ملفات ساخنة..
قضايا وهموم الأمة الإسلامية
( دارفور- السودان – الصومال )
د. رضا الطيب
الامين العام للجمعيات الشرعية
و عضو هيئة العلماء
محتويات الكتاب
أزمة دارفور .................................... 4
جنوب السودان ............................... 27
الصومال ..والأيدى الخفية .................... 50
بسم الله الرحمن الرحيممقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلي آله وصحبه أجمعين.وبعد...
فإن الأمم العظيمة والشعوب العريقة.. تولد بعقيدتها.. وتحيا بذاكرتها.والذاكرة .. هي الروح التي تسري في جسد الأمة فيطول بقاؤها.. وهي الدماء التي تتدفق في عروقها فتشتد عافيتها. وبالذاكرة.. تتذكر الشعوب أحداث ماضيها.. وتتفهمها وتتدبر معانيها.. وتستخلص العبر منها.. ودروس ما فيها.وبالذاكرة.. تتذكر الأمم عناصر قوتها وأسباب رفعتها فيما مضي من تاريخها فتبني حاضرها ومستقبلها علي نهجها.وعندما تذبل الذاكرة في أمة من الأمم.. تذبل، وعندما تموت.. تموت.وفي الصفحات التالية نتناول تباعًا بعض أحداث وقضايا الأمة الإسلامية العظيمة وهموم المسلمين.. نعرضها ونحللها لتعيش في ذاكرة الأمة وتحيا بها.
أزمة دارفور.. بين حقيقة الأوضاع وآفاق المستقبل
نشر هذا الملف فى العدد الخامس السنة الأولى من مجلة التبيان بتاريخ
ذوالحجة 1427 هـ / فبراير 2005م
في دلالة من دلالات لاتحصي علي صدق نبوته صلي الله عليه وسلم يتنبأ نبينا المعصوم صلي الله عليه وسلم بحال أمته في تلك الحقبة التي تعيشها حيث يقول: «يوشك أن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها، قيل: أومن قلة نحن يومئذ يارسول الله ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل!! ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم وليلقين في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يارسول الله ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»(1/1)
صدق رسول الله صلي اللله عليه وسلم..وهاهي أمتنا المسلمة يتداعي عليها أعداؤها من كل حدب وصوب، فما تكاد تفيق من أزمة وتلملم أشلاءها إلا ويحاول أعداؤها تشتيت فكرها وتضييع جهدها من خلال فتح جبهات أخري حتي تصاب الأمة بالدوار فلا تستطيع التركيز في قضية ترفع شأنها..فمن فلسطين إلي جنوب السودان إلي الشيشان إلي البلقان إلي أفغانستان إلي العراق إلي السودان مرة أخري ولكن في دارفور هذه المرة..ونحن بعون من الله وفضله سنحاول معاً أن نفتح ملف القضية الأخيرة -دارفور- لنري أسبابها، وحقيقة أحداثها، وواجباتنا نحوها، وكذلك التطور المستقبلي لها طبقاً لمعطيات الحاضر، علي وعد بلقاء آخر حول قضية الجنوب باعتبارها بداية انفراط العقد السوداني، نسأل الله عز وجل أن يحفظه لنا سوداناً واحداً.
دارفور .. الموقع والجغرافيا(1/2)
تقع دارفور في الجزء الغربي من السودان وتتكون من ثلاث ولايات هي شمال دارفور وعاصمتها (الفاشر) وجنوب دارفور وعاصمتها (نيالا) وغرب دافور وعاصمتها (الجنينة).وتعتبر دارفور البوابة الغربية للسودان حيث تشترك في حدودها مع ثلاث دول هي من الشمال إلي الجنوب ليبيا ثم تشاد وهما دولتان عربيتان مسلمتان ثم جمهورية أفريقيا الوسطي في أقصي الجنوب حيث لاتوجد أي فواصل طبيعية بينها، وتبلغ المساحة الكلية لدارفور ما يزيد عن مساحة فرنسا وتساوي ما يقرب من نصف مساحة جمهورية مصر العربية وما يقرب من خمس مساحة السودان وتعداد سكانها يقرب من ربع تعداد السودان. وتكثر بدارفور الجبال مثل سلسلة جبال (مرة) التي تتوسطها وتعتبر أعلي جبال السودان ويوجد بها نهر (بحر العرب) الذي يصب في (بحر الغزال) وروافده المتعددة وبحيرة (كندي) إضافة إلي العديد من الوديان الزاخرة بالآبار وعيون الماء العذبة. ويتنوع بها المناخ بين شبه الصحراوي في الشمال، ومناخ شبه البحر المتوسط في منطقة جبل مرة الذي يصل ارتفاعه إلي عشرة آلاف قدم فوق سطح البحر، ولا يخفي ما لهذا التنوع من أثر كبير علي تنوع الزراعات وتعدد الثروات المعدنية.
التركيبة السكانية.. وانعكاساتها علي طبيعة الأوضاع(1/3)
يبلغ عدد السكان في دارفور ما يزيد قليلا عن ستة ملايين نسمة ينتمون إلي ما يقرب من مائة قبيلة من أهمها قبائل (الفور) و(الزغاوة) و(المساليت) و(الرزيقات) و(البني حسين) و(بني منصور) و(الهوارة) وهذه القبائل هي خليط من القبائل ذات (الأصول العربية) والقبائل ذات (الأصول الإفريقية) التي امتزجت وتزاوجت واختلطت منذ أكثر من ألف عام؟ وكانت البداية بالعديد من القبائل الإفريقية التي عاشت في دارفور منذ القدم ومع مرور الزمن وتعاقب القرون هاجرت موجات متتالية من القبائل العربية الهلالية من شمال أفريقيا فكانت تلك بداية التزاوج والانصهار بين الأصول العربية والأصول الأفريقية وهو ما أدي إلي نشأة شعب عربي إفريقي مسلم لايستطيع أحد أن يفرق بين أبنائه في اللون أو اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد.وأهل دارفور جميعهم مسلمون من أهل السنة ويتبعون المذهب المالكي ويقرأون القرآن بقراءة ورش.. ومن الجدير بالذكر أن كل القبائل سواء كانت ذات الأصول العربية أم الأفريقية تتنافس علي حفظ القرآن ولهذا فإن كتاتيب تحفيظ القرآن أو ما يعرف بالخلاوي تنتشر في دارفور أكثر من أي مكان آخر في السودان بل تكاد تكون أعلي نسبة انتشار في العالم الإسلامي كله.
لماذا أزمة دارفور الآن؟(1/4)
من المعروف أن لكل القضايا والهموم المسلمة في مخطط التحالف اليهودي الصليبي صفحات محددة تبرز علي السطح في توقيتات محددة لخدمة ذلك التحالف.. فلماذا برزت قضية دارفور في هذا التوقيت؟ والإجابة تكمن في الأسباب التالية:(1) إلهاء العالم الإسلامي كله وشغله عن القضية المحورية للإسلام والمسلمين وهي قضية فلسطين بعد أن شغله عنها بقضية العراق ومن قبلها أفغانستان حيث ينتهز اليهود الفرصة الآن لاجتياح الأراضي الفلسطينية للانتهاء بأقصي سرعة من عملية تهويد فلسطين ما بين بناء الجدار العازل الذي يلتهم ما يزيد عن ربع أراضي فلسطين وبناء المستوطنات وتهويد مدينة القدس والقتل والترويع والاغتيالات لكل أبناء الشعب الفلسطيني ورموزه دون أي وازع أو رادع.(2) إلهاء مصر علي الخصوص وشغلها عن قضايا أمتها بإرسال رسالة واضحة لها بأن لها صفحتها المماثلة في المخططات اليهودية الصليبية وذلك بإثارة الفتنة الطائفية ودعم أي توجه للأقباط في مصر بالانفصال عنها وإقامة دولة خاصة لهم في وسط الصعيد.(3) الضغط علي حكومة السودان في الخرطوم للانتهاء من التوقيع علي اتفاقية (ماشاكوس) المؤدية إلي انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم وذلك بفتح جبهة دارفور حتي يزداد الضغط السياسي والعسكري عليها ويصبح الهم همين فتضطر إلي الانتهاء من هم الجنوب بأي ثمن لكي تتفرغ للهم الجديد في دارفور.((1/5)
4) القضاء علي أي توجهات لإقامة مشروعات اقتصادية مشتركة بين الدول العربية تكون السودان فيها هي حجر الزواية في الزراعة والرعي والتي بدأت مصر بالفعل في الاتجاه نحوها بقرارها استيراد اللحوم السودانية والماشية الحية من السودان فلو اجتمعت أراضي السودان القابلة للزراعة ومساحتها ما يزيد عن 200 مليون فدان ورءوس الماشية التي تزيد عن 230 مليون والأيدي العاملة الخبيرة بالزراعة من مصر وأموال البترول العربي لتحولت السودان إلي سلة غذاء تطعم العالم العربي كله ولكفتنا ذل السؤال ومد اليد للآخرين للتسول والاستجداء والتفريط في إرادتنا وكرامتنا.(5) تدمير البقية الباقية من ثقة المسلمين في أنفسهم وفي قضاياهم الإسلامية عندما يرون الضربات تنهال عليهم دون اعتبار لمكان أو زمان وإشغال المسلمين بالفتن المتتالية فكلما انشغل المسلمون بفتنة وأعدوا أنفسهم لمواجهتها دهمتهم فتنة أخري فانشغلوا باللاحقة عن السابقة حتي يتسع الخرق علي الراقع ويصبح المسلمون حياري بين همومهم وقضاياهم ويضيع أصل القضايا وهي قضية فلسطين في غياهب النسيان.
مكمن الخطر(1/6)
من المعلوم أن قضية دارفور باعتبار الأمن المصري ــ والذي هو ركيزة الأمن القومي العربي والإسلامي ــ تأتي علي رأس الهموم والأخطار التي تهدد الأمة الإسلامية وتكاد تسبق في ذلك قضية غزو التحالف اليهودي الصليبي للعراق وذلك للأسباب الآتية:السبب الأول: أن قضية دارفور جزء من مخطط لتمزيق السودان الشقيق إلي دويلات متنافرة وهي السياسة العامة للتحالف اليهودي الصليبي العالمي لتفتيت وتمزيق العالم الإسلامي كله تمهيداً لإسقاط دولة الإسلام والقضاء عليها.. والسودان هو خط الدفاع الجنوبي المباشر لمصر وبقاء السودان عربياً إسلامياً موحداً هو الضمانة الوحيدة للحفاظ علي أمن مصر القومي من جهة الجنوب.. أما اختراق السودان وتمزيقه وسقوطه تحت هيمنة الأعداء فهو ضرب خطير للأمن القومي المصري في مقتل والتحكم في منابع النيل شريان الحياة الوحيد لمصر وانكشاف لظهر مصر وسقوط وانهيار لكل الحصون والقلاع والبوابات الجنوبية لها.السبب الثاني: أن الصراع المحتدم بين التحالف اليهودي الصليبي والأمة الإسلامية قد سلك في هذه القضية أخطر السبل والأساليب وأشدها فتكا بها وأكثرها فعالية في تمزيق جمعهاوتفتيت وحدتها وتمزيق أوصالها لصالح إنشاء دولة إسرائيل الكبري وهو أسلوب ضربها من داخلها وذلك علي اعتبار أن الصراع بيننا وبين أعدائنا يتبع ثلاثة أساليب رئيسية هي علي النحو التالي:[أ] الأسلوب الأول: هو الصدام المباشر بين القوتين سواء في المجال الاقتصادي أم السياسي أم الفكري والثقافي ويأتي علي رأس كل ذلك الصدام العسكري بين الطرفين لاحتلال الدول الإسلامية احتلالاً صريحاً.[(1/7)
ب] الأسلوب الثاني: هو الصدام غير المباشر عن طريق إثارة الفرقة والنزعات القبلية والنزاعات العرقية والمذهبية بين فئات المجتمع الواحد في الدولة المسلمة ثم احتضان واحد أو أكثر من بين هذه الجماعات أو الفرق المتنازعة وتجنيده لإشعال حرب أهلية بين أبناء الوطن الواحد ثم التدخل العسكري لنصرة هذا الفريق وتمكينه من السيطرة علي الدولة وإقامة نظام حكم عميل يدور في فلك التحالف اليهودي الصليبي ويكون نصراً له علي إخوانه المسلمين.[جـ] الأسلوب الثالث: وهو يشبه الأسلوب الثاني في إثارة الفرقة واحتضان أحد الفرقاء إلا أنه لايتم فيه التدخل العسكري لنصرته وإقامة حكومة عميلة.. وإنما يتم دعم ذلك الفريق دعماً تسليحياً ومادياً وسياسياً لتقويته وتمكينه من فرض الانفصال عن الوطن الأم بإمكانياته الذاتية المدعومة من التحالف دون التدخل العسكري علي الإطلاق. وكمثال للأسلوب الأول غزو التحالف اليهودي الصليبي العسكري المباشر لدولة العراق حيث قامت القوات الأمريكية والإنجليزية وبعض الحلفاء الصليبيين بغزو العراق واحتلال أراضيه فكان ما كان حيث سقطت تلك القوات في ذلك المستنقع الدامي وأصيبت بتلك الخسائر الفادحة التي زلزلت أركانها فأدركت بعد فوات الأوان أن الصدام المباشر مع المسلمين يفجر فيهم قوة جبارة هائلة هي قوة الجهاد في سبيل الله.. وأن تلك القوة إذا استثيرت واستيقظت بين المسلمين فلا قبل لأي قوة علي وجه الأرض بها.ولذلك فنحن نعتقد اعتقاداً جازماً بأن التحالف اليهودي الصليبي لن يكرر تلك التجربة الأليمة وأنه قد حذف ولو إلي حين من استراتيجيته في صراعه مع الإسلام والمسلمين ذلك الأسلوب وهو الصدام والغزو العسكري المباشر لأراضيهم.(1/8)
أما المثال للأسلوب الثاني: فهو ما حدث في أفغانستان حيث أرادت الولايات المتحدة إسقاط نظام حكم طالبان الإسلامي في أفغانستان بادعاء أنه يؤوي (منظمة القاعدة) وعلي رأسها (أسامة بن لادن) الذي اتهمته بأنه هو المخطط لكارثة الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا.. فلجأت إلي التحالف مع القبائل الشمالية في أفغانستان وهي قبائل الطاجيك والأوزبك والتركمان وناصرتها علي قبائل الجنوب الحاكمة وهي قبائل البشتون التي ينتمي إليها غالبية قوات طالبان فدعمتها بالمال والسلاح والعتاد وساندتها بقواتها الجوية بقصف مواقع طالبان وتدمير قواعدها وبالفعل استطاعت قبائل الشمال أن تنتصر علي قوات طالبان وأخرجتها من جميع المدن الأفغانية وعلي رأسها (كابول) العاصمة إلي الصحاري والجبال وسقطت حكومة طالبان وقامت مكانها حكومة حليفة للغرب وللولايات المتحدة التي أنشأت لها قواعد عسكرية في مدينة (كابول) العاصمة وقاعدة (باجرام) الجوية في الجنوب وبذلك حقق التحالف اليهودي الصليبي هدفه بأقل قدر من الخسائر حيث كانت الخسائر الحقيقية بين صفوف قوات الشمال التي قامت بدور الدرع الواقية لقوات التحالف العسكرية.(1/9)
أما المثال للأسلوب الثالث: فهو ما حدث في جنوب السودان حيث تبني التحالف اليهودي الصليبي رجلا من جنوب السودان هو (جون جارانج) ورباه علي إثارة النزعة المسيحية في الجنوب والتمرد علي الحكومة الإسلامية في الشمال وقام بدعمه بكل أنواع الدعم الممكنه من تسليح وتدريب عسكري ودعم إغاثي من طعام وكساء ثم دعم سياسي في المحافل الدولية ثم ضغط اقتصادي وسياسي ودولي علي حكومة السودان حتي رضخت الأخيرة بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من الحرب الأهلية والصراع مع قوات المتمردين في الجنوب واضطرت إلي الخضوع لذلك المخطط الجهنمي وذلك بتوقيع اتفاقية (ماشاكوس) بمدينة (نيروبي) عاصمة كينيا والتي تقضي بعقد استفتاء في جنوب السودان بعد ست سنوات من توقيع تلك الاتفاقية يتم من خلاله تقرير مصير الجنوب إما بانفصاله عن السودان الموحد أو بقائه وهو ما يعني الإقرار مقدماً بالانفصال الفعلي لجنوب السودان عن دولة السودان الأم في نهاية تلك المدة وإنشاء دولة مستقلة له.وقد فشل الأسلوب الأول فشلا ذريعاً في تحقيق أهداف التحالف اليهودي الصليبي في تفتيت دولة العراق المسلمة وتحملت القوات الأمريكية بسببه خسائر فادحة وأوقعها في مأزق زلزل أركانها وأذل كرامتها.بينما استطاع الأسلوب الثاني تحقيق أهداف التحالف بإقامة حكومة خاضعة له في أفغانستان مع إصابته بخسائر يمكن تحملها لدرجة ما في الرجال والمال والسلاح.أما الإسلوب الثالث بعدم التدخل العسكري مطلقا وإلقاء عبء التناحر والتقاتل كله علي أبناء الوطن الواحد فقد نجح في تحقيق أهداف التحالف كاملة بالانفصال الحتمي لجنوب السودان وتفتيت وحدة الدولة السودانية إلي شمال وجنوب بدون أية خسائر للتحالف لا في الرجال ولا في العتاد ولا في السلاح..لذلك فقد استفاد التحالف اليهودي الصليبي من التجارب الثلاث فاختار أسلمها له وأشدها فتكاً بالإسلام والمسلمين وأشدها فعالية في تحقيق أهدافه وهو الأسلوب الثالث..(1/10)
وبالفعل لم يضيع الوقت بعد النجاح الحاسم في الانتهاء من مخطط فصل جنوب السودان فانتقل إلي المرحلة الثانية من تفتيت الدولة السودانية وذلك باتباع نفس المخطط في غرب السودان في دارفور ليكرر نفس الرواية بإثارة النزعات القبلية ثم تبني بعض الفرق المتمردة ودعمها بالمال والسلاح مع الضغط الدولي علي الحكومة السودانية تمهيداً لخضوعها ورضوخها وانتهاء بانفصال الغرب تماما مثل الجنوب.. وبعد ذلك يأتي الدور علي شرق السودان حيث قبائل (البجا) ثم شمال السودان حيث قبائل النوبة.أما السبب الثالث: لخطورة قضية دارفور فهو أن ضرب وحدة السودان في عروبته وإسلامه وتفتيته إلي دويلات نصرانية في الجنوب وعلمانية في الشرق والغرب وإثارة العداوة والحزازات والفتن بينها هو إغلاق البوابة الشمالية لانتشار الإسلام في إفريقيا كلها إغلاقاً كاملاً ونهائياً.. تلك البوابة التي يمر من خلالها الأزهر الشريف.. رأس الدين والعقيدة وذروة سنام العلوم الشرعية والدعوة الإسلامية في العالم أجمع إلي إفريقيا.. بوابة السودان العربي المسلم الواحد وذلك بإقامة حزام زنجي يفصل بين شمال إفريقيا المسلم من جانب ووسط إفريقيا وجنوبها المتعطش للإسلام من جانب آخر.السبب الرابع: وهو من أخطر الأسباب إن لم يكن أخطرها علي الإطلاق.. ذلك هو أن قضية دارفور تجسد تجسيداً حياً وصارخاً عجز المسلمين وفشلهم الذريع والذي يكاد يصل إلي حد الخيانة للإسلام في استخدام مقومات القوة التي بين أيديهم فالمحنة التي تعيشها الأمة في دارفور بالرغم من كل تفرعاتها وتشعباتها فإنها كلها تعود إلي مدخل واحد فقط هو الذي دخل منه التحالف اليهودي الصليبي ونفخ فيه النار حتي ثارت الفتنة واشتعلت الحرب الأهلية بين المسلمين وبعضهم..(1/11)
ذلك المدخل هو الجوع وقيام الفرقاء بقتال بعضهم بعضاً طلباً للماء والزرع والكلأ، ولو توفَّر لأهل دارفور آبار للماء وبعض الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم وفرص العمل لانتهت قضية دارفور في أسابيع تعد علي أصابع اليد الواحدة ولوُئِدَت الفتنة وانطفأت حرب أشعلها الشيطان.. وكل ذلك للأسف الشديد يمكن تحقيقه بالكامل بعنصر واحد فقط من عناصر قوة المسلمين وهو المال.. وما أكثره عندهم.. فقليل من أموال البترول التي يمتلك منها المسلمون ألوف المليارات من الدنانير والدولارات كفيل بالقضاء علي المشكلة من جذورها ووأد الفتنة من أصولها.. ومع ذلك يقف أثرياء المسلمين مشلولين عن استخدام ذلك السلاح الحاسم والعلاج الناجح إما عمداً وبخلاً وشحاً بمال الله علي إخوانهم المساكين الفقراء في دارفور، وإما جهلاً وغباءً في فهم واستشعار مقتضيات الصراع بين الإسلام وأعدائه وتلمس عناصر القوة والتمكين لتحقيق النصر فيه.. وإما خضوعًا لمخططات اليهود الصليبيين ورضوخًا لأوامرهم لهم بعدم مساعدة إخوانهم.. فإن كان للمتخاذلين المسلمين عذر في الانهزام العسكري أمام أعدائهم بادعاء أنهم يملكون الغلبة والتفوق العسكري علينا، ــ بالرغم من أن فريضة الجهاد قادرة علي شل ذلك التفوق والقضاء علي ذلك التميز كما هو حادث في العراق ــ وإن كان لهؤلاء المتخاذلين العذر في الانهزام الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي أمام أعدائهم بواقع أنهم يتفوقون علينا في هذه الميادين.. فما عذرهم في الانهزام في ميدان سلاحه الوحيد هو المال ولهم فيه السبق والريادة.
