلى انتهائه لأنه إذا حاذى كفاه منكبيه انحنى وأرسل يديه، وأما التكبير فيديمه إلى أن يصل حد الراكع لئلا يخلو جزء من صلاته عن ذكر فابتداؤهما معاً دون انتهائهما. (و) ثالثها: (عند الاعتدال) أي الرفع من الركوع للاعتدال ويبتدىء الرفع مع ابتداء رفع رأسه فإذا استوى قائماً أرسلهما إرسالاً خفيفاً تحت صدره. (و) رابعها: (عند القيام من التشهد الأول) للاتباع رواه الشيخان، ولو صلى من قعود استحب له الرفع عند التكبير عقب التشهد الأول فالتعبير بالقيام للغالب، ولا يسن رفع اليدين في غير هذه المواضع الأربعة كالقيام من جلسة الاستراحة ومن السجود، وأما قول الشرقاوي: وبقي القيام من جلسة الاستراحة فيسن الرفع عنده كما نص عليه الشافعي وهو المعتمد فهو ضعيف هكذا قال شيخنا محمد حسب الله، ثم قال: والمعتمد لا يسن انتهى. فإن ترك الرفع فيما أمر به أو فعله فيما لم يؤمر به كره.
[(1/166)
فائدة] قال سليمان الجمل: وعن علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه إن معنى النحر في قوله تعالى: وانحر} ((108) الكوثر:2) أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره.
(فصل): في واجبات السجود وهو لغة التطامن والميل. (شروط السجود سبعة) بل أكثر، أحدها: (أن يسجد على سبعة أعضاء) لما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم من الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين وأن لا أكف الثياب والشعر" رواه الشيخان. (و) ثانيها: (أن تكون جبهته مكشوفة) إلا لعذر كوجود شعر نابت فيها وعصابة لوجع حيث شق نزعها مشقة شديدة ولا يعيدان وضعها على طهر ولم يكن تحتها نجس غير معفو عنه وإلا أعاد وثقبة فتحت فيها في الانسداد الخلقي فيراعى الستر لأنه آكد ولو يبست جلدة فيها حتى صار لا يحس بما يصيبها صح السجود عليها ولا يكلف إزالتها وإن لم يحصل له من ذلك مشقة. (و) ثالثها: (التحامل برأسه) أي في الجبهة فقط دون بقية الأعضاء وهو أن يصيب ثقل رأسه موضع سجوده. (و) رابعها: (عدم الهوي لغيره) أي أن لا يقصد بالسجود غيره وحده والهوي بضم الهاء وفتحها معناه السقوط من أعلى إلى أسفل وأما بالضم فقط فمعناه الارتفاع كذا في المصباح. ((1/167)
و) خامسها: (أن لا يسجد على شيء) أي متصل به (يتحرك بحركته) أي في قيامه ولو بالقوة إن صلى قاعد أو سجد على متصل به لا يتحرك بحركته في القعود، وكان بحيث لو صلى من قيام لتحرك بحركته فيضر ذلك، ومن المتصل جزؤه فلا يصح السجود على نحو يده، أما المنفصل ولو حكماً كعود أو منديل بيده فيصح السجود عليه لأنه لا يعد متصلاً في العرف، وكذا طرف عمامته الطويل جداً بحيث لا يتحرك بحركته لأنه في حكم المنفصل (و) سادسها: (ارتفاع أسافله) وهو عجيزته وما حولها (على أعاليه) وهي رأسه ومنكباه إلا إذا كان في سفينة ولم يتمكن منه لنحو ميلها فيصلي على حاله ويعيد لأنه عذر نادر، بخلاف ما لو كان به علة لا يمكن معها السجود فإنه لا إعادة عليه، وكذا الحبلى إذا شق عليها ذلك فتصلي ولا تعيد، وكذا ما لو طال أنفه وصار يمنعه من وضع الجبهة على الأرض مثلاً. (و) سابعها: (الطمأنينة فيه) أي في السجود ويشترط أيضاً أن يضع الأعضاء السبعة في وقت واحد فلو وضع بعضها ثم رفعه ووضع الآخر لم يكف.
((1/168)
خاتمة. أعضاء السجود سبعة) الأول: (الجبهة) وحدُّها طولاً ما بين الصدغين وعرضاً ما بين منابت شعر الرأس والحاجبين وخرج بالجبهة الجبين وهو جانب الجبهة من الجهتين فلا يكفي وضعه وحده لكن يسن وضع الجبهة. (و) الثاني والثالث: (بطون الكفين) والكف ما ينقض مسه الوضوء فيكفي وضع جزء من الأصابع أو من الراحة دون ما عداهما. (و) الرابع والخامس: (الركبتان) وهي بضم الراء وسكون الكاف مفصل ما بين أطراف الفخذ وأعالي الساق والجمع ركب بضم الراء وفتح الكاف مثل غرفة وغرف. (و) السادس: (بطون أصابع الرجلين) ويكفي وضع جزء من كل واحد من هذه الأعضاء السبعة ولو من أصبع فقط ولو من يد أو رجل نعم الاقتصار على وضع البعض من الأعضاء السبعة مكروه ولو قطع الكف أو بطون الأصابع لم يجب وضع طرف الباقي بل يسن ولو خلق بلا كف أو بلا أصابع قدر له قدرها ووجب عليه وضعه، ويسن كشف الكفين في حق الذكر وغيره وبطون الرجلين في حق الذكر والأمة وأما غيرهما فيجب سترها، ويكره كشف الركبتين للذكر والأمة، ويسن الترتيب في الوضع بأن يضع الركبتين أولاً ثم الكفين ثم الجبهة والأنف معاً، فوضع الأنف معها سنة متأكدة ولا يكفي وضعه وحده لأن المعتبر هو الجبهة، ويسن كونه مكشوفاً فلو خالف الترتيب المذكور أو اقتصر على الجبهة كره مراعاة للقول بوجوب وضع الأنف، وخالف الإمام مالك فقال: يضع يديه ثم ركبتيه.
((1/169)
فصل): في عدد الشدات في التشهد ومواضعها (تشديدات التشهد إحدى وعشرون) شدة (خمس في أكمله) وهو ما لا يسن بتركه في الجلوس الأول السجود (وست عشرة في أقله) وهو اللفظ الواجب في الجلوس الآخر وما يسن السجود بتركه في الجلوس الأول فالتشديد في (التحيات) اثنان وهما (على التاء والياء) وتشديد (المباركات الصلوات) واحد وهو (على الصاد) والتشديد في (الطيبات) اثنان وهما (على الطاء والياء) وتشديد (لله) واحد وهو (على لام الجلالة) وتشديد (السلام) واحد وهو (على السين) وتشديدات (عليك أيها النبي) ثلاثة وهي (على الياء) في أيها (والنون والياء) اللذين في النبي وذلك إذا قرىء بالياء، أما إذا قرىء بالهمزة فلا تشديد عليه.
[(1/170)
فائدة] النبي بتشديد الياء من النبوة وهو المكان المرتفع سمي النبي به لأنه مرفوع الرتبة أو رافع رتبة من تبعه أو بالهمزة من النبأ بتحريك الباء وهو الخبر لأنه مخبر أو مخبر عن الله تعالى فهو على كليهما فعيل بمعنى فاعل أو مفعول هذا هو المشهور، لكن الذي يستفاد من المصباح أن النبأ مهموز وهو الخبر والإبدال والإدغام لغة مشهورة وقرىء بهما في السبعة، ولكن صحح الصبان أن يكون المهموز من النبء بسكون الباء وهو الارتفاع يقال: نبأ بالهمزة أي ارتفع، ثم رجح ذلك بكون الساكن مصدراً بخلاف المتحرك وأن يكون المشدد مخففاً من المهموز فيكون من النبأ بفتح الباء أو سكونها، وعلى كون النبي من النبوة يكون واوي اللام وأصله نبيو اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء. وتشديد (ورحمة الله) واحد وهو (على لام الجلالة) وتشديد (وبركاته السلام) واحد وهو (على السين) وتشديد (علينا وعلى عباد الله) واحد وهو (على لام الجلالة) وتشديد (الصالحين) واحد وهو (على الصاد) والتشديد في (أشهد أن لا إله) واحد وهو (على لام ألف) والتشديد في (إلا الله) اثنان وهما (على لام ألف ولام الجلالة) وتشديد (وأشهد أن) واحد وهو (على النون) وتشديدات (محمداً رسول الله) ثلاثة وهن (على ميم محمد وعلى الراء وعلى لام الجلالة).(1/171)
قوله التحيات، قال عثمان في تحفة الحبيب: هو بفتح التاء وكسر الحاء المهملة جمع تحية وهي ما يحيا به من سلام وغيره، وقيل الملك، وقيل العظمة، وقيل السلامة من الآفات، والقصد بذلك الثناء على الله تعالى بأنه أهل لجميع التحيات من الخلق، وإنما جمعت لأن كل واحد من الملوك كان له تحية معروفة، وقد ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء لما جاوز سدرة المنتهى غشيته سحابة من نور فيها من الألوان ما شاء الله فوقف جبريل ولم يسر معه فقال له النبي: لا تتركني أسير منفرداً فقال جبريل: وما منا إلا له مقام معلوم، فقال: سر معي ولو خطوة فسار معه خطوة فكاد أن يحترق من النور والجلال والهيبة وصغر وذاب حتى صار قدر العصفور، فأشار إلى النبي بأن يسلم على ربه إذا وصل مكان الخطاب فلما وصل النبي إليه قال: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأحب النبي أن يكون لعباده الصالحين نصيب من هذا المقام فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جميع أهل السموات والأرض: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وإنما لم يحصل للنبي مثل ما حصل لجبريل من المشقة وعدم الطاقة لأن النبي مراد مطلوب فأعطاه الله قوة واستعداداً لتحمل هذا المقام بخلاف غيره انتهى. قوله: المباركات، الصلوات الطيبات هي على حذف حرف العطف في الثلاثة أي والمباركات أي الناميات وهو الخير الإلهي والصلوات أي الصلوات الخمس أو أعم والطيبات أي الأعمال الصالحات.(1/172)
قوله: السلام، هو من أسمائه تعالى فالمعنى اسم الله عليك وعلينا الحاضرين، والصالح هو المسلم أو القائم بحقوق الله وحقوق العباد، قال الفشني في شرح الأربعين في الحديث الثاني والعشرين: وذكر أن التحيات اسم طير في الجنة على شجرة يقال لها الطيبات بجنب نهر يقال له الصلوات فإذا قال المصلي: التحيات، نزل ذلك الطير عن تلك الشجرة وانغمس في ذلك النهر فكل قطرة وقعت منه خلق الله تعالى منها ملكاً يستغفر للمصلي إلى يوم القيامة.
(فصل): في شدات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم (تشديدات أقل الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلّم (أربع) فالتشديد في (اللهم) اثنان وهما (على اللام والميم) وتشديد (صل) واحد وهو (على اللام) وتشديد (على محمد) واحد وهو (على الميم) ومعناه يا الله أنزل الرحمة المقرونة بالتعظيم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم. قال الشمس الرملي في شرح المنهاج: الأفضل الإتيان بلفظ السيادة لأن فيها الإتيان بما أمرنا وزيادة الأخبار بالواقع الذي هو أدب فهو أفضل من تركه. وقال السحيمي أيضاً: ولا يقال امتثال الأمر أفضل من الأدب لأنا نقول: في الأدب امتثال الأمر وزيادة، والظاهر أن الأفضل ذكره في غير نبينا أيضاً انتهى. وأكمل الصلاة على النبي وأفضلها سواء في الصلاة وخارجها كما نص على ذلك الرملي: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
[(1/173)
تتمة] يسن الدعاء بعد التشهد الأخير بما شاء وأفضله التعوذ من العذاب والفتن لخبر سليم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال" قال الشبراملسي: ويكره ترك ذلك وهو آكد ما أوجبه بعض العلماء. قال عميرة: قال الأوزاعي في القوت وهو شرح المنهاج هذا متأكد فقد صح الأمر به وأوجبه قوم، وأمر طاوس ابنه بالإعادة لتركه، وينبغي أن يختم به دعاءه بقوله عليه الصلاة والسلام واجعلهن أي التعوذات الأربع آخر ما تقول، انتهى قول الشبراملسي رضي الله تعالى عنه.
(فصل): في السلام وهو المسمى بالتحليل أيضاً قال المصنف: (أقل السلام) للتحليل (السلام عليكم) قال الشبراملسي: ولو سكن الميم (تشديد السلام) واحد وهو (على السين) قال صلى الله عليه وسلّم: (مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) رواه أبو داود والترمذي وأكمله: السلام عليكم ورحمة الله ولا تسن وبركاته وتسن تسليمة ثانية للاتباع، ولو اقتصر الإمام على تسليمةٍ سُن للمأموم تسليمتان لأنه خرج عن المتابعة بالأولى بخلاف التشهد الأول لو تركه الإمام لزم المأموم تركه لوجوب المتابعة قبل السلام، ولو سلم الثانية معتقداً أنه سلم الأولى لم يكفه ويسلم الأولى وجوباً ويعيد الثانية ندباً ويسجد للسهو، ويسن عند إتيانه بالمرتين أن يفصل بينهما بسكتة، وقد تحرم الثانية بأن عرض بعد الأولى مناف للصلاة كحدث وخروج وقت جمعة بخلاف وقت غيرها من الصلوات لأنها وإن لم تكن جزءاً من الصلاة فهي من توابعها وملحقاتها، ويسن أن يسرع بالسلام ولايمده وأن يسلم المأموم بعد فراغ الإمام من تسليمتيه ولو قارنه جاز كبقية الأركان إلا تكبيرة الإحرام، لكن المقارنة في ذلك مكروهة مفوتة لفضيلة الجماعة فيما قارن فيه فقط أما المقارنة في تكبيرة الإحرام أو في بعضها فحرام مبطلة للصلاة.
[(1/174)
فرع] ويسن أن يجلس بعد الصلاة ليأتي بالذكر والدعاء الواردين بعد الصلاة لأن ترك ذلك جفوة أي إعراض بين العبد وربه، ولأن الدعاء مستجاب بعد الصلاة، وكان صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" رواه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلّم: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده إلى قوله قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وكان صلى الله عليه وسلّم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" رواهما مسلم: "وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم أي الدعاء أسمع أي أقرب إلى الإجابة؟ قال: جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبات".
((1/175)
فصل): في أوقات الصلوات المكتوبة _أوقات الصلاة خمس أول وقت الظهر زوال الشمس) أي عقب وقت زوالها فيما يظهر لنا لا في الواقع فوقت الزوال خارج عن وقت الظهر (وآخره مصير ظل الشيء مثله غير ظل الاستواء) أي غير الظل الموجود عنده. روى الدارقطني عن أبي محذورة حديث: أول الوقت رضوان الله وأوسطه رحمة الله وآخره عفو الله ولها ستة أوقات: الأول وقت فضيلة إن فعل الصلاة فيه يثاب عليه ثواباً أكمل من ثواب فعلها فيما بعده وهو من أول الوقت إلى أن يصير ظل الشيء مثل ربعه تقريباً بأن يشتغل أوله بأسباب الصلاة كأذان وستر عورة، ولا يضر شغل خفيف كأكل لقم بأن يشبع الشبع الشرعي وهو امتلاء ثلث الأمعاء أي المصارين وكلها ثمانية عشر شبراً فيجعل ستة منها للطعام وستة للشراب وستة للنفس دون الشبع العرفي وهو بحيث لا يشتهي الطعام. والثاني وقت اختيار أي وقت يختار إتيان الصلاة فيه بالنسبة لما بعده وهو يتم بعد فراغ وقت الفضيلة إلى أن يصير ظل الشيء مثل نصفه تقريباً. والثالث وقت جواز بلا كراهة أي وقت يجوز إيقاع الصلاة فيه بلا كراهة وهو يستمر بعد فراغ وقت الفضيلة إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها وليس لها وقت جواز بكراهة، قال الشرقاوي: والمعتمد أن الفضيلة والاختيار والجواز بلا كراهة تشترك في أول الوقت، فإذا مضى وقت الاشتغال بما مر خرج وقت الفضيلة واستمر وقت الاختيار إلى أن يمضي قدر نصف الوقت تقريباً فيخرج ويستمر وقت الجواز فتشترك الثلاثة مبدأ لا غايةً في جميع الصلوات إلا في المغرب فإنها مشتركة مبدأ وغاية، والرابع وقت حرمة أي وقت يحرم التأخير إليه وهو آخر الوقت بحيث يبقى من الوقت ما لا يسع الصلاة وإن وقعت أداء بأن أدرك ركعة في الوقت فهو أداء مع الإثم. والخامس: وقت ضرورة وهو آخر الوقت إذا زالت الموانع، والباقي من الوقت قدر التكبيرة فأكثر فتجب هي وما قبلها إن جمعت معها.(1/176)
والسادس: وقت عذر أي وقت سببه العذر وهو وقت العصر لمن يجمع جمع تأخير، وزاد بعضهم وقت الإدراك أي التبعة ومعناها ما تلزم ويطالب بالظلم وهو الوقت الذي طرأت الموانع بعده بحيث يكون مضى من الوقت ما يسع الصلاة وطهرها فتجب عليه حينئذٍ.
(وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد قليلاً وآخره غروب الشمس) ولها سبعة أوقات، الأول: وقت فضيلة وهو من أول الوقت إلى نصف مثله تقريباً بعد المثل الماضي في وقت الظهر. والثاني: وقت الاختيار فيستمر إلى مصير الظل مثليه غير ظل الاستواء إن كان عنده ظل. والثالث: وقت الجواز بلا كراهة فيستمر إلى اصفرار الشمس. والرابع: وقت الجواز بكراهة فيستمر إلى قريب غروب الشمس بحيث يبقى ما يسع الصلاة. والخامس: وقت الحرمة وهو تأخيرها إلى أن يبقى من الوقت ما لا يسعها. والسادس: وقت الضرورة وهو آخر الوقت بحيث تزول الموانع والباقي منه قدر التكبيرة فأكثر. والسابع: وقت العذر وهو وقت الظهر لمن يجمع جمع تقديم، وزاد بعضهم وقت الإدراك كما تقدم.
(وأول وقت المغرب غروب الشمس وآخره غروب الشفق الأحمر) ولها سبعة أوقات: وقت فضيلة ووقت اختيار ووقت جواز بلا كراهة وهو بمقدار الاشتغال بصلاتها وما يطلب معها فالثلاثة هنا تدخل معاً وتخرج معاً وبعدها إلى مغيب الشفق جواز بكراهة مراعاة للقول الجديد القائل بأن وقتها يخرج بمقدار الاشتغال بها وما يطلب لها، ووقت حرمة وهو تأخيرها إلى وقت لا يسعها، ووقت ضرورة، ووقت عذر وهو وقت العشاء لمن يجمع جمع تأخير.u
((1/177)
وأول وقت العشاء غروب الشفق الأحمر وآخره طلوع الفجر الصادق) وهو المنتشر ضوؤه معترضاً بالأفق وهو بضمتين نواحي السماء من جهة المشرق، وخرج بالصادق الكاذب وهو يطلع مستطيلاً جهة السماء كذنب السرحان وهو الذئب ثم تعقبه ظلمة غالباً ثم يطلع الفجر الصادق مستطيلاً أي منتشراً ولها سبعة أوقات: وقت فضيلة وهو بمقدار ما يسع الصلاة وما يتعلق بها، ووقت اختيار إلى تمام ثلث الليل الأول، ووقت جواز بلا كراهة إلى الفجر الكاذب، ووقت جواز بكراهة وهو ما بعد الفجر الأول حتى يبقى من الوقت ما يسعها، ثم وقت حرمة إذا لم يسعها، ووقت ضرورة وهو وقت زوال الموانع والباقي قدر التكبيرة فأكثر، ووقت عذر وهو وقت المغرب لمن يجمع جمع تقديم.
(وأول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس) ولها ستة أوقات: وقت فضيلة وهو بمقدار ما يسع الصلاة وما يتعلق بها، ووقت اختيار إلى الإضاءة، ووقت جواز بلا كراهة إلى ظهور الحمرة التي قبل طلوع الشمس، ووقت جواز بكراهة عند الحمرة إلى طلوع الشمس، ووقت حرمة، ووقت ضرورة، وليس لها وقت عذر لأنها لا تجمع تقديماً ولا تأخيراً فتحصل بما ذكرناه أن لكل صلاة سبعة أوقات إلا الظهر والصبح.
[تنبيه]: (الأشفاق ثلاثة أحمر وأصفر وأبيض: الأحمر مغرب) أي وجود الشفق الأحمر هو استمرار وقت المغرب. (والأصفر والأبيض عشاء) أي وجودهما هو دخول وقت العشاء، قال الباجوري: ويلزم من عدم غيبوبة الشفق الأحمر عدم غيبوبتهما بل هما غير موجودين. (ويندب تأخير صلاة العشاء إلى أن يغيب الشفق الأصفر والأبيض) خروجاً من خلاف من أوجبه. واعلم أن المواقيت مختلفة باختلاف البلدان ارتفاعاً فقد يكون زوال الشمس لبلد طلوع ببلد آخر وعصراً بآخر ومغرباً بآخر وعشاء بآخر، ذكره في تحفة الحبيب عن المدابغي على التحرير.
((1/178)
فصل): في الصلاة المحرمة من حيث الوقت والفعل (تحرم الصلاة التي ليس لها سبب متقدم ولا مقارن) في غير حرم مكة، (في خمسة أوقات) ولا تنعقد حينئذٍ ولا يكفر بها وذلك بأن لم يكن لها سبب أصلاً وهي النفل المطلق أولها سبب متأخر كصلاة الإحرام والاستخارة أي طلب خير أمري الدنيا والآخرة، وكالصلاة عند إرادة السفر وعند الخروج من المنزل وعند القتل، وصلاة التوبة. وخرج بذلك ماله سبب متقدم كفائتة فإن سببها الوقت الماضي سواء كانت الفائتة نفلاً أو فرضاً لأنه صلى الله عليه وسلّم صلى بعد العصر أربعاً وقال هما اللتان بعد الظهر، ومثل الفائتة صلاة المنذورة والمعادة وكصلاة جنازة وسجدة تلاوة وشكر أو مقارن كصلاة الاستسقاء والكسوف فإن سببهما وهو القحط وتغير الكواكب مقارن دواماً، فيجب عند التحرم بالإحرام أن يكون الكسوف مستمراً فإن زال لم يصح الإحرام، فالمراد بالمقارنة وقوع الإحرام حال وجود السبب ولو في أثنائه، فإن أريد بها توافق السبب والإحرام في الزمن ابتداء كانت صلاة الكسوف مما سببه متقدم إذ لا يجوز الإحرام بها إلا بعد ابتدائه، ولذا مثل بعضهم بها لما سببه متقدم، أما الصلاة بحرم مكة المسجد أو غيره فلا تكره مطلقاً لخبر الترمذي وغيره: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار، نعم هي خلاف الأولى خروجاً من خلاف مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما وخرج بحرم مكة حرم المدينة فهو كغيره. أحدها: (عند طلوع الشمس) أي ابتداء طلوعها (حتى ترتفع قدر رمح) فإذا ارتفعت كرمح صحت الصلاة مطلقاً وطول الرمح سبعة أذرع بذراع الآدمي تقريباً في رأي العين ومن قدره بأربعة أذرع أراد ذراع العمل أي الحديد. ((1/179)
و) ثانيها: (عند الاستواء في غير يوم الجمعة حتى تزول) اعلم أن وقت الاستواء لطيف جداً ولا يكاد يشعر به حتى تزول الشمس إلا أن التحرم قد يمكن إيقاعه فيه فلا تصح الصلاة حينئذٍ، أما في يوم الجمعة في وقت الاستواء ولو لغير حاضرها فتصح، أما في غير هذا الوقت فحكم هذا اليوم حكم غيره من بقية الأيام. (و) ثالثها: (عند الاصفرار) أي اصفرار الشمس (حتى تغرب) للنهي عن الصلاة في تلك الأوقات قال الحسن البغوي في المصابيح: وقال عتبةبن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيفت الشمس للغروب حتى تغرب" رواه مسلم. فمعنى بازغة أي طالعة، والظهيرة أي الهاجرة وذلك حين تزول الشمس والقائم بسببها هو البعير يكون باركاً فيقوم من شدة حر الأرض، فمعنى حين يقوم قائم الظهيرة أي حين يقوم البعير وتضيفت بالفاء أي قربت كما في المصباح المنير. (و) رابعها: (بعد صلاة الصبح) أي لمن صلاها أداء مغنية عن القضاء فلو كانت قضاء أو لم تغن عن القضاء كأن كان متيمماً بمحل يغلب فيه وجود الماء لم تحرم الصلاة بل صحت النافلة المطلقة بعده حينئذٍ (حتى تطلع الشمس) أي وترتفع لأن الحرمة من جهة الفعل استمر إلى الارتفاع لكن قبل الطلوع تكون وحدها وبعده تكون مع الحرمة من جهة الزمان. ((1/180)
و) خامسها: (بعد صلاة العصر) أي لمن صلاها أداء مغنية عن القضاء بخلاف ما إذا قضاها في هذا الوقت أو صلاها بتيمم لفقد الماء بموضع يغلب وجوده فيه فتصح النافلة المطلقة بعدها حينئذٍ كما مر في الصبح أي فتحرم الصلاة ولا تنقعد بعد صلاة العصر ولو كانت مجموعة جمع تقديم بأن قدم العصر وجمعها مع الظهر تقديماً وحينئذٍ يقال لنا شخص يكره له التنفل بعد الزوال وقبل مصير ظل الشيء مثله (حتى تغرب) أي وتستمر الحرمة حتى تغرب الشمس، ودخل بهذه الغاية وقت الاصفرار لأن الحرمة المتعلقة بالفعل تستمر إلى الغروب، وإن كانت تجتمع بعد الاصفرار مع الحرمة المتعلقة بالزمان وذلك للنهي عن الصلاة في هذين الوقتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا تصلوا بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ولا بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس" والحاصل أن هذه الأوقات الخمسة يتعلق النهي عن الصلاة بالزمان في الثلاثة: الأول منها وهي عند طلوع الشمس وعند الاستواء وعند الاصفرار وقد يتعلق في الأول والثالث بالفعل أيضاً، ويجتمع النهيان فيمن فعَل الفرض وقد دخل عليه وقت النهي كما لو صلى الصبح وطلعت الشمس أو العصر واصفرت الشمس فتحرم له الصلاة النافلة حينئذٍ من جهة الفعل ومن جهة الزمن، وأما في الأخيرين وهما بعد صلاتي صبح وعصر فيتعلق النهي عن الصلاة فيهما بالفعل فقط.
((1/181)
فصل): في بيان السكتات في الصلاة وهي من الهيئات (سكتات الصلاة) أي السكتات المستحبة فيها (ستة) وكلها لطيفة بقدر سبحان الله إلا التي بين آمين والسورة فهي في حق الإمام في الجهرية بقدر ما يقرأ المأموم الفاتحة باعتبار الوسط المعتدل، ويسن للإمام أن يشتغل فيها بقراءة أو دعاء سراً والقراءة أولى، فمعنى السكوت فيها عدم الجهر وإلا فلا يطلب السكوت حقيقة في الصلاة، قال ابن حجر: ومحل سكوت الإمام إذا لم يعلم أن المأموم قرأها. أحدها: (بين تكبيرة الإحرام ودعاء الافتتاح) وهي كثيرة فمنها: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. ومنها: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ومنها: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً. ومنها: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد، وبأيها افتتح حصل أصل السنة لكن الأول أي وجهت الخ أفضلها، ويستحب الجمع بين جميع ذلك للمنفرد ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل خلافاً للأذرعي. ويزيد من ذكر: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت ربي وتعاليت فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك. ((1/182)
قوله: والشر ليس إليك) أي لا يتقرب به إليك وقيل لا يفرد بالإضافة إليك وإنما يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح، وقيل ليس شراً بالنسبة إليك فإنك خلقته لحكمة بالغة وإنما هو شر بالنسبة لخلقك نقله السويفي عن المغني الخطيب. واعلم أن دعاء الافتتاح لا يسن إلا بشروط خمسة: أن يكون في غير صلاة الجنازة ولو على القبر، وأن لا يخاف فوت وقت الأداء وهو ما يسع ركعة، وأن لا يخاف المأموم فوت بعض الفاتحة، وأن لا يدرك الإمام في غير القيام فلو أدركه في الاعتدال لم يفتتح نعم إن أدركه في التشهد وسلم الإمام أو قام قبل أن يجلس معه سن له أن يفتتح، وأن لا يشرع في التعوذ أو القراءة ولو سهواً ولم يعد إليه. (و) ثانيها: (بين دعاء الافتتاح والتعوذ) وأفضل صيغة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقيل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وهو مستحب في كل ركعة لقراءة أو بدلها لكن الأولى آكد، وفي كل قيام من قيامات الكسوف ويفوت بالشروع في القراءة ولو سهواً بخلاف ما لو سبق لسانه فلا يفوت، وشروطه شروط دعاء الافتتاح لكن يفارقه في أنه يسن في صلاة الجنازة وفيما لو اقتدى بإمام جالس وجلس معه فيأتي به بعد قيامه لأن القراءة لم يشرع فيها ومحله بعد الافتتاح وتكبيرة صلاة العيد. (و) ثالثها: (بين الفاتحة والتعوذ) (و) رابعها: (بين آخر الفاتحة) وهو الضالين (وآمين) قال النووي في التبيان: يستحب لكل قارىء في الصلاة أو في غيرها إذا فرغ من الفاتحة أن يقول آمين، وفي آمين أربع لغات قال العلماء أفصحها آمين بالمد وتخفيف الميم، والثانية بالقصر وهاتان مشهورتان، والثالثة آمين بالإمالة مع المد حكاه الواحدي عن حمزة والكسائي، والرابع تشديد الميم مع المد حكاه الواحدي عن الحسن والحسينبن الفضل قال: ويحقق ذلك ما روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه قال معناه: قاصدين نحوك وأنت أكرم من أن تخيب قاصداً هذا كلام الواحدي.(1/183)
وهذه الرابعة غريبة جداً وقد عدها أكثر العلماء من لحن العوام، قال جماعة من أصحابنا: من قالها في الصلاة بطلت صلاته اهـ. قوله بين آخر الفاتحة وآمين يسن أن يقول بينهما رب اغفر لي للخبر الحسن أنه صلى الله عليه وسلّم قال عقب الضالين: رب اغفر لي آمين. (و) خامسها: (بين آمين والسورة) وتسن في غير صلاة الجنازة وغير صلاة فاقد الطهورين إن كان جنباً، ويحصل أصل السنة بقراءة البسملة لا بقصد أنها التي أول الفاتحة، ويكفي الحروف أوائل السور نحو ألم وص وق ون على أنها مبتدآت أو أخبار ولاحظ ذلك إذ هو آية حذف بعضها، قال النووي: السنة أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة في الركعة الأولى آلم تنزيل} ((32) السجدة:1) بكمالها، وفي الثانية هل أتى على الإنسان} ((76) الإنسان:1) بكمالها ولا يفعل ما يفعله كثير من أئمة المساجد من الاقتصار على آية من كل واحدة منهما مع تمطيط القراءة بل ينبغي أن يقرأهما بكمالهما، ويدرج أو يسرع قراءته ترتيلاً، والسنة أن يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى سورة الجمعة بكمالها وفي الثانية سورة المنافقون بكمالها، وإن شاء في الأولى سبح اسم ربك} ((87) الأعلى: 1) وفي الثانية: هل أتاك حديث الغاشية} ((88) الغاشية:1) وكلاهما صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويجتنب الاقتصار على البعض وليفعل ماقدمناه، والسنة في صلاة العيد سورة ق} ((50) ق:1) وفي الثانية اقتربت الساعة} ((54) القمر:1) بكمالها، وإن شاء قرأ سبح اسم ربك} ((88) الغاشية:1) وهل أتاك} ((88) الغاشية:1) وكلاهما صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وليجتنب الاقتصار على البعض، ويقرأ في ركعتي سنة الصبح بعد الفاتحة في الأولى قل يا أيها الكافرون} ((109) الكافرون:1) وفي الثانية: قل هو الله أحد} ((112) الإخلاص:1) وإن شاء قرأ في الأولى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} ((2) البقرة:136) الآية وفي الثانية: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة(1/184)
سواء بيننا وبينكم} ((3) آل عمران:64) الآية وكلاهما صحيح عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويقرأ في سنة المغرب قل يا أيها الكافرون} ((109) الكافرون:1) وقل هو الله أحد} ((112) الإخلاص:1) ويقرأ بهما أيضاً في ركعتي الطواف وركعتي الاستخارة، ويقرأ من أوتر بثلاث ركعات في الركعة الأولى سبح اسم ربك الأعلى} ((87) الأعلى:1) وفي الثانية: قل يا أيها الكافرون} ((109) الكافرون:1) وفي الثالثة: قل هو الله أحد} ((112) الإخلاص:1) والمعوذتين انتهى. (و) سادسها: (بين السورة والركوع) قال النووي في التبيان: قال أصحابنا يستحب للإمام في الصلاة الجهرية أن يسكت أربع سكتات في حال القيام؛ إحداها بعد تكبيرة الإحرام ليقرأ دعاء التوجه وليحرم المأموم والثانية عقب الفاتحة سكتة لطيفة جداً بين آخر الفاتحة وآمين ليعلم أن آمين ليس من الفاتحة لئلا يتوهم أن آمين من الفاتحة، والثالثة بعد آمين سكتة طويلة يحيث يقرأ المأموم الفاتحة، والرابعة بعد الفراغ من السورة يفصل بين القراءة وتكبيرة الهوي إلى الركوع.
[(1/185)
فائدة] قال أبو القاسم الحريري في درة الغواص: ومن أغلاطهم الواضحة أنهم يقولون: المال بين زيد وبين عمرو بتكرير لفظة بين فيهمون فيه أي يغلطون فيه، والصواب أن يقال بين زيد وعمرو كما قال الله تعالى من بين فرث ودم، والعلة فيه أن لفظة بين تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع كقولك: المال بينهما والدار بين الإخوة، فأما قوله تعالى مذبذبين بين ذلك فإن لفظة ذلك تؤدي عن شيئين وتنوب مناب لفظتين وإن كانت مفردة، ألا ترى أنك تقول ظننت ذلك فتقيم لفظة ذلك مقام مفعولي ظننت، وكان تقدير الكلام في الآية مذبذبين بين ذينك الفريقين وقد كشف الله سبحانه وتعالى هذا التأويل بقوله: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ونظيره لفظة أحد في قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله} ((2) البقرة:285) وذلك أن لفظة أحد تستغرق الجنس الواقع على المثنى والجمع وليست بمعنى واحد بدليل قوله تعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} ((33) الأحزاب:32).
(فصل): فيما يتعلق بالطمأنينة (الأركان) أي أركان الصلاة السبعة عشر (التي تلزم) بفتح الزاي أي تجب (فيها الطمأنينة أربعة: الركوع والاعتدال) وهما من خصائص هذه الأمة، وكذا التأمين خلف الإمام على ما قاله الشويري، وأما قوله تعالى: يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} ((3) آل عمران:43) فالمراد بالركوع الخشوع وبالسجود الصلاة كقوله تعالى: وأدبار السجود} ((50) ق:40) وبالقنوت إدامة الطاعة لله كقوله تعالى: أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً} ((39) الزمر:9) (والسجود والجلوس بين السجدتين) ثم بيَّن المصنف صورة الطمأنينة فقال: (الطمأنينة هي سكون بعد حركة) أي سكون الأعضاء بعد حركتها من هوي ونهوض ولو قال هي سكون بين حركتين لكان أوضح. (بحيث يستقر كل عضو محله بقدر سبحان الله) أي بقدر التلفظ بذلك.
[(1/186)
فائدة] الطمأنينة اسم مصدر اطمأن ومصدره اطمئنان قال بعضهم: والأصل في اطمأن الألف مثل إحمار وإسواد لكنهم همزوه فراراً من الساكنين على غير قياس، وقيل الأصل همزته متقدمة على الميم لكنها أخرت على غير قياس بدليل قولهم: طأمن الرجل ظهره بالهمز على فاعل، ويجوز تسهيل الهمزة فيقال طامن الرجل ومعناه حناه وخفضه انتهى بحروفه من المصباح. قال ابن مالك في القصيدة اللامية المسماة بأبنية الأفعال من بحر البسيط:
وبالفعليلة افعلل قد جعلوا >< مستغنياً لا لزوماً فاعرف المثلا
قال الشارح محمد بحرق في فتح الأقفال: أي وقد يجيء مصدر المبدوء بالهمزة وهو افعلل كاقشعر واطمأن على فعليلة بضم الفاء وتشديد اللام الأولى كالقشعريرة والطمأنينة والقياس الاقشعرار والاطمئنان بكسر ثالثه ومد ما قبل آخره، وأشار بقوله مستغنياً لا لزوماً إلى أن ذلك إنما هو على سبيل النيابة عن المصادر القياسية لا على سبيل اللزوم أي الاطراد. وقوله: فاعرف المثلا بضم الميم والثاء المثلثة أي اعرف المقيس منها المطرد من النائب عنها السماعي.
