ملفات ساخنة..
قضايا وهموم الأمة الإسلامية
د. رضا الطيب
الامين العام للجمعيات الشرعية
و عضو هيئة العلماء
محتويات الكتاب
الملف النووي الإيراني.. رؤية تحليلية ................. 4
تركيا والاتحاد الأوربي.. بين الوهم والحقيقة........ 20
سوريا الحبيبة.. لا تركعي......................... 35
بسم الله الرحمن الرحيممقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلي آله وصحبه أجمعين، وبعد...فإن الأمم العظيمة والشعوب العريقة.. تولد بعقيدتها.. وتحيا بذاكرتها.والذاكرة .. هي الروح التي تسري في جسد الأمة فيطول بقاؤها..
وهي الدماء التي تتدفق في عروقها فتشتد عافيتها.وبالذاكرة.. تتذكر الشعوب أحداث ماضيها.. وتتفهمها وتتدبر معانيها..
وتستخلص العبر منها.. ودروس ما فيها.وبالذاكرة.. تتذكر الأمم عناصر قوتها وأسباب رفعتها في ما مضي من تاريخها
فتبني حاضرها ومستقبلها علي نهجها.وعندما تذبل الذاكرة في أمة من الأمم.. تذبل، وعندما تموت.. تموت.وفي الصفحات التالية نتناول تباعًا بعض أحداث وقضايا الأمة الإسلامية العظيمة وهموم المسلمين. نعرضها ونحللها لتعيش في ذاكرة الأمة وتحيا بها.
الملف النووي الإيراني..رؤية تحليلية
نشر هذا الملف في العدد الرابع عشر السنة الثانية من مجلة التبيان
بتاريخ رمضان 1426 هـ - أكتوبر 2005م(1/1)
الملف النووي الإيراني.. صفحة جديدة تفتح من صفحات الصراع بين الإسلام والتحالف اليهودي الصليبي العالمي.. تتجسد فيه حقيقة ما آل إليه واقع وحال طرفي الصراع.. فإيران.. الدولة المسلمة -بغض النظر عن مذهبيتها- تقف فيه وحيدة دونما سند أو دعم أو معين من أية دولة مسلمة بالرغم من أنها تملك فيه حقا واضحا جليا تدعمها فيه كل القوانين والشرائع الدولية.. ودول التحالف تكالبت كلها علي قلب رجل واحد ضدها بالرغم من أنها علي باطل بَيّن تنكره عليها كل تلك القوانين والشرائع.. وبينهما تقف بقية دول العالم وعلي رأسها دول العالم الإسلامي متفرجة تحبس أنفاسها منتظرة نتيجة ذلك الصراع.. وعلي أية حال ستنتهي تلك المعركة.. هل ستنتهي كما انتهت الحال في أفغانستان حيث دمرت دول التحالف تلك الدولة المسلمة تدميرا شاملا وقتلت مئات الألوف من أطفالها ونسائها وشيوخها ثم انتهي الأمر باحتلالها؟ أم ستنتهي كما انتهت في دولة مجاورة لنا انهارت وتزلزلت عزيمتها فسلمت لدول التحالف بكل ما لديها وما ليس لديها في ذلك المجال وتطوعت بإفشاء كل ما لديها من أسرار هي قمة أسرار أمنها القومي وخانت ودلت علي كل من ساعدها من الدول والعلماء المسلمين؟ أم أن نتيجة تلك المعركة ستكون كما انتهت إليه حال معظم الدول العربية والإسلامية التي أخذت العبرة من رأس الذئب الطائر في أفغانستان فطأطأت رءوسها خوفا عليها، ووقفت تدعم دول التحالف اليهودي الصليبي في حربه علي الإسلام بلا هوادة.. ؟ وحتي لا يوجعها ما تبقي من ضميرها فقد قبلت بتسمية الغرب لذلك الصراع فأطلقت عليه صراع التحالف العالمي ضد الإرهاب.. باعتبار أن الإرهاب والإسلام عندهم جميعا وجهان لعملة واحدة.(1/2)
أم أن نتيجة الصراع ستكون كما هي الحال في العراق التي دمرت دول التحالف فيها حضارة من أعظم وأعرق الحضارات التي عرفها تاريخ البشرية وأبادت من الوجود قواعد دولة عصرية وقتلت بدم بارد مئات الألوف من أبنائها وانتهي الأمر باحتلالها..؟ ولكن علي عكس ما حدث في أفغانستان.. فبينما دخلت دول التحالف أرض العراق ممنية نفسها بدخول الجنة.. فوجئت أن ما دخلته بأقدامها.. هي جهنم بعينها.
أم هل تري أن العالم سيشهد نتيجة جديدة لذلك الصراع مخالفة لكل ما سبق حيث إن إيران ليست هي العراق.. فنري أحداثا تقضي علي البقية الباقية من ذلك الاستكبار في الأرض والاستعلاء وذلك الظلم والجبروت الذي تذيقه دول التحالف اليهودي الصليبي للإسلام والمسلمين في شتي بقاع الأرض..
ونحن بعون الله وفضله سنحاول من خلال معطيات الواقع وأحداثه المتتالية، وما لدينا من قناعات أن نوضح الحقائق وأن نستقرئ المستقبل وأن نضع أيدينا علي أهم نقاط هذا الملف الساخن حتي نكون علي وعي بما يحاك للأمة.. ولنبدأ من البداية:
الجغرافيا.. والسكان
إيران أو الجمورية الإسلامية الإيرانية هي إحدي دول الشرق الأوسط وكان يشار إليها حتي بداية القرن الماضي باسم (بلاد فارس).
الجغرافيا
يحد إيران من الشرق باكستان وأفغانستان ومن الشمال تركمانستان وبحر قزوين وأرمينيا وأذربيجان ومن الغرب تركيا والعراق ومن الجنوب الخليج العربي وبحر عمان.. وقد أطلق عليها اسم (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) بعد قيام الثورة الخومينية وطرد الشاهنشاه (ملك الملوك) محمد رضا بهلوي أخر ملوك الأسرة البهلوية عام 1979م. وتبلغ مساحة إيران حوالي 1.6 مليون كيلو متر مربع منها 75.62 كيلو متر مربع أراضي زراعية.
أهم المدن(1/3)
العاصمة طهران وهي أكبر المدن - مدينتا قم ومشهد وهما مقران لأكبر الحوزات الدينية والعلمية للمذهب الشيعي في إيران ثم تبريز وأصفهان وهما من أكبر المدن الصناعية ثم بوشهر حيث يوجد أحد أكبر المفاعلات النووية الإيرانية ثم بندر عباس وهي أكبر الموانئ علي الخليج العربي.
السكان:يبلغ عدد السكان في إيران ما يقرب من 68 مليون نسمة يتوزعون تبعًا للأعراق التالية: الفرس 51% والآذار 24% والجاليك والمازندار 8% والأكراد 7% والعرب 3% والبلوش 2% والتركمان 2% وأعراق أخري 3%.
الديانة
يدين معظم الإيرانيين بالإسلام ويتبع أغلبية السكان المذهب الشيعي الجعفري المعروف أيضًا باسم مذهب الإمامية أو الإثني عشرية ويبلغ عددهم حوالي 88% من عدد السكان.. ويأتي في المرتبة الثانية أقلية من المذهب السني ويبلغ عددها حوالي 10% من تعداد السكان ثم ديانات أخري بأعداد ضئيلة مثل اليهودية والزرادشتية والمجوسية القديمة والبهائية.
اللغة
اللغة الرسمية هي الفارسية ولكن اللغات العربية والتركية والكردية تستعمل بين أبناء أقليات كل منها والتي تفوق المليون تقريبًا.
الاقتصاد
يعتمد الاقتصاد الإيراني علي الزراعة والصناعة والثروات الطبيعية. وأهم المحاصيل الزراعية هي الأرز والفاكهة والخضراوات والمكسرات والحبوب أما أهم الصناعات فهي الصناعات الغذائية، والمنسوجات وصناعة السجاد وصناعة السيارات والصناعات العسكرية. أما أهم الثروات الطبيعية فهي البترول والغاز الطبيعي والفحم والحديد.
النظام السياسي(1/4)
أعلنت إيران النظام الجمهوري مع قيام الثورة الخومينية عام 1979م وهي تتبع نهجًا إسلاميًا متشددًا وتطبق الشريعة الإسلامية وفق المذهب الشيعي الجعفري.. وتعتبر إيران نفسها في عداء مع النظام الرأسمالي العالمي وعلي رأسه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية.. وتعتبر إيران العدو الأول لها هو إسرائيل.. ويخضع نظام الحكم في إيران في كل قراراته لمجلس صيانة الدستور وهو أعلي هيئة حاكمة في البلاد.
لمحة تاريخية
يعود تاريخ الحضارة الإيرانية وثقافتها إلي أكثر من ألفي سنة قبل الوقت الذي دخلت فيه جماعات مختلفة من الأصل الآري مثل الميديين والفرس والاشكانيين تلك الأرض التي عرفت فيما بعد باسم (إيران) ويعتبر قيام الدولة الأخمينية وحكم قورش في عام 500 قبل الميلاد هو بداية التاريخ لأول حكم إمبراطوري يقوم علي التوارث في الأسرة المالكة.. واستمر ذلك النظام في السلالات التي تلت الأسرة الأخمينية مثل الأسرة الأشكانية والساسانية). ولقد بقيت إيران تفتقد حكومة مركزية موحدة ومنسجمة حتي قيام الدولة الصفوية عام (1501) من الميلاد ثم تلتها السلالة الملكية الأقشرية ثم الزندية ثم القجارية.. ولقد استمر هذا النظام من الحكم الملكي الوراثي قائمًا في إيران حتي نهاية السلالة البهلوية، التي كانت آخر نظام ملكي إمبراطوري في تاريخ إيران والتي انتهت بسقوط الشاهنشاه محمد رضا بهلوي عام 1979م.
تاريخ البرنامج النووي الإيراني(1/5)
بدأ البرنامج النووي الإيراني في عام 1957 م في عهد شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بإنشاء مفاعل نووي للأبحاث السلمية في جامعة طهران وفي العام التالي تم إنشاء (لجنة الطاقة الذرية ) وفي عام 1974م أسس شاه إيران (منظمة الطاقة الذرية الإيرانية ) بهدف إنشاء ثمانية مفاعلات نووية للطاقة السلمية بنهاية الثمانينيات وتم التعاقد مع شركتين أوروبيتين تعملان في مجال الطاقة النووية لإنشاء أول أربع مفاعلات .. أولهما شركة ألمانية قامت بإنشاء مفاعلين نوويين في (بوشهر) توقفا قبل أن يكتملا في عام 1979 م حيث قامت الثورة الإيرانية وتمت الإطاحة بالشاه وكانت الإنشاءات قد اكتملت لكن المعدات كانت نصف مكتملة ، أما الشركة الأخري فهي فرنسية ولم تكن قد بدأت في إنشاء المفاعلين الآخرين في (دراخون) وقد توقف العمل تماما في هذه المنشآت لظروف الثورة الإيرانية .
وبعد الثورة الإيرانية توقف البرنامج النووي الإيراني وتعرضت المنشآت النووية الإيرانية لغارات عنيفة من الطائرات العراقية أثناء الحرب بين الدولتين ولكن بعد توقف الحرب عادت إيران للاهتمام ببرنامجها النووي فتعاقدت مع الصين لإنشاء مفاعلين علي نهر (كارون) وآخرين في (استيجال) ، ومع باكستان لإقامة محطة لإعداد المواد الخام في (كلايا) ومع روسيا عام 1991 لاستكمال مفاعل بوشهر وإقامة مفاعل آخر في شمال إيران.(1/6)
هذا وتخطط إيران لإنشاء عشرة مفاعلات نووية جديدة للطاقة السلمية بحلول عام 2020 م . وفي كل هذه المنشآت تعتبر إيران أن حجر الزاوية في برنامجها النووي هو أن تقوم هي بنفسها بعملية تخصيب اليورانيوم في منشآتها وهو الوقود المستخدم في توليد الطاقة النووية في الوقت الذي تصر فيه دول التحالف علي حرمان إيران من ممارسة هذا الحق وبأن تستورد ذلك اليورانيوم المخصب جاهزاً من الدول الأوربية. وهذا هو أساس الصراع بين إيران والغرب فيما يعرف بالملف النووي الإيراني.. فما هي إذن تلك العملية التي تخشي أمريكا وأوربا من قيام إيران بها؟ وهل حقاً تستطيع إيران من خلالها تصنيع سلاح نووي؟ هذا مايجيب عنه السؤال التالي:
ما هي عملية تخصيب اليورانيوم؟
إن عملية تخصيب اليورانيوم هي أهم وأصعب خطوة في سلسلة الخطوات التي يتم اجراؤها لتحويل اليورانيوم الخام إلي وقود نووي وللعلم فإن مصطلح تخصيب اليورانيوم هو مصطلح إعلامي شائع بين الناس وليس المصطلح العلمي الدقيق لتلك العملية وهو ENRICHMENT) ) بمعني : (RICH TO MAKE) أي يجعله ثريا أو غنيا وبذلك تكون الترجمة العلمية الأدق للكلمة هي (إثراء اليورانيوم).(1/7)
واليورانيوم الخام يوجد في الطبيعة في الجبال والمناجم علي هيئة نظائر كثيرة أهمها نظيران يتحدان في الصفات الكيميائية وفي العدد الذري ولكنهما يختلفان في الوزن الذري وهما اليورانيوم 235 واليورانيوم 832، وهناك فرق جوهري بينهما هو أساس عملية التخصيب أو الإثراء كما ذكرنا ذلك هو أن اليورانيوم 235 ذو طبيعة إنشطارية بمعني أننا إذا أخذنا ذرة منه وقذفنا النواة فيها بأحد النيوترونات الخارجية (والنيوترون هو أحد مكونات الذرة ويستقر في النواة) وذلك بطرق علمية دقيقة ومعقدة فإن النواة تنشطر إلي نصفين منتجة عنصرين جديدين وفي نفس الوقت تخرج كما هائلا من الطاقة تسمي (بالطاقة الانشطارية).. ونتيجة هذا الانشطار للنواة تخرج منها نيوترونات حرة جديدة تتناثر في الفضاء بسرعات هائلة وتأخذ في الاصطدام بأنوية ذرات أخري من نفس اليورانيوم فتنشطر بدورها مخرجة كماً هائلاً من الطاقة وهكذا تبدأ سلسلة من عمليات اصطدام النيوترونات بأنوية ذرات اليوراينوم 235 وفي كل اصطدام تنشطر نواة ذرة جديدة وتخرج كما من الطاقة حتي تنتهي تماما كمية اليورانيوم والتي تحتوي علي بلايين البلايين من الذرات وهذا هو ما يحدث في القنبلة الذرية الانشطارية.. من أجل ذلك اكتسب اليورانيوم 235 أهمية في صنع الوقود النووي وإنتاج الطاقة النووية الانشطارية وهي التي تستخدم في الأغراض السلمية وفي صنع القنبلة النووية علي السواء. ومع هذه الأهمية فإن هذا النظير يوجد في خام اليورانيوم بنسبة ضئيلة للغاية بالنسبة للنظير الثاني وهي 0.7% أي مقابل كل 140 ذرة من اليورانيوم 238 الغير قابل للأنشطار توجد ذرة واحدة من اليورانيوم 235 القابل للانشطار لذلك كان من الطبيعي التفكير والعمل علي رفع نسبة اليوانيوم235 بالنسبة لليورانيوم 238 بالخام الموجود في الطبيعة.(1/8)
وهذه هي عملية ( تخصيب اليورانيوم) أو (إثراء اليورانيوم) كما ذكرنا وتقوم فكرة التخصيب علي التخلص من اليورانيوم 238 علي مراحل متتالية حتي تقل نسبته في الخام وبالتالي تزداد نسبةاليورانيوم235 حتي تصل إلي النسبة المطلوبة لكل عملية والتي تزيد في معظم الأحيان عن 95%. وتستخدم إيران لتحقيق ذلك ما يسمي بتكنولوجيا (الطرد المركزي) وتعتمد هذه العملية علي تحويل خام اليورانيوم إلي غاز يسمي (سادس فلوريد اليورانيوم) يتم وضعه في وحدات أو اسطوانات تدور بسرعات فائقة جدا ونتيجة لهذا الدوران السريع فإن الذرات الأثقل وزنا وهي اليورانيوم 238 وتحت قوة الطرد المركزي تندفع إلي جدار الاسطوانة حيث تترسب عليه من الداخل، أما الذرات الأخف وزنا وهي اليورانيوم 235 فإنها تتركز حول محور الاسطوانة الدوارة ثم توقف الاسطوانة عن الدوران ويتم سحب اليورانيوم 238 المترسب علي الجدران حيث يسمي اليورانيوم المنضب وهو غير قابل للانشطار ويمكن استخدامه في صناعة هياكل الدبابات وبعض أنواع الذخائر المحرمة دوليا مثل تلك التي استعملتها الولايات المتحدة في حرب العراق، وكمادة عازلة تبطن بها غرف الأشعة والعلاج الإشعاعي في المراكز الطبية بديلاً عن الرصاص، أما الغاز الذي تجمع عند مركز الاسطوانة فتكون النسبة العالية فيه لليورانيوم 235 مع وجود نسبة قليلة من اليورانيوم 238 ويمكن تكرار هذه العملية عدة مرات في اسطوانات متتالية أو في نفس الاسطوانة علي مرات متتالية وفي كل مرة يتم خفض نسبة اليورانيوم 238 ورفع نسبة اليورانيوم 235 حتي يصل إلي نسبة التخصيب أو الإثراء المطلوب الحصول عليها تبعا للتوجه المقصود من تلك العملية(1/9)
وهنا يثور سؤال هام: إذا كان هذا التصور البسيط هو أساس عملية التخصيب فما هي أوجه الصعوبة التي تجعل هذه التكنولوجيا حكرا علي بعض الدول المتقدمة؟ والإجابة أن هناك عدة عقبات لا يقدر علي تخطيها إلا هذه الدول منها: صعوبة وتعقيد التقنية المستخدمة في تصنيع هذه الوحدات أو الاسطوانات الدوارة والتي تسمي وحدات الطرد المركزي والتعامل معها وتحديد السرعات المناسبة والوصول إليها مع المحافظة علي هذه الوحدات حتي لا تنهار تحت وطأة هذه السرعات الفائقة كذلك دقة وصعوبة التعامل مع غاز (سادس فلوريد اليورانيوم) المستخدم في عملية الفصل حيث إن هذا الغاز يصير صلبا في درجة حرارة الغرفة العادية، وكذلك تحديد كميات اليورانيوم والظروف الدقيقة التي تبدأ عندها عملية الانشطار بالإضافة إلي النفقات الباهظة لهذه التكنولوجيا.
قصة الخلاف النووي بين إيران والدول الغربية
الملف النووي الإيراني يحمل قضية خلاف بين طرفين ما كان له أن يحدث علي الإطلاق إلا في ظل تلك الهيمنة الطاغية للتحالف اليهودي الصليبي علي العالم حيث إن القانون الذي يسود العالم اليوم هو قانون الغاب.. وطرفا القضية هما دولة إيران المسلمة من ناحية والتحالف اليهودي الصليبي في أمريكا وأوروبا وإسرائيل من ناحية أخري ويمثل هذا الطرف الآخر ثلاث دول أوروبية هي فرنسا وألمانيا وبريطانيا ويقف بينهما حكم لم يخضع للهيمنة بعد ويريد أن يقضي بالحق والعدل وهو الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. ولكل من الطرفين مطلب معارض للآخر وذلك علي النحو التالي:
المطلب الإيراني
تطالب إيران بحق مشروع كفلته لها كل القوانين والأعراف الدولية وهو أن تقوم بنفسها وفي منشآتها النووية بعملية تخصيب اليورانيوم لتحويله إلي وقود نووي يستخدم للأغراض السلمية.(1/10)
المطلب اليهودي الصليبي: تطالب دول التحالف إيران أن تقوم طواعية وباختيارها بالتنازل عن هذا الحق وبالإيقاف الكامل والتام لعمليات تخصيب اليورانيوم حتي وإن كان للأغراض السلمية.. وبأن تقوم باستيراد ذلك الوقود مخصبا جاهزا من دول أوروبا ولا تقوم بتخصيبه بنفسها في منشآتها.
ولكل من الطرفين في مطلبه مبرراته ودوافعه وأهدافه الخاصة وذلك علي النحو التالي:
الدوافع الإيرانية
تتعدد المبررات والأهداف الإيرانية وتتباين ما بين معلن وخفي:
الأهداف والمبررات المعلنة هي:
(1) أن إيران عندما تفعل ذلك فإنها تمارس حقا دوليا ضمنه لها القانون الدولي ولا تخرق به أي بند في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.
(2) إن قيام إيران بتخصيب اليورانيوم في منشآتها بنفسها يفتح لها باب امتلاك التكنولوجيا النووية ومسايرة تطوراتها التي تتقدم في العالم بسرعة مذهلة من خلال الممارسة العلمية النظرية والتطبيقية لتلك التكنولوجيا.
(3) إن قيام إيران بتخصيب اليورانيوم بنفسها وعدم الاعتماد علي استيراده من دول أخري يضمن لها استمرار العمل بمنشآتها النووية وعدم التعرض للوقوع تحت أي شكل من أشكال الضغط أو الابتزاز الدولي أو التهديد بمنع تزويدها بالوقود من تلك الدول مما يعرض منشآتها النووية للتوقف وبرامجها النووية للانهيار.
(4) إن توليد الطاقة الكهربائية عن طريق المفاعلات النووية السلمية سوف يوفر لإيران كميات هائلة من البترول تستخدم حاليا في ذلك الغرض مما سيزيد من قدرة إيران التصديرية لتلك السلعة الاستراتيجية المهمة والحيوية.
الهدف الخفي(1/11)
أما الهدف الخفي لإيران فهو هدف ترتعد منه دول التحالف اليهودي الصليبي ذلك هو أن إيران تحت ضغوط أمنها القومي وطموحاتها الإقليمية وأحلامها في أن تتبوأ مكان القيادة والزعامة للعالم الإسلامي في تلك المرحلة التي يعاد فيها تشكيل ملامح الدول ومراكز القوي والتوازنات في ذلك العالم فإنها تريد أن تمتلك السلاح النووي لتفرض نفسها علي الدول النووية ولتعلن أنه مسخر للدفاع عن الإسلام والمسلمين.. وفي ذلك المجال فإن إيران لا تخشي منافسة باكستان في زعامة العالم الإسلامي باعتبارها الدولة الإسلامية النووية الأولي في التاريخ وذلك علي اعتبار أن السلاح النووي الباكستاني قد تم استئناسه وتقليم أظافره بتلك الاتفاقيات والترتيبات التي عقدت بين أمريكا وباكستان والتي تضمن ألا يستخدم ذلك السلاح النووي الباكستاني بأي شكل وتحت أي ظرف في الصراع بين الإسلام والتحالف اليهودي الصليبي وخاصة ضد إسرائيل.. ويدعم تلك الاتفاقيات والترتيبات ذلك الوجود العسكري الأمريكي المكثف في قواعد عسكرية في أفغانستان وشمال باكستان ودول الخليج العربي والذي تستطيع أمريكا من خلاله وفي دقائق معدودة الوصول بطائراتها وصواريخها إلي القواعد النووية الباكستانية وضربها وتدميرها إذا خرجت عن الخط المرسوم لها.. ويضاف إلي ذلك تهديد ذلك التحالف لدولة باكستان بإطلاق عنان ذلك الوحش الهندي القابع في جنوبها والمتربص بها لضربها وتدميرها.
مبررات وأهداف التحالف(1/12)
أما التحالف اليهودي الصليبي فإنه يعلن هدفه صريحا وبلا مواربة وهو الخلاص نهائيا من ذلك الهاجس والخوف الذي يعتريه من إمكانية قيام إيران باستخدام ذلك اليورانيوم المخصب في صنع السلاح النووي الإسلامي والذي لايمكن استئناسه أو تقليم أظافره كما كانت الحال مع باكستان مما يخلق واقعا جديدا من الردع النووي يوجد حالة من التوازن مع القوة النووية الإسرائيلية ويؤدي إلي تدمير الاستراتيجية النووية للتحالف في الشرق الأوسط والتي قامت علي أساس انفراد إسرائيل وحدها بامتلاك السلاح النووي وذلك بمنع إيران من امتلاك ذلك السلاح أو التكنولوجيا النووية وعلي رأسها تخصيب اليورانيوم بعرضه عليها أن يتم تزويدها باليورانيوم المخصب لاستخدامه في الأغراض السلمية جاهزا من إحدي الدول الأوروبية التي يحددها التحالف.
