قراءات
في الأدب والنقد
دراسة
الدكتور: شجاع مسلم العاني
قراءات
في الأدب والنقد
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
الإنترنت ... : Internet : aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.com
((
مقدمة
بقلم : علي بدر
هناك جاذبية ما، جاذبية تذكر في كل الأعمال النقدية التي كتبها د. شجاع مسلم العاني، ليس في حدتها النقدية الباهرة، أو في تمييزها الفائض المعنى بين النص وعملية إنتاجه، وليس في عباراته الصافية التي تتمسك بجاذبية لا تنكر وحسب، إنما في تمييزها الضروري بين المنهج بوصفه فكرة تجريدية ذات نزعات كليانية، والعملية النقدية بوصفها واقعة تجريبية، بين علموية النقد وشموليته وبين الحالية التي تتجاوز فقره وجفافه، وهي الوسائل الإجرائية التي تتعدى التعسف الكلامي نحو العلاقات الكائنة في النص، نحو كلية تبحث عن توازن أمثل بين الوقائع النصية والمؤثرات الخارجية.(1/1)
في الواقع، لم تكن هذه الخصائص المميزة التي طبعت أعماله المتأخرة، رواسب علقت بوسائله الإجرائية بسبب ممارسته المنظمة للنقد التقليدي (الأكاديمي)، أو النقد السوسيولوجي، أو السايكولوجي، وهي الأعمال النقدية التي ظهرت قبل اندلاع موجة النقد البنيوي في بغداد، أواسط الثمانينات، إنما كان ثمة وعياً حاضراً على الدوام في ذهنه للربط والتأسيس (والمزج في واقع الحال) بين مختلف المناهج، وهي النظرة اليوتوبية لقرن عدة مقاربات نظرية، وبمقادير مختلفة للاقتراب من روح النص، وكان بحثه يشكل نوعاً من الإصرار على تدشين جو من القرابة بين التنويعات النقدية المختلفة، والاعتناء بالتأويل الدلالي الظاهر للنصوص، وإن كان لديه ابتعاد واضح عن الأجهزة الاصطلاحية التي تقترب من العلوم الصرفة، كانت لديه قرابة من البداهة الحسية، قرابة من التجربة الحياتية، وميل واضح من المعرفة العامة، وتركيز جلي على التجربة الذاتية التي تشكل العلاقات الإنسانية روحها وجوهرها.
لقد كان ثمة ملائمة واضحة بين التنظيم الداخلي للنص، وبين حدوده الفلسفية والتخييلية، لذا كانت الموازنة على الدوام مقلقة، موازنة مخيفة، وكان الاختيار الحاسم للموقف، لا يتم في تتبع العلامات الدالة وحسب، إنما من خلال تشبهها بالعلاقات المزدوجة للدلالة، من خلال تشابهها السحري مع العالم، وهو من -وجهة نظري- نتاج (من بين نتاجات مختلفة) للمشروع الرومانطيقي الذي طبع مسيرة النقد العراقي على مدى قرن كامل (منذ صدور أول تعليق نقدي في مجلة خردلة العلوم أوائل هذا القرن، إلى يومنا هذا) لقد ظل هذا الاختيار اختياراً ملزماً وتذكيراً على نحو ملموس باليوتوبيا التي طبعت مسيرة النقد العراقي منذ نشأته، والإصرار الملحف على الوظيفة الاجتماعية، واندراج النص في التاريخ، وإلزام القيم المطلقة وهو الإلزام الأخلاقي الذي عده النقاد العراقيون دون استثناء أساساً للإلزام الجمالي.(1/2)
لقد كانت هذه النزعة الرومانطيقية حاضرة دون حدود، والازدواج الملزم الذي شارك في تعيين الأحكام وإطلاقها حاضراً دون حدود، والفن الخاضع للنظر الأخلاقي والواقعة التواصلية (بوصفه علاقة بين مرسل ومستقبل) حاضرة دون حدود، والفعل الاجتماعي للفن كان يحذف بشكل حاسم الآفاق المستقلة للنص والطابع المحايث لإنتاجه، لذا كان اختفاء الإحساس بالمظهر الصوتي أو المظهر التلفظي نتيجة طبيعية للغائية الخارجية (وهي غائية أيديولوجية على الدوام) والتي تحدد قيمة العمل الأدبي، ووسائل بلوغه وتعيينه طبقاً إلى نظر مسبق. وحتى المظهر الدلالي الذي كان النقد يعنى به (بوصفه تفسيراً للمضمون) لم يكن يتحدد بانتظام المعنى وتركيبه إنما بتفسيره طبقاً لأيديولوجيا مقترحة قبل عملية إنتاج النص وخلقه.
لذلك جابه ظهور النقد النصي (النقد الذي يلتزم بالنص ولا يتعداه) نوعاً من الارتيابية المنكرة والعبارات الغامضة لشله، وكان هنالك على الدوام محاولات تشي بمنع غير معلن، وطعن أخلاقي، وتهميش مفضوح، وعزل قسري، لكن الإعجاب الصامت والمشدوه، والتقليد المنتحل -على فقره وجموده- كرس هذا الحضور، الحضور الفعلي والممتلئ لافتتان غريب بكتابة أصبحت الآن صيغة وحيدة ومطلقة في النقد العراقي الراهن، ووصل النقد الذي جابهها إلى نتائج صادمة وفاضحة.(1/3)
لقد كان لتجاوز مجموعة من النقاد العراقيين (شجاع مسلم العاني، فاضل ثامر، مالك المطلبي، حاتم الصقر، باقر محمد جاسم وغيرهم من الجيل السابق) وذلك بتبنيهم بعض هذه المقاربات الحديثة، وإفادتهم (ولو على نحو مجزوء) من الأجهزة المفاهيمية التي دشنتها البنيوية، والسيميولوجيا، وعلم الدلالة، وتطبيقها على نحو واسع في مجالات الأدب العراقي، كان له الدور الأكبر في منح الجيل اللاحق نوعاً من الشرعية، ودفعهم إلى تبني هذه المناهج والتزامها وأفضى (وإن بشكل مختلس) إلى منح هذه المقاربات نوعاً من الصلاحية والملائمة التي أدت إلى انتشارها وتداولها. لقد وقف النقد العراقي التقليدي أواسط الثمانينات، في واقع الأمر، مندهشاً أمام الموجة التي تجاوزته بما لا يقاس، موجة النقد الجديد القادمة من بلدان المغرب العربي في مجالات شتى، وبدراسات تستخدم لغة حديثة، ونظراً طرائقياً حديثاً، ومصطلحاً وتركيباً، كان غريباً وجذاباً في آن واحد، على النخبة العراقية المثقفة، وكانت الدعوة لتبنيها شبيهة بالدعوة التي أطلقتها النخبة العراقية (وهم جمهور الأفندية في الربع الأول من القرن العشرين) لتبني دعوة (الأدب العصري) التي جاءتهم بها مجلات المقتطف والهلال والمقطم من القاهرة، ومثلما كان النقد العراقي أوانذاك منشغلاً بالشروح الفقهية، ودائرة التأليفات اللغوية كان في الثمانينات منشغلاً بالمقاربات السيوسيوتاريخية، والأيديولوجية، والماركسية، والوجودية، ومثلما كان المثقفون في المراكز العلمية والدينية (في النجف، والحيدرخانة) منشغلين بالأيديولوجيا المؤسسة للنصوص، كان النقد في العراق يتبنى بشكل جذري التحليل المضموني للنصوص، وهو النقد الذي يستجيب لحاجات أيديولوجية وأخلاقية أكثر من استجاباته إلى الحاجات الفنية والتقنية والجمالية.(1/4)
في الواقع كان تأخر تبني المقاربات الحديثة في الثقافة العراقية، وتلكؤ دخولها إلى هذا الثقافة يستجيب لجملة عوامل، وعناصر تاريخية، ومحددات سوسيوثقافية، وبالإجمال كانت تستجيب لعوائق ابتسمولوجية تخص نشأة الثقافة العراقية وخصائص بنائها ومميزات مشروعها منذ العشرينات من هذا القرن، وكانت تستجيب للسمات التمييزية للخطاب المؤسس والمكون للبنية الفكرية والثقافية للانتلجنسيا العراقية، أكثر من استجابتها للمحددات، والعوامل الخارجية الطارئة الخاصة بعقد الثمانينيات في العراق والظروف الخاصة بالحرب (كما حدد ذلك بعض المثقفين العراقيين في تصديهم لنشأة النقد النصي في العراق) وسنحاول أن نجمل هذه العوامل، والعناصر بعاملين اثنين، ساهما على نحو سياقي متماسك ومتجانس، بممارسة نوع من الاحتراز إزاء النظريات البنيوية، والسيميائية واللسانية والارتياب بها، وساعد على استبعادها على نحو منظم ومدروس. وفرض عليها نوعاً من الخرس التام.
أولاً: في الواقع كان هنالك في الثقافة العربية المعاصرة، على الدوام، مراكز مولدة للثقافة، مراكز مرحلة، ومنتجة، ومراكز باعثة، ومانحة، ومزودة، تمارس على نحو مزدوج نوعاً من الاتصال المقلق للثقافة الغربية، ومن ثم القيام بإعادة إنتاجها وترحيلها إلى الثقافة العربية، وترافق هذه العملية، بصورة جلية، نتائج مزعزعة، ومصائر للثقافة خطيرة وصادمة، تظهر بين آن وآخر، مثل انفجار خطابي مهدد، للاحتراس من الخلفية الأيديولوجية التي ترافق هذا المسعى، فتحاول إنتاج الخطاب الثقافي (المعزول عن الخطاب السياسي) وذلك ببلورة نظام خاص، ووعي حرفي معزول عن المشروع الأيديولوجي المتميز الذي أنتجه.(1/5)
وقد ساهم هذا المسعى بتطور خلاق للسوسيوثقافي العربي، وإنتاج خطاب معزول عن الخطاب الأول، خطاب خاضع لمشكلاته، خاضع لعلاقاته، ولانتظامه الداخلي حيث ترافق هذه العملية نقل طرائق الإنتاج الأدبي، والفكري، والفلسفي العربي بواسطة الترجمات، والمبعوثين، وإعادة الإنتاج الغربي داخل الثقافة العربية، لقد كان لهذه التمثيلات الخطابية الثقافية، تركيز أكبر على ذاتها، وذلك بسبب خضوع صلتها مع ثقافة الآخر إلى التداعيات السياسية والأيديولوجية، وبسبب اقترانها بعلاقة صراع وإخضاع، مع المنتج الأصلي ولذلك عمدت على إخضاع العلاقة المباشرة بين الخطاب الأيديولوجي الحقيقي الذي ساهم بنشأتها وظهورها، وهي الشبكة الخطابية التي تربط بين خطاب القوة والسلطة (على حد تعبير إدورد سعيد) وبين حقول المعرفة الخالصة، الحقول العلمية التي تتمظهر بشكل مستقل عن لحظة الإنتاج الحقيقية، والغائية المباشرة لهذا الإنتاج، وفي الواقع لم تكن بغداد يوماً من الأيام (إلا إذا استثنينا موجة الشعر الحر) واحدة من هذه المراكز المولدة للثقافة العربية، إنما كانت تستقبل الثقافة القادمة من المراكز الثقافية العربية، وتعيد إنتاجها بشكل ممتاز، هذه المراكز التي كانت على التعاقب (القاهرة، بيروت، الرباط).
لقد كانت القاهرة منذ القرن التاسع عشر حتى أواسط الخمسينيات، هي متروبول الثقافة العربية بلا منازع، وكانت تقوم بدور الوسيط بين ثقافتين -الغربية والعربية- ففي القاهرة يتم منذ ذاك الحين إنتاج الثقافة الغربية، ثقافة النهضة وعصر الأنوار، الثقافة الإنسانوية، العلمانية، والطرائق العلمية والابستمولوجية، والثقافة الاستشراقية، ومن ثم يتم ترحيلها إلى الثقافة العربية.(1/6)
ومثلما كان ثمة جيلٌ من المتأوربين في القاهرة يرتكسون على أشد إمارات الحياة العلمية ذيوعاً في الغرب، كان هنالك جيل من المتمصرين في الثقافة العربية وهم الذين درسوا في الأكاديميات العلمية والأدبية في القاهرة يستلمون هذا الخطاب، ويقومون بإعادة توزيعه وإنتاجه داخل ثقافات بلدانهم. لقد أكدت هذه العملية طوال القرنين الماضيين، وحدة ومجتمعية الثقافة العربية، وكان النقد في العراق متأثراً برمته بهذا المشروع التحديثي، وبهذا التفاعل الخلاق الذي اختزل الفروق السطحية في التفسير السوسيولوجي، والذي كان يمكن له أن يفقد هذا المشروع بعده الدلالي، وأن يفرغه من محتواه.
لقد تحققت في الخمسينيات من هذا القرن، لا نقاط التلاقي الثقافي مع الفكر الغربي وحسب، إنما نقاط التصادم المباشر بعد صعود الفكر القومي العربي، وصعود الناصرية في مصر، والذي حتم انتقال مركز الثقافة العربية إلى بيروت فقد وجد المثقفون العرب أنفسهم في موقف مأزقي، بعد الهبوط المرير للخطاب الإنسانوي الغربي، وسقوط اليوتوبيا الغربية، واكتشافهم لزيف الأسطورة التي خلقها مجتمع الرفاه الإنسانوي، على يد مشاريع الاستثمار السياسي والعسكري، وحملات الزحف المباشر، وقد دعمتها النظرة الاستشراقية العرقية الفاضحة، وخلقتها المماحكات الدينية والتاريخية الكبرى، فكان الخير، والكمال الإلهي وأسطورة الجمال، والحق تؤدي بهم شيئاً فشيئاً إلى نوع من الفضيحة.(1/7)
وإذا كان الانتقال إلى بيروت التي تحولت إلى متروبول ثقافي ثانٍ في الثقافة العربية، هو نوع من الاختيار الملزم والضروري، ولا سيما انتقال التأثر من فضيحة عصر الأنوار إلى الخطاب الذي دشن المشروع النقدي لفلسفة عصر الأنوار، وهو الخطاب النقدي لـ (نيتشه، فرويد، ماركس) في الواقع لم تستقل الثقافة العربية بإنتاج نموذج نقدي للثقافة الغربية خاصة بها إلى اليوم، إنما كانت تدشن مشاريعها النقدية للتمركز اللوغوسي الغربي، عبر استعارة الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي الغربي في المركز اللوغوسي الغربي ذاته، ومن ثم تقوم بترحيله إلى الثقافة العربية مفلتراً، عبر وسائلها وأجهزتها، ومما لا شك فيه ظهر داخل النقد العربي نوع من الاهتمام والعناية بالنص، وتقنياته والتي كانت في الغالب مستعارة من النقد الأنغلوسكسوني، إلا أن هذا النوع من النقد لم يظهر بشكل فعال داخل النقد العراقي على الإطلاق، وكان انتقال مركز الثقافة العربية إلى شمال المغرب العربي، أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات بعد الحرب الأهلية في بيروت، هو الذي أنعش بعض آليات النقد الأنغلوسكسوني داخل الأكاديميات العراقية وبذر البذور الأولى لنشأة النقد البنيوي، لمجموعة من المقالات النقدية التي تضطلع بمهمتين في آن واحد. 1- تأسيس منظومة المفاهيم وتفسيرها 2- تطبيق هذه المفاهيم على النصوص وبمساعدة الترجمات، والدراسات اللسانية، والبنيوية والسيميائية.(1/8)
ثانياً: إن من جملة الأسباب التي جعلت النقد العراقي يرتاب بالنقد البنيوي هو أن هذا النوع الجديد القادم من شمال المغرب العربي يستبعد من موضوعه كل اعتبار حول قصد العمل، ويزيح أية علاقة بين النص والقيم السوسيولوجية المنتجة له، ويستند هذا النقد إلى نوع من إعادة الترتيب، والتنظيم للعناصر المؤلفة للنص، بعيداً عن الأيديولوجيا التي تحكمه، أنه يحيا عبر علاقة تأثير وغائية ينحو به إلى أن يكون شيئاً وغرضاً، وينزله إلى مستوى المعرفة المجملة للكائن البشري، ولا يؤوله إلا بتقنياته، ولا يفسره إلا بسياقه النحوي، لا بسياقه التاريخي وبدلالته القائمة على علاقات الشكل، لا بمضمونه الأيديولوجي، إنه مفهوم المجال الذي يستبعد كل ضرورة كامنة خارج العلاقات المكونة لنص.
لقد كان المثقفون العراقيون يتعرضون لإغراء اليوتوبيا، وخلق عالم خال من المأساة، وكانوا يحاولون إيجاد مشروع روحي وفكري يساهم بإنقاذ العالم من المأساة، وهي الأسطورة الرومانطقية التي تناقلت بيد الورثة جيلاً بعد جيل، لذا عانى النقد البنيوي عقاباً مروعاً، ونبذاً، وطرداً على الدوام ولم يستطع أن يثبت إلا في التسعينيات، وكان د. شجاع مسلم العاني واحداً ممن أرسوا دعائم هذا النقد، ويعد واحداً من أهم نقادنا المعاصرين، وفي هذه المجموعة من المقالات التي أطلق عليها (دراسات في الأدب والنقد) يواصل مسيرته بشكل دؤوب وحاذق وملتزم، وقد حاول إثبات نموذج من التعديل المستمر، على المناهج وأجهزتها الصارمة، حاول أن يجد نوعاً من الحكمة الموزونة، والتفاهم المفترض بين النص وما يدلل عليه، وبين المنتج والقارئ، لذلك تحقق مقالاته على الدوام نوعاً من الانتشار والتداول، ومعاينة نوع من السلطة الأخلاقية والروحية، التي تمثل دور الإلهام وهو الدور الذي اضطلع به كل المثقفين الحقيقيين وعلى مدى التاريخ.
علي بدر
(((
في الشعر الحديث
بنية التجاور والانقطاع في قصيدة الحداثة(1/9)
في كتابه الأسطورة والدولة يتساءل "كاسيرر" عن السر الذي دفع "أفلاطون" إلى الهجوم على الشعر في كتابه "الجمهورية" الذي بدأ في نظر نقاده وشارحيه مثيراً للحيرة وعقبة كأداء في طريق فهم "جمهورية أفلاطون". ولم يكن الشذوذ والغرابة باديين في صورة هذا الهجوم وطريقته حسب، بل في موضعه أيضاً: إذ جاء هذا الاعتراض ضمن مؤلف يبحث في السياسة(1). إلا أن "كاسيرر" يمضي في تبديد حيرة الدارسين إزاء موقف معاد للشعر، يصدر عن "أعظم شاعر في تاريخ الفلسفة" في موضع كان فيه يفكر كشاعر يقرر القيم الاجتماعية والتربوية للفن قائلاً "لم يكن الشيء الذي حاربه واعترض عليه "أفلاطون" هو الشعر في ذاته، ولكن الاتجاه الذي صنع الأساطير، فلا انفصال بين الشيئين في نظره ونظر أي يوناني... كان الشعراء هم صناع الأساطير بالفعل(2).