((1/187)
فصل): في بيان مقتضى سجود السهو وما يتعلق به (أسباب سجود السهو) في الصلاة فرضاً أو نفلاً (أربعة) فالأسباب جمع سبب وهو لغةً ما يتوصل به إلى غيره، وشرعاً ما يلزم من وجوده الوجود لذاته ومن عدمه العدم لذاته أيضاً، والسهو لغة نسيان الشيء والغفلة عنه، وشرعاً نسيان شيء مخصوص من الصلاة كأبعاضها غالباً ومن غير الغالب قد يكون لغير ذلك كتطويل الركن القصير وتكرير الركن سهواً، والمراد بالسهو هنا مطلق الخلل الواقع في الصلاة سواء كان عمداً أو سهواً. (الأول: ترك بعض) أي واحد يقيناً ولو عمداً (من أبعاض الصلاة) أي أبعاضها السبعة الآتي بيانها في كلام المصنف (أو بعض البعض) أي أو ترك بعض من البعض الواحد كترك الكلمة من القنوت الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وكذا إبدال حرف بآخر، أما ترك الفاء من: فإنك تقضي، أو الواو من: وإنه لا يذل، فلا سجود لتركها للخلاف في ذلك، وأما ما قاله الشرقاوي وعثمان في تحفة الحبيب من أنه يسن السجود لترك ذلك فهو ضعيف، هكذا قال شيخنا أحمد الخطيب كما قال ابن حجر في المنهج القويم وزيادة الفاء والواو في القنوت أخذت من ورودها في قنوت الوتر. (الثاني: فعل ما يبطل عمده ولا يبطل سهوه إذا فعله ناسياً) سواء حصل معه زيادة بتدارك ركن أم لا وذلك كتطويل ركن قصير وهو اعتدال لم يطلب تطويله وجلوس بين السجدتين كذلك، وكقليل كلام وأكل وزيادة ركعة ومثله سلام ناسياً في غير محله. ((1/188)
الثالث: نقل ركن) أو غيره (قولي) أو بعضه ولو عمداً غير مبطل نقله (إلى غير محله) كقراءة الفاتحة أو سورة الإخلاص أو بعضها في القعود بنيتها، نعم يستثنى من ذلك التسبيحات فلا يسجد لنقلها على المعتمد وإن قصدها لأن جميع الصلاة قابل لها إذ لم ينه عن التسبيح في شيء منها، بخلاف القراءة فإنها منهي عنها في غير محلها، وخرج بما ذكر نقل الفعلي والسلام وتكبيرة الإحرام عمداً بأن كبر ثانياً قاصداً التحرم فإنه مبطل، لأن من افتتح صلاة ثم افتتح أخرى بطلت الأولى وفارق نقل الفعلي نقل القولي بأنه لا يغير هيئة الصلاة بخلاف نقل الفعلي. (الرابع: إيقاع ركن فعلي مع احتمال الزيادة) أي مع التردد في زيادته بأن شك في ركعة من الرباعية هل صليت ثلاثاً وهذه التي أريد الإتيان بها رابعة أم أربعة وهي خامسة فبنى على اليقين وانتصب للإتيان بركعة، ثم بعد انتصابه تذكر في أثنائها وقبل السلام أنها رابعة فيسن السجود لأن ما فعله منها عند الانتصاب لها وقبل التذكر محتمل للزيادة أي احتمال أن يكون من الخامسة وأن يكون من الرابعة بخلاف ما لو تذكر في تلك الركعة المشكوك بها قبل الانتصاب لغيرها أنها رابعة فلا سجود عليه، وكذا لو تذكر أنها ثالثة فأتى بركعة فلا سجود عليه أيضاً لأن ما فعله منها مع التردد لا يحتمل زيادة لأنه لا بد منها سواء كان في الثالثة أو الرابعة.
((1/189)
فروع) لو شك بعد سلامه في ترك فرض غير نية وتكبيرة الإحرام لم تؤثر لأن الظاهر وقوع الصلاة عن تمام وسهوه حال قدوته كأن سها عن التشهد الأول يحمله الإمام كما يحمل الجهر والسورة وغيرهما أي فلا سجود عليه، فلو ظن سلامه فسلم فبان خلاف ما ظنه تابعه في السلام ولا سجود لأن سهوه في حال قدوته، ولو ذكر في حال تشهده ترك ركن غير نية أو تكبيرة أتى بعد سلام إمامه بركعة كأن ترك سجدة من غير الأخيرة ولا يسجد لأن سهوه في حال قدوته بخلاف سهوه قبل القدوة، كما لو سها وهو منفرد ثم اقتدى به فلا يتحمله لعدم اقتدائه به حال سهوه وكذلك سهوه بعدها، كما لو سها بعد سلام الإمام سواء كان مسبوقاً أو موافقاً لانتهاء القدوة، فلو سلم المسبوق بسلام الإمام فتذكر حالاً بنى على صلاته إن قصر الفصل وسجد للسهو لأن سهوه بعد انقضاء القدوة، وكذا لو سلم معه لاختلال القدوة بالشروع في السلام ويلحق المأموم سهو إمامه وكذا عمده كما يحمل الإمام سهوه سواء سها قبل اقتدائه به أم حال اقتدائه، فإن سجد إمامه تابعه وجوباً وإن لم يعرف أنه سها حتى لو اقتصر على سجدة واحدة سجد المأموم أخرى، فإن ترك متابعته عمداً بطلت صلاته ثم يعيد السجود مسبوق آخر صلاته لأنه محل سجود السهو، وإن لم يسجد الإمام وسلم المأموم آخر صلاته جبراً لخلل صلاته بسهو إمامه. قال عبدالكريم: أما لو قام إمامه لخامسة ساهياً فإنه يمتنع على المأموم متابعته ولو كان مسبوقاً وهو مخير بين مفارقته ليسلم وحده وانتظاره ليسلم معه ومحل وجوب متابعته في السجود ما لم يتيقن المأموم غلط إمامه وإلا فلا يتبعه كأن سجد لترك الجهر أو السورة انتهى.(1/190)
وسجود السهو وإن كثر السهو سجدتان بنية سجود السهو من غير تلفظ بها فلو سجد بلا نية أو تلفظ بها بطلت صلاته، نعم المأموم لا يحتاج إلى نية لتبعيته للإمام ومحله قبيل السلام سواء في ذلك الحكم السهو بزيادة أم بنقص أم بهما. قال عبد العزيز في فتح المعين: وهما والجلوس بينهما كسجود الصلاة والجلوس بين سجدتيها في واجباتها ومندوباتها كالذكر فيها. وقال عبد الكريم في حاشيته على الستين: وقيل يقول في سجوده: سبحان من لا ينام ولا يسهو وهو لائق بالحال واللائق بتعمد الترك حينئذٍ الاستغفار. وقال الشبراملسي: إن الأوجه استحباب: سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته انتهى. فإن سلم عمداً مطلقاً أو سهواً وطال فصلٌ عرفاً فات السجود وإلا سجد، وإذا أراد من سلم ساهياً السجود صار عائداً إلى الصلاة فيجب أن يعيد السلام، وإذا أحدث بطلت صلاته، وإذا خرج وقت الظهر فيه فاتت الجمعة، وإذا تذكر ترك ركن أو شك فيه لزمه تداركه قبل سجوده فإن سجد قبله بطلت صلاته. وبذلك يلغز فيقال لنا: شخص أتى بسنة فلزمه فرض، أو يقال: شخص عاد إلى سنة لزمه فرض، أو يقال لنا: سنة أوجبت فرضاً.
(فصل): في بيان عدد الأبعاض من الصلاة (أبعاض الصلاة) بالإجمال (سبعة) أما بالتفصيل فهي عشرون؛ ففي القنوت منها أربعة عشر وهي: القنوت وقيامه والصلاة على النبي وقيامه والسلام عليه وقيامه والصلاة على الآل وقيامه والسلام عليهم وقيامه والصلاة على الصحب وقيامه والسلام عليهم وقيامه. وفي التشهد ستة وهي: التشهد الأول وقعوده والصلاة على النبي فيه وقعوده والصلاة على الآل في التشهد الأخير وقعوده. ثم بين المصنف السبعة بقوله: (التشهد الأول) والمراد به اللفظ الواجب في التشهد الأخير وهو أربع جمل كما مر بيانه فلا سجود لترك ما هو سنة فيه. (و) الثاني: (قعوده) لأنه مقصود له فكان مثله. (و) الثالث: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فيه) أي بعد التشهد الأول.
[(1/191)
فائدة] لو ترك الإمام التشهد الأول لا يجوز للمأموم التخلف له ولا لبعضه ولا الجلوس من غير تشهد وإن جلس الإمام للاستراحة، بخلاف ما إذا ترك إمامه القنوت فإنه يجوز له التخلف للإتيان به ما لم يعلم أنه يسبق بركنين بل يندب له التخلف إن علم أنه يدركه في السجدة الأولى.
[فائدة] لو كان الإمام يطيل التشهد الأول لثقل لسانه أو غيره وأتّمه المأموم استحب له الدعاء إلى أن يقوم إمامه ولا يأتي بالصلاة على الآل وما بعدها وهذا إذا كان موافقاً، أما إذا كان مسبوقاً كأن أدرك ركعتين من الرباعية فإنه يتشهد مع الإمام تشهده الأخير ومنه الصلاة على الآل، نبه على هاتين الفائدتين عبدالكريم محشي الستين. (و) الرابع: (الصلاة على الآل في التشهد الأخير) أي بعده. ((1/192)
و) الخامس: (القنوت) في الصبح ووتر النصف الأخير من رمضان بخلاف قنوت النازلة لأن قنوتها سنة في الصلاة لا سنة منها أي بعضها، والقنوت هو ذكر مخصوص مشتمل على دعاء وثناء ويحصل بكل لفظ اشتمل عليهما بأي صيغة شاء كقوله: اللهم اغفر لي يا غفور، فالدعاء يحصل باغفر والثناء بغفور، وكذلك ارحمني يا رحيم وقوله: الطف بي يا لطيف وهكذا، ومثل الذكر المخصوص آية تتضمن ذلك كآخر سورة البقرة بشرط أن يقصد بها القنوت، وكقوله تعالى: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} ((59)الحشر:10) والأفضل هو القنوت الوارد على النبي صلى الله عليه وسلّم الذي رواه الحاكم عن أبي هريرة وهو: اللهم اهدني فيمن هديت أي دلني معهم وعافني فيمن عافيت أي سلمني من بلايا الدنيا والآخرة معهم وتولني فيمن توليت أي كن ناصراً لي وحافظاً لي من الذنوب معهم وبارك لي فيما أعطيت أي أنزل البركة وهي الخير الإلهي فيما أعطيته لي وقني شر ما قضيت أي احفظني وامنعني فساد ما يترتب ويتسبب على القضاء من السخط وعدم الرضاء بالقضاء والقدر، وهذا آخر الدعاء وما بعده الثناء وهو: إنك تقضي أي تحكم ولا يقضى عليك بحذف الفاء في فإنك وإنه لا يذل من واليت بحذف الواو في وإنه بكسر الهمزة فيه أيضاً وبفتح الياء وكسر الذال في يذل أي لا تحصل إهانة لمن أكرمت، وفي رواية بضم الياء وفتح الذال أي لا يذله أحد تباركت أي تزايد برك وخيرك وتعاليت أي ارتفعت وتنزهت عما يقول الجاحدون هذا آخر القنوت للاتباع. وأما قوله: فلك الحمد على ما قضيت أي قدرت وحكمت لأنه لا يصدر عنك إلا الجميل أستغفرك من الذنوب وأتوب إليك أي منها فهو زيادة عن جماعة، قال ابن حجر: ولا بأس بزيادة ذلك ولا يسجد لتركه.(1/193)
وروى البيهقي عن ابن عباس لفظ ربنا بعد تباركت قال الرافعي: وزاد العلماء فيه قبل تباركت: ولا يعز من عاديت بفتح الياء وكسر العين أي لا يحصل له عزة أي قوة ويجوز ضم الياء وفتح العين أي لا يعزه أحده من حاشية الشيخ عبدالكريم على الستين بزيادة ويأتي به إمام بلفظ الجمع فيقول: اهدنا وهكذا، وأما لفظ ربنا فيختص بالجمع ولو كان منفرداً اتباعاً للوارد ثم يصلي ويسلم على النبي وآله وصحبه آخره ولا يسنان أوله لعدم ورودهما وهما وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم بصيغة الماضي فيهما أو الأمر فيهما والماضي أولى لإفادته المبالغة، فكأن الصلاة والسلام وقعا فأخبر عنهما، وهذا قنوت النبي ومثله قنوت عمر أو ابنه ونسبته إليه لأنه رواه عنه صلى الله عليه وسلّم أو قاله من عنده، ويستحب الجمع بينهما في حق المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل ليسوا أجراء ولا أرقاء ولا متزوجات وهو: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك، الخير كله نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك بضم الجيم أي يعصيك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد بكسر الفاء أي نسرع إلى الطاعة نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بكسر الجيم أي الحق بالكفار ملحق بكسر الحاء أي لاحق بهم ويجوز فتحها لأن الله ألحقه بهم فإن جمع بينهما فالأفضل تقديم قنوت النبي صلى الله عليه وسلّم وإن اقتصر فليقتصر عليه.(1/194)
ويستحب القنوت في كل صلاة في اعتدال الركعة الأخيرة منها لنازلة، ولا يسن السجود لتركه لأنه ليس من الأبعاض والنازلة كقحط وطاعون وعدو، ولم يصرح العلماء عن لفظ قنوت النازلة وهو مشعر بأنه كقنوت الصبح لكن الذي يظهر كما قال ابن حجر إنه يدعو في كل نازلة بما يناسبها وهو حسن قاله الباجوري، ويسن رفع يديه مكشوفتين في القنوت ولو في حال الثناء كسائر الأدعية للإتباع حذو منكبيه، ويسن لكل داع رفع بطن يديه إلى السماء إذا دعا بتحصيل شيء وظهرهما إذا دعا برفعه أو عدم حصوله، ومن ذلك قوله: وقنا شر ما قضيت. قال الشيخ عبدالكريم: ويندب أن لا يمسح بهما وجهه في الصلاة وسن خارجها ويسن أن يجهر به إمام في السرية والجهرية بقدر ما يسمع المأمومون وإن كان مثل جهره بالقراءة ويسر به المنفرد في غير النازلة أما فيها فيجهر به مطلقاً ويؤمن المأموم جهراً على الدعاء إن سمع قنوت إمامه، وألحق المحب الطبري الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بالدعاء فيؤم فيها وهو المعتمد كما قاله المحلي، وقيل إنها من قبيل الثناء فيشارك فيها لكن قال الباجوري: الأولى الجمع وهو أن يؤمن ويشارك فيها ويقول المأموم الثناء سراً وهو إنك تقضي الخ أو يستمع لإمامه والأول أولى، ولا يتعين ما ذكر بل مثله أن يقول أشهد كما في مختصر الإحياء أو أصدق أو بررت أو بلى وإنا على ذلك من الشاهدين وما أشبهه ذلك، أما المأموم الذي لم يسمع قنوت إمامه لصممه أو بعده عنه أو عدم جهره به أو سمع صوتاً لا يفهمه فيقنت سراً. (و) السادس: (قيامه) أي القنوت. (و) السابع: (الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلّم وآله وصحبه فيه) أي بعد القنوت ففي بمعنى بعد كما تقدم نظيره.(1/195)
واعلم أن الأبعاض اسم للأركان فإطلاقها على السنن التي تجبر بالسجود على طريق التشبيه بالأركان بجامع الجبر في كلَ وإن كان جبر الأولى بالسجود والثانية بالتدارك، واستعير اسم المشبه وهو الأبعاض للمشبه به وهو الأركان وهذا باعتبار الأصل ثم صار حقيقة عرفية.
(تذييل) وهيئات الصلاة كثيرة ولا يجبر تركها بسجود السهو منها وضع يد يمنى على شمال فله ثلاث كيفيات، فالكيفية الفضلى هي أن يقبض كاع يسار ورسغها وساعدها بكفه اليمنى بعد فراغ الرفع من التحرم، ومنها وضع الكفين محاذيين لصدره فقط لا إنه يرسلهما ثم يرفعهما، ولا فرق في ذلك بين القائم والقاعد والمضطجع فالكاع طرف الزند الذي يلي الإبهام، والرسغ مفصل ما بين الكف والساعد، والزند ما انحسر عنه اللحم من الذراع قاله في المصباح وقال في القاموس: والزند موصل طرف الذراع في الكف وهما زندان، والساعد ما بين المرفق والكف، والكيفية الثانية أن يبسط أصابع اليمنى في عرض المفصل، والثالثة أن ينشر أصابعه جهة الساعد. والقصد من ذلك تسكين اليدين فإن أرسلهما ولم يعبث لم يكره، والحكمة في ذلك كونه ذليلاً بين يدي عزيز، ومنها جعلها تحت صدره وفوق سرته مائلاً إلى جهة يساره، والحكمة فيه إرشاد المصلي إلى حفظ قلبه عن الخواطر لأن وضع اليد كذلك يحاذيه لأن القلب الصنوبري وهو أشرف الأعضاء الذي هو محل النية والإخلاص والخشوع قاعدته في وسط الصدر ورأسه إلى الجانب الأيسر، والعادة أن من احتفظ بشيء أمسكه بيده وهذا عند ابن عباس هو المراد بالنحر في قوله تعالى: وانحر} ((108) الكوثر:2) قال: النحر وهو وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر، ومنها جلوس استراحة ومحله بعد سجدة ثانية يقوم عنها للاتباع لا بعد سجدة تلاوة.(1/196)
قال الشرقاوي: ويكره تطويله فوق الجلوس بين السجدتين ولا تبطل به الصلاة على المعتمد ويأتي به المأموم ندباً وإن تركه الإمام ولا يضر تخلفه لأن الشأن يسير وبه فارق ما لو تخلف للتشهد الأول، فلو كان بطيء النهضة والإمام سريعها أو سريع القراءة بحيث يفوته بعض الفاتحة لو تأخر له جاز تخلفه، ومنها اعتماد على الأرض ببطن كفيه وأصابعه مبسوطة على الأرض عند قيامه من جلوسه أو سجوده وهو كهيئة العاجز بالزاي أو كالعاجن بالنون في شدة الاعتماد عند وضع يديه لا في كيفية ضم أصابعهما، ومنها وضع كفيه في جميع جلسات الصلاة على فخذيه بحيث تكون أطراف أصابعه عند ركبتيه، ومنه: نشر أصابع يده اليسرى مضمومة محاذياً برؤوسها طرف الركبة وقبض أصابع يده اليمنى بعد وضعها منشورة لا معه ولا قبله في تشهديه إلا المسبحة فيرسلها، والأفضل وضع رأس الإبهام عند أسفلها على طرف الراحة ويشير بها مع إمالتها قليلاً عند قوله إلا الله بلا تحريك وينوي بالإشارة الإخلاص بالتوحيد بأن يقصد من ابتدائه بهمزة إلا الله أن المعبود واحد ليجمع في توحيده بين اعتقاده وقوله وفعله، ويديم رفعها إلى القيام في التشهد الأول أو السلام في التشهد الآخر، فإن قطعت يمناه لم يشر باليسرى بل يكره، ومنها إدامة نظره إلى موضع سجوده في جميع صلاته بأن يبتدىء النظر إليه من ابتداء التحرم ويديمه إلى آخر صلاته فتركها خلاف الأولى ولو كان أعمى أو في ظلمة، ولو كان يصلي في الكعبة أو خلف نبي أو خلف جنازة خلافاً لمن قال في هذه الصور: ينظر إلى الكعبة وللنبي وللجنازة إلا في حال رفع المسبحة فينظر إليها، وإلا في حالة صلاة شدة الخوف والعدو أمامه فينظر إلى جهته، وإلا فيما إذا كان في محل سجوده صورة تلهي فلا ينظر إلى محل سجوده بل يندب تغميض عينيه وقد يجب صرفاً عن نحو عورة أو أمرد وهو من لا شعر بوجهه، وينبغي أن يقدم النظر على ابتداء التحرم ليتأتى له تحقيق النظر من ابتداء التحرم ويطرق(1/197)
رأسه قليلاً.
[خاتمة] والمكروهات في الصلاة اثنان وعشرون: أحدها: جعل يديه في كميه في خمسة أشياء عند تحرمه وركوعه وسجوده وقيامه من تشهده وجلوسه له. وثانيها: التفات بوجهه بلا حاجة أما إذا كان لها كحفظ متاع فلا يكره. وثالثها: إشارة بنحو عين أو حاجب أو شفة بلا حاجة ولو من أخرس ولا تبطل بها الصلاة ما لم تكن على وجه اللعب وإلا بطلت، أما إذا كانت للحاجة كرد سلام ونحوه فلا يكره. ورابعها: جهر بمحل إسرار وعكسه حيث لا عذر، فإن حصل عذر كأن كثر اللغط عنده فاحتاج للجهر ليأتي بالقراءة على وجهها فلا كراهة. وخامسها: اختصار بأن يجعل يده أو يديه على خاصرته ما لم يكن لحاجة كعلة بجنبه وإلا فلا كراهة لخبر أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى أن يصلي الرجل متخصراً" رواه الشيخان. والمرأة كالرجل ومثلها الخنثى، ويكره ذلك الاختصار خارج الصلاة أيضاً لأنه فعل الكفار بالنسبة للصلاة، وفعل المتكبرين خارجها، وفعل المخنثين والنساء للعجب، وأن إبليس لما أهبط من الجنة فعل كذلك، وتفسير الاختصار بذلك هو المشهور، وقد يفسر باختصار سجدة لأنه منهي عنه أيضاً. قال الأزهري: يحتمل وجهين: أحدهما أن يختصر الآية. التي فيها السجود فيسجد لها. والثاني أن يقرأ السورة فإذا انتهى إلى السجدة جاوزها ولم يسجد لها. وسادسها: إسراع في الصلاة أي عدم التأني في أفعالها وأقوالها، وكذا إسراع لحضورها لأنه يسن المشي إلى المسجد على تأنَ وسكينة وإسراع لإدراك التحرم أو غيره مع الإمام، نعم إن توقف إدراك الجماعة عليه يسن أو إدراك الجمعة وجب. وسابعها: تغميض جفنه إن خاف ضرراً وإلا فلا كراهة سواء الأعمى والبصير لأن الجفن يسجد معه وقد يجب إذا كان العراة صفوفاً، وقد يسن كأن صلى إلى حائط مزوق أي منقش ومزين يشوش الفكر أي يخلطه. وثامنها: إلصاق عضديه بجنبيه في ركوعه وسجوده. وتاسعها: إلصاق بطنه بفخذيه في الركوع والسجود.(1/198)
وعاشرها: إقعاء الكلب وهو إلصاق ألييه بالأرض ونصب ساقيه ووضع يديه على الأرض وهذا أحد نوعي الإقعاء، والنوع الآخر هو أن يضع أطراف أصابع رجليه وركبتيه على الأرض وألييه على عقبيه وهذا سنة في كل جلوس يعقبه حركة لما صح فعله عن النبي صلى الله عليه وسلّم، لكن الافتراش أفضل منه لأنه الأكثر الأشهر: وحادي عشرها: نقرة الغراب أي ضرب الأرض بجبته عند السجود مع الطمأنينة وإلا لم يكف. وثاني عشرها: افتراش السبع في سجوده بأن يضع ذراعيه على الأرض كما يفعل السبع. وثالث عشرها: المبالغة في خفض الرأس في الركوع. ورابع عشرها: إطالة التشهد الأول في غير المأموم بحيث زاده ولو بالصلاة على الآل أو الدعاء أما إذا لم يزده فلا كراهة. وخامس عشرها: الاضطباع ولو لغير الرجل وهو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر. وسادس عشرها: تشبيك الأصابع وهو إدخال بعضها في بعض، أما خارج الصلاة فإن كان في المسجد منتظراً للصلاة ولو غير مستقبل القبلة فهو مكروه أيضاً وإلا فلا. قال شيخنا محمد حسب الله: إن التشبيك يورث النعاس. وسابع عشرها: تفرقع الأصابع والتفرقع هو مصدر تفرقع على وزن تدحرج، قال في القاموس: فرقع الأصابع أي نفضها وضرب بها لتصوت. وثامن عشرها: الإسبال وهو إرخاء الإزار على الأرض. وتاسع عشرها: بصق أماماً ويميناً لا يساراً لخبر الشيخين: "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه عز وجل فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره" وهذا في غير المسجد أما فيه فيحرم إن اتصل بشيء من أجزائه بل يبصق في طرف ثوبه من جانبه الأيسر ويلف بعضه ببعض. وعشروها: كف ثوب أو شعر للرجل أي منعه من السجود معه دون المرأة والخنثى بل قد يجب كف شعرهما.(1/199)
ولذلك قال القليوبي: نعم يجب كف شعر امرأة وخنثى توقفت صحة الصلاة عليه، ولا يكره بقاؤه مكفوفاً، ولا فرق بين الصلاة على الجنازة وغيرها ولا بين القائم والقاعد لخبر: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضام ولا أكف ثوباً ولا شعراً" رواه الشيخان. وفي رواية: "أمرت أن لا أكفت الشعر أو الثياب" وأكفت بكسر الفاء وبالتاء من باب ضرب أي أجمع ومن ذلك أن يصلي وشعره معقوص أو مردود تحت عمامته أو ثوبه أو وكمه مشمر أي مرفوع، ويسن لمن رآه كذلك ولو مصلياً آخر أن يحله حيث لا فتنة، نعم لو بادر شخص وحل كمه المشمر وكان فيه مال وتلف كان ضامناً له ومنه شد الوسط فيكره إلا لحاجة بأن كانت ترى عورته بدون الحزام، أما العذبة وهي طرف عمامته فيكره غرزها في عمامته بل يسن إرخاؤها، ويكره أيضاً خارج الصلاة لكنه في الصلاة أشد كراهة لأنه صلى الله عليه وسلّم قال: "إن الله يكره العمامة الصماء" وحادي عشريها: وضع يده على فمه بلا حاجة فإن كان لها كما إذا تثاءب فلا كراهة بل يستحب له ذلك، ويسن أن يكون الموضوع اليد اليسرى والأولى ظهرها كما أفتى بذلك شيخنا عبد الغني. وثاني عشريها: تلثم الرجل وهو تغطية الفم وتنقب لغيره وهو تغطية ما زاد على الفم من الوجه للنهي عن الأول وقيس به الثاني قاله ابن حجر في المنهج القويم.
((1/200)
فصل): في مفسدات الصلاة (تبطل الصلاة بأربع عشرة خصلة) بل بأكثر من ذلك، والخصلة بكسر الخاء النوع والفرق بين المفسد والمبطل أن المفسد ما يطرأ بعد الانعقاد وهو المراد هنا، والمبطل ما يمنعه قاله الشرقاوي أحدها: (بالحدث) ولو بلا قصد أو أكره عليه كأن عصر بطنه فخرج ولا فرق في البطلان بين المتطهر وغيره كفاقد الطهورين للخبر الصحيح: "إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته" وهذا الكلام في السليم، أما السلس فلا يبطل صلاته إلا حدثه الغير الدائم بخلاف الدائم فإنه لا يبطلها، ويسن لمن أحدث في صلاته أن يأخذ بأنفه ثم ينصرف موهماً أنه رعف ستراً على نفسه لئلا يخوض الناس فيه فيأثموا، وكذا إذا أحدث وهو منتظر للصلاة لا سيما إذا قربت إقامتها أو أقيمت بالفعل (و) ثانيها (بوقوع النجاسة) التي لا يعفى عنها وسواء وقعت على ثوبه وإن لم يتحرك بحركته كطرف عمامته الطويل أو بدنه أو داخل أنفه أو فمه أو عينه أو أذنه وإنما جعل داخل ذلك كظاهره هنا بخلاف غسل الجنابة ونحوها لغلظ أمر النجاسة (إن لم تلق حالاً) أي قبل مضي أقل الطمأنينة (من غير حمل) كما لو وضع أصبعه على حجر تحته نجاسة ونحاها به من غير حمل له أو على موضع طاهر من نعله ونحاه من غير حمل لها فإن ذلك لا يضر، فإن ترتب على إزالتها حمل كأن نحاها بنحو عود أو جر الثوب ولو قبض موضعاً طاهراً منه ضر ثم النجاسة إن كانت يابسة فله نفضها ولو في المسجد وإن اتسع الوقت ثم يجب إزالتها بعد الصلاة فوراً، وإن كانت رطبة ويلزم على إلقائها تنجس المسجد بها ففيه تفصيل، فإن اتسع الوقت راعاه فلا يلقيها فيه بل يقطع الصلاة ويرميها خارجه ثم يستأنف الصلاة وإلا راعاها وأتمها وألقاها فيه ووجبت إزالتها بعد الصلاة فوراً، هذا إن قدر على الإزالة في الفور وإلا بأن لم يجد ماء ليطهر المسجد به فيقطع الصلاة ويرميها خارجه كما أفاده شيخنا محمد حسب الله، وخرج بالمسجد الرباط والمدرسة وملك(1/201)
الغير والآدمي المحترم وقبره وملك نفسه وإن لزم إفساد شيء منه فيراعي في ذلك الصلاة مطلقاً، وأما المصحف ونحوه جوف الكعبة فينبغي مراعاتهما ولو ضاق الوقت ولو كانت النجاسة جافة لعظم حرمتهما، ولو اقتصد مثلاً فخرج دمه ولم يلوث بشرته أو لوثها قليلاً لم يضر. (و) ثالثها: (انكشاف العورة) أي كلها أو بعضها مما يجب ستره لأجل الصلاة (إن لم تستر حالاً) وإن صلى في الخلوة فإن كشفها ريح فلا تبطل صلاته إن سترها حالاً أي قبل مضي أقل الطمأنينة، نعم لو تكرر كشف الريح وتوالى بحيث يحتاج في الستر إلى حركات كثيرة متوالية بطلت صلاته بذلك لأنه نادر، كما لو دفع المار بفعل كثير وخرج بالريح غيره ولو بهيمة كقرد أو آدمي سواء كان مميزاً أم مأذوناً له أم لا فيضر كشفه وإن سترها حالاً وكذا لو كشفها سهواً إن لم يسترها حالاً وإلا لم يضر، وإذا صلت أمة ورأسها مكشوف وعتقت في الصلاة فإن لم تستر فوراً بلا أفعال كثيرة بطلت صلاتها وإلا فلا بطلان. ويلغز بمسألة الأمة فيقال لنا: شخص بطلت صلاته بكلام غيره وذلك فيما إذا كانت أم ولد ومات سيدها ببلد أخرى ولم تعلم بموته إلا بعد مدة وهي تصلي مكشوفة الرأس مثلاً. ((1/202)
و) رابعها ب (النطق بحرفين) متواليين وإن لم يفهما كعن ومن أو كانا من آية نسخت تلاوتها، ومن متعلقات القرآن المحذوفة وإن قصد أنها متعلق اللفظ أو كان لمصلحة الصلاة كقوله لإمامه: قم، أو كان في تنحنح ونحوه كضحك وبكاء ولو من خوف الآخرة وأنين ولو من شدة مرض ونفخ بأنف أو فم وسعال وعطاس فالبطلان فيها من جهة الكلام، ولو غلبه الضحك لم تبطل صلاته إلا إن كثر فيغتفر اليسير للغلبة وخرج بالضحك التبسم فلا تبطل به الصلاة نعم يجوز التنحنح للصائم لإخراج نخامة تبطل صومه، وللمفطر أيضاً لإخراج نخامة تبطل صلاته إذا لم يمكنه إخراجها إلا به، ولو تنحنح إمامه فبان منه حرفان لم يجب مفارقته لأن الظاهر تحرزه عن المبطل إلا إن دلت قرينة حاله على عدم عذره فتجب مفارقته، ولو ابتلي شخص بنحو سعال دائم بحيث لم يخل زمن لوقت يسع الصلاة بلا سعال مبطل فالذي يظهر العفو عنه ولا قضاء عليه لو شفي (أو حرف مفهم) كق وع وف وش فهذا كله مفهم لأن ق فعل أمر من الوقاية بكسر الواو وفتحها يقال قِ نفسك من الهلاك أي صنها وتباعد عنه وع من الوعي يقال ع الحديث أي احفظه وتدبره، وف من الوفاء يقال ف الوعد، وش من الوشي كالوعد يقال ش كتاب الفقه أي اكتبه، أو يقال ش في كلامك أي اكذب فيه، أو يقال ش بهذا الأمر عند السلطان أي اسع به، ومثل ذلك حرف ممدود إن لم يفهم إذ المدة ألف أو واو أو ياء فالمدود في الحقيقة حرفان.(1/203)
ثم قيد المصنف ذلك بقوله: (عمداً) أي حال كون الناطق عامداً، ولو كان مكرهاً مع العلم بالتحريم وتذكر كونه في الصلاة أما مع عدم العمد بأن سبق إليه لسانه أو مع عدم العلم بالتحريم أو مع النسيان إنه في الصلاة فإن كان ما أتى به كلاماً قليلاً عرفاً وضبط بست كلمات عرفية فأقل لم يضر إن كان في صورة عدم العلم بالتحريم قريب عهد بالإسلام أي قريب علم به أو نشأ بعيداً عن العلماء فيكون جاهلاً معذوراً، بخلاف من لم يكن كذلك لتقصيره بترك التعلم فيكون غير معذور، وإن كان كثيراً عرفاً وضبط بأكثر من ست كلمات عرفية ضر لأنه يقطع نظم الصلاة، ولأن سبق اللسان والنسيان في الكثير نادر، والمراد بالعلماء هنا العالمون بهذا الحكم المجهول، والمراد بالبعيد أن يكون بحيث لو سعى للتعلم لشق عليه ذلك مشقة شديدة كخوف أو عدم زاد وضياع من تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك ولو دون مسافة القصر وإلا لزمه السفر إليه لتعلم المسائل الظاهرة دون الخفية، ويعذر في إجابة نبينا بالقول فلا تبطل الصلاة بها، ومثله الفعل فلا تبطل بإجابته بالفعل وإن استدبر القبلة، وإذا انتهى غرض النبي صلى الله عليه وسلّم أتم الصلاة فيما وصل إليه وليس له أن يعود إلى مكانه الأول حيث لزم على ذلك أفعال متوالية ما لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلّم بالعود فيه، وينبغي أن تكون إجابته بقدر الحاجة وإلا بطلت، أما غيره من بقية الأنبياء كعيسى عليه الصلاة والسلام فتجب إجابته وتبطل بها الصلاة، ومثل الأنبياء الملائكة، وتحرم إجابة الوالدين في الفرض وتجوز في النفل وهي أفضل منه إن شق عليهما عدمها، وتبطل الصلاة بها مطلقاً، وخرج بالنطق المبطل الذكر والدعاء فلا تبطل بهما الصلاة إلا أن يخاطب بهما غير الله ورسوله كقوله لعاطس أو لميت: يرحمك الله بخلاف يرحمه الله فلا تبطل لانتفاء الخطاب، أما إذا خاطب الله أو نبياً كقوله: السلام عليك يا رسول الله فلا تبطل لكن بشرط تضمنها ثناء عليه كما(1/204)
ذكر، بخلاف نحو صدقت يا رسول الله وبشرط عدم التعليق، ويسن لمن عطس أن يحمد الله ويسمع نفسه، ولا تبطل الصلاة بسكوت طويل ولو بلا عذر.
وسن لرجل تسبيح ولغيره تصفيق بضرب بطن كف أو ظهرها على ظهر كف أخرى، أو بضرب ظهر كف على بطن أخرى لا بضرب بطن على بطن إذا أصابهما شيء في صلاتهما، سواء كان ذلك الشيء مندوباً كتنبه إمامهما عند سهوه أو مباحاً كإذنهما لمستأذن، أو واجباً كإنذار أعمى أو غافل مميز من وقوعه في محذور، ويعتبر في التسبيح أن يقصد به الذكر وحده أو مع الإعلام فإن أطلق أو قصد الإعلام فقط بطلت صلاته، ولا يضر في التصفيق قصد الإعلام فإن لم يحصل الإنذار إلا بالكلام أو بالفعل المبطل وجب وتبطل الصلاة به. (و) خامسها: (بالمفطر) أي للصائم (عمداً) لتلاعبه، والمفطر بفتح الفاء وكسر الطاء مع تشديده معناه المفسد على الصائم صومه كأن أدخل عوداً أو نحوه وإن قل في فمه أو أذنه أو دبره إن وصل لجوفه ولو بلا حركة فمه لأن الحركة وحدها فعل يبطل كثيره.(1/205)
والحاصل أن كل ما أبطل الصوم أبطل الصلاة إلا الأكل الكثير سهواً فيبطلها دونه، والفرق أن لها هيئة مدكرة فكان التقصير فيها أشد بخلافه وأنها ذات أفعال منظومة، والفعل الكثير يقطع نظمها بخلافه فإنه كف عن نحو الطعام. (و) سادسها ب (الأكل الكثير ناسياً) أي للصلاة أو جاهلاً معذوراً بأن قرب علمه بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء أو مكرهاً، أما إذا أكل قليلاً ناسياً للصلاة أو جاهلاً تحريم ذلك فلا تبطل صلاته، بخلاف المكره فتبطل صلاته لندرة الإكراه فيها. وقوله الأكل قال في المصباح: والأكل بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف المأكول. (و) سابعها ب ( ثلاث حركات متواليات) أي يقيناً ولو بأعضاء متعددة كأن حرك رأسه ويديه وذهاب الرجل وعودها بعد مرتين مطلقاً سواء حصل اتصال أم لا، بخلاف ذهاب اليد وعودها على الاتصال فإنه يعد مرة واحدة، وكذا رفعها ثم وضعها ولو في غير موضعها، وأما رفع الرجل فإنه يعد مرة ووضعها ولو في غير موضعها مرة، والفرق بين اليدين والرجل أن الرجل عادتها السكوت بخلاف اليد. ((1/206)
ولو سهواً) أي سواء كان عمداً أو سهواً لتلاعبه مع أنه لا مشقة في الاحتراز عنه، أما الحركة القليلة كحركتين فلا تبطل الصلاة بها سواء كان عمداً أو سهواً ما لم يقصد بها اللعب، فإن قصد بها ذلك كأن أقام أصبعه الوسطى في صلاته لشخص لاعباً معه بطلت صلاته، ومنه ما يقع لأهل الرعونة من مد رجله ليضعها على ذيل صاحبه بقصد اللعب ليمنعه من القيام من السجود فتبطل صلاته بمجرد مد رجله، وكثير الفعل كثلاث حركات إذا كان لشدة جرب بأن لا يقدر معه على عدم الحك، أو كان خفيفاً كتحريك أصابعه في سبحة أو حل أو عقد مع قرار كفه لا يبطل الصلاة إذا كان بلا قصد لعب، وكتحريك أصابعه تحريك أجفانه أو أذنه أو ذكره أو أخرج لسانه، ولو نوى ثلاثة أفعال ولاء وفعل واحداً منها ضر لأنه قصد المبطل وشرع فيه كما لو شرع في ثلاثة أفعال ولاء من غير نية، ولو حمل شخص مصلياً ومشى به ثلاث خطوات متواليات لم تبطل صلاة المحمول لأن الخطوات لا تنسب له، لكن إن فعل شيئاً من أركانها حال حمله لم يحسب له حيث لم يمكنه إتمامه حينئذٍ.