وتفسير ذلك: أنه إذا تم تزويد إيران باليورانيوم المخصب من الخارج فإن إيران ستكون ملزمة بعد استنفاد ذلك الوقود وتحوله من يورانيوم مخصب إلي يورانيوم ناضب أن تعيد ذلك الوقود الناضب إلي الدولة التي صدرته لها كاملا غير منقوص وبذلك يمكن للتحالف من خلال حساب الكميات التي استوردتها إيران والكميات التي أعادت تصديرها التأكد من أنها لم تحتفظ بأية كميات منها ولو سرا تمهيدا لاستخدامهافي صنع السلاح النووي.. حيث إن اليورانيوم المخصب المستخدم في الأغراض السلمية هو نفسه وبجهود علمية وفنية بسيطة يمكن للدول التي تملك التكنولوجيا النووية استخدامه في صنع السلاح النووي.
عناصر القوة في الموقف الإيراني
يتميز الموقف الإيراني في قضية الملف النووي بعدد من عناصر القوة من أهمها:
(1) ذلك الإجماع الوطني الكامل داخل إيران بين أفراد الشعب والهيئة الحاكمة علي وجوب امتلاك إيران التكنولوجيا النووية وعدم وجود أية معارضة لهذا الموقف.
((1/13)
2) أن المطلب الإيراني بتخصيب اليورانيوم هو مطلب تتيحه لها كل القوانين والأعراف الدولية ولا يملك أحد أن ينكر عليها حقها فيه.
(3) أعلنت إيران وتعلن أنها علي استعداد لفتح منشآتها النووية بالكامل للإشراف الدولي وقبول التفتيش عليها من قبل المؤسسات الدولية وعلي رأسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
(4) تعلن إيران أن أمريكا ودول الغرب هم الذين أدخلوا المفاعلات النووية إلي إيران وليس رجال الثورة الإسلامية وهم الذين فتحوا الآفاق أمام شاه إيران رجل الغرب المخلص في عام 1957م ليبدأ برنامجا لبناء ثمانية مفاعلات نووية للأغراض السلمية وأن إيران قد أنفقت أموالا باهظة تقدر بمليارات الدولارات علي ذلك البرنامج.. فلماذا تنكر أمريكا اليوم عليها هذا الحق.
(5) إدراك الإيرانيين القوي والواقعي بأن أمريكا والغرب لن يستطيعا استخدام القوة أو الخيار العسكري ضدها في الوقت الحالي وذلك بعد السقوط المروع لهما في مستنقع الحرب العراقية وأن التحالف اليهودي الصليبي بات مشلولا وعاجزا ولو إلي حين عن توجيه أية ضربة عسكرية لإيران.. كذلك إدراك إيران أن أمريكا تعلم جيدا أن عملا مثل هذا من الممكن أن يفتح عليها أبواب الجحيم في الشرق الأوسط كله.
(6) يضاف إلي كل ماسبق ما هو معلوم عن قدرة إيران العسكرية، وكذلك قوتها الاقتصادية، ومساحتها وموقعها الجغرافي، الذي يمكنها من اغلاق مضيق هرمز في وجه الناقلات الحاملة للبترول الي أمريكا والغرب واليابان مما يجعل الطرف الآخر يفكر عشرات المرات قبل اتخاذ أي قرار باستخدام القوة ضدها.
لذلك فمن خلال هذه القوة التي يتميز بها الموقف الإيراني يأتي السؤال الأهم وهو:
هل تمتلك إيران بالفعل تكنولوجيا نووية عسكرية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو المدي المحتمل أن تكون قد وصلت إليه في ذلك المجال؟(1/14)
ج: تميزت سياسة إيران في هذا المجال بالغموض والتعمية الشديدين وهذا شأن كل الدول ذات الطموحات النووية . لذلك فلا يستطيع العلماء النوويون والمحللون المتخصصون أن يحددوا بالضبط أين موقع إيران علي الخريطة النووية العسكرية في العالم. ولكن هناك احتمالات تتدرج من الضعف إلي القوة علي النحو التالي:
الاحتمال الأول: وهو الأضعف علي الإطلاق أن تكون إيران بالفعل تريد أن تطور الطاقة النووية للاستخدامات السلمية وليس لها أي طموحات نووية عسكرية لا حاضرًا ولا مستقبلا
الاحتمال الثاني: ألا يكون لإيران أي طموحات نووية عسكرية حاليا ولكنها تريد أن تطور قدراتها النووية السلمية إلي أقصي مدي يتيح لها التحول إلي الاستخدام العسكري في أية لحظة وترك الباب مفتوحا لجميع الخيارات المستقبلية بما فيها الخيار المسلح
الاحتمال الثالث: أن يكون لإيران برنامج نووي عسكري سري يسير جنبا إلي جنب مع البرنامج السلمي وأنها في طريقها إلي صنع السلاح النووي الإيراني وبما أنها تملك تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم فإن الوصول إلي صنع ذلك السلاح يكون مسألة وقت فقط،
الاحتمال الرابع: أن تكون إيران بالفعل قد وصلت إلي صنع سلاح نووي سرا كما فعلت الهند وباكستان من قبل حيث فاجأتا العالم أجمع بتفجير سلاحيهما النوويين، إلا أن إيران إن كانت قد وصلت إلي امتلاك ذلك السلاح فإنها لن تستطيع الإعلان عنه وستحتفظ به سرًّا لأنها من الدول الموقعة علي اتفاقية حظر انتشار الأسلحة الذرية والتي تحظر عليها ذلك وتعرضها لعقوبات دولية عنيفة في حال مخالفتها لبنود تلك الاتفاقية بعكس الهند وباكستان اللتين لم توقعا علي تلك الاتفاقية وعلي ذلك فإنهما لم يخرجا علي القانون الدولي بامتلاكهما وتفجيرهما سلاحًا نووياً..(1/15)
وهنا يبرز سؤال وهو:أن المجلس الأعلي لرئاسة النظام في إيران وهو أعلي سلطة حاكمة هناك قد أصدر فتوي شرعية بعدم جواز امتلاك السلاح النووي وأن صنعه حرام فما مدي تطابق تلك الفتوي الشرعية مع هذا الاحتمال ؟
وللإجابة علي هذا السؤال يجب أولا أن نوضح بعض الحقائق والمعطيات :
أولا: إن أحد أصول المذهب الشيعي هو ( التقية ) ومعناها أن تظهر غير ما تبطن لحماية النفس أو للإضرار بالعدو
ثانيا: إن الطموح السياسي الإيراني بإحياء الدولة الشيعية التاريخية علي غرار الدولة الصفوية التي أنشئت في عام907هـ 1502م، وكذلك طموحها إلي المنافسة علي زعامة العالم الإسلامي أجمع يحتم علي إيران أن تمتلك أقصي أسباب القوة المادية ويأتي علي رأسها طبعا السلاح النووي
ثالثاً: إن إمكانيات إيران الاقتصادية القوية وثراءها المادي الناتج عن ثروتها البترولية الهائلة والعلاقات الجيدة في المجال النووي مع الصين وروسيا التي تزودها بالوقود النووي حاليا، ثم ذلك العدد الضخم من علماء الذرة الذين اجتذبتهم إيران من الجمهوريات الإسلامية الآسيوية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي .. كل هذه العناصر تمكن إيران وتحتم عليها استكمال قطع الشوط في مجال صنع السلاح النووي إلي نهايته؛ لذلك نعتقد أن هذه الفتوي ليست صادقة وأنها من قبيل التقية أي التعمية وخداع العدو.
علي أية حال فإن ذلك الموقف يقتضي منا تحليلاً دقيقاً لاحتمالات تطور هذا الملف، والسياسة التي تتبعها إيران في إدارته، وهذا هو عنصرنا التالي:
احتمالات تطورالملف النووي الإيراني
يتعرض الملف النووي الإيراني في تطوره لثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول(1/16)
أن تستمر المفاوضات بين إيران من ناحية والدول الأوربية الثلاث بغرض الوصول إلي حل سلمي يرضي الأطراف كلها ويخرجها من تلك الأزمة الخانقة التي تأخذ بأعناقها جميعاً مثل أن تتوقف إيران طوعا وباختيارها عن ممارسة حقها الشرعي في عملية تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية مقابل مكاسب سياسية واقتصادية يقدمها لها الغرب وعلي رأسها أن تزودها الدول الغربية باليورانيوم المخصب جاهزاً.. أو غيره من الحلول التي يقبلها الطرفان. وفرصة هذا الاحتمال في التحقق هي الأقوي وذلك لرغبة كلٍ من إيران والغرب في عدم التصعيد والاصطدام كل لأسبابه الخاصة.
الاحتمال الثاني
أن ترفض إيران هذا الحل وتصر علي ممارسة حقها الشرعي في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية مع القبول بالإشراف الكامل لوكالة الطاقة الذرية علي كل أنشطتها النووية طبقاً للقوانين والمواثيق الدولية في هذا الشأن، وهذا طبعا لن يرضي التحالف اليهودي الصليبي الذي يصر علي ألا تمتلك إيران أية تكنولوجيا نووية متطورة ولو للأغراض السلمية لأنه يعلم جيدا أن كل خطوة تتقدمها في مجال التكنولوجيا النووية السلمية هي في الوقت نفسه خطوة تقربها من صنع السلاح النووي.
وهنا فإن الدول الغربية وتحت غطاء من البلطجة والإرهاب والادعاءات الكاذبة والاتهامات الباطلة لإيران وبالصورة نفسها التي فعلتها مع العراق ستقوم برفع الملف النووي الإيراني إلي مجلس الأمن لبحثه واتخاذ قرارات بفرض عقوبات سياسية واقتصادية علي إيران.. وفرص هذا الاحتمال بالطبع أقل من الأول.. وذلك لأن الجميع كما ذكرنا لا يريد التصعيد.. كل لأسبابه الخاصة.(1/17)
فإيران لا تريد الصدام والتصعيد والمجابهة في هذه المرحلة الشديدة الحساسية بالنسبة لها حيث إن هذه الفترة يتم فيها إعادة تشكيل موازين القوي بمنطقة الشرق الأوسط بحدودها ودولها وتحالفاتها بعد الغزو الأمريكي الفاشل للعراق وانحلال كل خيوط السيطرة علي الأوضاع فيه وبروز القوة الشيعية في العراق كرافد أساسي وركيزة معتبرة في حلم إيران بإنشاء الهلال الشيعي في إيران والعراق وسوريا ولبنان ودول الخليج.. وهذا بالطبع يستدعي منها تهدئة العلاقات والتلطف في التعامل مع اللاعب الأول في إعادة تشكيل هذه التوازنات وهو.. أمريكا.
أما الطرف الثاني وهو الدول الثلاث الممثلة للتحالف فإنها أيضا لا تريد التصعيد والمجابهة للأسباب التالية:
(أ) أن إيران بتخصيبها اليورانيوم للأغراض السلمية تقوم بعمل يضمنه لها القانون الدولي وتمتلك فيه حقا لا ينازعها فيه منازع.
(ب) أن دول أوروبا خصوصا والغرب عموما لا يريد استعداء إيران والقوي الشيعية في العالم لأن استقرار منطقة الشرق الأوسط وإقامة علاقات جيدة ومتوازنة مع دولها يصب في مصلحة الاستراتيجية الأوروبية بعكس أمريكا التي وإن كان الاستقرار فيها يصب في مصلحتها أيضا فإنها وتحت ضغط الثعبان اليهودي تريد إشعال النار في المنطقة وتحويل الملف لمجلس الأمن لفرض عقوبات علي إيران.. إلا إنها في الوقت نفسه لا تريد الصدام مع الأوروبيين وإغضابهم لئلا يتفرقوا عنها وينفضوا أيديهم عن ذلك الملف ويلقوه علي أكتافها وحدها بلا نصير في وقت ضاقت فيه عليها الأرض بما رحبت.
((1/18)
جـ) تدرك أوروبا وأمريكا جيدا أن رفع الملف إلي مجلس الأمن غير مضمون النتائج وذلك لأن دولتين من الدول الخمس التي لها حق نقض أي قرار بالمجلس وهما روسيا والصين علي علاقة اقتصادية جيدة مع إيران، وتدعمانها في برنامجها النووي للأغراض السلمية من خلال صفقات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وهما مؤيدتان لها في حقها المشروع والاحتمال الأكبر عند التصويت في مجلس الأمن علي قرار بفرض عقوبات علي إيران أن ترفض هاتان الدولتان ذلك القرار فيسقط وتخرج إيران منتصرة في تلك الموقعة.
(د) وعلي فرض نجاح الغرب في استصدار قرار بفرض عقوبات اقتصادية علي إيران فإن الحظر الذي سيفرض علي الصادرات الإيرانية سوف يشمل البترول وهو سلاح خطير سيرتد فورا إلي صدور الدول الغربية واليابان لأنها لا تستطيع الاستغناء عن بترول إيران ولأن إيران هي ثاني أكبر مصدر للبترول في العالم بعد السعودية ولأن إيران ستجيد الضرب علي هذا الوتر الحساس وستحرص علي استخدام بترولها بشكل يسبب هزة عنيفة في الاقتصاد العالمي لا يستطيع أن يتحملها بسهولة.
الاحتمال الثالث
أما الاحتمال الثالث وهو أقل فرصا فهو أن يقوم التحالف اليهودي الصليبي من خلال أمريكا وإسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية إلي المنشآت النووية الإيرانية تقضي فيهاعلي كل القوي النووية الإيرانية بالكامل كما حدث في العراق عام 2891م.. ولكن هذا الاحتمال يصطدم بعقبات خطيرة وكثيرة تعلمها كل الأطراف وعلي رأسها إسرائيل وأمريكا ومن هذه العقبات مايلي:
(أ) أن إيران لعلمها وإداركها الجاد بإمكانية حدوث هذه الضربة قد عمدت إلي الكثير من الاحتياطات والأساليب الفنية والعسكرية لتفاديها والوقاية منها بإخفاء منشآتها النووية وخاصة الحساسة منها في أعماق الأرض وبطون الجبال، ونشر تلك المنشآت علي مساحات شاسعة في طول البلاد وعرضها، وإقامة شبكات من الدفاع الجوي المسلح حولها بأقصي درجات القوة والتركيز..
((1/19)
ب) إذا قامت أمريكا وإسرائيل بتلك الضربة فإن إيران سوف تقوم بالرد الفوري المباشر بضرب إسرائيل بصواريخ شهاب 3وشهاب 4 التي يصل مداها إلي أكثر من 0051 ميل وتطول قلب إسرائيل وقد تحمل إيران هذه الصواريخ برءوس تحوي أسلحة للدمار الشامل مما يلحق بإسرائيل إصابات موجعة وأضرارا جسيمة، وبالطبع فإن المنشآت النووية والمراكز الحيوية والتجمعات السكانية في إسرائيل وعلي رأسها مفاعل (ديمونة) النووي في صحراء النقب ستكون علي رأس أهداف الصواريخ الإيرانية .. وسيساعد إيران في ذلك أمران: الأول أنها تمتلك أعدادا ضخمة من تلك الصواريخ لأنها تصنعها بنفسها ولا تستوردها من الخارج.. والثاني أنها ستكون أمام العالم أجمع في موقف الدفاع عن النفس مما سيعطيها دعما وثقلا أخلاقيا وقانونيا دوليا.
(جـ) ستقوم إيران بضرب القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان ودول الخليج وعلي رأسها قاعدة (السليين) في قطر - وهي من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في العالم - بالصواريخ والمدافع البعيدة المدي حيث لا تبعد هذه القواعد عن إيران إلا بعشرات أو مئات الأميال من مياه الخليج العربي.
(د) ثم يأتي الرعب الأكبر والهاجس الأعظم لأمريكا الناتج عن تلك الضربة.. وهي أن تصدر إيران إشارة البدء للقوي الشيعية في العراق ولحزب الله في جنوب لبنان وللقوي الشيعية في دول الخليج لبدء الجهاد المقدس ضد قوات الاحتلال الأمريكي ودول التحالف وسبب ذلك الرعب هو أن أمريكا وعلي يد الطائفة السنية في وسط وغرب العراق فقط تنزف الدماء ليلا ونهارا فماذا سيكون عليه الحال إذا قامت الأغلبية الشيعية في الجنوب ودول الخليج بمشاركة السنة في إعلان الجهاد المقدس.. لا شك أن قوات التحالف ستذبح ذبحا.
((1/20)
هـ) ستقوم إيران باستخدام سلاح البترول في عمل هزة عنيفة بالاقتصاد العالمي لا يريدها أي طرف خاصة أوروبا واليابان اللتان تعتمدان بشكل أساسي علي بترول الخليج وخاصة في تلك المرحلة العصيبة التي يمر بها الاقتصاد العالمي.
(و) يبقي الأمر الأخير وهو أن إيران بسبب أنها أقامت صناعتها وبنيتها النووية بأيدي أبنائها من علماء الذرة الإيرانيين وعقولهم، وبجهودها وإمكاناتها الذاتية دون الاعتماد بشكل أساسي علي عقول أجنبية فإنها تستطيع أن تبدأ وعلي الفور في إعادة بناء منشآتها النووية.. وطبعا فإنها لن تبدأ من الصفر.
استراتيجية ناجحة
أما بالنسبة لاستراجية إيران في خوض هذه المعركة الشرسة مع الولايات المتحدة والدول الأوربية ، وتقييم الخبراء والمختصين لها فهي كالتالي:
تدرك إيران أن العالم اليوم قد أصبحت لغة القوة فيه هي اللغة المسيطرة والمهيمنة كما تعلم إيران جيدًا أن الغرب لن يجرؤ علي مهاجمتها بعد أن فشل فشلاً ذريعًا وغاصت أقدامه في رمال العراق مع إدراكه الفرق الشاسع بين قوة العراق والقوة الإيرانية، التي ذكرنا أبعادها.. لذلك فإن إيران تتبني في تعاملها مع الدول الأوربية سياسة ذكية وجريئة وفاعلة لا تقدر عليها إلا دولة تملك إرادة قوية ورؤية واضحة لعناصر الصراع ومعطيات الواقع .. تلك هي سياسة (حافة الهاوية) .
فإيران في يوم ترفع سقف مطالبها إلي مستويات عالية جدًا ، وتصر علي ممارسة حقها في تخصيب اليورانيوم وتعلن أنه لا توجد قوة تستطيع أن تمنعها من هذا الحق .. فترد الدول الأوربية عليها بلهجة عنيفة وتهدد بتحويل الملف النووي الإيراني إلي مجلس الأمن ، وتشتعل حدة الموقف بين الطرفين حتي إذا اقتربت من الصدام وحافة الهاوية عادت إيران فأعلنت تراجعها المدروس والمحسوب عما أعلنته وكأنها تقوم بتضحية تحسب لها وتطلب مقابلها ثمنًا، مما يمنحها مزيدًا من الوقت يمكنها من تحقيق أية مخططات نووية خفية .(1/21)
ويري المحللون والمتخصصون أن ذلك الأداء الإيراني يمكنها من تمييع القضية والاستفادة القصوي من عامل الوقت ويترك الأوربيين في حالة من الارتباك والبلبلة والحيرة لا تمكنهم من اتخاذ موقف أو قرار حاسم في تلك القضية .
الموقف العربي من السلاح النووي الإيراني
قبل الدخول في تفاصيل ذلك الموقف العربي هناك سؤالان لابد من الإجابة عنهما بصراحة ووضوح، ذلك لأنهما سيسهمان بشكل أساسي في تجلية حقائق كثيرة حول هذا الموقف.. وهذان السؤلان هما:
الأول: هل يدخل حساب القوة النووية الإيرانية علي افتراض وجودها في صالح العرب والمسلمين؟
الإجابة: أننا يجب ألا نراهن علي أن السلاح النووي الإيراني علي فرض وجوده من الممكن أن يستخدم في الدفاع عن دولة عربية أو إسلامية في حال الاعتداء عليها بشكل مباشر فهذا من قبيل أحلام اليقظة ولأسباب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها ولكننا يمكن أن نضيف هذا السلاح إلي موازين قوتنا في إطار قوة الردع الاستراتيجي ضد الدول المعادية لنا.. فإذا كان هذا السلاح النووي يردع دولة مثل إسرائيل التي هي العدو الأول للعرب والمسلمين فإنه بالتأكيد يضاف إلي عناصر قوتنا عند حساب موازين القوة بيننا وبينها.
الثاني: ما نتيجة حصول إيران علي السلاح النووي علي منطقة الشرق الأوسط عموماً والمنطقة العربية خصوصاً ؟(1/22)
ج: إن وصول إيران إلي صناعة سلاح نووي سوف يقلب موازين القوي رأساً علي عقب في تلك المنطقة وخاصة بينها وبين إسرائيل من ناحية وبينها وبين الدول العربية في الخليج من ناحية أخري، وسوف تصبح الدول العربية الحليفة لأمريكا بين نارين.. النار النووية الإيرانية، والنار النووية الإسرائيلية، مع تجردها المطلق من أي سلاح للرد عليهما.. في نفس الوقت الذي ستتمكن فيه إيران من تحقيق طموحاتها وأطماعها التوسعية بالمنطقة وهي إحياء الهلال الشيعي الذي يتكون من إيران ودول الخليج والعراق وسوريا ولبنان وقد يضاف إليه غرب وجنوب باكستان وأفغانستان.. كذلك فقد تعيد إحياء مفهوم تصدير الثورة الإسلامية لدول الجوار.. ومن ثم فسوف تسعي الدول العربية وخاصة الخليجية إلي الحصول علي حماية ردع نووي يكفل لها التصدي لهذا الخطر المحدق وبالتأكيد سوف تكون هذه الحماية من أمريكا ودول الغرب مما يدفع المنطقة إلي سباق عنيف للتسلح النووي من الممكن أن يهددها بالدمار الشامل وإعادتها إلي الخلف مئات السنين، كذلك فإن هذا سوف يؤدي إلي تعميق الارتباط السياسي والعسكري والأمني بين تلك الدول وبين الولايات المتحدة وصولاً إلي الارتماء التام بين أحضانها والخضوع الكامل لسيطرتها وهيمنتها بكل مايعنيه ذلك من تدمير البقية الباقية من التضامن العربي ومفهوم الأمن القومي العربي وظهور مفهوم جديد للأمن في المنطقة العربية هو الأمن القومي الأمريكي الإسرائيلي والذي سيضع الاعتبار الأول طبعًا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
أما بالنسبة للموقف العربي من السلاح النووي الإيراني- علي فرض وجود هذا السلاح -: فإن الدول العربية والإسلامية تنقسم إلي فريقين :(1/23)
الفريق الأول هو دول الخليج العربي والدول الحليفة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وهذه تري أن حصول إيران علي السلاح النووي هو تحول خطير في موازين القوي يهدد الأمن القومي العربي تهديداً مباشرًا ومدمرًا وهذه الدول تعارض أن تمتلك إيران أية تكنولوجيا نووية ناهيك عن سلاح نووي.
أما الفريق الثاني فيري أن حصول إيران علي السلاح النووي أمر ضروري لتحقيق التوازن مع إسرائيل التي تنفرد حالياً بقدرة الردع والإرهاب النووي في المنطقة، كما يري هذا الفريق أن الولايات المتحدة تكيل بمكيالين متناقضين في القضية النووية داخل الشرق الأوسط.. فبينما تسمح لإسرائيل بالانفراد بامتلاك السلاح النووي، فإنها في المقابل تصر علي منع إيران من السير في طريق امتلاك ذلك السلاح النووي الذي سيخلق حالة من التوازن مع إسرائيل ويأخذ أعضاء هذا الفريق علي الفريق الأول أنه يعارض حق امتلاك دولة مسلمة أياً كان مذهبها للتكنولوجيا النووية بينما لايجرؤ أن يفعل ذلك مع إسرائيل، ثم إنه يسأل: هل الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة ترقي إلي مستوي العداء والحقد والغل والبغضاء التي يكنها التحالف اليهودي الصليبي للإسلام والمسلمين؟ وهل إيران -مع اختلافنا المذهبي معها- تذبح المسلمين وتحتل أراضيهم وتدنس مقدساتهم كما تفعل أمريكا وإسرائيل في العراق وأفغانستان وفلسطين.