وبالرغم من أن اللغة والأسطورة ينحدران من أصل واحد في رأي العديد من الفلاسفة والمفكرين، إلا أن ثمة فروقاً كبيرة بينهما، إذ يظهر في اللغة على الدوام طابع منطقي بمعنى الكلمة، أما الأسطورة فتبدو وكأنها تتحدى كل القواعد المنطقية فهي مشوشة متقلبة ولا عقلية(3). وعلى حين تسعى اللذة العادية لضمان سلامة الرسالة، وتحديد الأشياء غير المحدودة واللامتناهية، فإن لغة الشعر تسعى، على العكس من ذلك، إلى تمويه الرسالة، وتحويل ما هو محدود ونسبي، إلى المطلق والكلي والجوهري(4)، وهي بهذا تقترب من لغة الأسطورة التي تعد قاسماً مشتركاً بين الشعر والدين(5).(1/10)
وإذا كانت الكلاسيكية مذهباً عقلانياً، وكانت اللغة فيه مجرد تمثيل للواقع الخارجي، فإن الرومانسيين كانوا أول من شرب من كأس الأسطورة حتى الثمالة، وبعد إن كانت الأسطورة مصطلحاً سلبياً يدل على تخييل فحسب، في القرنين السابع عشر والثامن عشر وفي عصر التنوير، تحول الأمر مع الرومانسية، ومع كتاب "فيكو" "العلم الجديد" وأصبح للأسطورة مفهوم جديد، وأصبحت كالشعر، نوعاً من الحقيقة، لا ينافس الحقيقة العلمية أو التاريخية، بل يرفدها(6).
وفي بحثنا هذا، نحاول أن نقف عند ظاهرة مهمة في لغة الشعر، بدأت مع الرومانسية التي كانت أول من أنجز الخطوة الأولى على طريقها، واستمرت بالتعاظم لدى الرمزيين والصوريين، وبلغت أوجها لدى السرياليين، وأعني بها ظاهرة الانقطاع في لغة الشعر الحديث وإلغاء الحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل التي بدأها "رامبو" في كتابه "إشراقات"(7). هذه الظاهرة التي وجدت طريقها إلى القصيدة العربية الحديثة منذ نهاية السبعينات وتعاظمت في الثمانينات والتسعينات، والتي كانت قصيدة النثر بيتها الذي ولدت وترعرعت فيه، لتغزو فيما بعد، شعر الحداثة كله.
وإذا كانت البلاغة القديمة، قد توقفت في مناقشتها لهذه الظاهرة عند حدود الجملة، فإن الأسلوبية الحديثة أكدت على دراستها في الخطاب إلى جانب الجملة، إذ صار هذا الخطاب، لدى العديد من شعراء قصيدة الحداثة، خالياً من التسلسل الفكري والعقلي، شبيهاً بذلك الكتاب الصيني الذي قرأه "ليفي برول" فتحول إلى دراسة، الفكر البدائي(8)، وكان هذا الكتاب مفتقراً إلى التسلسل في الأفكار، والعقل هو قبل أي شيء تسلسل، ومن هنا، لم يجرؤ الكلاسيكيون، بوصفهم عقلانيين، على تكسير هذا التسلسل في الخطاب الشعري.(1/11)
ويبدو أن الشعر العربي عرف ظاهرة الانقطاع وإليه يعود اختراع الظاهرة، قبل الشعر الغربي الحديث، وقد نقل "جان كوهن" في كتابه "بنية اللغة الشعرية"، مقطوعة من الشعر العربي، تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وأوردها "برونشفيك" في كتابه "ميراث الكلمات وميراث الأفكار"، وهي مقطوعة تعبر عن فلسفة الزهد، تقول أبياتها إن الكائن لا يمكن تملكه، وكل ما يمكن تملكه هو مظهره وحسب، ولكن الشاعر يقطع حديثه عن الكائن البشري، ليقحم الطبيعة، إقحاماً غير مسوغ في عالم الإنسان، بجملة يقول فيها الشاعر (والشفق هادئ والدنيا صامتة)(9). وهذا النمط من الانقطاع، أي إقحام الطبيعة في الدراما الإنسانية، أو العكس، يعد من أبرز أشكال الانقطاع في قصيدة الحداثة.
وقد نكون غير مغالين إذا ما زعمنا، أن القرآن الكريم، لا الشعر العربي وحده قد عرف ظاهرة الانقطاع، وإن على مستوى الجملة، ففي الآية الكريمة على سبيل المثال: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت" ليس ثمة "مناسبة بين الإبل والسماء وبينهما وبين الجبال والأرض بحسب الظاهر" ولكن ثمة جامع خيالي أو وهمي بينهما وقد قيل في ذلك: "ولما كان الخطاب مع العرب والإبل شاغلة لأخيلتهم لكونها أعز أموالهم وكانت الأرض لرعيها والسماء لسقيها... ناسب إيراد الكلام طبق تخيلاتهم(10) وكل هذا صحيح، ولكن القول بأن "الجبال لالتجائهم إليها عند الملمات"(11) يبدو متعسفاً وغير مقنع، سيما إذا تركزت القراءة على الرسالة لا المرسل إليه(1).
__________
(1) * أطلق بعض الدارسين القدماء على مثل هذا الانقطاع مصطلح ((التخلص)) وجادل البعض الآخر بأن التخلص غير موجود في القرآن الكريم، انظر، البرهان في علوم القرآن، الزركشي ص45.(1/12)
يحدث الانقطاع في الشعر القديم، في القصائد التي تسرد أحداثاً، إذ تقوم هذه القصائد على التناوب بين القص والوصف، الحركة والسكون، اللذين يجتمعان أحياناً ليكوّنا ما يعرف بالصورة السردية، فامرؤ القيس على سبيل المثال، يمضي في قص فراق الحبيبة قائلاً:
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بلّ دمعي محملي
ويقطع القص والأخبار متحولاً إلى وصف هذه الحبيبة:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجلِ
ولكن الانقطاع في القص والانتقال إلى الوصف الذي يموضع الأحداث، ويمنحها بعدها التخييلي والتمثيلي، لا يؤدي إلى أي انقطاع في فكرة القصيدة ولا يكسر تسلسل هذه الفكرة فيها. وقد خصصت العربية أدوات للربط بين الجمل ووصلها، هي الواو والفاء وثم وتعد الواو أكثرها استخداماً وأرقاها، بحيث قد تخفى الحاجة إليها فلا يدركها إلا من أوتي حظا من حسن الذوق(12).
أما في قصيدة الحداثة، فإن الانقطاع يأخذ شكلين ويتم بأسلوبين يكمل إحدهما الآخر، فالشاعر قد يتحدث عن موضوع معين، ولكنه يهمله ليتحدث عن موضوع آخر لا علاقة بينه وبين الموضوع الأول ولا يجمع بينهما أي جامع عقلي واضح، وبهذا يقطع التسلسل الفكري في القصيدة، حتى وإن استخدم حروف العطف المعروفة كأدوات للربط بين الجمل الشعرية، وإما أن يترك جمله الشعرية مستقلة عن بعضها لا يجمع بينها أحرف العطف والتشريك ولا جامع عقلي واضح، وفي الحالتين نكون إزاء بنية في لغة القصيدة أطلقنا عليها، بنية التجاوز والانقطاع وسنمثل لهذين الأسلوبين بنماذج من الشعر الحديث، كما سنمثل بنماذج من هذا الشعر للانقطاع داخل الجملة نفسها، فضلاً عن الخطاب يقول محمود درويش في قصيدته "قصيدة الأرض"(13) في شهر آذار في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
أسرارها الدموية في شهر آذار مرت أمام
البنفسج والبندقية خمس بنات وقفن على باب
مدرسة ابتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر(1/13)
البلدي، افتتحن نشيد التراب دخلن العناق
النهائي -آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض
يأتي ومن رقصة الفتيات- البنفسج مال قليلاً
ليعبر صوب البنات العصافير مدت مناقيرها
في اتجاه النشيد وقلبي.
إلى هنا، ونحن إزاء جملة خبرية تكاد أن تكون نثرية لولا بعض الانزياحات ولولا انتقال الشاعر من المحور الكنائي إلى المحور الاستعاري، بدءاً بجملة "واشتعلن مع الورد والزعتر البلدي"(1)إلا أن الشاعر يقطع الأحداث والقص الذي يتم في الجملة بضمير الجماعة المتكلمين ليتحول إلى ضمير المتكلم المفرد "أنا الأرض" بعد أن مهد له بياء المتكلم في الجملة الأخيرة من الحركة الأولى في القصيدة:
"أنا الأرض
والأرض أنت
خديجة لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل"
وبما أن الحركة الأولى في القصيدة، تتحدث عن موضوع أساس هو "الأرض" وهي قضية الشاعر الكبرى، فإن انقطاع السرد وظهور أنا الشاعر "أنا الأرض" يبدو متجانساً والجملة السردية، بما انطوت عليه من أحداث وشخصيات ومكان وزمان، لكن الانقطاع الحقيقي في القصيدة يبدأ مع قوله خديجة لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الإياب" على الرغم من أن الشاعر يعود لرواية الأحداث في نهاية المقطع ليغدو ذكراً وقص الحدث، اللازمة التي تتكرر في نهاية كل مقطع من القصيدة، مع بعض التحوير الطفيف في هذه اللازمة من مقطع إلى مقطع آخر في القصيدة.
__________
(1) * سبقنا في الإشارة إلى ذلك الناقد كمال أبو ديب كما سنوضح لاحقاً.(1/14)
لقد أطلق الناقد العربي كمال أبو ديب تسمية "لغة الغياب"(14) على هذا النهج الشعري الجديد، ولكن "لغة الغياب" لا تعني لديه الانقطاع أو المجاورة، بل تعني لديه أساليب التعبير الجديدة في القصيدة الحديثة- كالمعادل الموضوعي، والقناع، والمرايا، والأسطورة بكلمة؛ كل ما يغيب صوت الشاعر الغنائي ويدفع بالقصيدة الغنائية باتجاه أشكال التعبير الموضوعي المعروف في الأجناس الأدبية غير الغنائية وعد الانقطاع واحداً من تجليات (لغة الغياب)، مع أنهما في رأينا ظاهرتين مختلفتين تماماً.
يعد أي عنصر في الرسالة منقطعاً "عندما لا ينتج عن حذفه أو تغيير مكانه، أي انقطاع في الوحدة أو التسلسل الفكري للرسالة(15). وفي قصيدة الشاعر "سامي مهدي" "غروب" مثل لهذا الانقطاع، يقول الشاعر:(16)
"رحلة تستمر
ولكن إلى أين؟
كل الدروب
يضيق
ويفضي إلى بعضه،
والذنوب
تتكاثر
والشمس تغرق في دمها
والغروب
يجر غلائله فوقها
ثم يركسها في القلوب
إلى هنا والقصيدة تبدو متجانسة، بالرغم من الانقطاع الماثل فيها على مستوى الجملة الشعرية، فقد عطف الشاعر جملة و"الذنوب تتكاثر" الاسمية، على جملة اسمية قبلها هي كل الدروب يضيق ويفضي إلى بعضه بالرغم من افتقارهما إلى جامع يضمهما باستثناء كونهما جملتين خبريتين غير إنشائيتين وتركيبهما النحوي واحد إذ لا يبدو ثمة علاقة عقلية بين الدروب والذنوب، فالأولى مادية حسية والثانية معنوية. ولكن هذا الانزياح يمكن نفيه إذ ما فهمنا الغروب بالمعنى الشائع والمعروف، وهو الشيخوخة، وإن الرحلة هي رحلة الحياة التي تنتهي بالموت، وإن كل إطالة لهذه الرحلة تنطوي على إطالة مماثلة في الذنوب التي يرتكبها المرء، ولكن الشاعر يفاجئنا باستئناف الكلام، بحيث تبدو الحركة الأخيرة في القصيدة التي تبدأ بقوله "وهنالك في الخانق الجبلي" منقطعة عما قبلها، بحيث لو حذفناها لبقيت القصيدة قائمة دون نقص:
"وهنالك في الخانق الجبلي
رجال يبيتون ليلتهم(1/15)
ومهارى بلا لجم
ووعود مبعثرة
وجلود معفرة
ودم يابس
وندوب"
وفي هذه الجملة يفاجئنا انقطاع آخر، فالجمل عطفت على بعضها بالواو لكونها متجانسة مع بعضها، ولكن جملة (مهارى بلا لجم) لا تمت بأي سبب عقلي إلى جملة "رجال يبيتون ليلتهم" المعطوف عليها، كما أن القارئ لا يجد علاقة بين مفردتي "رجال" "ومهارى" إلا إذا عمد إلى تغيير معنى الأخيرة، ووضع مفردة "نساء"، الأمر الذي ينفي ما في الجملة من انزياح. وثمة نمط من الانقطاع سبق فيه القص العربي، القصير منه خاصة، القصيدة الحديثة، وأعني به تقسيم النص إلى أجزاء يفصل بينهما طباعياً ويمكن قراءة كل جزء على أنه نص قائم بذاته، مع أنه يرتبط بوشائج معينة مع الأجزاء الأخرى من النص(17) وفي قصيدة "إسماعيل"(18) لأدونيس مثل واضح على هذا النمط من الانقطاع. طباعياً يتكون فضاء القصيدة من ثلاثة طوابق أو مستويات إذا صح القول، كما تتكون القصيدة من عدة لوحات، بعضها يحتل القسم الأعلى من الصفحة، وهو المتن، بينما تحتل هوامش المتن الجزء الأسفل من الصفحة وتفصل بين لوحة وأخرى رسوم هندسية على شكل مربعات أو مستطيلات بعضها مغلق والآخر مفتوح من جانب أو جانبين أو خطوط متوازية، كما يتضح من اللوحة رقم(2) التالية:
متدثراً بدمي أسير تقودني
حمم ويهديني حطام
حفل تخص به الإبادة نسلها
حفل لإسماعيل يختتم الزمان (تراه يفتتح الزمان؟)
وينتهي المقطع لنقرأ مقطعاً آخر وضع بين مستقيمين متوازيين يعقبه مقطع آخر وضع عليه الهامشان رقم 22، 23:
" -حشد يوزع ورده
فرحا بمقصلة تقام
الأطلس العربي جلد
نعامة غلبت نعامه
لا غالب إلاه/ سرج حصانه
ذهب وجبهته غمامة
- من أنت؟ من أمية؟ 22
- لا لست من أمية.
- من أنت؟ هاشمي؟ 23
وتحت الخط الذي يقسم الصفحة طباعياً إلى جزأين نقرأ الهامشين 22، 23 اللذين يرد فيهما:
(22) "وهي من أمية بنيانها
وهان على الله فقدانها...
(23) بني هاشم، عودوا إلى نخلاتكم(1/16)
فقد صار هذا التمر، صاعا بدرهم
إذا قلتم رهط النبي محمد
فإن النصارى رهط عيسى بن مريم"
ويصعب تقديم وصف دقيق للقصيدة، فإذا كان ضمير المتكلم يهيمن على كلام الشاعر في مطلع كل لوحة، فإن الضمير نفسه وضمير المخاطب والغائب، تتناوب على كلامه الذي وضع داخل أشكال هندسية، والبعض الآخر منه حوار يتناوب فيه صوتان أو أكثر، وفي كل الأحوال فإن الأقوال داخل هذه الأشكال تأتي تعليقاً على أقوال الشاعر وكأنها أقوال غيرية، تشبه في وظيفتها، أقوال الجوقة في المسرح الكلاسيكي، كما أنه يمكن أن نعد الجزء العلوي من الصفحة بمثابة وعي الشاعر، بينما يشكل الجزء الكائن أسفل الصفحة لا وعيه (19)، وذاكرته التاريخية.
يقودنا الحديث عن قصيدة "إسماعيل" إلى ما أسميناه بـ"بنية التجاور" في قصيدة الحداثة، التي تقوم في الأساس على إلغاء الروابط النحوية والتسلسل الزمني أو الفكري في القصيدة، وتغليب منطق الخيال على منطق العقل. وإقامة علاقات خيالية بين الأشياء. ويشير الشعراء والنقاد الغربيون إلى ذلك بمصطلحات عديدة كالتفكيك والتهشيم والانقطاع والنشاز والتجربة، كما يشيرون إلى (التجاور) كبديل اخترعته الحداثة، للتسلسل المعروف في القصيدة الكلاسيكية، ويعلل البعض ظاهرة التفكيك هذه، بما يواجهه الشاعر المحدث من ثقافة محطمة ومجزأة، دفعته إلى البحث عن مبادئ خيالية جديدة، وإشكالية فنية أكثر ملاءمة لعصر ديناميكي، من المنطق والنحو(20).(1/17)
وهكذا صارت القصيدة أو العبارة الشعرية، مجموعة من الأرابيسكات، واقتربت لغة الشعر من تجريدات الرياضة والموسيقى(21)، وأصبح على قارئ الشعر أن يجد علاقات خيالية بعيدة بين جمل تتجاور في القصيدة بلا روابط أو تسلسل زمني أو سببي، وأصبح عمل الشاعر في قصيدة الحداثة هو "وضع شيء بجانب آخر" وأصبح للتجاوز هذا، تأثير مبدأ "هوبكنس" للقافية نفسه، الذي يقوم على المشابهة المتشابهة والمشابهة المتغايرة، والذي اعتمده ياكبسون في دراسته للشعر(22). ويبدو أن قصيدة الحداثة العربية، بدأت ومنذ أواخر السبعينات بتدشين هذا الأسلوب وسأستشهد هنا بقصيدة (قصيدة الرمل) للشاعر محمود درويش وبعدد من قصائد النثر، وقد سبق أن ألمحنا إلى أن قصيدة النثر سبقت القصيدة الموزونة على هذا الطريق.
تتكون قصيدة محمود درويش من مقاطع عدة، يربط بين مقطع ومقطع جملة "البدايات أنا/ والنهايات أنا" ولا نجد بين الجمل أية روابط نحوية، بل توضع معظم هذه الجمل الواحدة بعد الأخرى بطريقة سريالية(23).
" والرمل جسم الشجر الآتي
غيوم تشبه البلدان
لون واحد للبحر والنوم
وللعشاق لون واحد..
