الجمعية الشرعية الرئيسية
لتعاون العملين بالكتاب والسنة المحمدية
هيئة علماء الجمعية الشرعية
ملفات ساخنة
قضايا وهموم الأمة الإسلامية
(6)
( لبنان - حزب الله )
د.رضا الطيب
الأمين العام للجمعيات الشرعية
وعضو هيئة العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلي آله وصحبه أجمعين. وبعد... فإن الأمم العظيمة والشعوب العريقة.. تولد بعقيدتها.. وتحيا بذاكرتها. والذاكرة .. هي الروح التي تسري في جسد الأمة فيطول بقاؤها.. وهي الدماء التي تتدفق في عروقها فتشتد عافيتها. وبالذاكرة.. تتذكر الشعوب أحداث ماضيها.. وتتفهمها وتتدبر معانيها.. وتستخلص العبر منها.. والدروس التي فيها. وبالذاكرة.. تتذكر الأمم عناصر قوتها وأسباب رفعتها فيما مضي من تاريخها فتبني حاضرها ومستقبلها علي نهجها. وعندما تذبل الذاكرة في أمة من الأمم.. تذبل، وعندما تموت.. تموت. وفي الصفحات التالية نتناول تباعًا بعض أحداث وقضايا الأمة الإسلامية العظيمة وهموم المسلمين.. نعرضها ونحللها لتعيش في ذاكرة الأمة وتحيا بها.
لبنان وبداية النفق المظلم............. ... 4
حزب الله .. ونصر الله ..............22
الحرب السادسة..الغرس والحصاد ....43
لبنان وبداية النفق المظلم
نشر هذا الملف فى العدد الثامن السنة الاولى
من مجلة التبيان بتاريخ
ربيع الأول 1426 هـ - أبريل / مايو2005 م
مازال المخطط المرسوم لأمتنا المسلمة في ذاكرة التحالف الصهيوني الصليبي يسير بخطي ثابتة، يكسب كل يوم أرضاً جديدة، ويؤخر في أجل انبعاث أمتنا أعماراً مديدة !!
... حلقات المخطط هذه المرة عادت إلي لبنان.. وكأنها قد عَظُم عليها أن تخرج منه بهذه الطريقة المهينة، فعادت إليه.. عادت بعد أن دبرت وأحكمت خطة شيطانية تضمن لها عودة سريعة تحقق من خلالها كل ماتبغيه من أهداف.(1/1)
... فهي تريد إلهاء العالم عما يحدث في العراق.. وسوريا تحتاج إلي مزيد من التركيع.. وحزب الله لابد من تقليم أظافره.. وقد استراحت ولو قليلا من عنف المقاومة الفلسطينية.. فاستجمعت قوتها، وشحذت سكين المعارضة، واستصدرت قراراً من مجلس الأمن، ودبرت اغتيال الحريري، فكان ذلك تكأة للحرب علي سوريا. هكذا وباختصار ينبغي أن نقرأ الأحداث في لبنان الشقيق.. ولأن تلك الأحداث الحالية بكل تداعياتها قد فرضت نفسها علي الساحة فسوف نتناولها بعون الله عز وجل في هذا الملف بشيء من التفصيل والتحليل علي وعد بملف قادم نتعرف فيه علي جذور المشكلة اللبنانية وأهم المحطات التاريخية فيها، بدءا من الاستعمار الفرنسي، ومروراً بالاحتلال الإسرائيلي، وكذلك الحرب الأهلية التي يقف الآن لبنان علي أعتابها من جديد.
... وبهذا تتضح الأمور، ويعلم الجميع أن استهداف أمتنا ليس مسألة مؤقتة أو مرحلية، إنما هو موضوع عقيدة راسخة في وجدان أناس حدثنا عنهم ربنا عز وجل حين قال:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة:82)
لبنان الموقع والجغرافيا
... تقع لبنان في أقصي الغرب من قارة آسيا علي البحر الأبيض المتوسط، وتحدها سوريا من الشمال والشرق وفلسطين من الجنوب، تقدر المساحة الكلية لها 10400 كيلو متر مربع.
... وتتألف هذه المساحة من سهول ساحلية ضيقة وسلسلتي جبال شرقية وغربية وبينهما وادي البقاع الخصيب، ويتميز مناخها بالاعتدال صيفاً وشتاءً وتكثر الأمطار والثلوج في الشتاء، ومن أهم المدن فيها: (بيروت) العاصمة، و(بعلبك)، و(بنت جبيل)، و(زحلة)، و(صور)، و(صيدا)، و(طرابلس).(1/2)
... وحسب آخر بيانات رسمية فإن عدد سكان لبنان يبلغ 3.5 مليون نسمة تقريبا، تمثل نسبة المسلمين فيهم 54% منهم 32% من (الشيعة) و20% من السُنَّة أما المسيحيون فيبلغ عددهم 40% منهم 23% من (المارون) و11% من (الكاثوليك) و3.2% من (الأرمن) أما طائفة (الدروز) فتمثل 5.7% تقريبا.. وسوف نستعرض هذه التركيبة تفصيلا، إضافة لتأثيراتها علي طبيعة الأوضاع و مجريات الأحداث في لبنان علي مر التاريخ في ملف قادم إن شاء الله.
شرارة البدء
... تبدأ الأزمة اللبنانية الحالية بثلاثة أحداث وقعت علي مدي شهور قليلة هزت الدولة اللبنانية من الأعماق وزلزلتها حتي النخاع وشكلت منعطفاً خطيراً في مساره ووضعته علي مفترق طرق لايعلم إلا الله وحده إلي أين تسير به.. هذه الأحداث هي:
1- صدور قرار من البرلمان اللبناني في الأول من سبتمبر عام 2004 بتعديل دستوري يمنح بمقتضاه الرئيس (إميل لحود) رئيس الجمهورية اللبنانية حق تمديد فترة رئاسته لمدة ثلاثة أعوام.
2- وفي اليوم التالي مباشرة صدر قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو سوريا للانسحاب الفوري والكامل من لبنان ويدعو إلي حل ونزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية علي أرض لبنان.
3- وبعد خمسة أشهر وفي اليوم الرابع عشر من فبراير عام2005 م قُتِل الزعيم السُنِّي ورئيس الوزراء المستقيل (رفيق الحريري) في انفجار مروع هز بيروت العاصمة.
... هذه الأحداث الثلاثة وإن كانت في ظاهرها تبدو متعلقة بأمور لاعلاقة بينها.. إلا أنها في الحقيقة تترابط فيما بينها ترابطا وثيقا وتمثل سلسلة من التداعيات المتصلة والمتداخلة التي بدأت وانتهت حسب مخطط شارك فيه كل من له مصلحة بالشأن اللبناني سواء من داخل لبنان، أو من خارجه وسواء من الأصدقاء أو من الأعداء.. وقد دارت هذه الأحداث علي النحو التالي:(1/3)
... أولا: تمديد فترة رئاسة الرئيس إميل لحود: بعد أن انتهت فترة رئاسة الرئيس إميل لحود وهي ست سنوات لمرة واحدة حسب الدستور اللبناني والتي كانت قد بدأت في عام 1998م عملت سوريا بكل جهدها مستخدمة كل أساليب الضغط المتاحة لها من أجل إجراء ذلك التعديل، وقد تم ذلك لأن الرئيس كان رجل دمشق القوي في لبنان والحليف المخلص لسوريا.. فقد كان علي درجة عالية من التنسيق والتوافق معها وكان له دور رئيسي ومهم في صد كل المحاولات الدولية لضرب وحل (حزب الله) في جنوب لبنان أو نزع سلاحه كجزء من الحرب المزعومة علي الإرهاب كما واجه أيضا كل الانتقادات الداخلية لسياسات (حزب الله) المعادية لإسرائيل وخاصة سماح الدولة له بالسيطرة الفعلية علي حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل، كذلك فقد كان الرئيس إميل لحود من أهم الركائز التي تدعو إلي ترسيخ عروبة لبنان.
... ثانيا: صدور قرار مجلس الأمن بانسحاب سوريا من لبنان: وفي اليوم التالي مباشرة صدر ذلك القرار من مجلس الأمن.. ويبدو أن سوريا عندما نجحت في إجراء ذلك التعديل الدستوري بمد فترة الرئاسة لم تكن تتوقع ما سوف يجره عليها من تداعيات لم تتوقعها علي الإطلاق.. فقد بدأت معارضة فورية من داخل الأحزاب والتكتلات في لبنان وكان من أبرز رموز هذه المعارضة رئيس الوزراء في ذلك الوقت رفيق الحريري الذي عارض التعديل ثم عاد ووافق عليه تحت الضغوط السورية ثم عاد وقدم استقالته من منصبه متعهدا ألا يعود إليه مرة أخري ......
? ولكن ما هي العوامل التي أدت إلي صدور ذلك القرار من مجلس الأمن؟
... 1- كان لرئيس الوزراء رفيق الحريري من خلال اتصالاته القوية ببعض الأطراف الخارجية وعلي رأسها فرنسا والرئيس (جاك شيراك) الذي كان يدعوه بالصديق.. كان له دور مهم في استصدار ذلك القرار الدولي بانسحاب سوريا من لبنان ونزع سلاح الميليشيات..(1/4)
... 2- كذلك فقد كان للعماد (ميشيل عون) الرئيس الأسبق للبنان والذي خلعته سوريا فسافر إلي فرنسا واختارها منفي دائما له دور كبير كذلك في استصدار ذلك القرار من خلال علاقته الوثيقة مع الزعماء الفرنسيين وخاصة بعد أن قدم شهادته أمام إحدي لجان الكونجرس الأمريكي والتي هاجم فيها الوجود السوري في لبنان وحث فيها الولايات المتحدة والقوي الدولية علي التدخل لإخراج سوريا من لبنان..
... 3- كذلك فقد أثار الدعم السوري للرئيس إميل لحود فرنسا التي كانت في السابق تتعاطف مع المواقف السورية وجعلها تتحول إلي موقف معارض لها ومتفقا تماما مع الموقف الأمريكي في ذلك الشأن وهو ما كانت تتمناه أمريكا.
... وبناءً عليه فقد كان نتيجة هذا التطابق بين موقفي الدولتين أن صدر ذلك القرار الدولي من مجلس الأمن وبسرعة شديدة وبدون أي معارضة بعد أن تبنته فرنسا بدعم كامل من أمريكا والداعي إلي خروج سوريا بالكامل وبشكل فوري من لبنان.. ثم تداعت الأحداث وأخذت موجة المعارضة تتزايد والأصوات المنتقدة لسوريا تعلو حيث أصدر مجلس التعاون الخليجي نداءً يحث فيه دمشق علي احترام القرار الدولي.. ثم حذا حذوه وزير خارجية الأردن.. ثم هددت المملكة العربية السعودية دمشق بتوتر وتأثر العلاقات بينهما سلبا إن لم تنفذ القرار فورا وذلك لأن الحريري كانت له مكانة مرموقة في المملكة العربية السعودية وخاصة عند الأسرة المالكة كما أنه كان يحمل الجنسية السعودية.. ثم تداعت بعد ذلك معظم الدول العربية وغير العربية وعلي رأسها أمريكا وإسرائيل ودول الغرب تحذر وتنذر وتهدد وتتوعد وتدعو سوريا إلي الانصياع الفوري وتنفيذ قرار مجلس الأمن بالكامل.(1/5)
... ثالثا:اغتيال رفيق الحريري: ثم فجأة وبصورة غير متوقعة ولاتخطر علي بال وبعد ظهر الاثنين 14/2/2005 تم اغتيال رئيس الوزراء المستقيل رفيق الحريري في انفجار هائل هز أرجاء العاصمة اللبنانية بيروت بالكامل.. ولقد أعاد ذلك الاغتيال وبتلك الصورة البشعة ذكريات ومشاهد الدمار والخراب الذي حل بلبنان إبان الحرب الأهلية في السبعينيات والثمانينيات وليمثل طعنة غادرة لرمز نزيه من رموز الوطن اللبناني وأحد صناع لبنان ما بعد الحرب الأهلية والركيزة الأولي في إعادة بناء وإعمار لبنان وأحد الأمثلة النادرة لمن وهب حياته الخاصة والعامة لوطنه وللفقراء والمساكين
والضعفاء علي جميع أرض لبنان بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم وليبكيه من القلب كل من يحيا علي أرض لبنان. وعلي الفور قبضت الأصابع الخبيثة التي أعدت ودبرت لتلك الفاجعة علي خيوط الأحداث وسارعت إلي توجيه سهامها إلي صدر سوريا متهمة إياها بالضلوع في تلك الجريمة النكراء وداعية إياها إلي الخروج الفوري والكامل من لبنان مستغلة ذلك البركان من الغضب الذي انفجر في قلوب وصدور كل اللبنانييين والذي أنحي باللوم علي سوريا متهماً إياها إن لم يكن بتدبير ذلك الحادث الأليم فعلي الأقل بالتقصير والإهمال في توفير وسائل الأمن وسبل الحماية لمثل تلك الشخصية المهمة والمرموقة في الدولة.. وسارعت سوريا بنفي الاتهام ووجهت بدورها أصابعها إلي إسرائيل صاحبة المصلحة الحقيقية في إشعال نار الفتنة داخل لبنان.. كذلك فقد كان لأمريكا نصيب وافر من تلك الاتهامات المتناثرة.
... أما المعارضة اللبنانية فقد وجدت في هذا الحدث فرصة العمر لها لتحقيق ما يفوق أحلامها فأسرعت بتوجيه فوهات مدافعها إلي صدور كل من الرئيس إميل لحود والحكومة وأجهزة الأمن اللبنانية والوجود السوري في لبنان.
مطالب المعارضة
? وبماذا طالبت المعارضة؟(1/6)
... استغلت المعارضة ذلك التيار العنيف المتنامي والغاضب لمقتل الحريري والمعارض للوجود السوري في لبنان فرفعت سقف مطالبها إلي حدود لم تتخيلها هي من قبل علي الإطلاق.. وقد تصاعدت المطالب إلي ما يلي:
[1] الخروج الفوري والكامل للقوات والمخابرات السورية من لبنان.
[2] استقالة الحكومة اللبنانية وتشكيل حكومة محايدة تعد للانتخابات المقبلة.
[3] استقالة قيادات الأجهزة الأمنية في لبنان.
[4] اجراء تحقيق دولي تحت اشراف الأمم المتحدة في قضية أغتيال رفيق الحريري.
[5] وبعد ذلك واستمراراً في استغلال الظروف المواتية والضاغطة علي سوريا والحكومة اللبنانية ارتفع سقف مطالب المعارضة إلي المطالبة باستقالة الرئيس إميل لحود نفسه من رئاسة الجمهورية.(1/7)
... هذه هي الأحداث الثلاثة المتداخلة والمتشابكة التي وضعت لبنان علي فوهة بركان. ومنذ ذلك الحين أخذت المعارضة تنظم صفوفها مستغلة ذلك الدعم الممنوح لها من الدول الكبري وعلي رأسها أمريكا وفرنسا ومن بعض الأنظمة العربية.. وقد تصدي لقيادة المعارضة النائب (وليد جنبلاط) زعيم الطائفة الدرزية في لبنان ومعه بعض زعماء الطائفة المسيحية المارونية وعلي رأسهم البطريرك (نصرالله صفير) الزعيم الديني للمارون في لبنان وبعض زعماء الطائفة السُنِّية باعتبار أن رفيق الحريري كان من رموز السُنَّة في لبنان أما الطائفة الشيعية في مجملها فلم تزج بنفسها في ذلك الصراع ووقفت علي الحياد بين جماعات المعارضة وجماعات الموالاة المؤيدة لسوريا ودعت الجميع إلي ضبط النفس واستخدام لغة الحوار لصالح لبنان.. وقد نزلت المعارضة في مظاهرات إلي الشوارع في بيروت وغيرها من المدن اللبنانية رافعةً قميص اغتيال الحريري طالبةً القصاص له وكأنه قميص عثمان رضي الله عنه وحاولت آن تسير علي خطي بعض الحركات المماثلة في بعض الدول الأخري مثل (جورجيا) و(أوكرانيا) والتي استطاعت المعارضة فيهما من خلال النزول في مظاهرات إلي الشوارع ان تضغط علي حكوماتها حتي أجبرتها علي الاستقالة وحلت محلها في حكم البلاد. وفي المقابل فقد كانت هناك جبهة قوية مناهضة للمعارضة تتكون من أحزاب وتكتلات وجماعات لبنانية لا يستهان بقوتها تقف مؤيدة وداعمة للوجود السوري في لبنان.. وكان علي رأس هذه القوي (حزب الله) الذي وقف في البداية علي الحياد علي اعتبار ان المعارضة سوف تسلك سلوكا عقلانيا يمَكِّن جميع الأطراف(1/8)
من استدراك الأمور للوصول إلي مافيه مصلحة الوطن الأم.. فلما رأي الحزب أن الأحداث توجه من خارج لبنان وبأيد لا تريد إلا إشعال النار وإثارة الفتنة بين أبناء الوطن اللبناني وأن المقصود من كل تلك الأحداث هو ضرب الوجود السوري في لبنان ضربة قاصمة وإخراجه منه فورا وبالكامل ثم استكمال ذلك بضرب (حزب الله) وتجريده من سلاحه.. بعد أن أدرك الحزب ذلك سارع فأعلن عن موقفه مؤيدا لسوريا وداعما لوجودها في لبنان ومتصديا لكسر شوكة المعارضة..
المظاهرة المليونية(1/9)
... أدركت قيادات (حزب الله) أن الحديد لايفله إلا الحديد وأن المعارضة إذا كانت قد أرادت أن تحتكم إلي الشارع فسوف تري من هو الحاكم الحقيقي للشارع في لبنان فدعا السيد (حسن نصرالله) الأمين العام للحزب كل القوي والتكتلات الموالية لسوريا في لبنان إلي النزول إلي الشوارع والتجمع في قلب العاصمة بيروت ليري العالم أجمع من أشد قوة وأكثر جمعاً.. وبالفعل وفي الموعد المحدد اجتمع في قلب بيروت ما يقرب من المليون ونصف المليون مواطن لبناني من مختلف الطوائف والتكتلات في مظاهرة أذهلت العالم وألجمت قوي المعارضة في داخل لبنان والداعمين لها في الخارج وعلي رأسهم أمريكا وإسرائيل فقد ظهر للجميع ورأوا رؤيا العين حجم وضخامة القوي المؤيدة لسوريا في لبنان مقارنة بالمعارضة لها وأدركوا أن الاحتكام إلي الشارع الذي نجح في (جورجيا) و(أوكرانيا) من قبل لن يكون ناجحاً في لبنان.. ووقف الزعيم الشاب (حسن نصرالله) علي رأس هذا التجمع الحاشد تحت العلم اللبناني يعلن للعالم أجمع أن لبنان ليس هو (جورجيا) ولا (أوكرانيا) وأنه نموذج فريد من نوعه وأعلن دعم اللبنانيين لسوريا وتأييدهم الكامل للعلاقات التاريخية والوثيقة معها.. ودعا الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) إلي التخلي عن دعم ذلك القرار الدولي المشبوه والعودة إلي العلاقات الطيبة بين فرنسا وكل من سوريا ولبنان.. ثم حذر الرئيس الأمريكي والقيادات الأمريكية من التدخل في لبنان مذكرا إياهم بما حدث لجنودهم علي أيدي الاستشهاديين اللبنانيين في عام 1985م أثناء الحرب الأهلية في لبنان.. وحذر إسرائيل بقوله أن ما عجزت أن تحصل عليه بالحرب لن تحصل عليه بالسياسة والخديعة.. وأعلن عن حق اللبنانيين في المقاومة حتي تحرير كافة التراب اللبناني في (مزارع شبعا).. وحق الفلسطينيين في المقاومة حتي إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها (القدس الشريف) وحصولها علي جميع حقوقها وعلي رأسها حق العودة..(1/10)
ثم أعلن رفض القرار الدولي الداعي لخروج سوريا من لبنان.. وأخيرا وجه نداء إلي المعارضة اللبنانية مخاطبا إياهم بلفظ (شركاؤنا) بوضع مصلحة الوطن الأم فوق كل اعتبار وإلي التعقل والاحتكام إلي العقل والالتزام باتفاق الطائف الذي يدعو سوريا إلي الانسحاب من لبنان بشكل كريم ومتدرج وباتفاق الطرفين السوري واللبناني. وبالفعل.. وبعد أن رأي العالم أجمع حجم وضخامة تلك المظاهرة الحاشدة تقلص وبشكل شديد حجم نزول المعارضة في مظاهرات إلي الشوارع بعد أن رأت بعينيها أن ذلك الميدان ليس ميدانها وأنها لو استمرت فستكون الجواد الخاسر فيه وأن لبنان فعلا ليس (جورجيا) ولا (أوكرانيا).. ثم توج ذلك بإعلان من الحكومة بحظر المظاهرات خوفا من اندساس بعض العملاء وقيامهم ببعض التفجيرات في تظاهرات هذا الجانب أو ذاك مما يهدد بأن تنقلب تلك المظاهرات إلي حروب دموية في الشوارع بين الجانبين لا يمكن أن تنتهي إلا بكارثة تدمر الأخضر واليابس وتقضي علي كل أمل في أن يبقي لبنان حراً موحداً.. وبالفعل صدق هذا التوقع.. فقد انفجرت منذ عدة أيام سيارة مفخخة في العاصمة بيروت.. ثم بعدها بعدة أيام أخري انفجرت عبوة ناسفة في حي تجاري للمسيحيين ولكن الله سلم وكانت الإصابات محدودة، ثم وقع انفجار ثالث.. والبقية تأتي.
من قتل الحريري؟
? ولكن يظل السؤال المعضل بلا جواب.. من قتل الحريري؟(1/11)
لم تكن جريمة اغتيال رفيق الحريري.. مجرد عملية قتل واغتيال لرئيس وزراء سابق في لبنان.. وإنما كانت مرحلة فاصلة في تاريخ لبنان وسوريا والمنطقة كلها.. فعلي الفور من وقوع الجريمة انطلقت سهام الاتهامات توجه يمينا ويسارا وفي كل اتجاه.. وعلي رأس كل هؤلاء.. سوريا التي انصبت عليها سهام الجميع.. ثم الحكومة اللبنانية.. ثم أمريكا وإسرائيل وأخذ السؤال يلف ويدور.. من قتل الحريري؟ هل هي سوريا كما تقول أمريكا وإسرائيل؟ أو الحكومة اللبنانية كما تدعي المعارضة اللبنانية أو أنها أمريكا وإسرائيل أصحاب المصلحة الأولي في إشعال نار الفتنة علي أرض لبنان؟.. إن الإجابة علي هذا السؤال مازالت في علم الله وحده.. ولكننا يمكن أن نصل إلي أقرب الأحتمالات وأقواها من خلال تحليل مواقف كل طرف علي حدة وعلي النحو التالي:
سوريا
... [1] لقد تم تنفيذ الجريمة بأنواع من المتفجرات علي أحدث مستوي من التقدم العلمي وبتقنيات عالية وتخطيطات فائقة استطاعت أن تخترق الحواجز الأمنية المتعددة التي كانت مسئولة عن حماية موكب الحريري والتي هي آخر ما توصل إليه العلم من تقنيات ونظم وأساليب أمنية بما فيها سيارته المصفحة التي لا تخترقها الصواريخ ولا تؤثر فيها الانفجارات والمزودة بأحدث طرق الإنذار والتحذير من أية ألغام أو كمائن أو متفجرات في طريقها.. هذه المتفجرات ووسائل الاختراق لاتوجد إلا في بعض الدول الكبري وليس كلها.. وسوريا بالطبع لا تملكها ولا تدري عنها شيئا.