ومن خلال هذا المنطق يثور سؤال آخر ربما عده البعض من قبيل الأماني والأحلام لكنه علي أية حال ليس من المستحيل في شئ، وهو:
هل يمكن قيام تحالف أو توافق في المواقف بين القوي الإسلامية المحورية في الشرق الأوسط وهي إيران وتركيا والدول العربية وعلي رأسها مصر والسعودية؟ وما أهمية قيام ذلك التحالف أو التوافق؟(1/24)
ج: لابد أن نكون علي يقين بأن أي تحالف أو ترابط أو مجرد توافق في المواقف يقوم بين إيران وتركيا والدول العربية وعلي رأسها مصر والسعودية يصب بالتأكيد وتلقائيا في قوة الإسلام والمسلمين ولكن يأتي السؤال المهم.. كيف يمكن أن يقوم ذلك التحالف أو التوافق؟
والإجابة: أن هذا قابل للتحقيق ولكن لن تقوم له قائمة إلا علي ثلاث ركائز هي:
(أ) أن تنبذ هذه الدول الخلاف المذهبي بينها وهو الخلاف بين السنة والشيعة وهذا واجب شرعي عاجل ومحتم في هذه الظروف العصيبة، فمما لا شك فيه وبلا خلاف في الرأي أن العداء بين التحالف اليهودي الصليبي والإسلام يفوق بأضعاف مضاعفة الخلاف بين السنة والشيعة، لذلك فإن الواجب الشرعي علي جميع المسلمين في العالم نبذ أو تأجيل أي خلاف مذهبي أو عرقي أو قومي والتكتل والتحالف للدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد ذلك الخطر الأكبر وهو التحالف اليهودي الصليبي الذي يريد أن يجتث الإسلام والمسلمين من الجذور، ولنذكر جميعاً موقف النبي صلي الله عليه وسلم حين تحالف مع يهود المدينة من أهل الكتاب ضد الأحزاب من المشركين.
(ب) أن تتخلي إيران عن طموحاتها وأطماعها بإنشاء امبراطورية شيعية، وأن ينبذ حكام طهران بصدق ونهائيا أية فكرة لتصدير الثورة الإسلامية إلي الدول العربية والإسلامية وخاصة المجاورة لها ولتترك لكل شعب مسلم أن يختار قيادته ونظام حكمه بما يري فيه خيره ويضمن له مصلحته في إطار التشريعات الإسلامية.
(جـ) أن تتحرر الدول العربية والإسلامية من تلك التبعية الشديدة والخضوع المهين للإرادة اليهودية الصليبية وأن تمتلك إرادتها وقرارها في اتخاذ ما تري فيه مصالح شعوبها حقا وصدقا..(1/25)
فهل يعقل أن تقيم الدول العربية والإسلامية علاقات مع إسرائيل وترسل إليها سفراءها في الوقت الذي ترتكب فيه إسرائيل أبشع المجازر ضد إخواننا الفلسطينيين وتحتل أراضينا وتدنس مقدساتنا، وتعلن أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ويتصدي رئيسها بكل صفاقة ووقاحة ليهين ويحقر من شأن جميع الملوك والرؤساء العرب وخاصة في تلك الدول التي وقعت بالفعل اتفاقيات سلام مع إسرائيل. بقوله (إن أية اتفاقية مع أي زعيم عربي لا تساوي ثمن الورق الذي تكتب عليه).. يحدث هذا في الوقت نفسه الذي ترفض فيه تلك الدول العربية والإسلامية إقامة أية علاقات مع إيران لأسباب أوهي من ذلك بكثير؟
الدول العربية والتكنولوجيا النووية
علي مدي عقود طويلة وقف العرب يشاهدون وينظرون إلي الأحداث العالمية المتلاحقة في موقف رد الفعل، الجميع يتسابق من أجل امتلاك التكنولوجيا النووية ونحن نصر علي المشاهدة، والتحديق، بل نذهب إلي أبعد من ذلك حين نصادر حق غيرنا في هذا الامتلاك تحت دعاوي لم يعد لها وجود إلا في عقولنا نحن، فالعالم قد أصبحت لغة القوة فيه هي اللغة المسيطرة والمهيمنة، وهنا يبرز السؤال: ما الإمكانات النووية للدول العربية ، وهل تفكر بعضها في خوض غمار امتلاك التكنولوجيا النووية سواء للاستخدام السلمي أو العسكري؟
وللإجابة علي هذا السؤال لابد أن نؤكد علي أن الدول العربية في هذه المرحلة من تاريخها لا تمتلك المقومات ولا ترغب وليست علي استعداد لخوض ذلك المجال لأنها تفتقد أهم وأخطر العناصر التي تؤهلها لتلك المكانة وهي:
(أ) الإرادة الوطنية والمفهوم الحقيقي للأمن القومي :(1/26)
فهذا العنصر هو محور الارتكاز والعمود الفقري لأي دولة ترغب في خوض ذلك المجال وللأسف الشديد فإن غالبية الدول العربية إن لم تكن كلها في هذه المرحلة من تاريخها تفتقد ذلك العنصر .. ويشترك في تحمل إثم غيابه وافتقاده كل من الحكام والشعوب .. فالدول العربية تُحْكم في أغلبها بحكام لا يمثلون حقيقة شعوبهم .. فمنهم من يحكم حكمًا فرديًّا ديكتاتوريًّا ومنهم من جاء علي رأس السلطة بقوة السلاح ومنهم من جاء بانتخابات صورية ومنهم من ورث الحكم من آبائه وأجداده كل ذلك دون أي اعتبار للإخلاص أو الكفاءة أو الأمانة في تحمل المسئولية أو التنزه عن المصالح والأهواء الدنيوية ، وكانت النتيجة أن أصبح الأمن الشخصي للحاكم مقدمًا علي الأمن القومي للدولة وقدم كثير من الحكام الأمن القومي لبلادهم العربية قربانًا بين يدي التحالف اليهودي الصليبي العالمي وثمنا لتثبيتهم علي كراسيهم وعروشهم بما في ذلك المشاركة الفعلية في الحرب علي إخوانهم في الدول العربية والإسلامية بادعاء محاربة الإرهاب .(1/27)
كذلك فإن الشعوب العربية ليست بريئة تماما من ذلك الإثم.. فأين النخوة الإسلامية وأين الشهامة والرجولة العربية وأين الغضبة والفزع لنجدة الأخ الشقيق والذود عن شرف المسلمين وأعراض المسلمات والدفاع عن الدول العربية والمسلمة ومعارضة الحروب عليها؟ وللحقيقة فإن هناك بعض النماذج المتميزة التي يجب التنويه بها والتي تجسد مفهوم الأمن القومي عند بعض الدول ذات الإرادة الوطنية القوية والحس القومي العالي والرؤية والبصيرة الواضحة والجلية في هذا الشأن منها علي سبيل المثال دولة باكستان المسلمة وذلك قبل أن يتولي رئيسها الحالي الحكم .. فباكستان تعتبر أن العدو الأول بصورة واضحة لا لبس فيها وحتي تتحرر كشمير من الاحتلال الهندي هو دولة الهند المجاورة وتعتبر أن التوازن في القوي المسلحة وعدم تفوق الهند عليها هو أخطر ركيزة في ذلك الأمن القومي ، لذلك فمنذ سنوات وعندما سرت إشاعات بأن الهند علي وشك امتلاك سلاح نووي أعلن رئيس باكستان في ذلك الوقت وهو الرئيس الراحل ضياء الحق أن الهند لو صنعت سلاحًا ذريا فإن باكستان لابد لها أن تصنعه ولما سئل عن التكلفة الباهظة لصنع ذلك السلاح مقارنة بعدم ثراء دولة باكستان قال مقولة بليغة تعبر عن الفهم الواعي والاستشعار الحقيقي للأمن القومي.. تلك المقولة هي : (إذا صنعت الهند سلاحا نوويا فسوف نصنع سلاحنا النووي حتي لو أكلنا أوراق الشجر)
وبالفعل فإن هذا هو ما تحقق فما كادت الهند تفجر سلاحها النووي الأول، حتي لحقت بها باكستان بأسرع من البرق مفجرة سلاحها النووي بعدها مباشرة.
(ب) امتلاك التكنولوجيا النووية:(1/28)
والدول العربية تفتقد ذلك العنصر افتقادًا شديدا والسبب الرئيسي في ذلك هو أن التحالف اليهودي الصليبي قد وضع علي رأس استراتيجيته النووية الحظر الكامل والحرمان التام علي أي دولة عربية أو مسلمة في العالم من امتلاك تلك القدرة النووية لا فرق في ذلك بين الدول المتحالفة معه والمتمردة عليه فحرم علي الدول الغربية تزويدها بها كما مارس أقصي الضغوط علي الدول الأخري التي تمتلك تلك التكنولوجيا مثل روسيا والصين لمنعها من التعاون معها في ذلك المجال
(ج) القدرة المادية والاقتصادية:
فمعظم الدول العربية باستثناء الدول البترولية لا تملك المقدرة علي تحمل النفقات الباهظة لامتلاك التكنولوجيا النووية .
(د ) توافر الكوادر العلمية والفنية من العلماء والمتخصصين النوويين:(1/29)
وهو عنصر مفتقد عند كثير من الدول العربية لأسباب شتي.. ففي أواخر حقبة الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات كانت الدول العربية تذخر بالعديد من علماء الذرة الأكفاء مثل الدكتور علي مصطفي مشرفة في مصر، والدكتور يحي المشد أبو البرنامج النووي العراقي والذي اغتيل في باريس، وذلك لأن الدول العربية في ظل ثنائية القوي في العالم بين الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت استغلال التنافس بين القطبين في قطع خطوات جيدة في هذا المجال بما فيها إقامة منشآت ذرية في بعض الدول العربية مثل (مؤسسة الطاقة الذرية) في أنشاص بمصر وكانت الدول العربية في ذلك الوقت تعيش حسا قوميا عاليا وشعورا وطنيا جارفا تحت راية ما يسمي بالقومية العربية .. فلما انهار الاتحاد السوفيتي وانفردت أمريكا بقيادة العالم أعلنت الحظر صريحًا علي كل الدول العربية والإسلامية في مجال امتلاك التكنولوجيا النووية بدءًا من حجب العلوم و المعلومات النووية المتقدمة وعدم تقديم مواد أولية حرجة أو تركيب مفاعلات نووية أو أجهزة متقدمة في ذلك المجال أو تعاون علماء الغرب معها.
وكانت النتيجة أن ماتت المشاريع وأغلقت المنشآت أو دمرت وتعطلت الكفاءات ... وذبلت الخبرات .. واضطر كثير من العلماء والمتخصصين النوويين العرب الذين كانوا قد برعوا في ذلك المجال وكانوا يخشون ضياع ما في رءوسهم من علم أن يهاجروا ويعملوا في دول الغرب تاركين التكنولوجيا النووية تموت في أوطانهم .
وأخيرًا(1/30)
فهذا هو الملف النووي الإيراني والذي ما كان ينبغي أن يفتح إلا في ظل هذه الحالة البالغة من الغرور والتبجح والاستكبار الغربي مقابل الهوان والتخاذل والاستكانة من المسلمين، ولن تغلق صفحات هذا الملف وغيره من الملفات الحزينة والدامية في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والسودان وغيره من بلاد الإسلام إلا بعودة المسلمين إلي التوحد والتكاتف ونبذ كل أنواع الفرقة علي اختلاف أشكالها العرقية والمذهبية والقبلية تصديقا لقوله تعالي:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) (آل عمران: من الآية103)
تركيا والاتحاد الأوروبي..بين الوهم والحقيقة
نشر هذا الملف في العدد الخامس عشر السنة الثانية من مجلة التبيان
بتاريخ شوال 1426 هـ - نوفمبر 2005م
تركيا .. بلاد الأناضول .. الإمبراطورية العثمانية العظيمة .. دولة الخلافة الإسلامية الزاهرة .. قائدة الفتوحات الإسلامية في أوروبا وقاهرة عروش أباطرتها وملوكها وأمرائها.. رافعة رايات الإسلام خفاقة عالية علي أسوار وقلاع وعواصم اليونان والمجر وبلغاريا ورومانيا والتشيك وسلوفاكيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا وألبانيا .. حتي وصلت إلي قلب النمسا وحاصرت عاصمتها (فيينا) ودكت أسوارها بالمدافع فكادت تلك العاصمة الاستراتيجية لأوروبا في ذلك الوقت أن تسقط .. وبالتالي كادت أوروبا كلها أن تنفتح للإسلام وتصبح جزءًا من دولة الخلافة الإسلامية العثمانية .
تمهيد(1/31)
الدولة ذات التاريخ الزاهر والحضارة العريقة والمجد التليد تقف اليوم - وياللعجب- علي أعتاب تلك الدول التي كانت يومًا ما من بعض رعاياها ترجو وتلح وتتضرع حتي تكاد تستجدي لتقبلها عضوًا بينها وترضي بانضمامها إلي الاتحاد الأوروبي الذي يجمعها.. وفي المقابل فإن تلك الدول التي كانت يومًا ما تقف علي أعتاب عاصمة الخلافة الإسلامية ترجو وتتضرع وتستجدي، تقف اليوم في تمنع واستعلاء.. وتعلن في تشفٍ واستكبار أن علي الدولة التركية أن تدفع الكثير والكثير من الشرف والكرامة الوطنية والانسلاخ من الهوية الإسلامية والاستبراء من التاريخ الزاهر لدولة الخلافة العثمانية.. وبعد ذلك تنظر هذه الدول لعلها ترضي بانضمام تركيا إليها.(1/32)
هذا هو الملف.. وهذا هو فحواه ومحتواه.. وهو الظاهر لدينا.. أما في الحقيقة فإن هذا الملف يحمل بين طياته أمواجًا وأمواجًا تتلاطم من الغموض والحيرة، وهو في ذلك يشبه تمامًا جبل الجليد ما خفي منه أضعاف أضعاف ما ظهر.. وبقدر ما كان الملف النووي الإيراني واضحًا وضوح الشمس في بيان الدوافع والأهداف والقوي المحركة لكل طرف من أطرافه والتطورات المحتملة لكل موقف من مواقفه.. فإن الملف التركي الأوروبي قد غرق في بحار من الغموض والإبهام.. فهناك الكثير والكثير من الأسئلة التي لا توجد لها إجابات شافية.. فمثلاً؛ لماذا تريد تركيا الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي؟.. ولماذا هذا الإصرار الشديد والغريب بالرغم من الشروط الأوروبية المذلة والمهينة؟ وما هو الثمن الذي تدفعه وستدفعه تركيا مقابل هذا الانضمام؟ ولماذا تفتح أوروبا لتركيا باب الانضمام للاتحاد الأوروبي؟ وهل ستقبل أوروبا حقيقة في النهاية بانضمام دولة الخلافة الإسلامية إلي النادي الأوروبي المسيحي؟ وهل إذا انضمت تركيا -فرضًا- للاتحاد الأوروبي.. هل ستكون عضوًا مساويا للآخرين أم أنها ستظل عضوًا منبوذًا يعامله الآخرون بازدراء وامتهان؟ وهل سيكون ذلك الانضمام في مصلحة الإسلام وتركيا أم أن تركيا ستنسلخ من أمتها ومن دينها؟.. وهناك الكثير والكثير من الأسئلة الحائرة التي تبحث لنفسها عن إجابات بلا جدوي.. وقبل أن نفتح هذا الملف نوجز نبذة مختصرة عن دولة تركيا..
الجغرافيا.. والسكان
تركيا.. هي دولة يقع الجزء الأكبر منها في قارة آسيا و جزء آخر صغير في قارة أوروبا ويقع مضيقا البوسفور والدردنيل في أراضيها مما يجعل موقعها استراتيجيا ومؤثرا علي الدول المطلة علي البحر الأسود. يحدها جورجيا وإيران و أرمينيا و أذربيجان شرقا، العراق و سوريا و البحر المتوسط جنوبا، بحر إيجة و اليونان و بلغاريا غربا، البحر الأسود شمالا.(1/33)
كانت تركيا مركزا للخلافة الإسلامية والحكم العثماني حتي عام 1924 حيث تم إلغاء الخلافة الإسلامية وإنشاء الجمهورية التركية علي يد مصطفي كمال أتاتورك .
يبلغ عدد سكان الجمهورية التركية حوالي 70 مليون نسمة حسب إحصاءات عام 2005م والتركيبة السكانية لتركيا معقدة و مكونة من عشرات الأعراق، وذلك لأن الدولة العثمانية في فترات مجدها وازدهارها امتدت لتشمل مساحات شاسعة في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا وكانت تحكم العديد من الشعوب ذات الأعراق والأجناس المختلفة، ويشكل الأتراك أكبر تشكيلة عرقية للسكان (حوالي 70-80%)، يليهم الأكراد (20-30%)، ثم الزازيون (2-3%)، فالعرب (2%) والشركس (0,5%) و الجورجيون (0,5%) وهناك أقليات أخري: أرمن، يونان، آشور، أراميين، بوسنيين، ألبان، شيشان، بلغار، وغيرهم.. وتعد الأقليات القرمية، التتارية، الآذربيجانية، القوقازية، الأوزبكية، القرقيزية، التركمانية، الكازاخية أقليات تركية.
اللغة: أما اللغة الرسمية فهي التركية والتي يتحدث بها 70% من السكان، بينما اللغة الكردية يتحدث بها 20%، وهناك حوالي 2% يتحدثون اللغة العربية.
الديانة: أما الديانة الرسمية فهي الإسلام حيث تشكل نسبة من يدين به 99.8% من السكان، منهم مايربو علي 70% من السنة وما يقارب 30% يتبعون العلوية، كما تمثل المسيحية ديانة حوالي 0.2% من السكان، واليهودية 0.04% منهم.
تمتد أراضي تركيا بين قارتي آسيا وأوروبا، ويشكل الجزء الآسيوي، الذي يدعي الأناضول، حوالي 97% من مجموع أراضيها البالغ مساحتها 779,452 كم مربع، بينما يكون الجزء الأوروبي، الذي يدعي تراقيا، ما نسبته 3% ومساحته 23,623 كم مربع من مجمل مساحة البلاد، هذا وتمثل تركيا بموقعها الجغرافي جسرًا يربط بين الشرق والغرب.(1/34)
التضاريس: من ناحية التضاريس فإن أعلي جبال تركيا هي أرارات 5137 مترا، وأهم الأنهار هي كيزيليرماك (1335) كيلومترا يليه نهرا دجلة والفرات، كمايتبع تركيا عدة جزر معظمها في بحر إيجة والبحر المتوسط وأهمها: أمروز، مرمرا أداسي، بوزكادا.
أهم المدن: العاصمة أنقرة وتقع في وسط تركيا تقريبًا ثم اسطنبول وهي من أكبر مدن العالم من حيث عدد السكان وتقع علي مضيق البوسفور ثم أزمير وأضنة وديار بكر.
لمحة تاريخية
تفككت الدولة السلجوقية فتكونت السلطنة العثمانية بعدها بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر وأخذت بالتوسع حتي سيطرت علي الإمبراطورية البيزنطية وبلغاريا وصربيا إلي أن توقف توسعها إثر هزيمة بايزيد الأول (يلدرم) الصاعقة عام 2041م علي يد تيمور لنك شهدت تركيا بعد الحرب العالمية الأولي حركة قومية قادها مصطفي كمال أتاتورك الذي ألغي الخلافة وأعلن تركيا جمهورية وتولي رئاستها عام 1924م حتي وفاته عام 1938م وقد تمكن من استبدال المبادئ الإسلامية بأعراف قومية علمانية واستبدل الحروف في تركيا من العربية إلي اللاتينية ثم خلفه (عصمت انينو) حتي عام 1950م ثم سيطر الحكم المدني علي البلاد حتي عام 1973م فأدي ذلك إلي وضع غير مستقر حيث اندلعت أعمال العنف عام 1980م، وتعاني الحكومة التركية من معارضة الأكراد والأرمن حيث إن الأكراد يمثلون حوالي 02 مليون نسمة يعيشون في جنوب شرقي البلاد والحكومة لا تعترف بهم كجمهورية مستقلة وفي عام 3991م أصبحت تانسو تشيلر أول رئيسة للوزراء في تركيا، وفي أواخر الستينيات ظهر التيار الإسلامي السياسي لأول مرة ممثلا في حزب النظام الوطني بزعامة نجم الدين أربكان، وفي عام 1996م تشكلت حكومة ائتلافية يقودها الإسلاميون لأول مرة.
البداية
والملف التركي الأوروبي.. يجمع ثلاثة أطراف.. هم في الحقيقة خصوم يفرق بينهم الدين والتاريخ والمصالح، وهم المحركون الأساسيون لكل أحداثه وتداعياته .. هذه الأطراف هي:(1/35)
? الحكومة التركية الإسلامية.
? حكومات الدول الأوروبية المسيحية.
? المؤسسة العسكرية التركية العلمانية.
ولكل طرف من هذه الأطراف هدف محدد واضح يسعي إلي تحقيقه ويسلك في سبيله مسلكًا وعرًا يتسم بدرجات عالية من الخطورة، ويمتلئ بالعقبات والعراقيل . ويمني كل منهم نفسه بالوصول إلي هدفه وتحقيق مطلبه قبل الآخرين وقبل أن تتصاعد تلك المخاطر التي تقابله إلي درجة تنفلت خيوطها من بين يديه فتهدد عقيدته ووجوده ومصالحه الحيوية .. وقبل أن نستعرض أهداف كل طرف والمخاطر التي يسلكها لتحقيقها يجب أن نبين أن جوهر ولب هذا الملف يكمن في ذلك الغموض العميق الذي يلف ويحوط العلاقات بين هذه الأطراف .. فالثلاثة يسيرون في طريق واحد يوصل في نهايته إلي هدف مشترك معلن لهم جميعًا في الظاهر وهو: انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي .. ولكن هل هذا هو الهدف الحقيقي لكل منهم؟ أم أنه هدف وهمي يوهم كل منهم الآخر به علي حين أن لكل منهم هدفه الخفي؟ وهل يعلم كل طرف بحقيقة نوايا الطرف الآخر وبهدفه الحقيقي الذي يتعارض معه ويهدد مصالحه؟ .. وإن كان الأمر كذلك فلماذا يتغافل كل طرف عن ذلك ويسير في نفس الطريق الذي يخدم المصالح الاستراتيجية للآخرين ويقربهما من تحقيق أهدافهما التي تتعارض مع أهدافه ومصالحه؟ أم أن الأطراف الثلاثة يعلم كل منهم جيدًا نوايا الآخرين، ولكنه يمني نفسه بالوصول إلي تحقيق هدفه قبلهما حيث يمكنه بعد ذلك أن يصلح ما أفسده ويعالج ما خربه في سبيل الوصول إليه ؟!!
ونحن في هذا الملف سنحاول بمشيئة الله عز وجل أن نستعرض بعض الحقائق والمعطيات والدوافع والأهداف المحركة لكل طرف من هذه الأطراف لنصل إلي رؤية أقرب ماتكون إلي الحقيقة والواقع.