وسنعتاد على القرآن في تفسير ما يجري
سنرمي ألف نهر في مجاري الماء
والماضي هو الماضي، سيأتي في انتخابات المرايا
سيد الأيام والنخلة أم اللغة الفصحى"
إن إلغاء الروابط النحوية وروابط المعنى بين هذه الجمل يحيل القصيدة إلى لوحة فنية تتجه فيها الأشياء بعيدة عن بعضها باتجاه الإطار... بحيث يصبح الإطار عنصراً حاسماً للتصميم..(24) وهو ما سنتناوله في المبحث الأخير من هذه الدراسة. ويبدو أن قصيدة النثر التي كان لها قصب السبق في هذا المضمار، مازالت ماضية على هذا الطريق بخطى واسعة، وسأستشهد بمقاطع من قصائد تنتمي إلى الثمانينات والتسعينات التي ازدادت فيها واتسعت ظاهرة التجاور، ففي ديوان العاطل عن الوردة "لباسم المرعبي، الصادر في الثمانينات نقرأ ما يلي:(25)(1/18)
" الفجيعة نافذة على الاسطبل
والحداد يصقل الجياد
القمر حدوة متآكلة"
وواضح أن هذه الجمل لا يربط بينها سوى خيط بسيط، هو (الجواد أو الجياد) التي لم يأت الشاعر على ذكرها، ومع ذلك، فليس ثمة علاقة بين (الفجيعة) و(الحداد) التي عطفت عليها ولا بينهما وبين لفظة "القمر"، ولا يقتصر الأمر على هذا الحد، فالجملة التي تعطف على جملة (القمر حدوة متآكلة) لا ترتبط معها بعلاقة عقلية.
"والإسفلت ذاكرة البراري
المستشفى تخم
والأطفال حماماتنا التي تسعى"
وإذا كانت ثمة علاقة خيالية بين الجملتين الأخيرتين:
"المستشفى تخم
والأطفال حماماتنا التي تسعى
فليس ثمة علاقة من هذا النوع، بين هاتين الجملتين وما تقدمهما من جمل، وكأن الشاعر أراد أن يشهد على هذا التفكك ويؤكده، حين أنهى هذا المشهد المفكك بقوله:
المشهد طاعن في الارتباك
أما النموذج الثاني، فهو من ديوان صادر في أواخر التسعينات ومن قصيدة لفلاح عدوان بعنوان "ساحة الطيران"(26).
الفؤوس تفتتح الصبح
والمسامير: تدق اليدين
حيث ( المساطر)
تنقب عن غفوة
تفرقع المدن النائية
بقدر طبيخ
من يجرؤ أن يفطم
حماماته
إزاء الحليب في ساحة الطيران
أو "يخوط" الصغار
بقدر من الشاي
القمر حجر
الرغيف جبل منهوب
الاشتهاء أشلاء
من يوقظ "فائق"
من غلايينه"
ورغم أن الجملة الأخيرة تشكل إشارة إلى الفنان "فائق حسن" وجداريته المعروفة في "ساحة الطيران" فإن الانقطاع بينها وبين ما قبلها واضح بحيث تشكل صدمة للقارئ.
ومن الواضح أن جمل القصيدة لا ترتبط مع بعضها بروابط نحوية أو معنوية، وتشكل الجملة الأخيرة انقطاعاً غير مألوف في أشكال الانقطاع، ذلك أن المقطع برمته، يرسم لوحة لساحة الطيران، من مفردات ومكونات مألوفة للقارئ الذي عرف هذه الساحة ولا سيما في صباحاتها، ولكن الشاعر يقحم "فائقاً وغلايينه" على هذه اللوحة المألوفة، وكأنه أراد أن يضع شيئاً ناتئاً فيها.(1/19)
أما النموذج الثالث الذي نعرض له هنا، فهو لشاعر من جيل الستينات، عرف بكتابته لقصيدة الشعر الحر أو الحديث الموزونة على وفق بحور الشعر العربي أو بحور الخليل المعروفة، ولم يكن الانقطاع والتجاور مما يسم ما نشره من شعر موزون، ولكنه حين يكتب القصيدة في نهاية التسعينات تجيء حافلة بالانقطاع، ففي قصيدة "حسب الشيخ جعفر" "قصائد إلى البياتي" نجد القصيدة الأولى، التي وضع لها عنوان "الفصل الخامس من الفصول الأربعة" حافلة بالانقطاعات يقول الشاعر:(27)
" (الناس إلى مفترق
الطرق،
(الحواريون) منهم
باعة على رصيف الكتب
في (المقهى) ارتضاع
الشاي والتبغ
وفي (الملهى) التفاع
الندل
بالأقمطة النايلون
برجٌ مائل ونخلة
يستوقفان النظرة
التائهة الكسلى،
الغراب الأبيض،
الفنان أدرى
باصطباغ الريش
بالفحم)"
وإذا كان ثمة علاقة بين المقهى والملهى من حيث أن كليهما مكان للهّو والترويح عن النفس، فإن هذه العلاقة معدومة بين المسند إليه في الجملتين إذ لا علاقة بين ارتضاع الشاي والتبغ بالتفاع الندل بأقمطة النايلون، كما أن القارئ لا يمكن أن يجد أية علاقة بين الجزء الذي ينتهي بالعبارة الأخيرة هذه، وبين ما يليها "برج مائل ونخلة" ثم لا علاقة بين هذه الجملة والجملة التي تليها "الغراب الأبيض والفنان أدرى" وسيكون الانقطاع بين هذه الجملة أكبر إذا ما عددنا (الفنان أدرى) جملة من مسند ومسند إليه قائمة بنفسها، وليست تابعة للجملة التي قبلها.
***(1/20)
تعطف الجملة على التي قبلها إذا كان للجملة المعطوف عليها الموضع نفسه من الإعراب، أو اتفقت معها خبراً وإنشاء ولابد في كل أحوال العطف (من وجود الجامع بين الجملتين به تتجاذبان وعليه تعتمدان) (28) والجامع إما عقلي أو وهمي خيالي، ويحدد الجامع العقلي بأن يكون ثمة اتحاد في المسند أو المسند إليه أو في قيد من قيودها في الجملتين أو تماثل واشتراك بينهما، أو تضايف بحيث لا يعقل الواحد دون ذكر الآخر، أو شبه تماثل أو تضاد وتقابل، أما إذا اختلفت الجملتان خبراً وإنشاء فيتم العطف في حالة حدوث الوهم في المقصود، لو ترك العطف كقولنا "لا وشفاه الله" لمن يسألنا هل أبل محمد من مرضه؟ فترك الواو يوهم الدعاء عليه مع أن المقصود الدعاء له(29).
وحكم المفردة هو حكم الخطاب نفسه في الأسلوبية الحديثة، إذ يعد انقطاعاً عطف مفردة على أخرى، لا تتجانس معها في الإعراب، أو في أحد الأمور التي مر ذكرها سابقاً وإذا كان الانقطاع في الخطاب، الذي ناقشناه سابقاً قد تأخر ظهوره في قصيدة الحداثة، العربية، إلى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، واتسع استخدامه في التسعينات، فإن الانقطاع في الجملة، يعود إلى ما قبل هذا التاريخ، وإلى عقد الستينات على وجه الدقة وسأكتفي هنا بإيراد بعض النماذج في شعر عبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، رغم أنه مثل هذا الانقطاع شائع في شعر معظم الشعراء يقول البياتي في قصيدة (المعجزة)(30)
"وعلى الشطآن قناديل الربيع
وعويل الكهنة
تحت أقواس رماد الأزمنة
وهم يبكون تموز القتيل
حاملين القمر الميت في موكب عشتار الجليل
آه من ليل المحبين الطويل
وقطارات الجليد"
فقد عطف الشاعر عبارة قطارات الجليد، على "ليل المحبين الطويل" مع أن ليس ثمة جامع أو تجانس بينهما، وفي سياق أبعد ما يكون عن المخترعات الحديثة، وفي قصيدة (الرائي) للشاعر نجد هذا الانقطاع(31)
"كتبت فوق شجر الخابور(1/21)
تاريخ ميلاد وموت فارس النحاس في آشور وقطرات المطر المسحور
وجرة الذهب
ونخلة الحب وثورات شباب العالم المأخوذ
وساحرات بابل
والقمر المدفون في المزابل"
ومن الواضح أن الجملة الأخيرة المعطوفة على ما قبلها، جاءت منفصلة عما قبلها من جمل، إذ توحي هذه الجمل بما هو سام وجميل بينما توحي الجملة الأخيرة بالضعة والانحطاط والقبح.
وحفل شعر محمود درويش في دواوينه الأخيرة، ومنذ صدور ديوانه "أعراس" بمثل هذا الانقطاع في المفردة كما في الجملة والخطاب، حيث يجمع الشاعر الأشياء المتنافرة وغير المتجانسة إلى بعضها بطريقة لا يجاريه فيها شاعر عربي آخر، ففي قصيدته (أحمد الزعتر) يقول: (32)
"كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر
آه من حلمي ومن روما"
وبين روما والحلم- مسافة من اللاتجانس، إذ الحلم ذهني معنوي، وروما مدينة تاريخية معروفة لها وجود مادي محسوس، ولا يبدد حيرة القارئ ويقلص المسافة بين المفردتين سوى معرفة ما تحيل إليه كلمات الشاعر من وقائع في العالم الخارجي، وكون كلمات الشاعر تمثيلاً لهذا الواقع، ومعرفة أن أحمد الزعتر اغتيل في روما:
"جميل أنت في المنفى
قتيل أنت في روما"
وللشاعر أيضاً (33):
"إنه الرمل
مساحات من الأفكار والمرأة"
حيث عطف مفردة المرأة على مفردة الأفكار.
وله أيضاً من (قصيدة الرمل) نفسها:
"وأغيب الآن في عاصفة الرمل
وتأتين إلى الشاعر في الليل، فلا
تجدين الباب، والأزرق"
وقد عطفت "الأزرق"، على الباب، مع أن بينهما ما بينهما من نفرة وعدم مواءمة وربما أراد الشاعر بالأزرق "البحر" فأثبت الصفة، وحذف الموصوف. وسأتوقف قليلاً عند صورة العطف والانقطاع التي وردت لدى الشاعر في قصيدة (الخبز) التي أهداها إلى (إبراهيم مرزوق) إذ يصف الشاعر إبراهيم بقوله (34)
"كان إبراهيم رساماً وأب
كان حياً من دجاج وجنوب وغضب
وبسيطاً كصليب"(1/22)
إذ جمع الشاعر في جملة واحدة أكثر من عنصر متنافر، وعطف هذه العناصر المتنافرة على بعضها، وإذا كان قوله (وبسيطاً كصليب) في إشارة إلى صليب المسيح، متجانساً مع قوله (كان حيا من دجاج) لما عرف به هذا الكائن الحيواني من ضعف وهشاشة وبساطة، فإن، الجنوب والغضب لا يناسبان هذا الكائن ولا جامع بينه وبينهما وقد لا تبدو نافلة الإشارة إلى أن مفردة (الجنوب) وردت في أحد المزامير في التوراة، وفي صورة تعد غريبة في سياقها التوراتي، فقد شبه الانعتاق في الأسر بسواقي الجنوب إذ تقول الآية(35 أ)
((اردد يا رب سبينا مثل سواقي الجنوب))
ذلك أن الانتقال من فكرة الانعتاق من الأسر إلى صورة الانهار في الجنوب غير عقلاني (35 ب) إلا أن محمود درويش الشاعر الفلسطيني- الذي عرف شعره بكثرة تداخله النصي مع التوراة لا يستخدم المفردة كما وردت في سياقها التوراتي، بل يستخدمها في سياق آخر، هو سياق المقاومة الباسلة ضد المحتل الصهيوني التي عرف بها الجنوب اللبناني.
وإذا كان الانزياح في الشعر، ناجماً عن التعارض بين المعجم والنحو، كما يقول كوهن(36 أ)، فإن نفي الانزياح يتم بتغيير المعجم أو الوظيفة النحوية، ويكفي هنا أن نغير معنى (الجنوب) إلى القوة التي تعرف بها المقاومة، لتتحول النفرة وعدم المواءمة إلى تضاد أو تقابل، وهو ما تسوغ البلاغة عطفه على الضعف والاستسلام الماثل في مفردة (دجاج).
وعلى العكس من الانقطاع في الخطاب، عرفت قصيدة الحداثة الموزونة، الانقطاع في المفردة بشكل متواقت مع ظهور الانقطاع في قصيدة النثر، إلا أنه يمكن القول أن الأخيرة قد استخدمته بصورة أوسع، وأكثر من القصيدة الموزونة، وسأكتفي هنا بذكر نماذج لشاعر واحد من شعراء قصيدة النثر، هو الشاعر محمد الماغوط ومن ديوانه (غرفة بملايين الجدران) الصادر عام 1964م
يقول الشاعر في إحدى قصائده: (36)ب:
"أريد أن أهز جسدي كالسلك في إحدى المقابر النائية
أن أسقط في بئر عميق(1/23)
من الوحوش والأمهات والأساور"
ويقول في قصيدة أخرى: (37)
"كانت الحرب في بدايتها
والأنهار الممزقة
تسافر نحو الجنوب
تعلوها جبال من الرعد والزكام"
ويقول في قصيدة ثالثة (38)
"الأرض والسماء والجبال الضخمة
الوحل والغضب
والموسيقى الناعمة تثير شفقتي"
فقد جمع الشاعر بين الوحوش والأمهات والأساور في الأنموذج الأول وإذا كان ثمة علاقة وتجانس بين الأساور والأمهات فإنه ليس بينهما وبين الوحوش وما يجمعهما معاً، كما جمع في المقطع التالي بين الرعد والزكام، وبين الموسيقى الناعمة والغضب والوحل في المقطع الثالث، وهي أمور تحتاج من القارئ كد الذهن، ليبصر العلاقات الوهمية والخيالية بينهما.
***
لقد آن لنا الآن، بعد أن بسطنا الظاهرة، أن نتساءل عن سر ظهورها في القصيدة العربية الحديثة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وإطرادها في العقد الأخير من القرن العشرين! وقد يقول قائل بأن هذه الظاهرة غربية الأصل والمنشأ، وأن الشاعر العربي الحديث، استوردها ضمن ما استورد من الأساليب وتقنيات شعرية حديثة عرف بها شعر (الحداثة) في الغرب، وهذا التفسير هو نصف الحقيقة، وذلك لأن مجتمعاً ما لا يمكن أن يستورد شيئاً من مجتمع آخر، إلا بعد أن يكون على وشك اختراعه، ومن المؤكد أن الظاهرة غربية في أصولها الحديثة، ولكن ثمة دوافع ومعطيات أفرزتها المجتمعات العربية، في هذه الحقبة، دفعت الشاعر إلى تبني هذا الأسلوب أو النهج في التعبير عن رؤاه الشعرية، وسنتوقف عند ناقد عربي قدم تفسيراً لهذه الظاهرة وغيرها في قصيدة الحداثة؛ يقول الناقد كمال أبو ديب: (39)
((1/24)
إن مسار الحداثة في الكتابة العربية يتشكل في تناسب طردي مع تاريخ السلطة، وتناسب عكسي مع تاريخ الحرية: كلما ازدادت حدة القمع وشمولية البساطة زادت حدة انكباب المبدع على النص وتفجيره له من الداخل.. إن مقارنة ثلاثة نصوص من الخمسينات والستينات والسبعينات لتشير إلى سلامة التصور النظري الذي أطرحه). وإلى هذا التفسير السياسي يضيف في مقال آخر بعنوان (لغة الغياب في قصيدة الحداثة) تصوراً اجتماعياً، إذ يعزو ظاهرة التفكك في قصيدة الحداثة العربية، إلى إخفاق المشروع السياسي- الاجتماعي الاقتصادي لحركة التحرر في الوطن العربي، كعوامل أساسية تقف وراء هذه الظاهرة(40).
والواقع أن التفسير الذي يقدمه الناقد العربي لظاهرة التدمير والتفكك في قصيدة الحداثة العربية، لا يختلف عن التفسير الذي قدمه المفكر اليساري الفرنسي هنري لوفيفر، لظهور الحداثة، على يد بودلير خاصة، إذ يشير (لوفيفر) إلى أنه وبعد عشرين عاماً من إخفاق ثورات عام 1948م، وفي حين كان (ماركس) يمحص طروحاته عن الثورة والممارسة الثورية محاولاً تطويرها باستثمار عدد اقتصادية وتاريخية إلى جانب العدد الفلسفية التي أثبتت عدم كفايتها، في هذا الوقت بالذات يقوم بمراجعة أليمة لمفهوم ((الحداثة))..(1/25)
ومع بودلير ومع النقد البودليري ظهرت (الحداثوية)... غير أن دفعة سوداء كانت تطبع ذلك التألق، إذ لم يكن الشاعر يلحظ فقط موت الجمال ويبكيه، بل أنه يبصر غياباً أيضاً، ليس غياب أو موت .؟.؟.، بل كون الحداثة تغلف وتقنع الغياب... وفشل البراكسيس الثوري... الكلي) ثم يضيف لوفيفر أن الحداثة في المجتمع البرجوازي ليست سوى ظل الثورة الممكنة، ولكن الشاعر الذي عاش موت الثورة وفشلها يستدعي ممارسة مثالية بديلة لتحل محل الممارسة الثورية، في محاولة لخلق عالم خيالي (مثالي) مقبول في عالم واقعي لا يمكن أن يقبله الشاعر، أن نص بودلير (لا يمكن فهمه إلا كتحريض وتحد... فهو يقول شيئاً آخر وأكثر بكثير مما يبدو أنه يقول، وهو لا يقبل بالمجتمع البرجوازي...) إلا من أجل أن يدخل فيه الإرهاب والتحدي والانحراف(41) وهكذا راحت لغة الشاعر تطرح نفسها كعالم و(كخالق) لعالم مثالي، بديل لعالم الواقع، وفي هذه اللغة الشعرية تمحي الثنائية والانقسام والتمزق، ويتعانق الواقعي ويندمج بالمثالي، والمجرد بالمجسد، بعد أن كانا منفصلين من قبل، هنا يُتاح للكلمة أخيراً، بحسب لوفيفر: "إن تغدو جسدية وشهوية، وهنا يتاح للجسد والشهوى أن يتحولا إلى كلمة، وهذا هو السحر وسيمياء الكلمات"(41)ب.(1/26)
إن ما هو جسدي وشهوي، يجد استمراراً له اليوم في تأكيد "رولان بارت، على الانقطاع في النص الذي يعده ويسميه جسداً، وعلى أن لذة النص هي (الصدع، الانقطاع، الانكماش، الذواء الذي يستولي على الذات في كبد المتعة)(42)، وهذه اللذة التي أكد الماركيز "دي ساد" على أنها تتأتى من بعض الانقطاعات، لا تعني انقطاعاً في الحدث أو الزمن بل في اللغة التي تولد نوعاً من القراءة تزن النص وتلتصق به، وتنهمك في عملها بجد وحماس... وتدرك في كل نقطة من النص انقطاعات الوصل التي تقطع اللغات لا القصة، فما يأسر هذه القراءة ليس هو الشمول (المنطقي)، ليس هو تعرية الحقائق، بل الصيغة المؤرقة لتولد الدلالة... فالإثارة تأتي من نوع الضغط العمودي (عمودية اللغة وعمودية تحطيمها)"(43)، إن ظاهرة الانقطاع التي لم تقتصر على القصيدة حسب، بل وشملت النثر والقصة، وأصبحت منذ فلوبير جزءاً غير استثنائي من بلاغتها، هذا الانقطاع، فيه يكمن ما هو ايروسي وجسدي، ويشير بارت نفسه إلى "أنّ ما هو شبقي، كما بين التحايل النفسي ذلك جيداً هو التقطع: تقطع لمعان البشرة بين قطعتين من اللباس (السروال والقميص)، بين حافتين، القميص الموارب، والقفاز والكم... وهذا اللمعان بالذات هو الذي يفتن (44) ومن هنا كان افتتان "بارت" بالتسميّة العربية للنص: أي (للمتن).
