ملفات ساخنة..
قضايا وهموم الأمة الإسلامية
(الاستنساخ - إنفلونزا الطيور - الإيدز)
د. رضا الطيب
الامين العام للجمعيات الشرعية
و عضو هيئة العلماء
محتويات الكتاب
الاستنساخ ................................ 4
إنفلونزا الطيور............................ 27
الإيدز................................... 50
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلي آله وصحبه أجمعين.
وبعد...
فإن الأمم العظيمة والشعوب العريقة.. تولد بعقيدتها.. وتحيا بذاكرتها.
والذاكرة .. هي الروح التي تسري في جسد الأمة فيطول بقاؤها.. وهي الدماء التي تتدفق في عروقها فتشتد عافيتها.
وبالذاكرة.. تتذكر الشعوب أحداث ماضيها.. وتتفهمها وتتدبر معانيها.. وتستخلص العبر منها.. ودروس ما فيها.
وبالذاكرة.. تتذكر الأمم عناصر قوتها وأسباب رفعتها فيما مضي من تاريخها فتبني حاضرها ومستقبلها علي نهجها.
وعندما تذبل الذاكرة في أمة من الأمم.. تذبل، وعندما تموت.. تموت.
وفي الصفحات التالية نتناول تباعًا بعض أحداث وقضايا الأمة الإسلامية العظيمة وهموم المسلمين.. نعرضها ونحللها لتعيش في ذاكرة الأمة وتحيا بها.
الاستنساخ بين العلم والشرع والخيال
نشر هذا الملف فى العدد الخامس عشر من مجلة التبيان
المحرم 1424 هـ / مارس 2003م.
الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم، ففي صبيحة يوم الجمعة الموافق 27 ديسمبر عام 2002م تناقلت وسائل الإعلام المختلفة في العالم أجمع خبر ولادة أول إنسان علي وجه الأرض بالاستنساخ، وهي الطفلة (إيف) التي ولدت في اليوم السابق وهو الخميس الموافق 26 ديسمبر عام 2002م.(1/1)
وكان مصدر هذا الخبر هو شركة أمريكية تخصصت في دراسات وأبحاث الاستنساخ تسمي شركة (كلونيد) وكان الذي أعلن الخبر كبيرة الباحثات بتلك الشركة أو المديرة التنفيذية لها وتسمي (بريجيت بواسييه).. وقد تأسست هذه الشركة علي يد جماعة من اليهود المتعصبين يسمون (الرائيليين) نسبة إلي زعيمهم المدعو (رائيل) والذي يدَّعي النبوة؛ وهو صحفي فرنسي سابق يسمي (فريهون) أسس تلك الجماعة عام 1973م وادعي أنه نبي جديد تم تعميده باسم (رائيل) من قبل كائنات فضائية مجهولة.. وتقوم أفكار تلك الجماعة علي الاعتقاد بأن كل أنماط الحياة البشرية هي في الأصل كائنات مستنسخة من قبل تلك الكائنات الفضائية. وقد أسست تلك الجماعة شركة (كلونيد) ومقرها مدينة (تورنتو) بكندا من أجل استنساخ البشر بغرض تحقيق الخلود والأبدية للإنسان عن طريق استمرار الحياة لنفس الشخص بنفس المواصفات جيلا بعد جيل.
وتقول شركة (كلونيد) أن محكمة أمريكية أمرتها بالكشف عن مكان الطفلة وعن هوية أمها وبمثول المسئول الإداري لها أمام المحكمة، وقد رفضت الشركة الكشف عن سرها أو المثول أمام المحكمة وإن كانت قد أعلنت أن أم الطفلة المستنسخة أمريكية في الواحد والثلاثين من عمرها وزوجها لا ينجب، وقد بررت الشركة رفضها الاستجابة لطلب المحكمة بأن أبوي الطفلة (إيف) قد رفضا إجراء اختبارات الحمض النووي «D.N.A» لأنهما قد يرغمان بأمر القانون علي الكشف عن هويتهما.
وفي غياب أي دليل إثبات مستقي من الحمض النووي «D.N.A» فقد رفض العلماء الاعتراف بأنه قد تم استنساخ إنسان بالفعل وقابلت الأوساط العلمية ذلك الادعاء بالريبة والشكوك.(1/2)
وكان طبيب إيطالي متخصص في مجال الاستنساخ أيضًا يدعي (سيفيرينو أنتينوري) قد ادعي أن ثلاث نساء يعالجهن حوامل بأجنة مستنسَخة وهن في مراحل متقدمة من الحمل، ولم يعلن تفصيلات عن هوية هؤلاء الحوامل ولا أماكن إقامتهن؛ ولكنه قال إن أول (مستنسَخ) بشري منهن سوف يولد في شهر يناير 2003م (وقد مر هذا التاريخ ولم يتحقق ما وعد به).
وكان أول استنساخ لكائن حي قد أُعْلِن في أواخر شهر فبراير والأسبوع الأول من شهر مارس عام 1997م عن طريق أحد معاهد الأبحاث البريطانية هو «معهد روزلين للأبحاث» في (سكوتلاندا) التابع لجامعة (إدنبره) وهو استنساخ نعجة تسمي «دوللي» علي يد فريق من العلماء المتخصصين يرأسه العالمان (هاري جريفن) و(إيان ويلموث).. (وقد ماتت هذه النعجة مؤخرا بعد أن عانت الكثير من الأمراض وعلي رأسها الشيخوخة المبكرة).
كان لكل هذه الأخبار والادعاءات أن طغت علي الفكر الإنساني تلك الكلمة.. الاستنساخ.
الاستنساخ .. تلك الكلمة الغامضة التي تحمل بين حروفها كل معاني الخوف من المجهول ويحلق الإنسان خلالها إلي أقصي درجات الخيال والغموض.
- الاستنساخ.. تلك الكلمة التي انتشرت علي ألسنة الناس اليوم كما تنتشر النار في الهشيم.
- الاستنساخ.. تلك الظاهرة التي تزلزل في الإنسان ثوابت إيمانية وتحطم فيه سننًا كونية عاشها لملايين السنين.
- الاستنساخ.. ما هو؟ وما أصله؟.. هل هو حقيقة أو خيال؟.. حلال أو حرام؟.. واقع يعيشه الإنسان أو وهم يحلق فيه بين جنبات الخيال؟
لذلك فإننا بعون الله نقدم في هذا الملف دراسة متواضعة عن هذه الظاهرة الغريبة محاولين فيها أن نجلو بعض الغموض وأن نوضح بعض الخفايا وأن نجيب عن بعض التساؤلات التي تأخذ بعقول الناس لنقف قدر استطاعتنا علي فهم أسرار تلك الظاهرة وذلك علي النحو التالي:
أولاً: ظاهرة الاستنساخ من المنظور العلمي.
ثانياً: العلاقة بينها وبين شرع الله الخالق العظيم في سننه الكونية.(1/3)
ثالثاً: النتائج الخطيرة والتداعيات المدمرة علي الإنسان والإنسانية من ورائها.
رابعاً: أسئلة تتم بها الفائدة.
ولكن قبل أن نبدأ في استعراض تلك الدراسة فإنه لابد من مقدمة لا غني عنها.. لأنه بدونها يقصر فهم تلك الظاهرة وتختلط المعارف بها.. أما بها فيتضح لنا الكثير والكثير مما بين السطور وما خلف الكلمات.
مقدمة
كانت البداية في هذه الدنيا أن خلق الله أبانا آدم عليه السلام من طين، ثم جعل منه أمنا حواء ثم جعل من تزاوجهما الخطوة الأولي في مسار تناسل البشرية منذ ذلك التاريخ السحيق الذي لا يعلمه إلا الله وحتي يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك بأن يتزوج الذكر من الأنثي لينجبا الذرية مصداقًا لقوله تعالي: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)( سورة السجدة: 7: 9)
ومن ذرية آدم عليه السلام اختار الله بني إسرائيل ففضلهم علي العالمين من بني عصرهم. فلما عصوا الله وتمردوا علي شرعه وقتلوا أنبيائه لعنهم الله وطردهم من رحمته مصداقًا لقوله تعالي: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ )(البقرة: من الآية61).
ومنذ ذلك التاريخ جعل اليهود لأنفسهم بديلاً عن رحمة الله التي حرموا منها أن يحكموا هذا العالم الذي أوهمتهم معتقداتهم الباطلة أن الله قد خلقه ليكون لهم خدمًا وعبيدًا وسخرة ومتاعًا.
ولم يكن أمام اليهود لتحقيق ذلك الهدف إلا طريق واحد.. ذلك هو إشاعة الفاحشة ونشر الرذيلة بين الناس وتدمير أخلاقهم وزلزلة عقائدهم حتي تصبح الأمم والشعوب نسيجًا هشًا مهلهلاً يسهل عليهم قيادته والسيطرة علي مقدراته.(1/4)
وكانت لهم لتحقيق تلك الغاية وسائل كثيرة وأساليب عديدة منها أسلوب خطير كان له أثر ملموس في تحقيق تلك الغاية.. ذلك الأسلوب هو أنهم (وكما هو مدون في بروتوكولات حكماء صهيون) يخرجون علي العالم بين كل فترة زمنية وأخري بفكرة أدبية أو نظرية فلسفية تدعو الناس إلي الانحراف الأخلاقي والفساد الفكري بدعوي حرية الإنسان.. أو بمعتقد ديني كافر يدعو إلي عبادة غير الله.. أو بنظرية علمية تشكك في العقيدة وثوابت الإيمان ..أو بمذهب سياسي يدعو إلي الكفر والإلحاد.. كل ذلك بغرض واحد هو تدمير الأخلاق وإشاعة الفاحشة وتضييع العقيدة بين الناس.. وبعد أن يخرجوا عليهم بتلك الفكرة أو النظرية أو المذهب أو المعتقد يأخذون في الترويج له بأقصي ما يملكون من قوة مستخدمين في ذلك أخطر الأسلحة الفعالة في ذلك المجال ومنها سلاح الإعلام وسلاح الجنس والمال واستغلال النفوذ والسلطان..
ومن هذه النظريات والمذاهب نعرض لبعض النماذج علي النحو التالي:
1- نظرية النشوء والارتقاء: للعالم اليهودي (داروِن) والتي تنكر أن الله سبحانه وتعالي قد خلق آدم عليه السلام من طين وتقول بأن الإنسان خُلِقَ من خلية أولية بطريق الصدفة. ثم أخذت تلك الخلية تنمو وتتطور ذاتيا حتي أصبحت قردًا ثم إنسانا علي الشكل والوضع الحاليين.
2- مذهب الوجودية: للفيلسوف اليهودي (جان بول سارتر) والتي تدعو إلي الإنحلال الجنسي والإباحية المطلقة.. وتقوم فلسفتها علي أن الإنسان ما دام موجودا فله أن يفعل ما يشاء لإشباع غرائزه بلا أي ضابط من أخلاق أو وازع من دين.
3- النظرية الجنسية: للطبيب النفسي اليهودي (فرويد) والتي تعزو جميع العلاقات الإنسانية بين البشر إلي الدافع الجنسي.. حتي تلك العلاقة النبيلة بين الطفل الرضيع وأمه حين يرضع من ثديها في مودة ورحمة فَسَّرَها ذلك الطبيب الشاذ المنحرف بأن الطفل يمص ثدي أمه لدوافع جنسية يتلذذ بها الاثنان.(1/5)
4- مذهب الشيوعية : للمفكر اليهودي (كارل ماركس) والتي كانت تدعو إلي الإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه وتعالي عما يشركون، وكانت مقولتهم الشهيرة في ذلك هي: (الدين أفيون الشعوب).
5- ظاهرة عبادة الشيطان: والتي تدعو إلي الاعتقاد بأن الشيطان لعنه الله هو سيد العالم لقدرته وسطوته وجرأته في التصدي لله سبحانه وتعالي وأنه أحق منه بالعبادة والتقديس، تعالي الله عما يشركون.
6- ثم أخيرًا: ظاهرة الاستنساخ: والتي خرج علينا بها أيضا يهودي متعصب مُدَّع للنبوة يدعي (رائيل) والتي تحدثنا عنها آنفًا.
وهذه الظاهرة لا يقصد منها إلا تدمير المعتقدات الدينية الثابتة والراسخة في نفوس المؤمنين من البشر فيما يتعلق بخلق الله للإنسان وتشكيكهم فيما هو معلوم من الدين بالضرورة وبلبلة إيمانهم بكتاب ربهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذه هي المقدمة التي لابد منها حتي نستطيع أن نفهم ونعي حقيقة هذه الظاهرة ومن الذي يروج لها والأهداف المقصودة من ورائها.
وبعد ذلك نبدأ في تناول ما حددناه سلفًا.
أولاً: الاستنساخ من المنظور العلمي
الاستنساخ لفظ يفيد استحداث مثيل للكائن الحي بطريقة مخالفة لتلك الطريقة التي فطر الله عليها الخلق في التناسل.
فإيجاد النسل كما بينه الله سبحانه وتعالي في الإنسان والحيوان يكون بأن يلتقي الذكر بالأنثي من خلال غريزة فطرية جعلها الله فيهما فيلقي الذكر بالنطفة (الحيوان المنوي) في رحم الأنثي ليلتقي و(البويضة) فيتحد بها بإذن الله وتتكون البويضة المخصبة أو (نطفة الأمشاج) أي النطفة المختلطة، وهذه النطفة هي بداية تكوين الإنسان حيث تنزرع في باطن الرحم ثم تبدأ في الانقسام المتضاعف إلي خليتين ثم أربع ثم ثمان ثم ستة عشر خلية وهكذا حتي يكتمل نمو الجنين.(1/6)
أما في الاستنساخ فإن المفهوم العلمي لتلك الكلمة يعني أن يتكون الإنسان عن طريق نَسْخ صورة طبق الأصل من الصفات الوراثية لإنسان تنتقل لإنسان آخر يكون مماثلاً له تمام المماثلة ومشابها له كما لو كانا صورتين لإنسان واحد.
عملية الاستنساخ
كيف تتم هذه العملية؟
بداية فإن عملية الاستنساخ تحتاج إلي ثلاثة عناصر:
أ - خلية جسدية من جسد أي إنسان ذكر أو أنثي.
ب - بويضة صالحة للإخصاب من أنثي.
ج - رحم صالح للحمل في أنثي.
وقد تأتي العناصر الثلاثة من ثلاثة آدميين بأن تكون الخلية الجسدية من إنسان (ذكر أو أنثي) والبويضة من أنثي ثانية والرحم في أنثي ثالثة.
وعلي وجه آخر فقد تأتي العناصر الثلاثة من اثنتين فقط (من الإناث) الأولي نأخذ منها الخلية الجسدية والبويضة، والثانية صاحبة الرحم.
وعلي وجه ثالث فقد تأتي العناصر الثلاثة من أنثي واحدة نأخذ منها الخلية الجسدية والبويضة وتكون هي صاحبة الرحم.
وتتم عملية الاستنساخ كما يلي:-
1- يؤتي بالبويضة.. ثم تنتزع منها النواة.. وبذلك يصبح عندنا بويضة بدون نواة.
2- يؤتي بخلية جسدية من إنسان (وهذا هو الأصل) الذي سيأتي المولود علي صورته وعادة ما تكون من خلايا الجلد أو الغِشاء المبطن للفم ثم تنتزع النواة من هذه الخلية.. وبذلك يصبح عندنا نواة بدون خلية.
3- تزرع تلك النواة المأخوذة من الخلية الجسدية في البويضة المفرغة من نواتها، فتصبح بويضة مخصبة.
4- تُعرَّض تلك البويضة المخصبة إلي شحنات أو صدمات كهربائية ذات قوة محددة تحت ظروف معينة من الضغط والحرارة وغيرها وتُعَرَّض لتفاعلات كيميائية دقيقة فتنشط النواة وتبدأ البويضة المخصبة في الانقسام المتضاعف كما سبق إلي خليتين ثم أربع ثم ثمان ثم ستة عشر خلية وهكذا.(1/7)
5- تؤخذ تلك البويضة المخصبة فتُزْرَع في رحم امرأة.. ومنذ هذه اللحظة يبدأ الحمل ويستمر ويتطور مثل الحمل الطبيعي حتي يتم اكتمال نمو الجنين فيولد طفل هو صورة طبق الأصل من الإنسان صاحب النواة المأخوذة من الخلية الجسدية وليس صاحبة البويضة. وهذا هو الجنين (المستنسَخ) أو (النسخة المماثِلة) أو (المماثِل).
6- إذا كانت النواة من ذكر جاء الناتج ذكرًا مماثلاً له، وإن كانت النواة من أنثي جاء الناتج أنثي مماثلة لها.
7- مما سبق يتضح أن الأصل (المستنسَخ منه) الذي يأتي الجنين علي صورته هو صاحب النواة سواء كان ذكراً أم أنثي.. أما صاحبة البويضة وصاحبة الرحم فليس لهما دور أساسي في شكل وصورة الجنين المستنسَخ وإنما دورهما هو المعاونة في عملية الاستنساخ من خلال إتمام العمليات الحيوية اللازمة لذلك الأمر.
حقيقة الاستنساخ
هل الاستنساخ حقيقة أو افتراض؟؟
بداية لابد من التنويه لأمر هام وضروري.. ذلك أن كل ما نذكره عن عمليات الاستنساخ ما هو إلا نظرية فرضية لم يثبت صدقها أو تحقيقها علي يد أي جمعية علمية محترمة أو مؤسسة طبية عريقة أو هيئة بحثية جادة أو علماء موثوق في صدقهم وأمانتهم.
ومع ذلك وعلي افتراض أن هذا الأمر صحيح فإننا نقف أمام معضلة علمية غامضة لم يستطع أي من علماء البشرية المتخصصين في ذلك المجال أن يجد لها تفسيرا أو يكشف فيها غموضا أو يزيح عنها ستارًا.
هذه المعضلة تشبه تماما أن يقفز إنسان بين جبلين شاهقين بينهما وادٍ سحيق فيجد نفسه وقد انتقل من حال إلي حال وما بينهما مجهول له تماما لا يدري عنه أي شيء.
تلك المعضلة تتعلق ببعض الأمور الغامضة والمجهولة للعلماء في طبيعة انقسام الخلية وأنشطتها الحيوية في هذه الظاهرة.
ولكي ندرك جوانب الغموض في تلك المعضلة العلمية لابد لنا من استعراض ثلاثة أمور:
الأول: تركيب الخلية البشرية.
الثاني: تكوين الجنين عن طريق التزاوج.
الثالث: تكوين الجنين عن طريق الاستنساخ.(1/8)
وذلك بأسلوب علمي بسيط وعلي النحو التالي:
الأول: تركيب الخلية البشرية
تتكون جميع الكائنات الحية علي هذه الأرض من نوعين من الخلايا.. (الخلية الحيوانية) و(الخلية النباتية).. وتتركب الخلية الحيوانية (ومنها الخلية البشرية) من كتلة متماسكة من سائل زلالي يشبه زلال البيض يحيط بها جدار لحمايتها وتحديد شكلها، هذا السائل يسمي (السيتوبلازم) ويسبح في هذا السائل مجموعة من الجسيمات الصغيرة التي يختص كل منها بأحد الأنشطة الحيوية الضرورية لاستمرار الحياة بالخلية مثل التنفس والإخراج والتمثيل الغذائي وغيرها. أما أهم ما يسبح في ذلك السائل فهو ذلك الجسم الكبير الذي يسمي بـ (النواة) ففي تلك النواة يكمن ذلك السر الإلهي العظيم بإفراد تلك الخلية في ذلك الإنسان بكل خصائصه وصفاته وتكوينه وطباعه بل وببصمة أصابعه التي ينفرد بها عن العالم بأسره فسبحان الخالق العظيم.
ولكي نفهم دور النواة في تحديد تلك الصفات الوراثية في الإنسان لابد لنا من فهم تركيب تلك النواة والذي هو علي النحو التالي:
تركيب النواة(1/9)
كما أن الوحدة الأساسية لتركيب الإنسان هي الخلية.. فإن الوحدة الأساسية لتركيب النواة هي الحامض النووي أو (مادة الوراثة) ويتركب هذا الحامض النووي من جزئيات صغيرة جدًا يسمي كل منها (نيوكليوتيد) ويبلغ عدد هذه (النيوكليوتيدات) في النواة الواحدة ما يقرب من ثلاثة بلايين تتحد وتترابط مع بعضها علي هيئة شريط طولي مزدوج يلتف حول نفسه في شكل حلزوني فيما يشبه شرائط الزينة التي تستخدم في الاحتفالات .. هذه الشرائط تزداد طولاً وكثافة بإضافة المزيد من (النيوكليوتيدات) لها ثم تتشابك مع بعضها مكونة أجساما تشبه العصا المكسورة علي هيئة زاوية تسمي (الكروموزومات) أو (الصبغيات).. هذه الكروموزومات توجد دائما في أزواج متماثلة، وكل زوج منها عبارة عن كروموزومين متشابهين في الحجم والطول ومتقابلين يلتقيان عند رأس الزاوية كأنهما أصل وصورة مقابلة له في المرآة.
ومن دلائل إعجاز الله سبحانه وتعالي التي يحار العقل البشري في فهمها أن هذه المادة الوراثية (الحامض النووي والكروموزمات) واحدة في جميع الكائنات الحية ما بين الإنسان والحيوان والحشرات والنبات. ويمكن أن تنتقل من كائن إلي آخر فسبحان الله الخالق العظيم.
ويتميز كل كائن حي بعدد من الكروموزومات يميزه عن غيره من الكائنات الأخري، وعدد الكروموزومات في نواة خلية الإنسان هو 46 كروموزوم تصطف في 23 زوجًا.
ومن هذه الكروموزومات يوجد عدد 44 كروموزوم متشابهة تماما في 22 زوجًا يتماثل طرفا كل زوج تماثلاً كاملاً أما الزوج الأخير فإنه يختلف عنها وذلك هو الزوج المتعلق بالجنس أي بتحديد نوع الإنسان، ذكرًا أو أنثي، وفي الأنثي يكون هذان الكروموزومان متشابهين ويعبر عنهما بالرمز (XX) أما في الذكر فيكونان مختلفين عن بعضيهما ونرمز لهما بالرمز (YX).(1/10)
ومعني ذلك أن نواة الخلية في الإنسان الذكر تحتوي علي 46 كروموزوم منها 44 متشابهه في 22 زوجًا واثنان مختلفان عنهما وفي نفس الوقت يختلفان عن بعضيهما ونرمز لذلك بالرمز (44 + YX). أما نواة الخلية في الأنثي فتحتوي علي 46 كروموزوم منها 44 متشابهة في 22 زوجًا، واثنان يختلفان عنهما ولكنهما شبيهان لبعضيهما ولذلك يرمز لهما بالرمز (44 + XX).
ويتركب كل كروموزوم من جسيمات أو عقد صغيرة جدًا تسمي «جينات» أو حاملات الصفات الوراثية يبلغ عددها حوالي 100.000 مائة ألف (جين) في الخلية الواحدة تقريبا يجهل الإنسان ما يزيد عن 90% منها جهلاً تامًا ويختص كل واحد منها بصفة خاصة من صفات الإنسان ويقابله في نفس المكان علي الكروموزوم المقابل والمماثل له (جين) شقيق له إما بنفس الصفة أو الصفة المقابلة لها.. علي سبيل المثال صفة الطول والقصر أو لون العين أو لون الجلد أو الشعر.. وبناء علي طبيعة هذه الجينات تكون صفات ذلك الإنسان . فإذا كان أحد الجينات علي أحد الكروموزومات مثلاً يحمل صفة الطول والجين المقابل له علي الكرموزوم المقابل يحمل أيضًا صفة الطول كان الإنسان طويلاً.. والعكس صحيح.. فإذا كان الجين الأول يحمل صفة القِصَر والجين المقابل يحمل صفة القِصَر أيضًا.. كان الإنسان قصيرًا.
أما إذا حمل أحدهما صفة الطول والآخر صفة القِصَر فإن الناتج يخضع لبعض قوانين علم الوراثة حيث يكون الإنسان وسطًا بين الصفتين أي متوسط الطول في بعض الحالات.. أو تسود إحدي الصفتين علي الأخري فيكون الإنسان طويلا أو قصيرًا في الحالات الأخري.
عدد الكروموزومات في نواة الحيوان المنوي والبويضة:(1/11)
ما سبق هو تركيب النواة في جميع خلايا جسد الإنسان والتي تسمي كلها بـ (الخلية الجسدية) وتحتوي النواة فيها علي 46 كروموزوم.. وفي المقابل فإن هناك نوعًا مختلفًا من الخلايا يسمي (الخلية الجنسية) وهي (الحيوان المنوي) في الذكر و(البويضة) في الأنثي.. فإن كلاً منهما يحتوي علي نصف عدد الكروموزومات في الخلية الجسدية أي 23 كرومزوم فقط، والسبب في ذلك معروف طبعا وهو أنه عندما يتحدان معًا تتكون منهما خلية بها 46 كروموزوم وهو عدد الكروموزمات في الخلية الجسدية التي يتكون منها الجسد الكامل بإذن الله.
والحيوان المنوي يكون علي نوعين الأول يحمل (22 كروموزوم + X) والثاني (22 +Y) أما البويضات فإنها كلها علي نوع واحد وتحمل (22+ X) وعندما يلتقي حيوان منوي يحمل (22+ X) مع البويضة (22+ X) كان الناتج (44+ XX) أي أنثي.. أما إذا اتحد حيوان منوي يحمل (22+ Y) مع البويضة (22+ X) كان الناتج (44+ YX) أي ذكر.. أي أن الذكر هو المسئول بإذن الله عن كون الجنين ذكرًا أم أنثي. وسبحان من قال:( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ) حيث أشار سبحانه إلي أن المني هو الذي يحدد نوع الذكر والأنثي وليس البويضة.