أولاً: الحكومة التركية الإسلامية:(1/36)
لقد كُتبت مقالات كثيرة ووُضعت تحليلات عديدة في تفسير ذلك الحرص الغريب والإلحاح المهين الذي تبديه الحكومة التركية - ذات التوجه الإسلامي - للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي .. ولو كان ذلك الحرص من الحكومات العلمانية السابقة لما كان مستغربًا نظرًا لعداء تلك الحكومات للإسلام ورغبتها الطاغية في الانسلاخ منه والاندماج في أوروبا المسيحية.. وقد خلصت معظم هذه التحليلات والتقارير إلي أن المكاسب المادية والحضارية هي الدافع المحرك لاندفاع تلك الحكومة الإسلامية في ذلك الاتجاه، ولكن في الحقيقة لم تكن هذه التحليلات مقنعة، فإنها لم تقدم لنا إجابة شافية، وظل نفس السؤال بلا جواب لماذا هذا الإلحاح والحرص؟.. فالحكومات العلمانية أيضًا كانت تريد ذلك الانضمام وتسعي إليه.. ولكن الغريب أن الحكومات الإسلامية التي وصلت أخيرًا للحكم قد قطعت في ذلك الاتجاه في سنوات معدودة ما قطعته الحكومات العلمانية فيما لا يقل عن أربعين عامًا.. فما سبب ذلك الاندفاع؟.. ولقد كُتِبَتْ أخيرًا عدة تحليلات وضعت يدها علي بعض مواطن الداء وكشفت كثيرًا من الخبايا والأسرار التي حاولت الأطراف الثلاثة إخفاءها.. والحقيقة أنها تحليلات جديرة بالتقدير والاحترام، تحاول أن تبين الدوافع والأهداف الحقيقية لكل طرف، والمخاطر التي يرتكبها، والثمن الذي يدفعه في مقابل ذلك.. وأنا أظنها أقرب التحليلات التي وضعت في ذلك للحقيقة والواقع.. وكانت في مجملها تفيد ما يلي:
أهداف الحكومة التركية
كان للحكومة التركية ثلاثة أهداف تدفعها لطلب الانضمام للاتحاد الأوربي، أولها هو الأصل والتاليان فرعان منه .(1/37)
الهدف الأول: إن الهدف الأول والحقيقي للحكومة التركية هو العودة بتركيا إلي الإسلام وإحياء انتمائها إلي جذورها الإسلامية .. ولكن كانت هناك عقبة قاتلة أمامها تمنعها من السير في ذلك الطريق .. تلك العقبة هي المؤسسة العسكرية التركية المتمثلة في (مجلس الأمن القومي ) والذي نُصِّب بحكم الدستور حارسًا ومدافعًا ومنافحًا عن العلمانية الأتاتوركية، ومتصديا ومستأصلاً لشأفة أي بادرة لتوجه إسلامي في الدولة التركية.. وقد أعطي له الدستور صلاحيات خطيرة ومطلقة في هذا المجال تتصاعد بدءًا من القبض علي أي مواطن تركي يظهر أي تعاطف أو ميل علني للإسلام أو يتخذ مظهرًا إسلاميا وانتهاءً بحق هذا المجلس في عزل وإقالة أية حكومة تنتهج ذلك النهج أو تنحو هذا المنحي مع التنكيل بأعضائها.(1/38)
وقد ظهر ذلك جليا في موقف ذلك المجلس من الحكومة الإسلامية السابقة التي رأسها نجم الدين أربكان .. فما كاد الأخير يعلن أن دولة تركيا ستعود للإسلام ، وبدأ بالفعل في توطيد علاقته بالأمة العربية والإسلامية حتي نالته يد البطش العسكري فأُجبر علي الاستقالة وحُرم من ممارسة العمل السياسي.. فلما جاءت حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية إلي الحكم استوعبت الدرس من رأس الذئب الطائر فلم تسلك مسلك نجم الدين أربكان في الإعلان عن حقيقة نواياها في العودة إلي الإسلام.. وإنما أخذت تبحث في فطنة وذكاء وفي صبر وأناة عن السبيل الآمن الذي يوصلها إلي ذلك الهدف.. فوجدت أنه لابد لها أن تتخلص من سطوة المؤسسة العسكرية التي يشهر سيفها مصلتا علي عنقها وعلي عنق أية حكومة إسلامية غيرها تنهج نهجها، وبعد تفكير طويل وتدبر عميق وجدت الحكومة الإسلامية ضالتها المنشودة وأملها المرتجي في ذلك الملف ( انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ) والذي كان قد بدأت أولي خطواته قبل ذلك بأكثر من أربعين عامًا وبالتحديد في عام 1963م بطلب تقدمت به تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي .. فقد وجد أردوغان أن الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي والواجب علي تركيا الالتزام بها وتحقيقها لقبول انضمامها إليه هي نفس السلاح الذي يقلم أظافر المؤسسة العسكرية ويكسر قبضتها الحديدية ويقلص من سطوتها وسلطانها الخانق علي الشعب والحكومة التركية .. لذلك فقد اتخذت الحكومة التركية طلبات وشروط الاتحاد الأوروبي حصان طروادة الذي تستطيع به تكبيل ذلك السلطان العسكري الحارس علي العلمانية الأتاتوركية، ولذلك فبمجرد أن اتضحت هذه الرؤية جلية سبيلاً وحيدًا فاعلاً وناجعًا للحكومة التركية للتخلص من سيطرة العسكر والعودة إلي الإسلام اندفعت بتلك السرعة الغريبة وذلك الإصرار العنيف لتحقيق تلك الشروط والمطالب..(1/39)
وطبعًا كانت من الذكاء بحيث تعلن أن تلك الرغبة الشديدة للانضمام للاتحاد الأوروبي ليس لها مقصود إلا ما كان يطلبه العلمانيون، وهو اللحاق بركب الحضارة الأوروبية المتقدمة والابتعاد عن الأمة الإسلامية المتخلفة، وزادت في ذلك أيضًا أن أحيت في نفوس الشعب التركي وبشدة تلك الأحلام بالمكاسب العظيمة والفوائد العديدة التي ستعود عليه من ذلك الانضمام ليكون رافدًا لها يدفع في نفس الاتجاه.
الهدف الثاني: تري الحكومة الإسلامية في تركيا أن الانضمام إلي أوروبا سيسهم في التقارب بين الإسلام والشعوب الأوروبية وأنه سوف يكون الجسر الذي تعبره تركيا المسلمة مرة أخري إلي الدول الأوروبية حاملة معها دعوة الإسلام ليس عن طريق الفتوحات هذه المرة، وإنما عن طريق المصالح المشتركة والعلاقات الإنسانية.
الهدف الثالث: إن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سوف يفتح لها الأبواب للتواصل مع أقصي درجات التقدم العلمي والتطور التكنولوجي، لكي يلحق المسلمون بركب الحضارة أخذا بأسباب الدنيا كما يأخذون بأسباب الآخرة.(1/40)
الطريق الوعر والمسلك الخطير: ولكن الطريق لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة لم يكن مفروشًا بالورود والرياحين .. فقد كان علي الحكومة الإسلامية أن ترتقي مرتقي صعبًا وأن تسلك مسلكًا خطيرًا، وأن تسير في طريق يتسم بتضحيات قاسية ومخاطر شديدة تعرضها وتعرض الأمة الإسلامية لمخاطر تمس أمنها القومي، وتهدد بضربها في أهم قضاياها.. قضايا الدين والأرض والشرف والعرض .. فلقد كان السلاح الذي استغلته الحكومة الإسلامية لضرب المؤسسة العسكرية وانتزاع صلاحياتها وهو الانصياع للمطالب الأوربية هو نفس السلاح الذي كانت تغمده بيدها في صدرها هي وصدر أمتها الإسلامية .. هذه هي المعادلة الصعبة التي كانت وستظل مجهولة النتائج حتي ينحسر غبار المعركة وتتضح نتيجة الصراع .. ولكن الحكومة التركية تمني نفسها بأن ذلك السلاح سوف يلحق الهزيمة بخصمها قبل أن يقضي عليها هي .. وحينئذ وبعد تحقيق هدفها فإنها سوف تبدأ في إصلاح ما أفسدته في طريقها لبلوغ هدفها .. وهنا يثور سؤال جديد : وهل تضمن الحكومة الإسلامية أن يسقط خصمها قبلها؟ أم أن الرياح قد تأتي بما لا تشتهي السفن، فتسقط هي أولاً بضياع الإسلام من تركيا علي مذبح المطالب والشروط الأوروبية، وذلك قبل أن يسقط العسكر وتتحقق أهدافها؟.. حقًا إنه سؤال صعب والإجابة عليه عسيرة.
الثمن الذي تدفعه الحكومة التركية لتحقيق أهدافها
هناك ثمن معلوم لابد للحكومة التركية أن تدفعه مقابل هذه الرغبة التي تسعي إليها، بغض النظر عن دوافعها.. وأهم ما في هذا الثمن:
1- الخضوع والاستجابة للمطالب الأوربية التي تختلف مع القيم الدينية الروحية والشرعية للإسلام والمسلمين مثل القبول بتعديل بعض المواد في الدستور والقوانين بشكل يتعارض مع التشريعات الإسلامية كإلغاء عقوبة الزنا من القانون التركي مثلا والتي أقرها البرلمان التركي مؤخرًا.(1/41)
2- تقوية وتعميق التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية علي اعتبار أنها القوة المهيمنة علي العالم اليوم، والتي تضمن لتركيا ولوج البوابة الملكية لأوروبا.. وقد رأينا شكلاً من أشكال ذلك التحالف الوثيق في الحرب علي أفغانستان حيث كانت القوات التركية هي أول قوات الحلفاء وصولا إلي أفغانستان للاشتراك في قتال المسلمين الأفغان من قوات طالبان.
3- تقوية وتعميق التحالف مع إسرائيل علي اعتبار أنها البوابة الملكية أيضا للوصول إلي قلب أمريكا وبالتالي دفع الأخيرة لاستنفار أقصي جهودها للضغط علي الاتحاد الأوربي لقبول انضمام تركيا إليه.. وقد وصل هذا التحالف إلي درجات خطيرة حيث فتحت تركيا مجالها الجوي بالكامل للطيران الحربي الإسرائيلي الذي أصبح علي الحدود الشمالية مباشرة مع سورية والعراق وإيران، وكذلك فإن هناك مشاركة تركية إسرائيلية في الصناعات العسكرية، واتفاقيات للمياه تهدد أنصبة سوريا والعراق لصالح إسرائيل، وغيرها من التحالفات التي تهدد إسرائيل من خلالها العالم العربي والإسلامي عمومًا، وتمكنها من تثبيت أقدامها وتحقيق أهدافها علي أرض فلسطين والقدس الأسير.
4- وجوب اعتراف تركيا بالمجازر المزعومة التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن والأكراد وغيرهما من الأقليات، والتي لم يثبت عليها أي دليل قاطع أو برهان ساطع .. مما يحمل الأتراك وزر جرائم وادعاءات وافتراءات ظالمة تظهر الإسلام في صورة دموية بشعة وتعرض تركيا -بوصفها وريثة الإمبراطورية العثمانية - إلي إدانة إنسانية دولية واسعة وإلي دفع تعويضات مادية هائلة لمن تبقي من هذه الأقليات كما يزعمون.(1/42)
5- وجوب اعتراف الدستور التركي بوجود القومية الكردية كثاني قومية في البلاد، ومنح الأكراد شكلاً من أشكال الحكم الذاتي مما يعرض وحدة البلاد لخطر انفصال هذه القومية والتي يبلغ عدد أبنائها حوالي 20 مليون نسمة بالجزء الجنوبي الشرقي من تركيا طلبًا للاتحاد مع دولة الأكراد في شمال العراق لإحياء حلم دولة كردستان التاريخية والتي تمتد أراضيها في دول تركيا والعراق وسوريا وإيران.. وبالطبع فسوف يصب هذا في مخطط تمزيق وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية.
ثانيا: الدول الأوروبية المسيحية
تتبني الدول الأوروبية موقفين كما ذكرنا .. موقفًا حقيقيا -خفيا- وموقفًا ظاهريا.. معلنًا:
الموقف الحقيقي: وهو موقف لا تبوح ولن تبوح به.. وهو الموقف الذي يجسد حقيقة مشاعرها الدينية والتاريخية، وما يجيش بعقلها الباطن من ذكريات أليمة تجاه دولة الخلافة الإسلامية العثمانية وفتوحاتها العظيمة في القارة الأوروبية.. وهذا الموقف نهائي ومحسوم، وهو أنه لا مكان لتركيا المسلمة بين دول أوروبا المسيحية حتي لو انسلخت من الإسلام، وأن تركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية يجب أن تدفع ثمن فتوحاتها لأوروبا وقهرها لملوكها وأمرائها وأباطرتها بالوقوف علي أعتاب تلك الدول في امتهان وخضوع وتذلل وخشوع.
الموقف الظاهري: أما الموقف الظاهري فهو موقف مسموح فيه لكل دولة أوروبية بالإعلان عن رؤيتها الخاصة .. وهي رؤي وإن تعارضت إلا أنها تصب كلها في هدف واحد وهو سلخ تركيا من عقيدتها وهويتها الإسلامية مع إذلالها وتحقيرها علي الملأ أمام العالم، وقد اتخذت الدول الأوروبية في هذا المجال رأيين متعارضين :(1/43)
الرأي الأول: يري وجوب الادعاء بقبول انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي حتي تبدأ في تطبيق كل الشروط والمتطلبات الأوروبية والتي تهدف في نهاية الأمر إلي صبغ تركيا بالصبغة الأوروبية وانحلال روابطها الإسلامية وخوفًا من أن إعلان الرفض الصريح لانضمام تركيا للاتحاد قد يدفعها في الاتجاه المعاكس فيقوي التيارات الإسلامية، ويثير في الشعب التركي الحمية والغيرة والنخوة تجاه دينه وعقيدته .
الرأي الثاني: يري وجوب إعلان الرفض صريحًا إذلالاً وتحقيرًا للدولة التركية المسلمة وتعبيرًا واضحًا عما تحمله العقول والقلوب والصدور من ذكريات الفتوحات العثمانية الأليمة ومن حقد وغل وبغضاء لوريثة الإمبراطورية العثمانية الفاتحة.
ومن الدول التي تبنت الرأي الأول وأعلنت موافقتها الظاهرية علي الانضمام: بريطانيا وألمانيا واليونان وإيطاليا والبرتغال.. وفرنسا التي اتخذت موقفًا متذبذبًا ولكنها في النهاية تحسب علي المؤيدين، أما الدول التي تبنت الرأي الثاني وأعلنت معارضتها الصريحة للإنضمام فتأتي علي رأسها قبرص والنمسا اللتان اتخذتا موقفًا متشددًا رافضًا للانضمام .. وكان لكل منهما سببه الخاص ، فحكومة القبارصة اليونانيين في الشطر الجنوبي من جزيرة قبرص ترفض الموافقة علي الانضمام إلا بعد اعتراف تركيا بها ممثلاً شرعيا وحيدًا لكل الجزيرة مما يعني تجاهل تركيا للقبارصة الأتراك، وهذا أمر ترفضه تركيا جملة وتفصيلاً .. أما النمسا فكان لها أسبابها التاريخية مع تركيا، ويمكن تفصيل ذلك علي النحو التالي:
المشكلة القبرصية(1/44)
تقع جزيرة قبرص في البحر المتوسط علي مسافة 70 كيلومترا جنوب تركيا، وعلي بعد 800 كيلومتر من الشرق لليونان، وعاصمتها مدينة نيقوسيا وتتلخص مشكلتها في أنها تعيش فيها قوميتان هما: القومية التركية في الشمال وهي من المسلمين السنة وتمثل 24% من إجمالي عدد السكان تقريبًا؛ والقومية اليونانية في الجنوب وهي من المسيحيين الأرثوذكس وتمثل نسبة 74% تقريبًا ؛ والباقي من الأقليات الصغيرة، وكانت الجزيرة تتبع سياسة عدم الانحياز أيام حكم الرئيس الأسبق الأسقف مكاريوس .. ثم حدث فيها انقلاب عسكري قام به القبارصة اليونانيون وأرادوا ضم الجزيرة إلي اليونان بتأييد من الحكومة العسكرية اليونانية في ذلك الوقت، ووقعت في الجزيرة مصادمات عنيفة بين الطائفتين، قام فيها القبارصة اليونانيون بمجازر رهيبة ضد القبارصة الأتراك .. فما كان من تركيا إلا أن قامت بغزو عسكري للجزء الشمالي من جزيرة قبرص والذي يقطنه القبارصة الأتراك لحماية أرواحهم وممتلكاتهم، وذلك في يوليو 1974م ، ونتيجة لذلك قسمت الجزيرة إلي شطرين : الشطر الشمالي التركي الذي أعلن قيام دولة قبرص التركية في نوفمبر 1983م وتبلغ مساحتها 35% من مساحة الجزيرة ، ولم تعترف بها إلا تركيا فقط ، والشطر الجنوبي اليوناني وتبلغ مساحته حوالي 65% من المساحة والذي ادعي أنه الممثل الشرعي للجزيرة كلها، وعندما تقدمت حكومة القبارصة اليونانيين في الجنوب بطلب انضمام للاتحاد الأوروبي ممثلاً لجزيرة قبرص، طالبها الاتحاد بحل مشكلة انقسام الجزيرة أولاً من خلال خطة للسلام طرحتها الأمم المتحدة ، وأيدها بشدة كل من تركيا والقبارصة الأتراك والاتحاد الأوروبي ولكن القبارصة اليونانيين رفضوا تلك الخطة من خلال استفتاء أجري في الشطر اليوناني من الجزيرة بذلك الشأن، مما أثار استنكار بقية الأطراف لذلك الموقف السلبي.. ثم كانت المفاجأة وبعد وقت قصير من إعلان ذلك الرفض ..(1/45)
فقد قبل الاتحاد الأوروبي انضمام الحكومة القبرصية اليونانية إليه كممثلة شرعية وحيدة للجزيرة بأكملها .. وبالطبع رفضت تركيا هذا الوضع المتعصب والمنحاز واعتبرت أن ذلك الموقف يمثل مكافأة للقبارصة اليونانيين علي رفضهم خطة الأمم المتحدة لتسوية النزاع بينهم وبين القبارصة الأتراك، وأصرت علي أن الحكومة القبرصية اليونانية في الجنوب لا تمثل إلا الشطر الجنوبي من الجزيرة، وأنها لن تعترف بأية حكومة للجزيرة القبرصية إلا إذا كان القبارصة الأتراك شركاء فيها كالقبارصة اليونانيين تمامًا كقوميتين متساويتين وليس كأغلبية وأقلية، وعلي ذلك فإن المشكلة الآن تكمن في أن الاتحاد الأوروبي ينظر إلي حكومة القبارصة اليونانيين فقط علي أنها السلطة الشرعية الوحيدة علي الجزيرة كلها، وفي المقابل فإن تركيا لا تعترف بها إلا علي أنها تمثل الجزء الجنوبي للجزيرة فقط في مقابل حكومة القبارصة الاتراك في الجزء الشمالي منها .. لذلك -وخروجًا من هذا المأزق- فقد اتفق قادة الاتحاد الأوروبي جميعًا علي أن اعتراف تركيا بالحكومة القبرصية الحالية ليس شرطًا مسبقًا لبدء المباحثات .. وحفظًا لماء وجه الاتحاد الأوروبي فقد اعتبر أن موافقة تركيا علي قرار توسيع الاتحاد الجمركي مع دول الاتحاد ليشمل الأعضاء الأوروبيين العشرة الجدد -ومن بينهم حكومة قبرص اليونانية-؛ يعد اعترافًا ضمنيا من تركيا بها، وذلك بالرغم من أن تركيا أصدرت بيانًا أوضحت فيه أن توقيعها علي هذا القرار لا يعني أي تغيير في موقفها من الجزيرة المقسمة.. وكانت موافقة تركيا علي هذا القرار بتوسيع الاتحاد الجمركي هو آخر شرط وضعه الاتحاد الأوروبي لبدء مباحثات قبول عضوية تركيا في الاتحاد.
المعارضة النمساوية(1/46)
أصرت النمسا علي رفض قبول تركيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وطالبت أن يعرض الاتحاد علي تركيا شراكة متميزة بدلاً من العضوية الكاملة، وهو ما ترفضه تركيا رفضًا مطلقًا، وقد حاولت رئاسة الاتحاد إثناء النمسا عن اعتراضها بتقديم ترضية لها تتمثل في إمكانية تعليق المفاوضات التي قد تستغرق من 10-15 عامًا أو إلغائها تمامًا في أي مرحلة من مراحلها وحول أي ملف من ملفاتها عند حدوث أية مخالفة من الجانب التركي أو خروج علي مطالب وشروط الاتحاد.
النمسا والتاريخ
ويتمثل سبب الرفض النمساوي في عدم مقدرة النمسا علي نسيان الماضي، حيث كانت الفتوحات الإسلامية العثمانية في أوروبا ملء السمع والبصر، واستطاعت الجيوش العثمانية الوصول فيها حتي أبواب فيينا عاصمة النمسا وحاصرتها مرتين ودكت أسوارها ودمرتها بالمدافع.. وكانت المرة الأولي علي يد سليمان القانوني أعظم سلاطين الدولة العثمانية في عام 1529م، حيث تراجع عنها نتيجة نقص الذخائر وحلول موسم الشتاء بثلوجه وبرودته القارصة، أما الحصار الثاني فقد كان في عهد السلطان العثماني محمد الرابع آخر سلاطين الدولة العثمانية الفاتحين والذي بدأ حصاره لفيينا في 14 يوليو 1683م ولمدة شهرين، وانتهي في 12 سبتمبر من نفس العام بوقوع معركة فاصلة خسرها الجيش العثماني بسبب خيانة أحد قادته، وتكاتف كل الدول الأوروبية للدفاع عن فيينا عاصمة النمسا علي اعتبار أن المعركة صراع بين الإسلام والمسيحية.
مبررات الرفض الأوروبي المعلنة
من المعلوم أن الأجواء العالمية للديمقراطية المزيفة والحرية المزعومة التي تنادي بها تلك الدول هي وأمريكا لا تسمح لها علي الإطلاق بإعلان نواياها الحقيقية الرافضة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، لأنها بذلك ستتناقض مع ماتنادي به من تلك المبادئ.. فما كان منها إلا أن أعلنت بعض المبررات الواهية للرفض والتي تخفي خلفها حقيقة تلك النوايا.. وكان من هذه المبررات :(1/47)
1- أن تركيا بلد فقير بالنسبة إلي أوروبا، وذات عدد سكاني كبير يبلغ حوالي 70 مليون نسمة غالبيتهم الساحقة من المسلمين، وبانضمامها إلي الاتحاد فسيكون لها ثقل سكاني كبير سوف يحدث خللاً في التركيبة السكانية للقارة الأوروبية كما أنها ستكلف الموازنة الأوروبية مبالغ باهظة للارتقاء بالمجتمع التركي إلي مستوي المجتمع الأوروبي.
2 - أن الجزء الأكبر من الأراضي التركية والذي يزيد عن 97% من مساحتها يقع في قارة آسيا، وله حدود مع دول تتسم بالاضطرابات وغياب الديمقراطية مثل سوريا والعراق وإيران.
3- أن الانضمام سوف يفتح الباب لتدفق الملايين من العمال الأتراك المهاجرين إلي الدول الأوروبية مما سيؤدي إلي زيادة أزمة البطالة الخانقة في أوربا.. علمًا بأنه يوجد في أوروبا الآن ما يقرب من 4 ملايين عامل تركي.
السبب الحقيقي للرفض
أما السبب الحقيقي للرفض فهو أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سيحدث غزوًا وانقلابًا دينيا وروحيا وثقافيا للمشروع الأوروبي من جذوره والقائم بالكامل علي القيم والمشاعر والمفاهيم والأصول المسيحية.
وهذا هو السبب الحقيقي والذي ستبقي به تركيا خارج أسوار وقلاع وحصون القارة الأوروبية.. ليست غازية وفاتحة كما كان في السابق.. وإنما مادَّةً يديها ترجو وتستجدي وتستعطف إلي مالا نهاية.
العقبات والعراقيل التي وضعها الأوروبيون أمام الانضمام
لذلك ولكي يحتفظ الأوربيون بحق إعلان الرفض المبرر في أية لحظة تناسبهم وتتفق مع ما يخططون له فقد وضعوا الكثير والكثير من العقبات والعراقيل أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وذلك لإطالة أمد المفاوضات، تميز الكثير منها بالتعنت والإذلال والامتهان، ومنها علي سبيل المثال:
1- تهديد الاتحاد بتعليق المفاوضات حال حصول أي انتهاك للمعايير الأوروبية وعلي رأسها الديمقراطية وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان.(1/48)
2- ازدياد نشاط بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب في أوروبا وخاصة في النمسا وفرنسا وألمانيا من أجل رفض الانضمام التركي، وهو ما يشكل ضغوطًا علي حكوماتها للرفض.
3- تلويح بعض الأقطار الأوروبية بوجوب إجراء استفتاء بين شعوب الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد كشرط لقبول تركيا بينها وهذه هي العقبة الكبري التي تقض مضاجع تركيا لأن ذلك يعني وبوضوح شديد أنه يمكن من خلال ذلك الاستفتاء رفض دخول تركيا إلي الاتحاد حتي لو حققت المفاوضات نجاحًا مع الحكومات ، وحتي لو استجابت تركيا لكل الشروط والمطالب الأوروبية .
العنصرية البغيضة
ومما يدل علي أن السبب الحقيقي لرفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي هو التعصب الديني ، تلك التصريحات العنصرية البغيضة لكثير من الرؤساء والمسئولين الأوربيين ، نذكر منها مثالين:
الأول : تصريح الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأن المفاوضات إذا بدأت فعلاً فسوف تستغرق وقتًا طويلاً قد يمتد إلي عشر سنوات وربما خمس عشرة سنة، وربما أكثر.. ومن المحتمل أن تفشل ولا يتم القبول ، كما أشار إلي أنه من المحتمل جدًا أن تطرح قضية انضمام تركيا في استفتاء شعبي في فرنسا، وهذا أمر جديد لم يسبق أن طبق علي من انضم للاتحاد من قبل مثل دول أوروبا الشرقية وقبرص ومالطة ، حيث تم انضمام كل هذه الدول بقرار من رؤساء حكومات دول الاتحاد وليس باستفتاء من قبل الشعوب، كما أن هذا الاستفتاء لن يطبق علي بلغاريا ورومانيا المزمع دخولهما إلي الاتحاد الأوروبي عام 2007م ، وبالطبع يعتبر اختصاص تركيا المسلمة بمثل هذا الاستفتاء شكلاً صارخًا من أشكال التعصب الديني والعنصرية البغيضة .
الثاني(1/49)
أما المثال الثاني فيتمثل في ما أعلنته المفوضية الأوروبية من أن تركيا إذا أخلت في المستقبل بأي من التزاماتها، فإن أوروبا ستصوت للاقتراع بالأغلبية وليس بالإجماع بإمكانية تعليق عضويتها في الاتحاد .. وهذا شكل صارخ آخر من أشكال التعصب والعنصرية البغيضة، أن تُخص تركيا المسلمة بتهديدها بالفصل من الاتحاد بقرار من أغلبية الأعضاء، ولا يشترط إجماعهم علي ذلك.