... [2] تدرك سوريا أنها مستهدفة في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضي وتعرف أن الولايات المتحدة الأمريكية تتحرق شوقا لضربها بسبب دعمها للمقاومة العراقية والفلسطينية ولحزب الله.. وأن عملا مثل ذلك سوف يكون الفرصة الذهبية لأمريكا لتحقيق هدفها.(1/12)
... [3] تدرك سوريا أن اغتيال شخصية في هذه المكانة الراقية والمتميزة والمحبوبة من اللبنانيين مثل الحريري سوف تدفعهم إلي التوحد في مواجهة مباشرة ضد سوريا تجبرها علي الخروج من لبنان غير مأسوف عليها.
... [4] إن الحريري لم يكن خصماً استراتيجياً لسوريا.. بل كان يدعو دائما إلي تدعيم العلاقات بين لبنان وبينها.. وأن خلافه معها وخاصة اعتراضه علي التمديد للرئيس إميل لحود لم يكن يرقي أبدا إلي أن ترتكب مثل هذه الجريمة الشنعاء.
الحكومة اللبنانية
... [1] ظل رفيق الحريري ولمدة تزيد علي عشر سنوات هو العصب المحرك للحكومة اللبنانية وكانت علاقته بالجميع وعلي رأسهم الرئيس (إميل لحود) جيدة طوال أكثر من عقدين من الزمان.. فليس من المعقول أنه لمجرد اختلافهما في أمر مثل تمديد فترة الرئاسة ان يكون ذلك سببا يدفع الحكومة اللبنانية التي تسعي إلي توحيد الصف اللبناني إلي ارتكاب هذه الجريمة البشعة النكراء.
... [2] إن الرئيس لحود كشخصٍ وإنسان عُرِف عنه دوما أنه يتميز بخلق كريم ووضوح واستقامة في مواجهة الآخرين ولم يعْرَف عنه في تاريخه كله أنه قام بمثل هذا العمل الإرهابي الجبان.
إسرائيل وأمريكا
... [1] كانت هناك في الفترة القليلة الماضية رغبة أمريكية محمومة في ضرب سوريا وإخراجها من لبنان عقابا لها علي عدم تجاوبها وخضوعها للمطالب الأمريكية بوقف دعم (حزب الله) في لبنان والمقاومة المسلحة في كل من العراق وفلسطين ورفضها لنهج الاستسلام والتبعية والتحالف الذي سارت عليه كل دول المنطقة في علاقتها بأمريكا وإسرائيل.(1/13)
... [2] كذلك فقد كانت هناك رغبة إسرائيلية مماثلة في ضرب (حزب الله) في جنوب لبنان وتجريده من سلاحه وتوصيفه بالإرهاب انتقاما منه لما ألحقه بها من هزيمة نكراء غير مسبوقة أذلت كرامتها وذاعت شهرتها وذلك بإجبارها علي الإنسحاب المهين من جنوب لبنان عام 2000م. في نفس الوقت كانت الأجواء الملتهبة علي أرض فلسطين قد تم تهدئتها بالتخلص من (ياسر عرفات) الرئيس الشرعي لفلسطين ومجيء الرئيس (محمود عباس) المعروف عنه معارضته لخيار المقاومة المسلحة ثم نجاح إسرائيل في انتزاع هدنة طويلة من الفصائل الفلسطينية ثم انعقاد قمة (شرم الشيخ) لتأكيد هذه التهدئة..
لذلك فقد كانت هذه التهدئة علي الأرض الفلسطينية مصحوبة بالتصاعد المتزامن وسخونة الأحداث المتتالية التي ذكرناها علي الأرض اللبنانية فرصة ذهبية لإسرائيل ومن ورائها أمريكا طبعا للتحرك لتوجيه قوتها وجهودها بالكامل نحو الجبهة اللبنانية.. فكان اغتيال الحريري هو إشارة البدء وإعلان تفرغ إسرائيل ومن ورائها أمريكا للجبهة اللبنانية والسورية.. آخر معاقل المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة.
... [3] وأخيرا كما ذكرنا أن أنواع المتفجرات المستخدمة في عملية الاغتيال والتقنية العالية والتخطيطات الفائقة في تدبير الجريمة لا يتأتي الحصول عليها إلا لبعض الدول الكبري وعلي رأسها أمريكا ومعها بالطبع إسرائيل. من كل ذلك نخلص إلي أن المستفيد الأول وصاحب المصلحة القصوي من تنفيذ تلك الجريمة النكراء والقادر علي تنفيذها بأعلي درجة من التقنية العلمية ونظام الاستخبارات المتقدم لايمكن إلا أن ينحصر في.. إسرائيل وأمريكا.
أهداف التحالف اليهودي الصليبي
... تأتي أحداث لبنان ومطالبة الغرب والمعارضة اللبنانية بخروج الجيش السوري فوراً وبالكامل وبهذا الشكل المهين كخطوة ضغط جديدة علي سوريا من أجل تحقيق الأهداف التالية:
علي الصعيد السوري(1/14)
... [1] التخلي عن دعم (حزب الله) في جنوب لبنان: ذلك الحزب الذي أذاق إسرائيل مرارة الذل والهوان في ميدان القتال وأصابها بخسائر بشرية ومادية فادحة وأجبرها علي الانسحاب الوحيد في تاريخها الذي أذل عسكريتها وجعلها مثار سخرية.
... [2] التخلي عن دعم الجماعات الفلسطينية المعارضة: وهي الجماعات التي ترفض التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل مثل المكتب السياسي لحركة (حماس) و(الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) والتي تتخذ من دمشق مقرا سياسيا لها وهي الجماعات التي تعارض أي خطوات تفاوضية لعقد اتفاق سلام مع إسرائيل تحت ظل ذلك الخلل الرهيب في موازين القوي بين الطرفين.. والذي لابد وبلا خلاف من أن يدفع الطرف الفلسطيني ثمنه بضياع الكثير والكثير من حقوقه المشروعة.
... [3] التخلي عن دعم الجماعات المجاهدة في العراق: والذي يتخذ بعضها الأراضي السورية قواعد خلفية للانطلاق منها داخل الأراضي العراقية لتنفيذ مهماتها الجهادية ضد قوات التحالف ثم العودة إليها للإعداد و معاودة العمليات التي أرهقت الجيش الأمريكي وأذاقته الذل والهوان.. والتي تنكر سوريا وجودها علي أراضيها وتتحدي الولايات المتحدة تحديا عقلانيا وصريحا بشأنها حيث يقول الرئيس السوري للأمريكيين: كيف تطلبون مني القضاء علي أشباح عجزتم أنتم بكل قوتكم الجرارة وتجهيزاتكم الجبارة ومازلتم عاجزين عن القضاء عليها وأنتم تقفون بجوارنا علي الجانب الآخر من الحدود.(1/15)
... [4] الضغط علي النظام الحالي في سوريا: حتي يقبل مبدأ العودة إلي المفاوضات مع إسرائيل من نقطة الصفر وهو المطلب الذي تطالب به الحكومة الإسرائيلية الحالية وليس من حيث انتهي التفاوض السابق مع رئيس الوزراء الأسبق (اسحاق رابين) والذي تطالب به سوريا حيث قطع ذلك التفاوض شوطا بعيدا في الإقرار بحقها في استعادة هضبة الجولان كاملة غير منقوصة.. وخطورة مبدأ التفاوض من نقطة الصفر هو ضياع هضبة الجولان السورية إلي الأبد.. لأن ذلك يعني أنه كلما حققت المفاوضات بين الطرفين الإقرار ببعض الحقوق السورية في استعادة أراضيها.. تذهب الحكومة الإسرائيلية وتجيء حكومة جديدة تلغي كل ما تم تحقيقه علي يد الحكومة السابقة ولاتعترف به وتبدأ في التفاوض من جديد من نقطة الصفر.. ويظل ذلك علي مر السنين والعقود حتي ينسي المسلمون (الجولان) السورية كما نسوا من قبل (لواء الإسكندرونة) الذي تحتله تركيا في سوريا.. ومدينتي (سبتة) و(مليلية) اللتين تحتلهما أسبانيا في المغرب ومدن (حيفا) و(يافا) و(اللد) و(الرملة) التي تحتلها إسرائيل في أرض فلسطين.
علي الصعيد اللبناني
وفي هذا الاتجاه تتبلور أهداف التحالف علي النحو التالي:(1/16)
... [1] دفع لبنان إلي إحياء الفتنة الطائفية وإشعال نار الحرب الأهلية والتي سبق أن اشتعلت عام 5791م ولم تتوقف إلا باتفاق (الطائف) عام 2991م بعد أن دمرت الأخضر واليابس ومازال لبنان حتي اليوم يعاني من تبعاتها ويضمد جراحها.. وهذا هدف استراتيجي خطير يحلم به التحالف ويخطط لتحقيقه بكل السبل.. فبقدر ما تثور الفتنة الطائفية وتشتعل الحرب الأهلية تتفتت الأمة وتغيب إرادة الدولة الواحدة..، تلك الإرادة التي تبلورت في لبنان واجتمعت بجميع طوائفها وفئاتها حول (حزب الله) الذي استطاع أن يقهر العسكرية الإسرائيلية وأن يلحق بها هزيمة مريرة غير مسبوقة، حيث اجتمعت جميع الطوائف اللبنانية علي خيار استراتيجي واحد قبلته كلها عن فخر ورضا هو خيار المقاومة المسلحة حتي استعادة آخر شبر من أرض لبنان في (مزارع شبعا) ورفض التفاوض مع إسرائيل إلا علي مبدأ تحرير كامل التراب اللبناني والسوري المحتل.
... [2] القضاء علي (حزب الله) وتدمير بنيته الأساسية من خلال جرّه إلي الدخول في حرب أهلية ليس فيها منتصر ولا مهزوم تدوم سنين طوالا وتأكل فيها كل أطرافها حتي تنهك قواها وتدمر إمكانياتها.. وبذلك تتحول استراتيجية الحزب من محاربة العدو اليهودي إلي محاربة الأخ اللبناني.. من استراتيجية واضحة المعالم أثارت انبهار العالم وإعجابه واحترامه وجسدت وحدة اللبنانيين وأثارت فخارهم.. إلي استراتيجية تسقط فيها كل القيم والمباديء والشرف ويصبح معها كل الأطراف معاول هدم تقوض أركان الوطن الأم.(1/17)
... [3] فإن لم يتمكن التحالف من تحقيق ذلك الهدف.. وهو القضاء علي (حزب الله) بإثارة الفتنة الطائفية وإشعال الحرب الأهلية وهذا احتمال قائم وقوي.. فإن هدفه يتراجع إلي المطالبة بنزع سلاح الحزب وتحويله إلي حزب سياسي ينخرط في حلبة السياسة، ويتوه في دهاليزها.. فيفقد الحزب ذلك العنصر الذي جعله فوق الجميع وجعل له موقع التفرد والصدارة بين كل الطوائف والجماعات في لبنان والذي وحد الأمة حوله وهو عنصر الجهاد المسلح ضد العدو اليهودي.. وبذلك تتخلص الدولة اليهودية.. من آخر معقل للجهاد علي حدودها ومن آخر صوت يجرؤ علي الارتفاع متحديا إرادة التحالف اليهودي الصليبي ومتصديا لمخططاته لإعادة رسم خريطة العالم العربي والإسلامي بما يؤدي إلي ميلاد دولة إسرائيل المزعومة من النيل إلي الفرات.
... [4] إسقاط النظام اللبناني: تحت وهم أن لبنان هي (جورجيا) أو (أوكرانيا) وذلك من خلال العمل الدؤوب لتنصيب بعض قيادات الطوائف علي سدة الحكم.. وهي تلك القيادات التي تتصف بمعارضة المنظور الإسلامي الاستراتيجي في الصراع مع اليهود والصليبيين.. والتي لا يعنيها من خلال التحالف مع الغرب الصليبي في المقام الأول إلا تحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة.. فإذا تقلدت تلك القيادات حكم الدولة كان أول ما تفعله هو عقد اتفاق سلام مع إسرائيل.. فتسقط بذلك قلعة جديدة من قلاع المقاومة ضد العدو اليهودي وتتنفس إسرائيل الصعداء لتأمين حدودها مع لبنان بعد أن أمنتها من قبل مع مصر والأردن وبذلك ينزاح عبء ثقيل من علي كاهل إسرائيل ولا يبقي أمامها إلا عقبة واحدة ضاقت بها السبل والتفت حول عنقها الحبال وفقدت كل رفاقها علي درب التصدي لمطامع وهيمنة الدولة اليهودية.. تلك هي سوريا.
علي صعيد التحالف اليهودي الصليبي
وفي هذا الاتجاه فإن هناك هدفين أساسيين لهذا التحالف وهما:(1/18)
... [1] إشغال العالم ووسائل الإعلام ولو مؤقتا عن متابعة الأحداث اليومية في العراق حيث تشهد الأراضي العراقية يوميا وبلا هوادة دلائل فشل قوات التحالف في العراق والتي أصابتها بالخسائر البشرية والمادية الفادحة.. وأخذت أوراق الغرور والكبر العسكري الأمريكي تتساقط واحدة وراء أخري حتي لم يبق منها إلا بعض الأوراق تستتر بها وتخشي من سقوطها فتشيع فضيحتها وذلك بأن تجبرها المقاومة العراقية تحت وطأة وعنف ضرباتها القاتلة علي الانسحاب من العراق كما انسحبت من قبل من فييتنام وكما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان.
... [2] الاستمرار في تنفيذ مخطط تفتيت الدول العربية والإسلامية واحدة وراء الأخري وعدم التوقف عنه خدمةً وتحقيقاً للمشروع اليهودي بإحياء وبعث دولة إسرائيل المزعومة.. فإذا كانت المقاومة العراقية قد استطاعت أن تكسر شوكة العسكرية الأمريكية وأجبرت استراتيجية التحالف علي القبول بتراجع الخيار العسكري في حربها للدول الإسلامية، فإنها يمكن أن تتحول إلي الخيارات التالية في تنفيذ مخططاتها والتي منها إثارة الفتن بين الفرقاء في الوطن الواحد وتأجيج نيران حرب أهلية محتملة ثم دعم الفريق الذي يقبل الخضوع لهيمنتها والعمل تحت ظلها حتي يصل إلي سدة الحكم كما حدث في أفغانستان..
مواقف الدول من الأزمة اللبنانية
? ما المواقف التي اتخذتها الدول المختلفة من الأزمة اللبنانية؟
تعددت مواقف الدول من الأزمة اللبنانية وتباينت بين مؤيد للوجود السوري ومعارض له، وبين من تبني إثارة المشكلة، وبين من غلَّب لغة المصالح علي علاقاته الإسلامية والعربية بشكل عام.. المهم هو أن الأزمة أفرزت عدداً من المواقف ساهمت وبشكل فعال في توسيع دائرة الخلافات العربية من ناحية، وتوسيع دائرة التدخل الأجنبي في الشئون العربية من ناحية أخري.. وسنحاول من خلال السطور التالية إيضاح بعض الحقائق حول مختلف هذه المواقف.
موقف فرنسا:(1/19)
... بالنسبة للموقف الفرنسي فهو موقف أثار دهشة قطاع عريض من الناس، واحتار في تفسيره الكثيرون، واعتبره البعض موقفا لغزًا.. وذلك لأن فرنسا وطوال ما يقرب من أربعة عقود من الزمان وبالتحديد منذ وقوع العدوان الإسرائيلي علي الدول العربية عام 7691م ، منذ ذلك التاريخ وهي تتبني مواقف حيادية ومنصفة وأقرب ما تكون إلي الجانب العربي في صراعه مع إسرائيل، وذلك طبعاً بغض النظر عن حقيقة النوايا ولعبة المصالح.. وكان آخر موقف لها علي نفس السياسة هو موقفها المعارض لأمريكا بشدة في حربها علي العراق.. وكانت هذه السياسة الفرنسية تعارض وتخالف السياسة الأمريكية التي تتبني موقف التحيز المطلق لإسرائيل ضد العرب والمسلمين.(1/20)
... وفجأة استيقظ العالم علي ذلك القرار المجحف والمتعسف والذي يكيل بمكيالين بشكل مفضوح والداعي إلي الخروج الفوري والكامل للقوات السورية الموجودة في لبنان.. في نفس الوقت الذي يتجاهل فيه احتلال إسرائيل لأراضي ومزارع شبعا اللبنانية ومرتفعات الجولان في سوريا والضفة الغربية وغزة في فلسطين.. وكان من الممكن أن يمر ذلك القرار مرور الكرام لو كانت الذي تبنته أمريكا العدو اللدود للعرب والمسلمين، ولكن المدهش أن الذي تبني هذا القرار وقدمه لمجلس الأمن باسمه وبذل أقصي الجهود لتمريره هو فرنسا صديقة العرب المزعومة!! ومن ورائها تدعمها بشكل مباشر أمريكا وبعض الدول الغربية الأخري.. وكانت الدهشة مزدوجة.. أولا لصدور ذلك القرار العدائي والمتعسف والمجحف للعرب من الصديق الفرنسي.. وثانيا:لذلك العنف وتلك الحدة والشدة في مفرداته.. الخروج الفوري والكامل للقوات السورية من لبنان.. ثم زادت الدهشة لدعوة ذلك القرار لنزع سلاح حزب الله وتجريده من قوته العسكرية وهو الحزب الذي طالما تفهمت فرنسا مواقفه ورفضت وصمه وتوصيفه بالإرهاب متحدية في ذلك إرادة أمريكا وإسرائيل.. ووقف العالم كله في دهشة يتساءل.. ما سبب ذلك التحول الفجائي والعنيف في السياسة الفرنسية تجاه العرب والمسلمين؟.. وهل هذا إعلان عن بدايةٍ لتغيير دائم في الاستراتيجية الفرنسية تجاه قضاياهم.. أو أنه موقف عابر ستتخطاه الأحداث وتعود فرنسا بعده لسابق عهدها؟(1/21)
... والحقيقة أن تلك الدهشة قد أصابت الناس في هذا العالم علي درجات متفاوتة.. فالناس في دول التحالف الصليبي اليهودي لم تندهش علي الإطلاق لأنها تعلم جيدا أن تلك الدول مهما اختلفت فيما بينها علي مصالحها فإنها تتفق جميعها وبلا استثناء علي عدائها للعرب والمسلمين.. والقلة القليلة من العرب والمسلمين لم تصبهم الدهشة كثيرا وهؤلاء هم الذين يقرأون التاريخ ويتعمقون في تحليل الأحداث ويعلمون جيدا أن المحرك الأول للدول في العالم وطوال التاريخ هو الانتصار لعقيدتها ومحاولة نشرها وهيمنتها علي الآخرين.
... أما الغالبية الغالبة من العرب والمسلمين فقد أصابتهم الدهشة.. وغمرتهم الحيرة ونظروا للموقف الفرنسي علي أنه لغز محير.
وفي السطور القليلة التالية نحاول أن نبين المعطيات والأدلة علي أن الموقف الفرنسي لم يكن لغزا علي الاطلاق.. وكذلك أي موقف مستقبلي منها أو من أي دولة صليبية أخري.. وأهم هذه المعطيات هي:
... أولا: أن فرنسا عندما تبنت موقفا مؤيدا للعرب بعد حرب 1967 ومعارضا للموقف الأمريكي والإسرائيلي لم تفعل ذلك حباً في العرب.. وإنما كان ذلك ردا علي الموقف الأمريكي المعارض لفرنسا وانجلترا في عدوانهما الثلاثي مع إسرائيل علي مصر عام 1956م حيث تجاهلت فيه هذه الدول أمريكا ولم تتفق معها ولم تشركها في التدبير لذلك العدوان.. فكانت النتيجة ذلك الموقف المعارض للعدوان للرئيس الأمريكي في ذلك الوقت (دوايت إيزنهاور) والذي كان أحد العناصر القوية التي أجبرتهم علي الانسحاب من بورسعيد بعد أقل من شهرين من بدء العدوان.. وذلك بالطبع بعد الموقف البطولي والجهادي للمصريين الذي أثار انبهار العالم في صدهم للعدوان.(1/22)
... ثانيا: أن فرنسا عندما عارضت الحرب الأمريكية علي العراق بشكل شديد وغير مسبوق لم تفعل ذلك حباً في العرب ونصرةً للعراق كما ذكرنا من قبل.. وإنما فعلت ذلك لأن أمريكا انفردت وحدها باتخاذ قرار الحرب وخوض غمارها متجاهلةً كل الدول الصليبية الأخري في أوروبا التي تريد أن تكون نداً وشريكاً لها في قيادة التحالف مثل فرنسا وألمانيا ومكتفية بالدول التي قبلت أن تكون تابعة لها تسير في ركابها مثل انجلترا وإيطاليا.. وأسبانيا في المرحلة الأولي من الحرب.. طامعة في أن تنال وحدها شرف قيادة التحالف اليهودي الصليبي.. وطامعة أيضا في أن تفوز بغنيمة بترول العراق وثرواته الهائلة وحدها.. ولم تهتم أمريكا تحت غرور وكبرياء القوة التي تملكها وبسبب انعدام جذورها الحضارية العريقة بذلك الشرخ الذي أحدثته مع دول التحالف الصليبي في أوروبا.
... لذلك فعندما دفعت أمريكا ثمن جهلها وغرورها وغاصت في مستنقع العراق تنبهت لفعلتها الشنيعة التي ارتكبتها بتجاهلها للرموز الصليبية في أوروبا فعادت إلي رشدها ورجعت إلي تلك الدول محاولة معالجة الشرخ وجمع الصف.. وكان ذلك هو الهدف الأساسي الذي دفع الرئيس الأمريكي (جورج بوش) إلي زيارة أوروبا -بعد إعادة انتخابه للمرة الثانية مباشرة - وكانت فرنسا علي رأس القائمة وأولي محطاته لتحقيق ذلك الغرض.(1/23)
... وما حدث هو أن الرئيس الأمريكي قَبِلَ وعرض علي الفرنسيين أن يكونوا شركاء له وقادة في حملته الصليببية علي الإسلام والمسلمين لاتابعين ومقودين، ووعدهم بأن يكونوا شركاء لأمريكا في القيادة والريادة في كل الأحداث التي تلي هذا الاتفاق.. وكان الحدث الأول بعد هذا التوجه الجديد هو ذلك القرار الذي تبنته فرنسا، وأخذت فيه جانب القيادة ووقفت أمريكا تابعة لها مؤكدة ذلك التغيير الجذري في الاستراتيجية الأمريكية في حربها الصليبية ضد العرب والمسلمين،، وهو عدم الانفراد بالقيادة وتجاهل الآخرين.. لذلك عندما جاءت الرياح بما تشتهيه السفن الفرنسية نسيت فرنسا وتجاهلت بين غمضة عين وانتباهتها كل ما كان يظنه البسطاء من العرب والمسلمين أنه انحياز للعدل ونصرة
للمظلومين، وظهرت علي حقيقتها زعيمة من زعماء الحروب الصليبية سابقا ولاحقا علي العرب والمسلمين.