الثاني: تكوين الجنين عن طريق التزاوج
عندما يتحد الحيوان المنوي مع البويضة تتكون (البويضة المخصبة) والتي تحمل عددًا كاملاً من الكروموزومات، ثم تنزرع هذه البويضة المخصبة في الرحم، وتبدأ في الانقسام المتضاعف إلي خليتين ثم أربع ثم ثمان ثم ستة عشر خلية وهكذا.(1/12)
وفي لحظة معينة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي يبدأ ذلك الكائن الحي «الجنين» بقدر الله في الانتقال من مرحلة إلي مرحلة.. ذلك الانتقال الجذري والحاسم في حياته والذي يحمل معه ذلك السر الغامض في بدء تكوين وتشكيل الإنسان في المراحل المبكرة من حياته الجنينية.. فقبل ذلك الانتقال يكون ذلك الكائن عبارة عن مضغة لا يعرف لها شكل ولا ملامح ولا صورة ولا تفصيل (المضغة غير المخلقة).. أما بعدها فيبدأ الإنسان في التخلق والتشكيل والتصوير (المضغة المخلقة) وتبدأ أجزاء جسده وأعضائه في التميز والتحديد في طريقها لتكوين ذلك الإنسان بشكله وصورته وصفاته التي أذن له الله سبحانه وتعالي أن يصوره عليها في الحياة الدنيا مصداقًا لقوله تعالي: ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ )(الحج: من الآية5)
السر الغامض(1/13)
منذ اتحاد الحيوان المنوي مع البويضة وتكوين (النطفة المخصبة) وحتي نهاية المرحلة الأولي في طور (المضغة غير المخلقة) فإن جميع الخلايا تنقسم وتتكاثر حتي تصل إلي الملايين علي صورة واحدة.. وتكون كلها متشابهة ولا تختلف أي خلية عن الأخري في الشكل أو الوظيفة؛ وتسمي الخلية في تلك المرحلة باسم (الخلية الجنينية) أو (الخلية الجذعية).. وقد سميت بهذا الاسم لأنها الخلية التي سوف يتفرع منها كل أنواع الخلايا الأخري عند تخصصها وتشكيلها لجسد الإنسان... وفجأة وعند اللحظة التي يقدرها الله سبحانه وتعالي وبشكل لم يستطع العلم حتي الآن أن يتوصل إلي حقيقته وكنهته ولا علله وأسبابه تبدأ كل خلية من هذه الخلايا في التخصص والتميز عن الخلايا الأخري لتأخذ شكل الخلية الخاصة بذلك العضو أو ذلك الجزء من الجسم الذي ستكون هي جزءًا منه بإذن الله.. فتبدأ بعض الخلايا في التحول إلي خلايا عظمية بمواصفات خاصة.. وهذه هي التي سوف تكون الهيكل العظمي في مستقبل حياة ذلك الإنسان.. وتأخذ بعض الخلايا الأخري في التحول إلي خلايا عصبية بمواصفات خاصة وهذه هي التي سوف تكون الجهاز العصبي والبعض يتحول إلي خلايا عضلية والبعض إلي خلايا جلدية والبعض إلي خلايا كبدية وهكذا تأخذ جميع هذه الخلايا في التحول التدريجي إلي الشكل والتخصص الذي سوف يمكنها من أداء الوظيفة التي خُلقت لها في ذلك الجسم.. وبعد ذلك التحول تبدأ تلك الخلايا في الأنقسام علي شكلها الجديد.
فتنقسم الخلايا العصبية إلي عصبية.. والعضلية إلي عضلية.. والجلدية إلي جلدية.. وهكذا حتي يكتمل نمو الجنين إلي إنسان كامل.
وهنا يكمن السر الغامض الذي يحاول فيه العلماء تفسير ظاهرة الاستنساخ.(1/14)
فيقول العلماء إن كل خلية من خلايا الجنين في المرحلة الأولي في حياته وهي مرحلة «الخلية الجنينية» تحمل (جينات) الوراثة الموجودة في نواتها جميع الصفات التي تؤهلها للتخصص في أي نوع من أنواع الخلايا سواء العصبية أو العضلية أو غيرها ولكنها تكون كلها في حالة كمون أو عدم نشاط.. وذلك لوجود تلك (الجينات) الخاصة بكل التخصصات المختلفة في حالة توازن وبدون أن يطغي (جين) علي آخر وبالتالي تأتي الخلايا كلها عند انقسامها في تلك المرحلة متشابهة ومتوازنة وغير متخصصة.
وعندما تأتي اللحظة الذي يبدأ فيها ذلك الانتقال الغامض والطفرة المفاجئة بقدرة الله فإن كل خلية تبدأ في التخصص إلي نوع معين من الخلايا حيث يبدأ (الجين) الخاص بذلك النوع من الخلايا في النمو والنضج والتطور والسيادة علي (الجينات) الأخري بينما تستمر تلك الأخيرة في الكمون والسبات وتجميد النشاط.. ومعني ذلك أن الخلية الجلدية يوجد بنواتها كل (الجينات) التي تحمل صفات كل التخصصات إلا أن صفة التخصص إلي الخلية الجلدية هي التي تسود وتنضج وتتطور بينما تتضاءل بقية الصفات الأخري وتكمن ويتجمد نشاطها.. ولكنها لا تختفي ولا تنعدم. وينطبق ذلك علي كل خلايا جسد الإنسان.(1/15)
معني ذلك أننا لو أحضرنا خلية جلدية مثلاً واستطعنا بطريقة ما أن نوقظ وننشط تلك (الجينات) الكامنة فيها والخاصة ببقية التخصصات بحيث تنشط كلها في وقت واحد وتصل إلي حالة التوازن فإن نواة تلك (الخلية الجلدية) سوف تعود إلي مرحلة (الخلية الجنينية) غير المتخصصة وسوف تبدأ في الانقسام ليس إلي خلايا جلدية ولكن إلي خلايا غير متخصصة تنقسم كلها بشكل متشابه وبدون تخصص أي أننا نحيي من جديد مرحلة (الخلية الجنينية) التي عاشها الجنين صاحب هذه الخلية في مرحلة حياته الأولي داخل رحم الأم وكأنها جنين جديد بدأ تكوينه باتحاد الحيوان المنوي والبويضة تماما.. وبعد انتهاء تلك المرحلة يأتي من جديد ذلك الانتقال الغامض الذي تبدأ بعده تلك الخلايا في التخصص إلي الأنواع المختلفة من خلايا جسد الإنسان ما بين خلايا عظمية وعضلية وعصبية وجلدية وغيرها.. وهكذا يبدأ تكوين إنسان جديد بخصائصه وشكله وصفاته التي خلقه الله عليها.
الثالث: تكوين الجنين عن طريق الاستنساخ
يكمل العلماء فيقولون: إن ذلك الإيقاظ والتنشيط لكل تلك (الجينات) في (الخلية الجلدية) في وقت واحد قد أمكن التوصل إليه عن طريق تلك الشحنات أو الصدمات الكهربائية التي سُلطت علي تلك النواة بعد أن تم زرعها في البويضة الفارغة في ظروف خاصة من الضغط والحرارة .. أو من خلال طرق كيميائية دقيقة.
وحتي الآن لم يستطع أي من العلماء المتخصصين في جميع علوم الحياة (البيولوجي) والخلية (السيتولوجي) والوراثة وشتي العلوم المتعلقة بحياة الإنسان أن يفسروا أو يشرحوا لنا شيئا من كل هذه الأسرار والخبايا مثل:
ما سبب كمون كل (الجينات) باستثناء «جين» واحدة يسود علي الباقي في مرحلة التخصص؟..
وما هي الطبيعة والكيفية التي توقظ بها تلك الشحنات والصدمات الكهربائية كل تلك «الجينات» الكامنة مرة أخري؟.
سؤال خيالي(1/16)
وهنا يثور سؤال افتراضي خيالي لم و لن يستطع أي من العلماء أن يجيب عليه.. هل لو سلطنا تلك الشحنات أو الصدمات الكهربائية علي جلد إنسان حي تحت نفس ظروف الضغط والحرارة وغيرها.. هل من الممكن أن تنشط تلك «الجينات» في تلك الخلايا الجلدية دون الاحتياج إلي بويضة فتبدأ في تكوين «خلايا جنينية» تبدأ في الانقسام من جديد كالبداية الأولي ثم تأخذ في التخصص فنري ذلك الإنسان وقد برز من جلده رؤوس وأيد وأذرع وسيقان وعيون آدمية لأجنة جديدة؟؟
هذا هو المنظور العلمي للاستنساخ.. وهذا قليل جدا من أسراره، وهذه هي إجاباته المفترضة وشروحه المحتملة وتفسيراته المتاحة.. وكل ذلك وحتي الآن بمقاييس علمية افتراضية.. فالاستنساخ افتراض.. والأسرار افتراض.. والشروح والتفسيرات افتراض.. والله سبحانه وتعالي هو وحده الذي يعلم أين الحقيقة في كل ذلك .
ثانيا: العلاقة بين الاستنساخ
وبين شرع الله في السُنَنَ الكونية
وهنا يثار سؤال هام هل يتعارض الاستنساخ مع شرع الله سبحانه وتعالي في سننه الكونية؟
والإجابة: نعم.. يتعارض الاستنساخ مع ثلاثة علي الأقل من السُنَن الكونية في خلق الإنسان التي سنها الله سبحانه وتعالي وشرعها لضمان استمرار الحياة ودوام خلافة الإنسان في الأرض، وهذه السنن هي:
السُنَّة الكونية الأولي (سُنَّة الزوجية)(1/17)
فالله سبحانه وتعالي حين خلق الكون خلقه علي سُنَّة ثابتة لا تتغير.. تلك هي سُنَّة الزوجية، أي وجود الشيء وضده أو مقابله؛ فخلق سبحانه وتعالي السماء والأرض.. والليل والنهار.. والجنة والنار.. والحياة والموت.. والإيمان والكفر.. والصدق والكذب.. والشجاعة والجبن.. والكرم والبخل.. وعلي نفس السنة جاء خلق الإنسان علي الذكر والأنثي.. ومما هو جدير بالذكر أن أصغر مخلوق معلوم للإنسان خلقه الله سبحانه وتعالي في ذلك الكون وهو الذرة قد جاءت أيضًا علي نفس قاعدة الزوجية فالذرة تتركب من (نواة) يوجد بداخلها عدد من (البروتونات) تحمل (شحنات موجبة) ويدور حول تلك النواة عدد من (الإلكترونات) مساو تماما لعدد البروتونات ولكنها تحمل (شحنات سالبة) تتعادل مع شحنات البروتونات الموجبة فتستقر الذرة.
وعلي هذا كانت سُنَّة الزوجية هي الأصل في استمرار هذا الكون في أداء رسالته التي خلقه الله سبحانه وتعالي من أجلها؛ وهي نفس السنة التي جاء عليها خلق الإنسان علي الذكر والأنثي.
والاستنساخ يتعارض مع تلك السُنَّة حيث يستطيع أن يوجد مجتمعا كاملاً وحياة كاملة من الإناث فقط وذلك بأن تؤخذ الخلية الجسدية التي نأخذ منها النواة من أنثي.. والبويضة من أنثي.. والرحم الذي يستخدم للحمل من أنثي.
وفي هذا يخبرنا ربنا تبارك وتعالي في كتابه الكريم فيقول تعالي: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذريات:49)
((1/18)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً )(النساء: من الآية1) (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً)(فاطر: من الآية11) (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (الحج: من الآية5) وقد يثور سؤال في الذهن.. ما هي حكمة الله سبحانه وتعالي في سُنَّة الزوجية أي في وجود الشيء وضده؟ وتكون الإجابة علي قدر فهمنا والله أعلم علي وجهين:
1- الأول: أن يكون وجود الضدين في أي خلق لله سبباً في التدافع والتفاعل والحركة التي تضمن استمرار الحياة.. وذلك مصداقاً لقوله تعالي:( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251)
2- الثاني: وهو الأعظم والأسمي فذلك هو أن سريان تلك السُنَّة علي جميع خلق الله بلا استثناء هي الشهادة الأعظم علي أن كل ما في الكون متعدد إلا الله الواحد الأحد مصداقًا لقوله تعالي:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الاخلاص) ومصداقًا لقوله تعالي: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11) .
السُنَّة الكونية الثانية (التنوع والاختلاف)(1/19)
وفي هذا المجال فإن سُنَّة الله سبحانه وتعالي بين المخلوقات في هذا الكون هي الاختلاف والتنوع والتباين والتميز وذلك حتي يتعارف الناس وتصلح الحياة وتستمر الخلافة في الأرض وفي هذا يقول ربنا تبارك وتعالي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات: من الآية13) فالعلاقة بين جميع الكائنات تعتمد في المقام الأول علي تلك السنة.. فالبيع والشراء والزواج والطلاق والثواب والعقاب والأبوة والأمومة والبنوة وصلات النسب بين الناس وإقامة حدود الله عليهم وغيرها من المعاملات لا تقوم إلا علي تلك السنة الكونية وهي اختلاف الناس في الشكل واللون واللغة والطباع.. وإلا فماذا يتخيل الإنسان أنه من الممكن أن يحدث في الحالات التالية إذا أصبح الاستنساخ حقيقة:
1- أن يتزوج رجل بامرأة ثم يكتشف في يوم من الأيام أن تلك التي يعاشرها ليست هي زوجته وإنما هي (مُستنسَخ) مماثِل لها لم يستطع أن يفرق بينهما.
2- أن يتعاقد رجل علي تجارة مع رجل آخر ويسلمه الثمن ثم يذهب لتسلم بضاعته منه فيجد أن الذي يتحدث معه ليس هو من قبض الثمن وإنما هو (مُستنسَخ) مماثِل له لا يعرف عن ذلك التعاقد شيئاً ويرفض أن يسلمه بضاعته التي دفع ثمنها للأول.
3- أن يشهد الشهود علي رجل بجريمة القتل أو الزنا ويتعرفون عليه وعندما يدلون بأوصافه يقوم أولو الأمر بالقبض علي عدة أفراد (مُستنسَخين) كلهم يحملون نفس الصفات.. فكيف يميز الشهود بينهم وكيف يتعرفون علي مرتكب الجريمة حتي لا يؤخذ برئ بجريمة غيره.
وقس علي هذه الأمثلة الكثير والكثير.. لا شك أن هذا لو حدث فسوف تختل الحياة اختلالا مدمرا وسوف يسير الخلق إلي مصير لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي.
وعلي هذه السُنَّة الكونية التي لا تتبدل في التنوع والاختلاف ضرب الله سبحانه وتعالي لنا أمثلة ونماذج فريدة ومبهرة منها علي سبيل المثال:(1/20)
1- التوأمان اللذان يولدان من رحم واحد في وقت واحد وتكونا من بويضة واحدة انقسمت إلي نصفين متماثلين كوَّن كل منهما جنينًا لا يكونان متماثلين تمام التماثل وإنما لابد أن يكون هناك بعض الاختلاف بينهما.
2- إذا نظر الإنسان إلي وجهه في المرآة فسوف يجد أن نصفي وجهه ليسا متماثلين تماما وإنما لابد من وجود اختلافات بينهما مهما كانت طفيفة.. وهكذا الحال في باقي الجسد.
3- أما المعجزة المبهرة والتي يتجسد فيها إعجاز الخالق وعظمته وقدرته في اختلاف الناس وتباينهم فهي تلك الموجودة في بصمات الأصابع.. فالله سبحانه وتعالي خلق لكل إنسان بصمات خاصة به لا يوجد لها مثيل في العالم كله من بين الملايين والمليارات التي لا تحصي من البشر.
4- ثم أفاض الله علي الإنسان من العلم فاستطاع أن يكتشف أن لكل إنسان بصمة خاصة بالعين.. ثم زاد العلم فاكتشف أن له أيضًا بصمة للصوت لا يشاركه فيها غيره.
5- بل إن العلم الحديث اكتشف ان الحامض النووي لكل إنسان له أيضا بصمة خاصة به تختلف عن أي إنسان آخر وبنفس الدقة التي عليها بصمات الأصابع إن لم تزد عليها.
فسبحان الله العليم وصدق في قوله الكريم: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الاسراء: من الآية85) . هذه هي سُنَّة الله بالتنوع والاختلاف في خلقه ليتعارف الناس وليتمايزوا فيما بينهم ولتصلح الحياة ولتستمر الخلافة في الأرض.
فإذا جاء الاستنساخ وتشابه الخلق جميعا كان الصدام الحتمي مع تلك السُنَّة الكونية واختلت الحياة اختلالاً مدمرًا وانتهت إلي مصير لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي.(1/21)
وفي هذا يقول ربنا تبارك وتعالي : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) ( آل عمران:190 ) ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ ) ( الروم:22 ) ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) (فاطر:27) .
السُنَّة الكونية الثالثة (التزاوج)
عندما خلق الله سبحانه وتعالي الخلق لإعمار الأرض كان لابد من استمرارهم عليها.. ولكي تستمر الحياة كان لابد من التناسل والذرية أجيالاً وراء أجيال مصداقًا لقوله تعالي: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة: من الآية30).
وليتم ذلك جعل الله التزاوج بين الذكر والأنثي.. ولخطورة ذلك الأمر وارتباطه باستمرار وبقاء الحياة فقد جعله الله سبحانه وتعالي غريزة فطرية في قلب وجسد الإنسان والحيوان لا يملك مقاومتها ولا الانفكاك منها؛ فكان لقاء الذكر بالأنثي فطرة من فِطَر الحياة التي فطر الله الناس عليها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالي النكاح للإنسان ونظمه لا لكي يكون قضاءً للوطر فقط وإنما ليفوز بالذرية أيضًا ويثمر الثمرة المرجوة من ورائه وهي تكوين الأسرة بكل ما تعنيه من علاقات شرعية وإنسانية ومشاعر أبوة وأمومة وبنوة وصلات أنساب وأرحام وأهل وعشيرة وبكل ما يعنيه ذلك من مشاعر الحب والمودة والرحمة والسكن بين الزوجين والتي هي سر البقاء في هذه الحياة.(1/22)
فإذا جاء الاستنساخ أصبحت المرأة في غير حاجة للرجل لإنجاب الذرية وضاعت تلك السُنَّة وماتت واختلت كل الموازين السابقة اختلالاً مدمراً وعلي رأسها تكوين الأسرة ونشأت علاقات جديدة شاذة يحتار العقل في فهمها.. مثل تلك العلاقة بين الوليد (المُستنسَخ) وصاحب النواة (المُستنسَخ منه) .. هل هو (ابنه؟) أو هو (توأم له أي أخوه؟) أو أنه ليس هذا ولا ذاك وإنما هو (مُشْتَق منه؟)؟ أو هو (نسخة منه؟).
بكل ما يعنيه ذلك من اختلال في العلاقات الشرعية وضياع للحقوق واختلاط في الأنساب وخلط للحلال بالحرام.
ولتأكيد الله سبحانه وتعالي علي تلك السُنَّة الكونية في النكاح؛ يقول سبحانه وتعالي: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النساء:25) . (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور:32) . (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27) .
ثالثاً: النتائج الخطيرة للاستنساخ(1/23)
إن تكوين الإنسان بناءً علي هذه الظاهرة علي افتراض صحتها يتدرج من التكوين الطبيعي وصولا إلي الاستنساخ من أنثي واحدة علي ثلاثة صور:
الصورة الأولي (التكوين الطبيعي) : ويكون باتحاد (الحيوان المنوي) من الذكر مع (البويضة) في الأنثي وهذه هي سُنَّة الله في خلق الإنسان والتي تقوم عليها الحياة بصورتها الطبيعية من التعدد والتنوع في النسل ما بين ذكور وإناث مختلفين في الأشكال والألوان والطباع.
الصورة الثانية (الاستنساخ المتعدد): من أفراد مختلفين ويكون ذلك بأن يتم استنساخ مجموعات متعددة لأنماط مختلفة من البشر فتكون النتيجة أن نجد لكل نمط من هذه الأنماط أفرادا متماثلين تماما يختلف عددها حسب الطلب ما بين الآحاد والعشرات أو المئات والألوف.. فانظر ماذا يحدث لو أن مجموعة من النساء اعتزلن الرجال واعتزلن المجتمع الإنساني وأخذن في إجراء عمليات استنساخ لأنفسهن.. بالطبع سوف تكون النتيجة نشوء مجتمع جديد كله من النساء اللائي لا يحتجن للرجال للتناسل ولن يكون للرجال مكان فيه إلا إذا رغبت بعض هؤلاء النسوة في إشباع غرائزهن الطبيعية.. تماما كما هو الحال في مجتمع الحيوانات والأنعام.(1/24)
الصورة الثالثة (الاستنساخ المفرد): أما هذه الصورة فإنها تثير القشعريرة في الجلود والرجفة في القلوب والرهبة في النفوس.. وهي استنساخ مجتمع إنساني كامل من أنثي واحدة ويتم ذلك بتلقيح بويضة مفرغة مأخوذة من إحدي الإناث بنواة خلية جسدية مأخوذة من نفس الأنثي ثم تزرع البويضة المخصبة في رحم نفس الأنثي فتكون النتيجة كائن مماثل لها تماما ثم تتكرر عملية الاستنساخ للأنثَي (الأصلية) وللأنثي (المماثِلة) فتكون النتيجة إناثًا جددا كلهن علي نفس الصورة ومماثِلات تماما للأصل.. ومع تكرار عمليات الاستنساخ ومع مرور الزمن نجد مجتمعا يتكون من مئات وألوف من النساء كلهن صورة واحدة لتلك الأنثي الأولي.. فماذا تتخيل أن يكون عليه الحال إذا سار إنسان في الطريق فقابلته امرأة تسير في نفس الطريق وبعد قليل يراها تقابله مرة أخري، فإذا ركب القطار أو السيارة فوجئ بأن كل الراكبين معه هم نفس المرأة؛ فإذا دخل متجرا ليشتري شيئا وجدها أمامه تبيع له وإذا عاد إلي بيته وجدها هي نفسها التي تفتح الباب له.. فانظر بالله عليك كيف يحيا مجتمع مثل ذلك لا تعرف فيه الأنثي من الأخري ولا تعرف علاقتها بها؟! لا شك أنه ليس هناك اثنان يختلفان علي أن هذا المجتمع يستحيل قيامه وعلي فرض أنه قام فسوف يصاب كل من فيه بالجنون في أيام معدودات.
رابعا: أسئلة تتم بها الفائدة
ويبقي بعد ذلك عدة أسئلة لابد من أن نجيب عليها لتتم الفائدة ومنها:-
هل الاستنساخ يعتبر شكلاً من أشكال الخلق؟؟
لا.. لا يعتبر الاستنساخ شكلاً من أشكال الخلق.. لأن الخلق هو إيجاد بعد عدم.. أما الاستنساخ فهو إيجاد من مادة حية.. لأن البويضة المفرغة مادة حية والنواة المستخلصة من الخلية الجسدية مادة حية.
ما أنواع الاستنساخ ؟؟
الاستنساخ علي نوعين:(1/25)
أ - استنساخ علاجي: وفي هذا النوع يتم تنشيط الخلية بشكل أقل وفي ظروف مختلفة مما يؤدي إلي تكاثرها وانقسامها بسرعة ولكن إلي نفس نوع الخلية؛ وذلك يمَكِّنُنَا من إنتاج كميات كبيرة من الخلايا من مختلف الأعضاء والأنسجة مثل الجلد والكبد ونخاع العظام وخلايا الدم؛ كل علي حدة مما سوف يساعد بشكل كبير في عمليات نقل الأعضاء وعلاج بعض الأمراض المزمنة والخطيرة مثل بعض أنواع السرطانات ومثل الشلل الرعاش (الباركينزونيزم) الذي أصيب به الملاكم المسلم (محمد علي كلاي)؛ أو مرض (الزهايمر) الذي تتآكل فيه خلايا المخ والنخاع الشوكي ويؤدي إلي النسيان وفقدان الذاكرة إلي درجة انفصال الإنسان الكامل عن حياته التي يعيشها؛ وذلك هو المرض الذي أصيب به الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان).
ومن المعلوم أن استنساخ الجلد يتم حالياً بالفعل وذلك لأن نسيج الجلد كله يتركب من نوع واحد من الخلايا هو الخلية الجلدية. ويستخدم ذلك الجلد في العمليات الجراحية أو بعد إصابات الحروق لتغطية المساحات العارية التي فقدت الجلد من جسم الإنسان. أما استنساخ عضو كامل مثل القلب أو الكلية أو الكبد فهو مازال في طور التجارب بعد وذلك لأن الكبد مثلا يتكون من عدة أنواع من الخلايا والأنسجة منها خلاياالكبد والقنوات الصفراوية والأوعية الدموية.
ب - استنساخ إنتاجي: وهو الذي تستخدم فيه نواة من خلية جسدية تزرع في بويضة مفرغة من نواتها وتُنَشَّط كهربائيا وتُزرع في رحم امرأة لينتج جنينًا كاملاً كما ذكرنا آنفًا .