المصالح الأوروبية من الانضمام
ويبقي هناك سؤال:
هل هناك مصالح حقيقية من الممكن أن تحققها القارة الأوروبية من خلال دفع تركيا في طريق الانضمام إليها؟.. والإجابة: نعم!! ومنها:
1- إبعاد تركيا عن طريق العودة للإسلام والتخلص من الاتجاهات الأصولية فيها من خلال تذويب الهوية الإسلامية في القيم والمفاهيم الأوربية المتحررة والمتحللة من الدين والأخلاق.
كما أن قبول تركيا في الاتحاد الأوربي سيكون رسالة موجهة لغيرها من الدول الإسلامية لكي تجتهد للتحول إلي القيم والمفاهيم الأوربية طلبا للثمار التي ستجنيها تركيا.
لذلك فإن الاتحاد الأوربي ليفوز علي طول الخط ويحقق أهدافه ومصالحه كاملة فإنه لن يعلن الرفض الصريح علي الإطلاق وسوف يطيل طريق انضمام تركيا إليه عقودًا وعقودًا من الزمان من خلال افتعال الأزمات والمخالفات حتي إذا تحققت أهدافه ومصالحه وانسلخت تركيا عن الإسلام أعلن هدفه الخفي صريحًا.. أنه لامكان لتركيا في الاتحاد الأوربي، وأن هذه المفاوضات لم تكن إلا دربًا من التركيع لأبناء الشعب التركي، ونوعًا من الابتزاز للحصول علي أكبر قدر من التنازلات والمصالح وعلي رأسها انسلاخ تركيا عن الإسلام.
2- توسيع نطاق الاتحاد الأوربي ليشمل كامل مساحة القارة بعد أن استطاع ضم 12 دولة في عام 2004م معظمها من دول أوربا الشرقية.(1/50)
3- تأمين العديد من المواد الأولية للمصانع والأنشطة التجارية في أوربا وفتح المجال الواسع أمام الاستثمارات الأوربية في تركيا حيث العمالة والمواد الأولية متوافرة ورخيصة الثمن.
4- فتح سوق كبيرة وجديدة أمام المنتجات الأوربية يبلغ عدد سكانها حوالي 70 مليون نسمة.
5- نفي التهمة الموجهة للاتحاد الأوربي بأنه ناد مخصص للدول المسيحية فقط.
ثالثًا: المؤسسة العسكرية التركية العلمانية
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وإلغاء الخلافة ، وتبني تركيا للعلمانية الأتاتوركية، وحربها الشعواء علي الإسلام والمسلمين.. نصب الدستور المؤسسة العسكرية المتمثلة في (مجلس الأمن القومي ) حارسًا قويًا للحفاظ علي العلمانية والتصدي لأي توجهات للعودة إلي الإسلام، وفوضها في ذلك بصلاحيات مطلقة.. ومنذ إلغاء الخلافة في عام 1923م وحتي أوائل الستينيات لم يكن هناك أي وجود للإسلام علي الساحة التركية السياسية.
وفي أواخر الستينيات ظهر التيار الإسلامي السياسي لأول مرة ممثلاً في حزب النظام الوطني بزعامة نجم الدين أربكان، ودخل البرلمان في أوائل السبعينيات بما يقارب 8% من المقاعد.. فما كان من الجيش إلا أن قام بانقلاب عسكري وتولي الحكم لضرب فكرة عودة البلاد إلي الإسلام، وألغي هذا الحزب الوليد، وصادر أملاكه، وزج بأربكان ورفاقه في السجن، وظل يحكم البلاد حكمًا عسكريا لمدة سنتين تقريبًا ، ثم بدأت الحياة المدنية تعود تدريجيا.
وفي منتصف السبعينيات عاد التيار الإسلامي مرة أخري ممثلاً في حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان أيضًا، واستطاع أن يشارك في حكم البلاد مع اليسار بزعامة بولنت أجاويد.. فما كان من الجيش إلا أن قام بانقلاب آخر عام 1980م وتم مرة ثانية حظر الحزب وسجن أربكان.(1/51)
وفي عام 1983م عاد التيار الإسلامي مرة ثالثة ممثلاً في حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان أيضًا ، واستطاع أن يقود المعارضة في البرلمان التركي طوال عشر سنين وحتي 1993م .
وفي عام 1995م سيطر حزب الرفاه علي مقاعد البلديات، وحكم مدينتي أنقرة واسطنبول ثم استطاع تشكيل حكومة ائتلافية يقودها الإسلاميون لأول مرة عام 1996م، فرأت المؤسسة العسكرية أن عليها أن تغير أسلوب الانقلابات العسكرية الذي بات غير مقبول دوليا.. فأرسلت التهديدات إلي أربكان بترك الحكم وإلا !!! وبالفعل قدم أربكان استقالة حكومته عام 1997م بعد عام واحد من الحكم لتفويت الفرصة علي محاولات العسكر توجيه ضربة موجعة للتيار الإسلامي كما حدث في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات.. ومع ذلك فقد تم حظر الحزب بعصا القانون وبتهمة تعريض العلمانية الأتاتوركية للخطر .
وفي عام 2002م عاد التيار الإسلامي مرة رابعة ممثلاً في حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، وهو يمثل الجيل الثاني من الإسلاميين الأتراك.. فلما جاء ذلك الحزب اتبع - كما ذكرنا - أسلوبًا ذكيا للغاية للتخلص من تلك السيطرة الخانقة للمؤسسة العسكرية علي السياسة التركية وتهديداتها بالانقلابات العسكرية، فكان اتجاهه لاستخدام ورقة الاتحاد الأوروبي والمعايير المطلوب الالتزام بها للانضمام إليه سلاحًا يؤمن له إحداث التغييرات التدريجية للعودة بالأمة التركية إلي الإسلام دون أن تتصدي له المؤسسة العسكرية .
مأزق المؤسسة العسكرية(1/52)
ولقد فوجئت المؤسسة العسكرية بهذا التغيير في استراتيجية الإسلاميين ، ومع أن قادة الجيش يفهمون جيدًا أبعاد تلك الاستراتيجية وخطورتها القاتلة علي المؤسسة العسكرية والنظام العلماني، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقدموا استراتيجية مضادة لها.. وهم اليوم يقفون في حيرة من أمرهم من طريقة التعامل معها، وقد كبلت أيديهم حيال وقف هذه التغييرات التي تقوم بها الحكومة الإسلامية بدعوي الاستجابة للمطالب الأوروبية والتي تحد من سلطانهم وصلاحياتهم، لأن تدخلهم ضدها يبعد تركيا عن حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي يعد علي رأس أولوياتهم هم أيضًا، ولكن طبعًا لغرض علي عكس غرض الإسلاميين.. لذلك فقد بدءوا يفتعلون الخلافات ويزعمون التعارض بين الشروط الأوروبية الديمقراطية التي تطلبها أوروبا وبين الشرف والكرامة الوطنية التركية، وكأنهم يريدون أن ينتقوا من الشروط والمطالب ما يبعد تركيا عن الإسلام، وفي نفس الوقت يحفظ لهم صلاحياتهم وسلطانهم .
ونتيجة لسياسة الإسلاميين في إدارة وتوجيه الأحداث مقابل حيرة وتخبط المؤسسة العسكرية في كيفية التعامل معها، فإن قادة حزب العدالة وعلي رأسهم رجب طيب أردوغان أصبحوا لا يلتفتون كثيرًا للقضايا الإسلامية التي كانت تثير غضب قادة الجيش مثل: الحجاب، والصلاة، ومنع الخمور، ولكنهم تعدوها لمناقشة قضايا تمس عصب المؤسسة العسكرية وتحد من هيمنتها علي الحياة السياسية في تركيا مثل فتح الباب لمناقشة ميزانية الجيش نفسه، والتي تبلغ حوالي 40% من ميزانية الدولة، ومنع تدخله في قضايا التعيينات التي تقوم بها الحكومة في الوظائف العليا للدولة بادعاء أن الذين تعينهم الحكومة هم من الرجعيين المتدينيين الذين يشكلون خطورة علي العلمانية الأتاتوركية ويقوم بعزلهم من مناصبهم.(1/53)
ويري المراقبون أن علي الحكومة الإسلامية أن تستمر في سياسة التغيير بالحكمة والتأني، ولا تستعجل الأحداث كما فعل أربكان من قبل، حتي لا تدفع المؤسسة العسكرية إلي الشعور بالخطر والوقوف موقف الدفاع .. فإن بعض المراقبين يري أن الجيش مازال من الممكن أن يقوم بانقلاب عسكري يسقط به الحكومة الإسلامية كما فعل سابقًا عدة مرات بصرف النظر عن مدي اعتراضات الدول الغربية علي هذا التصرف ، وذلك إذا ما أقدمت الحكومة علي المزيد من الإصلاحات التي تمس ما يسميه الجيش بالثوابت العلمانية والتعاليم الأتاتوركية .. وأضافت بعض التقارير أن البديل الوحيد أمام الحكومة لمنع ذلك الانقلاب العسكري هو إجراء التغييرات بشكل تدريجي وعدم استفزاز المؤسسة العسكرية لدرجة الانفجار.
قضايا الخلاف بين المؤسسة العسكرية
والحكومة الإسلامية في تركيا
يمكن حصر أهم قضايا الخلاف بين المؤسسة العسكرية العلمانية والتيار الإسلامي التركي الحاكم فيما يلي :
قضية الحجاب(1/54)
يمثل الحجاب المعركة الحقيقية القائمة في تركيا بين أنصار العلمانية الأتاتوركية التي تعني معاداة الإسلام بشكل خاص ، وبين التيار الإسلامي .. فالجهات العلمانية مثل المؤسسة العسكرية ومعها وسائل الإعلام والجامعات والمحاكم تري في حجاب الطالبات الجامعيات وطالبات المدارس الثانوية والعاملات في الوظائف الحكومية وعضوات البرلمان مظهرًا إسلاميا رجعيا يتعارض مع علمانية الدولة التركية.. وذلك بالرغم من أن زوجة مصطفي كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية والعلمانية الأتاتوركية وأمه كانتا محجبتين بينما يري قادة التيار الإسلامي أن حل مشكلة الحجاب لن تتم إلا من خلال عملية الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي ، حيث يضمن القانون فيه حق المؤسسات الدينية والمتدينين في ممارسة أنشطتهم والتزام ما تفرضه عليهم عقائدهم بكل حرية مادامت هذه الأنشطة والممارسات لا تمس حقوق الآخرين .. ودليلهم علي ذلك أن النساء المسلمات المحجبات في أوروبا لا يعانين من تلك المشكلة بنفس الحدة كما في تركيا.. وقد تمكن عدد محدود من النساء المسلمات في ألمانيا وفرنسا وهولندا من كسب بعض القضايا الخاصة بالحجاب أمام القضاء الأوروبي ، وهو ما لم يحدث في تركيا التي تحرم علي النساء المحجبات حق الدراسة أو العمل أو عضوية البرلمان.. فالعلمانية الأوروبية تختلف اختلافًا جذريا عن العلمانية الأتاتوركية، حيث تعني الأولي رفع يد الدولة عن الأديان، أما الثانية فتعني محاربة الدولة للإسلام.
قضية حظر الأحزاب(1/55)
وتعتبر هذه القضية من أهم وأخطر القضايا التي يتعرض لها التيار الإسلامي علي يد المؤسسة العسكرية .. وتتضمن عمليات الحظر المتكرر للأحزاب السياسية وخاصة الإسلامية، وتقييد حرية العمل السياسي، وتعرض الزعماء السياسيين الإسلاميين لأحكام السجن والحرمان من الحقوق السياسية والمدنية .. ويري الإسلاميون أن التزام تركيا بمعايير الاتحاد الأوروبي وخاصة معيار الديمقراطية يضمن لهم تقليل وتحجيم سلطان العسكر وسطوتهم وصلاحياتهم في ذلك الأمر.
قضية أسلمة الوظائف العامة بالدولة
وهذه قضية خلاف جوهرية بين الطرفين.. فالجيش يملك حق التدخل في اختيار وعزل المسئولين والموظفين الذين تعينهم الحكومة من بين أعضاء الأحزاب الإسلامية بدعوي أنهم رجعيون ويهددون العلمانية الأتاتوركية .. وتري الحكومة الإسلامية أن حل هذه القضية أيضًا سيتم من خلال الالتزام بقوانين الإصلاح السياسي الواجب الالتزام بها للانضمام للاتحاد الأوروبي .. حيث تقضي هذه القوانين بحق من يعزله الجيش من وظيفته سواء من العسكريين أم المدنيين في التظلم أمام المحاكم التركية، وهو تطور هام يغُلّ يدَ الجيش مستقبلاً عن طرد الإسلاميين من الخدمة العسكرية أو الوظائف العامة .
قضية تطويع مجلس الأمن القومي(1/56)
يعتبر مجلس الأمن القومي في تركيا هو السيف المصلت علي رقاب الحريات المدنية والحياة السياسية في تركيا ، فالمجلس يقوم بفرض رقابة لصيقة علي جميع مؤسسات الدولة في الداخل والخارج ، حتي المؤسسات التعليمية مثل المدارس الثانوية والجامعات، حيث يقوم ضباط متخصصون بإلقاء دروس تعليمية ومحاضرات عن الأمن القومي التركي يهاجمون فيها الشريعة الإسلامية والحجاب ، ويحثون علي مسابقات الجمال والعري وتعاطي الخمور وممارسة كافة أشكال الانحلال والرذيلة والفساد، بادعاء أن هذه هي الحضارة والتقدم والرقي.. ويقدم مجلس الأمن القومي تقريرًا شهريا للحكومة المدنية يلزمها فيها بالأوامر والنواهي الواجب الالتزام بها في سياساتها، بما يشكل تدخلاً صارخًا في شئون السياسة التركية .. ونتيجة لطلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي فإن الأخير طلب تحويل هذا المجلس العسكري إلي مجلس استشاري تكون قراراته غير ملزمة للحكومة المدنية.. وقد رفض المجلس العسكري هذا الطلب وأعلن أنه يرفض انضمام تركيا للاتحاد إذا كان هذا يعني تقليص صلاحياته وسلطانه.. ويري بعض المراقبين أن حزب العدالة لديه فرصة تاريخية لتقليص الدور السياسي للمؤسسة العسكرية في تركيا في ظل سيطرته الساحقة علي الحكومة والبرلمان وذلك بتعديل الدستور الذي يفوض الجيش بذلك السلطان وتلك السطوة علي الحياة السياسية في تركيا ومستغلا في ذلك تلبية متطلبات ملف الانضمام للاتحاد الأوربي.. وأن عدم استغلال هذه الفرصة قد يؤدي إلي استمرار سطوة العسكر وسيطرتهم علي مقاليد الأمور في تركيا لعدة عقود قادمة.
قضية الملف الكردي(1/57)
تبني الإسلاميون في تركيا في تعاملهم مع الأقليات القومية والدينية والعرقية هناك فكرًا ومنهجًا يختلف عن ذلك الذي يتبناه العسكر.. فبينما يضرب العسكريون بيد من حديد علي كل من يحاول أن يحيي أو يطالب بالمحافظة علي هوية وثقافة ولغة الأقلية الكردية أو غيرها من الأقليات في إطار تركيا الموحدة.. فإن الحكومة الإسلامية تري ضرورة التزام الحوار والاحتكام إلي قيم الأخوة الإسلامية لحل المشكلة الكردية حلاً يضمن لتركيا وحدتها وللأكراد خصوصيتهم وثقافتهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ويطمح الإسلاميون في الحكومة التركية إلي الوصول لحل للمشكلة الكردية بشكل شبيه بذلك الذي توفر للكثير من الأقليات القومية والدينية في دول الاتحاد الأوربي ويقوم بالأساس علي سياسة تعدد الأقليات ووحدة الدولة.
قضية جمعية التجمع الوطني:
(ميللي جوروش): ظهرت هذه الجمعية التركية في ألمانيا في بداية السبعينيات لجمع أتراك المهجر في أوروبا وتنظيم شئون حياتهم.. ويقود هذه الجمعية الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان ، وتضم مئات الألوف من الأتراك خارج الوطن ، وتعد هذه الجمعية الأكثر تنظيمًا وحركة بين مثيلاتها .. ولشدة ارتباط الأتراك بهذه الجمعية فإنهم يستجيبون لها في توجيه أصواتهم ناحية الأحزاب الإسلامية في أي انتخابات تركية .. لذلك فإن المؤسسة العسكرية تنتقد هذه الجمعية بشدة وتصفها بالإرهاب والتطرف ، ولذلك أيضًا فإن وزارة الخارجية التركية ما كادت تصدر توجيهًا للأتراك بالخارج للتعامل مع هذه الجمعية باعتبار أنها تقوم بتقديم خدمات وأنشطة للمواطنين بالمهجر، حتي سارع الجيش ووسائل الإعلام العلمانية بشن هجوم عنيف علي هذا التوجيه ، مصدرين توجيهًا مضادًا بوقف التعامل معها وإلصاق تهمة الإرهاب والتطرف بها.
الحكم الشرعي(1/58)
وفي الختام.. وقبل أن نغلق الملف ولو إلي حين يأتي الدور علي السؤال الحيوي والخاتم له، والذي لا يمكن أن نغلقه قبل أن نحاول الإجابة عليه وهو: ما الحكم الشرعي فيما تقوم به الحكومة التركية في سبيل عودة الإسلام لتركيا من مخالفات شرعية جسيمة ومن إجراءات سياسية وعسكرية تعرض الأمة الإسلامية للخطر ومن محاولة التقرب والامتزاج بغير المسلمين في إلحاح وإصرار؟(1/59)
ولكي نجيب علي هذا السؤال فإننا نقرر بدايةً أن شرف الغاية يقتضي شرف الوسيلة.. وأن التنازل عن بعض ما أنزل الله كالتنازل عن الكل وقد حذرنا ربنا عز وجل من ذلك في قوله ( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) (المائدة: من الآية49) وقال عن تقربهم للمسلمين بأنه خداع:( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: من الآية8) ولذلك نحذر إخواننا في تركيا شعبًا وحكومة من محاولة الذوبان في هوية أعداء المسلمين، مؤكدين لهم أنهم وإن تظاهروا بالمودة والقبول فإنهم لن يرقبوا فيهم عهدًا ولاذمة..(1/60)
وقد حذر الحق سبحانه وتعالي من ذلك حيث قال: ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(المجادلة:من الآية22) وقد وصف الحق تبارك وتعالي أولئك الذين يسارعون للدخول في صفوف أعداء الدين بأنهم فئة مهترءة الدين، مهتزة العقيدة، ضعيفة الثقة بالله، منهزمة من داخلها فقال عز وجل:( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة:52) فأعداؤنا لن يرضوا بديلاً عن انسلاخنا من ديننا وهويتنا وثقافتنا وتاريخنا كما قال سبحانه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
وحتي من يتبع ملتهم ويدخل في تحالفاتهم ويسير في ركابهم.. فإنهم أيضًا لن ينصفوه، إنما سينظرون إليه نظرة دونية ويعاملونه علي أنه لاشرف له ولا كرامة، وتظل نظرتهم له نظرة قلق وتوجس وازدراء واحتقار.(1/61)
والحل الناجع إنما هو في وحدة الأمة الإسلامية حتي علي ضعفها.. فالوحدة مع الضعف قوة.. والمستقبل الحقيقي لتركيا ولغيرها من الدول التي تفكر تفكيرها ولكل دول الإسلام ليس في انضمامها لهذا المعسكر أو ذاك.. إنما في عودتها إلي دينها، وارتباطها بجذورها، وتقويتها الصلة ببقية الدول الإسلامية.. فلا أمان ولا نجاة بغير ذلك كما قال الحق تبارك وتعالي: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)
وأخيرًا
هذا هو ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوربي.. ثلاثة خصوم يتصارعون كما كان المصارعون في الماضي في قتال حتي الموت، وكل منهم يمني نفسه بالنجاة والفوز علي الآخرين وهو لا يدري أيخرج من حلبة الصراع حيا أم مقتولاً.
فالحكومة التركية الإسلامية هدفها الفوز بإعادة تركيا إلي الإسلام.. ولكنها تدفع ثمنًا باهظًا.. هو تحالفات مع الكفار، وخروج علي ثوابت الشريعة الإسلامية.
وحكومات الدول الأوربية المسيحية هدفها الفوز بانسلاخ تركيا من الإسلام، ولكنها تدفع هي الأخري ثمنا باهظًا.. هو تحجيم سلطان العسكر وتحطيم قيودهم التي تكبل أيدي الإسلاميين عن تنفيذ حلمهم.
ثم المؤسسة العسكرية التركية العلمانية هدفها الفوز بانسلاخ تركيا من الإسلام والذوبان في أوربا المسيحية.. ولكنها تدفع كذلك ثمنًا باهظًا.. هو القبول بانتزاع سلطانها تحت أعينها شيئا فشيئا، وبالتالي تمكين الحكومة الإسلامية من تنفيذ حلمها بعودة تركيا إلي الإسلام.(1/62)
حقًا إنه ملف صعب، ومعادلات أصعب، لايستطيع أحد أن يتنبأ بما سوف يتمخض عنه من نتائج.. فلننتظر.. وإن غدًا لناظره قريب..أو بعيد!!
سوريا الحبيبة..لا تركعي
نشر هذا الملف في العدد السادس عشر السنة الثانية من مجلة التبيان
بتاريخ ذو القعدة 1426 هـ - ديسمبر 2005م
سوريا الحبيبة.. لك الله يا سوريا.. لك الله فأنت في كرب شديد ليس له من دون الله كاشفًا.. سوريا الحبيبة عودي إلي الله وحده.. وألقي وراء ظهرك بكل معتقدٍ في غير الله، فلا بعثية ولاعلوية.. ولا كفاح من أجل العصبية .. ولا نضال من أجل القبلية.. وإنما هو فقط جهاد في سبيل الله ونية.
اعتصمي بالله وحده.. واعتمدي علي الله وحده.. ولوذي بالله وحده، ولا تنتظري من العباد عونًا ولاغوثًا.. آمني بالله بصدق ليصدق فيك قوله تعالي: «وكان حقّا علينا نصر المؤمنين».. انصري الله بصدق ليصدق فيك قوله تعالي «ولينصرن الله من ينصره».
سوريا الحبيبة.. لا تنتظري أبا عبيدة بن الجراح ولا سعد بن أبي وقاص ولا خالد بن الوليد ليدمروا علي أرضك دولة الروم الكافرة، ويقيموا علي ترابك الطاهر دولة الإسلام الزاهرة.. فما عادوا معنا اليوم.. لا تنتظري صلاح الدين ليطرد الصليبيين ويحرر المسجد الأقصي، فما عاد للمسلمين صلاح الدين!.. لاتنتظري سيف الدين قطز ليحطم علي أرضك جحافل التتار التي أحاطت بك إحاطة السوار بالمعصم، فما عاد للمسلمين سيف للدين.. لا تنتظري المعتصم الذي قاد جحافل جيوش المسلمين وغزا بلاد الكفر لينصر امرأة مسلمة استغاثت به علي بعد آلاف الأميال فصرخت تنادي «وامعتصماه» فجاءها وانتصر لها، فليس للمسلمين اليوم معتصم!!.
سوريا الحبيبة.. لا تتعجبي لغرابة الأحوال.. فالزمان غير الزمان، والرجال غير الرجال، والإيمان غير الإيمان..
سوريا الدولة .. والجغرافيا(1/63)
تقع الجمهورية العربية السورية في جنوب غرب آسيا علي الساحل الشرقي للبحر المتوسط يحدها من الشمال تركيا ومن الشرق العراق ومن الجنوب الأردن وفلسطين ومن الغرب لبنان والبحر المتوسط علي امتداد 183كم من الساحل.
الجغرافيا
تحتل سوريا موقعًا استراتيجيا حيويا من الناحية التجارية فهي ملتقي القارات الثلاثة (آسيا وأوروبا أفريقيا) وتتوسط بين المراكز الصناعية والتجارية الرئيسية في أوروبا ومراكز انتاج النفط في منطقة الخليج العربي. وتعتبر دمشق هي العاصمة وأكبر المدن السورية.. ومن أهم المدن الأخري حلب وحماة وحمص، أما أهم الموانئ فهي اللاذقية وبانياس وطرطوس علي البحر الأبيض المتوسط.
السكان
يبلغ عدد السكان ما يقرب من ثمانية عشر ونصف المليون نسمة.