جذور الصراع(1/12)
تبدأ جذور الصراع في دارفور مع بداية الاحتلال البريطاني للسودان.. فقد كانت القبائل ذات (الأصول الأفريقية) تميل بحكم طبيعتها إلي ممارسة الزراعة والاستقرار في الأرض حول مصادر المياه من أنهار وعيون بينما كانت القبائل ذات (الأصول العربية) تميل إلي الرعي والتنقل بين شمال دارفور وجنوبها حيث مواسم الأمطار طلبا للكلأ والمرعي لقطعان مواشيهم مما جعل طبيعة حياتهم التنقل والترحال من مكان إلي آخر.لذلك فقد قام الإنجليز بوضع نظام (الحواكير) حيث قاموا بتوزيع وتخصيص أراضي دارفور علي القبائل ذات الأصول الأفريقية بنظام الحكر أي تخصيص واحتكار مساحة من الأراضي المزروعة لكل قبيلة.. وتسمي هذه المساحة (حاكورة) والجمع (حواكير) وفي المقابل فقد خصصوا للقبائل ذات الأصول العربية ما يسمي (بالمراحيل) والمفرد (مرحال) وهو عبارة عن مسارات معينة يتم تحديدها بين الحواكير تتحرك القبائل العربية فيها مع قطعان الماشية التي تمتلكها بين شمال دارفور وجنوبها ذهاباً وإياباً طلبا للكلأ والمرعي حيث يوجد الماء ويمتلكون حق استخدامها دون منازع.ففي الشتاء تسقط الأمطار في الشمال فتتجه القبائل وقطعان الماشية شمالا.. وفي الصيف تجف الأمطار في الشمال وتسقط في الجنوب فيتجهون جنوبا وهكذا علي مر الأعوام ومما هو جدير بالذكر أن عرض المرحال يتراوح ما بين عدة أميال إلي عشرين ميلاً.وبمرور الزمن أصبح ذلك الوضع وهو نظام «الحواكير والمراحيل» مستقراً والملكيات هادئة ولم يعد بمقدور أحد أن يغيرها.. وبطبيعة الحال لم تهتم القبائل العربية بطلب تملك مساحات من الأراضي مثلما فعلت القبائل الأفريقية.
بداية المشكلة والأزمة(1/13)
بدأت المشكلة منذ عشرات السنين وبالتحديد في بداية الستينيات عندما بدأت منطقة الشمال الأفريقي تتعرض لموجات متتالية من الجفاف وندرة الأمطار وبدأت الرقعة الخضراء تتناقص ورقعة التصحر تتزايد وحاولت بعض القبائل العربية أن تتملك بعض الأراضي لترعي فيها مواشيها فلم تتمكن من ذلك لاستقرار الوضع القائم ورفض القبائل الأفريقية التنازل عن أراضيها التي امتلكتها واحتكرتها لما يزيد عن ثمانين عاماً ملكية هادئة مستقرة مما أوغر صدور القبائل العربية وبدأت بعض المرارات تترسب في نفوسها.وبمرور الأيام ازداد الجفاف واتسعت رقعة التصحر فقَلّ الكلأ والمرعي وجف العشب في المراحيل المخصصة للرعي وأصبح من المستحيل علي القبائل العربية أن تسلك المراحيل المخصصة لها ذهاباً وإياباً طلباً للمرعي دون أن تجور قطعان الماشية علي الأرض المزروعة للقبائل الأفريقية والتي كانت تعاني هي أيضاًً من نفس الجفاف مما أدي إلي وقوع صدامات واشتباكات أخذت تتزايد حتي وصلت إلي معارك بين الطرفين سقط فيها الكثير من القتلي والجرحي وذلك مع كثرة وتكرار تعدي قطعان الماشية المملوكة للقبائل العربية علي زراعات القبائل الأفريقية.. وفي البداية عندما كانت هذه النزاعات محدودة والنظم العرفية سائدة كان يمكن حلها بالطرق العرفية وتعويض الأطراف يما يرضي النفوس ويقضي علي الفتنة والخلافات في مهدها،
انفجار الأزمة(1/14)
وقد ظل هذا الوضع المتوتر محكوماً ومسيطراً عليه حتي تفجرت الأزمة لثلاثة أسباب مباشرة هي:(1) التزايد المستمر في حدة الجفاف واتساع مساحات التصحر التي سادت المنطقة والتناقص الشديد والمستمر في مساحات الزرع والكلأ مما أدي إلي انفلات المقدرة علي السيطرة علي قطعان الماشية والتي يقدر عدد القطيع الواحد منها بمئات الألوف من الرءوس وبالتالي ازدياد تعديها علي الأراضي المزروعة.(2) إلغاء الحكومة المركزية في الخرطوم النظم العرفية التي كانت سائدة والتي كانت تدين بها جميع الأطراف ووضعت بدلاً منها القوانين المدنية التي لا تتفق مع طبيعة القبائل وخلافاتها فعلي سبيل المثال عندما كان يحدث تعدٍ من قطعان الماشية علي الزراعة أو تحدث اشتباكات يسقط فيها بعض القتلي من بين القبائل كانت المجالس العرفية تنعقد فوراً وتحقق في الأمر وتصدر أحكامها وتنفذها علي وجه السرعة بتعويض الخسائر أو الدية للقتلي مما يؤدي إلي وأد الفتنة والقضاء الفوري علي الخلاف بينما في نظام القضاء المدني فإن فترات التحقيق والتقاضي تمتد إلي فترات طويلة مما يؤدي إلي تأجيج النفوس واستعجال استيفاء الحقوق فتعمد القبائل إلي تعويض خسائرها والانتقام لقتلاها بأيديها فتنفلت الأوضاع وتضيع القوانين وتشتعل نيران الفتنة.(3) انتهاز أعداء الإسلام الفرصة للنفخ في نيران الفتنة وتضخيم الخلاف بتصوير الوضع علي أنه إبادة عرقية وحرب عنصرية تشنها القبائل العربية مدعومة من الحكومة المركزية علي القبائل الأفريقية وعرض المشكلة في وسائل الإعلام العالمية والمحافل الدولية علي أنها كارثة إنسانية والمطالبة بالتدخل الدولي في السودان كما حدث في أفغانستان والعراق.
أسباب مهدت للأزمة:(1/15)
بالإضافة إلي ذلك فقد كانت هناك بعض الأسباب التي مهدت للأزمة وهي:(1) الانتشار الواسع لتجارة السلاح في دارفور بعد انتهاء الحرب في دولة (تشاد) المجاورة وتسلل عشرات الألوف من قطع السلاح بعد انتهاء دورها في الحرب التشادية.(2) النزاعات والخلافات التاريخية بين القبائل والتي تعود أيضاً إلي النزاع علي موارد الماء والزراعة والكلأ.(3) انتشار عصابات النهب والسطو المسلح وادعاؤها أنها تفعل ذلك لنصرة قبائلها ومحاربة القبائل المناوئة لها بغرض اكتساب الشرعية والدعم من قبائلها.(4) تزايد قيام القبائل بتكوين ميليشيات مسلحة للدفاع عن نفسها ضد القبائل الأخري وعصابات النهب والسطو المسلح.(5) هجرة بعض القبائل الرعاة من دولة (تشاد) المجاورة إلي (دارفور) أثناء الحرب الأهلية في (تشاد) طلباً للأمن وبحثا عن مراع لمواشيهم وتفادياً للتجنيد الإجباري لأبنائهم بين الأطراف المتصارعة في تلك الحرب مما أدي إلي زيادة الضغط علي الموارد الشحيحة أصلاً في دارفور وازدياد حدة الصراع بين قبائل الرعاة وقبائل الزراع للسيطرة عليها.(6) ضعف القبضة الأمنية للحكومة المركزية في الخرطوم علي تلك المساحات الشاسعة من أراضي دارفور مما أتاح للميليشيات والعصابات المسلحة حرية الحركة ومهاجمة القبائل والتناحر فيما بينها.(7) وجود طموحات وتطلعات انفصالية لدي بعض القبائل التي تعتبر نفسها أصلاً وما عداها دخيلاً علي الإقليم، وكذلك لدي بعض الأفراد الذين نالوا حظاً من التعليم والثقافة وأصبحت لديهم تطلعات وطموحات للزعامة والسلطة.
حركات التمرد في دارفور
هناك عدة حركات للتمرد في دارفور يأتي علي رأسهاحركتان رئيستان هما حركة (تحرير السودان) وحركة (العدل والمساواة)..
حركة تحرير السودان(1/16)
نشأت هذه الحركة في عام 0002م من أبناء قبيلة (الفور) الإفريقية فقط وكان اسمها (حركة تحرير دارفور) ثم انضمت إليها قبائل (الزغاوة) و(المساليت) الإفريقية ثم بعض قبائل (الرزيقات) العربية وقد غيرت الحركة إسمها إلي (حركة تحرير السودان) بعد أول عملية عسكرية لها ضد القوات الحكومية في فبراير ومارس 3002 حيث استولت علي مدينة (قولو) ثم علي مدينة (الطينة) علي الحدود مع (تشاد) بعد معارك طاحنة مع القوات الحكومية، ويرأس هذه الحركة محام شاب في الثلاثينيات من العمر اسمه (عبدالواحد محمد نور) وهو من قبيلة (الفور)،وكان عضوا بالحزب الشيوعي السوداني وله علاقات وثيقة بجون جارانج وبعض الدول الإفريقية ذات الصلة بإسرائيل مثل كينيا وأوغندا وإريتريا.
حركة العدل والمساواة
نشأت هذه الحركة من أبناء قبيلة (الزغاوة) الإفريقية في عام 0002م إلا أن ظهورها الحقيقي علي ساحة الصراع في (دارفور) كان في مارس 3002 عندما أصدر رئيس الحركة (خليل إبراهيم) والمقيم في لندن بياناً يعلن فيه عن شن أولي العمليات العسكرية ضد القوات الحكومية ومراكزها في غرب دارفور.. وكان رئيس الحركة وزيراً للتعليم في شمال دارفور حتي عام 9991م حيث استقال وأسس الحركة.. كذلك فإنه كان من القيادات البارزة في (الجبهة القومية الإسلامية) بقيادة (حسن الترابي ) ثم تحول عن المنهج الإسلامي إلي المنهج العلماني، وهو الآن ينادي بتطبيق الديمقراطية في السودان وفصل الدين عن الدولة. وتعلن هاتان الحركتان أن سبب تمردهما علي الحكومة المركزية هو ذلك التهميش الذي تعرضت له (دارفور) واستبعاد أهل دارفور عامة والقبائل الإفريقية خاصة من قسمة السلطة ومراكز القيادة والحكم والوظائف الحكومية مع انعدام نصيبهم من الثروة والخدمات الأساسية.
من هم الجانجاويد ؟(1/17)
اسم يتردد كثيراً عند تناول أحداث القضية، خاصة أنه ارتبط بأعمال سلب ونهب وقتل فجرت الأزمة بشكل ملحوظ .. وللحقيقة فلا أحد يعرف علي وجه التحديد ما هي حقيقة (الجانجاويد).. فمن قائل إنها جماعات عربية موالية لحكومة الخرطوم تستخدمها لقمع حركات التمرد في دارفور وهو ما تنفيه حكومة الخرطوم بشدة وتؤكد أنها تهاجم القوات الحكومية السودانية نفسها كما تهاجم القبائل، ومن قائل إنها تهاجم العرب والأفارقة معاً بهدف السيطرة علي موارد المياه، ومن قائل إنها قبائل أفريقية الأصل نزحت من تشاد وهم عبارة عن مجموعة من اللصوص .. لا أحد يعرف تحديدا .. كل ما يكاد أن يكون محل إجماع أنً (الجانجاويد) لم يعرف كمصطلح يطلق علي هذه الجماعات إلا بعد نزوح قبائل تشادية إلي دارفور؛ فالتسمية تشادية أصلا والمصطلح دخيل عليهم من تشاد -وهي كلمة مكونة من 3 مقاطع، هي: "جن" بمعني رجل، و"جاو" أو "جي" ويقصد بها أن هذا الرجل يحمل مدفعا رشاشا من نوع "جيم 3" المنتشر في دارفور بكثرة، و"ويد" ومعناها الجواد.. ومعني الكلمة بالتالي هو: الرجل الذي يركب جوادا ويحمل مدفعا رشاشا، وهذا ما يقوي الاحتمال الأخير، ويعضده أيضاً ما كان يعرف عن هذا الإقليم قبل ذلك من التسامح والإخاء، حتي بداية نزوح القبائل التشادية، فنزوح هذه القبائل إلي دارفور غير من أخلاقيات سكانها وأدخل عليهم أساليب السلب والنهب المسلح وعلمهم حمل السلاح بعد أن كان تسليح الرجل لا يزيد عن بندقية قديمة يستخدمها في الدفاع عن نفسه أو عن مواشيه ضد الذئاب وغيرها.(1/18)
وبالرغم من المعلومات التي تؤكد قلة عدد (الجانجاويد) الذي لا يتجاوز بضعة آلاف فإنه ينسب إليهم الكثير من عمليات القتل والاغتصاب والنهب لعشرات الآلاف من البيوت، وذلك لإرغام أهلها علي تركها حتي يتسني لهم السيطرة علي موارد المياه، إذ إنَّ الحقائق تؤكد أن (الجانجاويد) يعيشون علي الرعي، وأنهم تعرضوا لضرر كبير بسبب قلة موارد المياه والمراعي في دارفور بشكل ضخم، فعمدوا لمهاجمة الجميع عرباً وأفارقة من أجل السيطرة علي موارد المياه كما أسلفنا، أي أن الصراع صراع من أجل البقاء ولا تتدخل فيه أي اعتبارات سياسية.
زعم خاطيء
أما الزعم بأن حكومة الخرطوم هي التي قامت بدعم (الجانجاويد) من أجل القضاء علي حركات التمرد هناك فهو زعم غير منطقي لأسباب شتي لعل أهمها :أولاً: أنه من غير المنطقي أن تقوم الحكومة السودانية بفتح جبهات جديدة تستنفد فيها جهدها في حين أنها مازالت غارقة حتي الأعناق في معضلة الجنوب.ثانياً : قلة الثقل السياسي النسبي لجماعات التمرد في دارفور والذي لا يؤهلها لأن تكون قوة تقيم لها حكومة الخرطوم وزناً .. اللهم إلا من خلال الدعم اليهودي الصليبي والتواصل مع حركة الجنوب.ثالثاً : أنه من البدهي أن تروج أمريكا لهذا الزعم وتقنع به العالم كله في سياق حملة الأكاذيب التي اعتادت عليها في كل القضايا، وخاصة إذا كانت ستستخدمه كأداة ضغط علي حكومة الخرطوم من أجل إجبارها علي تقديم تنازلات في الجنوب كما أسلفنا.
دور إسرائيل في دارفور(1/19)
نجحت إسرائيل نجاحاً ساحقا في اختراق معظم الدول الأفريقية وذلك إما بشكل مباشر بالعلاقات الدبلوماسية والعسكرية مع الحكومات والأنظمة كما هو مع إريتريا وإثيوبيا وأوغندا وكينيا ومعظم الدول الإفريقية، أو بشكل غير مباشر بالاتصال بالجماعات والمنظمات المسلحة والمتمردة كما هو الحال في دارفور.وتركز إسرائيل من أجل استكمال تحقيق ذلك الهدف علي إثارة عواطف الأفارقة وربطهم باليهود وإسرائيل بروابط مشتركة تثير العواطف الإنسانية عندهم، من ذلك مثلاً تضخيم الشعور المشترك بينهما بالظلم والاضطهاد من الآخرين.. فكل منهما تعرض للاضطهاد والتمييز العنصري علي مر التاريخ ـ حسب زعمهم - وخير مثال تدعيه إسرائيل علي ذلك تعرض اليهود للذبح والحرق والقتل علي أيدي النازي في الحرب العالمية الثانية وتعرض الأفارقة للأسر والبيع كرقيق وعبيد علي أيدي العرب أو علي أيدي غيرهم من الدول الغربية التي غزت إفريقيا وسرقت أبناءها وثرواتها.. ومن ثم فإن إسرائيل تساعد الأفارقة من أجل ذلك الاضطهاد المشترك لهم ـ علي حد زعمها ـ في الحصول علي حريتهم واستقلالهم، وقد تجسد هذا في دارفور في تمويل إسرائيل لحركة تحرير السودان ودعمها لها بالمال والسلاح عن طريق حكومة إريتريا الحليفة لإسرائيل والمشتركة معها في الاستراتيجية والأهداف للقضاء علي عروبة وإسلام السودان الشقيق، وبالتالي القضاء علي أي دور مصري في السودان أو قارة أفريقيا.
التبشير والتنصير(1/20)
منذ اليوم الأول لظهور أزمة دارفور علي الساحة الدولية سارع بابا الفاتيكان بتوجيه رسالة إلي المسيحيين في العالم أجمع بتقديم الدعم إلي أهالي دارفور والمشاركة بتوصيل الإغاثات الإنسانية ومعها كلمة الرب إليهم كذلك أعلن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) الابن لأعضاء اليمين المسيحي في الكونجرس الأمريكي ومعه صديقه الشهير القس (فرانكلين جراهام) قائلاً: (لن أنسي السودان أبداً.. وإن نسيت فأنتم من ورائي)وقد أرسل البابا الكثير من المبعوثين من قيادات الكنيسة الكاثوليكية ومنهم مبعوث شخصي له هو رئيس الأساقفة الألماني (بول كوردز) إلي السودان في شهر يوليو عام 4002م للضغط علي حكومة السودان ودفعها إلي السماح بدخول المنظمات التنصيرية إلي دارفور وتقديم التسهيلات وتوفير الحماية لها.ويبلغ عدد المنظمات التنصيرية العاملة في دارفور ما يزيد علي خمس وعشرين منظمة منها منظمات كاثوليكية مثل (الكاريتاس) والتي يبلغ عدد مبشريها في دارفور ما يزيد علي المائتين ممن يعملون بمجال الإغاثة والتنصير.. ومنها منظمات بروتستانتية مثل (الكنيسة النرويجية الإنجيلية) ومنظمة (ميرس كوربس) الأمريكية الإنجيلية والتي لها نشاط سابق في جنوب السودان امتد طوال خمسة وعشرين عاماً في مجال التنصير، كذلك هناك (منظمة الكنائس العالمية) و(منظمة الكنيسة الأسقفية الانجيلية) وغيرها الكثير والكثير من المنظمات التنصيرية، وتقوم معظم هذه المنظمات بحَثِّ السكان علي ترك قراهم والنزوح منها إلي معسكرات إيواء حتي تظهر الأزمة وكأنها تزداد فداحة يوما بعد يوم، كما قامت بعض هذه المنظمات أيضا بدفع أموال لبعض النساء حتي يصَرّحْن للإعلام وللوفود السياسية بأنهن تعرضن للاغتصاب من قبل جماعات (الجانجويد) العربية بالرغم من أن بعض هؤلاء النسوة لم يكن يعرفن معني الاغتصاب وعندما كان يضيق عليهن الخناق كن يعترفن بأن بعض المنظمات دفعت لهن الأموال حتي يعلن ذلك.(1/21)
وليس المؤسف ما تقوم به هذه المنظمات من أجل نصرة عقيدتها الباطلة.. ولكن المؤسف هو دور المنظمات العربية والإسلامية التي تقاعست عن أداء واجبها الشرعي تجاه إخواننا في دارفور وانسحبت من ذلك الميدان الخطير تاركة الساحة لهذا الكم الكبير من المنظمات الأمريكية والأوروبية كي تحقق أهدافها بدون أي عوائق ولا عقبات في القضاء علي الإسلام في دارفور.
موقف دول الجوار من الأزمة(1/22)
جمهورية مصر العربية : منذ اللحظات الأولي للأزمة استشعرت مصر ما يحاك ضدها وما يدبر لها وعلي عكس الموقف من العراق فإن مصر سارعت واتخذت عدة مواقف حاسمة لم تكتف بالأقوال وإنما ترجمتها إلي أفعال منها.[1] أعلنت مصر أنها لن تقبل بدخول أي قوات دولية إلي أرض السودان دون التنسيق والاتفاق مع حكومة السودان، وأنها ستدعم موقف السودان - في اعتباره مثل هذه القوات قوات معادية سيقوم بمقاتلتها- دعماً مادياَ ومعنوياً.[2] تصدت مصر للتوجه الأمريكي باستعجال الأحداث وبإعطاء السودان مهلة ثلاثين يوماً لحل المشكلة وإلا ستتدخل القوات الدولية من خلال الأمم المتحدة لفرض السلام وحماية القبائل الأفريقية بالقوة المسلحة كما فعلت في العراق.. مما دفع أمريكا وهي المحرك الرئيسي للأمم المتحدة إلي التراجع عن ذلك التوجه وعدم استصدار ذلك القرار وتمديد المدة إلي ثلاثة أشهر وعدم التهديد بتدخل قوات دولية وذلك حرصا علي ألا تدفع مصر دفعاً ومن منطلق الإحساس بالخطر المحدق بها للتوحد الجبري مع السودان.[3] قامت مصر بالتشاور المستمر والتنسيق الكامل مع حكومة السودان في دراسة الخطوات اللازمة لإنهاء الأزمة وحل المشكلة ومحاولة تبني رؤي محددة تحفظ للسودان وحدته وتدفع عنه التدخل الدولي.[4] قامت مصر بتسيير خط جوي عاجل بين القاهرة والخرطوم لتوصيل المواد الإغاثية والقوافل الطبية اللازمة لأهالي دارفور.[5] فتحت الحكومة المصرية الباب لجمعيات العمل التطوعي للذهاب إلي دارفور وتقديم الإغاثة العاجلة لإخوننا هناك لحمايتهم من الاحتياج إلي الجمعيات المشبوهة.(1/23)
جمهورية تشاد ترتبط حكومة تشاد بعلاقات طيبة مع حكومة السودان للأسباب التالية[أ] وحدة الدولتين في الإسلام والعروبة وعدم وجود أي مشاكل علي الحدود أو غيرها بين الحكومتين[ب] دعم حكومة السودان للرئيس الحالي لتشاد (إدريس دبي) في صراعه مع الرئيس السابق (حسين حبري) في الوصول إلي حكم البلاد[ج] أن أكبر قبيلة تحكم تشاد الآن والتي ينتمي إليها الرئيس أدريس دبي هي قبيلة (الزغاوة) ويقع ثلثاها في تشاد والثلث الباقي في السودان لذلك فإن الحدود بين الدولتين تتسم بالهدوء والاستقرار.ومن جانب آخر فإن استفحال الأزمة وتفجر الأوضاع في دارفور لا يصب في مصلحة تشاد وذلك لسببين هامين هما:[أ] أن عدم استقرار الأوضاع في دارفور سيصب في اتجاه عدم الاستقرار في تشاد حيث ستتجه أعداد كبيرة من النازحين من دارفور إلي تشاد وهو أمر لا قبل لدولة تشاد بتحمله مادياً ومعنوياً.[ب] أن مطالبة المتمردين في دارفور باقتسام السلطة والثروة مع الحكومة المركزية في الخرطوم ربما يدفع امتداد القبائل المناظرة لها في تشاد إلي مطالبة الحكومة التشادية بالمثل مما يعرض تشاد لنفس الأزمة ولنفس الأحداث.لذلك فإن الحكومة السودانية لا تخشي من دعم حكومة تشاد للمتمردين وإن كان هناك احتمال أن تمارس ضغوط دولية معادية للسودان للضغط علي تشاد لممارسة هذا الدور.الجماهيرية الليبية : كان للنزاع الليبي التشادي علي إقليم أوزو أثر كبير في نمو وتفاقم أزمة دارفور وظهورها علي سطح الأحداث وذلك للسببين التاليين.(1) ازدياد انتشار السلاح بمختلف أشكاله وأنواعه بين القبائل المختلفة في منطقة الحدود بينهما في محاولة من كل من الدولتين لاستقطاب القبائل والتحالف معها ضد الدولة الأخري.((1/24)
2) ازدياد موجات الهجرة المتتالية بين القبائل في منطقة الحدود المشتركة إلي أرض السودان بعيداً عن ميدان المعركة بين الدولتين بحثاً عن الأمن وطلباً للمرعي وحيث إن قبيلة (الزغاوة) الإفريقية هي أكبر القبائل المنتشرة في تلك المنطقة فإن تزايد هجرة أبنائها إلي السودان زاد من قوة وشكيمة القبائل الإفريقية المتمردة.أما من حيث موقف ليبيا من حكومة السودان فإن هناك بعض الأسباب والمصالح الاستراتيجية لها تدفع في تجاه دعم الحكومة المركزية في الخرطوم ضد المتمردين وعلي سبيل المثال:ـ(1) أن ازدياد الفتنة وتصاعد الأزمة يهدد بموجات جديدة من الهجرة المعاكسة للقبائل الإفريقية من أرض السودان إلي ليبيا مما يشكل عبئاً مادياً ومعنوياً عليها.(2) أن نجاح الانفصال بدارفور عن السودان سوف يشجع امتداد تلك القبائل المتمردة وعلي رأسها قبيلة (الزغاوة) في ليبيا للسير علي نفس الطريق وبدأ ظهور حركات للتمرد بين القبائل الإفريقية في جنوب ليبيا طلباً للانفصال عنها وإنشاء دولة الزغاوة الكبري.(3) أن مصلحة الجماهيرية الليبية أن تكون لها علاقات طيبة مع حكومة السودان حتي إذا تعرضت ليبيا لنفس الموقف وحدثت حركات تمرد علي أراضيها الجنوبية ردت لها حكومة السودان الجميل بدعمها ضد القبائل المتمردة.وفي المقابل فإن هناك سبباً واحداً ولكنه خطير يدفع في الاتجاه المعاكس أي لدعم ليبيا للمتمردين ضد حكومة السودان وهو ذلك التحالف الوثيق الذي نشأ بسرعة مذهلة وفي فترة قصيرة جداً بين ليبيا ودول الغرب وعلي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وتوقع خضوع ليبيا لكل الضغوط التي ستمارس عليها من قبل تلك الدول لمساندة التمرد والعمل علي تدويل الصراع تمهيداً للتدخل العسكري الغربي وخاصة أن ليبيا قد أعلنت براءتها من انتمائها العربي وانسلاخها عن الهم الإسلامي.(1/25)
إريتريا : تقوم إريتريا بدور نشط غير خافٍ في دعم كل جبهات التمرد ضد دولة السودان سواء في الجنوب أم الشرق أم الغرب وذلك بقيامها بدور الوسيط بين إسرائيل وتلك الجبهات فالعاصمة الإريترية (أسمرا) هي المركز الرئيسي (للتجمع الديمقراطي) المعارض لحكومة السودان وتعتبر إريتريا هي نقطة الارتكاز التي ينطلق منها المتمردون في الجبهة الشرقية لخوض المعارك ضد القوات الحكومية السودانية وقد سعت إريتريا لضم حركتي التمرد في دارفور إلي التجمع الديمقراطي الذي يضم كافة أعداء الحكومة السودانية مع الوعد بدعمها بالمال والسلاح من إسرائيل عن طريق (جون جارانج) في جنوب السودان.جمهورية أفريقيا الوسطي: تعتبر جبهة أفريقيا الوسطي أهدأ الجبهات نسبياً لأن الصراع علي الحدود بينها وبين السودان لايرتبط بالأصول العرقية وإنما يرتبط فقط بالنزاع المادي علي المرعي والزراعة والماء حيث إن القبائل هناك أكثر توحدا عن الجبهات الأخري لذلك فقد عقدت حكومة السودان اتفاقاً مع أفريقيا الوسطي في يوليو 4002م يهدف إلي ترسيم الحدود المشتركة بين البلدين وتحقيق الأمن والأستقرار بين القبائل التي تقطنها وذلك بالإضافة إلي إعلان رئيس جمهورية أفريقيا الوسطي دعم بلاده وتأييدها لكل الخطوات التي تتخذها حكومة الخرطوم لدعم استقرار الأوضاع في دارفور.
