بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة طلب جماعة من المسلمين المقيمين بإنجلترا أن تسمح لهم السلطات مدارس إسلامية خاصة! وهذا طب عادى، وقد ألفنا فى أرجاء العالم الإسلامى أن يقيم المهاجرون إلى بلادنا مدارس خاصة بهم يتلقون فيها تعاليم دينهم ويتقنون لغتهم إلى جانب المعارف المدنية العامة. إلا أن نفرا من الإنكليز عارضوا الطلب، وضاقوا بإنشاء هذه المدارس قائلين: إنها ستقوم على تفرقة عنصرية بين البنين والبنات! واتهموا الإسلام بأنه متحيز ضد النساء، ومسقط لحقوق المرأة.. "غير أن حزب العمال البريطانى ساند الطلب، وقال المتحدث الرسمى لشئون التعليم بالحزب "مستر جاك سترو " ـ كما ذكرت صحيفة " التايمز" ـ إن الذين يعترضون إقامة هذه المدارس مخطئون، وربما غلبتهم نزعات عنصرية، واتهمهم بأنهم لا يعرفون الإسلام ".. وفى مؤتمر عقد فى لندن حول مستقبل التعليم الإسلامى فى إنجلترا قال مستر جاك سترو: إن معاملة المجتمع الإسلامى للمرأة يجب أن تدرس دراسة عميقة، وأن ينظر فيها إلى الأصول..! لقد سمعت مزاعم كثيرة بأن الإسلام ضد المرأة، ويعتمد أصحاب هذه المزاعم على عدم وجود نساء يشتغلن بالدعوة الدينية، أو يلقين دروسا بالمساجد، وأن الرجال يحتكرون السيادة أو القيادة فى هذا الميدان كما يحتكرونها فى المجال السياسى. قال: وهناك جهل شبه تام بدور المرأة فى "اللاهوت" الإسلامى وفى تاريخ الإسلام
ص _006(1/1)
نفسه!! وعند التأمل نرى وضع المرأة المسلمة أهم من وضع المرأة اليهودية أو النصرانية فى الأيام الماضية.. " ثم إن النبى محمداً أعطى النساء حق الإرث فى كل الممتلكات قبل أن تفعل ذلك الحكومة البريطانية بثلاثة عشر قرنا.. ". الحق أنى شكرت ممثل حزب العمال على دفاعه الحسن! وإن كانت الإذاعة البريطانية قد ردت ذلك إلى التنافس الانتخابى وكسب الأصوات من حزب المحافظين!. وأعود أنا إلى الموضوع نفسه لأتحدث فيه على عجل، فقد تناولته بشىء من التفصيل فى كتاب آخر . الإسلام متهم بإهانة المرأة، واستضعافها..! فهل فى كتاب الله وفى سنة رسوله ما يبعث على التهمة؟؟ القرآن بين أيدينا لم يتغير منه حرف، وهو قاطع فى أن الإنسانية تطير بجناحين، الرجل والمرأة معا وأن انكسار أحد الجناحين يعنى التوقف والهبوط!. فلننظر إلى السنة، ولنستبعد ما التصق بها من الواهيات والمتروكات. إن مصاب الإسلام فى المتحدثين عنه لا فى الأحاديث نفسها. نبينا يوصى بأن تذهب النساء إلى المساجد " تفلات " أى غير متعطرات ولا متبرجات، ولكن "القسطلانى" فى شرحه للبخارى يرى أن تذهب النساء إلى المساجد بثياب المطبخ، وفيها روائح البقول والأطعمة!! وغيره يرى ألا تذهب أبدا، فأى الفريقين شر من صاحبه على الإسلام.؟. وفى البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام أجاز أن يسلم الرجال على النساء، وجاء فيه أن الرسول الكريم قال لعائشة: هذا جبريل يقرأ عليك السلام ـ وكان فى صورة رجل. فجاء من يقول: ذاك عند أمن الفتنة! أو ذاك مع النسوة المحارم أو العجائز أو الدميمات. ص _007(1/2)
ومع ورود سنن بسلام الرجال على النساء أو النساء على الرجال، فقد كان جهد الشراح وقف العمل بها على أى صورة، وكما امتد الزمان زادت هذه الشروح قوة حتى ألغت الأصل المتبع، وأحلّت مكانه التفسير المتشائم المغشوش!. وفى كل عصر توجد نسوة نوابغ متقدمات قارئات فقيهات، يستطعن جعل بيوتهن مساجد عامرة بالخير. "منهن "أم ورقة" التى قال الصنعانى عنها فى الحديث رقم 392: أمرها النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن تؤمّ أهل دارها ". وبعد أن حط عنها الغزو ـ وكانت تريد القتال فى بدر ـ جعل لها مؤذئا يدعو للصلاة. قال الصنعانى: والظاهر أنها كانت تؤمه، وغلامها وجاريتها!. وذهب إلى صحة ذلك أبو ثور والمزنى والطبرى، وخالفت فى ذلك الجماهير.. والذى أميل إليه أن تلك حالة خاصة، إذ كانت المرأة. رضى الله عنها قد جمعت القرآن كله، والرجال وحدهم هم الأقدر والأولى بإمامة المساجد الجامعة.. وأعود إلى التجربة الكبيرة التى سوف يمر المسلمون بها فى إنجلترا وغير إنجلترا بعد أن يبنوا مدارسهم الخاصة! ترى هل سيلزمون الطالبات بالنقاب؟ إذا حدث ذلك فسيكون قضاء على الدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية، ولن يقبل رجل أو امرأة الدخول فى هذا الدين!. إن الأوروبيين يعرفون ملابس الفضيلة فى أزياء الراهبات عندهم وهذه الأزياء أقرب ما تكون إلى الحجاب الشرعى عندنا. وإذا نحن التزمنا بهذا الحجاب أنصفنا ديننا، وأغرينا عشاق الفضيلة بالدخول فيه.!. أما إخفاء الأيدى فى القفازات وإخفاء الوجوه وراء هذه النُقُّب، وجعل المرأة شبحا يمشى فى الطريق معزولا عن الدنيا، فذاك ما لم يأمر به دين . بل ذاك ما يجعل كل التهم التى نفاها عنا حزب العمال ترتدّ إلينا ليظلم بها اليوم والغد.. ص _008(1/3)
وأسأل القائلين بالنقاب: إنكم تعلمون أن مذهبكم رأى لم تجنح إليه كثرة المفسرين والمحدثين والفقهاء، فماذا عليكم لمصلحة الإسلام أن تتركوه ترجيحا لمصلحة أهم وتجنباً لضرر أفدح؟ أعرف الدكتور عمر ناصيف رئيس رابطة العالم الإسلامى إنه من أنضج وأتقى العاملين فى ميدان الدعوة، وأخبر الرجال بالعوائق التى تعترضها. ألا يستطع الرجل الذكى إقناع المراجع الدينية عنده بموقف أرشد؟ ثم تتعاون الجهود بعد إذْ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.؟ فى هذا العصر يوجد فتيان وشيوخ لهم أدمغة مظلمة متحجّرة، يقولون: رأينا وحده! ولا حياة لرأى آخر ولا مكان له، إنهم طراز جديد من الخوارج القدماء!. قصَّ علىّ أحد طلبتى النابهين حوارا وقع بينه وبين متدين شديد الغلو ينتمى ـ كما يصف نفسه ـ إلى الإخوة أهل الحديث، سأله: أأنت ممن يعلقون الصور على الجدران، ويوافقون على نشرها بالصحف؟ قال: نعم! فرد عليه، سيلحقك الوعيد الذى ورد فى الحديث الشريف " أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون" لأنك تشجعهم وتناصرهم !. قال له الطالب: رأْينا أن الحديث فى صانعى التماثيل لا فيمن يرسون على الورق. ولا أريد أن أدخل معك فى جدال وإنما أريد أن أنبهك إلى أن شرائع وشعائر إسلامية كثيرة قد تهدّمت فى هذا العصر، والاتفاق على ضرورة بنائها من جديد ليس موضع نزاع! فتعال أنت ومن معك لنتعاون فى إقامة الصرح المنهار، ولنترك الشجار فى الأمور الخلافية..!. فكان الجواب: ما نضع أيدينا فى أيديكم! وما نثق فى دينكم، بل أنتم وأعداء الإسلام سواء... قلت لصاحبى بعد ما سمعت قصته: إذا كان الرجل مجتهداً مخطئاً أعماه التعصب، فسوف يبصر يوما ما، ويؤوب إلى الحق! إنما أخاف شيئا واحدا، أن يتحوَّل هذا ص _009(1/4)
وزملاؤه إلى جند للباطل من حيث لا يشعرون.. إن لأعداء الإسلام فى بلادنا رجالا مكرة مهرة يوقنون بأن الجبهة إذا تمحّضت لأهل الوعى والفقه فهم منتصرون حتماً! ولذلك يفتحون ألف طريق لأولئك الغلاة حتى يسود صياحهم الساحة الإسلامية. ويتأمل أولو الألباب فيما يقال، ئم يقررون ترك الإسلام كله.. كان التيار الإسلامى فى الجزائر متقدما ناضر المستقبل يوشك أن يغسل الأرض من أدران الاستعمار القديم، الاحتشام حل محلّ التبرج، والإطار الإسلامى أحكم الالتفاف حول التطوُّر الحضارى، وقاده نحو الحرية والخير وسائر حقوق الإنسان!. فإذا صيحات مجنونة تعلو بضرورة النقاب والجلباب والقشور التى يضيع معها اللباب، وكانت النتيجة أن أوجس أولو الألباب خيفة من الإسلام وصحوته، وهم معذورون وتقهقرت الصحوة الإسلامية عقب تلك الفوضى.. وإذا تركنا إفريقية إلى آسيا وجدنا المرض نفسه والنتائج نفسها، فأغلب الأعاجم - وهم جمهرة المسلمين- يتبعون المذهب الحنفى، أو الشافعى، وهؤلاء الذين يتسمَّوْن بأهل الحديث يطيب لهم الطعن فى المذهبين والتوهين للإمامين الكبيرين ومن ثم تقع الفرقة والفتن ولا مستقبل لديننا مع هذه الفوضى العلمية والخلقية.. إننى أنصح هؤلاء الذين يرفعون راية السنة- ولا سنة لديهم- أن يتقوا الله فى أنفسهم وأمتهم.، يجب أن يجمعوا ولا يفرقوا، وأن يمهدوا الطريق لعودة الإسلام بدل أن يضعوا أمامه العقبات!. إن جماعة المسلمين عاشت طوال القرون، وهى تعرف الاختلاف الفقهى. فى هذا الكتاب خواطر منثورة جمعت بين العلم والأدب والنقد والتاريخ والفتوى الغابرة والمعاصرة، لكنها جميعا تتصل بقضايا المرأة والأسرة والمجتمع الصغير!. وقد رأيت أن هذا الأسلوب أدنى إلى مزاج طالب الثقافة قى أمتنا، وأدنى كذلك إلى عرض الإسلام فى ثوب جديد.. قد يكون الفقه المجرد جافاً فلنضعْه فى هذا القالب لعله يكون أحسن مذاقا.. ص _010(1/5)
وهذه الخواطر وجدت طريقها إلى النشر فى طائفة من الصحف، وكان من الخير أن يضمها سفر وجيز، لعل الله ينفع بها ويدعم الحق ويوسع دائرته... محمد الغزالى ص _011
الباب الأول لنفهم الإسلام أولاً ا- مصدر الاعتقاد الحق. 2- حسنوا صورة المرأة المسلمة. 3- رهينة المحبسين: الجهل والفقر. 4- الإسلام يحمى الأسرة. 5- العلماء مسئولون. 6- غرور أصحاب الأديان. 7- لحساب من يتحدثون؟ 8- خطيئة الأصدقاء الجهلة. 9- الدور الغائب للمرأة. 10- المساواة ثابتة فى القرآن. 11- مراعاة الوظائف واجبة. 2 ا- لكى يتطهر المجتمع. 3 ا- خطر القنبلة الجنسية. 4 ا- الإسلام فى بلاد المهجر. 5 ا- حوار مع ماركسى! ص _012(1/6)
مصدر الاعتقاد الحق عندما أتتبع آيات الله في الأنفس والآفاق أرتبط بالواقع وأنأى عن الحيال، وفى هذا الارتباط يستوى عندى الضخم والضئيل! فللكبير جداً عظمته، وللصغير جداً دقته . الواحد الذى على يمينه عشرون صفراً يمثل عدداً هائلاً فى الضخامة فإذا كان هذا الواحد ذو الأصفار العشرين يمثل كسراً عشرياً اعتيادياً كما يقال فى علم الحساب فالأمر بالغ الضآلة. ومن هنا فأنا أتعرف على آيات الله فى عالم الكواكب، كما أتعرف عليها فى عالم الجراثيم، هذه ترى بمنظار مكبر وتلك ترى بمنظار مقرب.. وربما تخيلت ما أراه من آيات بعد مرورى به، كنت فى الجزائر فشاهدت جبلا يشبه حرف الألف، كان صخرة شاهقة يرتد طرفها عن قمتها، وتوهمت كأنه يريد أن ينقض . وبعد ساعة من البعد عنه عادت صورته إلى خيالى فقلت: أما يزال يريد أن ينقض؟ لا، سيبقى كذلك حتى يأذن الله، ويتحقق قوله: "ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا." وكما سبح بى الخيال هنا يسبح بى الخيال وأنا أتصور الألوف المؤلفة من الشموس والنجوم الدوَّارة فى الفضاء البعيد، إنها كشمسنا المألوفة تشرق ! وتغرب ونحن أيقاظ أو رقود، قد تبلغ مليارات من الكواكب تجرى غير متوقفة ولا متعثرة، هى كما وصفها ص _013(1/7)
الله " و النازعات غرقا * و الناشطات نشطا * و السابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا " إنها مسخرة بأمر ربِّها، دوَّارة بإذنه وحده، ويوشك أن يأذن لها بالتوقف والانطفاء متى؟ " يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة ". إن أمجاد الألوهية تذهل العقل، ويزداد الذهول عندما أعلم أن المشرف على هذه السموات الوسيعة مشرف فى الوقت نفسه على حيوانات جرثومية تجتمع المليارات منها فى سنتيمتر، أو مشرف على مليارات الخلايا فى مخ واحد، بين خمسة مليارات مخ بشرى تسكن الأرض!. ذلك عدا كائنات أخرى يقول فيها جل شأنه " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ". إن القوانين التى تنظم الكون من الذرّة إلى المجرة واحدة. فى النهر الذى أتخيله من الشرايين الممتدة فى كل جسم بشرى لا تندّ قطرة واحدة من الدم السارى فى العروق، لا تندّ عن علم الخالق ومشيئته وقدرته وحكمته. فإذا تركت المادة إلى الفكر، تكررت العبرة نفسها، إن تيار الشعور الذى يهتز فى بدنى إدركاً ووجداناً ونزوعاً ـ كما يعبر علم النفس ـ ليس حكرا علىّ وحدى، إنه ينظم الخلائق طرّا.، فكل خاطر يساور نفس بشر، وكل عم يحصِّله، كتبه أو قرأه، سجّله أو لم يسجِّلْه ، ذكره أو نسيه، كل ذلك ينتظم صفحة واحدة أمام رب العالمين، جامعاً بين شتى اللغات وشتى الأزمنة "وكل صغير وكبير مستطر" يستحيل أن يغيب عنه، أو يتم بعيدا عن سمعه وبصره وإحاطته!!. أريد أن أقول للمسلمين: إن قرآنكم هو المصدر الأول للاعتقاد الحق، وإن علوم الكون والحياة هى الشارح الجدير بالتأمل والمتابعة.. وإن العظمة الإلهية تزداد تألقاً فى عصر العلم وإن التقدم العلمى صديق للإيمان، وخصم للإلحاد. ! وأريد أن أحذر المسلمين من منتسبين إلى العلم لا قدم لهم فيه، فليس فرويد أو ص _014(1/8)
دوركايم من العلماء، إنهم مفكرون مرضى ضلّوا السبيل، وليس ماركس وأتباعه علماء، إنهم كُهَّان جُدُد، استبدت بهم علل نفسية، وما كانوا يستطيعون السير لولا الفراغ الذى أتيح لهم من قصور المتدينين وتفريطهم فى جنب الله. ص _015
حسنوا صورة المرأة المسلمة كنت فى ملتقى الفكر الإسلامى عندما تحدَّث السفير الألمانى عن الإسلام وقال للحاضرين يجب أن تصحِّحوا أوضاع المرأة عندكم! فإن صورة المرأة الإسلامية تنفر الأوربيين من الدخول فى الإسلام!!. قال لى أحد المستمعين: ماذا نفعل؟ فقلت له: عندما يعرض التاجر سلعته فيضفى عليها صفات ليست لها فإنه يكون غشاشاً، وعندما يعرضها وهو غير خبير بخواصها ، فتبدو للناس دون مستواها فإنه يكون مغفلا، وسيظلم بضاعته ويجر عليها الكساد!. والرجل ـ بعد ما شرح الله صدره للإسلام ـ يقول للمسلمين: أحسنوا عرض دينكم، ولا تصدوا الآخرين عنه بسوء الفهم وسوء العمل! لنفرض أن رجلا كل رأسماله فى السنة حديث الحاكم فى المستدرك أن المرأة لا تتعلم الكتابة، أو حديث صاحب الزوائد أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل، ثم جاء هذا المسكين ببضاعته المزجاة أو أحاديثه الموضوعة والمتروكة يعرض الإسلام على أهل أوروبا أو أمريكا، هل يدخل فى الإسلام أحد؟ هل يحترم الإسلام رجل أو تحتفي به امرأة؟؟ إن بعض المسلمين يعرضون دينهم مزوَّراً دميم الوجه ثم يذمون الناس لأنهم رفضوه، وعندى أن هذا البعض الجهول يجب سجنه أو جلده لأنه صادُّ عن سبيل الله، فتان عن الحقيقة التى صدع بها صاحب الرسالة الخاتمة عليه الصلاة والسلام.. إن الإسلام سوّى بين الرجل والمرأة فى جملة الحقوق والواجبات، وإذا كانت هناك فروق معدودة فاحتراماً لأصل الفطرة الإنسانية وما ينبنى عليها من تفاوت الوظائف! وإلا ص _016(1/9)
فالأساس قوله تعالى: " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض" وقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". إن هناك تقاليد وضعها الناس ولم يضعها رب الناس دحرجت الوضع الثقافى والاجتماعى للمرأة، واستبقت فى معاملتها ظلمات الجاهلية الأولى، وأبت إعمال التعاليم الإسلامية الجديدة فكانت النتائج أن هبط مستوى التربية ومال ميزان الأمة كلها مع التجهيل المتعمد للمرأة والانتقاص الشديد لحقوقها... قال لى أحد المستمعين غاضباً: أيسرك أن تكون " بنازير بوتو" رئيسة وزراء؟ فقلت ضاحكاً: سألنى مسلم إنكليزي: هل يحاربون "مسز تاتشر" لأنها امرأة تولت الحكم؟ فقلت له: بماذا تجيب هذه المرأة! إذا قالت لك ـ وهى واسعة الثقافة ـ إننى توليت الحكم على مذهب أهل الظاهر فى الفقه الإسلامى!. ثم استتليت: لا تجعلوا بعض الأحكام الفرعية المختلف فيها حجر عثرة أمام عقائد الإسلام وأركانه الكبرى... ص _017(1/10)
رهينة المحبسين الجهل والفقر كنت أتحدث فى أحد الأندية عن حقوق المرأة المسلمة، فقلت: إن لها حق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتدريس هدايات الإسلام ومجادلة الملحدين فيها.. الخ. فإذا شخص يقول لصاحبه: كنا نظن هذا المحاضر رجلا صالحا فتبين أنه ألعن من قاسم أمين !. وتذكرت ما قاله الأستاذ أحمد موسى سالم عن قاسم أمين وعن الدور الذى قام به فى الدفاع عن الإسلام ضد الغزو الثقافى الفرنسى الذى حمى واشتد فى عصره.. بدأ هذأ الغزو بهجوم من المؤرخ "أرنست رينان " على العرب والمسلمين تصدى له جمال الدين الأفغانى فأبطل حجته، وكشف تعصبه، ورد عن الإسلام أباطيله، وبدا الخصم العنيد وكأنه قد لان واستكان لما سمع . ثم أشتبك فى هذا الحوار المخطط الشيخ محمد عبده ليرد على إفك وزير خارجية فرنسا "مسيو هانوتو" الذى طال افتراؤه على الإسلام واتهامه لنبيه- عليه الصلاة والسلام-، فكان كتاب الشيخ محمد عبده عن علاقة العلم بالدين الذى ألفه فى ليلة واحدة قاطعاً للسان الوزير الكذوب. قال الأستاذ أحمد موسى: وكان دور قاسم أمين فى هذا الحوار جاهزا. وكان محوره الأساسى هو المرأة فى الشريعة الإسلامية، وكانت المبارزة التى خاضها مع الخصم الفرنسى الثالث "دوق داركور" الذى أصدر سنة 1893 كتابا عنوانه "مصر والمصريون " تناول فيه حياة المجتمع المصرى أيام الحكم المملوكى والتركى، وهى فترة ص _018(1/11)
بلغت ستة قرون عجاف تراجعت فيها خصائص الحياة عن جمهرة الأمة الإسلامية، مما جعل " دوق داركور " يبسط قلمه بالأذى، ويرسم صورة قاتمة وبذيئة للشعب كله، ويخص المرأة بمزيد من التجريح والزراية.. ويرد ذلك كله إلى طبيعة الإسلام المتأبيّة على الترقى والحضارة..! إ. ماذا فعل قاسم أمين ليدافع عن دينه وأمته؟ سارع إلى تأليف كتاب بالفرنسية فنّد فيه أقوال خصمه، وشرح حقوق المرأة فى الإسلام، وما كفله الدين لها من كرامة مادية وأدبية، ووازن قاسم أمين بين حجاب السترة والاحتشام عندنا وبين تبذل المدنية الحديثة وما أحاطت به أوضاع المرأة من انحلال وتهتك..!. إن ما فعله قاسم أمين كان محكوماً بأمرين أولهما الدفاع عن الإسلام المفهوم من مصدريه الرئيسيين والآخر الاعتذار عن تخفف المرأة بأنه من تقاليد غريبة على التوجيه الإلهى ناشئة عن أخطاء الشعوب !. وما يستطيع الرجل أن يفعل إلا هذا! هب أن أوربياً أو أمريكياً اتهم الإسلام بأنه يحظر على المرأة الذهاب إلى المسجد، وأن الإسلام بهذا الحظر دين شاذ، لأن الأديان كلها لا تمنع النساء من التردد على بيت الله، أو على معبدها الخاص بها.. فماذا أقول له؟ أأصدقه فى اتهامه؟ أم أقول له: إن هذا الحظر ليس من تعاليم الإسلام، وإنما هو من تقاليد بعض البيئات! أدافع عن الإسلام صادقاً؟ أم أدافع عن المنتمين إليه كاذباً؟ لقد رأيت بعض الإسلاميين يفقد وعيه فى الدفاع عن موروثات ما أنزل الله بها من سلطان، كان من السهل عليه أن يكذب الله ورسوله، ولتمس عادات تلقاها عن آبائه..!!. هناك حراس للخطأ يرتفع عويلهم إلى عنان السماء عندما ينتقد هذا الخطأ، وقد كنت أول أمرى قليل الاكتراث بهذا العويل، بيد أنى وجدته يتحول على مر الأيام إلى ضغينة على المصلحين واستباحة لأعراضهم لا يمكن السكوت عليها، لأن الدين نفسه سوف يضار من هذا السكوت، وسوف تتحول حقائقه إلى أباطيل.. ص _019(1/12)
وقد سمعت من يشتم جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا، بل سمعت أطفالاً ينالون من أقدار الأئمة الأعلام، لا لشىء إلا لأنهم أتوا بما لم يعهدوه عن آبائهم الذين لا يقلون عنهم جهلاً.. لقد أدهشنى أن نفراً من المتدينين يتناولوننى بأقسى مما يتناولنى به الصهاينة والصليبيون! وفهمت ما قاله الأستاذ عصام العطار: لو بذل أدعياء الإسلام فى محاربة أعداء الله والمبطلين عشر ما يبذلون فى حرب أولياء الله الصادقين لانتصر الإسلام من زمن بعيد. ولكن من النفوس ما ينشط فى الباطل ما لا ينشط فى الحق، ويندفع لأهوائه ودنياه ما لا يندفع لآخرته ومرضاة ربه عز وجل.. ثم يقول عصام العطار: كم احتقر هؤلاء الذين يعلقون أقذر مطامعهم وأهوائهم على مشاجب المثل العليا". إن هذا الكلام نتيجة معاناة مريرة أحسّها الدعاة الجادّون! إننا ملتزمون بالوحى الأعلى لا نزيغ عنه قيد أنملة، وملتزمون بعصر النبوّة والخلافة الراشدة أما المسيرة التاريخية للأمة الإسلامية فإن التاريخ أعمال حكام ومواقف شعوب، وهذه وتلك ليست مسالك معصومة، بل قد يكتنفها الخطأ كما قد يحفُّها الصواب.. أى أنه يحكم عليها ولا يحتكم إليها، والمقياس المعصوم كتاب الله وسنة نبيه.. وقد رأيت فى أواخر عصر الجاهلية وبدايات عهد الإسلام أن المرأة حضرت بيعة العقبة دون اعتراض، وبايعت على الموت تحت الشجرة، أو على عدم الفرار. وكان مستحيلاً أن يؤذن لها بذلك فى أواخر التاريخ الإسلامى، فماذا يعنى هذا الوضع؟ ولأترك أمر البيعة وشئون المسلمين العليا، إننى عاصرت أوائل عمرى معركة نشبت بعد ما اكتشف أن الدكتور طه حسين أذن لعدد من الطالبات بدخول كلية الآداب، عندما كان عميداً لها… كان موقف الإيمان ـ أو بتعبير أدق ـ موقف المؤمنين أن ذلك لا يجوز، أما الطرف الآخر، والذى سمى بالملاحدة فهو الذى ناصر تعليم المرأة إلى أعلى المستويات!. ص _020(1/13)
أىّ إنصاف للإسلام فى هذه المعركة السخيفة؟ الدين مع الجهل، والإلحاد مع العلم؟ إلى متى نسمح لأناس يكذبون على الأرض والسماء باسم الدين؟ ولقد تحدثت مع المسئولين فى وزارة الشئون الدينية بالجزائر أن تعقد فى المساجد الكبرى حلقات وعظ وإرشاد وتربية للنساء خاصة فى أوقات مختارة يقوم بالتدريس فيها خريجات الجامعة الإسلامية! ولا أدرى أننجح فى هذا المسعى أم يتغلب المتفيهقون الجهال الذين يتصايحون بين الحين والحين بأن صوت المرأة عورة..! إن هؤلاء المتصايحين لا تتمعر وجوههم لبعثات التبشير التى تنجح فيها الراهبات المسيحيات فى بلوغ أهدافهن!. إنهم مشغولون بشيء واحد، جعل المرأة رهينة محبسين من الجهل والقهر... وجعل الأمة كلها تترنح تحت وطأة التخلف الثقافى والسياسى فى عصر الذرّة والفضاء. ص _021(1/14)
الإسلام يحمى الأسرة شكا المعنيون بسلامة المجتمع فى إنجلترا من تفاحش نسبة الطلاق فقد بلغت نحو 33% كما بلغ الأطفال الذين يفقدون رعاية الأبوين معا 40% وزادت قضايا طلب الحضانة زيادة كبيرة، الأب يريد الانفراد بأولاده، والأم تريد بعد الطلاق أن يحرم منهم، ومستقبل هذا الجيل التعيس ضائع فى لجة هذه الخصومات.. والطلاق شىء بغيض! لاسيما بعد أن يتحول الزوجان إلى والدين فإن ضرر الانفصال يتجاوزهما إلى غيرهما من الأبرياء! وأرى أن الوقاية خير من العلاج، وأن استدامة الحياة الزوجية أولى من تعريضها للانقطاع ثم مواجهة الآثار السيئة للطلاق.. وهذه الاستدامة لا تتوافر إلا مع الإيمان الحق والإخلاص الطاهر واكتفاء الرجل بزوجته التى يسَّرها القدر له، وكذلك رضاء المرأة بزوجها وحياطتها له... وهذه هى العناصر المستفادة من قوله تعالى فى صفة عباد الرحمن: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ... " إن استقرار العين على شريك الحياة أو على شريكة الحياة أمر مهم بل هو ركن فى بقاء البيت... فهل تقاليد الحضارة الحديثة تحقق هذه الضمانات؟ الإجابة البعيدة عن التعمية والنفاق: لا..! بل إن هذه الضمانات تذوب وتستخفى فى المراقص المائجة بذكور وإناث يحتضن أحدهما الآخر، ويتواثبان فى دائرة مغلقة يتنفس فيها الحيوان الرابض فى دمها خصوصاً عندما تكون المرأة فى ملابس السهرة، شبه عارية! إذا كان هذا لا يهدم علاقة المرأة بزوجها للفور فهو زلزال يسقطها بعد حين! ثم هناك ص _022(1/15)
الاختلاط المطلق الذى أُبعِد الوحى الإلهى عن ضبط أمكنته وأزمنته، واستعدت النساء له بفنون شتى من الزينة والتبرج! هل يُبقى هذا الاختلاط على كرامة الأسرة أو استقرارها؟ كلا… إن الإسلام بتعاليمه الدقيقة يحفظ حاضر الأسرة ومستقبلها، ويبعد شبح الطلاق المرعب عنها! لكن الطلاق أخذ يشيع فى مجتمعات إسلامية كثيرة لأن انحلال المدنية الغربية تسلّل إلينا، وشرعت جراثيمه تدق بعنف الأبواب المغلقة.. والنجاح الذى صادف الحضارة الغازية يعود إلى ضعف المقاومة وإلى غباء المدافعين! إننى عاصرت الأيام التى أدخل فيها طه حسين الفتيات فى الجامعة! لقد كان التيار الدينى يرى ذلك حراماُ!! بل إن تعليم البنات فى مدارس خاصة بدأ بعد الاحتلال البريطانى لمصر، فإن التقاليد السائدة كانت تفرض الأمية على النساء باسم الإسلام!!. ومع غزو المرأة للفضاء فى العصر الحديث فإن أناساُ عندنا يقاتلون دون أن تصلى المرأة فى المسجد! يقولون بيتها أولى بها. ويوم تتقرر هذه المواقف فى الأرض الإسلامية فإن مجون الحضارة المنتصرة لن يجد أمامه عائقاً أبداً. ص _023(1/16)
العلماء مسئولون عندما تتعارض الأدلة وتكثر مذاهب المجتهدين أعطى نفسى حق الاختيار فى الفتوى، فقد أوثر دليلا على آخر، وقد اختار ما هو أرفق بالناس؟ وأيسر فى علاج المشكلة التى أواجهها.. سئلت أخيراً عن امرأة فقدت زوجها بغتة وغلب عليها الجزع، حتى خشى أهلها عليها، فرأوا أن يذهبوا بها إلى البيت الحرام لعل العمرة تدعم إيمانها وتعينها على الصبر!. قلت الأولى أن تقضى عدة الوفاة فى بيتها! قالوا: نخشى على صحتها وعقلها!. فترويت فى الموضوع، ثم أفتيت بمذهب عائشة رضى الله عنها، وهى ترى أن الله جعل العدة زماناً لا مكاناً، قال الشيخ سيد سابق مؤلف "فقه السنة": كانت عائشة تفتى المتوفى عنها زوجها بالخروج فى عدتها، وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلى مكة فى عمرة.. وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قال: إنما قال الله عز وجل تعتدّ أربعة أشهر وعشرا، ولم يقل تعتدّ فى بيتها، فتعتدّ حيث شاءت.. وهناك من يرون ضرورة بقاء المعتدة فى بيتها، تقضى فيه ليلها، ولها أن تخرج نهاراً إلى عملها إن كانت موظفة مثلاً، مع ضرورة الحداد، والامتناع التام عن الزينة. والخطب سهل فى أمثال هذه القضية، لكن غضبى يشتد عندما أرى كلاما يخدش كرامة الإسلام وينال من رسالته! فقد سألنى أحد القراء عن حكم قرأه فى مصدر إسلامى مهم، أن عمر منع النساء من تعلم الخط، وكأنه يرى الأمية أولى بهن! فأجبت ص _024(1/17)
ساخراً: ولم تكون الأمية حكراً عليهن وحدهن؟ ينبغى أن تشمل الزوجين الذكر والأنثى تمشياً مع الفهم الأعوج لحديث "نحن أمة أمية"!! . يا صديقى إن الحديث الذى يمنع النساء من تعلّم الكتابة مكذوب، وكل خبر يهوِّن من شأن العلم بما فى الأرض والسماء لا يوثق به، وقد ورد وصف الأمية فى الكتاب والسنة للعرب الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسم- على أنه واقع معروف عالميا ومحليا، وهذا الواقع زال مع نزول القرآن الكريم، وانهمار غيوث من المعارف مع آياته البينات " ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير "، " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ". وعلى الرجال والنساء أن يزدادوا علماً، وألاّ يشبعوا من فنون الثفافات التى تتاح لهم... إن المرويات التى تنقل إلينا تحتاج إلى تمحيص، بل إن الإمام من الفقهاء الكبار قد يروى الخبر ولا ينزل عليه، لأن هناك ما هو أقوى منه وأولى بالاتباع... ولأضرب مثلاً بالإمام الورع الصلب الزاهد أحمد بن حنبل ومسنده الجامع المعروف، إن الإمام الكبير ترك أحاديث رواها فى مسنده فم يأخذ بها!! قال ابن الجوزى فى كتابه "صيد الخاطر": كان قد سألنى بعض أصحاب الحديث، هل فى مسند أحمد ما ليس بصحيح: فقلت: نعم. فعظم ذلك على جماعة يُنسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت الفكر فيهم، وإذا بهم قد كتبوا فتاوى خاصة فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلا الهمدانى يعظمون هذا القول، ويردونه ويقبحون قول من قاله. فبقيتُ دهشاً متعجباً، وقلت فى نفسى: واعجبا ! صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً! وما ذاك إلا لأنهم جمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد، وليس كذلك، فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد ص _025(1/18)
والرديء، ثم هو قد رد كثيراً مما روى، ولم يقل به، ولم يجعله مذهباً له، أليس هو القائل فى حديث الوضوء بالنبيذ: مجهول ! ومن نظر فى كتاب العلل الذى صنفه أبو بكر الحلال رأى أحاديث كثيرة كلها فى المسند، وقد طعن فيها أحمد. ونقلت من خط القاضى أبى يعلى محمد بن الحسين الفراء فى مسألة النبيذ قال: إنما روى أحمد فى مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم. ويدل على ذلك ما جاء عن ابنه عبد الله قال: قلت لأبى: ما يقول فى حديث ربعى بن حراس عن حذيفة؟ قال: الذى يرويه عبد العزيز بن أبى رواد؟ قلت: نعم. قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته فى المسند...!. قال: قصدت فى المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندى لم أورد من هذا المسند إلا الشىء بعد الشىء اليسير، ولكنك يا بنى تعرف طريقتى فى الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن فى الباب شىء يدفعه. قال القاضى: وقد أخبر عن نفسه كيف طريقه فى المسند، فمن جعله أصلاً للصحة فقد خالفه وترك مقصده. قلت: قد غمَّنى فى هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم فى العلم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روى. والبكاء ينبغى أن يكون على خساسة الهمم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. ذاك ما يقوله ابن الجوزى الفقيه الحنبلى فى تقييمه لأحاديث المسند ولكن هناك ناس يصدق فيهم المثل "ملكيون أكثر من الملك"!! ص _026(1/19)
غرور أصحاب الأديان أفسد شىء للأديان غرور أصحابها، يحسب أحدهم أن انتماءه المجرد لدين ما قد ملَّكه مفاتيح السماء، وجعله الوارث الأوحد للجنة! لماذا؟ هل كبح أهواءه؟.هل أمات جشعه؟ هل جنَّد ملكاته للتسبيح بحمد الله والاهتمام بآلام الناس؟ لم يفعل شيئا من ذلك، كل ما يملأ أقطار نفسه أن له بالله علاقة مزعومة، لا يعرف لها وزن... ومن ثم فإن صاحب هذا التدين يتوسل إلى أغراضه بما يتاح له من أسباب، بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية، وقد كان بنو إسرائيل قديماً مهرة فى ارتياد هذه المسالك المعوجة... ولكى يسيغوها لأنفسهم زعموا أن نبى الله يعقوب اختطف منصب النبوة من أخيه عيصو! ولجأ إلى المخادعة والغش وأشياء أخرى!. كيف؟ إنه فى رأى نفسه أولى، فلا حرج من الشطارة ليبلغ ما يريد، ولا حرج على أبنائه أن يقلدوا أباهم فيما حكوه عنه، أو فيما نسبوه إليه!. وزعم بنو إسرائيل أن إبراهيم طلب النجاة بنفسه عن طريق تعريض زوجته لأحد الفتاك من جبابرة الأرض، وساورته الرغبة فى بعض المغانم، التى ظفر بها أخيرا. والواقع أن المجتمع اليهودى ـ قبل بعثة المسيح ـ طفح بالآثام، وأن بيت المقدس شهد مآس للشرف ومصارع للشرفاء على أيام السيادة اليهودية الأولى.. ص _027(1/20)
وفى جبل الزيتون الواقع شرقى بيت المقدس وقف السيد المسيح يبعث صيحاته الواحدة تلو الأخرى، منذراً جموع اليهود بقوله: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا... هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً... ونقرأ هذا الحوار فى إنجيل يوحنا: قال اليهود للمسيح: أبونا هو إبراهيم. قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم.. ولكنكم تطلبون قتلى! وهذا ليس عمل إبراهيم! أنتم من أب آخر هو إبليس". وفى موقف آخر كشف المسيح عن طبيعة التدين الكاذب لدى القوم فقال لهم مصارحا: لقد جعلتم بيت الله مغارة لصوص؟؟ إن الدين ـ كما نزل من عند الله، وكما تجسَّد فى سير الدعاة ـ أعمال صالحة وأخلاق زاكية وأحكام عادلة، ورعاة يتقون الله فى الشعوب، وشعوب تتواصى بالصبر والمرحمة، وتقيم تقاليدها على البر والمواساة.. والغريب أن القرآن الكريم حذر أهل الكتاب جميعاً، المسلمين والنصارى واليهود من تجاهل فحوى الدين والتعلق بمراسمه، فقال سبحانه وتعالى: " ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ". فهل يعى ذلك الأحبار الكبار والكرادلة الذين يظاهرون اليهود على عرب فلسطين البائسين؟. وهل يعى ذلك مسلمون تائهون عموا عن رسالتهم، فلم ينصفوها فى فقه ولا فى خلق. وهل ننتظر حتى يتحول اليهودى التائه إلى العربى التائه. ص _028(1/21)
لحساب من يتحدثون؟ هناك سباق قائم بين عدة أديان كى يثبت كل منها أنه أولى بالحياة وأجدر بالبقاء! والغريب أن بعض المنتمين إلى الإسلام يجهل هذا الواقع ويرتكب حماقات تسئ إلى دينه بل تنفر منه وتصدُّ عنه! ولعله مطمئن ـ من الناحية النفسية ـ إلى صدق عقائده وسلامة تعاليمه، فعلى الناس أن يؤمنوا به إذا شاءوا أو يذهبوا إلى حيث ألقت !. وهذا جهل وطيش، فإن السلعة النفيسة قد تكسد بسوء العرض وقصور الإعلان وتسبقها سلع أخرى أحسن أصحابها الدعاية لها واجتذاب الأبصار إليها.. والحضارة المعاصرة جعلت الإنسانية شعاراً لها، وجعلت من حقوق الإنسان محوراً للعلاقات الدولية، ونوهت بقيمة العدالة الاجتماعية والمستويات الصحية والثقافية العالية.. وقد تكون هذه الحضارة غاشة أو مدعية أو مقصرة فإن هذه التهم لا تمحو ما تواضعت عليه المحافل العالمية واتفقت على احترامه.. فلحساب من يتحدث بعض الناس عن الإسلام ويصورونه بعيداً عن مقررات الفطرة. وأشواق الإنسانية الكاملة؟ ولحساب من يعلو صوت الإسلام فى قضايا هامشية ويخفت خفوتا منكرا فى قضايا أساسية؟ ولحساب من يرى بعضهم الرأى من الآراء، أو يحترم تقليداً من التقاليد ثم يزعم أن ص _029(1/22)
الإسلام الواسع هو رأيه الضيق، وأن تقاليد بيئته هى توجيهات الوحى، وبقايا التعاليم السماوية على الأرض؟ قلت لنفر من أولئك المتحدثين: إن وجه الإسلام جميل ولكنه من خلال كلماتكم يبدو دميماً متجهماً، وإنه لمن حسن العبادة أن تسكتوا فلا يسمع لكم صوت! إن أى كلام يفيد منه الاستبداد السياسى، أو التظالم الاجتماعى أو العطن الثقافى أو التخلف الحضارى لا يمكن أن يكون ديناً، إنه مرض نفسى أو فكرى والإسلام صحة نفسية وعقلية.. كنت أناقش رجلاً كندياً يسائلنى بضيق عن موقف الإسلام من المرأة، فجاء فى حوارى، المرأة حرة فى اختيار زوجها، ولا يمكن إكراهها على قبول من تكره، ولها أن تباشر عقدها أو توكل فيه كما تشاء... وكان هناك من يرقبنا وهو ساخط وحمدت الله أنه لاذ بالصمت! فلما انتهى الحوار اقترب منى المعترض المؤدب قائلاً: لا يجوز أن تباشر المرأة عقدها، بل الدين ضد هذا !. قلت له: رأيك ضد هذا، قلدت فيه بعض المذاهب الفقهية، ورجحت أنا وجهة النظر الأخرى، واعتقدت أنها أقرب إلى عقول الأوروبيين والأمريكيين، والعمل عليها يجرى فى أقطار إسلامية محترمة، ومن مصلحة الإسلام أن تتسع دائرة هذه الأقطار.. إن شراً مستطيراً يصيب الإسلام من تقوقع بعض أتباعه فى آراء فقهية معينة شجرت فى ميدان الفروع، ويراد نقلها من مكانها العتيد لتعترض عقائده، وقيمه الكبرى والرجل الذى يخسر السوق كلها لأنه يفضل دكانا على! دكان أو سمساراً على سمسار لا يسمى تاجراُ. ص _030(1/23)
خطيئة الأصدقاء الجهلة لو قام فى هذا العصر مجتمع إسلامى واضح المعالم فى بيان مكانة المرأة وميدان عملها ومجالى نشاطها لاختفى من الدنيا فساد كثير! إن أصحاب الطباع السليمة يكرهون الاختلاط المسعور فى حضارة الغرب والتكشف الفاضح هناك واستخفاء جو الأسرة، وانطلاق الغرائز دون ضابط، وهم يتطلعون إلى بديل أفضل فلا يجدون. لأن صياح الغلاة من المسلمين ألقى فى روعهم أن الإسلام سجَّان المرأة وعدو اكتمالها الإنسانى، وأنه تحت ضغط المدنية الحديثة أذن لها بالتعليم وهو كاره، وأذن لها بالذهاب إلى المسجد يوم الجمعة وهو ضائق . وربما تشبه بعض حكامه بالغرب فسمح للنساء بأن يشاركن فى الانتخابات وينتظمن فى مجالس الشورى، وهؤلاء الحكام موضع سخط المتدينين. ولو نجح أهل الدين فى تولى السلطة لغلقت على النساء الأبواب، ولم يُرَوجه واحدة منهن..! أقول: والكارهون للإسلام والخائفون من عودته لهم العذر عندما يلتقطون للدين هذه الصورة الكالحة الشائهة، والغلاة من الصنف الذى ذكرنا آنفا يشبهون أهل الكتاب الذين قيل لهم عند بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب "... هؤلاء الغلاة يخفون عن عمد وسوء قصد أن المسلمات كن يصلين فى المسجد الصلوات الخمس من الفجر إلى العشاء، وكن يشاركن فى معارك النصر والهزيمة وكن يشهدن ص _031(1/24)
البيعات الكبرى، وكن يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر! كانت المرأة إنساناً مكتمل الحقوق المادية والأدبية، وليست نفاية اجتماعية كما يفهم أولئك المتطرفون الجاهلون، وكما أشاعوا عن الإسلام فصدّوا عنه ونفَّروا منه، يقول الأخ الأستاذ أحمد موسى سالم " الشرع فى حكمة الخالق وعدله هو نصير المرأة ومنصفها ومانحها كل الحقوق التى تقررت للرجل، والتى تكفل حرية إرادتها فى علاقتها به وتعاملها معه ". وهذا المعنى يؤكده قاسم أمين فى كتابه تحرير المرأة حين يقول: "سبقت الشريعة الإسلامية كل شريعة أخرى فى مساواة المرأة بالرجل، فأعلن الإسلام حريتها واستقلالها يوم كانت فى حضيض الانحطاط عند جميع الأمم، ومنحها كل حقوق الإنسان، واعتبر لها كفاءة شرعية لا تنقص عن كفاءة الرجل فى جميع الأحوال المدنية من غير أن يتوقف تصرفها على إذن أبيها أو زوجها وهذه المزايا لم تصل إليها حتى الآن بعض النساء الغربيات ".. نعم توجد استثناءات قليلة تُعَدُّ من قبيل الشذوذ الذى يؤكد القاعدة، وهذه الاستثناءات لم تنشأ لإهانة المرأة وإنما وضعت لتنسجم مع طبيعتها أو وظيفتها الاجتماعية، وإلا فالأساس العام قوله تعالى: " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ". إن حاجة العالم إلى الإسلام ملحَّة بيد أن ناساً من ذوى الجهالة والجراءة، لا يعلمون ويكرهون من يعلم، لا يعملون ويكرهون من يعمل وقفوا فى هذا العصر سداً أمام تيار الإسلام يعكرون صفوه ويمنعون ورده! ويصدّون الأمم عنه.. هؤلاء الأصدقاء الجهلة أخطر على دين الله من الأعداء الحاقدين، والغريب أن صوتهم بعيد المدى كأن هناك شياطين خفيّة تمده بالقوة، هل هؤلاء الشياطين هم أعوان المستعمرين؟ ص _032(1/25)
