قرة العيون
في الكلام على إنَّ بكسر الهمزة
وتشديد النون
تأليف
العلامة الشيخ
عبدالباسط السنديوني
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
المؤلف :
الشيخ عبد الباسط السنديوني (1) ، الشافعي ، الأزهري ، المصري ، تفقه على أشياخ العصر المتقدمين ، وهو جواد علم لا يكبو، قد سبق في ميدان التقدم أقرانه، وبذل فيما يعود نفعه الرغائب، وعمت فضائله الحاضر والغائب، لم يترك طريقاً من طرق الإسعاد إلا سلكه، ولا وجهاً من وجوه الاجتهاد إلا استدركه، وأربا على من سبقه من الأوائل، وامتد صيت ثنائه في العشائر والقبائل.
قال الإمام الجبرتي : قد أجازه أكابر المحدثين، ولازم الشيخ محمد الدفري ، وبه تخرج في الفقه وغيره، وأنجب ودرس ، وأفاد وأفتى في حياة شيوخه، وكان حسن الإلقاء جيد الحافظة، يملي دروسه على ظهر قلبه، وحافظته عجيبة الاستحضار للفروع الفقهية والعقلية والنقلية، إلى أن قال: إنه كان قليل الورع عن بعض سفاسف الأمور، وبذلك قلت وجاهته بين نظرائه.
توفي رحمه الله تعالى في أول جمادى الآخرة سنة إحدى ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن في تربة المجاورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
__________
(1) انظر ترجمته : عبد الرزاق البيطار : حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر ، ص 1600 ـ 1601/ الموسوعة الشعرية . والجبرتي : تاريخ عجائب الآثار 2/ 35 ـ 36(1/1)
الحمد لله رب العالمين ، الذي أنَّ من بديع صنعه كل حيوان وطير ، ومّنَّ على عباده بمن يفصل بينهم الخصومات ، وجعله صدرا لحلال المعضلات والمشكلات ، واشهد أنْ لا إله ألا الله الذي أبدع الأرض والسموات ، وزين الأُولى بالعلماء ، كما زين السماء بالكواكب النيِّرات , والصلاة والسلام على من هو ضِئضِئَة (1) المكونات ، محمد المبعوث بالآيات الواضحات ، وعلى آله وأصحابه الذين داموا على فعل الخيرات ، واجتناب المنكرات ، صلاة وسلاما متَّصفين بالدوام ألى يوم تُحاسب فيه الخلائق ، وتتفاوت فيه الدرجات ، أمَّا بعد ....
__________
(1) يقال هو من ضئضيء معد: من أصلهم. وفي خطبة أبي طالب: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضيء معدّ وعنصر مضر. وفي الحديث "يخرج من ضئضيء هذا قوم يمرقون من الدّين". أساس البلاغة ( ضاضا)(1/2)
فيقول المفتقر إلى ألطاف ربه الخفية (1) ، التي تُدفع بها البلايا ، وتُنال بها المقامات العلية ، عبد الباسط السنديوني ، المحتاج إلى عفو مَنْ أمرُهُ بالكاف والنون ، أنَّ القطب الرباني ، والهيكل الصمداني مَنْ مَنَّ الله بوجوده على العباد ، وجعله صدرا لهدايتهم إلى طرق الرشاد ، إمام المحققين ، وخاتمة المدققين ، ومحيى سنة سيد المرسَلين ، ومظهرها في العالمين ، سامي القدرة والذكر، مولانا وعمدتنا الشمس الدفري (2) ،
__________
(1) كتبت : المفتقر إلى ربه الخفية ، وما أثبتناه ، أقرب إلى الصواب .