الموقف الدولي(1/26)
ظلت الأوضاع في دارفور منذ الستينيات محكومة وخارج نطاق الانفلات حتي جاء موعد فتح صفحتها في مخطط التحالف اليهودي الصليبي فانطلقت دول التحالف تنفخ في النار وتثير الفتنة مصورة الأزمة علي أنها قضية تطهير عرقي وحرب إبادة شاملة تقوم بها (القبائل العربية) مستخدمة ميليشياتها المسلحة والمعروفة (بالجانجويد) وبدعم من الحكومة السودانية ضد (القبائل الإفريقية) في دارفور.وكان علي رأس هذه الدول بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية التي حرصت منذ اليوم الأول لاشتعال الأزمة علي أن تدفع بها دفعاً نحو التدويل وتدخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإرسال قوات عسكرية تفرض احتلالاً جديداً علي أرض السودان استكمالاً لمخطط أحتلال الدول الإسلامية والذي بدأ بأفغانستان ثم العراق ثم هاهو الدور قد جاء علي السودان وعندما عقد الأمين العام للأمم المتحدة اتفاقاً مع حكومة السودان يمنحها تسعين يوما لحل الأزمة بنزع أسباب اشتعالها وعقد مفاوضات مع المتمردين، أصرت الولايات المتحدة علي أن تجعل هذه الفترة ثلاثين يوماً فقط ولولا تدخل مصر ورفضها ذلك التوجه لكان لأمريكا ما أرادت فقد وقفت مصر موقفا جاداً وواضحا وصريحاً برفض هذا التوجه وسارعت بالدعوة لعقد مفاوضات حرة ونزيهة بين الحكومة السودانية والمتمردين. ثم دعت لعقد اجتماع في ليبيا لرؤساء أربع دول معنية بالأزمة هي مصر وليبيا وتشاد والسودان للإمساك بخيوطها قبل أن تنفلت ودعت الاتحاد الأفريقي للتدخل بإرسال قوات محدودة لمراقبة وقف اطلاق النار بين الحكومة والمتمردين وليست قوات حفظ سلام تعتبرها حكومة السودان قوات احتلال.. كل ذلك قامت به مصر بهدف حل الأزمة علي المستوي الإقليمي ومن خلال منظمة الوحدة الإفريقية وعدم تدويلها ورفعها إلي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي يعلم الجميع أن الولايات المتحدة تتحكم فيهما تحكماً شبه مطلق.(1/27)
والآن تدور مفاوضات بين الحكومة وحركات التمرد في عدة أماكن منها (أبوجا) عاصمة نيجيريا بغرض التوصل إلي حلول عادلة تحفظ للسودان وحدته وللإقليم نصيبه العادل من الثروة والسلطة.
التطور المستقبلي للأحداث
إن الله سبحانه وتعالي عالم الغيب وحده هو الذي يقدر ويعلم ما ستكون عليه الأحوال.. ولكننا نقول بفضل الله في محاولة لوضع تصور مستقبلي للأزمة انطلاقاً من تحليل الأحداث والمواقف: إن قضية دارفور سوف تشهد في الفترة المقبلة القريبة والمتوسطة مرحلة من الهدوء النسبي وخمودا للفتنة مع بقاء النيران مشتعلة تحت الرماد وذلك للأسباب التالية.[1] أن الخسائر الفادحة والموقف العصيب الذي يعانيه التحالف اليهودي الصليبي في العراق قد شل يديه عن تكرار التجربة العسكرية في دارفور أو فتح جبهة جديدة في دولة أخري وهو مازال غارقاً في مستنقع العراق.[2] يعتبر التحالف أنه حقق نصراً في معركة انفصال جنوب السودان والذي تم بتوقيع اتفاق (ما شاكوس) النهائي بين الحكومة والمتمردين في الجنوب.. وبذلك ستتاح للتحالف فترة من الهدوء يلتقط فيها أنفاسه ويستمتع بنصره.[3] يخشي التحالف من ازدياد الضغط علي الشعوب المسلمة بتوالي تلك الضربات وتداعي تلك المعارك والمواقف العدوانية الظالمة من ذبح وقتل وتشريد للمسلمين واحتلال لأراضيهم ومقدساتهم ما بين فلسطين وأفغانستان والعراق وجنوب السودان ثم هاهي ذي دارفور.. وهو يعلم جيداً أن الضغط مهما طال أمده لابد أن ينتهي بالانفجار.. وهو يعلم أن الشعوب المسلمة التي يبدو للعالم أجمع أنها تعيش في غيبوبة لو انفجر غضبها فسوف يكون انتقامها رهيباً وسوف تكتسح أمامها كل أعداء الإسلام اكتساحاً لا يبقي ولا يذر وما العراق عنا ببعيد.[4] يدعم ذلك كله أن الحركات المتمردة في دارفور ما هي إلا دمية في أيدي التحالف وأنها لاتملك أي مقومات ذاتية لحرب الحكومة السودانية..(1/28)
لذلك عندما تصدر الأوامر بالتهدئة فسوف ترضخ علي الفور.
واجبات شرعية في ظل الأزمة
الواجب الشرعي علي أثرياء المسلمين
إن حل قضية دارفور ووأد تلك الفتنة الطاغية التي تهدد بتمزيق دولة السودان وهي جزء عزيز من جسد الأمة الإسلامية يقع في المقام الأول علي أثرياء المسلمين فالواجب الشرعي العاجل والفوري عليهم أن يقوموا بتخصيص جزء من أموال الله التي آتاهم إياها وهي كثيرة لإنفاقها الفوري في إقليم دارفور وذلك بحفر الآبار للقضاء علي الأصل الحقيقي للمشكلة وهو نقص الماء الذي نتج عنه جفاف الزرع والضرع وموت العشب والكلأ فبدأت الخلافات والنزاعات والمعارك بين الأشقاء المسلمين من الرعاة والزراع طلبا للقوت ودفعاً للجوع.. ويرافق ذلك بناء المساكن البسيطة التي تؤوي إخوانهم الفقراء والمساكين في دارفور وبناء المدارس الأولية التي تعلم أبناءهم والمستشفيات العلاجية التي تعالج جراحهم وأمراضهم وتوفير فرص العمل التي يطلبون بها أرزاقهم ثم استكمال أبسط متطلبات البنية الأساسية التي لا يمكن لمجتمع أن يحيا إلا بها، فإذا تم ذلك عاد كل الفرقاء إلي أماكنهم وانشغلوا بطلب الرزق والسعي لتوفير متطلبات الحياة لأبنائهم وانحلت مشكلة دارفور وماتت الفتنة في مهدها ونحن نذكر إخواننا الأثرياء من المسلمين وخاصة أثرياء وملوك وأمراء البترول بأن هذا واجب شرعي مفروض عليهم وليس تفضلا ومناً علي إخوانهم وأن عدم قيامهم الفوري بذلك الواجب هو خيانة لله الذي ائتمنهم علي أموال الفقراء وخيانة لإخوانهم في الوفاء بحقوقهم ونذكرهم جميعا بأن أعمارهم مهما قصرت أو طالت فإنهم في النهاية ميتون وفي خرقة من قماش سيكفنون وفي القبور تحت التراب صائرون ولكل تلك الأموال والثروات التي جمعوها من حلال أو حرام تاركون ثم إنهم يوم القيامة بين يدي المنتقم الجبار واقفون ومسئولون..(1/29)
فإن كانوا ممن وفَّي الأمانة إلي أصحابها واتقي الله في إخوانه من الفقراء والمساكين فهم إلي الجنة صائرون وإن كانوا ممن خانوا الله وضيعوا الأمانة وأكلوا حقوقهم فهم في جهنم ماكثون. وأذكر إخواني من أثرياء المسلمين بقول الله تعالي يحثهم علي النفقة والتصدق (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد:11) وقوله تعالي (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261) وأخيرا أحذرهم من وعيد الله لهم بالبطش بهم والانتقام منهم في حالة عصيانه ومخالفته (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: من الآية34)
(يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:35) الواجب الشرعي علي الحكومات الإسلامية(1/30)
الحكومات الإسلامية جمعاء عليها واجب شرعي هام وخطير هو أن تقف وقفة صدق مع الله ومع نفسها وكفاها استسلاماً وانبطاحاً أمام أعدائنا فتعلن رفضها الصريح لاي تدخل أجنبي علي أرض السودان وأنها ستدعم بوضوح وصراحة موقف السودان القوي الذي أعلن فيه أن أي قوات أجنبية تدخل أراضيه دون موافقته وانطلاقا من مصالحه القومية فإنه سيعتبرها قوات معادية وسيقاتلها بكل ما يملك من سلاح، ويجب علي الحكومات الإسلامية أن تعلن ذلك الدعم والتأييد صراحة علي الجميع وأنها ستقوم به قولاً وفعلاً بكل ما تملك من قوة، ولتحذر تلك الحكومات من تكرار ذلك الموقف المخزي والمتخاذل الذي وقفته من العراق الحبيب في محنته عشية إعداد التحالف اليهودي الصليبي لغزوه واحتلال أراضيه حين اكتفت في دعمه بالأقوال وشلت أيديها عن دعمه بالرجال والسلاح.. وكذلك موقفها الذليل والمهين الذي تقفه من قضية فلسطين والقدس الشريف حيث تخلت كل الدول العربية والإسلامية عن الفلسطينيين وتركتهم وحدهم فريسة لذلك التحالف اليهودي الصليبي الشيطاني لا معين لهم إلا الله وحده.الواجب الشرعي علي متمردي دارفور(1/31)
لابد أن يعلم المتمردون في دارفور أن أسس الإسلام وقواعده العامة تمنع الخروج علي الحاكم، والتمرد عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح، وأذكر إخواني بحوار دار بين الصحابة ورسول الله صلي الله عليه وسلم عن ظهور فئة من الحكام ظالمة، فسأل الصحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم قائلين: «أننابذهم بالسيف يارسول الله؟» فقال صلي الله عليه وسلم: «لا.. ماأقاموا فيكم الصلاة» كما أذكرهم أيضاً بأن قاعدة الولاء والبراء والتي هي أصل من أصول هذا الدين تمنع مطلقاً وأياً كان السبب أن يستعين مسلم بعدوّ من أعداء الله علي أخ له يشهد أن لا إله إلا الله، وليتذكروا جميعاً موقف الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان حينما حاول ملك الروم أن يتزلف إليه بنصره علي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقت أن كان الخلاف بينهما علي أشده، فنهره معاوية رضي الله عنه وزجره رغم احتياجه وقتها -بالمنطق النفعي- للنصرة.. وأخيراً فليصغ هؤلاء جميعاً لقول ربنا سبحانه وتعالي: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)(آل عمران: من الآية28)وقال جل شأنه:(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:138)،(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء:139)الواجب الشرعي علي حكومة السودان
«(1/32)
اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه» هكذا ـ دعا النبي صلي الله عليه وسلم ـ وهكذا ينبغي أن يستشعر المسلم الذي ائتمنه الله علي مسئولية الولاية أياً كان حجمها فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، لذا فإن إخواننا حكام السودان الذين ائتمنهم الله علي السودان شعباً ودولة يجب عليهم حفظ هذه الأمانة، والعدل بين رعاياهم في قسمة ماحباهم الله من خيرات وثروات،، والعمل الدءووب علي لمّ الشمل والحفاظ علي وحدة هذا الجزء الغالي من جسد أمتنا المسلمة. وليذكروا جيداً أنهم علي ثغر من ثغور الإسلام، فليحذروا أن يؤتي الإسلام من قبلهم.وأخيراً وليس آخراً فإن القضية ستبقي حية ما بقي قلب يحمل للإسلام هماً، وما بقي مخلصون يدافعون عن حياض الأمة ضد طمع الطامعين وحقد الحاقدين حتي ولو كلفهم ذلك تقديم أرواحهم هبة وفداء لهذا الدين.
انفصال جنوب السودان..
خطوة لتحقيق المخطط الصهيوني بتفتيت الأمةنشر هذا الملف في العدد السادس السنة الأوليمن مجلة التبيان بتاريخ المحرم 1426 هـ / مارس 2005م(1/33)
زلزال مروع أصاب أمة الإسلام.. ليس كما كان في الأندلس علي أطراف الدولة الإسلامية في قارة أوروبا.. وإنما هذه المرة في إفريقيا وفي قلب دولة الإسلام «في السودان».. ذُبحت دولة السودان العربية المسلمة بدم بارد والمسلمون في سبات كالموتي وفي حالة يرثِي لها أهل الكهف.. وانفصل جنوب السودان.. ربع مساحة الدولة ليكون دولة مستقلة بعد ست سنوات من الآن.وغدا يذبح السودان مرة أخري وتُفصل دارفور.. وبعد غد شرق السودان.. وبعد بعد غد شمال السودان.. وبذلك ينتقل مخطط تفتيت الأمة الإسلامية بعد الانتهاء من السودان إلي دولة إسلامية أخري.. وهكذا تظل الدائرة تدور وتدور، ولن تتوقف حتي تنتهي من كل الدول الإسلامية ويصبح الإسلام.. بلا دولة.. ولو أنصف المسلمون لبكوا علي جنوب السودان أكثر مما بكوا علي الأندلس.ولو أن المسلمين كان فيهم بقية من تقوي الله لكان هذا الزلزال هو الفيصل الذي يفيقون بعده ويعودون إلي ربهم.ولن تكون الصدمة أشد ولا أعتي مما هي عليه إلا علي هؤلاء الذين سوف يأتي عليهم الدور صاعقا في وقت كانوا يعتقدون فيه أنهم بمنأي عن هذا الطوفان لأنهم هادنوا الأعداء وحالفوهم، وتخلوا عن إخوانهم وتركوهم فريسة سهلة بلا عون ولا مدد علي وهم أن تكون لهم نجاة وأن يكون لهم استثناء.. أو علي وهم أن ظروفهم ومكانتهم عند الصليبيين واليهود تختلف عن الآخرين.. ولكن هيهات هيهات فالمسلم الوحيد المقبول من ذلك التحالف الشيطاني في عالم الغد هو المسلم المنسلخ عن دينه.. أو المسلم المقتول.
جغرافيا السودان(1/34)
يقع السودان في شمال شرق القارة الإفريقية ويعتبر أكبر الدول الأفريقية من حيث المساحة حيث تبلغ 2.5 مليون كيلومتر مربع وتحيط به تسع دول هي: من الشمال مصر ومن الشرق إريتريا وإثيوبيا ومن الجنوب كينيا وأوغندا والكونغو ومن الغرب إفريقيا الوسطي وتشاد وليبيا ويطل السودان علي البحر الأحمر من جهة الشرق.السكان: يبلغ عدد السكان حوالي 33.5 مليون نسمة يتركز معظمهم في النصف الشمالي من البلاد حيث يلتقي (النيل الأبيض) و(النيل الأزرق) القادمان من هضبة الحبشة وهضبة البحيرات ليتحدا عند مدينة (الخرطوم) العاصمة ويكونا نهر النيل.ويشكل المسلمون 70% من تعداد السكان يعيش معظمهم في شمال البلاد والوثنيون 25% والمسيحيون 5% ويعيشون في الجنوب.
جنوب السودان(1/35)
الجغرافيا : يشغل جنوب السودان حوالي 700.000 كيلومتر مربع أي ما يقرب من 82% من مساحة السودان وتمتد حدوده الجنوبية لمسافة 2000 كيلومتر تقريبا مع خمس دول هي: إثيوبيا من الشرق وإفريقيا الوسطي من الغرب وكينيا وأوغندا والكونغو من الجنوب.السكان: هذه المساحة الشاسعة للجنوب السوداني لايقابلها نفس الكثافة من السكان. فحسب آخر إحصاء أجري عام 1983م فإن سكان الجنوب لا تزيد نسبتهم عن 10% من التعداد العام لسكان السودان والبالغ عددهم في ذلك الوقت 21.5 مليون نسمة وتعد قبائل (الدينكا) أكبر القبائل في جنوب السودان تليها قبائل (النوير) ثم قبائل (الشلك) وهي كلها قبائل ذات عروق زنجية.أما فيما يتعلق بالديانات والمعتقدات فلا توجد إحصائيات حديثة في ذلك الشأن وكان آخر إحصاء في عام 1956م وجاء فيه أن المسلمين بالجنوب يشكلون 18% من تعداد سكانه والمسيحيين 17% والوثنيين 65%الأقاليم والولايات الجنوبية: كان جنوب السودان يتكون من ثلاثة أقاليم قسمت إلي عشر ولايات علي النحو التالي:(أ) إقليم أعالي النيل: ويحتل المنطقة الشمالية والشرقية من جنوب السودان علي الحدود الإثيوبية وقد قسم الإقليم إلي ثلاث ولايات هي: أعالي النيل وجونجلي والوحدة.(ب) إقليم بحر الغزال: ويحتل المنطقة الوسطي والغربية من جنوب السودان علي الحدود مع أفريقيا الوسطي وقد قسم إلي أربع ولايات هي: البحيرات وأراب وشمال بحر الغزال وغرب بحر الغزال.(جـ) إقليم الاستوائية: ويحتل المنطقة الجنوبية من جنوب السودان علي الحدود مع كينيا وأوغندا والكونغو وقد انقسم إلي ثلاث ولايات هي شرق الإستوائية وبحر الجبل وغرب الاستوائية.وقد قسمت هذه الولايات العشر بدورها إلي 30 محافظة.
جذور المشكلة(1/36)
مرت مشكلة جنوب السودان أو مؤامرة فصل الجنوب عن السودان بثلاث مراحل هي:مرحلة الاحتلال الإنجليزي للسودان، ومرحلة الحكومات السودانية المتعاقبة، ومرحلة الهيمنة الأمريكية والتحالف اليهودي الصليبي علي العالم.