هل (المُستنسَخ) يأتي تماما مثل الأصل ؟(1/26)
> إن (المُستنسَخ) يحمل نفس الحامض النووي ونفس الشفرة الوراثية الموجود في الأصل ويعني ذلك أنه يكون متطابقاً معه تماما.. إلا أن هناك بعض الاختلافات ذكرها بعض العلماء سببها أن بعض الجسيمات المتبقية بالبويضة بعد تفريغها من نواتها وتسمي «السبحيات» هي حلقات من المادة الوراثية كانت تحيط بنواة البويضة قبل إزالتها ولها دور إضافي مع النواة المنقولة إلي البويضة في تحديد الصفات الوراثية للجنين.
كذلك فإن بعض العمليات التي تتأثر بنظام الهورمونات تتأثر بالأم صاحبة الرحم .
ما هي أخطار الاستنساخ؟
هناك أخطار علي المجتمعات وقد ذكرناها آنفا.
وهناك أخطار علي الفرد المُستنسَخ أهمها:
1- الشيخوخة المبكرة: ويعني ذلك أننا إذا أخذنا النواة من خلية إنسان عمره أربعون عاما بملامح وصورة معينة.. فسوف يأتي الطفل (المُستنسَخ) علي نفس صورته أي بملامح الأربعين عاما.. وعلي ذلك فسوف يكون الباقي له في الحياة تقريبا مثل متوسط ما بقي للأصل.
وذلك لأن أطراف (الكروموزومات) التي تحمل (الجينات) المسئولة عن الصفات الوراثية تأخذ في التآكل كلما تقدم الإنسان في العمر.. وعلي ذلك فإن الوليد (المُستنسَخ) سوف يبدأ حياته بتلك الكروموزمات المتآكلة التي أخذها من الأصل وبنفس الشكل الذي هو عليه.
2- التشوهات الخَلقِية: وسوف تزيد نسبتها بمعدلات كبيرة وذلك لأمرين:
أ - أن العبث بالجينات الوراثية من خلال تعرضها لصدمات كهربائية أو ظروف كيميائية يؤدي الي اختلالها بما يؤدي الي استنساخ أجيال مشوهة وممسوخة.(1/27)
ب - لأن في التقاء الصفات الوراثية للأب والأم في التناسل الطبيعي دور هام في التخلص المستمر من الصفات الوراثية المختلة والمريضة.. وفي نفس الوقت الاكتساب المستمر للصفات الوراثية الصحيحة والجيدة.. أما في الاستنساخ فإن الصفات الوراثية المختلة والمريضة تتزايد باستمرار وقد ذكر العلماء أن من 25% إلي 30% من الحيوانات المُستنسَخة جاءت بتشوهات خلقية.
3- بعض الأمراض العضوية : مثل أمراض القلب والروماتيزم والأورام السرطانية وأمراض الجهاز الدوري والمفاصل وأمراض السمنة.
ما هي نسبة النجاح في عمليات الاستنساخ؟
تشير النسب الناتجة من تجارب استنساخ النعجة (دوللي) إلي أنه من بين «277» جنينًا (مُستنسًخًا) أمكن الحصول علي واحد فقط (هو تلك النعجة) وقد مات الباقي.. وما حدث هو نجاح عشوائي.
هل يمكن استنساخ الأموات؟
لا.. لا يمكن استنساخ الأموات لأن الاستنساخ كما ذكرنا لا يأتي إلا من مكونات حية وهي نواة الخلية الجسدية والبويضة المفرغة من نواتها، ولكن يمكن أخذ هذه المكونات من الإنسان الحي قبل موته وتحفظ في ظروف معينة من البرودة والضغط والأكسجين لفترات طويلة حيث يمكن إعادة استخدامها بعدها لاستنساخ كائن جديد بعد موت الأصل .
هل يمكن استنساخ عبقري متميز أو مفكر عظيم أو عالم فذ
لا يمكن أن يأتي العبقري بعبقري مثله إلا إذا عاش الإثنان في نفس ظروف الحياة والبيئة والظروف النفسية والاجتماعية وتم الاستنساخ باستخدام بويضة من نفس المرأة وزرع في رحم نفس المرأة التي حملت بالأصل.. لأن كل تلك العناصر لها أثر حيوي في تشكيل شخصية الإنسان وملامحه النفسية والفكرية والروحية والمعنوية.. وحتي لو توافرت كل تلك العناصر وهي من المستحيلات فلا أحد يستطيع أن يؤكد أن (المُستنسَخ) سوف يكون مثل الأصل.
هل تحسين سلالات الثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية وإنتاج أدوية حديثة متطورة يدخل تحت ظاهرة الاستنساخ(1/28)
لا.. فهذه الأمور تدخل بالمقام الأكبر تحت علم (الهندسة الوراثية) وعلوم (البيولوجيا الجزيئية).
وما الفرق بين الاستنساخ والهندسة الوراثية؟
الهندسة الوراثية تعمل علي تغيير الصفات الوراثية إلي الأفضل ونقلها من جيل إلي جيل.. بينما الاستنساخ يهدف إلي تثبيت هذه الصفات ونقلها من كائن إلي كائن كما هي.
ما هي درجة صعوبة (التكنيك) أو الخطوات المعملية في عملية الاستنساخ؟
للأسف الشديد.. ومما يزيد من خطورة هذه العملية أن الأسلوب العلمي والخطوات المعملية التي تجري من خلالها هذه التجارب غاية في البساطة بالنسبة لغيرها من الأبحاث ويمكن لأي مركز من مراكز أطفال الأنابيب أن يقوم بها دون تكلفة باهظة مما يجعلها متاحة لآلاف الأيدي وبالتالي لسهولة العبث بها.
هل تعتبر ولادة التوائم المتماثِلة شكلاً من الاستنساخ؟
لا.. لأن التوائم المتماثِلة تنتج عن انفصال بعض الخلايا عن بعضها في المرحلة المبكرة من الانقسام المتضاعف في الجنين.. فتنفصل خلية واحدة أو أكثر عن الكتلة الأصلية وتبدأ في الانقسام بصفتها كيان مستقل بذاته لتكون جنينًا كاملاً منفصلاً ومستقلا عن الجنين الذي يتكون من الكتلة الأصلية وعلي ذلك يأتي عدد التوائم مطابقًا لعدد الخلايا المنفصلة. فليس هناك انتقال لجزء من خلية إلي خلية أخري.
هل هناك أية عبرة في مجال العقيدة من وراء ظاهرة الاستنساخ؟
نعم.. هناك عبرة بليغة.. فكما قَرَّبَ اختراع جهاز «الفيديو» الي عقول الناس حقيقة إعادة عرض أعمالهم عليهم يوم القيامة بالصوت والصورة ليحاسبوا عليها بين يدي الله سبحانه وتعالي مصداقًا لقوله تعالي:
((1/29)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49) فقد قَرَّبَت فكرة الاستنساخ أي تكوين الإنسان وبعثه من نواة وبويضة إلي عقول الناس حقيقة بعث الإنسان بعد الموت وإعادة تكوينه من جديد ليس من نواة وبويضة وإنما من جزء آخر هو (عُجْب الذَنَب) كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عُجْب الذَنَب: منه خلق، ومنه يركب" رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة.
وهكذا يتحقق قول ربنا سبحانه وتعالي:( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) وتخضع العقول رغم ما وصلت إليه من سلطان لقوله تعالي : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الاسراء: من الآية85)
هذا هو الاستنساخ.. وهذا بعض من أسراره وخباياه.. وهذا هو الصدام الحتمي بينه وبين شرع الله في سُنَنِه الكونية.. فإلي أين يذهب العلم بالإنسان إذا انفلت من قوانين الشرع وضوابط الأخلاق؟!! هذا ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي وما سوف تنبئنا به الأيام القادمة والله من وراء القصد وهو الهادي إلي سواء السبيل.
إنفلونزا الطيور ذلك الوحش القاتل!
نشر هذا الملف فى العدد العشرين من مجلة التبيان
ربيع الأول 1427هـ / مارس 2006م.(1/30)
انفلت الوحش القاتل من عقاله.. وخرج من مكمنه.. وانطلق في الأجواء يسابق الريح.. يبحث عن ضحاياه في صمت مخيف.. حتي إذا رصدهم انقض عليهم كالإعصار دون تحذير أو إنذار.. بلا شفقة ولا رحمة، وبتوحش وقسوة.. بالمئات والألوف.. ينتزع الأرواح.. ويفتك بالأجساد .. ويسفك الدماء.. ويمزق الأحشاء.. وينشر الرعب في القلوب.. والفزع في النفوس.. والذهول في العقول.. وبالرغم من أن ضحاياه حتي الآن في غالبيتهم ليسوا من بني البشر.. إلا أنهم يعلمون جيدًا أن ذلك الوحش القاتل وفي لحظة محتومة سوف ينقلب عليهم للفتك بهم.. تماما كما يفتك الآن بضحاياه من غيرهم.
وتتلاطم الأسئلة الحائرة في العقول.. تبحث عن إجابات لها قبل أن تقع الواقعة.. ما ذلك الوحش القاتل؟.. وما حجمه وما شكله؟.. ومن أين جاء؟.. وكيف يخترق الأجساد؟.. وما هو مصير من تنغرس في قلبه أنيابه وفي صدره مخالبه؟ وهل له من نجاة؟.. ومتي سيضرب ضربته بين البشر فيسري الموت بينهم كما تسري النار في الهشيم؟
كل تلك الأسئلة المتلاطمة نحاول بفضل الله تعالي أن نجيب عليها في ذلك الملف علي قدر الاستطاعة وبقدر من البساطة.. بتوضيح ما نقدر عليه من إجابات.. وبيان ما تسني لنا معرفته من معلومات.. فلعل ذلك يكون بفضل الله تعالي دافعًا لتسكن النفوس، وتهدأ العقول، وتطمئن القلوب.. فنزن الأشياء بحقها.. ونضع الأمور في نصابها.
الوحش القاتل(1/31)
قبل أن نبدأ في فتح صفحات ذلك الملف يجب علينا أن نذكر حقيقة لا يعلمها كثير من الناس.. حقيقة عجيبة وغريبة.. لا يمكن أن نبدأ ملفنا إلا بعد بيانها وتوضيحها.. تلك الحقيقة هي أن ذلك الوحش القاتل الذي ينتزع الأرواح ويفتك بالأجساد.. ويثير الرعب في القلوب والفزع في النفوس.. لا يفعل ذلك إلا إذا استطاع أن يغزو جسد أي كائن حي وأن يخترق خلاياه.. فهذا هو ميدان توحشه وساحة افتراسه. أما خارج الأجساد والخلايا الحية فهو.. وياسبحان الله.. أضعف مخلوق وأصغر وأعجز كائن في الوجود.. فبلفحة خفيفة من النار تتفحم الملايين منه.. وبقطرات من الماء والمطهرات تموت الألوف.. وبأبسط سنن النظافة والتطهر عند بني البشر يسقط ذلك الوحش صريعًا ويفني هالكًا. إن ذلك الوحش القاتل هو ذلك المخلوق المسمي بـ (الفيروس).. فما ذلك المخلوق؟
الفيروسات
تعتبر الفيروسات كائنات (جبرية التطفل) أي أنه لا يمكنها أن تحيا إلا بامتصاص الحياة من الكائنات الحية وداخل خلايا أجسادها.
ولكي تحيا الفيروسات فلابد لها من أن تغزو جسد كائن حي.. وتخترق خلاياه.. وهي قادرة علي غزو وإصابة أي مخلوق حي علي وجه الأرض سواء كان الإنسان والحيوان.. أو الطيور والزواحف والحشرات.. أو الأشجار والنباتات .. حتي البكتريا والميكروبات فإن الفيروسات قادرة علي غزوها والفتك بها.
وتنفرد الفيروسات عن الكائنات الحية بوجودها علي حالتين:
1- فهي خارج الخلية الحية: عبارة عن جزيئات لا حياة فيها توجد في أشكال هندسية قابلة للتبلور تمامًا كما يحدث في الجماد.. وليست لها القدرة علي التكاثر ولا تملك أي صفة من صفات الأحياء.
2- أما داخل الخلية الحية: فينقلب الوضع تمامًا حيث تدب فيها الحياة وتظهر وكأنها كائنات حية تتكاثر بسرعة وتزداد أعدادها داخل الخلية المصابة حتي تمتلئ بها فتنفجر وتموت وتخرج منها الفيروسات الوليدة لتصيب خلايا جديدة.. وهكذا.(1/32)
فالفيروس لا يستطيع أن يصنع أيا من (المواد البروتينية) التي هي أصل بناء الخلية ونموها ولا يستطيع توليد الطاقة اللازمة لبقائه.. كذلك فقد حرم الله ذلك المخلوق من نعمة الحياة المتمثلة في عملية (التمثيل الغذائي) والتي تسمي (الأيض) وهي العملية التي يأخذ فيها الكائن الحي الغذاء ليستهلكه في بناء الخلايا الحية وتوليد الطاقة التي يحتاجها لممارسة مظاهرالحياة من نمو وحركة وتكاثر وتنفس وإخراج وإحساس وغيرها.
وتعتبر الفيروسات أصغر الكائنات المعروفة لنا علي وجه الأرض حيث يصل حجم الفيروس أحيانًا إلي 10 (نانوميتر).. و(النانوميتر) هو جزء من عشرة آلاف من (الملليميتر) تقريبًا.(1/33)
كذلك فقد حرم الله ذلك المخلوق العجيب من أخطر نعمة في الحياة تضمن له بقاء نوعه مثل بقية الكائنات الحية.. وهي نعمة (التكاثر) والانقسام.. فالتكاثر لايتم في أي خلية حية مهما كان نوعها إلا في وجود (نسختين متماثلتين) من الجينات حاملة الصفات الوراثية داخل نواة الخلية.. ويتم التكاثر بأن تنقسم النواة إلي نصفين يحتوي كل منهما علي نسخة من هاتين النسختين ثم تنقسم بقية الخلية إلي نصفين يحتوي كل منهما علي نصف النواة المحتوي علي إحدي هاتين النسختين لتتكون بذلك خليتان جديدتان.. ثم تبدأ كل من هاتين الخليتين في انقسام جديد.. وهكذا تتكاثر الخلايا ويستمر بقاء الكائن الحي ويدوم نوعه بين الكائنات إلي ما شاء الله. أما الفيروس فقد حرمه الله من تلك النعمة العظيمة لأنه لا يملك إلا (نسخة واحدة) من تلك الجينات حاملة الصفات الوراثية.. لذلك فإنه لا يستطيع الانقسام بذاته كبقية الكائنات الحية.. ومن هنا فإنه يعتمد في بقائه واستمرار نوعه وتكاثره علي اغتصاب تلك النعمة من أي خلية حية أخري علي وجه الأرض.. لذلك يعتبر غزو الفيروسات للكائنات الحية واختراق خلاياها، صراع حتمي وحرب لا يمكنه التوقف عنها ولا الانفكاك منها.. فهو صراع وحرب ليس للفوز بغنائم أو لتحقيق مكاسب وإنما هو صراع للوجود وحرب للبقاء.
رحلة القتل للبقاء(1/34)
وتبدأ رحلة الفيروس للبقاء بغزو أي مخلوق أو كائن حي ثم وصوله إلي خلية من خلاياه ليخترقها ويستقر بداخلها لتبدأ رحلة الصراع بين (الفيروس) و(الخلية).. فيبدأ الفيروس في تفكيك (جيناته) الحاملة لصفاته الوراثية وفي نفس الوقت تفكيك (جينات الخلية) الحاملة لصفاتها هي.. ثم يبدأ في دمج الإثنين معًا ليعيد صياغة وتشكيل جينات الخلية علي صورته هو.. ومنذ هذه اللحظة تتحول وظيفة جينات تلك الخلية من إنتاج خلايا جديدة من نفس نوعها هي إلي إنتاج نسخ جديدة من الفيروس الغازي لها.. وبذلك تتحول الخلية إلي مصنع هادر لا يهدأ لصناعة المئات والألوف من نسخ ذلك الفيروس.. ويظل ذلك إلي أن يتم استهلاك الخلية بالكامل وتمتلئ بالفيروسات التي صنعتها بنفسها فتنفجر وتموت لينطلق منها عشرات الألوف من تلك النسخ الوليدة خارجها وليبدأ كل فيروس منها في مهاجمة واختراق خلية جديدة من خلايا الكائن الحي ليمتص رحيق الحياة منها ويقتلها بلا رحمة بعد أن يكون قد استنفد كل طاقتها ومكوناتها في إنتاج ألوف النسخ منه.. وهكذا تأخذ تلك المعادلة الجهنمية في التصاعد.. الفيروس يتكاثر بمئات الألوف والملايين وخلايا الكائن الحي تموت بعشرات ومئات الألوف.. ويظل ذلك التصاعد حتي يصل الكائن الحي إلي المرحلة التي ينهار فيها لكثرة ما خسر من خلاياه الحية فيسقط ميتًا.
كيف تتم عملية اختراق الفيروس للخلية ؟
يوجد علي السطح الخارجي للفيروس (زوائد) أو بروزات دقيقة تشبه الأشواك، وفي المقابل يوجد علي سطح الخلية (مستقبلات) خاصة يلتصق بها الفيروس عن طريق تلك الزوائد الموجودة علي سطحه..
- بعد عملية الالتصاق يبدأ الغلاف الخارجي للفيروس في الالتحام بجدار الخلية حتي يصبح الاثنان غلافًا واحدًا ثم يذوب ذلك الغلاف وتنتقل من خلاله محتويات الفيروس إلي قلب الخلية ليصبح الاثنان خلية واحدة.(1/35)
- تبدأ جينات الفيروس في التفكك ثم تقوم بتفكيك جينات الخلية لتلتحم بها وتعيد صياغتها لتصبح جاهزة لانتاج نسخ من الفيروس بدلا من إنتاج نسخ من الخلية..
هل يمكن رصد الفيروس في الخلية المصابة ؟ ومتي يمكن ذلك؟
عندما يغزو الفيروس جسد الكائن الحي وينجح في الوصول إلي الخلية ويخترقها ويبدأ في التفكك داخلها.. فإنه يمر بفترة لا يمكن رؤيته ولا رصده خلالها.. وتسمي هذه الفترة (فترة الخسوف) وهي تنتهي ببدء تصنيع الخلية للنسخ الجديدة من الفيروس وظهوره داخلها مرة أخري.
هل كل الفيروسات قادرة علي تعديل جيناتها وتغيير صفاتها بصورة واحدة؟
لا.. فهناك بعض الفيروسات شبه ثابتة في تركيبها الوراثي ولا تتغير أشكالها ومواصفاتها إلا في أضيق الحدود.. وهذه الفيروسات إذا أصيب بها الإنسان مرة فإن جسده يصنع (أجسامًا مضادة) لمقاومتها.. فإذا تعرض للإصابة بها مرة أخري استطاعت تلك الأجسام المضادة أن تتعرف عليها وتقضي عليها وبذلك لا تتكرر إصابة الإنسان بنفس الفيروس مرتين. ومن هذه الفيروسات فيروس مرض (الحصبة) وفيروس (الجديري الكاذب) وفيروس (التهاب الغدة النكفية) وفيروس (شلل الأطفال).
وفي المقابل فإن هناك فيروسات لا تعرف الاستقرار في تركيبها الوراثي وتتغير مواصفاتها وأشكالها بمعدلات سريعة ومتلاحقة. فإذا أصيب بها الإنسان مرة وصنع جسده (أجسامًا مضادة) لها.. ثم أصابته تلك الفيروسات مرة ثانية بعد أن تكون قد عدلت تركيبها وغيرت أشكالها فإن الأجسام المضادة لا تستطيع التعرف عليها وبالتالي يصاب الإنسان بنفس المرض للمرة الثانية.. والثالثة.. وغيرها.. ومن هذه الفيروسات فيروس (إنفلونزا البشر) و(نزلات البرد) و(إنفلونزا الطيور).
هل من المعتاد أن ينتقل الفيروس من نوع من الكائنات الحية إلي نوع آخر؟(1/36)
كان المعتقد حتي وقت قريب أن لكل فيروس تخصصه في نوع الكائنات التي يغزوها بمعني أن الفيروسات التي تصيب الحيوان لا تصيب الأنسان وهكذا.. وهو ما كان يسمي بـ (حاجز الأنواع). ولكن مع ظهور مرض (الإيدز) الذي انتقل إلي الإنسان من القرود والشمبانزي يمكن القول أن ذلك الحاجز قد سقط إلي الأبد.. وقد ثبت علميًا أن الكثير من الفيروسات التي تصيب الإنسان هي في الأصل من المتخصصة في إصابة الحيوان.. فمرض (الجديري المائي) سببه فيروسات تعيش علي الجمال و(الطاعون) علي الفئران و(الإيدز) علي القرود و(الإيبولا) علي الشمبانزي و(إنفلونزا الطيور) علي الطيور المهاجرة ومرض الكَلِبْ (السعار) مصدره الكلاب.
ما مرض (إنفلونزا الطيور)؟
(إنفلونزا الطيور) مرض فيروسي يصيب أغلب أنواع الطيور سواء المهاجرة بنوعيها البرية والمائية أو الداجنة مثل الدجاج والبط والرومي.. ويمكن للفيروس المسبب للمرض أن ينتقل من الطيور إلي بعض الحيوانات مثل الخنازير والقطط والخيول.. كذلك يمكنه أن ينتقل إلي الإنسان.. لكن لم يثبت حتي الآن بصورة قاطعة انتقاله من إنسان إلي آخر.
وتؤدي إصابة الطيور بالفيروس المسبب للمرض إلي حدوث شكلين رئيسيين من المرض يتميزان بشدة فيروسية مختلفة هما:
1- الشكل خفيف الإمراض: وهذا هو السائد من الاثنين وهو يتسبب عموما في أعراض بسيطة أو متوسطة وكثيرًا ما يصعب ملاحظته عند إصابة الطيور به وفي الغالب يشفي الطائر المصاب منه دون أن يُكْتَشَف المرض.
2- الشكل شديد الإمراض: وذلك هو الذي يُحِدْث الأضرار العنيفة والأوبئة المعروفة حيث ينتقل بسرعة بين أسراب الدواجن ويتسبب في الفتك بكل الطيور المصابة تقريبًا في غضون يوم أو يومين من بدء الإصابة به.
وما ذلك الفيروس المسبب لمرض (إنفلونزا الطيور)؟(1/37)
تنقسم الإنفلونزا في عمومها إلي ثلاثة أنواع تبعًا لنوع الفيروس المسبب للمرض وهي النوع (A) أو (أ) والنوع (B) أو (ب) والنوع (C)أو (ج) .. والنوع الأول (A) يختص بإصابة الطيور ويسبب مرض (إنفلونزا الطيور).. أما النوعان الآخران (B) و (C) فإنهما يختصان بإصابة البشر فقط ويسببان مرض (إنفلونزا البشر).
ولكن يمكن لبعض الأنواع الفرعية من النوع (A) الخاص بالطيور آن يصيب الإنسان والخنازير والحيتان وكلاب البحر والقطط وبعض القوارض.
شكل وتركيب الفيروس
يشبه الفيروس المسبب لإنفلونزا الطيور الكرة التي تحتوي بداخلها علي المادة الوراثية المسئولة عن تكاثر الفيروس محمولة علي ثمانية أجسام تسمي (جينات).. ويغلف هذه الكرة من الخارج غلاف أو جدار مزدوج يتكون من طبقتين.. طبقة خارجية.. وطبقة داخلية.. وهما علي النحو التالي:
1- الطبقة الخارجية: وتتكون من مادة بروتينية تسمي (هيماجليوتنين) (Hemagglutinin) ويرمز لها بالحرف (H) أو (هـ) وهي علي شكل (زوائد) أو أشواك تشبه تقريبًا السطح الخارجي لحيوان (القنفذ) عندما يكون منطويا علي نفسه وناشرًا أشواكه وهذه الطبقة هي المسئولة عن اختراق الفيروس خلايا الجهاز التنفسي في الطائر أو الحيوان المصاب ولا توجد هذا المادة البروتينية المكونة للطبقة الخارجية لجدار الفيروس في الطبيعة علي صورة واحدة فقط وإنما يوجد منها خمسة عشر نوعًا يرمز لها بالحروف (H1 - H2 - H3 - .....) وهكذا حتي (H15).. أو (هـ1 - هـ2 - هـ3... وهكذا حتي هـ51).(1/38)
2- الطبقة الداخلية: وتتكون أيضًا من مادة بروتينية تسمي (نيورامينداز) (Neuraminidase) ويرمز لها بالحرف (N) أو (ن) .. وهذه الطبقة هي المسئولة عن خروج الفيروسات الوليدة من الخلايا المصابة بالجهاز التنفسي لتنتشر في كافة أنحاء الجسم.. وهذه المادة المكونة للطبقة الداخلية لجدار الفيروس لا توجد أيضًا في الطبيعة علي صورة واحدة.. وإنما يوجد منها تسعة أنواع فرعية يرمز لها بالحروف (N1 - N2- N3- ..) وهكذا حتي (N9) أو (ن1 - ن2 - ن3... وهكذا حتي ن9).
وتصنف الفيروسات وتسمي طبقًا لتركيبها من هاتين الطبقتين اللتين تكونان الغلاف الخارجي للفيروس وهما (H) و (N) أو (هـ) و (ن) حيث ينقسم كل نوع من الخمسة عشر الرئيسية (H) إلي تسعة أنواع فرعية (N) وبذلك فإننا نجد عندنا الأنواع الفرعية علي النحو التالي:
- النوع الرئيسي (H1) أو (هـ1) ينقسم إلي تسعة أنواع فرعية هي: (H1N1 - H1N2 - H1N3...) وهكذا حتي (H1N9) أو (هـ1 ن1 - هـ1 ن2 - هـ1 ن3 .... وهكذا حتي هـ1 ن9).