[تنبيه] قوله حركات هو بفتح عين الجمع وهو الراء ليس غيرها لأن القاعدة أن ما جمع بالألف والتاء سواء كان مختتماً بالتاء كجفنة وسدرة وغرفة أو مجرداً عنها كدعد وهند وجمل تتبع عينه فاءه في الحركة مطلقاً لكن بشروط ستة، الأول: أن لا يكون معتلاً ولا مضعفاً وأن يكون ثلاثياً واسماً وساكن العين ومؤنثاً فتقول في جمعها جفنات بفتح الجيم والفاء كسجدات وسدرات بكسر السين والدال وغرفات بضم الغين والراء وعدات بفتح الدال والعين وهندات بكسر الهاء والنون وجملات بضم الجيم والميم، ويجوز في عين الجمع بعد الضمة والكسرة التسكين والفتح كغفرات وهندات، ولا يجوز ذلك بعد الفتحة بل يجب الاتباع كركعات فإنه يجب فتح الكاف لاتباعه فاء الجمع وهو الراء، قال ابن مالك في الخلاصة:
والسالم العين الثلاثي اسماً أنل >< اتباع عين فاءه بما شكل(1/207)
إن ساكن العين مؤنثاً بدا >< مختتماً بالتاء أو مجردا
وسكن التالي غير الفتح أو >< خففه بالفتح فكلا قد رووا
قوله: والسالم مفعول أول بأنل والعين مضاف إليه والثلاثي نعت للسالم عند الصبان وبدل منه عند الشيخ خالد، واسما حال من الثلاثي واتباع مفعول ثان لأنل وهو مصدر مضاف لمفعوله الأول وفاءه مفعوله الثاني، وشكل بالبناء للمفعول بمعنى حرك والباء في بما بمعنى في، والمعنى: أعط الاسم الثلاثي السالم العين اتباعك عينه لفائه في الحركة التي شكلت بها الفاء. قوله: إن حرف شرط وساكن العين مؤنثاً حالان من فعل بدا العائد على اسم ومختتماً حال ثالثة. وقوله: وسكن فعل أمر والتالي مفعوله غير الفتح بالنصب على المفعولية أو الجر على الإضافة. وقوله: فكلا مفعوله مقدم برووا.
[تنبيه] قوله: متواليات إنما جمعها المصنف لكونها صفة لحركات وهي جمع أيضاً ليطابق الصفة الموصوف وهو الأفصح لأن حركات جمع قلة بناء على مذهب سيبويه أن جمعي السلامة للقلة، والأفصح في جمع القلة من جموع ما لا يعقل، وفي جمع العاقل مطلقاً المطابقة نحو: الاجذاع انكسرت ومنكسرات والهندات والهنود انطلقن ومنطلقات، والأفصح في جمع الكثرة مما لا يعقل الإفراد نحو الجذوع انكسرت ومنكسرة، قال الإسقاطي:
في جمع قلة لما لا يعقل >< تطابق الوصف لديهم أمثل
ومطلق الجمع لذي عقل كذا >< وغيره في كثرة بعكس ذا(1/208)
والمراد بقوله أمثل أي أفضل وأتبع للقاعدة، والمراد بقوله بعكس ذا هو عدم التطابق وهو الإفراد، والمراد بالوصف المعنوي فدخل الخبر والضمير في غيره عائد على ذي عقل وفي كثرة أي جمع كثرة انتهى. (و) ثامنها: (الوثبة الفاحشة) أي بالنطة التي تجاوز الحد، وكذا تحريك كل البدن أو أكثره ولو من غير نقل قدميه، قوله الوثبة بفتح الواو لأنه للمرة وإنما بطلت الصلاة بذلك لأنه يقطع نظمها كالفعل الكثير قاله السويفي نقلاً عن الشوبري. قوله: الفاحشة لا حاجة إليه لأن الوثبة لا تكون إلا فاحشة إلا أن يقال: إن الفاحشة كالصفة الكاشفة للإشارة إلى أن كل ما فحش كتحريك جميع بدنه حكمه حكم الوثبة. (و) تاسعها ب (الضربة المفرطة) بسكون الفاء اسم فاعل من أفرط أي مجاوزة الحد، قوله الضربة بفتح الضاد للمرة. (و) عاشرها ب (زيادة ركن فعلي عمداً) وإن لم يطمئن لتلاعبه، نعم القعود وهو قدر الطمأنينة لا ما زاد عليه كأن جلس بعد قيام ثم سجد لا يفسد الصلاة لأنه معهود في الصلاة في جلسة الاستراحة، وكذا لو جلس عن سجود تلاوة للاستراحة قبل قيامه، ومثل الجلوس الانحناء إلى حد الراكع من قعود ليتورك في أثناء التشهد الأخير أو ليفترش في الأول أفاده الشرقاوي.(1/209)
قوله: فعلى قيد أول وقوله عمداً قيد ثان، ويزاد على ذلك قيد ثالث وهو أن لا يكون خفيفاً عهد في الصلاة، وقيد رابع وهو أن يكون عالماً بالتحريم، وقيد خامس وسادس وهما كون الزيادة لغير المتابعة ولغير عذر فخرج بكونه لغير المتابعة ما إذا كان لها كأن ركع أو سجد قبل إمامه ثم عاد إليه أو رفع من ركوعه فاقتدى بمن لم يركع ثم ركع معه لم تبطل صلاته بذلك لتأكد المتابعة، وخرج بكونه لغير عذر ما لو رفع من سجوده إلى حد الراكع فزعاً من شيء، وما لو هوى من قيامه إلى ذلك الحد لقتل نحو حية فإنه لا يضر، ولا يضر دفعها بفعل كثير لو صالت عليه وتوقف دفعها على ذلك وما لو قتل نحو قملة وإن أصابه قليل من دمها حيث لم يحمل أو يمس جلدها وهي ميتة قاله الشرقاوي، وقال أحمدبن عماد الدين في منظومته من بحر البسيط:
ودم قمل كذا البرغوث منه عفوا >< عن القليل ولم يسمح بجلدته
فإنها نجست بالموت ما عذروا >< من حملها ناسكاً صلى بصحبته(1/210)
قوله: البرغوث بضم الباء وقوله: عفوا أي أصحاب المذهب، وقوله: عن القليل أي مطلقاً ولو أصابه بفعله لأنه مما تعم به البلوى ويشق الاحتراز عنه، وقوله: ناسكاً أي عابداً مفعول عذروا، وقوله بصحبته أي بمصاحبة الجلد حال صلاته فلا تصح لأنها نجاسة غير معفو عنها لعدم المشقة في التحرز عنها، هكذا قال شهاب الدين الرملي في الشرح عليها. (و) حادي عشرها: (التقدم) أي السبق (على إمامه بركنين فعليين) سواء كانا طويلين أم لا، وكان التقدم على التعاقب بأن ركع المأموم فلما أراد إمامه أن يركع رفع، ولما أراد الإمام أن يرفع سجد فبمجرد سجوده تبطل صلاته هكذا في المنهج القويم، قال النووي والرافعي: فيجوز أن يقدر مثله في التخلف، ويجوز أن يخص ذلك بالتقدم لأن المخالفة فيه فحش اهـ. أما تقدمه بأقل منهما فليس مبطلاً وإن حرم ولو ببعض ركن كأن ركع قبل الإمام ولم يعتدل قاله الشرقاوي، لكن قال ابن حجر في المنهج القويم: التقدم ببعض ركن كهذا المثال مكروه، وأما التقدم بركن فعلي تام فحرام كأن ركع والإمام قائم.
((1/211)
والتخلف بهما) أي بركنين فعليين تامين ولو غير طويلين كأن ركع الإمام واعتدل وهوى للسجود وإن كان إلى القيام أقرب والمأموم قائم، أو سجد الإمام السجدة الثانية وقام وقرأ وهوى للركوع والمأموم جالس بين السجدتين هكذا في المنهج القويم. (بغير عذر) أي في ذلك التقدم والتخلف فالعذر في التقدم هو النسيان أو الجهل فقط، فإن تقدم على إمامه بهما ناسياً أو جاهلاً لم تبطل صلاته لكن لا يعتد بتلك الركعة ما لم يعد بعد التذكر أو التعلم فيأتي بعد سلام إمامه بركعة والعذر في التخلف إحدى عشرة صورة الأول أن يكون بطيء القراءة لعجز خلقي لا لوسوسة ثقيلة والإمام معتدلها والبطء الخلقي وهو الذي لا يمكنه تركه، أما الوسوسة الثقيلة فليست بعذر، فلو تخلف لتلك الوسوسة فإن أتم الفاتحة قبل أن يهوي الإمام للسجود أدرك الركعة وإلا لزمه المفارقة وإلا بطلت صلاته، وتلك الوسوسة هي التي مضى فيها زمن يسع القيام أو معظمه، وهذا ما نقله الشرقاوي عن الحلبي، لكن نقل الشيخ عثمان السويفي عن القليوبي أنها بقدر ما يسمع ركناً قصيراً، ثم نقل السويفي والشرقاوي عن الحلبي أنها بحيث يكون زمنها يسع ركنين فعليين ولو طويلاً وقصيراً من الوسط المعتدل لكن ضعفه الشرقاوي، وأما الوسوسة التي مضى فيها زمن لا يسع ذلك فهي وسوسة خفيفة. الثانية: أن يكون عالماً أو شاكاً قبل ركوعه وبعد ركوع إمامه أنه ترك الفاتحة. الثالثة: أنه نسي الفاتحة حتى ركع إمامه وتذكر قبل أن يركع. الرابعة: أنه موافق واشتغل بسنة كدعاء افتتاح وتعوذ وكذا إذا سكت. الخامسة: أنه انتظر سكتة إمامه المسنونة بعد الفاتحة لقراءته السورة فركع عقب الفاتحة أو قرأ ما لا يمكن المأموم معه الفاتحة. السادسة: أنه نام في التشهد الأول متمكناً فما انتبه من نومه إلا وإمامه راكع أو في آخر القيام.(1/212)
السابعة أنه اشتبه عليه تكبير الإمام بأن سمع تكبيرة الإمام للقيام بعد الركعة الثانية فظنها تكبيرة التشهد فجلس وتشهد فإذا هي تكبيرة قيام، ثم قام فرأى الإمام راكعاً الثامنة أنه كمل التشهد الأول بعد قيام الإمام عنه عمداً أو سهواً سواء كمل الإمام ذلك التشهد أو أتى ببعضه التاسعة أنه نسي كونه مقتدياً وهو في السجود مثلاً، أو نسي أنه في الصلاة فلم يقم من سجدته إلا والإمام راكع، أو قارب أن يركع. العاشرة أنه شك هل هو مسبوق أو موافق فالموافق هو من أدرك زمناً يسع الفاتحة بالنسبة للوسط المعتدل بعد تحرمه وقبل ركوع الإمام، ولا عبرة بقراءة نفسه ولا بقراءة إمامه سواء حضر تحرم الإمام أم لا، والمسبوق هو من لم يدرك ذلك وإن أحرم عقب تحرم الإمام الحادي عشر أنه طول السجدة الأخيرة فما رفع منها إلا والإمام راكع أو قرب إلى الركوع، وإذا وجد واحد من هذه الأمور وجب التخلف لإتمام قراءته ثم يسعى خلف إمامه على نظم صلاته ويغتفر له تخلفه بالأركان الثلاثة الطويلة وهي الركوع والسجودان فلا يحسب منها الاعتدال ولا الجلوس بين السجدتين لأنهما ركنان قصيران، فإن فرغ من الفاتحة قبل أن يتلبس الإمام بالركن الرابع وهو التشهد الأخير والقيام أو ما هو على صورة الركن وهو قعود التشهد الأول ركع وأدرك الركعة ومشى على ترتيب صلاة نفسه، وإن أدرك الإمام بالركن الرابع بأن وصل إمام إلى محل تجزىء فيه القراءة للقيام أو بأن جلس للتشهد قبل أن يتم المأموم فاتحته فالمأموم مخير إن شاء تابع إمامه فيما هو فيه من القيام أو القعود ويأتي بركعة بعد سلام إمامه كالمسبوق، وإن شاء فارقه بالنية ومضى على ترتيب صلاة نفسه لكن المتابعة أفضل، وإن شرع الإمام في الخامس وهو الركوع قبل أن يتم المأموم قراءته ولم ينو المفارقة بطلت صلاته. ((1/213)
و) ثاني عشرها ب (نية قطع الصلاة) كأن ينوي في الركعة الأولى الخروج منها في الثانية فيضر ذلك كما لو نوى أن يكفر غداً إلا لعذر كسهو وخرج بنية القطع نية فعل المبطل فلا تبطل بها صلاته حتى يشرع فيه لأنه قبل الشروع جازم والمحرم عليه إنما هو فعل المنافي بخلاف نية الخروج فإنه غير جازم معها. (و) ثالث عشرها ب (تعليق قطعها بشيء) وإن لم يحصل ولو محالاً عادياً كعدم قطع السكين لا علقياً لأن التعليق به لا ينافي الجزم بخلاف الأول وسواء كان التعليق بقلبه أو باللفظ. (و) رابع عشرها (التردد في قطعها) ومثله التردد في الاستمرار فيها فتبطل حالاً لمنافاته الجزم المشروط دوامه كالإيمان، والمراد بالتردد أن يطرأ شك مناقض للجزم ولا عبرة بما يجري في الفكر فإن ذلك مما يتبلى به الموسوس بل قد يقع في الإيمان بالله تعالى.
[(1/214)
فرع] بقي من مفسدات الصلاة أشياء منها فعل ركن من أركانها مع الشك في النية أي في أصل الإتيان بها أو بكمالها وإن لم يطل شكه ولو كان مع الجهل، ومثل الشك فيها الشك في الشروط كالطهارة، وما لو شك في المنوي كما لو شك هل نوى ظهراً أو عصراً، ومثل ذلك في تكبيرة الإحرام، ومنها طول زمن مع الشك في النية وإن لم يفعل ركناً وضابط طوله أن يكون بقدر ما يسع ركناً ولو قصيراً كالطمأنينة وهي بقدر التلفظ بسبحان الله، أما إذا لم يطل بأن مضى زمن لا يسع ذلك كأن خطر له خاطر وزال سريعاً بأن تذكر قبل طول الزمن وإتيانه بركن فإن صلاته لا تبطل، ومنها صرف نية وهو أربع صور: الأول صرف نية فرض إلى فرض آخر. والثاني: صرف نية فرض إلى نفل. والثالث: صرف نية نفل إلى فرض. والرابع: صرف نية نفل إلى نفل آخر. نعم إن كان منفرداً وأدرك جماعة سن صرف فرضه إلى نفل مطلق دون نفل معين ليدرك فضيلتها أما لمعين كركعتي الضحى فلا يصح القلب إليه لافتقاره إلى التعيين حال النية محل سنية صرف ذلك إذا وجدت ستة شروط، الأول: أن يكون في ثلاثية أو رباعية. الثاني: أن لا يقوم لثالثة فإن كان في ثنائية أو قام لثالثة أي شرع فيها لم يسن القلب بل يجوز فيسلم في الركعة الأولى ليدرك الجماعة لأن النفل المطلق يجوز فيه الاقتصار على ركعة. الثالث: أن يتسع الوقت بأن يتحقق تمامها فيه لو استأنفها فإن علم وقوع بعضها خارجه أو شك في ذلك حرم القلب. الرابع: أن لا يكون الإمام ممن يكره الاقتداء به لبدعة أو غيرها كمخالفة في المذهب، فإن كان بدعياً كفسقه أو مخالفاً في المذهب كحنفي فلا يسن القلب بل يكره وكان الانفراد أفضل من الاقتداء بذلك عند شيخ الإسلام كالروياني كما قال أبو إسحاق أيضاً إن الصلاة منفرداً أفضل من الصلاة خلف الحنفي. الخامس: أن لا يرجو جماعة غيرها وإلا جاز القلب.(1/215)
السادس: أن تكون الجماعة مطلوبة فلو كان يصلي فائتة والجماعة القائمة حاضرة أو فائتة ليست من جنس التي يصليها حرم القلب، وكذا لو وجب قضاء الفائتة فوراً أو من جنسها كظهر خلف ظهر جاز ولم يندب، فإن خشي في الفائتة فوت الحاضرة وجب القلب، وكذا إذا كانت الجماعة في جمعة. ومنها ردة ولو صورية كالواقعة من الصبي وهي قطع استمرار الإسلام ودوامه بقول كأن يقول: الله ثالث ثلاثة أو بفعل كأن يسجد لصنم أو بعزم كأن يعزم على الكفر أو باعتقاد كأن فكر في الصلاة في هذا العالم بفتح اللام فاعتقد قدمه وما أشبه ذلك فيكفر في الحال قطعاً وتبطل صلاته، وكذا لو اعتقد عدم وجوب الصلاة لاختلال النية وما أشبه ذلك كما قال الحصني. ومنها: تقديم الركن الفعلي عمداً على غيره كأن سجد قبل ركوعه أو ركع قبل قراءته الفاتحة فإنها تبطل لأنه يخل بصورة الصلاة، أما تقديم القولي غير السلام عمداً على غيره كأن كرر الفاتحة أو قدم الصلاة على النبي على التشهد أو كرره أو تشهد قبل السجود فلا تبطل صلاته لكن لا يعتد بما قدمه بل يجب عليه إعادته في محله. ومنها ترك ركن ولو قولياً عمداً بخلاف تركه سهواً لعذر فيتداركه إن لم يفعل مثله من ركعة أخرى وإلا قام مقامه ولغا ما بينهما وأتى بركعة. ومنها: اقتداء بمن لا يقتدى به لكفر أو حدث أو غيرهما بأن اقتدى به بعد تحرم صحيح منه. ومنها: تطويل ركن قصير عمداً بأن يزيد في الاعتدال على الدعاء الوارد فيه بقدر الفاتحة وفي الجلوس بين السجدتين على الدعاء الوارد فيه بقدر التشهد فإن نقص عن ذلك ولو كلمة لم يضر ولا يعتبر مع التشهد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم، نعم لا يضر تطويل الاعتدال في الركعة الأخيرة من سائر الصلوات لأنه معهود في الصلاة في الجملة أي في بعض الصور كما في صلاة النازلة، ولا تطويل الجلوس بين السجدتين في صلاة التسبيح خاصة.(1/216)
ومنها: وجوده في الصلاة ثوباً بعيداً منه بأن احتاج في المضي إليه إلى أفعال كثيرة أو طالت مدة الكشف، أما لو كان قريباً بأن استتر به حالاً بلا أفعال كثيرة دامت صلاته على الصحة وإلا بطلت. ومنها ظهور بعض ما يستر بالخف من الرجل أو الخرق بكسر الخاء وفتح الراء جمع خرقة بسكون الراء.
ومنها: خروج وقت مسح الخف لبطلان بعض طهارته وهو طهارة رجليه حتى لو غسلهما في الخف قبل فراغ المدة لم يؤثر إذ مسح الخف يرفع الحدث فلا تأثير للغسل قبل فراغ المدة.
ومنها: ترك توجه للقبلة حيث يشترط بأن كان في غير شدة خوف ونفل السفر لانتفاء الشرط.
((1/217)
فصل): في بيان الصلاة التي تلزم فيها نية الجماعة قال (الذي يلزم فيه نية الإمامة) أي على الإمام مع الإحرام (أربع) من الصلوات وهي كل صلاة لا تصح فرادى أحدها: (الجمعة) فلو ترك نية الإمامة مع الإحرام لم تصح نيته سواء كان من الأربعين أو زائداً عليهم وإن لم يكن من أهل وجوبها، نعم إن لم يكن من أهل الوجوب ونوى غير الجمعة لم تجب عليه نية الإمامة. (و) ثانيها: (المعادة) وهي المكتوبة المؤداة أو النافلة التي تسن فيها الجماعة اللتان تفعلان في وقت الأداء ثانياً جماعة لرجاء الثواب ومن صلى صلاة صحيحة ولو في جماعة ثم أدرك في الوقت من يصليها ولو منفرداً سن له إعادتها معه ويحرم قطعها لأن لها حكم الفرض إلا في جواز تركها قبل الشروع وفي جواز جمعها مع الأصلية بتيمم واحد وذلك للأمر بتلك الإعادة في خبر أبي داود وغيره وصححه الترمذي وهو قوله صلى الله عليه وسلّم: "ذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلياها معهم فإنها لكما نافلة" قال صلى الله عليه وسلّم ذلك بعد صلاته الصبح لرجلين لم يصليا معه وقالا صلينا في رحالنا أي بيوتنا. وقوله صلى الله عليه وسلّم: مسجد جماعة ليس بقيد بل هو للأغلب. وقوله: صليتما يصدق بالانفراد والجماعة سواء استوت الجماعتان أم زادت إحداهما بفضيلة ككون الإمام أعلم أو أورع أو الجمع أكثر أو المكان أشرف.
((1/218)
ثم اعلم) أن شروط الإعادة اثنا عشر، الأول: أن تكون الأولى مكتوبة مؤداة أو نافلة تسن فيها الجماعة ما عدا وتر رمضان ولو منذورة كعيد نذره، أما الوتر فلا يعاد على المعتمد لحديث: "لا وتران في ليلة" والثاني: أن تكون صحيحة وإن لم تغن عن القضاء كصلاة المتيمم لبرد أو بمحل يغلب فيه وجود الماء، نعم يستثنى من ذلك صلاة فاقد الطهورين فإنها وإن كانت صحيحة لكنها لا تعاد لأنها لا يتنفل بها فإن لم تكن صحيحة وجبت إعادتها. والثالث: إعادتها مرة واحدة فقط على المعتمد، وقال المزني: تعاد خمساً وعشرين مرة وكان يفعلها كذلك. وقال الشيخ أبو الحسن البكري: تعاد من غير حصر ما لم يخرج الوقت. والرابع: نية الفرضية والمراد أنه ينوي إعادة الصلاة المفروضة حتى لا تكون نفلاً مبتدأ لا إعادتها فرضاً، أو أنه ينوي ما هو فرض على المكلف لا الفرض عليه، فلو نوى الفرض عليه حقيقة بطلت صلاته. والخامس: أن تقع كلها جماعة من أولها إلى آخرها فالجماعة فيها كالطهارة لكن يكفي الاقتداء بالراكع لأن ذلك أول صلاته فالشرط موجود، فلا يكفي وقوع بعضها في جماعة حتى لو أخرج نفسه فيها من القدوة بنية المفارقة، وإن اقتدى بآخر فوراً أو سبقه الإمام ببعض الركعات لم تصح، وفهم من ذلك أنه لو وافق الإمام أولها لكن تأخر سلامه عن سلامه بحيث عد منقطعاً عنه بطلت صلاته وأنه لو كان المعيد إماماً فتباطأ المأموم عن إحرامه بطلت صلاة الإمام، وأنه لو رأى جماعة وشك هل هم في الركعة الأولى أو فيما بعدها امتنعت الإعادة معهم، نعم لو لحق الإمام سهو فسلم ولم يسجد كان للمعيد أن يسجد إن لم يتأخر كثيراً بحيث يعد منقطعاً عنه، ولو شك المعيد في ترك ركن لم تبطل صلاته بمجرد ذلك بل حتى يسلم الإمام لاحتمال أن يتذكر قبل سلامه عدم ترك شيء فلا يحتاج للانفراد بركعة بعد سلام الإمام، أما إذا علم ترك ركن وعدم ترك الإمام لمثله فتبطل صلاته حالاً.(1/219)
والسادس: أن تقع في الوقت ولو ركعة فيه على المعتمد. والسابع: أن ينوي الإمام الإمامة كالجمعة. والثامن: أن تعاد مع من يرى جواز الإعادة أو ندبها فخرج ما لو كان الإمام المعيد شافعياً والمأموم حنفياً أو مالكياً لأنه يرى بطلان الصلاة فلا قدوة، بخلاف ما لو كان المقتدي شافعياً خلق من ذكر فهي صحيحة. والتاسع: حصول ثواب الجماعة حالة الإحرام بها فلو انفرد عن الصف مع إمكان الدخول فيه لم تصح إعادته لكراهة ذلك المفوتة لفضيلة الجماعة، وكذا لا تصح إعادة العراة إذا لم يكونوا عمياً أو في ظلمة لعدم حصول ثواب الجماعة حينئذٍ. والعاشر: القيام فيها. والحادي عشر: أن لا تكون إعادتها للخروج من الخلاف فإن كان إعادتها لذلك كأن يصلي وقد مسح بعض رأسه في الوضوء أو صلى في الحمام أو مع سيلان دم من بدنه فإن الأولى باطلة عند مالك والثانية عند أحمد والثالثة عند أبي حنيفة رضي الله عن الجميع سنت إعادتها في هذه الأحوال ولو منفرداً لأن هذه ليست هي الإعادة المرادة فلا يشترط لها جماعة. والثاني عشر:أن تكون في غير صلاة شدة الخوف فإنها لا تعاد على الأوجه لأن المبطل احتمل فيها للحاجة فلا تكرر، ونظم العلامة عبدالوهاب الطنطاوي المصري سبعة من هذه الشروط من بحر الكامل فقال:
شرط المعادة أن تكون جماعة >< في وقتها والشخص أهل تنفُّلِ
مع صحة الأولى وقصد فريضة >< ينوي بها صفة المعاد الأول
فضل الجماعة سادس أو غيره >< قيل ونفل مثل فرض واجعل
كالعيد لا نحو الكسوف فلا تعد >< وجنازة لو كررت لم تمهل
ومع المعادة أن تعد بعدية >< تقبل ولا وتر إن صح فعول
ومتى رأيت الخلف بين أئمة >< في صحة الأولى أعدها تجمل
لو كنت فرداً بعد وقت أدائها >< فاتبع فقيهاً في صلاتك تعدل(1/220)
والشخص أهل تنقل أي والشرط الثالث أن يكون المعيد مستحقاً للزيادة بتلك الإعادة، بخلاف فاقد الطهورين فإنه لا يتنفل بالإعادة على صلاته، وكذا من بان فساد صلاته الأولى فلا تقع الثانية عنها بل تجب إعادتها على الصحيح وقيل لا تجب لتبين أن الفرض حينئذٍ هو الثانية. قوله: أو غيره قيل ونفل مثل فرض أي وغير ما تقدم من السنة المذكورة أن تكون الصلاة الأولى فرضاً مؤدى أو نفلاً تسن فيه الجماعة غير الكسوف فالمراد به بيان الشرط السابع وليس المراد به بيان الخلاف في الأقوال كما قد يتوهم. قوله: وجنازة لو كررت لم تمهل أي إن صلاة الجنازة يسن تكريرها لكن لا تؤخر بالانتظار، أما إعادتها فلا تسن لأنه لا يتنفل بها ومع ذلك تقع نفلاً هكذا في شرح المنهج عن المجموع، قال الشوبري: ويجوز تكريرها ثانياً وثالثاً وأكثر من ذلك تقع نفلاً ولا ثواب فيها، والقاعدة عند الفقهاء أن كل شيء منهي عنه لا ينعقد بخلاف هذه الصورة فإنها مستثناة انتهى.(1/221)
قوله: ولا وتر إن صح أي أن الوتر في رمضان لا يصح إعادته وإن كانت الجماعة فيه مسنونة لحديث: "ولا وتران في ليلة" قوله: فعول أي فاعتمد على هذا القول. قوله: تجمل فعل أمر معطوف على أعد بحذف حرف العطف أي تزين وتحسن بهذه الإعادة لأنه تسن الإعادة للخروج من خلاف الأئمة ولو كنت منفرداً. قوله: تعدل أي ترشد وتصب الصواب. (و) ثالثها: (المنذورة جماعة) فإن لم ينو الإمامة مع الإحرام فيها انعقدت صلاته فرادى مع الإثم. (و) رابعها: (المتقدمة في المطر) أي المجموعة بالمطر جمع تقديم، ومثل المطر الثلج والبرد فإن ترك نية الإمامة فيها مع الإحرام لم تنعقد صلاته قطعاً وتختص رخصة اجمع بمن يصلي جماعة بمكان بعيد يتأذى بالمطر في طريقه بخلاف من يصلي فرادى فلا يجمع، ومن يمشي في كن فلا يجمع أيضاً لانتفاء التأذي أو من بابه عند المسجد، نعم للإمام الراتب أن يجمع تبعاً للمأمومين وإن لم يتأذ بالمطر وليس مثله المجاورون في المسجد، ولا يشترط وجود المطر في مجيئه من بيته إلى المسجد بل يكفي ما لو اتفق وجوده وهو بالمسجد.(1/222)
والحاصل أن الشروط سبعة، أحدها: أن يوجد المطر عند التحرم بالصلاتين وعند تحلله من الصلاة الأولى وبينهما. وثانيها: أن يصلي جماعة ولا بد أن لا يتباطأ المأمومون عن الإمام بإحرام فإن تباطؤوا ولكن أدركوا بعد إحرامهم معه زمناً يسع الفاتحة قبل ركوعه صحت صلاتهم وإلا فلا كالإمام لعدم الجماعة. وثالثها: أن تكون الصلاة بمصلى بعيد عرفاً. ورابعها: أن يتأذى بالمطر في طريقه. وخامسها: الترتيب. وسادسها: الولاء. وسابعها: نية الجمع ففي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلّم صلى بالمدينة سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً والعصر والمغرب والعشاء. وفي رواية لمسلم: من غير خوف ولا سفر، قال الإمام مالك ووافقه الشافعي: أرى ذلك بعذر المطر، ولا يجوز الجمع له تأخيراً لأن المطر قد ينقطع قبل أن يجمع فيؤدي إلى إخراج الصلاة عن وقتها من غير عذر.
((1/223)
ثم اعلم) أن نية الاقتداء أو الائتمام أو المأموم أو الجماعة واجبة على المأموم إن أراد المتابعة مطلقاً ولو في أثناء صلاته من غير تلك الأربع، أما فيها فتجب هذه النية عليه مع الإحرام كالإمام، فلو تابع في فعلي ولو واحداً أو سلام بعد انتظار كثير عرفا للمتابعة ولم ينو هذه النية أو شك فيها بطلت صلاته لأنه ربطها على صلاة غيره بلا رابط بينهما متيقن بخلاف ما لو تابع في قولي غير سلام أو تابع في فعلي اتفاقاً من غير انتظار أو بعد انتظار يسير أو كثير لا للمتابعة، لكن لو نوى المأموم الائتمام في أثناء صلاته صح مع الكراهة ولا يحصل في فضيلة الجماعة حتى فيما أدركه مع الإمام على المعتمد لأنه صير نفسه تابعاً بعد أن كان مستقلاً فالأولى الاقتصار على ركعتين ويسلم ثم يقتدي خلف ذلك الإمام، وكما أن إدخال نفسه مع الإمام في أثناء صلاته مكروه كذلك قطعها بغير عذر، بخلاف ما إذا كان به كتطويل الإمام فلا يكره ولا يفوت ثوابه لأن المفارقة لعذر لا تفوت فضيلة الجماعة، ويجوز الانتقال لجماعة أخرى إلا في الجمعة لما يلزم من إنشاء جمعة بعد أخرى، ولو علم الأجير أن المستأجر يمنعه من الجماعة وكان شعار الجماعة يتوقف على حضوره حرم عليه إيجار نفسه بعد دخول الوقت، وكذا إن علم أنه يمنعه من الجمعة فيحرم عليه إيجار نفسه بعد الفجر هذا إن لم يضطر لذلك وإلا جاز، وأن نية الإمامة أو الجماعة مندوبة للإمام في غير ذلك لينال فضل الجماعة من حين وجودها لأنه لا يحصل إلا بها، ولا يكره وجود هذه النية عليه في أثناء صلاته لأنه لا يصير تابعاً بخلاف المأموم ولا تنعطف نيته على ما قبلها.