(2) هو عمر بن عمر الزهري الدفري الحنفي القاهري الإمام العالم العلامة كان إماماً جليلاً عارفاً نبيلاً له المهارة الكلية في فقه أبي حنيفة وزيادة اطلاع على النقول ومشاركة جيدة في علوم العربية أخذ الفقه عن الشمس المحبي وعبد الله النحريري وعبد الله المسيري الشهير بابن الذيب وعبد القادر الطوري وبقية العلوم عن البرهان اللقاني وأجازه جل شيوخه وتصدر للإقراء بجامع الأزهر وانتفع به خلق لا يحصون وكان مشهوراً بالبركة لمن يقرأ عليه صالحاً عفيفاً حسن المذاكرة حلو الصحبة ومن غريب ما أنفقه له أنه كف بصره نحو عشرين سنة ثم من الله عليه بعود بصره إليه من غير علاج إلى أن توفاه الله تعالى ومن مؤلفاته الدرة المنيفة في فقه أبي حنيفة وشرحها شرحاً نفيساً في مجلد أقرأه مرات عديدة بجامع الأزهر وعم النفع به وكانت وفاته بمصر في تسع وسبعين وألف ودفن بتربة المجاورين وقد جاوز الثمانين. خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 3/220(1/3)
فسح الله في مدته، ونفع المسلمين ببركته حين جلست معه عند الحضرة العليّة ، والطلعة السنية / مفيض 2ب أنواع العدل والإحسان ، مولانا الأمير عثمان جاني بيك خاني ، خلد الله ملكه وسلطانه ، وأعلى كلمته وشانه ، ونصر جيشه وأعوانه ، في دولة دائمة ، وسلطانه وسلطنته قائمة ، وقدر منيع ، وشأن رفيع ، لا زال الكبير بين يديه صغيرا ، ومطلَق القيد في حفرته أسيرا ، ولا زال ملاذا للخلائق أجمعين ، ولا برحت الأمراء لأمره منقادين ، متّع الله بساحة حلمه الأنام ، وحفظه في سائر الأوقات والأيام ، أدام الله عظمته بين الأنام مشهورة ، وعطياته على الخلائق منثورة ، وفسح في مدته ، وأفاض عليه سجال رحمته ، وأيده تأييدا عظيما ، ونصره نصرا عزيزا ، آمين ، آمين ، آمين ,
وقد كان رجل من الفقهاء بالمجلس ،وسأله الأمير عن إعراب إنّ الماءُ في الحوض بكسر الهمزة ، وتشديد النون ، ورفع الماء ، فلم يجبه ، أردت أنْ أُلخِّص له ما قاله الناس في هذا المقام ، وأزيد عليه بعضا من الأحكام المناسبة للمرام ، على وجه سهل ، عذب الألفاظ ، واضح العبرات ، قريب على المبتدئ حفظه ، وعلى المنتهي فهمه ، واللهَ الكريم أسأل أنْ ينفع به ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، والآن أشرع في المقصود ، بعون الملك المعبود ، وبه أفتتح المقول ، وباسمه أبتدئ فأقول :
أصل الكلام على أَنَّ بفتح الهمزة ، وتشديد / النون ، باختصار أنْ تقول : تارة 3أ تستعمل حرفا ، وتارة تُستعمل فعلا لازما ،لا ينصب المفعول به ، وتارة تُستعمل فعلا متعديا ينصب مفعولا به فقط ، فمثال استعمالها حرفا ، وهو المشهور فيها ، قولك : علمتُ أنّ الله راحم .(1/4)
اعلم قبل إعراب هذا المثال أنّ علم كبقية أخواته يحتاج إلى مبتدأ وخبر ينسخها عن حكمها الأصلي ،وينصبها على أنْ يكونا مفعولين به ، وهذا اصطلاح النحاة ، وإنَّ أَنَّ المفتوحة الهمزة كبقية أخواتها ، تحتاج أيضا لمبتدأ وخبر، تدخل عليهما فتنسخهما عن حكمهما الأصلي ، وتنصب المبتدأ ، ويُسمّى اسما لها ، وترفع الخبر ، ويُسمّى خبرا لها ، وهذا اصطلاح للنحاة أيضا ، إذا علمت ذلك فإعراب هذا المثال أنْ تقول :
علم ... : من قولك علمتُ فعل ماض ، مبني على فتح مقدَّر على آخره ، منع من ظهوره السكون العارض ؛ كراهة توالي أربع متحركات ، فيما هو كالكلمة الواحدة ، وإنما قلنا مبني على فتح مقدر على آخره ؛ لأن الفعل الماضي مفتوح الآخر دائما ، إمَّا لفظا ،مثل : جاءَ ، وقامَ ، وضربَ ، وعلمَ ، وفهمَ ، وإمَّا تقديرا مثل : دعا ، ورمى ، فهذه أفعال ماضية مفتوحة الآخر، فإذا عرض ما يوجب تسكين آخره ، كهذا المثال ، يقال مبني على فتح مقدّر ، إلى آخره ، كما تقدم .