- النوع الرئيسي (H2) أو (هـ2) ينقسم إلي تسعة أنواع فرعية أيضًا هي:
(H2N1 - H2N2 - H2N3....) وهكذا حتي (H2N9) أو (هـ2 ن1 - هـ2 ن2 - هـ2 ن3... وهكذا حتي هـ2 ن9).
وينطبق هذا علي جميع أنواع الـ (H) أو (هـ) حتي (H15) أو (هـ15).
وهذه الفيروسات جميعها تصيب الطيور دون أعراض أو بأعراض خفيفة.. ولكن هناك نوعان فقط منها هما (H5) و (H7) أو (هـ5) و(هـ7) قابلة للتحول لتصبح شديدة الخطورة وتسبب أمراضًا قاتلة بنسبة مائة بالمائة في الطيور المصابة كما يمكنها آن تنتقل من الطيور إلي الإنسان.(1/39)
وهكذا فإن هذه الأنواع الخمسة عشر الرئيسية من الفيروس (A) المسبب لإنفلونزا الطيور والتي يتبع كل منها تسعة أنواع فرعية تشكل جميعها المصدر الكبير للفيروس الذي يتم تداوله وانتقاله بين الطيور المختلفة وعلي رأسها الطيور المهاجرة البحرية منها والبرية مثل البجع والبط البري.. ويعتبر هذا النوع الأخير من الطيور المخزن الطبيعي للفيروس في هذا الكون حيث إنه من أكثر الطيور مقاومة له ولا تظهر عليه أعراض المرض وإنما ينقله إلي الطيور الداجنة (المنزلية) التي تمرض سريعًا وتموت خلال يوم أو يومين من الإصابة به.
وحتي الآن فإن معظم حوادث انتشار المرض بين الطيور نتجت عن الفيروس (A) أو (أ) الخاص بإنفلونزا الطيور بفرعيه الرئيسيين (H5) و (H7) أو (هـ5) أو (هـ7) ويأتي علي رأسهما النوع الفرعي الخطير (H5N1) أو (هـ5 ن1).
فما ذلك النوع الفرعي (H5N1) المسبب للوباء الحالي؟ وما خطورته؟
اكتشف ذلك النوع من الفيروس المسبب لإنفلونزا الطيور لأول مرة في دولة (جنوب أفريقيا) عام 1961م. ويتميز بأنه ينتقل عن طريق الطيور البرية والمهاجرة.
وقد ظهرت أول إصابة بين البشر بهذا النوع عام 1997م في جزيرة (هونج كونج) حيث انتقلت العدوي إلي المصاب مباشرة من الدواجن المريضة.. ثم أخذ المرض في الانتشار بين الطيور في العديد من دول جنوب آسيا ثم روسيا ودول أوروبا. ويُعتقد أن هذا النوع من الفيروسات قد أصبح مستوطِنًا في الطيور في منطقة جنوب شرق آسيا بما يهدد بإمكانية حدوث موجات متتالية ومتلاحقة من الوباء بينها ومن ثم استمرار احتمال انتقاله للإنسان .(1/40)
ومما يسبب خطورة ذلك الفيروس أن الإنسان نظرًا لأنه لم يسبق له أن أصيب به فإنه لا توجد لديه أي مناعة ضده كذلك فقد أثبتت التحاليل المختبرية للفيروس أنه قد طور مقاومته لبعض الأدوية المضادة للفيروسات. وأنه أصبح أكثر ضراوة وأشد فتكًا بالطيور المصابة.. وأن البط والخنازير وحتي القطط يمكن أن تنتقل إليها العدوي.
- ويمكن إضافة بعض الأسباب الأخري لخطورة فيروس (إنفلونزا الطيور) علي النحو التالي:
- قدرة الفيروس الفائقة علي التحور والتغير بسرعة من خلال الطفرات الجينية وقدرته علي اكتساب (جينات) جديدة تزيد من شدته وشراسته وقدرته علي الفتك بضحاياه.
- قدرته علي الاختلاط والاندماج مع بعض الفيروسات التي تصيب الإنسان وبالتالي احتمال أن ينتقل من الإنسان إلي الإنسان وهنا ستقع الكارثة وينتشر الوباء العنيف بين البشر. مما يزيد من تعاظم الكارثة.
- قدرته علي البقاء والكمون في الطيور المهاجرة لأزمنة طويلة دون أن يصيبها بالمرض أو يحد من قدرتها علي الطيران لمسافات بعيدة ودون أن تظهر عليها أعراض المرض أو الإعياء.
- عند إصابة الطيور الداجنة فإنها لا تتمكن من القضاء عليه حتي لو تعافت وبالتالي تستمر في إخراجه في فضلاتها وإفرازاتها لمدة لا تقل عن عشرة أيام بعد شفائها مما يساعد علي انتشار المرض بينها حتي لو بدت سليمة في الظاهر.
(إنفلونزا الطيور) والبشر
هل من الممكن أن يجتاح وباء (إنفلونزا الطيور) البشر كما هو حادث الآن مع الطيور حيث تصاب وتموت بالملايين؟
إن ذلك احتمال قائم وافتراض صحيح.. ولكن لكي يحدث ذلك الوباء بتلك الصورة العنيفة والقاتلة للبشر فإنه لابد له من توافر ثلاثة شروط هي:(1/41)
1- أن يظهر نمط جديد من الفيروس عن طريق التحور أو الطفرة الجينية أو اكتساب جينات جديدة كما ذكرنا.. وهذا احتمال قائم حيث إن ذلك الأمر يعتبر من خصائص تلك الكائنات المدهشة التي تعمل دائمًا وبشكل مستمر علي تطوير تركيبها الوراثي وتغيير أشكالها وخصائصها وقدراتها للتغلب علي الخطط الدفاعية التي تقيمها الكائنات الحية ضدها .
2- أن يتمكن ذلك الفيروس من الانتقال من الطيور إلي البشر... وهذا السلوك ليس معتادًا من فيروسات (إنفلونزا الطيور) التي تنتقل دائمًا بين جنس الطيور.
3- أن يتمكن ذلك الفيروس من الانتقال من الإنسان إلي الإنسان بسهولة وبشكل مستديم.
وهنا وفي حال توافرت هذه الشروط الثلاثة.. فإن الكارثة سوف تنفجر ويشتعل الوباء ويجتاح البشر ليقتل الملايين والملايين في أوقات قياسية.
وهل توافرت تلك الشروط في الوباء الحالي؟
أو بمعني آخر: هل نحن معرضون فعلا في هذه المرحلة لوباء يحصد أرواح البشر حصدًا؟؟؟
حتي هذه اللحظة فإنه لا يوجد أي احتمال لانتشار ذلك الوباء بهذه الصورة بين البشر وذلك لأن ما توافر له هما الشرطان الأول والثاني فقط.. وهما ظهور نمط جديد من الفيروس هو (H5N1) أو (هـ5 ن1) ثم تمكنه من الانتقال من الطيور إلي البشر.. أما الشرط الثالث وهو تمكنه من الانتقال من الإنسان إلي الإنسان فإنه لم يتوفر بعد.
الكارثة
إذن ما الأحوال التي يمكن أن يتوفر فيها ذلك الشرط الثالث حيث يمكن لذلك الفيروس الانتقال بين البشر فتقع الكارثة؟
إن ذلك الاحتمال المفزع حقًا يمكن أن يتحقق في حالتين:(1/42)
الحالة الأولي: الاندماج أو التزاوج: ويحدث ذلك بأن يتم اندماج أو تزاوج بين الفيروس المسبب لإنفلونزا الطيور والفيروس المسبب لإنفلونزا البشر لينتج فيروس جديد يتصف بالشراسة والعنف كإنفلونزا الطيور وبالقدرة علي الانتقال بين الآدميين كإنفلونزا البشر.. وهذا الاحتمال قائم بشدة في جسد الخنزير الذي يمكن له أن يصاب بنوعي الفيروس في وقت واحد.. فتكون النتيجة أن تمتزج المادة الجينية حاملة الصفات الوراثية للفيروسين داخل خلية الخنزير لينتج ذلك الفيروس الجديد القاتل... وهناك فريق من العلماء يري أن الإنسان نفسه من الممكن أن يكون هو حقل التزاوج والاندماج بين نوعي الفيروس وذلك إذا كان مصابًا بحالة شديدة من الإنفلونزا البشرية ثم انتقل إليه فيروس (إنفلونزا الطيور) من حالة شديدة الإصابة من إحدي الدواجن..
الحالة الثانية: التطور أو التحور: ويحدث ذلك بأن يتحور أو يتغير أو يتطور فيروس (إنفلونزا الطيور) وذلك بطريقتين:
1- التغير البطئ: ويتم بتغير شكل وخصائص الفيروس بالتدرج وبمعدل بطئ وخلال فترات طويلة من الزمن حيث يصبح بعد ذلك التحول فيروسًا مختلفًا تمامًا لم يسبق للإنسان الإصابة به وهذا النوع من التغير التدريجي البطئ يحدث كثيرًا وبشكل معتاد بين الفيروسات.
2- التغير السريع: ويتم بأن تحدث تغييرات كبيرة وبصورة مفاجئة علي شكل طفرة جينية في المادة الوراثية للفيروس تؤدي إلي ظهور نوع جديد من الفيروس لم يُصَبْ به الإنسان من قبل وبالتالي فإنه لا يملك أية أجسام مضادة لمقاومته وتكون مناعته ضده منعدمة فيسهل علي الفيروس الانقضاض عليه والفتك به.. ولكن من حسن حظ البشرية وبفضل الله سبحانه وتعالي أن هذا النوع من التغير السريع نادر الحدوث.
لماذا الفزع؟!(1/43)
إذا كان معدل الإصابة بفيروس (إنفلونزا الطيور)(H5N1) أو (هـ5 ن1) بين البشر ضئيلا جدًا حيث لم تتعد الإصابة بينهم المائتي حالة حتي الآن مات منهم أقل من النصف مقارنة بإصابة وموت الملايين من الطيور بنفس الفيروس.. فلماذا ذلك الفزع الشديد من إصابة بعض الآدميين بذلك الفيروس؟
إن ذلك الفزع ليس مجرد انفعال عاطفي أو خوف افتراضي.. إنما هو حقيقة مخيفة لها مبرراتها وذلك علي وجهين:
الوجه الأول: هو الأخف وطأة.. وهو أن المصاب بذلك المرض وخاصة إذا لم يتم اكتشاف وتشخيص حالته مبكرًا في ساعات الإصابة الأولي.. فإن الموت الحتمي هو المصير الأغلب له.. وذلك لعدم وجود مناعة لدي الإنسان ولا مقاومة عنده ضد ذلك المرض. ونقول أن هذا الوجه هو الأخف وطأة لأن خسائر الأرواح فيه محدودة، ولا تتعدي المئات من البشر علي أسوأ تقدير.. أماالخوف والرعب والفزع الذي يصيب كل إنسان علي حدة فذلك لأن الإصابة في نظره تعني الموت له هو.
الوجه الثاني: هو المفزع حقًا في الإصابة بالمرض.. ذلك أن الفيروس كلما أصاب جسدًا ثم انتقل منه إلي جسدٍ آخر استطاع أن يطور نفسه وأن يعدل صفاته الوراثية فيغير من أشكاله ويزيد من قدراته.. وعندما ينتقل الفيروس مرة ثانية من ذلك الجسد المصاب إلي جسدٍ سليم آخر فإنه يبدأ داخل خلايا جسده دورة جديدة من تطوير قدراته وإمكانياته وتزداد شراسته وهكذا كلما ازداد عدد المرضي الذين أصابهم وانتقل بينهم واحدًا بعد الآخر زادت شراسته وفتكه وقدرته علي افتراس خلايا الجسد الآدمي.. فيزداد اشتعال الوباء.
طرق الإصابة
كيف ينتقل الفيروس من الطيور المصابة إلي الطيور السليمة؟(1/44)
عند إصابة الطائر بالفيروس وبعد فترة معينة يبدأ في الخروج منه والانتشار في الإفرازات الأنفية والبراز والفضلات.. لذلك فإن المرض ينتشر عن طريق الاتصال المباشر بين الطيور المصابة والطيور السليمة أو بطريق غير مباشر بواسطة الهواء الملوث أو المعدات الملوثة وأحذية وملابس عمال مزارع الدواجن وأقفاص الدجاج والسيارات المستخدمة في نقلها.. كذلك فإن المياه الملوثة بإفرازات الطيور البرية المصابة بالفيروس تلعب دورًا كبيرًا في انتشار المرض. وأخيرًا فإن هناك احتمالا لانتقال الفيروس بالاحتكاك المباشر بين الطيور المصابة وبعض القوارض والقطط والذباب التي تنقلها بدورها إلي الطيور السليمة في أماكن أخري.
أعراض المرض
هل تظهر أعراض المرض علي الطائر أو الإنسان المصاب بمجرد أن يدخل الفيروس إلي جسده مباشرة؟
لا.. لأن هناك فترة من الزمن تمتد من لحظة دخول الفيروس جسد الطائر أو الإنسان المصاب حتي ظهور أعراض المرض عليه تسمي (فترة الحضانة) وهي الفترة التي يحتاجها الفيروس لاختراق وتدمير الخلايا الحية داخل الجسد المصاب.
وعندما تصل أعداد الخلايا المدمَّرة إلي درجة معينة يبدأ ظهور أعراض المرض علي جسد الطائر أو الإنسان المصاب.. وتمتد فترة الحضانة في (إنفلونزا الطيور) ما بين ثلاثة وسبعة أيام وتعتمد في مدتها علي عدة عوامل منها كمية الفيروس ونوعه وشدته وطريقة العدوي ومن الممكن في الحالات الشديدة أن تكون أقصر من ذلك.
فما الأعراض التي يمكن أن نتعرف بها علي إصابة الطائر بإنفلونزا الطيور؟(1/45)
تختلف أعراض المرض في شدتها اعتمادًا علي عدة عوامل منها عمر الطائر المصاب ونوعه وقوته البدنية وشدة الفيروس وطرق الإصابة وغيرها.. ومن أهم تلك الأعراض: خمول الطائر وانتفاش الريش وقلة الشهية.. قلة إنتاج البيض أو توقفه تمامًا مع احتمال أن يكون البيض بأحجام وأشكال مختلفة أو حتي بدون قشرة.. انتفاخ رأس الطائر والعرف والدلاية والمفاصل وظهور اللون الأزرق بها... افرازات مخاطية من فتحات الأنف وإسهال مائي مائل للون الأخضر... وأخيرًا الموت المفاجئ الذي يمكن أن يحدث خلال يوم أو يومين من بداية الإصابة.
الأعراض في الإنسان
ما أعراض مرض (إنفلونزا الطيور) في الإنسان؟
يبدأ الشك في إصابة الإنسان بهذا المرض في حالة مخالطته لبعض الطيور أو التعامل معها في الأيام السابقة مباشرة لظهور أعراض المرض عليه والتي هي نفس أعراض الإنفلونزا الحادة المعروفة لنا مثل الرشح والسعال وصعوبة التنفس وارتفاع في درجة الحرارة وإحساس بالالتهاب في الأنف والمجاري الهوائية بالصدر وأوجاع بجميع عضلات ومفاصل الجسم ثم إحساس عام بالضعف والإعياء.. وفي الحالات الشديدة يصاحب تلك الأعراض الإصابة بالالتهاب الرئوي الفيروسي وقصور في وظائف الكثير من الأعضاء الحيوية بالجسم.. وعادة ما يكون ذلك هو السبب المباشر في الوفاة.
وماذا يحدث إذا ثبت إصابة الإنسان بإنفلونزا الطيور؟
أولا يجب عزل المريض فورًا.. والعزل معناه أن يوضع المريض في غرفة خاصة ذات ضغط جوي سلبي أي يدخلها الهواء ولا يخرج منها حيث يتم تغيير الهواء من (6 - 21) مرة كل ساعة تقريبًا لقتل أي فيروس محتمل فيه أو علي الأقل يكون العزل في غرف مغلقة جيدًا ومزودة بستائر علي النوافذ والأبواب ثم يقوم الفريق الطبي المعالج بإعطاء المريض الأدوية المضادة للفيروسات.. وكما ذكرنا فإن هذه الأدوية تعمل علي التخفيف من تأثير الفيروس ولكنها لا تقضي عليه..
سبب الموت(1/46)
ما السبب المباشر للموت نتيجة الإصابة بفيروس (إنفلونزا الطيور)؟
عندما يخترق الفيروس الخلية الحية في الجهاز التنفسي فإنه يفككها من الداخل ويستخدمها في إنتاج أعداد هائلة من نسخه حتي تمتلئ بها الخلية فتنفجر وتموت.. وتكون النتيجة أن تُدَمَّر خلايا الجهاز التنفسي وتحدث أنزفة دموية من الشعيرات الدموية الدقيقة التي تتمزق في الرئتين وارتشاحات للسوائل بين الخلايا في مختلف أعضاء الجسم وأجهزته الحيوية التي تتحول بعد فترة إلي كتل من الخلايا الميتة والنسيج المدمم بما يؤدي إلي الفشل في أداء وظائفها الحيوية.
فمن أكثر الناس تعرضًا للإصابة بإنفلونزا الطيور؟
العاملون في مزارع الدواجن ومنتجو البيض ومربو الطيور الداجنة سواء في المزارع أم المنازل، والتجار والعاملون بنقل الدواجن والبيض، والعاملون بذبح وتنظيف الدواجن، والأطباء البيطريون والفنيون العاملون بحقل الدواجن والأطباء وأخصائيو التحاليل والعاملون بمعامل التحاليل والمختبرات الطبية الذين يتعاملون مع عينات من الدواجن المصابة أو مخلفاتها الحاملة للفيروس.
ويجب التنويه بأن معظم حالات الإصابة بين البشر قد حدثت في مناطق ريفية أو في ضواحي المدن حيث تعمد غالبية الأسر إلي تربية أسراب أو مجموعات صغيرة من الدواجن التي تتحرك طليقة بين البيوت وداخلها وتخالط الكبار والصغار وبذلك تتزايد فرص التعرض للإفرازات والفضلات الملوثة للطيور المصابة بالفيروس.
الوقاية من المرض
ما إجراءات الوقاية من مرض (إنفلونزا الطيور)؟
عند ظهور أي حالة للمرض في أي بلد من البلاد يجب اتخاذ التدابير الآتية:
أولا: تجنب الاختلاط قدر الإمكان مع الدواجن خاصة في الحظائر المنزلية.. ويجب عزل الدواجن السليمة عزلا تامًا عن الاختلاط بأي دواجن أخري أو طيور برية.(1/47)
ثانيًا: إذا أصيبت أي من الدواجن بأي أعراض مشابهة للإنفلونزا أو إذا نفقت بعض الدواجن في وقت واحد يجب فورًا إبلاغ الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة وهي التخلص السليم من الدواجن المصابة أو النافقة والتطهير الشامل لحظيرة الدواجن والأماكن الملحقة بها وفحص المخالطين من البشر للتأكد من خلوهم من الإصابة بالفيروس.
ثالثًا: بالنسبة لمن يتحتم عليهم الاختلاط بالدواجن عامة مثل عمال مزارع الدواجن يجب عليهم الاهتمام بشروط الوقاية والأمان أثناء عملهم مثل استخدام الكمامات والقفازات والملابس الواقية والأحذية الخاصة وتعقيمها بعد انتهاء أعمالهم.
رابعًا: بالنسبة لمن يتعاملون مع الدواجن المصابة أو الدجاج النافق مثل الفِرَق التي تقوم بجمعها وإحراقها فيجب أن يتناولوا الأدوية المضادة لفيروس (إنفلونزا الطيور) بالإضافة إلي الإلتزام باحتياطات الوقاية السابقة.
خامسًا: بالنسبة لربات المنازل والعاملين في أماكن ذبح الدواجن يجب عند التعامل معها بالذبح أو التنظيف ارتداء الكمامات الواقية والحفاظ علي العين لئلا يطولها الرذاذ المتناثر وذلك لأن الإصابة من الممكن أن تتم عن طريق العينين لوجود قنوات تصل بينها وبين التجاويف الأنفية ومنها إلي القصبة الهوائية.. (وذلك هو سبب الشعور بطعم القطرة في الحلق عند وضعها في العين).. كذلك يجب غسل اليدين جيدًا بالماء والصابون أو المطهرات بعد الانتهاء من أعمال الذبح والتنظيف ثم غسل المكان المستخدم لذلك الغرض جيدًا لاحتمال أن تكون الدجاجة المذبوحة سليمة في الظاهر ولكنها حاملة للفيروس.. كذلك يجب ألا تؤكل لحوم الدواجن أو أجزاء منها أو مشتقاتها أو البيض إلا بعد طهوها طهوًا جيدًا.(1/48)
سادسًا: في حالة ظهور الإصابة في بلد ما.. يجب علي الجهات المسئولة حظر نقل الدواجن بين المدن وعدم السماح ببيع الدواجن في متاجر الدواجن أو في محلات الذبح والتنظيف.. وإنما يجب أن تذبح الدواجن السليمة تحت إشراف طبي دقيق وأن تباع مجمدة.. كذلك يجب علي الجهات المسئولة حظر استيراد الدواجن من الدول التي ظهر بها المرض مع الحد قدر المستطاع من سفر الأفراد إلي تلك الدول إلا للضرورة.. وفي تلك الحالة يجب علي المسافر إلي تلك الدول أن يبتعد تمامًا عن ارتياد أسواق ومحلات بيع الطيور والدواجن الحية أو المذبوحة وأن يتأكد عند تناوله لحوم الدواجن أن تكون مطهوة جيدًا ومن الأفضل أن يكتفي بالأطعمة الأخري مثل اللحوم والأسماك.
التعامل مع الطيور المصابة
عند حدوث الإصابة بين الطيور.. كيف يكون التعامل معها في مختلف أحوالها؟
عند حدوث الإصابة بين الطيور.. فإن الطائر الحي يكون في ظاهره علي حال من اثنين:
الأول: أن يكون مريضًا تظهر عليه أعراض المرض التي سبق ذكرها.
الثاني: أن يكون صحيحًا خاليًا من تلك الأعراض.
وفي الحالة الثانية يكون الطائر أيضًا علي حال من اثنين:
1- أن يكون صحيحًا في الظاهر (حاملاً) للفيروس الذي ما زال في فترة الحضانة ولم يبدأ في إحداث أعراض المرض بالطائر بعد.
2- أن يكون صحيحًا في الظاهر (خاليا) من الفيروس.
هذه هي مختلف الأحوال التي يكون عليها الطائر ولا يخرج عنها في حالة حدوث الإصابة.. والتعامل معها في كل حالة يكون علي النحو التالي:
أولا: في حالة الطائر المريض: يجب علي الفور إبلاغ الجهات المسئولة عن مقاومة المرض حتي تأتي الفِرَق المختصة إلي مكان الطائر المريض أو النافق لتقوم بثلاثة أعمال حيوية لا يمكن لأحد غيرها القيام بها وهي:
1- التخلص من الطائر المريض أو النافق وإعدام جميع الطيور الأخري الموجودة بالمكان بالطرق الصحية السليمة.
2- تطهير المكان الذي خالطه ذلك الطائر بالكامل.(1/49)
3- فحص المخالطين لهذا الطائر من البشر وأخذ عينات من دمائهم لتحليلها في المعامل والمختبرات المختصة للتأكد من خلوها من الفيروس المسبب للمرض.. أو للعزل والبدء الفوري في العلاج في حالة ثبوت إصابة أحد المخالطين لذلك الطائر بالفيروس.
تحذير هام: وفي هذه الحالة فإنه يجب أن نحذر تحذيرًا شديدًا من عدم قيام صاحب الطائر المريض أو النافق بالإبلاغ أو الاكتفاء بالتخلص منه بوسائله الخاصة وذلك لأنه لن يكون قادرًا علي أداء تلك الأعمال الحيوية الخطيرة التي ذكرناها.. زد علي ذلك أنه من الممكن أن يلقي بالطائر النافق في الطرقات أو الترع أو في أماكن تجميع القمامة مما يساعد علي انتشار المرض.
ثانيًا: في حالة الطائر الصحيح: وعلي حالتيه الاثنتين سواء كان صحيحًا حاملا للفيروس أم صحيحًا خاليًا منه فإنه يجب أن يذبح فورًا.. والطائر في هاتين الحالتين صالح للأكل دون أي خوف من انتقال العدوي للإنسان بشرط أن يطهي طهيًا جيدًاوذلك لأن الفيروس المسبب للمرض علي فرض وجوده بالطائر فإنه يُقْتَل ويموت عند الطهي عند درجة حرارة 70 درجة مئوية.. ولا توجد أي دلائل حتي الآن علي إصابة شخص بالعدوي عقب تناوله لحوم الدواجن المطهية جيدًا أو بيضها حتي لو كانت ملوثة بالفيروس.. وفي حالة ذبح أعداد كبيرة من الطيور تفوق معدل الاستهلاك الطبيعي فإنه يمكن الاحتفاظ بها في ثلاجات لحين استهلاكها.(1/50)
تحذير هام: ينبغي علي أي مستهلك للدجاج أن يعي جيدًا مخاطر ما يسمي بـ (التلوث المتبادل).. فلا ينبغي السماح أبدًا بأن يحدث اتصال أو ملامسة أو خلط عند إعداد الطعام بين الدواجن وأجزائها النيئة وبين الأطعمة الأخري التي تُؤكل نيئة دون طهي مثل الفاكهة والخضراوات وذلك مثل أن ُتمسِك ربة المنزل بالدجاج المذبوح أو أجزاء منه بيدها ثم تمُسِك ببعض الخضروات أو الفاكهة أو تستخدم السكين أو نفس الطاولة لتقطيعها وإعدادها للطعام وذلك لاحتمال انتقال فيروس محتمل الوجود في لحم الدجاج قبل الطهي إلي الفاكهة والخضراوات.. وإنما يجب أن تعد الدجاجة للطهي أولا.. ثم يجب غسل اليدين بالماء والصابون جيدًا وغسل السكين وكل الأواني المستخدمة والطاولة التي يجهز عليها الطعام جيدًا للتأكد من عدم تلوث أي منها بأي فيروس محتمل من لحم الدجاج.. ثم بعد ذلك يتم استخدامها لإعداد أنواع الطعام الأخري.