وإلى جانب التفسير الاجتماعي لظاهرة الانقطاع، ثمة التفسير الثقافي والحضاري، وقد ألمحنا إلى المقولة التي تعزو التفكك والانقطاع في الأدب الحديث، وما يرتبط بها من ظواهر لغوية تقوم على إلغاء أدوات العطف أو الربط وإلغاء التسلسل الفكري في القصيدة، ناجم عن التفكك في الثقافة والحضارة الغربية، التي دفعت الفنان والشاعر إلى محاولة اكتشاف مبادئ خيالية، من شأنها إقامة علاقات غير معهودة، بين الأشياء، في عالم اتسمت ثقافته بأنها مجزأة ومحطمة.(1/27)
ويتصل بهذا الرأي، الرأي القائل بنشوء قارئ جديد وقراءة جديدة بفعل التقدم العلمي والحضاري والثقافي، الذي كان من نتائجه ازدياد القدرة التحليلية عند القراء والتي كان من نتائجها عزوف القراء عن الشعر والدين معاً مما دفع بالشعراء بالمقابل إلى أن يكرهوا هذا القارئ المثقف إلى دخول ساحة غير المعقول حيث تنعدم القواعد المتمدنة لقوى من مقاومته" ويستشهد "سي. دى- لويس" الذي يورد هذا الرأي، بما قاله"كريفز" عن القارئ الحديث الذي إن أعطيناه، بحسب الأخير "الفكر والاستمرارية المنطقية أو الترابط، فهذه العملية الفكرية تشجع تلك الملكة التي تقاوم الانطباع الشعري" ويشبه هذا الرأي رأي "هازلت" القائل بأن التقدم في المعرفة والذوق يميل إلى تضييق حدود الخيال، وإن الدين والشعر، كليهما وقعا تحت تأثير هزة محسوسة من جراء تقدم الفلسفة التجريبية،(45) بالرغم مما بينهما من اختلاف ظاهر.
وإلى التفسير الثقافي والحضاري ينتمي رأي "جوزيف فوانك" الذي تضمنه مقاله الشهير والمثير للجدل(46) "الشكل المكاني في الأدب الحديث والذي سنعرض له بشيء من التفصيل لأهميته.(1/28)
ولتوضيح رأيه، يستعين الناقد بعدد من الدراسات النقدية في الفنون التشكيلية، وبخاصة دراسات الناقد الإنكليزي "ريجل" والناقد "ورينجر" في كتابه "نحو سيكولوجية الأسلوب" الصادر عام 1908، ليرد على مقولة الناقد الألماني (لسينغ) في كتابه الشهير "لاوكون" الذي أشار إلى أن الشكل في الفنون التشكيلية يجب أن يكون مكانياً، أما الأدب الذي يستعمل اللغة المؤلفة من كلمات متتالية تتقدم عبر زمن ما... يجب أن يعتمد على شكل ما من التسلسل القصصي. لكن الناقد يرى أن أعمالاً أدبية كبيرة صدرت في القرن العشرين: (نشيد الكانتونات) لعزرا باوند و(الأرض والخراب) لأليوت، و(يولسيس) لجيمس جويس و(التخلص من الزمن الضائع) لمارسيل بروست، قلبت هذا المنظور، وصار الشعر الحديث في رأي فرانك" يتميز بشكل جمالي يعتمد على منطق مكاني، بحيث صار يتطلب من القارئ إعادة تنظيم كاملة لتفكيره، في اللغة التي باتت في القصيدة الحديثة -عاكسة- وأصبحت الرابطة بين المعاني فيها -أي في القصيدة الحديثة- لا تتم إلا بإدراك القارئ للمجموعات الكلامية في آن واحد من حيث المكان (ونحن عندما نقرؤها متتالية من حيث التسلسل الزمني فإنها لا تملك أي علاقة مفهومة بين بعضها والبعض الآخر (47). ويعيدنا الأمر إلى ما ذكرناه سابقاً من أن القصيدة الحديثة تعتمد على مجموعة من الجمل المتجاورة والتي تخلو من أدوات الربط وتكون بمجموعها كاللوحة في الفن التشكيلي، ومن الجدير بالذكر هنا أن النية الفضائية أو المكانية للقصيدة، والقائمة على التوازي، صارت مع جيرار هوبكنس وياكوبسون وتودوروف(48) من المسلمات أو البديهيات المعروفة اليوم.(1/29)
ويحاول الناقد ورينجر في كتابه السالف الذكر، شرح الأسباب التي أدت إلى التناوب في الأساليب الطبيعية وغير الطبيعية، عبر تاريخ الفن، ففي خلال الفترات الطبيعية، وهي العصر الكلاسيكي لفن النحت والعمارة اليونانية، وعصر النهضة الإيطالي، ثم فن أوربا الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر، حاول الفنانون تمثيل العالم الموضوعي ذي الأبعاد الثلاثة وإعادة إنتاج عمليات الطبيعة وبضمنها الإنسان، بدقة محببة، أما في الفترات غير (الطبيعية) التي تتمثل بفنون الشعوب البدائية، والنحت الفرعوني، والفن الشرقي، والفن البيزنطي، والنحت القوطي، وفي القرن العشرين، فإن الفنان فيها ينبذ عالم الأبعاد الثلاثة ويعود إلى السطح المستوى، ثم يحول الطبيعة ومن ضمنها الإنسان إلى أشكال وخطوط هندسية وألوان مجردة...(49).
وفي بحثه عن الأحوال الروحية التي أجبرت ما يسميه الناقد (ورينجر) بـ "الإرادة الفنية" أن تتحرك في اتجاه المذهب الطبيعي أو غير الطبيعي، ليصل إلى نتيجة مفادها أنه "عندما تكون "الطبيعة"هي الأسلوب الفني السائد، تكون قد خلقت نتيجة للثقافة التي حققت توازياً مع الجو الطبيعي التي هي جزء منه، وهي تشعر أنها جزء من الطبيعة العضوية، كما كان يشعر الإغريق في العصر الكلاسيكي... أما عندما تكون العلاقة بين الإنسان والكون غير منسجمة أو متوازنة، فتنتج أساليب غير طبيعية ومجردة" فقد كان عالم الشعوب البدائية عبارة عن فوضى وخليط من الحوادث وأحاسيس الخوف غير القابلة للفهم.
ومن هنا تتجه (إرادتهم الفنية) لتحول مظاهر العالم الطبيعي إلى أشكال وخطوط هندسية تنعم بالنظام والانسجام والاستقرار، مما لا يجده الإنسان البدائي في فيض الظواهر الطبيعية المتدفقة(50).(1/30)
والمهم هنا، ما يعني كل ذلك على صعيد الأدب فما يقوله روينجر عن الفنون التشكيلية، ومن ملاحظاته القليلة عن الأدب كقوله "إن الفضاء المملوء بالنور الهوائي والذي يصل الأشياء بعضها ببعض ويلغي استقلالها الفردي، يكسبها قيمة زمنية ويجذبها إلى المظاهر السعيدة الدائرة في الكون(51) شديدة الأهمية بالنسبة لموضوعنا، فلا الأشياء ولا اللغة باتت تتصل ببعضها على استقلالها الفردي في الخطاب الشعري الحديث.
إن ما يخلص إليه جوزيف فرانك من مقارنته بين الأدب والفنون التشكيلية، هو أن أدب القرن العشرين هجر شكله الزماني ليصير إلى الشكل المكاني، وكما أن بعد العمق اختفى من فنون القرن العشرين التشكيلية فإنه قد اضمحل أيضاً من التاريخ في تكوينه لمضمون هذه الآثار" ثم يتحدث عما أسميناه بـ (بنية التجاور والانقطاع) في أشهر الأعمال الأدبية والشعرية لهذا القرن قائلاً "لقد شاهدنا الماضي والحاضر مكانياً مندمجين في وحدة لا زمنية، وهي وإن كانت تقوي من الفروق السطحية إلا أن مجرد وضعها بمحاذاة بعضها البعض يقضي على أي شعور بالتسلسل التاريخي(52).
إن هذا التسلسل التاريخي الذي كان فخر الإنسان الحديث منذ فجر النهضة، قد تحول لدى كتاب وشعراء القرن العشرين إلى عالم لا زمني من الأساطير، والخيال الموضوعي التاريخي استحال إلى خيال أسطوري خال من الزمان التاريخي، وهذا العالم الأسطوري اللازمني هو بالذات ما يشكل المضمون العام للأدب الحديث(53) وبصوغ أساليبه ويقترح لغته.
(((
( المصادر والمراجع
1- انظر: الدولة والأسطورة، ارنست كاسيرر، ت: د. أحمد حمدي محمود، مراجعة أحمد خاكي الهيئة المصرية العامة للكتاب: ص97.
2- نفسه ص98.
3- نفسه ص35.
4- انظر: بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ت: محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، ص150- 151.(1/31)
5- انظر: نظرية الأدب، أوستن وارين: وربنيه ويلك، ت: محيي الدين صبحي، م: د حسام الخطيب/ مطبعة خالد الطرابيشي 1972: ص248.
6- نفسه ص246.
7- بنية اللغة الشعرية: ص164.
8- نفسه ص164.
9- نفسه ص166 والمقطوعة نقلت باللغة الفرنسية، وهي غير مترجمة إلى العربية.
10- علوم البلاغة، البيان والمعاني والبديع، أحمد مصطفى المراغي، دار القلم -بيروت- لينان، ص152 وانظر البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل دار إحياء الكتب العربية 1957 ص45.
11- نفسه ص152.
12- نفسه ص149.
13- ديوان محمود درويش، محمود درويش، دار العودة، ص618.
14- انظر: الحداثة، السلطة، النص، كمال أبو ديب م فصول، مجلد 4 العدد الثالث، ابريل، مايو، يونيه 1984، ص54 وانظر أيضاً: لغة الغياب مجلة الأقلام، العدد 5، أيار 1989 ص4.
15- بنية اللغة الشعرية، ص165.
16- حنجرة طرية، سامي مهدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1993، ص32.
17- أول محاولة من هذا النوع كانت في قصة لصباح محيي الدين ظهرت في مجموعته السمفونية الناقصة 1958 ثم تلتها محاولة محمد خضير في قصته منزل النساء" في مجموعته الثانية في درجة 45 مئوي.
18- انظر القصيدة في مجلة فصول المجلد 4 العدد3، ابريل، مايو، يونيه 1984. ص62- 63.
19- انظر الحداثة، السلطة، النص، أبو ديب، نفسه، ص58.
20- اللذة في الأدب الحديث، الحداثة والتجريب، جاكوب كورك، ترجمة ليون يوسف وعزيز عمانوئيل، دار المأمون، ص172.
21- ثورة الشعر الحديث، من بودلير إلى العصر الحاضر، د. عبد الغفار مكاوى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص32.
22- انظر: قضايا الشعرية، رومان ياكبسون، ترجمة محمد الوالي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر 1988، ص75.
23- ديوان محمود درويش: ص610.
24- اللغة في الأدب الحديث، الحداثة والتجريب، ص172.
25- العاطل عن الوردة، باسم المرعبي، ص48.(1/32)
26- تاريخ الموح: فلاح عدوان، الناشر المكتبي للطباعة، بغداد 1998، ص7.
27- مجلة عمان "العدد 38 آب 1998، ص20.
28- علوم البلاغة، البيان والمعاني والبديع، ص150.
29- نفسه: ص151.
30- ديوان عبد الوهاب البياتي، دار العودة- بيروت، المجلد الأول، ص275.
31- نفسه ص296.
32- ديوان محمود درويش، ص600.
33- نفسه ص609.
34- نفسه ص614.
35أ- التوراة: سفر: المزامير، المزمور المئة والسادس والعشرون، ترنيمة المصاعد، الآية4
35ب- انظر الصورة الشعرية: سي دي لويس، ترجمة أحمد نصيف الجنابي وآخرين ص137.
36 آ- بنية اللغة الشعرية: ص146.
36ب- 37، 38 غرفة بملايين الجدران- محمد الماغوط، المطبعة العمومية- دمشق 64، الصفحات 12-19-38 على التوالي.
39- انظر الحداثة، السلطة، النص، نفسه ص60.
40- لغة الغياب، نفسه، ص23.
41أ- انظر: ما الحداثة، ترجمة كاظم جهاد، دار رشد للطباعة والنشر، ص22.
41ب- نفسه: ص23.
42، 43- انظر لذة النص، رولان بارت ترجمة فؤاد الصفا والحسن سبحان، دار توبقال للنشر ص16-21-19.
45- الصورة الشعرية، سي، دى، لويس، ترجمة أحمد نصيف الجنابي وآخرين، ص132- 133.
46- قضايا في النقد الأدبي، ك، ك روثفن، ترجمة د. عبد الجبار المطلي، دار الشؤون الثقافية العامة 1989، ص51.
47،48،49،50،51،52،53 انظر أسس النقد الأدبي الحديث، تبويب مارك شورر، جوزفين مايلز، جوردن ماكنزي، ترجمة السيدة هيفاء هاشم ج2 فصل الشكل المكاني في الأدب الحديث لجوزيف فرانك).
... وانظر قضايا الشعرية، رومان ياكبسون والشعرية: تزفطان تودورف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال- المغرب، ص63-64.
(((
سرد الشعر وشعرية السرد
دراسة في القصيدة السردية الحديثة(1/33)
ثمة مسلمة تقول إن السردية تتحكم في كل خطاب مهما كان نوعه(1)، ولا يقتصر وجودها على الأجناس الأدبية حسب، بل يمتد ليشمل التاريخ والسينما، إلا أن تخضع في كل جنس أدبي، وكل فن للقوانين البنيوية لذلك الجنس أو الفن. ويبدو أن وجودها في أجناس أدبية بعينها، هو وجود غير قار، إذ يخضع للتطور والتغيير، فقد تكون صيغة السرد مهيمنة في حقبة تاريخية معينة أو مذهب أدبي معين، ولكنها لا تلبث أن تفقد هذه الهيمنة في حقبة تالية مخلية الطريق لصيغة أخرى، كالوصف والعرض والحوار.
ومن الأمور المعروفة عن السرد تسيده في القصيدة الغنائية مع ظهور المذهب الرومانسي، وقد اقترن هذا النزوع إلى القص في القصيدة الرومانسية بتغليب، "الأسلوب النثري في الشعر".. وبلهجة فيها من الكلام ملامح كثيرة"(2) وهو أمر أي الأسلوب النثري لم يقتصر على المذهب الرومانسي، أو الواقعي من بعده، بل هو اتجاه ميز العصر الحديث كله.
وعلى الرغم من الزعم القائل بأن المدرسة الحديثة التي ظهرت فيما بين “1908- 1922" والتي كان من أبرز شعرائها: فاليري، وييتس وعزرا باوند واليوت. قد حاولت انتشال القصيدة الغنائية من أسر "الرومانسية والسرد"(3) كما حاولت "إبعاد التخيل إبعاداً تاماً عن الشعر الغنائي لمنع أي خطر جدي من المزج بين الاثنين"(4)، على الرغم من كل ذلك، فإن هذه المدرسة لم تستطع أن تنأى بالقصيدة الغنائية عن السرد بشكل تام، ففكرة "المعادل الموضوعي" التي استخلصها اليوت من الرمزيين الفرنسيين، ومن النظرية والممارسة لديهم، وفكرة التحفيز" التي نادى بها الناقد "ايغور ونترز" والتي يتوجب على الشاعر بموجبها أن يحفز الانفعالات "بإعطائنا الحوادث التي أنتجتها"(5) كل ذلك أدى بالقصيدة الغنائية إلى استخدام الأحداث في لغة يومية قريبة من لغة النثر لدى شعراء هذه المدرسة.(1/34)
ويعد عزرا باوند مؤسس المدرسة التصويرية في الشعر وإن تخلى عنها فيما بعد، ويشير الناقد "ر. ب. بلاكمور: في دراسته للبناء الجمالي في القصيدة الحديثة إلى طريقة: باوند" الحكائية، وفي حديثه عن شكل قصيدة "الكانتوز" يصفه بأنه "شكل حكاية تبدأ في موضع أو موضعين آخرين ثم تنتهي في موضع آخر"(6) أما بشأن اليوت وشعره، فإن الناقد "جوزيف فرانك" أثار في مقاله "الشكل المكاني في الأدب الحديث" إلى أن أعمال اليوت المبكرة الأكثر تعقيداً من مثل "بروفروك" و"جيرنتون" و"صورة سيدة" تتضمن دائماً هيكل بناء روائي وإلى أن القارئ لـ "بروفروك ينحرف منذ الأبيات الأولى، في حركة روائية"(7).