والتاء ... : من علمتُ ضمير المتكلم فاعل في محل رفع ، أي في محل اسم معرب ، لو كان مذكورا بعد علم ؛ لكان مرفوعا / وقوله : ... ... ... ... ... 3ب
أنَّ الله ... : إلى آخره ، لفظ أنّ فيه حرف توكيد ونصب ورفع ، أمَّا كونها حرف توكيد فلأنها تدل على توكيد الحكم ، وتثبيته ، وأمَّا كونها حرف نصب ورفع فلما تقدم مِن أنها تنصب الاسم ،وترفع الخبر ، ولفظ الجلالة في مثالنا اسمها منصوب بها ، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره .
وراحم ... : خبرها مرفوع بها ، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره ، وراحم اسم فاعل ، يعمل عمل الفعل الذي اشتُقَّ منه ؛ بناءً على أنّ الوصف مشتقٌ من الفعل ، وهومردود ، والحق أنّ الوصف والفعل كلاهما مشتق من المصدر ، قال ابن مالك في ألفيته :
وَكَوْنُهُ أَصْلاً لِهَذيْنِ انْتُخِبْ (1)
__________
(1) عجز البيت ، وصدره : بمثله أو فعلٍ أو وصفٍ نُصِب(1/5)
وعلى هذا يكون عمل اسم الفاعل بطريق المشابهة للفعل ، أعني المضارع في حركاته وسكناته لفظا ،نحو ضارب ، فإنه موافق ليضرب في الحركات والسكنات ، أوتقديرا نحو قائم ، فإنه موافق ليقوم في الحركات والسكنات تقديرا ، فإنّ يقوم أصله يقْوُم ، بسكون القاف ، وضم الواو ، ونقلت حركة الواو ، وهي الضمة للساكن قبلها ، وهو القاف ، ومن أجل كون عمله بطريق المشابهة للفعل المضارع، اشترط كونه بمعنى الحال والاستقبال ؛لأنهما مدلولان له ، أعني الفعل المضارع ، قال ابن مالك في ألفيته :
كَفِعْلِهِ اسمُ فاعِلٍ في العَمَلِ ... إنْ كانَ عَنْ مِضِيِّهِ بِمَعْزِلِ
/ ... وفي هذا كلام طويل الذيل ، إذا عرفت هذا ،علمتَ أنَّ فاعل راحم ضمير مستتر4أ فيه جوازا عائد على الله في محل رفع ، والمفعول به محذوف ؛ قصدا للعموم ، تقديره : راحم الخلقَ ، فجملة أَنَّ واسمها وخبرها في محل نصب قائم مقام مفعُولَيْ علم ، وقد يكون مفعولاه منصوبين لفظا ، نحو قولك : علمتُ اللهَ غفورا رحيما ، فالله مفعول أول ، وهو منصوب ، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره ، وغفورا مفعول ثانٍ منصوب، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره ، ورحيما صفة لغفوراً ، وصفة المنصوب منصوب ، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره ، أو أنه مفعول بعد مفعول ،انتهى .(1/6)
تنبيه : قيل إِنَّ أَنَّ المفتوحة فرع المكسورة ، وهو الصحيح، وذلك أنها ، أعني المكسورة ، تستغني في الإفادة بمعموليها عن ضمِّ شيء إليها ، فإنك إذا قلت : إنَّ اللهَ كريم بكسر الهمزة حَسُن السكوت ، وفُهِم المراد،بخلاف المفتوحة ، فإنه لا يتم المعنى بمجرد ذكرها مع معموليها ، بل لا بدَّ أنْ تضمَّ إليها شيئا ، فلا تقول :أَنَّ زيدا قائم ، بفتح الهمز ، من غيرأنْ تذكر عاملا فيها مع معموليها ، بل تقول : علمتُ أَنَّ زيداً كريمٌ ،أو ظننتُ ، أو نحو ذلك ، فتبيّن من هذا أََنَّ إِنَّ المكسورة بمنزلة المُركَّب ، والمفتوحة بمنزلة المفرد ، وهوظاهر ، وقيل المفتوحة أصل المكسورة ؛ لأنَّ المفرد أصل / المركب ، وقيل كلٌّ منهما أصل مستقل ؛ وذلك لأنَّ للمكسورة مواضع4 ب مخصوصة تقع فيها دون المفتوحة ، وكذلك للمفتوحة مواضع تقع فيها دون المكسورة ، فمثال ما تقع فيه المفتوحة دون المكسورة قولك : أعتقد أنَّ زيدا كريمٌ ، وكذا المثال المتقدم ، ومثال ما تقع فيه المكسورة دون المفتوحة قوله : زرتُ زيداً وإِني مخلصٌ ، فيتعيّن كسر همزة إنّ ؛ لأنَّ جملة وإني مخلص حال ، وجملة الحال من المواضع التي يجب فيها كسر إنَّ ، فتأمل ، انتهى .(1/7)
... وما تقدّم مِن أنَّ إنّ وأخواتها تنصب الاسم ، وترفع الخبر هو اللغة المشهورة ، وحكى قوم منهم ابن سيده (1) أنّ طائفة من العرب تنصب بها الجزئين معا ، قال (2) الشاعر (3) :
... ... إذا أسودَّ جُنحُ الليلِ فلتأتِ ولتكُنْ خُطاك خِفافاً إنَّ حُرَّاسَنا أسدا
فالشاهد في حراسنا وأسدا ،حيث نصبهما بإنّ ، فإن أردت إعرابه على هذا اللغز ، تقول :
إِنّ ... : حرف توكيد ونصب .