الدور الغائب للمرأة يتنافس الحزبان اللذان يتناوبان الحكم فى الولايات المتحدة على استرضاء اليهود ونصرة قضاياهم وترسيخ أقدامهم فى كل ميدان.. . والأمريكيون ـ إذ يفعلون ذلك ـ يخونون مبادئ الفضيلة والعدالة وحقوق الإنسان، ثم هم يهدرون مصالح بلدهم عندما يؤثرون اليهود على العرب وعندما يضحُّون بمليار مسلم من أجل عشرة ملايين يهودى !. ويظهر أن القيمة الاقتصادية للعرب والمسلمين ـ على ثقلها ـ لا تخيف الشعب الأمريكى، ولا تلزمه خط الاعتدال.. والغريب أن رجلاً من أعظم رجالات أمريكا ومن أشهر قادتها حذر قومه منذ قرنين خطر اليهود، وقال: "إذا لم يتنبه الدستور الأمريكى لاستبعادهم فى خلال المائة عام القادمة فسينسابون إلى البلاد بأعداد كبيرة ويتمكنون من تدمير المجتمع الأمريكى وتبديل القيم الإنسانية التى قام عليها.. هذا الرجل الناصح المخلص هو "بنيامين فرنكلين"، ولكن صيحته لم تجد آذاناُ صاغية ولا ضمائر واعية، ولن يعرف الجمهور التائه خطأه إلاّ بعد فوات الأوان.. واليوم يتسابق المرشحون لرياسة الولايات المتحدة إلى منح اليهود وعودا من جيوب الآخرين ومن حقوقهم المادية والأدبية: هذا يقول: القدس كلها عاصمة إسرائيل إلى الأبد وهذا يقول: لا دولة للفلسطينيين! وهذا يقول: برنامج حرب الكواكب لحماية ص _033(1/26)
أمريكا واسرائيل! وهذا وهذا... كأن إسرائيل أهم من أن تحسب الولاية الحادية والخمسين فى العالم الجديد!. ولكن شيئا شاذاً لفت نظرى وأرجو أن يلفت أنظار القراء العرب!. هو أن مرشح الحزب الديمقراطى للرياسة له زوجة شديدة التعصب لإسرائيل، تعلن ولاءها لليهود ظاهراً وباطناً، وتذكر أنها ستقضى بقية عمرها فى إسرائيل إن فاتها إنفاق أيام الشباب مع الصهاينة الزاحفين! وقد ذكرت إحدى الصحف العربية الكبيرة هذه القصة المثيرة تحت عنوان "ملكة إسرائيلية في البيت الأبيض" ولا أدرى لماذا عادت إلى ذهنى قصة " أيزابيلا وفرديناند " بطلى القضاء على الأندلس منذ خمسة قرون! إنها قصة ذات مغزى! بيد أننا نحن العرب مصابون بفقدان الذاكرة، وانعدام الوعى... المرأة عندنا ليس لها دور ثقافى ولا سياسى، لا دخل لها فى برامج التربية ولا نظم المجتمع، لا مكان لها فى صحون المساجد ولا ميادين الجهاد. ذكر اسمها عيب، ورؤية وجهها حرام، وصوتها عورة، وظيفتها الأولى والأخيرة إعداد الطعام والفراش !. المرأة اليهودية تشارك مدنياً عسكرياً فى قيام إسرائيل، وهاهى ذى توشك أن تكون ملكة فى البيت الأبيض تضع اللمسات الأخيرة فى الإجهاز علينا، ولا يزال نفر من أدعياء التدين يجادلون فى حق المرأة أن تذهب إلى المسجد وتحضر الجماعات، إننا نموت قبل أن يحكم علينا غيرنا بالموت! فهل نعى ونرشد؟ ص _034(1/27)
المساواة ثابتة في القرآن تتجه دول أوروبا الغربية إلى وحدة شاملة تم أطرافها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وليس هذا موضع نظرنا هنا، وإنما ننظر فى الروابط الفكرية والروحية التى تكمن وراء هذه الوحدة أو تدفع إليها.. وقد تحدّث المتحدثون هناك عن تراث اليونان الفلسفى، وعن تراث الرومان الدينى على أن التراثين هما المهاد الأول لأوروبا المعاصرة بعد ما عراهما من تغيير وتحوير فى عصر الإحياء. وليس هذا أيضا موضع نظرنا هنا! إننا ننظر هنا إلى جوانب من قضية المرأة لأن هذه الجوانب تتجاوز أصحابها إلى سائر العالم، فالحضارة الأوروبية هى التى تقود الدنيا كلها الآن... إن فلاسفة اليونان ما أنصفوا المرأة ولا أعزوا جانبها ولا أعلوا مكانتها بل إن تاريخ أولئك الفلاسفة ملطخ بالعار موغل فى الشذوذ والإسفاف وليس يعنيهم فى انطلاق الشهوات أن تنحرف أو تستقيم.!. وتاريخ الرومان ليس أشرف من تاريخ اليونان، ونزوات القياصرة لا تعرف حدودا، وامتلاء القصور بالنساء أمر مألوف، سواء كن إماء أو حرائر.. وقد حاولت النصرانية أن تكفكف هذه الغرائز الجامحة بالرهبانية الصارمة فكانت كما قال الشاعر: إذا استشفيت من داء بداء فاقتل ما أعلَّك ما شفاكا! ص _035(1/28)
إن مباذل رجال الدين ساوت مباذل رجال الدنيا أو أربت عليها.!. وقد تأملت فى قصة الميل إلى المرأة فوجدت أن الصعاليك حسدوا الملوك على أكوام المتع التى لديهم، يريدونها أو يريدون مثلها! إنهم لم يتألموا لأن سليمان ملك ألف امرأة ـ كما روى كاتب العهد القديم ـ ولم يحزنوا لأن مئات من هذا الألف ضائعة الحق محرومة من رجل يرعاها وترعاه، كلا، ذلك لا يعنيهم! إن تساؤلهم هو لماذا يملك رجل وحده هذا المخزن الملىء بالمتع؟ فلما محوا الإقطاع حوَّلوا الحريم الخاص برجل واحد إلى حريم مشاع للجميع أو كما يقول أحمد موسى سالم "حريماً مفتوحاً فى المطاعم والفنادق وعلى الأرصفة وتحت أشجار الحدائق العامة وبجوار حوائط الليل المظلمة ـ وفى ساحات المراقص اللعوب والأحفال الساهرة فكل من شاء يفعل ما شاء، مع من يشاء ومن تشاء... إنه عنوان التحرر العجيب من الخلق والعفاف وضوابط النسل وحدود الله فى الأسرة ".. " هذا هو البديل عن الحريم القديم المغلق، إنه القيمة الجديدة المباحة للجميع والمتاحة للجميع والمهلكة للأسرة فى العالم كله ". وكل مسلم يخاف على دينه وعلى أمته من هذه الحضارة التى نسيت الله والوحى وأرخت العنان للغرائز الحيوانية تعربد دون وعى. والإسلام الذى نقدمه علاجاً شريفاً لهذه الفوضى العامة الطامة لا يؤخذ من أفواه المجانين الذين ينادون بحبس المرأة فلا تخرج من البيت أبداً إلا لزوجها أو قبرها كما يقولون، إننا نأخذه من تعاليم الإسلام الواضحة فى الكتاب والسنة... ومصيبة ديننا فى أناس يحرفون الكلم عن مواضعه، ويطيرون بحديث موضوع أو معلول ليلغوا به الآيات البينات، والسنن الثابتات البينات.. إن الذى يتدبر القرآن الكريم يحس المساواة العامة فى الإنسانية بين الذكور والإناث وأنه إذا أعطى الرجل حقا أكثر فلقاء واجب أثقل، لا لتفضيل طائش. وقوامة الرجل فى البيت لا تعنى ضياع المساواة الأصلية، كما أن طاعة الشعب ص _036(1/29)
للحكومة لا تعنى الطغيان والإذلال فإن التنظيم الاجتماعى له مقتضياته الطبيعية، ولا مكان للشطط فى تفسيره... وهناك من يردد أقوالاً عن النساء لا تستحق إلا الازدراء! قال أحدهم: السفهاء هم الصبية والنساء قلت له: عمن رويت ذلك؟ عن عمدة القرية أم شيخ البدو؟ وزعم كذوب أن المرأة يساق فيها قوله تعالى " كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير "! قلت: تلك صفة نفر من الناس رجال أو إناث محروم من المواهب عاجز عن العطاء. ويخجلنى أن هذا الوصف يكاد يطوى جماهير المسلمين فى المشارق والمغارب بعد ما تخلّوا عن رسالتهم ونسوا كتابهم، وعاشوا عالة على الحضارات الغالبة... إننى أحذر على الإسلام صنفين من الناس: المكذبون به، والجاهلون به، المكذبون به من أعدائه والجاهلون به من أصدقائه.. وأكرر ما قلته من قبل: إننى أحارب الأدوية المغشوشة بالقوة نفسها التى أحارب بها الأمراض المنتشرة... والثغرة التى ينفذ منها أعداء الإسلام إلى بيضتنا ونحن نقاوم الغزو الثقافى هى موقف بعض الشيوخ من قضايا المرأة فهم يقفون أحجاراً صلبة أمام كل الحقوق التى قررها لها الإسلام يريدون تعطيلها أو تشويهها. وقد عاصرت أياما أنكر فيها الأزهر تعليم المرأة فى الجامعة، كما علمت على وجه اليقين أن أفواجاً من الأعراب ذهبت إلى الرياض تستنكر فتح مدارس لتعليم البنات!. ومع أن الدنيا تغيرت فالعلاقة بين الجنسين وحقوقها العامة والخاصة لم تأخذ بعد طريقها الصحيح، وذلك لأن بعض الناس يأبى أن يستقيم على منهج القرآن الكريم! يقول الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله " هذه رابطة ولاية ووفاق بين الجنسين على مناصرة الحق ومخاصمة الباطل وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله، رابطة ولاية يتحول بها المجتمع كله إلى خلية ناشطة لها منهج وغاية.. فإذا نشأ عقد زواج بين مؤمن ومؤمنة(1/30)
فإن هذا المعنى يتأكد وتصبح ـ العلاقة الجديدة ص _037
إخاء عقيدة، وشركة أعباء، وصحبة حياة، ووحدة هدف، وتجاوب ثقافة. المجتمع الوضيع هو الذى يفهم الزواج على أنه عقد انتفاع بجسد! أو يعرفه بأنه امتلاك بضع بثمن، أو يراه شركة بين رجل تحول إلى ضابط برتبة مشير، لديه امرأة برتبة خفير!! أين الودّ والتراحم والشرف والوفاء؟؟ عندما أقرأ أن فاطمة بنت محمد طحنت بالرحى حتى ورمت يدها أو حملت الماء فى القربة حتى كل كتفها أشعر بأن السيدة الفضلى لم تكن أنثى تخدم ذكراً، بل كانت أمّاَ مؤمنة تقيم بيتاً يربو فيه اليقين والحب، فهى تقدم لرجلها وولدها نفسها وما تملك. لم يكن هناك رب بيت يصدر أوامر وامرأة ذليلة تنفذ! بل كان هناك شريكان يتقاسمان السراء والضراء! نجاحاً لأمرين متساويين: حياة الدين الذى آمنا به، وحياتهما الخاصة... وعلى ضوء هذا المعنى أفهم كلام أسماء بنت أبى بكر زوجة الزبير بن العوام "كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكنت أسوس فرسه، وأعلفه، وأحتشُّ له، وأخرز الدلو، وأسقى الماء، وأنقل النوى على رأسى من أرض له على ثلثى فرسخ ". إن جمهور الفقهاء يرى أن المرأة لا تكلف بخدمة الرجل! ولكن الأمر ليس ما يقضى به القانون، الأمر هنا ما تقضى به مصلحة الشركة القائمة بين مؤمن ومؤمنة، الأمر هنا محكوم بعاطفة الإيثار لا بشعور الأثرة.. والرجل قيّم على بيته يقيناً، وهذه القوامة تكليف قبل أن تكون تشريفا وتضحية قبل أن تكون وجاهة.. المشكلة فى الأمة الإسلامية أن الجهل عمَّ الزوجين الذكر والأنثى، وأن العلاقة بين الجنسين تم النظر إليها من ناحية الشهوة وحدها، أما رسالة الأمة الكبرى فى العالم فما يدريها الآباء ولا الأمهات، الزواج عقد نكاح وحسب! يحكمه منطق البدن الأقوى...!. ص _038(1/31)
مراعاة الوظائف واجبة فى جنون المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة فى ميادين الأعمال، وقعت قصة تستحق التسجيل، فقد رأى البعض تشغيل الفتيات محصلات فى الحافلات العامة!. و "الباصات " فى القاهرة تغص بحشود من البشر يزحم بعضها بعضا؟ فلا يكاد الرجل الجلد يجد طريقاً بينها، فكيف بالفتيات؟ وعاشت التجربة يوماً ولم تتكرر.. ورأيت فى عاصمة عربية "شرطية " تنظم المرور فقلت: هذا عمل شاق، ما كان ينبغى أن تُدفع النساء إليه! قد تشتغل المرأة شرطية لتفتيش النساء مثلاً، وما يشبه هذه الأعمال الخاصة، أما الوقوف فى الحر والبرد، ودوران البصر وراء قوافل السيارات والمشاة فلا... وعندى أن الرجل أقدر على العمل فى الطائرات من المرأة، وأن وظيفة "مضيفة " ينبغى أن تختفى، لا سيما فى الرحلات البعيدة التى تفرض المبيت فى الفنادق، والبعد أيّاماً عن الأهل... وحكى لى صديق قادم من موسكو، قال: إن النساء هناك يغسلن الشوارع فى الصباح، ويشتغلن بالأعمال كلها.. وإن خصائص الأنوثة من نعومة ورقة تكاد تختفى مع قسوة الواجبات التى تفرض على طوائف العاملات.. بل حكى لى أنه رأى عجوزاً تصعد مساء إلى السيارة، قافلة إلى بيتها؟ وهى تترنح لا أدرى أهى سكرى أم من الإعياء.. ص _039(1/32)
إننى أرفض هذه المساواة فى الأعمال، وعندما كنت شاباً رأيت فى قريتنا رجلاً وزوجته يديران "الطمبور" يرويان أرضهما! قلت: هذا عمل شاق، وقد جربته فأتعبنى! لأن المرء يكلف فى كل دورة برفع عدة "جالونات " إلى أعلى. يمكن للمرأة الفلاحة أن تبذر الأرض مثلاً، أما الأمومة والأنوثة فلا ينبغى تعريضها للمشاق المعنتة.. من أجل ذلك وافقت وأنا مستريح الضمير على ما نشرته منظمة الصحة العالمية، شرق البحر المتوسط، فى تقريرها الأخير، قال: وفى جميع الأحوال لا يليق بالمرأة أن تعمل فى المجالات التى لا تلائم طبيعتها، وأن تدخل فى أى ضرب من ضروب الصناعة والحرف المضنية، فالمجالات التى تحسنها المرأة وتتناسب معها كثيرة ومتعددة، كميدان التعليم والطب والتمريض، والرعاية الاجتماعية، والكتابة والنشر، وبعض الوظائف غير المرهقة، وتستطيع فوق كل ذلك أن تغشى الأسواق فى حشمة ووقار فتبيع وتبتاع. أما أن تعمل المرأة كل أعمال الرجال، كأن تكون شرطية وميكانيكية؟ وعاملة فى المصانع، ومنظفة فى الشوارع، وسائقة للعربات وأدوات النقل وما شابه ذلك، فلا يليق بها ولا يجوز لها أن تزاوله، وقلما تساوى الرجال فى هذا المجال.. والدول الصناعية لم تنظر إلى عمل المرأة على أنه مساوٍ لعمل الرجل... ولذلك اختلفت الأجور التى يتقاضاها الرجال عن الأجور التى يتقاضاها النساء، كما يلاحظ ذلك من بعض الإحصائيات العالمية، حيث نجد أن هذه تتراوح ما بين (59%- 79%) من الأجور التى يتقاضاها الرجال فى الأعمال المتماثلة. ومن المفيد جداً أن نشير إلى الدراسة القيمة التى نشرتها مؤخَّراً جريدة الهيرالد تريبيون الدولية، فى عددها رقم 0 3265 بتاريخ 6 1 شباط/ فبراير 988 1، فقد قامت الدكتورة روز فريش أستاذة الصحة العامة بجامعة هارفارد بدراسة أجرتها على 5398 امرأة تتراوح أعمارهن ما بين 21- 80 عاما، وتقدمت بنتائج هذا البحث إلى الاجتماع السنوى للجمعية الأمريكية لتقام العلوم،(1/33)
وخلصت من دراستها إلى النتائج التالية: ص _040
1 ـ تصاب اللاعبات الرياضيات النشيطات باضطراب فى الدورة الطمثية، ويصحبن غير مُخْصِبات؟ طالما يَقُمْنَ بالممارسة الرياضية، ويمكن أن تعود الخصوبة إلى وضعها الطبيعى بالتوقف عن الممارسة الرياضية، وأضافت الباحثة نصيحتها إلى النساء قائلة: لا يمكن للمرأة أن تعمل كل شىء.. بمقدور كل واحدة منكن أن تصبح نجمة رياضية أو لاعبة أولمبياد شهيرة.. ولكنها إذا رغبت فى إنجاب طفل فإن عليها أن تتوقف عن اللعب، ذلك لأن المستوى الأدنى من التمارين يمكن أن يكون له عواقب ضارة على الجهاز التناسلى فى المرأة. 2 ـ ولقد أظهرت الدراسة أن 2622 امرأة ممن كن يمارسن الألعاب الرياضية قد بدت عليهن أعراض سرطان الثدى، أو الداء السكرى، أو سرطان الجهاز التناسلى، فى مقابل القسم الآخر من النساء وعدده " 2776 " اللواتى لم تظهر عليهن هذه الأعراض. 3 ـ بيَّنت دراسة جامعة هارفارد إضافة إلى دراسة أخرى أجرتها جامعة ألبرتا أن الأعمال النشيطة التى تمارسها المرأة تؤثر جداً فى إنتاج "الاسترجينات " التى تتحكم فى الإنجاب لدى المرأة. 4 ـ أشارت هذه الدراسة مع أخرى مماثلة أجرتها جامعة كندية أن النساء اللواتى يمارسن الأعمال المجهدة يُصبن باضطراب الإخصاب حتى لو استمر الطمث لديهن على وضعه النظامى. أظن بعد هذه التجارب والاستقراءات أن الأفضل للمرأة الوقوف عند حدودها الفطرية، واليأس من نشدان المساواة المطلقة مع الرجال فى هذا الكدح المضنى... وما يعقبه من آلام. ص _041(1/34)
لكى يتطهر المجتمع من المشكلات المضنية للبشر أن الغريزة الجنسية تولد وتتحرك وتقوى. فى سِنّ اليفاعة، أى حوالى الخامسة عشرة من العمر، أى قبل اكتمال القدرة العقلية، واستطاعة النهوض بأعباء الزواج، ورعاية الأسرة، ومعاملة الصاحب الآخر بعدالة وشرف.. إن الزواج ليس تنفيسا عن ميل بدنى فقط! إنه شركة مادية وأدبية واجتماعية تتطلب مؤهلات شتى، وإلى أن يتم استكمال هذه المؤهلات وضع الإسلام أسس حياة تكفل الطهر والأدب للفتيان والفتيات على سواء.. وأرى أن شغل الناس بالصلوات الخمس طول اليوم له أثر عميق فى إبعاد الوساوس الهابطة، ينضم إلى ذلك منع كل الإثارات التى يمكن أن تفجِّر الرغبات الكامنة.. إن الحجاب المشروع، وغض البصر، وإخفاء الزينات، والمباعدة بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء فى أى اختلاط فوضوىّ، وملء أوقات الفراغ بضروب الجهاد العلمى والاجتماعى والعسكرى ـ عند الحاجة ـ كل ذلك يؤتى ثمارا طيبة فى بناء المجتمع على الفضائل.. ثم يجئ الزواج الذى يحسن التبكير به، كما يحسن تجريده من تقاليد الرياء والسرف والتكلف، التى برع الناس فى ابتداعها فكانت وبالا عليهم.. إن من غرائب السلوك الإنسانى، أنه هو الذى يصنع لنفسه القيود المؤذية، وهو الذى يخلق الخرافة ثم يقدسها!! ص _042(1/35)
وقد رأيت أن المسلمين فى أقطار شتى جعلوا الحلال صعب المنال، وفتحوا الأبواب لوسائل الإغراء، كى تهيج الساكن من الغرائز، حتى الإعلان عن السلع فى التلفاز تقوم به الفتيات المتكشفات، بل إن بعض البرامج تشرف عليها فتيات يقدسن آخر تسريحة للشعر فى الغرب! بل قد يظهرن بعدة تسريحات فى يوم واحد! يقول الكاتب المؤرخ " ول ديورانت " فى كتابه " مباهج الفلسفة ": فحياة المدينة تفضى إلى كل مثبط عن الزواج، فى الوقت الذى تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية، وتيسر كل سبيل يسهل أداءها. ولكن النمو الجنسى يتم مبكرا عما كان من قبل، كما يتأخر النمو الاقتصادى، فإذا كان قمع الرغبة شينا عمليا ومعقولا فى ظل النظام الاقتصادى الزراعى، فإنه الآن يبدو أمرا عسيرا، وغير طبيعى فى حضارة صناعية أجّلت الزواج حتى بالنسبة للرجال، فقد يصل إلى سن الثلاثين، ولا مفرّ من أن يأخذ الجسم فى الثورة، وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان فى الزمن القديم، وتصبح العفة التى كانت فضيلة موضعا للسخرية، ويختفى الحياء الذى كان يضفى على الجمال جمالا. ثم يفاخر الرجال بتعداد خطاياهم، وتطالب النساء بحقها فى مغامرات غير محدودة، على قدم المساواة مع الرجال، ويصبح الاتصال قبل الزواج أمرا مألوفا، وتختفى البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة الشرطة، لقد تمزقت أوصال القانون الأخلاقى الزراعى، ولم يعد العالم المدق يحكم به. ولسنا ندرى مقدار الشر الاجتماعى الذى يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولا عنه.. ولكن معظم هذا الشر يرجع فى أكبر الظن فى عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعى للحياة الزوجية، وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو فى الغالب ثمرة التعوّد قبله. ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة، لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن فى ابتذال ظاهر، ويجد الرجل لإرضاء غرائزه الخاصة فى هذه الفترة من التأجيل نظاما دوليا مجهزا(1/36)
بأحدث التحسينات، ومنظما بأسمى ضروب ص _043
الإدارة العلمية، ويبدو أن العالم قد ابتدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات و إشباعها. يتابع الكاتب بحثه فيقول: "حتى إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار، اندفعت بما لم يسبق له مثيل فى تيار المغامرات الواهية، فهى واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية، وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا فى نظير الاستمتاع بالمباهج الجنسية، وقد ترجع حرية سلوكها لنى بعض الأحيان إلى انعكاس حريتها الاقتصادية، فلم تعد تعتمد على الرجل فى معاشها، وقد لا يُقبل الرجل على الزواج من امرأة برعت مثله فى فنون الحب، ولكن قدرتها على كسب دخل حسن هو الذى يجعل الزوج المنتظر يتخلى عن تردُّده، إذ كيف يمكن أن يكفى أجره المتواضع للإنفاق عليهما معا، فى مستواهما الحاضر من المعيشة". ذاك الوصف قبل ستين سنة مما يقع الآن، وهو أشد سوادا، والسر كله فى هجران الوحى واتباع الأهواء، وانطلاق الناس حسب رغباتهم، لا يَرْدَعْهُم دين، ولا يخافون عذاب الآخرة...! إن الإسلام الحق هو الدواء الناجع، والعناصر التى يقدمها لقيام مجتمع طاهر، تصان فيه الأعراض، وتسود أرجاءه العفّة تبدأ من البيت، فالصلوات تنتظم أفراده كلهم الصبية والرجال، ويُراقَب أداؤها بتلطف وصرامة، وتراعى شعائر الإسلام فى الطعام واللباس والمبيت والاستئذان، واستضافة الأقارب والأصدقاء... والشارع ليكون إسلاميا ينبغى أن يتعاون الجالسون والمارون فيه، على سَحْق الكلمة البذيئة، والنظرة الجريئة، وعلى مطاردة العصيان والعُرْى بما فى الوسع كما حددته الشريعة فى قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. وعندما يتشبث كل جار بجاره فى مرضاة الله، فلن يبقى فى الشارع شاذ ولا متهاون، ولن تجد الرذيلة مهربا تختفى فيه.. ص _044(1/37)
والإعلام عليه أن يوسع دائرة الثقافات النافعة، وأن يقدم من التسلية أنظفها لفظا، وأشرفها غرضا، وأبعدها عن إيقاظ الشرور.. إن جوانب الحياة العامة كثيرة، وهى مسئولة عن صون البيت وإشاعة الطهر، وإنشاء أجيال أدنى إلى الاستقامة. ص _045
خطر القنبلة الجنسية حضرت دورة لمنظمة الصحة العالمية شرقى البحر المتوسط، وكانت استفادتى منها واسعة، واطلعت على حقائق إنسانية رأيت أن أشيعها بين جمهور القراء.. يقول " جورج بالوشى هورفت " فى كتابه " الثورة الجنسية ": الآن بعد أن كادت مخاوفنا تهدأ من الخطر الذرى، وتستريح للتصالح بين القوى العظمى، ألا توجد حوافز بشرية تُحِسُّ القلق البالى للأهمية البالغة التى يكتسبها " الجنس " فى حياتنا اليومية؟ ألا نشعر بالخشية إذ نرى أمواج الشهوات الجنسية وغارات العرى والإغراء لا تهدأ حتى تثور؟. إنه يجب أن ينشغل الناس انشغالا جادا بالقوة الهائلة التى يمكن أن تبلغها الحاجة الجنسية إذا لم يكفكفها الخوف من الجحيم أو الأمراض المعروفة أو الحمل...! إن القلقين على مستقبل العالم وفضائله يشعرون بأن أطنانا من القنابل الجنسية تنفجر كل يوم وينشأ عن انفجارها دمار واسع.. " والواقع أن مستقبل الأجيال الناشئة محفوف بالمكاره ربما يتحول أطفال اليوم إلى وحوش عندما تحيط بهم وسائل الإغراء المتجددة بالليل والنهار! إن تشويها كبيرا سوف يلحق البشر حيث كانوا..". وكتب " جيمس رستون " فى " النيويورك تايمز " إن خطر الطاقة الجنسية قد يكون فى نهاية المطاف أكبر من خطر الطاقة الذرية..!! ص _046(1/38)
" ويلفت المؤرخ " أرنولد توينبى " النظر إلى أن سيطرة الغرائز الجنسية على السلوك والتقاليد يمكن أن تؤدى إلى تدهور الحضارات ". إن العلاقات الحرام لم تعد نزوات عابرة، إنها نمت كالسرطان الخبيث وتطاير شررها، وطوّرها الشيطان تطويرا واسع الأرجاء. فلم يعد الجنس تلك العلاقة الحسية القائمة بين زوجين اثنين أو حتى بين شخصين لا يربطهما عقد شرعى أو قانونى، بل أضحى عالما واسعا بكل ما فيه من فنون ووسائل ومثيرات. وفى الواقع يستحيل اليوم السير فى أى مدينة كبيرة دون التعرض " للقَصْف الجنسى " الحقيقى.. إعلانات من كل حجم، مجلات وأغلفة مصورة، أفلام سينمائية، صور معروضة فى مداخل علب الليل، وآلاف من الفتيات والنساء يرتدين ثيابا كان يمكن أن توصف بقلة الحشمة منذ عهد قريب. إن اللواط والسحاق والممارسات الجماعية للجنس والزواج التجريبى، ونوادى الشذوذ، ونوادى العراة، والمجلات الماجنة، والأفلام الجنسية الفاضحة، والصور الخليعة.. الخ كل هذه وغيرها أصبحت السمة المميزة للمجتمعات البشرية فى شتى أنحاء الأرض. إن الإسلام ربط بين نسيان الله وغلبة الهوى، أو بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات.. وعندما فتح المسجد للنساء جعل لهن صفوفا خاصة فلم يخلطهن بالرجال، وأمرهن أن يجئن محتشمات قانتات لله. وأمر كلا الجنسين بغض البصر، وأمر النساء خاصة ألا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها بطبيعته فى الوجه والكفين. ! " ودعا دعوة عامة بعد ذلك إلى الزواج وجعله نصف الدين ". وقد نسى الغلاة هذا كله، فحبسوا النساء فى البيوت حبسا مطلقا، ووضعت تقاليد للزواج جعلته يقصم الظهر.. ص _047
ولا نريد أن نتحدث عن أثر ذلك محليا وعالميا على سمعة الإسلام والمسلمين. إن مسالك العرب عندما يسيحون فى عواصم الغرب تصبغ الوجوه بالعار، وبحثهم عن الشهوة فى كل أفق يثير العجب! ألا نفكر بجد فى الأسلوب الأمثل لتنفيذ وصايا الإسلام فى بلادنا؟ ص _048(1/39)
الإسلام فى بلاد المهجر دخل فى الإسلام مئات الألوف من الفرنسيين وما أشك فى أن هؤلاء المهتدين سعداء بما أتاح القدر لهم! غير آبهين للمتاعب التى تعترض مسيرتهم بين الحين والحين !. لقد كانت فرنسا ـ ومازالت ـ من أشد الدول تعصبا ضد الإسلام، فمنها انبعثت أولى الحملات الصليبية! وفى القرنين الأخيرين خاضت حربا دينية ضد الجزائر أهلكت الحرث والنسل! وقد ذكر الجنرال ديجول فى مذكراته أن الشعب الفرنسى قدّم فى عهده وحده نحو 1 ص طنا من الذهب للإسهام فى تنصير الجزائر !.. والفرنسيون كاثوليك، وعندما حاول البروتستانت نشر مَذْهَبهم فى البلاد، بيَّتهم الجمهور الغاضب فى ليلة ليلاء، وقتل منهم نحو أربعين ألفا، وبذلك وقف زحفهم!! وتعرف هذه المأساة بمذبحة "سان بار تلميو"! وإنما أذكر هذه الحقائق لأبين أن من أسلم من الفرنسيين قد اجتاز عقبات كؤوداً، وتعرّض لأحزان ومخاوف! وليس هذا وحده أساس المشكلة، بل لعل الأساس الأسبق هو حال المسلمين المهاجرين إلى فرنسا من إفريقية وبعض أقطار آسيا، إنهم مسلمون متخلفون عقليا وخلقيا لا يشرفون دينهم، ويشتغل سوادهم بالحرف الدنيئة، وإذا وازناهم باليهود المقيمين فى فرنسا أو النازحين إليها وجدنا البون بعيدا... وجدير بالتسجيل أن فرنسا عندما احتلت الجزائر وواجهت مقاومة دينية صعبة، فكرت فى نقل " موارنة لبنان " إلى القطر المستعصى!. ولكن هذه الفكرة استبعدت لأن فرنسا بحاجة إلى هؤلاء فى الشرق الأوسط !! فليس يغنى عنهم بديل آخر! ص _049(1/40)
وكنت أظن الأجناس اللاتينية وحدها هى التى تنفرد بتلك المشاعر المحترقة ضد الإسلام، فلما تأملت المذابح الطائفية فى الهند، ومقاتل الألوف من المسلمين المستضعفين عرفت أن السياسة الانكليزية من وراء هذا البلاء الشديد !. إن موقف أوربا من الإسلام وسياستها ضده يجب أن يدرسا بعناية ودقة، وقد انتهى عهد الاستعمار العسكرى تقريبا، وبدأ عهد آخر من الصراع الدينى نريد أن نقف تجاهه قليلا، فهو يعنينا من قريب ومن بعيد! يقول الدكتور حسان حتحوت: إن دول أوربا ما كادت تخرج من الحرب العالمية الثانية ثاكلة ملايين الأبناء حتى وقعت فى فخ حركة تحديد النسل خشية الإملاق أو حفاظا على مزيد من الرفاه! فلما عجزت عن توفير السواعد التى تكفئ حاجة العمالة فتحت أبواب الهجرة للعمال الوافدين من هنا ومن هناك، وفرحت بما يقنعون به من أجور رخيصة.. وكان هؤلاء العمال قادمين من بلاد يسودها الفقر والاستبداد، فأنسوا بالحياة الجديدة، وطابت لهم الإقامة، واكتسبوا جنسيات دول المهجر، وأصبح لهم فيها شأن وكيان، وتغير مجتمع العرق الواحد والدين الواحد فأصبح أعراقا وأديانا... ثم يقول الدكتور كلاما جديرا بالدراسة: فى بروكسل التى تعتبر نفسها عاصمة أوربا سيكون واحد من كل اثنين من المواليد اعتبارا من سنة 1995 مسلما أما فى بريطانيا فعدد الذين يتكلمون باللغات الهندية ضعف الذين يتكلمون لغة " ويلز"! وفى فرنسا يبلغ عدد مسلميها سبعمائة ألف، وهو ضعف فرق الأصوات بين الرابح والخاسر فى انتخابات رياسة الجمهورية سنة 1974 وفى برلين الغربية ثلاث محطات تليفزيونية تذيع بالتركية، وفى بعض مدن أوربا يزيد عدد المساجد على عدد الكنائس.. والذين تنشرح صدورهم بالإسلام من أهل البلاد لا ينقطعون... ماذا تعنى هذه الحقائق كلها؟ إنها تفرض علينا نحن المسلمين أن نعيد النظر فى علاقاتنا بغيرنا من سائر الملل والنحل، وأن نعود إلى قواعدنا الأولى فى فقه الإسلام وإحسان عرضه، ومن(1/41)
قبل ذلك إحسان العمل به وتطبيق أحكامه. ص _0 ص
على المسلمين فى مهاجرهم أن يألفوا المسجد، وأن يفتحوه للرجال والنساء والأولاد، وأن يتعهدوا رسالته الروحية والثقافية، وأن يتعارفوا بينهم تعارفا صادقا حاراً، فإن تلاقى الأجساد لا ثمرة له.. وعليهم أن ينشئوا أندية حسنة لشتى الأنشطة العامة يشارك فيها الجنسان جميعا، وتبرز فيها تعاليم الاحتشام والاستعفاف التى أكدها الإسلام، وتختفى منها قاذورات الخمور والمخدرات التى استهلكت الغرب وتوشك أن تقضى عليه. ولتكن هذه المساجد والأندية مجالا للحديث بالعربية ومذاكرة لكل ما يحفظ الشخصية الإسلامية، ويقوى حبال الود بين المتغرِّبين المستوحشين. ولتتزاور الأسر وتتبادل العلم بالشئون الخاصة والعامة. وتتعاون على البر والتقوى، ومن الجنون أن يرى الطالب المسلم الطالبات الأخريات مبتذلات ومثيرات ولا يؤذن له برؤية مسلمة تؤمن بربها وتصون عرضها وتترفع عما يقارفه غيرها.. يجب أن ننشى جوا يمكن فيه الزواج وفق شرائع الله حتى لا تذوب فضائلنا فى حريق الشهوات المستعرة هناك. ولنعلم أن الحفاظ على ديننا وأمتنا يحتاج إلى العقل المؤمن أو الإيمان العاقل، ولا يصلح له أنصاف المتعلمين الذين يحسنون الهياج ولا يستطيعون الإنتاج.. وعلى الأوطان الأم ألا تنسى من هاجروا منها، بل ينبغى أن تتعهدهم بالرجال والكتب والصحف وشتى المعونات الأدبية.. ومن رأيى أن المهاجرين فى أوربا وأمريكا يجب أن يسعوا إلى التعرف على الآخرين باسطين أيديهم بالود، وأظن التصدق بالابتسامة لا يكلف كثيرا!! إن الجاهلين بنا معذورون، فإن آلاف الكهنة كذبوا طويلا على نبينا، وأشاعوا عنه الإفك.. كما أن السفهاء منا قدموا عن الإسلام صورا مخزية، وبغضوه لدى الخالين والسذج، وهذا وذاك يفرضان علينا الصبر فى تصحيح الأخطاء وإرشاد السادرين.. ص _051(1/42)
إن أوربا الغربية موشكة على التوحد، وقد تنضم إليها أوربا الشرقية وطوائف المسلمين الذين عاشوا هنالك قادرون على عمل الكثير لدينهم ولأنفسهم!. والقضايا التى تثار ضد الإسلام لا تتصل بعقائده ولا بعباداته! إن أعداء الإسلام لهم مكر سئ فى استغلال أقوال وأحوال الجاهلين به، لاسيما فى ميدان المرأة. من أجل ذلك أنصح بالضرب على أيدى الجرآء على الفتوى من أدعياء الفقه الذين لا شغل لهم فى هذه الأيام إلا الصياح بوجوب النقاب وتحريم التصوير، والثرثرة بأمور لا وزن لها ولا خير فيها. ص _052
حوار مع ماركسى! جاءنى بضع فتيات يشكون لى أن مدرس الفلسفة يحاول إقناعهن بأفكار مضادة للدين وأنهن تَعبن من مجادلته، واقترحن عليه أن يلقانى ليتكلم معى بما عنده. قلت: هاتوا به فى أى وقت! وجاء الأستاذ فسألته: أأنت شيوعى؟ قال: أنا ماركسى! قلت له: تتبع ماركس فى إلحاده؟ أم فى اقتصاده؟. فتريث قليلا ثم قال: بل فى إلحاده أولا، لا إله والحياة مادة!! قلت له ـ وأنا أنظر إلى جسمه العريض وقامته المديدة ـ كان وزنك عندما ولدت بضعة أرطال، وها أنت تزن أكثر من مئتى رطل فمن جاء بهذه الزيادة؟ قال: طبيعة الأجسام! قلت: الطبيعة حوّلت الأطعمة التى تناولتها إلى هذا الكيان الحى؟ إنها أطعمة ميتة فكيف تحوّلت إلى لحم وشحم تسرى فيها الحياة؟ الرغيف تقطعه بالسكين فلا يتألم وبعد أن تأكله ويتحوّل جزءاً من بدنك تشكه بدبوس فيضطرب بدنك من الألم! من الذى أخرج الحى من الميت؟ قال ببرود: قلت لك إنها الطبيعة!. قلت حسنا، إنها طبيعة عالمة قادرة! هل تصنع ذلك معك وحدك أم مع خمسة آلاف مليون من البشر يحيون على ظهر الأرض؟ قال ـ وهو يتوجس خيفة ـ مع سكان الأرض جميعا! قلت: لا ريب أنها طبيعة علمية قديرة حكيمة عظيمة تلك التى تتعهد الألوف المؤلفة من الطفولة إلى الصبا إلى اليفاعة إلى الشباب إلى الرجولة إلى الشيخوخة… الخ. ص _053(1/43)
وفى هذه المراحل كلها تهيئ الألوف المؤلفة من الأجهزة للقضم والهضم والامتصاص وتوزيع الغذاء على الأعضاء، ودفع الرئات فى الصدور للحركة الدؤوب، ودفع الدم فى العروق مداً وجزراً، فى نبض مستمر آناء الليل وأطراف النهار. إنها طبيعة حيّة تقوم على كل شئ! ألا ترى ذلك معى؟ قال وفى نبرته إحساس الوحش الذى يُقاد إلى خطر داهم: إن الطبيعة ذكية! فأجبته، هذا الذكاء الملحوظ صفة عابرة، لا بد من موصوف تقوم به، وقد اعترفت بأنك وجميع الأحياء معك تم إيجادهم وإمدادهم بطريقة تنم عن علم وقدرة وحكمة وعظمة فهل التراب أو الهواء صاحب هذه الصفات الرائعة؟ أم أن هناك موجوداً تلتقى فى ذاته هذه الصفات كلها؟ قال: لا معنى للفِّ والدوران، قل لك: إنها الطبيعة! فسألته: أترى الطبيعة اسماً من أسماء الله الحسنى؟ إن عالمنا الذى نعيش فيه مفعم بحياة متجدِّدة يدل سيرها كما قلت معى على العلم الواسع والحكمة البالغة والقدرة الفائقة والعظمة الباهرة فما الذات التى تنبثق منها هذه الصفات؟ إن الصفات لا بد أن تكون لشئ!. قال: يبدو أنك شيخ زاوية مجادل! قلت: دعك منّى! لأكن شيخ بادية ما يعنى هذا شيئا… إذا قلت: إنك ثخين فالصفة ملتصقة بذاتك أنت والصفات التى استقينا من أنها وراء الكون الكبير هى صفات إله أكبر لا محالة.. قال: هذا تفكير رجعىِّ بائد! قلت ساخراً: مادام العقل اليقظان قد صار رجعية والغباء الصفيق قد صار تقدُّمية، فأنا رجعىّ أيها الماركسىّ المغفل. ص _055(1/44)
الباب الثانى صفحات مطوية ا- هكذا كان قدرها. 3- هل دلّل الإسلام المرأة؟ 3- الأم مدرسة. 4- فى الجاهليّات القديمة. 5- الجاهلية العربية أشوف. 6- المرأة فى دور الانحطاط. 7- لنعرف الموقف الصحيح. 8- مرويات مسيئة للإسلام. 9- زوجات الرسول (1) 10- زوجات الرسول (2) 11- ماذا تفعل نساؤنا؟ 13- امرأ ة بألف رجل! 3 ا- امرأتان نادرتان. 4 ا- الصديقة الأديبة. 5 ا- المرأة فى العلم والأدب. 6 ا- فى مواجهة الكذاب. 7 ا- قانون "الحمد ". ص _056(1/45)
هكذا كان قدرها كلما رجعت إلى السيرة النبوية ازددت معرفة بما كان للمرأة من مكانة، وبما كفله الإسلام لها من حقوق، لقد كانت لها شخصية مقدورة وأثر يحسب! يقول المحدثون: لما نزل قول الله لنبيه " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، صعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصفا ونادى: " يا بنى عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئاً، سلانى من مالى ما شئتما ". إن نداء المرأة بهذا الصوت الجهير شىء مستنكر فى عصرنا الأخير، كنا نعدها كشخصها عورة لا يجوز أن يعرف! ونقول: ما للمرأة وهذه الشئون؟ يكفئ أن يحضر رجل من أسرتها ليبلغها، أما أن تنادى على رؤوس الأشهاد فذلك عيب!. لكن المرأة فى صدر الإسلام عرفت قدرها، ولما سمعت مناديا يدعو إلى الإيمان سارعت إلى تلبيته، ويحكى المؤرخون أن أخت عمر ين الخطاب كانت أسبق منه إلى الإسلام، لقد أدمى وجهها عندما علم بإسلامها وهاجمها بقسوة فقالت له: يا عمر إن الحق فى غير دينك، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،.! ثم أسلم عمر بعد !! ودخل الرجال والنساء فى دين الله، وأعطوا المواثيق على اعتناق الحق والعمل به والذود عنه، وانتظمت الصفوف فى المسجد النبوى تستوعب الرجال والنساء على سواء. روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "ما أخذت " ق والقرآن المجيد، ص _057(1/46)
إلا من لسان رسول الله- صلى الله عليه وسم- يوم الجمعة يقرأ بها على المنبر فى كل جمعة". أى أنها حفظت السورة كلها عن ظهر قلب من شدة انتباهها وهى تسمع الخطبة! وكانت سنة رسول الله فى الخطابة أن يتلو القرآن الكريم وحسب! وهى سنة مهجورة الآن، كما أن من السنن المهجورة! حضور النساء الجمع والجماعات.. ألاّ يثير ذلك شيئا من التساؤل والدهشة؟. ومن الطرائف أن امرأة كريمة موسرة كانت تصنع وليمة بعد الجمعة يحضرها من شاء، روى البخارى عن سهل بن سعد قال: كانت منا امرأة تجمل في مزرعة لها "سلقا" فكانت إذا جاء يوم الجمعة تنتزع أصول السلق فتجعله فى قدر ثم تجعل عليه قبضة من شعير بعد أن تطحنه، فتكون أصول السلق عرقه- برقه- قال ممهل: كنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك، ولم يكن فى الطعام لحم ولا دهن.. " هذه أمرأة مؤمنة سمحة تدخل السرور على الناس بما آتاها الله من فضله! ولو فعلت ذلك فى عصرنا لأنكر المتزمتون عليها! ولقال كل جرئ على الفتوى: كيف يلقى عليها السلام؟ وكيف تردّه؟ وكيف تلقى الضيوف؟ إلخ، إن تقاليد المسلمين فى معاملة النساء لا تستند إلى كتاب أو سنة.، وقد نشأ عن ذلك أن المثقفات فى العصر الحديث تجهّمن للتراث الدينى كله يحسبنه السبب فى تجهيل المرأة، وهضم مكانتها، وإنكار حقوقها المادية والأدبية التى قررتها الفطرة وأكدها الوحى وبرزت أيام حضارتنا واستخفت مع انتشار القصور وغلبة الأهواء . ص _058(1/47)
هل دلّل الإسلام المرأة؟ قالت إحدى النساء: إن الإسلام هضم المرأة إذ جعل الرجل قادرا على تطليق زوجته متى شاء، إن هذه القدرة المتاحة له سيف مصلّت على عنق المرأة يهددها ويذلها..! قلت: يمكن فى المقابل أن يزعم الرجل بأن الإسلام دلل المرأة ويسَّر لها التمرد إذ أباح لها مخالعة الزوج وترك البيت عندما تشاء.! إن تصوير أحكام الأسرة وحدود الله داخل البيت المسلم لا يسوغ أن يقع فى هذا الإطار المتوتر الخانق، ويبدو لى أن تقاليد الشرق، والأعراف الشائعة فيه من وراء هذا العوج الفكرى.. فالرجل رب البيت والقيّم على الأسرة، بيد أننا فى أغلب الأحيان نظن الرياسة لونا من الفرعونية أو الانفراد بالسلطة فلا تفاهم ولا شورى ! الرئيس لا يعترف برأى آخر ولا يكترث بإرادة أخرى! وهذا الفهم لمعنى الرياسة أسقط الشرق سياسياً واجتماعياً، وأضر بالدول والبيوت على سواء. إن الرياسة الصحيحة عبء زائد، ومسئولية أثقل، وهى فى البيت الإسلامى تتمة لجملة من الحقوق والواجبات المتبادلة كما جاء فى الآية الكريمة " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ". وأساس التعامل الخلق الزاكى، والحب السيّال، والإيثار الذى يرجح الفضل على ص _059(1/48)
العدل والترفّع عن ملاحظة الصغائر! ومن أدب العرب فى بناء الأخلاق وتقويم السلوك قول الشاعر. ولا خير فى حُسن الجسوم ونبلها إذا لم تَزِن حسن الجسوم عقول! ولم أر كالمعروف، أما مذاقه فحُلو، وأما وجهه فجميل...! ذرينى فإن الشحَّ، يا أم هيثم لصالح أخلاق الرجال سرَوق! لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق! وقد لاحظت فى سورة النساء الصغرى: " الطلاق " أن الإسلام شديد الحرص على مزج التشريع بالتربية الأخلاقية، والأحكام العملية بالآداب النفسية مثل "سيجعل الله بعد عسر يسرا " ومثل " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا " ومثل " من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " والويل للبيوت إذا تركت منطق الدين والخلق واتجهت إلى القانون والقضاء... إن المجتمعات فى الشرق والغرب اعترفت بأن الطلاق قد يكون ضرورة نفسية واجتماعية، وأنه ليس سوطا فى يد الرجل بل قد يكون فكاكا لإسار المرأة. وأعرف أسرا إسلامية جعل الدين أفرادها جسدا واحدا فما يَعْبُر الطلاق بخاطر أحد! إن تماسكها أمتن وأزكى. ولكن الأمة الإسلامية فى أيام اضمحلالها العقلى والنفسى نسيت وظيفة الأسرة وتنشئة الأولاد وبناء المستقبل على الحاضر، وربما علّق أحد الناس مستقبل بيته على رطل لحم يرفض شراءه! فيحلف بالطلاق على ذلك! ماذا نقول إلا مما قاله الله فى هذه الأحوال وهو يختم سورة الطلاق " وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا ". ص _060(1/49)