اللغة: اللغة العربية هي اللغة الرسمية، ولكن هناك لغات أخري متداولة بشكل واسع غير العربية هي الإنجليزية والفرنسية. كما أن اللغات الكردية والأرمنية والتركمانية والشركسية متداولة أيضا بين الأقليات السكانية المختلفة.
الاقتصاد
يقوم عماد الاقتصاد السوري علي القمح والتبغ والخضروات بآنواعها والفواكه. كما يعتمد الاقتصاد السوري علي النفط الذي يشكل جزءًا كبيرًا من الدخل القومي.
لمحة تاريخية
تعد سوريا أحد أقدم مواطن الإعمار في تاريخ البشرية، حيث أقام الإنسان أول تجمعاته فيها لوفرة المياه وقيام الزراعة.
كانت أرض سوريا هي مملكة (خانا) القديمة التي ازدهرت في الألف الثانية قبل الميلاد.. وقد تم اكتشاف النحاس وصناعة البرونز لأول مرة في التاريخ في (تل حلفا) منذ الألف الثالثة قبل الميلاد. أما الممالك القديمة الأخري في سوريا فقد قدمت للإنسانية ابتكارها للأبجدية الأولي في العالم وأروع وأكبر مكتبة وثائقية في العالم تنظم أمور الحياة في السلم والحرب بين الدول.(1/64)
وقد جاءت كل الممالك القديمة منذ القرون الأولي من شبه الجزيرة العربية حيث كانوا يعرفون بالعموريين والكنعانيين والفينيقيين والآراميين ثم الغساسنة والأنباط... وقد تم ذلك من خلال الهجرات المتتالية من الجزيرة العربية إلي الشمال.
وقد تعرضت سوريا في تاريخها لغزوات الحيثيين والفرس واليونان والرومان حتي جاء الفتح العربي الإسلامي عام 636م فأعاد لسوريا روحها وهويتها العربية.
ودمشق هي العاصمة الأزلية لسوريا والتي عرفت بأنها أقدم مدينة مأهولة بالسكان في العالم منذ عشرة آلاف عام.. وبعد الفتح الإسلامي أصبحت دمشق في أوج مجدها وازدهارها بعد أن أصبحت عاصمة للدولة الأموية العظيمة التي امتدت من أسبانيا غربًا وحتي الصين شرقًا.
وبعد سقوط الدولة الأموية انحسرت الأضواء عن دمشق وتتابعت عليها الممالك والإمارات حتي جاء الفتح العثماني فأصبحت إحدي الولايات العثمانية.. فلما انهارت تلك الخلافة الإسلامية في الدولة العثمانية عام 1924، سقطت سوريا تحت الاحتلال الفرنسي واستمر ذلك الاحتلال الصليبي لها حتي نالت استقلالها عن فرنسا عام 1946م.
التخطيط .. والمؤامرة
إن الحرب علي سوريا وغزوها عسكريّا كان جزءا من المخطط الجهنمي للتحالف اليهودي الصليبي ضد العالم الإسلامي والعربي.. وكان ترتيبها التالي مباشرة بعد العراق.. ولولا ظهور المقاومة العراقية الباسلة، ولولا غرق هذا التحالف في المستنقع العراقي لكانت الحرب علي سوريا قد بدأت وانتهت منذ زمن.(1/65)
فالمخطط اليهودي الصليبي كان وما يزال يستهدف سوريا وإيران والسعودية، ثم أخيرًا مصر.. ولكن سقوط التحالف في جحيم العراق جعله يدرك أن إعلان الحرب علي تلك الدول لن يكون نزهة مفروشة بالورود والرياحين.. وإنما سيكون صراعًا داميًا ورهيبًا في مواجهة جحافل الشعوب الإسلامية التي مازالت تملك ذاكرة جهادية إسلامية حية لاتموت.. وكانت النتيجة أن ارتبكت حسابات التحالف وانقلبت خططه رأسًا علي عقب، وتوقفت مسيرته لضرب وتدمير الدول الإسلامية دولة وراء دولة.
وهاهو التحالف اليهودي الصليبي وبعدما يقرب من عامين من التلطم والضياع في صحاري العراق وفيافيها، وعلي أيدي أبطاله المجاهدين في سبيل الله وبسبب النزيف الدامي الرهيب في رجاله ومعداته وأمواله والذي ماعاد يستطيع تحمله.. عاد للتفكير في ضرب سوريا.. بالطبع ليس طمعًا في الفوز، وإنما فرارًا من شبح الهزيمة الكاملة علي أرض العراق.. فهو يظن أن كسر سوريا ربما يخفف عنه كارثة العراق.. وفي الحقيقة.. أنه كمن يستجير من الرمضاء بالنار..
ويقف التحالف اليهودي الصليبي لينظر بغل وحسد وحسرة إلي هذه المقاومة الباسلة التي دمرت حلمه بتغيير خريطة الشرق الأوسط لصالح دولة إسرائيل الكبري، والذي كان قد أصبح قاب قوسين من تحقيقه أو أدني.. فها هو قد نجح في عزل الدول العربية في إفريقيا وفي القلب منها مصر عن قضية أمتها ودينها.. قضية صراعها مع اليهود. عزلاً كاملاً، وها هو قد دفع السودان إلي الانكفاء علي نفسه يلعق جراحه بانفصال الجنوب، والتهديد بانفصال دارفور..(1/66)
وها هو قد رسخ أقدامه فوق ثروة الخليج النفطية الهائلة وقد دانت له كل دول الخليج بالخضوع والتسليم، وها هو قد غزا العراق واحتل أراضيه بالكامل في أيام معدودة، وها هو لم يبق له إلا سوريا وإيران، ثم ينتقل بعد ذلك إلي تحقيق الحلم الأكبر بضرب قلب العروبة النابض وقلب العالم الإسلامي في مصر والسعودية.. ولكن.. بعد أن يكون قد قضي علي كل شكل من أشكال المقاومة والجهاد في العالم الإسلامي والعربي ولم يبق إلا هما.. لينفرد بهما.
وبينما هو في غمرة ذلك الحلم الوردي إذ بالمقاومة العراقية تتفجر في وجهه فتفسد عليه حلمه وتحوله إلي كابوس مفزع لايطاق..
ونحن في هذه الصفحات سنحاول.. إن شاء الله.. أن نلقي الضوء علي بعض جوانب ذلك الموقف الخطير الذي نشأ بين ذلك التحالف الشيطاني ودولة سوريا الحبيبة، والذي ما هو إلا خطوة علي طريق التركيع أو التدمير لكل الدول العربية والإسلامية تمهيدًا لإنشاء دولة إسرائيل الكبري من النيل إلي الفرات وعاصمتها القدس الشريف.. والآن إلي بعض الأسئلة الملحة في هذا الملف:
أولاً: ما الموقف الحالي بين سوريا والتحالف اليهودي الصليبي؟
بعد اغتيال السيد/ رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق انتهز التحالف اليهودي الصليبي الفرصة ونفخ في نار الفتنة واستطاع أن يحول قضية الاغتيال إلي قضية دولية ونجح في أن يستصدر من الأمم المتحدة ومجلس الأمن قرارًا يقضي بتشكيل لجنة دولية برئاسة القاضي الألماني (ديتليف ميليس) للتحقيق في مقتل الحريري.. ونص القرار علي وجوب استجابة سوريا وحدها لكل متطلبات وأوامر لجنة التحقيق والانصياع الكامل لها.. وإلا فالويل والثبور.. وعظائم الأمور ..وبدأت رحلة للضغط والحصار والتصعيد علي سوريا تشبه تمامًا تلك التي كانت مع العراق.
الموقف الحالي(1/67)
وهو أن سوريا تقبل قرار مجلس الأمن. وعلي استعداد للتجاوب الكامل مع كل القرارات الدولية بما فيها التعاون الكامل مع تلك اللجنة.. ولكنها تريد في نفس الوقت أن يتم ذلك بشكل لايمس سيادة الدولة السورية ولا كرامة المسئولين السوريين الذين يطْلَبون للتحقيق أو للشهادة وبضمانات ألا يتعرضوا لأي مظهر من مظاهر الإهانة أو الضغوط لدفع التحقيق إلي مسارات معدة سلفًا من الممكن أن تنتهي بطلب رأس الحكم السوري نفسه للتحقيق والتعرض للإدانة بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات.. أما موقف التحالف فهو رافض لذلك رفضًا تامًا ويصر علي أن تنصاع سوريا إلي أوامر لجنة التحقيق انصياعًا كاملاً بشكل يظهر فيه بوضوح تعمد التحدي والإهانة والرغبة في التصعيد والتصادم. ومثال علي ذلك فإن لجنة التحقيق قد طلبت خمسة من المسئولين السوريين ذوي المستوي الرفيع للتحقيق معهم وعلي رأسهم وزير الخارجية فاروق الشرع ورئيس المخابرات السورية صهر الرئيس الأسد آصف شوكت ويقال كذلك أن من بينهم ماهر الأسد قائد الحرس الجمهوري وشقيق الرئيس السوري وذلك في مقرها بفندق (المونتيفيردي) في بيروت وكأنهم مجموعة من المجرمين دون أي حصانة سياسية أو ضمانات قانونية أو مراعاة لمكانتهم الرسمية في بلادهم وبشكل فيه إهانة لكرامة الدولة وكرامتهم .. فعرضت الحكومة السورية حلاً يلبي للجنة مطلبها كاملا مع مراعاة المتطلبات السورية كما ذكر الرئيس السوري في خطابه الأخير وذلك بأن تخصص سوريا للأمم المتحدة مكانًا في أراضيها تختاره اللجنة للتحقيق فيه مع المسئولين السوريين وترفع عليه علم الأمم المتحدة وتحيطه بحراسة دولية فيصبح المكان تحت سلطانها بالكامل وكأنه خارج الدولة السورية..(1/68)
أو بأن يجري التحقيق في مقر الجامعة العربية في القاهرة فيصبح الاقتراح محققًا لطلب اللجنة بأن يكون التحقيق خارج الأراضي السورية ولكنه في نفس الوقت في مكان تضمن الحكومة السورية أن تراعي فيه مكانة وكرامة وحقوق المسئولين المطلوبين للتحقيق أو الشهادة.
وبالرغم من أن هذه العروض من الجانب السوري بجميع المقاييس تدل علي رغبة حقيقية في التعاون إلا أنه وللأسف الشديد خرج ممثل لجنة التحقيق بعدها بعدة أيام ليعلن في صفاقة وتحدٍ واضح أن اللجنة ترفض وسترفض أي مقترحات سورية في ذلك الشأن وأنه لابديل أمام سوريا عن أن ترسل هؤلاء المسئولين الكبار إلي بيروت حيث يتم التحقيق معهم في نفس الفندق الذي تقيم فيه اللجنة.. وطبعًا إذا تم هذا فإن المسئولين السوريين وبمجرد أن يعبروا الحدود السورية إلي داخل لبنان فسوف يفقدون حصانتهم الدبلوماسية وسوف يتم خضوعهم بالكامل لسلطة لجنة التحقيق دون أي مراعاة لمكانتهم الرسمية ودون أن يستطيع أي مسئول سوري أن يسأل كيف سيتم التحقيق معهم؟ وإلي متي؟ وما هو موقفهم إذا طال التحقيق أياما وأسابيع؟.. هل سيقيمون في نفس الفندق معززين مكرمين أم أنهم سيتم إلقاؤهم تحت الحجز والتحفظ في أحد مقرات أجهزة الأمن اللبنانية؟.. وما هو مصير أحدهم إذا ظهر ضده أي دليل إدانة حتي وإن كان مزورًا كما هو منتظر ومتوقع؟ هل سيعود إلي بلده ليحاكم فيها؟ أم أنه سيحاكم في لبنان؟.. أم أنه سيرحل إلي الخارج كالمجرمين ليحاكم أمام إحدي محاكم مجرمي الحرب في لاهاي؟.. أم أنه من الممكن أن يرحل مباشرة إلي سجن جوانتاناموا أو غيره من سجون التحالف.(1/69)
لاشك أن ذلك الموقف من لجنة التحقيق تجاه الحكومة السورية هو موقف تحدٍ وصلف وغرور، وكذلك فإنه مهين ومبيت للإيقاع بسوريا.. فلو انصاعت سوريا وقبلت صاغرة لكان ذلك بداية الانهيار والاندحار لها والذي لن ينتهي إلا بسقوطها كما حدث مع صدام حسين الذي فتح أبواب غرف نومه ودولاب ملابسه للتفتيش الدولي ثم لم يغن عنه ذلك شيئًا!!! أما لو رفضت سوريا الانصياع لتلك المطالب المجحفة والمذلة والمهينة فسوف يكون ذلك بداية الطريق للتصعيد والصدام.
أما أخطر ما في هذا الموقف والذي لا يغيب عن ذهن أي عاقل ولبيب فهو أن هذه اللجنة تريد بهذا الموقف المتعنت أن تحضر هؤلاء المسئولين السوريين رفيعي المستوي والذين كانت لهم الصولة والجولة في لبنان.. تريد أن تحضرهم بهذا الشكل المهين وفي نفس الساحة التي شهدت أمجادهم مكبلين بالأغلال والأصفاد مطأطئي الرؤوس في ذلة وانكسار ليكونوا عبرة لكل من يقاوم الإعصار اليهودي الصليبي الذي يعصف بالأمة الإسلامية.
ما خطورة تقرير (ميليس) علي الأمة العربية والإسلامية؟(1/70)
أ- أن موافقة مجلس الأمن علي تقرير (ميليس) والقرار الذي اتخذه بوجوب انصياع سوريا له انصياعًا كاملاً يجعل سلطة لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني (ديتليف ميليس) فوق سلطة الدولة السورية ويمنحها السيادة الكاملة والسلطان المطلق علي جميع المواطنين السوريين حكامًا ومحكومين دون أي اعتبار لسيادة الدولة وكرامة الوطن وحقوق المواطن. حيث إن ذلك القاضي يستطيع ولمجرد الاشتباه في أي مواطن سوري حتي ولو كان رئيس الدولة أو لمجرد طلبه للشهادة أن يقتاده كالمجرمين للتحقيق معه أو سؤاله إلي أي مكان يريده خارج الأراضي السورية ودون أي حماية أو حصانة ودون أي احترام لسيادة الدولة السورية أو حقوق المواطن القانونية أو السياسية. وقد يصل الأمر به - إذا زادت عنده الشبهات - أن يرحله إلي أحد السجون بإحدي دول التحالف اليهودي الصليبي حتي انتهاء التحقيق الذي قد يمتد شهورًا أو سنين.
ب - أن هذا القرار يشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية يمكن من خلالها لجهات تحقيق دولية تشكلها إسرائيل وأمريكا من خلال الأمم المتحدة أن تحاكم أي مسئول عربي أو مسلم من المعارضين للطوفان اليهودي الصليبي مهما علا شأنه بغرض تركيعه وإجباره علي الانصياع الكامل والقبول المطلق لمخططاتها.. وهذا قابل للحدوث مع الشرفاء والمخلصين من الزعماء العرب والمسلمين وهم القلة القليلة الباقية من بينهم وذلك من خلال تلفيق الاتهامات الكاذبة والادعاءات الزائفة والأدلة المزورة والمفضوحة كما حدث في العراق.. فما بالك إذا كانت الغالبية الغالبة من الزعماء العرب والمسلمين لديهم بالفعل جرائم حقيقية تعاقب عليها كل القوانين والشرائع الدولية والعالمية.
لاشك أن ذلك القرار سوف يفتح باب جهنم علي الحكام العرب والمسلمين وسوف يجبر الجميع إلا من رحم ربي علي الانصياع الكامل والخضوع التام والقبول والتسليم بكل ما يراد لهذه الأمة علي يد التحالف اليهودي الصليبي.(1/71)
ما الملفات المفتوحة التي يتذرع بها التحالف اليهودي الصليبي ضد سوريا؟
ج: هناك ملف رئيسي خفي وملفات فرعية معلنة:
الملف الرئيسي
وهذا الملف هو السبب الأساسي والحقيقي لتلك الهجمة الشرسة للتحالف اليهودي الصليبي علي الإسلام والمسلمين، وهو مفتوح بين التحالف اليهودي الصليبي وكل الشرفاء المخلصين من الشعوب والحكام العرب والمسلمين.. ذلك الملف هو وجوب التخلص من كل إرادة مخلصة ومعارضة للمخطط اليهودي الصليبي في منطقة الشرق الأوسط وهي المنطقة الحرام التي تخطط إسرائيل فيها لبناء دولة إسرائيل الكبري من النيل إلي الفرات، بدءًا من احتلال أرض فلسطين والاستيلاء علي مدينة القدس ثم هدم المسجد الأقصي وإقامة الهيكل الثالث وإنشاء دولة إسرائيل الكبري لتحكم العالم كله من عاصمتها القدس الشريف.. وهذا المخطط يهدف بوضوح شديد إلي القضاء علي أي إرادة معارضة سواء علي مستوي الأفراد أو الجماعات أو الدول بوسيلة من اثنتين: إما التركيع والانصياع المطلق والخضوع التام لسلطان اليهود والصليبيين وإما الحرب والخراب والتفتيت والدمار.. وقد حقق هذا المخطط ويحقق حتي الآن نجاحات واضحة فمن الدول التي كان نصيبها التركيع والانصياع.. الأردن وليبيا ودول الخليج العربي وعلي رأسها الكويت وقطر والبحرين.. ومن الدول التي كان نصيبها الحرب والتفتيت والخراب والدمار أفغانستان والعراق والسودان. وقد جاء الدور الآن علي سوريا لتختار أي الطريقين يكون مسلكها.. هل تركع وتنصاع وتدخل في دائرة الحلفاء والأتباع.. أم تتمسك بثوابت العزة والشرف والكرامة فيكون نصيبها الحرب والتدمير والخراب.. وجدير بالذكر آن هناك مجموعة من الدول لم تسلك أيا من السبيلين بعد.. فهي قد تحالفت مع اليهود والصليبيين في حربهم الوهمية والمزعومة ضد الإرهاب الإسلامي ولكنها لم تصل إلي درجة الانصياع الكامل وفقدان الإرادة وعلي رأس هذه الدول مصر والسعودية..(1/72)
والدور آتٍ عليهما لا محالة لأنهما تشكلان عقبة أمام المخطط اليهودي الصليبي الذي لا يقبل ولن يقبل إلا أحد المسلكين السابق ذكرهما.. إما الانصياع الكامل وإما الحرب والدمار.. ولحظة الاختيار والحسم بين هذين السبيلين آتية لا ريب فيها لتختار كل من هاتين الدولتين سبيلها.. ولكن شتان بين أن تختار الآن وهناك بعض من البقية الباقية من الشرفاء من الممكن أن تدعمها وتشد من أزرها.. أو أن تختار لاحقًا بعد أن يكون كل أخوانها الشرفاء قد سقطوا وبقيت هي وحيدة بلا سند ولا معين.. وحينئذ لن يكون لسان حالها إلا القول المأثور (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).. ويكون الندم حيث لا ينفع الندم.
الملفات الفرعية
هناك عدة ملفات فرعية تشكل حلقات الخلاف والعداء بين سوريا والتحالف اليهودي الصليبي.. والهدف من الأحداث الجارية هو الضغط علي سوريا لتغلق هذه الملفات علي النحو الذي يريده ويخطط له هذا التحالف.. ومن هذه الملفات:
1- الملف السوري الإيراني: تري إسرائيل وأمريكا أن المؤازرة السورية المعنوية لإيران والعلاقات القوية بين النظامين السوري والإيراني يشكلان دعمًا لا يستهان به لإيران في مسلكها المعادي لدولة إسرائيل والمناطح لقوي التحالف اليهودي الصليبي. وأن علي سوريا أن تتوقف عن دعم وتقوية هذه العلاقات وإيقاف أي شكل من أشكال التعاون بينها وبين إيران.(1/73)
2- ملف علاقة سوريا بحزب الله: وفيه تري إسرائيل وأمريكا أن سوريا تمثل الحبل السري لحزب الله الشيعي في جنوب لبنان حيث إنها هي الطريق الموصل بينه وبين إيران وأن سوريا هي التي تتولي تزويده وإمداده بالسلاح والعتاد الإيراني وتمده بالأموال والتجهيزات التي يستخدمها في جهاده ضد العدو اليهودي.. والمطلوب من سوريا التوقف تماما عن دعم حزب الله بأي مما سبق.. بل يزيد عن ذلك أنه مطلوب منها أن تقوم بنفسها بنزع سلاح ذلك الحزب بعد أن عجزت إسرائيل وأمريكا عن ذلك. وذلك لتمكين الجيش اللبناني من السيطرة علي الجنوب والوصول إلي الحدود الجنوبية للبنان لضمان أمن شمال إسرائيل.
3- ملف دعم المقاومة العراقية: وفيه تري إسرائيل وأمريكا أن سوريا تُعد أحد أهم عناصر الدعم للمقاومة العراقية من خلال تزويدها بالسلاح وفتح حدودها لعبور الآلاف من المجاهدين العرب والمسلمين الوافدين إلي العراق من شتي بلاد العالم لإقامة فريضة الجهاد ومحاربة العدو اليهودي الصليبي المحتل علي أرض العراق.. والمطلوب من سوريا أن تغلق حدودها مع العراق إغلاقًا تامًا يقضي تمامًا علي عبور المجاهدين ويوقف تمامًا تدفق السلاح إليهم. وفي خطاب سابق للرئيس السوري سخر من هذا الطلب بقوله.. إذا كانت جحافل الجيوش الأمريكية في العراق غير قادرة علي تأمين الحدود المشتركة بين سوريا والعراق من الجهة العراقية فكيف أقدر أنا ودولتي ذات الإمكانات المحدودة علي تحقيق ما عجزت عنه تلك الجيوش بتأمين هذه الحدود من الجهة السورية.(1/74)
4- ملف دعم المقاومة الفلسطينية: وذلك من خلال استضافة سوريا لبعض جماعات المقاومة الفلسطينية المعارضة للحلول الاستسلامية التي تضيع الحقوق الفلسطينية وتسلم القضية الفلسطينية بالكامل لقمة سائغة للعدو اليهودي وتريد إسرائيل وأمريكا من سوريا طرد قادة المقاومة الفلسطينية الذين يعيشون في دمشق وإغلاق مكاتبهم ومنع أي شكل من أشكال الدعم المادي أو المعنوي لهم بإدعاء أنها منظمات وجماعات إرهابية تقف عقبة في وجه المطامع والمخططات اليهودية.
كذلك تريد أمريكا من سوريا أن تتوقف عن معارضة الحلول الاستسلامية والانهزامية، وأن تعلن صراحة موافقتها علي خطة خارطة الطريق بين العرب واليهود وأن توافق صراحة وأن تدعم نهج التفاوض المتخاذل بين اليهود والسلطة الفلسطينية بكل ما فيه من تفريط في الأرض الفلسطينية وتسليم للمسجد الأقصي، وإنكارٍ لحق اللاجئين في العودة إلي ديارهم.
5- ملف أسلحة الدمار الشامل: وفيه تتهم إسرائيل وأمريكا سوريا بامتلاك أسلحة للدمار الشامل ما بين كيميائية وبيولوجية ومطلوب من سوريا التخلص تمامًا من هذه الأسلحة بتدميرها والتوقف عن صناعتها وتحضيرها.