وحراس ... : اسمها منصوب بها ، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره ، وحراس مضاف .
ونا ... : مضاف إليه في محل جرٍّ ،أي في محل اسم معرب ، لو كان مذكورا ؛ لكان مجرورا.
واسدا ... : خبرها منصوب بها ، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره .
__________
(1) ابن سِيْدَه : الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المُرْسي؛ كان إماماً في اللغة والعربية حافظاً لهما وقد جمع في ذلك جموعاً، من ذلك كتاب " المحكم " في اللغة، وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب " المخصص " في اللغة أيضاً وهو كبير، وكتاب " الأنيق " في شرح الحماسة في ست مجلدات، وغير ذلك من المصنفات النافعة. وكان ضريراً، وأبوه ضريراً، وكان أبوه أيضاً قيماً بعلم اللغة، وعليه اشتغل ولده في أول أمره، وكان له في الشعر حظ وتصرف. وتوفي بحضرة دانية عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره ستون سنة أو نحوها. وقيل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، والأول أصح وأشهر. والمرسي : نسبة إلى مرسية، وهي مدينة في شرق الأندلس. ودانية: مدينة في شرق الأندلس أيضاً. وفيات الأعيان 3/330
(2) كتبت : قول الشاعر .
(3) من الطويل ، انظر خزانة الأدب 10/ 242 اً. وجاء هذا البيت ضمن أبيات في سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر ، منسوبا إلى عبد اللطيف بن علي الأطلسي ، ص 2306 / الموسوعة الشعرية .(1/8)
... واستدلوا على نصب بقية أخوات إنَّ الجزئين بأدلة مذكورة /في المطولات ، لكنْ 5أ ردّها الجمهور، وأوَّلوها بتأويلات، فأوَّلوا هذا البيت بأن اسداً ليس خبر إنّ، بل هوحال، والعامل فيه محذوف ،والتقدير : حراسنا تلقاهم أُسدا (1) ، أي تلقاهم في حال كونهم أسدا ، وهذا التأويل أولى من غيره ، وقيل إنّ أسدا خبر لتكون محذوفا ، واسم تكون حينئذ ضمير عائد على الحرّاس ، في محل رفع ، وعلى كلِّ من هذين التأوياين فالجملة في محل رفع خبر إنّ ، فتأمّل ، وافهم ، وراجع كتب النحو تعلم .
فائدة ... : عمل إنَّ وأخواتها بطريق القياس على كان وأخواتها ؛لأنّ إنّ وأخواتها تنصب الاسم ،وترفع الخبر ، وكان وأخواتها ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، وإنما عملت عملها مقلوبا ومعكوسا ؛ تنبيها على الفرعية ؛ لأنّ شأن الفرع أن يكون أحطَّ درجة من أصله ، وعملت ، أعني إنّ وأخواتها ، عمل الفعل لتضمنها بعض مدلوله ، وذلك لأنّ إنّ مثلاً تفيد التأكيد المستفاد من أكَّد ، وقس على ذلك الباقي ، هذا الذي تقدّم في استعمالها حرفا .