... ولذلك عندما جاء الدور علي سوريا في أجندة أمريكا وإسرائيل بعد تهدئة الجبهة الفلسطينية ثبت أنهما تعلمتا الدرس والتزمتا بالاستراتيجية الجديدة فاتجهتا إلي فرنسا التي استجابت فورا.. وتبنت القرار فكانت القيادة للطرفين وكانت الغنيمة أيضا للطرفين.. أمريكا وإسرائيل تفوزان بضرب سوريا بكل ما يحققه ذلك من مكاسب.. وفرنسا تفوز بالعودة إلي لبنان والهيمنة عليها موقظة في أعماقها ذلك الحلم الاستعماري القديم حين كانت فرنسا تحتل سوريا ولبنان والمغرب والجزائر وتونس والصومال. ولم يكن توطيد فرنسا لعلاقاتها مع بعض الرموز اللبنانية مثل (رفيق الحريري) زعيم الطائفة السُنِّية والعماد (ميشيل عون) الرئيس الأسبق للبنان إلا تمهيدا وإعدادا لتلك العودة وتلك الهيمنة.
موقف الأردن:(1/24)
... أعلن وزير خارجية الأردن أن سوريا يجب عليها أن تلتزم بالتنفيذ الفوري والكامل لقرار مجلس الأمن بانسحابها من لبنان وبرر ذلك بأننا إن لم نلتزم بقرارات الأمم المتحدة فسوف نعطي الحجة للآخرين ــ ويقصد إسرائيل ــ أن يرفضوا تنفيذ القرارات المتعلقة بإعادة حقوقنا لنا وتغافل الوزير الأردني عن أن القرار الدولي نظر للقضية بعين واحدة.. فقد نسي أن يأمر إسرائيل أيضا بالخروج الفوري والكامل من (مزارع شبعا) في لبنان، ومن (هضبة الجولان) في سوريا.. وغفل الوزير أيضا عن أن إسرائيل وطوال مايزيد عن نصف قرن من الزمان لم تكن لقرارات الأمم المتحدة بإعادة الحقوق العربية عندها مكان إلا أن تدوسها بالأقدام ولم يطلب منها مجلس الأمن أي تنفيذ فوري أو كامل لتلك القرارات.
... أما ما يثير الصدمة والدهشة والذهول من موقف الأردن ـ الدولة العربية المسلمة ـ بين كل العرب والمسلمين في العالم فهو ذلك الخبر الغريب الذي نشرته جريدة الأخبار القاهرية في عددها الصادر بتاريخ (24/3/2005م) علي الصفحة السابعة وجاء فيه مايلي بالحرف الواحد:(1/25)
... «ذكرت صحيفتا (يديعوت أحرونوت) و(هآرتس) الإسرائيلتان أمس أن العاهل الأردني الملك (عبدالله الثاني) شن هجوما عنيفا علي سوريا وإيران واتهمهما بأنهما تهددان الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وذلك خلال لقاء له تم في واشنطن مع القادة الأمريكيين واليهود.. وقالت (يديعوت أحرونوت) أن العاهل الأردني حذر من أن سوريا وإيران و(حزب الله) الذي يدعمه البلدان يشجعون العمليات الإرهابية علي إسرائيل بهدف صرف أنظار المجتمع الدولي عما يجري في الساحة اللبنانية السورية وقال الملك (عبدالله) للجالية اليهودية أنه حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي (إريل شارون) مؤخرا من هجمات إرهابية مخططة ونصحه كذلك بالتحقق من مصدر أي هجوم حتي لايتم الرد علي الهدف الخاطيء مشيرا بذلك إلي أنه يجب تحميل (حزب الله) وليس الفلسطينيين مسئوليتها.. كما أفادت الصحيفتان أن الملك (عبدالله الثاني) أكد أنه قد أحبط مؤخرا عدة محاولات لحزب الله لإرسال إرهابيين إلي إسرائيل عن طريق الأردن..
... ونقلت (يديعوت أحرونوت) عن مشاركين في الاجتماع أنهم فوجئوا كثيرا بنبرة حديث العاهل الأردني الحادة لدي تحدثه عن سوريا وقالوا إنه بدأ التحدث عن تهديدات سوريا و(حزب الله) بدون أن يطَْلب منه ذلك.. وتابعت الصحيفة أن الملك عبدالله قال أن بلاده تتبني وجهة نظر مماثلة لإسرائيل من حيث اعتبار إيران الخطر الذي يهدد استقرار الشرق الأوسط وأن مواجهة هذا التهديد تتمثل بنجاح الديمقراطية في العراق والتقدم نحو التوصل إلي حل للصراع العربي الإسرائيلي» (نهاية الخبر).
... وبقدر ما أثار ذلك الخبر من صدمة ودهشة وذهول في نفوس كل العرب والمسلمين في العالم فإن تلك الصدمة والدهشة والذهول ستتضاعف ما لم ير العرب والمسلمون بأعينهم ويسمعوا بأذانهم تكذيباً صريحاً واستنكاراً عنيفاً من ملك الأردن العربي المسلم لذلك الخبر.
موقف ليبيا:(1/26)
... اتخذت ليبيا موقفا جريئا وشجاعا ومفاجئا من الأزمة اللبنانية بل إنه يكاد يكون الموقف الأجرأ والأشجع علي الإطلاق، فقد أعلن الرئيس الليبي (معمر القذافي) علي مسمع من جميع وسائل الإعلام في العالم في خطابه الذي ألقاه أمام مؤتمر القمة العربية الأخير في الجزائر وبحضور الملوك والرؤساء العرب والأمين العام للأمم المتحدة وممثل الاتحاد الأفريقي، وممثل الاتحاد الأوروبي، ورئيس وزراء أسبانيا، وحشد غفير من ممثلي المنظمات العالمية والإقليمية.. أعلن أن مجلس الأمن الدولي هو (مجلس للبلطجة) وأنه لايصدر القرارات الموجبة بالانصياع الفوري والكامل والواجبة النفاذ بلا نقض ولا استئناف إلا علي الدول (الغلبانة) وهي الدول العربية والإسلامية.. وأن ذلك المجلس لا يصدر قراراته الظالمة والمتعسفة والمهينة للدول العربية والإسلامية إلا ويقرنها بالبند السابع من ميثاق مجلس الأمن والذي يهدد باستخدام القوة العسكرية لتنفيذ هذه القرارات في حال رفض الدولة المعنية بالقرار تنفيذه.. وتحدي القذافي أن يجرؤ مجلس الأمن علي أن يصدر قراراً واحدًا ضد إسرائيل يستند إلي البند السابع من ميثاقه ويهددها بتنفيذه بالقوة العسكرية.. وكذلك تحدي مجلس الأمن أن يصدر أي قرار ضد أي دولة من الدول الكبري ذات الهيمنة والسلطان.. وما كاد الحاضرون يسمعون ذلك الخطاب المفاجيء والمدهش حتي قام الأمين العام للأمم المتحدة بمغادرة قاعة الاجتماعات بعد خمسة عشر دقيقة فقط من بدء الجلسة تعبيرا عن احتجاجه علي ما ذكره الرئيس الليبي.
الموقف المصري:(1/27)
كان الموقف المصري موقفاً واقعياً أراد أن يحفظ ماء وجه سوريا في نفس الوقت الذي لم يستطع فيه أن يتجاهل حقائق العصر الذي نعيشه وهو أن قوي الظلم والاستكبار قادرة علي أن تفعل في سوريا ما فعلته في العراق.. لذلك فقد حرص الرئيس المصري حسني مبارك منذ بداية الأزمة علي الاتصال بالرئيس السوري إما باللقاءات المباشرة أو الاتصالات الهاتفية ليقنعه بتنفيذ القرار الدولي، في نفس الوقت الذي حرص فيه علي إيجاد مخرج يحفظ لسوريا بعض كرامتها.. فكان ذلك الموقف المصري الذي دعا سوريا إلي تطبيق قرار مجلس الأمن من خلال الالتزام باتفاق (الطائف) الذي دخلت بموجبه سوريا إلي لبنان والذي يوجب ان تتم عملية الانسحاب بعد الانتهاء من المهمة السورية في لبنان وبالتنسيق الكامل بين القيادات المسئولة في البلدين الشقيقين، والآن وقد أنهت سوريا دورها في لبنان بإنهاء الحرب الأهلية و إعادة الأمن والاستقرار إلي ربوعه فقد آن الاوان لعودتها إلي بلادها مشكورة مأجورة.
الموقف السوري:(1/28)
تميز الموقف السوري بالحكمة والواقعية.. فبالرغم من الأسلوب الاستفزازي والمهين الذي صدرت به عبارات وألفاظ القرار الدولي إلا أن سوريا أدركت أنها لن تستطيع أن تتصدي للعاصفة التي فقدت فيها كل أوراقها لذلك فقد قررت سوريا الاستجابة للقرار.. ولكن الرئيس السوري أراد ألا يمر الحدث بالاستجابة له قبل أن يلقي بالقفاز في وجه قوي الشر والطغيان.. فألقي ببيان أمام المجلس النيابي السوري تحدث فيه بالتفصيل عن ملابسات الأزمة وكيف أن دخول سوريا إلي لبنان تم باتفاقيات شرعية أقرها العالم أجمع وكذلك فإن خروج سوريا من لبنان هو شأن يخص البلدين فقط ولايكون إلا بمشيئتهما والاتفاق بينهما.. إلا أنه قال: إننا نقبل القرار الدولي لا لأنه قرار عادل ونزيه ولكن جبرًا وقهرًا لأننا نعيش في عالم يحكمه قانون الغاب ويكيل فيه الكبار بمكيالين ويتعاملون مع المواقف المتشابهة بمعايير مزدوجة، ثم دلل علي ذلك بذلك التناقض المفضوح بين ثورة العالم أجمع مطالبًا بخروج سوريا الفوري والكامل من لبنان.. وتلك السكينة والهدوء والقبول بالاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ في لبنان أيضا.. وأراضٍ في سوريا وفلسطين؟!! تلك أهم مافي الأحداث الحالية من وقفات كان ينبغي توضيحها للجميع، وفي ملف قادم بمشيئة الله تعالي سوف نستعرض جذور الأزمة اللبنانية وأهم مافيها من أحداث، ثم نضع في النهاية تصورنا المستقبلي لما سيحدث طبقاً لقراءة الماضي وتحليل الحاضر واستشراف المستقبل إن شاء الله.
(حزب الله .. ونصر الله)
نشر هذا الملف في العدد الخامس والعشرين السنة الثانية
من مجلة التبيان بتاريخ
شعبان 1427هـ سبتمبر 2006م
إن للأمم العظيمة ملاحم.. يتوقف عندها الزمان.. ويشرئب لها المكان.. البشرية تشهدها.. والتاريخ يسطرها.. وتتوارثها الأجيال.(1/29)
... ولأمة الإسلام العظيمة ملاحمها.. القادسية.. اليرموك.. حطين.. عين جالوت.. القسطنطينية.. وفي القلب منها... مؤتة والفالوجة.. وجنوب لبنان.. وفيها انصهرت النفس البشرية بالعقيدة والإيمان.. حين وقفت القلة الضعيفة من المجاهدين.. أمام الكثرة الطاغية من الكافرين.. وهذه مواقف لا تملك النفس البشرية فيها الخيار.. فإما قوة العقيدة وانشراح الصدور واطمئنان القلوب وثبات الأقدام.. وإما الرعب والفزع والانهيار...
... فيا أيها المجاهدون الأخيار.. يا رهبان الليل وفرسان النهار.. يا من تستردون شرف المسلمين وتصونون الأعراض.. يا من تعلمون البشرية ما هي الكرامة.. وكيف يكون النبل.. وكيف ترتفع الهامات ..يا من لا تحنون الجباه.. إلا لله الواحد القهار.
... مَنْ لي بأيديكم فأقبلها.. ومَنْ لي بأقدامكم فأغسّلها.. ومَنْ لي بهاماتكم فألثّمها.
... وياأيها الشهداء الأبرار.. يا مهجة القلب وقرة العين.. وياصفوة خلق الله الأخيار.. لقد سطرتم بدمائكم الذكية لهذه الأمة خير صفحات الشرف والمجد والفخار.. تمزقت أجسادكم لتحيا أمتكم.. وتناثرت أشلاؤكم لتحفظوا عقيدتكم.. فطوبي لكم.. طوبي لكم مواكب الشهداء.. تحفكم ملائكة الأرض والسماء.
... طوال شهر كامل أو يزيد دارت رحي حرب طاحنة.. بين قلة من المجاهدين المسلمين الصابرين المحتسبين المسلحين بقوة العقيدة وثبات الإيمان.. وكثرة طاغية من جند الباطل من اليهود مسلحة بأعتي ما أنتجته ترسانات الأسلحة وخلاصة ما أفرزته عقول الشر والطغيان.. وكانت النتيجة.. آيات إيمانية.. وفتوحات ربانية.. ونصر من الله وفتح قريب. وفي هذا الملف إن شاء الله نفتح بعضًا من صفحات هذه الحرب.. نستعرض الأحداث ونحلل النتائج.. ونستخلص العبر والدروس.
البدايات(1/30)
في اليوم الثاني عشر من يوليو عام 2006م قامت قوة من مجاهدي (حزب الله) في جنوب لبنان بعملية قتالية سميت باسم (الوعد الصادق).. وفيها تم قتل ثمانية جنود إسرائيليين وجرح واحد وعشرين وأسر جنديين وذلك من أجل مبادلتهم بأسري لبنانيين محتجزين في السجون الإسرائيلية.
... وعقب تلك العملية المؤلمة والمهينة للجيش الإسرائيلي والتي جاءت بعد أقل من شهر واحد من خطف جندي آخر علي يد منظمة (حماس) في قطاع (غزة) بدأت القوات الإسرائيلية البرية والجوية والبحرية بقصف الجنوب اللبناني مستهدفة كافة المنشآت والبني التحتية من طرق وجسور ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، وغيرها.. وفي نفس اليوم عقد الأمين العام (لحزب الله) السيد (حسن نصر الله) مؤتمرًا صحفيًا أعلن فيه أن الجنديين الأسيرين تم ترحيلهما إلي مكان بعيد وآمن.. وأن العملية فردية يتحمل مسئوليتها الحزب وحده ولا علاقة للحكومة اللبنانية بها.. ودعا الحكومة الإسرائيلية للتفاوض لتبادل الأسري.. وهددها بأن قوات (حزب الله) جاهزة للتصعيد إذا هي بادرت به. وقبلت إسرائيل التحدي واختارت التصعيد الذي تطور بسرعة مذهلة في أيام معدودات إلي حرب شاملة علي لبنان برًا وبحرًا وجوًا. استمرت ثلاثة وثلاثين يومًا.. ثم توقفت..
من المنتصر؟
? بعد أن توقف القتال.. هل نستطيع أن نحدد من المنتصر؟.. حزب الله أو إسرائيل؟
... لكي نجيب علي هذا السؤال يجب أن نعلم جيدًا أن الصراع العسكري هو أحد أدوات الحرب مثله مثل الصراع السياسي والاقتصادي والإعلامي والمعنوي.. وأن لكل طرف في تلك الحرب أهدافه.. فمن ينجح في تحقيق أهدافه بأي من هذه الأدوات كان هو المنتصر.. ومن يفشل في تحقيقها كان المنهزم.
... وبالرجوع إلي الأهداف التي أعلنها كل من طرفي الحرب وهما (حزب الله) و(إسرائيل) ثم تحديد المدي الذي وصل إليه كل منهما في تحقيقها نستطيع أن نحدد من المنتصر ومن المنهزم وذلك علي النحو التالي:(1/31)
... أولاً : (حزب الله): عندما قام الحزب بأسر الجنديين.. أعلن هدفه واضحًا جليًا وهو أنه لن يرد هذين الأسيرين إلا من خلال عملية تبادل للأسري مع إسرائيل من خلال مفاوضات غير مباشرة..
... ثانيًا: إسرائيل: بعد أن تم أسر الجنديين.. بدأت الآلة الحربية الإسرائيلية في الدوران وأعلنت إسرائيل أن لها ثلاثة أهداف لابد من تحقيقها لإيقاف الحرب وهي:
... 1- استعادة الجنديين الأسيرين دون أي شروط أو تبادل للأسري.
... 2- نزع سلاح (حزب الله) وتدمير قوته الصاروخية.
... 3- دفع (حزب الله) بعيدًا عن الحدود الإسرائيلية الشمالية إلي ما وراء نهر الليطاني أي ما يقرب من خمسة وثلاثين كيلو مترًا في عمق الجنوب اللبناني وتسليم ذلك الشريط الحدودي للجيش اللبناني وقوات دولية.
... وكانت إسرائيل تعتقد واهمة أن فرصة العمر قد واتتها لضرب (حزب الله) وتدمير بنيته الأساسية والانتقام لتلك الفضيحة العسكرية التي وصمتها والتصقت بها منذ عام 2000م حين أُجبرت من طرف واحد علي الإنسحاب من جنوب لبنان.
... فلما بدأت عجلة الحرب في الدوران.. فوجئت إسرائيل بما لم تتوقعه وما لم يكن في الحسبان من قوة وصلابة وصمود (حزب الله).. فبدأت أهدافها ومطالبها في التراجع تدريجيًا.. فلم تعد تطالب باستعادة الجنديين الأسيرين بلا شروط.. ولا بنزع سلاح (حزب الله) وتدمير قوته الصاروخية..
وإنما انخفضت مطالبها فقط إلي إيجاد منطقة عازلة في الجنوب اللبناني تحتلها قوات دولية لتحمي حدودها الشمالية من هجمات (الحزب).
... أما (حزب الله).. فبعد أن رأي أن إسرائيل قد صعدت الموقف وحولت قضية أسر الجنديين إلي حرب طاحنة فإنه قد رفع سقف مطالبه فأصبحت تبادل الأسري.. واستعادة (مزارع شبعا) اللبنانية التي كانت ومازالت تحت الاحتلال الإسرائيلي.(1/32)
... والآن.. وبعد أن صدر قرار مجلس الأمن رقم 1701 وتوقف القتال.. وبعد ثلاثة وثلاثين يومًا من القتال الطاحن بين آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وجند الله من المجاهدين في (حزب الله) فقد عجزت إسرائيل عن تحقيق أي انتصار عسكري يحقق لها هدفها الوحيد بإبعاد الحزب عن حدودها الشمالية.. بل إنها مُنيت بخسائر فادحة وهزائم متكررة لم يتوقعها أحد علي الإطلاق علي يد (حزب الله) الذي مازال قابضًا علي الأسيرين مصرًا علي مطلبه.
... من ذلك يتبين لنا أن إسرائيل قد فشلت في تحقيق أي من أهدافها بينما (حزب الله) مازال قابضًا علي ورقته الرابحة.. وهي الجنديان الأسيران.. وبذلك نعلم من الخاسر المنهزم ومن الفائز المنتصر.
الكفاءة القتالية في الميدان
? فإذا نزلنا إلي ميدان المعركة والصراع العسكري.. فكيف نقيم الوضع بين الطرفين؟
... منذ اللحظات الأولي لبدء القتال فوجئ العالم أجمع بمفاجآت حقيقية قلبت جميع الموازين رأسًا علي عقب.. وحطمت الكثير من الثوابت والمفاهيم التي بذل العدو الإسرائيلي جهودًا مضنية لتثبيتها في عقول المسلمين وترسيخها في نفوسهم.. ومن هذه المفاجآت:
المفاجأة الأولي:
... ذلك الصمود المبهر لحزب الله أمام جحافل الجيش الإسرائيلي.. فقد ظلت قوات المجاهدين ولمدة تزيد عن شهر صامدة أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة العاتية التي عجزت عن اختراق الحدود واحتلال ولو كيلومترات قليلة من الأرض اللبنانية تدعي بها نصرًا ولو زائفًا أو هزيلاً.. وتتمثل أهمية وخطورة ذلك الصمود طوال تلك المدة إذا تذكرنا أمرين هما:
... الأول: أن الجيش الإسرائيلي قد استطاع في الخامس من يونيو عام 1967م أن ينتصر انتصارًا ساحقًا وكاسحًا علي جيوش ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا والأردن وأن يدمرها تدميرًا كاملاً وأن يحتل أراضي شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة بالكامل.. كل ذلك في ستة أيام فقط.(1/33)
... الثاني: في معركة العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر 1973م وبالرغم من أن مصر وسوريا قد فاجأتا العدو الإسرائيلي في بداية المعركة مفاجأة عنيفة أفقدته توازنه واستطاعتا تحقيق نصر حاسم نتج عنه عبور مصر لقناة السويس واستعادة سوريا لهضبة الجولان.. إلا أن العدو الإسرائيلي في خلال عشرة أيام فقط وفي السادس عشر من أكتوبر استطاع أن يستعيد توازنه وأن يقوم بهجوم مضاد أعاد به احتلال هضبة الجولان السورية مرة ثانية.. واخترق الجبهة المصرية علي قناة السويس بين الجيشين الثاني والثالث الميدانيين فيما عرف باسم (الثغرة) حيث قام بالالتفاف خلف الجيش الثالث الميداني ومحاصرته وعزله داخل سيناء.. ولولا البسالة العظيمة التي أبداها المجاهدون في مدينة السويس بقيادة الشيخ المجاهد (حافظ سلامة) لاستطاع العدو الصهيوني احتلال تلك المدينة الاستراتيجية ولتغيرت نتيجة المعركة تغيرًا حاسمًا لصالح إسرائيل.
المفاجأة الثانية: تفوق (حزب الله) وسيطرته علي ميادين القتال:(1/34)
... 1-في القتال البري: في المعركة التي دارت في مثلث (مارون الراس - بنت جبيل - عيترون) وهي ثلاث بلدات لبنانية علي الحدود مباشرة يوم 24 يوليو.. دفعت إسرائيل بخيرة مقاتليها من رجال النخبة العسكرية في لواء (جولاني) للاستيلاء علي هذا المثلث الاستراتيجي.. فما كان من مجاهدي (حزب الله) إلا أن أوقعوا بهم هزيمة فادحة دفعتهم إلي الانسحاب بعد تدمير ثلاث دبابات من طراز (ميركافا 4) فخر الجيش الإسرائيلي.. وقتل ثلاثة عشر عسكريا إسرائيليا.. وكان لهذه المعركة مغزي خطير.. فقد كانت لقاءً مباشرًا بين المجاهدين المسلمين ونخبة المقاتلين اليهود وجهًا لوجه ورجلاً لرجل.. والنتيجة طبعًا وكما هو متوقع في مثل هذه الحالات معروفة.. فاليهود لا يستطيعون قتال المجاهدين وجهًا لوجه وإنما بطائراتهم وصواريخهم ومن وراء دباباتهم وحصونهم وأسوارهم تصديقًا لقول الله عز وجل(لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر:14)(1/35)
... 2- في القتال البحري: استطاع مجاهدو (حزب الله) في اليوم الرابع من الحرب 15 يوليو 2006م أن يدمروا بارجة إسرائيلية من طراز (ساعر - 5) كانت تقف في عرض البحر أمام العاصمة اللبنانية (بيروت) تقذف حممها وتصب نيرانها علي المدنيين الآمنين فما كان من (حزب الله) إلا أن وجه إليها نيران صواريخه فدمرتها وأشعلت النيران بها في ضربة قاتلة أصابت العالم أجمع بالذهول والانبهار.. خاصة أن مجاهدي الحزب قد نقلوا هذه الملحمة علي الهواء مباشرة علي شاشات التلفاز فرآها العالم كله بأم عينيه. وتعتبر هذه الكارثة هي الثانية في تاريخ البحرية الإسرائيلية في سلاح المدمرات والبوارج حيث كانت الكارثة الأولي هي إغراق السلاح البحري المصري للمدمرة الإسرائيلية (إيلات) عام 1969م أمام شواطئ مدينة (بورسعيد) المصرية مستخدمًا لنشات الصواريخ السوفيتية لأول مرة في تاريخ المعارك البحرية.. وبعد هذه الكارثة الثانية جاءت الكارثة الثالثة حين استطاع مجاهدو (حزب الله) تدمير بارجة ثانية أمام شواطئ مدينة (صور) يوم 31 يوليو 2006م. ثم جاءت الكارثة الرابعة حين استطاعوا في يوم 11 أغسطس أن يدمروا ويغرقوا أحد زوارق الصواريخ الإسرائيلية وعليه 12 بحارًا.