((1/224)
فصل): في الشروط المعتبرة في القدوة (شروط القدوة) بكسر القاف وضمها (أحد عشر) أحدها: (أن لا يعلم) أي وأن لا يظن ظناً غالباً (بطلان صلاة إمامه بحدث أو غيره) فلا يصح اقتداؤه بمن يظن بطلان صلاته كشافعي اقتدى بحنفي مس فرجه دون ما إذا قصد نظراً لظن المأموم نقض المس دون الإمام، وكمجتهدين اختلفا في إناءين من الماء أحدهما طاهر والآخر متنجس فتوضأ كل من إنائه أو اغتسل أو طهر إناء أو غسل ثوباً به فلا يجوز اقتداء أحدهما بالآخر لأن كلا يظن نجاسة إناء صاحبه، فإذا زاد الإناء الطاهر على الواحد بأن كان ثلاثة مع المتنجس وكثر المجتهد وتطهر كل بما ظنه الطاهر بالاجتهاد وأمَّ في صلاة صح اقتداء بعضهم ببعض ووجب إعادة ما صلاه خلف من يتعين البطلان في صلاته وهو ثاني إمامين، قال ابن حجر في فتح الجواد: ووجه تعيين الثاني للبطلان أن أحد الإناءين نجس فإذا اقتدى بالأول صح لإحتمال طهره حتى في ظن المأموم فلما اقتدى بالثاني أيضاً تعين البطلان فيه لأنه مع صحة اقتدائه بالأول صار الثاني غير محتمل الطهر في ظنه انتهى. ويأتي ذلك في أكثر من اثنين فلو كانوا خمسة والأواني كذلك ومنها واحد نجس وأم في كل صلاته ولم يظن شيئاً من أحوال غيره أو ظن طهارة غير الأخير أعاد كل منهم ما صلاه مأموماً في الأخير، قال عثمان السويفي في تحفة الحبيب: فإذا ابتدؤوا بالصبح أعادوا العشاء إلا إمامها فيعيد المغرب فيحرم عليهم في الائتمام في العشاء ويحرم عليه الائتمام في المغرب اهـ. ومثل اختلاف المجتهدين في الإناءين ما إذا سمع واحد من اثنين صوتاً ينقض الوضوء ولم يعلم أن خروجه من أحدهما بعينه وتناكراه فلما اقتدى بهما وجب إعادة ما صلاه خلف الثاني منهما، ولو علم أو ظن أن الإمام الحنفي مثلاً ترك البسملة بأن لم يسكت بعد الإحرام بقدرها فلا يصح اقتداؤه به.((1/225)
و) ثانيها: (أن لا يعتقد) أي المأموم (وجوب قضائها) أي وجوب إعادة الصلاة (عليه) أي على الإمام، قال السويفي: المراد بالاعتقاد هنا الظن ظناً غالباً وليس المراد به ما اصطلح عليه الأصوليون وهو الجزم المطابق للواقع انتهى. أي فلا يصح اقتداؤه بمن تلزمه الإعادة كمتيمم لبرد أو مقيم تيمم في محل يغلب فيه وجود الماء أو فاقد الطهورين لعدم الاعتداد بصلاته، وصح الاقتداء بغيره كمستحاضة غير متحيرة ومتيمم لا تلزمه إعادة وماسح خف ومضطجع ومستلق ولو مومياً وصبي ولو عبداً وسلس ومستجمر، أما المتحيرة فلا يصح اقتداء غيرها ولو متحيرة بها بناء على وجوب الإعادة عليها. (و) ثالثها (أن لا يكون مأموماً) أي ما دام مقتدياً بغيره فلا يصح اقتداؤه بمقتد لأنه تابع لغيره يلحقه سهوه، ومن شأن الإمام الاستقلال وحمل سهو غيره فلا يجتمع الاقتداء والاستقلال، ومثل المأموم المشكوك في مأموميته كأن وجد رجلين يصليان وتردد أيهما الإمام فلا يصح اقتداؤه بواحد منهما من غير اجتهاد، أما إذا اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن أحدهما فقيه أو متيمم دون الآخر صح اقتداؤه به ووجبت الإعادة إن تبين كونه مأموماً وإلا فلا. (و) رابعها: (لا أمياً) أي أن يكون إمام القارىء أمياً فلا يصح اقتداؤه به أمكنه التعلم أو لا بأن مضى عليه زمن وقد بذل فيه وسعه للتعلم فلم يفتح الله عليه بشيء علم القارىء حاله أم لا، لأن الإمام بجهره تحمل القراءة عن المأموم المسبوق فإذا لم يحسنها لم يصلح للتحمل، قال الشيخ سليمان البجيرمي: فإن أسر في جهرية تابعه المأموم ووجب عليه البحث عن حاله بعد السلام، فإن تبين أنه غير قارىء أعاد وإن تبين أنه قارىء ولو بقوله نسيت الجهر أو أسررت لكونه جائزاً وصدقه المأموم لم يعد، وإن لم يتبين حاله لم يعد أيضاً انتهى.(1/226)
وكذا لا يصح اقتداء من يحسن سبع آيات بمن لا يحسن إلا الذكر لاختلافهما، وأما اقتداء الأمي بأمي مماثل له في الحرف المعجوز عنه وفي محله فيصح لمماثلتهما وأن يتفقا في الحرف المأتي به كأن عجز عن راء صراط وأبدلها أحدهما غيناً والآخر لاماً، وأما لو عجز أحدهما عن راء غير والآخر عن راء صراط أو أحدهما عن الراء والآخر عن السين مثلاً فلا يصح اقتداء أحدهما بالآخر.((1/227)
و) خامسها: (أن لا يتقدم) أي المقتدي (عليه) أي الإمام (في الموقف) أي في المكان الذي وقف عليه أي أن لا يتقدم المقتدي بجميع ما اعتمد عليه على جزء مما اعتمد عليه الإمام يقيناً، فلو اعتمد على عقبيه وقدم أحدهما لم يضر كما لو اعتمد على المؤخرة دون المقدمة، والعبرة في القائم بعقبيه وهما مؤخر قدميه وإن تقدمت أصابعه ما لم يعتمد عليها وفي القاعد بألييه وفي المضطجع بجنبه وفي المستلقي برأسه إن اعتمد عليه وإلا فما اعتمد عليه من الظهر غيره، وفي المقطوعة رجله بما اعتمد عليه كخشبتين اعتمد بهما وفي المصلوب بالكتف وفي المعلق بحبل بمنكبه هذا إذا كان المصلوب أو المعلق هو المأموم فقط دون الإمام، أما إذا كانا مصلوبين أو معلقين أو الإمام فقط فلا يصح الاقتداء به لأنه تلزمه الإعادة، فإن تقدم عليه في ذلك بطلت صلاته إلا في صلاة شدة الخوف، ولو شك هل هو مقدم أم لا كأن كان في ظلمة صحت صلاته مطلقاً سواء جاء من قدام الإمام أو من خلفه لأن الأصل عدم المفسد خلافاً لمن فصل فقال: إن كان قد جاء من خلفه فصلاته صحيحة وإلا فباطلة لأن الأصل تقدمه، ولا يضر في صحة الاقتداء مساواته لإمامه لكنها مكروهة مفوتة لفضيلة الجماعة فيندب أن يتأخر عنه قدر ثلاثة أذرع فأقل استعمالاً للأدب وللاتباع، فإن زاد على ثلاثة أذرع فاتته فضيلة الجماعة وأن يقف ذكر لم يحضر غيره عن يمينه وأن يتأخر عنه قليلاً إظهاراً لرتبة الإمام على رتبة المأموم، فإن جاء ذكر آخر وقف عن يساره إن أمكن وإلا أحرم خلفه، ثم بعد إحرامه يتقدم الإمام أو يتأخر إن في المسألة الأولى أو يتأخر من هو على اليمين في الثانية في حالة القيام لا في غيره وهو أفضل، فلو وقف ذلك الذكر عن يسار الإمام أخذ الإمام برأسه وأقامه عن يمينه، ومثل ذلك ما لو فعل أحد من المقتدين خلاف السنة استحب للإمام إرشاده إليها بيده أو غيرها إن وثق منه بالامتثال والمأموم مثله في الإرشاد المذكور ويكون هذا(1/228)
مستثنى من كراهة الفعل القليل، ولا فرق بين الجاهل وغيره، ولو حضر ذكران ابتداء معاً أو مرتبين اصطفا خلفه، وكذا إذا حضرت المرأة أو النسوة، ولو جاء ذكر وامرأة قام الذكر عن يمينه والمرأة خلف الذكر أو ذكران وامرأة اصطفا خلفه والمرأة خلفهما أو ذكر وامرأة وخنثى وقف الذكر عن يمينه والخنثى خلفهما والمرأة خلف الخنثى، ويسن أن يقف فيما، إذا كثرت أصناف المأمومين خلف الإمام الرجال صفاً ثم الصبيان صفاً ثانياً بعد كمال صف الرجال، هذا إذا لم يسبق الصبيان إلى الصف الأول، فإن سبقوا إليه فهم أحق به من الرجال لأنهم من الجنس بخلاف الخناثى والنساء، ثم بعد الصبيان النساء وإن لم يكمل صفهم وأن تقف ندباً إما منهن وسطهن، فلو أمهن غير امرأة قدم عليهن، وكالمرأة عار أم عراة بصراء في ضوء فيقف أمامهم ويقفون صفاً واحداً إن أمكن لئلا ينظر بعضهم عورة بعض، فإن كانوا عمياً أو في الظلمة تقدم الإمام عليهم، ويكره للمأموم وقوفه منفرداً عن الصف الذي من جنسه بل يدخل الصف إن وجد سعة بلا خلل بأن يكون بحيث لو دخل بينهم لوسعهم وإلا أحرم، ثم بعد إحرامه جر في القيام شخصاً من الصف ليصطف معه، وسن للمجرور معاونته بموافقته فيقف معه صفاً لينال فضل المعاونة على البر والتقوى، ويحرم الجر قبل الإحرام لأنه يصير المجرور منفرداً. (و) سادسها: (أن يعلم) أي أو يظن (انتقالات إمامه) ليتمكن من متابعته كرؤيته له أو لبعض الصف أو سماع صوته أو صوت مبلغ سواء كان يصلي أو لا ولو صبياً أو فاسقاً وقع في قلبه صدقه على المعتمد. وقال ابن حجر: ويشترط كون المبلغ عدل رواية لأن غيره لا يجوز الاعتماد عليه انتهى. ومثل ذلك هداية غيره له فلو لم يعلم به حالاً نظر فإن أتى الإمام بركنين فعليين قبل العلم به بأن ركع واعتدل وهوى إلى السجود بطلت صلاة المأموم وإلا لم تبطل.
[(1/229)
فائدة] قال الإسنوي: رجل يجوز كونه إماماً لا مأموماً وهو الأعمى الأصم يصح أن يكون إماماً لاستقلاله بأفعاله لا مأموماً إذ لا طريق إلى العلم بانتقالات الإمام إلا أن يكون بجنبه ثقة يعرفه بها بأن يمسه. (و) سابعها: (أن يجتمعا في مسجد) فيشترط أن يمكن الاستطراق عادة إلى الإمام ولو بازورار وانعطاف أي انحراف عن القبلة واستدبار لها فلا يضر ذلك في المسجد وإن بعدت المسافة وحالت أبنية نافذة إليه ولو ردت أبوابها وأغلقت بأن لم تسمر في الابتداء ولو سمرت في الأثناء فلا يضر على المعتمد، ومثل ذلك زوال سلم الدكة لمن يصلي عليها لأنه كله مبني للصلاة، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها، فإن حالت أبنية غير نافذة ضر وإن لم يمنع الرؤية فيضر الشباك، وكذلك تسمير الأبواب في الابتداء وزوال سلم الدكة كذلك لأنه لا يعد الجامع لهما حينئذٍ مسجداً واحداً، والدكة بفتح الدال على وزن قصعة هي المكان المرتفع يجلس عليه والمساجد المتلاصقة المتنافذة بأن كان يفتح بعضها إلى بعض كالمسجد الواحد وإن انفرد كل منهما بإمام وجماعة، ولا يضر كون أحدهما أعلى من الآخر كأن كان أحدهما في سطح المسجد أو منارته والآخر في سردابه أو بئر فيه لأنه كله مبني للصلاة، نعم يكره ارتفاعه على إمامه وعكسه حيث أمكن وقوفهما على مستو إلا لحاجة كتبليغ فلا يكره، والسرداب المكان الضيق يدخل فيه. ((1/230)
أو) يجتمعا (في ثلاثمائة ذراع) بذراع الآدمي (تقريباً) أخذاً من عرف الناس فإنهم يعدونهما في ذلك مجتمعين فلا تضر زيادة ثلاثة أذرع، وهذه المسألة في غير المسجد وهي أربع صور: لأنهما إما أن يكونا في فضاء، وإما أن يكونا في بناء، وإما أن يكون الإمام في فضاء والمأموم في بناء وإما بالعكس، فاعتبار تلك المسافة هو بين الإمام والمأموم أو بين كل صفين أو بين كل شخصين ممن ائتم بالإمام خلفه أو بجانبه، ولو كان أحدهما بمسجد والآخر خارجه فتعتبر المسافة بينهما من طرف المسجد الذي يلي من بخارجه لأنه محل الصلاة لا من آخر صف ولا من موقف الإمام، ويشترط هنا أن يمكن الوصول إلى الإمام من غير ازورار وانعطاف بخلافه فيما تقدم في مسألة المسجد، ويضر هنا الباب المردود في الابتداء بخلافه في الأثناء فإنه لا يضر لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ويضر هنا أيضاً الباب المغلوق ابتداء ودواماً على المعتمد، أما الباب المفتوح فيجوز اقتداء الواقف بحذاء الإمام والصف المتصل به وكذا من خلفه وإن حيل بينه وبين الإمام ويكون ذلك الواقف في حذائه رابطة بينه وبين الإمام وهو في حقهم كالإمام فلا يجوز تقدمهم عليه كما يجوز تقدمهم على الإمام، بخلاف اقتداء من عدل عن محاذاته فلا يجوز للحائل بينه وبين الإمام إلا إذا وقف واحد حذاء منفذ في ذلك الحائل، ولا يضر في جميع ما ذكر تخلل الشارع ولو كثر طروقه، والنهر الكبير وإن أحوج إلى سباحة والنار والبحر بين سفينتين لأن هذه لا تعد للحيلولة فلا يسمى واحد منها حائلاً. (و) ثامنها: (أن ينوي القدوة) كأن يقول مقتدياً (أو الجماعة) كأن يقول جماعة وإن صلحت نيتها للإمام أيضاً أو الائتمام كأن يقول مؤتماً أو المأمومية كأن يقول مأموماً. ((1/231)
و) تاسعها: (أن يتوافق نظم صلاتهما) أي نهجها الواضح في الأفعال الظاهرة وإن اختلفا عدداً فلا يصح الاقتداء مع اختلافه كمكتوبة خلف كسوف وبالعكس لتعذر المتابعة، ولا يضر اختلاف نية الإمام والمأموم لعدم فحش المخالفة فيهما فيصح اقتداء المفترض بالمتنفل والمؤدي بالقاضي وفي طويلة بقصيرة كظهر بصبح وبالعكوس لكنه مكروه ومع ذلك تحصل فضيلة الجماعة.(1/232)
قال السويفي: والكراهة لا تنفي الفضيلة والثواب لاختلاف الجهة بل الحرمة لا تنفي الفضيلة كالصلاة في أرض مغصوبة، فإن الإمام يصلي الصبح أو المغرب، والمأموم يصلي الظهر أو نحوه فيتم المأموم صلاته بعد سلام إمامه، والأفضل متابعته في قنوت الصبح وتشهد آخر في المغرب وإن لزم على ذلك تطويل الاعتدال بالقنوت وجلسة الاستراحة بالتشهد لأنه لأجل المتابعة فاغتفر له فراقه بالنية إذا اشتغل الإمام بهما مراعاة لنظم صلاته والمفارقة هنا لعذر فلا يفوت بها فضيلة الجماعة وإن كان الإمام يصلي الظهر أو نحوه والمأموم يصلى الصبح أو المغرب، فإذا تم ما توافقا فيه فارقه بالنية جوازاً في الصبح ووجوباً في المغرب والأفضل انتظاره في صبح ليسلم معه، وإنما لم تجب نية المفارقة لجواز المد في الصلاة، ومحل أفضلية الانتظار إن كان الإمام تشهد في الجلوس الأول وإلا بأن قام بلا تشهد فارقه حتماً لأنه يحدث جلوس تشهد لم يفعله الإمام، وكذا إذا جلس ولم يتشهد لأن جلوسه من غير تشهد كلا جلوس فحينئذٍ يجب مفارقته، ومحل الانتظار في الصبح إن لم يخش خروج الوقت قبل تحلل إمامه وإلا فالأولى عدمه، وإذا انتظره أطال الدعاء ندباً بعد تشهده ولا يكرر التشهد، فلو لم يحفظ إلا دعاء قصيراً كرره لأن الصلاة لا سكوت فيها، وإنما لم يكرر التشهد خروجاً من خلاف من أبطل الصلاة بتكرير الركن القولي، وأما في المغرب فليس له انتظاره لأنه يحدث جلوساً لم يفعله الإمام وإن فعل جلوس الاستراحة فإنه صدق عليه أنه لم يفعل جلوس التشهد الأول لأن جلسة الاستراحة هنا غير مطلوبة، ويجوز له انتظاره في السجود الثاني انتهى.(1/233)
قول السويفي ملخصاً فلا فحش بتطويله لأنه إنما طول ما كان فيه الإمام كما لو جلس الإمام للتشهد الأول وأتى ببعضه ثم ترك باقيه فيجوز للمأموم إكماله لأنه حينئذٍ كالقنوت فإنه إتيانه جائز للمأموم وإن تركه إمامه قد أتى بالاعتدال وإنما هو طول ما كان فيه الإمام كما أفاده ابن حجر في فتح الجواد. ((1/234)
و) عاشرها: (أن لا يخالفه في سنة فاحشة المخالفة) أي قبحت فيها كسجدة تلاوة فيجب الموافقة فيها فعلاً وتركاً كسجود سهو فتجب فيه الموافقة فعلاً لا تركاً، بل يسن للمأموم فعله إذا تركه إمامه، وكالتشهد الأول فتجب فيه الموافقة تركاً لا فعلاً بل يجوز للمأموم إذا فعله الإمام أن يتركه ويقوم عامداً، ولكن يسن له العود إن كان قيامه عمداً ما لم يقم الإمام، فإن كان سهواً وجب العود عليه لمتابعته إمامه، ومثل هذا ما إذا ظن المسبوق سلام الإمام فقام ثم تبين أنه لم يسلم لزمه العود ولو بعد سلام الإمام وليس له أن ينوي المفارقة، والفرق بين العامد والناسي أن العامد مفوت على نفسه تلك الفضيلة بتعمده وأن الناسي قيامه غير معتد به فهو كالعدم، ففرق بين هذا وبين ما لو ركع قبل إمامه ناسياً فإنه يخير بين العود والانتظار لفحش المخالفة في قيامه ناسياً دون ركوعه، بخلاف ما لو ركع قبل الإمام عامداً فإنه يسن له العود، وأما القنوت فلا تجب الموافقة فيه لا فعلاً ولا تركاً، فإذا فعله الإمام جاز للمأموم أن يتركه يسجد عامداً وإذا تركه الإمام سن للمأموم فعله إذا أدركه في السجود الأول وجاز مع الكراهة إن أدركه في الجلوس بين السجدتين، فإن كان لا يدركه إلا بعد هوي الإمام للسجدة الثانية وجب تركه إن لم ينو المفارقة، فإن أتى به عامداً عالماً بطلت صلاته بمجرد التخلف لأنه قصد المبطل وشرع فيه قبل أن يهوي الإمام، وإذا تركه فلا سجود عليه لتحمل الإمام عنه، وإن لم يطلب القنوت منه وله فواقه بالنية ليقنت تحصيلاً للسنة وهو فراق بعذر فلا يكره، لكن عدم المفارقة أفضل، ومثل هذا ما لو اقتدى بمن يصلي سنة الصبح فلا يسجد لتركه لأنه لا خلل في صلاته حتى في اعتقاد المأموم لأن الإمام يحمله عنه، بخلاف ما لو ترك القنوت تبعاً لإمامه الحنفي فيسجد ندباً للسهو، وكذا لو تركه إمامه المذكور وأتى هو به لأن سهو الإمام يلحق المأموم لأن في صلاة الإمام خللاً(1/235)
نظراً لاعتقاد المأموم، وأما السنة التي لا تفحش المخالفة فيها كجلسة الاستراحة فلا يضر الإتيان بها بل يندب للمأموم أن يأتي بها وإن تركها الإمام، وإذا فعلها الإمام لا يلزم المأموم موافقته في الدوام، وأما في الابتداء فيجب موافقته بأن اقتدى بالإمام وهو جالس للاستراحة فيلزم موافقته فيه، بخلاف ما إذا اقتدى به في غير جلوس الاستراحة كالنهوض فلا يلزمه موافقته فيه لعدم فحش المخالفة. (و) حادي عشرها: (أن يتابعه) بأن يتأخر تحرمه عن جميع تحرم إمامه وأن لا يسبقه بركنين فعليين عامداً عالماً وأن لا يتأخر عنه بهما بلا عذر، فإن قارنه في التحرم ولو شكاً ضر.
[فائدة] قال المدابغي: اعلم أن المقارنة على خمسة أقسام: حرام مبطلة أي مانعة من الانعقاد وهي المقارنة في تكبيرة الإحرام. ومندوبة وهي المقارنة في التأمين. ومكروهة مفوتة لفضيلة الجماعة مع العمد وهي المقارنة في الأفعال والسلام ومباحة وهي المقارنة فيما عدا ذلك. وواجبة فيما لو لم يقرأ الفاتحة مع الإمام لم يدركها.
[فرع] ولو نوى القدوة منفرد في أثناء صلاته جاز مع الكراهة وتبعه وجوباً فيما هو فيه ولو في ركن قصير كالاعتدال للإمام وهو في ركن طويل كالقيام أو كان أحدهما قائماً والآخر قاعداً، نعم لو اقتدى من في التشهد الأخير بمن في القيام مثلاً لم يجز له متابعته بل ينتظره وجوباً ليسلم معه وهو أفضل فله فراقه وهو فراق بعذر، ولا نظر إلى أنه أحدث جلوساً لم يحدثه الإمام لأن المحذور إحداثه بعد نية الاقتداء لا دوامه كما هنا، أو اقتدى من في السجدة الأخيرة بعد الطمأنينة بمن في القيام أيضاً لم يجز له رفع رأسه من السجود بل ينتظره فيه إن لم ينو المفارقة، فإن كان قبل الطمأنينة قام إليه، وكل ما فعله المأموم مع الإمام مما فعله قبله غير محسوب له كأن ركع معه بعد أن ركع قبل الاقتداء به وإن فعل الثاني للمتابعة.(1/236)
ثم اعلم أن ما يلزم المأموم المتابعة فيه بائتمامه مما أدركه مع إمامه وإن لم يحسب له تسعة أشياء: أحدها الاعتدال ولو كان الإمام في قنوت. وثانيها وثالثها: السجودان. ورابعها: الجلوس بينهما. وخامسها: الجلوس للاستراحة. وسادسها وسابعها: الجلوس للتشهدين. وثامنها: سجود السهو. وتاسعها: سجود التلاوة أي إذا اقتدى به فيه لزمه متابعته. ويجب أيضاً على القاصر الإتمام إذا اقتدى بمتم ولو لحظة، ولا يلزم المأموم المتابعة في ألفاظ التشهدين والقنوت لأن الواجب المتابعة في الأفعال لا الأقوال، لكن يسن له التبعية فيها حتى لو كان مسبوقاً، فالسنة أن يأتي بجميع ألفاظ التشهد من الواجب والمسنون، وكذا يسن التبعية أيضاً في التسبيحات والتكبيرات، نعم إذا كان الإمام في أحد التشهدين أو في السجود مثلاً ونوى المأموم في هذه الحالة وكبر للإحرام فلا يحتاج إذا انتقل إلى إمامه فيما ذكر أن يكبر بل ينتقل ساكتاً لأن ذلك ليس للمتابعة ولا مما يحسب للمأموم، بخلاف ما بعد ما أدركه فيه فيكبر للانتقال إليه وإن لم يحسب له للمتابعة للإمام فيه، وبخلاف الركوع فإنه إن أدركه فيه يكبر للانتقال إليه وإن لم يتابعه حال الانتقال لأنه محسوب له. واعلم أن الذي يسقط عن المأموم بائتمامه سبعة أشياء: أحدها القيام. وثانيها: القراءة إذا أدركه في الركوع. وثالثها: السورة في الصلاة التي جهر الإمام فيها ولو سرية فالعبرة بالمعول لا بالمشروع وذلك إذا سمعها من الإمام، فإن لم يسمعها لصمم أو بعد أو سماع صوت لم يفهمه أو إسرار ولو في جهرية لم يسقط عنه. ورابعها: الجهر في الصلاة الجهرية فلا يجهر لأنه ربما يشوش على الإمام أو غيره.(1/237)
وخامسها وسادسها: التشهد الأول والجلوس له إذا تركهما الإمام عمداً أو سهواً فيتركهما المأموم تبعاً له وجوباً لأنهما مما تفحش فيه المخالفة، ويفارقان القنوت بأن الإمام والمأموم فيه اشتركا في الاعتدال فلم ينفرد به المأموم وأما فيهما فهو منفرد بالجلوس والقول ولو جلس الإمام للاستراحة لأن جلسة الاستراحة هنا غير مطلوبة. وسابعها: القنوت إذا سمعه إذ السنة فيه أن يؤمن في الدعاء ويسكت أو يوافق في الثناء أو يقول أشهد أو صدقت وبررت ولا تبطل به الصلاة على المعتمد ويغتفر الخطاب هنا لأنه مطلوب لوجود الرابطة بخلافه في إجابة المصلي للمؤذن فإنه لا يغتفر لعدم طلبه وعدم الرابطة، ومن الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كانت بلفظ الخبر كصلى الله على سيدنا محمد لأن المراد الدعاء فيؤمن فيها، وكذا من أوله إلى لفظ قضيت وما بين ذلك كله ثناء فيوافق فيه أو يسكت أو يقول ما مر.
((1/238)
فصل): في بيان الصور الممكنة في القدوة (صور القدوة) الممكنة من حيث هي (تسع تصح في خمس) أحدها: (قدوة رجل برجل و) ثانيها: (قدوة امرأة برجل و) ثالثها: (قدوة خنثى برجل و) رابعها: (قدوة امرأة بخنثى و) خامسها: (قدوة امرأة بامرأة وتبطل في أربع) الأول (قدوة رجل بامرأة) فلا يصح اقتداؤه بها لأن شرط الاقتداء أن لا يكون الإمام أنقص من المأموم بالأنوثة أو الخنوثة لخبر ابن ماجه "لا تؤمنَّ امرأة رجلاً" (و) الثاني: (قدوة رجل بخنثى) فلا يصح اقتداؤه به لنقص الإمام عن المأموم (و) الثالث: (قدوة خنثى بامرأة) فلا يصح اقتداؤه بها لذلك ولأن المرأة لا تصح إمامتها إلا لمثلها يقيناً لقوله صلى الله عليه وسلّم: "لن يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة" (و) الرابع: (قدوة خنثى بخنثى) فلا يصح اقتداؤه بمثله لجواز كون المأموم رجلاً والإمام أنثى ويصح مع الكراهة اقتداء رجل بخنثى اتضحت ذكورته واقتداء خنثى اتضحت أنوثته بأنثى، قال ابن حجر في فتح الجواد: فالخنثى المقتدي بالمرأة يحتمل ذكورته والمقتدي به الرجل يحتمل أنوثته، وفي الخنثى بالخنثى يحتمل أنوثة الإمام وذكورة المأموم، أما اقتداء المرأة بالكل واقتداء الخنثى والرجل بالرجل فصحيح إذ لا محذور اهـ.
[(1/239)
فائدة] قال أبو بكربن عبدالرحمن السبتي: الخنثى هو الذي له ذكر الرجال وفرج النساء فلا يخلو من كونه رجلاً أو امرأة فيعرف حاله بأشياء: أحدها البول فإن كان يبول من الذكر فهو رجل، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى، وإن كان يبول منهما جميعاً على الدوام فقال الإمام ابن الصباغ والمحاملي: يعتبر السابق منهما، فإن لم يكن فيعتبر ما تأخر انقطاعه، فإن استويا فهل يعتبر بالأكثر قدراً؟ فيه قولان الأصح: لا يعتبر الثاني المني والحيض والحبل، فإن أمنى من الذكر فرجل، وإن أمنى من الفرج أو حاض فامرأة، وإن أمنى من الذكر وحاض من الفرج فمشكل، أما لو حبل وولد فهو امرأة يقيناً وهي دلالة مقدمة على سائر الدلائل لأنها يقين، ولو بال من الذكر وحاض من الفرج فهل يعتبر بالمبال أو يتعارضان ويسقطان ويبقى الإشكال؟ وجهان أظهرهما الثاني أنه مشكل الثالث الرجوع إلى قوله بعد البلوغ ويسأل عما يميل طبعه إليه إن لم يعرف حاله، فإن قيل: أميل إلى النساء فهو رجل، وإن قال: أميل إلى الرجال فهو امرأة، فمتى أخبر بذلك حكم به ولا يقبل رجوعه عنه بعده إلا إذا أخبر أنه رجل ثم ولد ولداً فحينئذٍ يتيقن أنه امرأة فينقض ما مضى من الحكم بذكورته، أما نبات اللحية ونهود الثدي وعدد الأضلاع فلا اعتبار بها على الأصح اهـ. وقال محمد سبط المارديني: والخنثى المشكل قسمان: قسم له آلة الرجال أي من الذكر والبيضتين وآلة النساء جميعاً، وقسم له ثقبة يخرج منها البول لا تشبه آلة من الآلتين وهذا الثاني مشكل لا يتضح ما دام صبياً فإذا بلغ أمكن اتضاحه، والأول قد يتضح وإن كان صبياً وقد لا يتضح اهـ.
[فرع] قال النووي: ويكون في البقر فقد جاءني جماعة قالوا: إن عندهم بقرة ليس لها فرج أنثى ولا ذكر الثور وإنما لها عند ضرعها ثقب يخرج منه البول، وسألوني عن جواز التضحية بها فقلت تجزىء لأنها إما ذكر أو أنثى وكلاهما يجزىء لأنه ليس فيه ما ينقص اللحم وأفتيتهم بذلك.
((1/240)
فصل): في شروط جواز جمع التقديم (شروط جمع التقديم) سفراً ومطراً (أربعة) أحدها: (البداءة بالأولى) لأن الوقت لها والثانية تبع فلو صلى العصر قبل الظهر أو العشاء قبل المغرب لم يصح لأن التابع لا يتقدم على متبوعه وله عادة الأولى بعد الثانية إن أراد الجمع. (و) ثانيها: (نية الجمع فيها) أي في الصلاة الأولى قبل التحلل منها ليتميز التقديم المشروع عن التقديم سهواً أو عبثاً كأن يقول: نويت أصلي فرض الظهر مجموعاً بالعصر.
(و) ثالثها: (الموالاة بينهما) أي بين الصلاتين قال السيد يوسف الزبيدي في إرشاد الأنام: بأن لا يفصل بينهما طويلاً وذلك بقدر ركعتين بأقل مجزىء، فإن اختل شرط من هذه الثلاثة صلى الثانية في وقتها، وهذه الشروط الثلاثة سنن في جمع التأخير انتهى. (و) رابعها: (دوام العذر) أي بقاء السفر إلى الإحرام بالثانية فلو أقام في أثنائها لم يضر فلا يشترط دوامه إلى تمامها، فلو أقام قبل عقد الثانية فلا جمع وإن سافر عقب الإقامة لزوال السبب وهو السفر فيتعين تأخير الصلاة إلى وقتها، وإنما يشترط بقاء السفر ليقارن العذر الجمع وإن لم يقارن عقد الأولى كما لو شرع في الظهر مثلاً بالبلد وهو في سفينة فسارت السفينة فنوى الجمع في أثناء الصلاة الأولى فيصح، وكذا يشترط بقاء وقت الأولى إلى عقد الثانية وإن خرج في أثنائها، ويشترط أيضاً صحة الأولى يقيناً أو ظناً فيجمع فاقد الطهورين والمتيمم ولو بمحل يغلب فيه وجود الماء على المعتمد وكذا المستاحضة، وأما المتحيرة فلا تجمع تقديماً لانتفاء صحة الأولى يقيناً أو ظناً لاحتمال وقوعها في الحيض، وأما الجمع للمطر فيشترط وجود المطر في أول الصلاتين وبينهما وعند التحلل من الأولى ولا يضر انقطاعه في أثناء الأولى أو الثانية أو بعدهما.
((1/241)
فصل): في شروط جواز جمع التأخير (شروط جمع التأخير اثنان) أحدهما: (نية التأخير وقد بقي من وقت) الصلاة (الأولى ما يسعها) أي تامة إن أراد إتمامها ومقصورة إن أراد قصرها كأن يقول إذا أراد تأخير الظهر إلى العصر: نويت تأخير الظهر إلى العصر لأجمع بينهما، وإذا أراد تأخير المغرب إلى العشاء فيقول: نويت تأخير المغرب إلى العشاء. (و) ثانيهما: (دوام العذر) وهو السفر (إلى تمام) الصلاة (الثانية) فلو أقام قبل تمامها وقعت الأولى قضاء سواء قدمها على الثانية أو أخرها عنها لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر وقد زال قبل تمامها.
[تنبيه] اعلم أن ترك الجمع أفضل للخروج من خلاف أبي حنيفة حيث منعه ولأن فيه إخلاء أحد الوقتين عن وظيفته ويستثنى منه الحاج بعرفة ومزدلفة ومن إذا جمع صلى جماعة أو خلا عن حدثه الدائم أو كشف عورته فالجمع أفضل، وكذا من وجد من نفسه كراهته وشك في جوازه أو كان ممن يقتدى به ونحو ذلك، وأما من خاف فوت الوقوف أو فوت استنقاذ أسير لو ترك الجمع فيجب عليه ذلك الجمع حينئذٍ كما قاله الزيادي.
[فرع] قال الشرقاوي: ويمتنع الجمع بمرض ووحل وهو الطين الرقيق وظلمة على المعتمد. وقال الزيادي: واختير جوازه بالمرض تقديماً وتأخيراً ويراعى الأرفق به، وضبط جمع متأخرون المرض هنا بأنه ما يشق معه فعل كل فرض في وقته كمشقة المطر بحيث يبل ثيابه، وقال آخرون: لا بد من مشقة ظاهرة زيادة على ذلك بحيث تبيح الجلوس في الفريضة وهو الأوجه.
[خاتمة] ذكر في فتح المعين نقلاً عن تحفة المحتاج أن من أدى عبادة مختلفاً في صحتها من غير تقليد للقائل بها لزمه إعادتها لأن إقدامه عليها عبث.
((1/242)
فصل): في شروط القصر (شروط القصر سبعة) بل أحد عشر أحدها: (أن يكون سفره مرحلتين) أي يقيناً ولو قطع هذه المسافة في لحظة لكونه من أهل الخطوة سواء قطعها في بر أو بحر وهما بسير الأثقال أي الحيوانات المثقلة بالأحمال مسيرة يومين معتدلين أو ليلتين كذلك أو يوم وليلة ولو غير معتدلين مع اعتبار الحط أي النزول والترحال أي السير والأكل والشرب وغير ذلك على العادة الغالبة، وقدرها على الشبراملسي باثنتين وعشرين ساعة ونصف. (و) ثانيها: (أن يكون) أي سفره (مباحاً) أي في ظنه وإن لم يكن مباحاً في الواقع كما يقع لبعض الأمراء أنه يرسل مكتوباً فيه قتل إنسان ظلماً أو نهب بلدة ولم يعلم من معه المكتوب بذلك فيقصر لأن سفره مباح في ظنه، وكذا لو خرج لجهة معينة تبعاً لشخص ولا يعلم سبب سفره، والمراد بالمباح ما قابل الحرام فيشمل الواجب كسفر حج والمندوب كزيارة قبره صلى الله عليه وسلّم والمكروه كسفر التجارة في أكفان الموتى أو منفرداً، وكذا مع واحد فقط لكن الكراهة في هذا أخف من الكراهة للمنفرد، نعم إن كان أنسه بالله تعالى بحيث صار أنسه مع الوحدة كأنس غيره مع الرفقة لم يكره في حقه ما ذكر، وكذا لو دعت حاجة إلى البعد والانفراد عن الرفقة إلى حد لا يلحقه غوثهم، والمباح المستوي الطرفين كسفر التجارة في غير ذلك فلا قصر للعاصي بسفره ولو صورة كما لو هرب الصبي من وليه فلا يقصر لأن سفره من جنس سفر المعصية للمنع منه شرعاً، ومن سفر المعصية أن يتعب نفسه أو دابته بالركض بلا غرض شرعي، وكذا السفر لمجرد رؤية البلاد لأنها ليست بغرض صحيح.(1/243)
ثم اعلم أن المسافر العاصي ثلاثة أقسام، الأول: عاص بالسفر وإن قصد به المعصية وغيرها كأن قصد به قطع الطريق وزيارة أهله، فهذا إن تاب فأول سفره محل توبته فإن كان الباقي طويلاً في الرخصة التي يشترط فيها طول السفر كالقصر والجمع أو قصيراً في الرخصة التي لا يشترط فيها ذلك كأكل الميتة ترخص، وإن كان الباقي قصيراً في الرخصة التي يشترط فيها طول السفر لم يترخص. والثاني: عاص في السفر كمن زنى أو شرب خمراً وهو قاصد الحج مثلاً فلا يمتنع عليه الترخص. والثالث: عاص بالسفر في السفر كأن أنشأه طاعة ثم قلبه معصية فإن تاب ترخص مطلقاً وإن كان الباقي قصيراً، ولو كان المسافر كافراً ثم أسلم في أثناء الطريق ترخص وإن كان الباقي دون مسافة القصر لأن سفره ليس بسبب معصية وإن كان عاصياً بالكفر. (و) ثالثها: (العلم بجواز القصر) فلا قصر لجاهل به من أصله أو في الصلاة التي نواها لأمر خاص عرض له، وكالجاهل المذكور من ظن الرباعية ركعتين فنواها في السفر كذلك فلا تنعقد صلاته في الصورتين بلا خلاف في الأولى وإن قرب إسلامه لتلاعبه، ومثلها الثانية لتفريطه إذ لا يعذر أحد بجهل مثل ذلك ويعلم من عدم انعقادها أنه يعيدها مقصورة وهو كذلك على المعتمد.(و) رابعها: (نية القصر) منها ما لو نوى الظهر مثلاً ركعتين سواء نوى ترخصاً أو أطلق، أما لو نوى ركعتين مع عدم الترخص فإن صلاته تبطل لتلاعبه. ومنها ما لو قال: أؤدي صلاة السفر فلو نوى الإتمام أو أطلق أتم لأنه المنوي في الأولى والأصل في الثانية. ومنها أن يقول: نويت أصلي الظهر مقصورة، قال الزيادي: ولو نوى القصر خلف مسافر متم صح لأنه من أهل القصر في الجملة حيث جهل حاله أي وتلغو نية القصر فإن علمه متماً لم تصح صلاته لتلاعبه كما أفتى به شيخنا الرملي انتهى.(1/244)
وإنما تشترط نية القصر لأنه خلاف الأصل بخلاف الإتمام فلا يحتاج إلى نية لأنه الأصل وتكون نية القصر (عند الإحرام) أي معه كأصل النية فلو نواه بعد الإحرام لم ينفعه.(و) خامسها: (أن تكون الصلاة رباعية) وهي الظهر والعصر والعشاء وهي المكتوبة أصالة وإن وقعت نفلاً فدخلت صلاة الصبي والمعادة فله قصرها جوازاً إن قصر أصلها وهو الأولى فإن أتمها أتمها وجوباً. (و) سادسها: (دوام السفر) أي يقيناً (إلى تمامها) أي الصلاة فلو انتهى سفره فيها كأن بلغت سفينة هو فيها دار إقامته أو شك في انتهائه أتم لزوال سبب الرخصة في الأولى وللشك فيه في الثانية. (و) سابعها: (أن لا يقتدي بمتم) مقيم أو مسافر (في جزء من صلاته) أي وإن قل كأن أدركه آخر الصلاة ولو أحدث هو عقب اقتدائه به، فلو ائتم به ولو لحظة أو في جمعة أو صبح لزمه الإتمام لما روي عن ابن عباس لما سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال في جوابه: تلك السنة أي الطريقة الشرعية ولو اقتدى بمسافر وشك في نية القصر فنوى هو القصر جاز له القصر إن بان الإمام قاصراً لأن الظاهر من حال المسافر القصر فإن بان أنه متم أو لم يتبين حاله لزمه الإتمام ولو علق نية القصر على نية الإمام كأن قال: إن قصر قصرت وإلا أتممت جاز له القصر إن قصر الإمام لأن هذا تصريح بالواقع، ولزمه الإتمام إن أتم الإمام أو لم يظهر ما نواه الإمام فيلزمه الإتمام احتياطاً.