__________
(1) انظر خزانة الأدب 10 /242(1/9)
ومثال استعمالها فعلا لازما ، لا ينصب شيئا قولهم : أَنَّ الرجلُ ، بفتح همزة أَنَّ ، ورفع الرجل ، فأَنَّ على وزن قَرَّ بمعنى صَوَّتَ ، وهو فعل ماض مبني على فتح ظاهر في آخره ، ومضارعه يَئِنُّ بالكسر ، على وزن يَقِرُّ ، بمعنى يصوِّت ، ومصدره الأنين ، بفتح الهمزة ، والأُنان / بضمها ، تقول : أَنَّ الرجلُ أنيناً وأُنانا ، كنعب الغراب نعيبا 5 ب ونُعابا ، بمعنى صوت ، وإنما كان مصدره الأنين ،والأُنان ؛ لأنّ الفعل الثلاثي إذا كان مفتوح العين ، وكان لازماً ، قياس مصدره الفُعول ، كغدا غدوة ، وقعد قعودا ، وجلس جلوسا ، ما لم يكن مقتضيا ، وطالبا وزنا من أوزان أربعة ، أعني فِعالاً بكسر الفاء ،وفتح العين ، وفَعَلانا ، بفتح الفاء والعين ، أو فُعالا ، بضم الفاء ، أو فعيلا ، فإن اقتضى وزنا من هذه الأوزان الأربعة ، امتنع الوزن الأول ، أعني فُعولا ، قال ابن مالك في ألفيته :
وفَعَلَ اللازِمُ مِثْلُ قَعَدا له فُعُولّ باطرّادٍ كَغَدا
ما لَمْ يَكُنْ مُسْتَوجِبا ً فِعالا ً أو فَعَلاناً فادْرِ أو فُعالا
قال العلامة الأشموني شارح كلامه (1) : أو فعيلاً ، وأو في كلامه مانعة خلو ، فيجوزالجمع بين وزنين من هذه الأوزان الأربعة ، وانفراد بعضها عن بعض ، فمثال ما اجتمع فيه الوزنان ما نحن فيه ، ونحو: نعب الغراب نعيبا ونُعابا ، ونهق الحمار نهيقا ونُهاقا ،ومثال ما انفرد فيه فعيل عن فعال : صهل الفرس صهيلاً ، ورحل الرجل رحيلاً ، وذمل الحمار ذميلاً ، فلا يُقال : صُهالاً ،ولا رُحالاً ، ولا ذُمالاً ، ومثال ما انفرد فيه فعال عن فعيل : سعل سُعالاً ، وضبح الثعلب ضُباحا ، بمعنى صوّت ، فلا يقال : سعيلا ، ولا ضبيحا ، قال ذلك الأشموني / مع زيادة توضيح . ... ... ... ... ... 6 أ
ومثال استعمالها فعلا متعديا ، ينصب مفعولا به فقط ن قولهم : أَنَّ زيدٌ الماءَ :
__________
(1) شرح الأشموني 1/ 566 ـ 567(1/10)
فأنّ ... : بفتح الهمزة كصبَّ وزناً ومعنى ، وهو فعل ماضٍ ، مبني على فتح ظاهر في آخره.
وزيدٌ ... : فاعل ، وهومرفوع ، وعلامى رفعه ضمة ظاهرة في آخره .
والماءَ : مفعول به منصوب ، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره .
... فتلخّص من هذا أنه إنْ كان بمعنى صوَّت كان لازما ، وإنْ كان بمعنى صبّ كان متعديا ، وسمع من كلام بعض العرب أنّ الماء بكسر همزة إنَّ ، وتشديد نونها ، ورفع الماء كما وقع في سؤال هذا الأمير ، على أنه نائب الفاعل المحذوف ، لأنّ إنّ حينئذ مبني لما لم يُسم فاعله ، وأصله إنّ زيدٌ الماءَ مثلا ، فحذف الفاعل في مثالنا ، وهو زيد ، وأُقيم المفعول به وهو الماء مقامه ، فارتفع ارتفاعه ؛ لأنّ ما قام مقام شيء يُعطى حكمه ، وصار الفعل ، أعني إنّ ، مبنيا لما لم يُسم فاعله ، والقياس حينئذ ضم أوله ؛ لأن الفعل إذا أُريد بناؤه للمجهول يُضمُّ أوله مطلقا ، سواء كان فعلا ماضيا ، أو مضارعا ، ويُكسر ما قبل آخره إنْ كان ماضيا ، قال ابن مالك في باب النائب عن الفاعل :
... فأوّلُ الفعلِ اضْمِمَنْ والمتَّصل بالآخرِ اكْسِرْ في مضيّ ٍ كوصل
/ لكن كسر العرب أوَّله في المثال المتقدّم ونحوه لأمور : ... ... ... ... 6ب
الأمر الأول : كمن أصله أُنِنَ الماء ، بضم الهمزة ، وكسر النون ، وفتح الثانية ، فنقلت
... حركة النون الأولى وهي الكسرة للهمزة ، بعد سلبها حركتها ،وهي الضمة وحينئذ اجتمع مثلان ، فأُدغم أحدهما في الآخر ، فصار التركيب :إنّ الماء .(1/11)
الأمر الثاني ... : أنّ هذا لغتهم ، وبلغتهم قُرئ شاذا قوله تعالى : [وَلَوْ رِدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ] (1) بكسر الراء ، كما قرره أستاذنا خاتم المحققين (2) .