... 3- في القتال الجوي: استطاع مجاهدو حزب الله إسقاط ثلاث طائرات مروحية من طراز (آباتشي) المقاتلة.. وذلك في الأيام الأولي للمعركة.. وبالتحديد يومي 20، 24 يوليو ومنذ ذلك الحين ابتعدت تلك الطائرات التي تعتبر الغطاء الحصين والذراع الطولي للقوات البرية الإسرائيلية عن أي معركة تكون فيها في متناول يد المجاهدين. وفي يوم 12 أغسطس أسقط المجاهدون طائرة مروحية رابعة لنقل الجنود قُتِل فيها خمسة من طاقمها وأربعة وعشرون جنديًا كانوا علي متنها.
المفاجأة الثالثة: قصف إسرائيل بالصواريخ.(1/36)
... أما المفاجأة الثالثة فقد زلزلت الكيان الإسرائيلي وهزت أركانه وهي قصف شمال إسرائيل وحتي مدينة (حيفا) ثم (العفوله) وأخيرًا (الخضيرة) التي لا تبعد أكثر من أربعين كيلو مترًا عن العاصمة (تل أبيب) وذلك بصواريخ (الكاتيوشا) و(خيبر 1) التي يصل مداها من 80 - 100 كيلو متر مما أصاب سكان تلك المواقع وهم يقربون من المليوني نسمة بالهلع والفزع فعاشوا في المخابئ والملاجئ طوال فترة الحرب.. ومازال في جعبة (حزب الله) صواريخ أبعد مدي وأقوي تدميرًا وأشد تنكيلاً هي (خيبر 2) ويبلغ مداها 120 كيلو مترًا و(زلزال 2) ويبلغ مداه 250 كيلو مترًا ويستطيع أن يضرب (تل أبيب) و(بئر سبع) ومفاعل (ديمونة) النووي في صحراء النقب.
تحطم الثوابت وانهيار المفاهيم
? ما الثوابت التي انهارت والمفاهيم التي تحطمت؟.. وما العبر والدروس من تلك الحرب؟
... كانت هذه الحرب ساحة لقتال تحطمت فيها مفاهيم كثيرة وانهارت ثوابت ظلت ردحًا طويلاً تسكن عقولنا وتعشش في نفوسنا.. ومنها:
... أولا: أن إسرائيل دولة لا تقهر.. والجيش الإسرائيلي لا يهزم: وقد تحطم هذا الادعاء وثبت كذبه حين استطاع بضعة مئات أو ألوف من المجاهدين أن يصيبوا ذلك الجيش بالعجز والفشل في تحقيق أي مكاسب عسكرية علي أرض المعركة طوال ما يزيد عن شهر كامل من القتال الطاحن. بل أنهم كبدوه خسائر فادحة في العتاد والرجال.
... ثانيًا: أن إسرائيل دولة آمنة.. لا يجرؤ أحد علي مهاجمتها.. وهي واحة الأمن والأمان ليهود العالم.. وقد انهار هذا الادعاء وثبت زيفه حين انهمرت صواريخ حزب الله علي المدن والبلدات الإسرائيلية كالمطر واضطر حوالي ربع سكان إسرائيل إلي سكني الملاجيء والمخابيء لأيام وأسابيع في رعب وفزع ثم كان ذلك القرار الإسرائيلي بإخلاء مستوطنة (كريات شمونة) في الشمال الإسرائيلي من سكانها بالكامل.. وهي السابقة الأولي من نوعها في تاريخ إسرائيل.(1/37)
... ثالثًا: أن إسرائيل دولة مسالمة.. تريد أن تعيش مع جيرانها في سلام.. فما ارتكبته إسرائيل من مجازر ومذابح وحشية تستحي منها الوحوش وتخجل الشياطين ويندي لها جبين الإنسانية ولا يرتكبها إلا مسوخ في صورة بشر لا يمكن لها العيش إلا علي أرواح الشهداء وأشلاء الأجساد.. والمجازر كثيرة ويأتي علي رأسها مجزرة (قانا) الثانية.. التي استشهد فيها ثلاثة وسبعون شهيدًا معظمهم من النساء والأطفال.. أما مجزرة (القاع) في أقصي شمال لبنان في (سهل البقاع) فقد استشهد فيها ثلاثة وثلاثون شهيدًا من العمال والمزارعين الفقراء المسالمين.
... رابعًا: أن السلام خيار العرب الاستراتيجي.. وأن حرب أكتوبر 1973م أخر الحروب بين العرب وإسرائيل.. فقد ثبت للعرب أنهم كانوا واهمين ومخدوعين وأن ذلك الكيان الغاصب لا يمكن أن يعيش إلا علي إشعال الحروب والولوغ في دماء الأبرياء وتمزيق الأشلاء.. فبعد أن رأت الدنيا كلها آلة الحرب الإسرائيلية تفتك بإخواننا الفلسطينيين وتدمر بيوتهم وتسفك دماءهم.. ثم ذلك الطغيان والجبروت في حربها في جنوب لبنان.. فإن من يردد تلك المقولة بعد الآن (أن السلام خيار العرب الاستراتيجي..وأن حرب أكتوبر أخر الحروب) سوف يكون واحدًا من اثنين.. إما غرًا ساذجًا لا يصلح لقيادة أمة.. أو متواطئًا يؤدي دورًا مرسومًا له لتركيع أمة الإسلام والمسلمين.
موقف الحكام العرب
? كيف نحلل مواقف الملوك والروساء العرب من عملية أسر حزب الله للجنديين الأسيرين؟
... في الحقيقة إننا نريد أن نحلل مواقف الملوك والرؤساء العرب تحليلاً موضوعيًا بعيدًا عن العواطف والانفعال.. فنحدد ما يلي: ما ذلك الموقف؟ وما الدوافع له؟.. وما نتائجه وتداعياته العاجلة والآجلة؟
... أولا: ما ذلك الموقف؟(1/38)
اتخذ غالبية الملوك والرؤساء العرب موقفًا سلبيًا من ذلك الحدث فلم يتطرقوا إليه بالتأييد ولا بالاستنكار.. أما الدول العربية الثلاث المحورية في الصراع العربي الإسرائيلي وهي (مصر) و(السعودية) و(الأردن) فقد اتخذت موقفًا معارضًا واضحًا وصريحًا من تلك العملية منذ بدايتها.. فقد استنكرت ذلك الحدث ووصفته بأنه (مغامرة غير محسوبة) تمت لخدمة أهداف دول أخري في المنطقة يُقصد بها (سوريا) و(إيران) وأنها تعرض مصالح الدول العربية للخطر.. وأن من وضع نفسه في ذلك المأزق ويُقصد به (حزب الله) فعليه أن يجد لنفسه مخرجًا منه.
... كان هذا البيان إعلانًا صريحًا عن وقوف تلك الدول الثلاث ومن ورائها بعض الدول الخليجية ضد (حزب الله) وإدانتها له وتحميله مسئولية كل ما ينتج من تطورات.. وبالتالي اعتبرته إسرائيل تبريرًا مقبولاً لأي عمل تتخذه ضده لاسترداد جندييها الأسيرين.
? وما تبرير تلك الحكومات لذلك الموقف؟
... برر حكام الدول الثلاث موقفهم بما يلي:
... 1- أن (حزب الله) لم يتشاور مع الحكومة اللبنانية في القيام بتلك العملية.
... 2- أن (حزب الله) قد افتعل تلك العملية بتوجيه من إيران ليخفف عنها الضغوط التي تتعرض لها من المجتمع الدولي ومجلس الأمن فيما يتعلق بملفها النووي.
... 3- أن حكام تلك الدول وخاصة مصر ليسوا علي استعداد للتضحية بجيوش بلادهم بالدخول في حرب مع إسرائيل.. وهم ليسوا مستعدين لها.. وأنهم لن يضعوا أيديهم في فم الأسد.
? وهل يعتبر ذلك التبرير منطقيًا ومقنعًا؟
... في الحقيقة وبدون أي انفعال عاطفي أو التشكيك في خفايا القلوب فإن ذلك التبرير غير منطقي ولا مقنع وذلك للآتي:
... 1- أنه ليس من المعقول.. ولا يتخيل أي إنسان عاقل أن يقوم (حزب الله) بإخطار الحكومة اللبنانية بأنه سيقوم بعملية قتالية لأسر جنود إسرائيليين ويحدد لها الزمان والمكان.. وإلا لوجد الجيش الإسرائيلي بكامل رجاله وعتاده كامنًا في انتظاره!!(1/39)
... 2- أن المطلب الذي حدده (حزب الله) مقابل إطلاق سراح الجنديين الأسيرين وهو مبادلتهم بالأسري اللبنانيين والعرب هو مطلب لبناني خالص لا علاقة لإيران به.. كذلك عندما رفع حزب الله سقف مطالبه فأضاف إليها تحرير (مزارع شبعا) اللبنانية فقد كان ذلك أيضًا مطلبًا لبنانيًا خالصًا لا علاقة لإيران به.
... 3- أن إيران.. وبالرغم من أن (حزب الله) يعتبر أحد عناصر قوتها في صراعها مع الغرب وخاصة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني.. إلا أنها وحتي هذه اللحظة في موقف قوي لا يجعلها في احتياج (لحزب الله) لكي يخفف الضغوط عنها.. فإيران تتعامل مع الغرب وعلي رأسه الولايات المتحدة الأمريكية بنوع من الندية والتحدي والاستعلاء.. كذلك فإنها تملك من الأوراق ما يردع أمريكا وإسرائيل عن مهاجمتها أو ضرب منشآتها النووية.. فإيران تملك قوة صاروخية هائلة تهدد جميع المدن الإسرائيلية بما فيها مفاعل (ديمونة) النووي بالدمار.. كذلك فإنها تضع يدها علي مايزيد عن 130 ألف جندي أمريكي في العراق رهينة تحت يديها تستطيع أن تجعل حياتهم جحيمًا بإشعال نيران المقاومة الشيعية.. هذا بالإضافة إلي القوات والمعدات الموجودة بالقواعد العسكرية الأمريكية في قطر والكويت والإمارات والتي لا تبعد عن إيران إلا بعشرات الكيلومترات.. كذلك فإن إيران تستطيع قطع الطرق الملاحية في الخليج العربي بإغلاق مضيق (هُرْمُز) الذي يمر فيه حوالي 40% من نفط العالم.. وأخيرًا فإن إيران تستطيع أن تضرب أنابيب النفط في بحر قزوين.(1/40)
... 4- إن أحدًا لم يطلب من الملوك والرؤساء العرب أن يرسلوا جيوشهم غير المستعدة للقتال مع (حزب الله) في لبنان.. فقد قال لهم ذلك السيد (حسن نصر الله) بوضوح وجلاء: (نحن لا نريد سيوفكم ولا قلوبكم.. ولكن فكوا عنا) أي أن المطلوب فقط كان الوقوف علي الحياد وليس دعم اليهود وإعطاءهم المبرر والضوء الأخضر لتدمير لبنان.. ثم إن لنا نحن العرب سؤالاً نوجهه إلي ملوكنا ورؤسائنا وهم الأمناء علي أمتنا والمسئولون عنها بين يدي الله يوم القيامة. لماذا أنتم غير مستعدين؟!! وأين تذهب تلك الأسلحة المكدسة بعشرات ومئات المليارات من الدولارات في بلاد العرب؟ وما فائدتها؛ وهي تفوق ما عند (حزب الله) من سلاح بألوف المرات؟!! وماذا تفعلون إذا تعرضت بلادنا لعدوان مفاجئ عليها؟.. أتطلبون من العدو أن يمنحكم فرصة للاستعداد قبل أن تخوضوا الحرب للدفاع عن بلادنا؟!!! وهل إسرائيل حقًا أسد.. بعد أن كسر (حزب الله) أنيابها وخلع أظفارها؟!!
... هذه أسئلة تحتاج إلي ردود جادة ومخلصة ومتأنية وغير متعجلة.. فهي ردود تتوقف عليها مصائر أمتنا العربية.
? فإذا كان تبرير الحكام العرب لموقفهم غير منطقي ولا مقنع فهل هناك أسباب ومبررات أخري؟
... في الحقيقة أن الكثير من المحللين والسياسيين خاضوا كثيرًا في ذلك الأمر ووضعوا العديد من التحليلات نستطيع أن نلخصها فيما يلي:
... 1- كان هذا الموقف العربي متوافقًا كالمعتاد مع موقف التحالف اليهودي الصليبي في خلافه العميق مع سوريا وإيران وعدائه المطلق لـ(حزب الله).(1/41)
... 2- خوف هؤلاء الحكام من إحياء فريضة الجهاد الإسلامي ضد إسرائيل مرة أخري من قبل (حزب الله) في لبنان، بعد أن انحصر ذلك الجهاد في منظمة (حماس) ومنظمات الجهاد الإسلامي الأخري في (غزة) والتي كانوا يشاركون في ذلك الوقت في حصارها حصارًا خانقًا ومميتًا، وكانوا يأملون في ضربها والقضاء عليها لتختفي نهائيًا كلمة (الجهاد) من قاموس الصراع العربي الإسرائيلي تمهيدًا لتصفيته بالحلول السلمية مع إسرائيل.
... 3- الخوف من أن ينتصر (حزب الله) علي إسرائيل كما انتصر من قبل في عام 2000م فيزيد ذلك من شعبيته بين الجماهير العربية، وبالتالي يزيد من قوة إيران ويضاعف من نفوذها وتأثيرها علي ساحة الصراع العربي الإسرائيلي.. ومن هيمنتها علي العالمين العربي والإسلامي.
... 4- الخوف من أن يكون انتصار (حزب الله) في ذلك الموقف وإجباره إسرائيل علي تبادل الأسري معه كاشفًا ومحرجًا لهذه الزعامات التي اتبعت نهج المسالمة مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًا لها، وأوهمت شعوبها أنها لا قبل لها بقوة إسرائيل التي لا تُقهر.. وكان ذلك تدشينا لسياسة وثقافة المسالمة التي بدأها الرئيس الراحل (أنور السادات) رحمه الله حين قال: (أنا لا أستطيع أن أحارب أمريكا.. ومصر لا تتحمل الحرب.. وإذا دخلناها فليس لدينا القدرة علي محاربة إسرائيل لأن الذي يحاربنا هي الولايات المتحدة).
? وما السبب في تعجل هذه الدول الثلاث في إعلان ذلك الموقف وبتلك السرعة؟(1/42)
... من الغريب أن حكام تلك الدول معروف عنهم أنهم دائمًا ما يتأنون في اتخاذ القرارات الهامة ولا يتعجلون في إعلانها.. ولكنهم في ذلك الموقف خانتهم الحكمة وجانبهم التوفيق، فتعجلوا بإعلان تلك التبريرات غير المنطقية.. فقد كان الجميع وللأسف الشديد بما فيهم هؤلاء الحكام يعتقدون أن الإعصار الإسرائيلي العاصف لن يلبث إلا أيامًا معدودات حتي يقتلع (حزب الله) من جذوره في جنوب لبنان ويستأصل شأفته.. وأن هناك مرحلة جديدة سوف تبدأ في هذه المنطقة كما ذكرت وزيرة الخارجية الأمريكية تكون الهيمنة فيها للتحالف اليهودي الصليبي، وتختفي منها نهائيًا ثقافة وفكر وروح الجهاد.. فأراد هؤلاء الحكام أن يتعجلوا بإعلان موقفهم المتوافق مع الموقف اليهودي الصليبي قبل أن تنتهي المعركة، ليُحسب لهم ذلك عند إعادة تشكيل المنطقة وتوزيع المكاسب.. كما حدث من قبل في أفغانستان ثم العراق. التداعيات والنتائج
? فما التداعيات والنتائج التي ترتبت علي موقف الحكام العرب؟
... كان لذلك الموقف غير المتوقع علي الإطلاق من حكام تلك الدول تداعيات ونتائج سلبية خطيرة سواء علي المدي القريب أو البعيد تمثلت فيما يلي:
... 1- انتفضت الشعوب المسلمة استنكارًا لذلك الموقف الذي خذل فيه هؤلاء الحكام المقاومة والجهاد الإسلامي.. وانطلقت مظاهرات التأييد لحزب الله والاحتجاج علي تخاذل الحكام تجوب مدن وعواصم الدول العربية والإسلامية وظهرت الفجوة الكبيرة والخطيرة بين الشعوب وحكامها فيما يتعلق بدعم الجهاد الإسلامي عمومًا و(حزب الله) خصوصًا في الصراع العربي الإسرائيلي.
... 2- أعطي هذا الموقف لإسرائيل مبررًا سياسيًا ودوليًا قويًا للتمادي في غيها وتصعيد المعركة مع (حزب الله) إلي حرب إبادة شاملة ضد الشعب اللبناني عن بكرة أبيه أحرقت فيها الأخضر واليابس.. وذلك بادعاء أنها تتمتع بدعم العالم أجمع بما فيه الدول العربية والإسلامية، وذلك لأول مرة في تاريخها في ذلك الصراع.(1/43)
... 3- خسرت هذه الدول خسارة استراتيجية فادحة علي البعد الإقليمي بفقدان أي مكانة لها أو نفوذ أو تأثير علي الساحة اللبنانية بعد أن أعطت الضوء الأخضر للعدو الإسرائيلي لتدميرها واجتثاث جذورها وسلمتها له لقمة سائغة.. وكانت هذه الدول قد فقدت من قبل كل نفوذ أو تأثير أو حضور علي الساحة العراقية حين دعمت وناصرت التحالف اليهودي الصليبي في غزوه وتدميره للعراق الشقيق.. وطبعًا كان يقابل ذلك التراجع والانحسار في النفوذ العربي تصاعد وتنامي النفوذ الإيراني في تلك الدول وفي ساحة الشرق الأوسط علي العموم.. فبعد أن ملأت إيران الفراغ الذي نتج عن التخاذل العربي في العراق بقوة، وأصبحت هي اللاعب الرئيسي الذي يحرك الأحداث فيه.. عادت لتملأ ذلك الفراغ الذي نتج أيضًا عن تخاذل العرب مرة ثانية في لبنان وكأنهم لا يتعلمون أبدًا من التجارب والأحداث.. فرأينا وزير خارجية إيران يزور بيروت ويعقد مفاوضات مع وزير خارجية فرنسا بناء علي طلب الأخير وفي مقر السفارة الإيرانية وذلك انطلاقًا من قوة التأثير والنفوذ الإيراني علي (حزب الله) ثم التقي بالمسئولين اللبنانيين وأعلن دعم إيران للبنان في كل ما يجمع عليه اللبنانيون لبلادهم.. وبذلك أصبح الوجود الإيراني علي الساحة اللبنانية واضحًا وراسخًا مقابل الغياب المطلق للوجود العربي.. وهنا أحست هذه الدول العربية بالخطر وبأن النفوذ الشيعي يمتد طاغيًا إلي لبنان بعد أن اكتسح العراق، فسارعت إلي محاولة اللحاق بركب التسوية وإيجاد الحلول للصراع، ولكن للأسف الشديد.. كان ذلك في الوقت الضائع وبعد فوات الأوان.. وبعد أن أدار اللبنانيون جميعًا ظهورهم لتلك الدول المحورية التي اتخذت ذلك الموقف المتخاذل تجاههم.. فقد رأينا وزير الخارجية المصري يسارع بزيارة لبنان والالتقاء بالمسئولين بها.. والسعودية ترسل معونات بمئات الملايين من الدولارات.. وأعلنت الدولتان مطالبتهما بوقف فوري لإطلاق النار..(1/44)
ثم انعقد مؤتمر لوزراء الخارجية العرب في بيروت في محاولة لتعويض مؤتمرهم الفاشل في القاهرة في 15 يوليو 2006م، كل ذلك في محاولة للحاق بالدور الإيراني الذي انطلق كالصاروخ علي أرض لبنان..
... 4- كذلك فقد خسرت الدول العربية خسارة استراتيجية فادحة علي البعد الإسلامي العالمي.. فبينما فشلت تلك الدول في عقد مؤتمر للقمة العربية يدعو لوقف فوري لإطلاق النار نجحت الدول الإسلامية من خلال منظمتها في عقد مؤتمر للقمة الإسلامية في ماليزيا، خرج بتوصيات واضحة وصريحة بنصرة الجهاد الإسلامي في لبنان، وطالب بالوقف الفوري للحرب وذلك بإجماع الحاضرين الذين غاب عنهم وللأسف الشديد معظم الرؤساء والملوك العرب.. فالمكان لم يكن مكانهم.. والزمان لم يكن زمانهم.. وفي الحقيقة فقد كان في ذلك عبرة بليغة وعظة واعتبار.. فعندما لجأت لبنان للقومية وللعروبة.. تفرق العرب وخذلوها.. وعندما لجأت للدين وللإسلام.. اتحد المسلمون وناصروها..
موقف علماء المسلمين
? وماذا كان موقف العلماء المسلمين من تلك الدول العربية؟(1/45)
... للأسف الشديد.. انبرت قلة من العلماء غير الفاهمين لدينهم أو الفاقهين لأصول شريعتهم.. أو الطامعين فيما عند ملوكهم.. لتبرير مواقف هؤلاء الحكام بالنفخ في نار الفتنة وإثارة الفرقة بين المسلمين.. وذلك بادعاء أن (حزب الله) من الشيعة الذين يعتبرون خصومًا لأهل السُنَّة وأعداء لهم، وأنه لا يجوز لأهل السُنَّة معاونتهم في حربهم ضد اليهود والصليبيين ولا حتي الدعاء لهم بالنصر.. وللأسف الشديد سار علي ذلك النهج قلة من العلماء وبعض الجماعات الإسلامية التي لها جهود مخلصة في مجال الدعوة .. ولكنها لم تستطع أن تستوعب أو تعي فقه الأولويات، وأن العداء لليهود والصليبيين مقدم علي الخصومة مع الشيعة، وأن العدو اليهودي الصليبي هو عدو لجميع المسلمين لا فرق عنده بين السُنَّة والشيعة، وأنه يقوم بذبح الجميع واحتلال بلادهم واغتصاب أعراضهم ونهب ثرواتهم دون تفرقة.. فالعدو اليهودي الصليبي يحارب (حزب الله) الشيعي في لبنان في الشمال.. ويحارب حكومة (حماس) السُنِّية في غزة في الجنوب.. فالكل عنده سواء.(1/46)
... ولكن بفضل الله وفي المقابل فقد هب معظم العلماء المخلصين لدينهم الأوفياء لعقيدتهم الفاقهين لشريعتهم فانبروا للدفاع عن وحدة المسلمين والعمل علي وأد هذه الفتنة المدمرة وإطفاء نارها بدعوة المسلمين جميعًا سُنَّة وشيعة إلي التكاتف والترابط والاعتصام بحبل الله جميعًا ودعم كل أشكال الجهاد في سبيل الله ضد العدو اليهودي الصليبي سواء كان ذلك علي يد (حزب الله) الشيعي في لبنان أو (حماس) وجماعات الجهاد السُنِّية في غزة وفلسطين.. وكان علي رأس هؤلاء العلماء فضيلة الشيخ الدكتور (يوسف القرضاوي) رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وفضيلة الشيخ الدكتور (علي جمعة) مفتي مصر حفظهما الله.. هذا وقد أصدرت (الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية) في مصر بيانًا تدعو فيه المسلمين للتوحد والتكاتف والترابط والاعتصام بحبل الله جميعًا، ونبذ كل أشكال الفرقة، وإطفاء نار الفتنة التي تريد أن تشق صف المسلمين ما بين سُنَّة وشيعة حتي لا يتمكن عدونا اليهودي الصليبي من هزيمة المسلمين.