((1/245)
فصل): في شروط صحة فعل الجمعة (شروط الجمعة ستة) أحدها: (أن تكون كلها في وقت الظهر) وإذا أدرك المسبوق ركعة مع الإمام وعلم أنه إن استمر معه حتى يسلم لم يدرك الركعة الثانية في الوقت وإن فارقه أدركها وجب عليه نية المفارقة لتقع الجمعة كلها في الوقت، فإن خرج الوقت يقيناً أو ظناً بخبر عدل أو فاسق وقع في القلب صدقه قبل سلامه وجب عليه الظهر بناء لا استئنافاً كغيره من الأربعين، وإن كانت جمعته تابعة لجمعة صحيحة فحينئذٍ يسر بالقراءة ولا يحتاج إلى نية الإتمام، نعم يسن ذلك وإتمامها ظهراً بناء متحتم لأنهما صلاتا وقت واحد فوجب بناء أطولهما على أقصرهما كصلاة الحضر مع السفر ولا يجوز الاستئناف لأنه يؤدي إلى إخراج بعض الصلاة عن الوقت مع القدرة على إيقاعها فيه أي ولا بد أن يكون الوقت باقياً حتى يسلم الأربعون فيه، فلو سلم الإمام ومن معه خارج الوقت فاتت الجمعة ولزمهم الظهر بناء لا استئنافاً، ولو سلم الإمام التسليمة الأولى وتسعة وثلاثون فيه وسلمها الباقون خارجه صحت جمعة الإمام ومن معه من التسعة والثلاثين بخلاف المسلمين خارجه فلا تصح جمعتهم، وكذا لو نقص المسلمون فيه عن أربعين كأن سلم الإمام فيه وسلم من معه وهم التسعة والثلاثون خارجه أو سلم بعضهم معه ولا يبلغون أربعين فلا تصح جمعتهم حتى الإمام، وإنما صحت الجمعة للإمام وحده فيما إذا كانوا محدثين دونه لأن المحدث تصح صلاته فيما إذا فقد الطهورين بخلاف الجمعة خارج الوقت. ((1/246)
و) ثانيها: (أن تقام في خطة البلد) ولو بفضاء بأن كان بمحل لا تقصر فيه الصلاة وإن لم يتصل بأبنية البلد بخلاف غير المعدود منها وهو ما ينشأ منه سفر القصر، وسواء كان البلد من خشب أو قصب أو غيرهما، وسواء أقيمت الجمعة في المساجد أو غيرها بخلاف الصحراء فلا تصح فيها استقلالاً ولا تبعاً سواء هي وخطبتها ومن يسمعها، ومنها مسجد انفصل عن البلد بحيث يقصر المسافر قبل مجاوزته فلا تصح الجمعة فيه لأنهم حينئذٍ مسافرون ولا تنعقد الجمعة بالمسافر ولو اتصلت الصفوف وطالت حتى خرجت عن القرية صحت جمعة الخارجين تبعاً إن كانوا في محل لا تقصر الصلاة إلا بعد مجاوزته، وإلا فلا تصح لهم الجمعة وإن زادوا على الأربعين ولو كانت الخيام بصحراء واتصل بها مسجد فإن عدت الخيام معه بلداً واحداً ولم تقصر الصلاة قبله صحت الجمعة به وإلا فلا، ولو لازم أهل الخيام موضعاً من الصحراء لم تصح الجمعة في تلك الخيام ويجب عليهم إن سمعوا النداء من محلها وإلا فلا لأنهم على هيئة المستوفزين وليس لهم أبنية المستوطنين.
[فرع] قال الشيخ محمد الرئيس في فتواه: إن كانت القرى متباعدة وجب على كل قرية جمعة إن جمعت الشروط، وضابط البعد عدم اتحاد المرافق كملعب الصبيان والنادي وهو محل القوم ومتحدثهم ومطرح الرماد والاستعارة من بعضهم بعضاً، فإن اختلفت فقرى أي فهي قرى كثيرة وإن اتحدت فالمتجه فيما ذكر قرية واحدة والتي لم تجمع الشروط مع عدم الاتحاد فيه مع غيرها كخارج البلدة، فإن سمعت النداء وجب عليها الحضور وإلا فلا انتهى.(1/247)
قوله في خطة البلد بكسر الخاء أي علامات أبنية البلد ومثل البناء السرب وهو بفتحتين بيت في الأرض والكهف أي الغار في الجبل فيلزم أهلهما الجمعة وإن خلتا عن الأبنية، ويشترط اجتماع الأبنية عرفاً وأن لا يزيد ما بين المنزلين على ثلاثمائة ذراع داخلها أو خارجها في محل لا تقصر فيه الصلاة إلا بعد مجاوزته ما تقدم في المسافر نقله الشرقاوي عن الرحماني.
((1/248)
واعلم) أن إقامة الجمعة لا تتوقف على إذن الإمام أو نائبه على المعتمد خلافاً لأبي حنيفة، وعن الشافعي والأصحاب أنه يندب استئذانه فيها خشية الفتنة وخروجاً من الخلاف، أما تعددها فلا بد فيه من الإذن لأنه محل اجتهاد. (و) ثالثها) (أن تصلي جماعة) قال الزيادي في الركعة الأولى بتمامها بأن يستمر معه إلى السجود الثاني فلو صلى الإمام بالأربعين ركعة ثم أحدث فأتم كل منهم وحده أو لم يحدث وفارقوه في الثانية وأتموا منفردين أجزأتهم الجمة، نعم يشترط بقاء العدد إلى سلام الجميع، ومتى أحدث واحد منهم لم تصح جمعة الباقين انتهى. وإن كان هو الآخر إن ذهب الأولون إلى أماكنهم ويلزمهم إعادتها جمعة إن أمكن وإلا فظهراً اهـ. وبهذا يلغز فيقال: لنا شخص أحدث في المسجد فبطلت صلاة آخر في بيته. (و) رابعها: (أن يكونوا أربعين) قال الزيادي: أي ولو من الجن كما في الجواهر ولو كانوا أربعين فقط وفيهم أمي قصر في التعلم لم تصح جمعتهم لبطلان صلاتهم فيقضون، فإن لم يقصر والإمام قارىء صحت جمعتهم كما لو كانوا كلهم أميين في درجة واحدة، قال الباجوري: فشرط كلَ أن تصح صلاته لنفسه كما في شرح الرملي وإن لم يصح كونه إماماً للقوم، وأفتى محمد صالح الرئيس بأنه لا تنعقد الجمعة حيث كان فيهم أمي ويسقط الوجوب عن الباقين فيصلون ظهراً، وقال في فتاويه أيضاً. إذا دخلوا في الصلاة مع ظن الأمية في بعضهم فلا تصح صلاتهم فالإعادة واجبة عليهم إلا إن قلدوا القائل بجوازها بدون الأربعين، وأما إن دخلوا في الصلاة مع ظن استجماع الشروط فلا تجوز الإعادة لعدم الموجب للإعادة انتهى.(1/249)
والأمي هو من لا يؤدي الواجب في القراءة بإبدال حرف بآخر أو نقل معنى الكلمة ولو كان عالماً جداً، والمقصر هو من لم يبذل وسعه للتعلم الواجب أداؤه فيها ممن يؤديه، قال شيخنا يوسف السنبلاويني: اعلم أن مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه عدم صحة الجمعة بدون أربعين مستجمعين للشروط وأهل القرى الذين لم يبلغوا العدد المذكور إن سمعوا النداء من مكان عال عادة بحيث يعلمون أنه نداء الجمعة وإن لم يميز بين الكلمات في سكون الأصوات والرياح مع معتدل سمع طرف بلدة أو قرية أخرى تقام فيها الجمعة بشرطها لزمهم إتيانها وصلاتها معهم وإلا فلا تلزمهم الجمعة.
[(1/250)
فرع] يجوز تقليد القائل بجوازها بدون الأربعين كأبي حنيفة فإنه جوزها بالأربعة أحدهم الإمام ومالك فإنه جوزها بثلاثين أو بعشرين، ولا يكفي تقليد بعضهم بل لا بد من تقليدهم وعلمهم بشروط ما يقلدون فيه عند من يقلدون ويسن لهم فعل الظهر، قال العلامة الكردي في فتاويه: وهو الأحوط خروجاً من الخلاف قاله المفتي محمد الحبشي. (أحراراً ذكوراً بالغين مستوطنين) أي بمحل الجمعة بحيث لا يسافرون شتاء ولا صيفاً إلا لحاجة كزيارة وتجارة، فلو استوطن في بلدين بأن كان له مسكنان بهما فالعبرة بما فيه أهله وماله، وإن كان في أحدهما أهل والآخر مال فالعبرة بما فيه أهل وإلا فالعبرة بما إقامته فيه أكثر، فإن استوت انعقدت به في كل منهما، قال الزيادي نقلاً عن المصنف: أما الصبي المميز والعبد والمسافر فتصح منهم ولا تلزمهم ولا تنعقد بهم، وأما المقيم غير المستوطن كمن نوى الإقامة أربعة أيام صحاح فتلزمه قطعاً ولا تنعقد به وتصح منه، وكذا المسافر لمعصية لأنه ليس من أهل الرخص، ومن سمع نداء الجمعة وهو ليس بمحلها، وأما المرتد فتلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وأما الكافر الأصلي والمجنون والمغمى عليه فلا تلزمهم ولا تنعقد بهم ولا تصح منهم، ومن اجتمعت فيه صفات الكمال عكس هذا ومن لا تلزمه وتنعقد به وتصح منه وهو من له عذر من أعذارها غير السفر، وعرف بهذا أن الناس في الجمعة ستة أقسام، قال الشرقاوي نقلاً عن القليوبي: قوله ستة أقسام أي لأن الأوصاف ثلاثة: اللزوم والصحة والانعقاد فتوجد كلها في مستوفي الشروط وتنتفي كلها عن نحو المجنون، ويوجد الأولان في المقيم المستوطن والأخيران في المعذور والأول فقط في المرتد والثاني فقط في نحو المسافر. ((1/251)
و) خامسها: (أن لا تسبقها ولا تقارنها) في آخر إحرام الإمام وهو الراء من أكبر (جمعة) أخرى (في تلك البلد) أي في محل الجمعة إلا إن عسر اجتماع الناس بمكان ولو غير مسجد كشارع وهو ما يسلكه الناس وذلك أما لكثرتهم أو لقتال بينهم أو لبعد أطراف البلد بأن يكون من بطرفها لا يبلغهم الصوت بشروطه، قال الشرقاوي: والعبرة بمن يغلب فعله لها في ذلك المكان على المعتمد وإن لم يحضر بالفعل وإن لم تلزمه كالمرأة والعبد وإن لم تصح منه كالمجنون، قال الزيادي: والمعتمد أن العبرة بمن يحضر وإن لم تلزمه الجمعة.
واعلم أنه إذا تعددت الجمعة لحاجة بأن عسر الاجتماع بمكان جاز له العدد بقدرها وصحت صلاة الجميع على الأصح سواء وقع إحرام الأئمة معاً أو مرتباً، وسن الظهر مراعاة للخلاف، وأما إذا تعددت لغير الحاجة المذكورة فله خمس حالات. الحالة الأولى: أن يقعا معاً فيبطلان فيجب أن يجتمعوا في محل واحد ويعيدوها جمعة عند اتساع الوقت ولا تصح الظهر بعدها. الحالة الثانية: أن يقعا مرتباً فالسابقة هي الصحيحة واللاحقة باطلة فيجب على أهلها صلاة الظهر.(1/252)
الحالة الثالثة: أن يشك في السبق والمعية فيجب عليهم أن يجتمعوا في محل ويعيدوها جمعة عند اتساع الوقت وتسن الظهر بعدها. الحالة الرابعة: أن يعلم السبق ولم تعلم عين السابقة كأن سمع مريضان أو مسافران تكبيرتين متلاحقتين فأخبرا بذلك مع جهل المتقدمة منهما فيجب عليهم الظهر لأنه لا سبيل إلى إعادة الجمعة مع تيقن وقوع جمعة صحيحة في نفس الأمر، لكن لما كانت الطائفة التي صحت جمعتها غير معلومة وجب عليهم الظهر وخرج بالمريضين أو المسافرين غيرهما فلا تصح شهادته لفسقه بترك الجمعة. الحالة الخامسة: أن يعلم السبق وتعلم عين السابقة لكن نسيت وهي كالحالة الرابعة أي فيجب استئناف الظهر فقط لالتباس الصحيحة بالفاسدة. (و) سادسها: (أن يتقدمها خطبتان) للإتباع بخلاف العيد فإن خطبتيه مؤخرتان للاتباع ولأن خطبة الجمعة شرط لصحتها والشرط مقدم على مشروطه، ويسن في الخطبتين كونهما على منبر فإن لم يكن فعلى مرتفع، ويسن للخطيب أن يسلم على من عند المنبر أو المرتفع وأن يصعد بتؤدة ورفق نقله الزيادي عن محمد الجويني، وأن يقبل عليهم إذا صعد المنبر أو نحوه وانتهى إلى الدرجة التي تسمى بالمستراح، وأن يسلم عليهم ثم يجلس فيؤذن واحد للاتباع في الجميع. قال ابن حجر في تحفة المحتاج: وأما الأذان الذي قبله على المنارة فأحدثه عثمان رضي الله عنه وقيل معاوية لما كثر الناس، ومن ثم كان الاقتصار على الاتباع أفضل إلا لحاجة كأن توقف حضورهم على ما بالمنارة.
[(1/253)
تنبيه] كلامهم هذا وغيره صريح في أن اتخاذ مرق للخطيب يقرأ الآية والخبر المشهورين بدعة وهو كذلك لأنه حدث بعد الصدر الأول، قيل: وهي حسنة لحث الآية على ما يندب لكل أحد من إكثار الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا سيما في هذا اليوم، ولحث الخبر على تأكد ندب الإنصات المفوت تركه لفضل الجماعة بل والموقع في الإثم عند كثيرين من العلماء اهـ. ويسن للخطيب أن يشغل يساره بنحو سيف ويمناه بحرف المنبر لاتباع السلف والخلف، فإن لم يجد شيئاً من ذلك جعل اليمنى على اليسرى أو أرسلهما والغرض أن يخشع ولا يعبث بهما ويقيم المؤذن بعد الفراغ من الخطبة ويبادر الخطيب بالنزول ليبلغ المحراب مع فراغه من الإقامة، ويكره الالتفات في الخطبة الثانية والإشارة بيده أو غيرها ودق درج المنبر في صعوده بنحو سيف أو رجله والدعاء إذا انتهى إلى المستراح قبل جلوسه عليه والوقوف في كل مرة وقفة خفيفة يدعو فيها ومبالغة الإسراع في الثانية وخفض الصوت بها قاله ابن حجر في المنهج القويم.
[خاتمة] أفتى السيد محمد صالح بأنه يكره أن يخطب في الجمعة غير الإمام.
((1/254)
فصل): في أركان الخطبتين (أركان الخطبتين خمسة) أي إجمالاً وإلا فهي ثمانية تفصيلاً لتكرر الثلاثة الأول فيهما. أحدها: (حمد الله فيهما) ويشترط كونه بلفظ الله ولفظ حمد فتتعين مادة الحمد بأي صيغة كانت كالحمد لله أو أحمد الله أو أنا حامد لله أو لله الحمد، فلا يكفي غير مادة الحمد كالشكر، ولايكفي الحمد للرحمن والخالق، والفرق أن للفظ الجلالة بالنسبة لبقية أسماء الله تعالى وصفاته مزية تامة فإن له الاختصاص التام به تعالى، ويفهم منه عند ذكره سائر صفات الكمال بخلاف بقية أسمائه تعالى وصفاته. (و) ثانيها: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فيهما) وتتعين الصلاة من مادتها كالصلاة على محمد أو أصلي أو نصلي أو أنا مصل، ولا يتعين لفظ محمد بل يكفي أحمد أو النبي الماحي أو الحاشر أو نحو ذلك، ولا يكفي الضمير وإن تقدم له مرجع (و) ثالثها: (الوصية) أي الأمر (بالتقوى فيهما) قال الزيادي: والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه انتهى. ويكفي أحدهما عند ابن حجر، وأما عند الرملي فلا بد من الحث على الطاعة، ولا يكفي مجرد التحذير من الدنيا وغرورها اتفاقاً لأن ذلك معلوم حتى عند الكفار، ولا تتعين الوصية من مادتها بل يكفي ما يقوم مقامها نحو: أطيعوا الله، وإنما لم يتعين لفظها لأن الغرض منها الوعظ والحث على الطاعة وهو حاصل بغير لفظها. ((1/255)
و) رابعها: (قراءة آية من القرآن في إحداهما) للاتباع أي آية مفهمة فلا يكفي ثم نظر وإن كانت آية كما قاله الحصني، قال الزيادي: كانت دالة على وعد أو وعيد أو حكم أو قصة، ولا يبعد الاكتفاء بشطر آية طويلة لأنه أولى من آية قصيرة، ولا تجزىء آية حمد أو وعظ عنه كما في قوله: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} ((6) الأنعام:1) إذ الشيء الواحد لا يؤدي به فرضان بل عنه فقط، ولو أتى بآيات تشتمل على الأركان كلها ما عدا الصلاة لعدم آية تشتمل عليها لم تجزىء لأنها لا تسمى خطبة انتهى. ويسن بعد فراغ قراءة آية مفهمة أن يقرأ سورة ق كل جمعة بين ذلك في فتح المعين. وعبارة الباجوري: ويسن أن يقرأ سورة ق كل جمعة لخبر مسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ سورة ق في كل جمعة على المنبر" ويكفي في أصل السنة قراءة بعضها انتهت. قوله في إحداهما الأولى أن تكون الآية في الخطبة الأولى لتكون في مقابلة الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية فيحصل التعادل بينهما فإنه حينئذٍ يكون في كل منهما أربعة أركان ولو لم يحسن شيئاً من القرآن ولم يوجد من يحسنه غيره أتى ببدل الآية من ذكر أو دعاء فإن عجز وقف بقدرها. (و) خامسها: (الدعاء) أي بأخروي (للمؤمنين والمؤمنات في الأخيرة) أي في الخطبة الثانية عموماً أو خصوصاً بل الأولى التعميم، ولا بأس بتخصيصه بالسامعين كقوله: رحمكم الله، ويكفي: اللهم أجرنا من النار إن قصد تخصيص الحاضرين. قال الشرقاوي: قوله والمؤمنات الإتيان به سنة وليس من الأركان فلو اقتصر عليه لم يكف بخلاف ما لو اقتصر على المؤمنين انتهى. ولا يجوز اللهم اغفر لجميع المسلمين جميع ذنوبهم لوجوب اعتقاد دخول طائفة من المؤمنين النار ولو واحداً وما ذكر ينافيه، بخلاف اغفر لجميع المسلمين ذنوبهم أو اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم بحذف لفظ جميع في أحد الطرفين كما قاله الشبراملسي.(1/256)
m وأما الدعاء للسلطان بخصوصه فلا بأس به إذا لم يكن فيه مبالغة في وصفه وخروج عن الحد كالعادل المعطي كل ذي حق حقه الذي لا يظلم فهذا مكروه إن لم يخش من تركه ضرراً أو فتنة وإلا وجب كما في قيام بعض الناس لبعض، ولا يشترط في خوف الفتنة غلبة الظن بل يكفي أصله، وأما الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم عموماً بالصلاح والهداية فسنة. قال عثمان السويفي: ويكره للخطيب رفع يديه حالة الخطبة.
(فصل): في شروط الخطبتين للجمعة (شروط الخطبتين عشرة) بل أكثر. أحدها: (الطهارة عن الحدثين الأصغر والأكبر) فلو أحدث في أثناء الخطبة استأنفها وجوباً وإن سبقه الحدث وقصر الفصل، بخلاف ما لو استخلف هو أو القوم واحداً من الحاضرين فإنه يبني على ما فعله الأول من الخطبة نعم لا يجوز البناء في الإغماء مطلقاً فإذا أغمي على الخطيب قبل أن يتم الخطبتين لم يجز البناء منه ولا من الخليفة لزوال الأهلية فيه دون الأول أو أحدث بين الخطبتين والصلاة وتطهر عن قرب لم يضر. (و) ثانيها: (الطهارة عن النجاسة في الثوب والبدن والمكان) وكذا ما يتصل بها ومنه سيف أو عكازة في أسفلها نجاسة أو موضوع عليها فلا يجوز قبض ذلك ولا قبض حرف منبر عليه نجاسة في محل آخر، ومن ذلك أن يكون فيه عظم عاج من عظم الفيل فإن قبض بيده على محل النجاسة بطلت خطبته مطلقاً وإن قبض على محل طاهر منه فإن كان ينجر بجره بطلت أيضاً وإلا فلا.
[(1/257)
فائدة] قال محمدبن يعقوب في القاموس: والعاج عظم الفيل ومن خواصه أنه إن بخر به الزرع أو الشجر لم يقربه دود وشاربته كل يوم درهمان بماء وعسل إن جومعت بعد سبعة أيام حبلت انتهى. وقال أحمد الفيومي في المصباح المنير: والعاج أنياب الفيلة، قال الليث: ولا يسمى غير الناب عاجاً، والعاج ظهر السلحفاة البحرية وعليه يحمل أنه كان لفاطمة رضي الله عنها سوار من عاج ولا يجوز حمله على أنياب الفيلة لأن أنيابها ميتة بخلاف السلحفاة والحديث حجة لمن يقول بالطهارة انتهى. (و) ثالثها: (ستر العورة) أي في حق الخطيب لا في حق سامعيه فلا يشترط سترهم وكذا طهرهم ولا كونهم بمحل الصلاة ولا فهمهم لما سمعوه كما نقله الزيادي عن ابن حجر، ولا يشترط أيضاً نية الخطبة، قال الباجوري: وإنما اشترط ذلك في حق الخطيب لأن الخطبتين بمنزلة ركعتين كما قيل وهو متلبس بفعلهما بخلاف السامعين، والظاهر صحة خطبة العاجز عن السترة دون العاجز عن طهر الحدث والخبث. (و) رابعها: (القيام على القادر) قال الرافعي: وقد عدوا القيام هنا شرطاً وفي الصلاة ركناً. وقال إمام الحرمين: لا حجر في عده ركناً في موضع وشرطاً في آخر، وفرق بعضهم بأن المقصود بقيام الصلاة وقعودها الخدمة فعدا ركنين فيها، والمقصود من الخطبة الوعظ لا القيام فيه فكان بالشرط أشبه، ذكره الزيادي. ((1/258)
و) خامسها: (الجلوس بينهما فوق طمأنينة الصلاة) والمراد بالفوقية هنا الارتقاء والوصول بأن يصل الجلوس بين الخطبتين إلى قدر الطمأنينة في الصلاة، وليس المراد بذلك الزيادة عليه بأن يزيد عليه في طوله لأنه لا يشترط الزيادة على ذلك، بل الذي يشترط فيه أصل الطمأنينة فقط، قال الشرقاوي: وأقل الجلوس أن يكون بقدر الطمأنينة في الصلاة كما في الجلوس بين السجدتين، ويسن أن يكون بقدر سورة الإخلاص وأن يقرأها فيه فلو ترك الجلوس بينهما حسبتا واحدة فيجلس ويأتي بخطبة أخرى، ومن خطب قاعداً لعذر فصل بينهما وجوباً بسكتة فوق سكتة التنفس والعي بكسر العين أي التعب أي زائدة عليها، قال السويفي: ومثله من خطب قائماً ولم يقدر على الجلوس أو خطب مضطجعاً فيفصل كل منهما بسكتة، والأولى للعاجز الاستنابة فلو ترك الجلوس لم تصح خطبته إذ الشروط يضر الإخلال بها ولو مع السهو اهـ. (و) سادسها: (الموالاة بينهما) أي بين الخطبتين. (و) سابعها. (الموالاة بينهما وبين الصلاة) أي وبين أركان كل منهما بأن لا يطول فصل عرفاً في هذه المواضع الثلاثة وضبط طوله بقدر ركعتين بأخف ممكن، فإن نقص عن ذلك لم يضر ولا يضر تخلل الوعظ بين أركانهما وإن طال، وكذا قراءة وإن طالت حيث تضمنت وعظاً خلافاً لمن أطلق القطع بها فإنه غفلة عن كونه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في خطبته ق أفاده الباجوري.(1/259)
قال السويفي: فلو علم ترك ركن ولم يدر هل هو من الأولى أو الثانية هل يجب إعادتهما أم إعادة الثانية فقط؟ فيه نظر والأقرب أن يجلس ثم يأتي بالخطبة الثانية لاحتمال أن يكون المتروك من الأولى فيكون جلوسها لغواً فتكمل بالثانية ويجعل مجموعهما خطبة أولى فيجلس بعدها ويأتي بالثانية، وبتقدير كون المتروك من الثانية فالجلوس بعدها لا يضر لأن غايته أنه جلوس بعد الخطبة وهو لا يضر ما يأتي به بعد تكرير لما أتى من الخطبة الثانية واستبدال لما تركه منها، أما لو شك في ترك الركن بعد الفراغ من الخطبة لم يؤثر كالشك في ترك ركن بعد الفراغ من الصلاة. (و) ثامنها (أن تكون بالعربية) أي أن تكون أركان الخطبتين بكلام العرب وإن كان القوم عجماً لا يفهمونها لأنهم يعرفون أنه يعظهم في الجملة أي في غير هذه الصورة، فالمدار على معرفتهم بقرينة أنه واعظ وإن لم يعرفوا أما يعظهم به، ويجب أن يتعلم واحد منهم العربية، فإن لم يتعلم أحد منهم أثموا كلهم ولا تصح خطبتهم قبل التعلم فيصلون ظهراً هذا كله مع إمكان التعلم، قال الشرقاوي: فإن لم يمكن خطب واحد منهم بأي لغة شاء بشرط أن يفهم الحاضرون تلك اللغة على المعتمد بخلاف العربية لا يشترط فهمهم إياها لأنها أصل وغيرها بدل وقال السويفي: فإن لم يمكن أي التعلم خطب واحد منهم بلسانه وإن لم يفهمه الحاضرون بأن اختلفت لغاتهم، وظاهره وإن أحسن ما أحسنه القوم فلا يتعين أن يخطب به، فإن لم يحسن أحد منهم الترجمة فلا جمعة لهم لانتفاء شرطها. وقال أيضاً نقلاً عن البرماوي: ومحل اشتراط كونه أركان الخطبة بالعربية إن كان في القوم عربي وإلا كفى كونهما بالعجمية إلا في الآية فهي كالفاتحة أي فلا بد فيها من العربية. ((1/260)
و) تاسعها: (أن يسمعهما أربعين) أي أن يسمع الخطيب أركان الخطبتين للأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة ومنهم الإمام أي يجب الإسماع من الخطيب بالفعل بأن يرفع صوته حتى يسمعه الجالسون، أما السماع من الجالسين فيجب بالقوة بأن يكونوا بحيث لو أصغوا لسمعوا فلا يضر نحو لغط بخلاف الصمم والبعد والنوم الثقيل ولو لبعضهم لا مجرد النعاس فلا يضر، نعم لا يضر صمم الإمام لأنه يعرف ما يقول وإن لم يسمع كما قاله الشرقاوي، وقال الزيادي: ويعتبر على الأصح عند النووي والرافعي وغيرهما إسماعهم لها بالفعل لا بالقوة، فلا تجب الجمعة على أربعين بعضهم صم ولا تصح مع وجود لغط يمنع سماع ركن على المعتمد فيها انتهى. ونقل عن الأجهوري أنه يشترط سماع الأركان في آن واحد لأن المقصود ظهور الشعار ولا يوجد إلا بأربعين في آن واحد وبذلك أفتى شيخ الإسلام، فلو سمع الأركان عشرون مثلاً وذهبوا فجاء عشرون فأعاد لهم الأركان ثم حضر من سمع أولاً فلا يكفي، وسن لمن سمع الخطبة سكوت مع إصغاء، قال الرحماني: ويكره الكلام من المستمعين حال الخطبة خلافاً للأئمة الثلاثة حيث قالوا إنه يحرم، وحملنا الآية على الندب وهو قوله تعالى: وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} ((7) الأعراف:204) فإنها نزلت في الخطبة وسميت قرآناً لاشتمالها عليه، نعم إن دعت له ضرورة وجب أو سن كالتعليم الواجب والنهي عن محرم ولايكره قبل الخطبة وبعدها وبينهما ولو لغير حاجة ويجب رد السلام وإن كره ابتداؤه. (و) عاشرها: (أن تكون كلها في وقت الظهر) للاتباع رواه البخاري. وبقي من شروط الخطبتين خمسة وهي الذكورة ووقوعهما في خطه أبنية وفعلهما قبل الصلاة والسماع من تسعة وثلاثين وتمييز فرضهما من سنتهما كما في الصلاة، وأما ترتيب أركانهما فليس بشرط بل سنة فقط.
[(1/261)
فائدة] ورد في الخبر: أن من قرأ عقب سلامه من الجمعة قبل أن يثني رجله الفاتحة والإخلاص والمعوذتين سبعاً سبعاً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأعطي من الأجر بعدد من آمن بالله ورسوله. وفي رواية لابن السني بإسقاط الفاتحة وزيادة وأن ذلك بعد من السوء إلى الجمعة الأخرى، وفي رواية بزيادة وقبل أن يتكلم حفظ له دينه ودنياه وأهله وولده، وذكر ذلك ابن حجر. ونقل عن الزيادي أن كيفية ذلك أن يبدأ بالفاتحة ثم قل هو الله أحد ثم قل أعوذ برب الفلق ثم قل أعوذ برب الناس، ونقل القليوبي عن شيخه أن ما ورد فيه أمر مخصوص يفوت بمخالفته فيفوت يثني رجله ولو بجعل يمينه للقوم. وقوله قبل أن يثني رجله أي قبل أن يصرف رجله عن حالته التي هو عليها في التشهد. وقوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي من الصغائر إذا اجتمعت الكبائر نقله المناوي عن أبي الأسعد القشيري ثم يقول: يا غني يا حميد يا مبدىء يا معيد يا رحيم يا ودود اغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك، أربع مرات. وروي أن من واظب عليه أغناه الله ورزقه من حيث لا يحتسب. ونقل الشرقاوي عن شيخنا الشيخ الحفني أن الدعاء المذكور وارد في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
[فائدة] عن القطب عبدالوهاب الشعراني نفعنا الله به إن من واظب على قراءة هذين البيتين في كل يوم جمعة توفاه الله تعالى على الإسلام من غير شك وهما:
إلهي لست للفردوس أهلاً >< ولا أقوى على نار الجحيم
فهب لي توبة واغفر ذنوبي >< فإنك غافر الذنب العظيم
ونقل عن بعضهم أنهما يقرآن خمس مرات بعد صلاة الجمعة.
((1/262)
فصل): فيما يتعلق بالميت (الذي يلزم) بفتح الزاي أي يجب على الكفاية على من علم بموته أو ظنه أو لم يعلم بذلك ولم يظنه لكن قصر لكونه بقربه وينسب في عدم البحث عنه إلى تقصير من أقاربه وغيرهم (للميت) المسلم ولو غريقاً غير المحرم بنسك والشهيد في محل محاربة الكفار ولو صبياً أو فاسقاً أو محدثاً حدثاً أكبر وغير السقط في بعض أحواله (أربع خصال) أي كاملة وهي بكسر الخاء جمع خصلة بفتحها مثل خلال وخلة وزناً ومعنى وبقي خامس وهو الحمل إلى موضع الدفن. أحدها (غسله) أي أو بدله وهو التيمم كما لو أحرق بالنار وكان بحيث لو غسل تهرى، وكما لو لم يوجد إلا أجنبي في المرأة أو أجنبية في الرجل فييمم الميت فيهما بحائل، نعم الصغير الذي لم يبلغ حد الشهوة يغسله الرجال والنساء ومثله الخنثى الكبير. (و) ثانيها: (تكفينه) أي بعد غسله أو بدله. (و) ثالثها: (الصلاة عليه) أي بعد الغسل وجوباً لأنه المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلّم فلو تعذر كأن وقع في حفرة وتعذر إخراجه وطهره لم يصل عليه وبعد التكفين ندباً بل تكره الصلاة عليه قبل تكفينه لأنه يشعر بالازدراء بالميت. ((1/263)
و) رابعها: (دفنه) أي في قبر، أما الكافر فلا يجب غسله بل هو جائز مطلقاً سواء كان ذمياً أو غيره، ولا تجوز الصلاة عليه فإنها حرام مطلقاً وإن كان ذمياً أو مرتداً، ويجب تكفين الذمي والمؤمن والمعاهد ودفنهم وتكفين هؤلاء الثلاثة في بيت المال فإن لم يكن فعلينا حيث لا مال لهم ولم يكن لهم من تلزمه نفقتهم وفاء بذمة وعهد وأمان من ذكر كما يجب إطعامهم وكسوتهم، والفرق بين المعاهد والمؤمن أن المعاهد هو الذي عقد مع الإمام أو نائبه خاصة بالمصالحة على ترك القتال مدة معلومة أربعة أشهر فأقل عند قوتنا وعشر سنين عند ضعفنا، ويسمى أيضاً موادعاً ومهادناً ومسالماً والمؤمن كذلك إلا أنه لا يجوز عقد أكثر من أربعة أشهر وأنه قد يعقده الآحاد أيضاً، ولا يجب تكفين الحربي والمرتد والزنديق وهو الذي لا يتمسك بشريعة ويقول بدوام الدهر، وقيل هو الذي لا يؤمن بالآخرة ولا بوحدانية الخالق ولا يجب دفنهم بل يجوز إغراء الكلاب عليهم لكن الأولى مواراتهم لئلا يتأذى الناس برائحتهم بل تجب إذا تحقق الأذى منهم، وأما المحرم الذكر فلا يلبس مخيطاً ولا يستر رأسه والمرأة والخنثى لا يستر وجههما ولا كفاهما بقفازين، ويحرم أيضاً أن يقرب لهم طيب ككافور وحنوط في أبدانهم وأكفانهم وماء غسلهم إبقاء لأثر الإحرام لأن النسك لا يبطل بالموت، وأما الشهيد فيحرم غسله والصلاة عليه ويسن دفنه في ثيابه فقط ولو من حرير بعد نزعها منه عقب موته وعودها إليه عند التكفين، وما الدفن فواجب كالتكفين سواء في ذلك ثيابه الملطخة بالدم وغيرها لكن الملطخة أولى سواء أقتله كافر أم أصابه سلاح مسلم خطأ أو عاد إليه سلاح نفسه أو سقط عن دابته أو وطئته الدواب أو أصابه سهم لا يعرف هل رمى به مسلم أو كافر، وسواء وجد به أثر أم لا مات في الحال أم بقي زمناً ومات بذلك السبب قبل انقضاء الحرب أم معه أم بعده وليس فيه إلا حركة مذبوح، بخلاف ما لو مات بعده وفيه حياة مستقرة فليس بشهيد.(1/264)
وأما السقط وهو الذي سقط من بطن أمه قبل تمام أشهره وهي سنة ولحظتان ففيه تفصيل، فإن ظهرت فيه أمارة الحياة كاختلاج أو اضطراب أو تنفس أو تحرك أو بكاء ولو قبل انفصاله وجب فيه ما في الكبير من صلاة وغيرها وإلا فإن ظهر خلقه بأن تخطط سواء بلغ أربعة أشهر أم لا وجب تجهيزه بلا صلاة وإلا فلا شيء فيه بل تحرم الصلاة عليه ويجوز رميه ولو للكلاب لكن يسن سفره بخرقة ودفنه، فالحاصل أن السقط له ثلاثة أحوال، قال الشيخ محمد الحفني رضي الله تعالى عنه:
والسقط كالكبير في الوفاة >< إن ظهرت أمارة الحياة
أو خفيت وخلقه قد ظهرا >< فامنع صلاة وسواها اعتبرا
أو اختفى أيضاً ففيه لم يجب >< شيء وستر ثم دفن قد ندب
وأما الولد النازل بعد تمام أشهره فحكمه كالكبير من صلاة وغيرها وإن نزل ميتاً ولم يعلم له سبق حياة وإن لم يظهر خلقه ولا يسمى هذا سقطاً.
[فرع] اعلم أن المؤن كأجرة التغسيل وثمن الماء والكفن وأجرة الحفر والحمل في تركة الميت يبدأ به منها، لكن بعد الابتداء بحق تعلق بنفس تلك التركة كالزكاة التي وجبت فيها، والمرهون والجاني والمتعلق برقبته مال والمبيع إذا مات المشتري مفلساً، وأما الزوجة وخادمها سواء كان مملوكاً لها أو مستأجراً بالنفقة فتجهيزها على زوج غني في الفطرة وهو من يملك زيادة على كفاية يومه وليلته ما يصرفه في التجهيز ولو بما يرثه منها عليه نفقتهما بخلاف المستأجر بالأجرة، وبخلاف الفقير في الفطرة ومن لا تلزمه نفقتهما لنشوز أو صغر، وخرج بالزوج ابنه فلا يلزمه تجهيز زوجة أبيه وإن لزمه نفقتها في الحياة، ولا يجب للزوجة إلا ثوب واحد، ولا يجب الثاني والثالث من تركتها، نعم إن لم يقدر الزوج إلا على بعض ثوب وجب باقيه من تركتها ووجب ثان وثالث أيضاً لافتتاح باب الأخذ من التركة.
[(1/265)
فرع] فإذا مات شخص غمِّض لئلا يقبح منظره وشد لحياه بعصابة عريضة تربط فوق رأسه لئلا يبقى فمه منفتحاً ولينت مفاصله فيرد ساعده إلى عضده وساقه إلى فخذه وفخذه إلى أصابعه ثم تمد وتلين أصابعه تسهيلاً لغسله وتكفينه فإن في البدن بعد مفارقة الروح بقية حرارة، فإذا لينت المفاصل حينئذٍ لانت وإلا فلا يمكن تليينها بعد، ونزعت ثيابه التي مات فيها لأنه يسرع إليه الفساد، ثم ستر كله إن لم يكن محرماً بنسك بثوب خفيف ويجعل طرفاه تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف وثقل بطنه بغير مصحف كمرآة ونحوها من أنواع الحديد لئلا ينتفخ وقدر ذلك بنحو عشرين درهماً ورفع عن الأرض على سرير أو نحوه لئلا يتغير بنداوتها ووجه إلى القبلة كمحتضر وهو باضطجاع لجنب أيمن فإن تعسر فلجنب أيسر فإن تعسر وجه باستلقاء بأن يلقى على قفاه ووجهه وأخمصاه للقبلة بأن يرفع رأسه قليلاً، ويسن أن يتولى ذلك كله أرفق محارمه به فالرجل من الرجل والمرأة من المرأة بأسهل ما يمكنه، فإن تولاه الرجل من المرأة المحرم أو بالعكس جاز.
[فائدة] قال حسن العدوي نقلاً عن الشيخ الأمير: فإن ترك تغميض العينين عقب الموت جذب شخص عضديه وآخر إبهامي رجليه معاً فإنه يغلق بصره مجرب انتهى.