ويبدو أن السرد صيغة رافقت القصيدة الغنائية منذ أقد العصور، إذ تشير شعريات كل من أفلاطون وأرسطو إلى أن هذه الصيغة ليست وقفاً على الملحمي والقصصي، بل وتشمل الجنس الغنائي الذي أهملا التفصيل فيه، فأفلاطون يشير وهو بصدد الحديث عن طرائق المحاكاة الثلاث إلى نمط من السرد يدعوه بـ "السرد البسيط” ويمثل له بخمريات "باخس"(8)، وأرسطو إلى الأناشيد البطولية والهجائية كجنس سردي تحول إلى "الإيحائي"(9). ويعقب الناقد "جيرار جينت" بأن السردي النقي لا وجود له على مستوى الأثر الأدبي عامة، والجنس الأدبي خاصة ومعنى ذلك أن الصيغ المعروفة في الأدب وهي السرد -الوصف- الحوار- يمكن أن توجد جنباً إلى جنب في أي أثر أدبي، أياً كان جنسه أو نوعه.(1/35)
وإذا كان السردي النقي هو مجرد احتمال، فإن القصيدة الغنائية على مستوى الصيغة جنس غير نقي، وكما أن وجود رواية أو قصة قصيرة بلا حوار هو استثناء، كذلك فإن خلو قصيدة غنائية من السرد هو استثناء أيضاً، ولقد أشار مؤلفاً "نظرية الأدب" إلى أن "سكاليجر" وعدداً من الباحثين، عدوا الملحمة أرفع الأنواع الأدبية، ويعود ذلك أو جزء منه إلى أنها تضم كل الأنواع الأخرى، وقد حاول هؤلاء الباحثون تفكيك الأجزاء المؤلفة للملحمة إلى "سرد نقي" وسرد خلال حوار، وتمثيل "وبعد أن أرجعت الأنواع الأدبية أو الصيغ إلى جذورها غدت أكثر جذرية من "الوصف والعرض والسرد"(11) بعبارة المؤلفين. والواقع أن هذا الحكم لا ينطبق على ما هو ملحمي حسب، بل وعلى الجنس الغنائي أيضاً، إذ قد تتجاوز الصيغ الثلاث في قصيدة معينة وقد تنفرد صيغة واحدة منها في قصيدة معينة، وهو ما يحدث أيضاً في أجناس أدبية أخرى، وليست أقصوصة "القتلة" لارنست همنغواي، التي تقوم على صيغة واحدة هي الحوار، ببعيدة عن الأذهان.(1/36)
إن استقراء شعرنا العربي، قديمه وحديثه يؤكد هذه الحقيقة، وحسبنا أن نشير إلى أن معلقة امرئ القيس المؤلفة من قرابة ثمانين بيتاً. يهيمن فيها السرد والحوار المسرود على نصفها، أي على أربعين بيتاً منها. بينما يتسيد الوصف نصفها الآخر، وبدقة سبعة وثلاثين بيتاً، ويجتمع السرد مع الوصف ليكونا صوراً سردية، في الأبيات الثلاثة الباقية منها(12). وقد أورد الباحث الدكتور "جلال خياط" خبر القصيدة التي يرويها صاحب الجمهرة، والتي تنسب إلى الجن- ونعتها بأنها تصف حياة وقصة متكاملة ولكنها تتخذ الشعر الغنائي طريقاً لعرضها، ثم أضاف قائلاً: أن "أكثر المعلقات والقصائد الجاهلية لا تخلو من حادثة يقصها الشاعر ولكنها لا تستقطب حدثاً واحداً نامياً بصراع وحبكة وحوار"(13). إن استخدام صيغة السرد في الشعر العربي القديم، كقصيدة "الأعشى" في الإشادة بوفاء "السموأل" والحوار المروي والمسرود في العديد من القصائد سيما قصائد "حاتم الطائي"، دفع بعض الباحثين إلى القول بوجود الملحمي في الشعر العربي القديم(14)، كما دفع البعض الآخر إلى معارضة الغنائية بـ"الفروسية" التي وجدوها في بعض المطولات في هذا الشعر لخلصوا إلى القول بوجود "الحبك"(15) في الشعر الجاهلي، ويعود هذا الرأي في جذوره إلى "البستاني" الذي ترجم إلياذة هوميروس، والذي أكد في تقديمه لها أن الشعر العربي القديم عرف الشعر القصصي.(1/37)
لقد أطلق سليمان البستاني مصطلح (الملحمة EPIC) على قصة هوميروس، ولكن لم يلبث أن استبدل تسمية (الشعر القصصي) بالملحمة ليقول بوجود مثل هذا الشعر لدى العرب. وكان ذلك بدافع غيرة الرجل على العربية وآدابها وحبه لها، وربما كان هذا الدافع يكمن وراء هذا الرأي لدى الباحثين الآخرين ممن تابعوا البستاني. مستدلين بوجود صيغة السرد أو بعض عناصر الملحمة، متجاهلين الخصائص الجنسية والشكلية الأخرى في الشعر الملحمي. إن أسلوب الأعشى القائم على الحوار يمكن أن نجده في قصائد أخرى مثل القصيدة الشهيرة للشاعر الأموي "الوضاح" أو المنحولة عليه، والتي تقوم على موقف غرام(16)، كما نجده في شعر عمر بن أبي ربيعة، والحطيئة وغيرهما. ولكن القول بوجود الملحمي أو الدرامي في الشعر العربي القديم قول لا يخلو من المبالغة، فقد بقيت محاولة الأعشى في الشعر القصصي، أو اختراع الأسلوب الملحمي "عملاً فذاً لم ينسج أحد على منواله"(17).
من المعروف أن رواد قصيدة الحداثة التي سميت أولاً بـ "قصيدة الشعر الحر" خطأ، والتي نشأت على يد نازك والسياب والبياتي، وقعت في بداية نشوئها تحت تأثير المذهب الرومانسي وشعراء مدرسة الديوان، ولكن هؤلاء الشعراء ما لبثو أن التفتوا صوب مذاهب ومدارس شعرية أخرى، كالواقعية والتصويرية، ويبدو أن الشاعر الأخير كان أسبق الرواد الثلاثة في تأثره ببعض جوانب المدرسة التصويرية وشعر اليوت، سيما في استخدام لغة الحديث اليومي ورسم المشهد عبر مجموعة من الصور التي يشدها موضوع واحد كما هو الأمر في قصيدة "سوق القرية" وإن اختلف عن التصويريين في جوانب أخرى(18)، وفي الديوان الذي ضم القصيدة نجد قصيدة أخرى تستخدم السرد وتتسم لغتها بالنثرية وهي قصيدة "مذكرات رجل مجهول"(19)، التي جاء فيها:
"أنا عاملٌ، ادعى سعيد
من الجنوب
أبواي ماتا في طريقهما إلى قبر الحسين
وكان عمري آنذاك
سنتين- ما أقسى الحياة
وأبشع الليل الطويل(1/38)
والموت في الريف العراقي الحزين
وكان جدي لا يزال
كالكوكب الخاوي، على قيد الحياة"
إن بحث الشاعر العربي المحدّث عن وسائل وأدوات تعبيرية جديدة كان من شأنها دفع الشعر العربي على طريق الحداثة، إذ جعله يلتقي بمحاولات التجديد في الشعر العالمي، هذه المحاولات التي "اقترنت غالباً بنمو العناصر الدرامية والملحمية والحكائية داخل القصيدة الجديدة إلى جانب العناصر.. الأخرى"(20).(1/39)
وربما كان أخطر ما تلقاه الشاعر العربي الحديث من هذه المؤثرات الوافدة مقولة "اليوت" عن "المعادل الموضوعي" فضلاً عن شعره، إذ لم يعد الشاعر يسوق فكرته أو يعبر عن عاطفة بصورة مباشرة كما هو الأمر في شعرنا القديم، بل صار يلجأ لنقل انفعالاته إلى عقل القارئ، إلى وسيط هو "مجموعة من الموضوعات، موقف، سلسلة من الأحداث"(21)، ثم كان اكتشاف الشاعر العربي المحدث في منتصف الخمسينات "للأسطورة" بعد ترجمة أجزاء من كتاب جيمس فريزر "الغصن الذهبي" إلى العربية على يد جبرا إبراهيم جبرا، واكتشافه لأساطير المنطقة بفعل ما أحدثته هذه الترجمة، ثم تعرفه -أي الشاعر العربي الحديث- على تقنيات جديدة في القصيدة الحديثة، كالمونولوج الدرامي أو القناع، والمرايا، كل تلك التقنيات والوسائل التعبيرية الجدية، دفعت الشاعر المحدث إلى استخدام السرد في القصيدة الغنائية، ذلك أن معالجة الأسطورة كقصيدة، والمونولوجي الدرامي الذي من خصائصه أن يروي الشاعر بصوته أو بصوت قناعه قصة -تروى بالفعل الماضي وتقدم الحدث بالفعل المضارع وبأسلوب وزمن دراميين(23)، وكأن الحوار وأسلوب المرايا الذي من شأنه غالباً اختلاق شخصية وهمية يتحدث عنها الشاعر أو تتحدث عن نفسها، كل ذلك دفع بالقصيدة الحديثة على طريق السرد والخطاب القصصي، ولم يعد السرد يقتصر على بعض مقاطع القصيدة، بل أصبح الصيغة المهيمنة على القصيدة، في قصائد شهيرة مثل "أغنية في شهر آب" لبدر شاكر السياب، و"أغنية من فينا" لصلاح عبد الصبور، وعلى الكثير من قصائد الأجيال التالية لجيل رواد حركة الشعر الحديث.(1/40)
تقترب الشاعرة نازك الملائكة في دراستها لهياكل القصيدة، من النقد الجديد، أو الأرسطوطاليسية الجديدة، فمن المعروف أن أرسطو تحدث في شعريته عن شعر الأحداث التي تنطوي كما هو معروف على زمن مما دفع بعدد من النقاد إلى الحديث عن زمن القصيدة الغنائية، كل فعل -على سبيل المثال- "الدراولسن" الذي حاول أن يصل إلى شعرية خاصة بالقصيدة الغنائية، في دراسته لقصيدة "يتس" الإبحار إلى بيزنطة"(23) وذلك باقتطاع شعريات التراجيديا عند أرسطو "وقد يكون أكثر دقة أن نقول باقتطاعها"(34).
لقد قسمت الشاعرة نازك الملائكة هياكل القصيدة تبعاً لوجود الحركة والزمن فيها، وقد عدت الوصف هو الصيغة المهيمنة على الشعر القديم، إذ كان الشاعر القديم يعوض الحركة والزمن في القصيدة بالتفجير العاطفي للمشاعر التي يحيط بها موضوعه الساكن و"من هذا التعويض نشأ الشعر الغنائي الذي اغتنى به الأدب القديم. إنها حالة يؤدي سكون الإطار وتسطحه إلى الارتكاز على محور القصيدة، وعلى الموصوف فيها" وتضيف الشاعرة والناقدة قائلة: "إن هذا النمط من الهياكل يعتمد على الوصف لا السرد والحركة. أما القصائد الهرمية فإنها لابد أن تتضمن فعلاً أو"حادثة" لا مجرد شيء جامد يحتل حيزاً من المكان والشاعرة تمضي إلى أبعد من ذلك، إذ تفترض أن في الخطابات الشعرية ذات الهياكل الهرمية ما في الخطاب السردي من حبكة ونمو درامي ولحظة تنوير، فهي تتحدث عن تقديم قصصي يقوم به الشاعر "ثم تأتي لحظة تندفع خلالها المشاعر والأحداث إلى قمة شعورية. وتبلغ القصيدة أعلى مراحل التوتر، وسرعان ما تبدأ النهاية بعد ذلك بفك المشكلة وحل العقدة(25). والواضح من استخدام المصطلح "العقدة" أو الحبكة، أن تصورها للقصيدة ذات الهيكل الهرمي على أنها قصة شعرية، واضح بين.(1/41)
إن تصور الملائكة لبنية أو هيكل القصيدة وتقسيمها لهذه البنية على أساس العنصر الزمني، فضلاً عن الحديث عن ترتيب سببي أو عقدة يتعارض مع تصور فريق آخر من الشكلانيين، هو فريق الشكلانيين الروس، فقد أشار توماشفسكي في مقالة "نظرية الأغراض" إلى أن العناصر الغرضية في الأدب، تتحقق على وفق نمطين أساسيين: "فإما أن تخضع لمبدأ السببية فتراعي نظاماً وقتياً معيناً... وإما أن تعرض دون اعتبار زمني- أي في شكل تتابع لا يراعي أية سببية داخلية. في الحالة الأولى، نكون بإزاء أعمال "ذات مبنى.." (قصة قصيرة، رواية، قصيدة ملحمية) ونكون في الثانية، بصدد أعمال لا مبنى لها، أي وصفية (شعر وصفي وتعليمي، غنائي، كتابات رحلات)(26). وفضلاً عن هذا فإن "رومان ياكبسون" قد أوضح أن بنية القصيدة هي بنية فضائية وليست زمنية، وإن كل طبقات الملفوظ فيها "بدءاً من الفونيم وسماته التمييزية، وصولاً إلى المقولات النحوية والمجازات، يمكن أن تندرج في انتظام مركب حسب تناظر، أو تدرج أو تناقض أو تواز... مشكلة بمجموعها بنية فضائية حقيقية"(27). وقد نجد اليوم مثل هذه البنية الفضائية في القصص، في حين نجد بنية زمانية في الشعر كما أوضح تودوروف(28)، إلا أن العناصر المكونة والعلاقات التي تشكلها وتختلف في الخطاب الشعري عنها في الخطاب النثري أو السردي. وإذا ما أخذنا عنصر أو نظام التوازي مثلاً، وجدنا أن "الوحدات الدلالية ذات الطاقة المختلفة هي التي تنظم بالأساس البنيات المتوازية"(29) على حين أن الوزن في الشعر هو الذي يفرض بنية التوازي: البنية التطريزية للبيت في عمومه، الوحدة النغمية وتكرار البيت والأجزاء المعروضة التي تكونه تقتضي من عناصر الدلالة النحوية والمعجمية توزيعاً متوازياً"(23) ومع ذلك فإن قول ياكبسون هذا يتجاهل كلية قصيدة النثر أو القصيدة الدلالية- كما أسماها كوهن.(1/42)
والسؤال الذي ينبض هنا الآن هو: أين تكمن الغنائية في قصيدة الفعل أو الحادثة التي تتضمن أحداثاً وشخصيات على نحو ما نرى في القصة والمسرحية، وأين يكمن الفرق بين الغنائي والسردي أو الدرامي؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من تفحص بعض النماذج من الشعر الحديث الذي يستخدم السرد وسيلة أساسية في التعبير، وسنقتصر على أنموذجين سبق ذكرهما في ثنايا البحث وهما قصيدة السياب "أغنية في شهر آب"(31) وقصيدة صلاح عبد الصبور "أغنية من فينا"(32). والقصيدتان لا تقومان على هيكل سردي روائي حسب بل تشتركان في أنهما تشيران إلى القارئ بأنه على عتبة نص غنائي لا قصصي. وتبدأ اللحظة الأولى في قصيدة السياب بالغروب، تماماً كما تبدأ قصيدة "أغنية العاشق بروفروك" لـ"اليوت" التي يندمج القارئ فيها في حركة روائية منذ مطلعها كما سبق أن ذكرنا، والفارق بين القصيدتين أن لحظة الغروب في قصيدة السياب، هي اللحظة التي ينتهي فيها شهر تموز ويحل شهر "آب" والقارئ ما أن يمضي في قراءة القصيدة حتى يكتشف في أن تموز الذي تعنيه القصيدة هو إله الخصب والربيع لدى العراقيين القدماء، والذي ما إن ينتهي فصل الربيع، حتى يعود ومع شهر "آب" شهر الجدب، إلى العالم السفلي وإلى عالم الظلام والموتى.
"تموز يموت على الأفق
وتغور دماه مع الشفق
في الكهف المعتم والظلماء
نقالة إسعافٍ سوداء"
وفي المقطع التالي من القصيدة، يتكشف صوت الراوي الذي يروي بضمير المتكلم ويشارك في الأحداث:
"ناديت مربية الأطفال الزنجية
الليل أتى يا مرجانة
ويستمر الحوار بين السيدة الراوية ومربية الأطفال الزنجية طوال المقطع الثاني من القصيدة، وتقطع هذا الحوار بين الحين والآخر عبارة: "تموز يموت ومرجانة، كالغابة تربض بردانة مشكلة نسقاً من التوازي مع مطلع القصيدة، ويغلب على السرد في القصيدة الزمن الحاضر لا الماضي.
"وتقول ويخذلها النفس:
"الليلَ، الخنزير الشرس،
الليلُ شقاء!(1/43)
ويأتي المقطع السادس والأخير في القصيدة ليؤكد عبر ضمير المخاطب وفعل الطلب أن زمن القصيدة هو الزمن الراهن:
"فتعال وشاركني بردي
بالله تعالَ
يا زوجي، ها إني وحدي
-والضيفة مثلي بردانة."
والقارئ للقصيدة يجد فيها دورة زمنية كاملة، تبدأ مع بداية المساء وتنتهي في الهزيع الأخير من الليل، إلا أن الأحداث تفتقر إلى حبكة واضحة، سيما بعد أن قام الشاعر بحذف مقطع كامل من القصيدة في نشرها الثاني- وهو المقطع الذي تتحدث فيه السيدة عن الدوافع الاجتماعية والطبقية الكامنة وراء زواجها- كما أن حضور الضيفة في المقطع الخامس من القصيدة يقوم على المصادفة لا غير، والأكثر من ذلك كله أن المقطع السادس والأخير يشكل هجوماً على ما يدعوه "بوبرت شولز" بالساردية لدى القارئ. ناقلاً إياه إلى ما يدعوه الناقد نفسه بـ "الشاعرية"(33) متضامناً مع عتبة النص -أي العنوان- الذي يمهد القارئ للغنائية منذ البداية.
وإذا كان الزمان هو محور عتبة النص أو عنوانه في قصيدة السياب، فإن العنوان في قصيدة صلاح عبد الصبور "أغنية من فينا" يتمحور حول المكان، وهو مكان تاريخي معروف على خارطة أوربا، وهو -أي العنوان- بقدر ما يمهد القارئ للشاعرية الغنائية، يمهده أيضاً لهذا اللقاء بين الشرق والغرب الذي تتحدث عنه القصيدة، وعلى العكس من قصيدة السياب، فإن الشاعر هنا يستخدم فعل القص "كانت" أي الفعل الماضي:
"كانت تنام في سريري والصباح
مُنسكب كأنه وشاح
من رأسها لردفها
إلا أن زمن المونولوجات أو الحوار النفسي للشاعر هو زمن الحاضر:
"أقول، يانفسي، رآك اللّه عطش حين بلّ غربتك"
ثم يأتي نداء الشاعر أو الراوي إلى جسد السيدة الأوربية
ليسهم هو أيضاً في ترهين اللحظة الزمنية:
"ياجسمها الأبيض قل: أنت صوت:
ياكم تحاورنا كثيراً في المساء:
ياجسمها الأبيض قل: أنت خضرة منورة؟
ياكم تجولت سعيداً في حدائقك؟(1/44)
وعلى العكس من قصيدة السياب، فإن قصيدة عبد الصبور تنطوي على حبكة واضحة، ودوافع الفعل لدى الشخصيات واضحة، إذ يدفع الاغتراب والوحدة رجلاً وامرأة وبدون مقدمات أو معرفة سابقة، للقاء بعضهما، لقاءً جسدياً حاراً، ثم ينتهي ليفترق الاثنان كما التقيا إلا أن التوازي ومايدعوه "ياكبسون" بالمفاهيم أو التوازيات النحوية(34) تتضامن أيضاً مع عنوان القصيدة، وتسهم في كسر أو إحباط ساردية القارئ كقول الشاعر مثلاً:
"لما رأينا الشمس في مفارق الطرق
مدت ذراعيها الجميلتين
مدت ذراعيها المخيفتين"
وكقوله أيضاً، مؤكداً دافعي الحياة والموت والإحساس الشديد بالزمن وبالموت في ظل الحضارة الأوروبية الحديثة:
"لما دخلنا في مواكب البشرْ
المسرعين الخطوَ نحو الخبز والمؤونة
المسرعين الخطو نحو الموت
وثنائية الحياة- الموت هذه تتمظهر في ثنائيات عديدة في القصيدة كالروح -الجسد /المادة- والشبع/ والجوع/ والتيه، مشكلة محور التوازيات والصور النحوية في القصيدة.
وللإجابة عن السؤال عن أهم الفروق بين القصيدة الغنائية والأجناس الأخرى، لابد من عرض أهم الآراء التي قيلت في هذا الموضوع. وسيكشف البحث عن مدى التناقض والاضطراب اللذين يجدهما الباحث لدى النقاد ومنظري الأدب، بصدد بعض مسائل التجنيس.