... ثم أننا نريد أن نسأل هؤلاء العلماء.. وهذه الجماعات التي علا صوتها سريعًا قويًا بمجرد اشتعال الحرب بين (حزب الله) واليهود بإصدار تلك الفتاوي بعدم جواز مناصرة الشيعة في جهادهم ضد اليهود.. ولا حتي الدعاء لهم.. نريد أن نسألهم قائلين: إن أهل السُنَّة يجاهدون في فلسطين إن كنتم تذكرون أو إن كنتم لا تذكرون منذ سنين طوال ضد الاحتلال والظلم والجبروت اليهودي.. وهم الآن يُحاصَرون ويُجَوَّعون ويُحرَمون من كل ما يعينهم علي الجهاد.. فلماذا لم نسمع لكم صوتًا؟.. ولماذا لم تصدروا لنا فتوي توجب علي الأمة مناصرة إخواننا المجاهدين من أهل السُنَّة في فلسطين؟.. وتُحرِّم علي الدول العربية وخاصة تلك الدول الثرية أن تشارك في حصارهم وتجويعهم تمهيدًا لتركيعهم تحت أقدام العدو اليهودي الغاصب لحقوق وأراضي ومقدسات المسلمين.(1/47)
التقييم الاستراتيجي والقيادي
? فما التقييم الاستراتيجي والقيادي لطرفي الحرب.. (حزب الله) وإسرائيل؟
... في الحقيقة أن الخبرة الاستراتيجية وكفاءة القيادة في مختلف جوانب الصراع قد تمايزت عن بعضها تمايزًا شديدًا.. فلقد فوجيء العالم أجمع ومنذ اللحظات الأولي للقتال بنمطين مختلفين ومتناقضين للقيادة بين (حزب الله) وإسرائيل.. فبينما رأي العالم أجمع بعينيه مستوي القيادة الميدانية والرؤية الاستراتيجية لحزب الله يتصاعد يوما بعد يوم.. رأي في المقابل علي الجانب الإسرائيلي مستوي قياديا وميدانيا يتهاوي ويتصدع ويتخبط يومًا بعد يوم.. ولم يكن ذلك من فراغ.. وإنما أثبتته الوقائع وأكدته الأحداث.. وكان ذلك علي النحو التالي:
تقييم قيادة حزب الله
... استطاع حزب الله أن يثير انبهار العالم، وأن يمتلك قلوب المسلمين في شتي بقاع الأرض وأن يُخزي مواقف زعماء العرب المتخاذلين بما يلي:
... 1- تجسدت في شخصية الأمين العام لحزب الله السيد (حسن نصر الله) كل عناصر القيادة المتمكنة والزعامة الواثقة والجاذبية الجماهيرية، وهو ما يطلق عليه (كاريزما) فقد استطاع بطلعته الهادئة وحديثه الواثق المنظم وتحليله الواعي للأحداث ووعوده وتهديداته الصادقة أن يملك عقول غالبية من يشاهده علي شاشة التلفاز بل وقلوبهم.
... 2- استطاع (حزب الله) أن يكتسب مصداقيةً لم يسبق لأحد أن حصل عليها في قتال سابق معروف لنا.. فما يقوله يصدق فيه.. وما يعد به يفي وينفذه. وما يهدد به ينجزه.. وما يصيبه يعترف به.. حتي أصبح الإسرائيليون بالرغم من كراهيتهم الشديدة له يثقون في كلماته أكثر مما يثقون في أقوال وتصريحات قياداتهم.. وتهديدات زعمائهم.
توازن الرعب(1/48)
... وقد تجسدت تلك المصداقية فيما عُرف باسم (توازن الرعب) أو (الطائرات مقابل الصواريخ) فعندما قصفت إسرائيل المدن والبلدات في جنوب لبنان بالطائرات انهمرت صواريخ (الكاتيوشا) علي المدن والبلدات في شمال إسرائيل.. وهدد (حسن نصر الله) إسرائيل أنها إذا وسعت رقعة القصف بطائراتها إلي الضاحية الجنوبية من (بيروت) وهي معقل الشيعة في العاصمة اللبنانية فإنه سيضرب ميناء (حيفا) ثالث أكبر وأهم المدن الإسرائيلية بالصواريخ.. وكعادة اليهود في غرورهم وغطرستهم لم يصدقوا ذلك وظنوا أنه تهديد أجوف مثل الذي ظلوا عقودًا طويلا يسمعونه من ملوك ورؤساء النظم العربية المتخاذلة. وبالفعل.. ما كاد اليهود يوسعون ميدان قصف طائراتهم لجنوب "بيروت" حتي صدق الوعيد وانهمرت مئات الصواريخ من طراز (خيبر 1) علي مدينة (حيفا) مما أصاب اليهود جميعًا بالصدمة والفزع والذهول.. ففي دقائق معدودة أنهارت أحد أهم وأخطر ركائز المجتمع الإسرائيلي وهي (الأمن المطلق لكل من يعيش علي أرض إسرائيل).. ثم عاد (حسن نصر الله) يهدد مجددًا بأن إسرائيل لو وسعت ميدان قصف طائراتها إلي شمال لبنان فإنه سيضرب بالصواريخ ما بعد حيفا.. وبالفعل ومرة ثانية وتحت ذهول الصدمة والتخبط وعدم مقدرة الإسرائيليين علي استيعاب ما حدث وأخذ العظة والاعتبار بصدق ذلك التهديد، عادوا فوسعوا ميدان قصف طائراتهم إلي شمال لبنان.. فما كان منهم إلا أن فوجئوا بمئات الصواريخ تنهمر علي مدينة (العفولة) التي تقع جنوب حيفا وتبعد عن الحدود اللبنانية بحوالي ثمانين كيلو مترًا.. ثم عاد (حسن نصر الله) ليهدد اليهود للمرة الثالثة عندما أصيبوا بالتخبط والجنون وهددوا بضرب العاصمة (بيروت).. عاد ليهددهم مرة ثالثة بأنهم لو ضربوا (بيروت) عاصمة لبنان.. فسوف يضرب (تل أبيب) عاصمة إسرئيل..(1/49)
ولم يكتف بذلك وإنما أرسل إليهم رسالة واضحة وهي دفعة من الصواريخ متوسطة المدي (خيبر 1) سقطت فوق رءووسهم في مدينة (الخضيرة) التي لا تبعد عن (تل أبيب) إلا بحوالي ثلاثين كيلو مترًا فقط.. وهنا أفاقت إسرائيل من غفلتها واستوعبت الدرس بعد أن أحرقت النار أصابعها فلم تجرؤ علي ضرب العاصمة (بيروت) حتي توقف القتال.
... 3- وظف حزب الله سلاح الإعلام توظيفًا ذكيًا وعبقريًا.. ما بين الإعلام والإخفاء.. ففي مجال الإعلام وعلي سبيل المثال ظهر علي شاشة تلفاز (المنار) وفي واقعة فريدة لم يسبق لها مثيل زعيم الحزب (حسن نصر الله) يوجه رسالة للأمة.. وفي أثناء حديثة قال: (في هذه اللحظة التي أتحدث فيها إليكم فإن إخوانكم من المجاهدين يوجهون ضربة قاصمة للعدو الإسرائيلي.. فقد وجهوا صواريخهم المضادة للسفن إلي أحد ثلاث بوارج في السلاح البحري الإسرائيلي من طراز (ساعر - 5) وهي تقف أمام ميناء (بيروت) اللبناني تقذف حممها علي الآمنين.. فأصابوها ودمروها.. وها هي الآن تشتعل فيها النيران وتغرق أمام أعينكم، ثم أشار بيده إلي شاشة التلفاز الذي نقل بالفعل صورة البارجة الإسرائيلية وهي تحترق في عرض البحر.. وفي نفس الوقت اعترف العدو الإسرائيلي وهو في ذهول وصدمة بهذه الكارثة.. فدل ذلك علي مصداقية الزعيم ومدي السيطرة الفريدة والتواصل الفذ بين القائد وجنوده من المجاهدين في قلب الميدان.. أما في مجال الإخفاء.. وعلي سبيل المثال.. فهناك شيء فريد حرص عليه سلاح الإعلام في (حزب الله) ونجح فيه باقتدار.. ذلك هو ألا يري الناس صورةً ولا شكلاً لأي من مجاهدي الحزب.. فظلت هيئة المجاهدين سرًا من الأسرار تحتار فيه العقول وتتخبط حوله الأفكار.. حتي ترسخ عند اليهود اعتقاد أن هؤلاء المجاهدين هم مخلوقات خفية تخرج فجأة من باطن الأرض فتهاجمهم وتعمل فيهم الذبح والتقتيل.. ثم كما تظهر تختفي..(1/50)
... 4- أثبت (حسن نصر الله) أنه سياسي من الطراز الفريد.. فقد استغل بلاغته وفصاحته وذكاءه في توجيه رسائل لمختلف الأطراف المعنية بالأحداث في ذكاء واقتدار.. فعندما خاطب (الشعب اللبناني) بعد أولي انتصارات (حزب الله) علي اليهود في بداية الحرب في موقعة (مارون الراس - بنت جبيل - عيترون) قال إنه يهدي ذلك النصر للشعب اللبناني بكل طوائفه من (سُنَّة) و(شيعة) و(مارون) و(دروز) و(أرمن) وكل أطيافه.. ووعد الشعب اللبناني بأن الحزب بعد انتصاره بمشيئة الله لن يكون دولة داخل الدولة، ولكنه سيكون جزءًا لا يتجزأ من الدولة اللبنانية الواحدة.. فجمع ذلك الخطاب كل القلوب، والتفت حوله الطوائف كلها علي قلب رجل واحد.
... وعندما خاطب الشعب الإسرائيلي.. حذره من أن حكامه يخدعونه ويسوقونه إلي الخراب والهلاك.. فهم يكذبون عليه ويوهمونه بانتصارات زائفة.. وأمن موهوم.. وجيش لا يُقهر.. وها هي الأحداث والأيام تثبت كذبهم وتخبطهم.. فلا مكاسب لهم علي أرض المعركة إلا كيلو مترات معدودات وحزب الله يتناوشهم فيها من كل حدب وصوب.. ولا أمن لهم ولا أمان والصواريخ تنهمر فوق رءوسهم.. ولا قوة لجيش لا يُقهر وقواتهم العسكرية تتلقي الهزائم والنكسات في كل يوم.(1/51)
... وعندما وجه خطابه للملوك والرؤساء العرب الذين خذلوه.. كان مهذبًا فلم يهاجمهم ولم يشهر بهم.. وإنما وجه لهم الخطاب مرتين.. في الأولي كان خطاب عتاب فقال لهم (لا نريد سيوفكم.. ولا قلوبكم.. ولكن فكوا عنا) أي دعونا وشأننا وقِفُوا علي الحياد وأنا أتصدي لعدوي وعدوكم جميعًا.. أما في المرة الثانية فقد كان خطابه لهم مهذبًا أيضًا.. ولكنه كان .. لاذعًا.. حازمًا.. محرجًا.. وكان ذلك بعد أن صمد (حزب الله) ذلك الصمود المذهل وانقلبت الموازين رأسًا علي عقب، وبدأ الجميع يهرولون لتجميل صورتهم بعد أن أدركوا أن رهانهم علي انتصار إسرائيل كان خاسرًا وبدأ هؤلاء الملوك والرؤساء في إرسال الوفود ومواد الإغاثة الإنسانية إلي لبنان.. فقال لهم: (من كان صادقًا في حبه لبنان فلا نريد منه طعامًا ولا دواءً.. وإن كنا لا نملك إلا أن نقول له شكرًا.. ولكن إذا كنتم تحبون لبنان بصدق فاذهبوا إلي (جورج بوش) في البيت الأبيض واطلبوا منه وقف أطلاق النار فورًا) ثم قال وكأنه يذبحهم: (كونوا رجالا ليوم واحد واطلبوا من أمريكا وقف إطلاق النار وأنتم قادرون علي ذلك) فأقام عليهم الحجة وبقي عليهم الوفاء.
تقييم القيادة الإسرائيلية
... عندما تم أسر الجنديين الإسرائيليين كانت إسرائيل تعيش في مرحلة حرجة ودقيقة؛ فقد كان هناك ثلاثة عوامل فرضت نفسها علي الساحة وشغلت بال جميع الإسرائيليين هي:(1/52)
... أولاً: كان (ايهود أولمرت) و(عمير بيريتس) رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع قد توليا منصبهما منذ فترة قصيرة.. وكان هذان القائدان أول مدنيين يتوليان هذين المنصبين الخطيرين في حكومة واحدة ولم يكونا من العسكريين المحاربين.. فبعد دخول الجنرال (إريل شارون) في غيبوبة المرض وخروجه من الحكم وخروج الجنرال (شاؤول موفاز) من وزارة الدفاع بعد الانتخابات الأخيرة.. انتهي جيل قادة إسرائيل التاريخيين من الجنرالات الدمويين أمثال (إسحاق رابين) و(شيمون بيريز) و(إيهود باراك) و(إيريل شارون) (ودافيد اليعازر) (وحاييم بارليف) (وعيزرا وايزمان) (ومناحم بيجن) (وإيجال آلون) فقد كان هذان القائدان يفتقدان الخبرة العسكرية. وكان الشعب الإسرائيلي في شكٍ وتوجس من مقدرتهما علي خوض وقيادة أي حرب ضد أعداء إسرائيل.
... ثانيًا: جاء ذلك الاختطاف وطلب حزب الله تبادل الأسري بعد فترة وجيزة من اختطاف منظمة حماس والجماعات الإسلامية في غزة للجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليط) وطلبها تبادلاً للأسري أيضًا.. فأصاب الإسرائيليين الفزع من هاتين العمليتين لثلاثة أمور:
... 1- أنهما يدلان علي مدي انهيار كفاءة الجندي الإسرائيلي المكلف بحماية إسرائيل والدفاع عنها.. فإذا به يحتاج لمن يحميه..
... 2- أن تكون هذه بداية لموجة من عمليات أسر الجنود الإسرائيليين ومقايضتهم لتحقيق مكاسب للفلسطينيين واللبنانيين..(1/53)
... 3- أظهرت هذه العمليات مدي تطور قوة وكفاءة واقتدار الأداء العسكري لجماعات الجهاد في فلسطين و(حزب الله) في جنوب لبنان. ثالثًا: كانت إسرائيل ماتزال تعيش مرحلة الفضيحة والعار الذي لحق بالعسكرية الإسرائيلية حين انسحبت من جنوب لبنان من طرف واحد عام 2000م بشكل مخجل ومهين.. وكانت تعد العدة لمحو ذلك العار والانتقام من (حزب الله) الذي سقاها كأس المذلة والهوان. لذلك.. فما أن وقعت عملية أسر الجنديين حتي اتخذتها إسرائيل ذريعة لينفجر بركان الغضب المحبوس بداخلها طوال 6 سنوات ولتنطلق آلة الحرب العسكرية الجهنمية تدور نحو الجنوب اللبناني وكل لبنان لتحقيق ذلك الهدف.
?
فكيف نقيم أداء القيادة الإسرائيلية في إدارة تلك الحرب؟
... تميز أداء القيادة الإسرائيلية منذ اللحظات الأولي للمعركة بالجهل الاستراتيجي، والتخبط في أتخاذ القرارات، وعدم المصداقية في القول وعدم الكفاءة في الأداء.. وقد تجسد ذلك فيما يلي:
... 1- عند انطلاق الرصاصة الأولي للمعركة أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أن لإسرائيل ثلاثة أهداف كما ذكرنا من قبل.. ولكن مع مفاجآت وتطورات المعركة وتألق حزب الله وتوالي الضربات والنكسات العسكرية للجيش الإسرائيلي أخذت المطالب الإسرائيلية تتراجع حتي أصبحت مطلبًا واحدًا.
... 2- في إحدي خطب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلي الشعب الإسرائيلي ذكر أن الجيش قد استطاع تدمير البنية الأساسية لقوات (حزب الله) وقضي علي منصات إطلاق الصواريخ.. فإذا بحزب الله في اليوم التالي مباشرة يُمطر إسرائيل بما يقرب من ثلاثمائة صاروخ وهو أعلي معدل منذ بدأ الحرب علي شمال إسرائيل وحتي حيفا ليعود الإسرائيليون إلي المخابئ والملاجئ في هلع وفزع وليُفتضح أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي المخدوع الذي يجهل ما يدور علي أرض المعركة أو توضع بين يديه معلومات كاذبة ومضللة.(1/54)
... 3- أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يروي شهوة الانتقام عند الشعب الإسرائيلي لفضيحة وعار انسحاب عام 2000م من الجنوب وفي الوقت نفسه أراد أن يؤلب بقية الشعب اللبناني علي حزب الله.. فانطلق يعيث في الأرض فسادًا ويدمر كل ما تصل إليه يداه في جميع أنحاء لبنان.. فكانت النتيجة أن أنقلب السحر علي الساحر والتف كل اللبنانيين حول حزب الله، بعد أن رأوا بأعينهم مدي وحشية وهمجية ذلك العدو، وأن سلاح الحزب هو السلاح الوحيد القادر علي التصدي له ليذيقه من نفس الكأس.
مشروعية أسر الجنديين
? اختلفت الآراء في مدي أحقية حزب الله في القيام بعملية أسر الجنديين الإسرائيليين.. ومن هذه الآراء من يقول أن حزب الله قد اعتدي وبدون أي سبب علي الجنود الإسرائيليين داخل أراضيهم.. وأنه هو السبب في إشعال نيران الحرب.. فما صحة هذا القول؟
... نرد علي هذا السؤال في نقطتين:
... الأولي: أن حزب الله منذ خرج الإسرائيليون من جنوب لبنان عام 2000م أعلن أن هناك قضيتين مازالتا عالقتين ولابد من تصفيتهما للقضاء علي كل أسباب الصراع بين إسرائيل ولبنان وهما الجلاء عن (مزارع شبعا) اللبنانية والإفراج عن الأسري اللبنانيين.. وقد أعلن (حزب الله) أنه لن يوقف مقاومته لليهود إلا بعد الجلاء عن الأرض وتحرير الأسري.(1/55)
... الثانية: نريد ممن يتبنون هذا الرأي وعلي رأسهم إسرائيل والدول الصليبية والزعماء العرب الذين هاجموا (حزب الله) أن يجيبوا عن تساؤل لنا.. إذا كانوا يتساءلون عن مدي أحقية (حزب الله) في أسر جنديين إسرائيليين مقاتلين في معركة عسكرية بين طرفين متكافئين، فلم لا يتساءلون عن أحقية إسرائيل في أسر واختطاف المئات والألوف من الأسري الفلسطينيين واللبنانيين من النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين الأبرياء، بل وصل بهم الأمر إلي اختطاف أعضاء المجلس التشريعي والوزراء في الحكومة الفلسطينية دون أن يجرؤ مخلوق علي الاعتراض عليهم.. وهل يجرؤ هؤلاء المنتقدون لحزب الله أن يسألوا إسرائيل نفس السؤال؟.. أم أنهم يلتزمون الصمت إيثارًا للسلامة!! ثم إنني أريد أن أسأل سؤالا خاصًا للقادة العرب الذين أدانوا حزب الله: بالله عليكم.. كيف تظنون أن يتم تحرير الأسري المسلمين والعرب داخل سجون إسرائيل ومنهم (سمير القنطار) الأسير منذ خمسة وعشرين عاما؟.. وبالله عليكم ألا تشعرون في داخلكم بالفخر والشرف والكرامة أن عربيًا مسلمًا أخًا لكم يعيش حياته كاملة يفكر في إخوانه الأسري ويدبر كيف يفك أسرهم ولو ضحي بحياته؟.. وبالله عليكم ماذا يكون موقفكم لو جاء يوم تكونون أنتم فيه الأسري؟.. هل يسعدكم أن تنساكم الأمة بكاملها حتي تموتوا في غياهب سجون اليهود دون أن يدري بكم أحد؟.. أم أنكم حينئذ سوف تتمنون أن يكون هناك ألف (حزب الله) وألف (نصر الله) يحملون همكم؟ ويدبرون لفك أسركم؟.. وعلي أية حال فلا تستغربوا ذلك الافتراض الأخير.. فالرئيس العراقي (صدام حسين) عبرة لكم.. ومثل حي أمام عيونكم!!.
قرار مجلس الأمن رقم 1701(1/56)
... قبل التقدم بمشروع ذلك القرار كان لفرنسا مشروع قرار يدعو للوقف الفوري للحرب.. ولأمريكا مشروع قرار بعكس ذلك.. ثم التقت الدولتان وخرجتا بمشروع قرار مشترك رفضته لبنان والدول العربية لما فيه من بنود مجحفة وغير عادلة تلغي السيادة اللبنانية علي الجنوب اللبناني وتعرض المقاومة للخطر والوحدة الوطنية للتفكك.. وكانت من أهم بنود هذا القرار:
... 1- تشكيل قوة عسكرية دولية من دول حلف الأطلنطي (الصليبي) لا تخضع للأمم المتحدة وتقودها فرنسا تنتشر في جنوب لبنان بين الحدود الإسرائيلية ونهر الليطاني وتعمل علي منع أي وجود مسلح لأي جماعة أو حزب في تلك المنطقة والمقصود طبعًا هو (حزب الله).
... 2- تعمل تلك القوة العسكرية تحت البند السابع من ميثاق مجلس الأمن أي أنها مخولة باستعمال القوة المسلحة في تطبيق ذلك القرار.. ومعني ذلك أن (حزب الله) لو اصطدم بهذه القوة فإنه سيحارب حلف الأطلنطي كله وليس إسرائيل.
... 3- طالب القرار بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الأسيرين الإسرائيليين.
... 4- لم يأت في ذلك القرار أي ذكر لأراضي (مزارع شبعا) التي تحتلها إسرائيل.. ولا للأسري اللبنانيين في سجون إسرائيل.. وهاتان هما القضيتان المحوريتان اللتان يبني عليهما (حزب الله) حربه مع إسرائيل.
فلما عرض مشروع ذلك القرار علي لبنان والدول العربية ممثلة في وفد جامعة الدول العربية الذي سافر إلي مقر الأمم المتحدة في نيويورك في الأيام السابقة مباشرة لاتخاذ القرار.. تم رفضه وطلب تعديله.. وبالفعل.. تم تعديل مشروع القرار إلي المشروع الذي أقر فيما بعد تحت رقم 1701 . وكانت أهم الملامح الجوهرية في ذلك التعديل علي النحو التالي:
أهم الملامح الإيجابية:(1/57)
... 1- القوة العسكرية التي يتم تشكيلها للانتشار في الجنوب اللبناني تخضع للأمم المتحدة وليس لحلف الأطلنطي.. وهي نفس القوة الموجودة حاليًا ولكن مع زيادتها من ألف جندي إلي خمسة عشر ألفًا. وتعمل بالاشتراك مع الجيش اللبناني الذي أعلن عن تخصيص 15 ألف جندي للقيام بتلك المهمة.