المرحلة الأولي: مرحلة الاحتلال الإنجليزي
بدأت جذور شكلة الجنوب السوداني منذ نهاية القرن التاسع عشر وبالتحديد في عام 1899م أي بعد ثمانية عشر عاما تقريبا من هزيمة الإنجليز لأحمد عرابي واحتلال مصر ثم احتلالهم للسودان وإقامتهم فيه الحكم الثنائي (المصري البريطاني).. فقد عمل الإنجلير منذ اليوم الأول لسيطرتهم علي السلطة الفعلية فيه علي فصل جنوب السودان عن الشمال وذلك انطلاقا من ثلاثة مباديء اعتنقها الاحتلال وعمل علي ترسيخها وتطبيقها تطبيقا حازما وهي:(أ) اتباع سياسة فرق تسد لإضعاف قوة دولة السودان علي العموم.(ب) وقف المد الإسلامي من الشمال إلي الجنوب ومنه إلي وسط أفريقيا وذلك بإنشاء حزام زنجي في الجنوب السوداني وما يجاوره من دول في الشرق والغرب والجنوب.(جـ) إتاحة الفرصة كاملة للبعثات التنصيرية للعمل المكثف بكل قوتها دون أي عقبات لنشر المسيحية في الجنوب.وقد عمل الإنجليز علي تحقيق ذلك الفصل من خلال العمل علي ثلاثة محاور وهي:المحور الأول
وقف انتشار الدين الإسلامي في الجنوب من خلال فتح المجال إلي أوسع مدي أمام البعثات التنصيرية التي جاءت من جميع الدول الأوروبية والغربية في حملة تنصيرية شرسة لاستئصال شأفة الإسلام ونشر المسيحية بين أبناء الجنوب وتقديم جميع أنواع التسهيلات والمساعدات في ذلك الشأن بما فيها تعديل موعد يوم الإجازة الأسبوعية في الجنوب من يوم الجمعة إلي يوم الأحد اقتداء بالمسيحيين الأوروبيين.المحور الثاني(1/37)
إضعاف الثقافة العربية في الجنوب والتي تعتمد في المقام الأول علي اللغة العربية لغة القرآن.. وذلك انطلاقا من أن استمرار وجود اللغة العربية في الجنوب سيؤدي إلي فهم تعاليم ذلك الدين الحنيف ومن ثم الانتشار المستمر للدين الإسلامي بين أبنائه.. وفي هذا المجال فقد فرضت الإدارة الإنجليزية استخدام اللغة الإنجليزية في التعاملات والمكاتبات الرسمية وشجعت اللهجات المحلية واعترفت بها وسيلة للتعامل بين الجنوبيين وفي الوقت نفسه منعت استخدام اللغة العربية في المكاتبات الرسمية وأبعدت كل من يتقن اللغة العربية من الوظائف الحكومية وتلك المتعلقة بالتعامل مع الناس.المحور الثالث
التخلص من أي وجود للعرب والمسلمين في الجنوب: وقد تم ذلك من خلال طريقين هما:(أ) التخلص من الجنود والموظفين المصريين والسودانيين الشماليين الموجودين بقوات الجيش المصري والإدارة المدنية في جنوب السودان وذلك بالاستغناء عنهم واستبدالهم بجنود من أبناء الجنوب أو من الإنجليز .. وفي حالة الضرورة والاحتياج للموظفين المصريين في بعض التخصصات يتم اختيارهم من المصريين الأقباط.(ب) التضييق الشديد علي التجار الشماليين المسلمين الذين كانوا يتنقلون في القوافل التجارية بين الشمال والجنوب حاملين معهم الديانة الإسلامية والثقافة العربية لأبناء الجنوب.. وفي نفس الوقت تشجيع التجار اليونانيين والسوريين واللبنانيين وخاصة المسيحيين منهم لتكثيف تجارتهم مع الجنوب.
أمر (الجهات المغلقة)(1/38)
وفي عام 1922م وبعد ما يقرب من ثلاثة وثلاثين عاما من لحظة البدء الفعلي للاحتلال والتخطيط لفصل جنوب السودان عن الشمال انتقلت الحكومة الإنجليزية إلي المرحلة الثانية من ذلك المخطط وذلك بإصدار أمر (الجهات المغلقة).. وفي ذلك الأمر أعلنت الحكومة الإنجليزية معظم مديريات الجنوب السوداني مناطق مغلقة لايجوز لأي شخص من غير أهالي السودان أن يدخلها أو يبقي فيها إلا إذا كان حاملا تصريحًا بذلك ويجوز لمدير المديرية وهو إنجليزي منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها..وطبعا كان المقصود بذلك الأمر هم أبناء الشمال من السودانيين المسلمين العرب.. وهو ما يصب في نفس الاتجاه.. تكريس الفصل بين الشمال والجنوب والتخلص من الوجود العربي والإسلامي فيه وقد بررت الحكومة الإنجليرية هذا الأمر صراحة بسببين هما:الأول ديني: وهو أن إنجلترا بصفتها دولة مسيحية لا يمكنها أن تشارك في سياسة تشجع انتشار الإسلام في الجنوب.الثاني سياسي: وهو ادعاؤها أن انتشار الإسلام في الجنوب سوف يزيد من انتشار التعصب الديني مما يؤدي بالضرورة إلي صدامات خطيرة بين المسلمين المتعصبين من ناحية والمسيحيين والوثنيين من ناحية أخري.
البدء في إجراءات فصل الجنوب(1/39)
في عام 1930م تم البدء في اتخاذ خطوات تنفيذية محددة للفصل الفعلي علي أرض الواقع منها:[1] البدء في بناء سلسلة من الوحدات الإدارية في الجنوب تتكون من أبناء العنصر الزنجي من المسيحيين أو الوثنيين فقط تتولي إدارة المناطق الجنوبية مع استبعاد الموظفين المتحدثين بالعربية ولو كانوا من أبناء الجنوب.[2] جعل اللغة الإنجليزية هي لغة المكاتبات الرسمية ولغة الأوامر العسكرية ولغة التخاطب بين الأفراد في شتي تعاملاتهم.[3] تم تحويل لهجات الجنوب إلي لغات مكتوبة ووُضِعَت لها الأسس والقواعد اللغوية ومنها لغة (الياري) و(اللوتوكو) و(الدنكا) و(النوير) و(الشلك) وتم فرض استخدام هذه اللغات في المصالح الحكومية إلي جانب اللغة الإنجليزية.[4] إنشاء وحدات لقياس التقدم في تنفيذ ذلك المخطط بإعداد جدول سنوي توضَّح فيه جميع المعلومات الضرورية لمتابعة تنفيذ ونجاح المخطط التنصيري مثل عدد المسلمين وعدد المسيحيين بالنسبة لمجموع السكان في الجنوب وعدد الموظفين من الطرفين في الحكومة وعدد الموظفين الإنجليز الذين اجادوا اللهجات المحلية ثم عدد التجار الشماليين الذين وفدوا إلي الجنوب ثم عدد المدارس التنصيرية التي أقامتها الإرساليات المسيحية وحجم الدعم الحكومي لها في ذلك الشأن.
المفاجأة والصدمة(1/40)
وفي عام 1944م أي بعد ما يقرب من خمسة وخمسين عاما من البدء في خطة الفصل أرادت الحكومة الإنجليزية أن تقيم الخطوات التنفيذية التي تم اتخاذها لتطمئن إلي النتائج ولتحمل البشري إلي الدول الأوروبية والغربية المسيحية بما بذلته من جهود جهيدة لضرب الإسلام ونشر المسيحية في جنوب السودان..لذلك فقد تشكلت لجنة لبحث ذلك الأمر ورفع تقريرها إلي الحكومة الإنجليزية.. وكانت المفاجأة والصدمة أن كل الخطوات التنفيذية لفصل جنوب السودان قد باءت بالفشل بل جاءت بنتائج عكسية لم تكن متوقعة علي الإطلاق مصداقا لقول الحق سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (لأنفال:36) فقد وضعت اللجنة تقريرا أدانت فيه بشدة سياسة الحكومة الإنجليزية والخطوات التي اتبعت في الجنوب وطالبت بتعديل تلك السياسة والعمل علي إلغاء تصاريح التجارة واتباع سياسة موحدة للتعليم في كل السودان وتعليم اللغة العربية في الجنوب وتحسين وسائل الاتصال وتشجيع انتقال الموظفين من الشمال إلي الجنوب.. وكان هذا التقرير قمة الصدمة للحكومة الإنجليزية مما دعاها إلي أن تغيير سياساتها بالكامل للوصول إلي تحقيق مخططها عن طرق أخري.. أي أنها غيرت السياسات والخطوات التنفيذية فقط.. أما المخطط الأصلي فهو ثابت لا يتغير.
أسباب الفشلفي السياسة البريطانية(1/41)
وكان لهذا الفشل في السياسة البريطانية في تنفيذ مخططها عدة أسباب منها:(1) كان من أهم الركائز التي اعتمدت عليها الإدارة الإنجليزية في فصل الجنوب عن الشمال هو ربط جنوب السودان بالدول الإفريقية المجاورة له وتوثيق الصلة معها في شتي المجالات لتكون بديلا له عن علاقته بالشمال وكان هذا يعتمد علي إنشاء شبكة قوية من الطرق والمواصلات بين دول شرق إفريقيا وجنوب السودان.. ولكن لظروف متعددة لم تتمكن الإدارة من إنشاء تلك الشبكة فوجدت نفسها مضطرة إلي توجيه تجارة الجنوب إلي الشمال مرة أخري وإعادة فتح القنوات بينهما.(2) رأي الإنجليز أن أقصي ما يمكن لهم إنشاؤه في مجال التعليم في الجنوب هو المدرسة الثانوية وأن الجنوب لا يستوعب إقامة جامعة.. لذلك فلم يكن أمام الطلبة الذين يتِّمون دراستهم الثانوية ويرغبون في استكمال دراستهم الجامعية إلا أن ينتقلوا إلي الشمال للالتحاق بكلية (غوردون) في الخرطوم.. وكانت الإدارة الإنجليزية قد حاولت إرسال مثل هؤلاء الطلاب إلي كلية (ماكريري) في أوغندا إلا أنها لم توفق في ذلك.. ولذلك فقد كان لابد من تعليم الطلاب اللغة العربية لتتاح لهم فرصة استكمال دراستهم في الخرطوم.(3) بعد استقلال مصر عن الإنجليز وكانت مصر والسودان دولة واحدة تحت حكم ملك مصر في ذلك الوقت.. ظهر تياران من الأحزاب في السودان.. التيار الأول والأكبر يدعو إلي الوحدة الكاملة سواء بين مصر والسودان أم بين شمال وجنوب السودان والتيار الثاني يدعو إلي انفصال السودان عن مصر وكانت الخطوات التنفيذية التي خططتها السياسة الإنجليزية لفصل الجنوب تقوي من موقف دعاة الاتحاد وتضعف من موقف دعاة الانفصال.(1/42)
وبالفعل فقد بدأت الحكومة الإنجليزية ونتيجة لهذا الفشل في تغيير سياساتها في الجنوب بدءا من أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات حيث كانت البداية هي إنشاء أول مدرسة ثانوية في الجنوب وتوقف إرسال طلاب المدارس العليا الجنوبيين إلي كلية (ماكريري) بأوغندا واستبدال ذلك بإرسالهم إلي كلية (غوردون) بالخرطوم.
تفجر الوضع
بدأ التفجر الفعلي للوضع في جنوب السودان بعد أن عقدت مصر وبريطانيا اتفاقية لتقرير مصير السودان في فبراير 1953م أي بعد ما يقرب من أربعة وستين عاما من بدء المخطط الإنجليزي لفصل جنوب السودان وقبل ثلاث سنوات تقريبا من إعلان استقلال السودان في عام 1956م فقد غضب الجنوبيون من أن يكون أطراف الاتفاقية هم الإنجليز والمصريون والسودانيون في الشمال بينما لم يهتم أحد بمعرفة رأيهم هم فيها ثم تلا الاتفاقية انعقاد انتخابات لتحديد مصير السودان إما باستمرار الوحدة مع مصر أو الانفصال عنها أطلقت فيها الوعود بسخاء للجنوبيين سواء من جانب الأحزاب الشمالية أم الحكومة المصرية والتي لم يتحقق منها شيء.. وقد مثلت هذه الأوضاع الفوران الذي يدور في قلب البركان قبل أن ينفجر ويثور.. ثم جاءت اللحظة التي انفجر فيها الوضع عسكريا بالفعل ولأول مرة في جنوب السودان.. وكان ذلك في عام 1955م حين بدأت قيادات السودان في الشمال في إعادة تنظيم القوات العسكرية السودانية وتقرر نقل بعض القوات من الفرقة الاستوائية الجنوبية إلي الشمال حيث رفضت هذه القوات طاعة الأوامر وقام جنودها بالتمرد العسكري علي قياداتهم.. وكان هذا التمرد هو بداية الانفجار الفعلي والحقيقي لمشكلة جنوب السودان ثم تحولها بعد ذلك إلي انفلات أمني وسياسي عم الجزء الأكبر من الجنوب وأخذ يتزايد ويتفاقم حتي تحول إلي حرب أهلية دامية أهلكت الأخضر واليابس في جنوب السودان واستنزفت أموال وطاقات وأمكانيات الدولة إلي أقصي الحدود.
علي من يقع وزر الأزمة الراهنة(1/43)
تحمل الإنجليز من خلال احتلالهم للسودان والدور التنصيري الصليبي المحموم الذي بذلوه لترسيخ مفهوم انفصال الجنوب عن الشمال وزر المرحلة الأولي من نشوء مشكلة جنوب السودان وذلك منذ بداية الاحتلال في عام 1899م وحتي لحظة انفصال السودان عن مصر واعلانها الاستقلال في عام 1956م أي ما يقرب من سبعة وستين عاما حيث بذر الإنجليز بذور الفتنة وبذلوا جهودا مضنية لترسيخ الانفصال ومهدوا لنمو المشكلة من الجذور..ومنذ بدء الاستقلال بدأت جهة أخري تتحمل وزر الاستمرار في تفاقم الوضع وترسيخ روح الانفصال.. وللأسف كان من المفترض أن تكون هذه الجهة هي حامية الوحدة العاملة علي وأد الفتنة وتنمية روح الترابط والتآلف بين الشمال والجنوب.. هذه الجهة هي الحكومات السودانية المتعاقبة التي تولت الحكم في السودان منذ بدء الانفصال عن مصر وإعلان الاستقلال وحتي الأمس القريب حيث بدايات الحكومة الحالية.. حكومة البشير.. فقد تناولت معظم تلك الحكومات مشكلة الجنوب تناولا سطحيا وحاولت علاج الظواهر والقشور ولم تحاول أن تنفذ إلي جذور المشكلة والبحث عن العلاج الحقيقي والجذري لها وكان من قدر حكومة البشير أن تأتي في عصر الهيمنة الأمريكية علي العالم وإعلان التحالف اليهودي الصليبي الحرب علي العالم الإسلامي وبدء حملته الشرسة لضرب واحتلال الدول الإسلامية بادئاً بأفغانستان ومثنيا بالعراق ثم واقفاً علي أبواب السودان مهددا ومتوعدا.. إمَّا أن تقوم الحكومة السودانية بالانصياع والخضوع لمخططاته بفصل الجنوب عن الشمال أو ينال السودان ما نال أفغانستان والعراق.. وبالفعل اضطرت الحكومة السودانية مجبرة علي التوقيع علي اتفاقية (مشاكوس) التي تعترف بالانفصال بعد ست سنوات من تاريخ توقيعها ونجح التحالف اليهودي الصليبي العالمي بقيادة الولايات المتحدة فيما فشل فيه الإنجليز.(1/44)
وفي السطور التالية نستعرض الدور السلبي للحكومات السودانية المتتالية في أزدياد وتفاقم الأوضاع في الجنوب واشتعال نيران الأزمة حيث لم تدرك تلك الحكومات أن الأزمة أبعد بكثير من مجرد إطلاق الوعود أو قمع بعض مظاهر التمرد بالقوة العسكرية وحدها أو النظر إلي المشكلة علي أنها أمر سهل وهين يمكن السيطرة عليه بدون جهد أو مشقة وكانت النتيجة أن معظم تلك الحكومات لم تهتم بأمر الجنوب والعمل علي تحسين أوضاع أبنائه المعيشية وإعطائهم نصيبا عادلا من الثروة والمناصب الحكومية والمراكز القيادية باعتبارهم مواطنين سودانيين لهم نفس حقوق إخوانهم في الشمال.. بينما اهتمت تلك الحكومات بالشطر الشمالي من البلاد حيث القيادات وأصحاب السلطان.. وعندما ظهرت بوادر التمرد والصدام المسلح لم يعالجوه بالحكمة وإنما عالجوه بالقمع والقوة العسكرية وحدها مما أدي إلي تفاقم الأزمة وشعور الجنوبيين بالغبن والظلم الواقع عليهم.الحكومة المدنية الأولي (إسماعيل الأزهري): كان (إسماعيل الأزهري) زعيما للحزب الاتحادي الديمقراطي وكان ينادي بالاتحاد مع مصر ثم غير رأيه ودعا إلي الانفصال. لذلك فقد أراد أن يضمن أصوات النواب الجنوبيين إلي جانبه عند التصويت في البرلمان علي هذا الأمر.. وكان ثمن ذلك قبوله مطالب الجنوبيين بإعطائهم نصيبا أكبر من الوظائف الحكومية وفرص التعليم والرعاية الصحية وغيرها.. وبالطبع بعد أن نال أصواتهم ووصل إلي الحكم انشغلت حكومته بتلك التركة المثقلة التي ورثتها عن الاحتلال الإنجليزي فلم تستطع أن تلبي مطالب الجنوبيين وأن تفي بتعهداتها لهم مما أدي إلي انقلابهم عليها واندلاع العنف وبداية التمرد المسلح في الجنوب. وتكاتف النواب الجنوبيون مع النواب الشماليين الذين كانوا يؤيدون الوحدة مع مصر علي إسماعيل الأزهري حتي أسقطوا حكومته وجاءت بعده حكومة من المعارضة بقيادة حزب الأمة وبدعم من الإمام المهدي زعيم الأنصار ..(1/45)
ولكن ازدياد العنف في الجنوب وتفاقم التمرد العسكري بالإضافة إلي سعي الأزهري الذي أصبح في المعارضة إلي الثأر ممن أسقطوا حكومته أدي إلي زعزعة الحكم وقيام رئيس الحكومة بتسليم الحكم إلي القائد العام للجيش في ذلك الوقت الفريق (إبراهيم عبود) وكانت هذه هي بداية تدخل الجيش في قضية الجنوب.الحكومة العسكرية الأولي (إبراهيم عبود): قامت حكومة الفريق (إبراهيم عبود) ببعض الخطوات الجيدة بغرض نشر الإسلام والتصدي للتنصير في الجنوب مثل إنشاء مدارس لتعليم القرآن وإنشاء المعاهد الإسلامية المتوسطة واستبدال الجمعة بيوم الأحد كعطلة أسبوعية وإصدار قانون يحظر التبشير المسيحي في الجنوب وطرد المنظمات التنصيرية النشيطة في ذلك المجال.لكن في المقابل لم تعمل الحكومة علي تحسين ظروف المعيشة للجنوبيين وتوفير أدني المتطلبات الحياتية لهم من طعام وكساء وعلاج ودواء وهو ما تفعله المنظمات التنصيرية وتفوقت فيه واكتسبت به قلوب الجنوبيين وتعاطفهم.لذلك فقد كان لعدم التوازن هذا بمحاولة نشر الإسلام بين الجائعين والمرضي والمحرومين في الجنوب دون النظر إلي حاجاتهم الضرورية بالإضافة إلي تربص المنظمات التنصيرية التي طردت إلي حدود الدول المجاورة للسودان بحكومة (إبراهيم عبود) ذات التوجه الإسلامي أثر كبير في إثارة الجنوبيين عليها وإشعال روح الثورة والتمرد بينهم علي هؤلاء الشماليين الذين يريدون فرض الإسلام عليهم قسرا كما زعمت المنظمات التنصيرية، يضاف إلي ذلك تصاعد قوي المعارضة في الشمال ضد الأسلوب العسكري للحكم..(1/46)
كل هذه العوامل أدت إلي سقوط حكومة (إبراهيم عبود) العسكرية بعد أن تكاتفت ضدها كل قوي المعارضة فيما عرف باسم (ثورة أكتوبر الشعبية) وقد انعكست كل تلك الأحداث علي قضية الجنوب علي النحو التالي:(أ) انتقلت قضية الجنوب للمرة الأولي خارج حدود السودان إلي الدول المجاورة له حيث أخذت المنظمات التنصيرية التي طُرِدَت من الجنوب إلي تلك الدول تثير فيها نزعة العداء لذلك الحكم ذي التوجه الإسلامي فبدأت قضية الجنوب تكسب التعاطف من بعض حكومات تلك الدول المجاورة بالإضافة إلي إثارة القبائل الموجودة علي حدودها والتي هي امتداد طبيعي لقبائل الجنوب السوداني والتي صورت لهم المنظمات التنصيرية القضية علي أن الشماليين يذَبِّحون إخوانهم وينَكِّلون بهم لإجبارهم علي اعتناق الإسلام.(ب) بروز المعارضة المسلحة في أشكال مختلفة ومتناثرة بين مناطق الجنوب ثم تطور هذه المعارضة وتبلورها في ظهور حركة (أنانيا) التي قادت التمرد وتهيأت لها أمكانيات الدعم والتسليح من دول الجوار الأفريقي التي كانت بدورها تتلقي مساعدات هائلة من المنظمات التنصيرية العالمية لهذا الغرض.الحكومة المدنية الثانية: (سر الختم خليفة): كانت هذه الحكومة علامة بارزة علي طريق الفهم الصحيح لجذور مشكلة الجنوب والرؤية الصحيحة لطريقة حلها وعلاجها فقد وضعت هذه الحكومة مشكلة الجنوب علي رأس أولوياتها ولأول مرة يتبوأ جنوبي منصبا سياديا (وزارة الداخلية) كما سعت الحكومة إلي استرضاء السياسيين الجنوبيين في المنفي وكسب ثقتهم مما أدي إلي تعاون القوي السياسية الجنوبية مع الحكومة لتحقيق ذلك الهدف وقد تبلور هذا التفاهم بين الحكومة والمعارضة الجنوبية في انعقاد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965م.(1/47)
مؤتمر المائدة المستديرة : يعتبر هذا المؤتمر أول محاولة سودانية جادة لتحقيق السلام في الجنوب من خلال البحث عن الحلول الجذرية للقضية لعلاجها وقد ضم هذا المؤتمر 18 ممثلا عن الأحزاب الشمالية و24 ممثلا للجنوب وبحضور مراقبين من مصر والجزائر وغانا وكينيا وأوغندا ونيجيريا وقد اتفق الأطراف علي تقديم ثلاثة خيارات للمؤتمر لبحثها هي: الوحدة الكاملة مع الشمال أو الانفصال أو الحكومة الفيدرالية وقد طالب الجنوبيون أن يكون لهم الحق في اتخاذ القرار في ذلك الشأن من خلال استفتاء عام في الجنوب السوداني..لكن الأحزاب الشمالية أدركت أن هذا الاستفتاء قد ينتهي بطلب الانفصال مما يعرض وحدة السودان للتفتت وبالتالي رفضته كل الأحزاب الشمالية وأعلنت أن أقصي ما يمكن إعطاؤه للجنوب هو وضع خاص يشمل قيام مجلس تشريعي للإقليم ومجلس وزراء محدود تنحصر صلاحياته في أمور التعليم والصحة والزراعة.. وبالطبع رفض الجنوبيون ذلك العرض وطالبوا بالفيدرالية.. وظل الوضع علي هذا الحال المعلق حتي انتهاء تلك الحكومة ومجيء حكومة ائتلافية بعدها.دستور عام 1968م الإسلامي: بعد نهاية الحكومة المدنية الثانية تناوب الحكم في البلاد حكومات إئتلافية تشكلت من الحزبين الرئيسيين في السودان تارة برئاسة (الصادق المهدي) وتارة برئاسة (محمد المحجوب) وقد اتفقت كل هذه الحكومات الائتلافية علي رؤية مشتركة لقضية الجنوب وهي إنها يمكن حلها بالقضاء علي مجموعات المتمردين وإحكام قبضة الشماليين علي الحكم في الجنوب.في ذلك الوقت كان نجم الإخوان المسلمين قد أخذ يقوي ويبرز ويفرض وجوده علي الساحة السياسية في السودان باعتبار أنها قوة إسلامية فاعلة ونشطة لها منهجها وفكرها الإسلامي الواضح والمعروف في ذلك المجال وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية ووضع دستور إسلامي للبلاد والذي كان يلقي قبولا بين الكثيرين من السودانيين..(1/48)