((1/266)
فصل): في بيان غسله (أقل الغسل تعميم بدنه بالماء) أي مرة لأنها الفرض في الحي والميت أولى بها، فلا يشترط تقدم إزالة نجس عنه، ومحل الاكتفاء بها حيث حصل الإنقاء وإلا وجب الإنقاء، ويسن الإيتار إن لم يحصل الإنقاء بوتر، ولا بد من كون غسله بفعلنا ولو كان كافراً أو غير مكلف فلا يكفي غرق ولا غسل الملائكة، ويكفي فعل الجن ولو غسل نفسه كرامة كفى كما وقع لسيدي أحمد البدوي أمدنا الله بمدده، ومثله ما لو غسله ميت آخر كرامة فإنه يكفي، ولا يكره لنحو جنب غسله، ولا يجب نية الغسل لأن القصد به النظافة وهي لا تتوقف على نية لكن تسن خروجاً من الخلاف فيقول الغاسل: نويت الغسل أداء عن هذا الميت أو استباحة الصلاة عليه بخلاف نية الوضوء فإنها واجبة.(1/267)
ولذلك يلغز ويقال لناشيء واجب ونيته سنة وشيء سنة ونيته واجبة، فغسل الميت واجب ونيته سنة ووضوؤه سنة ونيته واجبة، ومن تعذر غسله لفقد ماء أو غيره كما لو احترق وككونه مسموماً مثلاً وكان بحيث لو غسل لتهرى يمم، والأولى بالرجل في غسله الرجل، والأولى بالمرأة في غسلها المرأة، وله غسل حليلته من زوجة غير رجعية وأمة ما لم تكن مزوجة أو معتدة أو مستبرأة، ولزوجة غير رجعية غسل زوجها ولو نكحت غيره بأن تضع حملها عقب موته ثم تتزوج فلها أن تغسله وتستعين بزوجها لبقاء حق الزوجية بلا مس منها له ولا منه لها لئلا ينتقض وضوء الماس فيهما، والأولى بالرجل في غسله الأولى بالصلاة عليه درجة وهم رجال العصبة من النسب ثم الولاء ثم الإمام ثم نائبه ثم ذوو الأرحام، فإن اتحدوا في الدرجة قدم هنا بالأفقهية في الغسل بخلافه في الصلاة على الميت، فيقدم بالأسنية والأقربية فالأفقه في باب الغسل أولى هنا من الأسن والأقرب عكس ما في الصلاة، والأولى بالمرأة في غسلها قريباتها وأولاهن ذات محرمية وبعد القريبات ذات ولاء فأجنبية فزوج فرجال محارم، فإن تنازع مستويان أقرع بينهما، والصغير الذي لم يبلغ حد الشهوة يغسله الرجال والنساء ومثله الخنثى الكبير عند فقد المحرم، ويجب إيصال الماء إلى ما يظهر من فرج الثيب عند جلوسها على قدميها لقضاء حاجتها وما تحت قلفة الأقلف ويحرم ختنه وإن عصى بتأخيره أو تعذر غسل ما تحت قلفته بأن كان فيها نجاسة تتعذر إزالتها فيدفن بلا صلاة عليه كفاقد الطهورين على ما قاله الرملي، ولا يجوز أن ييمم لأن شرط التيمم إزالة النجاسة، وقال ابن حجر: ييمم للضرورة.(1/268)
قال الباجوري: وينبغي تقليده لأن في دفنه بلا صلاة عدم احترام للميت كما قاله الشيخ محمد الفضالي، ويكره في غير المحرم بنسك أخذ ظفره وشعره لأن أجزاء الميت محترمة، نعم لو تعذر غسله إلا بحلق شعر رأسه لتلبده بسبب صبغ أو نحوه كأن كان به فروح وجمدها بحيث لا يصل الماء إلى أصوله إلا بإزالته وجبت، وكذا لو تعذر غسل ما تحت ظفره إلا بقلمه ولا فرق في هذا بين المحرم وغيره وفديته على من فعل به ذلك ويردان إليه في الكفن ندباً وفي القبر وجوباً فيجب دفنهما معه.
((1/269)
وأكمله أن يغسل) أي الغاسل (سوأتيه) أي دبر الميت وقبله بخرقة ملفوفة على يساره (وأن يزيل القذر) أي الوسخ (من أنفه وأن يوضئه) قبل الغسل كالحي ثلاثاً ثلاثاً بمضمضة واستنشاق ويميل رأسه فيهما لئلا يصل الماء باطنه (وأن يدلك) بضم عين الفعل من باب قتل (بدنه بالسدر) أي ونحوه كصابون وأشنان ونحوهما قال في المصباح: وإذا أطلق السدر في الغسل فالمراد به الورق المطحون، قال الحجة في التفسير: السدر نوعان: أحدهما ينبت في الأرياف وهي البلاد التي لها أشجار وزروع فينتفع بورقه في الغسل وثمرته طيبة، والآخر ينبت في الصحراء ولا ينتفع بورقه في الغسل وثمرته عفصة اهـ. (وأن يصيب الماء عليه ثلاثاً) والسنة أن تكون الأولى بنحو سدر، والثانية مزيلة، والثالثة بماء قراح أي خالص فيها قليل من كافور بحيث لا يغير الماء لأن رائحته تطرد الهوام ويكره تركه، وخرج بقليله كثيره فقد يغير الماء تغييراً كثيراً إلا أن يكون صلباً فلا يضر مطلقاً ولو غير الماء لأنه مجاور، فهذه الغسلات الثلاث غسلة واحدة لأن العبرة إنما هي بالتي بالماء القراح، ويسن ثانية وثالثة كذلك فالمجموع تسع قائمة من ضرب ثلاث في ثلاث لأن الغسلات الثلاث مشغلة على ثلاث لكن العبرة بالثلاث التي بالماء القراح.(1/270)
والحاصل أن أدنى الكمال ثلاث وأكمله تسع وأوسطه خمس أو سبع، وحاصله أن أكمله أن يغسل بماء مالح لأن الماء العذب يسرع إليه البلى بارد لأنه يشد البدن لا لحاجة كبرد بالغاسل ووسخ فيسخن قليلاً في خلوة لا يدخلها إلا الغاسل ومن يعينه وولي الميت وهو أقرب الورثة، والأولى أن يكون الغسل تحت سقف لأنه أستر وأن يكون في قميص بال أي خلق بفتحتين وسخيف أي رقيق لقلة غزله لأنه أستر له وأليق على مرتفع كلوح لئلا يصيبه الرشاش، وأن يجلسه الغاسل على المرتفع برفق مائلاً قليلاً إلى ورائه ويضع يمينه على كتفه وإبهامه في نقرة قفاه لئلا تميل رأسه ويسند ظهره بركبته اليمنى ويمر يده اليسرى على بطنه بتحامل يسير مع التكرار ليخرج ما فيه من الفضلة، ثم يضجعه على قفاه ويغسل بخرقة ملفوفة على يساره سوأتيه ثم يلقيها ويلف خرقة أخرى على يده بعد غسلها بماء ونحو أسنان وينظف أسنانه ومنخريه وهي على وزن مسجد خرق الأنف ثم يوضئه كالحي بنية ثم يغسل رأسه فلحيته بنحو سدر ويسرح شعرهما إن تلبد بمشط واسع الأسنان برفق ويرد المنتتف من شعرهما إليه ندباً في الكفن أو القبر، وأما دفنه ولو في غير القبر فواجب كالساقط من الحي إذا مات عقبه، ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر ثم يحرفه إلى شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن مما يلي قفاه، ثم يحرفه إلى شقه الأيمن فيغسل الأيسر كذلك مستعيناً في ذلك كله بنحو سدر.
ثم يزيله بماء من فرقه بفتح الفاء وسكون الراء أي وسط رأسه إلى قدمه ثم يعمه كذلك بماء قراح لكن فيه قليل كافور فهذه الغسلات غسلة واحدة، ويندب أن لا ينظر الغاسل من غير عورته إلا قدر الحاجة أما عورته فيحرم النظر إليها، ويندب أن يغطى وجه الميت بخرقة من أول وضعه على المغتسل وأن لا يمس شيئاً من غير عورته إلا بخرقة، ولو خرج بعد الغسل نجس وجبت إزالته قاله القليوبي لصحة الصلاة عليه، ولا يجوز تيمم من على بدنه نجاسة تعذرت إزالتها ولا تجوز الصلاة عليه.
[(1/271)
تنبيه] قوله: يصب الماء إن كان من باب قتل فهو متعد وهوالمراد هنا ومعناه يريق وإن كان من باب ضرب فهو قاصر ومعناه يسكب.
(فصل): في الكفن (أقل الكفن ثوب يعمه) أي يستر جميع بدن الميت غير رأس المحرم ووجه المحرمة، قال الشرقاوي: والمعتمد وجوب ثلاث لفائف ذكراً كان أو أنثى إذا كفن من ماله ولم يوص بإسقاط الزائد على الواحد ولم يمنع منه غريم يستغرق دينه للتركة وإن كان في الورثة محجور عليه على المعتمد وإلا اقتصر على الثلاث لأن الزائد عليها سنة، فالإزار واللفافتان ليست واجبة ولا مندوبة اهـ. قال الباجوري: وإن كفن من غير ماله بأن كفن من مال من عليه نفقته أو من بيت المال أو من الموقوف على تجهيز الموتى أو من أغنياء المسلمين فالواجب ثوب واحد يستر جميع البدن إلا رأس المحرم ووجه المحرمة على المعتمد.(1/272)
والحاصل أن الكفن بالنسبة لحق الله تعالى فقط ثوب يستر العورة، وبالنسبة لحق الميت منسوباً بحق الله ما يستر بقية البدن، وبالنسبة لحق الميت فقط ثوب ثان وثالث. قال القليوبي: ويسن في الكفن الأبيض والملبوس أولى من الجديد ويجوز غيره مما يجوز لبسه حياً ولو من شعر أو وبر أو طين، ويحرم الحرير للرجل إن وجد غيره ومثله المزعفر، ويكره المعصفر أي المصبوغ بالعصفر ولو في بعضه وغيره الأبيض ولو للمرأة اهـ. قال الشوبري: ولو لم يوجد إلا الحرير ينبغي الاقتصار على واحد، ومحل حرمته في المزعفر إذا كان كله أو أكثره مزعفراً وإلا فلا حرمة، وكره مغالاة في الكفن أي مع حضور الوارث البالغ العاقل الرشيد وإلا حرمت اهـ قوله الشوبري. (وأكمله للرجل) ولو صغيراً (ثلاث لفائف) يعم كل منها البدن، قال الشوبري: أي هذا من حيث الاقتصار عليها فلا ينافي كونها واجبة في نفسها لأنه متى كفن الميت من ماله ولم يوص بإسقاط الثاني والثالث ولم يكن عليه دين يستغرق وجب له ثلاثة أثواب كل واحد منها يستر جميع البدن غير رأس المحرم ووجه المحرمة، قال القليوبي: ويبسط أولاً أطولها وأحسنها وأوسعها ثم فوقها التي تليها ثم التي تليها ثم يثني طرف العليا الأيسر وفوقه الأيمن وهكذا البقية كما يفعل الحي في قبائه ويجعل فوق كل منها حنوط اهـ. ويجوز رابع وخامس وهو قميص وعمامة إن لم يكن محرماً ورضي بالزيادة وارث أهل للتبرع وذلك بلا كراهة ما لم يكن في الورثة محجور عليه أو غائب وإلا حرمت الزيادة لكن الأولى الاقتصار على الثلاثة. ((1/273)
وللمرأة قميص) أي ساتر لجميع البدن قاله الشرقاوي: (وخمار) قال في المصباح: وهو ثوب تغطي به المرأة رأسها والجمع خمر مثل كتاب وكتب (وإزار) وهو ما يشد على الوسط ويؤتزر به فيما بين السرة والركبة (ولفافتان) رعاية لزيادة الستر وكما فعل بابنته صلى الله عليه وسلّم أم كلثوم رواه أبو داود، قال الشرقاوي: أي السنة في تكفين المرأة ذلك، وأما الواجب في حقها فقد تقدم أنه ثلاث لفائف، فالسنة في حق الرجل الاقتصار على الثلاث لفائف وهي في ذاتها واجبة، وأما المرأة فالسنة في حقها غير الثلاث لفائف وهي قميص وخمار وإزار فقد وافقت الرجل في الواجب وخالفته في المندوب، والزيادة على الخمسة مكروهة كراهة تنزيه في الرجل والمرأة للسرف اهـ. قال الزيادي: نعم يندب شد سادس على صدر المرأة فوق الأكفان لتجمعها عن انتشارها باضطراب ثدييها عند الحمل.
(فصل): في الصلاة عليه (أركان صلاة الجنازة سبعة) قال في المصباح: الجنازة هي بالفتح والكسر والفتح أفصح. وقال الأصمعي وابن الأعرابي بالكسر الميت نفسه وبالفتح السرير. وروى أبو عمر الزاهد عن ثعلبة عكس هذا فقال بالكسر السرير وبالفتح الميت نفسه وهي من جنزت الشيء أجنزه من باب ضرب سترته اهـ. وإنما يقال سرير إذا لم يكن عليه ميت وإن كان عليه ميت يقال له نعش، والسرير ينادي كل يوم بلسان حاله ويقول:
انظر إلي بعقلك >< أنا المهيأ لنقلك
أنا سرير المنايا >< كم سار مثلي بمثلك
((1/274)
الأول: النية) ويجب فيها القصد والتعيين لصلاة الجنازة ونية الفرضية وإن لم يتعرض للكفاية وغيرها، ولا يشترط تعيين الميت الحاضر باسمه ونحوه ولا معرفته بل يكفي تمييزه نوع تمييز فيقول: نويت الصلاة على هذا الميت أو على من صلى عليه الإمام أو على من حضر من أموات المسلمين فرضاً أو فرض كفاية، فإن عينه كزيد أو رجل ولم يشر إليه وأخطأ في تعيينه كأن بان عمراً أو امرأة لم تصح صلاته، فإن أشار إليه كأن قال: نويت الصلاة على زيد هذا فبان عمراً صحت صلاته تغليباً للإشارة ويلغو تعيينه، وخرج بالحاضر ما لو صلى على غائب، فإن نوى على العموم كأن قال: نويت الصلاة على من تصح الصلاة عليه من أموات المسلمين لم يشترط التعيين، وكذا لو أراد الصلاة على من صلى عليه الإمام أو على من غسل وكفن في هذا اليوم، وإن أراد غائباً بخصوصه فلا بد من تعيينه، والمراد بالغائب الغائب عن البلد ولو خارج السور قريباً منه، قال شيخ الإسلام في فتح الوهاب: وتصح على غائب عن البلد ولو دون مسافة القصر وفي غير جهة القبلة والمصلى مستقبلها لأنه صلى الله عليه وسلّم أخبرهم بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه ثم خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه وكبر أربعاً وذلك في رجب سنة تسع، أما الحاضر بالبلد فلا يصلي عليه إلا من حضر، وتصح الصلاة على القبر أيضاً إذا كان قبر غير نبي ويسقط الفرض عن الحاضرين إذا علموا بصلاة غيرهم. ((1/275)
الثاني: أربع تكبيرات) أي لأنه الذي استقر عليه فعله صلى الله عليه وسلّم في صلاته على النجاشي وإلا فكان قبلها يكبر على الميت خمس أو ست أو سبع أو ثمان أي منها تكبيرة الإحرام فالكل ركن واحد، فلو نقص عنها ابتداء بأن أحرم بها بنية النقض لم تنعقد أو انتهاء بطلت، ولو زاد على الأربع ولو عمداً لم تبطل لأنها ذكر وهي لا تبطل به وإن اعتقد أن الزائد أركان نعم إن وإلى الرفع فيه بطلت، وكذا لو زاد عليها متعمداً معتقداً البطلان به، أما لو زاد إمامه عليها فلا تسن له متابعته في الزائد لعدم سنه للإمام بل يسلم أو ينتظره ليسلم معه وهو أفضل لتأكيد المتابعة فلو تابعه فيه لم تبطل، ويجب قرن النية بالتكبيرة الأولى التي هي تكبيرة الإحرام، ولا يجب على الإمام نية الإمامة فإن نواها حصل له الثواب وإلا فلا، ولا بد من نية الاقتداء إن كان مقتدياً، ولو نوى إمام ميتاً حاضراً أو غائباً ونوى المأموم ميتاً آخر كذلك جاز لأن اختلاف نيتهما لا يضر، ولو تخلف المأموم عن إمامه بتكبيرة بل بتكبيرتين، قال شيخ الإسلام في فتح الوهاب: فلو كبر إمامه أخرى قبل قراءته للفاتحة سواء شرع فيها أم لا تابعه في تكبيره وسقطت القراءة عنه وتدارك الباقي من تكبير وذكر بعد سلام إمامه كما في غيرها من الصلوات، ويسن رفع يديه في تكبيراتها حذو منكبيه ويضع يديه بعد كل تكبيرة تحت صدره كغيرها من الصلوات. (الثالث: القيام على القادر) أي ولو صبياً وامرأة مع رجال وإن وقعت لهما نافلة رعاية لصورة الفرض، فإن عجز عن القيام قعد،فإن عجز عنه اضطجع، فإن عجز عنه استلقى، فإن عجز عن ذلك أومأ كما في غيرها. ((1/276)
الرابع: قراءة الفاتحة) أو بدلها عند العجز عنها فلا تتعين بعد الأولى ولذلك لم يقيدها المصنف ويجوز إخلاء الأولى عنها ويضمها للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الثانية أو للدعاء للميت بعد الثالثة أو يأتي بها بعد الرابعة لكن الأفضل بعد الأولى، أما لو شرع في الفاتحة عقبها فلا يجوز له قطعها وتأخيرها لما بعدها، وكذا لا يجوز أن يقرأ بعضها في ركن وبعضها في ركن آخر لأن هذه الخصلة لم تثبت ويقرؤها سراً وإن صلى ليلاً، لأنها وردت كذلك، ويسن التعوذ قبلها والتأمين بعدها ولا يسن دعاء الافتتاح ولا السورة لأن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف وإن صلى على قبر أو غائب على المعتمد. (الخامس: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الثانية) أي وجوباً فلا تجزىء بعد غيرها للاتباع، قال في شرح المنهج لفعل السلف والخلف: وتسن الصلاة على الآل فيها والدعاء للمؤمنين والمؤمنات عقبها والحمد قبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم اهـ. قال الشرقاوي: والأفضل أن يقول الحمد لله رب العالمين وخرج بالصلاة على الآل السلام عليهم فلا يسن على المعتمد انتهى وأقل الصلاة اللهم صل على سيدنا محمد، وأكملها ما بعد التشهد الأخير وهو اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. ((1/277)
السادس: الدعاء للميت بعد الثالثة) أي وجوباً فلا تجزىء بعد غيرها ولا بد أن يكون بأخروي كاللهم الطف به أو لطف الله به لأن ذلك ينفعه بفك روحه في الآخرة، بخلاف نحو: اللهم احفظ تركته فإنه لا يكفي، ومن المسنون: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، ثم يقول: اللهم إن هذا عبدك وابن عبدك إلى آخر الدعاء المشهور، لكن محل الإتيان به في البالغ ولو مجنوناً بلغ ودام جنونه إلى موته، أما الصغير فيقول فيه مع الدعاء الأول: اللهم اجعله فرطاً لأبويه وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً وشفيعاً وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره لأن ذلك مناسب للحال، وإنما كفى هذا الدعاء للطفل مع قولهم إنه لا بد في الدعاء للميت أن يخص به لثبوت النص في هذا بخصوصه وهو قوله صلى الله عليه وسلّم والسقط يصلي عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة قاله الشرقاوي، ومثله قول الباجوري، ويكفي في الطفل الدعاء لوالديه نحو: اللهم اجعله لوالديه فرطاً إلى آخره وثبوت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلّم: والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة، لكن قال عبدالعزيز في فتح المعين نقلاً عن شيخه ابن حجر حيث قال: ليس قوله اللهم اجعله فرطاً إلى آخره مغنياً عن الدعاء للطفل بخصوصه لأنه دعاء باللازم وهو لا يكفي لأنه إذا لم يكف الدعاء بالعموم الشامل لكل فرد فأولى هذا انتهى قوله لأنه دعاء باللازم أي لأن اللهم اجعله إلى آخره دعاء ناشىء عن الدعاء المتعلق بالطفل، وإذا كان كذلك فلا بد من ملزومه وهو الدعاء له بخصوصه، ومحل ذلك في الوالدين الحيين المسلمين فإن كانا ميتين أو كافرين أو كان أحدهما كذلك لم يدع بذلك بل يأتي بما يقتضيه الحال لأن العظة بمعنى تذكير العواقب وهذا لا يظهر(1/278)
بعد الموت، ومعنى الفرط بفتحتين السابق المهيىء لمصالحهما في الآخرة، ومعنى السلف السابق سواء كان مهيأ للمصالح أم لا، ومعنى الذخر بالضم المعد والمهيأ لوقت الحاجة إليه، فشبه به الصغير لكونه مدخراً أمامهما لوقت حاجتهما له، ومعنى الاعتبار أي ليكونا يعتبران بموته وفقده حتى يحملهما ذلك على العمل الصالح، ومعنى أفرغ الصبر أي أنزله وصبه، ومعنى لا تفتنهما لا تمتحنهما فيقول إذا كانا ميتين: اللهم اغفر له ولوالديه وارض عنه وعنهما رضا تجل به عليهم جميع رضوانك مثلاً، أو: اللهم ارحمه وارحم والديه رحمة تنير لهم المضجع في قبورهم، ويقول فيمن كانا كافرين والصغير في يد مسلم بأن يسبيه: اللهم اغفر له ولسابيه ومربيه، وفيمن كان أحد أبويه مسلماً. اللهم اجعله فرطاً لأصله المسلم، وفي ولد الزنى: اللهم اجعله فرطاً لأمه، ولو تردد في بلوغ المراهق فالأحوط أن يدعو بهذا الدعاء ويخصه بالدعاء بعد الثالثة ويكفي أن يدعو له بالرحمة مثلاً والسقط إذا صلى عليه فيدعي لوالديه بالعافية والرحمة ولو دعا له بخصوصه كفى عملاً بعموم الحديث وهو خبر أبي داود وابن حبان: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" أي محضوا وخصصوا.
[فرع] نقل عن شرح البهجة الكبير أنه قال: وفي مسلم عن عوفبن مالك قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلّم على جنازة فقال: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وفتنته ومن عذاب النار" وهذا أصح دعاء الجنازة كما في الروضة عن الحفاظ انتهى.
[(1/279)
خاتمة] قال القليوبي: ويقول بعد الرابعة: اللهم لا تحرمنا أجره أي أجر الصلاة عليه ولا تضلنا بعده واغفر لنا وله وهذا ليس فرضاً انتهى. أي لأنه لا يجب بعد الرابعة شيء فلو سلم عقبها جاز، ويسن تطويلها بقدر الثلاثة قبلها، ونقل عن بعضهم أنه يقرأ فيها ثلاث آيات من سورة غافر وهو قوله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذٍ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم} ((40) غافر:7 - 9) قال البابلي: نعم وردت هذه في بعض الأحاديث. (السابع: السلام) أي كسائر الصلوات في كيفيته وتعدده وفي عدم استحباب زيادة: وبركاته.
((1/280)
فصل): في الدفن وما يذكر معه (أقل الدفن) أي القبر (حفرة تكتم) من باب قتل (رائحته) أي الميت (وتحرسه) من باب قتل أي تحفظه (من السباع) جمع سبع مثل رجل ورجال وهو يقع على كل ما له ناب يعدو به ويفترس أي والواجب من القبر ما يمنع ظهور رائحة الميت فتؤذي الأحياء ويمنع نبش السبع له فيأكله، وخرج بالحفرة ما لو وضع الميت على وجه الأرض أو بني على الأرض حيث لم يتعذر الحفر وإلا كفى، فلو مات في سفينة انتظروا وصولها إلى الساحل ليدفن في البر إن قرب، وإلا فالمشهور كما نص عليه الإمام الشافعي أن يشد بين لوحين لئلا ينتفخ ويلقى في البحر ليصل إلى الساحل، وإن كان أهله كفاراً فقد يجده مسلم فيدفنه إلى القبلة فإن ألقوه فيه بدون لوحين وثقلوه بنحو حجر لم يأثموا، ويسن أن يستر القبر عند الدفن بثوب ونحوه لأنه ربما ينكشف من الميت شيء فيظهر ما يطلب إخفاؤه رجلاً كان الميت أو امرأة وهو فيها آكد، والسنة الدفن في غير الليل ووقت كراهة الصلاة وجاز بلا كراهة دفنه ليلاً مطلقاً أي سواء قصده وطلبه أم لا، ووقت كراهة الصلاة إذا لم يقصد وإلا فلا يجوز. قال سليمان البجيرمي: قوله: فلا يجوز المعتمد الكراهة تنزيهاً وهذا في غير حرم مكة أما فيه فلا حرمة ولا كراهة قياساً على الصلاة فيه. (وأكمله قامة وبسطة) بأن يقوم رجل معتدل باسطاً يديه مرتفعتين.(1/281)
قال البجيرمي: قوله باسطاً يديه أي غير قابض لأصابعهما وذلك مقدار أربعة أذرع ونصف بذراع اليد، ويسن أن يوضع الميت في القبر على يمينه كما في الاضطجاع عند النوم، فلو وضع على يساره كره ولم ينبش كما قاله المحلي (ويوضع خده) أي الأيمن بعد إزالة الكفن قاله البجيرمي (على التراب) أي يسن أن يفضي بخده إلى الأرض أو إلى نحو اللبنة لأنه أبلغ في إظهار الذل، قال البجيرمي ويكره أن يجعل له فراش ومخدة بكسر الميم وصندوق لم يحتج إليه لأن في ذلك إضاعة المال، أما إذا احتيج إلى صندوق لنداوة الأرض أو نحوها كرخاوتها فلا يكره ولا تنفذ وصيته به إلا حينئذٍ، ويسن أن لا يسند وجه الميت ورجلاه إلى جانب القبر وظهره بنحو لبنة بكسر الباء وهو ما يعمل من الطين وجمعه لبن بحذف التاء أو حجر لئلا ينكب على وجهه أو يستلقي على ظهره، ولو كان بأرض اللحد أو الشق نجاسة فقال الشوبري والوجه أي القوي الظاهر يجوز وضع الميت عليها مطلقاً ثم قال: ويظهر صحة الصلاة عليه في هذه الحالة، واختار الباجوري التفصيل فقال: إن كانت النجاسة من صديد الموتى كما في المقبرة المنبوشة فيجوز وضعه عليها أو من غيره كبول أو غائط فلا يجوز. (ويجب توجيهه إلى القبلة) تنزيلاً له منزلة المصلي، ويؤخذ من ذلك عدم وجوب الاستقبال في الكافر فيجوز استقباله واستدباره، نعم الكافرة التي في بطنها جنين مسلم نفخت فيه الروح ولم ترجُ حياته يجب استدبارها للقبلة ليكون الجنين مستقبل القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه وتدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار لئلا يدفن المسلم في مقابر الكفار وعكسه، فإن لم تنفخ فيه الروح لم يجب الاستدبار في أمه لأنه لا يجب استقباله حينئذٍ، نعم استقباله أولى فإن رجيت حياته لم يجز دفنه معها بل يجب شق جوفها وإخراجه منه ولو مسلمة.
((1/282)
فصل): فيما يوجب نبش الميت (ينبش الميت) أي يكشف القبر الذي فيه الميت (لأربع خصال) بل لأكثر من ذلك أحدها (للغسل) أي أو للتيمم فيجب نبشه تداركاً للطهر الواجب (إذا لم يتغير) أي ما لم ينتن بخلاف ما لو دفن بلا كفن أو في حرير فلا ينبش. (و) ثانيها: (لتوجيهه إلى القبلة) أي فيجب نبشه إذا لم يتغير أيضاً ليتوجه إلى القبلة قال الشوبري فرع: إذا دفن مستلقياً ووجهه للقبلة بأن كانت رجلاه إليها ونبش ما لم يتغير وهو المعتمد خلافاً لما في متن الروض وشرحه انتهى. (و) ثالثها: (للمال إذا دفن معه) أي أو وقع فيه مال خاتم أو غيره فيجب نبشه وإن تغير لأخذه سواء أطلبه مالكه أم لا، ومثله ما لو دفن في مغصوب من أرض أو ثوب ووجد ما يدفن أو يكفن فيه الميت فيجب نبشه وإن تغير ليرد كل لصاحبه ما لم يرض ببقائه أي إذا طلب مالكه وإلا فلا، ولو بلع مالاً لنفسه ومات لم ينبش أو مال غيره وطلبه مالكه نبش وشق جوفه وأخرجه منه ورد لصاحبه إلا إذا ضمنه الورثة فلا يشق حينئذٍ على المعتمد، والفرق بين مسألة الابتلاع والوقوع أن الابتلاع في شقه هتك حرمة الميت ولا كذلك الوقوع. (و) رابعها: (للمرأة إذا دفن جنينها معها وأمكنت حياته) بأن يكون له ستة أشهر فأكثر فيجب النبش تداركاً للواجب لأنه يجب شق جوفها قبل الدفن، فإن لم ترج حياته بقول القوابل حرم الشق لكن تخرج من القبر ويؤخر الدفن حتى يموت، ومن الغلط أن يقال يوضع نحو حجر على بطنها ليموت فإن فيه قتلاً للجنين، وينبش أيضاً إن لحق الأرض بعد الدفن سيل أو نداوة لينقل، وينبش أيضاً إذا احتيج لمشاهدته للتعليق على صفة فيه بأن قال: إن ولدت ذكراً أنت طالق طلقة أو أنثى فطلقتين فولدت ميتاً ودفن ولم يعلم أو لكون القائف وهو من يتبع الأثر يلحقه بأحد المتنازعين فيه، وينبش أيضاً الكافر إذا دفن بالحرم.
((1/283)
فصل): في أنواع الاستعانات وأحكامها (الاستعانات أربع خصال) بل أكثر فالسين والتاء في قوله الاستعانات زائدتان للتأكيد أي الإعانات أو للصيرورة أي صيرورتها إعانات وليستا للطلب لأنه يندب تركها مطلقاً سواء طلبها أم لا، حتى لو أعانه غيره في صب الماء عليه عند الوضوء مثلاً وهو ساكت متمكن من منعه ومن فعله بنفسه كان خلاف الأولى وهو من العون بمعنى الظهير على الأمر أحدها (مباحة و) ثانيها (خلاف الأولى و) ثالثها (مكروهة و) رابعها (واجبة فالمباحة هي تقريب الماء) أي إحضاره فلا بأس بها ولا يقال إنها خلاف الأولى لثبوتها عنه عليه السلام في مواطن كثيرة (وخلاف الأولى هي صب الماء على نحو المتوضىء) ولو من غير أهل العبادة وبلا طلب، قال القليوبي: لأن الإعانة ترفه أي تنعم وتزين لا يليق بالمتعبد هذا في حقنا لا في حقه صلى الله عليه وسلّم لأنه كان يفعل ذلك لبيان الجواز، ولذا لو قصد بها الشخص تعلم المعين لم تكن خلاف الأولى (والمكروهة هي لمن يغسل أعضاءه) أي ولو كان المعين أمرد وهو منْ بَطُؤَ نباتُ شعر وجهه والحرمة من وجه آخر (والواجبة هي للمريض عند العجز) أي فيجب الإعانة على العاجز ولو بأجرة مثل إن فضلت عما يعتبر في زكاة الفطر والأصلي بالتيمم وأعاد، ومثله من لم يقدر على القيام في الصلاة إلا بمعين وبقي من الإعانة شيئان سنة وهي إعانة المنفرد عن الصف بموافقته في موضعه مثلاً، وحرام وهي الإعانة على فعل الحرام.
((1/284)
فصل): فيما تجب الزكاة فيه. الأموال التي تجب فيها الزكاة ستة أنواع: أحدها (النعم) بفتح العين وقد تسكن اسم جمع لا واحد له من لفظه يذكر ويؤنث وهي إبل وبقر العراب والجواميس وغنم تجب الزكاة فيها بشروط أربعة: الأول كونها نعماً فلا زكاة في غيرها من الحيوانات كخيل ورقيق ومتولد بين زكوي وغيره. والثاني كونها نصاباً. وأوله في إبل خمس ففي كل خمس إلى عشرين شاة ولو ذكراً ويجزىء عنها بعير الزكاة وفي خمس وعشرين بنت مخاض لها سنة فإن عدم بنت مخاض حال الإخراج، وإن وجدها حال الوجوب أو تغيبت فابن لبون أو حق، وفي ست وثلاثين بنت لبون لها سنتان، وفي ست وأربعين حقة لها ثلاث وفي إحدى وستين جذعة لها أربع والجذعة آخر أسنان الزكاة وهو نهاية الحسن دراً ونسلاً وقوة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وبتسع ثم كل عشر يتغير الواجب ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وأولها في بقر ثلاثون ففي كل ثلاثين تبيع له سنة، وفي كل أربعين مسنة لها سنتان. وأولها في غنم أربعون ففيها شاة وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث، وفي أربعمائة أربع، ثم في كل مائة شاة والشاة جذعة ضأن لها سنة أو ثنية معز لها سنتان من غنم البلد أو مثلها. والثالث: مضى الحول في ملكه ولكن لنتاج نصاب ملكه بسبب ملك النصاب حول النصاب وإن ماتت الأمهات. والرابع: أسامة مالك لها كل الحول لكن لو علفها قدراً تعيش بدونه بلا ضرر بين ولم يقصد به قطع سوم لم يضر، ولا زكاة في عوامل في حرث أو نحوه لاقتنائها للاستعمال بأن يستعملها القدر الذي لو علفها فيه سقطت الزكاة لا للنماء كثياب البدن ومتاع الدار. ((1/285)
و) النوع الثاني: (النقدان) وهما الذهب والفضة ولو غير مضروبين ولا زكاة في ذهب حتى يبلغ عشرين ديناراً بوزن مكة تحديداً يقيناً والدينار وهو اثنتان وسبعون حبة شعير معتدلة لا قشر عليها وقطع من طرفيها ما دق وطال، ولا في فضة حتى تبلغ مائتي درهم وهي ثمانية وعشرون ريالاً ونصف تقريباً هذا إن كان في كل ريال درهمان من النحاس، فإن كان فيه درهم فقط كانت خمسة وعشرين ريالاً ففي هذين النصابين ربع عشرهما ففي عشرين ديناراً نصف دينار، وتجب الزكاة في حلي محرم كحلي ذهب أو فضة للرجل، ومنه الدراهم والدنانير المنقوشة المجعولة في القلادة التي تعلق على عنق النساء والذهب المخيط على القماش فهو حرام وتجب زكاتها، وكذا ما يغلق على رؤوس الصبيان، نعم عصائب الذهب والفضة لا تحرم فلا زكاة فيها لأنها للزينة، وأما المعراة من الدراهم والدنانير بحيث تبطل بها المعاملة فإنها مباحة، وإيجاب الزكاة مع الإباحة ممتنع ومما لا يحرم أيضاً سوار بكسر السين وهو شيء يعمل في اليد، وخلخال بفتح الخاء وهو شيء يعمل في الرجل قاله شيخنا أحمد النحراوي للبس امرأة وصبي أو لإعارتهما أو إجارتهما لمن له استعمالهما أو لا بقصد شيء.(1/286)
ومما يحرم أيضاً ولو على امرأة أصبع من ذهب أو فضة فاليد بطريق الأولى، وتجب الزكاة أيضاً في حلي مكروه كضبة صغيرة للزينة حلياً كان أو غيره لا حلي مباح علمه ولم ينو كنزه كالحلي من ذلك للبس المرأة فلا زكاة فيه إلا إن أسرفت كخلخال وزنه مائتا مثقال مثلاً فلا يحل لها وتجب زكاته، ويحل للرجل الخاتم من الفضة بل لبسه سنة فخرج بالعلم ما لو ورث حلياً مباحاً ولم يعلمه حتى مضى عام فتجب زكاته لأنه لم ينو إمساكه لاستعمال مباح وخرج بعدم نية الكنز ما لو نوى كنزه فتجب زكاته أيضاً، ولو انكسر الحلي لم تجب زكاته إن قصد إصلاحه وأمكن بلا صوغ بأن أمكن بالحام لبقاء صورته وقصد إصلاحه، فإن لم يقصد إصلاحه بل قصد جعله سبيكة أو دراهم أو كنزه أو لم يقصد شيئاً أو أحوج انكساره إلى صوغ وجبت زكاته وينعقد حوله من حين انكساره لأنه غير مستعمل ولا معد للاستعمال، قال الزيادي: ولو وجبت زكاة في حلي فاختلفت قيمته وزنته كسوار قيمته ثلاثمائة وزنته مائتان اعتبرت القيمة على الأصح فيخير بين إخراج ربع عشر الحلي مشاعاً يسلمه للفقراء وبين إخراج خمسة دراهم مصوغة قيمتها سبعة ونصف، ولا يجوز أن يكسره ويخرج منه خمسة دراهم لأن فيه ضرراً عليه وعلى المستحقين، هذا محله إذا كان الحلي مباحاً بأن كان مكسوراً ولم ينو إصلاحه، أما لو كان محرماً لعينه كالأواني فلا أثر لزيادة القيمة أي فالعبرة بوزنه لا بقيمته فيخرج خمسة دراهم إما من غيره أو منه أو يكسره أو يدفع ربع عشره مشاعاً اهـ. ((1/287)
و) النوع الثالث: (المعشرات) وهي النوابت الشاملة للشجر والزرع ولا زكاة في شيء إلا في رطب وعنب وما صلح للاقتيات من الحبوب كقمح وشعير وأرز وعدس وذرة وحمص وباقلاء وهو الفول ودخن وهو نوع من الذرة إلا أنه أصغر حباً منها وجلبان بضم الجيم ويقال له الهرطمان بضم الهاء والطاء وماش وهو نوع منه وإن كان ما يصلح للاقتيات يؤكل نادراً كثمرة البلوط المسماة بثمرة الفؤاد وهي تشبه البلح، قال في المصباح: والبلوط مثل تنور ثمر شجر وقد يؤكل وربما دبغ بقشره انتهى. وكالسلت وهو ضرب من شعير ليس فيه قشر قاله الجوهري. وقال ابن فارس: ضرب منه رقيق القشر صغار الحب. وقال الأزهري: حب بين الحنطة والشعير ولا قشر له وكالعلس بفتحتين نوع من الحنطة تكون في القشرة منه حبتان وقد يكون واحدة أو ثلاث. وقال بعضهم: هو حبة سوداء تؤكل في الجدب، وقيل هو مثل البر إلا أنه عسر الإنقاء، وقيل هو العدس فتجب الزكاة في جميع ذلك إذا وجدت شروطها بخلاف ما يؤكل تنعماً كالسكر والتين والمشمش والتفاح والبن، وما يؤكل تداوياً كالمصطكي والفلفل بضم الفاء وهو من الأبزار قاله في المصباح وواجبها العشر إن سقيت بلا مؤنة كثيرة وإلا فنصفه، وتجب زكاة النابت بمعنى أنه ينعقد سبب وجوبها ببدو صلاح الثمر واشتداد الحب على المالك لا على المستحق ولا في مال الزكاة لأن حق المستحق إنما هو في الخالص الجاف.(1/288)
وشرط وجوبها أن تبلغ خمسة أوسق تحديداً وهي ألف وستمائة رطل بغدادية إذ الوسق ستون صاعاً فمجموع الخمسة ثلاثمائة صاع والصاع أربعة أمداد فيكون النصاب ألف مد ومائتي مد، وتمام الملك وإن لم يباشر المالك ولا نائبه زراعته كأن وقع الحب بنفسه من يد مالكه عند حمل الغلة مثلاً أو بإلقاء نحو طير كأن وقعت العصافير على السنابل فتناثر الحب ونبت فتجب الزكاة في ذلك إن بلغ نصاباً، وخرج بذلك الملك ما نبت من حب حمله السيل من دار الحرب إلى أرضنا غير المملوكة لأحد فلا زكاة فيه لأنه فيء والمالك غير معين، أما لو كانت مملوكة فيملكه من نبت بأرضه، ولو حمل الهواء أو الماء حباً مملوكاً فنبت بأرض فإن أعرض عنه مالكه فهو لصاحب الأرض وعليه زكاته أو لم يعرض عنه فهو له وعليه زكاته وأجرة مثل الأرض لصاحبها، ويضم نوع من النابت إلى نوع آخر كعنب مصري وشامي بخلاف اختلاف الجنس كبر بشعير، ويخرج الزكاة عند اختلاف النوع من كل الأنواع بقسطه إن تيسر، فإن عسر لكثرة الأنواع وقلة مقدار كل منها أخرج الوسط لا أعلاها ولا أدناها وزرعا العام وهو اثنا عشر شهراً تضمان إن وقع حصادهما في عام واحد بأن يكون بين حصاد الأول والثاني أقل من اثني عشر شهراً عربية، وإن وقع زرعهما في عامين بأن كان بين زرع الأول وزرع الثاني اثنا عشر شهراً وبين حصاد الثاني والأول أقل من ذلك، والمراد بوقوع حصادهما في عام أن يبلغا أوان الحصاد وإن لم يقع بالفعل، ومثل الزرعين الثمران وقع الاطلاعان في عام وأن يتحد قطعهما في عام واحد، فالعبرة في الحبوب بالحصاد بالقوة وفي الثمار بالاطلاع، نعم لو أثمر نخل في عام مرتين فلا يضم بل هو كثمرة عامين إلحاقاً للنادر بالأعم الأغلب وكالنخل كل ما شأنه أن لا يثمر في العام إلا مرة واحدة.