6- ملف حقوق الإنسان: وطبعًا المقصود به الإنسان من المنظور الأمريكي وهو أن الإنسان الوحيد صاحب الحقوق هو اليهودي والصليبي، أما من عداه من بقية البشر وخاصة العرب والمسلمين فليس له نصيب من حقوق الإنسان إلا ما يلقاه في سجن أبي غريب وجوانتناموا وباجرام وغيرها من تعذيب تشيب له الولدان واغتصاب للشرف وامتهان للكرامة.. ومن قصف بأعتي الأسلحة المحرمة دوليا جالبة الدمار والخراب لبيوت الأبرياء العزل في الفلوجة والقائم والحلة والأنبار في العراق وفي قري أفغانستان ومن اغتيال للشباب والكهول والأطفال وتدمير منازلهم في فلسطين. وملف حقوق الإنسان هو قميص عثمان الذي ترفعه إسرائيل وأمريكا ضد كل دولة مارقة عليها ترفض الخضوع لمخططاتها والانصياع لأوامرها.(1/75)
ما مواطن القوة في موقف التحالف اليهودي الصليبي؟
ج- هناك عدة عناصر للقوة في موقف التحالف اليهوي الصليبي ضد سوريا.. ومن هذه العناصر:
1- التحالف الأمريكي الفرنسي
إن أهم عنصر في ذلك المجال هو أن أمريكا ونتيجة للكارثة التي حلت بها في العراق قد استوعبت الدرس جيدًا وأدركت أن سبب هذه الكارثة هو أن غرور القوة قد ركبها وأن الشعور بالاستعلاء والاستكبار قد أعميا عينيها وأصما أذنيها وختما علي عقلها فتجاهلت معارضة العالم كله بما فيه حلفائها في أوروبا وعلي رأسهم فرنسا وألمانيا لدرجة أن وزير الدفاع الأمريكي قد سخر منهما وقلل من شأنهما وسماهما (أوروبا القديمة) وأعلنت أمريكا بكل صفاقة أنها لا تحتاج إليهما في حربها علي العراق.. فلما وقعت الكارثة وسقطت أمريكا في مستنقع العراق الدامي عادت إلي رشدها وأفاقت من غرورها واستكبارها فعادت صاغرة منكسرة إلي أوروبا وإلي فرنسا علي وجه الخصوص وأعادت ترتيب الأوراق معها لتصبح شريكًا لها في قيادة التحالف اليهودي الصليبي وليست تابعًا مثل بريطانيا.. وطبعًا كان هذا هو مطلب فرنساالذي انشقت بسببه علي أمريكا ورفضت أن تكون تابعًا لها في حرب العراق.. وهكذا التأم الشرخ واندمل الجرح بين القارة الأمريكية والقارة الأوروبية وتوحد جناحا التحالف علي جانبي المحيط الأطلنطي.. وكانت النتيجة أن فرنسا - ومن ورائها أوروبا الغربية بالكامل - التي عارضت أمريكا معارضة شرسه في حرب العراق تحولت اليوم إلي النقيض وأصبحت هي رأس الحربة التي يرفعها التحالف اليهودي الصليبي لبدء الهجمات الجديدة علي الدول العربية والإسلامية..(1/76)
وظهرت النتيجة واضحة وسريعة حيث تزعمت فرنسا ومن ورائها أمريكا وبريطانيا وكل قوي التحالف الغربي مخطط التصعيد ضد سوريا بدءًا من قرار انسحاب سوريا من لبنان مرورًا بالضغط لنزع سلاح حزب الله وحتي قرار وجوب انصياع سوريا لقرارات لجنة التحقيق الدولية المكلفة بإجراء التحقيق في مقتل رفيق الحريري.. وفي انتظار ما ستتمخض عنه الأيام.
2- العودة إلي مظلة الأمم المتحدة
عملت أمريكا ونتيجة أيضًا للدرس الدامي في العراق علي ألا تعمل خارج نطاق المنظمات الدولية وعلي رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. فبينما تجاهلت قبل حربها علي العراق وتحت غرور القوة والاستكبار كل هذه المؤسسات وأعلنت أنها لا تحتاج إليها، وأن الزمن قد عفا عليها، وتجاهلت معارضة الدول الكبري مثل روسيا والصين، فكانت النتيجة تلك الكارثة التي غرقت فيها في العراق.. فإنها قد حرصت هذه المرة علي أن تحصل علي قرارات صريحة وواضحة وبإجماع كل الأعضاء من مجلس الأمن ضد سوريا تمهيدًا لتصعيد الصراع حتي إذا وقع الصدام واشتعل الموقف عسكريا كانت القوي العالمية كلها تقف خلف التحالف اليهودي الصليبي الذي يخوض ذلك الصراع مدعومًا دعمًا صريحًا من الشرعية الدولية.
3- صدور القرار تحت البند السابع من ميثاق مجلس الأمن
بالرغم من نجاح ضغوط روسيا والصين ومعهما الجزائر العضو العربي الوحيد بمجلس الأمن في دورته الحالية من أجل ألا يصدر قرار وجوب انصياع سوريا للجنة التحقيق مقترنًا بالتهديد باستخدام القوة أو سلاح العقوبات الاقتصادية والسياسية ضدها في حال رفضها التعاون مع اللجنة.. فإن التحالف نجح في المقابل في أن يخرج ذلك القرار تحت البند السابع من ميثاق مجلس الأمن والذي يتيح له تصعيد الموقف حتي استخدام القوة العسكرية المسلحة ضد سوريا في حال امتناعها عن التعاون الكامل مع اللجنة.
4- التهديد بقيام إسرائيل بالهجوم علي سوريا(1/77)
وذلك بإمكانية إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل للعمل منفردة وخارج نطاق الشرعية الدولية ضد سوريا.. فتحت أي ذرائع كاذبة أو مبررات واهية تستطيع إسرائيل أن تشن هجومًا جويا وبريا كاسحًا ومباغتًا وخاطفًا علي سوريا قد يصل إلي احتلال العاصمة السورية دمشق وإسقاط النظام السوري وتنصيب حاكم عميل يخضع وينصاع للتحالف علي غرار ما حدث في افغانستان.. واحتمالات هذا الأمر قوية ومعتبرة.. فموازين القوي العسكرية بين إسرائيل المدعومة بأحدث وأقوي ما في ترسانة الغرب من أسلحة مقابل التسليح السوري من الكتلة الشرقية والذي توقف منذ ما يزيد عن عشرين عامًا لا يوجد مجالاً للمقارنة بينهما مما يجعل من الصعب علي سوريا أن تقاوم مثل هذا الهجوم.. أما أخطر ما في الأمر فهو أن إسرائيل اليوم وبالنسبة لدول العالم أجمع دولة فوق القانون!! وفي الوقت الذي تستطيع فيه عشرات الدول أن تنتقد أمريكا أو فرنسا أو انجلترا أو غيرها من الدول فإنه لا توجد دولة واحدة في العالم تجرؤ علي أن تنتقد إسرائيل.. وهذه هي الفرصة الذهبية لإسرائيل لتوجيه الضربة القاضية لسوريا ليسقط بذلك آخر المعاقل الحصينة والقلاع المقاومة للمخططات اليهودية الصليبية لإنشاء دولة إسرائيل الكبري من النيل إلي الفرات ولتصل إسرائيل بذلك إلي نهر الفرات وهو الحد الشرقي لها انتظارًا لمجيء الأيام بفرصة أخري توصلها إلي الحد الغربي علي ضفاف نهر النيل. وبسقوط سوريا تبدأ ُإسرائيل بعد ذلك مباشرة وبالتعاون مع الحكام العرب والمسلمين الحلفاء لليهود والصليبيين في الانفراد بالشعب الفلسطيني ومحاصرته وحرمانه من أي مصدر للقوة والتسلح تمهيدًا للقضاء بكل وحشية وقسوة علي أي مظهر من مظاهر المقاومة الفلسطينية ولتنتهي بذلك نهائيا القضية الفلسطينية ويضيع المسجد الأقصي ولتبدأ حقبة جديدة من حقب الضعف والهوان في تاريخ المسلمين.(1/78)
س: في مقابل عناصر القوة والضعف في موقف التحالف اليهودي الصليبي فإن هناك أيضًا عناصر للقوة والضعف في الموقف السوري.. فما تلك العناصر؟
عناصر القوة في الموقف السوري
ج- هناك عناصر للقوة في الموقف السوري في ذلك الصراع الناشيء بينه وبين التحالف اليهودي الصليبي، ومن هذه العناصر:
أ- حزب الله
يدرك حزب الله جيدًا خطورة وأهمية بقاء النظام السوري الحالي واستقرار الموقف في سوريا ويعلم أنهما يمثلان بالنسبة له السبيل الوحيد لوصول الدعم الإيراني إليه.. ويعلم أن سقوط سوريا سيؤدي حتمًا إلي إضعافه وتضييق الخناق عليه وربما سقوطه حيث ستنفرد به قوي التحالف اليهودي الصليبي دون ما سند أو معين فيسهل عليها ضربه والقضاء عليه. لذلك فإن حزب الله يري أن الموقف الحالي ضد سوريا ومحاولات تصعيده لدفعها في طريق العراق هو خط أحمر ليس فقط لاستراتيجيته الجهادية ولكن لبقائه علي ساحة الصراع العربي الإسرائيلي.. ولذلك أيضًا فعند اللحظة الحرجة التي يري الحزب فيها أن الخطر قد أحدق بسوريا وأن الحصار قد أحكم عليها فإنه من المؤكد أن يشعل نار الجهاد الإسلامي في أعنف صوره في شمال فلسطين وجنوب لبنان إن لم يكن في لبنان كلها وأن يفجر الموقف في تلك المنطقة تفجيرًا عنيفًا يربك كافة الحسابات ويقلب جميع الموازين ويشغل التحالف اليهودي الصليبي بما هو أهم من ضرب النظام السوري.. فتتوقف مخططاته ولو إلي حين.
هذا وقد بدأت نذر هذا التصعيد بتلك الرسالة التي تجسدت في ذلك الهجوم الاستشهادي الباسل الذي وقع مؤخرًا علي شمال إسرائيل ودُمّرت فيه ثلاث آليات إسرائيلية، وقُتِل فيه جندي إسرائيلي وجُرح فيه أحد عشر آخرون بينما استشهد أربعة من مجاهدي حزب الله.
ب- المقاومة العراقية(1/79)
لا شك أن المقاومة العراقية حتي هذه اللحظة تمثل الحجر الذي انكسر عليه أنف أمريكا والنهر الدامي الذي ما يزال يستنزف أرواح ودماء جنودها والبئر الذي يبتلع بلا نهاية أموالها وثرواتها.. ولا شك أن ظهور المقاومة العراقية بعد انتهاء الحرب علي العراق مباشرة كان هو الصخرة التي انكسرت عليها المخططات اليهودية والصليبية والتي كانت تقضي بغزو سوريا بعد العراق مباشرة.. ولا شك أن النظام السوري من خلال عدم عرقلته للمقاومة العراقية وعدم تدخله في شئونها قد وفر لها دعمًا استراتيجيا وعسكريا حيويا وخطيرًا.. فالمقاومة العراقية تستطيع وعند تضييق الخناق عليها أن تعبر الحدود لتتخذ من سوريا ملاذًا آمنًا.. والحدود السورية التي لا يمكن لأي قوة أن تحكمها أو تسيطر عليها هي بالنسبة للمقاومة العراقية البوابة التي يتدفق منها المجاهدون المسلمون من شتي بقاع الأرض إلي العراق.. والسلاح الذي تهربه جماعات المقاومة بين سوريا والعراق هو أحد المصادر الحيوية لسلاح المقاومة لذلك فإن المقاومة العراقية تعتبر أن بقاء النظام السوري الحالي مستقرًا ومسيطرًا علي الأوضاع في الدولة السورية يصب مباشرة في مصادر قوتها وأن سقوط ذلك النظام سوف يضر بوجودها استراتيجيا وعسكريا ضررًا بالغًا.(1/80)
ولذلك فإن المقاومة العراقية عند اللحظة التي تري فيها أن الخطر قد أحدق بالنظام السوري وأن سوريا قد أحيط بها وأصبحت مهددة بالسقوط تحت الاحتلال العسكري - كما حدث في العراق - فإنها سوف تزيد من اشتعال النار المشتعلة أصلا في العراق وسوف تضاعف من عملياتها كما وكيفًا بشكل يزلزل الأرض تحت أقدام القوات الأمريكية ويطيش بصوابها.. فإذا أضيف إلي ذلك أن الساحة السورية إذا حدث فيها ما حدث في العراق سوف تشتعل بالجهاد والمقاومة فإن ميدان الجهاد في العراق سوف يجد له امتدادًا جغرافيا وبشريا وماديا ومعنويا في الأراضي السورية مع المجاهدين السوريين وسوف تجد قوات التحالف اليهودي الصليبي في العراق نفسها بين شقي الرحي.. بين الجهاد في العراق والجهاد في سوريا.
ج- المقاومة الفلسطينية(1/81)
تنظر المقاومة الفلسطينية إلي سوريا نظرة خاصة.. فهي الدولة العربية الوحيدة التي مازالت صامدة في وجه المخططات الجهنمية للتحالف اليهودي الصليبي التي تستهدف بلاد المسلمين وفي قلبها القدس الشريف.. فمنذ عقود قليلة وبالتحديد في فترة حرب العاشر من رمضان كانت جبهة التصدي للعدو الإسرائيلي في المنطقة قوية وعريضة وواسعة.. ففي الجنوب كانت تقف مصر قلب العروبة النابض والتي لا يمكن أن تقوم أي حرب للدفاع عن الإسلام إلا بها ومن ورائها السودان الموحَّد وليبيا ودول المغرب العربي تدعمها وتؤازرها، ومن الشمال والشرق كانت سوريا ولبنان والأردن والعراق ومن ورائهم السعودية والكويت وقطر والإمارات والبحرين واليمن تدعمهم وتؤازرهم.. كل هذه القوي كانت تقف علي قلب رجل واحد متصدية للعدو اليهودي بغرض واحد محدد هو تحرير كل أراضي المسلمين المحتلة وعلي رأسها القدس الشريف.. أما الآن فقد انفرط العقد وانفض الجمع وخرج الجميع من ساحة الجهاد وميدان القتال وانصرف كل إلي حال سبيله يبحث عن نجاته ومصالحه.. إما باتفاقيات سلام.. أو تحالفات مع العدو اليهودي.. أو بانصياع كامل للهيمنة والنفوذ الإسرائيلي الأمريكي.. أو بسقوط عسكري تحت براثن الاحتلال .. ولم تبق من الدول العربية إلا سوريا ومعها من الدول الإسلامية إيران وهما تدعمان القضية الفلسطينية بشكل مباشر ومعلن وصريح، حيث تصران علي وجوب تطبيق الحلول العادلة التي تكفل إعادة كافة الأراضي العربية المحتلة إلي أصحابها وإقامة الدولة الفلسطينية علي كامل التراب الفلسطيني وعلي رأسها القدس الشريف.. كما تدعمانها بشكل غير مباشر بدعمهما لحزب الله في جنوب لبنان والذي يعَدُّ زادًا روحيا ومددًا معنويا للمقاومة الفلسطينية ومناصرًا فاعلاً ومخلصًا للقضية الفلسطينية.(1/82)
ولو سقطت سوريا لفقدت المقاومة الفلسطينية الورقة الأخيرة لها في جهادها ضد اليهود ولأصبحت تقف منفردة ووحيدة دون ما سند ولا معين إلا الله سبحانه وتعالي.. وخاصة بعد أن استسلمت السلطة الفلسطينية الحالية وسلمت بخيار السلام والمفاوضات خيارًا وحيدًا للتعامل مع عدو ماكر يملك كل عناصر القوة والبطش ويستطيع من خلال التفاوض أن يبتلع الدنيا كلها لا أرض فلسطين - وفي قلبها القدس الشريف - وحدها لذلك فإن الشعب الفلسطيني يعيش مرحلة من أشد مراحل الإحباط السياسي خاصة بعد أن رأي بعينيه أن التخلص من رمز المقاومة الفلسطينية ياسر عرفات ومجيء سلطة جديدة آمنت بأن المفاوضات - وليس الجهاد المسلح - هي التي ستأتي له بحقوقه. وبعد أكثر من عام رأي الفلسطينيون أن طريق التسوية والتفاوض لم يوصلهم إلي أي نتيجة.. لا تحرير ولا استقلال ولا أمن ولا أمان ولا شرف ولا كرامة ولا احترام لآدمية الإنسان الفسطيني.. حتي أن الانسحاب من غزة لم يكن ثمرة لهذه المفاوضات، وإنما كان ثمنًا لدماء الشهداء وأشلاء القتلي والجرحي وأنين العجزة ودموع الثكالي وبكاء الأطفال.. وذلك كله ثمن المقاومة والجهاد.(1/83)
لذلك فإن الفلسطينيين وهم يعيشون تلك الحالة من الغليان الداخلي والإحباط ما إن يشعروا بأن الخطر قد أصبح علي أبواب دمشق وأوشك أن يطيح بها فسوف تنفجر أرض فلسطين بانتفاضة جديدة ستكون أشد وأقسي من سابقتيها.. هذه الانتفاضة إذا انفجرت فسوف تضيف قوة إلي ضغط المقاومة العراقية في العراق وضغط حزب الله في جنوب لبنان وشمال فلسطين وسوف توسع ميدان الجهاد وسوف تربك حسابات التحالف اليهودي الصليبي والدول العربية الحليفة له إرباكًا شديدًا وستتعرض المنطقة بالكامل بما فيها تلك الدول الحليفة لأمريكا لأخطار شديدة واهتزازات عنيفة وستنتشر الفوضي وأعمال العنف والإرهاب بلا حدود وسَتُهَدّد عروش وكراسي وستدخل المنطقة في دوامة من العنف والإرهاب لا يعلم أحدٌ كيف يمكن أن تخرج منها إلا الله وحده سبحانه وتعالي.
د - الدعم الإيراني
تنظر إيران إلي سقوط دمشق علي أنه الخطوة السابقة مباشرة لسقوط إيران وأن الدور سيأتي عليها بعد سوريا مباشرة لا محالة.. لذلك فإن إيران تعتبر أن الحفاظ علي النظام السوري ومقاومة أي جهود أو محاولات لتهديد الدولة السورية مرتكزًا استراتيجيا رئيسيا في الحفاظ علي الأمن القومي الإيراني.. ولذلك أيضا فإن إيران ومن خلال علاقاتها وارتباطاتها القوية مع سوريا ما إن تشعر أن الخطر قد أصبح محدقًا بسوريا وأنها تقترب من مصير العراق فإنها سوف تحيل المنطقة من طهران إلي بيروت مرورًا ببغداد ودمشق إلي أرض محترقة وإلي ساحة للنيران تأكل الأخضر واليابس وميدانًا للعنف والإرهاب ضد كل مظهر للوجود اليهودي الصليبي وذلك من خلال إصدار فتوي بالجهاد المسلح من أئمة وملالي إيران إلي كل القوي الشيعية المتحفزة والمتربصة في العراق وسوريا ولبنان ودول الخليج وشرق السعودية حيث القواعد العسكرية الأمريكية وحقول وآبار النفط الغنية والمصالح اليهودية الصليبية الحيوية والخطيرة.(1/84)
كذلك فإن إيران تستطيع لجذب الانتباه بعيدًا عن سوريا أن تصعد من حدة الملف النووي الإيراني بإعلانها بدء عمليات التخصيب لليورانيوم في منشآتها النووية وتفجير بعض أنشطة المقاومة الشيعية في العراق كما حدث من قبل في مقاومة مقتدي الصدر لقوات الاحتلال الأمريكية.. هذا وقد بدأت بوادر التحرك في هذا الاتجاه باتخاذ البرلمان الإيراني مؤخرًا قرارًا يلزم الحكومة الإيرانية القيام بعمليات تخصيب اليورانيوم إذا تم إحالة الملف النووي الإيراني إلي مجلس الأمن.. وهو شكل من أشكال التحدي والاستفزاز للتحالف اليهودي الصليبي للفت نظره بعيدًا عن سوريا.
كذلك فإنه يمكن تفسير التوقيت الذي دفع بالرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلي إطلاق تصريحه حول وجوب محو وإزالة الدولة العبرية من الخريطة بأنه شكل من أشكال تصعيد الموقف بين إيران والتحالف، وإرباك لخطته للانفراد بسوريا وحزب الله.
6- امتداد العنف إلي الدول الأوروبية(1/85)
بالرغم من أن الدين الإسلامي الحنيف يرفض أعمال التخريب والعنف وإشعال النيران في الممتلكات العامة والخاصة كما حدث أخيرًا في فرنسا... فإن الشعور بالظلم والإحباط الذي يعصف بكل المسلمين في العالم بمن فيهم مواطني الدول لأوروبية سوف يفتح باب جهنم علي تلك الدول في عقر دارها من خلال انفجار موجات العنف والإرهاب علي أراضيها وبين شعوبها فتنشغل بإطفاء النيران التي تهب عليها وتوشك أن تعصف بها عما يحدث خارج حدودها بما فيها الملف السوري وغيره.. وقد ظهرت بوادر ذلك الشعور بالظلم والقهر والإحباط في فرنسا في الأيام الأخيرة حيث اشتعلت موجات عاصفة من أعمال العنف أُحْرِقَتْ فيها ألوف السيارات ومئات المراكز الحيوية والحكومية وأقسام الشرطة مما أصاب الحكومة الفرنسية بالصدمة والمفاجأة حيث إن هذه الأحداث كانت أبعد ما تكون عن خاطرها.. وقبل أن تهدأ تلك الانتفاضة الغاضبة كانت قد امتدت إلي بعض الدول الأوروبية الأخري في إشارة صريحة إلي ما يحمله المستقبل من مخاض مليء بالعنف والكراهية والإرهاب يصيب تلك الدول إذا ما استمر الظلم والقهر والعدوان علي الإسلام والمسلمين.
عناصر الضعف في الموقف السوري
وفي مقابل عناصر القوة فإن هناك عناصر للضعف في الموقف السوري منها:
1- خروج سوريا من لبنان
خرجت سوريا من لبنان وفقدت موقعها الاستراتيجي الخطير وعلاقاتها المتميزة والمتكاملة مع الدولة اللبنانية عامة وحزب الله في الجنوب خاصة.. وكان ذلك الوجود السوري في لبنان هو الورقة الرابحة الأخيرة التي كانت سوريا تضغط بها وتدخرها لتساوم بها في أي مفاوضات مستقبلية مع إسرائيل لاستعادة أراضيها المحتلة في الجولان.
2- وقوف سوريا وحيدة في الميدان(1/86)
تقف سوريا وحيدة في ميدان الصراع فجميع الدول العربية التزمت الصمت ولم تجرؤ أي دولة علي إعلان معارضتها لذلك التصعيد الظالم الذي يريد أن يكرر مع سوريا ما سبق وفعله بالعراق.. بل زد علي ذلك أنها هرعت إلي سوريا تنصحها بالانصياع الكامل لقرارات الشرعية الدولية والطاعة المطلقة لكل ما يأمر به القاضي الألماني الذي جيء به أداة لتنفيذ المخطط اليهودي الصليبي .. أما الدول الإسلامية فباستثناء إيران وتركيا فإن الجميع أيضًا قد سلكوا نفس المسلك.
3- الحصار العسكري لسوريا
إن سوريا وبعد احتلال العراق قد أصبحت محاطة في أي تصعيد عسكري بأكثر من مطرقة وسندان.. ففي الشرق تقف قوات الاحتلال الأمريكي في العراق وفي الشمال تقف تركيا التي يوجد بها قواعد أمريكية ستستخدم في ضرب سوريا لا محالة في حالة التصعيد العسكري وفي الجنوب توجد الأردن الحليف المخلص لأمريكا واليهود وبه قواعد للقوات الأمريكية وفي الجنوب الغربي تقع إسرائيل بترسانتها العسكرية والنووية. وفي الغرب تقع لبنان التي أصبحت اليوم مصدرا للتخطيط والتآمر ضد سوريا بعد أن كانت الحليف القوي لها.
العنصر المشترك(1/87)
وهناك عنصر غريب وفريد من عناصر القوة والضعف بين الطرفين.. وغرابة ذلك العنصر تأتي من كونه يحمل النقيضين.. فباعتبار ما هو حادث وواقع الآن فهو عنصر قوة خطير للتحالف اليهودي الصليبي وعنصر ضعف شديد لسوريا.. أما باعتبار ما هو آت بلا ريب إن شاء الله فإن الحال ينقلب ويصبح عنصر قوة خطير لصالح سوريا وعنصر خطر عنيف علي التحالف.. ذلك العنصر هو ذلك الموقف المخزي والمجلل بالعار لحكام العرب والمسلمين.. موقف التخاذل والاستسلام والذل والخنوع الذي لم تر له الأمة مثيلاً في تاريخها.. يضاف إلي ذلك الموقف ذلك الضغط اليهودي الصليبي المستمر والعنيف .. وذلك الظلم والاضطهاد المتصاعد بلا هوادة علي الإسلام والمسلمين.. فمما لا شك فيه أن النتيجة النهائية سوف تكون انفجارًا مدويا وعنيفًا لكل الشعوب المسلمة.. ومما لا شك فيه أن ذلك الانفجار سيعصف أول ما يعصف بهؤلاء الحكام المنهزمين والمتخاذلين من العرب والمسلمين ثم بعد ذلك ينقلب علي ذلك التحالف الفاجر في ظلمه واضطهاده للإسلام والمسلمين.. ليرد كيده في نحره.