رحلة الصراع
ما رحلة الصراع الدامي بين فيروس (إنفلونزا الطيور) والجسد الحي للطائر أو الإنسان المصاب؟(1/51)
تبدأ رحلة الصراع بين الفيروس والجسد الحي للطائر أو الإنسان المصاب منذ لحظة انتقال الفيروس من الهواء إلي المجاري الهوائية للضحية والتي تبدأ بفتحتي الأنف ثم الحنجرة ثم القصبة الهوائية في الرئتين.. وذلك علي سبيل المثال بأن يعطس شخص مصاب بالفيروس في مواجهة الضحية فيخرج في كل عطسة واحدة رذاذ يحتوي علي ما يزيد عن المائة ألف فيروس تنطلق كالسهام نحوه.. وتبدأ الرحلة بإنطلاق الفيروسات التي نجحت في الوصول إلي فتحة الأنف مع التيارات الهوائية، أثناء الشهيق تجاه خلايا الجهاز التنفسي وهي الهدف الأساسي لها لتغزوها وتتكاثر فيها.. ويبدأ الجسد بالتصدي للفيروس من خلال خط الدفاع الأول له وهو الإفرازات المخاطية التي تبطن تجاويف الأنف والقصبة الهوائية لتحميها والتي تلتقط الفيروسات المهاجمة فتلتصق بها ثم تطردها خارج الجسد من خلال البلغم الذي يخرج أثناء سعال الضحية.. أما الفيروسات التي تنجو من خط الدفاع الأول فإنها تتجه بأقصي سرعة وقوة إلي الأمام لتحقيق هدفها بالوصول إلي خلايا الجهاز التنفسي وعندما يصل الفيروس إلي تلك الخلايا وكما ذكرنا من قبل يحاول اختراقها واستخدامها في إنتاج كميات ضخمة من نسخته الفيروسية تنطلق خارج الخلية بعد انفجارها لتنتشر في جميع أنحاء الجسد.(1/52)
وهنا يبدأ خط الدفاع الثاني في التصدي للفيروس.. فقبل أن تموت الخلية التنفسية ترسل نداء استغاثة من خلال إشارات كيميائية تسبح في الدم تحذر الجسد من ذلك الغازي الشرس بعد أن انهار خط دفاعها الأول وسقطت فريسة له.. وهنا يبدأ الجسد بالهجوم المضاد مستخدمًا سلاحًا يشبه الدبابات وهو تلك الخلايا العملاقة التي تسمي (بلعميات) والتي تسبح في الدماء بسرعة كبيرة وبأعداد ضخمة تجاه مكان المعركة بين الخلية الحية والفيروس الغازي.. وتهاجم هذه الخلايا العملاقة الفيروس بضراوة وتأخذ في ابتلاع أعداد كبيرة منه للقضاء عليه ولكن بعد فترة ونتيجة لشدة المعركة وضراوتها وتزايد الأعداد الهائلة من الفيروسات التي تتكاثر بسرعة خارقة تفوق قدرة هذه الخلايا علي التصدي لها فإن هذه الخلايا العملاقة تبدأ في الضعف والإنهاك وفقدان القدرة علي الاستمرار في المعركة.. وهنا يحدث ذلك الأمر العجيب والمذهل.. فتنقلب الفريسة إلي مفترس وينقلب المفترس إلي فريسة.. فتتحول تلك الفيروسات التي ابتلعتها الخلية العملاقة إلي وحش يدمر قلبها ويفكك جيناتها الحاملة للصفات الوراثية ثم يبدأ في استخدام مكوناتها لإنتاج أعداد هائلة من نفس نوعه هو وينتهي الأمر بانفجارها وتدميرها تماما كما فعل بالهدف الأصلي له وهو خلايا الجهاز التنفسي التي جاءت تلك (البلعميات) لنجدتها.. ولكن قبل أن تموت الخلية العملاقة فإنها ترسل نداء استغاثة تماما كما فعلت خلايا الجهاز التنفسي من قبل فتأتي أعداد أكبر وأكبر من الخلايا العملاقة لمقاومة ذلك الغازي الشرس الذي يتكاثر بسرعة هائلة ليقضي علي كل الخلايا المدافعة..(1/53)
وبينما تتفرغ أعداد هائلة من الفيروسات للتصدي للخلايا العملاقة والقضاء عليها فإن بقية الفيروسات تسارع بالهجوم علي الهدف الأصلي لها وهو خلايا الجهاز التنفسي فيعمل كل فيروس أو مجموعة من الفيروسات علي الالتصاق بخلية منها ثم اختراقها وتفكيك جيناتها والاندماج معها ثم استخدام مكوناتها لإنتاج أعداد جديدة من الفيروسات تخترق جدار الخلية لتخرج منها وتنطلق إلي بقية أجزاء الجسد المصاب وخاصة الأعضاء الحيوية لتخترقها وتدمرها.
وهناك خط دفاع ثالث للجسم يُسْتَدْعَي للمعركة يشبه القوات الخاصة خفيفة الحركة سريعة القتال وهي خلايا تسبح في الدم تسمي (الخلايا اللمفاوية) وهي نوع من كرات الدم البيضاء .. ولكن للأسف الشديد فإن هذه الخلايا لا تتحرك للمشاركة في المعركة إلا بعد عدة أيام من بدء غزو الفيروس لخلايا الجسد المصاب فلا يعطيها الفيروس الفرصة للمشاركة في المعركة.. لأنها عندما تأتي تكون المعركة قد أوشكت علي الانتهاء.. أو انتهت.. ويكون الجسد المصاب قد أوشك علي الهلاك.. أو هلك.
أسباب الانتشار
فما أسباب ذلك الانتشار السريع للفيروسات بين البشر واتساع رقعة الإصابة بها بشكل غير مسبوق في هذا العصر؟
عندما زحف الإنسان علي الغابات الاستوائية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية فدمر أدغالها وحطم أشجارها ليوفر الأخشاب والأراضي للزراعة وبناء المدن.. كان لذلك أكبر الأثر في انفجار ذلك البركان.. فعندما فعل الإنسان ذلك لم يكن يعرف أن تلك الغابات تحتوي بين جنباتها وداخل ظلماتها علي أعداد كبيرة من الحشرات والزواحف والحيوانات التي تحمل كميات هائلة من الفيروسات لم يعرف عنها الإنسان شيئًا من قبل.. والتي خرجت مع تلك الحيوانات والحشرات والزواحف بعد أن فقدت مأواها وهجرت أوكارها في الغابات وبدأت تغزو تجمعات الإنسان الذي غزاها في عرينها وأوكارها لتصيبه وتدمر حياته.(1/54)
كذلك كان من أسباب ذلك الانتشار السريع للأمراض الفيروسية في العالم ذلك التطور السريع والكبير في وسائل النقل وخاصة النقل بالطائرات والسياحة والرحلات التجارية ونقل الطيور والحيوانات من بلد إلي آخر.
العلاج
هل هناك أدوية لعلاج مرض (إنفلونزا الطيور)؟
ليس هناك علاج لأي نوع من أنواع الإنفلونزا شأنها في ذلك شأن الأمراض الفيروسية الأخري وذلك لأن الفيروس ليس كائنا حيًا يمكن القضاء عليه بالأدوية.. ولكن هناك بعض الأدوية تدخل في ما يسمي (المضادات الفيروسية) يمكنها تخفيف حدة المرض لدي المصابين به وتنحصر هذه الأدوية في دواءين معروفين تجاريًا باسم (تاميفلو) و(ريلينزا) وكان هناك دواءان أخران يفيدان في هذه الإصابات هما (أمانتادين) و(ريمانتادين) ولكن للأسف الشديد فقد أثبتت التحاليل المختبرية للفيروس أنه قد طور مقاومته واكتسب مناعة ضدهما.
فهل هناك أدوية للوقاية من المرض؟
الوقاية من الأمراض علي العموم لا تكون بالأدوية.. وإنما بما يعرف بـ (المصل) و(اللقاح).
المصل: ويتم الحصول عليه بحقن أحد الحيوانات مثل البقر أو الماشية بفيروس تمَّ إضعافه فيقوم جسم الحيوان بتكوين أجسام مضادة لذلك الفيروس تسبح في دم ذلك الحيوان.. بعد ذلك يتم استخلاص ذلك الدم ثم تفصل منه مكوناته وهي كرات الدم الحمراء والبيضاء وصفائح الدم فلا يتبقي إلا سائل أصفر شفاف هو (مصل الدم) تسبح فيه تلك الأجسام المضادة التي تكونت في جسد الحيوان وعندما يحقن الإنسان بهذا المصل فإن الأجسام المضادة تسري في دمه وتكون جاهزة لمقاومة الفيروس علي الفور.
اللقاح: هو نفس الفيروس الذي تم إضعافه.. ولكنه يحقن مباشرة في جسم الإنسان فيحفز جهازه المناعي علي تكوين أجسام مضادة لذلك الفيروس الضعيف وذلك خلال عدة شهور منذ لحظة الحقن.. فإذا أصيب الإنسان بالفيروس الحقيقي المسبب للمرض بعد ذلك كان عنده الأجسام المضادة التي كونها بنفسه لمقاومته.(1/55)
وللأسف الشديد فإنه في الوقت الذي تفيد فيه مثل هذه الأمصال واللقاحات في الوقاية من معظم الأمراض الميكروبية وبعض الأمراض الفيروسية.. إلا أنها لا تفيد في الكثير من الأمراض الفيروسية ومنها (إنفلونزا الطيور) لسببين:
الأول: أن هذه الفيروسات تعدل جيناتها وصفاتها الوراثية وأشكالها بسرعة فلا تصلح معها الأمصال واللقاحات التي أعدت للتصدي لها علي صورتها السابقة.
الثاني: أن استخلاص تلك الأمصال واللقاحات وإنتاجها بكميات مناسبة يتطلب وقتًا لا يقل عن ثلاثة أشهر وقد يزيد عن ستة أشهر.. وهذه فترة كافية لكثير من الفيروسات لتغير شكلها وصفاتها فتفقد تلك الأمصال واللقاحات مقدرتها علي التصدي لها ومقاومتها. كذلك فإن إنتاج الكميات المناسبة والضرورية لمقاومة أي وباء محتمل لهذه الأمراض تتكلف مبالغ باهظة لا تقدر عليها كثير من الدول .
هل يستطيع الفيروس أن يعيش خارج الكائن الحي؟
يستطيع الفيروس أن يعيش خارج الكائن الحي في درجات الحرارة تحت الصفر في السماد الملوث لمدة ثلاثة أشهر وعند درجة الصفر المئوية لمدة ثلاثين يومًا.. أما عند درجة 33 مئوية فإنه يعيش لمدة 4 أيام.. بعد ذلك إذا لم يجد الفيروس خلية حية ليخترقها فإنه يتحلل ويتلاشي.
كيف يتم التخلص من الطيور الميتة أو المصابة بالمرض؟
تجمع الطيور النافقة أو المصابة في أكياس بلاستيك سميكة وتربط جيدًا، وكذلك كل الطيور الموجودة في مكان الإصابة وتعدم ثم تحرق جيدًا ثم تدفن في حفر خاصة لا يقل عمقها عن المتر ونصف المتر في مكان بعيد عن السكان تُفرش بالجير الحي ثم تُغطي الطيور بطبقة أخري منه ثم تُردم حتي سطح الأرض.
ويجب أن تكون هذه الحفر بعيدة عن التجمعات السكانية وبعيدة عن البحار أو الأنهار.. كما يجب ألا يكون مستوي المياه الجوفية في تلك المنطقة قريبًا من سطح الأرض حتي لا تتسلل الفيروسات إلي تلك الأماكن من حفرة الدفن وتعود للإنتشار بين الناس.(1/56)
ما أهم أوبئة الإنفلونزا التي أصابت الإنسان؟
ظهر مرض (إنفلونزا الطيور) لأول مرة عام 1870م علي صورة وباء حيث كان يعرف باسم (طاعون الطيور).. وكان مقتصرًا علي الطيور الداجنة ونفقت فيه الملايين منها.
- خلال القرن العشرين ظهرت ثلاث حوادث لوباء عام بالإنفلونزا بين البشر علي النحو التالي:
> في عام 1918م ظهرت (الإنفلونزا الأسبانية) وتسببت في وفاة ما يقرب من خمسين مليون نسمة في العالم منهم نصف مليون في الولايات المتحدة وحدها.
> في عام 1957م ظهرت (الإنفلونزا الآسيوية) وتسببت في مقتل سبعين ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها.
> في عام 1968م ظهرت (إنفلونزا هونج كونج) وتسببت في مقتل ما يقرب من 34000 شخص في الولايات المتحدة وحدها.
- وفي عام 1997م ظهرت أول إصابة لإنفلونزا الطيور بين البشر في (هونج كونج) حيث كان يعتقد حينها أن (إنفلونزا الطيور) تصيب الطيور فقط وقد أصيب بها ثمانية عشر شخصًا مات منهم ستة وتم عزل الفيروس المسبب للمرض لأول مرة من دم الإنسان.
- وفي عام 1999 م ظهر الوباء بين الطيور في (إيطاليا) بسبب فيروس (H2N1) أو (هـ2 ن1) الذي استطاع خلال تسعة أشهر أن يتسبب في موت وإعدام ما يقرب من 13 مليون طائر.
- منذ بداية عام 2003م وحتي 20 فبراير 2006م أصاب المرض مائة وسبعين شخصًا مات منهم اثنان وتسعون في سبع دول هي (الصين - تايلاند - كمبوديا - أندونيسيا - لاوس - فييتنام - تركيا).
- بعد ذلك توالي ظهور المرض في الكثير من دول العالم مثل العراق ودول أوروبا وروسيا ومصر وفلسطين ونيجيريا والنيجر وغيرها ومازال المرض مستمرًا في الانتشار حتي يومنا هذا.
هل ظهرت حالات إصابة بشرية في مصر؟(1/57)
منذ بداية ظهور المرض في مصر بتاريخ 17 فبراير 2006م ونتيجة للإجراءات الحاسمة والصارمة التي اتبعتها الدولة لمقاومة المرض لم تظهر إصابات بين البشر حتي تاريخ 16 مارس 2006م حيث ظهرت (أول إصابة) بإحدي السيدات في (محافظة القليوبية) انتهت بوفاتها ثم ظهرت بعدها بيومين إصابة أخري بشاب يعمل بإحدي مزارع الدجاج بنفس المحافظة ولكن تم اكتشافها مبكرًا ثم توالي ظهور حالات أخري تباعًا.
وفي الختام: فإننا نُذَكِّر أنفسنا بأن الأخذ بالأسباب واجب شرعي لا ينافي التوكل علي الله فنحن مكلفون بالتداوي وعدم الاستسلام للمرض.. ولكن قبل ذلك يجب آن نُذَكِّرَ أنفسنا أن النفع بيد الله.. وأن الضُرَّ بيد الله.. وأن كل شئ بقدر الله.. وأن البلاء لايرفع إلا بتوبة.. وأن الذين يعتمدون علي الطب وحده في علاج مثل هذه المشكلات دون إرجاعها إلي الله تعالي مُسبَّب الأسباب مثلهم كمثل ابن نوح الذي ظن أن الجبل كفيل بإنجائه وسرعان ما تبين له أنه السراب ويا ليته صدق أباه حين أكد له أنه:(لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(هود: من الآية43).. فلو آمن لنجا.. ولو كفر لغرق.. وإن امتنع بالجبل وبألف جبل!!
سبحانك يا الله
سبحانك ربي سبحانك.. سبحانك ما أعظم شأنك.. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.. (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)(المدثر: من الآية31).
عجبت يارب لذلك الإنسان المغرور.. يعيث في الأرض فسادًا ويدمر البلاد والعباد.. ثم يقف عاجزًا أمام ذلك المخلوق الواهي الضعيف الذي سلطته عليه(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج:73)(1/58)
عجبت يارب لأصحاب السلطان الذين ظنوا أنهم حاميتهم جيوشهم.. وعاصمتهم قلاعهم.. ومانعتهم حصونهم.. ثم يسقطون صرعي ذلك المخلوق الذي لا تمنعه أسوار.. ولا تُعجزه قلاع.. ولا ترده جيوش (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(النساء: من الآية78).
عجبت ياربي لمن تمتلئ قلوبهم بالحقد والكراهية فيرددون الشائعات الكاذبة للإضرار بالبلاد وإدخال الرعب في قلوب العباد.. وهم غافلون عن أن يكون ذلك الفيروس قد اخترق أجسادهم..(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)
عجبت ياربي لأصحاب الغني والثراء ينظرون إلي إخوان لهم قد خسروا كل أموالهم ومصادر رزقهم في ذلك البلاء ثم لايسارعون بتضميد جراحهم ومد يد العون لهم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(المائدة: من الآية2) وعجبت ياربي لمن لا يهتم بحياة وأرواح إخوانه فيلقي بالمخلفات الحاملة لذلك الفيروس في الشوارع والطرقات.. وفي الترع والقنوات، وهو غافل عن أنه قد يقتل بذلك أحب الأحباب وأقرب الأصحاب.
عجبت ربي.. لخلقك.. فسبحانك يا الله .
الإيدز.. طاعون العصر
نشر هذا الملف فى العدد العدد الرابع والعشرين من مجلة التبيان
رجب 1427 هـ / أغسطس 2006م
المقدمة
الإيدز.. طاعون العصر.. ذلك المرض المخادع.. يتحرك بسرعة مرعبة.. يهجم كالثعبان ويلدغ كالحية. كلما حاصره العلماء وهاجمه الأطباء انفلت منهم ثم عاد فظهر لهم بشكل جديد يستعصي علي أدويتهم ويقهر علاجاتهم.. هو أشرس الأمراض.. وأكثرها عنفًا.. وأشدها بطشًا.. وأعظمها قسوة.. هو المرض الذي لا يمكن مقارعته ولا تفيد مقاومته.(1/59)
الإيدز .. هو عقاب الله الدنيوي العاجل لمن يحارب الله ورسوله بفعل الفواحش وانتهاك المحرمات.. بمقارفة الزنا والسحاق واللواط.. وإدمان المخدرات.. حيث يقول سبحانه وتعالي:(وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (الفرقان:69)..
ثم يقول سبحانه وتعالي عن قوم لوط:(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود:83)
وقد تنبأ نبينا المعصوم عليه أفضل الصلوات والتسليم بهذه الكارثة الإنسانية حين قال: "ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم".
فما ذلك المرض؟.. الطاعون كما تنبأ به نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وكما يسميه العلماء في هذا العصر ما سببه؟.. ومن يحمله؟.. وأين يوجد فيه؟.. وكيف يخترق أجساد ضحاياه؟.. وماذا يفعل بهم؟ وما المصير المحتوم لمن يقع بين أنيابه وتحت مخالبه؟.. ذلك ما نحاول بفضل الله تعالي أن نجيب عليه في ذلك الملف.
الإيدز
ما مرض الإيدز؟
مرض (الإيدز) أو (طاعون العصر).. هو أخطر الأمراض المنقولة جنسيًا.. بل يمكن القول أنه من أخطر الأمراض التي عرفتها البشرية علي الإطلاق.. مرض مصدره الشواذ واللوطيون.. يسببه فيروس متناهي في الصغر والضعف يصيب جهاز المناعة في جسم الإنسان ويدمره فيجعله فريسة سهلة للإصابة بالجراثيم والميكروبات والأورام الخبيثة التي تنتهي به إلي الموت المحتوم.
- والاسم الكامل للمرض هو:
(متلازمة نقص المناعة المكتسبة)
أو (Aquired Immune Deficiency Syndrome)
ويختصر إلي (AIDS).
- أما الفيروس المسبب للمرض فيطلق عليه:
(فيروس نقص المناعة البشرية)
أو (Human Immune deficiency Virus)(1/60)
ويختصر إلي (HIV).
وتبدأ الإصابة بالإيدز عندما ينجح ذلك الفيروس في اختراق جسد الإنسان المصاب والوصول إلي مجري الدم حيث يبدأ في مهاجمة وتدمير نوع معين من كرات الدم البيضاء هي الجزء الأساسي في جهاز المناعة أو القوة المقاتلة المخصصة للدفاع عن جسم الإنسان ضد أي هجوم أو غزو من الميكروبات أو الجراثيم أو الفيروسات المختلفة أو الأورام الخبيثة.
وبعد أن يهاجم فيروس الإيدز جهاز المناعة ويدمره يصبح المصاب ضعيفًا ومجرًدا من أي قوة دفاعية تحميه.. ويتحول إلي فريسة سهلة لأنواع خطيرة من الأمراض والأورام الخبيثة التي لا تنتهي إلا بموته والقضاء عليه.
ونحن عندما نسمع عبارة (إنسان مات بالإيدز) فإننا يجب أن نعلم أن الموت لم يكن بسبب فيروس الإيدز وإنما كان نتيجة الأمراض التي أصابته لضعف جسده وتدمير جهازه المناعي.
وكيف اكتشف ذلك المرض؟ ومتي؟(1/61)
اكتشف مرض الإيدز لأول مرة في عام 1981م في (أمريكا) في خمسة مرضي تبين أنهم جميعًا من الشواذ جنسيًا (اللوطيون).. وقد بدأت القصة عندما كان أحد الأطباء في مدينة (نيويورك) بالولايات المتحدة الأمريكية يعالج عدداً من المرضي الشبان فلاحظ أنهم جميعاً يعانون من التهابات رئوية ومعوية مزمنة سببها جراثيم ضعيفة جداً لا تسبب مرضاً للإنسان في حالته الصحية العادية.. كذلك فقد كان هؤلاء المرضي يعانون من التهابات فطرية بالفم والمرئ وحمي مزمنة مع تضخم في الغدد الليمفاوية ونقص شديد في الوزن مع هزال وضعف مستمر.. كما لاحظ أن بعض المرضي مصاب بنوع نادر من سرطان الجلد لا يصيب عادة من هم دون الستين من العمر.. وكان الأمر الغريب واللافت للانتباه أن كل هؤلاء المرضي الشبان كانوا من الشواذ جنسياً (اللوطيون).. ولغرابة الحالات قام ذلك الطبيب بالاتصال ببعض زملائه في عدة ولايات أخري يسألهم عن وجود حالات مماثلة لديهم فكانت المفاجأة هي وجود حالات أخري مشابهة.. وهنا بدأ العلماء يفسرون سبب ذلك المرض.. فكانت أولي النظريات أن السبب هو بعض المواد الكيميائية التي يستخدمها الشواذ لتنشيط الرغبة الجنسية عندهم وتسهيل عملية اللواط.. في حين ركزت نظرية أخري علي أن السبب هو تعرض الشواذ لأنواع عديدة من السوائل المنوية من أطراف متعددة.. وأن هذه السوائل تدخل من خلال خدوش أو جروح وتهتكات في منطقة الشرج إلي الدورة الدموية للمصاب فتؤدي إلي فقدان المناعة.. وأخيراً.. اكتشف العلماء (فيروس الإيدز) المسمي بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) وذلك في عام 1983م علي يد البروفيسور الفرنسي ( لوك مونتنيه).. وفي العام الذي تلاه تم عزل ذلك الفيروس من مرضي الإيدز بالولايات المتحدة علي يد الدكتور (روبرت جالو).(1/62)
وفي نهاية عام 1992م انتشر المرض واكْتُشِف في العالم أجمع حيث أعلنت حوالي 173 دولة عن وجود حالات إيدز بها.. وبنهاية عام 2002م وصل عدد حاملي الفيروس في العالم إلي مايقرب من أربعين مليونًا.. وفي عام 2002م فقط توفي نحو ثلاثة ملايين مريض بالإيدز وأصيب حوالي خمسة ملايين جدد.
وقد اجتمع لذلك الفيروس خصائص عجيبة وصفات غريبة جعلته سيفًا مسلطًا علي الأعناق ورعبًا يحلق فوق الرؤوس وفزعًا وهلعًا يزلزل القلوب ويدمر النفوس.. وعظة وعبرة للمعتبرين.. ومن هذه الخصائص:
1- اختياره العجيب لأهم وأخطر أجهزة الجسم الدفاعية وهو جهاز المناعة ليكون هدفه الذي يدمره وفريسته التي يمزق أشلاءها.. ثم ذلك الضعف الشديد والوهن المريع الذي يؤول إليه مريض الإيدز حين تصبح أضعف الجراثيم قادرة علي القضاء عليه.