الأم مدرسة خطر لى أن أعرف المستوى الثقافى للمرأة المسلمة فى صدر الإسلام، وقبيل شروق شمسه! إن الثقافة الغزيرة تعين الرجل والمرأة كليهما على ضبط الحقائق وإحسان الحكم على الأمور والإشراف على تربية الأجيال الناشئة تربية مثمرة مجدية. وقد رأيت الابتعاد عن المصادر المتهمة والاتجاه إلى الشعر - وهو ديوان العرب - لأتحسس سيرة المرأة وخلقها وموقفها من القيم السائدة فى المجتمع ومدى وفائها للفضائل الإنسانية على الإجمال. ووقع فى يدى - على غير تعمد - ديوان الحماسة لأبى تمام، وشرعت أقرأ باب الرثاء! فوجدت مراثى حارة لنساءٍ كثيراتٍ يبكين فيها أحباءهن، ورأيت أن أختار منها أولا هذه الأبيات لعمرة الخثعمية بعد أن فقدت أبنيها ، فأخذت فى سرد مناقبهما، قالت: هما أَخَوا، الحرب، من لا أخاله إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما هما يلبسان المجد أحسن لبسة شحيحان ما استطاعا عليه كلاهما شهابان منا أوقدا ثم أُخمدا وكان سَنًى للمدلجين سناهما !! إذا نزلا الأرض المخُوفُ بها الردى يخفض من جاْشيهما مُنْصلاهما !! الخ والمنصل: النصل تعنى السيف، والأم الثاكل تفخر بشجاعة ولديها فى وجه الحتوف، وتتحدث عن المجد الذى حققاه فى حياتهما، وعن فضائل البذل والإيثار وإلاستعفاف التى توفرت لهما. ص _061(1/50)
وفقدان أم لولديها معا خطب فادح، لكن العجيب أنها تحيِّى فى ابنيها الشرف والكرم، ويغلبها ذاك على حزنها.. تُرى هل المرأة العربية اليوم على هذا المستوى من الوعى والسلوك والكفاح. ولقد كانت قبل الاستعمار الحديث أمية لا تقرأ ولا تكتب، وفرضت عليها هذه الأمية باسم الإسلام المفترى عليه! فما اجتاحت بلادنا الحضارة المادية المعاصرة وفتحت أبواب المدارس للمرأة، فلم تتعلم فيها حقائق التراث الغالى ومناقب المرأة فى عصرها الأول.. كلا لقد غزا عقلها الفكر الأوربى، ونهجه الشارد، فإذا نحن أمام تقاليد لا تسُّر ومناهج لا تنفع بل قد تضر! والسبب هو القصور العلمى الذى بلغ مرتبة الجهل المركب عند بعض الإسلاميين المتحدثين عن موقف الإسلام من المرأة. والصائحين بأصوات منكرة: المرأة لا ترى أحدا ولا يراها أحد، تخرج من بيتها إلى الزوج أو إلى القبر!. ما أجمل قول حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيِّب الأعراق !! ص _062(1/51)
فى الجاهليات القديمة الجاهليات القديمة للعرب واليونان والرومان وغيرهم ظلمت المرأة ظلماً مبينا حين استقبلت الأنثى بتجهّم وحين اجتاحت حقوقها بلا اكتراث، وقد لجأ أفراد شواذ فى الأمة العربية إلى وأد الطفلة عندما تولد! وهو تصرف وحشى ! مستنكر فاحش !. وما نشك فى أنه عمل فردى رفضه أولو الألباب وحقروا مقترفيه، أما جمهرة العرب فى الجنوب والشمال فقد صوّر موقفهم من الطفولة كلها قول الشاعر: لولا بنيّات كزُغبِ القطا رُددن من بعض إلى بعض لكان لى مضطرب واسع فى الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض ويقول شاعر آخر فى ابنته أميمة: لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أقاس الدجى فى حندِس الظُلَمِ وزادنى رغبةً فى العيش معرفتى ذلَّ اليتيمة يجفوها ذوو الرحم..! أحاذر الفقر يوما أن يُلمَّ بها فيهتك الستر عن لحم على وضم.! والواقع أن جمهرة العرب كانت شديدة الغيرة على النساء تسترخص الدماء فى الدفاع عنها، وتمنحها الفرصة لتكون كريمة عظيمة! كان المنذر اللخْمى ملك الحيرة أنجب بنتا اسمها حُرَقِة وابنا اسمه حُرَيق! ودارت الأيام وفقد المنذر مملكته، وانتقلت الأسرة من حال إلى حال، فقالت حُرقة فى ذلك: ص _063(1/52)
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصَّفُ! فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها! تقلَّب تارات بنا وتصرَّفُ! فلما فتح سعد بن أبى وقاص أرض الفرس، أتته حُرقة بنت النعمان مع عدد من جواريها تطلب منه العون، فنظر إليهن وسأل: أيتكن حرقه؟ قلن: هذه وأشرن إليها! قال لها أنت حرقة. قالت نعم فما تكرارك الاستفهام؟ إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال. إنّا كنا ملوك هذا المصر من قبلك، يجىء إلينا خراجه، ويطيعنا أهله زمان دولتنا. فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد! إنه ليس من قوم بسرور وجدَةٍ إلا والدهر مُعقبُهم حسرة، وكررت بيتيها السابقين. فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت له: لا أنصرف عنك حتى أحييك بتحية ملوكن ا: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولازال لكريم عندك حاجة! ولا نزع من عبد صالح نعمة إلا جعلك سببا لردّها عليه..! فلما خرجت من عنده تلقاها نساء البلد، فقلن لها: ما صنع بك الأمير؟ قالت: حاط لى ذمتى، وأكرم وجهى! إنما يكرم الكريمَ الكريمُ.. انظر عقل هذه الأميرة السابقة وأدبها وحكمتها وكيف حاورت سعد بن أبى وقاص القائد الفاتح المنتصر، فنالت تقديره وإكرامه... وددت لو أن المثقفات العربيات كنّ على هذا المستوى، فنلن إعجاب واحد من العشرة المبشرين بالجنة. إن المرأة تعظم بعلمها الواسع وبيانها الحكيم وسيرتها الماجدة . ص _064(1/53)
الجاهلية العربية أشرف استكثر البعض أن أقول: إن الجاهلية العربية الأولى كانت أشرف من جاهليات اليونان والرومان، لاسيما فى الوضع الاجتماعى للمرأة! ويبدو أن هذا الاستكثار يعود إلى سوء ظننا بأنفسنا وحاضرنا وماضينا بعد الهزائم الحضارية المهينة التى لحقت بنا فى العصور الأخيرة وصدق المثل السائر: إن الدنيا إذا أقبلت على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه..! صحيح أن الإشراك بالله كان قاسماً مشتركاً بين هذه الجاهليات كلها، "فهُبل " الإله الكاذب عند العرب و " أوبولو" الإله الكاذب عند اليونان! وليس أحد الفريقين أولى بالتسفيه من الآخر. أما النظرة إلى المرأة، والتشرف بصونها والاستقتال فى حمايتها فخلق عربى لا يكاد الرومان أو اليونان القدامى يعرفون شيئا عنه!! وتدبّر قول عمرو بن كلثوم فى معلقته: على آثارنا بيضٌ حسان نحاذر أن تقسَّم أو تهونا إذا لم نحمهنَّ فلا بقينا لشىء بعدهن ولا حيينا.. !! أين هذا من قول الشاعر اليونانى " سيموندس " الأمورجى " جعل الله عند الخلق طبائع النساء مختلفة، فجاءت إحداهن كأنما أخرجها الله من خنزير، وأخرى كأنما أخرجها الله من ثعلبة ماكرة وثالثة كأنها الكلبة حركة ونشاطا، فهى تجوس أركان المكان فاحصة متطلعة، فإن لم تجد شيئا أطلقت لسانها بالسوء " !! قد تقول هذا شاعر أحمق لا يؤخذ من كلامه حكم عام! ونقول: لنترك أقوال هذا ص _065(1/54)
الشاعر وأمثاله وهم كثير فماذا نقول فى أفلاطون الفيلسوف الأشهر، وفى مدينته الفاضلة؟ لقد جعل النساء آخر طبقات المجتمع وتركهن كلاً مباحاً على الشيوع بين طبقة الحكام والفرسان!!، فإن تكن هذه معالم المدينة الفاضلة فما تكون معالم المدينة النازلة؟. أما الرومان فإن مكانة الأنثى لديهم منحطة بطبيعتها، وليست لها الحقوق المقررة للرجال، ولما كانت القوانين الأوربية تمتُّ بنسب وثيق إلى الرومان الأوائل، فإن القانون الإنكليزى حتى القرن الثامن عشر كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته! ولم يتدخل القانون إلا فى تقدير السعر الذى يمكن أن تباع به... ولا يزال القانون الفرنسى يجعل تصرفات الزوجة المالية تابعة لمشيئة الزوج!. إن الإسلام وحده هو الذى صان شخصية المرأة ورد كل عدوان عليها وفق قاعدته: " لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض". والذى يحز فى نفسى أن جمهورا من المتدينين الجهلة فى بلادنا تبنّى مفاهيم الجاهليات اليونانية والرومانية وغيرها وقرر أن يحيا فى نطاقها، وزاد إلى هذه السفاهة أن قرر الدعوة إليها بحسبانها مفاهيم إسلامية . كيف نحمى الإسلام من أصدقائه الجهلة؟ فهم أضرى عليه من أعدائه السافرين.. ص _066(1/55)
المرأة فى عصور الانحطاط فى دراستى للمجتمع العربى قبيل البعثة الشريفة وكنى مطلع الدعوة الإسلامية وجدت وضع المرأة أوضح وأرسخ من وضعها أيام انحلال الأمة فى عصور الهزيمة والاضمحلال الأخيرة. ولنترك مأساة وأد الأنثى فى بعض القبائل أو فى مسالك الجاهلين الشاذين، ولننظر إلى الوعى العام للمرأة، ونضج شخصيتها، ومشاركتها لنى شئون الحرب والسلم، وقدرتها على بلوغ الصفوف الأولى فى مواجهة الأحداث التاريخية الكبرى، إننا نرى ما يستحق التسجيل!. لقد شاركت المرأة فى بيعة العقبة الكبرى، وشاركت فى بيعة الرضوان تحت الشجرة! ومن المؤكد أنها كانت ستمنع من مثل هذه المبايعات فى تاريخ المسلمين الأخير، وسيقال لها : امكثى فى بيتك! وروى أحمد عن أنس بن مالك أن أبا طلحة ـ قبل أن يسلم ـ خطب أم سُليْم ـ وهى مسلمة ـ فقالت له المرأة الراشدة: يا أبا طلحة! ألست تعلم أن إلهك الذى تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى! قالت: أفلا تستحى تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإنى لا أريد منك صداقاً غير الإسلام.! قال لها: دعينى حتى أنظر فى أمرى... فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالت لابنها أنس ـ راوى الحديث ـ يا أنس زوِّج أبا طلحة!! فزوَّجه من أمه.! أى مجتمع هذا؟ إننى بقدر ما أعجب من ذكاء المرأة وإخلاصها لدينها أعجب ص _067(1/56)
لسلامة الفطرة وانتفاء الريبة وسهولة الحلال وسرعة إقراره.. وروت أم عطية أنه حين قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار فى بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلّم عليهن! فرددن السلام، فقال: أنا رسول رسول الله إليكن فقلنا: مرحبا برسول الله، وبرسول رسول الله! فقال عمر: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولداكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصين فى معروف؟ قلن: نعم! فمدّ عمر يده من خارج الباب ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم اشهد!. ولم يجعل عمر البيعة مصافحة باليد، وهذه هى السنة، تنزيها لجوِّ التديُّن من الشبهات التى عرفت فى أديان أخرى. وللكهان فى هذا المجال دسائس محظورة من الخير تحصين الإسلام منها، فلا نريد أن يكون بيننا أشباه راسبوتين.. وأنا إذ أسوق الخبر الأخير أذكر أن أحد العلماء المسئولين عتب على أنى حين أدخل للتدريس بين الطالبات ألقى عليهن السلام! قلت: وما الحرج فى أن يسلم أستاذ على تلميذاته؟ قال: هذا لا يجوز! قلت له إن البخارى روى جواز هذا ووقوعه! فقال: لكن العلماء لم يأخذوا بروايته قلت: أى علماء؟ إن الجهال هم الذين يقولون فى الإسلام بغير علم، ويرجحون تقاليد آبائهم على تعاليم الإسلام. ص _068(1/57)
لنعرف الموقف الصحيح فى عصور متطاولة كان نصيب المرأة قليلا من الرحمة العامة الغامرة التى بعث بها صاحب الرسالة الخاتمة! حاشا عصر البعثة الشريفة والخلافة الراشدة فإن المرأة شهدت أياما ذهبية. وتأمل موقف النبى الكريم من جميلة بنت أوس عندما جاءته تشكو بقاءها فى بيت الزوجية لا لشىء إلا لأنها تكره هذا الزوج وتعاف عشرته! إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: لقد أعطاك زوجك حديقته قفراً، فهل تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم! فأمر الرجل فطلقها. إن الأسرة لا تقوم على امرأة تبغض الرجل وتشتهى مفارقته ومن هنا قال تعالى " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به.. ". وهل هذا الخلع طلاق أم فسخ للعقد؟ بحث لا نتعرض له هنا وإنما نتعرض لعوج فقهى أو قانونى عاصرته فى مصر، فقد كان القضاء الشرعى يحكم بأن يقود رجال الشرطة المرأة الكارهة بالقوة إلى بيت الطاعة لتحتضن من تبغض!! وكان رد الفعل لهذا المسلك أن وضع باسم الشريعة قانون آخر يخرج الرجل من البيت إذا أوقع الطلاق! لم هذا الاضطراب فى فهم الدين وتطبيقه؟ وأين قوله تعالى "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ؟ إن للمسلمين غرائب فى فهم شريعة الخلع وشريعة الطلاق لا تقوم على فقه واعٍ واسع الأفق 00! ص _069(1/58)
وأمر آخر نذكره آسفين! ذهبت نسوة إلى أحد المساجد للصلاة، وأخذن فى مؤخرة الصفوف مكانا قصيا، فجاءهن إمام المسجد غاضبا يقول: إن المساجد بنيت للرجال وحدهم قال تعالى: ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ... ). وقابلنى هؤلاء النسوة كسيرات كاسفات البال فقلت لهن: هذا رجل جاهل فإن الله يقول ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. ) فهل الصدق فى العهد والوفاء بالوعد والثبات على الدين إلى آخر رمق وقف على الرجال وحدهم؟ فأين قوله تعالى ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض )؟. ولكن منطق الجهل نصب سرادقه على جماهير غفيرة من الناس ورأوا أن ذهاب المرأة! إلى المسجد بدعة منكرة، وأن تلقيها أنواع الثقافات تقليد أجنبى، وأن وعيها بالشئون العامة تطفُّل مرفوض . وامرأة مغلقة على هذا النحو كيف تكون راعية بيت؟ وربة أسرة؟ ومنشئة أجيال محترمة!؟ إن تقهقر الأمة الإسلامية فى الأعصار الأخيرة يعود إلى العجز الشائن فى فهم موقف الإسلام الصحيح من المرأة. وهذا العجز من وراء انتصار المدنية الحديثة وانتشار عُجرها وبُجرها فى آفاق عريضة، والعلاج يقدمه فقهاء أذكياء منصفون، لا متفيهقون متعالمون. ص _070(1/59)
مرويّات مسيئة للإسلام فى تراثنا الفقهىّ ـ على نفاسته ـ أحكام استقاها الفقهاء من أفواه الناس، لا تستند إلى أصل من كتاب أو سنة، ولا إلى دليل ثانوى يعتمد على الكتاب والسنة!. من ذلك مثلا الزعم بأن الجنين قد يبقى فى بطن أمه بضع سنين، وعلى هذا تطول عدة الحامل ما شاء الله... وقد ثبت علميا أن الحمل يستحيل أن يبقى فى الرحم فوق تسعة شهور من ساعة العلوق، وأن الرحم ينفجر بما فيه قبل مرور العام.. وليس على ما جاء فى كتب الفقه دليل شرعى، ولا يعدو الأمر ترديد كلام انتشر بين الناس لا وزن له..! وهناك أقوال فقهية تقترب من هذا الموضوع منها أن الرجل تبطل صلاته إذا مرّ أمامه كلب أو امرأة (!) وقد رفض هذا الكلام الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعى رضى الله عنهم، وقالوا: لا تبطل الصلاة بشىء من هذا.. على أن ابن حزم يخالف الأئمة ويقول: " يقطع صلاة المصلى مرور الكلب والحمار والمرأة "..!! والغريب أنه يقول بعد ذلك "... إلا أن تكون المرأة مضطجعة معترضة فلا تقطع الصلاة حينئذ "!! يعنى أن عبور المرأة أمام المصلى يبطل الصلاة أما استلقاؤها أمامه على ظهرها فلا شىء فيه! وهذا كلام فى غاية الغثاثة والسخف.. ولماذا يذهب ابن حزم هذا المذهب الغريب؟ لأنه قرأ فى الصحاح عن أم المؤمنين ص _071(1/60)
عائشة أنها ربما استراحت على سريرها ناحية القبلة-فيصلى الرسول إلى القبلة - وهى معترضة-دون حرج! فلماذا لم يرد بهذه الرواية الصحيحة ما خالفها من آثار أخرى؟ ويحكم كما حكم غيره من الأئمة ببطلانها؟ لقد ركب مركبا صعبا فى هذه القضية تبعه فيه من فقدوا ملكة الفقه، وأولعوا بمرويات لا ريب فى إساءتها إلى الإسلام!! وكلام ابن حزم هنا يشبهه كلام آخر له ما أظن عاقلا يقبله.. فقد حكم بأن من سئم طعاما وقدمه لآخر فمات لم يقتصّ منه، ولا يسمىّ قاتلا..! وأصل القصة أن يهودية وضعت السم فى شاة وأهدتها للنبى عليه الصلاة والسلام فلما شرع يأكل منها أنكر مذاقها، ونهى جلساءه عن المضى فى الأكل. وأحضر اليهودية فاعترفت بأنها رأت قتله بهذه الطريقة، وأنه إذا كان نبيا فسيعرف ويمتنع.. فتركها النبى دون عقاب.. ولكن بعض أصحابه كان قد تناول قدرا كبيرا منه فات مسموما، فأمر بالقصاص منها... وقد حكى الرواة القصة فذكر بعضهم عفو النبى عنها، وذكر الآخرون الأمر بقتلها. وسبب الخلاف ما شرحناه آنفا، لكن ابن حزم رجح رواية العفو، وحكم فى الجزء الحادى عشر من المحلّى بأن من وضع سماً فى طعام وقدمه لأحد يريد قتله لا قصاص عليه ولا دية!!. ورواية فساد الصلاة لمرور الحمار والمرأة كرواية سقوط القصاص ممن قتل بالسم أحد الناس وهو وهم مردود! فافقهوا دينكم يرحمكم الله. ص _072(1/61)
زوجات الرسول (1) انطلقت هذه الشائعة بين الأوربيين حتى كادت تكون بينهم يقينا! قالوا: كان لمحمد تسع نسوة يتقلب فى أحضانهن ويشبع شبابه المنهوم، لا يسأم من واحدة حتى يتجدد هواه مع أخرى.. وقالوا : إن ساغ ذلك لواحد من الناس فما يسوغ من داع إلى الروحانية يصل الناس بالسماء، ويحدثهم عن الله والدار الآخرة!. إن هذا العشق المشبوب للمرأة له دلالة واسعة، فالرجل رجل دنيا وليس رجل دين، وما نصدق مزاعمكم معشر المسلمين عن تجرده وتقواه... قلت: إذا كان ما قلتموه صحيحا فما استنتجتموه حق! لكن هذا الذى ذكرتم لون من تحريف الكلم عن مواضعه يجعله أدنى إلى الكذب.. إن تاريخ محمد من ألسنة العدو والصديق يشهد بغير ما ذكرتم، فقد تزوج فى الخامسة والعشرين من عمره بامرأة فى الأربعين من عمرها، وظل معها وحدها قريبا من ثمان وعشرين سنة حتى ماتت فأين هذه المتع التى تصفون؟. عندما كان فى الأربعين من عمره كانت شيخة فى الخامسة والخمسين، وعندما كان فى الثالثة والخمسين كانت تقترب من السبعين فأين الحسناوات اللاتى يتنقل بين صدورهن كما تزعمون؟ وهو كما يقرر العدو قبل الصديق لا يعرف إلا الوفاء للسيدة العجوز التى قضى معها شبابه كله.. ثم ماتت زوجته خديجة فى عام أطلق عليه عام الحزن، فاستقدم إلى داره امرأة تقاربها فى السن هى التى هاجرت معه إلى المدينة... ص _073(1/62)
وصحيح أنه فى السنوات العشر الأخيرة من حياته اجتمعت لديه نسوة أخريات من هن؟ مجموعة من الأرامل المنكسرات أحاطت بهن ظروف صعبة، لم يشتهرن بالجمال ولا كان لهن من السن المبكرة ما يجدّد الحياة اللهم إلاّ بكرا واحدة بنت صديقه أبو بكر تزوجها توثيقا لعلاقاتهما. وتزوج بعدها حفصة بنت صديقه عمر، ولم تعرف بجمال، بل بدا أن البناء بها بعد موت زوجها كان جبر خاطر ودعم مودة وجهاد!.. وتزوج أم حبيبة المهاجرة إلى الحبشة، إنه لم يرها هناك بيد أنه يعرف إسلامها برغم أنف أبيها زعيم المشركين يوم إذ، وبقاءها على الإسلام برغم أنف زوجها الضائع فهل يتركها فى وحشتها وعزلتها؟ لقد أرسل يخطبها ويعز جانبها. وكلما أحاطت ظروف سيئة بامرأة ذات مكانة، ضمها إليه، وما كان للشهوة موضع يلحظ، وأدركت النسوة القادمات هذه الحقيقة، وعرفن أن هذا الوضع فوق طاقة الإنسان العادى، فعرض بعضهن فى صراحة أن يبقى منتسبا للبيت النبوى مكتفيا بهذا الشرف، ومتنازلا عن حظ المرأة من الرجل، فإن الرسول آواهن مستجيبا لنداء إنسانى لا لبواعث الغريزة! أين مكان الغريزة والحالة على ما شرحنا؟ وفى استبقاء أولئك الزوجات على ما ارتضين نزلت آيات كريمة منها قوله تعالى: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير "! ومنها قوله " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن… " إنه لا يستطيع إلا ذلك، فإن دوافع الشهوة كانت ميتة وراء هذا التعدد الذى فرضته أزمات أحاطت ببعض المؤمنات العريقات... ولنفرض جدلا أن الإعجاب بالجمال هو الذى أوحى بتزوج بعضهن، أفكانت أيام الحصار المضروب على الدعوة، والأزمات الخانقة التى يتعرض لها المسلمون عامة، وأهل البيت النبوى خاصة، تيسِّر للمؤمنين ونبيهم طعم الراحة؟ ما أشقى ربات البيت عندما يكون رب البيت أبا(1/63)
لأمة كبيرة وملاذا للمستضعفين واللاجئين وناشدى العون فى الصباح والمساء، إنه يؤثر غيره بما لديه ويبيت هو واللاتى معه ـ على الطوى.. ص _074
روى البخارى ومسلم عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. وعند مسلم قالت عائشة: لقد مات رسول الله وما شبع من خبز وزيت فى يوم واحد مرتين.. وعند الترمذى، قال مسروق: دخلت على عائشة فدعت لى بطعام وقالت: ما أشبع فأشاء أن أبكى إلا بكيت! قلت: لم؟! قالت: أذكر الحال التى فارق عليها رسول الله الدنيا! والله ما شبع من خبز ولحم مرتين فى يوم! وعند البيهقى قالت: ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه! وعند الطبرانى ما كان يبقى على مائدة رسول الله شىء من خبز الشعير قليل ولا كثير! قال الحسن: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يواسى الناس بنفسه، حتى جعل يرقع إزاره بالأدم" ما أكثر العفاة الطارقين، يلتمسون المطعم والملبس!! وكان الناس ربما اقتحموا البيت النبوى قبل إعداد الطعام بوقت طويل، أو جلسوا بعد الفراغ منه وقتا طويلا، ولا ريب أن ذلك كان يشق على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويجد منه الحرج فم يكن بد من تنزّل الوحى الإلهى يضع نظاماً صارماً لهذا التسيب قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق.. ). إن زوجات النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعبن معه طويلا فى خدمة المجتمع وتعليم الناس ومعاونة الضعفاء واستقبال الوفود. وكان مألوفاً أن يصحو النبى للصلاة، ويصلى بالناس فى المسجد ثم يعود إلى بيته ليسأل عن شىء يفطر به فلا يجده فينوى الصيام.. وربما وجد بعض الخل فلا يضجر ولا يشقى بل يقبل عليه(1/64)
راضيا قائلا: نعم الأدم الخلّ..!! هذا هو نهج الحياة التى يزعم ص _075
الأوربيون أنها كانت تلذُّذًا بالنساء واستمتاعا بالدنيا بين أحضانهن.. أين هذه الدنيا الناعمة؟؟ وقد ذكر كُتّاب السيرة جميعا كيف ضاقت الزوجات بهذا الشظف، وكيف اجتمعن على المطالبة بتغييره، وكيف تطلعن إلى حياة أهدأ وأهنأ.. فلما بوغتن بالرد الصارم: هذا أو الفراق! ثابتْ إلى نفوسهن مشاعر الإيمان وآثرن انتظار الآخرة، والعيش فى ظل النبوة المكافحة على استعجال الطيبات فى هذه الدنيا... كان مفروضا على بيت الوحى أن يعيش كأضعف بيت فى الدنيا، وأن يتحمل المقيمات به كل ما يتحمله المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وعاشوا من بعدُ على ما تيسّر... وكافأهن الله سبحانه على هذا البذل، بأن صرن أمهات للمؤمنين، وهو لقب ـ كما رأيت ـ فيه من التكليف مثل ما فيه من التشريف... أكانت هناك ديانة أرضية أو سماوية تنهى عن تعدد الزوجات؟ أو ترى فيه أدق شائبة؟ لا، بل إن أنبياء العهد القديم ألفوا التعدد دون حدود! والمذكور عن سليمان وحده أنه تزوج بثلاثمائة امرأة. وليس فى النصرانية نهى عن التعدد، وقد حكى "ويل ديورانت " فى قصة الحضارة عن آثام الأحبار والرهبان ما يثير الاشمئزاز! فلنترك الدين إلى الفلسفة.! ولننظر إلى فلاسفة الإغريق لنرى كيف يعيش قادة الفكر القديم...! وقد كنت راغبا عن ذكر هذه الدنايا، ولكنى رأيت الطاعنين فى محمد يجمعون بين قلة الحياء وكثرة الافتراء فقلت: ما بدُّ من حمل العصا... كتب ماجد نصر الدين فى صحيفة اللواء الأردنية مقالا عنوانه " لماذا ينهل المثقفون من تراث موبوء بالشذوذ؟ " نقتطف منه هذه الجملة "إن الفلاسفة الذين يعتبرهم البعض مثله الأعلى هم لواطيُّون، شاذون جنسيا، يفخرون بشذوذهم، ويتباهون بمضاجعة الغلمان!! وقد كرهت امرأة سقراط رجلها وعافت عشرته لتعلقه بأحد تلاميذه، وقس ص _076(1/65)
على ذلك إفلاطون الذى تعرّف على سقراط وهو صغير، وسقراط مشهور بهذا الداء ومتهم بإفساد الشباب.. ويزعم أرسطو أن نسبة الشواذ فى عصره تعادل نسبة الطبيعيين وقد جرت على لسانه عبارات لا نجرؤ على نقلها هنا. وتقول مؤلفة " الجنس فى التاريخ: إن معظم المجتمعات حرمت اللواط، أو تجاهلته إلا اليونان، فإن البغاء المذكر كان شائعا، ويمكن. استئجار الغلمان! ". والحضارة الغربية الحديثة ورثت عن اليونان والرومان مباذل وضيعة مخزية، ومع ذلك فهى تتغافل بخبث عن عللها، وتتناسى الدنس الذى تصبح فيه وتمسى، وتبسط لسانها بالأذى فى سيرة أمير الأنبياء، ومعلم المأم الطهر والعفاف!! وهل تنتظر من بيئة " الإيدز" إلا هذا التدنى؟. ص _077(1/66)
زوجات الرسول (2) قال لى متعجبا: كيف تم زواج عائشة، وهى فى الصبا الباكر بمن زاد عمره على الخمسين؟ فقلت له: سؤال وارد لا غرابة فيه! ولكن دهشتك سوف تزول يقينا عندما تعلم أن عائشة قد تقدم لها قبل محمد أحد الخاطبين !. قال ـ وقد فغر فاه وحملق عينيه ـ كيف كان ذلك؟ قلت: ذكر بعض المؤرخين أن جبير بن المطعم بن عدى تقدم لخطبة عائشة، وحدّث بذلك أبويه فقبلا بادئ ذى بدء وذهبا إلى أبى بكر راغبين فى إتمام الزواج.. غير أنهما خشيا بعد قليل أن يترك ابنهما دين آبائه، ويعتنق الإسلام متأثرا بأصهاره، فتريثا فى الأمر، وبدا لهما أن يرجئاه.. وهنا جاءت خولة بنت حكيم إلى أبى بكر تذكر أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتجه إلى طلب عائشة، وذهب أبو بكر إلى المطعم يسأله: أهو باق على رغبته فى خطبتها لابنه؟ فاعتذر إليه، وترك له حرية التصرف. وعندئذ لم يبق هنالك وعد ولا عهد، وتم زواج محمد من بنت أبى بكر! إن هناك فتيات ينضجن فى سن مبكرة، وقد أخبرنى أحد الأطباء أن القضاء عرض عليه فتاة لمعرفة عمرها، فقدر لها سن سبعة عشر عاما، ثم تبين من شهادة الميلاد أنها فى الثالثة عشرة. إن عائشة يوم بنى بها الرسول كانت أهلا للزواج يقينا، وما نشك فى أن الدافع الأول لهذا الزواج كان توثيق العلائق بين النبى الكريم وصاحبه الأول، وهو الدافع لتزوجه من حفصة بنت عمر بن الخطاب لما آمت من زوجها! ولم تكن حفصة امرأة ذات جمال، ولكن هذا العنصر لم يكن المانع من هذه، ولا الدافع إلى تلك! ص _078(1/67)
لقد كانت هناك أسباب اجتماعية وسياسية أوحت بتعزيز الروابط حينا، وجبر الكسور حينا، ومدّ الجسور بين صاحب الدعوة وأشتات من الأتباع والأسر التى تزحم جزيرة العرب فى أيام مليئة بالأزمات والمحرجات... ربما قال قائل: آمنا بأن تعدد الزوجات كان مألوفا فى الديانات الأرضية والسماوية حتى جاء الإسلام فوضع عليه القيود، فلماذا لم يلتزم نبى الإسلام بالعدد الذى وقف المسلمين عنده؟ ألم يجئ فى الأحاديث الصحاح أنه أمر رجلا لديه عشر زوجات أن يمسك أربعا ويسرّح الباقيات؟ قلت: سؤال صحيح! فلنتدبر الإجابة عليه! إن النسوة الست التى طلقهن صاحب العشرة سيتركن بيته ويجدن بيوتا أخرى، فلهن حق الزواج ممن أحببن، ولا حرج على أحد فى التزوج منهن!. لكن ماذا عسى يفعل زوجات الرسول إذا كان الوحى قد نزل من قبل يقول للمسلمين: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما". لقد صرن أمهات للمؤمنين وفق النص القائل: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم .... " وما كان لمؤمن أن يتزوج أمه! فهل يسوغ بعد هذا تسريحهن ليعشن فى وحدة وإياس؟ ولنفرض زورا أن تسريحهن مطلوب فهل هذا هو الجزاء الإلهى لنسوة تحمّلن مع صاحب الرسالة شظف العيش ومشقات الحصار المضروب على أمته؟ لقد اخترن البقاء معه عندما خيَّرهن، وأبيْن العودة إلى أهلهن فى بيوت أَمْلأَ بالسمن والعسل، وحملهن الإيمان على البقاء فى جو التهجد والصيام والكفاح مع النبى الذى انتصب لمقاومة الضلال فى العالمين، فهل يكون الجزاء بعد هذا الوفاء الخلاص منهن؟ إن الله أذن ببقائهن، والاقتصار عليهن، وصدر لهن تشريع خاص ص _079(1/68)
( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا ). وإنى أسائل الهاجمين على محمد من خلال هذه الثغرة المزعومة فى حياته: أهى محاكمة خاصة لهذا الإنسان الشريف؟ ومحاولة متعمّدة للنيل منه وحده؟ أعرف أن مساءات كثيرة وجهت لأنبياء من قبله، وتعرض الرجال الصالحون لأقبح التهم! ألم يتهم النبى الطاهر لوط بأنه زنى بابنتيه كلتيهما بعد ما أفقدته الخمر وعيه وأنجب منهما؟ ألم يتهم النبى يعقوب بأنه سرق منصب النبوة من أخيه الأكبرعيصو بعد عملية احتيال ماكرة على أبيه الذى كف بصره؟ ألم يتهم سليمان بأنه انطلق فى شوارع القدس يبحث عن الحبيب المجهول ليأخذه إلى فراشه، مع أن عنده ألف امرأة؟ إن هذا البحث الماجن استغرق عدة صفحات مليئة بجمل طائشة تحت عنوان نشيد الإنشاد الذى لسليمان! من شاء قرأه فى العهد القديم.. ومع جنون الاتهام الذى سيطر على كاتبى هذه الصحف، فإن المتهمين بقوا أنبياء مكرمين! أما سليمان فقد جعله اليهود ملكا، ولكن أى ملك؟ إنه بانى الهيكل الذى يجب أن يعاد بناؤه ليكون مسكنا للرب يتجلى فيه بهاؤه ويحكم العالم كله من سُدَّته بوساطة شعبه المختار من بنى إسرائيل ! أما محمد الصوّام القوّام الكادح لله طوال حياته، والذى جمع آخر عمره بضع نسوة من الأرامل والمصابات عشن معه على مستويات الضرورة، وتمحَّضن لله والدار الآخرة فهو وحده الذى يستباح وتتوارث الضغائن عليه، ويتجمع حلف الأطلسى لحماية شاتميه!! ومن أولئك الشاتمون الغاضبون؟ أهم رهبان وقذتهم العبادة وكبتوا حب النساء فى دمائهم فهم يشتهون ويميتون شهواتهم ابتغاء رضوان الله كما يزعمون؟ كلا، إنهم أفراد وشعوب شربوا كؤوس الشهوات حتى الثمالة، ولم يتركوا بابا للذة إلا افتتحوه دون تهيّب أو حياء. ص _080(1/69)
وحضارة أوروبا تميزت بأنها يسّرت للدهماء من المتع ما كان حكرا على الملوك والرؤساء فأضحى الصعلوك قادرا على الاتصال بسبعين امرأة كلما ذاق جديدا طلب مزيدا ما تحجزه عن دناياه تقاليد ولا قوانين، وفى هذا الوسط من الدنس يذمون محمدا وينالون منه! أى منطق هذا المنطق الجائر الظلوم؟ إن الإسلام لم يأمر بتعدد الزوجات، فإن الزواج ليس نشدانا للذة فقط وإنما هو قدرة على التربية ورعاية الأسرة، فمن عجز عن ذلك كلّفه الإسلام بالصوم، ونحن نوجه للأوربيين سؤالا لا مهرب منه: هل التعدد الذى أذن الإسلام به أفضل أم الزنى. إننى أسائل كل منصف صادق: هل المجتمعات الأوروبية تكتفى بالواحدة أم أن التعدد قانون غير مكتوب يخضع له الكثيرون؟ وثمّ سؤال آخر: هل الضرورات هى التى تدفع إلى التعدد الحرام أم أن الإثارات المتعمّدة فى الاختلاط المطلق وفى تقاليد الرقص التى لا آخر لها من وراء هذا الفيضان من العلاقات الآثمة؟؟ وأختم هذا القول بسؤال حاسم: هل وعى التاريخ الجاد سيرة رجل أعفّ خلقا وأشرف ثوبا وأغير على الحرمات وأبعد عن الشبهات من محمد؟..؟ هل حكى عن أحفال فى بيته رُصّت فيها الموائد وعليها زجاجات الخمور، وأطايب الأطعمة، وأنواع المشهيات والهواضيم؟ لقد كانت عيدان الحصير تنطبع على جلده وهو نائم، أو جالس، فإذا ظفر مع أصحابه بالخبز واللحم عدّ ذلك من النعيم الذى يسأل الناس عنه يوم القيامة!! فهل هذا النبى الفارس المخشوشن الجلد يوصف بأنه من أصحاب الشهوات ومن الذى يصفه؟ الذين ابتلاهم الله "بالإيدز" بعد ما ابتلاهم بالزهرى وغيره من أمراض الإسفاف والإسراف والسقوط!!. وطاولت الأرض السماء سفاهة وعيَّرت الشهب الحصا والجنادل! وقال السها للشمس أنت ضئيلة وقال الدجى للصبح: لونك حائل! فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدِّى إن دهرك هازل ص _081(1/70)
ماذا تفعل نساؤنا؟ من أيام العرب المشهورة فى جاهليتهم الأولى يوم "ذى قار" عندما أغار الفرس على أرض الجزيرة بجيش كبير، وتناسى العرب خلافاتهم لمواجهة هذا الغزو، والتقت القبائل فى جبهة واحدة للوقوف أمامه. يقول التاريخ: إن القائد العربى "حنظلة بن ثعلبة" أمر بقطع أحزمة الهوادج الموضوعة فوق ظهور الإبل، وأنزل النساء كى يمشين على الأرض وراء المقاتلين، ثم نادى فى الرجال بصوت سمعه قلب الجيش وجناحاه: فليقاتل كل منكم عن حليلته!! وكانت هذه الصيحة كفيلة بإشعال الحماس وقتل كل تردد، فانهزم الفرس هزيمة نكراء وولوا مدبرين.. وفى معركة أحد خرج نساء المشركين وراء الجيش الذى يطلب الثأرمن هزيمتهم فى بدر وهن ينشدن حاثات الرجال على الحرب: إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق! أو تدبروا نفارق فراق غير وامق! كان للنساء دور كما ترى فى كسب المعارك وكانت لهن دراية بقضايا المجتمع كبراها وصغراها! وقد ظهر ذلك فى بدء الوحى، فإن أبا لهب عم النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مع امرأته فى تكذيب الوحى ومقاومة الإسلام بضراوة وحقد! ص _082(1/71)
وكانت المرأة تسمّى الرسول "مذّمما" لا محمدا!! وتقول " مذمّماً أبينا. ودينه قليْنا. وأمره عصينا". ومشت بهذا الهجاء المسعور فى مجالس قريش تسفه وتتطاول وتبث الفتنة وتؤيد الكفر فنزل قوله تعالى فيها " و امرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد " والمرأة كانت من كبراء قريش، لا تشتغل بالاحتطاب وإنما شبّه سعيها بالوقيعة والبذاءة وإيقاد العداوات ضد الإسلام بمن تحمل الحطب للوقود!! قلت فى نفسى: إذا رزق الضلال نسوة ينصرنه بهذه الحمية، ويَتَبَنَيْنَ قضاياه بهذه القوة فلماذا يحرم الإيمان نشاطا نسائيا معارضا له، واقفا ضده؟ إن الذى أسقط آخر معاقل الإسلام فى الأندلس هما " فرديناد و إيزابيلا " رجل وامرأة تكاتفا على إسقاط علم التوحيد! وفى النساء المسلمات آلاف وآلاف يستطعن خدمة الإيمان كما استطاعت المشركات خدمة الضلال فلماذا يحال بينهن وبين هذه الخدمة؟. فى العام الماضى كانت امرأة المرشح الديمقراطى لرياسة الولايات المتحدة تسعى بجبروت لنصرة زوجها، وظن الناس أنه كاسب المعركة! ولما كانت المرأة يهودية فقد قيل: إن ملكة البيت الأبيض ستكون حليفة إسرائيل! وشاء الله أن ينتصر الحزب الجمهورى، فإذا الملكة المرتقبة يخامرها الأسى! وحاولت أن تتغلب على آلامها بالخمر، وهى الآن فى المستشفى تعالج من الإدمان! لأنها تحاول النسيان! لقد تساءلت: ما هذا الإخلاص؟ ما هذا الشعور العميق؟ لماذا لا ينشغل نساؤنا بخدمة المثل الإسلامية بهذه القدرة؟ من يمنعهن؟ ما يمنعهن إلا جاهلون بالإسلام. ما أجمل أن يتطاوع الزوجان، وأن يتعاونا على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم! كان سعد بن ناشب رجلا حاد الطبع قاسى اللفظ، فم ترض بذلك امرأته، ولامته على شراسة خلقه وقساوة كلماته! فقال يدافع عن سيرته ويشرح حقيقة نفسه: تُفّنِّدُنى فيما ترى من شراستى وشدّة نفسى أم عمرو وما تدرى! ص _083(1/72)
فقلت لها : إن الكريم وإن حلا ليُلفَى على حالٍ أمّرَّ من الصبر! وما بى على مَن لان لى من فظاظة ولكننى فظ أبىٌّ على القَسْر! وهذا اعتذار جميل! ولكن المهم فيما قصصنا نصح الزوجة لرجلها ورغبتها فى خيره وسلامته! وهذا رجل آخر سخى اليد واسع العطاء يتصدّق بالجمل من إبِلِه الكثيرة على من جاء يسأله عطاء، ويقول لامرأته: هيئى حبلا للسائل يقود به جمله الذى وهبته له، وينهاها عن لومه: لا تعذلينى فى العطاء ويسِّرى لكل بعيرٍ جاء طالبه حبْلاً... فلم أر مثل الإبل مالا لمُقْتَنٍ ولا مثل أيام الحقوق لها سُبْلا... وتجيبه امرأته " ليلى" إجابة لها وزنها عند أهل السخاء والفضل تقول: حلفت يمينا بابن "قحفان" بالذى تكفّل بالأرزاق فى السهل والجبل تزال جبالٌ محصدات أُعِدُّهَا لها ما مشى منها على خفه جَمَل.. فأعط ولا تبخل لمن جاء طالبا فعندى لها خُطْمٌ وقد زاحت العللل إن هذه النماذج من المجتمع العربى الأول تصوّر فضائل الإيثار والسماحة التى شاعت فيه والتى حفظت توازنه، وجعلت الأسرة مصدر استقراره وسنائه، ولا عجب فالأسرة القوية هى الدعامة للمجتمع القوى، والحافظ الأول لتقاليده.. وجاء الإسلام فشجّع المرأة على الجود من مال البيت ـ بما لا يضرّه بداهة ـ فعن عائشة أم المؤمنين، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها كان لها أجرها، وله مثله بما كسب! ولها بما أنفقت! وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من أجورهم شىء" وعن أسماء بنت أبى بكر الصديق أنها قالت: يا رسول الله ليس لى شىء إلا ما أَدْخل على الزبير ـ أى ما جاء من ماله الخاص به ـ فهل على جناح أن أرضخ ـ أن أعطى ـ مما ص _084(1/73)
أدخل علىّ؟ فقال: " ارضخى ـ أعطى ـ ما استطعت ولا توكى تبخلى فيوكى الله عليك "!. ونحن نتساءل عن الأسرة العربية الآن: هل بقيت فيها تقاليد العطاء والإفضال على طلاب الصدقات والمعونات؟ أم غلبتها التقاليد الوافدة من الغرب وهى تقاليد تقوم على الأثره والكزازة!! هل ظل الرجال يشمخون بأنوفهم اعتزازا بحماية العرض وصيانة الأهل أم تسللت برودة التقاليد الأوروبية والأمريكية وأنشأت جيلا آخر له منطق آخر؟ لقد لاحظت أن المرأة الآن تفخر بأن لديها عشرات الفساتين، الموافقة لآخر صيحة فى عالم الأزياء، ذاك إلى جانب ألوان الزينة وأدوات الترف وأسباب الإغراء.. لقد كان لنا فى الجاهلية العربية خلائق أزكى، يرسم معالمها حاتم الطائى وهو يقول لزوجته: إذا ما صنعتِ الزاد، فالتمسى له أكيلا! فإنى لست آكله وحدى !! أخاً طارقاً، أو جار بيت فإننى أخاف مَذَمَّات الأحاديث من بعدى وإنى لعبد الضيف ما دام نازلا! وما فىَّ إلا تلك من شيمة العبد! ما أجمل أن يكون الزوجان أديبين، أو عالمين، أو كريمين، أو شجاعين! فإن قعدت بأحدهما سوْرة عارضة، أو وسوسة هابطة أسرع إليه الآخر فأخذ بيده، وسدّده على الطريق. ص _085(1/74)
إمرأة بألف رجل! أجيال كبيرة من علماء الأزهر الذين تخرجوا فى كلية أصول الدين مدينون أدبياً ومادياً لامرأة محسنة وقفت مالها لله، وأنشأت منه مؤسسات يتفجر الخير منها منذ عشرات السنين، وسيبقى كذلك ما شاء الله. وأنا واحد من هؤلاء الذين نالهم ذلك العطاء الدافق، فقد انتظمت بين طلاب هذه الكلية من نصف قرن أو يزيد، وتلقيت الدروس من أفواه جملة من أكابر علماء الأزهر، وقادة الفكر الإسلامى، أتيحت لهم فرصة التعليم فى قاعات المبنى الذى أنشأته " الخازندارة " ملحقا بمسجدها الجامع الفخم كانت الدراسة تبدأ أول العام بحفل مائج فى المسجد الكبير نستمع فيه إلى توجيه أن نطلب العلم لله لا لدنيا نصيبها أو جاه نستحبّه، مع تذكير بأئمة العلم الإسلامى وجهادهم الزاكى فى تربية الشعوب وحياطة الحقّ.. ثم يذهب كل منا إلى صفه وفى نفسه قول أبو العلاء فى صفة فقيه حنفئ: أنفق العمر ناسكا، يطلب العلم ببحثٍ عن أصله واجتهاد! لكن من هى الخازندارة؟ التى بَنَتْ كليتنا؟ لا ندرى عنها شيئا! إن البيئات التى عشنا فيها قديما تواضعت على كتمان أسماء النساء، فلا يجوز أن يذكر اسم الأم ولا اسم الزوجة! فذلك عيب لا يقع فيه أهل الإيمان، لعل الاسم عورة كما أن الصوت عورة..!! هل الدين باعث هذا الشعور؟ كلا، ففى أول البعثة الشريفة صاح النبى الكريم على ص _086(1/75)