ومن المعروف أن التعريف الشهير القائل بأن الشعر الغنائي: "هو الذي يبقى فيه المحاكي هو هو(35) ينسب في كتب الشعرية إلى أرسطو، وبالعودة إلى شعرية أرسطو نجد أن هذا التعريف يطلق على ذلك الجزء من الملحمة الذي يتكلم فيه الشاعر بصوته هو(36) لا بصوت الشخصية، وربما كان من الأنسب أن ينسب التعريف إلى أفلاطون (37) الذي قسم طرق المحاكاة إلى ثلاث، لا إلى أرسطو الذي اختزلها إلى اثنتين هما السرد والتمثيل- متجاهلاً الشعر الغنائي- كما أوضح جنيت(38).(1/45)
ويميز علماء اللغة واللسانيون بين الأجناس الثلاثة على أساس الضمير، فالمتكلم للغنائي والغائب للملحمي والمخاطب للمسرحي، أمّا "ياكبسون" فيميز بين الأجناس الثلاثة على أساس الضمير والوظيفة اللغوية و "الشعر الملحمي المركز على ضمير الغائب يفتح المجال بشكل قوي أمام مساهمة الوظيفة المرجعية، والشعر الغنائي الموجه نحو ضمير المتكلم شديد الارتباط بالوظيفة الانفعالية، وشعر ضمير المخاطب يتسم بالوظيفة الإفهامية"(39) وتتضمن هذه التصنيفات أو التقسيمات التي لاتعتمد طرائق المحاكاة مبدأ آخر من التقسيم هو مبدأ أو معيار الذات والموضوع- كما هو الأمر لدى هيغل(40) الذي ميز بين الأجناس الثلاثة على أساس من هذا المعيار، فالغنائي ذاتي، والملحمي موضوعي، والمسرحي ذاتي موضوعي في آن واحد. ويعمد فريق آخر من منظري الأدب إلى التمييز بين الأجناس الأدبية على أساس زمنيتها، فالحاضر والمستقبل للغنائي والماضي للقصصي أو الملحمي والحاضر أو المستقبل للمسرحي أو التمثيلي(41).
على أن معظم هؤلاء الباحثين يتفقون على أمر واحد وهو أهمية المفردة والصورة أو اللغة في الشعر الغنائي. فالوظيفة الشعرية تتجلى في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمى ولا كانبثاق للانفعال. وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد إمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة(42)، وهي -أي الوظيفة الشعرية- قد توجد بقدر أو آخر في أي خطاب ومهما كان نوعه لكنها في الخطاب الشعري تصل درجة المهيمن الذي يحول بالضرورة العناصر الأخرى ويحدد معها سلوك المجموع(43)، ويتابع شولز هذا المفهوم فيؤكد أن القص يكون "أكثر قصصية حين يؤكد الأحداث المروية وأكثر غنائية حين يؤكد لغته الخاصة"(44) كما يؤكد عدد آخر على طبيعة اللغة والصورة في الشعر الغنائي بالقول:(1/46)
"تكتسب "الطبيعة اللفظية الملموسة الخاصة بالصورة، أهمية استثنائية، هذه الطبيعة التي تكون فيها اللفظة المادة والشكل بمضمونه في آن واحد"(45).
لقد كانت هذه الطبيعة محوراً للدراسات الأسلوبية المعاصرة، كما كانت محوراً للدراسات البلاغية القديمة. وتوضح هذه الدراسات إن لغة الشعر هي على الضد من لغة النثر ومن اللغة العادية، فهي تنحرف عن قوانين اللغة العادية لتموه الرسالة على القارئ، ثم تعود لنفي هذا الانحراف لتصل بهذا القارئ إلى الدلالة. ومع ذلك فإن هذه الدلالة تختلف عن الدلالة في النثر، أو هي في هذا الأخير دلالة مطابقة، بينما هي في الشعر دلالة إيحائية (46).
وقبل مناقشة هذه الأحكام بالتمييز بين القصيدة الغنائية والنثر نعمد إلى وضع هذه الفروق في الجدول التالي:
الجنس ... الضمير ... الزمن ... الذات ... الموضوع ... الوظيفة اللغوية ... الصيغة ... الدلالة
الغنائي ... المتكلم ... الحاضر و ... الذات ... الانفعالية ... الوصف+السرد+ ... إيحائية
المستقبل ... الحوار
القصصي ... الغائب ... الماضي ... الموضوع ... المرجعية ... الوصف+السرد+ ... مطابقة
الحوار
المسرحي ... المخاطب ... الحاضر+ المستقبل ... الذات+ ... الموضوع ... الإفهامية ... العرض+الحوار ... مطابقة
وإذا كان النقاد ومنظرو الأدب أو جلهم يتفقون على أن الرسالة في الخطاب الشعري تعد هدفاً في ذاتها، فإن هؤلاء النقاد يختلفون في مسألة إمكانية وجود العقدة أو الحبكة في هذا الخطاب. لقد أكد النقد الكلاسيكي (الجديد) ومنذ ماثيو ارنولد على العقدة في القصيدة الغنائية، ويعود ذلك إلى أن أرسطو عدّ العقدة الوجه الأرقى للتراجيديا(47). وقد وجد هذا التأكيد على العقدة وعلى أولويتها في الحاسية الغنائية ترحيباً لدى عدد من النقاد الأرسطوطاليسين الجدد، فقد أكد "ونترز" على سبيل المثال على أهميتها يتبعه عدد من النقاد الجدد الذين أكدوا على أن للقصيدة بنية مستقلة وحياة خاصة بها(48).(1/47)
على أن عدداً آخر من النقاد ينكرون -رغم تأكيدهم على وجود الفعل في القصيدة الغنائية- أن تكون في القصيدة أية عقدة، فقد عدّ "فرنسيس فرغسون" الغنائية تأليفاً في أداة لفظية على العكس من المسرحية التي نجد فيها دوراً لكلمات ناتجة عن بنية مستسره (كذا) للحدوث والشخصية، وقد بين الناقد الدراس في دراسته لقصيدة ييتس "الإبحار إلى بيزنطة" أن السعي للعثور على العقدة في الشعر الغنائي سيكون دون جدوى إن لم يكن مستحيلاً (49)، وقد أضاف الناقد أن الملحمة والمسرحية محاكاة للفعل البشري، وبذلك تكون أسسها حوادث تنظمها الضرورة والاحتمال، وأنها حركيتان بينما الشعر الغنائي ساكن مجرد عن الحركة والتغيير، وعلى الرغم من أنه يحكي أحياناً عن وقائع فإنها ليست جزءاً من عقدة تربط بينها الضرورة والاحتمالية ثم يضيف إلى ذلك قوله عن القصيدة الغنائية: "أن الأساس ليس نسيجاً من الوقائع بل من الأفكار. وأن الشخصية في القصيدة الغنائية لاتتقرر بمقدار مشاركتها في الفعل وإنما بدورها في دراما الفكر، لا دراما الفعل"(50) وبهذا يضع الناقد الفكر في المرتبة الأولى في القصيدة الغنائية، مع أنه يأتي لدى أرسطو، في التراجيديا في المرتبة الثالثة، وتعني "الأقوال والبراهين" على وجه الدقة.(1/48)
إذا ما عدنا إلى الفروق بين الشعر الغنائي والأجناس الأخرى التي أجملناها في جدول، وجدنا أن هذه الفروق أو الحدود هي حدود لاتتسم بالصلابة، سيما في النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد تداخل الحدود بين الأجناس الأدبية من جهة، وتداخل الحدود بين هذه الأجناس والفنون عموماً من جهة أخرى، وقد أدى ذلك إلى نشوء مادعي بـ "النص" والنص المفتوح ولم يعد من قبيل المصادفة أن "يستعمل الشعر والتخييل الحديثان صنعات متشابهة، ويعرضان ماهو في جوهره نوع واحد من التنظيم"(51). وقد تأثرت قصيدة الحداثة بالقصة وأساليبها على نحو "يبدو فيها الفرق بين الشعر والنثر فرقاً يعتمد على التمييز الظاهري وليس الجوهري"(52) كما تأثرت القصة بالقصيدة وأصبحت "الشدة والكثافة والحركة وهي الصفات التي يحتمل أن تكون ملازمة للإيقاع الشعري كثيراً ماتتحق بمستويات متفاوتة في التنويعات التي تنطوي عليها أشكال القصة الحديثة (53). ويحاول بعض النقاد اليوم تطبيق بعض مقولات وخصائص الشعر الغنائي على القصة والرواية، فقد أوضح "ديفد لودج" أن الرواية الحديثة التي تميل إلى الرمزية وترفض الواقعية التقليدية نزاعة إلى الجانب الاستعاري(54)، وهو الجانب الذي وجد "ياكبسون" أنه خاص بالشعر في مقابل الكناية أو المجاز المرسل الذي هو من خصائص النثر ولغته. وقد وصفت بعض الروايات الحديثة بأنها شعرية. وهو الوصف الذي أطلقه زوج فرجينيا وولف على روايتها "الفنار"(55) كما عد الناقد محمود أمين العالم روايات نجيب محفوظ في المرحلة الفلسفية قصائد من الشعر الحديث لايعوزها إلا الوزن(56). إن الوظيفة الشعرية ليست حكراً على القصيدة الغنائية، بل يمكن أن توجد، وبشكل مطرد اليوم خارج الشعر، حيث تعطي هذه الوظيفة أو تلك الأولوية على حساب الوظيفة الشعرية (57)، التي تهمين في القصيدة على غيرها من الوظائف.(1/49)
إن استخدام الرمز والأسطورة والاستعارة، وتحطيم الحبكة التقليدية في الرواية (الجديدة) أدى إلى اقتراب السرد من الشعر والشعر من السرد إلى حد كبير.
ويعرف "فرغسون" الفعل بأنه "بؤرة الحياة النفسية أو هدفها الذي تصدر عنه الأحداث"(58) وذلك يعني أن أجناس الأدب لاتختلف في الجوهر عن بعضها. ويعيدنا هذا الرأي إلى "كروتشه" ورأيه القائل بأن الأدب جنس واحد مادامت العاطفة هي مركز أنواعه وأشكاله كلها. ويجادل أنصار "العقدة" في القصيدة الغنائية بأن كل قطعة أدبية هي عن الحياة النفسية بصورة ما، وأن أية قطعة أدبية توصف بأنها قصيدة بحق، لابد أن تكون فيها شخصية واحدة على الأقل وهي شخصية المتحدث، ولها ترتيب للأحداث النفسية الداخلية، وبالتالي لها عقدة (59).
ومع كل ذلك فإنه لمن الواضح أن ثمة فروقاً بين القصيدة الغنائية والخطاب الشعري والأجناس أو الخطابات الأخرى، وأن ثمة خاصية تسمح لنا بالتحدث رغم كل هذه التغيرات عن صفة موحدة لنوع أدبي محدد كما يقول "ياكبسون" وقبل ذلك (60) علينا تفحص بعض الآراء الخاصة بالقصيدة الحديثة، سيما قصيدة الحادثة والفعل. فقد أشار الناقد العربي كمال أبو ديب، وهو بصدد الحديث عن قصيدة محمود درويش "قصيدة الأرض" التي تروي أحداث ثورة الحجارة في الأرض المحتلة، أشار إلى ظاهرة دعاها بـ "الغياب" أي انقطاع السرد وغياب الحدث وكسر نمو محور التمثيل أو المحور الكنائي، والانتقال إلى المحور الاستبدالي أو محور الاستعارة، و "نسج شبكة مبهمة حول الشيء وإقحامه في عالم الغياب"(61) وقبل هذا أشار الناقد إلى مايراه معلماً من معالم الحداثة، وهو أن "التدمير للواقع وموازاته وإثرائه وتغييبه، يمثل أحد الخصائص الجوهرية للنص الحديث(62)، والسؤال الذي يثيره هذا القول هو مدى صحة هذا التصور، وعما إذا كان الانقطاع أو الغياب سمة خاصة بقصيدة السرد والحديث، وعما إذا كانت هذه الظاهرة خصيصة في القصيدة الحديثة؟(1/50)
والواقع إن وقف الزمن والحكاية وتغييبها هو ظاهرة أو خصيصة تشمل الخطاب السردي أياً كان جنسه فالراوي لايسرد أحداثاً وإنما يصف الأشياء والأماكن التي تقع فيها الأحداث والشخصيات التي تقوم بالأحداث من الخارج والداخل كما ينقل كلام هذه الشخصيات الذي من شأنه أن يوقف الحكاية ويغيب الحدث في كثير من الأحيان، وفضلاً عن ذلك فإن الانقطاع ظاهرة قد نجدها في أية قصيدة قديمة، مثل معلقة امرئ القيس، وليس مقصوراً على القصيدة الحديثة، وربما وجدنا بل نحن واجدون قصائد سردية لاينقطع الحدث والسرد فيها، إلا مع المتواليات المتوازية(63)، والتوازن النحوي، والقصيدتان اللتان أوردناهما هنا دليل على ذلك.
وكما أن إيقاف السرد وتغييب الحدث والمحور التمثيلي ليست أموراً مطلقة في القصيدة السردية، كذلك فإن كسر المحور التمثيلي أو محور الكناية والانتقال إلى محور الاستبدال والاستعارة ليس مطلقاً في مثل هذه القصائد، فلكل قصيدة سردية نظامها الخاص بها، وثمة قصائد سردية حديثة تقوم بكاملها على المحور الكنائي ومع ذلك لا يمكن وصفها بأنها غير حداثوية، كما هو الأمر في قصيدة الشاعر سامي مهدي "الرجل والكلب"(64) التي تروي حكاية رجل يموت بموت صاحبه الكلب!.
"رجل في الثمانين كنت أحييه في كل صبح، بإيماءة عابرة... كان يقبلها، ويرد عليها بإيماءة مثلها، ثم يلقي على بيته نظرة حائرة..
هو جاري، وللناس جيرانهم حين ينتبهون، ولكن ما بيننا لم يزدْ قط عن هذه اللغة الفاترة...
مولعاً كان بالمشي، يؤنس كلباً له في الطريق، أو الكلب يؤنسه، الأمر سيان، شيخ وكلب، وكلب وشيخ، رفيقان في نزهةٍ عاثرةٍ"(1/51)
وتمضي القصيدة في رواية حكاية الرجل العجوز بلغة نثريةٍ قريبة من لغة الحياة اليومية دون أن نجد فيها خروجاً على المحور الكنائي إلا في عبارة ترد في نهاية القصيدة تقول: "وقيل: رمى نفسه فجأة تحت أظلاف سيارة عابرة..." ومع ذلك فإن هذه القطعة السردية ليست خبراً يرد في صحيفة يومية بل قصيدة حديثة.
ولكن يجب الإقرار مع ذلك، أن لغة الحديث اليومي والنزعة النثرية -إذا ما صحت التسمية- التي شهدتها القصيدة الحديثة إبان نشأتها الأولى، ومع الرومانسية والواقعية والتصويرية، قد تراجعت في قصيدة الحداثة إلى حد كبير.(1/52)
ويقودنا الحديث عن الدقة في قصيدة الحداثة بعامة، والقصيدة السردية بخاصة إلى مايتصل بالسرد من تقنيات معروفة كالحوار المنقول الذي يضعه الراوي على لسان الشخصيات، وهو الموضوع الذي يختلف فيه الشعر الغنائي حتى وإن كان سردياً عن النثر، لقد ميز أفلاطون ثلاث طرائق في المحاكاة كما أسلفنا، وأشار إلى أن صوت الشاعر يظهر في السرد ويختفي في التمثيل، إذ أنه هنا يتكلم بلسان غيره ويبدي أعظم مماثلة له في نغمته وإشاراته "فإذا لم يخف الشاعر نفسه كل الإخفاء لم يكن شعره أو قصته تمثيلاً" (65).(1/53)
كما ميز اليوت بين صوت الشاعر الغنائي حين يتحدث الشاعر إلى نفسه أو لا يتحدث إلى أحد وصوت الشاعر في الدراما والمونولوج الدرامي، وهو في تقنية المونولوج الدرامي أو القناع، صوت الشاعر وقد لبس مسوح شخصية تاريخية أو شخصية روائية، واليوت نفسه وهو يشير إلى قصائد المونولوج الدرامي لدى براوننغ يشير أيضاً أننا نسمع صوت براوننغ نفسه أحياناً، وصوت قناعه في أحيان أخرى(66) ولقد تفاوت ظهور صوت الشاعر وطغيانه على صوت قناعه في قصائد القناع في الشعر العربي الحديث بحسب مراحل تطور هذه القصيدة، إذ تراجع بتطور هذا النمط من القصائد صوت الشاعر ليظهر صوت القناع بشكل جلي وواضح في العديد من قصائد القناع لاسيما قصيدتي، عذاب الحلاج" و"عين الشمس" أو تحولات محيي الدين بن عربي للبياتي، إذ تتم المطابقة في القصيدة الأخيرة بين الأنا الدرامية والأنا التاريخية وعلى نحو يمكن تقريه في الحضور التسجيلي "الوثائقي" لصوت ابن عربي"(66)، كما أن القصيدة الأولى "عذاب الحلاج" شهدت تطوراً كبيراً في تراجع صوت الشاعر لحساب صوت الحلاج نفسه، كما عرفناه في شعره(67)، ولقد دفع التركيب القصصي -الدرامي لقصيدة القناع، والطول النسبي لها- بعض الباحثين إلى القول بأن القصيدة الطويلة في الشعر العربي الحديث "تطورت في اتجاه الشكل الدرامي فصارت مجموعة من الأصوات المختلفة والمتميزة، وازدادت تركيباً وتعقيداً.. حتى قاربت منهج التأليف الموضوعي"(68).
على أن قصيدة القناع لها خصوصيتها بين قصائد السرد، ذلك أن الشاعر وهو يتحدث من خلف شخصية تاريخية يختارها -وقد تكون شخصية شاعر أيضاً- يختلف عنه وهو يتحدث بلسان شخصية عادية، وفي النماذج التي اخترناها نجد صوت الشاعر الغنائي هو المهيمن على لغة الحوار إفراداً وتركيباً، فكلام السيدة في قصيدة السياب لايختلف في أي مستوى من مستوياته عن كلام الخادمة مرجانة(6).
"مرجانة هل قرع الجرس؟
فتقول، ويخذلها النفس:(1/54)
الليل الخنزير الشرس
الليل شقاء"
وعلى الرغم من أن عبارة "نذهب أين؟" التي ترد في قصيدة صلاح عبد الصبور تخرق القانون اللغوي لتتقرب من اللغة العامة في الاستفهام. فإن لغة الحوار أو الحوار الداخلي يهيمن عليه صوت الشاعر، ومثل ذلك يمكن أن يقال بصدد العبارة التي ترد على لسان العجوز في قصيدة سامي مهدي "الرجل والكلب"(70).
"وهو كلبه.. "كان يبكي.. ومات هنا.. هل رأيت؟!"
فهي لاتتميز عن لغة القصيدة لفظاً أو تركيباً".