... 2- هذه القوة لا تعمل تحت البند السابع من الميثاق ولكنها تعمل تحت البند السادس منه أي أنها غير مخولة باستخدام القوة المسلحة أو الاصطدام المسلح بحزب الله.. ويقتصر دورها علي مراقبة الحدود وتسجيل أي إختراقات أو تعديات عليها وتحديد الطرف المعتدي.
... 3- تم وضع ملحق للمشروع ذكر فيه تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بدراسة قضية (مزارع شبعا) ودراسة قضية الأسري اللبنانيين في سجون إسرائيل.. ثم تقديم تقرير عنهما في خلال شهر إلي مجلس الأمن وهذه هي المرة الأولي التي تذكر فيها هاتان القضيتان علي منبر مجلس الأمن.
... 4- مطالبة إسرائيل بالانسحاب من الأراضي اللبنانية بالتزامن مع تقدم الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة إلي الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
أما أهم الملامح السلبية فهي:
... 1- مطالبة القرار بالإفراج الفوري عن الأسيرين الإسرائيليين.
... 2- المطالبة بعدم دخول أي سلاح إلي الأراضي اللبنانية إلا ما هو مخصص للجيش اللبناني مع وضع مراقبة علي المداخل البرية والبحرية والجوية للبنان للتأكد من تنفيذ ذلك الأمر بدقة.
... 3- لم يتطرق القرار علي الإطلاق إلي محاسبة إسرائيل علي جرائم الحرب والمجازر التي ارتكبتها في كل لبنان وعلي رأسها مجزرة (قانا) ومجزرة (البقاع)... ولم يتطرق إلي أي تعويضات مادية تدفعها إسرائيل مقابل الدمار الهائل والخراب الشامل الذي ألحقته بالبنية التحتية للبنان.
أسباب التعديل
? فما أسباب ذلك التعديل.. وما الدوافع التي أجبرت أمريكا وفرنسا عليه؟
تقدمت أمريكا وفرنسا بذلك القرار بعد تعديله لسببين:(1/58)
... 1- قوة وصمود (حزب الله) التي فرضت نفسها علي الجميع ولم يعد في الإمكان تجاهلها علي أرض الواقع.
... 2- محاولة إعطاء دور إيجابي للدول العربية الحليفة لأمريكا لتظهر وكأنها ضغطت لتعديل القرار مما يخفف بعضًا من السخط الشعبي الذي يتعرض له حكامها ومحاولة لتجميل صورتها بعد أن خذلت لبنان ودعمت الموقف الإسرائيلي في شن الحرب عليها.
وهل هناك مآخذ علي هذا القرار؟
... هناك مآخذ كثيرة ولكن أهمها وأخطرها هو تجاهل دور (حزب الله) وصياغة المشروع بالكامل، وكأنه طرف مفعول به وليس فاعلاً. ثم تجاهل دور إيران وسوريا وهما الدولتان الداعمتان لحزب الله..
الختام
... وفي الختام نقول بفضل الله.. إن الجهة الوحيدة صاحبة القرار في صياغة الوضع العسكري والسياسي والاجتماعي في جنوب لبنان هي (حزب الله) ولا تستطيع أي قوة مهما بلغت أن تفرض أمرًا إلا بموافقته وإقراره، ولا تستطيع قوة أن تبقي في الجنوب اللبناني إلا بقبوله ورضاه.. ولا تستطيع قوة عسكرية مهما بلغ شأنها أن تقهره.. وإلا لكان الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر استطاع ذلك.. بدلاً من أن يصبح عبرة للمعتبرين.. وقد أقرت وزيرة الخارجية الأسرائيلية واعترفت بذلك حين قالت: (لا يستطيع جيش أو قوة مهما بلغ شأنها أن تنزع سلاح حزب الله).
... كذلك فإننا نقول: إنه بدون مشاركة إيران وسوريا في إعادة رسم الاستراتجيات في جنوب لبنان فسيظل دعمهما لحزب الله متواصلا بلا انقطاع مهما فعلت الأمم المتحدة ودول التحالف اليهودي الصليبي والدول العربية المتعاونة معهم.
... وحزب الله منطلقاته ومبادئه واضحة.. ستستمر المقاومة ما بقي جندي إسرائيلي علي أرض لبنان.. ولن يعود الأسيران الإسرائيليان إلا بتفاوض غير مباشر لتحرير الأسري اللبنانيين.. ولن يهدأ الجهاد في الجنوب اللبناني إلا بعد تحرير (مزارع شبعا) وعودة الأسري اللبنانيين..(1/59)
... وأخيرًا نذكر الجميع بقول الله تعالي: صدق الله العظيم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38) إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}(التوبة: 38- 39)
(الحرب السادسة.. الغرس والحصاد)
نشر هذا الملف في العدد السادس والعشرين السنة الثانية
من مجلة التبيان بتاريخ
رمضان 1427هـ - أكتوبر 2006م
صمتت المدافع.. وسكنت الدبابات.. وهدأت ميادين القتال.
ثلاثة وثلاثون يومًا من القتال الدامي مرت علي المتقاتلين..
... مرت علي الإسرائيليين كأنها دهر.. طويلة.. ثقيلة.. كأنها كابوس مفزع في نوم لا يقظة منه.. كأنها كأس مترعة بالمذلة والمهانة شربوا منها حتي الثمالة.. وكيف لا يكون ذلك وقد تحطمت فيهم الآمال.. وتبخرت الأحلام.. وانهارت قصور عظيمة لطالما بنوها من الرمال.
... وكيف لا يكون ذلك وقد احترقت دباباتهم وتهاوت طائراتهم.. وقُتِل جنودهم.. وتحطمت أساطير لطالما تغنوا بها وأسكنوها عقولنا وقلوبنا.
... ومرت علي المجاهدين سريعة هينة مجيدة..وكيف لا يكون ذلك وهم لم يتوقفوا لحظة عن الطعن والنزال.. وهم يرون رايات الكفر تسقط ورموز الطغيان تداس بالأقدام.. وكيف لا يكون ذلك وهم يشمون ريح الجنة.. ويكادون يلمسون ثمارها.. ويرون فيها الحدائق والقصور والأنهار.. كيف لا يكون ذلك وهم لا ينتظرون إلا إحدي الحسنيين النصر أو الشهادة.
... وجاءت لحظة الحساب.. ووقف كل يقلب أوراقه ويقرأ صحائفه.. وينظر حصاد المعركة.. ونتاج ما قدمت يداه.(1/60)
... وفي هذا الملف إن شاء الله وبعد تعريف موجز بحزب الله.. نتحدث عن نتائج وتداعيات وحصاد تلك الحرب.. الحرب السادسة بين المسلمين واليهود.
? ما حزب الله؟
... (حزب الله) هو حزب سياسي عسكري ديني نشأ بين طائفة الشيعة اللبنانية عام 1982م، وذلك بعد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني.. ومعظم أفراد وقيادات هذا الحزب من اللبنانيين الشيعة المرتبطين مذهبيًا بإيران حيث يعتبرون مرشد الثورة الإسلامية في إيران أكبر المراجع الدينية لهم.. كما يعتبرون الأمين العام للحزب هو الوكيل الشرعي لمرشد الثورة الإسلامية في لبنان.
... ومنذ اللحظات الأولي لظهور (حزب الله) علي ساحة الجنوب اللبناني تشكلت ملامحه الأساسية التي تقوم علي التفرغ الكامل للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي والابتعاد عن الخلافات والصراعات المذهبية والسياسية والفكرية مع الطوائف المختلفة في لبنان.
... وكانت أولي العمليات العسكرية الناجحة التي قام بها الحزب وأكسبته شهرة واسعة في العالم العربي قيامه بنسف مقر القوات الأمريكية والفرنسية في بيروت في أكتوبر عام 1983م أثناء الحرب الأهلية في لبنان مما أسفر عن مصرع ما يقرب من 300 جندي أمريكي وفرنسي.
?
وما توجهات وأهداف حزب الله؟
... يهتم حزب الله كما يقول السيد (حسن نصر الله) الأمين العام للحزب بمصير ومستقبل لبنان ويسهم مع بقية القوي السياسية اللبنانية في إقامة مجتمع أكثر عدالة وحرية.. ويهتم بالقضايا العربية والإسلامية وعلي رأسها القضية الفلسطينية.
? وكيف نشأ (حزب الله)؟
... قبل نشأة (حزب الله) كان هناك عاملان أثَّرا ومهدا لذلك الحدث هما:
... 1- النشاط العلمي والديني والدعوي المكثف لكثير من علماء الدين الشيعة في جنوب لبنان وعلي رأسهم الشيخ (محمد حسن فضل الله) الذي يعتبره الكثيرون الأب الروحي لحزب الله.(1/61)
... 2- قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م بقيادة (آية الله الخُميني) حيث أعلن الحزب عن توجهه الصريح تجاه الارتباط بإيران في بيان صادر له في فبراير عام 1985م أعلن فيه أن الحزب ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه وفي روح الله (آية الله الخُميني) مفجر ثورة المسلمين وباني نهضتهم المجيدة.. حسب تعبيرهم
? ومَنْ القيادات التي تولت قيادة الحزب منذ نشأته؟
... كان أول أمين عام للحزب هو الشيخ (صبحي الطفيلي) الذي تولي هذا المنصب في الفترة من 1989م إلي 1991م.. ثم تولي بعده الشيخ (عباس الموسوي) عام 1992م الذي استشهد بعد تسعة أشهر من توليه الأمانة العامة في عملية قصف جوي إسرائيلي ومعه زوجته وابنته.. ثم جاء من بعده الشيخ (حسن نصر الله) الذي كان أصغر قيادات الحزب سنًا في ذلك الوقت ومازال يشغل ذلك المنصب حتي الآن.
? وما البناء التنظيمي للحزب؟
... بالرغم من عامل السرية الذي يحرص عليه الحزب في معظم نشاطاته فإن ذلك لم يمنعه من الإعلان عن وجود بعض الهياكل التنظيمية في بناء الحزب تشرف عليه وتنظم أعماله ومنها: الهيئة القيادية - المجلس السياسي - المجلس التخطيطي - كتلة النواب والوزراء - ثم مجموعات تنفيذية وهيئات استشارية .. وتُتخذ القرارات داخل تلك الهيئات بأغلبية الأصوات.. وللحزب مجلس شوري يتكون من 12 عضوًا يتولي مسئولية متابعة جميع أعمال وأنشطة الحزب.
? هل للحزب مؤسسات خدمية أو خيرية؟(1/62)
... نعم للحزب مؤسسات خدمية وخيرية هامة.. وكان للخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات للمجتمع اللبناني عامة والشيعي خاصة أكبر الأثر في ازدياد شعبية الحزب وارتباط الناس به والتفافهم حوله.. ومن هذه المؤسسات علي سبيل المثال: مؤسسة (جهاد البناء) وتتخصص في أعمال البناء وحفر الآبار والشئون الزراعية والبيطرية.. و(الهيئة الصحية الإسلامية) وتتولي الشئون الصحية والرعاية الطبية.. و(جمعية القرض الحسن) وتهدف إلي تقديم القروض غير الربوية للفقراء والمحتاجين.. و(جمعية الإمداد الخيرية) وتتولي رعاية الأيتام والعجزة والأرامل.. و(مؤسسة الشهيد) ومهمتها رعاية أسر الشهداء رعاية كاملة في جميع جوانب الحياة.. و(المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم) وتهتم ببناء المدارس وتكون أولوية الالتحاق بها لأولاد الشهداء.. و(هيئة دعم المقاومة الإسلامية) وتتولي جمع التبرعات للمقاومة والعمل علي زيادة الوعي بأهميتها في قلوب وعقول اللبنانيين خاصة في المناطق التي يتركز فيها الشيعة وهي الجنوب اللبناني وسهل البقاع في الشمال، خاصة حول مدينة (بعلبك) والضاحية الجنوبية للعاصمة (بيروت).
? وهل هناك مؤسسات أخري؟
... نعم.. فهناك مؤسسات رياضية وثقافية وإعلامية مهمة.. منها مركز (الإمام الخُُميني) وجريدة (العهد) وإذاعة (النور) وتليفزيون (المنار) الذي نجح في عرض العمليات العسكرية للمقاومة الإسلامية ضد إسرائيل وكان علي رأسها بالطبع عملية إغراق البارجة الإسرائيلية أمام سواحل بيروت يوم 15 يوليو 2006م أثناء الحرب الأخيرة.
? وما علاقة (حزب الله) بكل من إيران وسوريا؟
بالنسبة لإيران: فاللبنانيون الشيعة وعلي رأسهم قيادات الحزب يرتبطون بإيران بروابط دينية وروحية عميقة.. فكما ذكرنا يُعتبر مرشد الثورة الإسلامية في إيران أكبر مرجعية دينية بالنسبة لهم.. كما يُعتبر الأمين العام لحزب الله الوكيل الشرعي له في لبنان.(1/63)
... ولكن بالرغم من الدعم السياسي والديني والمالي الذي يتلقاه (حزب الله) من إيران فإن ذلك لا يعني أنه حزب إيراني علي أرض لبنانية كما يقول السيد (حسن نصر الله).. وإنما هو حزب لبناني علي أرض لبنانية.. فالأمين العام للحزب لبناني وكل قياداته لبنانية والحزب يمارس نشاطاته علي أرض لبنانية.. ويقدم الشهداء دفاعًا عن أرض لبنانية ومن أجل تحريرها.. كذلك فإن عمليات الحزب تهدف إلي تحرير أسري لبنانيين.. وكل هذا يدل دلالة قاطعة علي أنه حزب لبناني وليس إيراني.
... أما بالنسبة لسوريا: فقد تميزت العلاقات بينها وبين (حزب الله) بخصوصية واضحة منذ أن دخلت سوريا لبنان لإنهاء الحرب الأهلية في عام 1976م فبينما قامت بنزع سلاح كل الفصائل اللبنانية المتصارعة وحل الميليشيات العسكرية المسلحة.. كان الاستثناء الوحيد هو (حزب الله) الذي أبقت علي أسلحته في حوزته وذلك لأنه لم يكن طرفًا في الحرب الأهلية وإنما كان كل نشاطه متركزًا في المقاومة ضد إسرائيل في منطقة الحزام الأمني الذي أقامته في جنوب لبنان.. كذلك فقد زاد من خصوصية العلاقة وأهميتها بالنسبة لسوريا رغبتها في استخدام ورقة الحزب كعامل ضغط علي إسرائيل في تفاوضها معها لاستعادة هضبة الجولان السورية المحتلة.(1/64)
ويري (حزب الله) أن الوجود السوري في لبنان كان ضروريًا لكل من لبنان وسوريا في ظل التهديدات الإسرائيلية المستمرة للبلدين.. ولحفظ التوازن السياسي بين الطوائف اللبنانية المختلفة بما يضمن استقرار الحياة السياسية في لبنان ويقضي علي أي احتمال لخطر عودة الحرب الأهلية مرة أخري في لبنان.. كذلك فإن حزب الله يعتبر سوريا المعبر الرئيسي للإمدادات المالية والتسليحية له من إيران. ومع كل تلك التفسيرات والتبريرات لعلاقة حزب الله بإيران وسوريا.. فإننا نذكر بقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71)
فالأصل ألا نحتاج لتبرير علاقة كيانين مسلمين، وإنما نحتاج لملايين التبريرات -ولن تكون مقبولة- لعلاقة مسلمين بيهود، أو بأي عدوٍّ للإسلام.
? وهل يقتصر دور (حزب الله) علي العمل العسكري ضد إسرائيل أو أن له دورًا في الحياة السياسية في لبنان؟(1/65)
... بالطبع لا يقتصر دور الحزب علي العمل العسكري ضد إسرائيل.. فللحزب حضور قوي علي الساحة السياسية في لبنان منذ توقيع اتفاق (الطائف) عام 1990م الذي أيده الحزب مع التحفظ علي بعض بنوده.. وقد فاز الحزب في أول انتخابات برلمانية شارك فيها عام 1992م بعدد 15 مقعدًا، وهو أكبر عدد تفوز به كتلة حزبية منفردة.. أما حاليًا وبعد مشاركته في انتخابات عام 1996م فإن الحزب له ثمانية أعضاء في المجلس النيابي اللبناني وله وزيران في الحكومة اللبنانية الحالية.. كذلك فإن لحزب الله حضورًا فاعلاً وقويا في انتخابات النقابات خاصة نقابتي المهندسين والأطباء والاتحادات الطلابية والمهنية.. والحزب يؤمن بأسلوب الحوار الهادئ والإقناع ويرفض أسلوب العنف للوصول إلي السلطة.. كذلك فإنه يدعو إلي التواصل بين الحضارات ويرفض نظرية الصراع الحتمي بينها.. لذلك فقد نشط الحزب في إقامة حوارات بينه وبين الشخصيات الروحية المسيحية وسعي إلي التنسيق مع مختلف التيارات اليسارية والقومية في لبنان.
تصاعد الأحداث
? كيف تصاعدت الأحداث بين (حزب الله) وإسرائيل؟ وما هي المحطات الرئيسية وملامح الصراع بينهما منذ بداية ظهور الحزب وحتي الحرب الأخيرة؟
... مرت مراحل الصراع بين (حزب الله) وإسرائيل بمحطات فاصلة وأحداث حاسمة علي النحو التالي:
... 1- في عام 1978م وقعت عملية فدائية فلسطينية علي حافلة ركاب إسرائيلية في العاصمة (تل أبيب) نتج عنها مقتل 35 إسرائيليًا.. فقام الجيش الإسرائيلي بغزو الجنوب اللبناني لمطاردة المقاتلين الفلسطينيين.. وقد انتهي ذلك الغزو بتدخل مجلس الأمن وانسحاب إسرائيل.. ولكن ذلك الغزو كان بداية الوعي عند شيعة الجنوب اللبناني بحقيقة الخطر الإسرائيلي علي لبنان ووجوب التصدي له.(1/66)
... 2- في عام 1982م وأثناء الحرب الأهلية في لبنان اجتاحت إسرائيل الحدود اللبنانية واحتلت الجنوب بالكامل وانطلقت في زحفها شمالاً حتي احتلت أجزاءً من العاصمة اللبنانية (بيروت).. ونتيجة لهذا الاجتياح الذي أدي إلي احتلال ما يقرب من نصف لبنان ومقتل ما يقرب من أربعة عشر ألفًا من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين ووقعت فيه أحداث مذبحتي (صابرا) و(شاتيلا) الداميتين.. نتيجة لكل ذلك تشكل (حزب الله) وأصبح من أبرز أطراف المقاومة المسلحة ضد إسرائيل ثم أصبح هو القوة الرئيسية للمقاومة في جنوب لبنان.
... 3- وفي عام 1985م انسحبت إسرائيل إلي الحدود اللبنانية الإسرائيلية.. لكنها شكلت حزامًا أمنيًا داخل الحدود اللبنانية، بعمق يقدر بحوالي (20-30) كيلو مترًا ليكون عازلاً بينها وبين المقاومة اللبنانية وعلي رأسها (حزب الله) واستخدمت جيشًا من العملاء والمرتزقة اللبنانيين ليكونوا رأس الحربة في التصدي لحزب الله ودرعًا للجنود الإسرائيليين لحمايتهم ضد هجمات المقاومة الإسلامية.. وفي ذلك العام قامت إسرائيل بعملية لتبادل الأسري أطلقت فيها سراح 1150 أسيرًا لبنانيًا وفلسطينيًا مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين تم أسرهم من قبل المقاومة الفلسطينية.
... 4- في عام 1986م تم إسقاط طائرة حربية إسرائيلية في الجنوب اللبناني وتم أسر الطيار (رون آراد) الذي لايزال مصيره مجهولاً حتي الآن.
... 5- في عام 1992م قامت المقاتلات الإسرائيلية باغتيال زعيم (حزب الله) في ذلك الوقت الشيخ (عباس الموسوي) وتم اختيار (حسن نصر الله) زعيمًا للحزب خلفًا له.
... 6- في عام 1994م قامت إسرائيل باختطاف أحد قيادات المقاومة اللبنانية (مصطفي ديراني) كما قامت المقاتلات الإسرائيلية بقصف موقع لحزب الله نتج عنه مقتل حوالي خمسين مقاتلا من الحزب(1/67)
... 7- في عام 1999م قامت إسرائيل بقصف محطات توليد الكهرباء اللبنانية.. وبقصف مائة مدني لبناني وقتلهم معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال كانوا قد لجأوا إلي قاعدة للأمم المتحدة في قرية (قانا) بالجنوب اللبناني.
... 8- في عام 1997م تمكن حزب الله في عملية تعتبر من أعظم العمليات القتالية النوعية من نصب كمين لقوة عسكرية من نخبة الجيش الإسرائيلي من المظليين المحمولين جوًا في قرية (أنصارية) في الجنوب اللبناني نتج عنه مقتل حوالي خمسة عشر ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا.
... 9- في عام 2000م وتحت وطأة المقاومة اللبنانية وعنف ضربات (حزب الله) الموجعة والدامية والمؤلمة للجيش الإسرائيلي انسحبت إسرائيل بالكامل من المنطقة الحدودية العازلة (الحزام الأمني) داخل لبنان وتخلت عن (جيش لبنان الجنوبي) العميل وتركته لمصيره المجهول بين يدي (حزب الله) وتراجعت إلي ما وراء حدودها الدولية. وكان هذا نصرًا تاريخيًا مدويًا للمقاومة الإسلامية علي إسرائيل أثار انبهار العالم وإعجابه ووضع (حزب الله) في مكانة الزعامة والصدارة للمقاومة ضد إسرائيل.
...
10- في عام 2004م قام (حزب الله) بعقد صفقة لتبادل الأسري مع إسرائيل تم بموجبها تبادل عقيد بالمخابرات الإسرائيلية كان يدعي أنه رجل أعمال وكانت المقاومة الإسلامية قد استدرجته إلي لبنان ونجحت في خداعه وأسره بالإضافة إلي رفات ثلاثة جنود إسرائيليين تم قتلهم في أكتوبر عام 2000م وذلك في مقابل 436 أسيرًا لبنانيًا وعربيا ورفات 59 شهيدًا.
11- في عام 2006م قام مقاتلو (حزب الله) بعملية (الوعد الصادق) حيث نجحوا في قتل ثمانية جنود إسرائيليين وجرح ما يقرب من العشرين وأسر جنديين.. طلب الحزب مبادلتهما بالأسري اللبنانيين في سجون إسرائيل.. فكانت الحرب.