الصفا كما ذكرنا من قبل منادياً صفية بنت عبد المطلب، وفاطمة بنت محمد يدعوهما إلى معرفة الله والإيمان به وحده..! ولم يكن ذكر أسماء النساء عيبا ولا موضع لغط! إن التدين الفاسد قد يبعد عن الفطرة مثل أو أبعد مما تفعله الجاهليات الكريهة.. فلنعد إلى كلية ومسجد الخازندارة بعد هذا الاستطراد، كانت الكلية للدراسات التى تؤهل للشهادة العالية، أما الدراسات الأعلى فكانت تنشأ لها حلق داخل المسجد نفسه، وهى حلقات صغيرة بطبيعتها، ولا أزال أذكر منظر الشيخ أمين خطاب الرئيس الثانى للجماعة الشرعية بمصر، وهو يلقى الدروس فى " علل الحديث "، وكان رحمه الله رجلا بكّاء شديد الخشية لله يلتف حوله طلبته وكأنهم فى صلاة خاشعة!! على أن أعداد الطلبة زادت هنا وهناك، وربا الإحساس بضرورة البحث عن مكان أوسع! وهنا سمعت من يقول: إنهم سوف يضمون مبنى الملجأ إلى الكلية، ولم أسمع ما هنالك ثم أدركت أن السيدة المحسنة بَنَتْ ملجأ للأيتام يؤويهم ويغذوهم ويكسوهم، وأرصدت لذلك من مالها ما يسع حاجة المحتاجين! ولأمر ما لم تنفذ هذه الوصية! وقال أحد الساخرين: لعله لا يوجد يتامى! وأحسست أنا أن جملة من الأهداف النبيلة تضيع فى فوضى التنفيذ، وسوء الرقابة، وفقدان العلاقة بالله... إن الواقفين فعلوا الكثير بيد أن المنفذين فرّطوا وخانوا... ولما كانت مصائب قوم فوائد عند قوم فقد انتقلنا نحن إلى مبنى الملجأ الخالى، وتلقينا دروسنا فى قاعاته الخالية.. وأعتقد أن السيدة التى أسدت الجميل لم ينقص ثوابها ذرة، فقد أدّت ما عليها، وتقربت إلى الله جهدها... وما فعله الآخرون بتراثها يلقاهم يوم اللقاء الأخير " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا... ". وفى أثناء تلقينا الدروس بمبنى الخازندارة، بدأنا نسمع ضجيج بناء عمارة كبيرة فتساءلنا: ما هذا؟ قالوا: مستشفى الخازندارة! الحق أنى دعوت من أعماق قلبى للمرأة(1/76)
الصالحة! تبنى معهدا ومسجدا وملجأ ص _087
ومستشفى؟ تنشر العلم وتحمى العبادة وتربى اليتامى وتداوى المرضى؟ أى قلب زكى فى صدر هذه المرأة التى أقرضت الله قرضا حسنا، وادخرت عنده ما ينضر وجهها " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار ". الواقع أن النساء الصالحات كُثْرٌ فى تاريخنا، ما بخلن بمال ولا وقت فى سبيل الله، وقد أدين فى صمت ما يعجز عنه الكثيرون، ويستطيع الباحثون فى بطون التواريخ أن يجدوا أسماء متوارية محرومة من الشهرة لها عند الله مكانة رفيعة لا ينالها غيرهم.. وفى أحد الأيام بلغ أسماعنا أن المسجد العظيم سوف يذهب نصفه توسعة لشارع شبرا، وقع ذلك فى العهد الجمهورى أيام السيد عبد اللطيف البغدادى، وشعرت الجماهير أن شعائر الله تداس، وأن المسجد العظيم سوف يُقْصَم ويتلاشى، وتنادت فلول المسلمين الضائعين أن الموت أهون، وقرروا أن يهلكوا قبل أن يضيع المسجد، وكنت يومها موظفا بوزارة الأوقاف، وذهبت إلى الشيخ الباقورى فى مكتبه أتعرف الأنباء. الحق أن الرجل كان متجهِّم الوجه بادى الكآبة، كان يرى العدوان على المسجد عدوانا على شخصه وعلى الإسلام معاً، وقد أنعشه تحرك الجماهير وتحرُّج الموقف.. وأخيرا منع الرئيس عبد الناصر هدم المسجد، واتقى غضب الناس، والغبار الكثيف الذى ستسوَدُّ به وجوه الثوار..! لكن المستشفى الذى بنته السيدة الفضلى لخدمة المسلمين انتقل بقرار ثورى من الدائرة الإسلامية إلى دائرة أوسع، فجعله عبد الناصر لخدمة أهل الأديان كلها، أو لخدمة المتدينين وغير المتدينين من الشيوعيين والوجوديين.. إلخ. كان المراد حرمان الإسلام من مؤسسات خاصة به تسدى الخير لأهله، وتحفظ حاضره ومستقبله، وقد تم ذلك بالنسبة إلى المستشفى والملجأ أما مبنى الكلية فقد انتقل إلى دراسات لعلوم القرآن، وظل المسجد إلى اليوم مثابة للناس وإن كان البلى قد أزرى ص _088(1/77)
بجدرانه وأثاثه فغاض الرونق، وأمسى ذكرى... رحم الله الخازندارة التى استودعت الله مالها، وجاهدت فى سبيله بتقديم الدواء للمرضى والزاد للجياع، والعلم لطلابه، وألهم الرجال والنساء أن يتأسوّا بها. ص _089
امرأتان نادرتان كانت أم المؤمنين "خديجة " سيدة ثاقبة البصيرة، خبيرة بأغوار الرجال، تعرف طبائعهم فلا يخفى عليها معدن نفيس، ولا يخدعها طلاء مزوّر! ولعل اشتغالها بالتجارة كوّن لديها هذه الملكة فالتجار من أعرف الناس بطوايا النفوس! وفى ميدان عملها التجارى عرفت خديجة محمدا - عليه الصلاة والسلام- وخطبته لنفسها، ولم يكن محمد مجهولا لدى جمهور العرب، كانت خلائقه الزاكية موضع إجماع وحب، كثيرا ما تكون زكاة الباطن كصباحة الوجه أساسا لتقدير عام أو عنوانا لا يختلف فيه اثنان.. لكن خديجة بعد زواجها ازدادت خبرة برجلها وأدركت أى أفق من الكمال قد بلغه! فلما أخبرها بما عرض له فى غار حراء قاست المستقبل على الماضى، وأقسمت أن مثله لا يضيع، وأنه يستحيل أن يخذل الله رجلا قد أفاء عليه خلال النبل والشرف كلها، قالت: " والله لا يُخزيك الله أبدا، إنك لتصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وتؤدى الأمانة ". إن الله لا يخزى فى الدنيا ولا فى الأخرى صاحب هذه السيرة! ذاك إنسان محصِّنٌ من عدوان الشيطان "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا".. وخديجة من سروات قريش، أى من قمة المجتمع العربى، وهى أول من آمن من النساء، لكن الإسلام دين عام ينتظم البشر أكابرهم وأصاغرهم، فإذا كانت أفئدة بعض الأغنياء تهوى إليه، فإن جماهير من الفقراء تدخل فيه وتستبشر به، السادة والعبيد ص _090(1/78)
جميعا لهم مكان واحد فيه، فأبو بكر المرموق يعتنقه، وبلال المملوك يعتنقه، ثم يجئ عمر العظيم فيقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا!! لا طبقات فى هذا الدين، ولكن أخوة عامة، وإذا كانت خديجة أول من آمن، وهى من البيوتات الرفيعة، فإن أول من استشهد " سمية " أم عمار وهى من البيوتات المستضعفة التى لا يؤبه لها. واختبار الله لعباده فنون، إنه يختبر بالشهرة والخمول وبالثروة والعدم وبالصحة والسقام، والمهم هو الآخرة، عن عثمان بن عفان ـ وهو من قمة قريش ـ قال بينما أنا أمشى مع رسول الله بالبطحاء إذ بعمار وأبيه وأمه يعذبون فى الشمس ليرتدوا عن الإسلام! قال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا؟ فقال: صبرا يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت! ". وجاء قادة الجاهلية ليسروا بمنظر التعذيب، وكان بينهم أبو جهل الذى غاظه تجلد المرأة، وصبرها على ما ينزل بها، فطعنها بحربته فى أسفل بطنها طعنة مزقت رحمها وأودت بحياتها فكانت أول شهيدة فى الإسلام.. وطال المدى على توقع العقاب الإلهى حتى كانت غزوة بدر، وخرج الفرعون الصغير ليقاتل المؤمنين وهناك وكل القدر به اثنين من فتيان الإسلام ظلا يناوشانه بسيفيهما حتى صرع " إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ". كم أشعر بالإعجاب لأول امرأة أسلمت، ولأول امرأة استشهدت. ص _091(1/79)
الصديقة الأديبة كانت أم المؤمنين عائشة ذواقة للأدب العربى، شعره ونثره، سريعة الاستشهاد به فيما يمر بها من أحداث، ولم أر هذه القدرة لغيرها من النساء، فعندما قتل على بن أبى طالب قالت: فألقت عصاها واستقز بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر! ولما احتُضر أبوها أبو بكر قالت: لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فقال الصديق لافتا نظرها إلى ما هو أفضل، ليس هكذا تقولين! قولى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد). وعندما قتل أخوها محمد بن أبى بكر بمصر قالت: وكنا كندمانى جزيمةَ حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا...! فلما تفرقنا كأنى ومالكا! لطول اجتماع لمن نبتْ ليلة معا...! قال الرواة: وأرسلت عائشة أخاها عبد الرحمن إلى مصر فأحضر أولاد أخيها اليتامى، واحتضنتهم حتى إذا كبروا قالت لعبد الرحمن: لقد ضممتُهم إلىّ لصغر سنّهم وخشيت أن تتأفَّف نساؤك منهم، فكنتُ أنا ألطفَ بهم، وأصبرَ عليهم، فالآن خذهم إليك وكن لهم كما كان حُجيَّةُ بن المضرب لأولاد أخيه معدان! ولحجية هذا قصة طريفة بعد أن مات أخوه معدان! فقد رأى أولاده اليتامى تخرج ص _092(1/80)
إليهم خادمته ببقايا لبن فى قعب مكسور، هو كل ما جادت به زوجته عليهم! فملكه الوجوم والغضب! ثم أمر أن تحلب ماشيته فى بيت أخيه قبل أن تحلب ببيته! وأن يأكل يتاماه من الأصول لا من الفضول، وغضبت لذلك امرأته فقال حجية: تلوم على مال شفانى مكانه إليك فلومى ما بدا لك واغضبى! رأيت اليتامى لا تَسَدُّ فقورهم هدايا لهم فى كل قعْب مُشعَّب! ذكرت بهم عظام من لو أتيته حريبا لآسانى لدى كل مركب! أخى والذى إن أدْعه لملمة يُجبْنى وإن أغضبْ إلى السيف يغضب! إن الصديقة الأديبة تذكر أخاها بخلال رجل من شعراء الجاهلية! قال عروة بن الزبير: ما رأيت أعلم بطب ولا بفقه ولا بشعر من عائشة. وفى طبقات ابن سعد كانت عائشة أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله، وعن أبى سلمة: ما رأيت أعلم بسنن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عائشة، ولا أحدا أفقه فى رأى إن احتيج إلى رأيه، ولا أعم بآية فيما نزلت ولا فريضة، من عائشة رضى الله عنها. وكانت ـ رضى الله عنها ـ تفتى فى عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت.. وعلم عائشة يتجاوز الفتوى إلى التصحيح، وردّ ما يشيع من خطأ، وكان رسوخها فى فهم القرآن، وفقهها فى السنة النبوية، واطلاعها الواسع على أدب العرب يجعلها المرجع الثقة أبدا. ألا تكون هذه السيرة الناضرة أسوة للنساء المسلمات فى شتى الأعصار والأمصار؟ أم نقول للنساء: اقعدن فى البيوت لا شعر ولا نثر، ولا دين ولا دنيا!! ص _093(1/81)
المرأة فى العلم والأدب مع اضمحلال الفكر الدينى فى الأعصار المتأخرة هبط المسنوى الإنسانى للمرأة هبوطا مخجلا فى ميدان العلم والأدب، وعادت الجاهلية الأولى تنشر مآثرها ونزعاتها! بل إننا نقرأ كلمات للنساء الأوّل يستحيل أن تكون لها نظائر على لسان النساء فى أعصار التخلف الأخيرة، تدبر ما تقوله " أم الصريح الكِنْدية " ترثى رجالا من قومها ثبتوا فى الميدان حتى تفانوا جميعا: أبوْا أن يفرّوا والقنا فى نحورهم! وأن يرتقوا من خشية الموت سُلَّما ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزة! ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما! والاعتذار عن فرارهم ـ لو فرّوا ـ إنما وقع لأنهم نفر قليل واجه جيشا كثيفا، وكان يمكن أن يقولوا ما قاله الحارث بن هشام لما ترك المعركة لأنه التقى ـ وهو فرد ـ بجيش كبير واعتذر قائلا: وعلمت أنى إن أقاتل واحداً أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى فَصَدَدْتُ عنهم والأحبة دونهم طمعا لهم بعقاب يوم مُرْصد! لكن هذه الفلسفة السياسية لم تعجب المرأة الشجاعة، ورأت أن الصبر على الموت أكرم!! ومثل هذه المرأة يلد أولى الفداء والنجدة والرجال الذين يحمون الإيمان بأرواحهم دون تردد. وهذه امرأة أخرى، هى أم صعلوك من صعاليك العرب ذهب ابنها فى إحدى الغارات وبقيت هى تنتظره فلم يعد، ولو كانت هذه الأعرابية أمّاً لأحد "اللوردات" ص _094(1/82)
الإنجليز لترجمت كلماتها على أنها من روائع الأدب! إن ابنها ذهب كغيره من الصعاليك يطلب الغنى ويكره الفقر، والمرأة تسمى الفقر هلاكا (!) وهو كذلك فى دين الله وفطرة النفوس ولكن الفقر ـ فى التدين الفاسد ـ منزلة من منازل الصالحين حين يتقربون إلى الله! وهذه قصيدة المرأة: طاف يبغى نجوة من هلاك فهلك ليت شعرى ضلة أى شئ قتلك أمريض لم تعد؟ أم عدو ختلك؟ والمنايا رصد للفتى حيث سلك! أى شئ حسن لفتى لم يك لك كل شئ قاتل حتى تلقى أجلك! طالما قد نلت فى غير كدٍّ أملك! إن أمراً فادحا عن جوابى شغلك سأعزِّى النفس إِذْ لم تجب من سألك! ليت قلبى ساعة صَبْرَةُ عنك ملك! ليت نفسى قدّمت للمنايا بدلك ... وقالت صفية الباهلية ترثى أخاها، وتذكر أنها كانت معه فرسى رهان فى سباق الأمجاد والمكرمات حتى ذهب وبقيت وحدها.. كنا كغصنين فى جرثومة سَمَقا حيناً بأحسن ما يسمو له الشجر! حتى إذا قيل قد طالت فروعهما وطاب فيآهما واستنظر الثمر! أخنى على واحدى ريب الزمان وما يبقى الزمان على شىء ولا يذر! كنا كأنجم ليل بينها قمر... يجلو الدجى ، فهوى من بينها القمر! هكذا كان الرجل والمرأة، فهل هما كذلك الآن؟ ص _095(1/83)
فى مواجهة الكذاب كانت الأسرة الإسلامية كلها تهتم بشئون دينها وبقضاياه السياسية والعسكرية! ولم يكن هذا الاهتمام التقاط أخبار أو تسمُّع أنباء المعارك فى شتى الميادين، بل قد يكون مشاركة شخصية من الأمهات والزوجات... وأمامى نموذج مثير لقصة وقعت فى حرب الردّة عندما اشتبك المسلمون فى قتال فادح المغارم مع أتباع مسيلمة الكذاب! ومسيلمة هذا شخص عجيب فإن جنون العظمة قد يدفع أصحابه إلى ما يشاكل طباعهم من انحراف "فنيرون" قد يحرق روما و"هولاكو" قد يدمر بغداد، وقد يستطيع مسيلمة أن يكون قاطع طريق فيشبع تَطَلُّعَهُ إلى الظهور! أما ان يدعى النبوة فهذا ما لا مساغ له.. لكن سعار العظمة جعله يدّعيها ويرسل إلى النبىِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قسم الأرض نصفين بينهما! وقد تجاوز النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الهزل، وأرسل حبيب بن زيد يتحدث معه ويستطلع خبره ويحاول رده إلى صوابه، وكان حبيب شابا مؤمنا جريئا، فلما رآه مسيلمة قرر قتله! فسأله أولا: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ فَتَصَاَمَم حبيب، وأشار بوجهه لا أسع، وكرر مسيلمة دعواه، وكرر حبيب رفضه الصامت المستهزئ المستكبر! وهنا بدأ مسيلمة يقطّع الشاب المؤمن عضوا عضوا، كلما سأله فرفض الإيمان به قطع ص _096(1/84)
جزءا من جسمه، فلما استمرتقطيع الأشلاء، ونزف الدماء فاضت روح الشاب الجلد وهو يحتقر الباطل ويعز الحق! وعلمت أمه " نسيبة بنت كعب الأنصارية " بمصرع ولدها على هذا النحو فنذرت ألا تغتسل حتى تثأر لولدها وحتى يقتل مسيلمة، وخرجت المرأة مع ابنها عبد الله واشتركت فى معركة اليمامة وقاتلت جيش مسيلمة أشد قتال، وأصابها اثنا عشر جرحا وهى مُقْدِمَةٌ شجاعة، وقُطِعَتْ يدها خلال المعركة الشرسة، لكن خيل الله قتلت مسيلمة ومحت أكذوبته بالدم الغزير، وانتصر الحق، وزاح الإفك، وعادت نسيبة بعدما وفت بنذرها...! أكان أحد يستطيع ردّها عندما خرجت؟ كلاّ لقد شهدت من قبل قتال أحد، وشهدت بيعة الرضوان فى عمرة الحديبية وشهدت فتح مكة ويوم حنين، ومن قبل ذلك شاركت فى بيعة العقبة، إنها مثل عال للمسلمة المجاهدة التى شرفت أسرتها ودينها... وأعلم أن بعض المتفيهقين فى عصرنا لو صادف المرأة الصالحة وهى خارجة من بيتها لتقاتل الكذاب وأتباعه لقال لها: اقعدى فى بيتك، لا يجوز لك هذا! إن هؤلاء المتفيهقين تعرفهم عصور الاضمحلال العقلى، ولا يمكن أن يظهروا فى مجتمع ناضج أو فى سلف صالح. ص _097(1/85)
قانون "الحمد" بيت عريق أخنت عليه الأيام فزلزلت مكانته فى المجتمع، وأطمعت مَنْ دونه من الناس أن يتقدم خاطبا لبناته وما كان يجرؤ على ذلك من قبل.. وغضب ربُّ البيت لكرامته التى جرحت، وتساءل فى أسف: أإذا عرضت له أزمة عابرة تطاول عليه الصغار، وجاءه من يريد الزواج بابنته وهو ليس لها بكفء؟ لذلك طرد بعنف بالغٍ الخاطب القادم قائلا له: تريد أن تكون سيدا بأخذ سيدة من بيتنا لا ترتفع إلى مستواها؟ اذهب عنّا فالبنات كثرن بعد أن منع الإسلام وأد البنات! أما ابنتنا ففى مكانها العالى لن ترخصها أزمة مهما اشتدّت!! وهاك الأبيات التى تفجرت فيها ثورة رب البيت الجريح..!! تبغى ابن كوز ـ والسفاهة كاسمها ـ لِيَسْتاد منا أن شَتونا لياليا فما أكبر الأشياء عندى حَزازة بأن أُبْتَ مَزْرِيا عليك وزاريا وإنا ـ علىعضِّ الزمان الذى بنا ـ نعالج من كوه المخازى الدواهيا فلا تطلبنها يا ابن كوز فإنه غذا الناس مذ قام النبى الجواريا وإن التى حُدِّثْتَها فى أنوفنا وأعناقنا من الإباء كما هيا والذى استوقفنى من هذه القصة أمران: أولهما أن الرجل الذى أحرجه الفقر تماسك وتحمل آلاما هائلة حتى لا يلم بدنيئَة أو يقترف ما لا يليق به والثانى أنه أعز ابنته وجعل مكانتها فى أنفه وعنقه فلن تذل أبدا ما دام حيا! وكلا الأمرين من خلائق السادة الذين يحترمون أنفسهم وأهليهم، ولا يعنينى غير ذلك فى القصة كلها. ص _098(1/86)
والمجتمع العربى قديما وحديثا تحكمه تقاليد صارمة بعضها لا بأس به وبعضها فيه نظر، واهتمام العرب بنسبهم وسمعتهم قد يخالطه غرور وكبر، ولكن الأستاذ أحمد موسى سالم يقول: إن العرب فى حياتهم الأولى كان يحكمهم قانون " الحمد" الذى جاء به اسم محمد صلى الله عليه وسلم من مشرق طفولته تأكيدا لمراحل الاصطفاء له من بين محامد العرب لا من بين مساوئهم، فكان هو المحمَّد بحسب قانونهم وكان كما هو الواقع وكما قال عن نفسه " خيار من خيار من خيار". وقد شرحت الخنساء هذا القانون الشريف بقولها: تعف ونعرف حق القِرى ونتخذ الحمد كنزاً ودخراً..! وتقول أم حاتم الطائى - وكانت فى سباق المكارم تجود لمن يسألها بكل ما تملك -: لعمرى لَقِدْماً عضَّنى الجوع عَضَّةً فآليتُ أن لا أمنع الدهر جائعا! وما إن تروْن اليوم إلا طبيعة! فكيف بتركى يا ابن أمى الطبائعا؟ فهذه امرأة جاعت مرة فأقسمت ألا ترى جائعا إلا أعطته ما تملك! وكان من حقها أن تفعل ذلك! ولا يستطيع أحد أن يمنعها.. وكانت إحدى حكيمات النساء قبل الإسلام ـ وهى جمعة بنت الخس ـ تصف الصدق وتجعله فوق كل الفضائل فتقول: وخير خلال المرء صدق لسانه! وللصدق فضل يستبين ويبرز! وإنجازُك الموعود من سبب الغنى فكن موفيا للوعد، تُعْطى وتنْجزُ! وقانون الحمد الذى أشار إليه الأديب الكبير جدير بالإقرار مع تعليق محدود، فالإسلام يريد منا أن نعمل ابتغاء وجه الله وانتظار مثوبته يوم اللقاء الأخير، فإذا أخلصنا العمل له سبحانه جازانا بالذكر الحميد فى الدنيا والآخرة، ولا يجوز أن نعمل طلبا لثناء الناس كما لا يجوز أن نُعِِّرض سمعتنا للقيل والقال... وفى العرب ميل للفخر والظهور والمباهاة وهى رذائل تشوب العمل الصالح وقد تطيح به.. ص _099(1/87)
والحق أن المرأة العربية فى الجاهلية الأولى برزت شمائلها الحسان فى ميادين كثيرة أيام الحرب وأيام السلم على سواء، ولم توضع أمامها العوائق التى وضعت أمام المسلمات فى عصور الانحطاط العام للأمة الإسلامية.. وفى صدر الإسلام استطاعت امرأة من الخوارج أن تقود جيشا يهزم الحجاج ويحصره فى قصره ويتركه وهو مذعور، حتى عيَّره أحد الشعراء على هذا الموقف الخزى بقوله: أسدٌ علىَّ وفى الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر! هلا برزت إلى غزالة فى الوغى بل كان قلبك فى جناحى طائر! أما فى العهود الإسلامية الأخيرة فإن المرأة ما كانت تدرى وراء جدران بيتها شيئا! وعندما غلبتنا حضارة الغرب المنتصر كان همّ المرأة أن تقلّد فى الثوب الرشيق والمنظر الأنيق! أما فى غزو الفضاء واكتشاف الذرَّة ودراسة النفوس والآفاق فإن الأمر لا يستحق الاكتراث، لأنه ليس من شأنها ولا من رسالتها..!! إن الإسلام لا يقيم- فى سباق الفضائل- وزنا لصفات الذكورة والأنوثة، فالكل سواء فى العقائد والعبادات والأخلاق، الكل سواء فى مجال العلم والعمل والجد والاجتهاد. لا خشونة الرجل تهب له فضلا من تقوى، ولا نعومة المرأة تنقصها حظا من إحسان. وفى القرآن الكريم "... من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا". وفى عالم الرياضة اليوم يفصل بين مباريات الرجال والنساء، وتوضع مسافات وأرقام لكلا الجنسين على حدة.. ربما صحَّ هذا فى دنيا الألعاب لكنه مستحيل فى سباق الصالحات، وكسب الآخرة، ربما تقدمت امرأة فسبقت ذوى اللحى دون حرج وربما تأخرت ولو كانت قرينة أحد الأنبياء... ولذلك قلنا: امرأة فرعون خير منه، ومريم أشرف من رجال كثيرين، ونوح ولوط خير من زوجاتهم!! ص _100(1/88)
وأذكر أن أحد الناس قال لى: إن القرآن يرجح الذكورة على الأنوثة! ويسوق لزعمه قوله تعالى: " وليس الذكر كالأنثى " وهو فهم أعوج!. فالجملة القرآنية وردت على لسان امرأة عمران التى كانت حاملا، وظنت أنها ستلد رجلا يكون سادنا للمسجد الأقصى وقائدا للعابدين والدارسين فيه، فلما فوجئت بإخلاف ظنها وأنها ولدت أنثى، قالت هذه الكلمة لأن المرأة لا تصلح لهذه القيادة بطبيعتها. وقد قبلت الأمر الواقع لأنه مراد الله ! ودعت لابنتها ولذريتها بالصيانة والرعاية فاستجاب الله الدعاء بأن أعلى قدر المولودة فوق ألوف مؤلفة من البشر، وأعلى قدر ابنها فجعله من الأنبياء أولى العزم... ولاشك أن هناك وظائف تخص النساء وأخرى تخص الرجال، ولا علاقة لهذه التخصصات بموازين العدل أو الفضل الإلهى. ص _101
الباب الثالث من البيت نبدأ 1 ـ الزواج عبادة. 2 ـ "تخيروا لنطفكم". 3 ـ قواعد ضرورية للزواج. 4 ـ الزواج وسيلة لا غاية. 5 ـ الكهف الوحيد للرجل والمرأة. 6 ـ ثواب الإنفاق على البيت. 7 ـ لا تهوّنوا من وظيفة ربة البيت. 8 ـ التى فقدت زوجها. 9 ـ للعرض قداسة. 10 ـ البيوت تبنى على الحب. 11 ـ تضحيات الرجال والنساء. 12 ـ أين وظيفة البيت ؟ 3 ا ـ الآباء فى زماننا. 14 ـ صلة الأرحام من الإيمان. 5 ا ـ العمل لا العدد. 6 ا ـ المسخ الذى أصابنا. 7 ا ـ الدين عند "تاتشر" وعندنا. 18 ـ الإيدز وحرية التخنث. 9 ا ـ محنة المخدرات. ص _102(1/89)
الزواج عبادة المحافظة على الحياة وطلب امتدادها إلى قيام الساعة من تعاليم الإسلام، فقد رغب فى الزواج لهذا الغرض، واستحث أن يكون الزوجان آباء، وأن يكون لهم بعد الأولاد أحفاد " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات... ". ومن هنا كان رفض الإسلام للرهبانية! فإن حبل الحياة ينقطع عند الراهب أو الراهبة، ويبدأ شبح الفناء يلوح، فإذا شاعت هذه العبادة بين الناس، وأقبلوا على الرهبانية التى ابتدعوها فمعنى ذلك أن الإنسانية تنتحر، والعالم يتفانى.! فلا يستغربن أحد من الإسلام أن يجعل الزواج عبادة، وأن يجعل قضاء الوطر فى ظله قربى يؤجر المرء عليها وفى الحديث " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر" وفى الحديث أيضا " أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة، قلب شاكر، ولسان ذاكر، وبدن على البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه حوبا فى نفسها وماله " والحوب هو الإثم، أما البدن الصابر على البلاء فهو عندى البدن القوى الناهض بالأعباء والواجبات، لا يكل ولا ينهزم، وهل الرجولة إلا هذا التجلد؟ لكن السؤال الذى يجب التريث فى إجابته هو: من التى يتزوجها المسلم؟ يجب أن نعرف أن الزواج ليس التقاء لمزيد من الإنتاج الحيوانى ، إن الأسرة فى الإسلام امتداد للحياة والفضيلة معا! امتداد للإيمان والعمران على سواء. ليست الغاية إيجاد أجيال تحسن الأكل والشرب والمتاع، إنما الغاية إيجاد أجيال تحقق ص _103(1/90)
رسالة الوجود، ويتعاون الأبوان فها على تربية ذرية سليمة الفكر والقلب شريفة السلوك والغاية. وتدبر موقف أبى الأنبياء إبراهيم بعد ما أنعم الله عليه بالأولاد، إنه يقول: " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء). إنه يريد أولادا يركعون لله ويسجدون! ما أقبح أن ينسل رجل فساقا وملاحدة، وفى الأرض الآن أم لا تبالى ما تلد! أيحيا أولادها كفارا أم يحيون مؤمنين؟ المهم رفع مستوى المعيشة، وليكونوا بعد حطبا للنار!!. ونحن المسلمين نأبى هذا التفكير، ونعد أصحابه دواب مهما كانت سماتهم الظاهرة.. ومن دعاء عباد الرحمن عندما يختارون أزواجهم ويؤسسون بيوتهم " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ". إن العين المتنقلة بين شتى الوجوه عين خائنة، تقود صاحبها إلى الضياع! ينبغى أن يكون كلا الزوجين قرة عين لصاحبه، وأن يوطن نفسه على هذا الاستقرار، وأن يتعاونا بعدُ على تربية أولادهما وصيانة حاضرهم ومستقبلهم. وإذا كان باب التنافس فى الخيرات مفتوحا، فليكن المسلم بعيد الهمة واسع الطموح. ليكن إماما يُقتدى به، ولا يتكاسل حتى يجئ فى المرتبة التالية التابعة، إن علو الهمة من الإيمان، وإن الله يحب من يطلب الفردوس الأعلى. وإقامة البيت المسلم يحتاج إلى جهد كبير. ص _104(1/91)
(تخيروا لنطفكم) الوراثة حق، ولكن شأنها يدعو للحيرة، فنحن لا ندرى بدقة ماذا ينتقل للفروع من الأصول، وما الذى يظهر فى العقب القريب، وما الذى يكن ليظهر فى الأعقاب التالية! وما الذى يتلاشى إلى الأبد.. ثم إن هذه الموروثات تتفاعل مع البيئة التى تستقبلها تفاعلا غامضا، فهناك بيئات تعين وهناك بيئات تعوق، وقد تصادف بعض الخصائص النفسية ما يضاعف نماءها ووهجها، وقد تصادف ما يقفها مكانها لا تتحرك ولا تثمر.. إن ذلك كله من الأقدار التى يستحيل أن نخترق أسوارها، بيد أنه يجب أن نفعل ما يأمرنا الشارع به، ففيه خيرنا العاجل والآجل.. من ذلك ضرورة اختيار زوجة صالحة عند الاتجاه إلى بناء الأسرة، فإن الزواج ليس قضاء وطر، وإراحة بدن ثائر، الأمر أحمى من ذلك. وقد جاءت فى ذلك آثار نذكرها على ما بها " إياكم وخضراء الدمن! قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء فى المنبت السوء ". وقال: ( تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس ). وهذه الأحاديث قد تكون ضعيفة، ولكن يجبر ضعفها ما جاء فى الصحاح "الناس معادن " وما دمنا قد خلقنا من الأرض، فالأرض نفسها ليست سواء فى نواحيها الكثيرة، هناك الخصب وهناك الجدب، هناك السهل وهناك الوعر..! ص _105(1/92)
وطالب الزواج عليه أن يرتاد لنفسه ويطلب الأزكى والأنقى... ونحن عادة نحب الجمال الباهر! أو نحب الغنى الواسع، أو نحب العزوة القوية ولست أطالب الشباب بتجاهل هذه البواعث! لتكن ثانوية عند البحث، وليكن الغرض الأول امرأة ذات خلق وتقى! فإن هذا الغرض إذا ضاع لم يبق ما يحرص عليه.. لفت نظرى وأنا أطالع درسا فى عالم البحار منظر السمك الملون، كان إهاب السمكة مليئا بالنقوش الرائعة والزخارف التى تسبى العيون باتساق الألوان وغرابة الرسوم... ثم عرفت أن هذا النوع من الأسماك سام كله! فقلت: يا عجبا المنظر حلو والخبر مؤذٍ ، ما أكثر هذا بين البشر " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ".. أنصح طالب الزواج ألا تخدعه الظواهر المزوقة، وليكن همه الباطن الشريف! تقول: ومن يعرف الغيوب؟ وأجيب البيوت أمارة مصدوقة، ويغلب أن تكون البنت مثل أبيها أو أمها، وعلينا أن نستشير وأن نستخير. ولذلك أرشدت منظمة الصحة العالمية طالبى الزواج أن يختاروا زوجات ترعرعن فى بيئة صالحة، وتناسلن من نطفة انحدرت عن أصل كريم. وقد أوصى عثمان بن أبى العاص الثقفى أولاده فى تخير النطف وتجنب عرق السوء فقال لهم: " يابنى الناكح مغترس ـ زارع ـ فلينظر امرؤ حيث يضع غرسه، والعرق السوء قلما ينجب، فتخيروا ولو بعد حين ". وأجاب عمر بن الخطاب أحد أبنائه لما سأله: ما حق الولد على أبيه؟ بقوله: " أن ينتقى أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه القرآن ". إن السعادة الزوجية من مطالب المؤمنين، فالمؤمن يكره أن يعيش مستوحشا قلقا لا قرار له، ومن ثم جاء فى دعاء عباد الرحمن "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " أى قدوة، ولنذكر ما روته عائشة رضى الله عنها مرفوعا " تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء". ص _106(1/93)
قواعد ضرورية للزواج لضمان ذرية شريفة نظيفة وضع الإسلام قواعد لعقد الزواج لابد من رعايتها، فلا يجوز الزواج من ملحدة تكفر بالله واليوم الآخر، ولا من وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، فإن امرأة من هذا الصنف لن يقفها حد من حدود الله، ولن تفرق بين الإحصان والإباحة ولا بين العفاف والخنا !. وأمة موحدة خير من أميرة مشركة، وامرأة مؤمنة من سواد الناس خير من أستاذة ملحدة فى إحدى الجامعات، إننا ننشد سيدة ترضع أولادها التقوى والخلق والركوع لله والاستعلاء على الدنايا. لهذا يقول الله تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه... ". هل الأوروبيات والأمريكيات من هذا النوع؟ إنهن يدعين المسيحية! وليتهن صادقات! إن المجتمع الغربى غارق فى الآثام إلى أذنيه، وما أحسب لقاء الله يخطر على قلبه ساعة من نهار، العهر هو القانون السائد، وقلما تزول بكارة فى زواج شرعى!. وأعتقد أن التاريخ لم يعرف مدنية كرعت من الشهوات الحرام كما يحدث الآن فى أقطار الغرب التى افتنت فى تزويق الأجساد واستفزاز الغرائز إلى أبعد الحدود.. ويستحيل أن ينسل المسلم أولادا أنقياء من زواج بهؤلاء اللعوبات الضائعات ص _107(1/94)
(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ) صحيح أن الإسلام أباح الزواج من الكتابيات، ولكن أين هن؟ ربما وجدت نسوة لديهن بقايا وحى وعفاف ومعرفة بالله الواحد. وقد يكون زواج المسلم منهن بابا إلى أن يعرفن الإسلام ويدخلن فيه، والأساس فى مثل هذا الزواج أن يشب الولد على دين أبيه وعباداته وفضائله، بيد أن ما يقع غير ذلك. وقد رأيت فى مشاهد غريبة أن الإسلام يفقد الوالد وما ولد! وأن الزواج من أجنبية ينتهى بمأساة، وأن المدنية المنتصرة المستعلية تجرف الكل إلى القاع.. وحرم الإسلام تحريما قاطعا أن تقترن مسلمة بغير مسلم، بل ذلك الاقتران نظام جديد للزنا، وقد ثار سؤال: لماذا أباح الإسلام الزواج من كتابية ولم يبح مسلمة لكتابى؟ والجواب أن رب البيت المسلم يستحيل أن يمر بخاطره أن يهين موسى أو عيسى، إنه يحترمهما كما يحترم نبيه محمدا، ويصفهما بالوجاهة والرسالة وقوة العزم وصدق البلاغ ! وهذا معنى يلقى السكينة فى نفوس أتباعهما. أما اليهود والنصارى فإن ضغائنهم على محمد أعيت الأولين والآخرين، وقد استباحوا قذفه بكل نقيصة. وفى عصرنا هذا منحت إنجلترا أعظم جائزة أدبية لكاتب نكرة كل بضاعته شتم محمد والولوغ فى عرضه والتهجم على حرمه! فكيف تعيش مسلمة فى بيت تلك بعض معالمه؟ إن الزواج ليس عشق ذكر لمفاتن أنثى..!! إنه إقامة بيت على السكينة النفسية والآداب الاجتماعية، فى إطار محكم من الإيمان بالله والعيش وفق هداياته، والعمل على إعلاء كلمته وإبلاغ رسالاته. ص _108(1/95)
الزواج وسيلة لا غاية وظيفة البيت الأولى الحفاظ على الإيمان والعبادة والخلق الشريف والمسلك القويم والتقاليد الراشدة والمثل العالية! والأبوان شركاء فى أداء هذه الوظيفة، ونصيب الأم منها ضخم ثقيل... وعلى الرجل وهو يفكر فى الزواج أن يعرف هذه الحقيقة، ومن المجون أن يكون الزواج انحصارا فى إدراك الشهوات، وطلب المتاع.. إن هناك من يعيش ليأكل! أشرف منه بداهة من يأكل ليعيش! ونحن نعرف عرام الغريزة وحدة صوتها ! إن التنفيس عنها مطلوب وسوف يتم على عجل أو على مهل، وتجئ آثاره المحتومة ذرية بعد ذرية فإن لم نحسن التربية والعناية فلن نحرز من الكمال البشرى سهما، وسنعقب أولادا كثيرين يكونون علفا لمدافع الأعداء أو هشيما تحت دباباتهم وطائراتهم.. المهم إنشاء أجيال زاكية ذكية ناشطة قوية تقود ولا تقاد، تهوى الصلاح وتكره الفساد. وأول اللبنات فى هذا البناء انتقاء الأمهات من بيوت متدينة معروفة بالتقوى، فإن ذلك أدنى إلى ارتقاب ثمر ناضج طيب قال تعالى " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ". وارتقاب الخير من البيوت الشريفة معروف من قديم، وهو سر دهشة الناس عندما رأوا مريم حملت من غير زواج فقالوا " يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ص _109(1/96)
أمك بغيا" ولم يُعرَف أن هناك خارقا للعادات حتى نطق الطفل المعجزة " قال: إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا". وفى الحديث الصحيح " الناس معادن " والشعور بهذه الحقيقة جعلنا نقبل حديثين ضعيفين فى الموضوع الذى نشرحه هما " تخيَّروا لنطفكم فإن العرق دساس " "إياكم وخضراء الدمن! قالوا وما خضراء الدمن؟ قال المرأة الجميلة فى المنبت السوء " وقديما قال الشاعر: على وجه مىّ مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزى لو كان باديا ألم تر أن الماء يكدر طعمه! وإن كان لون الماء أبيض صافيا! وجاء فى الحديث " تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ". والناس اليوم يتطلعون إلى ذات الغنى، وقد يتنافسون وراء ملكة جمال تبيع جسدها فى ميدان الفن أو ميادين عرض الأزياء، وما قيمة امرأة لا ترد يد لامس، وما قيمة بيت يبنى على هذا الجرف المنهار؟ إن الزواج وسيلة لا غاية! وسيلة لامتداد النوع الإنسانى العالى، وليس مقرا فقط لإشباع النهمة، وتحصيل المتعة. وبيت متوسط الدخل تعمره امرأة صالحة أسعد وأرشد من بيت واسع الثراء تسكنه امرأة هابطة، وفى ذلك يقول الرسول الكريم " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة " وفصل ذلك فى حديث آخر " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته فى نفسها وماله ". أترى هذه الزوجة تنبت فى المجتمع من غير إعداد وعناية؟ أيمكن أن تكون نبتا يطلع من تلقاء نفسه فى بيئة يسودها الجهل والتخلف؟ وتحرم عليها الثقافة الواسعة ؟ ص _110(1/97)
الكهف الوحيد للرجل والمرأة هناك مسار قد ـ لا مسار غيره ـ يسمح فيه للغريزة الجنسية أن تنطلق: هذا المسار هو الزواج، وكل ما عداه حظرته شرائع الله فى جميع الأديان، وعدته من المسالك المنكرة! وقد لخص القرآن الكريم هذه القاعدة فى قوله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون". بيت الزوجية هو وحده الذى يجمع بين الذكر والأنثى، وكل وطر يقضى بعيدا عنه فهو عصيان لله واعتداء على حدوده، لا خلاف فى ذلك بين موسى وعيسى ومحمد! والتسيب الواقع الآن فى أرجاء العالم يستحيل أن يقبله ذو دين. ورجال الكهنوت استولى عليهم برود شديد تجاه عواصف الإثم التى تجتاح العالم، بل إن بعضهم أسهم فى سن القوانين التى تنظم الفاحشة وترسم دائرتها! وليس ذلك. بمستغرب على أناس زحزحتهم تيارات شتى عن أصول الاعتقاد ومنطق الإيمان. الأسرة هى الكهف الوحيد الذى يجمع بين رجل وامرأة، ومن ثم فإن تكوينها دين، والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة الأوبئة التى تهددها جهاد، ورعاية ثمراتها من بنين وبنات جزء من شعائر الله... وفى عصرنا هذا استغنى الماجنون والفاجرون عن جو الأسرة بعوضين لعينين، الزنا واللواط، وتدخل القانون الزائغ فأباح تطلعات الجسد فى هذين المجالين، ما دام الأمر بعيدا عن الإكراه! ثم ضم إلى ذلك المراقصات العابثة وأنواع الخلاعة الأخرى.. ص _111(1/98)
وقد لفت أنظارنا أن الحرب المضنية ضد مرض " الإيدز " يقصد بها تأمين الشواذ أو تحصينهم ضد هذا البلاء الماحق!. وهذا غرض خسيس، وسعى غير مبارك، والذى يشفى مريضا " بالإيدز " ليمكنه من العودة إلى فسوقه لا يقل عنه انحرافا.. وقد أجمع الإخصائيون على أن الوقاية من هذا المرض تكون بالبعد عن سببه الأهم، تكون بالاستعفاف عن الحرام واللجوء إلى الحلال! ومع ذلك فلا رجال الدين، ولا رجال التربية، ولا رجال الإعلام دقوا الطبول لعودة الفضيلة وبشروا بما يكون فى كنفها من عافية ورضا..!! وددت لو تكونت فى كل قطر من أقطار الأرض وزارة للأسرة تهتم بتكوينها وحمايتها، لقد قرأت فى تصريح رعى لأحد المسئولين فى إنجلترا أن البلاد ستتكلف مليارا من الجنيهات فى محاربة الإيدز وإحصاء حاملى جرثومته، ووقاية الآخرين منه، وذلك فى عام واحد.! لقد قلت: ما أغلى الحرام وأكثر مغارمه، وما أرخص الحلال وأيسر تكاليفه! إن التزام الصراط المستقيم لا يجشم شيئا من هذا كله! ومع ذلك فكثير من الناس يزهد ص _112(1/99)
ثواب الإنفاق على البيت نفقة رب البيت على بيته زكاة مضاعفة الأجر مباركة المثوبة!! لقد شعرت بغير قليل من الدهشة وأنا أتدبر الأسلوب الذى قرر الإسلام به هذه الحقيقة. عندما يكون معى مال فأجعله للجهاد فى سبيل الله، أو أجعله فى تحرير الرقاب أو أجعله فى إغاثة مسكين، أو أسد به حاجات بيتى، فأى هذه الأبواب خير؟ أيها أفضل من الآخر؟ لنذكر الأحاديث النبوية الواردة هذه القضية: عن أبى هريرة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " دينار أنفقته فى سبيل الله ودينار أنفقته فى رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك "... وعن ثوبان مولى رسول الله قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله! ودينار ينفقه على فرسه ـ المربوط ـ فى سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه فى سبيل الله ".. قال الراوى : بدأ بالعيال.. وعن سعد بن أبى وقاص أن رسول الله قال له: " إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجزت عليها حتى ما تجعل فى فم امرأتك! ". وعن أي مسعود البدرى رضى الله عنه عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة". وعن المقدام بن معد يكرب قال رسول الله: " ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، ص _113(1/100)
وما أطعمت ولدك، فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة! وما أطعمت خادمك، فهو لك صدقة! والأحاديث كثيرة نكتفى منها بما ذكرنا!. ماذا يعنى هذا كله؟ كنت أرى أن ما يصرف فى البيت مال مستهلك، وأن نفقات الأسرة على الإجمال من الضرورات التى نخرج منها وكل ما نرجوه ألا يكون لنا ولا علينا!.. أما أن تكون حسنات توضع فى الميزان، ويزيد بها الثواب، بل قد تسبق فى مضمار الخير ما ينفق فى ميدان الجهاد وتحرير الرقاب، فذاك ما يدعو إلى التأمل. قلت: لعل ذلك لأن البيت المسلم هو الذى يبنى العقائد وينشى الفضائل داخل حجره الواسعة أو الضيقة؟ إن النبع الذى يسيل بالحياة للبنين والبنات وللأم والأب نبع مبارك بلا ريب، إن الإنفاق فى هذا البيت أبرك مشروع استثماري. من قديم توارث المسلمون هذه الحقائق الاجتماعية، فأمسى شرف الرجل أن يكسب وأن يعول أهله حتى يكبر الصغير ويستغنى الكبير، وكان يرى ذلك عبادة لا يستكثر فيها وقت ولا جهد، إنها دين ودنيا معا.. ولنتجاوز الآن تقاليد المدنية الحديثة التى ألفت أن يقول الأب لابنه أو ابنته عند البلوغ: هيا التمسوا الرزق فى خبايا الأرض! بل لعل الرجل يستكثر إطعام زوجته! إن تماسك الأسرة وفق تقاليد الوفاء والشرف والبر جعلتها مجتمعا يشد بعضه بعضا، ويد الله على الكل! كذلك كانت أمتنا وكذلك يجب أن تبقى. ومن حق راعى الأسرة وكاسبها أن يجد من زوجته تقديرا لكدحه، وأن يستجم فى ظلها بعد تعب، وأن يكون لسان الحال والمقال شرحا لصدره، وتطبيبا لنفسه... أما الكنود والتجاهل فهما طريق الوحشة والقطيعة، وفى الحديث: " لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهى لا تستغنى عنه "! وجاءت امرأة إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها أذات زوج أنت؟ قالت: نعم! قال: فأين أنت منه؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه!! ـ تعنى أنها تبذل طاقتها فى مرضاته، أما ما غلب طاقتها فلا قبل لها به ـ فأجابها الرسول(1/101)