لذلك عملت كل الأحزاب علي التحالف معهم والاستقواء بهم علي الآخرين والمزايدة عليهم مما أدي إلي طرح مشروع الدستور الإسلامي علي البرلمان لمناقشته والتصويت عليه.. وهنا نشب الخلاف و الصراع واضحا وجليا بين معظم القوي الشمالية المؤيدة للدستور الإسلامي والنواب الجنوبيين المؤيدين للعلمانية والذين رأوا في طرح الدستور الإسلامي والتصويت عليه في البرلمان ضربة قاصمة لمؤتمر المائدة المستديرة الذي كانوا قد اعتبروه البوابة الحقيقية للعلاج الجذري لقضيتهم وقد أدي ذلك إلي توتر سياسي واحتقان في الجنوب مما هيأ الاوضاع لاستيلاء الجيش علي السلطة في مايو 1969م علي يد أحد ضباط الجيش الصغار في ذلك الوقت وهو الضابط (جعفر النميري).الحكومة العسكرية الثانية: (جعفر نميري)أعلن (النميري) منذ توليه السلطة نيته للحل السلمي لقضية الجنوب فبادر بإنشاء وزارة لشئون الجنوب، كما عين جنوبياً نائباً لرئيس الجمهورية وثلاثة جنوبيين حكاماً للولايات الجنوبية الثلاث في ذلك الوقت وجعلهم أعضاءً في مجلس الوزراء.. ثم قام بعقد اتفاق (أديس بابا) مع الجنوبيين والذي أقر الحكم الذاتي للجنوب وبموجبه أُدمجت قوات حركة (أنانيا) الجنوبية في صفوف الجيش السوداني.. وقد أدت هذه الاتفاقية إلي إنهاء الحرب واستقرار الوضع في السودان كلها لأول مرةمنذ نشوب التمرد.إلا أن بعض العناصر الجنوبية أخذت تشكك في هذا الاتفاق وتثير الجنوبيين عليه حتي نجحت في سحب بعض القوات من حركة (أنانيا) والعودة بها إلي الغابة والتحاقها بتنظيم الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أنشأها وقادها (جون جارانج) - والذي كان ضابطاً في الجيش السوداني- مدعوما من المنظمات التنصيرية وبعض الدول المجاورة للسودان، حيث بدأ التمرد للمرة الثانية وسرعان ماانتشر بعدما أعلن النميري عام 1983م ما أسماها قوانين الشريعة الإسلامية..(1/49)
ومنذ ذلك التاريخ حدث تطور نوعي في الحركة الجنوبية حيث ضمت لأول مرة بعض رموز الحكم الشمالي المنشقين عليه مثل (منصور خالد) وزير خارجية النميري والذي انشق عليه وأصبح مستشاراً سياسياً (لجون جارانج..) كذلك تطورت قدرات الحركة العسكرية واستوعبت عوناً دولياً وإقليمياًً مكنها من الانتشار عسكرياً في مساحات واسعة من الجنوب.(1/50)
الحكومة المدنية الثالثة (الصادق المهدي): بعد انتهاء حكومة (النميري) جاءت حكومة انتقالية برئاسة المشير (سوار الذهب) قامت بإجراء انتخابات صعد بموجبها (الصادق المهدي) إلي الحكم في ظروف كان السودان فيها غارقاً في المشاكل والخلافات، فعجزت الحكومة عن اتخاذ أية خطوات إيجابية في طريق حل مشكلة الجنوب.. وقد بادر (محمد عثمان الميرغني) زعيم الحزب الاتحادي بعقد اتفاق سلام مع (جون جارانج) إلا أن (الصادق المهدي) رفض ذلك الاتفاق مما أدي إلي اتساع رقعة الصراع.. وأخيراً وتحت ضغط القادة العسكريين رضخ (الصادق المهدي) ووافق (الميرغني) علي الاتفاق مما أدي إلي أن تعلن الحركة الشعبية وقف إطلاق النار انتظاراًً لتنفيذ الاتفاق.الحكومة العسكرية الثالثة (عمر البشير):بينما كانت جميع الأطراف في انتظار حكومة المهدي لتنفيذ الاتفاق إذ فوجئت بقيام الحكومة العسكرية الثالثة بقيادة الفريق (عمر البشير) وانتهاجها التحالف الكامل مع الإخوان المسلمين بقيادة (حسن الترابي) وإعلانها تطبيق الشريعة الإسلامية.. وكان لتلك التطورات السريعة والمتلاحقة أثار بليغة علي قضية الجنوب تمثلت فيما يلي:(1) برز العنصر الديني ولأول مرة علناً علي رأس الصراع ليتحول الصراع من حرب أهلية عرقية إلي حرب دينية.(2) خرجت القضية من أيدي الحكومة السودانية باعتبارها قضية داخلية إلي البعد الإقليمي بعقد عدد من المبادرات لحلها في الدول المجاورة وإلي البعد الدولي بدخول الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية والأفريقية الأخري إلي الميدان.(3) قامت الحكومة السودانية بمحاولة تفتيت القضية ومحاولة حلها حلاً جزئياً بعقد اتفاق سلام مع أطراف جنوبية أخري غير الحركة الشعبية، وبالفعل ظهرت بعض الميليشيات الجنوبية المسلحة المدعومة من الحكومة وقامت بعمليات ضد الحركة الشعبية ذاتها.(1/51)
وأخيراً كان للتدخل الدولي أثره في الضغط علي الحكومة السودانية للاستجابة لمطالب الجنوبيين وذلك من خلال العديد من المبادرات الداعية إلي الحل السلمي، مثل محادثات (نيروبي) بكينيا و(أبوجا) بنيجيريا والمبادرة المصرية الليبية.. وكانت كلها تحاول الوصول إلي حل عادل يمنح الجنوبيين حقهم في الحكم والثروة ويحفظ لدولة السودان وحدتها.ولكن للأسف الشديد "فبعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي دبرها التحالف اليهودي الصليبي العالمي وتحت مسمي محاربة الإرهاب الإسلامي ألقت الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها في القضية ملوحة بسلاح التدخل العسكري واحتلال السودان كما فعلت مع أفغانستان والعراق، مما أدي في النهاية إلي رضوخ الحكومة السودانية وانصياعها لذلك القهر والجبروت اليهودي الصليبي في وقت تخلت فيه كل الدول الإسلامية والعربية عنها كما تخلت من قبل عن أفغانستان والعراق.. فلم يجد عمر البشير مفرًا من التوقيع علي اتفاقية «مشاكوس» في (نيروبي) عاصمة كينيا مع (الحركة الشعبية لتحرير السودان) والتي قررت اقتسام الجنوبيين الحكم والثروة مع الشماليين، وقيام حكومة وطنية مشتركة بين الشمال والجنوب تتخللها انتخابات وتنتهي باستفتاء عام بين أبناء الجنوب بعد ست سنوات من تاريخ التوقيع عليها يحدد مصير الجنوب.. إما بالبقاء في دولة السودان الموحدة وإما بالانفصال عنها في دولة مستقلة..ونجحت الولايات المتحدة في أعوام تعد علي أصابع اليد الواحدة بالضربة القاضية فيما فشلت فيه انجلترا طوال مايقرب من ستة عقود ونصف من الجولات المحمومة من أجل انفصال الجنوب عن السودان.
الدور الأمريكيفي قضية جنوب السودان(1/52)
تعود جذور الاهتمام الأمريكي بالسودان إلي عمليات الإغاثة الكبيرة التي قامت بها الولايات المتحدة لإغاثة ضحايا الجفاف في مطلع الثمانينيات.. وعبر سنوات طويلة امتدت لأكثر من عقدين من الزمان أسهمت وسائل الإعلام الأمريكية في إيجاد أرضية سياسية بين الرأي العام في الولايات المتحدة انشغلت بالحرب الأهلية في جنوب السودان وتضم تحالفا متباينا من مجموعات اليمين المسيحي التي كانت في بدايات ظهورها والأمريكيين السود وبعض الجماعات الأخري.. واستجابة لتلك الاهتمامات كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتفاعل مع ما يجري في السودان بشكل أو بآخر.فعلي سبيل المثال اقتصر اهتمام إدارة الرئيس (بوش) الأب علي ميدان عمل الإغاثة من خلال دعم المنظمات الإغاثية والتنصيرية.. أما إدارة (كلينتون) فقد كانت أول من عين مبعوثا رئاسيا لأمريكا في السودان عام 1944م.وقد تطورت علاقة الولايات المتحدة بقضية جنوب السودان عبر ثلاث مراحل علي النحو التالي:المرحلة الأولي
منذ استقلال السودان وحتي سقوط الاتحاد السوفيتي.. وفي هذه المرحلة كان الهدف الاستراتيجي الأول لأمريكا هو كسب تحالف الحكومات السودانية المتعاقبة لمقاومة النفوذ والوجود السوفيتي في أفريقيا والذي تركز في دول الجوار السوداني مثل مصر وليبيا وإثيوبيا وإريتريا لذلك جاءت مشكلة جنوب السودان في مكانة متأخرة علي أجندة الولايات المتحدة ولم تهتم بها كثيرا منعا لإثارة الحساسية والنفور من السودانيين تجاههم وحفاظا علي تحالف حكام السودان معهم.. وكان تجاوب الإدارة الأمريكية مع مطالب الرأي العام الأمريكي تجاه جنوب السودان شكليا لإرضائه أكثر منه جادا وعمليا.. وقد ظلت العلاقات الأمريكية مع حكام السودان بين مد وجزر.. ما بين تعاون كامل وتنافر شامل حتي سقوط الاتحاد السوفيتي.المرحلة الثانية(1/53)
مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.. وهي مرحلة انفردت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بالنفوذ والهيمنة علي العالم أجمع.. وفي هذه المرحلة أصبحت أمريكا في غير حاجة لخطب ود الحكومات السودانية وتغيرت الأولويات علي أجندة الإدارة الأمريكية وأصبح خطب ود اليمين المسيحي والزنوج الأمريكيين وكل القوي المتعاطفة مع المسيحيين في جنوب السودان علي رأس الأولويات فيما يتعلق بالشأن السوداني.. وهكذا فتحت الولايات المتحدة الباب علي مصراعيه للجماعات التنصيرية للعمل في الجنوب ودعمت المتمردين بالمال والعتاد والسلاح وعملت علي تكثيف الضغوط العالمية في المحافل الدولية علي السودان في شتي المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وظهر الهدف الحقيقي لأمريكا في السودان.. فلم يعد هو إعطاء الحكم الذاتي لجنوب السودان.. إنما أصبح إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير وهو ما يعني علي أرض الواقع.. الانفصال.ولقد أسهم مجيء الفريق (عمر البشير) علي رأس الحكومة العسكرية الثالثة في عام 1989م في تعميق حالة العداء بين أمريكا والسودان بسبب توجهات البشير الإسلامية ووقوفه معارضا للتحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة ضد الغزو العراقي للكويت عام 1990م ومعاداته للوجود الأمريكي والغربي علي العموم في المنطقتين العربية والأفريقية وبذلك وضعت أمريكا السودان علي رأس الدول الراعية للإرهاب متهمة إياها باحتضان أفراد من جماعة القاعدة وإنشاء معسكرات لإيوائهم وتدريباتهم..(1/54)
وأخذت أمريكا تكثف من ضغوطها علي السودان وتدعم الدول المجاورة لها من أجل احتضان القوات العسكرية الجنوبية وتوفير الملاذ الآمن والقواعد الخلفية لها واستخدامها في توصيل المال والعتاد والسلاح لها ثم قامت بانتزاع قرار من مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية علي السودان وذلك بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري (محمد حسني مبارك) في إثيوبيا واتهام السودان بضلوعها في تلك المؤامرة.. وظل الضغط الأمريكي علي السودان يتصاعد ويتصاعد حتي وصل قمته حين قصفت أمريكا مصنعا للأدوية في الخرطوم بالصواريخ بادعاء أنه مملوك لأسامة بن لادن وهو ما اتضح خطؤه لاحقا وكانت كل هذه الضغوط علي الحكومة السودانية من أجل غرض واحد هو إجبارها علي عقد معاهدة سلام مع الجنوب يكون البند الأول والرئيسي فيها هو الإقرار بحق تقرير المصير للجنوبيين.. أي الانفصال المحتوم.المرحلة الثالثة(1/55)
مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م: في هذه المرحلة انفجر البركان ورفعت راية التحالف اليهودي الصليبي سافرة وأعلن العداء للإسلام والمسلمين صريحا.. وأصبح التدخل في السودان يحركه دافع واحد فقط هو الدافع الديني لنصرة المسيحية والمسيحيين في جنوب السودان.. ووصلت قيادات المسيحية اليهودية أو (المحافظين الجدد) إلي رأس السلطة في أكبر وأقوي دولة في العالم اليوم.. الولايات المتحدة الأمريكية.. ورفعوا الصليب علي رأس الجميع وأصبحت قضية جنوب السودان علي رأس أولوياتهم وقرروا الانتهاء منها سريعا وفي أقصر وقت ممكن لذلك فقد أخذت الضغوط الأمريكية تتزايد وتتصاعد بشكل محموم مستغلة كل الأحداث الجارية بما فيها قضية دارفور للضغط علي حكومة السودان للتوقيع علي اتفاق (مشاكوس) في مدينة نيروبي عاصمة كينيا عام 2004م والذي اعترفت فيه بقبولها مبدأ انفصال الجنوب للمرة الأولي وبعد ما يقرب من مائة وخمسة عشر عاما من اليوم الأول للتخطيط الإنجليري لفصل الجنوب عن الشمال.وبتوقيع تلك الاتفاقية تكون الإدارة الأمريكية.. الإدارة المسيحية اليهودية أو (المحافظون الجدد).. قد حسمت المعركة لصالح سياسة تفكيك الدولة في السودان القائمة علي دفعه لتوقيع اتفاقيات سلام مماثلة ومتعددة مع حركات التمرد في الجنوب أولا ثم في الغرب في دارفور ثم في الشرق ثم في الشمال وذلك بهدف تفكيك أوصال السودان وتحويله إلي دويلات أقزام تُسَاق في فلك الصليبية سَوْقاً، وبعد ذلك تدور الدائرة علي بقية الدول الإسلامية.. دولة وراء دولة حتي تنتهي دولة الإسلام. وللأسف الشديد..(1/56)
تجري كل هذ الأحداث السريعة بسرعة البرق وتعقد كل هذه الاتفاقيات التي ترسخ الانفصال وتفتت وتمزق دولة الإسلام في السودان في وقت يقف فيه العالم العربي والإسلامي موقف المتفرج الذي ليس له أي دور مؤثر في الأحداث أو التطورات، وفي الوقت الذي أمسكت فيه أمريكا وبعض الدول الأوروبية والمنظمات التنصيرية بجميع الخيوط وامتلكت كل مفاتيح الحل والعقد في قضايا أمة الإسلام.
الأهداف اليهودية الصليبية من انفصال جنوب السودان
كان للتحالف اليهودي الصليبي العالمي من خلال كل هذه التحركات أهداف محددة هي:(1) تفكيك السودان وضرب وحدته بانفصال ربعه الجنوبي في جنوب السودان وخمسه الغربي في دارفور وكذلك المناطق الشرقية والشمالية لتتحول السودان أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة إلي دولة ضئيلة ضعيفة بلا موارد يسهل قيادتها.(2) تهديد دول الجوار العربية خصوصا مصر بشكل مباشر وحصارها استراتيجيا وضرب أمنها القومي في مقتل بانكشاف ظهرها وتوجيه رسالة للقاهرة عبر تركيع وضرب الخرطوم أنها ليست بمأمن لو حاولت التخلص من الضغوط الأمريكية وتبني المواقف المؤيدة لأمريكا في سياساتها العدوانية والظالمة في العالم أجمع وخاصة ضد شعب فلسطين والعراق.. والرسالة واضحة.. التهديد بإنشاء وفصل دولة للأقباط في وسط الصعيد ودولة للنوبة في جنوب الصعيد.(3) حصار المد العربي والإسلامي الذي انتعش في العقود الأخيرة علي يد منظمات إغاثية وهيئات خيرية إسلامية انطلقت من السودان إلي وسط وجنوب وشرق أفريقيا والقضاء عليها.(4) إعادة تنشيط الدور التنصيري للغرب وتكثيف دور المنظمات الإغاثية التنصيرية وفتح الأبواب أمامها علي مصراعيها لهجمات تنصيرية شرسة تغزو بها القارة الأفريقية كلها بما فيها الدول الإسلامية.
أزمة الجنوبوالأمن القومي المصري(1/57)
تتركز عناصر الأمن القومي المشترك بين مصر والسودان في محورين رئيسيين هما:أ ـ محور المياه: فبالرغم من أن السودان ليس منبعا من منابع النيل إلا أنه أكبر دولة يمر فيها النيل بروافده وأي تلاعب أو استغلال لمياه النيل فيها يؤثر تأثيرا مباشرا علي أمن مصر القومي حيث لا تمتلك مصر أي مصادر أخري للمياه سوي نهر النيل أما المصادر الأخري مثل الأمطار والمياه الجوفية فتشكل نسبة ضئيلة لا تؤثر في الاحتياج العام للدوله المصرية.ب ـ محور العمق الاستراتيجي: فالعمق الاستراتيجي بكل عناصره من عمق جغرافي وبشري وتاريخي يجعل السودان ساحة خلفية لمصر تعطيها منفذا كبيرا لحرية الحركة في حماية أمنها القومي وفي صراعها ضد أعدائها فعلي سبيل المثال أثناء الإعداد لحرب أكتوبر نقلت بعض الوحدات العسكرية والأسلحة الحساسة التي تخشي مصر عليها من أن تطولها يد الطيران الإسرائيلي إلي السودان لاستكمال تدريباتها للإعداد للمعركة ولحين استخدامها.. وكذلك استخدمت موانيء السودان علي البحر الأحمر لإحكام الحصار علي السفن الإسرائيلية ومنعها من استخدام البحر الأحمر أثناء الحرب مع مصر.وقد فطنت مصر منذ فترة إلي أن الصراع بين جنوب السودان وشماله قد يؤثر علي علاقتها بدولة السودان إجمالا وبالتالي علي أمنها القومي فقدمت الكثير من المساعدات بالتوازن بين الشمال والجنوب وعلي سبيل المثال في فترة السبعينيات والثمانينيات كانت تقدم منحا مجانية للطلاب السودانيين فحرصت علي أن تقسم هذه المنح بنسب واضحة بين الطلاب الشماليين والجنوبيين علي أمل إنشاء روابط مستقبلية عاطفية بين هؤلاء الطلبة ومصر.لكن مصر ارتكبت خطأ استراتيجيا عندما اعتقدت أن العواطف وحدها تصلح كركائز في إقامة السياسات بين الدول وليست المصالح المتبادلة، لذلك لم تسهم بإقامة أية مشاريع أو استثمارات في الجنوب تحقق لها روابط اقتصادية ومصالح متبادلة وظلت الأوضاع علي هذا الحال..(1/58)
محاولة اقامة علاقات متوازنة بين الشمال والجنوب، وعدم الانحياز لطرف دون الآخر مع عدم الاستغلال الفعلي لتحسين علاقتها بالسودان في تعميق روابطها بالجنوب وتضييع الفرص المتتالية في ذلك الشأن حتي جاءت اللحظة التي ساءت فيها العلاقات بين مصر والسودان خلال العقد الأول من حكم عمر البشير وخاصة بعد محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس المصري في إثيوبيا وتبني السودان للاتجاه الأصولي الذي بات يهدد أمن مصر القومي في منتصف التسعينيات من خلال المساعدات التي كانت تقدمها حكومة السودان للحركات الإسلامية المعارضة للحكومة المصرية.. هنا انقلبت الموازين وقامت مصر بتقديم بعض المساعدات والدعم المادي والمعنوي للحركة الشعبية لتحرير السودان والجبهات المعارضة للحكومة السودانية وبدأ اهتمام مصر يزداد بأزمة الجنوب.. ليس من منطلق التخطيط ورسم السياسات لما فيه مصلحتها وأمنها القومي.. وإنما من منطلق ردود الأفعال علي تصرفات النظام السوداني في الشمال.. وكانت النتيجة أن الجنوبيين فهموا ذلك الدعم المصري فهما خاطئا فارتفع سقف مطالبهم وأصبح حق تقرير المصير مطلبا حتميا لابديل عنه.. وبذلك صار واضحا وللأسف الشديد أن العلاقة الشخصية بين النظامين في مصر والسودان قد طغت علي النظرة الاستراتيجية ومصالح الدولتين خاصة بعد أن شاركت مصر بشكل أو بآخر في استصدار قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية ضد السودان بعد حادث الاغتيال الفاشل ـ وقد أضعف ذلك من قوة الشمال أمام الجنوب فزاد الإصرار علي حق تقرير المصير واكتشفت مصر متأخرة بعد توقيع بروتوكول (مشاكوس) في يوليو 2002م بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية الذي نص بصورة قاطعة علي حق تقرير المصير للجنوب ـ أنها في سياق المواجهة مع النظام السوداني قد أسهمت في ترسيخ الخطوة العملية الأهم في انفصال الجنوب السوداني بكل ما يستتبعه ذلك الانفصال من مخاطر وتبعات علي أمنها القومي.(1/59)
وحاولت مصر متأخرة أن تتدخل وأن يكون لها دور مؤثر في تلاحق الأحداث في قضية الجنوب فقامت بالمبادرة المصرية الليبية المشتركة وحثت الجامعة العربية علي تقديم مشروع عربي لإعمار جنوب السودان ولكن كان السيف قد سبق العذل.. وكانت الأوراق قد أصبحت بالكامل بأيدي الولايات المتحدة الأمريكية التي انفردت بشكل واضح وصريح بتنفيذ مخططاتها في الجنوب..(فصل جنوب السودان) وبداية تفتيت الدولة السودانية.