أسباب النجاح(1/68)
? ما أسباب نجاح (حزب الله) وما أسباب تلك القدرة علي التصدي للجيش الإسرائيلي وكسر شوكته لأكثر من ثلاثة وثلاثين يومًا بينما انهارت جيوش نظامية لدول عربية بالكامل أمامه في أيام معدودات؟
... قبل أن نخوض في تحليل أسباب ذلك النجاح.. لا بد أن يوقن الجميع أولاً أن الفضل لله عز وجل، وأن النصر من عنده تعالي ، وأن الله نعم المولي ونعم النصير لمن يتوكل عليه مصداقًا لقوله تعالي: {$ّلّيّنصٍرّنَّ پلَّهٍ مّن يّنصٍرٍهٍ إنَّ پلَّهّ لّقّوٌيَِ عّزٌيزِ} وقوله جل شأنه: {$ّالَّذٌٌينّ جّاهّدٍوا فٌينّا لّنّهًدٌيّنَّهٍمً سٍبٍلّنّا $ّإنَّ پلَّهّ لّمّعّ پًمٍحًسٌنٌينّ} أما علي صعيد التحليل المادي لأسباب ذلك النجاح فهناك عدة أسباب تفرد بها (حزب الله) عن غيره من المنظمات والجماعات المقاومة الأخري بل عن بعض الجيوش النظامية في الدول العربية أهلته لاحتلال مقام الصدارة في ذلك المجال ومنها:(1/69)
... 1- العقيدة القتالية: امتلك مقاتلو (حزب الله) عقيدة قتالية ركيزتها الواجبات الدينية والأحكام الشرعية.. فكل مقاتل في حزب الله يُربَّي علي أن المسلمين عليهم واجبات شرعية علي العموم فإذا تخلوا عنها تعينت علي البعض منهم.. فتحرير أرض لبنان المحتلة في (مزارع شبعا) فرض كفاية علي جميع المسلمين.. وعندما تخلوا عنه تعين علي أبناء الجنوب في لبنان.. وتحرير الأسري المسلمين في سجون إسرائيل فرض كفاية علي عموم المسلمين.. فلما تخلوا عنه تعين علي أبناء الجنوب في لبنان.. إذن فالقتال من أجل تحقيق هذين الهدفين أصبح فرض عين علي أبناء الجنوب اللبناني.. وذلك القتال هو جهاد في سبيل الله.. والجهاد في سبيل الله لا ينتهي إلا بإحدي الحسنيين.. النصر أو الشهادة.. مصداقًا لقوله تعالي{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}(التوبة:52)
لذلك فكل مقاتل في حزب الله يعتقد اعتقادًا دينيًا جازمًا وراسخًا أنه يجب عليه ألا يتوقف عن الجهاد في سبيل الله حتي يحصل علي واحدة من الاثنتين..لذلك كان ذلك القتال الشرس والمقاومة العنيفة التي زلزلت العدو وانبهر بها العالم أجمع.(1/70)
... 2- تطوير أسلوب القتال: ففي الوقت الذي نجحت فيه المقاومة الإسلامية لحزب الله في استخدام الأساليب المعروفة في (حروب العصابات) من خلال المجموعات قليلة العدد من المقاتلين الذين يشنون الهجمات المفاجئة علي دوريات العدو أو يزرعون الألغام في طريقه أو يعدون له الأكمنة والمصائد.. فإن المقاومة نجحت في تطوير تلك العمليات إلي المبادرة بشن عمليات قتالية واسعة.. وأحيانًا متعددة في وقت واحد وعلي عدة مواقع للعدو الإسرائيلي.. وتمكنت في حالات كثيرة من السيطرة علي هذه المواقع لساعات طويلة.. بل وتدميرها وقتل وأسر من فيها ورفع أعلام (حزب الله) عليها لفترات طويلة.(1/71)
... 3- امتلاك جهاز استخباراتي متميز: نجحت المقاومة الإسلامية في تطوير قدرات استخباراتية عالية مكنتها من رصد تحركات جنود العدو ودورياته وعملائه وجواسيسه وتمكنت من إيقاع خسائر مباشرة وكبيرة بهم عبر الكمائن والتفجيرات داخل الشريط الحدودي وخارجه وصولا إلي الحدود الإسرائيلية.. وكانت من أعظم العمليات الاستخباراتية الناجحة لحزب الله عملية (أنصارية) التي ذكرناها آنفًا.. وكانت هذه هي المرة الأولي في تاريخ العسكرية الإسرائيلية التي تواجه فيها الفشل في مثل هذا النوع من العمليات، وفي المقابل فقد فشلت الاستخبارات الإسرائيلية في تلك الحرب فشلاً ذريعًا.. بل ومخجلاً.. أثار سخرية العالم ودهشته.. وتجسد ذلك في تلك العملية التي تم فيها إنزال قوة عسكرية خاصة من نخبة الجيش الإسرائيلي بالقرب من مدينة (بعلبك) أثناء الحرب لأسر الأمين العام للحزب السيد (حسن نصر الله).. وبالفعل تم أسر خمسة من المدنيين اللبنانيين من بينهم.. (حسن نصر الله).. ولكن.. ويالحمرة الخجل التي ذهبت من الوجوه.. ويالمائها الذي أريق.. عندما عادت القوة العسكرية لقواعدها وقبل أن تعلن إسرائيل ذلك النبأ المدوي الذي سيهز العالم.. فوجئت أن (حسن نصر الله) الذي أسرته هو مواطن لبناني بسيط ليس بينه وبين السيد (حسن نصرالله) الأمين العام لحزب الله إلا تشابه الأسماء.. وكانت الفضيحة المدوية للمخابرات الإسرائيلية.(1/72)
... 4- جهاز أمني فريد: امتلكت المقاومة الإسلامية لحزب الله جهازًا أمنيًا فريدًا علي مستوي عالٍ من الكفاءة وقدرات راقية من التخطيط والأداء.. فحتي هذه اللحظة لم يستطع الإسرائيليون أن يخترقوا خطًا واحدًا من خطوط الدفاع السرية لحزب الله.. فما زال العدو الإسرائيلي يجهل معظم المعلومات عن (حزب الله) من حيث القيادات والمجموعات القتالية وتخطيطاتها وأسلحتها وأساليب قتالها ومواقعها ووسائل الاتصال بينها وكيفية التنقل بين مواقعها.. وحتي هذه اللحظة فشلت المخابرات الإسرائيلية المتطورة فشلاً ذريعًا في اختراق ذلك الجهاز الأمني الفريد..
... 5- التفرغ الكامل للمقاومة: فقد عمد (حزب الله) منذ نشأته وبداية عملياته العسكرية إلي توجيه كل جهوده وإمكانياته تجاه مقاومة العدو الإسرائيلي وتجنب تجنبًا كاملاً الصدامات والمعارك الجانبية مع السلطة اللبنانية أو المنظمات والحركات السياسية علي الساحة اللبنانية.. بل أنه حرص علي بناء علاقات توافق وتفاهم معها جميعًا.. وبذلك تجنب الحزب نشوء أي عداوات أو توترات بينه وبين المجتمع اللبناني، بل إنه نجح في جمع معظم فئات الشعب اللبناني ودفعها إلي الالتفاف حوله واحتضانه غداة انسحاب إسرائيل وتحرير الجنوب اللبناني، واعتراف الجميع بشرعية المقاومة وحقها في الاحتفاظ بسلاحها حتي يتم التحرير كاملا باستعادة (مزارع شبعا) وتحرير الأسري اللبنانيين من السجون الإسرائيلية.(1/73)
... 6- الإعداد الدقيق والدءووب للمعركة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ }(لأنفال: من الآية60) هكذا كان شعار حزب الله دائمًا، فمنذ خرج الإسرائيليون من جنوب لبنان عام 2000م مع احتفاظهم باحتلال (مزارع شبعا) اللبنانية وبعدد كبير من الأسري اللبنانيين والعرب.. بدأ الحزب علي الفور في الإعداد لمعركة حتمية قادمة لا مفر منها لاستعادة الأسري وتحرير الأرض.. لذلك وعلي مدي ست سنوات كاملة فإن الحزب لم يشغل نفسه إلا بالإعداد لتلك المعركة من حيث التخطيط لها وتدريب المقاتلين علي العمليات القتالية المحتملة.. وتجهيزهم بالعتاد والسلاح والعمل علي التزود بأحدث الأسلحة التي تتفق وطبيعته القتالية وأسلحة الردع التي كانت مفاجأة لإسرائيل والعالم أجمع.. ثم إعداد ميدان المعركة إعدادًا مبهرًا من حيث حفر الأنفاق والخنادق وغرف العمليات تحت الأرض وتخزين الأسلحة والصواريخ في أماكن سرية ثم زرع الألغام وإعداد الكمائن في طريق قوات العدو عند تقدمها.. لذلك عندما وقع القتال البري كان (حزب الله) أقدر علي خوض القتال وتكبيد العدو خسائر فادحة لم يعرف لها مثيلاً من قبل في الرجال والعتاد.(1/74)
... 7- الاحتفاظ بسرية التنظيم وخصوصية القتال: حرص حزب الله منذ اليوم الأول لتكوين الجناح العسكري له (المقاومة الإسلامية) وبدء عملياته العسكرية علي الاحتفاظ بسريتها وعدم مشاركة أي طرف آخر في عملياته ضد الاحتلال الإسرائيلي وذلك لخشيته من أن تخترق استخبارات العدو صفوفه.. وكانت التجربة الفلسطينية المريرة تعيش في عقل قيادات (حزب الله) حيث تعرضت الجماعات الجهادية الفلسطينية ومازالت تتعرض للكثير من الضربات العنيفة والاغتيالات الدامية شبه اليومية لقياداتها ومقاتليها علي يد القوات الإسرائيلية.. ولا سبب لذلك إلا أن معظم هذه الجماعات قد تم اختراقها أمنيًا من قبل الاستخبارات الإسرائيلية.. وحتي عندما اتهمت جماعات المقاومة الأخري في لبنان (حزب الله) بأنه يريد أن يعمل منفردًا لتحقيق مكاسب سياسية.. تفتق ذهن قياداته عن حل عبقري.. فقد أعلن السيد (حسن نصر الله) في نوفمبر عام 1997م عن تشكيل (السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي) كإطار يجمع كل الجماعات الراغبة في القتال المسلح ضد العدو الإسرائيلي بما فيها بعض مقاتلي (حزب الله).. وذلك مع استمرار بقاء (المقاومة الإسلامية) كقوة مسلحة خاصة بالحزب تشارك ببعض أفرادها في عمليات تلك السرايا وفي نفس الوقت تحتفظ لنفسها بخصوصيتها وأسرارها.(1/75)
... 8- الحرب النفسية والإعلامية: وضعت (المقاومة الإسلامية) هدفًا لها هو قهر إرادة العدو من خلال تحطيم الروح المعنوية بين صفوفه المدنية والعسكرية.. لذلك فقد تمكنت المقاومة من خلال استخدام جهاز سري أطلقت عليه (الإعلام الحربي) من تصوير مباشر لمعظم عملياتها العسكرية ضد الجنود الإسرائيليين وعملائهم وقامت بنقل صور حية نشرتها علي العالم أجمع لعمليات اقتحام مواقع العدو وتدميرها وتثبيت رايات وأعلام (حزب الله) فوق الدشم والتحصينات الإسرائيلية وقتل وأسر جنود العدو وتدمير دباباته ومدرعاته.. وقد استخدمت (المقاومة الإسلامية) في ذلك المجال تليفزيون (المنار) وإذاعة (النور) وجريدة (العهد) التابعة كلها لحزب الله.
نتائج الحرب
بعد أن صمتت المدافع وهدأت ميادين القتال.. هناك سؤال لا بد من الإجابة عنه
? ما التداعيات والنتائج المتوقعة لحرب جنوب لبنان 2006م أو ماأُطلق عليها الحرب السادسة بين العرب والإسرائيليين؟
... في الحقيقة إن هذه الحرب وبغض النظر عن نتائجها النهائية قد أحدثت زلزالا عنيفًا ستتوالي توابعه ونتائجه سريعة وعاصفة محدثة تغييرات جذرية في الكثير من المفاهيم الاستراتيجية والأوضاع المحلية والعالمية وسوف تطول مختلف النظم والحكومات والسياسات في الكثير من الدول.. ومن الممكن أن تكون هذه التداعيات علي النحو التالي:
أولا: في إسرائيل
المتوقع أن تكون التوابع كما يلي:(1/76)
... 1- سقوط الكثير من الرؤوس التي سيُحَمّلُها الشعب الإسرائيلي مسئولية هذا الفشل الذريع في ميدان المعركة.. وسيبدأ تطاير هذه الرؤوس بين كبار الضباط وقيادات الجيش.. ومن الممكن أن تتصاعد حتي تصل إلي رئيس الأركان أو وزير الدفاع أو حتي رئيس الوزراء والحكومة بكاملها.. وبالفعل كان أول رأس أُطيح به من ضباط الجيش الإسرائيلي هو الجنرال (عودي آدم) قائد المنطقة الشمالية للجيش الإسرائيلي، الذي عُزل من القيادة لفشله الذريع في قتال (حزب الله).. وحتي لو لم تتم الإطاحة بتلك الرؤوس في القريب العاجل حفاظًا علي ماء وجه إسرائيل وحتي لا يُعتبر ذلك اعترافًا صريحًا بالهزيمة القاسية أمام (حزب الله).. فإن هذه الرموز قد احترقت أوراقها وحُكِم عليها بالإعدام السياسي وسوف تخرج من الحكم مع أول تعديل وزاري أو انتخابات مبكرة تُعقد في إسرائيل لتدفع ثمن تلك الهزيمة القاسية التي لم تتعرض إسرائيل لمثيل لها منذ بداية وجودها.
... 2- انكسار المشروع الإسرائيلي في المنطقة العربية والقائم علي مبدأ التفوق المطلق والهيمنة الكاملة علي كل العرب في كافة الميادين.. وستبدأ إسرائيل بعد تلك الصدمة في الهبوط من سماء الغطرسة والاستكبار والاستعلاء إلي أرض الواقع فتفكر بجدية في حل الصراع العربي الإسرائيلي بطريقة أخري يراعي فيها أن هناك أطراف آخرون ذوو شوكة ومنعة لهم حقوق لا تملك إسرائيل إلا احترامها وعدم الاقتراب منها أو المساس بها، ولن يتحقق ذلك طبعًا إلا بالاستمرار في اتباع نهج الجهاد مصداقًا لقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة:123)(1/77)
... 3- ستعمل إسرائيل وبأقصي قوة وطاقة من أجل تقوية الجيش بأحدث وأقوي الأسلحة في العالم وقد تزيد أعداد أفراده ومدة الخدمة العسكرية بطريقة هيستيرية وذلك ليس طلبًا للنصر علي العرب.. وإنما لمداواة ذلك الصدع الخطير الذي أصاب الشعب الإسرائيلي بفقدانه الثقة في جيشه الذي لا يقهر.
... 4- فيما يتعلق بسوريا فمن المحتمل أن تفتعل إسرائيل معركة مع الجيش السوري لتحقق نصرًا يخفف من أثر هذا الفشل الذريع في جنوب لبنان ولتقطع طريق تموين وإمداد (حزب الله) بالأسلحة والعتاد من إيران عبر سوريا.. أو علي العكس من ذلك.. فمن الممكن أن تبدأ إسرائيل في العمل علي إحياء وإعادة المفاوضات مع سوريا وذلك لأمرين:
... الأول: الجلاء عن هضبة الجولان السورية وبذلك ينتهي تمامًا أي احتمال لنشوب حرب عسكرية أو قتال مسلح مع سوريا.. وتخرج سوريا من الصراع العربي الإسرائيلي نهائيا كما خرجت مصر والأردن من قبل.. وبذلك يهدأ ذلك الشعور الإسرائيلي بالخوف والفزع من أي معارك حربية مستقبلية بعد تلك المفاجآت المرعبة التي ذاقتها إسرائيل علي يد (حزب الله).
... الثاني: العمل علي استقطاب سوريا إلي معسكر الاعتدال في مصر والأردن والسعودية وفصلها عن دولة إيران لعزل الأخيرة من ناحية ولقطع الصلة نهائيًا بينها وبين (حزب الله) عبر البوابة السورية من ناحية أخري.
... 5- ازدياد الهجرة العكسية من إسرائيل إلي خارجها، ولفترة طويلة مقبلة بعد أن شعر المواطن الإسرائيلي بعدم الأمان والخوف والرعب لأول مرة منذ أن وطئت أقدامه أرض إسرائيل.. أرض الميعاد.. وصدق الله العظيم حين تحدث عن جبنهم فقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}(البقرة:96)(1/78)
... 6- فيما يتعلق بلبنان و(حزب الله): فإن إسرائيل -وهذا أمر مؤكد إن شاء الله- سوف ترضخ وتنصاع لمطالب (حزب الله) وذلك بالخروج من (مزارع شبعا) والتفاوض معه عن طريق وسطاء لتبادل الأسري تمامًا كما حدد السيد (حسن نصر الله) قبل بداية الحرب.
... وقد ظهرت بوادر ذلك الرضوخ والانصياع فيما يتعلق بمزارع شبعا عندما صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخرًا بأن إسرائيل علي استعداد للتفاوض حول (مزارع شبعا) إذا أثبتت الأمم المتحدة أنها أراضٍ لبنانية.. وهذا أمر مفروغ منه لأن سوريا ولبنان تقران بأنها لبنانية ولا يحتاج الأمر لإقرار ذلك الوضع إلا بعض الإجراءات القانونية والإدارية.
... أما فيما يتعلق بعملية تبادل الأسري فقد صرح (كوفي عنان) الأمين العام للأمم المتحدة بأن (حزب الله) وإسرائيل قد قبلا أن يكون وسيطًا بينهما في إتمام عملية تبادل للأسري يتم خلالها إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين مقابل الأسري اللبنانيين في سجون إسرائيل.. وليس بعد ذلك دليل علي أن إسرائيل قد أعلنت علي الملأ وعلي رءوس الأشهاد رضوخها الكامل لمطالب (حزب الله) التي أعلنها مع بداية الحرب.. وأصر عليها حتي حققها وأرغم إسرائيل علي الانصياع لها.. فهل بعد ذلك يأتي من يسأل.. من الذي انتصر في الحرب؟!!
في لبنان
... هناك احتمالان لتطور الأحداث والتداعيات في لبنان:(1/79)
... الأول: وهو الأكبر والأقوي: أن يحافظ الشعب اللبناني علي وحدته وأن يلتف حول حكومته والتمسك بالمطالب اللبنانية المتمثلة في بيان (النقاط السبع الذي أعلنه رئيس الوزراء اللبناني (فؤاد السنيورة) والذي يتضمن عودة «مزارع شبعا» وتبادل الأسري وخروج إسرائيل من جميع الأراضي اللبنانية.. وأن يصمد اللبنانيون ضد جميع الضغوط السياسية والدولية الناتجة عن إصدار قرار مجلس الأمن والتي تهدف إلي شق الصف اللبناني.. حتي يمكن تحقيق المطالب اللبنانية وبالتالي تكون مبررات (حزب الله) لاستمرار المقاومة قد انتفت.. وفي هذه الحالة فمن الممكن أن ينضم (حزب الله) بكامل قواته وسلاحه إلي الجيش اللبناني، ويكون انتشاره في منطقة الجنوب بصفته جزءًا منه يلتزم بنظامه ويخضع لحكومة لبنانية موحدة..
... الثاني: وهو الاحتمال الأضعف وفرص وقوعه ضئيلة. ولكنه قائم: أن توافق بعض القوي اللبنانية علي بعض البنود التي يرفضها (حزب الله) في قرار مجلس الأمن مثل الإصرار علي نزع سلاحه فتتدخل القوي الدولية الصليبية وعلي رأسها أمريكا لدعم تلك القوي وتطبيق تلك البنود.. فتنشب حرب بينهاوبين (حزب الله) ويدخل لبنان في دوامة جديدة من الحرب الأهلية تحرق الأخضر واليابس ولا يكسب من ورائها إلا اليهود والصليبيون.
الموقف الأمريكي
? وماذا عن الموقف الأمريكي من تلك الحرب؟
... عندما بدأت الأحداث كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعيش تحت ظل عدة إحباطات متزايدة وضغوط متصاعدة .. منها:
... 1- توالي الهزائم وتزايد الخسائر في الرجال والعتاد في العراق وأفغانستان.
... 2- تعثر وانهيار مشروعها للشرق الأوسط الجديد الذي يخضع لهيمنتها وإسرائيل.
... 3- ضغط الملف النووي الإيراني الذي أظهر عجز الموقف الأمريكي وفشله في كسر الإرادة الإيرانية.
... 4- ازدياد النفوذ الإيراني بقوة في العراق بما يمثله ذلك من تهديد للنفوذ والوجود الأمريكي فيه.(1/80)
... 5- عجز أمريكا عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي يطالب بنزع سلاح (حزب الله) وسيطرة الجيش اللبناني علي الحدود اللبنانية الإسرائيلية. لذلك فبمجرد أن تمت عملية أسر الجنديين الإسرائيليين وجدت أمريكا أن فرصتها للثأر لنفسها من كل الإحباطات السابقة قد سنحت.. ليس فقط بنزع سلاح (حزب الله) وإنما بتحطيمه وتدمير بنيته الأساسية في الجنوب اللبناني.. وبذلك تكسر شوكة إيران وسوريا في لبنان من ناحية وتقضي علي أكبر خطر يهدد إسرائيل من ناحية أخري.(1/81)
... لذلك فما إن بدأت إسرائيل العمليات العسكرية حتي رأينا وزيرة الخارجية الأمريكية تسارع بعقد مؤتمر صحفي تعلن فيه بغرور واستعلاء أن الشرق الأوسط الجديد الذي يخضع صراحة للهيمنة اليهودية الصليبية يتشكل في هذه اللحظات من خلال مخاض شيطاني يتصاعد علي أشلاء المئات والألوف من القتلي والشهداء من الأطفال والنساء والعجزة والشيوخ في لبنان، ويتم من خلاله القضاء علي أخر قلعة حصينة للمقاومة الإسلامية في المنطقة.. وكان ذلك طبعًا تحت الوهم السائد الذي كان يملؤها وغيرها من قيادات التحالف اليهودي الصليبي حتي ذلك الوقت بقوة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.. فلما أصيبت إسرائيل بالخسائر الفادحة علي جبهة القتال وانهمرت الصواريخ عليها في الأعماق واهتزت قيادتها السياسية والعسكرية وأخذ الأداء القتالي الإسرائيلي الميداني يتخبط ويتراجع وبدا علي إسرائيل الرغبة في تهدئة القتال والتقاط الأنفاس.. كان المثير أن أمريكا هي التي أصرت علي دفع إسرائيل دفعًا للاستمرار في القتال وتصعيده إلي أقصي درجة ممكنة وزودتها وعلي وجه السرعة بأحدث الأسلحة التي تعينها علي ذلك من الترسانة العسكرية الأمريكية مباشرة!! حتي رأي البعض أن أمريكا تدفع إسرائيل للحرب نيابة عنها كما قالت إحدي عضوات الكنيست: (أن علي إسرائيل أن تحارب لما فيه مصلحتها هي وليس لما فيه مصلحة أمريكا).. ولكن عندما اشتدت نيران المعركة وارتفعت رايات (حزب الله) وأدركت أمريكا أن إسرائيل عاجزة بالفعل عن تحقيق أي نصر عسكري يحقق لهما أهدافهما معًا.. وأنها تتعرض لخطر هزيمة حقيقية من الممكن أن تكون كارثية لهما معًا.. سارعت باستصدار قرار من مجلس الأمن يُوقف القتال ويحفظ لإسرائيل ماء وجهها محاولةً أن تحقق لها بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه بالحرب.
? فما تقويم نتيجة تلك الحرب علي أمريكا؟(1/82)
... في الحقيقة أن هذه الحرب كانت لها نتائج كارثية علي الولايات المتحدة الأمريكية وذلك علي النحو التالي:
... أولا: علي مستوي رموز النظام الأمريكي: أصيبت أهم الرموز الأمريكية بضربات مذلة ومهينة لم تتخيلها علي الإطلاق..
... فوزيرة الخارجية الأمريكية التي ظهرت في بدايات القتال علي شاشات التلفاز تعلن في استكبار واستعلاء وفي حقد وتشفٍ أن هناك شرقاً أوسطياً جديدًا يولد من مخاض تلك الحرب الشيطانية.. عادت بعد الهزيمة الإسرائيلية فانزوت تجر أذيال الخزي ولم نسمع لها صوتًا..