الموقف الدولي من الملف السوري
مواقف الدول العربية
نبدأ أولا باستعراض الموقف العربي لأن الدول العربية هي صاحبة المصاب وهي المعنية به في المقام الأول:(1/88)
وللحقيقة فإن أي محلل للأحداث يريد أن يصف الموقف العربي مهما أوتي من براعة الكلمة وبلاغة الأسلوب وعمق الرؤية فإنه لن يصل إلي ما وصل إليه ذلك الرسم الكاريكاتوري لفنان متميز في صحيفة مصرية واسعة الانتشار وهو الفنان مصطفي حسين في جريدة الأخبار -الصادرة في 14 شوال 1426هـ - الموافق 16 نوفمبر 2005م والذي يرسم فيه الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته في صورة السفاحتين الشهيرتين في مدينة الإسكندرية في الأربيعنيات «ريا وسكينة» ومن ورائهما الرئيس الإسرائيلي في صورة «عبد العال» وهو العضو الثالث في تلك العصابة الشهيرة لقتل النساء، وهما تعددان وتنوحان بألفاظهما الشهيرة «الدور الدور الدور الدور.. حسرة عليها ياللي عليها الدور» وبجوارهما وهذا هو الجزء العبقري في الرسم تصطف الدول العربية علي هيئة مجموعة من النسوة العجائز يرتدين السواد وهن جالسات بجوار حائط متهالك ينتظرن في استسلام كامل دورهن في الخنق والقتل والذي لن ينتهي إلا بالقضاء عليهن جميعًا.. وللأسف الشديد فإن هذه الصورة الساخرة تجسد حال الدول الإسلامية، تجسيدًا حقيقيًاً
فحتي هذه اللحظة لم تجرؤ دولة عربية واحدة علي إعلان معارضتها لذلك التصعيد وتضييق الخناق علي سوريا بتلك التهم الباطلة والمبررات الكاذبة التي يدرك الجميع كذبها وزورها.. والدول العربية كلها تقف موقف الانهزام والخذلان والاستسلام خوفا وفزعًا وهلعًا من سيف التحالف اليهودي الصليبي المسلط علي رقابها جميعها. وإن كانت قد اختلفت في مدي تفاعلها وتجاوبها مع الأحداث إلي مجموعتين:
المجموعة الأولي(1/89)
وهذه المجموعة من الدول العربية تتسم بحالة من الانسلاخ الكامل عن شئون وهموم أمتها العربية والإسلامية، وتقيم علاقات وثيقة مع العدو الإسرائيلي مستترة أو غير مستترة، وتؤمن بأن السلامة أن تسير في ركاب التحالف اليهودي الصليبي فتحالفت معه وتزلفت إليه بالتخلي عن أمتها العربية والإسلامية وهي تتساقط دولة وراء دولة ممنية نفسها بأن العدو سيكافؤها بإخراجها من أجندته بضرب العالم العربي والإسلامي وهي لا تدرك أن الدور آت عليها لا محالة. ومن هذه الدول.. دول المغرب العربي وعلي رأسها المغرب وتونس وليبيا.. ودول الخليج العربي وعلي رأسها قطر والبحرين والإمارات والكويت.. ثم في الشام دولة الأردن..
المجموعة الثانية
هي مجموعة الدول التي مازال حكامها علي درجة من الوعي والحنكة وإدراك المصير المظلم الذي لابد وأن يحل بها في ذلك الطريق الذي سارت فيه بتحالفها مع اليهود والأمريكان وهي تبذل جهودًا مضنية لتُجَنّبَ سوريا مصير العراق ولكنها لا تجرؤ في معارضتها علي تخطي حدود معينة مرسومة لها بدقة .. والغريب أن هذه الدول قوية وتستطيع أن تتصدي لذلك المخطط بدرجة أشد قوة وأكثر فاعلية وأن تجهر بمعارضتها ويكون لذلك أثر عظيم في تحجيم ذلك الهجوم الشرس علي سوريا ولكنها لا تستغل كل هذه المعطيات وتفضل أن تكون جهودها في السر، وهي النصح للسوريين بالقبول والانصياع لكل ماتأمر به لجنة التحقيق من ناحية وتحذير للأمريكيين من مغبة أي تصعيد للمواقف عليهم وعلي المنطقة كلها من ناحية أخري بما فيها من اهتزاز العروش والكراسي وتدمير الاستقرار في الدول الحليفة لهم وتحويل المنطقة بكاملها إلي ساحة للفوضي العارمة تسيطر عليها كل جماعات الجهاد الإسلامي التي ستفد إليها من شتي أنحاء العالم ويأتي علي رأس هذه المجموعة دولتان هما مصر والسعودية.
مواقف بعض الدول غير العربية
الموقف الإسرائيلي(1/90)
أكدت صحيفة معاريف الإسرائيلية في عددها الصدر بتاريخ 28 / 10 / 2005م أن هناك ما يشبه الإجماع بين القيادات السياسية والعسكرية اليهودية علي أنه من مصلحة إسرائيل بقاء نظام الحكم الحالي في سوريا شريطة تطويعه وتركيعه وعلي أن كل البدائل التي تطرح لخلافة هذا النظام تشكل خطرًا شديدًا علي الدولة العبرية ومصالحها الاستراتيجية وذلك من منطلق أنه من أهم المتطلبات الأمنية لإسرائيل أن تحيط بها دول عربية متخلفة تحكم بأنظمة دكتاتورية مستقرة ومنضبطة يمكن قيادتها وتطويعها لما يحفظ أمن إسرائيل.
كذلك فقد حذرت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من أن سقوط النظام السوري سيؤدي إلي فوضي عارمة علي غرار ما حدث ويحدث في العراق مع فارق أن ما يحدث في العراق الآن لن يكون إلا مجرد (نزهة) مقارنة بما هو متوقع أن يحدث في سوريا.. وأن سوريا سوف تتحول إلي موقع متقدم للحركات الجهادية في العالم أجمع وسوف يتوافد المجاهدون المسلمون من كل أنحاء العالم لضرب إسرائيل من الحدود السورية وبذلك تتحول تلك الحدود التي كانت مثالا للهدوء والانضباط طوال أكثر من ثلاثين عامًا إلي ساحة مواجهة شديدة القسوة علي إسرائيل وتري هذه الأجهزة أن العمل ضد إسرائيل انطلاقًا من الحدود السورية سوف يحظي بشرعية أكبر بكثير من الشرعية التي تحظي بها جماعات المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في العراق.. كذلك فإن حالة الفوضي التي ستسود في سوريا سوف تؤدي إلي غياب أي سلطة مركزية رسمية يمكن لإسرائيل أن تضغط عليها من أجل وقف العمليات الجهادية ضدها من الأراضي السورية.
كما تري تلك الأجهزة أن انهيار النظام الحالي وتحول سوريا إلي ساحة للحركات الجهادية سوف يهدد بالإطاحة بالحكم القائم في الأردن والذي تعتبره إسرائيل حليفًا مخلصًا لها وأحد أهم ركائز الأمن للدولة العبرية.(1/91)
وبناء علي ما تقدم فإن التوجه العام بين صناع القرار الإسرائيلي يسير في طريق الضغط علي أمريكا لتجنب خيار الغزو المسلح والتركيز علي محاولة الضغط علي النظام السوري للوصول إلي صفقة تضمن بقاءه مع تحقيق المطالب اليهودية والأمريكية.
الموقف الفرنسي
بالرغم من أن فرنسا تتباهي علي العالم أجمع بأنها دولة الحرية والإخاء والمساواة.. فإن السنوات الماضية لم تشهد مثالاً لمواقف الدول الانتهازية والوصولية والنفعية كما شهدت من الموقف الفرنسي في القضايا والأحداث الحالية المتعلقة بمصير العرب والمسلمين.. فإن الدولة الفرنسية والتي ظلت لعقود تقف موقفًا متوازنًا من الصراع العربي الإسرائيلي وظلت تحتفظ بعلاقات جيدة ومتوازنة مع سوريا ولبنان ووقفت من الغزو الأمريكي الظالم للعراق موقف المعارضة الشرسة.. لم تكن تفعل ذلك احترامًا لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي تتشدق بها ليلاً ونهارًا.. وإنما كانت تفعل ذلك طلبًا للمصالح وطمعًا في المكاسب والغنائم.. فما كادت أمريكا تعيد رسم علاقاتها مع فرنسا وتنتقل بها من موقف التابع الذي ليس له نصيب من الغنائم إلا الفتات إلي موقع الشريك في قيادة التحالف حتي انقلبت إلي الضد وتغيرت من حال إلي حال فأعلنت الحرب علي الإسلام والمسلمين وتصدرت جحافل الهجوم عليهم وأصبحت اليوم هي رأس الحربة التي توجه إلي صدورهم في كل موقف من مواقف الصراع بينهم وبين التحالف اليهودي الصليبي.. وها هي اليوم تتزعم تلك الحملة الشرسة لعزل لبنان عن محيط أمته العربية والمسلمة وحملة نزع سلاح حزب الله في الجنوب اللبناني وحملة الضغط علي سوريا للانسحاب من لبنان حتي انسحبت بالكامل ثم حملة الضغط عليها للانصياع إلي متطلبات تقرير لجنة (ميليس) تمهيدًا لتركيع النظام السوري وإذلاله وكسر شوكته.
الموقف التركي(1/92)
أعلنت تركيا معارضتها الصريحة لتصعيد أمريكا للموقف مع سوريا كما سبق من قبل وفعلت في العراق وحذرت تركيا أمريكا من أن أي خطأ في الحسابات في الملف السوري سيكون أشد وأعنف مما حدث في العراق.. ولتركيا مصلحة مباشرة وحيوية وخطيرة في استقرار النظام السوري وعدم حدوث فوضي كالتي في العراق.. ففي الشمال الشرقي من سوريا يعيش ما يقرب من ( 1.5) مليون مواطن كردي حسب آخر تقارير منظمة العفو الدولية.. وهؤلاء من مصلحتهم أن تسود الفوضي في سوريا ويسقط النظام القائم حتي يتكرر ما حدث في العراق وتقوم دولة كردية في سوريا تنضم للدولة الكردية التي قامت في العراق لتقفز بالحلم الكردي بإنشاء دولة كردستان التاريخية خطوات إلي الأمام .. وبالطبع فإن ذلك سوف يلهب المشاعر ويؤجج الحماس عند أكراد تركيا - الذين يعيشون في الجنوب الشرقي من تركيا- للثورة وتصعيد كفاحهم المسلح للانفصال عن تركيا واللحاق بإخوانهم في العراق وسوريا مشاركين في إحياء الحلم الكردستاني.. وذلك بالتأكيد سوف يعود بتركيا إلي مرحلة جديدة من الحرب الأهلية التي كانت قد توقفت مع حزب العمال الكردستاني التركي بعد القبض علي زعيمه عبد الله أوجلان..
الموقف الإيراني
لم تعلن إيران مجرد المعارضة لتصعيد الموقف ضد سوريا وإنما أعلنت عن مساندتها للموقف السوري ودعمها للدولة السورية في أي تصعيد للأحداث ضد التحالف اليهودي الصليبي وذلك كما ذكرنا آنفا لعدة أسباب أهمها أن إيران تدرك جيدًا أن سقوط سوريا هو المحطة التي تسبق مباشرة حصارها لإسقاطها.(1/93)
الموقف الصيني والروسي: هذا الموقف المشترك للصين وروسيا والمعارض لتصعيد الموقف ضد سوريا يجسد طبيعة العلاقات بين دول العالم اليوم.. فالأسس التي تقوم عليها تلك العلاقات اليوم ليست المبادئ والشرائع والقيم.. وإنما هي المصالح والمنافع.. فروسيا والصين لا تعارضان للحق.. وإنما خوفًا علي مصالحهما الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وخوفًا من تقليص نفوذهماوانفراد أمريكا وإسرائيل وحدهما بحصد كل الثروات والغنائم الهائلة في تلك المنطقة .
التطورات المحتملة للموقف
ج: هناك عدة تطورات محتملة للموقف ترتبط كلها بالسعي الدؤوب والمحموم للتحالف اليهودي الصليبي لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وفق المصالح اليهودية الصليبية وتحقيقًا لحلم إنشاء دولة إسرائيل الكبري. وهذه الاحتمالات كلها تستهدف في المقام الأول إضعاف النظام السوري وتركيعه وإجباره علي تكرار الخيار الليبي.. فإن لم يرضخ وينصاع فسوف تتصاعد الاحتمالات لتدميره وإسقاطه. وهذه الاحتمالات تأتي علي النحو التالي:
الاحتمال الأول
عزل النظام السوري تمهيدًا لتكرار الخيار الليبي: ويبدو هذا الاحتمال هو أبرز الخيارات لدي الإدارة الأمريكية خاصة وأنها تتسلح بقرارات مجلس الأمن المتعلقة بلبنان وبما ينتظر أن يتمخض عنه التقرير النهائي للجنة (مليس) بإدانة النظام السوري حقًا أو باطلاً.. وأهم ما يميز هذا الاحتمال من وجهة النظر الأمريكية أنه لن يكلفها أي خسائر مالية أو عسكرية أو بشرية بالإضافة إلي أنه يضمن عدم حدوث فوضي عارمة تأكل الأخضر واليابس في المنطقة أو يفجر مقاومة باسلة تذهب بالبقية الباقية من شرف وكرامة العسكرية الأمريكية التي ضاعت ومُرِّغت في التراب علي أرض العراق.(1/94)
ويتم هذا الخيار بفرض عزلة اقتصادية وعسكرية وسياسية شاملة علي النظام السوري وحصاره حصارًا خانقًا ومميتًا لإجباره علي تغيير سياساته والتحول إلي النقيض بالخضوع التام والانصياع الكامل للهيمنة اليهودية الصليبية تمامًا كما فعل النظام الليبي فيما يسمي بتكرار الخيار الليبي. وقد بدأت أولي دلائل هذه العزلة عندما أُخطِر الرئيس السوري قبل لحظات من سفره لحضور اجتماع القمة الأخيرة بالأمم المتحدة بإشارات واضحة من الإدارة الأمريكية بأنه شخص غير مرغوب فيه مما اضطره لإلغاء الزيارة.. كذلك فإنه مما يقوي ذلك الخيار أن وزيرة الخارجية الأمريكية تدعمه بشدة لأنها تعتبر أن عزل سوريا علي كافة الأصعدة الدولية عزلاً كاملاً سيكون أكثر فاعلية من أي عمل عسكري لا تُؤمن عواقبه.(1/95)
ولكن في المقابل فإن الموقف السوري يضْعِفُ من قوة هذا الخيار.. فليس من المنتظر أن تسقط سوريا بنفس السهولة والغرابة والمفاجأة التي سقطت بها ليبيا.. فالرئيس السوري ليس هو الرئيس الليبي.. وسوريا بسياساتها الحكيمة والرصينة ليست هي ليبيا بسياساتها الهوجاء والمتقلبة والمفاجئة، وقد سبق أن أعلن الرئيس السوري في خطابه الأخير بجامعة دمشق أن سوريا لن ترضخ ولن تنحني أو تخضع لغير الله.. وأنها اختارت طريق المقاومة.. وقد برر هذا الاختيار بشكل يحمل قدرًا كبيرا من بعد النظر والنضج والواقعية.. فالرئيس السوري يقول للسوريين وللعالم أجمع أن سوريا مستهدفة.. مستهدفة سواء انصاعت أو قاومت وأنها لو رضخت وخضعت وانحنت فإنها ستكون قد باعت الشرف والكرامة وتكون كمن قتلت نفسها بيدها.. أما لو قاومت وحتي علي فرض هزيمتها فإنها سوف تكون كمن قُتلت بيد عدوها فتنال شرف الشهادة وفي هذه الحالة تكون قد حققت مكسبين.. الأول هو احتفاظها بالشرف والكرامة. والثاني هو أنها تكون قد حققت أي قدر من الخسائر بالعدو يشجع من يأتي عليه الدور بعدها علي استمرار وتصعيد المقاومة بدلا من الانصياع والانهيار بما يفتح الباب لاستيقاظ جحافل الأمة الإسلامية النائمة والمغيبة.الاحتمال الثاني
توجيه ضربة عسكرية محدودة: ويتم هذا الخيار بتوجيه ضربات صاروخية وجوية محدودة بواسطة صواريخ كروز بعيدة المدي والتي استخدمت في الحرب علي دولتي أفغانستان والعراق منطلقةً من الغواصات الأمريكية في البحر المتوسط والخليج العربي.. وبقاذفات القنابل بعيدة المدي من طراز ب 25 منطلقةً من القواعد الجوية الأمريكية في تركيا والعراق وباكستان ودول الخليج العربي، وهذا الخيار يصب أيضًا في إضعاف النظام السوري وليس إسقاطه وهو يلي الخيار السابق في قوة احتمالاته ويتميز بما يلي:(1/96)
أ- أنه يهز ثقة النظام السوري بنفسه ويهز ثقة الشعب في النظام مما يفقده هيبته ويضعف قبضته علي الحكم، ويؤلب الشعب عليه.
ب- أنه سوف يحدث أضرارًا وخسائر بشرية ومادية جسيمة بالمواقع المستهدفة ما بين مواقع اقتصادية ومواقع عسكرية وما تدعيه أمريكا من أنه معسكرات وقواعد لتدريب الأرهابيين من رجال المقاومة العراقية والفلسطينية في سوريا.
ج - أن هذا الخيار قليل التكاليف ويضمن ألا تتعرض القوات البرية العسكرية الأمريكية لكارثة أخري كما هو حادث الآن في العراق حيث إنها لن تخوض أي معارك برية علي الأرض مع القوات السورية أو أي قوات للمقاومة.
الاحتمال الثالث
ضربة عسكرية إسرائيلية وهجوم مباغت وكاسح علي دمشق: وهذا الاختيار له الاعتبار الأول في حالة فشل الخيارين السابقين في تركيع النظام السوري والتحول إلي اتخاذ القرار بتدميره وإسقاطه.. وكما ذكرت فإن هذا الخيار يتميز بأمرين:
الأول: أنه يضمن أعلي ضمانات النجاح حيث إن التسلح العسكري الإسرائيلي يتفوق بشدة مقابل السوري كمًا ونوعًا.. كما أن الإسرائيليين علي دراية جيدة بمعطيات الصراع العسكري مع السوريين ما بين جغرافية الأرض وطبيعة ميدان القتال وتسليح الجيش السوري وطرق وخطط القتال لدي السوريين.
الثاني: أن دول التحالف الكبري وعلي رأسها أمريكا سوف تكون بعيدة وبمنأى عن القتال فلا تتعرض للضغوط العنيفة من شعوبها المعارضة لمثل هذه الحروب. كما أن أي دولة في العالم لن تجرؤ علي انتقاد إسرائيل في ذلك الهجوم الذي ستبرره بأنه وقائي ودفاع عن النفس.
الاحتمال الرابع
التدخل العسكري الأمريكي بالغزو المباشر لسوريا: وهذا الخيار هو آخر الخيارات وأقلها احتمالا.. وهو لن يبرز إلا إذا فشلت كل الخيارات السابقة في تركيع النظام السوري.. ولكن احتمالاته هي الأضعف علي الإطلاق وذلك لما يلي:(1/97)
1- أن الكارثة التي وقع فيها التحالف اليهودي الصليبي نتيجة غزو العراق تجعله يفكر عشرات المرات قبل أن يقدم علي غزو آخر علي غراره.
2- خوف دول التحالف من أن يؤدي غزوها لسوريا إلي زيادة وتأجيج روح الغضب والعداء ضدها في العالمين العربي والإسلامي.
3- هناك احتمالات قوية بأن سوريا سوف تتحول إلي مستنقع خطير ومدمر لأمريكا وحلفائها في المنطقة وعلي رأسهم إسرائيل والدول العربية المنضوية تحت ظلها.
4- من المتوقع أن يتصاعد حجم الخسائر البشرية والعسكرية والمالية للتحالف اليهودي الصليبي في حالة غزوه لسوريا ونتيجة لانفجار المقاومة السورية - إضافة إلي المقاومة العراقية الباسلة - وتصاعدها إلي درجات خيالية لا يمكن للتحالف أن يواجهها أو يتحملها.
كذلك فإن مما يضعف من قوة هذا الخيار أن تركيا قد حذرت أمريكا من أن أي خطأ في التعامل مع الملف السوري ستكون له مخاطر كبيرة أشد وأعنف من المخاطر الناجمة عن التعامل مع الملف العراقي.. كذلك فإن الإسرائيليين وكما ذكرنا يفضلون إضعاف الرئيس السوري وتركيعه بحيث يبقي في السلطة ولكن علي الخيار الليبي وأنهم يخشون من أن أي تغيير في النظام بضربه وإسقاطه قد يحدث فوضي عارمة تفتح الباب لكل أعداء إسرائيل من المجاهدين العرب والمسلمين للتدفق علي الحدود السورية الإسرائيلية.. أو لصعود حكم إسلامي متطرف كبديل للنظام الحالي في سوريا.
توقعنا لتطور الموقف
تتلخص رؤيتنا للتطورات المحتملة للموقف الحالي بين سوريا والتحالف اليهودي الصليبي في السطور التالية:
أولا: لن ترضخ سوريا وتنصاع انصياعًا كاملا كما فعل صدام حسين حين فتح حجرات نومه وفراشه الخاص للتفتيش فالرئيس السوري يدرك جيدًا أن التنازل يجر إلي تنازل.. وأن سوريا مهما قدمت من تنازلات فإن المطالب الأمريكية والإسرائيلية لن تنتهي.(1/98)
ثانيا: لن تجرؤ أمريكا علي رأس التحالف اليهودي الصليبي علي القيام بغزو عسكري علي غرار الغزو العسكري للعراق وذلك نتيجة للكارثة التي حلت بها في العراق والرئيس السوري يدرك ذلك جيدًا ويبني عليه سياسته.
ثالثًا : ستحاول كل الدول وعلي رأسها مصر والسعودية - وبشدة - تجنب هذا المسار المظلم وستضغط بكل قوة في الحدود المسموح لها بها من أجل التوصل إلي اتفاق يضمن بقاء النظام السوري مع التزامه بالقوانين والقرارات الدولية قدر الإمكان.
رابعًا: سيكون المحرك الأساسي في تحريك الأحداث في هذا الملف الخانق هو الرئيس السوري.. وهو - من وجهة نظرنا - واع ومدرك جيدًا لعناصر الصراع ومتطلباته.. وعلي قدر إصراره علي عدم التفريط في الثوابت من سيادة الدولة السورية وكرامة المواطن السوري واحترام واعتبار الحقوق الإسلامية العربية سيكون قدر المكاسب التي سيحققها عندما يغلق هذا الملف.. والعكس صحيح.
الواجب الشرعي
لا خيار أمام الجميع سوي اللجوء إلي الله وحده والاعتماد عليه وحده.. يقول سبحانه وتعالي:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ*الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:1) (8) ويقول سبحانه وتعالي:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ*إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ*وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(الصافات:173:171) شريطة أن نحقق هذه الجندية وأن نكون أهلاً لذلك النصر.. وهذه هي الواجبات الشرعية علي كل الأطراف:(1/99)
الرئيس السوري: وكلمتنا للرئيس السوري هي قول ربنا عز وجل:(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51) فالثبات الثبات.. عد إلي ربك وأخلص النية لنصرة دينه واستنهض لذلك همم شعبك واعتمد علي من يُعَوّل عليه وقت الشدة من العلماء المخلصين وبثها روحًا إيمانية ربانية.. لا قومية ولا عصبية فبغير دين الله لا نصرة لك ولا عزة ولا كرامة.
إخواننا في سوريا: ونقول لإخواننا المؤمنين الصادقين في سوريا: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) ، فليس الوقت وقت خلافات وتصفية حسابات.. فالخطب جسيم والمصاب جلل ينبغي أن تسموا فيه فوق كل الصراعات الشخصية أو الحزبية أو الطائفية.. فوحدة صفكم هي السبيل الأول لقهر عدوكم ورد كيده في نحره وتحطيم مطامعه.(1/100)
الأمة الإسلامية: ونقول للأمة الإسلامية جمعاء.. حكامًا وشعوبًا إنها بلا شك قضية الصراع بين الحق والباطل.. فإما أن تكونوا إلي جانب الحق.. وإما أن تدور عليكم الدوائر ويكون لسان حالكم (أكلت يوم أُكل الثور الأبيض)... فبالأمس أفغانستان ثم العراق ثم السودان.. واليوم سوريا ولبنان وإيران.. وغدًا مصر ومكة والمدينة.. ولن يرضي أعداء الله منكم بأقل من الانسلاخ عن دينكم وهويتكم والتبعية الذليلة والمهينة وإنها والله واحدة من اثنتين.. إما أن تهبوا لنصرة دين الله وإخوانكم في سوريا وإما أن تتخاذلوا فتترقبوا من الله استبدالا تخسرون فيه دينكم ودنياكم.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ*إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39،38) قول للجميع: إن الله بالغ أمره وناصر دينه بنا أو بغيرنا فعلينا جميعًا أن نحرص علي تقوي الله حق تقاته وأن نبذل أقصي ما في طاقتنا.. فإن وصلنا إلي ما نريد من نصرة دين الله ورد كيد العدو في نحره فهذا هو المبتغي.. وإن كانت الأخري لقينا الله علي شهادة ومعنا عذرنا.. ولنعلم جميعًا أننا مطالبون بالأخذ بأقصي الأسباب بكل ما أوتينا من قوة وبكل الوسائل المشروعة دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإعلاميًا ولنصبر ولنحتسب واضعين نصب أعيننا قوله تعالي:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)(1/101)