التصور المستقبلي للأحداث(1/60)
إننا لانعلم الغيب، فالله وحده علام الغيوب، ولكننا من منطلق الرؤية التحلييلية للأحداث نستطيع أن نقول: إن الأوضاع في السودان ستجري في المرحلة المقبلة وحتي انتهاء السنوات الست المنصوص عليها في الاتفاق علي واحد من الاحتمالات التالية:الاحتمال الأول: أن يسير تطبيق الاتفاقية في توافق والتزام من الطرفين.. الحكومة والمتمردين الجنوبيين، وبدون خلافات حتي تنتهي السنوات الست ويتم الاستفتاء.. ويقبل الجنوبيون بالبقاء ضمن دولة السودان الواحدة.وهذا الاحتمال من وجهة نظرنا هو أبعد الاحتمالات عن الحدوث لأمور كثيرة لامقام لذكرها في هذا التحليل.. وفي حالة حدوث هذا الاحتمال فسوف تخرج دولة السودان بالكامل وبشكل صريح ومعلن من المعسكرين الإسلامي والعربي، وستفقد السودان هذين الانتمائين صراحة، ولن تستطيع بعد اليوم الأول من تطبيق الاتفاقية أن تقف مع أي شعب عربي أو مسلم في قضية من قضاياه أو هم من همومه، ذلك لأن في الاتفاقية بندًا خطيرًا ومدمرًا لروح وهوية السودان العربي والمسلم.. ذلك أن قائد المتمردين في الجنوب (جون جارانج) أو من يخلفه سيكون هو النائب الأول لرئيس الدولة، وأن أي قرار لدولة السودان لابد لصدوره من موافقة الرئيس والنائب الأول.. أي أن ذلك النائب الجنوبي له حق المنع والاعتراض علي أي قرار تصدره حكومة السودان!!فكيف نتخيل الأمور إذا علمنا أن ذلك النائب سيكون زنجيًا مسيحياً يعلن أنه ليس له علاقة بأي هم أو شأن عربي أو مسلم، وحتي نتخيل تلك الفاجعة فإنني أضع تصوراً واحداً يعبر كل التعبير عن هذه الحالة: سنفترض جدلاً قيام حرب بين مصر ودولة معادية لأي سبب من الأسباب.. وأرادت مصر أن تستعين بعمقها الاستراتيجي في السودان بأن ترسل مثلاً بعض القوات أو المعدات للتدريب أو الحماية..(1/61)
هنا ستجد الجنود السودانيين علي الحدود يمنعونها، وستجدهم مستعدين لإطلاق النار علي أي جندي مصري يعبر الحدود إلي السودان وذلك تحت دعوي أن هذا التسلل يتعارض مع اتفاقية الجنوب مع المتمردين، وأن دعم السوداني المسلم لأخيه المصري المسلم يعرض حكومة السودان لاتهامها بنقض الاتفاقية بما يتبعه من عقوبات وتنكيل.الاحتمال الثاني: وهو -في اعتقادنا- الاحتمال الأقوي والأكثر فرصاً في الحدوث، وهو ألا تجد الاتفاقية سبيلاً إلي التطبيق، بسبب قيام المتمردين في الجنوب بخلق المشاكل وافتعال الأزمات باستمرار وبشكل دائم وضاغط علي الدول والمنظمات الدولية بإيعاز طبعاً من التحالف الصليبي اليهودي استعجالاً للنتائج مما يسبب صداعاً مزمناً لدي تلك المنظمات والدول فتري أن الحل الأمثل للخلاص من ذلك هو التعجيل بفصل الجنوب عن الشمال.الاحتمال الثالث: وهو -من وجهة نظرنا- أضعف الاحتمالات لكن فرصته في الحدوث قائمة.. فالله سبحانه وتعالي قادر علي أن يحيي العظام وهي رميم، وقادر علي أن يوقظ في بعض حكام هذه الأمة ورجالها روح العودة إلي الله والغيرة علي دينه والبذل والفداء في سبيله.. فتقوم الحكومات الإسلامية بتشجيع الجمعيات الإغاثية والتطوعية وبشكل مكثف للذهاب إلي جنوب السودان والنزول إلي ساحة الإغاثة والانتشار بين الناس هناك من مسلمين ومسيحيين ووثنيين، كما تفعل المنظمات التنصيرية، ويقوم هؤلاء الحكام وحكوماتهم بدعم هذه الجمعيات -وهي كثيرة- مادياً ومعنوياً لأداء هذه الرسالة النبيلة.. رسالة الجهاد في سبيل الله بنشر الدعوة العملية من خلال العمل الإغاثي بين أبناء الجنوب، حتي إذا جاء موعد الاستفتاء كان للحضور الإسلامي هناك الغلبة والتفوق فتكون نتيجة الاستفتاء الوحدة مع السودان الأم وعدم الانفصال عنه.
الواجب الشرعيعلي الحكومات الإسلامية(1/62)
لانعتقد أن الحكومات المسلمة غافلة عن أن التاريخ قد أثبت وبشكل قاطع أن العداء للإسلام وأهله ليس فيه استثناءات، ولامجاملات، فوالي عكا الذي هادن الصليبيين وتعاون معهم ضد أبناء دينه ووطنه أملاً منه في أن يفوز برضاهم السامي.. كان أول ضحاياهم، ليس ذلك فحسب وإنما صار موصوماً بالعار في ذاكرة التاريخ، وكذلك أمراء الطوائف من المسلمين في الأندلس في فترة الضعف الذين استعانوا بالصليبيين علي إخوانهم المسلمين، كانوا هم ضحايا وختام المذابح الرهيبة ومحاكم التفتيش التي نصبت للمسلمين في الإندلس.من هذا المنطلق نقول إن الواجب علي الحكومات المسلمة أن تهرع بكل ماأوتيت من قوة إلي الوقوف صفاً واحدا في وجه هذا المخطط الجهنمي الذي يبغي القضاء عليهم واحدة وراء الاخري، وأن تفتح الباب علي مصراعيه لكل الجادين المخلصين في حمل الأمانة من خلال العمل الإغاثي في جنوب السودان. أما سياسة الانبطاح، والتقوقع وطلب الرضا، فلم تعد تجدي خاصة بعد أن أماط التحالف اليهودي الصليبي اللثام عن وجهه الحقيقي، وأصبح الإعلان عن العداء للإسلام وأهله صريحاً ليس فيه مواربة!!إننا نهيب بحكامنا المسلمين أن يستيقظوا من هذا الوهم الخادع، وأن يعلموا أن أفضل الطرق حتي للحفاظ علي العروش والأنظمة هي العودة إلي الله والاحتماء بمبادئ الأمة، والحفاظ علي هويتها.. ونحذر من اللحظة التي يقال فيها: أكلنا يوم أكل الثور الأبيض.
الواجب الشرعيعلي الجمعيات الإسلامية(1/63)
إن من أهم المبادئ التي أقيمت من أجلها تلك الجمعيات هي العمل علي إغاثة المنكوبين، وعون المحتاجين.. كذلك فإن الإسلام لا يعرف الحدود ولا الفواصل.. وانطلاقًا من هذه المبادئ فإنه يجب علي قيادات الجمعيات الإسلامية الخيرية أن تستشعر المسئولية تجاه إخوانهم المسلمين، وأن تتملكها الغيرة علي محارم الله حينما تعلم أن إخوانهم المسلمين يتعرضون للتنصير علي يد جمعيات ومنظمات تتخذ من الإغاثة أداة لعملها.. وذلك من منطلق قوله (صلى الله عليه وسلم): "من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، وقوله (صلى الله عليه وسلم): "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وقوله (صلى الله عليه وسلم): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي".من هنا فإننا نوجه نداءً إلي كل القائمين علي العمل الإغاثي الإسلامي في شتي بقاع العالم أن غيروا استراتيجياتكم.. ضعوا علي رأس أولوياتكم إغاثة إخوانكم المسلمين.. أو بتعبير أدق أنقذوا إخوانكم المسلمين في جنوب السودان من براثن التنصير، واتخذوا خطوات جادة وفَعَّالة وتقدموا بطلبات لحكوماتكم.. ضعوا الأمانة في أعناقها، ونحن علي ثقة في أن الحكومات المسلمة ــ إن شاء الله- ستستشعر الخطر وتفتح الباب أمام تلك الجمعيات، كما هو مفتوح علي مصراعيه أمام المنظمات التنصيرية.والله نسأل أن يجنبنا تلك الفتن وأن يحفظ علينا أمتنا وأن يحفظ علينا السودان واحداًً لا تقسيم فيه ولا انفصال.
الصومال.. والأيدي الخفية
نشر هذا الملف في العدد الثالث والعشرون السنة الثانيةمن مجلة التبيان بتاريخ جمادي الآخر 1427 هـ / يوليو 2006م(1/64)
الصومال.. إحدي حلقات المخطط الشيطاني للتحالف اليهودي الصليبي الذي ينظر إلي أمتنا ككل لا يتجزأ، وبالرغم من أن أولوياته تختلف حسب كل مرحلة، إلا أن نظرته الشاملة وتخطيطه للقضاء علي المسلمين جميعًا ماثل بين عينيه في كل لحظة.. وصدق ربنا جل وعلا حين قال: ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية217)الصومال.. القرن الإفريقي.. مضيق باب المندب.. منابع النيل.. ضرب الأمن القومي لقلب الأمة العربية.. مصر.. كلها أهداف يسعي التحالف اليهودي الصليبي كي يفوز بها.وفي هذا الملف بعون الله عز وجل نحاول إلقاء الضوء علي الأزمة المتصاعدة الآن في الصومال.. من هم أطرافها؟ من هم أصحاب المصالح في ذلك الصراع؟ ما موقف القوي الدولية والإقليمية والوطنية منه؟ وهل ستظل الدول العربية والإسلامية تمارس دور الغائب؟ وفي النهاية ما رؤيتنا لسير الأحداث مستقبلاً؟ الصومال أو (جمهورية الصومال الديموقراطية) دولة عربية إسلامية تقع في أفريقيا في المنطقة المعروفة باسم (القرن الأفريقي) يحدها من الشمال خليج عدن ومن الشرق والجنوب الشرقي المحيط الهندي ومن الغرب إثيوبيا، ومن الجنوب الغربي كينيا.. وتزيد مساحة الصومال عن ستمائة ألف كيلو متر مربع.السكان(1/65)
يبلغ عدد السكان حوالي عشرة ملايين نسمة يدينون جميعًا بالإسلام ويعتنقون المذهب (الشافعي) وتنتمي الأغلبية الساحقة من السكان إلي العرق الصومالي موزعين علي أربع قبائل رئيسية هي:قبائل (الداروور): وتتفرع إلي قبائل فرعية أو عشائر منها (الماجرتين) و(المريحان) و(الأوجادين) وقبائل الإسحاقي وقبائل (دجل أو المزملة) وقبائل (العيسي).وهناك أقليات غير صومالية منها (البانتو) ذوو الأصول الزنجية و(العرب) ذوو الأصول العمانية واليمنية ويشكلون 1.5% من عدد السكان وكذلك هناك بعض الأقليات من شبه الجزيرة الهندية وإيران والأوروبيين حوالي 0.5%.وكانت المناطق الساحلية في الصومال منذ ما قبل الإسلام عربية السكان واللغة وعلي اتصال تجاري مع شواطئ اليمن وعمان وقد حكمتها دول محلية أمراؤها من العرب الذين اصطبغوا بالصبغة الصومالية.اللغة
اللغة الرسمية الصومالية والعربية ثم الإيطالية والإنجليزية.أهم المدن
(مقديشيو) العاصمة وتقع في جنوب الصومال ومدينة (هرجيسا) وهي عاصمة الصومال الشمالي (أرض الصومال).. أما أهم الموانئ فهي ميناء (بربرة) في الجزء الغربي من الساحل الشمالي علي خليج عدن وميناء (بوساسو) في الجزء الشرقي من نفس الساحل وميناء (كيسمايو) علي الساحل الجنوبي.نشاط السكان: النشاطان الرئيسيان في البلاد هما الرعي والزراعة ويأتي بعد ذلك النقل البحري وصيد الأسماك.
نبذة تاريخية(1/66)
* يعود تاريخ الصومال إلي عصور ما قبل الميلاد عندما كانت تعرف عند قدماء المصريين باسم (بلاد بونت) حيث كانت مصدرًا للصمغ والعطور والبخور والحيوانات والذهب والعاج.. وكانوا يسمونها أرض الأجداد والآلهة لأنهم كانوا يعتقدون أن أرواح الآلهة والأجداد كانت تستقر هناك حيث ذكر ذلك في نقوش بمعبد الدير البحري في عهد الملكة حتشبسوت في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. * خلال الفترة من القرن الثاني الميلادي وحتي السابع كانت أجزاء من الصومال تابعة لمملكة الحبشة.* في القرن السابع الميلادي استقرت بعض القبائل العربية (القحطانية) في شبه الجزيرة العربية علي سواحل خليج عدن ثم بدأت الهجرة منها إلي الصومال عبر خليج عدن وباب المندب.* في القرن الثالث عشر الميلادي استولت بريطانيا علي مملكة عدن التابعة الآن لجمهورية اليمن وذلك لحماية التجارة البريطانية المتجهة للهند.* في القرن الخامس عشر قامت في الصومال مملكة (زيلع) التي عَمّ في عهدها الرخاء والازدهار.* في القرن الثامن عشر الميلادي كانت مقديشيو تقع ضمن سلطنة (عمان وزنجبار) الزاهرة حتي استولي عليها الإيطاليون.* في عام 1869م وبعد افتتاح قناة السويس قامت بريطانيا باحتلال بعض المدن الساحلية بالصومال لتأمين تجارتها عبر قناة السويس والبحر الأحمر في خط سيرها بين أوروبا والهند. * في عام 1870م احتلت مصر بعضًا من مدن الساحل الصومالي والمناطق المتاخمة لها عندما ذهبت القوات المصرية لمساعدة الإنجليز في القضاء علي ثورة المهدي في السودان!!!* في عام 1885م بدأت المأساة الحقيقية لشعب الصومال عندما اجتمعت الدول الأوروبية في برلين وقررت احتلال القارة الإفريقية وتقسيمها فيما بينها وكان نصيب الصومال أن تم تقسيمه إلي ثلاثة أقسام تم احتلالها من قبل بريطانيا وإيطاليا وفرنسا.(1/67)
* في عام 1904م هاجمت القوات البريطانية قوات الدراويش التابعة للزعيم الصومالي (سيد محمد بن عبد الله) وأوقعت بها إصابات بالغة.. وقد استمر جهاد ذلك الزعيم ضد الاحتلال البريطاني للصومال حتي عام 1920م عندما لجأت بريطانيا إلي قصف مواقع الثوار بالطيران.. ثم جاءت وفاته لتضع حدًا لثورته الإسلامية.* في عام 1936م قامت إيطاليا باحتلال الصومال وإريتيريا وإثيوبيا.. وبعد أن دخلت الحرب العالمية الثانية في صف ألمانيا عام 1940م. قامت بمهاجمة واحتلال المناطق البريطانية في الصومال.. وبذلك أحكمت إيطاليا قبضتها علي منطقة القرن الإفريقي بالكامل.* في عام 1950م وضعت الأمم المتحدة الصومال تحت الوصاية الإيطالية لمدة عشر سنوات حصلت الصومال في نهايتها علي الاستقلال.* في عام 1960م أُعلن استقلال الصومال وتوحد الصومال الشمالي الذي كان محتلاً من بريطانيا والصومال الجنوبي الذي كان محتلا من إيطاليا وانْتُخب أول رئيس شرعي للبلاد هو (آدم عبد الله عثمان) وكان من الصومال الجنوبي.* في عام 1974م أعلنت الصومال انضمامها للجامعة العربية.* في عام 1992م دخلت قوات من البحرية الأمريكية الصومال ضمن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في عملية سميت (استعادة الأمل) لاستعادة النظام وتوصيل مواد إغاثية للصوماليين ولكنها تعرضت لحرب عنيفة من الجماعات المتقاتلة التي توحدت جميعًا ضدها بقيادة الجنرال (محمد فارح عيديد) وانتهت بإسقاط طائرتين مروحيتين أمريكيتين ومقتل حوالي ثمانية عشر جنديا أمريكيا كانوا علي متنها وقيام المسلحين بسحلهم في الشوارع مما أدي إلي خروج القوات الأمريكية وكل القوات التابعة للأمم المتحدة من الصومال بشكل مخزٍ ومهين عام 1993م بعد فشلها في تأدية مهمتها.* في عام 1996م توفي الجنرال (فارح عيديد) متأثرًا بجراح كان قد أصيب بها وخلفه ابنه (حسين فارح عيديد).
أصل الصراع(1/68)
** كيف بَدَأ الصراع الحالي بين الفصائل والقبائل المتناحرة في الصومال وفي أي الأماكن وما أسبابه؟* بداية يجب أن نبين بعض المعلومات التاريخية الجغرافية للصومال ثم نبين طبيعة الصراع الدائر علي أرضها حاليا.تتكون الصومال التاريخية من خمسة أجزاء يرمز لها بنجمة خماسية علي العلم الصومالي وقد انسلخت ثلاثة منها قبل إعلان الاستقلال عام 1960م نهائيا وذلك علي النحو التالي:1- الصومال الإيطالي: المعروف باسم (صوماليا) جنوب ووسط الصومال وعاصمته (مقديشيو) وقد احتلته إيطاليا في عام 1889م ثم حصل علي استقلاله عنها في شهر يوليو 1960م .2- الصومال الفرنسي: أرض (العفر وعيسي) وهو الجزء الصغير الذي يطل علي مضيق باب المندب في أقصي الشمال الغربي وقد احتلته فرنسا عام 1884م ثم حصل علي الاستقلال عام 1977م وأعلن نفسه دولة مستقلة تحت اسم (جيبوتي).3- الصومال البريطاني: المعروف باسم (صومالي لاند) أو (أرض الصومال) في شمال غربي البلاد وقد احتلته إيطاليا عام 1869م ثم حصل علي الاستقلال في شهر يونيو عام 1960م وعاصمته (هرجيسا).4- الصومال الغربي: أو إقليم (أوجادين) وقد ضمته بريطانيا إلي إثيوبيا نهائيا عام 1954م.5- إقليم جنوب غربي الصومال: وعاصمته (غارين) وقد ضمته بريطانيا إلي كينيا رسميا عام 1963م ويعرف باسم إقليم (إنفد) (ENFD) وهو اختصار لاسم (المقاطعة الشمالية الشرقية) وذلك بالنسبة لكينيا، وهو من أخصب المناطق للزراعة والرعي .وقد انسلخت ثلاثة أجزاء من الصومال الكبير أو الصومال التاريخي هي (جيبوتي) التي أعلنت استقلالها.. والصومال الغربي الذي تحتله إثيوبيا.. وإقليم جنوب غرب الصومال الذي تحتله كينيا..(1/69)
ولكن في المقابل اختار شمال الصومال وجنوبه المستقلان عن بريطانيا وإيطاليا الوحدة معًا في نفس عام استقلالهما وأسسا (جمهورية الصومال) وعاصمتها (مقديشيو) وظلت هذه الدولة المتحدة تعاني الكثير من المشاكل والعقبات شأن أي دولة وليدة حتي اغتيل رئيسها (محمد علي شارماكي) في عام 1969م علي يد أحد مرافقيه.. فقام القائد الأعلي للجيش في ذلك الوقت الجنرال (محمد زياد بري) بانقلاب عسكري تسلم علي أثره السلطة ورئاسة الدولة حيث أعلن النظام الاشتراكي الماركسي وخاض حربًا ضروسًا ضد أثيوبيا لاستعادة إقليم (أوجادين) عام 1977 - 1978م ولكنه فشل في تحقيق ذلك ونتيجة لذلك.. ولاستبداد الرئيس بالحكم.. ولوجود خلافات قبلية واستئثار قبائل الجنوب من (المريحان) بمراكز السلطة علي حساب قبائل الشمال من (المجرتين) (الإسحاقي) فقد وقع انقلاب مسلح ضده قام به الجنرال (محمد فارح عيديد) وذلك في عام 1991م أي بعد 22 عامًا من حكم الرئيس (محمد زياد بري) واختار (المؤتمر الصومالي) (علي مهدي محمد) رئيسًا مؤقتًا للصومال واختار (عمر غالب عرتة) رئيسًا للوزراء ثم برز الخلاف مجددًا داخل حركة المؤتمر بين جناحي (علي مهدي) و (فارح عيديد) وبدأت معه تداعيات حرب الإخوة الأعداء وبدأت الحرب الأهلية بين رفاق السلاح الواحد .. ومنذ هذه اللحظة انزلقت البلاد إلي حرب أهلية مازالت مستمرة حتي اليوم.. ولما رأت (الحركة الوطنية الصومالية) في الشمال المصير الذي ينتظرها بالانجراف في تلك النيران المشتعلة قررت في مايو من العام نفسه أي عام 1991 استرجاع استقلالها الذي كانت قد حصلت عليه من بريطانيا عام 1960م قبل ستة أيام فقط من اتحادها مع الجزء الجنوبي (الصومال الإيطالي) وتشكيلهما (دولة الصومال)..(1/70)
وقد استعادت ذلك الاستقلال تحت مسمي جمهورية (أرض الصومال) وعاصمتها (هرجيسا) وانتخب (محمد إبراهيم عقال) أول رئيس لها، ويبلغ عدد السكان فيها حوالي ثلاثة ملايين ونصف نسمة ينتمي معظمهم إلي قبائل (الإسحاقي) وهم عرب هاشميون ترجع أصولهم للجزيرة العربية.. ومنذ ذلك الوقت تعيش (أرض الصومال) في هدوء واستقرار نسبيين بينما تدور رحي الحرب الأهلية بين الفصائل المتناحرة في الجزء الجنوبي من دولة الصومال وعاصمته (مقديشيو).وفي يوليو 1991م قامت جمهورية (جيبوتي) بعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية أقر (علي مهدي محمد) رئيسًا مؤقتًا للصومال.. وفي نفس الوقت وعلي صعيد التنازع علي السلطة تمكن الجنرال (محمد فارح عيديد) من تشكيل تحالف من بعض الفصائل ناصب الرئيس (علي مهدي محمد) العداء.وفي عام 1997م عُقد اجتماع في القاهرة بين الفصائل المتناحرة وانْتُخبت حكومة قومية رفضتها منطقة (بونت لاند) وأعلنت استقلالها عن الصومال من جانب واحد.وفي أغسطس عام 2000م عادت جيبوتي مرة أخري فعقدت مؤتمرًا للمصالحة الوطنية بمدينة (عرتة) تمخض عن اختيار أول حكومة منذ الإطاحة بالرئيس (محمد زياد بري) عام 1991م، وانتخاب الدكتور (عبدي قاسم صلاد) ذي التوجهات الإسلامية رئيسًا مؤقتًا للصومال خلفًا للرئيس (علي مهدي محمد) وذلك بمساندة دولية ودعم شعبي صومالي.. وفي الوقت الذي أيدت فيه مصر وليبيا وبقية الدول العربية الأخري نتائج مؤتمر (عرتة) فإن إثيوبيا وكينيا علي وجه الخصوص عارضتا نتائج ذلك المؤتمر وتبنتا موقفًا عدائيا منه مما شجع عددًا من زعماء الحرب وقيادات الفصائل المسلحة علي رفض نتائجة ومناصبته العداء.* وفي يناير عام 2002م قامت كينيا بعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية تحت رعاية منظمة (الإيجاد) كان من توصياته عقد جمعية وطنية انتقالية تنتخب رئيسًا مؤقتًا للبلاد..(1/71)
وبالفعل في أكتوبر 2004م تم اختيار (عبد الله يوسف) الذي كان رئيسًا لإقليم (بونت لاند) قبل انتخابه رئيسًا للصومال والمعروف بعلاقاته الوثيقة مع واشنطن وإثيوبيا.. خلفًا للرئيس (عبدي قاسم صلاد) وقد قام في نوفمبر 2004م بتعيين (علي محمد جيدي) رئيسًا للوزراء وما زالت هذه الحكومة هي القائمة حتي الآن وتتخذ مدينة (بيدوا) في جنوب الصومال مقرّا لها.