... ورئيس الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة.. وبعد أحد الاجتماعات التي رفضت فيها أمريكا إيقاف الحرب بعد أن ظهرت أصوات داخل مجلس الأمن تطالب بوقف القتال وعقد مفاوضات بين (حزب الله) وإسرائيل لإطلاق سراح الجنديين الأسيرين.. وقف ذلك الرجل في حديث له أمام الصحفيين يسخر من ذلك المطلب قائلا: (أنا لم أسمع في حياتي عن مفاوضات تمت بين دولة ديموقراطية (يقصد إسرائيل) وجماعة إرهابية يقصد (حزب الله).. ثم أكمل في سخرية: (إن كنتم رأيتم أنتم مثل هذا... فأروني).. ثم شاءت إرادة الله تعالي أن تصيب ذلك المغرور بالخزي والخذلان حين رأي بعينيه انكسار إسرائيل وبدء المفاوضات بينها وبين (حزب الله) عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة.. فأراه الله ما طلب أن يراه وأخزاه!!
... أما الرئيس الأمريكي.. فمع الإحباطات العنيفة التي يتعرض لها.. ظن أن هذه الحرب هي طوق النجاة الذي سينتشله من الهزائم والفشل في تحقيق مخططاته بانتصار إسرائيل وهزيمة (حزب الله).. ولكن كانت إرادة الله آن تنقلب الأمور عليه ويتحول ذلك الأمل إلي فشل جديد وانكسار يضاف إلي ما سبقه من انكسارات.(1/83)
... ثانيا : انكشاف حقيقة أمريكا أمام العالم وانكشاف ضعف التحالف اليهودي الصليبي.. فها هو ذلك التحالف الذي تهتز له كراسي وعروش.. وتركع أمامه دول وممالك.. ينهار ويفشل فشلاً ذريعًا أمام مجموعة من الأفراد المجاهدين المؤمنين بعقيدتهم المخلصين لقضيتهم.
... ثالثًا: انكشاف وافتضاح أمريكا والدول الأوروبية الصليبية أمام الشعب اللبناني.. فها هي تلك الدول التي أقامت الدنيا ولم تقعدها لمقتل لبناني واحد هو رئيس وزراء لبنان الأسبق (رفيق الحريري) وأصرت علي إخراج سوريا من لبنان بحجة الدفاع عن حريته وحماية شعبه.. هاهي تتجاهل بل وتدعم قتل المئات والألوف من أبنائه وتدمر بنيانه لأن الخصم في هذه الحالة هو إسرائيل.. وليري الشعب اللبناني بأجمعه زيف دموع التماسيح التي ذرفها الغرب علي حريته المنتهكة من سوريا وعلي مقتل رجل واحد من أبنائه.
... الرابع: انكسار المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد نهائيًا وإلي الأبد إن شاء الله، فالأمر لم ينته عند الفشل فقط.. بل ظهر شرق أوسط جديد بالفعل.. ولكن شرق أوسط ترتفع فيه رايات المقاومة الإسلامية وتتوالي فيه الضربات القاصمة علي التحالف اليهودي الصليبي.. وتشعر فيه الشعوب العربية والإسلامية بالعزة والكرامة.
فهم خاطئ
? في لقاء تليفزيوني للسيد (حسن نصر الله) الأمين العام لحزب الله ذُكر أنه قال: (لو علمت حجم الدمار الناتج عن أسر الجنديين الإسرائيليين لما أمرت مقاتلي حزب الله بأسرهما).. فما صحة هذا القول؟.. وهل يدل ذلك علي أن ما قام به الحزب كان (مغامرة غير محسوبة) بالفعل كما ذكرت ذلك بعض الدول العربية؟
... علي افتراض صحة هذا القول الذي جاء في لقاء للسيد (حسن نصر الله) مع قناة "NEW.T.V" اللبنانية فإننا ننبه إلي ثلاثة أمور:(1/84)
... أولاً: أن هذه الجملة جاءت في سياق حديث لا يقصد به علي الإطلاق الاعتذار أو الندم علي نتيجة أسر الجنديين.. وإنما جاء في سياق استنكار تلك البشاعة الدموية والهمجية الوحشية في العدوان الإسرائيلي الذي زعموا أنه كان ردًا علي أسر الجنديين بينما هو في الحقيقة كان نية مبيتة لشن الحرب علي (حزب الله) بعد شهور قليلة من تلك الأحداث.. والدليل علي ذلك أن أسر جندي إسرائيلي في غزة لم يدفع إسرائيل إلي اجتياح أو تدمير قطاع غزة كما فعلت مع لبنان مع العلم بأن أسر ذلك الجندي في غزة هو أشد إذلالا لإسرائيل من أسر الجنديين في لبنان، وذلك باعتبار إمكانات الفلسطينيين التسليحية المتواضعة قياسًا بإمكانات حزب الله القوية.. وقد جاء ذلك في حديث لاحق للسيد (حسن نصر الله) مع جريدة (السفير) اللبنانية قال فيه: (ما قلته في حوار سابق عن عدم القيام بأسر الجنديين لو كنا نعلم النتائج تم اقتطاعه بخبث من سياقه وتركيب مواقف سياسية عليه، ثم أضاف قائلاً: (لم نخطئ التقدير.. وحساباتنا كانت دقيقة وصحيحة ولسنا نادمين أبدًا علي ما حدث).
... ثانيًا: أن هذه الجملة لا يمكن أن تكون في مقام الاعتذار والندم.. لأن انتصار حزب الله في معركته ضد إسرائيل قد أحدث زلزالاً قلب الكثير من المفاهيم وغير العديد من الاستراتيجيات.. فالحزب قد انتصر.. والاعتذار والندم لا يكون إلا في موطن الضعف أو الهزيمة.. ولو كان للسيد (حسن نصر) أن يعتذر لكان قد اعتذر أثناء الحرب والقتال علي أشده لو كان قد شعر ببوادر الهزيمة.. فكيف لم يندم ولم يعتذر والقتال علي أشده.. ثم يندم ويعتذر بعد النصر.. أمر غريب ليس له تفسير منطقي أو عقلاني.(1/85)
... ثالثًا: أن السيد (حسن نصر الله) يعلم أن لفظة الاعتذار أو الندم بعد زمن القتال سوف تثبت عليه الخطأ في تقدير الأمور وبالتالي التسبب في ذلك الدمار والخراب.. وعلي ذلك فسوف تُسَلَّ جميع السيوف علي عنقه تطالب برأسه ثمنًا لجريمته بتدمير دولة لبنان وهذا أمر لا يمكن لعاقل أن يفعله.
... أماعلي افتراض أن السيد (حسن نصر الله) كان يعني بذلك القول الندم والاعتذار حقيقةً فنحن لا نتفق معه في ذلك.. فنحن عندما أيدنا (حزب الله) في حربه ضد العدو الإسرائيلي بدءًا من أسر الجنديين فإننا كنا نؤيد القيم والمبادئ والأصول الشرعية التي ينطلق منها.. فالعمل علي تحرير أسري المسلمين من أيدي أعدائهم واجب شرعي وفرض كفاية علي جميع المسلمين.. والعمل علي تحرير أراضي المسلمين المحتلة واجب شرعي وفرض كفاية علي جميع المسلمين.. وهذان هما المنطلقان اللذان انطلق منهما (حزب الله) في حربه ضد إسرائيل والذي أيدناه فيهما.
... أما القول بأن (أسر الجنديين) مغامرة غير محسوبة وتقديم الندم والاعتذار علي فرض وقوعه.. فهذا ما لا نتفق معه فيه.. لأن فريضة الجهاد التي فرضها الله سبحانه وتعالي علي المؤمنين غالبًا ما تكون بمفاهيم ومقاييس البشر (غير محسوبة).. فالجهاد غالبًا ما يكون بين القلة المؤمنة المستضعفة والكثرة الطاغية الكافرة.. وميزان القوة بين الأطراف المتصارعة لا يحسب بمقياس القوة المادية (المحسوبة) فقط إنما يقاس بدءًا بالقوي الإيمانية الروحية ورسوخ العقيدة القتالية في قلوب المجاهدين.. وهي الفاصلة في المعارك والحروب..
... ولو كان الجهاد في سبيل الله يُحسب بحساب القوي المادية فقط فمعني ذلك أنه إذا سادت قوي الكفر والطغيان وعلت في الأرض.. فإن فريضة الجهاد في سبيل الله يتم تعطيلها.. وذلك لأن أي دفع أو مقاومة من قوي الحق المستضعفة في تلك الحالة سوف تُعتبر مغامرة غير محسوبة.(1/86)
... ولو كان الجهاد في سبيل الله يحسب بحساب القوي المادية فقط ما وقف ثلاثة آلاف من المجاهدين المؤمنين في (غزوة مؤتة) بأسلحة بسيطة أمام ما لا يقل عن مائتي ألف من جنود الروم المدججين بالسلاح، وأصروا علي قتالهم ولاعتبرنا ذلك مغامرة غير محسوبة.
... ولو كان الأمر كذلك ما كان فتح مصر العظيمة قد تم علي أيدي أربعة آلاف من مجاهدي المسلمين المؤمنين بقيادة (عمرو بن العاص) وفي مصر من فيها من جحافل جيوش الروم، ولاعتبرنا ذلك مغامرة غير محسوبة.
... ولو كان الأمر كذلك ما انتصر بضعة آلاف من المجاهدين الأفغان المسلحين بأسلحة بدائية وبسيطة علي ثاني أكبر امبراطورية في العالم وهي الاتحاد السوفيتي؛ المزودة بمئات الألوف من الجنود وبأعتي ما أنتجته الترسانات من أسلحة وأجبروها علي الإنسحاب من أفغانستان.. ولاعتبرنا ذلك مغامرة غير محسوبة.
... ولو كان الأمر كذلك ما تغلب بضع عشرات من الألوف من الفييتناميين بإمكانياتهم المتواضعة علي أكبر أمبراطورية في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية وهزموها هزيمة منكرة وأجبروها علي الفرار من (فييتنام الجنوبية) ليدخلها رجال حرب العصابات الفييتناميون (الفييت كونج) ذوو الإمكانيات الضعيفة رافعين رايات النصر.. وليغرسوا في قلوب وعقول الأمريكيين أكبر عقدة نفسية في تاريخهم.. ولاعتبرنا ذلك مغامرة غير محسوبة.
... ولو كان الأمر كذلك ما تصدي أقل من ألفين من المجاهدين العراقيين في (الفالوجة) لعشرات الألوف من الجنود الأمريكيين المدججين بأعتي الأسلحة ليذيقوهم أفدح الخسائر وليعلموا الدنيا كلها كيف يكون الجهاد وكيف تكون الشهادة.. وكيف يكون النبل وعزة النفس.. وكرامة الإنسان.. ولاعتبرنا ذلك مغامرة غير محسوبة.(1/87)
... ولو كان الأمر كذلك ما قام الجيش المصري الباسل بدءًا من عام 1969م بحرب الاستنزاف الشهيرة ضد الجنود الإسرائيليين الذين احتلوا سيناء فزلزل الأرض تحت أقدامهم وأذاقهم لباس الخوف بالرغم من أن الثمن كان تدمير ثلاث مدن عظيمة هي مدن القناة الثلاث (السويس والإسماعيلية وبورسعيد) تدميرًا كاملاً واستشهاد الألوف وجرح عشرات الألوف وتهجير الملايين من سكان هذه المدن وتخريب البنية الاقتصادية والبترولية لتلك المدن تخريبًا تامًا.. ولاعتبرنا ذلك مغامرة غير محسوبة.
...
... ولو كان الأمر كذلك ما عبر الجيش المصري الباسل قناة السويس ولا حطم ولا احتل خط بارليف في العاشر من رمضان-أكتوبر 1973م بعد أن أجمع العالم علي أن ثمن ذلك العبور سوف يكون عشرات الألوف من القتلي من ضباط وجنود الجيش المصري.. وبأن خط بارليف لا يدمره إلا قنبلة ذرية.. ولاعتبرنا قرار العبور مغامرة غير محسوبة..
... وليصغ أصحاب تلك النظرة إلي الأمر الإلهي الواضح في قوله تعالي:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}(التوبة:14)
... ونخلص إلي أن ما قام به (حزب الله) من أسر الجنديين الإسرائيليين طلبًا لمبادلتهما بأسري المسلمين في إسرائيل واجب شرعي لا عبرة فيه بالنتائج. ثم إن هذه المغامرة سواء كانت محسوبة أو غير محسوبة فإنها قد أثمرت نتائج مبهرة أذهلت العالم أجمع وقلبت كل الثوابت والمفاهيم الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط رأسًا علي عقب لصالح العرب والمسلمين. ثم إن المرء قد يثاب رغم أنفه.. وها هو (حزب الله) قد نال الثواب.. برغبته.. أو رغم أنفه.
سلاح حزب الله
? ما التصور لمستقبل ووجود حزب الله في جنوب لبنان؟.. وهل سيبقي الحزب علي طبيعته العسكرية؟.. أم سينزع سلاحه ويتحول إلي حزب سياسي؟(1/88)
... كان المتوقع من الجميع أنه بمجرد أن يتوقف القتال فسوف يبدأ الحساب المنتظر الذي نادت به بعض الأطراف اللبنانية أثناء الحرب.. والمقصود طبعًا هو محاسبة (حزب الله) علي إشعال تلك الحرب التي نشرت الدمار والخراب في لبنان والذي يستتبعه بالطبع نزع سلاح الحزب وتفكيك بنيته الأساسية كحزب مسلح ومقاتل وربما إبعاده عن الحدود الإسرائيلية.. وهي نفس المطالب الإسرائيلية تمامًا.. ولكن مع انتهاء الحرب وتوقف القتال كانت المفاجأة.. فقد انتصر (حزب الله) انتصارًا استراتيجيًا مدويًا وانكسرت إسرائيل.. وبعد أن ارتفعت بعض الأصوات التي لم تكن قد استوعبت الحدث بالمطالبة بنزع سلاح (حزب الله).. ثم خروج السيد (حسن نصر الله) ليعلن أن هذا الحديث ليس مكانه الإعلام وإنما مكانه الغرف المغلقة صمت الجميع صمتًا مطبقًا.. فقد وصلت الرسالة من القائد المنتصر واستوعبها الجميع.
فبعد انتهاء القتال وكنتيجة لذلك الإنجاز المبهر للقوة القتالية لحزب الله وذلك العجز المخزي للجيش الإسرائيلي.. وبعد اعتراف وزيرة الخارجية الإسرائيلية أنه لا توجد قوة تقدر علي نزع سلاح (حزب الله).. أدرك الجميع أن سلاح الحزب لن يُنزع.. وأن الحزب لن يخرج من الجنوب وأن الحديث في هذا الأمر لا طائل من ورائه.
... والحقيقة أن قضية نزع سلاح (حزب الله) قضية محسومة.. فسلاح (حزب الله) سيبقي في يد (حزب الله). وذلك لسببين:
... الأول: أنه كما ذكرنا لا توجد قوة تقدر علي نزع سلاح الحزب بعد أن فشلت قوة الجيش الإسرائيلي الذي كان لا يُقهر في ذلك.(1/89)
... الثاني: أن هناك سؤالا سوف يطرحه (حزب الله) علي بقية الفرقاء اللبنانيين عندما يتداولون هذا الأمر في الغرف المغلقة.. وسيطلب الحزب جوابًا عن هذا السؤال.. ولن يتخلي الحزب عن سلاحه إلا إذا تلقي جواباً مقنعاً وشافياً.. ذلك السؤال هو: في حالة إذا ما قام حزب الله بالتخلي عن سلاحه.. وإذا ما قامت إسرائيل بعدوان جديد واجتاحت الجنوب اللبناني مرة أخري وهذا أمر متوقع ومؤكد من دولة غادرة لا تحترم المواثيق ولا تحفظ العهود.. فمن الذي سيدافع عن الأراضي اللبنانية وعن الأعراض وعن الشرف اللبناني وعن حياة اللبنانيين في الجنوب؟ وسيعلن (حزب الله) لكل الفرقاء اللبنانيين بكل وضوح وجلاء أنه لن يتخلي عن قطعة واحدة من سلاحه إلا إذا تلقي جوابًا شافيًا.. وطبعًا لن يجرؤ واحد من الفرقاء علي الإجابة.. لأن الإجابة الوحيدة التي لا يختلف عليها اثنان والتي لا يجرؤ واحد من اللبنانيين علي إنكارها هو أن الوحيد القادر علي صد ودحر أي عدوان إسرائيلي هو (حزب الله) فقط.. لذلك فإن سلاح (حزب الله) لن يُنْزع إن شاء الله.
? من أطراف الجبهة المعارضة لحزب الله في لبنان؟ وما مطالبهم وما توجهاتهم؟(1/90)
... تجسدت المعارضة اللبنانية لحزب الله فيما يعرف باسم (تجمع 14 أذار) ذي الأغلبية في مجلس النواب والوزراء، وقد استمد هذا التجمع اسمه من تلك المظاهرات التي قام بها ضد الوجود السوري في 14 مارس (آذار) 2005م بعد شهر واحد من مقتل رئيس الوزراء الأسبق (رفيق الحريري).. ويتكون ذلك التجمع من تيار المستقبل (السُنِّي) بقيادة النائب (سعد الحريري) والحزب الاشتراكي التقدمي (الدرزي) بقيادة النائب (وليد جنبلاط) والقوات اللبنانية وهي فريق من المسيحيين (الموارنة) بقيادة (سمير جعجع). وفي المقابل فإن جبهة المقاومة تتكون من حزب الله (الشيعي) بقيادة (حسن نصر الله) ومنظمة أمل (الشيعية) بقيادة (نبيه بري) والتيار الوطني الحر من المسيحيين (الموارنة) بقيادة العماد (ميشيل عون) وهو يمثل الأكثرية الساحقة من المسيحيين كما أظهرت الانتخابات الأخيرة.
... ويقف علي رأس مؤيدي هذه الجبهة الرئيس (إميل لحود) رئيس الجمهورية وبعض الأحزاب القومية واليسارية وبعض القيادات (السُنِّية) مثل الجماعة الإسلامية وبعض الزعامات التقليدية مثل (سليمان فرنجيه) نجل رئيس الجمهورية الأسبق و(عمر كرامي) و(سليم الحص) رئيسي الوزراء السابقين.
? وما مطالب وادعاءات (تجمع 14 آذار) في مواجهة (حزب الله) وبما يرد عليها؟
... 1- يصور التجمع بقاء المقاومة في الجنوب علي أنها انتقاص من سيادة الدولة اللبنانية علي كامل ترابها وأراضيها.. ويرد (حزب الله) بأن لبنان لم يذق طعم السيادة علي ترابه وأرضه إلا بعد ظهور المقاومة الإسلامية المسلحة وقهرها إسرائيل.
... 2- يعلن التجمع أن سلاح المقاومة يشكل تهديدًا للسلم الأهلي داخل لبنان.. ويرد (حزب الله) بأن ذلك السلاح لم يوجه يومًا إلي الداخل اللبناني ولم يشارك في الحرب الأهلية اللبنانية علي عكس جميع أطراف (تجمع 14 آذار) التي شاركت في تلك الحرب واستخدمت أسلحتها جميعها ضد بعضها البعض.(1/91)
... 3- يقول التجمع أن نزع سلاح المقاومة يأتي استجابة لقرارات الشرعية الدولية الواجب احترامها وتنفيذها.. ويرد (حزب الله) بأن هناك قرارًا لمجلس الأمن يحمل رقم 425 وصدر عام 1978م يقضي بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.. وقد ظل هذا القرار حبيس الأدراج وعميت عيون الشرعية الدولية عن تنفيذه طوال ما يزيد عن عشرين عامًا.. وعجز جميع الفرقاء اللبنانيين عن تطبيقه.. حتي جاءت المقاومة الإسلامية فكسرت أنف إسرائيل وأجبرتها علي الانسحاب وتنفيذ ذلك القرار قهرًا ورغمًا عن إرادتها.. فلماذا نحترم نحن الشرعية الدولية والعالم كله يتعامي عنها ويتجاهلها؟!! ولماذا لا تُحترم الشرعية الدولية إلا إذا كانت قراراتها ضد مصالح العرب والمسلمين؟!!
? هل من الممكن أن تتفق جبهة المقاومة (حزب الله) مع المعارضة (تجمع 14 آذار) علي رؤية مشتركة للمستقبل اللبناني؟
... هذا الأمر بعيد الاحتمال.. فالاتفاق يعني قبول الطرفين برؤية واحدة وهذا صعب المنال.. ولكنهما من الممكن أن يتوافقا أي أن يقبل كل منهما بجزء من رؤيته وجزء من رؤية الآخر مثال ذلك أن يقبل (حزب الله) بعدم الظهور العلني لمقاتليه وسلاحه في الجنوب، علي أن تقبل المعارضة باحتفاظه بهما كاملاً في مخابئه وقواعده السرية.. وذلك لأن المنطلقات والتحالفات والأهداف عند الطرفين مختلفة تمامًا علي النحو التالي:(1/92)
... 1- أن (تجمع 14 آذار) يقف بشكل صريح مع التحالف اليهودي الصليبي ويعتبر أمريكا وفرنسا هما الداعمان الرئيسيان له.. وإن كانت هذه العلاقة قد تضررت وافتضحت بشدة بعد دعم أمريكا المكشوف لإسرائيل في حربها المدمرة علي لبنان.. ويعتبر التجمع إيران وسوريا من الدول الراعية للإرهاب والتي تتدخل في الشئون الداخلية للبنان من خلال (حزب الله).. وفي المقابل فإن (حزب الله) والمقاومة تعلن عداءها الصريح لذلك التحالف اليهودي الصليبي وتعتبر أنه سبب كل مصائب الأمة الإسلامية وفي نفس الوقت تعلن تقديرها وقبولها للدعم السوري والإيراني لها في صراعها ضد التحالف.
... 2- أن أطراف التجمع تقيس المقاومة والانتصارات والهزائم بمقاييس المادة فقط.. ولا تضع اعتبارًا للنتائج الاستراتيجية التي ترتبت علي هذه الحرب لصالح العرب والمسلمين.. ولا تضع اعتبارًا لمفاهيم الجهاد والشرف والعزة والكرامة.. لذلك فإنهم يعتبرون نتيجة الحرب هزيمةً لحزب الله بسبب الدمار المادي الذي حل بلبنان. ويطالبونه بتحمل تبعاتها من منطلق المهزوم.. بينما ينطلق (حزب الله) من مفاهيم الجهاد والشرف والكرامة ويري أن المقاومة حققت انتصارًا استراتيجيًا مدويًا غير المفاهيم وقلب الموازين.
...
... 3- يخاف أطراف التجمع من أن يكون الاعتراف بانتصار المقاومة وحقها في الاحتفاظ بسلاحها، اعترافًا منها بفضل (حزب الله) في ذلك النصر وإقرارًا بقوته التي قهرت إسرائيل وفرضت نفسها علي الميدان الخارجي والميدان الداخلي،وبالتالي يعلو شأنه وتزداد قوته في التوازنات الداخلية وتقاسم السلطة. وختامًا وفي الختام فإننا نوجه نداءً لكل أطراف الصراع: للمجاهدين: نذكرهم بقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الأنفال:45)(1/93)
... للحكام العرب والمسلمين: نذكرهم بقول الحق جل شأنه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51)
... للشعوب المسلمة: نذكرهم بقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران:200)، وبقوله {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التوبة:39)
... أما اليهود فنذكرهم أننا لن ننسي قول ربنا عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً}(الاسراء:5)
... وختامًا فالصراع طويل.. والحرب ضروس.. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون..(1/94)