الكريم بهذه العبارة ص _114
الموجزة الجامعة: " فكيف أنت له فإنه جنتك، أو نارك! " وقد شرح ذلك حديث آخر "المرأة لا تؤدى حق الله حتى تؤدى حق زوجها.. ". وقرأت حديثا طريفا لمعاذ بن جبل فيه وصف لبعض النساء " الفتوات " التى تحل مشكلاتها أحيانا بيدها (!) وتريد أن تبسط إرادتها فى البيت غير مكترثة بشىء.. وقد استمعت إلى نصح النبى الكريم لهذه المرأة وأنا أغالب الابتسام! وهاك الحديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن - لأحد - فى بيت زوجها وهو كاره! ولا تخرج وهو كاره! ولا تطيع فيه أحدا، ولا تعتزل فراشه، ولا تضربه!! " قلت فى نفسى: كيف تضربه؟ هل استنوق الجمل إلى هذا الحد؟ أم أن المرأة من هواة الملاكمة، والمصارعة اليابانية؟ وعدت إلى الحديث الشريف أكمل قراءته بعد نهى الزوجة عن هذا التطاول والجحود قال: " فإن كان هو ـ يعنى الزوج ـ أظلم، فلتأته حتى ترضيه! فإن قبل منها فبها ونعمت، وقبل الله عذرها، وأفلج حجتها ـ أظهرها ـ ولا إثم عليها، وإن هو لم يرض فقد أبلغت عند الله عذرها ". ويستحيل ألا تمر بالبيوت أزمات، بيد أن الخلق العالى كفيل بتفريج الضوائق وحل المشكلات، وما أصدق قول الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق! أقول: وأخلاق النساء أيضا!! وقد رأيت أن فساد ذات البين فى الحياة الزوجية يمتد إلى الأولاد، ويعرضهم لأسوأ الخلال وأوخم العواقب.. ما أجمل أن يكون الحب المتبادل والاحترام المتبادل قوام العلاقة بين الزوجين أو الأبوين! إن أثر ذلك فى الذرية عميق، وهو سياج متين لرسالة البيت فى الداخل والخارج. وهناك حديث نبوى يذكره البعض فى هذا الصدد يحتاج إلى شرح : قدم معاذ بن جبل من الشام، وذهب إلى النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يزوره بعد ص _115(1/102)
مقدمه، ففوجئ الرسول الكريم بمعاذ يسجد له!! فقال له: ما هذا؟ فقال معاذ قدمت إلى الشام فوجدت الناس يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك! والواقع أن التحية التى رأيتها أنا كانت انحناء يشبه الركوع، ولا يزال هذا الانحناء الراكع تحية لإمبراطور اليابان، وكان كذلك تحية لإمبراطور الحبشة، وربما تحول فى بعض الأحيان إلى سجود تام!! والعرب لا تعرف هذا فى تقدير الكبار وتقديم التحية لهم، فلما نقل معاذ هذا التقليد إلى المدينة المنورة رفضه الرسول كل الرفض، وقال ـ كما جاء فى بعض الروايات ـ " لا تفعل فلو أمرت شيئا أن يسجد لشىء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". وتتمة المعنى ولكنى لا آمر أحدا أن يسجد لآخر، ولا للمرأة أن تسجد لزوجها.. والمراد كما جاء فى تتمة الحديث "... والذى نفسى بيده لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدى حق زوجها". إن الزوج والزوجة إنسانان متكافئان فى الحقوق والواجبات، ومع صدق العاطفة يكون الرجل ملكا مطاعا نافذ الكلمة، ووسيلته فى ذلك الوفاء والإخلاص والحب. ص _116(1/103)
لا تهونوا من وظيفة ربة البيت هل دور الحضانة تغنى عن جو البيت، وصدر الأم، واستقرار الأسرة؟ ذلك بعيد، وما نقبل هذه الدور إلا لضرورات ملجئة، وطبيعة الضرورة التوقيت، حتى تعود المياه إلى مجاريها، وتنبت الزروع فى مغارسها.. والإسلام عندما أوجب على الرجل نفقة البيت، كان فى الحقيقة يعطى المرأة عوضا عن تفرغها لحسن تبعله، وتنشئة أولاده، واتجاهها الكامل إلى أداء رسالتها الطبيعية.. والذين يزدرون وظيفة " ربة البيت " جهال بخطورة هذا المنصب وآثاره البعيدة فى حاضر الأمم ومستقبلها الأخلاقى والاجتماعى. وأعباء هذا المنصب داخل البيت تكافئ أعمال الرجل الشاقة خارجه، وقد وجهت الشريعة كلا الجنسين إلى ما يليق به، ويتفوق فيه... والقدرات الخاصة لبعض النساء لا تلغى هذا التخصص. إن صفية بنت عبد المطلب نزلت من الحصن الذى أوى إليه النساء لأنها رأت يهوديا يطيف به وقد يدل الأعداء عليه، فهاجمته وقتلته! فهل نجند النساء كلهن لمثل هذه الحادثة؟ كلا! يقول الأطباء: كل واحد من الجنسين له دوره فى الحياة الذى يتفق أحيانا مع دور الطرف الآخر، أو يختلف عنه. ولا ريب أن كيان المرأة النفسى والجسدى قد خلقه الله على هيئة تخالف تكوين الرجل، فقد بنى جسم المرأة على نحو يتلاءم ووظيفة الأمومة تلاؤما كاملا، كما أن نفسيتها قد هيئت لتكون ربة الأسرة وسيدة البيت، وبالجملة فإن أعضاء المرأة الظاهرة والخفية، ص _117(1/104)
وعضلاتها وعظامها، وكثيرا من وظائفها العضوية، مختلفة إلى حد كبير عن مثيلاتها فى الرجل. وليس هذا البناء الهيكلى والعضوى المختلف عبثا، إذ ليس فى جسم الإنسان ولا فى الكون كله شىء إلا وله حكمة، وهيكل الرجل قد بنى ليخرج إلى ميدان العمل كادحا مكافحا، أما المرأة فلها وظيفة عظمى هى الحمل والولادة، وتربية الأطفال، وتهيئة عش الزوجية ليسكن إليها الرجل بعد الكدح والشقاء. يقول الأستاذ عباس محمود العقاد ـ رحمه الله ـ: ومن الطبيعى أن يكون للمرأة تكوين عاطفى خاص لا يشبه تكوين الرجل، لأن ملازمة الطفل الوليد لا تنتهى بمناولة الثدى وإرضاعه، بل لابد معها من تعهد دائم ومجاوبة شعورية تستدعى شيئا كثيرا من التناسب بين مزاجها ومزاجه، وبين فهمها وفهمه ومدارج حسه وعطفه، وهذه حالة من حالات الأنوثة شوهدت كثيرا فى أطوار حياتها، من صباها الباكر إلى شيخوختها العالية، فلا تخلو من مشابهة للطفل فى الرضا والغضب، وفى التدليل والمجافاة، وفى حب الولاية والحدب ممن يعاملها، ولو كان فى مثل سنها أو سن أبنائها، وليس هذا الخلق مما تصطنعه المرأة أو تتركه باختيارها، إذ كانت حضانة الأطفال تتمة للرضاع تقترن فيها أدواته النفسية بأدواته الجسدية. ولاشك أن الخلائق الضرورية للحضانة وتعهد الأطفال أصل من أصول اللين الأنثوى الذى جعل المرأة سريعة الانقياد للحس والاستجابة للعاطفة، ويصعب عليها ما يسهل على الرجل من تحكيم العقل وتقليب الرأى وصلابة العزيمة. فهما، ولاشك؟ مختلفان فى هذا المزاج اختلافا لا سبيل إلى المماراة فيه… ونعود إلى حديث الأطباء فى هذه القضية ـ نقلا عن نشرة مؤسسة الصحة العالمية ـ التى تقول: لا ريب أن أجل أدوار المرأة فى الحياة هو دور الأمومة وتربية النشء، وهى فى هذا الدور تمد المجتمع بكل عناصر البناء والتقدم، وبقدر إخلاصها فى هذه المهمة يكون المردود جيدا على الأمة بأسرها. ص _118(1/105)
إن هذا الدور يكلفها كثيرا من العناء والمشقة دون سائر المخلوقات الإناث الأخرى، اللاتى يحملن ويلدن، وذلك لأن تلك الإناث لا تفرز بويضاتها إلا فى فترة محدودة من العام، بينما تفرز المرأة بويضة كل شهر منذ البلوغ إلى سن اليأس، والمرأة طوال هذه المدة بين حيض وحمل، ونفاس وإرضاع، وناهيك بما يترتب على كل فترة من هذه الفترات من آلام ومتاعب. ففئ أثناء الحيض الذى يعرض للمرأة فى كل شهر ـ إلا إذا حدث حمل ـ تتعرض المرأة لآلام ومعاناة يمكن إجمالها فيما يلى: ا ـ تصاب أكثر النساء بآلام وأوجاع فى أسفل الظهر وأسفل البطن، مما يضطرها أحيانا إلى مراجعة الطبيب واستخدام العلاج. 2 ـ يصاب كثير من النساء بحالة من الكآبة والضيق فى أثناء الحيض، وعلى الأخص عند بدايته، وتكون المرأة متقلبة المزاج، سريعة الانفعال، قليلة الاحتمال. 3 ـ تصاب بعض النساء بالصداع النصفى قرب بداية الحيض، وتكون الآلام مبرحة، ويصحبها قىء وأحيانا زوغان فى الرؤية. 4 ـ فقر الدم الذى ينتج عن النزيف، إذ تفقد المرأة كمية من الدم فى أثناء حيضها تزاوح ما بين 60 ـ 240 ميلى ليتر. 5 ـ تصاب الغدد الصماء بالتغير فى أثناء الحيض، فتقل إفرازاتها الحيوية المهمة للجسم إلى أدنى مستوى لها. 6 ـ نتيجة للعوامل السابقة تنخفض حرارة الجسم، ويبطئ النبض، وينخفض ضغط الدم، ويصاب كثير من النساء بالشعور بالدوخة والكسل والفتور. وقد راعت الشريعة هذه الظروف التى تمر بالمرأة فأعفتها من بعض العبادات: كالصلاة أثناء الحيض..،. والنهى عن الصوم، وقضائه فى أيام أخر... فإذا كان رب العالمين قد أسقط عن النساء واجبات عينية فى تلك الحالات فهل تفرض على نفسها أو يفرض عليها المجتمع ما لا تطيق؟ ص _119(1/106)
التى فقدت زوجها تربية الأولاد عبء مشترك يحمله الزوجان معا، وإنه لقدر طيب أن يشب الأولاد فى حضانة أبويهم مستمتعين بدفء العاطفة وحسن الكفالة. لكن الريح لا تهب رخاء دائما، وطبيعة الحياة الابتلاء بالخير والشر، فقد يفقد الأولاد الكافل الحانى، فتبقى الأم أيما والأولاد يتامى.! وتوفر الأم على صون أولادها ـ والحالة هذه ـ من أجل القربات التى تبلغها أعلى الدرجات! روى أبو داود عن عوف بن مالك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أنا وامرأة سفعاء الخديْن كهاتين يوم القيامة ـ مشيرا بإصبعيه السبابة والوسطى ـ امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا..". والجميلة التى تهمل زينتها انشغالا بأولادها حتى يتغير وجهها امرأة مقدورة الفضل مرموقة المكانة، لكننا نتساءل: أكل النساء مطالبات بهذه التضحية؟ أظن أن هناك ملابسات كثيرة تحدد موقف الأيم ومصير يتاماها! منها سن الزوجة،. وغناها أو فقرها، وأعمار الأولاد، ووضع المتقدم إليها الدينى والاجتماعى! فقد يتقدم إليها قريب أو تقى يحسن معاملة الأولاد! ولذلك نترك للزوجة التى فقدت رجلها أن تتصرف بما يحقق لها ولأولادها المستقبل الأطيب. عندما قتل جعفر الطيار فى معركة مؤته، وكان شابا حول الثلاثين تاركا زوجته وأولاده لم تمض فترة طويلة حتى تزوجت المرأة أبا بكر الصديق، وحسنا فعلت، وقد رعى الله أولادها خير رعاية... ص _120(1/107)
ويحكى التاريخ أن عاتكة بنت زيد، وكانت صحابية أديبة ذات جمال وكمال ورأى، قتل زوجها عبد الله بن أبى بكر، فتزوجها من بعده عمر بن الخطاب فلما قتل عمر رضى الله عنه تزوجها الزبير بن العوام، فلما قتل الزبير بوادى السباع فى الفتنة الكبرى تزوجها الحسين بن على رضى الله عنه، فلما قتل بكربلاء كانت أول من رفع خده عن التراب ثم ترملت بعده فلم يسع إليها أحد!. ومن الطرائف أن عبد الله بن عمر كان يقول: من أراد الاستشهاد فليتزوج عاتكة!. لقد قتل أزواجها كلهم، ولا علاقة لها بهذه المصاير، وإنما هى أقدار!! وتحفظ لها كتب الأدب هذه الأبيات فى رثاء أول زوج لها، عبد الله بن أبى بكر! آليت لا تنفك عينى حزينة عليك ولا ينفك جلدى أغبرا.. فلله عينا من رأى مثله فتى أكر وأحمى فى الهياج وأصبرا.. إذا أشرعت فيه الأسنة خاضها إلى الموت، حتى يترك الموت أحمرا.. إنها عاطفة صادقة بيد أنها موقوتة، وللحياة تيارها الدافق المطرد، والإسلام لا يقوم جندلا أمام غرائز الفطرة وطبائع الرجال والنساء. المشكلة أن الناس يريدون إخضاع الدين لتقاليدهم الخاصة، ولو كانت هذه التقاليد فى عكس اتجاه السلف الأول وفطرتهم السليمة. ص _121(1/108)
للعرض قداسة استطاعت آثام ومثالب من أعمال أهل الكتاب الأولين أن تتسلل إلى المجتمع الإسلامى وأن تعكر صفاءه وتلوى مساره! بعضها فى الروابط المقررة بين الرجال والنساء، بل فى سلوك المرأة نفسها وميلها إلى التبرج!. والتبرج شىء غير التجمل، فالتجمل صون الجسد واستبقاء محاسنه الطبيعية واستبعاد ما يشينها أو يشوهها، وذاك لا حرج فيه، بل هو مطلوب.. أما التبرج فهو الإثارة المتعمدة بإضافات مفتعلة للفت الأنظار واستفزاز الرغبات، وهذا مرفوض، ويزداد الرفض عندما تكون المرأة خارجة للصلاة فإنها بذلك التبرج تفسد جو العبادة، وما ينبغى له من طهر وتجرد، إن المساجد ليست معارض للفتنة ولا ميدان سباق بين الجميلات، ويجب إعادة المرأة المتبرجة إلى بيتها! وقد فعلت نساء بنى إسرائيل هذا المحظور قديما، وحذر الإسلام منه حديثا، وشدد أن يخرج النساء إلى المساجد تفلات أى ليس فى هيئاتهن تبرج ولا إثارة. إن الإسلام حريص على طهر العلاقات بين الرجال والنساء فى الأسواق والمجامع والبيوت والشوارع، ومن حقه أن يطمئن إلى سلامة النيات وبراءة الملتقيات، ومن حقه تحصين المعاملات من دسائس الغرائز الجنسية، حتى لا تجد متنفسها إلا فى بيوت الزوجية.. وبعض الرجال طُلعة! يحب أن يتجاوز ما لديه إلى غيره، وأن يستكشف من فنون ص _122(1/109)
الجمال ما يزيد رغبته حدة! ومن ثم يلجأ إلى التطلع والتلصص فما يزيده ذلك إلا جماحا وهبوطا، ويعجبنى قول الشاعر:. وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبئك المناظر! رأيت الذى لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر! إن غض البصر أدب رفيع، وحصانة من الانزلاق إلى مهاوى الرذيلة، وعلى المجتمع كله أن يتذكر حدود الله، وأن يحرسها بذكاء وتلطف، وأن يضع نصب عينيه تيسير الزواج فإذا مهد الطريق إليه انتصب ماردا جبارا يحى البيوت ويحفظ الأسر الناشئة، ويوفر لها كل أسباب الازدهار.. والعرب يسمون الزوجة حرما، وهى تسمية تشير إلى أن للعرض قداسة وأن صونه واجب قد تسترخص فيه الدماء.. إلا أن كلمة حريم نقلت إلينا عنوانا على موضوع آخر، موضوع رجل مقتدر واسع الجاه، جمع حوله عددا قل أو كثر من النساء وعاش يتقلب بينهن فى حياة حالمة باسمة، فإذا حاول أحد الاقتراب من سياج هذا الحريم الغريب فالويل له، ربما فقد حياته.. وتستطيع الاطلاع على صور هذه الحياة الذهبية فى قصص ألف ليلة، وفى حكايات التاريخ عن بعض الحكام الأولين، الذين كانت قصورهم مخازن للمتع كما عبر بعض الأدباء، وما أعجبها مخازن، وأجدرها بالإنكار!. وعندى أن بنى إسرائيل أول من رسم صورة هذه المهزلة الإنسانية أو الحيوانية إن شئت، فقد زعموا فى العهد القديم أن سليمان كانت له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة جارية، أى أنه جمع فى قصوره ألف امرأة! ماذا يفعل رجل بهذا الجيش؟ وكيف يستطيع الدوران بينهن؟ قالوا : إنه ليس نبيا بل كان ملكا! ولنفرض ـ كذبا ـ أنه ملك على رأسه التاج فأنى لملك فى الأولين أو الآخرين الطاقة على مصاحبة ألف امرأة؟ إن الغريزة الجنسية فى أعتى أطوارها محدودة، وقد يخيل للصائم عند سورة الجوع أنه سيأكل أصنافا شتى فإذا أفطر فما ص _123(1/110)
هى إلا ساعة حتى تفنى شهوته، ويعجز عن الأكل.. وهذه القصص وأشباهها فى تاريخ السلاطين من نسيج الخيال، آلفها وضاعون يغلب عليهم الشبق!. وهنا وقفة نذكر فيها الحق فى شأن النساء المسميات بالجوارى، إنهن حرائر مختطفات فى أغلب الأحوال. وفى التاريخ البشرى سنوات طويلة كالحة كانت العصابات المسلحة تغير على المدن والقرى وتقهر الفتيات المستضعفات على الهرب معها، ثم تبيعهن فى أسواق النخاسة أو تستمتع بهن! وكان يقع ذلك بين العرب فى الجاهلية. وربما وقعت فى الأسر أو فى حبائل القناصين. نساء هن فى الذروة من الشرف والكرامة! أغار عروة بن الورد على قبيلة غفار ـ وعروة من صعاليك العرب الشجعان الأجواد (!) وأسر فتاة اسمها سلمى، وتزوجها واستولدها وكانت المرأة تحيا معه شاعرة بالغضاضة والمذلة، فلما أتاحت لها فرصة الفرار عادت إلى قبيلتها، وعاشت بين أهلها.. ولحق بها عروة الذى أحبها وكرمها يطلب منها أن تعود لأولادها فقالت له هذه العبارات الناضحة بالشرف والإباء وعزة النفس: "يا عروة إنى أقول فيك ـ وإن فارقتك ـ الحق.. والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك! وأغض طرفا، وأقل فحشا، وأجود يدا، وأحمى لحقيقة! لكن ما مر على يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلى من الحياة بين قومك، طالما سمعت المرأة من قومك تتحدث عنى فتقول: قالت جارية عروة كذا وكذا. والله لا أنظر فى وجه إحداهن بعد اليوم! ـ من كرهها للعبودية ـ ارجع راشدا إلى ولدك وأحسن إليهم ". أهذه أمة من الإماء؟ فما تكون الحرائر الشريفات؟ لكن الحياة قست على رجال شرفاء فبيعوا مماليك، وقست على نساء كريمات فتداولهن الأيدي فى الأسواق ثم احتبسن وراء أسوار الحريم عشرات أو مئات يدور بينهن فحل طامح العين طافح الشهوة.! وفى هذا العصر وجد طور آخر لنزوان الشهوات، فالرجل السكران الغريزة يستطيع ص _124(1/111)
الاتصال بألف امرأة إذا شاء، لم يجمعن له كما كان يُصنع قديما للسلاطين والأباطرة، بل يطير وراءهن فى أماكن البغاء أو فى زوايا الشوارع أو فى ساحات المراقص أو فى أحفال المجون ومباذل الحضارة الميسرة هنا وهناك. إن ما كان حكرا على الملوك أمسى متاحا لأى صعلوك، بالثمن البخس أو الغالى وإنه لمن المحزن أن تتردى البشرية فى هذه الهاوية والأسلوب الأمثل فى العلاقة بين الرجال والنساء هو الزواج الذى يضم سكينة الروح إلى متعة الجسد، وتجاوب الفكر إلى جيشان العاطفة... والذى يضم قبل ذلك وبعده المهاد الطهور لما ينشأ من أجيال. وقد تحدث الإسلام طويلا عن الأسرة، ولكن الحديث شابه فهم سيئ وتطبيق أسوأ، ولست أكترث لحديث الأوربيين التافه عن التعدد، فالقوم يعددون فى الحرام ما لا يحصر ويشغبون على الأديان كلها، وهى تبيح تعددا له ملابساته ودواعيه.. وأحسب أنه عندما يحسن المسلمون تطبيق ما لديهم فإن نموذجا معجبا للعلاقات الإنسانية سوف ينال الرضا ويسارع الآخرون إلى تقليده أو الاقتباس منه. ص _125(1/112)
البيوت تبنى على الحب هناك معالم ثلاثة ينبغى أن تتوفر فى البيت المسلم، أو أن تظهر فى كيانه المعنوى ليؤدى رسالته ويحقق وظيفته هذه الثلاثة هى السكينة والمودة والتراحم.. وأعنى بالسكينة الاستقرار النفسى، فتكون الزوجة قرة عين لرجلها لا يعدوها إلى أخرى كما يكون الزوج قرة عين لامرأته لا تفكر فى غيره.. أما المودة فهى شعور متبادل بالحب يجعل العلاقة قائمة على الرضا والسعادة.. ويجىء دور الرحمة لنعلم أن هذه الصفة أساس الأخلاق العظيمة فى الرجال والنساء على سواء، فالله سبحانه يقول لنبيه " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " فليست الرحمة لونا من الشفقة العارضة، وإنما هى نبع للرقة الدائمة ودماثة الأخلاق وشرف السيرة.. وعندما تقوم البيوت على السكن المستقر، والود المتصل، والتراحم الحانى فإن الزواج يكون أشرف النعم، وأبركها أثرا.. وسوف يتغلب على عقبات كثيرة، وما تكون منه إلا الذريات الجيدة! لقد شعرت أن أغلب ما يكون بين الأولاد من عُقَد وتناكر يرجع إلى اعتلال العلاقة الزوجية، وفساد ذات البين! فهل المعنويات تغنى عن الماديات؟ إن هناك عناصر أخرى تحف بالبيت أو تخرج منه لها أثر فى سعادته. ولننظر إلى هذا الحديث النبوى، عن سعد بن أبى وقاص قال رسول الله ـ ص _126(1/113)
صلى الله عليه وسلم ـ : " ثلاث من السعادة المرأة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك 3- والدار تكون واسعة كثيرة المرافق. وثلاث من الشقاء المرأة تراها فتسوءك وتحمل لسانها عليك، وإن غبت لم تأمنها على نفسها ومالك والدابة تكون قطوفا ـ بليدة ـ فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك 3- والدار تكون ضيقة قليلة المرافق ". كل امرئ يميل إلى ما يسعده ويتباعد عما يشقيه. وفى الحديث " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" ومن حق المسلم أن يتطلع إلى بيت مريح واسع المرافق يزود منه بالطاقة النفسية الدافعة إلى العمل المثمر، ومن حقه أن يكره المواصلات الرديئة، وأن يكره قبل ذلك قصور المرافق، وسوء العشرة..! إن الدين لا يكبت مطالب الفطرة، ولا يصادر أشواق النفس إلى الرضا والراحة والبشاشة، وللإنسان عندما يقرر الزواج أن يتحرى عن وجود الخصال التى ينشدها وأظن ذلك حق المرأة أيضا فيمن تختاره بعلا.. فإذا صدق المخبر الخبر صح الزواج وبقى، وإلا تعرض مستقبله للغيوم. وقد لاحظت أن الخاطب قد يتكلف أخلاقا إلى حين! فإن كان غضوبا تصنع الحلم وإن كان شحيحا تصنع الكرم! حتى إذا زفت إليه امرأته انكشف المخبوء، وبدت خلائقه الطبيعية! وفوجئت المرأة بما لم تكن تعهد فإذا هى تقول مع الشاعر المدهوش.. كل يوم تبدى صروف الليالى خلقا من أبى سعيد عجيبا... وقد يعطى الموافقة على مهر معين يجعله فى ذمته، فإذا تم العقد والدخول نسى الوفاء بما تعقد به. وقد حذر الإسلام من أنواع الغدر التى يلجأ إليها ضعاف النفوس. وفى الحديث الشريف " أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس فى نفسه أن يؤدى إليها حقها، خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقى الله يوم القيامة وهو زان، وأيما رجل ص _127(1/114)
استدان دينا لا يريد أن يؤدى إلى صاحبه حقه خدعة حتى أخذ ماله، فمات ولم يؤد دينه، لقى الله وهو سارق ". إن الزواج ليس نزوة عابرة! إنه صحبة دائمة وميثاق غليظ وشركة فى حياة لا تتحمل هزلا ولا عبثا، فما ارتبط به الزوج أو الزوجة من شروط لا يسوغ فيه تحريف ولا تقصير.. والوفاء بالمهر ليس إلا مثلا يذكر لما يجب أن يكتنف الزوجية من صدق وشرف، ولو أن رجلا عرض نفسه على أنه حليم أو سمح، فليثبت على هذه الخلال التى ادعاها. وليتكلفها إن لم تكن فيه! فإن بركات الله تنزل على أهل الصدق، وتجعل المعيشة أحلى وأبقى.. بل إن المرأة قد تتنازل عن حقها المالى كله أو بعضه عندما ترى زوجها كرم الشمائل نبيل السجايا ! والتى تعطى نفسها لا تضن بمال.. وهناك رجال يحسبون أن لهم حقوقا، وليست عليهم واجبات، فهو يعيش فى قوقعة من أنانيته ومآربه وحدها، غير شاعر بالطرف الآخر، وما ينبغى له! والبيت المسلم يقوم على قاعدة عادلة " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة " وهى درجة القوامة أو رياسة هذه الشركة الحية..! وما تصلح شركة بدون رئيس. وبديه ألا تكون هذه الرياسة ملغية لرأى الزوجة، ومصالحها المشروعة أدبية كانت أو مادية... إن الوظيفة الاجتماعية للبيت المسلم تتطلب مؤهلات معينة، فإذا عز وجودها فلا معنى لعقد الزواج. وهذه المؤهلات مفروضة على الرجل وعلى المرأة معا فمن شعر بالعجز عنها فلا حق له فى الزواج.. إذا كانت المرأة ناضبة الحنان قاسية الفؤاد قوية الشعور بمآربها بليدة الإحساس بمطالب غيرها فخير لها أن تظل وحيدة! فلن تصلح ربة بيت! إن الزوج قد يمرض، وقد تبرح به ص _128(1/115)
العفة فتضيق به الممرضة المستأجرة! المفروض أن تكون زوجته أصبر من غيرها وأظهر بشاشة وأملا ودعاء له ومن الطرائف ما رواه أبو سعيد الخدرى أن رجلا أتى بابنته إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن ابنتى هذه أبت أن تتزوج فقال لها رسول الله: أطيعى أباك! فقالت: والذى بعثك بالحق لا أتزوج! حتى تخبرنى : ماحق الزوج على زوجته؟ فحدثها النبى عليه الصلاة والسلام أنه لو كانت به قرحة فعالجتها بفمها ما زادت عن واجبها..! قالت: والذى بعثك بالحق لا أتزوج أبدا… فقال النبى للأب: لا تنكحوهن إلا بإذنهن...! إن هذه الفتاة أنصفت نفسها، ولم تتعرض لتكليف يصعب عليها أن تقوم به، وليس لأحد أن يكرهها على ما تأبى وتمريض الرجل لامرأته له هذه المكانة ذاتها، مصداق قوله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ".. ولن نفهم أطراف هذه القضية إلا إذا علمنا بأن البيوت تبنى على الحب المتبادل، " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن "كما قال تعالى. ومنطق الحب الشريف يعطى من الوفاء والولاء ما لا تعرفه القوانين التجارية والمبادلات المنفعية!! وما أكثر ما يفتدى الرجل بيته بحياته وتفتدى المرأة بيتها بحياتها.. وما نقوله بالنسبة إلى المرأة نقوله بالنسبة إلى الرجل، فالعاجز عن أعباء الأسرة المادية والأدبية لا يجوز له أن يتزوج وليسمع نصيحة الرسول الكريم " من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أى قاهر لغريزته.. ص _129(1/116)
تضحيات الرجال والنساء المرأة الجبانة تعجز زوجها عن النهوض بواجباته وتحمل المخاطر واقتحام العقبات! المرأة البخيلة تمنع رجلها من بذل العون وإكرام الضيف ودعم الضعاف! إن خذلان الداخل يعوق الامتداد فى الخارج، ويجعل الرجل خادما لمطالب بيته ومآرب زوجته وأولاده، وهذا طريق لا نهاية له! وقد أمر الله الرجال أن يلبوا نداء التضحية ولو تعلقت نساؤهم بأذيالهم وحذرهم من النكوص وأشار الراحة واجتماع الشمل على حساب المبادئ والعقائد، وهذا معنى الآيات . (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم). العداوة هنا ليست الخصومات المعروفة، وإنما هى انهزام الرجل أمام مطالب أسرته وقعوده عن الهجرة والجهاد كى يبقى إلى جوارهم.. وقد تدبرت تاريخ السلف الأول فوجدت تعاونا فريدا بين أعضاء الأسرة على خدمة الإسلام والوفاء بحقه واقتسام المغارم فى نصرته بين الأزواج والزوجات. تقول أم سلمة رضى الله عنها لما أجمع أبو سلمة على الهجرة. أعد لى بعيرى وحملنى عليه مع ابننا سلمة ثم خرجنا إلى المدينة، فتبعه رجال من أهلى معرضين طريقه قائلين: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها فى البلاد، ونزعوا خطام البعير من يده وأخذونى منه! وغضب عند ذلك رهط بنى سلمة، وقالوا : والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا! قالت: فتجاذبوا الولد بينهم حتى كادوا ص _130(1/117)
يخلعون يده، ثم انطلقوا به، وذهب زوجى إلى المدينة وحده، ففرقوا بينى وبين ابنى وزوجى.. فكنت أخرج كل غداة فأجلس فى الأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى، ومكثت على ذلك نحو عام، حتى مربى رجل من بنى عمومتى فرأى ما بى ورق قلبه لى ، فقال لأهلى : ألا تتركون هذه المسكينة تلحق بزوجها؟ فقالوا لى: إلحقى بزوجك إن شئت، فاسترددت ابنى وارتحلت بعيرى وخرجت أريد المدينة وما معى أحد من خلق الله. حتى إذا كنت بالتنعيم ـ قريبا من مكة ـ لقيت عثمان بن طلحة ، فسألنى إلى أين؟ قلت أريد زوجى بالمدينة! قال: وما معك أحد؟ قلت: ما معى إلا الله وابنى هذا. فأخذ بزمام البعير وهو يقول: والله مالك من مترك، وانطلق مسرعا بى.. فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا نزل محطة أناخ بى ثم تأخر عنى حتى أنزل، ثم قيد بعيرى إلى شجرة ثم ذهب بعيدا إلى شجرة أخرى فاضطجع تحتها.. حتى إذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فأعده، ثم استأخر عنى حتى أركب، فإذا استويت عليه أخذ بالزمام يقودنا، ومازلنا كذلك حتى أقدمنى المدينة، فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف قال: هنا يقيم أبو سلمة، فادخلى على بركة الله، ثم انصرف قافلا إلى مكة بعدما أدى واجبه الشريف الرائع. واجتمع الشمل مرة أخرى فى دار الهجرة بعد شتات وأحزان، لكن أبا سلمة واصل كفاحه فى نصرة الإسلام، وشاء الله أن يكون من شهداء أحد، وأن تبقى أم سلمة وحيدة مستوحشة حتى قدر الرسول جهادها ومصابها فبنى بها وأعز جانبها. إن صرح الإسلام قام على تضحيات ثقال، قامت بها أسر شجاعة، تواصى رجالها ونساؤها بالحق وبالصبر. ص _131(1/118)
أين وظيفة البيت؟ للبيت أثر بعيد فى تنشئة الأولاد وإحكام سيرتهم، بل لعله الأصل الأول فى وراثة الدين واللغة، وقد قرر علماء الأخلاق أن العنصرين الحاكمين فى التربية والسلوك هما: الوراثة والبيئة، وإن اختلفوا فى أيهما أقوى وأنفذ. ويقول الشاعر العربى: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه! فهل الأب وحده غارس العادات فى نفوس الأولاد؟ كلا فللأم أثرها فى المواريث البدنية والمعنوية، وعندما جاءت مريم بوليدها النبى العظيم من غير أب معروف قيل لها: " يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " إن أثر الأبوين معا يرتقب فى ذريتها ويلتمس فى الأولاد، بل فى الأحفاد.* ومن ثم فنحن نعد البيت مسئولا عن نتاجه، ونطلب من الأم والأب معا العناية التامة بحاضر الأولاد ومستقبلهم، ويستحيل بناء مجتمع سليم على بيوت خربة، إن فقدان التربية إيذان بأن الأمة لا مستقبل لها.. وقد طلب الإسلام من الأب أن يصلى النوافل فى بيته حتى يألف أبناؤه الركوع والسجود! كما طلب أن يتلى القرآن فى البيت ليتعطر جوه بمعانى الوحى، وفى الحديث " اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورا " أى أن البيت الذى لا يصلى فيه كالقبر الموحش، وقال رسول الله أيضا " مثل البيت الذى يذكر الله فيه والبيت الذى لا يذكر الله فيه مثل الحى والميت " وقال " أما صلاة الرجل فى بيته فنور، فنوروا بيوتكم.. " وجاء الأمر بتعليم الأولاد الصلاة منذ نعومة أظفارهم، وتعويدهم أنواع المكارم حتى ص _132(1/119)
يشبوا شرفاء صالحين. وقد لاحظ المربون أولو الغيرة أن الاستعمار الثقافى حريص على إنشاء، أجيال فارغة لا تنطلق من مبدأ ولا تنتهى إلى غاية، يكفى أن تحركها الغرائز التى تحرك الحيران، مع قليل أو كثير من المعارف النظرية التى لا تعلو بها همة ولا يتنضر بها جبين.. وأغلب شعوب العالم الثالث من هذا الصنف الهابط... وقد شكا الأخ الأستاذ أحمد موسى سالم من أن الطفولة فى بلادنا مهددة بالضياع القومى، والاغتراب الوطنى، والاحتواء المذهبى، أى أننا لا نعرف فضائل قومنا ولا عظمة تاريخنا ولا قيمة رسالتنا ولا جمال لغتنا وروعة بيانها، ومنذ أن يتحرك الفم نحو النطق والتعبير يبدو شبح اللغات الأجنبية، أو الألفاظ السوقية وتتعرض النفوس الغضة لغزو مشبع بالفكر الأجنبى، ولصور تنقل إلينا ملامح غيرنا، ولكتب ومجلات متخصصة فى تشويه شخصيتنا، وإبعادنا عن منابتنا، وتجهيلنا فى ديننا وتعريفنا بالسلوك الأوربى وحده!!.. وما هى المثل العليا التى ترتسم فى نفوس أطفالنا، وهم يدرجون نحو اليفاعة والشباب؟ صورة لاعب كرة يتأنق والجماهير تحيى قدمه اللبقة وهو يصول ويجول! أو نجمة مسرح وهى تمثل دررها باكية أو ضاحكة، مقبلة أو مدبرة؟ إن خريجى هذه المدارس أو هذه المناظر لن يدركوا مجدا ولن يصعدوا قمة، وهيهات أن تسترد بهم أمتنا شيئا من خسائرنا الحضارية، وتخلفنا الاقتصادي والاجتماعى.. وأرى أن دور البيت فى تربية البنين والبنات لابد أن توضع له سياسة علمية وأدبية جديدة، وإلا فنحن نسير إلى منحدر..!! إذا لم يتعلم الولد الصدق فى البيت فأين يتعلمه؟ وإذا لم يتدرب على الوفاء والأمانة والرقة بين أحضان الآباء والأمهات فأين يتدرب؟ هل وظيفة البيت توفير العلف لسكانه وحسب؟ ألم نسمع قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " إن العقوبة على الانهيار الخلقى لا تنتظر يوم البعث! لقد شاهدنا أن الأمم الذاوية ص _133(1/120)
الفضائل خفيفة الوزن فى الميزان العالمى، وأنها تحيا غالبا على التسول الاقتصادي ويلازمها الهوان والعجز. الشباب القوى الذكى ثمرة طفولة نجت من الإهمال والضياع وتعهدتها امرأة واعية وأب يقظ. عندما كنت شابا لاحظت امرأة أجنبية تجمع أولادها فى الأصيل وفى أيديهم الكراريس لتشرف على أداء واجباتهم المنزلية، فإذا نزلوا فى الشارع للفسحة كانت ترقبهم من النافذة، وكأنها تخشى عليهم أخطار الطريق، أو مشاكسة الرعاع.. من أجل هذا قلت: إن وظيفة ربة بيت ليست وظيفة هينة، إنها منصب آخر فوق مآرب اللذة، ومطالب الشهوات الجنسية.. الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق ! والغارة الاستعمارية على الأمة الإسلامية كان لها هدفان قاتلان: أحدهما استبقاء المرأة جاهلة لا تدرى شيئا عن نفسها أو عن العالم، والآخر تعليقها ـ إذا تعلمت ـ بمحاقر الأمور وأنواع الزينة وأشكال المدنية الحديثة والبعد بها عن اللباب والجد والارتقاء الفردى والجماعى.. وقد استعانت على ذلك بتعليم لا تربية معه، فإذا صرخ أحد يطلب دروسا دينية أمكن إسكاته بمقرر دراسى يحفظ الأولاد فيه سورة الفيل أو سورة الإيلاف، وهكذا يملأ الفراغ!!! وتمضى الغارة الاستعمارية فى طريقها لتقضى على الكبار بعد أن ضللت الصغار، وذلك ما جعلنى أكتب هذه الخاطرة الكئيبة، وأعيد ذكرها لعلها تنبه التائهين.. من شبابى الباكر إلى اليوم كنت إذا قرأت الصحف اليومية أتجاوز باب: أين تذهب هذا المساء؟ لأنى أعرف أين أذهب ! ولأنى لست بحاجة إلى من ينظم لى وقتى! إننى أطلب أبدا المزيد من المعرفة والمزيد من نفع الناس، وقلما أجد فراغا بعد تلك الواجبات.. ص _134(1/121)
إلا أنه بدا لى فى أحد أيام الشهر الماضى أن أتعرف كيف يقضى الناس أوقاتهم فى المساء. فأمسكت إحدى الصحف الكبرى وقرأت أسماء الأفلام التى يقضى معها الناس أمسياتهم وغلبتنى الدهشة والحيرة وأنا أطالع هذه العناوين المعلن عنها فى مساء يوم واحد : لهيب الشيطان. السفلة المحترفون. ثورة كنج كونج! ولما كنت لا أعرف قائد ثورة اسمه كنج كونج فقد سألت أحد الناس عنه فقال لى: هو قرد هائل يهشم ما يقع تحت يده!. وتابعت قراءة الأسماء. الرجل المدمر. ميراث الغضب. علاء الدين. النمر والأنثى!. رجل فى عيون امرأة. جرى الوحوش. عزبة الصفيح. الملعوب. قسوة الانتقام. قاهر التماسيح. الننجا الجبار، ولا أعرف هذا الننجا !. الثأر والانتقام. الهجوم الدامى أو القتلة الطائرون. معركة التنين الجبار. سيف الشيطان، بنات من نار. المنتقم بقبضته. وسقوط نيويورك ـ يعنى وضاعة نيويورك وهبوطها، فإن هذا البلد لم يسقط فى يد الأعداء كما أعلم ـ انحراف شهوة الانتقام!! هذه الروايات كلها تعرض فى مساء أسود، ولو كان مضاء بالكهرباء، مساء واحد يضم هذا الفكر الخسيس كله، ويتدبره النظارة المسوقون بسياط الدعاية وسماسرة الغزو الثقافى، يقضون معه الساعات الطوال، ويترك فى النفوس أسوأ الآثار... هل يخرج أحدنا بانطباع عال؟ أو بطموح كريم؟ هل هذه العروض تعين على تربية سليمة أو تدعم خلقا زاكيا؟ إن الجيل الذى يخرج من هذه الدور لا يخرج فارغ العقل والقلب وحسب، ولكنه يخرج مليئا بالصغائر والكبائر على سواء. عندى أن سموم الحشيش والهيروين ليست أكبر ضررا من سموم هذه المهالك المجلوبة من الخارج، وأن الأمة التى تشهد هذه القصص تضل الطريق إلى مستقبل معقول! وأقبل على المساء ولا تزال عناوين الأفلام المطلوب مشاهدتها ماثلة أمام عينى، فتلوت هذا الدعاء: "اللهم اجعل مساءنا هذا مساء صالحا لا مخزيا ولا فاضحا.. ". ص _135(1/122)
الآباء فى زماننا كنت فى بلد إسلامى كبير فقرأت نبأ إنشاء ملجأ للعجزة به! فسرنى النبأ لأننى آسى للمصابين والضعاف، وأدعو الله أن يجبر كسورهم ويفرج كروبهم..! لكن صديقا اطلع معى على النبأ وقال: هذا ملجأ لكبار السن من الآباء والأمهات على نسق ما ينشأ فى العواصم الأوربية يقضى فيه الشيوخ والعجائز بقية أعمارهم..! فشعرت بالتشاؤم والكآبة. وقلت: إن رذائل الحضارة الحديثة قد وصلت إلى حد بعيد فى تدمير العلاقات العائلية، وتقطيع ما أمر الله به أن يوصل. أعرف أن الشباب من الجنسين فى أوربا يعبون من الحياة عبا، ويوغلون فى متاعها إيغالا وأنهم ينسون آباءهم وأمهاتهم فلا يلتقون بهم إلا فى أعياد الميلاد أو بين آماد متطاولة، فإذا كبر هؤلاء الآباء لم يجدوا صدورا مفتوحة ولا دورا تؤوى! وإذا وجدوا فمع تبرم، وعلى ضيق، وإلى حين! إن ملاجئ العجزة أو بيوت المسنين ـ بالتعبير الحديث ـ أولى بهم، ينتقلون إليها ريثما ينتقلون إلى القبور! أما أولادهم فهم بعد العمل المفروض يذهبون إلى المراقص أو المسارح ليستقبلوا الحياة ذلك أحظى لديهم من قضاء أويقات إلى جانب أم غضن الدهر جبينها أو أب أحنت السنون ظهره.. ما أقرب هذه الجماعات إلى الحيوانات وإن تعاظم نصيبها من العلم، وادعت مستوى أعلى من الحضارة... ص _136(1/123)
ماذا عرانا؟ لقد كان الوالدان فى مجتمعاتنا بركة، يخرج المرء إلى عمله وهو مطمئن لأن والديه دعوا الله له، فإذا عاد إلى بيته كان السؤال عنهما أول ما يعنيه، ثم يلتفت بعد ذلك إلى زوجته وأولاده! إننا تغيرنا كثيرا، ولكن إلى أدنى..!! فى القرآن الكريم يقرن ربنا جل شأنه بين توحيده والإحسان بالوالدين! "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " ، والسبب فى ذلك أن نعماء الوالدين تنهمر على ولدهما وهو فى مراحل ضعف الإدراك وقلة الوعى سواء كان طفلا أو صبيا أو مراهقا! إنه يحسب ذلك الإغداق يجىء تلقائيا من جهة ملزمة به ليست لها بعد حقوق..! وكذلك يصنع الناس مع ربهم! إنهم يحسبون طعامهم وكساءهم ونماءهم وعافيتهم، وكل ما يقيم حياتهم شيئا جاء من الهواء! أو من مجهول لا يريد أن يعرف إ! ومن ثم فقلما يحسون الشكر العميق على ما يصبحون فيه ويمسون من أعطية الله و أفضاله.. وقد شاء الله أن يلفتهم إلى فضل الوالدين، وهو عند التأمل القريب حق، وأن يلفتهم فى الوقت نفسه إلى حقه الأكبر وامتنانه الأجل ، فهو خالق الوالد وما ولد، والكون وما حوى " و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما * و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " فهل يكون الجزاء بعد قوة الولد وضعف الوالد، أن يستقل الشاب ببيت يروى فيه من اللذة، ويذهب الوالدان إلى ملجأ للعجزة، تخيم عليه العزلة ونذر الفناء؟ رأيت فى أدبنا العربى القديم من يشكو هذا العقوق القبيح، يقول أمية بن أبى الصلت لابنه الذى تنكر له: فلما بلغت السن والغاية التى إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائى منك جبها وغلظة كأنك أنت المنعم المتفضل ص _137(1/124)