أطراف الصراع
** ما القوي المتقاتلة أو المتداخلة في الصراع في الصومال؟* منذ سقوط (زياد بري) في 1991م إلي الوقت الحاضر لم يتوقف الصراع يومًا في الصومال ولم توجد حكومة مركزية ذات قاعدة شعبية عريضة ولم تنقطع المبادرات التي تنادي بالمصالحة.. وقد عقد لهذا الغرض 14 مؤتمرًا باستضافة إثيوبيا وكينيا بالإضافة إلي مؤتمر في القاهرة عام 1997م ومؤتمر (عرته) في جيبوتي عام 2000م.وطوال فترة ذلك الصراع كان هناك ثلاث حلقات من القوي المتناحرة أو المتداخلة في الصراع الصومالي علي النحو التالي:1- قوي صومالية: داخل الصومال وهي المحاكم الإسلامية، والتحالف ضد الإرهاب، والحكومة الانتقالية.2- قوي إقليمية: في منطقة القرن الإفريقي وهي إثيوبيا وكينيا وجيبوتي.3- قوي دولية: خارج منطقة القرن الإفريقي وهي أمريكا وإسرائيل.. وسوف نتناولها في إيجاز كما يلي:
أولا: القوي الصوماليةالمحاكم الإسلامية(1/72)
ما المحاكم الإسلامية؟* تقوم فكرة المحاكم الإسلامية علي قيام كل قبيلة بمهام حفظ الأمن والقضاء علي الفوضي في محيطها عن طريق إنشاء محكمة يرأسها أحد العلماء الشرعيين تساعده مجموعة من القوات العسكرية غير النظامية أو ما يعرف باسم الميليشيات، وتستند إلي أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية وتضم المحاكم الشرعية مجموعة متنوعة من علماء الدين والقادة العسكريين ورجال الميليشيات ورجال الأعمال الذين ينفقون عليها ويمولون أنشطتها.ومتي كان ظهور المحاكم الإسلامية؟ وكيف تم إنشاؤها؟ظهرت المحاكم الإسلامية لأول مرة عام 1991م بعد الإطاحة بحكم الرئيس (محمد زياد بري) وانتشار الفوضي والقتال بين الجماعات المسلحة حين حاول العالم الأزهري الصومالي الشيخ (محمد معلم حسن) إنشاء محكمة شرعية جنوب العاصمة (مقديشيو) للفصل بين المتخاصمين بالاحتكام إلي الشريعة الإسلامية.. إلا أن الجنرال (محمد فارح عيديد) الذي كان يسيطر علي جنوب العاصمة في ذلك الوقت أحبط هذه المحاولة لأنه اعتبرها محاولة لإضعاف قوته.وفي عام 1994م تم تأسيس محكمة شرعية بالشطر الشمالي من العاصمة وعُين الشيخ (علي محمود طبري) رئيسًا لها وقد استطاعت بسط نفوذها وفرض الأمن والاستقرار في أجزاء واسعة من شمال العاصمة.. ومرة أخري شعر زعيم الحرب القوي آنذاك (علي مهدي محمد) والذي كان يسيطر علي شمال العاصمة بالخطر علي نفوذه فدخل معها في صراع استطاع في نهايته القضاء عليهاوإلغاءها .ولكن في نفس العام عادت فكرة إنشاء المحاكم الشرعية مرة أخري.. ومنذ ذلك الحين تتابع ظهور المحاكم الإسلامية.هل نجحت المحاكم الإسلامية في البقاء والاستمرار هذه المرة؟في الحقيقة فإن المحاكم الإسلامية كانت دائمًا تصطدم بأعداء لا يريدون لشرع الله أن يسود ولا للقوانين الإسلامية أن تظهر وتعلو..(1/73)
لذلك ففي عام 2001م وبعد وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر مارست أمريكا ضغوطًا كبيرة علي الحكومة الانتقالية للصومال لإلغاء تلك المحاكم بزعم ارتباطها بجماعة (الاتحاد الإسلامي) الصومالية التي تتهمها أمريكا بالإرهاب.. وتحت تأثير الضغوط الأمريكية قامت الحكومة الانتقالية بحل المحاكم الإسلامية وقامت بضم رؤساء المحاكم من العلماء الشرعيين إلي الجهاز القضائي الحكومي بينما ضمت الميليشيات المسلحة التابعة لها إلي جهاز الشرطة.ونتيجة لغياب المحاكم الإسلامية عادت الأوضاع للتدهور من جديد وانفجرت أعمال العنف والسلب وقطع الطرق مرة أخري وفشلت الحكومة الانتقالية في بسط سيطرتها علي البلاد مما جعل القبائل المتناحرة تقر بضرورة إعادة العمل بنظام المحاكم مرة أخري.. وقد تم ذلك في عام 2004م حيث عادت المحاكم للظهور مرة ثانية.وماذا كانت نتيجة عودة المحاكم هذه المرة؟نجحت المحاكم في إعادة الأمن والاستقرار النسبيين مرة أخري.. وفي عام 2005م تم تأسيس (المجلس الأعلي لاتحاد المحاكم الإسلامية) بمقديشيو والذي ضم اثنتي عشرة محكمة وانتخب العالم الشيخ (شريف شيخ حسن) رئيسًا له.. وبعد اتحادها بدأت المحاكم الإسلامية في تنفيذ عمليات مشتركة ضد العصابات الإجرامية المسلحة بعدد من أحياء العاصمة مما أدي إلي انتشار الأمن وعودة الهدوء إليها.وهل هناك محاكم إسلامية أخري غير الموجودة في العاصمة (مقديشيو)؟ وما حجم الميليشيات التابعة للمحاكم الإسلامية؟نعم هناك الكثير من المحاكم الإسلامية التي أُنْشِئت في طول البلاد وعرضها كما ذكرت علي أسس قبلية ولكنها لم تشارك بعد في (اتحاد المحاكم الإسلامية) لظروف الاضطرابات الأمنية وصعوبة التواصل بين أطراف البلاد.. وتقدر مصادر غير رسمية عدد أفراد الميلشيات العاملة تحت مظلة (اتحاد المحاكم الإسلامية) بأكثر من خمسة الاف مقاتل مسلح كثير منهم من الشباب المتدين الملتزم..(1/74)
إلا أن مسئولي المحاكم لا يعطون رقمًا محددًا لأعداد تلك القوات مكتفين بقولهم أن هذه القوات متطوعة حيث إن الكثير من الشباب يقاتلون إلي جانب قوات المحاكم ثم يعودون إلي بيوتهم وأعمالهم بعد انتهاء القتال.وما أسباب ذلك التأييد الشعبي الجارف للمحاكم الشرعية؟تحظي المحاكم الإسلامية في مقديشيو بنفوذ كبير ومصداقية عالية بين الصوماليين وذلك لعدة أسباب منها فشل زعماء الحرب في نشر الأمن واستقرار النظام حتي في الأماكن الخاضعة لنفوذهم وذلك في الوقت الذي تتمتع فيه المناطق التي تسيطر عليها المحاكم الإسلامية بالاستقرار والأمن وانعدام عمليات القتل والسلب وقطع الطرق والاختطاف.. وحتي في حالة حدوث أي من هذه الجرائم فإن المحاكم الشرعية قادرة علي ملاحقة المعتدين واعتقالهم وعقابهم.ولكن ما السبب في ظهور أخبار تلك المحاكم الإسلامية في الإعلام حاليا بذلك الشكل المكثف وغير المسبوق منذ إنشائها؟لقد تم تسليط الضوء علي المحاكم الإسلامية بالتحديد بدءًا من شهر فبراير عام 2006م عندما تم الإعلان عن إنشاء تحالف مضاد ومعادٍِ لها هو (التحالف من أجل إعادة السلام ومحاربة الإرهاب) الذي تدعمه الولايات المتحدة بالمال والسلاح وأنشيء من بعض أمراء الحرب خصيصًا للتصدي للمحاكم الإسلامية والقضاء عليها تحت زعم محاربة الإرهاب.وهل هناك حركات أو جماعات إسلامية أخري في الصومال غير المحاكم الإسلامية؟بداية.. فإن المحاكم الإسلامية لا تمثل الحركة الإسلامية في الصومال.. وإنما هي كيانات دينية سياسية أمنية أُنْشِئَتْ بغرض محدد وهو إعادة الأمن والاستقرار للمناطق التي مزقتها الحروب والصراعات بين الفصائل المتناحرة من خلال الاحتكام إلي الشريعة الإسلامية..(1/75)
فالصومال لم تعرف ظاهرة الحركات أو الجماعات الإسلامية بشكل بارز وفاعل إلا بعد سقوط نظام (زياد بري) واندلاع الحرب الأهلية في البلاد عام 1991م ومن أهم هذه الجماعات:1- جماعة أنصار السنة: وتعتبر من أقدم الجماعات الإسلامية التي تدعو إلي تصحيح عقيدة التوحيد.2- جماعة التبليغ والدعوة: وتسعي إلي تعليم الأفراد أصول الدين الإسلامي من خلال العمل الميداني في المدن والقري والنجوع ومن مبادئها الأساسية عدم الخوض في الأمور السياسية.3- الطريقة القادرية: وتُعَدّ من أقدم الطرق في دعوتها الصوفية في أفريقيا عامة وفي المناطق الجنوبية من الصومال خاصة. وتركز علي رعاية أنصارها وإعدادهم إعدادًا روحيا لفهم تعاليم الإسلام.4- مجمع علماء الإسلام: يضم مجموعة من العلماء ورجال الدين البارزين في البلاد ويعمل علي توحيد الجماعات الإسلامية في الصومال بصرف النظر عن توجهاتها.. ويشرف ذلك المجمع علي عدد كبير من المساجد والمدارس الإسلامية ويصدر الفتاوي الشرعية فيما يعرض عليه من أمور.5- الحركة الإصلاحية الإسلامية: وتتميز بمشاركتها في مختلف الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في البلاد.. وتهتم خاصة بإعداد الكوادر ودفعها لتولي مسئولية العمل في مختلف الميادين.6- حركة الاتحاد الإسلامي: تعتبر تلك الحركة من أقوي وأقدم الحركات اعتمادًا للقوة العسكرية كأداة للتعامل مع النظام السياسي والمناوئين لها.. وتستمد هذه الحركة قوتها من اتساع انتشارها في أنحاء البلاد وانضواء عناصر من مختلف القبائل تحت لوائها..وهناك عدد من الحركات والتنظيمات الإسلامية الأصغر شأنًا والأقل قوة وانتشارًا في الصومال مثل (حركة وحدة الشعب الإسلامي) و(حزب الله الإسلامي) و(تحالف القبائل الإسلامية الموحدة) و(المسلمون المستقلون).
التحالف(1/76)
وما (التحالف من أجل إعادة السلام ومحاربة الإرهاب) وكيف ومتي أنشيء؟هو تجمع من بعض زعماء الحرب في الصومال وبعض قادة الميليشيات المسلحة وبعض رجال الأعمال المستفيدين من استمرار الحرب .. ظهر علي ساحة الصراع في الصومال في فبراير عام 2006م بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية ليكون تنظيمًا مناوئًا لميلشيات (اتحاد المحاكم الإسلامية) التي كانت تسيطر حتي ذلك الوقت علي ما يقرب من 80% من العاصمة (مقديشيو) واتخذ من حي (داينيل) بجنوب مقديشيو مقرًا له.وما أهداف ذلك التحالف؟أعلن التحالف عن أهدافه صراحة منذ اليوم الأول لظهوره بأنها استعادة الأمن والاستقرار في العاصمة وغيرها من المدن الصومالية ومكافحة الإرهاب والقبض علي الإسلاميين المتطرفين سواء من الصوماليين أم الوافدين من الخارج وإلحاق الهزيمة بالجهات الصومالية (المحاكم الإسلامية) التي تؤوي وتوفر الملاذ الآمن لهؤلاء الأجانب المعادين للصومال.ومن هم زعماء ذلك التحالف؟من أبرز زعماء ذلك التحالف أربعة وزراء في الحكومة الانتقالية المؤقتة هم (محمد قنيري أفرح) وزير الأمن و(موسي سودي بلاحو) وزير التجارة و(عمر محمود فينيش) وزير الأوقاف والشئون الدينية و(بوتان عيسي) وزير إعادة تأهيل الميليشيات.. ويضاف إليهم العقيد (عيدي حسن عوالة) قائد ميليشيات الجنرال (فارح عيديد) في حربه ضد القوات الأمريكية ورجل الأعمال (بشير راجي شيرار) الذي كان يمول الحرب الأهلية لصالح (علي مهدي محمد).(1/77)
وما الاتهامات التي وجهها ذلك التحالف للمحاكم الإسلامية؟وجه زعماء التحالف إلي اتحاد المحاكم الإسلامية اتهامات بأنه يؤوي عناصر إرهابية علي صلات بتنظيم القاعدة وأنه الجهة المسئولة عن نقل هذه العناصر إلي البلاد وحمايته لبعض المتورطين في الهجمات الإرهابية علي السفارة الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا عام 1998م والتي أسفرت عن مقتل 224 شخصًا وكذلك في الهجوم علي أحد الفنادق الكينية التي تستقبل سياحًا إسرائيليين والذي ثبت أنه مقر للموساد الإسرائيلي في مدينة (مومباسا) الكينية عام 2002م والذي أسفر عن قتل ثمانية عشر شخصًا.. وذلك بالإضافة إلي ذلك الهجوم الذي تم فيه إطلاق صاروخين أرض جو من طراز (ستريللا) تجاه طائرة إسرائيلية أثناء إقلاعها من المدينة نفسها.وماذا كان رد اتحاد المحاكم الإسلامية علي تلك الاتهامات؟بداية: ردت المحاكم الإسلامية علي تلك الاتهامات بأن قيادات التحالف قد تلقت أموالا طائلة من الولايات المتحدة الأمريكية وأنها تتعاون مع الاستخبارات الأمريكية بهدف القضاء علي المحاكم الإسلامية.. وذلك إضافة إلي قيام أعضاء التحالف بشكل مباشر في اغتيال وخطف وتسليم بعض الإسلاميين إلي دول أجنبية مثل أمريكا وإثيوبيا.ولماذا لم تتدخل أمريكا في الصومال تدخلاً عسكريا مباشرًا كما فعلت في أفغانستان والعراق؟لم تنس أمريكا بعد مرارة العمليات العسكرية في الصومال والتي انتهت بخروج مخزٍ ومهين للقوات الأمريكية منها عام 1993م.. لذلك فإن القادة العسكريين في أمريكا اختاروا تطبيق ما فعلوه في أفغانستان مرة أخري في الصومال وذلك من خلال التحالف مع ميليشيات عميلة تشتريها بالمال لتحارب نيابة عنها وتحقق لها أهدافها دون أن تخسر جنديا أمريكيا واحدًا ودون أن تلقي بنفسها مرة ثانية في المستنقع الصومالي.(1/78)
وماذا كان مصير الصراع بين المحاكم الإسلامية والتحالف ضد الإرهاب؟في الحقيقة لقد فشلت أمريكا في ذلك الاختيار الذي نجح سابقًا في أفغانستان فشلاً ذريعًا.. فقد اكتسحت المحاكم الإسلامية ذلك التحالف العميل لأمريكا اكتساحًا باهرًا وانتصرت عليه انتصارًا مؤزرًا بالرغم من البساطة الشديدة في إمكانياتها وتنظيمها وتسليحها.. فبعد أن نجحت في السيطرة الكاملة علي العاصمة (مقديشيو) اتجهت إلي مدينة (بيلدوين) فاستولت عليها ثم أكملت طريقها حتي استولت علي مدينة (جوهر) الاستراتيجية التي تؤدي مباشرة إلي إقليم أوجادين المحتل من قبل إثيوبيا والتي كانت الملجأ الأخير لقيادات التحالف ضد الإرهاب.وكانت النتيجة أن خرج وزير الأمن في الحكومة المؤقتة وأحد زعماء التحالف (محمد قنيري أفرح) ليعلن هزيمة التحالف وانتهاء وجوده علي أرض الصومال ويعلن توبته وندمه علي ما بدر منه في حق المحاكم الإسلامية والشعب الصومالي.. كذلك فقد فرَّ بقية قيادات ذلك التحالف إلي جهات غير معلومة.
ثانيا: القوي الإقليمية
هناك ثلاث دول متداخلة في الصراع علي أرض الصومال بشكل مباشر لكل منها ظروف خاصة وأهداف محددة:
إثيوبيا(1/79)
تسعي أثيوبيا في اتجاه التفتيت واحتدام الصراع بين الفصائل الصومالية تساندها القوي الغربية الصليبية وعلي رأسها أمريكا.وتشير الشواهد إلي أن أثيوبيا ظلت طوال فترة الرئيس (عبدي قاسم صلاد) ذي التوجهات الإسلامية من عام 2000م إلي 2004 تناصبه العداء وتدعم الفصائل المعارضة له.أما في الفترة الحالية فإن الحكومة الأثيوبية تدعم الحكومة الصومالية الانتقالية برئاسة (عبد الله يوسف) الموالية لها والتي تتخذ من مدينة (بيدوا) مقرًا لها.. والعداء بين إثيوبيا والصومال قائم منذ قرون وذلك نتيجة الاختلاف في الدين والصراع علي الأرض.. وكان بين الدولتين حروب سجال.. وقد نجحت الحكومتان السابقتان في الصومال برئاسة (محمد زياد بري) وفي إثيوبيا برئاسة ( مانجستو هايلي) في إسقاط كل منهما الأخري نتيجة هذه الحروب.وكانت إثيوبيا قد قامت بغزو عسكري لجنوب الصومال سيطرت فيه علي ثلاث مناطق ثم خرجت منها.ومن العجيب أنه ومع أوائل وبدايات المشكلة الصومالية كلفت (منظمة الوحدة الإفريقية) إثيوبيا بمسئولية رعاية المصالحة الصومالية وعقدت لهذا الغرض عدة مؤتمرات في العاصمة (أديس أبابا) لم تنجح جميعها ولم تثمر وكان الصوماليون يتساءلون في تعجب.. كيف يمكن لإثيوبيا أن تكون الراعية للمصالحة في الصومال وهي العدو الذي اغتصب أراضيه ويخطط لتدميره وتفتيته؟!!!وما الأهداف الإثيوبية من تدخلها في الصراع الصومالي؟ في الحقيقة أن إثيوبيا لها مجموعة من الأهداف المحددة في الصومال علي النحو التالي:1- أن تعيد تقسيم الصومال إلي خمسة أقاليم لكل منها سيادته وإدارته الخاصة وذلك تحت ظل جمهورية صومالية فيدرالية.. وأن يتنازل الصوماليون عن مطالبتهم باستعادة إقليم أوجادين المغتصب من إثيوبيا..2- العمل علي ألا تصبح الصومال دولة قوية تكون منافسة لها في القرن الإفريقي والعمل علي منع تواصلها مع السودان حتي لا يوجد في القرن الإفريقي حكومتان إسلاميتان قويتان.(1/80)
3- أن يكون علي رأس الدولة الصومالية أحد عملائها المقربين حتي يتسني لها تنفيذ أطماعها ومنها إنشاء أو تخصيص ميناء لإثيوبيا علي الساحل الصومالي، وفي هذا المجال فإن الرئيس (عبد الله يوسف) الرئيس الحالي المؤقت للصومال هو أقربهم لها من بين الساسة والزعماء الصوماليين.4- الحد من جميع الأنشطة الدينية الإسلامية في الصومال حتي أن الرئيس الإثيوبي (ملس زيناوي) قال: (لابد من تغيير مناهج التعليم في الصومال وإلا ستصبح طالبان جديدة في القرن الإفريقي).
كينيا(1/81)
وما طبيعة العلاقة بين كينيا والصومال؟علاقة كينيا مع الصومال في الظاهر علاقة عادية بالمفهوم السياسي فليس هناك حروب بين الدولتين.. وبالرغم من أن كينيا تحتل جزءًا من أراضي الصومال هو أقليم (ENFD) (إنفد) إلا أن الخلاف بينهما لم يصل إلي حد المواجهة العسكرية وقد استضافت كينيا في فترات سابقة عدة مؤتمرات للمصالحة والوفاق بين زعماء الحرب في الصومال إلا أنها لم تنجح ولم تثمر باستثناء المؤتمر الأخير الذي عقد في العاصمة (نيروبي) عام 2004م وكان من نتائجه وصول الرئيس (عبد الله يوسف) إلي رأس الدولة.. وما مصالح وأهداف (كينيا) من وراء الصراع في الصومال ؟لكينيا مصالح وأهداف تتوافق مع إثيوبيا.. وتكمن أسباب التدخل الكيني الإثيوبي في الصراع الصومالي لرغبة كل من الدولتين في الآتي:1- المحافظة علي المكاسب التي حصلتا عليها من الصومال وهي احتفاظ إثيوبيا بإقليم (الأوجادين) واحتفاظ كينيا بإقليم (إنفد) الصوماليين.2- إضعاف الحكومة المركزية الصومالية فلا تشكل منافسة لهما كقوي إقليمية مؤثرة.3- سلخ الصومال عن محيطه العربي والإسلامي علي اعتبار أن كلتا الدولتين المسيحيتين تخشيان من تواصل الصومال المسلم مع كل من دول شبه الجزيرة العربية من ناحية ودول الشمال الإفريقي خاصة مصر والسودان من ناحية أخري.ومن هنا فقد رفعت كل من إثيوبيا وكينيا وتحديدًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر شعار مكافحة الإرهاب في الصومال.. والمقصود بذلك طبعًا هو كل المنظمات والجماعات الإسلامية في الصومال.