2- اختياره للسائل المنوي ليكون وسيلته في الانتشار بين هؤلاء الشواذ الذين يتمردون علي ناموس الحياة وينقلبون علي فطرة الطبيعة.. فيتحول سائلهم المنوي الذي هو مصدر الحياة كما خلقه الله إلي أداة لزرع الموت واستجلاب الدمار.
3- تلك المفارقة العجيبة بين ضعف المفترس وقوة الفريسة.. فالمفترس وهو فيروس الإيدز يعتبر من أصغر الكائنات وأضعفها علي الإطلاق حيث تحتوي الخلية منه علي (عشر وحدات وراثية) فقط بينما الخلية في أصغر أنواع البكتريا تحتوي علي (خمسمائة وحدة وراثية).. أما الفريسة وهو الإنسان فإن الخلية فيه تحتوي علي (خمسين ألف وحدة وراثية).. فسبحان من جعل أضعف وأصغر مخلوق قادرًا علي قتل وتدمير أعظم مخلوق. وصدق ربي في قوله تعالي: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)(المدثر: من الآية31).
4- أن هذا الفيروس له القدرة علي تغيير شفرته الوراثية، مما يمكنه من الهرب من وسائل الجسم الدفاعية، كما أن اختباءه داخل خلايا الدم وعدم وجوده خارجها إلا بأعداد ضئيلة يجعل من الصعب علي الأجسام المضادة مهاجمته والقضاء عليه.(1/63)
وكيف تتم تلك المعركة بين فيروس الإيدز والجهاز المناعي في الجسم؟
إننا لا نستطيع أن نقول إنها معركة!! وإنما إذا أردنا الإنصاف فإننا نقول إنها مذبحة .. وهي مذبحة عجيبة.. فالقاتل فيها لا يكتفي بذبح ضحيته وإنما يمزقها ثم يستخدم اشلاءها في عملية توالد عجيبة ينتج عنها ألوف الفيروسات الجديدة التي تخرج إلي مجري الدم لتعيد مهاجمة الألوف من كرات الدم البيضاء لتفعل بها ما أصاب سابقاتها.. وهلم جرا!!
فكيف تتم تلك المذبحة؟
تبدأالمعركة بين (الفيروس) و(كرات الدم البيضاء) المسئولة عن إعطاء الأوامر لإنتاج الأجسام المضادة له والتي تسمي باسم ((CD4 بعد وصوله إلي الدم مباشرةً حيث يبدأ الفيروس في غزو واختراق تلك الخلايا ليبدأ دورة حياته وتكاثره داخلها.. وترجع خطورة فيروس الإيدز إلي ذكائه الشديد في اختيار الهدف.. فهو يختار الخلية المحورية في جهاز المناعة التي تقود ذلك الجهاز للتصدي للفيروسات ومهاجمتها.. ويتم ذلك علي النحو التالي:
يقوم الفيروس من خلال (زوائد) موجودة علي سطحه بالالتحام بخلية الدم البيضاء من خلال (مُستقبِلات) موجودة علي سطحها.. ثم يبدأ جدارا الفيروس والخلية في الالتحام حتي يصبح الاثنان غلافاً واحداً تنفذ من خلاله محتويات ومكونات الفيروس وأهمها (الجينات) وهي الأجسام التي تحمل الصفات الوراثية للفيروس إلي قلب الخلية البيضاء ليصبح الإثنان خلية واحدة.(1/64)
يبدأ الفيروس في عملية تفكيك (جيناته) وفي نفس الوقت تفكيك (جينات الخلية البيضاء).. ثم يبدأ في دمج جيناته بجيناتها ليعيد صياغتها علي صورته هو.. وبذلك تتحول وظيفة جينات تلك الخلية من إنتاج خلايا جديدة من كرات الدم البيضاء إلي إنتاج نسخ جديدة من الفيروس الغازي لها. وتتحول الخلية إلي معين لا ينضب لصناعة نسخ ذلك الفيروس في نفس الوقت الذي تأخذ فيه الخلية نفسها في التآكل حتي يتم استهلاكها بالكامل فتموت بعد أن تكون قد أنتجت العشرات والمئات والألوف من نسخ الفيروس الوليدة التي تخرج منها لتهاجم خلايا جديدة من كرات الدم البيضاء لتعيد الدورة معها.. وهكذا تأخذ تلك المعادلة الجهنمية في التصاعد.. الفيروس يتكاثر بمئات الألوف والملايين.. وخلايا الدم البيضاء المسئولة عن جهاز المناعة في جسم الإنسان تموت وتتناقص بعشرات ومئات الألوف.. ويظل هذا التناقص حتي يصل عدد كرات الدم البيضاء إلي 200 خلية بدلاً من 1200 خلية في كل سنتيمتر مكعب من الدم فيتحول (مصاب الإيدز) إلي (مريض الإيدز).
وما أسباب ذلك الرعب القاتل من الإصابة بمرض الإيدز؟
هناك عدة أسباب لذلك منها:
1- أن أي شخص من الممكن أن يصاب بذلك المرض حتي ذوو العفة والشرف.
2- أن ذلك المرض لا يوجد له مصل أو لقاح للوقاية منه.. أو علاج لمن يصاب به.
3- أن نهاية ذلك المرض هي الموت الحتمي.
4- أن المصاب بالإيدز يظل علي صورة ظاهرية سليماً لفترة قبل أن تظهر عليه أعراض المرض فيصبح مريضًا بالإيدز.. وطوال هذه الفترة التي قد تمتد لسنين طوال يظل ذلك المصاب يتنقل بين الناس ناشراً الموت بينهم والجميع في غفله عنه.. وقد يكون هو أول الغافلين بحاله.(1/65)
5- أن مريض الإيدز تنقلب حياته رأسًا علي عقب فيعيش بشعور المحكوم عليه بالإعدام في انتظار تنفيذ الحكم بموت لا يعلم متي يأتي.. ملفوظًا من المجتمع.. منبوذًا من الناس.. يعاني الامًا جسدية مبرحة ومعاناة نفسية عنيفة تعصف بروحه وتمزق قلبه وتدمي مشاعره.. وتحرمه من أحب أحبائه وأعز أعزائه.
ولكن أين يوجد فيروس الإيدز في جسد المصاب أو المريض؟
يوجد فيروس الإيدز في أغلب سوائل الجسم المصاب أو المريض بدرجات مختلفة.. ولكن هناك ثلاث سوائل تحتوي علي الفيروس بكميات قادرة علي نقل العدوي إلي الآخرين هي:
1- السوائل الجنسية: وهي السائل المنوي في الذكر.. وإفرازات المهبل في الأنثي.
2- الدم ومشتقاته.
3- لبن الثدي.
فكيف ينتقل الفيروس من الشخص المصاب أو المريض إلي السليم؟
تحدث العدوي نتيجة انتقال الفيروس من الشخص المصاب إلي الشخص السليم من خلال التعرض لأي من هذه السوائل.. ويحدث ذلك من خلال ثلاثة طرق رئيسية هي:
1- الاتصال الجنسي.
2- نقل الدم ومشتقاته.
3- الحمل والولادة والرضاعة.
أولا: الاتصال الجنسي
بداية يجب أن نعرف أنه عندما يتم اتصال جنسي بين طرفين غير مصابين بالإيدز فليس هناك أية فرصة أو احتمال لإصابة أحدهما بالمرض حتي في حالة الشذوذ الجنسي.. ولكن الإصابة تحدث عندما يكون أحد الطرفين حاملاً للفيروس.. فإذا كان الرجل هو المصاب كان الفيروس موجودًا في (السائل المنوي).. وإذا كانت المرأة هي المصابة كان الفيروس موجودًا في (إفرازات المهبل).. وفي هذه الحالة يكون الفيروس قادرًا علي الانتقال من الطرف المصاب إلي الطرف الآخر حتي في جماع طبيعي.
فما العلاقة بين الشذوذ الجنسي والإصابة بالإيدز؟(1/66)
إن الشذوذ الجنسي ليس مُنْشِئَاً للمرض.. بمعني أنه لو كان الطرفان خاليين من الفيروس فلا مجال لإصابة أحدهما بالمرض.. ولكن في حالة إصابة أحدهما بالفيروس فإن الشذوذ يرفع احتمالات إصابة الطرف الآخر إلي نسب ودرجات عالية تكاد تصل إلي حد المؤكدة.
وما السبب في ذلك؟
لمعرفة السبب في ذلك فإنه يجب علينا أن نعرف كيف ينتقل الفيروس من الطرف المصاب إلي الطرف السليم.. وبداية فإننا يجب أن نعلم أن فيروس الإيدز لكي يغزو جسم المصاب لابد له من الوصول إلي مجري دمه عن طريق اختراق جهاز الدورة الدموية أي الأوردة أو الشرايين أو الشعيرات الدموية.. وتوجد هذه الشعيرات الدموية تحت الطبقات السطحية للجلد والأغشية المخاطية المبطنة للفم والمهبل والشرج.. ومعني ذلك أن الفيروس إذا لامس جلدًا أو غشاءًا مخاطياً سليمًا فإنه لا يستطيع أن يخترقه.. ويفسر لنا ذلك عدم انتقال عدوي الإيدز عن طريق مصافحة الشخص المصاب أو ملامسته من خلال التعامل اليومي المعتاد.. ولكن إذا أصيب ذلك الجلد أو الغشاء المخاطي بأي خدوش أو سجحات مهما كانت دقيقة ولا تري بالعين المجردة مع ما يصاحبها من تمزق للشعيرات الدموية.. فإن الباب ينفتح أمام الفيروس لاختراق تلك الشعيرات الممزقة والوصول إلي مجري الدم ليتحول ذلك الإنسان السليم إلي مصاب بالإيدز.. وذلك هو ما يحدث تمامًا أثناء عملية الجماع أو الاتصال الجنسي.. فعند الاتصال الجنسي بين ذكر وأنثي تحدث درجة من الاحتكاك بين الفرجين ينتج عنها تلك الخدوش والسجحات المجهرية للطرفين مع ما يصاحبها من تمزقات وتهتكات بالشعيرات الدموية.. فإذا كان أحدهما حاملاً للفيروس.. اخترق الفيروس تلك الخدوش والسجحات وانتقل من الطرف المصاب إلي دم الطرف السليم.. وعلي قدر شدة هذه الاحتكاكات وعنفها تكون احتمالات وشدة السجحات والخدوش بين الطرفين.. وبالتالي تكون نسبة واحتمال انتقال الفيروس للطرف السليم..(1/67)
وفي أثناء الجماع أو الاتصال الجنسي فإن هناك ثلاثة أمور تتحكم بشكل أو بآخر في معدل انتقال الفيروس من الطرف المصاب إلي الطرف السليم هي:
الأول: أن الاتصال الطبيعي والمشروع يتسم عادة بالاعتدال ويبتعد عن الشدة والعنف مما يؤدي إلي قلة التهتكات والسجحات وتمزق الشعيرات الدموية في الفرجين ومن ثم تقل فرص الفيروس في الانتقال من الطرف المصاب إلي الطرف السليم.
وعلي العكس من ذلك فإنه في حالات الشذوذ واللواط فإن ذلك الاتصال الجنسي يتم عادة بالشدة والعنف لضيق فتحة الشرج مما يؤدي إلي شدة التهتكات والسجحات بما يصل إلي درجة التمزق للأغشية المخاطية فتزداد فرص اختراق الفيروس لها والإصابة بالمرض إلي حد كبير.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالي قد خلق المهبل في الأنثي وهو موطن الجماع الطبيعي مبطنًا بغشاء يتكون من عدة طبقات من الخلايا لحماية الشعيرات الدموية الموجودة تحت هذه الطبقات.. فإذا تمزقت الطبقة السطحية أو طبقتان أو ثلاث من تلك الخلايا كما يحدث في الجماع الطبيعي نتيجة الاحتكاك ظلت هناك طبقات أخري تحمي الشعيرات الدموية من التمزق فتقل احتمالات انتقال الفيروس.
وعلي العكس من ذلك فإن الشرج في الإنسان مبطن بطبقة واحدة من الخلايا.. فإذا تمزقت هذه الطبقة نتيجة للاحتكاك انكشفت الشعيرات الدموية علي الفور وتمزقت وانفتحت أبوابها علي مصراعيها لدخول الفيروس إلي الدورة الدموية.
الثالث: أنه في أثناء الجماع الطبيعي فإن المهبل والغدد الجنسية الملحقة به تقوم بإفراز كميات من السوائل والإفرازات التي تسهل عملية الجماع وتقلل من الاحتكاك فتقلل من احتمالات السجحات والخدوش وتمزق الشعيرات الدموية.
وعلي العكس من ذلك فإنه في حالات الشذوذ والاتصال في الدبر فإنه لا توجد مثل هذه السوائل والإفرازات حيث أن الشرج لا يفرز مثلها.. وبالتالي تزداد شدة الاحتكاك وترتفع نسبة التهتكات والتمزقات في الغشاء المخاطي.
ثانيًا: عن طريق الدم(1/68)
يحدث انتقال الفيروس من الشخص المصاب أو المريض إلي الشخص السليم في الحالات التالية:
1- استخدام محاقن أو (سرنجات) مستخدمة من قبل شخص مصاب بالفيروس كما يحدث أثناء مشاركة الحقن في حالات تعاطي المخدرات بالوريد أو كما يحدث في بعض المناطق الشعبية من استخدام بعض الممرضين والممرضات المحقن الواحد لأكثر من مريض توفيرًا للنفقات.
2- نقل دم ملوث بالفيروس إلي شخص سليم كما يحدث أثناء العمليات الجراحية أو أثناء عمليات الولادة أو الحوادث.
3- عمليات زرع الأعضاء عندما يكون المتبرع بالعضو المنقول مصابًا بالمرض.
4- التعرض لدم ملوث بالفيروس في المجال الطبي مثل أن يتعرض الجراح أثناء إجرائه عملية جراحية لمريض مصاب بالإيدز للوخز بإبرة أو الجرح بالمشرط الجراحي فينتقل الفيروس من دم المريض إلي دمه من خلال ذلك الجرح.
5- تبادل الشباب استعمال شفرات الحلاقة أو المقصات وأحيانًا فرش الأسنان كما يحدث في الرحلات والمعسكرات.
6- بعض الأنشطة الطبية والاجتماعية الأخري مثل خلع الأسنان وثقب الأذن والختان والوشم والحلاقة وغيرها إذا كانت الأدوات المستخدمة في كل منها ملوثة بالفيروس.
ثالثًا: الحمل والولادة والرضاعة الطبيعية
- إذا كانت الأم حاملة للفيروس فإن العدوي من الممكن أن تنتقل منها إلي الجنين علي النحو التالي:
- أثناء الحمل: عن طريق الحبل السري.
- أثناء الولادة: عن طريق اختلاط دم الوليد بإفرازات المهبل أو دم الأم النازف نتيجة الخدوش والرضوض الناتجة عن الاحتكاك في عملية الولادة.
- بعد الولادة: عن طريق رضاعة الطفل من ثدي أمه.
فهل معني ذلك أنه في الحالات التي لا يحدث فيها خدوش أو سجحات بجلد الإنسان أو أغشيته المخاطية فلا خوف من انتقال فيروس الإيدز إليه؟(1/69)
تمامًا.. ولذلك فإن المرض لا ينتقل من المصاب إلي السليم عن طريق الممارسات الحياتية الطبيعية مثل مصافحة المريض أو الحديث معه أو استخدام أدوات الطعام المشتركة مثل الملاعق والأطباق أو الاستخدام المشترك لدورات المياه وحمامات السباحة أو بالتنفس أو العطس والسعال أو عن طريق الحشرات مثل الناموس والذباب.
وما مراحل وأعراض العدوي بفيروس الإيدز؟
يمكن تقسيم العدوي بالفيروس إلي مراحل لايشترط أن توجد أو تتوالي في كل المرضي... وتشمل هذه المراحل: مرحلة المرض الحاد - مرحلة الكمون - مرحلة تضخم الغدد الليمفاوية - مرحلة متلازمة الإيدز - مرحلة مرض الإيدز.
1- مرحلة المرض الحاد: تبدأ بعد اسبوعين من الإصابة بالفيروس حيث يبدأ الجسم في تكوين الأجسام المضادة له.. وتكون الأعراض عامة كالإنفلونزا مثل ارتفاع درجة الحرارة والرعشة وآلام بعضلات الجسم والحلق وسعال وصداع.. وتبقي هذه الأعراض لمدة أسبوع أو أسبوعين ثم تختفي ويعود المصاب إلي حالته الطبيعية.
2- مرحلة الكمون: وتبدأ بعد انتهاء المرض الحاد وتستمر ما بين عدة شهور إلي عدة سنوات قد تصل إلي عشر سنوات ولا توجد فيها أي أعراض.. وطوال هذه المدة يكون المصاب معديًا لغيره خاصة زوجته.
3- مرحلة تضخم الغدد الليمفاوية: تبدأ (الغدد الليمفاوية) في مختلف أجزاء الجسم في التضخم بشكل منتشر ومستديم وتستمر هذه المرحلة لمدة ثلاثة شهور علي الأقل ثم تستقر علي وضعها.
4- مرحلة متلازمة الإيدز: تتطور الحالة إلي صورة تشمل أكثر من واحد من الأعراض التالية: نقص في الوزن لأكثر من 10% -الفتور والتعب والصداع - فقد الشهية وآلام بالبطن وإسهال - الحمي والعرق ليلا- تضخم الطحال وانقطاع الطمث عند النساء.(1/70)
5- مرحلة مرض الإيدز: تصبح الأعراض السابقة أشد وأوضح.. وتبدأ ظهور (الأمراض الانتهازية) التي تسببها ميكروبات ضعيفة لا تستطيع أن تصيب الإنسان في الحالة الصحية العادية.. وكذلك (الأورام السرطانية) التي تفتك بالجسد وتغرقة في الآلام والأوجاع والتي تصيب المريض نتيجة الانهيار الكامل في جهازه المناعي حيث يقل عدد كرات الدم البيضاء من 1200 إلي 200 أو أقل في كل سنتيمتر مكعب من الدم.. ومن أكثر الأمراض الانتهازية شيوعًا في تلك المرحلة نوع من (الالتهاب الرئوي) تسببه جرثومة ضعيفة جدًا لا تستطيع أن تصيب إنسانًا عاديًا يملك جهاز مناعة سليم... ويصيب هذا المرض أكثر من 60% من مرضي الإيدز ويؤدي بأغلبهم إلي الوفاة.
كذلك فإنه في ثلث حالات مرضي الإيدز تقريبًا يصاب المخ بأمراض واضطرابات عصبية تعرف باسم (خرف الإيدز) وتشمل الشلل الرعاش وتباطؤ الحركة ثم يصاب المريض بالخرف المبكر الشديد.. وفي النهاية قد يحدث (الخرس) و(السلس) و(الشلل النصفي) أو الكامل للمريض ثم ينتهي الأمر بالجنون والغيبوبة ثم الموت.
كيف يتم تشخيص الإصابة بالإيدز؟
عندما يصل الفيروس إلي الدم فإن جهاز المناعة يبدأ في انتاج أجسام مضادة خاصة بذلك الفيروس.. في نفس الوقت يبدأ الفيروس في تدمير كرات الدم البيضاء.. لذلك فإن هناك ثلاثة أنواع من الاختبارات المعملية التي تبين وجود الإصابة من عدمها.. ومدي شدتها.. وهي تعتمد علي رصد واحد من تلك العناصر الثلاث: الفيروس.. الأجسام المضادة.. كرات الدم البيضاء.. وهذه الاختبارات هي:
1- اختبار الفيروس: ويجري عادة لمن تأكد إصابتهم به والهدف منه هو رصد وجود الفيروس وقياس سرعة توالده وانتشاره في الدم وهذا الاختبار أقل دقة وأكثر كلفة من الاختبارات التالية. ولكنه يستطيع أن يرصد وجود الفيروس وعدده بالدم منذ اللحظة الأولي للإصابة.(1/71)
2- اختبار الأجسام المضادة: الأجسام المضادة هي نوع من البروتين تنتجه كرات الدم البيضاء عند دخول الفيروس إلي الدم للتصدي له والقضاء عليه.. ويبدأ الجسم في انتاجها خلال فترة تتراوح ما بين أسبوعين إلي شهرين من وقت الإصابة.. ووجود هذه الأجسام في الدم يعني الإصابة بالفيروس.. وهذا الاختبار دقيق بنسبة 99% وقليل التكاليف. ولكنه لا يثبت وجود الفيروس إلا بعد شهرين علي الأقل من بدء الإصابة.
3- اختبار كرات الدم البيضاء: ويقيس مدي التدمير الذي حدث بجهاز المناعة وعدد كرات الدم البيضاء الموجودة بالدم وتلك التي دمرها الفيروس.
ومتي يجب علي المريض إجراء هذه الاختبارات؟
من يعتقد أنه تعرض للإصابة بفيروس الإيدز يجب عليه أن ينتظر شهرين علي الأقل إذا أراد أن يجري اختبار الأجسام المضادة.. وفي هذه الفترة يكون المصاب معديًا للآخرين بالرغم من أن نتيجة الاختبار لا تظهر أجسامًا مضادة في الدم.. لأنها لم تتكون بعد.
- أما إذا كان المريض متعجلاً لمعرفة إصابته بالفيروس من عدمها فيمكن له إجراء اختبار الفيروس.
وماذا يعني أن نتيجة الاختبارات إيجابية؟
إذا كانت نتيجة الاختبارات إيجابيةفإن ذلك يعني الإصابة بالفيروس.. وهذا ليس معناه أن ذلك الشخص حتمًا مريض بالإيدز.. فقد يظل مدة طويلة قد تصل إلي عشر سنوات حاملاً للفيروس دون أن تظهر عليه أعراض المرض ويسمي (مصاب بالإيدز).. وعندما تبدأ أعراض المرض في الظهور يسمي حينئذ (مريض بالإيدز) وهذا لا يحدث إلا عندما يصيب التدمير العدد الأكبر من كرات الدم البيضاء فينخفض عددها إلي 200 فقط أو أقل بدلاً من 1200 في كل سم مكعب من الدم.
إذا كان المريض لا يموت بسبب فيروس الإيدز نفسه وإنما بسبب الأمراض التي تصيبه نتيجة
نقص مناعته فما تلك الأمراض التي تصيبه وتؤدي إلي وفاته؟(1/72)
هناك عدة أمراض تسمي (الأمراض الانتهازية) لأنها تنتهز فرصة انهيار جهاز المناعة في مريض الإيدز لمهاجمته والإجهاز عليه.. ومن هذه الأمراض:
1- السل الرئوي:
يأتي مرض السل علي رأس أسباب وفاة مرضي الإيدز في العالم.. ويتسبب هذا المرض عن نوع من الجراثيم التي يحملها كثير من الناس الأصحاء لكنها لا تصيب إلا قليلاً منهم بالمرض.. أما في مرضي الإيدز فإن احتمالات الإصابة بذلك المرض تزيد بنحو ثلاثين ضعفًا مقارنة بالأفراد الأصحاء.
2- سرطانات جهاز المناعة:
تزداد احتمالات الإصابة بين حاملي فيروس الإيدز بسرطانات جهاز المناعة التي يمكن أن تصيب أي أعضاء في جسد الإنسان بما في ذلك النخاع الشوكي والمخ.. ويمكن أن تؤدي إلي الوفاة في خلال عام واحد من ظهورها.. وقد تظهر تلك الأورام السرطانية في المراحل المبكرة للإصابة بفيروس الإيدز.
3- القرح الخبيثة:
هي مرض شبيه بالسرطان ينتشر بين المصابين بفيروس الإيدز ويسبب قرحًا بالجلد من الممكن أن تصيب الفم أو الغدد الليمفاوية أو الجهاز الهضمي أو الرئتين.. ومن الممكن أن يؤدي إلي الوفاة.
4- الالتهاب الرئوي P.C.P :
هذا النوع من الالتهاب الرئوي لا يصيب إلا المرضي الذين انهارت أجهزتهم المناعية.. ويهاجم ذلك المرض الرئتين في العادة لكنه من الممكن أن يصيب الغدد الليمفاوية أو الطحال أو الكبد أو النخاع العظمي.. وقد كان في السابق يؤدي إلي وفاة أعداد كبيرة من مرضي الإيدز ولكن توجد الآن أدوية وعلاجات تقلل من أخطاره علي المريض.
5- الأمراض المخية الشوكية:(1/73)
يعد حاملوا فيروس الإيدز أكثر عرضة لنوعين من الأمراض التي تصيب الدماغ.. أحدهما تسببه (طفيليات) تعيش في بعض أنواع الحيوانات ويؤدي إلي (قروح بالمخ).. والثاني هو نوع من أنواع (الحمي المخية الشوكية) يسببها نوع من (الفطريات) التي تعيش في التربة.. والحمي المخية الشوكية هي التهاب يصيب أغشية النخاع الشوكي والمخ.. ويمكن أن تؤدي إلي الإصابة بالغيبوبة والوفاة.
6- الفيروس الذي يؤدي للعمي:
ويتسبب ذلك الفيروس في تدمير خلايا الشبكية في العين مما يؤدي إلي فقد البصر.