ومعنى ذلك، أن الخطاب الشعري، حتى وإن هيمن السرد على القصيدة، وانطوت القصيدة على شخصيات وحبكة الحوار، فإن لغة القصيدة الغنائية منغلقة إزاء خطابات الآخرين. وإزاء أي تعددية لسانية، على خلاف السرد القصصي، سيما الطويل منه، أي الرواية(71).
على أنه من الواضح أن "الوظيفة الانفعالية" التي تميز الشعر الغنائي، قد تتراجع، أو تمحي في قصيدة السرد، وربما كان هذا ماقصده "اليوت" حين عرف القصيدة الغنائية بأنها هروب من شخصية الشاعر وليست تأكيداً لها(72).
إن الوظيفة الشعرية تظل هي المهيمنة على القصيدة الغنائية السردية، وهي لا تطمس الوظيفة المرجعية وتعمد إلى تدمير الواقع كما يرى بعض النقاد(73)، بل تزد هذه الوظيفة ظهوراً رغم هيمنة الوظيفة الشعرية وتحكمها في صياغة عناصر القصيدة، والعلاقات التي تقيمها هذه العناصر فيما بينها. فأين تكمن هذه الوظيفة؟ وما الذي يجعل من قول الشاعر:
"مولعاً كان بالمشيّ، يؤنس كلباً له في الطريق، أو الكلب يؤنسه" بالرغم من أنه يسهم في نمو محور التمثيل الكنائي ولايكسره أو يستبدل محور الاستعارة به، -ما الذي يجعله سطراً شعرياً، وليس خبراً، حتى وإن قرأناه في صحيفة خبرية يومية؟
وما الذي يجعل من قول السياب في "أغنية في شهر آب" على لسان مرجانة"(74):
"الليل الخنزير الشرس
الليل شقاء"
أو:
"في الباب نساء"
وتعد القهوة مرجانة"(1/55)
إنه هذا الاستخدام الشعري للغة، هذا التقديم والتأخير، وهذا التكرار وهذا الإيقاع الذي يتخلق من هذا التركيب. وإنه هذا التكثيف للعبارة، وهذه التوازيات والصور النحوية، وهذه الجناسات والبنية التطريزية للسطر الشعري وللجملة الشعرية وللقصيدة بأكملها.
وأنه هذا الدال الذي يصبح في القصيدة، لامجرد إشارة للشيء بل يصبح هو نفسه شيئاً وهدفاً في حد ذاته إلى جانب الدلالة التي يؤديها بطرق ملتوية ومتعرجة. ولكنها جميلة، من شأنها أن تمنح السامع أو القارئ اللذة التي لاتمنحه إياها قراءة النثر أو سماعه بالطريقة نفسها:
وبعد كل هذا:
قد يثار التساؤل حول استخدام النثر عموماً داخل القصيدة، أو إلغاء ثنائية شعر -نثر وإلغاء التجنيس عموماً، وهذا أمر عرف به المذهب الرومانسي ويثار الجدل حوله اليوم، في أوساط الأدباء العرب، من خلال الدعوة إلى عبر النوعية- إلا أن هذا موضوع آخر، لا يتسع له هذا البحث الخاص بجنس القصيدة الغنائية.
( هوامش:
1-انظر، تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص) د.محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- المغرب 1985، ص130.
2-من الذي سرق النار، خطرات في النقد والأدب، د.إحسان عباس، جمع وتقديم د.وداد القاضي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص82.
3-Possibilics: Essays on The State of The Novel: Malcolm Brahbury. Oxford university press- London- New York, 1973, p:5.
4-النقد الأدبي، تاريخ موجز: النقد الحديث، ويليام. ك. ويمزات وكلينث بروكس، ترجمة د.حسام الخطيب ومحيي الدين صبحي، مطبعة دمشق 1977، ص176.
5-نفسه، ص164.
6-أسس النقد الأدبي الحديث -تبويب مارك شورر، جوزفين مايلز، وجوردن ماكنري، ترجمة السيدة هيفاء هاشم، مراجعة د.نجاح العطار، دمشق 1966، ج2، ص252-254.
7-نفسه، ص252.
8-انظر: جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، دار الأندلس، بيروت، د.ت. ص143.(1/56)
9-انظر: كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ترجمة د.شكري محمد عياد، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1967، ص38.
10-انظر: مدخل الجامع النص، جيرار جينيت، ترجمة عبد الرحمن أيوب، دار الشؤون الثقافية، ص34.
11-نظرية الأدب، اوستن وارين ورينيه ويلك، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة د.حسام الخطيب، مطبعة الطرابيشي 1972، ص299.
12-انظر: المعلقات السبع -الزوزني: مطبعة الجمالية الحديثة د.ت. ص4-44.
13-الأصول الدرامية في الشعر العربي، د.جلال الخياط، دار الحرية للطباعة، بغداد 1982، ص66 وانظر: الحياة والموت في الشعر الجاهلي، د.مصطفى عبد اللطيف جياووك دار الحرية للطباعة بغداد 1977، ص285.
14-انظر: لمحات من الشعر القصصي في الأدب العربي، د.نوري حمودي القيسي، الموسوعة الصغيرة 71، ص6.
15-انظر: البناء القصصي في القصيدة الجاهلية، د.محمود عبد اللّه الجادر، م الأقلام ع3، سنة 1981، ص5.
16-انظر: تاربخ الأدب العربي، كارل بروكلمان ج1، ترجمة د.عبد الحليم النجار، دار المعارف بمصر، ص62.
17-نفسه.
18-من الذي سرق النار ص ص82-83.
19-ديوان عبد الوهاب البياتي- دار العودة- بيروت، ص ص270-271.
20-معالم جديدة في أدبنا المعاصر، فاضل ثامر، دار الحرية للطباعة -بغداد 1975، ص292.
21-النقد الأدبي تأريخ موجز، النقد الحديث ، ص152.
22-انظر: الشمس والعنقاء، خلدون الشمعة، مطابع ألف باء، دمشق 1974، ص203.
23-انظر: خمسة مداخل في النقد الأدبي- مقالات معاصرة في النقد، تصنيف ويلبرس سكوت ترجمة: د.عنان غزوان وجعفر صادق الخليلي ص ص229-245.
24-النقد الأدبي: تأريخ موجز، النقد الحديث ص184.
25-قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، بيروت 1983، ص247.
26-نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، 1982، ص179.
27-الشعرية: تزفيطان تودوروف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة -دار توبقال للنشر المغرب 1987، ص64.(1/57)
28-نفسه، ص65.
29-قضايا الشعرية: رومان ياكبسون، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر 1988، ص108.
30-نفسه.
31-انظر القصيدة في: ديوان بدر شاكر السياب مجلد (1) دار العودة بيروت، ص ص328-332.
32-انظر: أحلام الفارس القديم، صلاح عبد الصبور، منشورات دار الأداب- بيروت، ص37-40.
33-انظر السرد والساردية في الفلم والقصص روبرت شولز، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة الثقافة الأجنبية، ع12، سنة 1992، ص68.
34-انظر: قضايا الشعرية، ص70 حيث يشبه الباحث قران المفاهيم النحوية بالمونتاج السينمي إذ يولد القطع وربط المتواليات (أفكاراً لاتستطيع هذه اللقطات أو هذه المتواليات أن توحي بها من تلقاء نفسها).
35-نظرية الأدب: تأليف عدد من الباحثين السوفيت المختصين بنظرية الأدب والأدب العالمي، ترجمة د.جميل نصيف التكريتي دار الرشيد للنشر 1980، ص400.
36-كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص34.
37-انظر جمهورية أفلاطون، ص143.
38-انظر مدخل لجامع النص، ص34.
39-قضايا الشعرية، ص ص32-33.
40-فن الشعر: هيجل ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة -بيروت 1981، ص ص110-112.
41-انظر مدخل لجامع النص، ص57.
42-قضايا الشعر، ص19.
43-نفسه.
44-نظرية الأدب، تأليف عدد من الباحثين، ص401.
45-نفسه.
46-انظر: بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر -المغرب 1986، ص ص 212-215.
47-انظر كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص ص68-70.
48-انظر: النقد الأدبي: تأريخ موجز، النقد الحديث ص ص177-184.
49-خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، ص232.
50-نفسه، ص345.
51-النقد الأدبي: تأريخ موجز، النقد الحديث ص176.
52-الشمس والعنقاء ص ص165-166.
53-نفسه.
54-انظر: الحداثة، تحرير مالكولم برادبري وجيمس ماكفارلن ج2، ترجمة حسن فوزي، دار المأمون، ص245.
55-انظر، Possibilities, p.6(1/58)
56-انظر: تأملات في عالم نجيب محفوظ، محمود أمين العالم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1970، ص96.
57-انظر: قضايا الشعرية، ص19 ومن 35.
58-النقد الأدبي: تأريخ موجز، ص183.
59-نفسه.
60-انظر قضايا الشعرية، ص19.
61-الحداثة: السلطة -النص- كمال أبو ديب م فصول م4 ع3 أبريل، مانيو -يونو 1984، ص55.
62-نفسه، ص54.
63-انظر قضايا الشعرية ص.ب والهامش رقم 34.
64-بريد القارات. سامي مهدي، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1989، ص ص97-80.
65-جمهورية أفلاطون، ص143.
66-انظر مقالات في النقد الأدبي ت.س اليوت -ترجمة لطيفة الزمان، ص73.
67-انظر: الرؤيا في شعر البياتي، محيي الدين صبحي، دار الشؤون الثقافية -بغداد 1988، ص140.
68-الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية د.عز الدين اسماعيل، دار العودة- بيروت 1981، ص277.
69-ديوان بدر شاكر السياب، ص329.
70-بريد القارات، ص98.
71-انظر: الخطاب الروائي، ميخائيل ياخيتن، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للنشر والتوزيع، ص66.
72-انظر: النقد الأدبي تأريخ موجز، ص149.
73-انظر: الحداثة، السلطة -النص، م فصول ص54، وانظر: السيمياء التأويل، روبرت شولز ترجمة سعيد الغانمي -المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1994، ص86.
74-ديوان بدر شاكر السياب، ص ص329-330.
(((
الليث والخراف المهضومة
دراسة في بلاغة التناص الأدبي(1/59)
إذا كان الليث عبارة عن مجموعة من الخراف المهضومة على حد تعبير "بول فاليري"(1)، فإن النص الأدبي. أياً كان جنسه، هو أيضاً مجموعة من أقوال الآخرين ونصوصهم، قام النص الجديد بهضمها وتمثلها وتحويلها، فلا وجود لكلمة عذراء لايسكنها صوت الآخرين، باستثناء كلمة آدم، كما يرى باختين(2). إن أي عمل فني أو أدبي جديد يموّل نفسه من مصاريف عديدة عامرة بأرصدة الثقافة والقومية والإنسانية، وكل نص هو طبقات من النصوص المنضدة والأساطير القديمة، والأحداث الكبرى، ومن هذا كله تتأكد حقيقة مفادها: "أن التناص ظاهرة لانصادفها في نص واحد بعينه، وإنما هي قانون النصوص جميعاً"(3).
يلتقي عند هذا التصور للنص، العديد من النقاد اليوم، مثل باختين، وتودروف، وجوليا كريستيفا، وجيرار جينيت، وهارولد بلوم وغيرهم. ويعد "شكلو فسكي" أول من أشار إلى التناص(4)، عندما أشار إلى أن العمل الفني يدرك في علاقته بالأعمال الفنية الأخرى والاستناد إلى الترابطات التي نقيمها فيما بينها. وليس النص المعارض وحده الذي يبدع في تواز وتقابل مع نموذج معين. بل إن كل عمل فني يبدع على هذا النحو"(5).
وهكذا ففي كل "أسلوب جديد بحسب باختين الذي يعد أول من صاغ نظرية شاملة في التداخلات النصية -يوجد "عنصر مما نسميه رد فعل على الأسلوب الأدبي السابق، إنه يمثل سجلاً داخلياً وأسلبة مضادة مخفية... لأسلوب الآخرين"(6)، وهكذا أيضاً، ومنذ باختين لم يعد لمقولة بيفون بأن الأسلوب هو الرجل أية مصداقية. بل رشحت نظرية التداخل النص حداً ومفهوماً جديدين للأسلوب. فهو ليس الرجل، بل "رجلان، على الأقل أو بدقة أكثر، الرجل ومجموعته الاجتماعية مجسدين عبر الممثل المفوض، المستمع، الذي يشارك، بفاعلية في الكلام الداخلي والخارجي للأول"(7)، ولم يعد ثمة تلفظ خال أو مجرد من بعد التناص.(1/60)
ومن الواضح أن باختين في النص المذكور، يشير إلى الحوارية، التي يرى البعض أنه يقصرها على النثر، والرواية بشكل خاص دون الشعر، ويرد هؤلاء أو يجادلون بأن رأي باختين يعود إلى العشرينات من هذا القرن، وأن الشعر، أصبح ومنذ "لوتر يامون" الذي موضعه وسحبه باتجاه الرواية، ورينيه شار الذي سحب خطابه صوب الخطاب الفلسفي(8)، وآخرين غيرهم، أصبح ساحة للتداخل النصي، وبكلمة فإن تطور الخطاب الشعري وتخليه عن غنائيته المسرفة وتخطيها باتجاه الأجناس الموضوعية، كالقصة، والدراما(9)، سيما في قصيدة القناع، وفي أكثر أشكالها نضجاً، دفع البعض إلى التعامل مع الشعر فيما يخص التناص، تعاملاً يضعه على قدم المساواة مع الرواية والنثر الفني عموماً.
على أننا يجب أن نسارع إلى الإيضاح بأن (باختين) لم يخرج الشعر من دائرة التناص، وإنما من الحوارية، وثمة فرق بين المصطلحين، وإن عمد تودورف في دراسته للمبدأ الحواري في فكر باختين إلى دمجهما معاً، في مصطلح يعترف بسعته وهو التناص(10)، إن لغة أجنبية أو صيغة حوارية يمكن أن توجد داخل الأشكال الشعرية، إلا أن المسوغ الحواري لا يستخدم في الخطاب الشعري بطريقة أدبية كما في الرواية، ذلك أن الشاعر محدد بفكرة لغة واحدة فريدة وبملفوظ منغلق على مونولوجه.. على الشاعر أن يمتلك امتلاكاً تاماً وشخصياً لغته... إن عليه أن ينطلق من لغته وكأنها كل قصدي وفريد. لتحقيق ذلك، يخلص الشاعر الكلمات من نوايا الآخرين، ولايستعمل سوى بعض الكلمات والأشكال بطريقة تجعلها تفقد رابطتها مع بعض الطبقات القصدية في اللغة، وبعض سياقاتها"(11).
ويعمل الإيقاع في لغة الخطاب الشعري على قتل التعددية "والعوالم والوجوه المضمرة احتمالاً. داخل الخطاب.. ولايسمح لها بأن تنتشر وتتجسد، إنه يوطد ويضغط أكثر، الوحدة والطابع المغلق والموحد للأسلوب الشعري وللغة الفريدة المسلم بها من طرف ذلك الأسلوب"(12).(1/61)
من الضروري أن نشير هنا، إلى أن باختين لايعد التناص ظاهرة لسانية، ولايعد اللسانيات مجال دراستها، وإنما هي لديه ظاهرة (عبر لسانية) أي خاصة بالخطاب، لا اللغة(13).
وإذا كان التناص هو قانون النصوص جميعاً، وهو كالهواء والطعام والشراب بالنسبة للمنشئ والقارئ معاً، فإن البعض يرى ضرورة الفصل بينه، مصطلحاً وبين مصطلحات أخرى، كالسرق، والأدب المقارن، والمثاقفة، ودراسة المصادر (14)، تجنباً للخلط وتوخياً للدقة العلمية. ويضع البعض شرطين أو دعامتين للتناص، هما أشعار القارئ بصورة ما، إنه إزاء نص مناصص، "أوتذويب نص الآخر ومحوه وإعادة خلقه بالكامل، بحيث لايعود أكثر من ذكرى بعيدة أو مصدر إلهام للنص بين مصادر أخرى"(15). وإذا كان هذا يصح على التناص "الواعي"، فإنه يتجاهل النمط الثاني ألا وهو التناص غير الواعي. والذي نعتقد أنه المهيمن على النصوص بصورة لايدانيه فيه التناص القصدي والواعي.
-2-
التناص، أنواعه، وظائفه:
الشاعر أو الكاتب، وهو ينتج نصه، إما أن يعيد إنتاجاً سابقاً له بصورة معينة، أو يعيد إنتاج ما أنتجه غيره، ومعنى هذا أن التناص إما أن يكون داخلياً، أو خارجياً، وفي كلتا الحالتين فإنه من المبتذل أن يقال أن الشاعر أو الكاتب يمتص آثاره السابقة أو يعيد كتابتها أو يحاورها ويتجاوزها، كما أنه من المبتذل أن يقال أنه يمتص آثار الآخرين أو يعيد كتابتها أو يحاورها أو يجاوزها، بل يجب موضعة نصه أو نصوصه مكانياً في خريطة الثقافة التي ينتمي إليها، وزمانياً في حيز تأريخي معين" (16)، وكما يكون التناص خارجياً أو داخلياً، فكذلك يكون في الشكل كما في المضمون أيضاً (17)، والبحث هذا مخصص لدراسة التناص الخارجي فحسب.
ولكي نقف على معناه وخصائصه، أنواعه، وظائفه، آلياته، لابد أن نستعرض عدداً من التعريفات التي قيلت فيه، ومنها تعريفات:
1-جوليا كريستيفا: "هو التقاطع والتعديل المتبادل بين وحدات عائدة إلى نصوص مختلفة"(18).(1/62)
2-فيليب سولرس: "كل نص يقع في مفترق نصوص عدة فيكون في آن واحد قراءة لها واحتداماً وتكثيفاً ونقلاً وتعميقاً"(19).
3-جيني: "عمل تحويل وتمثيل عدة نصوص يقوم نص مركزي يحتفظ بزيادة المعنى"(20).
4-باختين: "يدخل فعلان لفظيان، تعبيران اثنان في نوع من العلامة الدلالية ندعوها نحن علاقة حوارية"(21).
وتعمد جوليا كريستيفا إلى توسيع دلالة المصطلح، لكي لايقتصر على الكتابة الأدبية، بل على التبادل الحاصل بين "الكتابة والموسيقى، الحرف والرسم، الصورة والإيماءة"(22)، وهو مايفعله رولان بارت عندما يقول بـ "استحالة العيش خارج النص اللانهائي، وسواء كان هذا نص بروست الصحيفة اليومية أو الشاشة التلفزيونية"(23).