جيبوتي(1/82)
وماذا عن دور جيبوتي في الصراع علي أرض الصومال؟جيبوتي دولة عربية مسلمة ملاصقة للصومال يرأسها الرئيس (إسماعيل عمر جيل) الذي قدم عام 1999م مبادرة سميت باسمه للمصالحة بين الصوماليين.. وفي عام 2000م انعقد مؤتمر أثمر عن تشكيل أول حكومة صومالية منذ الإطاحة بنظام (محمد زياد بري) عام 1991م. حظيت باعتراف العالم وترأسها (عبدي قاسم صلاد) الوزير السابق في حكومة (زياد بري) والمعروف بتوجهه الإسلامي. وتعتبر جيبوتي الدولة العربية المسلمة جارة وشقيقة لدولة الصومال ولديها نوايا طيبة تجاهها لأن من مصلحتها أن تكون دولة الصومال قوية تستأنس بها وسندًا لها. ولولا صغر مساحة جيبوتي وقلة سكانها وضعف حجمها السياسي في القرن الإفريقي لنجحت مبادرتها ولاستطاعت انقاذ الصومال من محنته.
ثالثًا القوي الدولية
هناك قوتان دوليتان لهما تدخل مباشر في الصراع الصومالي لتحقيق أهداف محددة:
أمريكا(1/83)
تري أمريكا أن المشهد الصومالي يكاد يقترب إلي حد كبير من سابقه في أفغانستان خاصة الفترة التي مهدت لظهور حركة طالبان حيث ساد الصراع بين الفصائل المتناحرة والجماعات المسلحة وغاب فيه الأمن والاستقرار وهو الذي مهد السبيل إلي ظهور ما يعرف باسم (المحاكم الإسلامية) التي خرجت إلي النور عام 1991م بعد إنهيار نظام (زياد بري).وبعد وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر مارست واشنطن ضغوطًا كبيرة علي الحكومة الانتقالية لإلغاء تلك المحاكم بزعم ارتباطها بجماعة (الاتحاد الإسلامي) التي تتهمها أمريكا بالإرهاب.. لذلك فقد خرجت مجلة النيوزويك الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 26 / 11 / 2001م لتعرب عن توقعها أن يكون الصومال هو الهدف التالي للغزو الأمريكي بعد أفغانستان؛ غير أن غرق أمريكا في المستنقع العراقي أَجّل إلي نحو كبير الحملة الأمريكية علي الصومال والتي بدأت تظهر مجددًا بعد ترتيب الأوضاع في دارفور بإجبار الحكومة السودانية علي توقيع اتفاق تسوية مع متمردي الحرب والسماح بوجود قوات دولية هناك..ولكن ما أهمية الصومال بالنسبة لأمريكا؟تمثل منطقة القرن الإفريقي عامة ودولة الصومال خاصة بالنسبة إلي أمريكا أهمية استراتيجية كبيرة علي النحو التالي:1- تقع الصومال في الطرف الجنوبي للبحر الأحمر علي خليج عدن ومضيق باب المندب وهو خط مرور القوافل حاملات النفط العملاقة القادمة من الخليج العربي إلي أوروبا وأمريكا.. ولكي تتحكم أمريكا في الطاقة النفطية في العالم فإنها يجب أن تسيطر علي عنصرين.. الانتاج والنقل.. والانتاج يكمن في دول الخليج العربي وقد سيطرت عليها أمريكا بشكل كامل.. أما النقل فإنه من الممكن أن يتعرض لمخاطر عظيمة عند خليج عدن ومضيق باب المندب إذا سيطر عليهما أعداء لها.. لذلك فإن السيطرة عليهما تشكل مسألة حياة أو موت لشريان الطاقة البترولية المتدفق من الخليج إلي أوروبا وأمريكا.(1/84)
ومن المعلوم أن معظم ناقلات النفط العملاقة عندما تبحر من الخليج العربي إلي أوروبا وأمريكا فإنها لا تمر بمضيق باب المندب لأن عمق الغاطس في قناة السويس لا يتحمل ثقلها وحمولتها.. لذلك فإنها تمر بالموانئ الصومالية ثم تدور حول رأس الرجاء الصالح إلي أوروبا وأمريكا.. أما في رحلة العودة إلي الخليج العربي فإنها تكون فارغة فتمر من قناة السويس ومضيق باب المندب لتختصر المسافة حول رأس الرجاء الصالح.2- شهدت منطقة القرن الأفريقي خلال العقد الأخير نشاطًا ملحوظًا للحركات الإسلامية التي يمكنها حال نجاحها في الوصول إلي الحكم أن تكون تكرارًا لنظام طالبان في أفغانستان وفي إيجاد ملاذ آمن لتنظيم القاعدة وفي ضرب المصالح الأميركية في مقتل بتهديد أو وقف مرور حاملات النفط أو بضرب مصالحها الاقتصادية في شرق إفريقيا كما حدث في تفجيرات كينيا وتنزانيا.3- تعتبر الصومال البوابة الشرقية لتواصل الإسلام والمسلمين مع قلب القارة الأفريقية.. لذلك تحرص أمريكا حرصًا شديدًا علي أن تقضي علي أي حركات إسلامية فيها وأن تُنَصِّب حكومات عميلة تكون سدًا منيعًا أمام التواصل بين العرب والمسلمين مع شرق أفريقيا.. وذلك بعد أن نجحت أمريكا في إقامة سد منيع آخر في جنوب السودان.. وهذان السدان بالإضافة إلي سد ثالث هي الحبشة يمثلون جميعًا حاجزًا منيعًا أمام تواصل العرب والمسلمين من الشمال والشرق مع قلب أفريقيا.4- تعتبر الحبشة وكينيا وجنوب السودان من أهم المنابع التي تغذي نهر النيل بالمياه وفي حالة التحكم في تلك المنابع بالإضافة إلي بقية المنابع في أوغندا ودول منابع النيل الأخري فإن أمريكا تقبض علي عنق الأمن القومي لمصر والسودان وتهدد بضربهما في مقتل إن لم تنصاعا للهيمنة الأمريكية.(1/85)
** وماذا فعلت أمريكا لتنفيذ مخططاتها في شرق أفريقيا والصومال؟* يتكون القرن الأفريقي من خمس دول هي الصومال وجيبوتي وإريتريا وكينيا وإثيوبيا وقد نجح الغرب الصليبي في تنصيب حكومات مسيحية علي رأس كينيا وإريتريا وإثيوبيا بالرغم من أن أغلبية سكان هذه الدول من المسلمين.. أما فيما يتعلق بجيبوتي فقد نجح الأمريكان في إقامة القاعدة العسكرية الوحيدة لهم في أفريقيا فيها وهي تتحكم في مضيق باب المندب من الجهة الغربية.. وأخيرًا ففيما يتعلق بالصومال فإن أمريكا عملت علي حصار (اتحاد المحاكم الإسلامية) تمهيدًا لضربه والقضاء عليه.** وماذا كانت نتيجة هذه السياسة في الصومال؟* حتي الآن كان الفشل الذريع من نصيب تلك السياسة.. فقد حقق اتحاد المحاكم الإسلامية انتصارات ساحقة علي قوات التحالف أدت إلي خروج جميع زعمائه وأمرائه بقواتهم المسلحة من العاصمة مقديشيو بالكامل وفقدانهم لجميع مراكزهم وتحصيناتهم وقواعدهم العسكرية ومطاراتهم في العاصمة ثم في مدينة جوهر الاستراتيجية ثم فرارهم واعترافهم بالهزيمة وبإنتهاء التحالف.
إسرائيل(1/86)
تنظر إسرائيل إلي أفريقيا عامة ومنطقة القرن الأفريقي خاصة من منطلقين:الأول: ترسيخ أقدامها في تلك القارة الغنية بمواردها الطبيعية باعتبارها سوقًا واعدة للاستثمارات والصناعات العسكرية والتجارية الإسرائيلية.الثاني: حصار العالم العربي وتهديد أمنه القومي لإجباره علي الانصياع للهيمنة والمخططات الإسرائيلية.. لذلك فإن إسرائيل قد سارت في طريقين:الأول:الاهتمام الاستراتيجي بمنطقة مضيق باب المندب والذي يشكل أهمية حيوية لوصول السفن الإسرائيلية من ميناء إيلات وخليج العقبة عبر البحر الأحمر إلي نصف الكرة الجنوبي في أفريقيا وجنوب آسيا.. وحتي لا يتكرر ما حدث في حرب رمضان - أكتوبر 1973م عندما نجحت البوارج والمدمرات المصرية من إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن التجارية والعسكرية الإسرائيلية، بل يزيد علي ذلك أن ينقلب الحال فتصبح إسرائيل هي المسيطرة علي ذلك المضيق لتضع الأمن القومي لمصر والدول العربية المطلة علي البحر الأحمر وهما مصر والسودان والأردن والسعودية واليمن تحت رحمة التهديدات الإسرائيلية بإغلاقه أمامها.. لذلك فقد عمدت إسرائيل منذ عقود طويلة إلي تدعيم علاقاتها وتعزيز تواجدها في دول القرن الأفريقي والمطلة علي مضيق باب المندب من خلال تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية لإثيوبيا وإريتريا وكينيا وجيبوتي.. وتطمع إسرائيل حاليا في الوصول إلي بسط نفوذها في الصومال من خلال تنصيب حكومات عميلة وحليفة لها فيه علي غرار إريتريا وإثيوبيا وكينيا ومن خلالها.(1/87)
الثاني: التحرك في دول حوض النيل لتهديد الأمن المائي لمصر والسودان وذلك بتحريض دول منابع النيل علي المطالبة بنصيب أكبر من مياهه كأسلوب عدائي للضغط علي مصر والسودان وتهديد المشروعات الزراعية فيهما مثل مشروع توشكي وترعة السلام في مصر والدعم المستمر لإقامة السدود والمنشآت المائية والمشروعات الزراعية في دول حوض النيل خاصة إثيوبيا لتقليل الحصة المائية المتاحة لمصر والسودان.وقد نجحت إسرائيل نجاحًا ملحوظًا في الحضور الدائم والتأثير الفاعل في كل دول القرن الإفريقي باستثناء الصومال.. فإسرائيل لها وجود قوي وعلاقات وطيدة ووثيقة مع النظم الحاكمة في كل من إثيوبيا، وإريتريا وكينيا وجيبوتي.. لذلك فقد أصبحت الصومال هي الحلقة المفقودة الباقية لإسرائيل لتحكم قبضتها علي منطقة القرن الأفريقي بالكامل وتحقق مخططاتها فيها إلي نهايتها.. والرؤية الاستراتيجية لإسرائيل في ذلك الأمر أن تخترق الصومال من خلال دعم نفوذ تلك الدول الحليفة لها وخاصة إثيوبيا وكينيا في تقرير المصير الصومالي بشكل مكثف ومتزايد.. وهذا مانراه حاليا.ولكن أين الدول العربية والإسلامية من الصراع في الصومال؟في الحقيقة أن الدول العربية والإسلامية تجسد بصدق مقولة (الحي الميت) أو (الحاضر الغائب).. فبالرغم من أن الصومال تعتبر امتداداً جغرافياً مباشراً للدول العربية والإسلامية وبالرغم من أن الصومال دولة عربية مسلمة بنسبة 99% فإن الوجود العربي الإسلامي في الصراع كان صورياً وشبه منعدم.. فقد حاولت مصر والسعودية وليبيا والسودان في فترة من فترات الصراع مساعدة الصوماليين في إنهاء صراعهم، وعقد لذلك مؤتمر بالقاهرة عام 1997م للمصالحة بين الفصائل المتقاتلة.. إلا أن هذا المؤتمر فشل في إحراز نتائج إيجابية نتيجة تربص كل من إثيوبيا وكينيا ومن ورائهما الدول الغربية الصليبية به وإثارة بعض الفصائل ضده واعتراضها علي نتائجه..(1/88)
كذلك فقد حاولت الجامعة العربية أن يكون لها دور في إنهاء الصراع لكنها للأسف الشديد لم يسمح لها بالحضور إلا في بعض المؤتمرات وبصفة مراقب.. وذلك بالرغم من أن الصومال عضو في الجامعة العربية.فما تقييم الموقف الحالي لمختلف أطراف الصراع؟أولاً: المحاكم الإسلامية: بالرغم من البساطة الشديدة في العتاد والسلاح والتجهيزات فإن الله سبحانه وتعالي قيض لهؤلاء المجاهدين نصراً عزيزاً مؤزراً بفوزهم علي التحالف ضد الإرهاب فوزاً ساحقاً انتهي بنهاية التحالف والإعلان عن حله وفرار زعمائه من البلاد.. وقد تميزت قيادات المحاكم الإسلامية بما يلي:1- الزهد في مناصب الدنيا والسلطان حيث أعلنت أنها لا تهدف إلي حكم البلاد وإنما هدفها هو نشر الأمن والعدل والاستقرار في البلاد.2- الحكمة والبصيرة والفطرة النقية: حيث لم يقدموا أنفسهم إلي الشعب الصومالي وإلي الدول الخارجية علي أنهم المتشددون المتعصبون.. وإنما قدموا صورة الإسلام الوسطي المعتدل المتسامح.. فكان أن أرسلوا رسالة إلي الولايات المتحدة بأنهم لا يرونها عدوةً لهم ما لم تتدخل في شئون بلادهم.. كذلك فقد أرسلوا إلي الحكومة المؤقتة باستعدادهم ورغبتهم في التفاوض معها لما فيه مصلحة البلاد، كما أنهم سمحوا لسكان العاصمة (مقديشيو) بمشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم في لفتة لا تخلو من معني الوسطية والاعتدال.3- الاعتزاز بدينهم والاعتزاز بهويتهم الإسلامية حيث أعلنوا رفضهم الصريح لدخول أي قوات أجنبية إلي بلاد المسلمين في الصومال.(1/89)
ثانياً: الحكومة الانتقالية: أما موقف الحكومة الانتقالية برئاسة (عبد الله يوسف) من الصراع فهو غريب ومريب!! فبينما ظلت هذه الحكومة منذ تكوينها في نيروبي عام 2004م قابعة حبيسة في مقرها بمدينة (بيدوا) جنوب الصومال لا تجرؤ علي الخروج منها أو الاقتراب من العاصمة خوفاً من أمراء الحرب وزعماء الميليشيات ولم تجرؤ أن تطلب منهم إلقاء أسلحتهم وتسليمها للحكومة.. ولم تطلب العون والغوث من الخارج لرفع الظلم والقهر والبطش عن الأهالي الأبرياء.. بينما كان هذا موقف تلك الحكومة الانتقالية إذ بها تفاجئنا وبمجرد أن أرسل الله رحمته بالأمة وجاءت المحاكم الإسلامية فأعادت الأمن والأمان ونشرت الطمأنينة والاستقرار، وقضت علي عصابات الحرب وأمراء القتال، وبدلاً من أن توجه للمحاكم الإسلامية الشكر والامتنان وتدعمها في استكمال مهمتها النبيلة، إذ بها تفاجئنا فتخرج من جحرها وتدعو (المحاكم الإسلامية) إلي تسليم سلاحها، وتدعو دول الغرب الصليبية لإرسال قوات دولية صليبية لإنقاذ الصومال!! ممن؟ من المحاكم الإسلامية المجاهدة!! ومن المعروف كما ذكرت أن الرئيس المؤقت (عبد الله يوسف) قد نُصِّبَ رئيسًا للصومال في (نيروبي) عاصمة كينيا وأنه من أقرب السياسيين الصوماليين إلي إثيوبيا العدو اللدود لوطنه الصومال، وأنه شارك في الحرب التي خاضتها الصومال لاستعادة إقليم أوجادين منها.. ليس بجانب وطنه وإنما بجانب إثيوبيا.. كذلك فإنه من أقرب السياسين إلي أمريكا.. لذلك فلا عجب من طلبه نجدة الصليبيين له من إخوانه المسلمين الصوماليين.. كذلك فلا عجب عندما قامت قوة إثيوبية قوامها 300 جندياً بعبور الحدود والتوغل في أراضي الصومال لمسافة 90 كيلو متراً كما ذكرت (المحاكم الإسلامية).. إذ بذلك الرئيس يسارع بنفي ذلك الخبر وتبرئة إثيوبيا منه دون أن تكون عنده أية وسيلة للتحقق من صحته أو عدمه.. وحتي قبل أن ترد الحكومة الإثيوبية نفسها بنفيه وإنكار حدوثه.(1/90)
إثيوبيا: لن تقف إثيوبيا مكتوفة الأيدي أمام نجاح المحاكم الإسلامية في بسط سيطرتها علي أنحاء الصومال ومن المتوقع أن يكون هناك نوع من التدخل العسكري الصريح المدعوم من اليهود والصليبيين بالإضافة إلي دعم الحكومة المؤقتة بالمال والسلاح من أجل إيقاف ذلك المد الإسلامي في الصومال.. وقد بدأ ذلك التدخل بالفعل بإعلان (المحاكم الإسلامية) أن ثلاثمائة جندي إثيوبي قد اخترقوا الحدود وتوغلوا لمسافة 90 كيلو متراً داخل أراضي الصومال.. وهذه هي البداية.. والبقية تأتي.الدول العربية: ذلك هو الغريب والعجيب!! أمر تلك الدول العربية فيما يتعلق بالصراع في الصومال.. فمصر والسودان اللتان تعتبران الصومال خط الدفاع الخلفي وأحد ركائز الأمن القومي لهما.. غائبتان.. أو غافلتان.. أو عاجزتان عن التدخل في توجيه مجريات الأحداث في الصومال بما يضمن علي الأقل مصالحهما ويحفظ أمنهما.أما دول الخليج الثرية الغنية بفضل الله ثم بأموال البترول فقد تخلت عن إخواننا في الصومال، وتركتهم فريسة للعطش والجوع ونهباً للجفاف والمجاعات، حتي الجمعيات الخيرية الخليجية التي كانت تؤدي بعض أعمال الخير في تلك البلاد تراجعت تحت ضغط الإرهاب اليهودي الصليبي.. وتركت إخواننا فريسة لهم يتناوشونهم بالعشرات والمئات من جمعيات التنصير ولادعاءاتهم الخبيثة التي تقول للصوماليين: (هؤلاء هم من يدعون أنهم إخوانكم في الإسلام يتخلون عنكم ويبخلون عليكم حتي ببقايا طعامهم وفتات موائدهم بينما يكنزون أموالهم بألوف المليارات من الدولارات في البنوك الغربية.. وما ذلك إلا لأنكم أفارقة ذوو بشرة سوداء.. فهل بعد ذلك تصدقون أن الحبشي بلال كان مؤذناً لرسولكم وأخاً له في الإسلام وليس عبداً؟.. وهل بعد ذلك تصدقون أن الأنصار قد تقاسموا أموالهم ودُورَهم مع المهاجرين؟..(1/91)
وهل بعد ذلك تصدقون أنه في الإسلام لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي؟!!) ويقف إخواننا في الصومال ينظرون في حيرة وحزن وأسي.. فواقع الحال كما يعيشونه بأنفسهم ويلمسونه بأيديهم يؤكد هذه المقولات الخبيثة.. ثم يزيد الأمر عجباً وحيرة أن دولة مثل المملكة العربية السعودية كما جاء في جريدة الجمهورية القاهرية بتاريخ الأحد 18 يونيو 2006م تقرر تخصيص عشرة ملايين دولار من خادم الحرمين الشريفين لإغاثة المتضررين من الجفاف في القرن الأفريقي.. وهذا أمر طيب ندعو الله أن يتقبله وأن يجعله في ميزان حسناته يوم القيامة.. ولكن العجيب في هذا العطاء أمران:الأمر الأول: أن هذا المبلغ لم يخصص لإغاثة المسلمين في الدولتين المسلمتين بالقرن الأفريقي وهما الصومال وجيبوتي.. وإنما كان نصيب الصومال ثلاثة ملايين دولار وجيبوتي نصف مليون دولار.. أما بقية الملايين العشرة فقد خصصت لأربعة دول أخري تحكمها حكومات مسيحية هي إثيوبيا وكينيا ورواندا وتنزانيا بالرغم من أن أغلبيتها من المسلمين.. فهل ستجعل هذه الحكومات المسيحية للمسلمين في بلادهم نصيباً من أموال المسلمين تلك؟ أم أن هده الأموال سوف تستغل في النشاط التنصيري بينهم؟.الأمر الثاني: أن هذا العطاء لن يوزع علي تلك الدول مباشرة من السعودية ليعلم الجميع أن أثرياء العرب المسلمين لا يبخلون علي إخوانهم ضحايا المجاعات والجفاف وإنما سيتم توزيعه بواسطة برنامج الغذاء العالمي وهو أحد أنشطة الأمم المتحدة التي يسيطر عليها اليهود والصليبيون.. فإلي من سيكون الشعور بالامتنان؟.. وإلي من سيكون الإحساس بالانتماء؟..(1/92)
للعرب والمسلمين أو لبرنامج الغذاء العالمي الذي سيقوم بالتوزيع بيده وتحت مظلته وفي أكياس وعبوات تحمل اسمه وهويته؟فما الرؤية المستقبلية للأحداث في الصومال؟إن رؤيتي -والله أعلم- تنحصر في عناصر محددة علي النحو التالي:أولاً: (المحاكم الإسلامية) لن تنهار ولن تتوقف عن مسيرتها وتقدمها مادامت ستحتفظ بالمنهج العقلاني الحكيم الذي تسير عليه.. ولن تطلب أن تحكم البلاد بمفردها.ثانياً: الحكومة الانتقالية الهشة لن تستطيع أن تتصدي للمحاكم الإسلامية حتي ولو دعمتها أمريكا بالمال والسلاح.. وإلا فقد كان الأولي بذلك أمراء الحرب الأشداء الذين سقطوا وانهاروا أمام المحاكم الإسلامية.ثالثاً: لن يكون للأمم المتحدة ولا للجنة الوصاية التي شكلتها من دول ليس لها أي علاقة بالشأن الصومالي أي دور علي الأرض.. ولن تستطيع أي قوات دولية أن تطأ بأقدامها أرض الصومال مادامت (المحاكم الإسلامية) ترفض ذلك صراحة.. وإلا فإن التجربة الأمريكية المهينة عام 1993م مازالت ماثلة في الأذهان.رابعاً: إذا تخلي العرب والمسلمون عن خوفهم وتخاذلهم أمام الإرهاب اليهودي الصليبي، ومدوا يد الغوث لإخوانهم بالمال والطعام والكساء من خلال إعادة أنشطة الجمعيات الخيرية التي كان لها دور فاعل ومؤثر بين الصوماليين.. إذا فعل العرب والمسلمون ذلك فإن الباب ما زال مفتوحاً لهم لإعادة اكتساب ثقة إخوانهم الصوماليين في أخوة الإسلام وفي التأثير الفاعل في صياغة نظام حكم في الصومال يتفق مع طبيعة ومصالح العرب والمسلمين.لذلك فإنه من المتوقع والله أعلم أن تتم مفاوضات بين اتحاد المحاكم الإسلامية والحكومة المؤقتة برعاية دولية وربما بمشاركة عربية لوضع صيغة جديدة لحكم البلاد تتولي المسئولية فيها حكومة يختارها الشعب أو زعماء القبائل والعشائر، وستكون المحاكم الإسلامية هي الحارس الأمين علي صحة هذه الحكومة في حمل أمانتها.. واستقامتها في أداء رسالتها..(1/93)
ولكنها لن تنفرد بإعلان حكومة إسلامية.(1/94)