فليتك إذ لم ترع حق إبوتى! فعلت كما الجار المجاور يفعل ! وقال آخر: لربيته حتى إذا صار شيظما- عملاقا- يكاد يساوى غارب الفحل غاربه فلما رآنى أبصر الشخص أشخصا قريبا، وذا الشخص البعيد أقاربه! تغمد حقى ظالما، ولوى يدى لوى يده الله الذى هو غالبه! أإن أُرعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدى ليث، فإنك ضاربه ! ولاشك أن بيوت المسنين، أو ملاجىء العجزة على وحشتها أفضل من هذا المصير الكفور أو من هذا العقوق الدنئ، ولكن لماذا نختار بين الشرين، ولماذا لا تكون مظلة الوفاء والتراحم مخيمة علينا، مؤدين تحتها حق الله وحق الوالدين؟؟ روى عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستأذنه فى الجهاد، فقال: أحى والداك؟ قال: نعم! قال: فيهما فجاهد.. وفى رواية أخرى " أقبل رجل إلى رسول الله، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغى الأجر من الله! قال: فهل من والديك أحد حى؟ قال نعم، بل كلاهما حى! قال: فتبتغى الأجر من الله؟ قال نعم! قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما.. وفى رواية أخرى عن معاوية بن جاهمة، أن جاهمة جاء إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك؟ فقال: " هل لك من أم؟ قال نعم! قال فالزمها فإن الجنة عند رجلها " وقد جاء فى آثار أخرى أن الجنة تحت أقدام الأمهات. على أن البيوت ما تقوم وتصلح ويسودها البشر والتواصل إلا بتقوى الله وحسن الخلق! ولابد من هنات تقع! وأخطاء ترتكب، والتغلب على الأزمات العارضة يحتاج إلى لباقة وذكاء... وذاك سر ما روى عن مالك بن أنس أن رجلا جاء شاكيا يقول: أمرنى أبى، ونهتنى أمى، فما أفعل؟ قال له: أطع أباك ولا تعص أمك..!! وذهب أب غاضب إلى أحد الأئمة يقول له: مر ابنى فليطلق امرأته! قال له الإمام ص _138(1/125)
لماذا؟ قال: لأنى أكرهها.. فقال الإمام: كراهيتك لها لا تبيح طلاقها.! فقال الرجل: ألم يأمر الرسول عبد الله بن عمر أن يطلق امرأته لأن أباه يكرهها؟ فقال الإمام : عندما تكون فى دين عمر وتقواه وعدالته أكلف ابنك بما تريد!. إن الحماة أحيانا تريد أن تبسط سلطانها على الابن وزوجته. والزوجة تريد أن تستأثر برجلها على والديه! وهذا المسلك الأنانى يخلف آثارا مميتة، وغيوما معكرة، وعندما نلوذ بتعاليم الدين ونتشبث بمكارم الأخلاق نجتاز مضايق صعبة ويبقى الشمل مجموعا. ص _139
صلة الأرحام من الإيمان بئس الرجل يعيش لنفسه وحسب! لا يهتم إلا بمآربه، ولا يغتم إلا لمتاعبه، ولا يعرف إلا من يقرب له مصلحة، ولا يجفو إلا من لا حاجة له عنده . إن هذا النوع من البشر أدنى إلى الحيوان منه إلى الإنسان، ذلك أن الإنسان يفضل الحيوان بأمرين أولهما عقله المتحرك الجواب فى الأرض والسماء، والثانى عاطفته الرحبة التى تشغله بأمر نفسه وأمر الآخرين . إن الدابة لا تحس إلا كيانها وما تهوى وما تخشى! وقد تمتد عاطفتها إلى ذريتها حينا من الزمن ثم ينسى كلاهما الآخر وينطلق كما يشاء.. وفى الناس من يصبحون ويمسون لا يخرجون من القوقعة التى يحيون داخلها، وهى أنانيتهم المطلقة المطبقة! والإسلام شديد الحرص على إيقاظ المسلم إلى غيره، وتعريفه بحقه، وإيصائه برعايته، وأول أولئك ـ بعد الوالدين ـ ذوو الأرحام.. ومن حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم ـ " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه " " من أحب أن يبسط له فى رزقه، وينسأ له فى أثره ـ يطال فى عمره ـ فليصل رحمه ". ومن حكم النبوة ولطائفها ما رواه أبو ذر : " أوصانى خليلى - صلى الله عليه وسلم - بخصال من الخير . . . أوصانى أن لا أنظر إلى من هو فوقى، وأن أنظر إلى من هو دونى.. ص _140(1/126)
وأوصانى بحب المساكين والدنوِّ منهم، وأوصانى أن أصل رحمى وإن أدبرت وأوصانى ألا أخاف فى الله لومة لائم وأوصانى أن أقول الحق ولو كان مرا، وأوصانى أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة ". والأقارب ليسوا سواء، ففيهم السيئ الخلق القريب الشر، وفيهم الودود المقرُّ بالجميل الناشر للمعروف.. عن أبى هريرة " أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لى قرابة أصلهم ويقطعوننى، وأحسن إليهم ويسيئون إلى، وأحلم عليهم ويجهلون على، فقال له: إن كنت كما قلت فكأنما تُسِّفُهُم الملَّ ـ الرماد الحارّ ـ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك ". وقد كان العربى يفخر بتحمله أذى الأقارب إبقاء على صلة الرحم، ولا يحمل الضغينة على قريب. وإنى لأنسى عند كل حفيظة إذا قيل: مولاك! احتمال الضغائن وإن كان مولىً ليس فما ينوبنى من الأمر، بالكافى، ولا بالمعاون! يعنى أنه قريب قليل الخير، ولكنه يعينه، وإن كان قليل العون، لا يسدُّ ثغرة!!! ونريد أن ننظر إلى دائرة " الأرحام " كما رسمها الإسلام فإنها أوسع كثيرا مما يظنها المرء لأول وهلة، إنها تمتد وتنداح حتى تتجاوز الأعمام والأخوال وأبناء الأعمام والأخوال، والقرابات من الدرجة الأولى والثانية حتى تشمل الكثيرين!. الأساس ـ فى نظر الإسلام ـ أن الناس جميعا أخوة لأب وأم، وأن هذه الصلة المشتركة لا يجوز أن تهمل وإن طال الزمان وكثرت الفروع وزاد البنون والبنات، والأخوة والأخوات، وفى هذا يقول الله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا". الناس كلهم ينْميهم أب واحد وأم واحدة، وهم ـ رضوا أم كرهوا ـ أخوة تجرى فى ص _141(1/127)
عروقهم دماء مشتركة فعلام التقاطع والتناحر والاستكبار والاحتقار؟. إن النزعات العرقية قسمت البشر قديما وحديثا، ولا تزال الفروق القومية تجعل أبناء آدم كأنه لا رحم بينهم ولا قرابة.. والأوربيون يسرون ويعلنون أن الجنس الأبيض، أو سكان الشمال هم الأرقى والأزكى.. والمعروف أن القوم لم يبرز لهم تاريخ متفوق إلا من بضعة قرون.. وهناك الاختلافات الدينية، فهى من قديم أساس عراك دموى ظلوم أرخص الأرواح والأموال وورّث الأحقاد والثارات. وقد أهدر القرآن الكريم كل ما توهَّمه الناس مبعث انقسام وشجار عندما قال: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) إننى باسم الإسلام أقول لغيرى ممن لا يدينون دينى، لكم عندى المبَّرة والعدالة، ولكم عندى حقوق الرحم الإنسانية الجامعة! وغاية ما أنشده أن تتركونى وما اقتنعت به، وأن تزكوا غيرى حرا فى اتباعى إذا شاء،.. نحن نؤمن بالله الواحد، وبجميع الرسل الذين أرسلهم، وندعو إلى وحدة دينية تحقق الوحدة الإنسانية وتصحح مسيرتها فى هذه الحياة. فمن صدقنا فهو منا، ومن كذبنا فليتركنا وشأننا ولا يلجئنا إلى مقاتلته دفاعا عن أنفسنا. قال عبد الله بن عباس فى شرح قوله تعالى: ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل، يعنى يصل بينهم بالإيمان ولا يفرق بين أحد منهم.. هذا هو الإيمان الجامع للكلمة، المحقق للوحدة، الواصل لما بين الأنبياء من رحم وبين أتباعهم من إخاء... ص _142(1/128)
ومن السهل رؤية الأطماع البشرية وهى تتخفى تحت رداء الوطنية والطائفية قاطعة الأرحام وسافكة الدماء قال تعالى: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم "! وهنا مبحث لغوى طريف ثار عند شرح الحديث: " إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة! قال نعم، أما ترضين أن أصل من أصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى! !قال: فذاك لك! وهو معنى آية " فهل عسيتم… " الخ. قال القاضى عياض: الرحم التى توصل وتقطع وتبرُّ أو تُعق إنما هى معنى من المعانى كالعلم، والعدل، والرحمة.. وغير ذلك، إنها ليست جسما، إنما هى قرابة ونسب، يجمعه رحم والده، فيتصل بعضه ببعض. والمعانى لا يتأتى منها القيام ولا الكلام، فكيف يفسّر الحديث؟ قال: إنما هو ضرب مثل جرى على عادة العرب فى المجاز والاستعارة.. والمراد تعظيم شأن الرحم وبيان إثم قاطعها... وقيل بل المراد قيام ملك من الملائكة بهذا الموقف يتعلق بالعرش ويتكلم بلسان الرحم... وأيَّا ما كان الأمر، فصلة الرحم من أبرز شُعُب الإيمان ومن أعظم القربات لدى الرحمن... ص _143(1/129)
العمل لا العدد قرأت بحثا لعالم فى الجغرافيا البشرية تحدث فيه عن سكان الأرض منذ تمهَّدت لآدم وبنيه حتى اليوم، ثم أتبع كلامه ببحث آخر عن سكان الأرض فى عالمنا المعاصر وعن أعدادهم وأديانهم، وختم البحث بنبذة علمية عن الصبغة الدينية التى ستغلب على العالم فى العصر القادم. يرى الباحث أن الأرض سكنها من بَدْء الخليقة إلى الآن ثمانون مليارا من البشر، ولست أعرف المقدمات التى انتهت به إلى هذه النتيجة! ولم أستكثر العدد ولم أستقله. كل ما أحسسته أن هذه المليارات الثمانين موجودة لم يلحقها فناء، وأننا سنلحق بها حتما لنزيد عددها على نحو ما قال الشاعر العربى. لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون، والقبور تزيد! ويستيقظ السابقون واللاحقون يوما ليواجهوا مستقبلا متفاوت الألوان والدرجات كما جاء فى الكتاب الكريم: " ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ". إن القشرة رقيقة جدا بين الموت والحياة، وفى كل طرفة عين يستخفى من بيننا أقرباء وغرباء كانوا ملء السمع والبصر، والمدهش أننا نكترث لذلك قليلا ثم يخطفنا تيار الحياة بعيدا فننسى كل شئ! لأترك هذا التفكير، ولأعد إلى ما يقوله الباحث فى الجغرافيا البشرية عن الأحياء من ص _144(1/130)
سكان الأرض إنهم نحو خمسة مليارات الآن موَّزعة على الإسلام والنصرانية والوثنية والشيوعية واليهودية. ويرى الباحث أن المسيحيين يزيدون على المليار، وأن المسلمين يقاربونه، ومع أنى أعلم أن عبئا كبيرا يقع فى إحصاء المسلمين إلا أنى لم أهتم به، وإنما اهتممت بالنبوءة التى سجلها الباحث الجغرافى ـ ولعله كتب مقاله من أجلها ـ فقد قال: إن هناك حرصا على تقليل النسل فى أوربا وأمريكا، وأن تعداد السكان فى أغلب الدول الغربية ثابت، وقد ينقص قليلا أو يزيد، أما فى العالم الإسلامى فالتعداد فى صعود.. ولا أدرى أنسى الكاتب أم أنه تناسى بقايا العفة والطهر فى العلاقات الجنسية بين المسلمين، وطوفان العهر والتسيب بين جماهير من الأمريكيين والأوربيين!. إن الناس لا يزيدون مع انتشار " الإيدز" وغيره من العلل النّتِنّة! وقد استخدم غزو الفضاء لبحث جرثومة الإيدز ومحاولة استكشاف علاج يقضى عليها، أى أن التقدم العلمى يستغل فى تغطية آثار الجريمة الشاذة. أما كان أقرب من ذلك كله تحكيم وحى الله وتحريم المنكر من العمل والقول؟. وأعالن بعد ذلك إخوانى المسلمين بأن زيادة عددهم إلى مليارين لا يفرحنى! فالمهم كثرة العمل لا كثرة العدد. ص _145(1/131)
المسخ الذى أصابنا أتسمع الإذاعات الأجنبية لأعرف أحوال سائر الخلق بعد أن أعرف أحوال قومى، وقد وقفت أسفا دهشا وأنا أتابع ما طلبه المستمعون من الموسيقى والغناء الغربى. ناس فيهم الذكران وفيهم النسوان، من أحياء وطنية، وأماكن بدوية، هذا يطلب سماع المغنية الفرنسية فلانة وهذا يريد أن يسمع المغنى الإنجليزي فلان، وتلك تهدى الألحان لحبيبها وذاك يهديها لحبيبته الغالية جدا.!.. وبلغ الضياع القاع عندما عرضت رواية " عايدة " باللغة الإيطالية قريبا من أهرام الجيزة، وحضر الألوف وانصرفوا وهم بحمد الله لم يفهموا شيئاً غير بغام يعلو ويهبط!!. وتذكرت ما حكى عن المغنى الزنجى المحقور " مايكل جاكسون" الذى يكره العرب أشد الكراهية، فقد قيل له: إن العرب يحبون أن يسمعوا أغانيك! فقال: لو علمت ذلك ما غنيت!! قلت: هذا المغنى يخدم اليهود، وكان جديرا أن يسقط من عين العرب ولكن عشاق الطرب لا دين لهم ولا غيرة!. لقد فكرت طويلا فى هذا المسخ الذى أصاب طوائف من أمتنا فأصابها ما أصاب اليهود قديما عندما جعلهم الله قردة وخنازير... إن هذا المسخ بدأ بين المثقفين الذين احتقروا لغتهم، وأهانوا تراثهم الأدبى، وشعروا ألا كيان لهم إلا إذا تحدثوا بلسان أجنبى، وتعاملوا بتقاليد مستوردة.. وأخذت شخصية الأمة تتفتت، حتى شعرت أنها كالإسفنجة التى تمتص كل ما حولها لأنها خاوية خالية تجتذب ما يعرض لها.. ص _146(1/132)
إن الشعر العربى العامر بالجمال والحكمة اختفى من لغة التخاطب.. وكنا قديما نحارب الغزو اللغوى فأمسينا اليوم ننشئ للأطفال مدارس اللغات التى تؤخر العربية أو تهملها لتبنى على أنقاضها اللغات الأخرى.. وما نحارب معرفة اللغات ولكننا نأسى عندما نرى النطق بالعربية رديئا حافلا بالأغلاط الفاضحة بينما نرى الحديث بالإنجليزية أو الفرنسية مضبوطا لاعوج فيه.. ليس للعربية كرامة ولا للحفاظ عليها حراس ولا يخزى من الجهل بها رئيس أو مرءوس.. والآن أسمع شخصا من بولاق فى القاهرة، أو من الباسطة فى بيروت، أو من القصبة فى الجزائر يريد أن يشنف آذانه أو آذان حبيبته بسماع أغنية من أغانى " البوب " أو موسيقى "الروك والرول" جدع الله آذانكم وأنوفكم وأصمَّ أسماعكم!!. إن هناك انحدارا تهوى به أمتنا فى مجال اللغة والأدب والفن، وإذا لم نسارع إلى علاجه سقطنا فى هاوية لا قرار لها.. ص _147(1/133)
الدين عند " تاتشر" وعندنا ألقت السيدة " مارجريت تاتشر" خطابا فى " اسكوتلندا " شرحت فيه العلاقة الوثيقة بين فلسفتها السياسية وعقيدتها الدينية. وكان خصومها قد اتهموها بأنها أيقظت نوازع الأثرة والطمع فى النفوس، وجعلت الجماهير تركض وراء المال ركضا جامحاً. قالت المرأة الزعيمة: إنها تحب الغنى للجميع، وترجو لكل فرد ثراء واسعا، وأنكرت أنها تدفع إلى عبادة المال، وبينت أنها تنشد أن يملك كل فرد ما يكفيه ويريحه ثم ما يجعله قادرا على العطاء السمح وسد الثغرات فى المجتمع... وفهمت أنا ـ من تلخيص الإذاعة الإنجليزية لخطابها ـ أنها تشرح الحديث النبوى " نعم المال الصالح للعبد الصالح " والحديث الآخر " إن الله يحب التقىّ الغنى... " وهى بداهة لا تعرف هذه الآثار الإسلامية، إلا بفطرتها وذكائها. المهم أنها رفضت الاتهام بالخروج على الدين وأنها أعلنت تمسكها بالمسيحية! وازنت بين تصريحات رئيسة دولة من أعظم دول الأرض، وبين تصريحات وزير الثقافة عندنا ثم شعرت بالخزى، فقد قال: " مبادرتى فى مواجهة التطرف هى إحلال الخيال المادى مكان الخيال الغيبى! وجعل أنا المادية فى مواجهة الغيبية "!! ثم زعم وزير الثقافة: أن الهجوم يأتى من الغيبية والصمود يأتى من المادية!! والكلام كله متهافت سقيم، فإن رفض الغيب انسلاخ عن الدين كله، والزعم بأن الدين يهاجم وأن الإلحاد يدافع زعم سقيم باطل، والصورة التى تماسكت بذهن الوزير ص _148(1/134)
الذى يُزرى على الغيب صورة دميمة لا علاقة لها بأحكام الدين، ولا بالواقع الذى ثارت من أجله المعركة! وإذا كنا قد رفضنا كلام الفتية الذين يحرمون الغناء كله، فنحن أكثر رفضا لكلام رجل يتناول الغيب بهذا الأسلوب العجيب.. وبينما أنا فى دهشتى لصدور هذا اللغو من مسئول قرأت للأستاذ الكبير مصطفى أمين هذه العبارات : " نتمنى عندما نعين وزيرا جديدا أن نقول للشعب: من هو هذا الوزير؟ فكثيرا ما يفاجأ الناس بتعيين وزير لا يعرفون عنه شيئا. كأنما انشقت الأرض فجأة وخرج منها هذا الوزير.. فإذا كان الوزير فى الماضى عضوا فى جماعة "حدتو" الشيوعية قلنا ذلك فى صراحة حتى يعرف الجمهور سر القرارات التى تصدر والقوانين التى تفرض.. وإذ كان الوزير من التنظيم الطليعى قيل للشعب إنه كان عضوا فى هذا التنظيم الذى حكم مصر يوما ما ". أقول: حكم مصر فى أيام نحسات! أليس غريبا أن إحدى الدول العظمى كإنجلترا تؤكد صلتها بالغيب، وتصطلح مع تراثها الثقافى والروحى، وأن مصر المثخنة بالجراح المثقلة بالديون تتندّر بالغيب ـ على لسان وزير ثقافتها ـ إننا نخاصم أسباب الأرض وبركات السماء فى وقت واحد، فمن أين يجئ الإنقاذ؟. ص _149(1/135)
الإيدز وحريّة التخنث تتسع الدائرة التى ينتشر فيها مرض " الإيدز" وتزيد الأموال المرصدة لمحاربته وتنوء الدول الفقيرة ـ فى أوربا وأمريكا ـ بمغارم هذه الحرب التى لا تبدو لها نهاية. ويقول الدكتور "ليونارد ماتا" ممثل "كوستاريكا" فى أحد المؤتمرات الطبية: إن وزارات الصحة فى دول أمريكا الوسطى لا تستطيع تطويق هذا المرض ومنع انتشاره! وشكا من أن المرض اللعين أصبح متوطنا لا مستوردا! وذلك لعجز الشعوب عن مطاردة الشذوذ الجنسى، والبغاء، اللذين يمثلان بؤرتين أساسيتين لهذا الداء الخبيث!! ونحن نعلم أن الولايات المتحدة مهددة بهذا الوباء، ومهتمة باستكشاف دواء له، وقد بلغ من اكتراثها بمكافحته أنها سخرت إحدى مركباتها الفضائية لحمل جرثومة المرض فى خلية مصابة لتعرف ما يعروها فى طبقات الجو العليا! فقد تجد وسيلة للتغلب عليها!! وقد يسرنا أن يفلح العلماء فى اختراع ما يشفى من هذه العلة، فنحن نرحم كل مصاب ـ ونحاول أن نحمل الجرحى فى ميدان الاستقامة حتى نجد لهم المأمن والعافية، داعين لمرضى الأرواح والأجسام أن يمن الله عليهم بالعافية حتى يعودوا إليه تائبين. إن مرض الإيدز من أمراض الحضارة التى تضخم كيانها المادى، وضمر كيانها الروحى ضمورا شديدا. والبلاد الإسلامية أقل البلاد تعرضا لهذه المصيبة المثيرة للسخط والاشمئزاز، وذلك لبقايا الإسلام فى جنباتها، والنفور الشديد من جريمتى اللواط والزنا، وهاتان الجريمتان ص _1 ص(1/136)
تجدان مرتعا خصبا فى أقطار الغرب حيث عجز أهل الكتاب بإمكاناتهم القليلة ومواريثهم الضعيفة أن يقاوموا نزوات الغرائز، وانحرافاتها الشائنة.. ونحن ـ معشر الدعاة ـ نشعر بقلق عندما نشعر بمطارق الغزو الثقافى المسعور تنهال على بلادنا، تريد الإجهاز على بقايا الدين فى أرضنا واجتياح مابقى من طهر لدينا!! ولقد وقفت ضائق الصدر أمام عنوان فى صحيفة كبيرة جدا تتحدث عن مرض الإيدز فتقول: إنه مشكلة عالمية لها أبعادها المتعلقة بالحرية الفردية وسلامة المواطن واستقراره.. الخ. أهذه أخطار المرض الخسيس؟ أية حرية فردية يتحدث عنها الكاتب الماجن؟ حرية العهر والتخنث وتحول الرجال إلى نساء؟. إن الأقلام التى تنسى الله، والدار الآخرة، ومدارج الكمال الإنسانى آن لها أن تحتجب أو تنكسر، فإن بقاءها ذريعة فناء ماحق لكل ما فى العالم من خير. ص _151(1/137)
محنة المخدرات تشغل المفكرين محنة انتشار المسكرات والمخدرات وأنواع التبغ والهوايات القبيحة الأخرى! ورأوا فيها تهديدا حقيقيا لأمتنا وقضاء سهلا على يومها وغدها.. وقد فكرت فى أسباب هذه المحنة، فرأيت أنها إن لم تقع وقع مثلها أو قريب منه! ذلك أن الأمم قد تصاب بمرض فقدان المناعة الخلقية كما تصاب الأجسام بمرض فقدان المناعة الصحية! وفى كلتا الحالتين يمسى الكيان البشرى مفتوح الأقطار لكل البلايا التى تعجل بحتفه! وفقدان المناعة النفسية أو الخلقية يعود إلى ضعف التربية أو سوء التنشئة ونمو الطفل وهو محروم من ضوابط الخلق الزاكى والعبادة السامية والعادات والتقاليد التى تحرس عقله وتصون مسلكه وتشعره بأن هذا حسن يستمسك به، وهذا ردئ يبتعد عنه، وهذا امرؤ فاضل يحترم وهذا امرؤ فاشل يزدرى... والأسرة بلا ريب هى المهاد الأول لهذا التكوين الأدبى، إن الإنجاب المجرَّد ليس وظيفة الأسرة، فإن الدواب والطيور والزواحف تتناسل وتتكاثر، وميزة البشر أنهم يلدون ويعلمون ويربون، وعندما تفقد الأسرة قدرتها على حماية الطفولة وتزويدها بالخصائص الرفيعة فلا قيمة لنتاجها. قال لى صديق: هذا صحيح، ولكن لماذا تفترض أسرة ذات رسالة فى أمة نسيت رسالتها؟ على الأمة أولا أن تحترم لغتها وصلاتها وانتماءها الدينى الصريح وشارتها التى تتميّز بها بين شعوب الأرض، ونحن أمة نسينا لغتنا وآدابها، ونذكر الإسلام فى ذيل ص _152(1/138)
القائمة إن ذكرناه بعد الانتماء الإفريقى أو الآسيوى أو... فقاطعت صديقى على عجل قائلا: لا أريد البت فى قضية هل الدجاجة من البيضة أو البيضة من الدجاجة! إننى مصدقك فى أن الاضطراب العام يلقى ظلاله السود على البيت وتأديب الأولاد.. ينبغى أن نذكر الدولة بما عليها وقبل ذلك يقوم الآباء والأمهات بواجبهم داخل البيت، فإذا عرض التلفاز قصة سخيفة أو منظرا خليعا قام الأب أو الأم بإطفائه للفور، واستنكار ما حدث.. والأب المدخّن لا يلومنَّ إلا نفسه إذا قلده أولاده فى تناول سموم الدخان.. ومن الخير أن تكون الكلمات المتبادلة نظيفة عالية المستوى فإذ! هبطت فلا يستغربن الآباء أن تجرى على أفواه أولادهم كلمات نابية.. إننا إلى اليوم نتواضع على إنفاق مال كثير فى فستان فاخر أوفى وليمة تكون موضع الإعجاب، أما فى إنشاء مكتبة منزلية ثمينة فأمر لا يخطر بالبال. ونحن ندع للطريق العام ولأصدقاء السوء فلذات أكبادنا كأن مستقبلهم لا يعنينا، وقد كنت أراقب أقوال الشباب المدمن فراعنى أن كل واحد منهم ذكر أن الذى جرَّه إلى تناول المخدرات صديق خدعه بكلمة ثم دفعه بعدها إلى الهاوية المشئومة... والمقلق أن اليهود يربون أولادهم على نحو آخر، فالتاريخ العبرى، وأحداث العهد القديم، والذكريات التى كبرت عليها عشرات القرون، واللغة التى نزعت عنها الأكفان وعادت إلى الحياة، والحماس الدينى الملتهب، والتعاون الوثيق بين الزوجين فى الحقل أو فى المصنع أو فى الإدارة، وتحديد ساعات اللهو لتكون عونا على ساعات مضاعفة من العمل الشاق المثمر... كل ذلك يكتنف التربية المنزلية والمدرسية، ويعد بنى إسرائيل ليوم حاسم مع العرب التائهين.. ص _153(1/139)
الباب الرابع مفاهيم يَجب أن تصحح ا- القوامة لا تعنى القهر. 2-المرأة حرة فى اختيار زوجها. 3- سفر المرأ ة. 4- الوجه ليس عورة. 5- حرمة صوت المرأة.. إشاعة كاذبة. 6- الدين ليس احتفاءً بالصغائر. 7- الإمام يغنى. 8- النساء بين التجنيد والتدريب. 9- هواة خراب البيوت. 10- فى ضرب الزوجات. 11- بيت ا لطاعة: اجتهاد خاطئ. 2 ا- التشدد فى إيقاع الطلاق. 13- الطلاق وقف مؤقت للزوجية. 14- تقاليد لابد من تغييرها. 15- ثياب النساء. 16- تفكير باطل. 17- لا تمنعوهن من المساجد. 8 ا- أ فحكم الجاهلية يبغون. 19- الزواج من الأجنبيات. 20- أطفال المستضعَفين للبيع. 21- يتامى المسلمين. 22- المؤاخاة بديل عن التبنّى 23-عن التحكم فى جنس الجنين. 24- الجار له عليك حق. 25- فنانون تائهون. ص _154(1/140)
القوامة لا تعنى القهر هل قوامة الرجل على بيته تعنى منحه حق الاستبداد والقهر؟ بعض الناس يظن ذلك وهو مخطىء ! فإن هناك داخل البيت المسلم مايُسمى "حدود الله " وهى كلمة لاحظت فى تلاوتى للقرآن الكريم أنها تكررت ست مرات فى آيتين اثنتين!!! والآيتان فى دعم البيت المسلم حتى لا يتصدع، وفى تدارك صدوعه حتى لا ينهار.. وهما قوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون * فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون". ما هذه الحدود التى تكررت ست مرات خلال بضعة سطور؟ إنها الضوابط التى تمنع الفوضى والاستخفاف والاستضعاف، ضوابط الفطرة والعقل والوحى التى تقيم الموازين القسط بين الناس، إن البيت ليس وجارا تسكنه الثعالب، أو غابا يضم بين جذوعه الوحوش. لقد وصف الله مكان المرأة من الرجل ومكان الرجل من المرأة بهذه الجملة الوجيزة " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " إن هذا التمازج بين حياتين يكاد يجعلهما كيانا واحدا، وليست الغريزة هى الجامع المشترك، فالنزوة العابرة لا تصنع حياة دائمة! وقد عنى المفسرون الكبار بجو البيت المسلم وهم يشرحون حدود الله التى تكررت كثيرا فيما سقنا من ص _155(1/141)
آيات، وكان أهم ما حذروا منه الظلم! قال صاحب المنار رضى الله عنه: ".... والظلم آفة العمران ومهلك الأمم، وإن ظلم الأزواج للأزواج أعرق الإفساد وأعجل فى الإهلاك من ظلم الأمير للرعية، فإن رابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها فتلا فى الفطرة الإنسانية! فإذا فسدت الفطرة فسادا انتكث به هذا الفتل، وانقطع ذلك الحبل، فأى رجاء فى الأمة من بعده يمنع عنها غضب الله وسخطه.. إن هذا التجاوز لحدود الله يشقى أصحابه فى الدنيا كما يشقيهم فى الآخرة... وقد بلغ التراخى والانفصام فى رابطة الزوجية مبلغا لم يعهد فى عصر من العصور الإسلامية، لفساد الفطرة فى الزوجين واعتداء حدود الله من الجانبين ". والواقع أن داخل البيت يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة والإسراف إذا عصفت فى الخارج تسللت إلى الداخل فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله...! إننا نريد أن نتفق أولا على إقامة حدود الله، كما رسمها الكتاب الكريم، وشرحتها السنة المطهرة وأرى أن ارتفاع المستوى الفقهى والخلقى والسلوكى لكلا الجنسين سيوطد أركان السلام داخل البيت وخارجه، وسيجعل المرأة تبسط سلطانها فى دائرتها كما تتيح للرجل أن يملك الزمام حيث لا يصلح غيره للعمل فى زحام الحياة وعراكها الموصول... إذا كان البيت مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلابد له من رئيس، والرياسة لا تلغى البتة الشورى والتفاهم وتبادل الرأى والبحث المخلص عن المصلحة. إن هذا قانون مطرد فى شئون الحياة كلها، فلماذا يستثنى منه البيت؟ وقوله تعالى فى صفة المسلمين " وأمرهم شورى بينهم" نزل فى مكة قبل أن تكون هناك شئون عسكرية أو دستورية! وعموم الآية يتناول الأسرة والمجتمع، ويقول الأستاذ أحمد موسى سالم : " إن القوامة للرجل لا تزيد عن أن له بحكم أعبائه الأساسية، وبحكم تفرغه للسعى على أسرته والدفاع عنها ومشاركته فى كل ما يصلحها.. أن تكون له الكلمة الأخيرة ـ بعد المشورة ـ ما لم يخالف بها شرعا أو ينكر(1/142)
بها معروفا أو يجحد بها حقا أو يجنح إلى سفه أو إسراف، من حق الزوجة إذا انحرف أن تراجعه وألا تأخذ برأيه، وأن تحتكم ص _156
فى اعتراضها عليه بالحق إلى أهلها وأهله أو إلى سلطة المجتمع الذى له وعليه أن يقيم حدود الله وهذا كلام حسن، وأريد هنا إثبات بعض الملاحظات: أولا: أن النفقة معصوبة بجبين الرجل وحده، وأن إنفاق المرأة فى البيت مسلك مؤقت وتطوع غير ملزم، وعليها أن تجعل أثمن أوقاتها لتربية أولادها والإشراف العلمى والأدبى عليهم. ثانيا: أن دور الحضانة مأوى موقوت تلجىء إليه ضرورات عابرة وأن الأساس فى الإيواء والتربية هو البيت الأصلى ودفء الأمومة وحنانها! ثالثا: حرمات الله حولها فى الإسلام أسوار عالية يجهلها كل سكران أو ديوث، وتقاليد الغرب التى تتيح لأى امرئ أن يراقص أى امرأة بإذن أو بغير إذن من زوجها يرفضها ديننا كل الرفض، وليس لرجل أو امرأة أى حرية فى انتهاك حدود الله واعتداء حرماته.... رابعا: الأسرة مملكة ذات حدود قائمة تشبه حدود الدول فى عصرنا وطبيعة هذه الحدود الحماية والمحافظة، فليست البيوت مبنية على سطح بحر مائج التيارات، وليست بابا مفتوحا لكل والج وخارج... ولعقد الزواج أبعاد فقهية واجتماعية وتربوية ينبغى أن تعرف وأن تعرف معها قوامة الرجال.. وكان من السهل أن يتضح ذلك لو سارعنا إلى إنشاء " علم اجتماع إسلامى تلتقى فيه قضايا الأسرة كلها إلى جانب ضروب التعاون والتلاقى بين طوائف الناس المختلفة.. ولكننا ما نزال نحبو فى هذا المجال مكتفين بالترجمة والتقليد، مع أن العلوم الإنسانية فى برامجها الجديدة تمس كيان الأمة من زوايا كثيرة، بل إن علوم التربية والأخلاق والاقتصاد والاجتماع ـ قبل علم القانون ـ تتصل بشئون الأمة. وقد غضبت نسوة غيورات لما عرف الفقهاء عقد الزواج بأنه " عقد يبيح حل المتعة بالمرأة " ص _157(1/143)
وظاهر أن التعريف قاصر عن المعنى الكبير للعلاقة بين الزوجين! إنه تناول الجانب الذى يدخل منه القانون، ولم يتناول الجوانب التى تدخل منها بقية العلوم الإنسانية، والزواج أكبر من أن يكون عقد ارتفاق بجسد امرأة... ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) قالت لى امرأة غاضبة: ( أإذا غضب منى زوجى فى حوار، قد أكون فيه صاحبة حق حُرمت رضوان الله، ولعنتنى الملائكة و... و...) فقاطعتها على عجل، وأفهمتها أن الحديث الوارد فى شأن آخر بعيد بعيد عما تتوهمين.. الحديث ورد فى امرأة تعرض زوجها للفتنة لأنها تمنعه نفسها، وهو لا يستغنى عنها.. ذاك هو المراد!! إن الإسلام يقوم على حقائق الفطرة والعقل، لأنه فطرة الله التى فطر الناس عليها. ص _158(1/144)
المرأة حرة فى اختيار زوجها هناك سباق قائم بين عدة أديان كى يثبت كل منها أنه أولى بالحياة وأجدر بالبقاء! والغريب أن بعضن المنتمين إلى الإسلام يجهل هذا الواقع ويرتكب حماقات تسئ إلى دينه بل تنفر منه وتصد عنه! ولعله مطمئن ـ من الناحية النفسية ـ إلى صدق عقائده وسلامة تعاليمه، فعلى الناس أن يؤمنوا به إذا شاءوا أو يذهبوا إلى حيث ألقت! وهذا جهل وطيش، فإن السلعة النفيسة قد تكسد لسوء العرض وقصور الإعلان وتسبقها سلع أخرى أحسن أصحابها الدعاية لها واجتذاب الأبصار إليها... والحضارة المعاصرة جعلت الإنسانية شعارا لها، وجعلت من حقوق الإنسان محورا للعلاقات الدولية، ونوهت بقيمة العدالة الاجتماعية والمستويات الصحية والثقافية العالية.. وقد تكون هذه الحضارة غاشة أو مدعية أو مقصرة، فإن هذه التهم لا تمحو ما تواضعت عليه المحافل العالمية واتفقت على احترامه.. فلحساب من يتحدث بعض الناس عن الإسلام ويصورنه بعيدا عن مقررات الفطرة، وأشواق الإنسانية الكاملة؟ ولحساب من يعلو صوت الإسلام فى قضايا هامشية ويخفت خفوتا منكرا فى قضايا أساسية؟ ولحساب من يرى بعضهم الرأى من الآراء، أو يحترم تقليدا من التقاليد ثم يزعم أن الإسلام الواسع هو رأيه الضيق، وأن تقاليد بيئته هى توجيهات الوحى، وبقايا التعاليم السماوية على الأرض؟ قلت لنفر من أولئك المتحدثين: إن وجه الإسلام جميل ولكنه من خلال كلماتكم ص _159(1/145)
يبدو دميما متجهما، وإنه لمن حسن العبادة أن تسكتوا فلا يسمع لكم صوت! إن أى كلام يفيد منه الاستبداد السياسى، أو التظالم الاجتماعى أو العطن الثقافى أو التخلف الحضارى لا يمكن أن يكون دينا، إنه مرض نفسى أو فكرى والإسلام صحة نفسية وعقلية.. كنت أناقش رجلا كنديا يسائلنى بضيق عن موقف الإسلام من المرأة، فجاء فى حوارى: المرأة حرة فى اختيار زوجها، ولا يمكن إكراهها على قبول من تكره، ولها أن تباشر عقدها أو توكل فيه كما تشاء... وكان هناك من يرقبنا وهو ساخط وحمدت الله أنه لاذ بالصمت! فلما انتهى الحوار اقترب منى المعترض المؤدب قائلا: لا يجوز أن تباشر المرأة عقدها، بل الدين ضد هذا قلت له: رأيك ضد هذا، قلدت فيه بعض المذاهب الفقهية، ورجحت أنا وجهة النظر الأخرى، واعتقدت أنها أقرب إلى عقول الأوربيين والأمريكيين، والعمل عليها يجرى فى أقطار إسلامية محترمة، ومن مصلحة الإسلام أن تتسع دائرة هذه الأقطار... إن شرا مستطيرا يصيب الإسلام من تقوقع بعض أتباعه فى آراء فقهية معينة شجرت فى ميدان الفروع، ويراد نقلها من مكانها العتيد لتعترض عقائده، وقيمه الكبرى. والرجل الذى يخسر السوق كلها لأنه يفضل دكانا على دكان أو سمسارا على سمسار لا يسمى تاجرا. ص _160(1/146)
سفر المرأة سفر المرأة وحدها يحتاج إلى التروىّ، ودراسة الرحلة كلها من الذهاب إلى الاستقرار، وليس ذلك من قبيل التطيّر والتهمة واتباع الظنون ولكنه من قبيل الحيطة والصون والأطمئنان، وقد روى الشيخان أن رجلا قال؟ يا رسول الله إن امرأتى خرجت حاجة، وإنى اكتتب فى غزوة كذا وكذا؟ قال: انطلق فحج مع امرأتك! وتعطيل رجل عن الجهاد ليصحب امرأته فى حجها أمر له دلالته! والقاعدة الشرعية " دَرْءُ المفاسد مقدم على جلب المصالح وانطلاق امرأة على ناقتها تطوى الطريق بالليل والنهار وحدها مظنّة تهجم السفلة وقطاع الطريق عليها، ولم تخل الدنيا قديما ولا حديثا من أولئك الأوباش الذين يستضعفون النساء وينتهزون فرصة لاغتصابهن!! هل يتغير هذا الحكم إذا ساد الأمان؟ من الأئمة من رأى جواز سفر الحاجة فى رفقة مأمونة فإن القافلة المأمونة تنفى القلق والوساوس، ولعله يشهد لهذا ما صحَّ عن عدىّ بن حاتم، قال: بينما أنا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ـ وكان ذلك قبل أن تستقر دولة الإسلام وتبسط الأمن فى أرجاء الجزيرة كلها ـ فقال الرسول يا عدىّ، هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أُنبِئتُ عنها! قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا إلا الله!. قلت فيما بينى وبين نفسى: فأين دعّار طيّئ الذين سعروا البلاد؟ ـ كأنه يستبعد انقطاع دابر المفسدين ـ ثم قال الرسول لعدىّ: ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز ص _161(1/147)
كسرى! قلت: كسرى بن هرمز؟ ـ استعظاما للخبر ـ قال كسرى بن هرمز! قال عدى: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة ـ على شاطئ الخليج ـ حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز". اقتطعت من الحديث النبوى ما يتصل بموضوعنا، وبقى تعليق ما منه بد إن حضارة أوربا شرقها وغربها واهية العلاقة بالله، ذاهلة كل الذهول عن لقائه، وهى مسعورة وراء مطالب الدنيا ورغبات الجسد، وتكاد تستبعد الحلال والحرام عن ميدان المشهوات الجنسية، ولها منطق مغرق فى الإسفاف. وقد رأيت العالم الإسلامى مهزوم الشخصية أمام الحضارة الغازية مفتونا بمباذلها قبل أن يكون معجبا بمآثرها، ومن هنا فقد أقررت الجماعات الإسلامية على رفض الرحلات المختلطة التى تنظمها الجامعات للطلاب والطالبات، وتلت: كل جماعة تكون على حدة . وإذا سافرت الطالبات فى رحلة كشف واستطلاع وثقافة وجب أن تكون عليهن حراسة قوية من مشرفات يقظات ذكيات. لقد سمعت شكايات مفزعة لطالبات أمريكيات من ذئاب حاولوا اغتصابهن! كما أنى متشائم من وسائل الإعلام التى تدغدغ الغرائز، وتوقظ الحيوان الرابض وراء جلود البشر! وديننا يجعل سلام الأعراض من دعائم الإيمان، ويجعل الخنا والقتل والشرك سواء فى استنزال المقت الإلهى والعذاب الأليم. ص _162(1/148)
الوجه ليس عورة لقينى رجل فوق الأربعين يتحدث وكأنه يافع غرّ! قال لى بصوت مهتاج: أنت الذى تفتى بأن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة؟ قلت بهدوء: نعم! قال: أما تتقى الله؟ قلت: أوصيك ونفسى بتقوى الله.. قال: إنك مخطئ فيما تذكره للناس ويجب أن تتوب! قلت له: لست وحدى الملوم، فإن كبار المفسرين سبقونى إلى هذا الخطأ، كما سبقنى إليه رواة عشرة من الأحاديث الصحاح، وشاركنى فى خطئى أيضا أئمة المذاهب الأربعة، وعدد من المذاهب الفقهية الأخرى. أولئك جميعا هم الذين استقيت منهم قولى أو تابعتهم فى غلطهم، ولا أشعر بغضاضة إذا كنا جميعا أصحاب تهمة واحدة.. قال الرجل وهو دهش: ماذا تقول، أهؤلاء جميعا يفتون بأن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة؟ قلت: نعم! ولكنكم تؤثرون التقاليد السائدة وتتشبثون بآراء مرجوحة.. ولنفرض جدلا أن فى المسألة قولين اخترت أنا أحدهما فلم الغضب ولم التحامل والشتم؟ هل سمعت حديث سلمان وأبى الدرداء؟ قال: لا! قلت له اسمع: روى البخارى عن أبى جحيفة قال: "آخى النبى- صلى الله عليه وسلم- بين سلمان- الفارسى- وأبى الدرداء... فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة- عليها ثياب لا جمال فيها- فقال لها: ما شأنك؟- لماذا هذا المنظر؟- قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة فى النساء! وجاء أبو الدرداء وصنع طعاما وقال لسلمان كل فإنى صائم فقال: ما أنا بآكل حتى ص _163(1/149)
تأكل! فأكل- أفطر لأداء حق الضيف- فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له نم فنام! ثم ذهب يقوم فقال له نم فنام، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا جميعا. وقال سلمان إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك-زوجك- عليك حقا فأعط كل ذى حق حقه. فأتى-أبو الدرداء-النبى فذكر له ذلك، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- : صدق سلمان. والذى يعنينى من سرد الحديث الحوار الذى جاء فى صدره، فلو أن هذا الحوار وقع فى عصرنا لضرب الزائر، وقتلت المرأة!! ولقيل للرجل: ماذا يعنيك من النظر إلى ملابس الزوجة؟ ولماذا تتطفل بهذه الملاحظة، ولقيل للزوجة: كيف تشكين زوجك وتكشفين للآخرين انصرافه عنك؟ لكن سلامة الفطرة فى عصر الصحابة تنفى كل شبهة ولا تدع لظنون السوء مكانا، فلما التاثت النفوس جاء قول الشاعر: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهم وعلى هذا الأساس وجدنا الطباع المريضة تصف كشف الوجه بأنه فجور، وأنه حرام لأنه فى مشاعرهم المعتلّة باب إلى الكبائر والعياذ بالله... ص _164(1/150)
حرمة صوت المرأة.. إشاعة كاذبة هذه قصة رقيقة نقتطف منها ما يتصل بإشاعة علمية كاذبة عن صوت المرأة والزعم بأنه عورة فقد ذكر ابن إسحاق " أن أبا العاص بن الربيع ـ وكان صهرا لرسول الله ـ أقام بمكة كافرا بعد أن من عليه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأطلقه بغير فداء من بين أسرى بدر.. واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص فى تجارة لقريش إلى الشام فلما قفل عائدا بما معه لقيته إحدى السرايا، فاستولت على القافلة وفر أبو العاص تحت جنح الليل إلى بيت زوجته السابقة زينب محتميا بها ومستجيرا، فأجارته.! فلما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصلاة الصبح، وكبَّر، وكبَّر الناس وراءه! صاحت زينب من صفة النساء فقالت: أيها الناس إنى قد أجرت أبا العاص بن الربيع! فلما فرغ المسلمون من صلاتهم أقبل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم قائلا: " أيها الناس، هل سمعتم الذى سمعت؟ قالوا: نعم فقال رسول الله: أما والذى نفس محمد بيده ما علمت بشئ حتى سمعت ما سمعتم وإنه يجير على المسلمين أدناهم " ثم انصرف رسول الله فدخل على بنته زينب وقال لها: أى بنية أكرمى مثواه، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلّين له "! ونهاية القصة معروفة فى السيرة النبوية فقد أسلم الرجل، وعاد إلى قريش ليرد إليهم ودائعهم ثم تحوّل إلى المدينة ليجاهد مع المجاهدين.. ص _165(1/151)
والشاهد فى القصة حديث زينب إلى الناس، هل قال مسلم: إنه عورة!! وقبل ذلك توبيخ فاطمة لزعماء قريش عندما تضاحكوا لرؤية وغدٍ يضع فرثا على ظهر الرسول وهو ساجد، لقد سفَّهت أحلامهم ونحّت القذى عن ظهر أبيها وهى تنال منهم، هل قال مسلم: إن صوتها عورة؟. وتعرّض موسى لابنتى الرجل الصالح فى مدين قائلا: ( ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) وبعد قليل جاءت إحداهما تقول لموسى: (إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) فهل قال مسلم: إن صوت المرأة عورة؟ وذكرنا من قبل أن أمرا إلهياً صدر بامتحان المؤمنات المهاجرات، وكان عمر يتولى ذلك الامتحان فهل قال أحد: إن صوت المرأة ـ حين تسأل فتجيب ـ عورة؟ اللهم إلا أن يزعم متقعّر أن الامتحان كان تحريريا لا شفويا!! كان النساء على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يروين الأحاديث ويأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر، فما زعم أحد أن صوت المرأة عورة. العورة فى أصوات النساء ـ وأصوات الرجال أيضا ـ أن يكون الكلام مريبا مثيرا له رنين رديء! ولا يوجد بين رجال الفقه من قال: صوت المرأة عورة، إنها إشاعة كاذبة. ص _166(1/152)