[(1/289)
فرع] قال أحمد السحيمي: وأفضل أنواع الكسب الزراعة ثم الصناعة ثم التجارة وكان كل نبي له حرفة وكسب فكان آدم زراعاً وأول صنعة عملت على وجه الأرض الحرث وأول من حرث آدم ثم أدركه التعب في آخر النهار فقال لحواء: ازرعي ما قد بقي فصار زرعها شعيراً فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه لما أطاعت العدو والمشير وهو الشيطان بدلت لها القمح بالشعير، وقيل لما أهبط آدم في الهند اشتد به الجوع فجاءه جبريل بثورين أحمرين وثلاث حبات من الحنطة وقال له: لك حبتان ولحواء حبة واحدة فصار للذكر مثل حظ الأنثيين كل حبة وزنها مائة ألف درهم وثمانمائة درهم فزرع وحصد وطحن وخبز في أربع ساعات. وكان إدريس خياطاً وكان نوح نجاراً أي صناعاً وكذا زكريا، وكان إبراهيم بزازاً أي يبيع أنواع الملبوس، وكان موسى كاتباً يكتب التوراة بيده وكان أجير شعيب، وكان داود حداداً، وكان سليمان يضفر الخوص وهو ورق النخل، وكان نبينا يبيع ويشتري بنقد ونسيئة ويحمل ما اشتراه إلى بيته فيقول بائعه له أعطني أحمله فيقول: صاحب الشيء أولى بحمله لكن الشراء بعد البعثة أغلب وبعد الهجرة لم يحفظ البيع، وأما الشراء فكثير وآجر أي بأن أجر صلى الله عليه وسلّم ملكه على الغير واستأجر أي بأن استأجر على شخص ليخيط ثوبه صلى الله عليه وسلّم مثلاً، والاستئجار أغلب وأجر نفسه قبل النبوة لرعي الغنم ولخديجة للاتجار، وشارك ووكل وتوكل والتوكيل أكثر وأهدى له وقبل وعوض ووهب له وقبل واستعار انتهى.
[(1/290)
فائدة] نقل الشرقاوي عن الأجهوري أن الحبة من القمح حين نزلت من الجنة كانت قدر بيضة النعامة وألين من الزبد بضم الزاي وسكون الياء وهو ما يستخرج بوضع الماء والتحريك من لبن البقر والغنم وأطيب رائحة من المسك، ثم صغرت في زمان فرعون فصارت الحبة قدر بيضة الدجاجة، ثم صغرت حين قتل يحيىبن زكريا فصارت قدر بيضة الحمامة، ثم صغرت فصارت قدر البندقة، ثم قدر الحمصة، ثم صارت إلى ما هي عليه الآن، فنسأل الله تعالى أن لا تصغر عنه اهـ. قال القليوبي في شرح المعراج فائدة، نادرة: كان وزن حبة الحنطة في الجنة مائتي ألف درهم وثمانمائة درهم اهـ. (و) النوع الرابع: (أموال التجارة) وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح بنية تجارة عند كل تصرف. والحاصل أن شرط وجوب زكاتها ستة. أحدها: كون المال مملوكاً بمعاوضة كشراء سواء كان بعرض أم نقد أم دين حال أم مؤجل، وكما لو صالح عليه عن دم أو أجر به نفسه سواء كانت المعاوضة غير محضة وهي التي لا تفسد بفساد مقابلها كالنكاح والخلع أو محضة وهي التي تفسد بذلك كالبيع والشراء والهبة بثواب، وخرج بذلك ما ملك بغير معاوضة كإرث فإذا ترك لورثته عروض تجارة لم تجب عليهم زكاتها وهبة بلا ثواب واختطاب. ثانيها: وجود نية التجارة حال المعاوضة قد يقصد به التجارة وقد يقصد به غيرها فلا بد من نية مميزة وإن لم يجددها في كل تصرف بعد فراغ الشراء مثلاً برأس المال. ثالثها: أن لا يقصد بالمال القنية أي الإمساك للانتفاع فإن قصدها به انقطع الحول فيحتاج إلى تجديد نية مقرونة بتصرف، وكذا إن قصدها ببعضه وإن لم يعينه ويرجع في تعيينه إليه.(1/291)
ورابعها: مضى حول من وقت الملك نعم إن ملكه بعين نقد نصاب أو دونه وفي ملكه باقيه كأن اشترى بعشرين مثقالاً أو بعين عشرة وفي ملكه عشرة أخرى بني على حول النقد، بخلاف ما لو اشتراه بنصاب في الذمة ثم نقده في المجلس فإنه ينقطع حول النقد ويبتدىء حول التجارة من حين الشراء، والفرق بين المسألتين أن النقد لم يتعين صرفه للشراء في الثانية بخلاف الأولى. خامسها: أن لا يرد جميع مال التجارة في أثناء الحول إلى نقد من جنس ما يقوم به وهو دون نصاب، فإن رد إلى ذلك ثم اشترى به سلعة بكسر السين أي بضاعة للتجارة ابتدأ حولها من حين شرائها لتحقق نقص النصاب بالتنصيص بخلافه قبله فإنه مظنون، أما لو ردّ بعض المال إلى ما ذكر أو باعه بعرض أو بنقد لا يقوم به آخر الحول كأن باعه بدراهم والحال يقتضي التقويم بدنانير أو بنقد يقوم به وهو نصاب فحوله باق في جميع ذلك. سادسها: أن تبلغ قيمته آخر الحول نصاباً أو دونه ومعه ما يكمل به كما لو كان معه مائة درهم فابتاع أي فاشترى بخمسين منها عرضاً للتجارة وبقي في ملكه خمسون وبلغت قيمة العرض آخر الحول مائة وخمسين فيضم لما عنده وتجب زكاة الجميع.
((1/292)
واجبها) أي أموال التجارة (ربع عشر قيمة عروض التجارة) فإن ملكت بنقد ولو دون نصاب قومت به ولا بد في التقويم من عدلين فلو لم يبلغ نصاباً لم تجب الزكاة وإن بلغ بغيره وإن ملكت بغيره كعرض ونكاح وخلع فبغالب نقد البلد صورة ذلك: شخص زوج أمته أو خالع زوجته بعرض نوى به التجارة، وكذا لو تزوجت الحرة بعرض نوت به ذلك، ومثل ذلك ما لو ملكت عروض التجارة بصلح عن دم كأن جنى عليه شخص فوجب على ذلك الشخص قصاص فصالح المجني عليه وعفا بالدية بنية التجارة كأن قال: عفوت عنك بالدية فكانت الدية بدلاً عن القصاص، فإن لم يكن بالبلد نقد فبغالب نقد أقرب البلاد إليه، فإن غلب نقدان على التساوي تخير بينهما إن بلغت نصاباً بكل منهما، وإن بلغت نصاباً بأحدهما دون الآخر قومت لتحقق تمام النصاب به، وإن ملكت بنقد وغيره قوم ما قابل النقد به وما قابل غيره بغالب نقد البلد، ويعرف ما قابل غير نقد بتقويمه ومعرفة نسبته للنقد حال المعاوضة، فإن اختلف الغالب وقت الشراء وآخر الحول اعتبر الثاني لأنه المعتبر في زكاة التجارة، وقولهم العبرة بما اشترى به وإن أبطله السلطان أو كان الغالب غيره محله فيما اشترى بالنقد لا بعرض كما هنا، ويضم ربح حاصل في أثناء الحول لأصل في الحول إن لم ينض بما يقوم به بأن لم ينض أصلاً أو نض بغير ما يقوم به، فلو اشترى عرضا قيمته مائتا درهم فصارت قيمته آخر الحول ثلاثمائة زكاها، أما إذا نض بما يقوم به فلا يضم إلى الأصل بل يزكى الأصل عند حوله والريح عند حوله فيفرد كل بحول، ومعنى نض صار ناضاً دراهم ودنانير، وتجب زكاة فطر رقيق تجارة مع زكاتها لاختلاف سببهما وهما البدن والمال، فالأول مسبب زكاة الفطر والثاني مسبب زكاة التجارة، فلو كان مال التجارة مما تجب الزكاة في عينه كسائمة وثمر فلا تجتمع الزكاتان فيه بلا خلاف بل إن كمل نصاب إحدى الزكاتين دون نصاب الأخرى كأربعين شاة قصد بها التجارة لكن لم تبلغ قيمتها نصاباً آخر(1/293)
الحول، وكتسع وثلاثين فأقل بلغت قيمتها نصاباً آخر الحول وجبت زكاة ما كمل نصابه، وإن كمل نصابه كل منهما كأربعين شاة قصد بها التجارة وبلغت قيمتها آخر الحول نصاباً قدمت في الوجوب زكاة العين على زكاة التجارة لقوتها للاتفاق عليها، بخلاف زكاة التجارة ففيها قول قديم بعدم الوجوب فيها ولهذا لا يكفر جاحدها، فصورة السائمة أن يشتري مثلاً أربعين شاة من أول المحرم وينوي فيها التجارة ثم تقوم آخر الحول فتبلغ قيمتها نصاب تجارة فقد اجتمع فيها زكاتان: زكاة عين وزكاة تجارة، وصورة الثمر أن يشتري نخيلاً أو عنباً من أول المحرم وينوي فيه وفيما يخرج منه التجارة ثم يحول عليه الحول، وقيمته مع ما يخرج منه تبلغ نصاب تجارة وكملت زكاة العين فيما يخرج منها أيضاً، نعم تجب زكاة التجارة أيضاً في نحو صوفها وألبانها مع إخراج زكاة العين عن السائمة، وكذا تجب زكاة التجارة عن الشجر ونحوه كالأرض من الليف والكرناف وغيرهما كالجذع والتين إن بلغت قيمتها وحدها نصاباً عند تمام الحول مع إخراج زكاة العين عن الثمرة إذ ليس فيها زكاة عين فلا تسقط عنها زكاة التجارة، أما ما فيه زكاة العين وهو الثمرة والحب إن بلغا نصاباً فلا يدخلان في التقويم في هذا الحول، فإن لم يبلغاه دخلا فيه فيقومان مع المذكورات وتجب في ذلك زكاة التجارة. قال في المصباح: الكرناف بالكسر أصل السعف الذي يبقى بعد قطعه في جذع النخلة، والسعف أغصان النخل ما دامت بالخوص فإن زال الخوص عنها قيل جريد والجذع بالكسر ساق النخلة، والتبن ساق الزرع بعد دياسته انتهى.(1/294)
وصورة ذلك أنه اشترى الأرض والنخل بقصد التجارة فيهما وفيما يخرج منهما أو الزرع بقصد التجارة في حبه وتبنه مثلاً فتجب زكاة العين في الثمر والحب إن بلغ نصاباً وزكاة التجارة فيهما وفيما عداهما إذ لا زكاة في عينه، وإذا قطع الثمر والحب أخرجت زكاة عينهما ولا تجب بعد ذلك إن بقيا في ملكه لأنها لا تتعدد ثم يبتدىء حولهما للتجارة بعد القطع، وأما الجذع والأرض والتبن فلا ينقطع حولهما بما ذكر بل يكمل على ما مضى منه، ثم عند تمام حول التجارة للثمر والحب يضمان للجذع والأرض والتبن في التقويم لا في الحول لاختلافهما في ابتدائه، ولو تقدم حول زكاة التجارة على حول زكاة العين بأن اشترى بمال التجارة بعد ستة أشهر من حولها نصاب سائمة أو اشترى به معلوفة للتجارة ثم أسامها وجبت زكاتها عند تمام حولها ثم يفتتح من تمامه حولاً لزكاة العين أبداً أي فتجب في بقية الأعوام.(1/295)
صورة ذلك: أن يشتري عشرين مقطعاً قماشاً للتجارة من أول المحرم وتمكث عنده ستة أشهر ثم يبيعها ويشتري بثمنها ناضاً سائمة وبعد مضي ستة أشهر أخرى قومت فبلغت قيمتا نصاباً فقد اجتمع فيها زكاتان وسبق حول التجارة فيزكيها في هذا الحول زكاة تجارة وفي كل حول بعده زكاة عين فلا يستأنف الحول بالمبادلة المذكورة بل يستمر، قال شيخ الإسلام في شرح المنهج: وزكاة مال قراض على مالكه وإن ظهر فيه ربح لأنه ملكه إذ العالم إنما يملك حصته بالقسمة لا بالظهور، كما أن العامل في الجعالة إنما يستحق الجعل بفراغه من العمل فإن أخرجها من غيره فذاك أو منه حسبت من الربح كالمؤن التي تلزم المال من أجرة الدلال والكيال وغيرهما والجعل بالضم الأجر. ((1/296)
و) النوع الخامس: (الركاز) وهو بكسر الراء دفين جاهلية وهم من قبل الإسلام أي بعثته صلى الله عليه وسلّم فيشمل ما لو كان الدافن من قوم موسى وعيسى أو غيرهما كيوسف، فإن لم يكن مدفوناً بل كان ظاهراً فإن علم أنه ظهر بنحو سيل فهو ركاز أيضاً لأنه دفين بحسب ما كان وإلا فهو لقطة، وكذا إن شك فإن وجده من هو من أهل الزكاة بموات أو ملك أحياه زكاة الركاز، ومثل الموات القبور الجاهلية والقلاع بكسر القاف جمع قلعة بفتحها كرقبة ورقاب وهو حصن ممتنع في جبل بعيد عن البلد وإن وجده بمسجد أو شارع أو وجده دفين إسلامي كأن يكون عليه شيء من القرآن أو اسم ملك من ملوك الإسلام، فإن علم مالكه وجب رده عليه لأنه مال مسلم ومال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه وإن لم يعلم مالكه فلقطة يعرفه الواجد سنة، ثم له أن يتملكه بأن لم يظهر مالكه، وكذا إن لم يعلم هل هو جاهلي أو إسلامي بأن كان مما يضرب مثله في الجاهلية والإسلام، أو مما لا أثر عليه كالتبر والحلي، فإن علم أن مالكه بلغته الدعوة وعاند فهو فيء، قال الزيادي: وإن وجد في ملك حربي في دار الحرب فله حكم الفيء، وإن دخل دارهم بأمانهم فيرد على مالكه وجوباً وإن أخذ قهراً فهو غنيمة انتهى. والواجب فيه إن بلغ نصاباً الخمس في حال يصرف لأهل الزكاة. ((1/297)
و) النوع السادس: (المعدن) وهو مكان خلق الله تعالى فيه ذهباً أو فضة موات أو ملك له، فيجب على من استخرج ذلك ربع عشره حالاً إن بلغ نصاباً فيضم بعض المخرج إلى بعض إن اتحد معدن عرفاً بأن يكون في مكان واحد وإن كانت حفرة متعددة وتتابع عمل، ولا يضر قطع العمل لعذر كإصلاح آلة ومرض وإن طال الزمان عرفاً فإن اختلف المعدن أو قطع العمل بلا عذر فلا يضم أول لثان في إكمال النصاب وإن قصر الزمن ويضم ثانياً لما ملكه من جنسه أو من عرض تجارة يقوم به ولو من غير المعدن كإرث في إكماله، فإن كمل به النصاب زكى الثاني لا إن كان ما ملكه غائباً فلا يلزمه زكاته حتى يعلم سلامته ليتحقق اللزوم، فلو استخرج من المعدن تسعة عشر مثقالاً بالأول ومثقالاً بالثاني فلا زكاة في التسعة عشر، وتجب في المثقال كما تجب فيه فيما لو كان مالكاً لتسعة عشر من غير المعدن.
[(1/298)
فرع] تجب زكاة الفطر بإدراك وقت تمام الغروب من آخر يوم من رمضان مع إدراك جزء قبله من رمضان أيضاً كمن مات بعد الغروب أو معه دون من ولد بعده أو معه على كل حر وعبد صغير وكبير ذكر وغيره إلا خمسة. الأول: من لا يفضل عن مسكن وخادم يحتاجهما وملبس يليق به وعن قوت من تلزمه نفقته ولو حيواناً ليلة العيد ويومه ما يخرجه في زكاة الفطر، والمراد بحاجة الخادم أن يحتاجه لخدمته لمرض أو كبر أو ضخامة مانعة من خدمة نفسه ومنصب يأبى أن يخدم نفسه أو لخدمة ممونه لا لعلمه في أرضه وماشيته، والمنصب وزن مسجد أي علو ورفعة وكالقوت دست ثوب أو بدله الذي يليق به لتردده في حوائجه، وكذا ما اعتيد من نحو سمك وكعك وهو من الخبز اليابس ونقل بضم النون وهو مجموع الثمرات وغير ذلك، وخرج بذلك الدين ولو لآدمي فلا يشترط فضلها عنه على المعتمد. والثاني: امرأة غنية لها زوج معسر وهي في طاعته فلا تلزمها فطرتها لكن يسن لها أن تخرجها عن نفسها، وكذا كل من سقطت فطرته لتحمل الغير له يسن له أن يخرج عن نفسه إن لم يخرجها المتحمل ومن المعسر الرقيق فلا تجب عليه زكاة زوجته ولو حرة، وخرج بفطرتها فطرة غيرها كأمتها وأولادها ووالديها فتلزمها، ولو كان الزوج حنفياً يرى وجوب فطرتها على نفسها وهي شافعية ترى الوجوب على الزوج فلا وجوب على واحد منهما لعدم اعتقاد كل أنها عليه بخلاف عكسه فإنها تجب على الزوج لأن كلّاً منهما حينئذٍ يرى الوجوب على نفسه على الزوج بطريق التحمل وهي بطريق الاستقلال، أما إذا لم تكن المرأة في طاعته بأن كانت ناشزة فإنها عليها حينئذٍ ومثلها صغيرة لا تطيق الوطء فلا تجب فطرتها على زوجها، وأما الأمة المزوجة التي زوجها معسر فإن فطرتها تلزمها ويستحملها عنها سيدها، بخلاف ما إذا كان موسراً فيجب عليه فطرتها ولو زوج أمته بعبده لزمه فطرتهما قطعاً.(1/299)
والثالث: مكاتب كتابة صحيحة فلا تجب عليه ولا على سيده لاستقلاله بخلاف المكاتب كتابة فاسدة حيث تجب فطرته على سيده وإن لم تجب عليه نفقته. والرابع: العبد في بيت المال. والخامس: العبد الموقوف ولو على معين كمدرسة ورباط ورجل والفن المملوك للمسجد فلا تلزم فطرة هؤلاء الثلاثة على أنفسهم وعلى غيرهم لضعف ملك المكاتب وسيده منه كالأجنبي وليس للأخيرين مالك معين يلزم بها.
وواجب الفطرة لكل واحد صاع من غالب قوت بلد المؤدى عنه وإن كان المؤدي بغيرها من جنس واحد فلا يبعض الصاع عن واحد، فإن أعطى المزكي أعلى من غالب قوت البلد جاز لأنه زاد خيراً، ولا يجزىء أقل من صاع إلا لمن بعضه مكاتب ولرقيق مشترك بين موسر ومعسر ولمن لم يجد إلا بعض صاع بشرط أن يكون ذلك البعض متمولاً فيجزىء كلّاً منهم أقل من صاع بقدر ما فيه مما يقتضي لزوم الزكاة، ومن لزمه فطرة نفسه لزمه فطرة من تلزمه نفقته بملك أو قرابة أو نكاح إلا أن يكون من تلزمه نفقته كافراً أو يكون زوجة أبيه أو مستولدة أبيه حيث لزم الولد نفقتهما فلا تلزمه فطرتهما وإن لزمته نفقتهما لأن الأصل في الفطرة والنفقة الأب وهو معسر، والفطرة لا تلزم المعسر بخلاف النفقة فيتحملها الولد، ولأن عدم الفطرة لا يمكن الزوجة من الفسخ بخلاف عدم النفقة، أما من لا تلزمه فطرة نفسه كالكافر فلا تلزمه فطرة من تلزمه نفقته، نعم يلزم الكافر فطرة رقيقه وقريبه وزوجته المسلمين بناء على أنها تجب ابتداء على المؤدي عنه ثم يتحملها عنه المؤدي، ولا بد من نية الكافر وهي للتمييز لا للتقرب.
[(1/300)
تتمة] ويجب عليه عند يساره ببعض الصيعان دون بعض تقديم نفسه فزوجته فخادمها بالنفقة إن كان دون الخادم بالأجرة فولده الصغير فأبيه فأمه فولده الكبير المحتاج فرقيقه، وإنما قدم الأب على الأم هو عكس ما في النفقات لأن النفقات للحاجة والأم أحوج والفطرة للشرف والأب أشرف لأنه منسوب إليه ويشرف بشرفه، فإن استوى جماعة في درجة كزوجات وبنين تخير فيخرج عمن شاء منهم.
[(1/301)
تنبيهات] وأوقات وجوب الزكاة أربعة. الأول: وقت إخراج المقصود وتصفيته من الركاز والمعدن وأما وقت وجوب إخراجها فعقب ذلك. والثاني: بدو الصلاح واشتداد الحب كلّاً أو بعضاً في المستنبت وأما وقت وجوب إخراجها فهو بعد الجفاف والتنقية وغير ذلك. والثالث: الحول في الناض والنعم والتجارة. والرابع: أول ليلة العيد في زكاة الفطر. قال الباجوري: ويجوز إخراجها في أول رمضان، ويسن أن تخرج قبل صلاة العيد للاتباع إن فعلت الصلاة أول النهار، فإن أخرت استحب الأداء أول النهار، ويكره تأخيرها إلى آخر يوم العيد، ويحرم تأخيرها عنه بلا عذر كغيبة ماله أو المستحقين لا كانتظار نحو قريب كجار وصالح فلا يجوز تأخيرها عنه لذلك، بخلاف زكاة المال فإنه يجوز تأخيرها له إن لم يشتد ضرر الحاضرين اهـ. قال في المنهج وشرحه: أداء زكاة المال يجب فوراً إذا تمكن من الأداء كسائر الواجبات ويحصل التمكن بحضور مال غائب سائر أو قارَ عسر الوصول له أو مال مغصوب أو مجحود أو دين مؤجل أو حال تعذر أخذه وبحضور آخذ للزكاة من إمام أو ساع أو مستحق، وبجفاف الثمر وتنقية الحب وتبر ومعدن وخلو مالك من مهم ديني أو دنيوي كصلاة وأكل وبقدرة على غائب قار بأن سهل الوصول له أو على استيفاء دين حال، وبزوال حجر فلس إذا كانت الزكاة متعلقة بالذمة، وأما إذا كانت متعلقة بالعين فيخرجها حالاً ولا يتوقف على زوال الحجر، ويجب أداؤه فوراً أيضاً إذا تقررت أجرة قبضت لاصداق، فلا يشترط تقرره بتشطير أو موت أو وطء، فإن أخر أداءها بعد التمكن وتلف المال كله أو بعضه ضمن بأن يؤدي ما كان يؤديه قبل التلف لتقصيره بحبس الحق عن مستحقه، وإن تلف قبل التمكن فلا ضمان لانتفاء تقصيره بخلاف ما لو أتلفه فإنه يضمن لتقصيره بإتلافه.(1/302)
قال إسماعيل بن المقري في روض الطالب وشيخ الإسلام في شرحه المسمى بأسنى المطالب فرع: وإن تلفت الثمرة قبل التمكن من الأداء من غير تقصير بآفة سماوية أو غيرها كسرقة قبل جفافها أو بعده لم يضمن كما لو تلفت الماشية قبل التمكن من الأداء فإذا بقي منها دون النصاب أخرج حصته أي قسمه لأن التمكن شرط للضمان لا للواجب وخرج بغير تقصير ما لو قصر كأن وضعه في غير حرز فيضمن اهـ. وتجب نية في الزكاة كهذا زكاة أو فرض صدقة أو صدقة مالي المفروضة، ولا يكفي فرض مالي لأنه قد يكون كفارة ونذراً، ولا صدقة مالي لأنها تكون نافلة، ولا يجب تعيين مال مزكى عند الإخراج فإن عينه لم يقع المخرج عن غيره وتلزم الولي النية عن محجورة. قال ابن حجر في شرح المنهاج: ولو عزل مقدار الزكاة ونوى عند العجز جاز ولا يضر تقديمها على التفرقة كالصوم لعسر الاقتران بإعطاء كل مستحق ولأن القصد من الزكاة سد حاجة مستحقها، ولو نوى بعد العزل وقبل التفرقة أجزأه أيضاً، وإن لم تقارن النية أخذها كما في المجموع، وفيه عن العبادي أنه لو دفع مالاً إلى وكيله ليفرقه تطوعاً ثم نوى به الفرض ثم فرقه الوكيل عن الفرض إن كان القابض مستحقها، أما تقديمها على العزل أو إعطاء الوكيل فلا يجزىء كأداء الزكاة بعد الحول من غير نية اهـ. ويجوز تعجيل الزكاة في المال الحولي بعد ملك النصاب وقبل تمام الحول لسنة فقط لا لأكثر منها، وشرط وقوع المعجل زكاة بقاء المالك بصفة الوجوب وبقاء القابض بصفة الاستحقاق إلى تمام الحول، فإن تغير كل منهما أو أحدهما قبل تمامه بردة أو بموت أو تغير المالك بفقر أو زوال ملك عن ماله المعجل عنه أو تغير القابض بغنى بغير الزكاة المعجلة أو إقرار برق وهو مجهول النسب استرده المالك من القابض إن بين أن زكاة معجل وأعلمه القابض، فإن لم يبين ذلك ولم يعلمه القابض لم يسترده لتفريطه بترك الإعلام عند الدفع فيقع تطوعاً.
[(1/303)
خاتمة] وشروط وجوب الزكاة أربعة. أحدها: حرية ولو للبعض بأن ملك الأموال ببعضه الحر فلا زكاة على رقيق ولو مكاتباً. وثانيها: إسلام فلا زكاة على كافر أصلي بمعنى أنه لا يلزم بأدائها ولا قضائها كالصلاة والصوم، وأما وجوب إخراج زكاة المرتد التي وجبت عليه حال ردته فموقوف كملكه فإن مات مرتداً بان أن لا زكاة عليه لتبين أن لا مال له بل جميعه فيء أو أسلم زكى للماضي في الردة ما لم يكن زكاة في ردته فإنه يجزئه كما لو أطعم عن الكفارة فيها وتكون نيته للتمييز لا للعبادة، وأما وجوب الاستقرار فليس بموقوف لأن شرطه الإسلام ولو فيما مضى، أما التي وجب قبل الردة فهي من الديون فتخرج من ماله حال ردته قهراً عنه سواء أسلم بعد ذلك أم مات مرتداً. وثالثها: تعين مالك فلا زكاة في مال بيت المال ولا مال جنين موقوف لأجله لعدم تعين المالك، ومثله ريع الموقوف على جهة عامة دون الموقوف على جهة خاصة فتجب في ريعه لا في عينه، ومن الجهة العامة الموقوف على إمام المسجد أو مؤذنه لأنه لم يرد به شخص معين وإنما أريد به كل من اتصف بهذا الوصف. ورابعها: حول إلا في ستة أمور، الأول: في نابت. والثاني: في معدن. والثالث: في ركاز. والرابع: في زكاة الفطر، فإذا ولد له ولد قبل الغروب أخرج الزكاة عنه. والخامس: النتاج فإنه يزكى بحول أصله.(1/304)
والسادس: في ريح فإنه يزكى بحول أصله أيضاً سواء حصل بزيادة في نفس العرض كسمن حيوان وولد وثمرة أو بارتفاع الأسواق، ولو باع العرض بدون قيمته زكى القيمة أو بأكثر منها، ففي زكاة الزائد منها وجهان أرجحهما الوجوب، ومحل زكاة الربح بحول أصله إن لم ينض من جنس ما يقوم به، كأن اشترى متاعاً بمائتي درهم وحال عليه الحول وقيمته ثلاثمائة درهم ولم يبعه بل أمسكه عنده أو نض من غير الجنس في أثناء الحول كأن اشترى متاعاً بمائتي درهم وباعه بدنانير فيزكي المائة بحول المائتين وإلا بأن صار الكل ناضاً من الجنس في أثناء الحول وأمسكه إلى آخر الحول، أو اشترى به عرضاً قبل تمامه زكى الزائد بحوله لا بحول أصله، ويعتبر أيضاً في وجوب الزكاة نصاب وتمكن من أدائها ولكن النصاب سبب لوجوبها لا شرط له والتمكن شرط لضمانها لاستقرارها لا لوجوبها فلو لم يوجد النصاب لم تجب الزكاة من أصلها بخلاف التمكن فإنه شرط للضمان لا لأصل الوجوب، فلو لم يوجد لم يضمن للأصناف حقهم. وعليه يلغز فيقال لنا: مال وجبت زكاته ولم تخرج ولا إثم فالوجوب متوقف على وجود السبب وهو ملك النصاب لا على الشرط وهو التمكن من إخراجها، ولا يعتبر في وجوب الزكاة بلوغ ولا عقل ولا رشد فتجب في مال صبي ومجنون وسفيه، والمخاطب بالإخراج عنه وليه إن كان يرى أي يعتقد ذلك كشافعي وإن لم يكن المولى عليه يراه إذ العبرة بعقيدة الولي، فإذا لم يخرجها وتلف المال قبل كمال المولى عليه سقطت عنه إذ لا يخاطب بالإخراج قبل كماله وضمن الولي إن قصر، نعم إن كان تأخيره خوفاً من تغريم الحاكم الحنفي له إذا بلغ المولى عليه وقلد أبا حنيفة كان ذلك عذراً فالأولى له حينئذٍ أن يجمع ما وجب عليه من الزكوات إلى الكمال فإن لم يكن تأخيره لخوف ذلك مثلاً حرم عليه والله أعلم.(1/305)
وهذا آخر ما يسره الله تبارك وتعالى على خدمة هذه المقدمة المرضية عند أهل الشرقية، لكن لما كان الصوم ركناً من أركان الإسلام وقد تركه المصنف أردت أن اثبته أي أكتبه بأذيال الخدمة ضاماً له إلى هذه المقدمة تبركاً بها وتركت الحج وإن كان كذلك اتكالاً على المطولات ولأن له كتباً مستقلة معلومة بالنسك ولشدة الاحتياج إلى الصوم لأنه أكثر وقوعاً من الحج لكثرة أفراد من يجب عليه الصوم، وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود وبالله التوفيق لأحسن طريق.
((1/306)
فصل): فيما يجب به الصيام (يجب صوم رمضان بأحد أمور خمسة: أحدها بكمال شعبان ثلاثين يوماً) أي من الرؤية في شعبان مثلاً قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره، هذا دليل على أن إكمال شعبان ثلاثين يوماً من الرؤية لا من الحساب. (وثانيها: برؤية الهلال) أي هلال رمضان (في حق من رآه وإن كان فاسقاً) ولا بد من رؤيته ليلاً ولا أثر لرؤيته نهاراً لقوله صلى الله عليه وسلّم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً) أي ليصم كل منكم وليفطر كل منكم. قوله لرؤيته فيه استخدام لأن الضمير في الأول عائد على هلال رمضان والثاني على هلال شوال، قال المدابغي: واللام بمعنى بعد أي بعد رؤيته كما قاله ابن هشام في المغني. قوله: وأفطروا بقطع الهمزة أي ادخلوا في وقت الفطر فالهمزة للصيرورة كما في المصباح. قوله: فإن غم بضم الغين أي استتر بالغمام والضمير عائد على هلال رمضان، ومثله إذا غم هلال شوال فيكمل رمضان ثلاثين قاله السويفي، والأمارة الدالة على دخول رمضان كإيقاد القناديل المعلقة بالمناير وضرب المدافع ونحو ذلك مما جرت به العادة في حكم الرؤية. (وثالثها: بثبوته) أي رؤية الهلال (في حق من لم يره بعدل شهادة) أي واحد وإن كان الرائي حديد البصر نقله السويفي عن الشبراملسي ولا بد من حكم الحاكم به فلا يكفي مجرد شهادة العدل، وخرج بالعدل الفاسق، وخرج بعدل الشهادة عدل الرواية كعبد وامرأة، وتكفي العدالة الظاهرة وهي المرادة بالمستور، وإذا صمنا برؤية عدل ثلاثين يوماً أفطرنا وإن لم نر الهلال ولم يكن غيم ولا يرد لزوم الإفطار بواحد لثبوت ذلك ضمناً إذ الشيء يثبت ضمناً بما لا يثبت به أصلاً.(1/307)
واعلم أنه يثبت رمضان بشهادة العدل وإن دل الحساب القطعي على عدم إمكان رؤيته كما نقله ابن قاسم عن الرملي وهو المعتمد خلافاً لما نقله القليوبي فإنه ضعيف فليحفظ قال ذلك كله المدابغي. قال المرغني: ودليل الاكتفاء في ثبوته بالعدل الواحد ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بصيامه اهـ. قوله: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي بلفظ الشهادة ويكفي في الشهادة أشهد أني رأيت الهلال وإن لم يقل: وإن غداً من رمضان والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم، ومثله سائر العبادات كالوقوف بالنسبة لهلال ذي الحجة وهي شهادة حسبة بكسر الحاء أي لا مرجو بها ثواب الدنيا فلا تحتاج إلى سبق دعوى. قال المدابغي: ولو رجع عن شهادته بعد شروعهم في الصوم أو بعد حكم الحاكم ولو قبل شروعهم لزمهم الصوم. ويفطرون بإتمام العدة وإن لم يروا هلال شوال. (ورابعها: بإخبار عدل رواية موثوق به) قال الزيادي ومثله موثوق بزوجته وجاريته وصديقه (سواء وقع في القلب صدقه أم لا) قال الشرقاوي خلافاً لما ذكره في شرح المنهج وإن تبعه بعض الحواشي (أو غير موثوق به) كفاسق (إن وقع في القلب صدقه) ولذا قال المدابغي عند قول الخطيب: ويجب الصوم أيضاً على من أخبره موثوق به بالرؤية إن اعتقد صدقه وإن لم يذكره عند القاضي. قوله موثوق به ليس بقيد بل المدار على اعتقاد الصدق ولو كان المخبر كافراً أو فاسقاً أو رقيقاً أو صغيراً ثم قال السويفي عند قول الخطيب ذلك أيضاً قوله إن اعتقد صدقه ليس بقيد فالمدار على أحد أمرين: كون المخبر موثوقاً به أو اعتقاد صدقه اهـ. قال الشرقاوي: ولو رآه فاسق جهل الحاكم فسقه جاز له الإقدام على الشهادة بل وجب أن توقف ثبوت الصوم عليها. ((1/308)
وخامسها: بظن دخول رمضان بالاجتهاد فيمن اشتبه عليه ذلك) بان كان أسيراً أو محبوساً أو غيرهما قاله المدابغي، قال الباجوري: فلو اشتبه عليه رمضان بغيره لنحو حبس اجتهد فإن ظن دخوله بالاجتهاد صام فإن وقع فأداء وإلا فإن كان بعده فقضاء وإن كان قبله وقع له نفلاً وصامه في وقته إن أدركه وإلا فقضاء اهـ. فتلخص أن سبب وجوب الصيام خمسة: اثنان على سبيل العموم أي عموم الناس وهما استكمال شعبان ثلاثين يوماً، وثبوت رؤية الهلال ليلة الثلاثين من شعبان عند حاكم وثلاثة على سبيل الخصوص أي خصوص الناس وهو الباقي من الخمسة.