الأمر الثالث ... : أنهم قصدوا بذلك التعمية على مَنْ لمْ يخُض في كلام النحاة ،ولم يتتبع كلامهم ، وهذا الوجه الثالث لا يظهر ؛لأن العرب تكلموا به هكذا ، لكون طبيعتهم ، وجبلّتهم مجبولة على ذلك ، فتعين الأمر الأول والثاني ، كما هوواضح لأرباب الرواية .
ومضارع هذا الفعل يَؤنُّ بضم الهمزة كيَصُبُّ وزنا ومعنى ، ومصدره الأَنُّ كالصَّب وزنا ومعنى ، وإنما كان مصدره الأَنّ ؛ لأنَّ قياس مصدر الفعل الثلاثي المتعدي الفَعْل ، قال ابن مالك في ألفيته :
... فَعْلٌ قِياسُ مَصْدَرِ المُعَدَّى مِنْ ذِي ثَلاثَةٍ كَرَدَّ رَدَّا
قوله : قياس مصدر المُعدّى ، أي قياس مصدر الفعل/ المتعدي ، قال العلامة الأشموني (3) : 7
سواء كان مفتوح العين كرَد ردّاً ، وأكل أكلاً ، وضرب ضربا ، أومكسورها كشرِب شربا ، ولقِم لقماً ، وفَهِم فهما .
قاعدة نفيسة :إذا اجتمع مثلان مُتحركان ، سكنَ أولهما ، ويُدغم في الثاني ، إذا تأملت تلك القاعدة علمت أنّ أصل أَنَّ أَنَنَ ،اجتمع مثلان متحركان ، سكن (4) أولهما ، وأُدغم في الثاني ، انتهى .
__________
(1) الأنعام 28 ، والقراءة بكسر الراء قراءة أبي العباس الحسن بن سعيد بن جعفر المطوعي ، والوجه أن الأصل رُدِدوا بكسر الدال الأولى ، فنقلت حركتها إلى الراء ، وأُدغمت في الدال بعدها . انظر : عبد الفتاح القاضي ، القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب ، ص 45 ( مطبوع مع البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترى ) .
(2) يعني الزهري الدفري الحنفي ، وقد سبقت ترجمته .
(3) شرح الأشموني 1/566
(4) سكن ساقطة من الأصل .(1/12)
فائدة : لا يُبنى الفعل للمجهول إلاّ إذا كان متعدياً ؛ خلافا لظاهر عبارات كثيرة ، وقعت في الأشموني، وفي هذا المقام كلام طويل، لا ينبغي ذكره هنا ؛ قصدا لنفع الميتدي .
وهذا نهاية ما به اغتنينا ، على الوجه الذي ابتدينا ، والله المفوّض لعلم الصواب وإليه المرجع والمآب ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، آمين .
وقع الفراغ على يدكاتبها الفقير إلى الله تعالى ،
السيدمحمد البكري الصِّدِّيقي نسباً ،سبط آل
الحسن حسباً ، وذلك الفراغ في زوال
اليوم السادس من ثاني ثالث
الثاني من ثامن تاسع
الثاني عاشر (1)
من الهجرة النبوية
على صاحبها
أفضل
الصلاة
__________
(1) كتب في الحاشية : لعل المراد 21 رمضان سنة 1188 ، لأن الحادي والعشرين من رمضان هو السادس من النصف الثاني من الشهر الثالث من نصف السنة الثلني من السنة الثامنة من العُشر التاسع من المائة الثانية عشر من هجرته صلى الله عليه وسلم .(1/13)