علاج الإيدز
هل هناك علاج للإيدز؟
حتي الآن ليس هناك علاج قادر علي التصدي لفيروس الإيدز والقضاء عليه.. لكن هناك بعض الأدوية التي تم إنتاجها بغرض الحد من قدرة الفيروس علي التكاثر وإبطاء معدل تدمير خلايا الدم البيضاء وبالتالي تأخير الوصول إلي مرحلة المرض.. وهذه الأدوية لا تعد علاجًا لأنها لا تقتل الفيروس وإنما تعطله فقط.. وهناك أربعة أنواع رئيسية من تلك الأدوية هي:
النوع الأول:
يعمل علي عدم التصاق البروزات الموجودة علي سطح الفيروس بالمستقبلات الموجودة علي سطح الخلية البيضاء وبالتالي يمنع عملية الالتحام بينهما ودخول الفيروس إلي داخل الخلية البيضاء.
النوع الثاني:
يمنع الفيروس من عمل نسخ من جيناته ونقلها إلي جينات الخلية البيضاء..
النوع الثالث:
ويعمل علي منع الفيروس من نسخ جيناته عن طريق تعطيل الإنزيم الذي يتحكم في تلك العملية.
النوع الرابع:
يعطل الإنزيم المسئول عن تجميع مكونات جسيمات الفيروس الجديدة داخل خلايا الدم البيضاء.
وللأسف الشديد فإن هذه الأدوية غير عملية لعدة أسباب منها:
1- أنها مكلفة جدًا ولا يمكن لعامة الناس شراءها حيث تبلغ تكلفة العلاج الشهري للمريض الواحد ما يقرب من ألف دولار أو ما يزيد عن خمسة آلاف جنيه مصري شهريًا.(1/74)
2- يجب أن يستمر المريض في تعاطيها ما بقي له من العمر.. ففي اللحظة التي يتوقف فيها عن العلاج يبدأ الفيروس فورًا في استعادة نشاطه وغزو وتدمير خلايا الدم البيضاء.
3- لها أعراض جانبية بعضها في منتهي الخطورة علي المريض منها: التهاب وتليف البنكرياس وتليف الكبد وفقر الدم وتدمير خلايا الدم الحمراء والبيضاء.
4- أن فيروس الإيدز قادر علي التمحور وتغيير خصائصه ومواصفاته.. وبين كل فترة وأخري تظهر أجيال جديدة منه قادرة علي مقاومة تلك الأدوية.
القضايا الشرعية والاجتماعية
ما القضايا الشرعية والمشاكل الاجتماعية التي نتجت عن انتشار ذلك المرض؟
لاشك أن انتشار مرض الإيدز بين الناس ذلك الانتشار المخيف واجتياحه كل مدن العالم وأقطاره تقريبًا قد نتج عنه قضايا شرعية عديدة ومشاكل اجتماعية كثيرة تتطلب الإجابة عليها وبيان موقف الشرع منها.. ومن هذه القضايا:
1- ما الواجبات والحقوق الشرعية لأحد الزوجين عند إصابة الآخر بالمرض؟. وعلي سبيل المثال عند إصابة الزوج.. هل من حق الزوجة إذا علمت بمرضه طلب الطلاق؟ وما حقوقها؟ وهل من حق الزوج المصاب معاشرتها جنسيًا؟ أو أن من حقها أن ترفض؟ وما الحكم إذا علم الزوج أنه مصاب بالإيدز ثم استمر في معاشرة زوجته جنسيًا دون أن يخبرها بمرضه؟
2- ما حكم من نقل العدوي للآخرين؟ إذا كان متعمدًا؟ أو غير متعمد بتقصير وإهمال؟
3- ما حكم الأم الحامل المصابة بالإيدز مع الجنين؟ وهل يحق لها شرعًا الإجهاض؟
4- ما حكم الأم المصابة بالإيدز في حضانة طفلها السليم وإرضاعه؟
5- ما مدي حق المجتمع في معرفة المصاب بالإيدز؟ وهل يعتبر ذلك حق مشروع للمجتمع ليتجنب المصاب؟.. أو أن ذلك سوف يكون فضحًا مدمرًا للمصاب بالفيروس؟(1/75)
وغيرها.. وغيرها من الأسئلة والقضايا التي تظهر وتتجدد علي الساحة مع كل يوم تزداد فيه قسوة ذلك المرض وقوته واتساع رقعة انتشاره وغزوه للمجتمعات. ونحن هنا نحاول بفضل الله أن نورد الإجابة علي بعض هذه الأسئلة.. والأمر بعد ذلك متروك للعلماء والمتخصصين ليفحصوا ويمحصوا تلك القضايا بكل دقة وتفصيل حتي يبينوا لهذه الأمة كلمة الشارع الحكيم والأحكام الفقهية والشرعية في تلك القضايا:
ج1 - عند إصابة الزوج بالمرض فالواجب الشرعي عليه أن يخبر زوجته وليس من حقه إجبارها علي معاشرته جنسيًا ولها حق الرفض والامتناع.. كما أن من حقها طلب الطلاق للضرر ولها كافة الحقوق.. وينطبق نفس الحكم علي الزوجة إذا كانت هي المصابة بالمرض.
والأفضل والأكرم طبعًا ألا يفعلا ذلك وأن يقبلا الحياة معًا خاصة إذا كان لديهما أطفال ويكتفي بعدم المعاشرة الجنسية حيث أن المخالطة الحياتية لا تنقل المرض.. فإن كان عفيفًا فهذا حقه عليها.. وإن كان غير ذلك فتحت أمامه باب التوبة والتطهر.
أما إذا علم الزوج بمرضه ولم يخبر زوجته عامدًا وتسبب ذلك في انتقال المرض إليها.. فإن ماتت عوقب بالقتل قصاصًا وإن لم تمت عوقب بعقوبة تعزيرية تتفق وفظاعة الجرم الذي ارتكبه.(1/76)
ج2- من تعمد نقل العدوي إلي شخص سليم بغرض قتله.. فإن الحكم يعتمد علي نتيجة نقل العدوي.. فإن مات ذلك الشخص كان جزاء الجاني أن يقتل قصاصًا مصداقًا لقول الله عز وجل: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179) وقوله تعالي( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)(البقرة: من الآية178) وإن لم يمت عوقب الجاني بعقوبة تعزيرية تتفق مع فظاعة الجرم.. أما إذا كان قد تعمد نقل العدوي بقصد إشاعة المرض في المجتمع فهذا الجرم يعد نوعًا من الحرابة تستوجب عقوبتها مصداقًا لقول الله عز وجل: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)
ج3- حكم إجهاض الأم الحامل المصابة بالإيدز: يجب أن نعلم أمرين.. أولا: أن الجنين مخلوق حي منذ بداية الحمل بدليل أنه ينمو يومًا بعد يوم وذلك من خصائص الأحياء.. ثانيًا: أن انتقال عدوي الإيدز من الأم المصابة إلي الجنين ضرر محتمل وليس محققًا.. فلا يجوز إسقاط الجنين إلا بناء علي رأي الطبيب المسلم العدل الذي يري أن الضرر بالجنين متحقق.
ج4- حكم حضانة الأم المصابة بالإيدز لولدها السليم: لما كانت المعايشة الحياتية العادية لا يترتب عليها انتقال العدوي فمن حق الأم حضانة وليدها ولكن يجب عليها أن تكون حريصة في تعاملها وتواصلها معه.. ولكن لما كان هناك احتمال لانتقال العدوي عن طريق الرضاعة فإن الواجب الشرعي عليها ألا ترضعه وتستعيض عن ذلك بمرضعة أو باستخدام الألبان المصنعة التي يصفها الأطباء المتخصصون.(1/77)
ج5- حق المجتمع في معرفة المصاب بالإيدز: وذلك من خلال الفحوص والتحاليل الجبرية.. وفي الحقيقة فإن هذه قضية شائكة.. ومعضلة عويصة.. ومسألة محيرة!! فلهذا الأمر جانبان أحلاهما مرٌ.. (الجانب الإيجابي) فيه فائدة كبيرة ومصلحة عظيمة.. و(الجانب السلبي) فيه فتنة عاصفة وكارثة مدمرة.
فالجانب الإيجابي في معرفة المجتمع بالمصاب بالإيدز هو تجنب كل ما يمكن أن ينقل الإصابة منه إلي الآخرين مثل المعاشرة الجنسية أو نقل الدم أو السماح للأم بالحمل وإرضاع وليدها.. وبذلك يتوقف نظريًا أي احتمال لإصابة جديدة وتنقطع الدائرة الجهنمية لانتشار المرض وتنحصر المشكلة فيمن يحمل الفيروس حاليًا بالفعل.. وهؤلاء يمكن الحرص في التعامل معهم حتي يقضي الله سبحانه وتعالي فيهم أمره.
أما الجانب السلبي فهو تلك الفتنة العاصفة والكارثة المدمرة التي سوف تعصف بالمجتمع عندما ينكشف المستور وتنفضح الخبايا وتهتك الأستار وتنفضح الأسرار.(1/78)
وذلك عندما يكتشف الناس أن هناك العشرات والمئات.. بل ربما الألوف وعشرات الألوف ممن كانوا يُعْتَبرون رموزًا للمجتمع ونماذج للطهر والصلاح هم ممن يحملون تلك اللعنة.. فينقلب المجتمع عليهم.. وينبذهم ويعتزلهم وينفر منهم.. فكيف نتصور زوجة عفيفة تعيش عيشة هادئة مع زوجها وأولادها ثم تُفَاجأ بأن زوجها مريض بالإيدز.. وكيف نتصور رجلاً ذا مكانة وحظوة واحترام في المجتمع ثم نُفَاجأ بأنه مريض بالإيدز.. لاشك أنها سوف تكون صدمات عنيفة تعصف بالمجتمع وتأكل الأخضر واليابس.. ومما سيزيد الصدمة قوة وعنفًا أنه في مجتمعنا حيث المعلومات بين عامة الناس عن المرض غير كافية فإنهم يفترضون للوهلة الأولي أن كل مصاب بالإيدز هو ممن يرتكبون الفاحشة.. حيث لا يعلم الكثيرون أنه قد يكون مريضًا بلا ذنب اقترفه مثل أن يكون المرض قد انتقل إليه من خلال عملية نقل دم ملوث بالفيروس.. أو عند طبيب أسنان تلوثت أدواته بدماء مصاب بالمرض أثناء علاجه.. أو من خلال جرعة دواء أخذها عن طريق محقن (سرنجة) استعملت قبله من مريض آخر مصاب بالإيدز. لاشك أن المجتمع سوف ينقلب رأسًا علي عقب.. وستنهار ألوف البيوت وستدمر ألوف الأسر.. وسيأخذ الناس في الفرار من بعضهم البعض بالحق أو بمجرد الظن.. وستتمزق الروابط الأسرية وتنهار العلاقات الإنسانية وسيتخبط الناس وسيسودهم الرعب والفزع بسبب وبلا سبب.
هناك سؤال لا بد من طرحه.. ما ذنب الضحايا الأبرياء للإيدز؟
لاشك أن هناك ضحايا أبرياء للإيدز علي سبيل المثال:
- الجنين الذي يلتقط الفيروس من أمه أثناء الحمل أو الولادة.
- الزوجة العفيفة التي تُصاب بالعدوي من زوجها العابث.
- المريض العفيف الذي يصاب بالمرض من دم ملوث نقل له أو من عضو ملوث زُرِعَ فيه.(1/79)
والإجابة علي ذلك تتضح في تلك الآية الكريمة البليغة التي يقول فيها ربنا سبحانه وتعالي: {$ّاتَّقٍوا فٌتًنّةْ لاَّ تٍصٌيبّنَّ پَّذٌينّ ظّلّمٍوا مٌنكٍمً خّاصَّةْ} ومعني ذلك أن الفاحشة إذا ظهرت وأُعْلِنَت في المجتمع وانتشرت ولم يتصدي لها أهل الصلاح والتقوي فيعملون علي محاربتها والقضاء عليها في عمل جماعي يشمل تبصير وتجنيد جميع فئات المجتمع للتصدي لها ومحاربتها.. فإن اللعنة سوف تقع وتشمل الجميع.
الوقاية من الإيدز
إذا لم يكن لمرض الإيدز وسائل طبية للوقاية ولا للعلاج فكيف نحارب ذلك المرض القاتل ونتخلص منه؟
لقد عجز الطب عن العلاج.. وعجز عن الوقاية.. وأخذ أعداؤنا يستغلون سذاجتنا بالترويج لاتباع وسائل وقاية هي السم بعينه.. واللعنة بذاتها وذلك باستخدام ما يسمي (الواقي الذكري) ونشر ما يسمي (الثقافة الجنسية) بمفهومها القبيح عند المراهقين والمراهقات.
ويتجسد ذلك في برنامج الأمم المتحدة لمقاومة مرض الإيدز والذي يمكن تلخيصه فيما يلي:
برنامج الأمم المتحدة لمواجهة الإيدز
جاء في برنامج الحملة العالمية لمواجهة الإيدز عام 2000م الذي أصدرته الأمم المتحدة ما يلي: أن هناك عدة طرق للوقاية من الانتقال الجنسي بفيروس الإيدز وتشمل:
? الامتناع Abstinence .
? الإخلاص للشريك (Be Faithful to your Partner)
? استعمال الواقي الذكري (Condom)
ويختصر ذلك بالحروف A. B. C. ويتم ذلك علي النحو التالي:
أولا: الامتناع:
والمقصود به في لغة الأمم المتحدة ليس الامتناع المطلق عن الممارسة الجنسية والتعفف والتمسك بالشرف والفضيلة وإنما المقصود به هو استبدال الممارسة الجنسية بتلك الممارسات المحرمة التي تغني عن الشريك في الفاحشة وذلك مثل (الاستمناء باليد) و(العادة السرية المزدوجة) و(ممارسة الجنس بدون تلامس الأعضاء التناسلية) ثم (ممارسة الجنس الفموي دون قذف بالفم).
ثانيًا: الإخلاص للشريك:(1/80)
وكلمة الشريك؛ في مواثيق الأمم المتحدة لا تعني الشريك الشرعي أي الزوج والزوجة وإنما تعني أي نوع من المعاشرة الجنسية بين إثنين سواء رجل وامرأة ولو بدون رباط شرعي أي بالزنا أو بين رجلين باللواط أو بين امرأتين بالسحاق.
ثالثًا: استعمال الواقي الذكري:
ولقد سارعت الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة المهتمة بشئون الصحة إلي الدعوة إلي توزيع الواقي الذكري علي طلبة المدارس والجامعات والجنود في الجيش والسجون.
الخدعة الشيطانية
إن حديث العالم الغربي اليهودي الصليبي إلي الأمة الإسلامية عن الإيدز وادعاء النصح والتعريف بطرق الوقاية منه يتضمن بين ثناياه خدعة شيطانية أرادوا بها خداع المسلمين السذج الذين يتقبلون كل ما يأتي به الغرب دون روية أو تمحيص.. ثم تلك الأبواق الخبيثة من بني جلدتنا وديننا التي تردد كل ما يقوله أعداء الإسلام كالببغوات إن أحسنا الظن بهم أو كالخونة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين فلعنهم الله..
هذه الخدعة هي ادعاء أن أهم طريق للوقاية من مرض الإيدز ليس هو التعفف والتمسك بأهداب الشرف والفضيلة والاعتصام بطاعة الله سبحانه وتعالي والالتزام بسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.. وإنما ذلك الطريق هو استعمال ما يسمي (الواقي الذكري) عند ممارسة الفاحشة والزني واللواط.. هذه الخدعة لها هدفان خبيثان شيطانيان هما:
1- الهدف الأول:
هو إشاعة الفاحشة وتشجيع الزناة والمنحرفين والشواذ علي الغي في فحشهم وطمأنة عامة الناس من ضعاف النفوس بعدم الخوف من الزنا أو الممارسات الجنسية العابرة.. وزيادة جرأتهم علي عدم اعتبار أن التطهر والتعفف والالتزام بالفضيلة هو الطريق الآمن والوحيد للوقاية من تلك اللعنة.
2- الهدف الثاني:(1/81)
نشر المرض بين المسلمين بأقصي قدر يمكن لهم مع كل ما يتلوه من انتشار للفاحشة ودمار للمجتمعات وخراب للأمم وتفكك في العلاقات الأسرية والإنسانية وانهيار للاقتصاد.. وبمعني آخر انهيار الأمم حتي ينفتح لهم الطريق لتحقيق أحلامهم وتنفيذ مخططاتهم بإقامة دولة إسرائيل الكبري من النيل إلي الفرات لتحكم العالم أجمع.. ولكن أي عالم؟!! إنه ذلك العالم المتفكك المتحلل.. الذي تنتشر الرذيلة بين جنباته ويقوم علي أكتاف الزناة والشواذ والمنحرفين الذين لادين لهم ولا وطن.. ولا يعني هدم المسجد الأقصي لهم كارثة.. ولا بناء اليهود لهيكلهم المزعوم مصيبة.. ولا يمثل احتلال اليهود لأراضي المسلمين من النيل إلي الفرات لهم قضية ولا همًا.. فقد روج اليهود والصليبيون بكل جد واجتهاد لمقولة أن (الواقي الذكري) الذي يستخدمه الرجل عند الجماع هو الحصن الحصين لوقاية الشواذ والزناة والمنحرفين من الإصابة بمرض الإيدز حتي كادت هذه المقولة أن تصبح في عقول الناس حقيقة مؤكدة.. ولم يتوقف عاقل أو أريب ليسأل نفسه.. هل هذه حقيقة علمية؟.. أم خدعة دعائية؟.. والحقيقة أننا عندما توقفنا في هذا الأمر وتقصينا. فوجئنا بحقائق مرعبة تثبت كذب هذا الإدعاء.. وتبرهن علي أن هذا (الواقي الذكري) من الممكن أن يكون هو الأداة الأولي والأخطر لنشر الإيدز وذلك من خلال معرفة المعلومات التالية:
1- أن (الواقي الذكري) شأنه شأن كل ما يصنعه الإنسان من الممكن أن تكون فيه عيوب مثل أن يكون مقطوعًا أو مثقوبًا بشكل لا يري بالعين المجردة فتكون النتيجة أن يتسرب السائل المنوي منه إلي الأنثي أو العكس.
2- أن فتح الواقي بغير الطريقة الموصوفة له أو بطريقة سريعة أو بالأظافر أو الأسنان أو أشياء حادة يؤدي إلي قطعه أو إتلافه.
3- عدم التأكد من تاريخ الصلاحية الذي قد يكون منتهيًا يؤدي إلي عدم الكفاءة في أداء وظيفته مع احتمال انتقال العدوي بين الطرفين.(1/82)
4- بعد الانتهاء من عملية الاتصال الجنسي فإن الرجل يخلع الواقي الذي تلوث بإفرازات المهبل بيديه.. فلو كان فيهما أي خدوش مهما كانت لا تري بالعين المجردة أصيب بالفيروس.
5- صغر حجم الواقي يؤدي إلي تلفه أو قطعه.. وكبر حجمه أكثر من اللازم يؤدي إلي عدم ثبوته وإحكامه. وبالتالي يسيل السائل المنوي منه إلي المهبل أو تتسرب إفرازات المهبل إليه.
6- لاستخدام الواقي الذكري لابد من استخدام المراهم والمزلقات.. والإكثار من هذه المراهم يساعد علي عدم ثبوته مع احتمال انخلاعه أثناء الممارسة.. ومن جانب آخر فإن عدم استخدام تلك المراهم يمكن أن يؤدي إلي تمزقه وإتلافه.
7- انسحاب الذكر بعد إتمام العملية الجنسية قبل التأكد من ثبوت الواقي قد يؤدي إلي انزلاق السائل المنوي داخل المهبل.. كذلك فإنه معروف أن من الأمور الطبيعية أن يحدث انكماش للعضو الذكري للرجل عقب القذف وبالتالي فاحتمال انزلاق الواقي كبير عند الانسحاب.
والجانب الشيطاني في تلك الخدعة ليس ما ذكرناه.. لأن السلبيات في كل ما ينتجه الإنسان أمر قائم .. وإنما هو أن أعداءنا يعملون علي التعمية علينا بعدم ذكرها علي الإطلاق أو الإشارة إليها من قريب أو بعيد مما يمنح المستخدم لذلك الواقي الثقة والطمأنينة في فعاليته الأكيدة وقدرته الكاملة علي الوقاية من العدوي بالإيدز.. فيسدر في غيه جامحًا في فحشه وانحرافه ناشرًا المرض بين الناس أو متلقيه منهم وهو غافل مطمئن حتي يصحوا ذات يوم علي الكارثة وقد حلت به أو بأحب أحبائه أو أعز أعزائه سواء كانت تلك الضحية زوجته العفيفة أو أطفاله الذين أنجبتهم ليكونوا له قرة عين فإذا بهم يصبحون الكابوس الذي يحيل حياته إلي بؤس وجحيم.(1/83)
ثم كانت الفضيحة الكبري التي فضحت أعداءنا ومعهم أبناء جلدتنا من الأبواق التي تروج لمخططاتهم جهلاً وغباءً أو عمدًا بحبهم لشيوع الفاحشة ودمار الأخلاق وانهيار الأوطان.. ذلك هو ما جاء علي شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) علي موقع (CNN) بأن الإدارة الأمريكية تدرس وضع ملصقات تحذيرية في عبوات (الواقي الذكري) تشير إلي أن المنتج لا يضمن حماية مستخدميه من عدوي الأمراض المتنقلة عبر الممارسات الجنسية..
كذلك فإن (دائرة الدواء والغذاء الأمريكية) تقوم بوضع ارشادات جديدة علي ملصقات (الواقي الذكري) التي تُذَكِّر بأن استخدامه بالطريقة الصحيحة تقلل من مخاطر الإصابة بالإيدز والأمراض المنتقلة عبر الممارسات الجنسية!! تقلل فقط.. لكنها لا تحمي ولا تمنع.
وبالإضافة إلي ذلك فقد قرر (البيت الأبيض) مضاعفة الميزانية الفيدرالية للترويج لبرامج تعليمية لإقناع الشباب الأمريكي بأن (الامتناع عن الممارسات الجنسية الخاطئة هو السبيل الوحيد لمنع انتشار ذلك المرض الخبيث).
فيا سبحان الله.. عندما يتعلق الأمر بشبابهم ومواطنيهم لا يملكون معهم إلي الصدق والمصارحة والعمل علي حمايتهم فلا يجدون أمامهم إلي ما دعا إليه دين الإسلام!! فيتقبلونه ويدعون إليه.
أما عندما يتعلق الأمر بشباب المسلمين وأبنائهم فإنهم يعمدون إلي خداعنا والزعم بأن تمسكنا بأصول ديننا تخلف ورجعية وأن إقرار الفاحشة وإعلان الشذوذ تقدم وإنسانية.. وأن استخدام (الواقي الذكري) هو الأسلوب الأمثل للوقاية من العدوي ثم تكون المصيبة الكبري.. عندما ينبري من بين أبناء بلادنا وأوطاننا ومن بين إخواننا وبني جلدتنا من يروج لهم مزاعمهم ويدعو إليها وينتمي لها.
لا وقاية إلا في شرع الله
إذن فكيف تكون الوقاية الأكيدة والحقيقية؟(1/84)
إن الحقيقة الساطعة التي لا يجهلها إلا من قال فيهم ربنا سبحانه وتعالي: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (البقرة:18) هي أن الوسيلة الوحيدة فقط للوقاية من ذلك المرض هي العودة إلي منهج الله والتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويتمثل ذلك فيما يلي:
أولا: التمسك بالعفة والفضيلة في العلاقات الزوجية أو الجنسية مصداقًا لقوله تعالي: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (المؤمنون:5)
ثانيًا: إنكار المنكر والتصدي لأهل الفاحشة من الزناة واللوطيين ومدمني والمخدرات وتجريم تلك الكبائر وتطبيق شرع الله فيمن يرتكبها والضرب بيد من حديد علي يد كل عابث وماجن.
ثالثًا: سد الذرائع المؤدية للفاحشة بمراقبة كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقرؤة وتطهيرها من كل الفواحش وصور التحلل والخلاعة ومناظر العري والفجور والتصدي لكل العادات والأخلاق الوافدة علينا والتي لا تتفق مع شرعنا وديننا.
رابعًا: تربية أبناء المسلمين علي الإلتزام بالآداب والسلوكيات الشرعية التي تغلق الباب تمامًا أمام الإصابة بذلك الطاعون مثل غض البصر لكل من الرجل والمرأة.. والاستئذان عند دخول بيوت الآخرين أو علي الأهل.. وتحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية.. والتزام المرأة باللباس الشرعي والحجاب.. ونهي المرأة عن التبرج والتزين والتعطر للغرباء أو المشي في خلاعة أو الكلام في ليونة وميوعة.(1/85)
خامسًا: التأكيد علي قدسية نظام الأسرة الشرعية بين رجل وامرأة في زواج شرعي وإنجابهم ذرية صالحة يربونها علي عقيدة التوحيد ودين الإسلام.. والتصدي بكل الوسائل وبكل قوة لتلك الأفكار الفاجرة والداعرة للمفهوم الغربي للأسرة الشاذة التي تتكون من اللوطيين أو السحاقيات حيث يتزوج الرجل برجل مثله أو المرأة بامرأة مثلها ثم يقومون بتبني أطفال من الملاجئ جاءوا هم أيضًا عن طريق الزنا والفاحشة.. وللأسف الشديد، فإن العالم يشهد اليوم هجمة شرسة وجهودًا مكثفة من أجل نشر هذه الأفكار المدمرة والدعوة إلي قبول ظاهرة الشذوذ الجنسي في بلادنا والاقرار بحق اللوطيين..والسحاقيات في الإعلان عن فحشهم ونجاستهم بين جنبات مجتمعاتنا.. وللأسف الشديد أيضًا فإن تلك الهجمة الشرسة علي العفة والشرف والفضيلة تبنتها وكَرَّستها بعض المؤتمرات الدولية العملاقة كمؤتمر السكان في القاهرة بلد الأزهر الشريف وعاصمة الإسلام وحاضرة المسلمين عام1994 ثم مؤتمر المرأة في بكين عام 1996م وغيرها.