[تنبيه] لا يجب الصوم ولا يجوز بقول المنجم وهو من يعتقد أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني لكن يجب عليه أن يعمل بحسابه، وكذلك من صدقه كالصلاة فإنه إذا اعتقد دخول وقت الصلاة فإنه يعمل بذلك، ومثل المنجم الحاسب وهو من يعتمد أي يتكل ويتمسك بمنازل القمر في تقدير سيره، ولا عبرة بقول من قال: أخبرني النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم بأن الليلة أول رمضان لفقد ضبط الرائي لا للشك في تحقق الرؤية إن تحقق الرؤية.
]فرع] وإذا رؤي الهلال بمحل لزم حكمه محلاً قريباً منه ويحصل القرب باتحاد المطلع بأن يكون غروب الشمس والكواكب وطلوعها في البلدين في وقت واحد هذا عند علماء الفلك، والذي عليه الفقهاء أن لا تكون مسافة ما بين المحلين أربعة وعشرين فرسخاً من أي جهة كانت. واعلم أنه متى حصلت الرؤية في البلد الشرقي لزم رؤيته في البلد الغربي دون عكسه، ولو سافر من صام إلى محل بعيد من محل رؤيته وافق أهله في الصوم آخراً، فلو عيد قبل سفره ثم أدركهم بعده صائمين أمسك معهم وإن تم العدد ثلاثين لأنه صار منهم أو سافر من البعيد إلى محل الرؤية عيد معهم وقضى يوماً إن صام ثمانية وعشرين، وإن صام تسعة وعشرين فلا قضاء وهذا الحكم لا يختص بالصوم بل يجري في غيره أيضاً حتى لو صلى المغرب بمحل وسافر إلى بلد فوجدها لم تغرب وجبت الإعادة.
((1/309)
فصل): في شروط صحة الصوم (شروط صحته) أي الصوم سواء كان فرضاً أو نفلاً (أربعة أشياء) أحدها: (إسلام) أي في الحال فلا يصح من كافر أصلي ولا مرتد. (و) ثانيها: (عقل) أي تمييز فيخرج به المجنون ونحوه والصبي إذ لا تمييز عنده وليس المراد به العقل الطبيعي لأنه لا يخرج به حينئذٍ الصبي. وثالثها: (نقاء من نحو حيض) كنفاس وولادة ولو لعلقة أو مضغة وإن لم ترد ما ويحرم على الحائض والنفساء الإمساك بنية الصوم وإلا فلا يجب تعاطي مفطر وكذا نحو العيد اكتفاء بعدم النية. واعلم أن هذه الشروط الثلاثة يعتبر وجودها في جميع النهار، فلو ارتد أو زال تمييزه بجنون أو وجد نحو الحيض في جزء منه بطل صومه. (و) رابعها: (علم) أو ظن (بكون الوقت قابلاً للصوم) فلا يصح صوم من لم يعلم ذلك بأن ظن دخوله أو استوى الأمران عنده والوقت الذي لا يقبل الصوم هو العيدان وأيام التشريق وهي ثلاثة بعد عيد الأضحى.
((1/310)
فصل): في شروط وجوب الصوم (شروط وجوبه) أي صوم رمضان (خمسة أشياء) أحدها: (إسلام) أي ولو فيما مضى فيشمل المرتد لأنه مخاطب بالأداء كالمسلم لسبق إسلامه. (و) ثانيها: (تكليف) أي بلوغ وعقل فلا يجب الصوم على صبي ومجنون ومغمى عليه وسكران، أما القضاء فيجب على السكران سكراً مستغرقاً والمغمى عليه مطلقاً أي سواء تعدى بالإغماء أو لا لكن على الفور عند التعدي وعلى التراخي عند عدمه، بخلاف الصلاة لا يجب عليه قضاؤها إلا إذا كان متعدياً بإغمائه ويجب على المجنون عند التعدي. (و) ثالثها: (إطاقة) أي قدرة للصوم فلا يجب على من لا يطيقه لكبر أو مرض يبيح التيمم. (و) رابعها: (صحة) فلا يجب على مريض قال في شرح المنهج: ويباح تركه بنية الترخص لمرض يضر معه الصوم ضرراً يبيح التيمم وإن طرأ على الصوم ثم المرض إن كان مطبقاً فله ترك النية أو متقطعاً، فإن كان يوجد وقت الشروع فله تركها وإلا فإن عاد واحتاج إلى الإفطار أفطر، ثم قال الزيادي وأفتى الأذرعي أخذاً من هنا إنه يلزم الحصادين أي ونحوهم تبييت النية كل ليلة ثم من لحقه منهم مشقة شديدة أفطر وإلا فلا (و) خامسها: (إقامة) فيباح ترك الصوم لسفر طويل بنية الترخص فإن تضرر به فالفطر أفضل وإلا فالصوم أفضل، قال الزيادي: وذلك بأن يفارق ما شرط مجاوزته في صلاة المسافر قبل الفجر يقيناً، فلو نوى ليلاً ثم سافر وشك أسافر قبل الفجر أو بعده لم يفطر، ويستثنى من ذلك مديم السفر فلا يباح له الفطر لأنه يؤدي إلى إسقاط الوجوب بالكلية، وإنما يظهر جواز الفطر فيمن يرجو إقامة يقضي فيها قاله السبكي واعتمده شيخنا الرملي اهـ.
((1/311)
فصل): في أركان الصوم (أركانه) أي الصوم فرضاً كان أو نفلاً. (ثلاثة أشياء) قال الزيادي: هذا هو المشهور وجعلها في الأنوار أربعة والرابع قابلية الوقت للصوم اهـ. أحدها: (نية ليلاً لكل يوم في الفرض) ومحلها القلب ولا بد أن يستحضر حقيقة الصوم التي هي الإمساك عن المفطر جميع النهار مع ما يجب فيه من كونه عن رمضان مثلاً ثم يقصد إيقاع هذا المستحضر، ولا تكفي النية باللسان دون القلب، كما لا يشترط التلفظ بها قطعاً لكنه يندب ليعاون اللسان القلب، ويعلم من كون محلها ما ذكر أنه لو نوى الصوم بقلبه في أثناء الصلاة صحت نيته، قال الزيادي: فلو نوى ليلة أول رمضان صوم جميعه لم يكف لغير اليوم الأول، لكن ينبغي له ذلك ليحصل له صوم اليوم الذي نسي النية فيه عند مالك، كما يسن له أن ينوي أول اليوم الذي نسيها فيه ليحصل له صومه عند أبي حنيفة، وواضح أن محله إن قلد وإلا كان متلبساً بعبادة فاسدة في اعتقاده وهو حرام، ولو شك هل وقعت نيته قبل الفجر أو بعده لم يصح لأن الأصل عدم وقوعها ليلاً إذ الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن بخلاف ما لو نوى وشك هل طلع الفجر أو لا فإنه يصح للتردد في النية. قوله في الفرض خرج به النفل فيكفي فيه نية بالنهار قبل الزوال بشرط انتفاء المنافي قبل النية كأكل وجماع وكفر وحيض ونفاس وجنون وإلا فلا يصح الصوم، قال في شرح المنهج: فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلّم على عائشة ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقالت: لا قال: فإني إذاً أصوم. قالت: ودخل علي يوماً آخر فقال: أعندكم شيء؟ قلت نعم قال: إذاً أفطر وإن كنت فرضت الصوم.(1/312)
رواه الدارقطني والبيهقي، وخرج بالمنافي للصوم ما لا ينافيه، قال الرملي: ولو أصبح ولم ينو صوماً ثم تمضمض ولم يبالغ فسبق ماء المضمضة إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع صح، وكذا كل ما لا يبطل الصوم كالإكراه على الأكل والشرب قال النووي: وهذه مسألة نفيسة وقد طلبتها سنين حتى وجدتها فلله الحمد، ومثل ذلك ما إذا بالغ لإزالة نجاسة فمه أو أنفه فسبقه الماء فإنه لا يضر، وقوله في الفرض ولو نذراً أو قضاء أو كفارة أو كان الناوي صبياً أو أمر به الإمام في الاستسقاء وليس لنا صوم نفل يشترط فيه التبييت إلا صوم الصبي. فيلغز به ويقال لنا صوم نفل يشترط فيه تبييت النية. قوله ليلاً أي بين الغروب وطلوع الفجر ودليل وجوب إيقاع النية ليلاً بمعنى وجوب التبييت. قوله صلى الله عليه وسلّم: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الدارقطني أي من لم يبيت نية الصيام قبل الفجر فلا صيام له صحيح، والمراد بتبييتها إيقاعها في جزء من أجزاء الليل من الغروب إلى الفجر. وقوله صلى الله عليه وسلّم: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" قوله لم يجمع بضم الياء وسكون الجيم أو بفتح الياء والميم معناه من لم يعزم على الصيام فينويه، وأقل النية في رمضان نويت الصوم غداً من رمضان فلا بد من الإتيان بقوله من رمضان لأن التعيين شرط في نية صوم الفرض ولا يحصل إلا بذلك لا بمجرد ذلك الغد فإن جمع بينهما كان أمكن فالغد مثال للتبييت ولا يجب التعرض له ولا يحصل به تعيين ورمضان مثال للتعيين، ولا يشترط التعرض للفرضية ولا الأداء ولا الإضافة إلى الله تعالى، ولا تعيين السنة فإن عينها وأخطأ فإن كان عامداً عالماً لم يصح لتلاعبه وإن كان ناسياً أو جاهلاً صح.(1/313)
وأكملها أن يقول: نويت صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة بإضافة رمضان إلى اسم الإشارة لتكون الإضافة معينة لكونه رمضان هذه السنة، ويسن أن يقول بعد ذلك إيماناً واحتساباً لله تعالى، ولو تسحر ليصوم أو شرب لدفع العطش عنه نهاراً أو امتنع من الأكل أو الشرب أو الجماع خوف طلوع الفجر كان نية إن خطر الصوم بباله بصفاته الشرعية لتضمن كل منها قصد الصوم. (و) ثانيها: (ترك مفطر) من وصول عين لمنفذ مفتوح من جوف كتناول طعام وإن قل كسمسمة ونقطة ماء وإدخال الشيء في الفم أو في مخرج غيره كإدخال عود في أذن أو جراحة ومن استقاءة لقوله صلى الله عليه وسلّم: "من ذرعه القيء أي غلبه وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض" رواه ابن حبان وغيره. ومن إدخال كل الحشفة أو قدرها من فاقدها فلا يفطر بإدخال بعضها بالنسبة للواطىء، وأما الموطوء فيفطر بإدخال البعض لأنه قد وصلت عين جوفه فهو من هذه الجهة لا من جهة الوطء ومن إنزال المني بلمس بشرة بشهوة كالوطء بلا إنزال بل أولى لأن الإنزال هو المقصود بالوطء، ولا يفطر بإنزال في نوم أو بنظر أو فكر أو لمس بلا شهوة أو ضم امرأة إلى نفسه بحائل (ذاكراً) للصوم (مختاراً غير جاهل معذور) ويفطر الصائم بشيء من ذلك إذا تعمد واختار وعلم بتحريمه أو جاهل غير معذور ولا يفطر بذلك مع نسيان أو إكراه أو كان جاهلاً بالتحريم معذوراً بأن قرب عهده بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء ومع غلبة القيء فالاستقاءة مفطرة وإن علم أنه لم يرجع شيء إلى جوفه بها فيه مفطرة لعينها لا لعود شيء من القيء.
((1/314)
فروع) وينبغي الاحتراز حالة الاستنجاء لأنه متى أدخل طرف أصبعه دبره أفطر ولو أدنى شيء من رأس الأنملة، وكذا لو فعل به غيره ذلك بإذنه، ومثله ما لو أدخلت الأنثى أصبعها فرجها حالة ذلك أفطرت إذ لا يجب عليها إلا غسل ما ظهر، ولو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصل السكين جوفه أو أدخل في إحليله أو أذنه عوداً فوصل إلى الباطن أفطر، والإحليل بكسر الهمزة مخرج اللبن من الثدي ومخرج البول أيضاً، هذا إن لم يتوقف خروج نحو الخارج على إدخال أصبعه في دبره وإلا أدخله ولا فطر، قال الأجهوري على الخطيب: ومثل الأصبع غائط خرج منه ولم ينفصل ثم ضم دبره فدخل منه شيء إلى داخله فيفطر حيث تحقق دخول شيء منه بعد بروزه لأنه خرج من معدته مع عدم حاجته إلى الضم وبه يفارق مقعدة المبسور، أفتى بذلك شيخ شيخنا العلامة منصور الطبلاوي، ولو كان برأسه مأمومة أي شجة فوضع عليها دواء فوصل خريطة الدماغ أفطر وإن لم يصل باطن الخريطة، ومثل ذلك الأمعاء أي المصارين فلو وضع على جائفة ببطنه دواء فوصل جوفه أفطر وإن لم يصل باطن الأمعاء، قال شيخنا أحمد النحراوي: والجائفة هي الجرح المتصل بالباطن.(1/315)
اعلم أن من العين الدخان الحادث الآن المسمى بالتتن لعن الله من أحدثه فإنه من البدع القبيحة فيفطر به، وقد أفتى الزيادي أولاً بأنه لا يفطر لأنه أذن لم يكن يعرف حقيقته فلما رأى أثره بالبوصة التي يشرب بها رجع وأفتى بأنه يفطر، ولو خرجت مقعدة المبسور ثم عادت لم يفطر، وكذا إن أعادها على الأصح لاضطراره إليه، ولو أصبح وفي فمه خيط متصل بجوفه تعارض عليه الصوم والصلاة لبطلانه بابتلاعه لأنه أكل عمداً وبنزعه لأنه استقاءة وبطلانها ببقائه لاتصاله بنجاسة الباطن، قال الزركشي: وجب عليه نزعه أو ابتلاعه محافظة على الصلاة لأن حكمها أغلظ من حكم الصوم لقتل تاركها دونه، ولهذا لا تترك بالعذر بخلافه به، هذا إذا لم يتأت له قطع الخيط من حد الظاهر من الفم، فإن تأتى وجب القطع وابتلع ما في حد الباطن وأخرج ما في حد الظاهر، وإذا راعى مصلحة الصلاة فينبغي أن يبتلع الخيط ولا يخرجه لئلا يؤدي إلى تنجيس فمه، قال الزيادي: والباطن من الحلق مخرج الهمزة والهاء دون الخاء المعجمة وكذا المهملة عند النووي انتهى ولو أدخل دبره أو أذنه عوداً وأصبح صائماً ثم أخرجه بعد الفجر لم يفطر لأنه يشبه الاستقاءة بخلاف الخيط كما مر، ولو شرب الخمر ليلاً وأصبح صائماً لم تجب عليه الاستقاءة على المعتمد، وليس من الاستقاءة قطع النخامة عن الباطن إلى الظاهر فلا يضر على الأصح مطلقاً سواء قلعها من دماغه أم من باطنه بتكرر الحاجة إليه فيرخص فيه، أما لو نزلت من دماغه بنفهسا واستقرت في حد الظاهر أو كان بقلبه سعال فيرمي ذلك فلا بأس به جزماً أو بقي في محله، فكذلك فإن ابتلعها بعد خروجها واستقرارها في ذلك الحد أفطر جزماً، فالمطلوب منه حينئذٍ أن يقطعها من مجراها ويمجها إن أمكن حتى لا يصل منها شيء إلى الباطن، ومن الاستقاءة إخراج ذبابة وصلت إلى مخرج الحاء المهملة فيفطر بذلك مطلقاً ويجوز إخراجها مع القضاء إن ضره بقاؤها.(1/316)
ثم اعلم أن الاستمناء بيده أو بيد زوجته أو جاريته يفطر به ولو بحائل حيث كان عامداً عالماً مختاراً، ومحل الإفطار بلمس البشرة إذا كان الملموس ينقض لمسه الوضوء ولو فرجاً مباناً حيث بقي اسمه، أما ما لا ينقض لمسه ذلك كمحرمه فلا يفطر بلمسه وإن أنزل حيث فعل ذلك للشفقة والكرامة، بخلاف ما إذا فعل ذلك بشهوة، ومثل ذلك العضو المبان فلا يفطر بلمسه ولو بشهوة سواء كان بحائل أم لا، ومما لا ينقض لمسه الوضوء إلا مرد الجميل فلا يبطل صوم من أنزل بلمسه وإن كان بشهوة وبلا حائل لأنه ليس محلاً للشهوة بخلاف المحرم فإنها محل لها في الجملة.
ثم اعلم أن الواطىء إن علت عليه المرأة ولم يحصل منه حركة ولم ينزل لم يفطر، أما إذا أنزل فإنه يفسد صومه كالإنزال بالمباشرة فيما دون الفرج، ويبطل به صوم كل من الفاعل والمفعول به وإن لم يحصل دخول لجميع الحشفة لأنه يصدق عليه وصول عين إلى الجوف، ولا كفارة على الرجل لعدم الفعل بل على المرأة فقط وتفطر المرأة بإدخالها ذكراً مباناً وعكسه، ولا شيء على صاحب الفرج المبان من ذكر أو أنثى خلافاً لما توهمه الأغبياء من الطلاب. (و) ثالثها: (صائم) قال السويفي: عد الصائم هنا ركناً لعدم وجود صورة للصوم في الخارج كما في نحو البيع بخلاف نحو الصلاة اهـ. أي لأن لها صورة في الخارج يمكن تعقلها وتصورها بدون تعقل مصل.
((1/317)
فصل): في بيان ما يجب به الكفارة وما يذكر معها (ويجب مع القضاء للصوم الكفارة العظمى والتعذير على من أفسد صومه في رمضان يوماً كاملاً بجماع تام آثم به للصوم) أي لأجله فقط، فلا كفارة على من أفسده بغير جماع كأكل أو استمناء، ومثل ذلك ما لو أفسده بجماع مع غيره فلا كفارة عليه سواء تقدم ذلك الغير على الجماع أو قارنه فتسقط الكفارة تقديماً للمانع على المقتضى، ولا كفارة أيضاً على من أفسده بجماع في غير رمضان كنذر وقضاء، ولا على مسافر سفر قصر يبيح الفطر أفطر بالزنى لأن إثمه ليس للصوم وحده بل له مع الزنى إن لم ينو بفطره الترخص أي ارتكاب الرخص، إذ الفطر لا يباح إلا بتلك النية، فإن نوى ذلك كان إثمه للزنى وحده لا للصوم لأن الفطر جائز ولا كفارة على كلا الحالين، بخلاف من أصبح مقيماً ثم سافر ووطىء فتلزمه الكفارة. قوله تام، وقد ذكره الغزالي للاحتراز عن المرأة فإنه لا يلزمها الكفارة لأنها تفطر بمجرد دخول بعض الحشفة قاله الحصني. قال السويفي: قوله آثم بالمد بصيغة اسم الفاعل انتهى.(1/318)
والحاصل أن شروط وجوب الكفارة أحد عشر. الأول: الواطىء فخرج به الموطوء فلا تجب عليه. الثاني: وطء مفسد فلا تجب إلا إذا كان الوطء مفسداً بأن يكون من عامد ذاكر للصوم مختار عالم بتحريمه وإن جهل وجوب الكفارة أو من جاهل غير معذور. الثالث: إفساد صوم خرج به الصلاة والاعتكاف فلا تجب الكفارة بإفسادهما. الرابع: أن يفسد صوم نفسه خرج به ما لو أفسد صوم غيره ولو في رمضان كأن وطىء مسافر أو نحوه امرأته ففسد صومها. الخامس: في رمضان وإن انفرد بالرؤية أو أخبره من يثق به أو من اعتقد صدقه. السادس: بجماع ولو لواطاً أو إتيان بهيمة أو ميت وإن لم ينزل قاله الزيادي. السابع: أن يكون آثماً بجماعه فخرج به ما لو كان صبياً، وكذا لو كان مسافراً أو مريضاً وجامع بنية الترخص فإنه لا إثم عليه. الثامن: أن يكون إثمه لأجل الصوم فقط. التاسع: أن يفسد صوم يوم ويعبر عنه باستمراره أهلاً للصوم بقية اليوم فخرج ما لو وطىء بلا عذر ثم جن أو مات في اليوم لأنه بان أنه لم يفسد صوم يوم. العاشر: عدم الشبهة فخرج ما لو ظن وقت الوطء بقاء الليل أو دخوله أو شك في أحدهما فبان نهاراً أو أكل ناسياً وظن أنه أفطر به ثم وطىء عامداً. الحادي عشر: كون الوطء يقيناً في رمضان خرج به ما لو اشتبه الحال وصام بتحر أي باجتهاد ووطىء ولم يتبين الحال فلا كفارة عليه. والكفارة إعتاق رقبة مؤمنة بلا عوض سليمة عن عيب يخل بالعمل ليقوم بكفايته فإن عجز عن الرقبة وجب صوم شهرين متتابعين وينقطع التتابع بالإفطار ولو بعذر إلا نحو حيض فإن عجز عن صومهما وجب إطعام ستين مسكيناً لكل منهم مد من غالب قوت البلد المجزىء في الفطرة.
((1/319)
ويجب مع القضاء الإمساك للصوم في ستة مواضع: الأول في رمضان لا في غيره) كنذر وقضاء وكفارة (على متعد بفطره) لتعديه بإفساده، قال الشرقاوي: ولو شرب خمراً بالليل وأصبح صائماً فرضاً فقد تعارض عليه واجبان الإمساك والتقيؤ فيراعي حرمة الصوم فيما يظهر للاتفاق على وجوب الإمساك فيه، والاختلاف في وجوب التقيؤ على الصائم، أما النفل فلا يبعد عدم وجوب التقيؤ وإن جاز محافظة على حرمة العبادة. (والثاني: على تارك النية ليلاً في الفرض) لتقصيره حقيقة إن عمد الترك أو حكماً إن لم يتعمده كأن كان ناسياً أو جاهلاً لأن ذلك يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة فهو ضرب تقصير أي فيجب عليه الإمساك، ويجب عليه بعد ذلك القضاء فوراً إن تعمد تركها وإلا فلا، وله تقليد أبي حنيفة فينوي نهاراً (والثالث: على من تسحر ظانا بقاء الليل فبان خلافه) لتقصيره حقيقة إن كان بغير اجتهاد وإلا فحكماً. (والرابع: على من أفطر ظاناً الغروب فبان خلافه أيضاً) كما يقع الآن كثيراً بسبب جهل الميقاتية قاله الشرقاوي. ((1/320)
والخامس: على من بان له يوم ثلاثي شعبان أنه من رمضان) لأنه كان يلزم الصوم ولو على حقيقة الحال، ثم إن ثبت قبل نحو أكلهم ندب لهم نية الصوم بخلاف المسافر إذا قدم بعد الإفطار لأنه يباح له الأكل مع العلم بأنه من رمضان قاله الرملي (والسادس: على من سبقه ماء المبالغة من مضمضة واستنشاق) لتقصيره بها بخلاف صبي بلغ مفطراً أو مجنون أفاق وكافر أسلم ومسافر مريض زال عذرهما بعد الفطر لا يجب عليهم الإمساك بل يسن إذ لا تقصير منهم ولا يجب على الصبي القضاء، أما لو بلغ صائماً فيجب إتمامه بلا قضاء أيضاً لصيرورته من أهل الوجوب في أثناء العبادة، فأشبه ما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه، ولو جامع بعد بلوغه لزمته الكفارة، وكذا المسافر والمريض إذا زال عذرهما صائمين فيجب الإتمام عليهما كالصبي ولصحة صومهما ثم الممسك ليس في صوم وإن أثيب عليه، فلو ارتكب محظوراً كالجماع فلا شيء عليه سوى الإثم أي لا كفارة، ولو ارتكب مكروهاً كسواك بعد الزوال ومبالغة مضمضمة كره في حقه ذلك كالصائم، وأما فاقد الطهورين فهو في صلاة شرعية، والفرق أن المفقود هنا ركن وهناك شرط، وإنما أثيب الممسك مع أنه ليس في صوم لأنه قام بواجب خوطب به فثوابه من تلك الجهة لا من جهة الصوم.
(فصل): فيما يفسد به الصوم (يبطل الصوم بردة) وهي رجوع عن الإسلام إلى كفر (وحيض ونفاس أو ولادة وجنون ولو) كان ذلك (لحظة وبإغماء وسكر تعدى به إن عما) أي كل منهما (جميع النهار) قال المدابغي: فالحاصل أن الردة والجنون والحيض والنفاس والولادة متى طرأ واحد منها في أثناء اليوم ولو لحظة يمنع الصحة وأن النوم لا يضر فلا يمنع الصحة ولو استغرق اليوم، وأن الإغماء والسكران استغرقا اليوم منعا الصحة وإلا فلا فتأمل.(1/321)
واعلم أن المغمى عليه إذا أفاق قضى الصوم مطلقاً أي سواء تعدى بإغمائه أم لا، بخلاف الصلاة فلا يجب عليه قضاؤها إلا إذا كان متعدياً بإغمائه، ومثله في هذا التفصيل السكران اهـ طوخي. أي يجب على السكران قضاء الصوم إن تعدى بسكره وإلا فلا انتهى. فعلم من هذا أن تقييد السكر. بالتعدي في المتن تبعاً لمتن الإرشاد هو قيد لوجوب القضاء فقط دون قيد الإبطال، وعبارة الرملي مع متن المنهاج والأظهر أن الإغماء لا يضر إذا أفاق لحظة من نهار أي لحظة كانت اكتفاء بالنية مع الإفاقة في جزء لأنه الاستيلاء أي الغلبة على العقل فوق النوم ودون الجنون، فلو قلنا إن المستغرق مسه لا يضر كالنوم لألحقنا الأقوى بالأضعف، ولو قلنا أن اللحظة منه تضر كالجنون لألحقنا الأضعف بالأقوى، فتوسطنا وقلنا إن الإفاقة في لحظة كافية اهـ. وفهم من قوله أي لحظة كانت أنه يكتفي بإفاقة المغمى عليه أو السكران مع طلوع الفجر أو الغروب لأنه يصدق على ذلك أنه لحظة من نهار كما قاله الشرقاوي. ثم اعلم أن الحائض والنفساء إذا زال عذرهما يستحب لهما الإمساك كغيرهما من المريض ونحوه كما قاله الزيادي.
(فصل): في أقسام الإفطار في رمضان وأحكامه (الإفطار في رمضان) أي بسببه باعتبار الحكم (أربعة أنواع واجب كما في الحائض والنفساء) ولو من علقة أو مضغة أو بلا بلل (وجائز كما في المسافر) سفر قصر (والمريض) اعلم أن للمريض ثلاثة أحوال: فإن توهم ضرراً يبيح له التيمم كره له الصوم وجاز له الفطر، فإن تحقق الضرر المذكور ولو لغلبة ظن وانتهى به العذر إلى الهلاك وذهاب منفعة عضو حرم عليه الصوم ووجب عليه الفطر، فإذا استمر صائماً حتى مات مات عاصياً، فإن كان المرض خفيفاً كصداع ووجع أذن وسن لم يجز الفطر إلا أن يخاف الزيادة بالصوم.
[(1/322)
فائدة] يباح الفطر في رمضان لستة: للمسافر والمريض والشيخ الهرم أي الكبير الضعيف والحامل ولو من زنى أو شبهة ولو بغير آدمي حيث كان معصوماً والعطشان أي حيث لحقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة عند الزيادي أو تبيح التيمم عند الرملي ومثله الجائع، وللمرضعة ولو مستأجرة أو متبرعة ولو لغير آدمي، ونظمها بعضهم من بحر الوافر فقال:
إذا ما صمت في رمضان صمه >< سوى ست وفيهن القضاء
فسين ثم ميم ثم شين >< وحاء ثم عين ثم راء
فالسين للمسافر والميم للمريض والشين للشيخ الهرم والحاء للحامل والعين للعطشان والراء للمرضعة. (ولا ولا) أي ليس بواجب ولا جائز ولا محرم ولا مكروه (كما في المجنون ومحرم كمن أخر قضاء رمضان مع تمكنه) بأن كان مقيماً صحيحاً (حتى ضاق الوقت عنه. وأقسام الإفطار) باعتبار ما يلزم (أربعة أيضاً ما يلزم فيه القضاء والفدية وهو اثنان الأول الإفطار لخوف على غيره) كالإفطار لإنقاذ حيوان محترم آدمي أو غيره مشرف على هلاك يغرق وغيره، وإفطار حامل ومرضع خوفاً على الولد وحده وإن كان ولد غير المرضع ولو غير آدمي أو متبرعة فلا تتعدد الفدية وإن تعدد الحمل والرضيع فإن أفطر لخوف على نفسه أو مع غيره فلا فدية كالمريض. (والثاني الإفطار مع تأخير قضاء) شيء من رمضان (مع إمكانه حتى يأتي رمضان آخر) لخبر: "من أدرك رمضان فأفطر لمرض ثم صح ولم يقضه حتى أدركه رمضان آخر صام الذي أدركه ثم يقضي ما عليه ثم يطعم عن كل يوم مسكيناً" رواه الدارقطني والبيهقي، فخرج بالإمكان من استمر به السفر أو المرض حتى أتى رمضان آخر أو أخره لنسيان أو جهل بحرمة التأخير، وإن كان مخالطاً للعلماء لخفاء ذلك لا بالفدية فلا يعذر لجهله بها نظير من علم حرمة التنحنح وجهل البطلان به.(1/323)
واعلم أن الفدية تتكرر بتكرر السنين وتستقر في ذمة من لزمته، قال في شرح المنهج: فلو أخر القضاء المذكور أي قضاء رمضان مع تمكنه حتى دخل رمضان آخر فمات أخرج من تركته لكل يوم مدان مد للفوات ومد للتأخير إن لم يصم عنه وإلا وجب مد واحد للتأخير. (وثانيها: ما يلزم فيه القضاء) تداركاً لما فات (دون الفدية) لأنه لم يرد نص بوجوبها على من دخل تحت هذا القسم (وهو يكثر كمغمى عليه) وناس للنية ومتعد بفطره بغير جماع (وثالثها: ما يلزم فيه الفدية دون القضاء وهو شيخ كبير) لم يستطع الصوم في جميع الأزمان فإن قدر عليه في بعضها وجب عليه التأخير إلى الزمن الذي يقدر عليه، ومثله مريض لا يرجى برؤه. (ورابعها: لا ولا) أي لا يجب شيء من القضاء والفدية (وهو المجنون الذي لم يتعد بجنونه) لعدم تكليفه ومثله الصبي والكافر الأصلي.
ثم اعلم أن القضاء في جميع ما ذكر على التراخي إلا فيمن أثم بالفطر والمرتد وتارك النية ليلاً عمداً على المعتمد أفاده القليوبي، وكذا إذا ضاق الوقت قبل رمضان الثاني بأن لم يبق إلا ما يسع القضاء فيجب القضاء حينئذٍ فوراً.
((1/324)
فصل) في بيان ما لا يفطر مما يصل إلى الجوف (الذي لا يفطر بما يصل إلى الجوف) من الأعيان من منفذ مفتوح (سبعة أفراد) الأول والثاني والثالث (ما يصل إلى الجوف بنسيان) للصوم (أو جهل أو إكراه) ومن الإكراه الإيجار بالصب في حلقه، قال صلى الله عليه وسلّم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه الشيخان وصححاه. (و) الرابع: (بجريان ريق مما بين أسنانه) وقد عجز عن مجه لعذره بخلاف ما إذا قدر على مجه لتقصيره وذلك كطعام أو نخامة أو قهوة، فإذا شرب قهوة قبيل الفجر وبقي أثرها لما بعده فإن بلع ريقه المتغير بها عمداً مع قدرته على مجه أفطر وإلا فلا، والنخامة بالضم ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء المعجمة، وزاد المطرزي: وهو ما يخرجه من الخيشوم. (و) الخامس: (ما وصل إلى الجوف وكان غبار طريق) سواء كان طاهراً أو نجساً ولو من مغلظ فلا يفطر بذلك، وأما غسله فإن تعمد فتح فمه وجب وإلا فلا. (و) السادس والسابع: (ما وصل إليه وكان غربلة دقيق أو ذباباً طائراً أو نحوه) كبعوض لمشقة الاحتراز عن ذلك فإن أضرت الذبابة جوفه أخرجها وأفطر ووجب عليه القضاء نبه على ذلك ابن حجر ولو تعمد فتح الفم ولو لأجل الوصول ثم حصل الوصول بعد ذلك بغير فعله لم يفطر على الصحيح، أما لو صار بعد فتح فمه يتلقف به الغبار من الهواء فإنه يضر قاله الشرقاوي، والغربلة مصدر غربل وهي إدارة الحب في الغربال بكسر الغين أو الدقيق في المنخل ليخرج خبثه ويبقى طيبه. (والله) سبحانه تبارك وتعالى (اعلم) أي من كل ذي علم (بالصواب) أي بما يوافق الحق في الواقع من القول والفعل.
((1/325)
نسأل الله الكريم) أي المعطي من غير سؤال أو الذي عم عطاؤه للطائع والعاصي لكونه المعطي لا لغرض ولا لعوض قاله أحمد الضاوي (بجاه) أي بمنزلة (نبيه الوسيم) أي الحسن خلقه، وكان لونه صلى الله عليه وسلّم في الدنيا أبيض مشرباً بحرمة وفي الآخرة أصفر فلا توجد محاسن في أحد سواه كمحاسنه صلى الله عليه وسلّم في الظاهر والباطن لا في الدنيا ولا في الآخرة (أن يخرجني من الدنيا مسلماً) أي منقاداً لأوامره سبحانه وتعالى (ووالدي وأحبائي ومن إلي انتمى) أي انتسب (وأن يغفر لي ولهم مقحمات) أي ذنوباً كبائر فالمقحمات بضم الميم وسكون القاف وكسر الحاء المهملة معناه المهلكات والملقيات وسميت الكبائر بذلك لأنها تهلك صاحبها وتلقيه في النار (ولمماً) أي ضمائر (وصلى الله على سيدنا محمدبن عبد اللهبن عبدالمطلببن هاشم) واسمه عمرو وسمي هاشماً لأنه أول من هشم الثريد أي كسره لأهل الحرم فالثريد هو اللحم (ابن عبد مناف) وهذا غير عبد مناف الذي في نسبه صلى الله عليه وسلّم من جهة أمه (رسول الله إلى كافة الخلق) أي من الجن والملائكة والإنس من لدن آدم إلى قيام الساعة حتى إلى نفسه الشريف صلى الله عليه وسلّم (رسول الملاحم) جمع ملحمة وهي الحرب والقتال قاله السملاوي. ((1/326)
حبيب الله) فقد قال في الحديث: "وأنا حبيب الله ولا فخر" والمعنى ولا فخر أعظم من هذا أو لا أقول ذلك فخراً بل تحدثاً بالنعمة (الفاتح) للأنبياء ولكل خير أو لأبواب الخير فإنه السبب في نزول الرحمات للعباد، أو الفاتح للشفاعة فإنه المخصوص بالشفاعة العظمى يوم القيامة، أو لأن روحه الشريفة سبقت الأرواح في الخلق وخلقت الأرواح قبل الأجساد بألفي عام قاله شيخنا يوسف السنبلاويني (الخاتم) للأنبياء فلا نبي تبتدأ أي تظهر نبوته بعده فهو آخرهم في الوجود باعتبار جسمه في الخارج فلا تنسخ شريعته إشارة لعظمته حيث لا يحتاج بعده لغيره (وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين) ختم بذلك كتابه لقوله صلى الله عليه وسلّم: "ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم" رواه الترمذي وابن ماجه. والترة كوزن عدة النقص، وفي رواية: إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة.
وهذا آخر ما أبرزته عناية القدرة لا بحول مني ولا قدرة.(1/327)
قال السيد عبد الله المرغني: واعلم يا أخي إذا رأيت أن لا يكتب الإنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو كان غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أجمل، ولو ترك هذا لكان أفضل، وهذا من أعظم العبر، ودليل استيلاء النقص على جملة البشر، ولا يكون إلا ما قضاه وأراده من أمره بين كاف ونون انتهى. وكن يا أخي للعيوب ساتراً، والله أسأل أن يكون للذنوب غافراً، والمطلوب من الإخوان الصفح عن الزلل، والعفو عن العلل، والستر لدى الخلل، فإن النقص ذاتي، والتقصير صفاتي، والبخس سماتي، والمرجو ممن اطلع عليها في هذا الكتاب أن ينظر إليها نظر احتقار. ويرخي على ما فيها أذيال الأستار، فالستر من طبيعة الكرام، وإظهار العيوب من عادة اللئام. فمن علي بالاستغفار وهو التمام وأنا عين الملام والملام لا يلام، والله أسأل وبنبيِّه أتوسل أن أحل محل القبول، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول. هذا وأختم بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه أو حين يقوم: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(1/328)