الدين ليس احتفاء بالصغائر أخبرنى صديق إن إحدى المجلات الدينية هاجمتنى لأننى قلت: إن الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح! ورأت أن الغناء شر كله! قلت للصديق : قد يكون الخطأ قريبا منى فلست معصوما وعذر هؤلاء أن أغلب الأغانى الشائعة خليع ماجن، وأن البيئة الفنية هابطة المستوى. قال: كأنك تقترب منهم، وددت لو جمعتكما ليزول الخصام! فأجبت على عجل: لا أحب هذا اللقاء! هناك مثل غربى يقول: إن ضعفاء العقول كالنظارات المكبرة تضخم الأشياء الصغيرة ولا ترى الأشياء الكبيرة. وكان جديرا بأصحابك هؤلاء أن يكترثوا لمصائب المسلمين الداهمة بدل أن يشغلوا الناس بقضية الغناء . إن غول الاستبداد السياسى استهلك شعوبنا من أمد بعيد، ولم نسمع لهؤلاء نواحا على حرية موءودة، ولا بكاء على شورى مفقودة، إن صمتهم حيث يجب الصياح وصياحهم حيث يجب الصمت يجعلنى أزهد فى رؤيتهم والاستماع إليهم ويجعلنى أدعو الله أن يريح الإسلام من علومهم ودعاواهم... ومن بضعة شهور توافد على عدد من الرجال والنساء بدا لى من دراسة أحوالهم أن أعصابهم مرهقة ومآسيهم ثقيلة وأنهم بحاجة إلى علاج مادى ومعنوى. وزعم لى أكثرهم أن به مساً من الجن، فأنكرت مزاعمه وأشرت عليه بما يجدى فى معافاته! ولكنهم ألحوا فى الزعم بأن الجن خالطتهم! فقلت كلمة شاعت وتناقلتها ص _167(1/153)
الإذاعة: هل الجن تخصصت فى ركوبكم وحدكم؟ لماذا لم يشْكُ الناس فى العالم الأول من عبث الجنّ بهم؟ وازددت شرحا لرأيى فى أمرهم، وهنا جاءنى واحد من قراء الكتب الدينية يقول فى غضب شديد: أتخالف ابن تيمية؟ فأسرعت أقول له: كلا! إننى أيدته كل التأييد حين خالف الأئمة الأربعة ورفض الطلاق البدعى وأمضى الطلاق السنى وحده! قال: لا أعنى هذا، إنه كان يستخرج الشيطان من جسم الإنسان، ويقول له: اخرج عدو الله! فيهرب! قلت له: ليكن ما تقول صحيحا أو سقيما، مالى أراك محمرّ الوجه منتفخ الأوداج شديد البأس مستعداً للقتال؟ إن شياطين الإنس احتلوا دار الإسلام عسكريا وسياسيا، فلم يتجهم وجهك، ولم تطلب نزالا ولا سمعنا لك ولا لأمثالك مقالا... ! إن هناك متدينين ضعفاء العقول! فى فقههم ضمور شديد، وفى فكرهم خلل مبين. وصل بعضهم إلى المجالس التشريعية، فكنا نبذل جهودا مضنية لنوارى سوءاتهم العقلية! وأحكامهم الطفولية. ألا فليعلم الناس أن الدين عقل مؤمن، وثقافة محكمة وليست احتفاء بالصغائر، وتجسيما للأوهام. ص _168(1/154)
الإمام يغنى لا أعرف أحدا من الفقهاء رفض الغناء الدينى، فمن الذى يكره بواعث الحب لله وتمجيد أسمائه والثناء على آلائه؟ ومن الذى يكره الفرار إليه والبكاء على التفريط فى جنبه والإضاعة لحقه؟ إنما رفض الفقهاء ما يسمّى بـ "حلقات الذكر" التى يكثر فيها الضجيج والصياح، والمكاء والتصدية والتمايل والاطِّراح، وهى فى الواقع أحفال نسيان لا أحفال ذكر، وحلقات رقص قبيح حافل بالبدع والخرافات، ما يسيغها عاقل. وفى تراثنا المحترم ما يستحق الإشادة والإحياء، حكى أبو الحسن القرافى الصوفى عن الحسن، أن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغَّنَّى ـ والقصة ذكرها الإمام الشاطبى فى الجزء الأول من كتابه " الاعتصام" فقال عمر: من هو؟ فذكروا له الرجل، فقال: قوموا بنا إليه، فإنا إن وجَّهنا إليه ـ بالحضور ـ يظن أننا تجسسنا عليه أمره. انظر احترام حقوق الإنسان ورعاية كرامات الناس ـ فقام عمر مع جماعة من أصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أتوا الرجل وهو فى المسجد! فلما نظر إلى عمر قام يستقبله وهو يقول يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ إذا كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لك، فأحق من عظمناه خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال له عمر: ويحك! بلغنى عنك أمر ساءنى، قال : ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ص _169(1/155)
أَتَتمجَّنُ فى عبادتك ـ من المُجانة؟ ـ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكنها عظة أعظ بها نفسى، قال عمر قُلها فإن كانت كلاما حسنا قلته معك! وإن كان قبيحا نهيتك عنه؟ فقال: وفؤادٍ كلما عاتبته فى مدى الهجران يبغى تعبى..! لا أراه الدهر إلا لاهيا فى تماديه.. فقد بَّرَّح بى..! يا قرين السوء ما هذا الصبا فَنى العمر كذا فى اللعب! وشبابى بان عنى، فمضى قبل أن أقضى منه أربى... ما أرجِّى بعده إلا الفنا ضيق الشيب علىّ مطلبى... ويح نفسى لا أراها أبدا فى جميل، لا، ولا فى أدب نفسى لا كنت ولا كان الهوى راقبى المولى! وخافى! وارهبى! قال عمر رضى الله عنه: نفسى لا كنت، ولا كان الهوى راقبى المولى، وخافى، وارهبى! على هذا، فليغنِّ من غنَّى.. إنى أعشق المشاعر الصادقة، واللحن الموحى بالخير الخادم للحق! فمن أبى ذلك فله إباؤه، ولا يعترضَّن غيره باسم الدين. ص _170(1/156)
النساء بين التجنيد والتدريب أرفض مع كل مسلم أن تؤلّف فرق للمجنَّدات على النحو الذى يقع فى أوربا، فإن هذه الفرق يتم تكوينها لغايات دنيئة، ومعروف أن الأوربيين ينظرون إلى الشهوات الجنسية نظرة رضا واستباحة كما ينظرون إلى حاجات أجسامهم كلها.. ومن الممكن أن يكون للنساء المؤمنات وجود شريف فى ميدان الجهاد الإسلامى أساسه علاج الجرحى، وإعداد الأدوية ونقل الموتى إلى الجبهات الخلفية. وتهيئة الأطعمة والأشربة. وكتابة بعض الرسائل والنهوض ببعض الأعمال الإدارية... ولا بأس أن يكن مسلّحات مدرّبات فقد تقضى الضرورة بأن يشتبكن مع العدوّ فلا يجوز أن يقعن فى يده لقمة سائغة.. روى مسلم عن أنس أن أم سليم رضى الله عنها اتخذت يوم حنين خِنْجَراً فكان معها ـ تحمله باستمرار ـ فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما هذا الخنجر؟ فقالت: اتخذته إن دنا منى أحد من المشركين بقرت بطنه! فجعل رسول الله يضحك.!! وأخرج الطبرانى عن مهاجر أن أسماء بنت يزيد ـ وهى من المبايعات فى العقبة ـ قتلت فى معركة اليرموك تسعة من الروم بعمود خيمتها.. !! وروى البخارى عن الرُّبِّيع بنت معوِّذ قالت: كنا مع النبى-صلى الله عليه وسلم-نغزو، فنسقى القوم ونخدمهم ونردّ القتلى والجرحى إلى المدينة. وروى مسلم عن أم عطية الأنصارية، قالت غزوت مع النبى- صلى الله عليه وسلم ص _171(1/157)
سبع غزوات، أخلفهم فى رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوى الجرحى وأقوم على الزَّمْنى ـ أصحاب الأمراض الطويلة ـ. ومن الممكن لأجهزة الهلال الأحمر أن تضع نظاما إسلاميا دقيقا للانتفاع بجهود المجاهدات المسلمات تلاحظ فيه حدود الله، وترعى آداب العفاف والتقوى التى ينشدها الدين! ولعل المرأة تكون أصبر وأقدر فى مجال التمريض من غيرها.. ونحن نلاحظ أن الإسلام اليوم فى معارك دفاع عن وجوده وتعاليمه، وأن جبهة القتال ممتدّة فى قارات كبيرة، أى أن المسلمين مغزوُّون فى عقر دارهم وليسوا غزاة.. وقد أباح الرسول العظيم لأم حرام أن تطلب الغزو فى البحر، وقد ركبت سفينة مع زوجة معاوية عندما اتجه إلى فتح قسطنطينية. وماتت ودفنت فى قبرص.. وجهاد النساء عسكريا واجتماعيا معروف فى تاريخ السلف الصالح ولكن البعض يصيبه مسٌ عندما يسمع به! وإذا بقى قياد الإسلام الثقافى فى يد هؤلاء المتطيِّرين القاصرين، فإننا سنلقى هزائم شتى فى ميدان الدعوة الإسلامية!. إننا أوفياء لسنة نبينا، ونحب أن نوفِّر كل الضمانات لتطبيقها على خير وجه، ونأبى كل الإباء أن نأخذ تعاليم الإسلام من جهلة بمصادره عبيد لتقاليدهم... ص _172(1/158)
هواة خراب البيوت طرق بابى رجل مذعور يتحدث حديثا موتورا فى أهله وماله، وأحسست أنه يطلب منى النجدة! قلت له فى هدوء: ما بك؟ قال: فى ساعة غضب فقدت وعيى وقلت لامرأتى أنت علىّ حرام.. وأفتى الشيوخ بأنى قد فقدتها فلا تحل لى أبدا... قلث للرجل أتصلى الخمس؟ قال: نعم، قلت: وامرأتك؟ فتردد قليلا، ثم قال: تصلى أحيانا! قلت: وأولادك؟ قال: بعضهم يصلى وبعضهم لايهتم بالصلاة.! فتريثت طويلا كأنى أبحث له عن حلّ ثم قلت له نردُّ زوجتك إليك على شرط! قال: ماهو؟ قلت: تحافظ أنت وزوجتك على الصلوات، وتراقب علاقة أولادك بالمسجد حتى تطمئن إلى أنهم يؤدون الفرائض الخمس، وعليك كفارة يمين، تطعم عشرة مساكين إن كنت غنيا، أو تصوم ثلاثة أيام إن كنت فقيرا.. واستبق زوجتك فى بيتك! وخرج الرجل، وبعد أيام جاءنى الشيوخ الذين أفتوه بأن امرأته طلقت طلاقا بائنا، سألونى كيف أفتيت بحلّ هذه الزوجة؟ إننا هنا مالكية نعد ماوقع بينونة كبرى؟ قلت: مذهبى غيرذلك، نحن نرى تحريم الحلال يمينا وكفارته كفارة يمين. وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، وفى رواية أخرى أن رجلا جاءه وقال له: إنى جعلت امرأتى علىّ حراما، فقال له ابن عباس: كذبت، ليست عليك بحرام! ثم تلا قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم... ) عليك كفارة يمين!! ويبدو أن كلامى لم يقنع سامعيه فقلت لهم لماذا تتحمسون لخراب بيت، وجعل المرأة ص _173(1/159)
أيّمَا والأولاد يتامى وأبوهم حى؟ إن المذاهب تختلف فى فروع الفقه، وفى الأحكام التى تصدرها على أعمال الناس، وعلينا أن نختار الأرعى لمصلحة الأسرة ومستقبل الأولاد واستقرار المجتمع! علينا أن نحصن الإسلام من تهم الأعداء، وأحقاد المتربصين!! ومادام هناك رأى إسلامى محترم، فلا ينبغى أن نتعصب لما نألف! إذا كان ما نجهله خيرا وأجدى على الناس... قال لى رجل مريب: كأنك لا تحب مالكا ومذهبه! قلت: أعوذ بالله من كراهية الصالحين، إننى فى صلاتى أتبع مالكا فأصمت فى الجهرية وأقرأ فى السرية مع أن أبا حنيفة الذى تعلمت مذهبه يحرّم القراءة فى السرية والجهرية على سواء!! رأيت مالكا هنا أولى بالاتباع!. إننى أكره التعصب الأعمى، وفيما يتعلق بشئون الأسرة وأحوال المجتمع أوثر كل رأى يحقق المنفعة العامة والخاصة، ويوائم ما تصبو إليه الإنسانية المعاصرة من احترام للفطرة ولحقوق الإنسان! إننى لست مغرما بجرّ الشبهات إلى سمعة الإسلام. ص _174(1/160)
فى ضرب الزوجات؟! يملكنى الغضب والأسى عندما أجد رجال الحديث النبوى ضعفاء الوعى بالقرآن الكريم! يقرؤون على الناس الحديث غير شاعرين بقربه أو بعده من هذه الآيات القرآنية. فى الجزء الثالث من تيسير الوصول إلى جامع الأصول جاء عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته "؟ أخرجه أبو داود. قال الشيخ محمد حامد الفقى فى تعليقه على هذا الحديث: وأخرجه النسائى! أى أنه قوّّى سند الحديث، وترك المتن وكأنه صحيح لا غبار عليه. . وهذا الظاهر باطل، فالمتن المذكور مخالف لنصوص الكتاب، ومخالف لأحاديث أخرى كثيرة! وعدوان الرجل على المرأة كعدوان المرأة على الرجل مرفوض عقلاً ونقلاً وعدلاً ولا أدرى كيف قيل هذا الكلام ونسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. إن من قواعد الجزاء الأخروى قوله تعالى : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " فهل الزوجة وحدها هى التى تخرج عن هذه القاعدة فلا يسأل الرجل "فيم ضربها؟ " له أن يضربها لأمر ما فى نفسه، أو لرغبة عارضة فى الاعتداء؟ فأين قوله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " وقوله : " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف " وأين قوله عليه الصلاة والسلام: "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك.. " ص _175(1/161)
ما يقع هو النشوز، ومعنى الكلمة الترفّع والاستعلاء، أى أن المرأة تستكبر على الزوج وتستنكف من طاعته ويدفعها هذا إلى كراهية الاتصال به فى أمسّ وظائف الزوجية، فيبيت وهو عليها ساخط! وقد يدفعه هذا إلى ضربها. !. وهناك أمر آخر أفحش أن تأذن فى دخول بيته لغريب يكرهه مع ما فى ذلك من شبهات تزلزل العلاقة الزوجية وتجعلها مضغة فى الأفواه.. ولم أجد فى أدلة الشرع ما يسيغ الضرب إلا هذا وذاك.. ومع ذلك فقد اتفقت كلمة المفسرين على أن التأديب يكون بالسواك مثلا ! فلا يكون ضربا مبرحاً، ولا يكون على الوجه! ففى الحديث "... ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح أى لا تقل لها قبَّحك الله " !. ثم قال تعالى فى الزوجات المستقرات المؤديات حق الله وحق الأسرة، " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا". وختام الآية جدير بالتأمل، فقد تضمّن صفتين من صفات الله تعالى هما العلو والكبرياء وهما صفتان تنافيان الإسفاف فى التصرف، والاستئساد على الضعيف، والمسلك البعيد عن الشرف، وفى ذلك كله لفت أنظار الرجال إلى أن تكون سيرتهم مع أهليهم رفيعة المستوى، متسمة بالرفق والفضل، وليس يُتصور مع هذا كله أن يعدو الرجل على امرأته كلما شاء، وأنه لا يسأل عن ذلك أمام الله... ومن ثم فالحديث الذى رواه أبو داود والنسائى فى ضرب النساء لا أصل له، مهما تمحّلوا فى تأويله... على أن من احترام الواقع ألا نظن النساء كلهن ملائكة، والرجال جميعا شياطين، هذا ضرب من السخف، والانحياز فى الحكم إلى أحد الجانبين ليس من الإنصاف.. والأولى أن ندرس العلاقات العائلية بتجرد، وأن نحسب آثار الطباع والأزمات والأحداث الطارئة، وألا نترك لسبب تافه القضاء على الحياة الزوجية.. إن انهدام بيتٍ شىء خطير! وقد رأى الإسلام ـ حتى بعد وقوع طلاق ـ أن يجعل ص _176(1/162)
كلا الزوجين يواجه الآخر، لعل الذكريات الحلوة تغلب الذكريات المرة، أو لعل الإيلاف يطرد الفراق على نحو ما قال أبو الطيب: خُلقت ألوفا، لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبى موجع القلب باكياً ومن ثم وجب تدخُّل المجتمع لفض الاشتباك على مهل وإعادة المياه إلى مجاريها، وأولى الناس بأداء هذه المهمة أقارب الزوجين، فهما أرغب فى الصلح وأبصر بالمصلحة وأقدر على التنفيذ، وهذا هو قوله تعالى: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا". وقد روى الشافعى بسنده عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ أنه جاءه رجل وامرأة، مع كل واحد منهما فئام من الناس ـ جماعات ـ قال: ما شأن هذين؟ قالوا: وقع بينهما شقاق! قال على فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها. ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما! وإن رأيتما أن تفرّقا فرقتُما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علىّ فيه وبما لى! . وقال الرجل: أما الفرقة فلا..! قال علىٌّ كذبْتَ حتى تقرَّ بمثل ما أقرت به.. ومعنى اعتراض الزوج أنه لا يعطى للحكمين حق إيقاع الطلاق باسمه.. أى أن لهما الجمع لا التفريق! ولكن علياً كذّبه! مبيناً أن للحكمين التوفيق أو التطليق أو المخالعة، وهذا هو كتاب الله.. والفقهاء يختلفون فى سلطة الحكمين ومداها، ولا ندرس الموضوع هنا، وإنما نشعر بالغرابة لأن الرجل الذى استفحل الشقاق بينه وبين زوجته حتى بلغ ما بلغ لم يفرط فى عقد الزوجية، ورغب نى بقائه.. . وشئ آخر نتوقف عنده، أن المجتمع باسم الله تدخل لحسم النزاع، واستدامة العلاقة العائلية! أما اليوم فقد تطلق المرأة فى رطل لحم يعلّق الرجل بقاء امرأته على شرائه !. الحق أن قضايا المرأة تكتنفها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية واقتصادية، كما أن ص _177(1/163)
الأمر يحتاج إلى مراجعة ذكية لنصوص وردت، وفتاوى توورثت وعادات سيئة تترك طابعها على أعمال الناس. لابد من دراسة متأنية لما نشكو منه، ودراسة تفرق بين الوحى وما اندسّ فيه، وبين ما يجب محوه أو إثباته من أحوال الأمة. ص _178
بيت الطاعة: اجتهاد خاطئ مع ثبوت الخلع فى الكتاب والسنة فقد رأيت جملة من المشتغلين بالفقه يتجاهلونه، ويرفضون إنهاء عقد الزوجية به سواء بالفسخ أو بإيقاع الطلاق. وبعضهم يدخله فى الطلاق للضرر! ويأبى أن يكون لمشاعر البغضاء عند المرأة وزن !. وقد عاصرت عهداً كان القضاء "الشرعىّ " يأمر بإرسال الشرطة إلى أسرة الزوجة لإرغامها على الذهاب إلى بيت الطاعة كى تعاشر زوجها، وكانت الأسرة تقوم بتهريب الزوجة إلى مكان بعيد فراراً من تنفيذ حكم القضاء.. !. وكنت أسأل نفسى: هل هذا هو تفسيرنا لقول الله سبحانه: " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا "؟. إن من أبغض الأمور عندى تعريض الإسلام كله للردّ والجحد بسبب اجتهاد خاطئ أو تعصب مذهبىّ ضيق !. وإذا كنا فى عصر تلتمس العيوب فيه لديننا الحنيف، ويقال عنه: إنه قضى على شخصية المرأة، واجتاح حقوقها المادية والأدبية، فلماذا بالله نستبعد حكم الخلع من شريعتنا ـ وهو حق ـ ونزعم أن المرأة يقبضن عليها لتساق إلى بيت هى له مبغضة؟ أعرف أن هناك رجالاً يحتقرون مشاعر النساء، ويأبون تلبيتها أو الوقوف عندها، فهل أولئك الرجال هم الممثلون للوحى الأعلى؟ إنهم أصحاب أمزجة جديرة بالمعالجة!. وقد يرجى القضاء العادل الرحيم إجابة المرأة إلى ما تبغى من خلع إيثاراً لمصلحة الأسرة ص _179(1/164)
والأولاد، وقد ينتظر نتيجة تحكيم يتدخّل الأهلون فيه ابتغاء الإصلاح! لكن المرأة إذا أبت إلا الفراق، وردّت ما سبق إليها من مال، فما بدُّ من تسريحها والاعتراف بمشاعرها، وليس لنا أن نسأل عن الأسباب الخفية لهذه الرغبة، لنقبلها أو نرفضها!. إن النبى- صلى الله عليه وسلم- عندما رق لزوج بريرة، وقدّر محبته لها، ذهب إليها يحدثها فى أن تعود إليه! فسألته: جئت آمراً أم شافعاً؟ قال: جئت شافعاً..! قالت: فلا أعود! ولم يتهمها النبى- عليه الصلاة والسلام- فى دينها، ولا فى طاعتها لله ورسوله.. وامرأة ثابت بن قيس لم تتهم زوجها بأنه يشتمها أو يضربها أو يضيُّق عليها، وإنما شكت بأنها تكرهه كراهية شديدة، وصرحت بأنها ما تعتب عليه فى خلق ولا دين!! إنها تكرهه وحسب، لها معنى الزوجية والحالة هذه؟ وما دخل رجال الشرطة هنا؟ وكيف يحكم الإسلام باستبقاء الزوجة فى بيت تعدّه سجنا وتعد صاحبه شخصا بغيضا؟ وإذا قدَّمَتْ ما أخذت من مال فداءً لنفسها فلم لا يؤخذ منها وتستردّ حريتها؟ وهل تقام حدود الله فى بيت يسوده هذا الجو الخانق؟ وأى شرف للرجل فى هذه السيطرة؟ إن الذين يتجاهلون الخلع لا يفقهون قوله تعالى: " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" والواقع أن ازدراء عواطف المرأة، واستخدام القسوة لترضيتها بما لا ترضى ليسا من الإسلام، ولا من الفقه... !. إن الإسلام دين العدالة والمرحمة، ومن تصوّر أنه يأمر باسترقاق الزوجة والإطاحة بكرامتها فهو يكذب على الله ورسوله. ويؤسفنى أن بعض الناس يتحدث عن الإسلام وهو شائه الفطرة قاصر النظرة، والأدهى أنه يتطاول على أهل الذكر والاستنباط، ومصيبة الإسلام فى هذا العصر من أولئك الأدعياء.. ص _180(1/165)
ولا يجوز للرجل أن يحرج امرأته ليكرهها على طلب الخلع، أى يسىء عشرتها لتطلب الفكاك من أسره بأى ثمن، قال الشيخ سيد سابق فى كتابه الجليل " فقه السنة " : يحرم على الرجل أن يؤذى زوجته بمنع بعض حقوقها حتى تضجر وتختلع نفسها، فإن فعل ذلك فالخلع باطل والبدل مردود ولوحُكِمَ به قضاءً !. وإنما حرم ذلك حتى لا تجمع على المرأة فراق الزوج والغرامة المالية، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن ـ العضل التضييق والمنع ـ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة". ويرى الإمام مالك أن الخلع ينفذ على أنه طلاق، ويجب على الزوج أن يرد البدل الذى أخذه من زوجته.. على أن الإسلام الذى صان كرامة المرأة وأعلى مكانتها يرفض رفضا شديداً أن تستغل المرأة ذلك العبث والنشوز، فإن البيت المسلم لا ينهض برسالته التربوية والاجتماعية إلا بالتعاون والتراحم وتبادل الحقوق والواجبات.. وإذا كان الرجل يكدح سحابة يومه ليقوم بأسرته، فإن على أهله توفير السكن النفسى الذى يريح الأعصاب، ويمسح المتاعب!. أما أن تطلب الزوجة الخلع لغير علة إلا البطر والأثرة فهذه جريمة وفى الحديث "أيما امرأة اختلعت من زوجها من غير بأس لم تُرَح رائحة الجنة" وفى رواية لأبى هريرة: "إن المختلعات هن المنافقات "!. فلنعرف طبيعة شريعتنا، وليكن وعينا بأحكامها صوناً لحياتنا الخاصة والعامة. ص _181(1/166)
التشدد فى إيقاع الطلاق لا أكترث طويلاً لاختلاف الفقهاء فى العبادات الشخصية! من شاء قرأ وراء إمامه ومن شاء صمت، لكل منهما أجره، وإن كنت أضيق باللغط الذى يحدثه الشافعية عندما يبدؤون قراءة الفاتحة حال ما يقرأ الإمام السورة بعدها.. إننا نكترث للخلاف الواقع فى الدماء والأعراض! فهو خلاف لابد أن تتدخل الدولة لحسمه، تبنِّى مذهب محدّد فيه !!. هناك من يرى فسخ الزواج بين عربية وأعجمىّ (!) وهناك من يرى القصاص بين مسلم وغير مسلم، بل هناك شئون دولية خاض فيها الفقهاء تتصل بالحرب والسلام.. وأعتقد أن هذه القضايا هى مجال الاجتهاد الجماعى لا الفردى، وهى كذلك مجال الاجتهاد المفتوح أمام وجهات النظر المختلفة، وأظن هذا الخلاف لن تنقضى أسبابه.. وعندى أن شئون الأسرة من هذه المجالات المفتوحة، وأن الاختيار الحرّ من شتى المذاهب الاجتهادية أدنى إلى الحق، وأَعْوَد بالنفع على الأمة. وإذا كان الطلاق أبغض الحلال إلى الله فأفضل ما نفعل أن نضيّق الخناق على الآراء التى توقعه لأدنى شبهة. هناك فقهاء تحسبهم متربصين لكلمة الطلاق تقال أو تفهم أو تُتَوهم فإذا هم يحكمون على الحياة الزوجية بالموت كأنما يشتهون تمزيق الشمل وبعثرة الكيان الجميع.!. وقد سرنى من ابن تيمية ردّه لطلاق البدعة، وبصره الذكىّ بالنصوص وحكمتها، واستغربت من أتباعه أن يتجهَّموا لهذا الجانب الذكى من فقه الرجل. ص _182(1/167)
وكان استبحار ابن حزم فى حفظ المرويات وراء رفضه لكثيرمن أحكام الطلاق التى أفتى بها غيره بيد أن ظاهريته المفرطة أوقعته فى ورطات مضحكة، وأظنها حالت دون الانتفاع بعلمه الغزير، وقدرته المعجبة.. إنه رفض الطلقة الواحدة فى الحيض مثلاً، والطلقتين، ولكنه أوقع الطلاق الثلاث، وذاك فى غاية العجب والثقافى والمخالفة لظواهر النصوص وفحواها. إنه يرفض طعنة وطعنتين ويقبل ثلاث طعنات إ. الإسلام يريد التريث فى معالجة ما ينشب بين الرجل وامرأته لعل المياه تعود إلى مجاريها، وهذا ما يفهمه كل عاقل من ختام آية الطلاق " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ". وقد قال تعالى فى سورة البقرة: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" هناك ثلاثة إمساكات بمعروف، وهناك ثلاثة تسريحات بإحسان، والتسريح الأخير هو الحاسم لعلاقة الزوجية أو ما يسمونه البينونة الكبرى. وما يقع الطلاق بهذه الصورة إلا بعد أيام متطاولة أو محاولات فاشلة، أما إمضاء الثلاث بلفظ واحد فى وقت واحد فلون من اللعب بدين الله دفع المؤمنون ثمنه غالياً من سعادتهم واستقرارهم. وقد جادل ابن حزم طويلاً فى إمضاء الطلاق الثلاث، ولكن ابن تيمية كان أولى منه بالحق وأبصر بمصلحة الأمة. ويعجبنى الحديث المرسل الذى ردَّه ابن حزم "أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان! ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟؟ فقام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله؟ " وعن أنس بن مالك كان عمر إذا ظفر بمن طلق ثلاثا أوجع رأسه!!. ومع ذكرنا عن ابن حزم فإن الرجل خالف جمهرة من الفقهاء أوقعوا الطلاق بطرق ملتوية، وأساليب غامضة، واقرأ معى قوله: " من خيَّر امرأته فاختارت نفسها، أو ص _183(1/168)
اختارت الطلاق، أو اختارت زوجها، أو لم تختر شيئاً فكل ذلك سواء، لا شئ فيه، ولا تحرم عليه، ولو اختارت الطلاق ألف مرة.. وكذلك لو ملّكها أمر نفسها أو جعل أمرها بيدها.. الخ. ويقول ابن حزم... "ومن قال لامرأته أنت علىَّ حرام، أو زاد على ذلك كالميتة والخنزير، فهذا كله باطل وكذب ولا تكون عليه حراما. وهى امرأته كما كانت نوى بذلك طلافا أو لم ينو!! ونتساءل علام اعتمد الرجل فى هذا الحكم؟ يجيب ابن حزم: إن الله يقول لنبيه: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؟ " فأنكر الله تعالى عليه تحريمه ما أحلّه له !. وفى الآية الأخرى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب " فمن قال لامرأته الحلال له بحكم الله هى حرام فقد كذب وافترى، ولا تكون عليه حراما.. . وللتحريم طرق حددها الشارع فلا نقبل طرقاً أخرى اخترعها الناس لقول النبى عليه الصلاة والسلام "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أى فهو مردود عليه، قال: وتحريم الحلال إحداث حدث ليس فى أمر الله عز وجل فيجب أن يزد.. الخ. قال: " ولا يقع الطلاق إلا بلفظ من ثلاثة ألفاظ: هى الطلاق، أو السراح، أو الفراق، وما يشتق من هذه المصادر!! ". وهذا التحديد حسن! كل قيد يوضع لاستبقاء الزوجية فنحن نرحب به وقد توسع العلماء فى ألفاظ حقيقية أو مجازية للإجهاز على عقد الزوجية. وهذا التوسع ينافى اتجاه الشارع إلى إعطاء فرص للإصلاح، ولا مساغ لتلقّف كلمة من هنا أو من هناك لهدم البيت وتشريد من فيه... من المتناقضات الباعثة على الحزن، أن المسلم ينفق أوقاتا وأموالا فى الخطبة والمهر والأثاث والهدايا والعرس قد تكون ألوف الجنيهات فى أيام طوال. ثم بعد ذلك كله يقول عليه الطلاق إن عاد إلى التدخين، ثم يدخن وتذهب امرأته ص _184(1/169)
فى سيجارة وينهار بيت أنفق فى إقامته الكثير!!. لقد رفض ابن حزم جميع أنواع الطلاق المعلق، واضطر المشرع فى مصر من ستين سنة خلت إلى التدخل لوقف هذا البلاء، فوضع هذه المادة: " لا يقع الطلاق غير المنجَّز إذا قصد به الحمل على فعل شىء أو تركه لا غير". وجاء فى المذكرة الإيضاحية لهذه المادة "إن المشرع أخذ فى إلغاء اليمين بالطلاق برأى بعض علماء الحنفية والمالكية والشافعية، وأنه أخذ فى إلغاء المعلق الذى فى معنى اليمين برأى على بن أبى طالب وشريح القاضى وداود الظاهرى وأصحابه ". وأستطيع أن أضم إلى ذلك رفض الطلاق الذى ليس عليه إشهاد، فالشاهدان لابد منهما لقبول العقد، والرجعة، والطلاق، على سواء.. وخير لنا نحن المسلمين أن نقتبس من تراثنا ما يصون مجتمعنا، ويحميه من نزوات الأفراد. أما الزهد فى هذا التراث كله فهو الذى فتح الطريق لمحاولات تنصير قوانين الأسرة. ص _185(1/170)
الطلاق وقف مؤقت للزوجية قد يرى الفقيه أن يأخذ الحكم من الظاهر القريب للنص، وقد يتجاوز هذا الظاهر لأسباب تلوح له من أدلة أخرى لها وزن أرجح!. غير أننا نشعر بالدهشة عندما نرى حكما فقيهاً يترك النص الظاهر القريب دون نظر إلى مصلحة أرجح أو دليل أقوى!. وقد رأيت ذلك فى كثير من قضايا المرأة، ولأضرب مثلاً يوضح ما أريد! إنهاء الحياة الزوجية لا يتم بضربة قاضية ـ كما يقال فى ألعاب الملاكمة ـ وكلمة الطلاق فى نظر الإسلام هى وقف مؤقت لعلاقة تحتاج إلى إعادة نظر، وليست حسما صارما لهذه العلاقة.. ومن هنا لا يرتضى الإسلام هذه الكلمة فى كل وقت بل جعل لها أوقاتا خاصة. وبعد وقوعها كما رسم، استبقى الحياة الزوجية داخل البيت مدة طويلة لعل المياه تعود إلى مجاريها، لعل مشاعر الجفاء تبرد وعواطف الحنان تغلب. واستنفر الإسلام أقارب الزوجين ليمنعوا تفاقم الأزمة ووفاة الحياة الزوجية!! وآيات القرآن فى هذا الصدد كثيرة، وأنقل هنا أول آية فى سورة الطلاق : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ـ لا فى أى وقت ـ وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ـ تحرم خروج الزوجة من بيتها أو إخراجها منه عند سماع الطلاق ـ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا "_ ص _186(1/171)
والجملة الأخيرة تشير إلى حكمة بقاء المرأة فى البيت، فهو لا يزال بعد الطلاق بيتها،كما تشير إلى سبب جعل الطلاق فى وقت محدد، فهو لا يحلّ وقت الحيض، ولا يحلّ فى طهر تمّ فيه الاتصال بين الزوجين! إن له زماناً محدَّداً يحل فيه. والتزام هذه المعالم عبّرت عنه الآية بهذه الجملة "تلك حدود الله ".. وهذه الجملة فى بيان الأسلوب الذى ينهى الحياة الزوجية تشبه الختام الذى تمت به آيات المواريث " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ". وقد أجمع المسلمون على أنه ليس لبشر أن يغيِّر شيئاً من أنصبة المواريث، وأن من فعل ذلك حكمنا ببطلان تصرفه، وأمضينا التقسيم الإلهى كما جاء به النص وكما عًبِّرَ عنه بأنه حدود الله.!!. وأما حدود الله فى أحكام الطلاق فقد واجهت موقفا آخر، فإن العلماء اتفقوا على أن الطلاق قسمان: سنىّ وبدعى! فأما الطلاق المشروع الذى جاءت به السنة ودلّ عليه القرآن فهو أن يطلق المرأة طلقة واحدة فى طهر لم يمسسها فيه، وتبقى المرأة فى بيتها طوال أيام عدتها.. وأما الطلاق البدعى فهو أن يطلق فى أثناء الحيض، أو فى طهر مسَّها فيه، أو يوقع أكثر من طلقة فى طهرٍ واحد !. وهذا المسلك حرام باتفاق العلماء، وهو بدعة لا يعرفها الدين! وكان المفروض أن يُرمى هذا الطلاق فى سلة المهملات، وأن ينظر إليه كما ينظر إلى مسلك رجل غيَّر نظام المواريث ووضع أنصبة جديدة من عنده، فهذه وتلك حدود الله التى لا يسوغ إهدارها.. لكن الذى وقع للأسف غير ذلك! فإن عددا من الفقهاء قبِِلَ الطلاق البدعى وأمضاه وأنفذ جميع آثاره، إنه عدد كبير! والذى صدع بالحق فى هذه القضية من أهل السنة هو ابن تيمية وابن القيّم وابن حزم ـ تقريباً ـ وثلة من الآخرين تمرّدوا على تيار الخطأ وقاوموا الانحراف معه. ص _187(1/172)
وقد تصدعت أركان الأسرة عقب الاعتراف بطلاق البدعة، ووقعت مهازل تثير الغثيان والأسى، فهذا رجل ينفق عند زواجه عشرات الألوف ليبنى بامرأته، ثم تسمعه فى السوق يحلف بالطلاق صادقاً أو كاذباً على رطل من اللحم يساوى دراهم معدودات! وتنهدم الأسرة!. وهذا فقيه يكتب فى تأليف مدرسى لطلاب العلم الدينى: من قال لامرأته أنت طالقة نصف تطليقة، وقعت طلقة واحدة!! أى عبث هذا؟ هذه مسالك حشاشين . روى ابن حزم فى المحلّى أن رجلاً جعل امرأته عليه حراما، فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن الحميرى؟ فقال له حميد: إن الله قال لنبيه: " فإذا فرغت فانصب * و إلى ربك فارغب " وأنت رجل تلعب! فاذهب فالعب.. إن التحليل والتحريم ليسا إلى أهواء الناس وفتاواهم " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب... ". إننى أريد الرشد والاستقامة للأسرة المسلمة، ولى ولغيرى أن نلقى نظرة فاحصة على أحكام الطلاق، ولن نجىء بشىء من عندنا، ولكننا نختار من أقوال الفقهاء أدناها إلى الكتاب والسنة، وأغيرها على مصلحة الوالدين والأولاد ومستقبلهم.. وأعرف أن هناك من يحمرُّ وجهه غضباً تبقى للطلاق البدعى مكانته العملية! ورضا هؤلاء أو سخطهم لا يعنينى. إن اهتمامى الأول والآخر بتعاليم الإسلام ومصلحة المسلمين. ص _188(1/173)
تقاليد لابدّ من تغييرها أغلب البيوت يستقبل رمضان بقلق لأن ميدان التجارة يغزوه الكساد، وميدان الزراعة يغزوه الجفاف، والأسعار جانحة إلى الغلاء! وتقاليد المسلمين جعلت شهر الصيام شهر الطعام، وجعلت النفقة فيه أربى من غيرها فى سائر الشهور.. ما العمل؟ لنكن صرحاء ولنقل: إن على المسلمين تغيير تقاليدهم القائمة على الإسراف! ويجب أن تعود صبغة العبادة لشهر العبادة، وأن يبرز فى الصيام معنى الجهاد والقدرة على مقاومة شتى الرغبات !. كنت أحب ممن صرعتهم عادة " التدخين " أن ينتهزوا الفرصة فينسلخوا عن هذه العادة إمّا بإرادة قاهرة ناجحة، وإما بتدرج مقرون بالعزم!!. كنت أحب ممن يغلبهم الفتور فى الدراسة أو فى الإنتاج أن يتعودوا القراءة والتدبر والإجادة المثمرة لكل عمل... إن البيت الإسلامى يقوم على إعداد الطعام لأهله، وليست مهمته أن يكون عادات البطنة والتشبّع، أو أن يدخل فى منافسات مادية سفيهة لتقديم الأشهى والأغلى. والظروف السياسية والعسكرية التى تمر بأمتنا تفرض علينا ألواناً من التقشف لا ألوانا من اللذات. كان البيت الإسلامى فى تاريخه الأول ينشئ الأخلاق الزاكية والعبادات الوضيئة ويرعى أصول الفضائل حتى تزهر كما ترعى الأرض الطيبة البذور الجيدة حتى تصير حبوباً وفواكه. ص _189(1/174)
وكان الفتيان والفتيات يشبُّون على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقول الحق ورعاية العهود والأمانات فكان البيت- بهذه الوظيفة- الرافد الأول لمجتمع راشد طاهر يأمر بالمعررف وينهى عن المنكر.. وكان الطفل يتعلم فى سنينه الأولى كيف يصلى مُؤْتَما بأهله، فإذا اشتدّ عوده بدأ يصوم! والمرحلة الأولى فى العمر هى أساس ما بعدها من مراحل، ولذلك يقول الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشثا فمطلبها كهلا عليه شديد! وعلم الأخلاق يفيدنا أن الصفات الحميدة لا تولد فى الإنسان فجأة، ولا توجد كاملة. والبيت المتخصص فى تقديم العَلَفِ للأجساد إنما يخرج حيوانات، أما البيت الذى يحرس الشرف والطاعة والأدب فهو ينشئ بشراً سوياً.. ما أجمل أن ترى فى الوجوه الحياء النبيل وفى الألسنة الأدب الجم، وفى المسالك كلها تقوى الله والتزام حدوده.. وما أجمل أن تلمح الترفع، والابتعاد عن المزالق، كما يقول الشاعر: وأُعرض عن مطاعمَ قد أراها فأتركها، وفى بطنى انطواء! فلا وأبيك ما فى العيش خير! ولا الدنيا إذا ذهب الحياء! يعيش المرء ما استحيى بخير ويبقى العود ما بقىَ اللحاء! وفى شهر الروحانية والجهاد وتلاوة القرآن أريد أن أذكر بضعة أحاديث فى قيام الليل أحتاج قبل سردها إلى تمهيد طويل.. كنا ونحن طلاب فى المراحل الابتدائية والثانوية نذاكر دروسنا بحماس ورغبة، وتقاضانا ذلك أن نسهر جزءاً من الليل نجدد ما نخاف نسيانه ونؤكد ما استحضرناه، فينا من يخاف الرسوب وفينا من يريد التفوق . ولكن للنوم سلطاناً يميل بالرؤوس بين الحين والحين. فماذا نصنع؟ كان كثيرون ص _190(1/175)
يذهبون تحت صنابير الماء البارد ليطردوا النوم من الجفون، ويعودوا أشد نشاطا!. وأستحضر الآن هذه العهود وأقول: لو وجدْتُ موجهين مهرة لحفظت فى تلك الأيام كتاب كذا أو ديوان فلان! إن التحصيل فى أيام اليفاعة زاد يبقى طول العمر!. وفى عباد الله من يتأهب للقاء الله بكنوز من الباقيات الصالحات تتحول يوم القيامة إلى نور يسعى بين يديه وعن يمينه ولعل التهَّجَد بالقرآن الكريم فى طليعة تلك الصالحات!!. وفى حديث سلمان الفارسى قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد".. غير أن قيام الليل يحتاج إلى تعاون بين الزوجين كليهما لا ليتناوبا بل ليتشاركا!!. فعن أبى هريرة وأبى سعيد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعا كتبا فى الذاكرين والذاكرات ". وهذا مسلك لا يحسنه إلا بيت مؤمن، سكن اليقين والخشوع قلوب أهله وحفزهم إلى مغالبة النعاس !. إن هذه الركعات قد تحفظ مستقبل الأولاد! فقد كان عبد الله بن مسعود يصلى من الليل، وابنه الصغير نائم، فينظر إليه قائلا: من أجلك يا بنى! ويتلو وهو يبكى قوله تعالى: " و كان أبوهما صالحا.. "... وقد ذكر القرآن الكريم حال أولئك المتهجدين الساهرين وما أُعدَّ لهم فى بلاد الأفراح فقال: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ". على أن هذا القيام المنشود تعترضه صعاب، ولحظات استرخاء وفتور، وقد بيّن الرسول الكريم أن الزوجين يستطيعان الانتصار على لذة الرقاد ببعض الماء!!. وقبل أن أذكر الحديث أؤكد أن هذا لا يصلح لكل بيت، ولا بين أى زوجين!! ص _191(1/176)
إنه عمل أساسه قبل كل شىء الرغبة السابقة فى القيام، والاتفاق فى النهار عليه، وعلم كل من الزوجين بأن صاحبه سوف يسرّ بالصحو لمناجاة الله، والتضرع إليه.. هل أذكر الحديث بعد هذه المقدمة؟ ليكن، ولو أنى أذكره على وجل خوفا من سخط مدمنى النوم! يقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فإن أبت نضخ فى وجهها الماء! ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبَى نضخت فى وجهه الماء"!. وفى رواية أخرى "ما من رجل يستيقظ من الليل فيوقظ امرأته فإن غلبها النوم نضخ فى وجهها الماء، فيقومان فى بيتهما، فيذكران الله عز وجل ساعة من الليل إلا غُفِر لهما". هذه البيوت التى صنعها صاحب الرسالة العظمى هى التى غيّرت وجه العالم، ونقلته نقلة هائلة من الحضيض إلى الأوج.. أين من هذه البيوت المنيرة بيوت تسهر على أحفال التلفاز اللاهية الساهية، ثم ترتمى فى فرشها كأنها جثث لا حراك بها، فلا تستيقظ إلا لأكل جديد أو سعى بليد؟. إن رمضان يقبل الآن وتقبل معه هموم النفقات المطلوبة للولائم المنصوبة! وأحفال التسلية لحل ألغاز البطالة! والتسكع على أفاريز المدنية الصاخبة بالآثام!!. إن أمتنا تعانى من هزائم علمية وخلقية وصناعية وتجارية، فهل نصحو من الخدر الذى جمَّد أفكارنا وأطرافنا، وألقى بنا وراء قوافل الأمم السائرة؟؟ ص _192(1/177)
ثياب النساء؟ الملابس لابد منها للإنسان رجلاً كان أو امرأة، فهى كسوة تحتاج إليها صحته، وهى غطاء يوارى ما يستحى أن ينظر الآخرون إليه، ثم هى زينة تستحبها الفطرة دون حرج. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير " فالريش ما يكسب صاحبه لوناً من الجمال، وكلا الجنسين يستريح ولكن ما قيمة ثوب وسيم على خلق دميم؟ وما معنى أن يكون المرء قبيح الباطن جميل الظاهر؟ لذلك أوصى القرآن بلباس التقوى ونبه إلى أنه أشرف وأزكى... وينصح النبى- صلى الله عليه وسلم- المسلم بهذه النصيحة الجديرة بالدراسة: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان، سرف ومخيلة" أى اجتنب الإسراف والخيلاء وكل ما تشاء والبس ما تشاء مما أحل الله لك... والأطباء يردّون أغلب الأمراض إلى الإسراف فى المآكل، والجراءة على المحرمات، والواقع أن الاعتدال خير كله، فإذا تجاوزنا ميدان الطعام إلى عالم الملابس رأينا الإسراف والاختيال يفترسان نفقات هائلة وأموالاً طائلة ويختفيان وراء طائفة من الأخلاق الكريهة والمسالك الشائهة.. وقد فكرت فى الملابس العسكرية فوجدتها ثابتة على اختلاف الليل والنهار، لا تكاد تتغاير إلا بالرتب المتفاوتة وما يصحبها من شارات، أما الملابس المدنية فقلما تثبت على حال، خصوصا ملابس النساء فإن أشكالها وألوانها لا تنتهى، قد تطول وقد تقصر، وقد تضيق وقد تتسع، وللفصول الأربعة أزياؤها متشابهة وغير متشابهة، وللسهرات ص _193(1/178)