سادسًا: تسهيل وتيسير سبل الزواج المشروع.. فالزواج هو الوسيلة الوحيدة التي تحقق الإشباع الكامل للإنسان اجتماعيًا ونفسيًا وميدانيًا.
- فالإشباع الاجتماعي يتمثل في إقامة بنيان الأسرة الصحيحة التي هي عماد المجتمع.
- والإشباع النفسي يتمثل فيما يحققه الزواج من سكينة ومودة ورحمة بين الزوجين مصداقًا لقوله تعالي:(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)
والإشباع البدني يتمثل في تلبية تلك الرغبة الجنسية التي ترتبط بتكوين ووظائف الجسد والتي أودعها الله في كل من الزوجين..(1/86)
لذلك يجب علي المجتمع أن ييسر الزواج بتخفيض قيمة المهور وتخفيض سن الزواج وتوفير أماكن للسكن والإقامة وغيرها من السبل التي تيسر علي الشباب ذلك الأمر.
ما مضار الفواحش والفوضي الجنسية؟
هناك عدة أضرار مدمرة علي الفرد والمجتمع نتيجة الشذوذ وانفلات العلاقات الجنسية منها:
1- أن إطلاق العنان والانفلات في ممارسة الرغبات الجنسية وإشباع الغرائز والشهوات لا تؤدي إلا للأضرار الفادحة بصحة الفرد وتدمير كيان الأسرة.
2- الفواحش هي السبب الوحيد تقريبًا للإصابة بالأمراض الجنسية مثل الزهري والسيلان ثم ذلك المرض القاتل (الإيدز).
3- اللواط يزيد علي الزنا بمضار شديدة.. فالفاعل المعتاد علي اللواط تنحرف عنده الميول الجنسية فلا يميل لمعاشرة زوجته علي الفطرة السليمة في موطن الجماع وإنما يقدم علي ممارسة الشذوذ الجنسي معها بإتيانها في الدبر.. أما المفعول به فيتعرض لتوسع الشرج وارتخاء العضلة القابضة للشرج مما يؤدي إلي سلس الغائط فيعيش ليلاً ونهارًا بنجاسته وقذارته ورائحته الكريهة التي ينفر منها الحيوان.. كما أنه يرتكس نفسيًا.. فيصبح من المخنثين.
4- أن شيوع الزنا والتمتع باللذة الجنسية عن طريق الحرام وتيسير الوصول إليها يؤدي إلي عزوف الشباب عن الزواج الشرعي وتهربهم من مسئولية بناء الأسرة التي هي اللبنة الأولي لبناء المجتمع مما يفكك عري المجتمع ويحوله إلي أفراد كالبهائم لا يجمع بينهم أي روابط أسرية أو علاقات إنسانية.
5- إن شيوع الفاحشة والانحراف الجنسي يدمر في الشباب رجولتهم وكرامتهم ويقتل فيهم النخوة والغيرة علي الحرمات ويزرع فيهم الوهن والخور ويربي وينمي فيهم الشعور بالأنانية واللامبالاة فيصبحون ولا هم لهم ولا شاغل إلا ممارسة شذوذهم والتمتع بشهواتهم وانحرافهم ويغيبون عن قضايا أمتهم وهموم أوطانهم ومقدساتهم.(1/87)
6- كذلك فإنه يدمر النساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهم إلي رجال أمثالهم فيقصرون فيما يجب عليهم من إحصانهن.. فتنجرف النساء إلي طريق الانحراف والشذوذ بين بعضهن.. أو يرتمين في أحضان رجال غرباء يلبون لهم حاجاتهن ويشبعون فيهن غرائزهن.. فتشيع الفاحشة في المجتمع ويعم الفساد والانحلال.
فهل تقتصر الخسائر في مرض الإيدز علي الأرواح فقط؟
بالتأكيد لا.. فبالإضافة إلي الخسائر المادية الهائلة الناتجة عن عجز مرضي الإيدز عن أداء أعمالهم في مختلف الأنشطة الاقتصادية من صناعة وزراعة وتجارة والقيام بواجبات وظائفهم في مؤسسات الدولة ومنشآتها فإن تكلفة التعامل مع ذلك المرض علي مستوي العالم تبلغ البلايين من الدولارات التي تنفق عليه سنوياً.
فعلي سبيل المثال بلغت تكلفة الأبحاث والتشخيص والعناية بأول 300 حالة إصابة بالإيدز في أمريكا حوالي 18 مليون دولار.. أي ستين ألف دولار أو ما يزيد عن ثلث مليون جنيه مصري لكل مريض ومع ذلك فقد مات كل هؤلاء المرضي!!
وهذا هو ما يحدث حالياً، حيث يبلغ متوسط تكلفة الرعاية الطبية لمريض الإيدز في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 50 إلي 100 ألف دولار سنوياً.. أما في الدول الفقيرة فإن ثمن الدواء الذي يجب أن يتناوله المريض يقرب من الألف دولار أي ما يزيد عن خمسة آلاف جنيه مصري شهرياً..
فلو علمنا أن قارة أفريقيا التي تضم نحو 10% من عدد سكان العالم تقريبًا يوجد بها نحو 90% من إصابات الإيدز الجديدة التي تظهر في العالم.
ولو علمنا أن في الهند وحدها يوجد حوالي أربعة ملايين مصاب بفيروس الإيدز فلنا أن نتصور حجم المبالغ الهائلة المطلوبة لرعاية هؤلاء المرضي وليس لعلاجهم والتي لا تستطيع دولة مهما بلغت من الثراء أن توفرها لأبنائها المرضي بذلك المرض القاتل.
وما واجبات مريض بالإيدز تجاه المجتمع؟(1/88)
في حالة الإصابة بالإيدز فإن الواجب علي المصاب أن يخبر زوجته إذا كان متزوجًا حتي لا ينقل المرض إليها دون أن تدري.. وإذا أراد فله أن يخبر أقرب المقربين إليه كأبيه وأمه.
ويجب عليه أن يتجنب كل ما يمكن أن ينقل العدوي إلي الآخرين.. فلا يتبرع بدمه علي الإطلاق ولا يطالب زوجته بمعاشرتها جنسياً إذا قبلت أن تعيش معه وإذا اضطر إلي إجراء عملية جراحية إو الذهاب إلي طبيب الأسنان فيجب عليه أن يصارح الجرَّاح أو الطبيب بحقيقة إصابته حتي يأخذ الاحتياطات الواجبة.. وفي المقابل فإنه من الواجب علي هؤلاء الأطباء أن يطلبوا من كل مريض يتعاملون معه إجراء تحليل للإيدز قبل أي تدخل جراحي.. ويجب علي المصاب ألا يستخدم محقناً (سرنجة) يستخدمها الآخرون وألا يشارك غيره استخدام شفرات الحلاقة وفرشاة الأسنان.
كذلك علي الزوجة المصابة إذا قَبِل زوجها البقاء معها بعد علمه بإصابتها ألا تطالبه بالمعاشرة الجنسية.. وإذا كان عندها طفل رضيع فيجب عليها ألا ترضعه، كذلك علي المصاب أن يقلل قدر الإمكان من التعامل اليومي مع الآخرين فيكتفي بالتعاملات الضرورية وأن يحرص علي عدم التعرض للجروح أو الخدوش وأن يداوم علي استخدام المطهرات الشخصية والمنزلية.. كذلك فإنه من الواجب علي الشباب المقبل علي الزواج أن يجري الاختبارات التي تبين أي إصابه بالفيروس حتي يكون الطرف الآخر علي بينة من الأمر.
وما واجبات المجتمع تجاه المريض أو المصاب بالإيدز؟(1/89)
بداية.. فإن أهم واجب علي الدولة تجاه المرضي والمصابين بالإيدز هو أن تنتزع من عقول الناس تلك المفاهيم السلبية والخطيرة عن مرض الإيدز والتي من بينها أن السبب الوحيد للإصابة بذلك المرض هو الشذوذ الجنسي وارتكاب الفاحشة وإدمان المخدرات.. وأن يبين الإعلام للناس أن هناك طرقًا أخري للإصابة بالفيروس لا تمس الشرف والعفة والفضيلة.. وبالتالي فليس كل من أصيب بالفيروس من الشواذ والمنحرفين.. وإنما قد يكون من أهل الشرف والعفاف.. وذلك لأنه ما لم تتغير تلك المفاهيم السلبية عن المرض فسيظل مريض الإيدز يشعر الخزي والعار حتي وإن كان من العفيفين الشرفاء وسيحاول أن يخفي مرضه وأن يستر إصابته بكل ما يستتبعه ذلك من انفلات المرض واحتمال انتشاره بين الآخرين في غفلة منهم عنه.
وبعد ذلك فإن علي الدولة أن توفر للمريض المشافي التي يقيم بها ليحصل علي أكبر قدر من الرعاية الطبية والحماية من الأمراض الانتهازية حيث إن المريض في هذه المرحلة لا يستطيع أن يعيش حياته العادية في بيته وذلك لشدة ضعفه وتكرار إصابته بالأمراض الخطيرة واحتياجه المستمر للأدوية والتحاليل والفحوصات التي لا تتوفر له في بيته.
أما المصاب.. فالواجب علي الدولة أن ترعاه قدر طاقتها من حيث توفير الأدوية المثبطة للفيروس والتحاليل والفحوص الضرورية لمتابعة حالته وتقييمها حتي تقلل من شراسة الفيروس وتطور الإصابة.
كذلك يجب علي المسئولين أن يشرحوا للمصاب طبيعة المرض وأن يبينوا له كل ما من شأنه أن ينقل العدوي منه إلي الآخرين حتي يحذرها ويتجنبها.. وكل ذلك طبعًا في حدود إمكانيات الدولة المادية والمالية.
الخاتمة
تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم
بعد ذلك الاستعراض وفي ختام ذلك الملف.. نريد أن تصل رسالتنا إلي العالم أجمع فنوجه خطابنا إلي فريقين:
الفريق الأول:(1/90)
هم جماعة المسلمين الموحدين بالله المؤمنين بكتابه الكريم وسنة نبيه المطهرة والذين قال فيهم ربنا سبحانه وتعالي: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51) والذين قال فيهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (المؤمنون:5)
فهؤلاء خطابنا لهم مختصر ومفيد.. فنقول لهم إن مقاومة ذلك المرض اللعين لا يكون إلا بطاعة ربكم سبحانه وتعالي في قوله: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)(الأنعام: من الآية151).. فيقولون سمعنا وأطعنا.. فينقطع دابر المرض.. وتنهار سطوته.. وتنتهي سيرته.. ثم نستطرد فنضيف ما يبين حقيقة ذلك الخداع المكشوف ويظهر أهدافه الخبيثة.
لقد انتشر الشذوذ الجنسي في المجتمعات الغربية فوجد الحماية الدستورية والاعتراف والإقرار به في قوانين تلك البلاد التي تدعي زورًا وبهتانًا أنها تحافظ علي حقوق الإنسان وشرفه وكرامته.. فإذا بها تقوده إلي مستنقعات الدنس والنجاسة والرذيلة وإلي مواطن تترفع عنها وتأباها البهائم العجماوات.. كذلك فقد أنشأت تلك البلاد التي تدعي التحضر لهؤلاء الشواذ والمنحرفين اتحادات ونوادٍ وجمعيات يجتمعون فيها ويقيمون الندوات والمؤتمرات التي تدعو لفكرهم وانحرافهم.. وحين يصل المجتمع في سقوطه إلي درجة يقبل فيها الشذوذ والانحراف كبديل للوضع الطبيعي والفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها.. فإن الفوضي البهيمية تحل محل الناموس الكوني.. وتنتكس الفطرة.. وتنغمس في حمأة النجاسة والدنس والرذيلة.. وفي هذا إفساد للرجولة.. وجناية علي حق الأنوثة.. وتدمير وتخريب لروح الأسرة في المجتمع الإنساني الكريم.. وفيه معصية فاجرة وجرأة علي حدود الله ومحارمه وعلي سنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.(1/91)
ثم ها هم يريدون أن ينقلوا إلينا انحرافهم وشذوذهم حتي يشيع في بلادنا فنسقط في مستنقعات الرذيلة.. وهاهم يغزوننا ويحاربوننا بالإعلام الفاجر والماجن ويشيعون بيننا أسباب ومفاهيم الفاحشة والدعارة بادعاء أنها أسباب التطور والتحضر.. وها هم يضغطون علي حكوماتنا بالمؤتمرات الخبيثة والمشبوهة لكي تفرض علينا ذلك الشذوذ والانحراف فرضًا.
فالحذر الحذر يا أمة الإسلامة.. الحذر الحذر يا شباب الإسلام.. الحذر الحذر يا أخوات الإسلام.. تمسكوا بشرع ربكم وسنة نبيكم واعتصموا بأسباب الشرف والعفة والفضيلة تعز بكم أمتكم وتقوي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281)
الفريق الثاني:(1/92)
أما خطابنا للفريق الثاني والمقصود به كل من سوي الفريق الأول من البشر فإننا نقول لهم فيه: تعالوا إلي نقاش عقلاني ومنطقي لن نستشهد لكم فيه بالقرآن ولا بحديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فهذه أدلة لا تقبلونها وبراهين لا تقرونها.. ولن نحدثكم عن الشرف والكرامة والعفة والفضيلة.. ولن نحدثكم عن فطرة الإنسان الطاهرة النقية التي فطر الله الناس عليها.. ولن نحدثكم عن احترام آدمية الإنسان ولا طهارةالأنساب وتقديس الحرمات.. فهذه كلها أمور تنكرونها ولا تعترفون بها.. ولكننا سنتحدث إليكم بالعقل والمنطق.. فتعلنون حجتكم ونعلن حجتنا.. ثم لنري من منا أقوي حجة وأحكم رأيًا وأعلي فكرًا وأقوم منهجًا. وبداية فإننا سنفترض فيكم أنكم لا تحملون لنا حقدًا ولا بغضًا.. ولا تريدون بنا سوءًا ولا شرًا.. وأنكم ما جئتم إلي بلادنا إلا مخلصين في مساعدتنا للوقاية من ذلك المرض اللعين.. وأنكم عندما تجاوزتم كل القيم الكريمة والمبادئ النبيلة وتجاهلتم كل مفاهيم الطهارة والعفة والفضيلة وقبلتم الدنس والشذوذ والانحراف والرذيلة.. ما فعلتم كل ذلك إلا آسفين مضطرين للوقاية من ذلك المرض الخطير.
لذلك فإننا نقول لكم أننا نتفق معكم علي (الهدف) وهو مقاومة مرض الإيدز والعمل علي القضاء عليه.. ولكننا نختلف معكم في (الأسلوب والوسيلة).. وسوف نستعرض معكم وسيلتكم التي تجسدت في برنامج الأمم المتحدة لمقاومة الإيدز الذي ذكرناه آنفًا والذي يتلخص في ثلاثة عناصر هي: الامتناع والإخلاص للشريك والواقي الذكري.. ثم لنري رأينا وترون رأيكم.(1/93)
أولا: الامتناع: إنكم عندما تقولون بالامتناع فإنكم بالطبع لا تقصدون امتناع الأزواج عن الممارسة الجنسية فهذا حق شرعي قائم بينهم.. وإنما تقصدون غير المتزوجين من الرجال والشباب والمراهقين.. كذلك فإنكم لا تقصدون بالطبع ولا تدعونهم إلي الامتناع المطلق عن ممارسة الجنس وإنما تدعونهم إلي استبداله بممارسات تحمل بين طياتها خطر انتقال المرض كما جاء في برنامجكم الذي ذكرناه آنفًا.
ونحن سنناقش اثنين من هذه الممارسات التي جاءت في البرنامج لنري نتائجها.. ونبدأ بـ (العادة السرية المزدوجة) أي بين طرفين.. أخبرونا ماذا تكون نتيجة ذلك إذا كان أحد الطرفين ذكرًا مصابًا بالإيدز فنزل سائله المنوي الملوث بالفيروس علي يد الطرف الآخر وكانت بها جروح أو خدوش أو سجحات لا يراها؟.. أو كانت أنثي مريضة بالإيدز فتلوثت يد الطرف الآخر بإفرازاتها المهبلية الحاملة للفيروس؟ إن النتيجة بالطبع هي انتقال المرض من المصاب إلي السليم.. كذلك فإنكم تقولون في برنامجكم (ممارسة الجنس دون تلامس الأعضاء التناسلية).. فأخبرونا ماذا تكون نتيجة ذلك إذا كان أحد الطرفين ذكرًا مصابًا بالفيروس ثم قذف سائله المنوي علي أي جزء من جسد الطرف الآخر بعيدًا عن العضو التناسلي وكان ذلك الجزء من الجسد مجروحًا أو مصابًا بخدوش أو سجحات سابقة أو أصيب بها نتيجة الاحتكاك الحادث من تلك الممارسة.. لاشك أن النتيجة هي تلوث تلك الخدوش والسجحات بالفيروس وانتقاله من الطرف المصاب إلي الطرف الآخر.(1/94)
ثانيًا: الإخلاص للشريك: إنكم عندما تقولون الشريك فإنكم بالطبع لا تقصدون الشريك في زواج شرعي يقتصر فيه الإنسان في علاقته الجنسية علي شريك واحد طوال عمره في علاقة شرعية بين طرفين نظيفين وخاليين من المرض.. أو علي احتمال قليل جدًا إذا حدث الطلاق مرة أو في النادر مرتين فإن الشريك يستبدل شريكه أيضًا في علاقة شرعية شريفة ونظيفة.. ولكنكم تقصدون الشريك في علاقة محرمة بين رجل وامرأة وهو ما نسميه نحن بالزنا.. أو الشريك بين رجلين في اللواط أو بين امرأتين في السحاق وهما ما نسميهما نحن الشذوذ الجنسي وفي هذا نريد أن نسألكم سؤالاً علميًا عقلانيًا واسألوا فيه إن شئتم الأطباء والمتخصصين في علم النفس.. كيف تطلبون من إنسان انحرفت فطرته عن طبيعة البشر وأصبح لاهم له ولا شاغل إلا إشباع شهوته والتمتع بلذته من أي مصدر وبأي شكل وعلي أي طريقة وبأي ثمن.. كيف تطلبون من ذلك الشخص الإخلاص للشريك؟.. إنه قد يخلص لشريكه فترة من الزمن ليس بمعني ومفهوم الإخلاص علي أنه خلق كريم ومبدأ من المبادئ السامية.. وإنما يخلص له أي يكتفي به لأنه يشبع فيه شهوته ويحقق له لذته.. فإذا حدث وضعفت مقدرة ذلك الشريك علي فعل ذلك هَجَرهَ وتحول عنه سريعًا إلي شريك آخر.. وحتي لو ظل الشريك قادرًا علي أن يشبع فيه شهوته ثم وجد من هو أقدر منه علي فعل ذلك انتقل فورًا إلي الشريك الجديد.. ذلك لأن هؤلاء الشواذ والمنحرفين لا يهمهم إلا شيء واحد فقط هو طلب الشهوة والتمتع باللذة بأي شكل وبأي طريقة ومن أي شخص.. لذلك فإنه وبفرض أنكم تطلبون منه الإخلاص للشريك فإنكم
أولا: غفلتم عن أن هذا الشريك في تلك العلاقة الشاذة وغير الشرعية قد يكون مصابًا بالإيدز فينتقل المرض إليه.(1/95)
وثانيًا: غفلتم عن أن هذا الشاذ قد يخلص لشريك ولكن ذلك الشريك لا يكون مخلصًا وله علاقة بشركاء متعددين في نفس الوقت فينشر المرض بينهم. ثالثًا: إنكم قد غفلتم عن أن هذا الشاذ من الممكن أن يخلص لشريكه أيامًا وأسابيع.. ثم ينتقل لغيره فيخلص له أيضًا أيامًا وأسابيع.. وهكذا ينتقل من شريك إلي شريك فلا يمر عليه العام أو العامان إلا ويكون قد اتصل بعشرات الشركاء.. فإذا كان أحدهم فقط مصابًا بالمرض انتقل منه إلي الباقين.. وفي كل الحالات السابقة كان الشاذ مطيعًا لكم ملتزمًا بنصحكم فأخلص لكل شريك في حينه وفي وقته الخاص به.
ثالثًا: الواقي الذكري: أما تلك الأداة التي توصون الشواذ المنحرفين باستخدامها عند ممارستهم شذوذهم وانحرافهم فأنتم تعترفون بأنها لا تمنع ولكنها تقلل من احتمال الإصابة بالإيدز.. ويقال في أكثر من رأي أن من بين كل عشرة من الشواذ الذين يستعملون الواقي الذكري يصاب واحد منهم بالإيدز.. فبالله عليكم كيف تتخيلون أن يقبل إنسان عاقل أن يمارس فعلاً نسبة الموت فيه عشرة بين كل مائة؟!! وياليته موت عاجل وسريع.. ولكنه موت بطئ يستغرق شهورًا وسنين ويموت فيه المريض في كل يوم مائة مرة.
وفي هذا فقد ذكر أحد المنتقدين لبرنامجكم مثالاً طريفًا ومعبرًا وبليغًا فقال: لو أخذك طيار في طائرته ثم ثبت علي ظهرك مظلة القفز (البراشوت) وطلب منك أن تقفز من الطائرة في الجو ولكنه نبهك محذرًا بأن هناك احتمال واحد في المائة.. واحد في المائة فقط وليس عشرة بالمائة ألا تنفتح المظلة فتسقط ميتًا.. فهل تقبل أنت أو يقبل عاقل أن يقفز تلك القفزة.. قفزة الموت؟!!(1/96)
وفي الختام هذه حجتكم قد فندناها لكم.. وهذه بضاعتكم قد رددناها إليكم.. وأثبتنا أنها تحمل بين كل ثنية من ثناياها المرض والموت والهلاك.. أما حجتنا فهي سهلة وناجحة.. وأكيدة وناجعة.. فإذا لم يتصل الإنسان جنسيًا إلا بإنسان واحد في علاقة شرعية ونظيفة بين طرفين طاهرين.. انعدم المرض.. وقُضي عليه.. وانقطع دابره.
والآن لنا عدة أسئلة نريد منكم أن تجيبوا عليها بشجاعة وإنصاف:
هل حُجَتَنا أقوي وأعلي أو حُجَتَكم؟
ولماذا تريدون منا أن نقبل بأسلوبكم واحتمال الإصابة بالمرض اللعين راسخة في كل ركن من أركانه وأن نتخلي عن أسلوبنا وهو ناجع وأكيد في مقاومته؟!!
ولماذا ذلك الإلحاح الغريب وتلك الضغوط الرهيبة لتفرضوا علينا أسلوبكم القاتل؟ وما مصلحتكم في ذلك؟!!
وإذا كان هدفكم الحقيقي هو مساعدتنا ومعاونتنا في مقاومة ذلك المرض القاتل.. فلماذا لا تساعدوننا وتعاوننا في مقاومة أمراض أخري تعصف بنا هي أشد خطورة من الإيدز وأوسع منه انتشارًا مثل (الفشل الكلوي) و(أمراض السرطان) و(تليف الكبد)؟!!
هكذا نكون قد أثبتنا لكم أن برهانكم ضعيف وحجتكم واهية.. وأسلوبكم فاشل في مقاومة مرض الإيدز.
أما نحن.. فبرهاننا ساطع.. وحجتنا قوية.. وأسلوبنا ناجح في مقاومته وناجع في القضاء عليه..
فلماذا لا تعودون إلي رشدكم.. وتحكمون عقولكم.. وتتبعوا أسلوبنا؟(1/97)
إن مثلنا ومثلكم كاثنين من الأطباء أحدهما (جراح) يمسك مبضعه (مشرطه) بيده والآخر (باطني) يعالج بالعقاقير والأدوية حضرا مريضًا أصيبت قدمه بمرض (الغنغرينا) فماتت أنسجتها وأسود لونها وتعفن لحمها وأخذت الميكروبات والجراثيم تنهشها.. وأخذت السموم تسري منها إلي باقي الجسد فتهدده بالموت والفناء.. فنظر إلي الطبيبين ليختار أيهما يعالج علته.. فإذا اختار (الجراح).. عمد ذلك إلي مبضعه (مشرطه) فعالج القدم بالبتر.. فنجا المريض.. وفاز بحياته.. أما إذا اختار (الباطني).. ظل يعطيه الأدوية والعقاقير التي في قليل من الأحوال ما تفيد وفي معظم الأحوال لا تثمر.. فزاد المرض واستفحلت العلة.. وانتشرت الميكروبات والجراثيم في سائر الجسد وأغرقته بسمومها حتي أوصلته إلي نهايته المحتومة.. الموت والهلاك.
فالجراح يعالج منبع المرض فيبتر العلة من جذورها.. والباطني يعالج التداعيات والمضاعفات فتبقي العلة وتزداد.
فيأيها الوافدون إلي بلادنا تريدون نجدتنا وإنقاذنا.. عودوا إلي بلادكم مشكورين.. فلبلادكم شأنها.. ولبلادنا شأنها.. وأهل مكة أدري بشعابها.. وإن أردتم النصح من المخلصين حقًا.. فالتزموا منهجنا واتبعوا سبيلنا.(1/98)