ملابس ـ أو شبه ملابس ـ وهناك سباق مسعور بين محالّ الأزياء لتقديم صيحات جديدة تستهوى النساء وترضى غرائزهن، وعند التأمل نجد أن وراء هذا النشاط المحموم الخصلتين الكريهتين: الإسراف والخيلاء..!!. من حق المرأة أن تكون جميلة المظهر، بعد أن تكون تامة العقل كريمة الشمائل، هل "السارى " الهندى الذى يكشف قدراً من البطن والظهر يكفل هذا الجمال؟ هل الفستان الأوروبى! الذى يكشف أدنى الفخذين، وينحسر ـ عند الجلوس ـ عن أواسطها يكفل هذا الجمال؟ الحق يقال أن حائكى هذه الملابس لا يوفرون للمرأة كرامتها، ولا يرجون لها وقاراً وإنما يهيجون ضدها غرائز السوء.. ويبدو أن الحضارة الحديثة تقصد إلى هذا قصداً، فقد كنت أسير على أحد الشواطئ فوجدت رجلاً وامرأة يسيران جنباُ إلى جنب! هو يلبس سراويل كاملة "بنطلون طويل " وهى تلبس ما يكشف عن نصف أفخاذها " شورت " لماذا هذا الاختلاف؟ أيراد به خير للمرأة؟ إن تعرية المرأة حيناً، وحشرها فى ملابس ضيّقة حينا آخر، عمل لم يشرف عليه علماء الأخلاق وإنما قام به تجار الرقيق، ولكى نوفر تربية شريفة للجنسين يجب أن نعترض هذا الموكب الساخر من الكاسيات العاريات.. وقد قلنا: إن من حق المرأة أن تتجمَّل، ولكن ليس من حقها أن تتبرج! ولا أن ترتدى ثوب سهرة تختال فيه وتستلفت الأنظار بل إن الإسلام رفض ذلك من الرجال والنساء جميعا. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء" وإنها لطفولة عقلية سخيفة أن يرى امرؤ ما مكانته فى حذاء لامع أو رداء مطرز بالحرير أو الذهب!. إذا لم يتحصَّن المرء فى نصاب كبير من العلم أو الخلق فلن يغنى عنه جمال الثياب ولين الإهاب!! وللملابس وظيفتها المقررة، ولا يسوغ أن تكون وسيلة للإغراء المكروه، أو التطاول المعيب، روت عائشة أم المؤمنين " أن أختها أسماء دخلت على رسول الله ـ صلى ص _194(1/179)
الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها! وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه " وهذا الحديث له شواهد كثيرة من سنن صحاح وحسان. . ورأى النبىُّ ـ صلى الله عليه وسلم شاباً اسمه ضمرة بن ثعلبة معجباً بنفسه وهو يرتدى حلتين فاخرتين من حلل اليمن، فضاق به وقال له: يا ضمرة أترى ثوبيك هذين مدخليك الجنة؟ فأحس الشاب خطأه، وأسرع يقول لرسول الله لئن استغفرت لى لأ أقعد حتى أنزعهما..! فقال النبى: اللهم اغفر لضمرة، فانطلق سريعا حتى نزعهما عنه.. ". إننا لا نحرم زينة الله التى أخرج لعباده، ومن حق كل إنسان أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، وأن يحافظ على هيئته مصونة، ذلك شىء غير التكلف والإسراف وإثارة الفتنة ومحاولة التسامى بقطعة قماش. وقد شعرت بأن من النساء من تجمع فى غرفتها سبعين فستانا، وأخبرت بأن بعضهن فى أثناء الأحفال تخرج لتبدل ثوبا بدل ثوب حتى تعرض جسدها فى ألوان شتى! هلا عرضت على الناس ثقافتها وفضائلها بدل هذا الإسفاف!!. إن النزوع إلى الترف والسرف أحيا فى عواصم الغرب صناعات كثيرة، وكون ثروات ضخمة، وما تزال بلادنا تعافى تخلّفاً حضاريا مذلاً. ومع سيادة الحضارة الحديثة رأيت عادة جديدة لا يقبلها الدين، هى ارتداء النساء ملابس الرجال حتى ليكاد المرء يعجز عن التفريق بين الجنسين! وهذه أحوال مَرَضِية يبرأ منها النساء العظيمات! وقد رأيت رئيسة وزراء إنجلترا فى ملابسها النسائية بين قادة العالم، تحمل حقيبة يدها وتتحرك راسخة شامخة، تساندها مواهجها وفضائلها وحدها... إن محاولة محو الفروق الطبيعية بين الجنسين لون من العبث، والتفاوت الذى يستحيل محوه هو التفاوت العلمى وما تستند إليه الشخصية الإنسانية من ملكات وقِيَم، وفى هذا المجال قد تسبق نساء بجدارة وقد يسبق رجال.. ولا علاقة للأقمشة بهذا التفوق. ص _195(1/180)
وقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسم ـ قوله: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال " وفى رواية أخرى "لعن رسول الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء". وظاهر أن هذا عوج فى السلوك، ولعله مرض نفسىّ يستحق العلاج.. أما السباق العام فى مرضاة الله بالإيمان والعمل ميدان مفتوح للرجال والنساء، يتصدّر فيه الأتقى والأزكى " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". وأذكر أخيراً طرفة علمية تعليقا على ما شذت به المدنية الحديثة من إنشاء نواد للعراة أو مستعمرات للعراة يشترك فيها طلاب اللذة، أو أصحاب الأهواء المنحرفة، وهى مؤسسات تتغاضى عن سيئاتها الحكومات التى ترحب بالسائحين والسائحات!. قال لى أحد المشتغلين بعلوم الأحياء: إن هناك تناقضا كبيراً بين مواضع التلقيح فى عالمى النبات والحيوان! قلت له: كيف؟ قال: فى الحقول والحدائق ترى أماكن التلقيح فى ذوائب الشجر وأوراق الورد، وترى المناظر رائقة، والرياح تميل بها ناقلة عناصر الحياة والبقاء... أما فى عالم الحيوان ـ خصوصا البشر ـ فأماكن التلقيح مطوية مستخفية يتخطاها النظر على عجل واستحياء، وربما كانت ممراً لإفرازات الأجهزة الدنيا فى البدن!! . قلت: لعل ذلك ما جعل أبوينا آدم وحواء يسارعان إلى تغطيتها بما استطاعا من الورق " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ". وقلت: إن الميّالين للعرى من شباب اليوم أقرب إلى الحيوان منهم إلى الإنسان. ص _196(1/181)
تفكير باطل منذ افتتاح المسجد النبوى بعد الهجرة إلى أن لحق النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالرفيق الأعلى والنساء يصلين فيه، والباب المخصص لهن لم يغلق قط! أى أنهن أدّيْن فيه بين سبعة عشر ألف وثمانية عشر ألف صلاة، وهذا من المتواتر المستيقن الذى تتساقط حوله أخبار الآحاد فلا يُكْتَرث بها أو يقام لها وزن. قال بعضهم: لقد روى عن عائشة أم المؤمنين: " لو رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منعت نساء بنى إسرائيل "! فيجب منعهن لهذا الحديث ولغيره !. ونقول: إن ما وقع على عهد رسول الله امتد أيام الخلافة الراشدة، وبقى المسجد النبوى معمورا بهن دون نكير؟ بل إن عمر بن الخطاب أمر سليمان بن أبى حثمة أن يؤم النساء فى مؤخرة المسجد فى شهر رمضان، وروى ابن حزم أن على بن أبى طالب كان يأمر الناس بالقيام فى رمضان فيجعل للرجال إماماً0 وللنساء إماماً، قال عرفجة ـ الراوى ـ فأمرنى فأممت النساء إ. وروى الزهرى أن عاتكة بنت زيد زوجة عمر بن الخطاب كانت تشهد الصلاة فى المسجد، وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أن ما أحب هذا!! فقالت: والله لا أنتهى حتى تنهانى! قال عمر: فإنى لا أنهاك!! فلقد طعن عمر يوم طعن وإنها لفى المسجد!!. أما ما روى عن عائشة من رفض صلاة المرأة فى المسجد فهو يفتح بابا لإلغاء شعائر ص _197(1/182)
الإسلام خشية الأوهام، ومن الممكن أن يقول أى إنسان: لو علم رسول الله ما تجرّه إقامة الحدود من تهم للإسلام لألغى الحدود!!. وتلغى الحدود على نحو ما قيل: لو رأى رسول الله ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد... إن هذا القول يعنى أن بعض أحكام الإسلام موقوت، يبقى لظروف خاصة، فإذا انتهت تلك الظروف ألغيت، والظروف الجديدة الطارئة لا يعلمها صاحب الرسالة فى حياته ولذلك لم يحدث لها تشريعاً... وهذا التفكير باطل كله، فإن الله يعلم ما كان ويكون، وقد أذن للنساء بالصلاة فى الجماعات، وأمرهن بالذهاب إلى المسجد محتشمات قانتات عابدات.. فإنهن لم يخرجن لإحدى مسابقات الجمال، أو أحد عروض الأزياء. ومن خرجت على حدود الأدب ومطالب الحياء منعت من دخول المسجد، وكان ذلك عقابا لها، أما الحكم على جميع النساء بعدم الصلاة فى المساجد لأن إحداهن قد تكون متبرجة فهذا تعميم مرفوض... والغريب أن النساء منعن المسجد وحده! أما غشيان الأسواق والانطلاق فى الشوارع، فهذا لا حرج فيه !. إن تحريم المساجد على النساء كما تفعل شعوب إسلامية كثيرة من وراء الانهيار الخلقى وفقدان التربية الذى أودى بأمتنا فى هذه الحياة... ص _198(1/183)
لا تمنعوهن من المساجد صلة المسلم بالمسجد تنبع من أعماق ضميره! فهو البيت الذى يرنو إليه ويتردد صباحاً ومساء عليه، وفى ساحته الطهور يناجى ربه، وتشرق على روحه أشعة من تكبيرالله وتحميده، ويلتقى برجال مثله جمعتهم أخوة الإيمان وطاعة الرحمن... إن الجماعات المتصلة فى المساجد واحات من الحق والخير على ظهر الأرض، ومثابة يأزر المؤمنون إليها هاربين من زحمة الأثرة والشهوة، وسعار المآرب العاجلة، مقبلين على الله راجين الدار الآخرة..!. فلا عجب إذا كان بين السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة رجل "قلبه معلق بالمساجد ". على أن أعمال الحياة قد تفرض على الناس أن يؤدوا الصلاة فرادى أو جماعات فى البّرية إذا كانوا رعاة غنم، أو فى الحقول إذا كانوا فلاحين، أو فى المصالح والدواوين.. ولا بأس عليهم فى هذا الانقطاع عن المسجد؛ لأنهم يقومون بفرائض أخرى، وعندما ينتهون منها تتجدد علاقتهم بالمسجد كما كانت.. والنساء والرجال سواء فى الارتباط بالمسجد؛ والتعرض لرحمات الله غدوا ورواحا، ليلأ ونهاراً.. بيد أن هناك فرقا لا مانع من شرحه، إن العمل الأول للمرأة فى بيتها وهى أمام الله راعيته ومسئولة عنه. وهو فرض فى عنقها، أما الجماعة فهى سنة..! ولا يجوز تحت مظلة هذه السنة إهمال ص _199(1/184)
البيت، وتعطيل مصالح الزوج والأولاد، ومن ثم قدّم الشارع رعاية الأسرة على شعيرة الجماعة، فإذا أدت المرأة واجبها لزوجها وأولادها، فمن حقها أداء الصلاة فى جماعة والحرص على الثواب، ولا يجوز لرب البيت أن يمنعها بعد ما وفت بحقه، وفى ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله "!! ولا ريب أن تخففها عن المسجد لمسئوليات البيت يجعلها أمام الله أهلاً لثواب الجماعة وإن لم تحضرها، فعذرها المقدور يعطيها ثواب الحضور! وقد أخطأ نفر من أهل العلم فظنوا الجماعة للرجال لا للنساء، بل زعم بعضهم أن البيت أفضل للمرأة من المسجد، ونقلوا مرويات تافهة منكورة، موَّهوا بها على الأغرار، وأخفوا ما تواتر على طريق القطع أيام النبى عليه الصلاة والسلام، وفى عهد الخلافة الراشدة، من احتشاد النساء فى المساجد وانتظام صفوفهن عشرات السنين.. روى مسلم عن عبد الله بن عمر: قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها " فقال له بلال ابنه: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله بن عمر، فسبَّه سباً سيئاً ما سمعته سبّه بمثله قط! قال: أخبرك عن رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن!!!. وروى مسلم كذلك: لا تمنعوا النساء من الخروج بالليل إلى المساجد..!. وبديه أن على المجتمع تأمين الطريق من كل شائبة، وجعل العبادة منزهة عن كل ريبة.. وأمر آخر نؤكده! أن الذهاب إلى المسجد ليس ذهابا إلى معرض أزياء، أو مسابقة جمال، إنه خطوات لإرضاء الله ونشدان الآخرة وقمع الشيطان ولزوم التقوى!. وفى الصحاح عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود، قال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا.. ". والطيب نوعان: نوع مطهر يقتل الجراثيم والروائح الكدرة، وهذا لا حرج فيه، ونوع نفاذ الرائحة لافت للأنظار والمشاعر وهذا مرفوض. كما أن المساجد وضعت للعبادة الخالصة لا(1/185)
للقاء المريب، فلا يجوز لامرأة ذهبت ص _200
للمسجد أن تتقدم إلى الأمام لترى الرجال أو ليراها الرجال، كما يحرم المسلك نفسه على الرجال، وقد تكاثرت الأحاديث فى هذا المعنى "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". إن الله يريد لعباده التقوى والأدب والبعد عن مظان السوء، ولعل من ذلك تخصيص باب للنساء يلجن منه ويخرجن لا يزاحمهن أحد من الرجال، وقد ورد أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدْخَل من باب النساء.. وقد ناقش ابن حزم ما روى أن صلاة النساء فى البيوت أفضل، وأبان بأدلة دامغة أنه قول مدخول وأثر مرفوض، وتساءل: لماذا تركهن الرسول فى الحر والبرد والليل والنهار يعانين التردد على المسجد إذا كانت بيوتهن أفضل؟ هل هذا من نصحه لأمته؟ ولماذا أمرهن بالخروج تفلات ـ غير متبرجات؟ أما كان يستطيع منعهن؟ ذلك، وقد أمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإخراج النساء إلى مصلى العيد حتى الحوائض، وأمرمن لا جلباب لها أن تستعير جلبابا من جارتها وتخرج، فكيف يتفق هذا مع بقائهن فى البيوت حتماً؟ قال بعضهم: لعل أمر رسول الله بخروجهن يوم العيد إنما كان إرهاباً للعدو لقلة المسلمين يومئذ وليكثروا فى عين من يراهم.. قال ابن حزم: وهذه عظيمة، لأنها كذبة على رسول الله، وقول بلا علم! فقد بيَّن النبى أن أمره بخروجهن: ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيِّض المصلّى، فأُفٍ لمن كذب قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وافترى برأيه.. ثم إن هذا القول مع كونه كذبا بحتا فهو بارد سخيف جدا، لأنه ـ عليه السلام ـ لم يكن بحضرة عسكر فيرهبهم، ولم يكن معه عدو إلاّ المنافقون ويهود المدينة الذين يعرفون أن الحاضرات نساء... ". الحق أن منع المسلمات من المساجد بدعة سيئة، وبلاء نكب المجتمع الإسلامى به، فأورثه الجهل وسوء التربية وشرور التقاليد. ولا شفاء إلا بالعودة إلى سيرة الرسول الكريم وصحبه الأولين. ص _201(1/186)
أفحكم الجاهلية يبغون ؟ رأيت صورة تظاهرة كبيرة تمر بشوارع باريس، فيها جماهير غفيرة من الرجال والنساء. كان الكل يطلب إعادة عقوبة الإعدام، ويرفع لافتات تستنكر إبقاء الحياة للقتلة والمفسدين!. وتفرست فى ملامح امرأة غاضبة تتقدم الصفوف، وقلت: لعلها والدة الطفلة التى اغتصبها أحد الذئاب ثم قتلها بعد ما قضى وطره منها . إنه الآن يُعلف فى أحد السجون بعدما حكم عليه القضاء ببضعة عشر عاما!!. وهذا الرجل الذى يلوح بذراعيه! لعله والد الشرطى الذى قتل وهو يطارد لصاً يفر بسرقته، إن اللص القاتل يُعْلًفُ الآن مع زميله فى هدوء!. إن القوانين التى وضعها الناس لأنفسهم، والتى رفضت القصاص، وتهاونت مع المجرمين بدأت تؤتى نتائجها المُرة.. لأنها قوانين- من الناحية الإنسانية- فقدت التمييز بين الخير والشر والحسن والقبح، والعدل والظلم، ولأنها من الناحية الدينية نسيت الله وجحدت حقه فى الحكم بين عباده... إذا انحرف مزاج امرئٍ ما فقتل صاحبه فى ساعة غضب فلا قصاص! لأنه مع تعمد القتل لم يرتكبه بعد تفكير طويل!! هذا هو التشريع الذى نقلناه عن أوروبا، ثم ارتقت أوروبا إلى أسفل فقررت إلغاء عقوبة الإعدام!. وقد سمعت بعض صعاليك الفكر من العرب المهزومين يردد الصيحة نفسها!! إنه لا إيمان ولا عقل !. ص _202(1/187)
لقد حاولت رئيسة وزراء إنجلترا أن تعيد عقوبة الموت للقتلة، ولكن مجلس العموم خذلها، ولا عجب فمجلس العموم ومجلس اللوردات هما اللذان أباحا اللواط مادام بالتراضى!. ومع فساد الفطرة واستبعاد الوحى واستغناء الناس بهواهم فسنرى الأعاجيب... وعندى أن رجال اليهودية والنصرانية فى أوروبا وأمريكا مسئولون عن هذا الارتكاس الخطير، لقد فقدوا البصائر الهادية وأمسى ارتباطهم بالوحى الإلهى أوهى من خيط العنكبوت. لا مكان للوصايا العشر، والناموس الذى قرر عيسى أنه لم يجئ لنقضه، والذى أوجب القصاص والرجم وحارب الفساد والفوضى. هذا الناموس قد صار أثرا بعد عين.. وهذا سر نعى القرآن على من سبقوه من أهل الكتاب " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ". وبدل أن يُحيى هؤلاء أمر الله الذى أماتوه يطلبون من المسلمين مشاركتهم فى الإثم، والتواطؤ معهم على ألاّ يقوم للسماء حكم !. فإذا طالب أحد بالعودة إلى الأحكام السماوية هاجت أوروبا وماجت، وأنذرت بأن العودة إلى الرجعية ستقابل بالويل والثبور وعظائم الأمور.. "أفحكم الجاهلية يبغون ؟ " نعم ما يبغون غيره !!. ص _203(1/188)
الزواج من الأجنبيات نصحته عندما أزمع الهجرة إلى خارج البلاد أن يتزوج قبل سفره من امرأة مسلمة! وقلت له: تحفظ بذلك دينك وتصون مروءتك وتتحصن من الفتن التى تنهمر فى مدن أوروبا وأمريكا لا يكاد ينجو منها أحد.!. أجابنى بفتور: ما علىّ من بأس إذا خرجت وحيدا ثم التقيت هناك بمن تصلح زوجة لى، وهناك مسلمون كثيرون تزوجوا من أجنبيات وعاشوا معهن سعداء! وبعض من هاجر تزوج بأمريكية فاكتسب بهذا الزواج الجنسية، وربح مزاياها الأدبية والمادية!. قلت: ما ربح شيئا، وأحسب أنه خسر دينه ودنياه، وذلك ما أخافه على أمثالك! إن أكثر العرب النازحين، بل إن أكثر المسلمين الضاربين فى الأرض طلباً للرزق تملكهم عقدة الضعة أو ما يسمى مركب النقص، يرمقون هؤلاء الأجانب من أدق إلى أعلى ويسارعون فى هواهم ويتركون لغة إلى لغة وعادات إلى عادات وسيرة إلى سيرة، ويتم ذلك كله على حساب الإسلام وشعائره ووصاياه، فلا يمضى أمد بعيد حتى يدع عقيدته وتمسى فى نفسه ذكرى خافتة..!. قال: هناك مسلمون محافظون نجوا من ذلك المصير الذى وصفت.. ومبلغ علمى أن الدين يبيح الزواج من أهل الكتاب هوداً كانوا أو نصارى، فلا داعى لما تحذر!. قلت: إن الإسلام أباح الزواج من الكتابيات للمسلم الذى يعرف دينه ويعمل به، ووفق صفات لا توجد اليوم بين جمهرة الأوربيات والأمريكيات.!. إنك مسافر تطلب القوت، وأخشى ـ إذا وجدت من ترضى بك لأمر ما ـ أن ينشأ ص _204(1/189)
أولادك لايعرفون صلاة ولا صياما، بل أخشى أن يشبّوا غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، وستكون زوجتك أقوى منك شخصية وسوف تستعين بسلطان البيئة على إبعادهم كل البعد عن دينك... ثم إن كلمة أهل الكتاب أبعد ما تكون عن وصف الرجال والنساء فى أوروبا وأمريكا، إن التوراة والإنجيل فقدا سلطانهما على الناس! والدين فى مظهره العملى لا يعدو أن يكون عطلة الأحد، أو أحفال عيد الميلاد، ثم السخط على الإسلام والنيل من محمد بسفاه غريب.. أما الخمر فسيل لا يغيض وأما الغريزة الجنسية، فإن مجراها فى المجتمع ممتد لا يعوقه شئ، وفى الشذوذ متسع لمن سئم الزنا!! ومن يدرى فقد تعود إلينا مصاباً بالإيدز..!. إن الزواج بالكتابية المحصنة كان جائزا لمسلم قدير على الإمساك بزمام بيته، وتربية أولاده وفق تعاليم ربه... فأين هذا الآن؟؟ يا بنى إننى أقدّر بواعث الهجرة، وأحترم الرغبة فى مستقبل حسن وقديماً قال الشاعر: يقيم الرجال المكثرون بأرضهم وترمى النوى بالمقترين المراميا لكن مع وزنك لمطالبك فى هذه الحياة لا تنسى دينك، ولا تنس أن سمتك الإسلامية هى شرفك الأول والأخير. ص _205(1/190)
أطفال المستضعفين للبيع على وجه الحضارة الحديثة غشاء ناعم رقيق يخفى قسوتها الدفينة على خصومها فى الدين، وعلى جماهير المستضعفين! ولذلك لم أدهش عندما قرأت نبأ تجارة الأطفال التى ظهرت أخيراً فى بعض الدول العظمى. والخبر- كما نشرته صحيفة الشعب الجزائرية، تحت عنوان "أطفال العالم الثالث للبيع " هو- تريد بلدية "فرانكفورت " اتخاذ الإجراءات لمنع أنشطة مؤسسة تقوم بشراء أطفال من العالم الثالث وبيعهم إلى أسر تتبناهم فى ألمانيا الغربية... ويقدر متوسط سعر الطفل من البلد الفقير بـ 7100 دولار! على حين تبلغ قيمة الطفل المجلوب من الشرق الأقمى 8900 دولار، وضعف هذا الثمن للطفل المجلوب من الشرق الأدنى. ويمكن أيضا شراء طفل ألمانى بمبلغ 26 ص 0 دولار. وتختلف الأسعار حسب ما تطلبه الأمهات تعويضا عن أطفالهن. وصرحت مؤسسة "هميل وكيلير" لإنشاء الأسر (!) أنها أبرمت إلى الآن عقوداً ببيع ثمانية أطفال، وصرح المدير المسئول أن مؤسسته تقوم بأعمال جد ضرورية وأنه لولا نشاطها لكان مصير هؤلاء الأطفال الضياع، وأن تهديد البلدية له لن يمنعه من المضى فى عمله! ويقبض مدير المؤسسة 200 دولار عن كل طفل يتم بيعه، وباقى المبلغ تتقاسمه الأم والسمسار الذى يتمم معها الصفقة. إننى أعلم أن القانون الإنجليزى حتى القرن الماضى كان يبيح بيع الزوجات (!) وكل ما صنع أنه حدد سعر البيع حتى يمنع المغالاة... !. ص _206(1/191)
هل الفقر من وراء هذه الصفقات المحزنة؟ وهل المتاجرة بالآلام تهبط إلى هذا الدرك؟ أعرف فى سُنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يأبى هذه المسالك كلها، فعن أبى أيوب قال سمعت رسول الله يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " وروى عن أبى موسى " لعن رسول الله من فرق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وأخيه ". إن الإسلام عندما ظهر فى العالم وجد الرق واقعا ينتظم الحضارات الهندية واليونانية والرومانية وتقره الديانتان اليهودية والنصرانية... وقد بذل جهودا لتجفيف منابعه وتخفيف أوزاره لكن الدول الأوروبية أبت إلاّ استبقاءه وترويج تجارته وإرسال الأساطيل التى تخطف الألوف المؤلفة من شواطئ إفريقية وترسلها إلى أوروبا وأمريكا. والذى يلفت نظرنا هو الوجه الصفيق الذى يجعل أوروبا تخفى آثامها وتوجه الشتائم المقذعة إلينا! يقول " لويس برتران ": الشرق؟ إنكم لا تعلمون حقيقته! إنه القذارة والسرقة والانحطاط والاحتيال والقساوة والتعصب والحماقة... نعم إنى أكره الشرق أكره أولئك الذين يرتدون الطرابيش ويعبثون بالسبح . ويقول " روبير دوتراز": "الإسلام اليوم نبع جف ماؤه، فماذا باستطاعة المسلمين أن يلقنونا؟ إذا كنا مرضى فهم فى حالة النزع! إنهم أصحاب حضارة ساقطة، وديانتهم ولغتهم عقيمتان. الأمثولة الوحيدة التى نأخذها من المسلمين هو أن انحطاطهم يجب أن يعلمنا كيف نتجنب الوصول إلى هذا الدرك!! . ذاك رأيهم فينا وعملهم معنا فماذا نقول وكيف نرد ؟؟ وكيف نحمى أنفسنا ونحمى العالم من هذا الطغيان؟ ص _207(1/192)
يتامى المسلمين؟ لم يخل قطر على ظهر الأرض من يتامى فإن الموت يطرق البيوت فى كل طرفة عين من ليل أو نهار. ومن الناس من يتوفى دون أن يرى ولده، ومنهم من يخلفهم ذرية ضعفاء أفقر ما يكونون إلى الكافل الرحيم.. وقد كنت أحسب المسلمين أكثر الناس يتامى لأن مغارمهم فى حرب العقائد فادحة، والطامعون فى فتنتهم عن الدين لا ينتهون، قال تعالى : " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا... ". ثم بدا لى أن حروب العدوان فى الأرض لا تجفُّ بركتها، وقد قتل فى الحرب العالمية الأخيرة خمسون مليونا، وسيل القتلى فى الحروب المحلية لا يتوقف، والأيتام يكثرون ولا يقلون.. ثم جاءت كوارث الزلازل والفيضانات فحصدت الأخضر واليابس، وخففت أعدادا من الأرامل واليتامى! فلا عجب إذا حث الدين على رعاية المستضعفين، وإيواء الأيتام، وترقيق القلوب لهم، وإرصاد الأموال لمساعدتهم. وفى الحديث: "كافل اليتيم له أو لغيره ـ أى قريباً أو غريباً ـ أنا وهو كهاتين فى الجنة، وأشار إلى إصبعيه السبابة والوسطى ". وفى رواية أخرى " من ضمَّ يتيما بين مسلمين فى طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة البتة". ص _208(1/193)
وعن أبى أمامة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من مسح على رأس يتيم ـ لم يمسحه إلا لله ـ كان له فى كل شعرة مرت عليها يده حسنات". وجاء أن رجلاً شكا إلى رسول الله قسوة قلبه! فقال له: " امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين" إن مشاركة ذوى الآلام متاعبهم والاقتراب منهم يعيد التوازن إلى من أسكرتهم لذات الدنيا، وأذهلهم نعيمها... على أن المسلك الفردى إن أغنى حيناً فهو فاشل فى أغلب الأحيان، لا سيما عندما يعم البلاء، وتترادف الآلام... فى البلاد التى نكبت بالجفاف تشردت الألوف المؤلفة، وأجهز الموت على جماهير من الضحايا وفى الحرب بين العراق وإيران مثلا زهقت أرواح لا حصر لها.. وفى القتال الدائر من بضعة عشر عاما فى لبنان وبين الحبشة وإيرتريا، وبين أقطار شتى فى وسط إفريقية... الخ هنا وهناك يتامى كثيرون، يبلغون مئات الألوف، أو يتجاوزون المليون، ماذا حدث لهم؟ وماذا يحدث؟. أعرف أن البعثات التنصيرية تلقفتهم على عجل، وفتحت لهم المدارس والملاجئ وقامت فى صمت بأداء واجبها الذى تكوّنت من أجله !. بل إن ثريا إيطاليا تبنَّى أكثر من ألف طفل منحهم اسمه وماله!!. ماذا صنع المسلمون؟ هل تلاوتهم لآيات البر وأحاديث الرحمة تغنى فتيلاً، أو تطعم من جوع أو تؤمن من خوف؟ إنه لابد من جهاد جماعى مكثف متصل حتى يمكن إغاثة الملهوفين وتأمين حياتهم وحماية عقائدهم.. إن الفكر البليد والقلب القاسى أخصر طريق إلى الضياع والعار والنار، "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ". ص _209(1/194)
المؤاخاة بديل عن التبنى ينظر الناس عادة إلى اللقيط نظرة ازدراء، ويتوهمون أنه لن يكون شخصاً طيباً مستقيما فى مستقبل عمره! وهذا حكم جائر، وليس له ظهيرمن نقل أو عقل.. فالدين كشف عن طبائع الناس جميعا عندما قال: "كل مولود يولد على الفطرة" فهذا اللقيط برز إلى الدنيا بالحالة النفسية التى يولد بها سائر الناس ليس أخسَّ منهم معدناً ولا أقل استعداداً للخير!. المهم هو الوسط الذى يتربى فيه، ويتلقى فيه التوجيه الذى ينمّى عوده، ويصلح وجوده.. وقد لاحظت قديماً وحديثاً أن هناك لقطاء وصلوا إلى مناصب رفيعة، وتولّوا الحكم فأحسن من أحسن وأساء من أساء !. هل التبنى وسيلة لضمان غد أشرف أو أرغد لهؤلاء الذين هرب منهم آباؤهم الحقيقيون؟ عند الدراسة نجد أن الأم البديلة أو الأب البديل يؤديان دوراً لا يلبث أن يتبخر أو يزول !. لقد تبنت امرأة العزيز يوسف، بعد ما بيع رقيقاً لا تعرف له أهل! فلما نضج شبابه وطابت رجولته تحركت فى المرأة أنوثتها، وتلاشت الأمومة المزعومة! ورأت امرأة العزيز أن تكون عشيقة لفتى أغراها خَلْقَه وخُلُقَه.. هل مبيت المتبنى مع إخوته المزعومين وأخواته المزعومات ينشئ رحما ماسَّة أو حرمة طبيعية؟ ص _210(1/195)
من الصعب أن يقع ذلك، والذى سيقع أن علاقات أخرى قد تجدّ.. . الواجب أن يجد اللقيط رعاية تصونه مادياً ومعنوياً دون أن تقع مضاعفات غير منظورة لاختلاط مبنىِّ على الكذب.. ولا أقبل تصرفات الأوروبيين فى الأمور الجنسية فقد عرفت من أيام أن "الدانمرك " قبلت ما سُمىَّ عقد زواج بين شاذين، ونظمت شئون البيت والنفقة وغير ذلك، فلا دين ولا آخرة ولا شرف ولا تقاليد! !. إن الإسلام حريص على طهارة الأسرة صارم فى منع الريبة، حريص على ضبط الأنساب، وقد قال الله تعالى فى قضية التبنى كلها "... ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ". هناك نظام آخر عنوانه الأخوّة فى الدين والموالاة. لماذا عجزنا عن إقامته ورسم معالمه وتقدير نتائجه وإزالة العوائق من طريقه؟ إن تحوّل الدين إلى مجادلات فارغة واهتمام بالفروع التافهة صرفنا عن أعمال إيجابية كثيرة!!. صحيح أن اللقطاء فى التاريخ القديم كانوا نزراً يسيرا، أما فى الحضارة الحديثة فقد قاربت نسبتهم فى بعض البلاد عدد المواليد الشرعيين، وليس هذا عذرا لتكاسلنا، يجب إعداد العدّة لبلاء كثير إلى أن يستطيع الإسلام بسط حضارته العفيفة، وإشاعة تعاليمه السماوية فإن محمداً عليه الصلاة والسلام بُعث رحمة للعالمين. ص _211(1/196)
عن التحكّم فى جنس الجنين الله سبحانه وتعالى هو الذى يرزقنا الأولاد، يتولى ذلك بعلمه وقدرته، كما ذكر فى كتابه فهو "... لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير". ومشيئته هى العنوان الدينى للسنن التى يسير عليها الكون وتحكم ما نبصر وما لا نبصر من شئون الحياة والأحياء.. وقد اهتدى العلماء فى هذا العصر إلى بعض هذه القوانين التى تضبط الوراثة، وتنشأ عنها الذكورة والأنوثة، ولهم تدخلات سوف نتحدث عنها بيد أننا نقدم بين يديها حديثاً لابدّ منه عن عوج أخلاقى ساد الناس قديما ولا يزال يسودهم إلى الآن.. نعم كان الأقدمون يكرهون الأنثى، ويضيقون بمولدها، ويكرهون الزوجة التى تلد البنات! ومازلت أذكر شعرا حفظته وأنا صغير تشكو فيه زوجة هجرها رجلها إلى أخرى لأن الله لم يرزقه منها إلا البنات! قالت المسكينة: ما لأبى حمزة لا يأتينا؟ يذهب للبيت الذى يلينا..! غضبان ألاّ نلد البنينا! وليس ذلك فى أيدينا! وإنما نأخذ ما أعطينا... والناس يكرهون الأنثى لضعفها، وهم الذين استضعفوها، وضنّوا عليها بما ينضج مواهبها ويساعدها على إعطاء الثمر الطيب! !. ص _212(1/197)
وقد عاصرت أياماً كان تعليم الأنثى فيها جريمة! وكان ذهابها إلى المسجد منكراً! وكان الملتصقون بالدين يبخسون حقوقها المادية والأدبية جهرة!. ولا تزال بقايا من أولئك المتدينين الجهلة تظلم الإسلام بسوء الفهم والعرض فى شتى الميادين، ويسلقوننى بألسنة حداد..!. الغريب أن إيثار الذكورة على الأنوثة لا يزال شائعاً بين أجيال كثيرة وهو من وراء ما يسمى بالهندسة الوراثية !. لقد عرف العلماء بيقين أن الرجل هو الذى يحمل الحيوانات المنوية المذكرة والمؤنثة، وأن المرأة فى هذا المجال قابل لا فاعل، وإن كانت هناك ظروف مكانية وزمانية لا نستطيع شرحها تتدخل فى تغليب أحد النوعين على الآخر.. وقد تمت تجارب لتقليل الحيوانات المؤنثة فى ماء الرجل، كما تمت تجارب لتهيئة ظروف خاصة عند المرأة تميل بالإنجاب إلى أحد النوعين، ولم يصل العلماء إلى نتائج حاسمة بعد، ومازالوا يحاولون... ولا بأس أن ننقل ما تمت مناقشته فى منظمة الصحة العالمية حول التحكم فى جنس الجنين حيواناً كان أم إنساناً. لقد جرت تطبيقات واسعة فى علم الحيوان تمكن فيها العلماء من تحضير كمية كبيرة من السائل المنوى لعدد من الفحول؟ ثم فصل السائل بالتنبيذ إلى قسمين: أحدهما ترجح فيه الحيوانات المنوية المفضية إلى الذكورة، والآخر ترجح فيه الحيوانات المنوية المفضية إلى الأنوثة. وباستعمال أحد القسمين فى التلقيح الاصطناعى لإناث الحيرانات أمكن أن يميل ميزان أحد الجنسين عن النسبة الطبيعية التى تقارب ( ص %) لكل منهما إلى حوالى (70%) فى اتجاه الجنس المطلوب، ولم يتمكن العلم حتى اليوم من الفصل الكامل لنوعى الحيوانات المنوية بعضها عن البعض الآخر لأسباب عديدة ومعقدة. والسؤال المطروح هنا: ما هو موقف الشريعة الإسلامية من تطبيق هذه التقنية على ص _213(1/198)
البشر؟ وهل يجوز أن تلّبى رغبة الزوجين فى تغليب الحصول على جنين ذكرأو العكس، أو أن يتم تغليب أحد الجنسين على الآخر فى طائفة من الناس؟ وبالرغم من وجود صعوبات فى نطاق التطبيق البشرى، وخاصة فى تجميع الكمية الكبيرة من السائل المنوى من الزوج وإجراء التلقيح الاصطناعى بمعرفة الطبيب، وأن يحل هذا محل الجماع الطبيعى الذى تتجلى فيه صفة المودة والرحمة والسكينة والألفة المقصودة لذاتها فى الحياة الزوجية، ومع هذا لا تعتبر هذه التقنية مستحيلة فى التطبيق البشرى مع وجود العقبات وارتفاع التكاليف. ناقش المجتمعون فى الندوة هذا الموضوع، وطرحوا بعض التساؤلات، منها ما إذا كان التحكم فى جنس الجنين يمكن أن يعتبر تدخلاً فى الإرادة الإلهية، وهل يجوز للإنسان أن يتحكم فى عناصر المعادلة التى تغيِّر من نسبة الذكور أو الإناث، وهل يتصادم هذا مع الحس الدينى؟ الواقع أن كل ما يفعل فى هذا الجانب يتم بقدرة الله تعالى ومشيئته، وفى حدود دائرة الأسباب والسنن التى أقام الله عليها هذا الكون ( وما تشاء ون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ). وتمت فى الندوة مداولات متعددة حول هذا الموضوع، وخلصت فى النهاية إلى التوصية التالية: اتفقت وجهة النظر الشرعية على عدم جواز التحكم فى جنس الجنين إذا كان ذلك على مستوى الأمة، أما على المستوى الفردى فإن محاولة تحقيق رغبة الزوجين المشروعة فى أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى بالوسائل الطبية المتاحة، لا مانع منها شرعاً عند أغلب الفقهاء المشاركين فى الندوة، فى حين رأى غيرهم عدم جوازه خشية أن يؤدى ذلك إلى طغيان جنس على آخر. أقول: لو استجبنا لأهواء الناس فى إيثار الذكور وسخرنا الطب لبلوغ ما نشتهى، ص _214(1/199)
ماذا سيقع؟ سيهلك العالم على عجل أو على مُكْث! إننا بدل أن نتقن الهندسة الوراثية يجب أن نتقن هندسة الأخلاق والتقاليد وأن نفقه قول الله تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ". ص _215
الجار له عليك حق لولا أن الخبرنشرته الصحف، وأعقبته تحقيقات دقيقة ما صدقته! امرأة تموت وتبقى جثتها على سريرها بضع سنين ولا يشعر بغيابها أحد من سكان العمارة الكبيرة إلا مصادفة عندما شبت النار فى البيت الواسع ورئى إخراج السكان بسلالم المطافئ..! لقد وجدت رفات المتوفاة هيكلاً عظمياً بالياً هو نهاية المطاف بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال أو صغائرها...!. ما سأل عن المرأة أحد بضع سنين! ما شعر بغيابها جار قريب ولا بعيد! هذا ما صنعته بنا الحضارة الحديثة، لا يعرف أحدٌ أحداً ولا يهتم بشئونه، يمرق كل امرئ من بيته إلى عمله ثم يعود أو لا يعود، وجاره غير مكترث ولا ملتفت... لا العروبة تعرف هذه التقاليد إن كنا عرباً، ولا الإسلام يقبلها إن كنا مسلمين! إن عاهة عفنة أصابت هذه الأمة فأزرت بها وجعلتها أدنى إلى الوحوش منها إلى البشر. فى الجاهلية القديمة كان الجار مسئولاً عن كرامة جاره وعن حمايته، بل كان ذلك مبعث فخره عندما يقول: وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز، وجار الأكثرين ذليل! وفى مواريثنا الإسلامية، أن الجار بقية الأهل من ولد ووالد ونسب وصهر، كما جاء فى الحديث الشريف "مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " أى سيجعل له نصيباً فى تركة الميت !!. ص _216(1/200)
فماذا حدث حتى وجدنا فى أحد البيوت فرحاً وعند جاره ترحا هذا يبكى وهذا يضحك! لا علاقة بين البيتين ولا صلة بين الفريقين.. !. فى مجتمع المدينة المنورة قديماً كان هناك جفاء بين المسلمين واليهود، ولكن حق الجوار غلب الفرقة الدينية روى مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبحتْ له شاة فى أهله، فلمّا جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودى أهديتم لجارنا اليهودى! سمعت رسول الله يقول: " مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وعن أنس قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "والذى نفسى بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره، أو قال لأخيه ما يحب لنفسه ". والواقع أن أقرب طريق إلى تماسك المجتمع كله هو أن يتشبث كل إنسان بجاره، فإن العقد لا ينفرط إذا ارتبطت كل حبة بأختها وهل الأمة إلا مجموعات من الجيران؟ فإذا لزم كل امرئ جاره وغالى به لم يضع أحد فى طول البلاد وعرضها، وفى توثيق هذه العرى جاء فى الحديث: "ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم "! وفى رواية "ليس المؤمن الذى يشبع وجاره جائع "! ترى ما يكون الوصف عندما يموت الجار، فلا يشعر بموته أحد عدة سنين حتى تكتشف جثته مصادفة؟ أى مصيبة تلك؟ إن المصائب الاجتماعية كثيرة فى دنيا الناس، وينبغى أن تتكاثف الجهود لمحوها، ومن أصدق ما أحصى هذه المحن حديث يقول: " ثلاثة من الفواقر، إمام ـ حاكم ـ إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء إن رأى خيراً دفنه وإن رأى شراً أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك " ! نسأل الله السلامة من هذه البلايا. ص _217(1/201)
فنانون تائهون الكلمات الماجنة عندما يغنيها فنان مشهور تفتح باباً واسعاً من أبواب الانحلال والرذيلة! ومن زمان غيرقريب غنى عبد الوهاب أغنية الدنيا "سيجارة وكاس " فكان لها فى النفوس أسوأ وقع، ثم صدر قرار بمنعها!! . ولكن أصوات التغزل فى الخمر لا تزال تسمع! ففى أغنية كيلوباترة يردد الفنان المنتشى مثنى وثلاث " ليلنا خمر"! !. ويصف الحبيب التائه الذى يبحث عنه بأنه " أحمر الجبهة كالخمرة فى النور المذاب ". وقبل أن يموت كامل الشناوى قدَّم لعبد الوهاب أغنيته التى يقول فيها: " قدر أحمق الخطا... وهذا الكلام طبعاً من دلائل الإيمان العميق!!! كما أن من دلائل الإيمان التغنى بكلمات الشاعر المهجرى " جئت، ولا أعرف من أين أتيت؟ ووجدت قدامى طريقا فمضيت! أو كما قال الشاعر التائه! وهو المعنى الذى ردده عبد الوهاب فى آخر أغانيه، باللغة العامية جايين الدنيا ما نعرف ليه؟ ولا رايحين فين ولا عاوزين ايه! ". وإذا كان الفنان المصرى لا يعرف لماذا جاء؟ وماذا عليه أن يفعل؟ فإن الفنانين اليهود يعرفون جيدًا الإجابة على هذه الأسئلة! ويسحقون تحت نعالهم أمانى العرب فى حياة حرة كريمة ويمضون إلى غايتهم وحملة الأقلام الصاحية يشجعونهم.. أما العرب فإن سماسرة الغزو الثقافى يتحركون فى صفاقة نادرة لتشجيع الفن الخليع، وتضليل سعى الأمة الحيرى.. وإذا كان الدفاع عن الإسلام تهمة، فإن حبل الاتهام يجب أن يطول حتى يمكن أن ص _218(1/202)
يختنق به كل داع إلى الشرف والجدّ والحق، وذلك ما يرضى به الضمير العلمانى فى أرجاء الأمة العربية!!. قلت يوماً: ألا يمكن أن يقدم الفن عندنا شيئا يدعم به أبطال الانتفاضة؟ ويحيى به أبطال الجهاد الناجح فى أفغانستان؟ وتصفحت الشعر العربى الحديث فوجدت لبدوى الجبل قصيدة نستطيع بها أن نساند هذا الكفاح، يقول فيها الشاعر: قد استردّ السبايا كلُّ منهزم لم تبق فى أَسْرها إلا سبايانا وما رأيت سياط الظلم دامية إلا رأيت عليها لحم أسرانا! ولا نموت على حدِّ الظبا أنفاً حتى لقد خجلت منا منايانا! الشعر يحتاج إلى مغن رجل، ولا أقصد بالرجولة الذكورة، بل أقصد فحولة الأخلاق وصلابة المعدن وشراسة المقاومة إلى آخر رمق. فهل لدينا فى الميدان الفنى رجال من هذا الصنف؟ وإذا غنته امرأة جادة الأداء مجروحة الكبد لهزائم قومها فهل نجد واحدة تصلح لذلك العمل، أم لا نقع إلا على باكية تهجر الحبيب متأوهة لصده الطويل! !. إن الميدان الفنى فى العالم العربى خبيث التربة، مختل الموازين! إلا من عصم الله.. والغريب أن يحدوه فى طريقه الزائغ حملة أقلام تحالفوا مع الشيطان على حرب الإسلام ونسيان الله والشغب على كل جديد نقىّ، وعلى كل قديم زكىّ، لأنهم تحت عنوان العلمانية يتآمرون على قتل أمة، تنشد الحياة فى ظلال الإيمان والتقوى، بعيداً عن الإلحاد والعهر .(1/203)