ونخرج من هذه التعريفات بخلاصة مفادها أن التناص هو قراءة لنصوص سابقة، وتأويل لهذه النصوص، وإعادة كتابتها ومحاورتها بطرائق عدة على أن يتضمن النص الجديد زيادة في المعنى على كل النصوص السابقة التي يتكون منها. والجدير بالذكر أن عبد القاهر الجرجاني قد سبق إلى القول بأن النص المحاكي لنص آخر لايمكن أن يؤدي المعنى الذي أداه النص المحاكى، إذ يقول: "ولا يغرنك قول الناس: قد أتى بالمعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه.. والمراد أنه أدى الغرض إما أن يؤدي المعنى بعينه... ففي غاية الإحالة"(24). والواقع أن هذا الرأي يجد امتداداً له في آراء بعض النقاد الغربيين اليوم، إذ يشير "جيرار جينيت" إلى أن "التقليد التام أمر مستحيل، لأننا مهما بالغنا في تقليد نص ما، فلا يمكن أن نعيد إنتاج ذلك النص كما أنتجه صاحبه لأول مرة" (25).(1/63)
لقد قامت الناقدة كريستيفا بدراسة التناص في رواية "جيهان دوسانتري" للكاتب الفرنسي "انطوان دوسال" راصدة بذلك أنواع الثقافات التي خضع لها المؤلف، والأشكال والأساليب والتقاليد الشفاهية والكتابية التي أسهمت في صياغة الشكل لهذه الرواية، أما في الشعر، فقد ميزت ثلاثة أنواع من التناص دعتها بـ "التصحيفات" متابعة في ذلك دي سوسير الذي يبدو أنه كان ينوي -بعد دراسته اللسان- دراسة الأدب. فترك كراساً أطلق عليه عنوان التصحيفات (26)، وقد ميزت الناقدة من خلال دراستها لشعر "لوتريامون" ثلاثة أنواع من التصحيفات هي:
1-النفي الكلي: وفيه يكون المقطع الدخيل منفياً كليةً، ومعنى النص المرجعي مقلوباً.
2-النفي المتوازي: حيث يظل المعنى المنطقي للمقطعين عموماً هو نفسه، ولا يمنع هذا من زيادة أو إضافة في المعنى في النص الجديد.
3-النفي الجزئي: حيث يكون جزء واحد من النص المرجعي منفياً"27).
أما (جيني) في كتابه (استراتيجية الشكل) (28) فيحصر التناص في ثلاثة أنماط هي: التحقيق والتحويل والخرق: فبإزاء "البنى الأصلية، أي البنيات المتوارثة التي تشكل مايشبه نقاط انطلاق للأعمال الفردية، وتنطوي على الموروث الجمعي... في الحضارة والإبداع، يدخل الأثر الأدبي إما في علاقة تحقيق أو إنجاز (تحقيق مضمون كان يشكل في تلك البنيات وعداً) أو علاقة تحويل (تحويل معنى قائم أو شكل متوفر والذهاب بهما أبعد)، أو علاقة خرق (يتقدم فيها الكاتب إلى معنى أو شكل قائمين ومحاطين بهالة من القدسية واللامساس، فيقلبهما أو يطرح ماهو ضدهما أو يكشف فراغهما"(29). علماً أن (النفي) لدى كريستيفا يتضمن كل أنواع القلب والتضاد أيضاً.(1/64)
ويجب أن نسارع إلى الاعتراف بأن هذه المصطلحات فضفاضة ولاتعين الباحث على ضبط آليات التناص، وإذا كان مصطلح الخرق يتسم بالوضوح والدقة فإن مصطلحي التحقيق والتحويل -سيما هذا الأخير- يفتقران إلى الدقة، إذ كل نص مأخوذ من نص آخر سيخضع لا محالة إلى عملية تحويل وإلا كان نسخاً حرفياً وانتحالاً، وقد لانجد في المصطلح النقدي في الموروث البلاغي والنقدي العربي، مايحل المشكلة ذلك أن تلك المصطلحات من نسخ وسلخ ومسخ ونقل... الخ. وضعت في إطار القصيدة العربية وعلى أساس وحدة البيت لا القصيدة، ناهيك عن تجاهلها للنثر الفني، إلا أنه يجدر بنا أن نشير إلى أن كل عمليات التناص أو التضمين أو (السرق) مشروعة في هذا الموروث النقدي باستثناء عملية النسخ والانتحال(30)، ومع ذلك فإن حكم الناقد بالنسخ أو الانتحال، يجب أن يعتمد على معرفة الواقعة الشعرية وتأريخها، إذ لايعد نسخاً، مايقوله الشاعر وقد قاله غيره قبله، مالم يثبت بشكل قاطع أن الشاعر المناصص كان على علم ومعرفة سابقين بأنه قد سبق إلى قول مايقول، وإلا عد من نوع "المواردة"(31).
-3-
لقد أشرنا في صدر هذا المقال إلى كون باختين يعد أول من صاغ نظرية شاملة في التداخل النصي، وبالرغم من أن كتابه "الماركسية وفلسفة اللغة" يعود إلى نهاية العشرينات من هذا القرن، فإن تصنيفاته لأنماط التناص ماتزال مفيدة حتى اليوم، فهي على الأقل تشير إلى نوعين من "التحويل" أحدهما بسيط، ظاهر والآخر معقد وخفي أو مستتر.(1/65)
لقد لجأ (فولشينوف/باختين) إلى التعارض الذي صاغه وولفن في تصنيفه لأنماط الأسلوب في الرسم بالزيت، وهما الأسلوب الخطي والأسلوب التصويري، إذ رغم أنه لايمكن فصل محيط الرسم وتخومه على الشكل الذي يطوقه فإن "الأسلوب الخطي يرى في الخطوط وفي الرسم بالزيت يرى في الكتل. إن الرؤية الخطية بناء على ذلك تعني أن معنى الأشياء وجمالها يلتمسان أولاً في المحيط.. لأن العين تقاد عبر التخوم وتستمال لكي تحس وتشعر عبر الحواف، بينما تتخذ رؤية الكتل مكانها في الموضع الذي يتحول فيه الانتباه في المكان الذي أصبح فيه المحيط، بالنسبة للعين أقل جودة وأهمية أو أكثر جودة وأهمية عبر مسار الرؤية، وفي هذه الحالة يعني الخط سبيلاً يتحرك بهدوء حول الشكل...
أما في الحالة الثانية فتسود الصورة أضواء وظلال وهي ليست بالضبط غير محددة ولكنها لاتؤكد على التخوم ولاتوضحها"(32).
ماهو الاتجاه الذي يمكن أن يسلكه التناص على وفق هذا التصور؟ أو كيف يتم التفاعل مع خطاب الآخر؟ إذا ما استخدمنا المصطلح الذي قدمه وولفن في تاريخ الفن. فسيكون باستطاعتنا أن ندعو الاتجاه الأول الذي تتخذه دينامية العلاقة الداخلية اللفظية بين خطاب المؤلف وخطاب الآخر، بالأسلوب الخطي... ويتمثل ميله الأساسي في خلق خطوط محيطية واضحة وخارجية لخطاب الآخر الذي هو نفسه وفي ذات الآن خطاب أضيفت عليه من الداخل سمات فردية فقيرة(33)...
ونواصل نص فوليشنوف/ باختين على طوله النسبي، لنقف في القطب المقابل على نمط ثان من العلاقة التي يقيمها خطاب ما مع خطاب آخر سابق عليه، لنقف على خصائص الأسلوب التصويري:(1/66)
"يحاول سياق كلام المؤلف أن يبدد كثافة خطاب الآخر، وانغلاقه على ذاته لكي يمتصه ويمحو حدوده. ويمكن أن ندعو هذا الأسلوب في بث خطاب الآخر أسلوباً تصويرياً، ويتمثل نزوع هذا الأسلوب في محو الشخصية المحددة واضحة المعالم لمحيط هذا الخطاب. في هذه المرحلة تضفي على الخطاب نفسه سمات فردية [واضحة] إلى درجة كبيرة"(34).
ويمكن هنا أن نستشهد على هذين النمطين بنصوص معروفة من الخطاب الشعري والقصصي، قبل أن ننتقل إلى فقرة تالية نعرض فيها تصورات باختين اللاحقة.
ويمكن أن نعد قصيدة يوسف الصائغ "انتظريني عند تخوم البحر" من النمط الأول أي الخطي، يقول الصائغ(35):
"اسمع صوت حبيبي يدعوني الليلة
فانتظروا قلقي...
إني ذاهبة للماء،
اجر ازاري
فوق عيون السمك المخزون،
واملأ من بيت البحر إنائي.
زبداً
ومحاراً للساكن في الغربة
أستحلفكن، بنات البصرة،
إن كان بكن حنين ينضج في شفتي الطلع له.
ملن علي إذن
وامسحن على جسدي منكن
فبيت حبيبي تعب،
وسريره من خشب القارب
أهمله الصيادون
ونقعه الماء قروناً.
وواضح أن الشاعر، وبالرغم من أنه يتحدث بلغة متوجعة عن هزيمة حزيران ومرارتها، فإنه يمتح من نشيد الإنشاد، ويصوغ من الأسلوب التوراتي ولغتها، ومن سياق هذا الكتاب، قصيدة حديثة تتحدث في موضوع هو على الضد من موضوع السفر التوراتي، بمعنى أن هذه القصيدة وموضوعتها الحرب والهزيمة تتمول من سفر ديني قديم موضوعه الحب لا الحرب.
وسنجد مثل هذا التعالق النصي الخطي الكثير في شعرنا الحديث، ويمكن أن نعد من ذلك على سبيل المثال قول البياتي في قصيدته "عن الموت الثورة"(36).
"... لاتجر يافرات حتى أكمل النشيد:"
الذي يعين فور قراءته مرجعه النصي ويشير إليه وأعني به قول اليوت في الأرض الخراب(37):
"أيها التيمز الحبيب، إجر الهوينا، حتى أتمّ أغنيتي"(1/67)
أو قول الشاعر، وهو يستخدم ما أسمته "كريستيفا" بـ "النفي المتوازي" والذي يعمد فيه الشاعر إلى قلب خطاب الآخر، ويكون معنى النص المرجعي فيه مقلوباً، وفي هذا البيت بالذات، فإن هذا القلب هو من نمط (الخرق) بلغة جيني، إذ يعمد الشاعر إلى قول مأثور ذي طابع قدسي إلى حد كبير، فيغريه: ففي مطلع قصيدة النبوءة يرد هذا البيت(38):
"تأكل الحرة ثدييها إذا جاعت وفي أرض الملوك الفقراء"....
وغنى عن البيان أن النص المرجعي للبيت هو القول المأثور "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها".
ولا يقتصر مثل هذا التعالق النصي على القصيدة والشعر، حسب، بل سنجد أمثلة له في السرد والقص الطويل والقصير، ولعل ماورد في رواية موسم الهجرة للشمال من تداخلات نصية مع التوراة، ومع سفر (أشعياء)، بالذات، الذي وصفه كولردج بأنه "شعر"(39)، مثال على النص، الذي يتشرب خطابات سابقة، دون أن يمحوها كلية، بعد أن يضعها في سياق جديد تماماً. إن "مصطفى سعيد" بطل الرواية، يعترف بأن حبه لجين مورس كان مرضياً وملتوياً، يقول سعيد: ".... إلى أن يرث المستضعفون الأرض، وتسرح الجيوش، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح، إلى أن يأتي زمن السعادة والحب هذا سأظل أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية"(40)، وهذه الرؤيا العظيمة للسلام والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب، تحيل على مرجعها النصي، في التوراة، فقد جاء في سفر أشعياء قوله: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة، ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب... فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل لاترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فيما بعد"(41).(1/68)
وفي أصحاح آخر من "سفر أشعياء" يردد مايلي: "ويخرج قضيب من جذع يبس وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الربّ.. فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمّن معاً وصبي صغير يسوقها والبقرة والدبة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً. ويلعب الرضيع على سرب الصلّ ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان"(42)، وهكذا فإن النص الروائي الحديث ينفتح على النص الديني القديم، ليصوغ هو أيضاً وبلغة شعرية شفافة رؤيا إنسانية نبيلة، تتعاظم حاجة البشر اليوم إلى تحقيقها أكثر من أي وقت مضى، كما ينفتح على نصوص مسرحية وروائية أحدث من النص الديني كمسرحية (عطيل) لشكسبير، ورواية الغريب "لألبير كامو"(43).
على العكس من ذلك، سنجد قصائد للسياب، تقيم علاقات تناصية (تصويرية، غير واضحة المعالم، مع خطاب الآخر، كان يكون المرجع النصي لقصيدة أنشودة المطر ومطلعها هو مسرحية شكسبير "روميو وجوليت" إن "العينان شرفتان تذكران بشرفة جوليت ساعة راح ينأى عنها القمر آخر الليل وعند السحر"(44)، أو قصيدة الشاعر "جيكور شابت" التي يصور فيها السياب شبابه:
"يا صباي الذي كان للكون عطراً، وزهواً وتيهاً...
كان يومي كعام... تعد المسرة
فيها نبضاً لقلب.... تفخر منها على كل زهرة
كانت الأرض تلقى صباها لأول مرة
كان قابيلها بذره مستسرة
كان للأرض قلب... أحس به في الدروب"
فهو وإن لم ينقل من قصيدة ايديث ستويل "شبح قايين" بصورة مباشرة إلا أنه "يفيد منها مرتين، إذ يقلب الصور المشوهة، ويفيد من صور الجمال المتناثرة في شبح قايين إفادات يتدخل في تشكيلها بنجاح كبير، فالعطور الكونية تشيع لدى ستويل.(1/69)
ونبض قلبه الذي يتفجر على كل زهرة هو تحوير لقولها: في برعم يغذوه قلب الوجود، ويفيد من "قلب الوجود" و "قلب العالم".... في قوله "كان للأرض قلب" وهو يحور "قوس قزح الزمردي" لدى ستول، إلى الدروب والبساتين والأنهار، ثم يأتي التحوير الأخير بقايين نفسه، فبدلاً من "المسيح -حبة الحنطة الخيرة" يكون قلب قايين هو البذرة المستسرة في الزمن، حيث يتفجر الشر متنامياً في حياته بعد انقضاء فترة الشباب"(45).
ويبدو أن السياب كان أول شاعر عربي كبير ومحدث، يعطي دفعة قوية للتناص في القصيدة الحديثة، متأثراً في ذلك بالشعراء الإنكليز، سيما ت.س اليوت. ولا يقتصر التناص والعلاقات النصية لديه على الشعر الإنكليزي والأوروبي عموماً. بل تمتد لتشمل الموروث الثقافي الديني والأسطوري، القومي والعالمي، وفضلاً عن علاقات شعره النصية مع الشعر العربي القديم، ولنتأمل هذه الصورة في قصيدته "أغنية في شهر آب"، يصف بها السيدة الضيفة التي تزور السيدة الممولة وهي التي تروي الأحداث في القصيدة(46):
وعلى الأثداء من النمر
شرق يتسلل ملء الغاب من الشجر
فالسيدة تغطي صدرها بشال من الصوف الدقيق الأبيض اللون، وفيما يغطي شعرها الأسود جزءاً ومساحات من هذا الشال، فإن أجزاء وبقعاً أخرى تتسلل إلى عين الرائي من بين خصلات الشعر وكأنها الشمس. هذه الصورة تعيد إلى الأذهان صورة المتنبي في قصيدته "شعب بوان"، إذ حين يدخل الفارس العربي وهو على حصانه الغابة المكتظة الشجر، يتسلل نور الشمس من بين أوراق شجر الغابة لتلمس جسد الفارس وثيابه بصورة متحركة بسبب حركته داخل الغابة. إذ يقول المتنبي(47):
والقى الشرق منهما في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
والسبب في أن ذهن القارئ لايستطيع استحضار صورة المتنبي، يعود إلى أن السياب ذوب أجزاء من خطاب المتنبي داخل خطابه ومحا حدود النص القديم، مضفياً على خطاب الآخر، نغمته وتعبيره وِأسلوبه الخاصين.(1/70)
ويمكن القول نفسه على الصورة التي يقتبسها الشاعر من القرآن الكريم، إذ يقول في القصيدة نفسها:
"الليل كتنور من أشباح البشر
خبز يتنشق نيرانه
والضيفة تأكل جوعانة
من هذا الزاد... ومرجانة
كالغابة تربض بردانة".
إذ يعمد الشاعر إلى تذويب الصورة القرآنية الواردة في الآية الثانية عشرة من سورة الحجرات، والتي تصور الذي يغتاب آخر، بأنه يأكل لحم أخيه ميتاً: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه".
وقد عرف موروثنا الشعري القديم الاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف وكان الشاعر. إما أن يضع المقتبس بين معقوفين -وذلك عندما يكون الاقتباس نصياً، أي -خطياً- أو بدمجه دون علامة تنصيص، عندما يكون التعالق النصي من النوع التصويري، كقول المتنبي:
وجرم جره سفهاء قوم
وحل بغير جارمه العذاب
"وكأنه اقتبسه من قوله تعالى :"أتهلكنا بما فعله السفهاء منا)(48).
والتناص بنوعيه الخطي والتصويري سائدان طوال حقب التأريخ، إلا أن نقاداً مثل باختين واريك أو رباخ، يرون أن عصوراً معينة شهدت اختلاط الأساليب، وإدماج خطاب الآخر في خطاب المؤلف، بصورته الخطية بينما شهدت عصور أخرى هيمنة النوع التصويري في إدماج المؤلف لخطاب الآخر في خطابه، ويبدو من تصنيفات فولشينوف ومن المراحل الأربعة التي ميز فيها انتشار هذين النوعين، أن العصور التي تهيمن فيها عقائد سلطوية متصلبة يشيع فيها النمط (الخطي) من التعالق النصي وتداخل الأساليب. بينما تتميز العصور التي تسودها النزعات الفردية (النسبوية) بهيمنة النوع التصويري، كما هو الأمر في عصرنا الراهن الذي عرف "بتحلل السياق الخاص بالمؤلف"(49).
(4)
في كتابه "الخطاب الروائي" يعود باختين لدراسة الحوارية أو التناص بمعناه الواسع ويميز ثلاثة أنماط من التداخلات النصية في الخطاب الأدبي، وهي:
1-التهجين.
2-تعالق اللغات القائم على الحوار.
3-الحوارات الخالصة.(1/71)
ويضيف باختين، أن هذه الأصناف الثلاثة تتشابك داخل نسيج الخطاب الأدبي ولايمكن الفصل بينها إلا بصورة نظرية(51).
ويعد باختين التهجين اللاإرادي واللاواعي العامل الأساس في التطور والتغير التأريخي للغة، أما التهجين الأدبي، فهو تهجين واع وقصدي ويعرفه بأنه المزج بين لغتين داخل ملفوظ واحد، وهو أيضاً التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية [وبفارق] اجتماعي أو بهما معاً، داخل ساحة ذلك الملفوظ"(51). ويمكن أن نعد التضمين في الشعر أو الاقتباس من القرآن والحديث مثلاً ساطعاً على التهجين، سواء وضع المقتبس بين معقوفتين كما هو الأمر في قول أمل دنقل في قصيدته "من مذكرات المتنبي":
"عيد بأية حال عدت ياعيد
بما مضى؟ أم لأرضى فيك تهويد
"نامت نواطير مصر" عن عساكرها
وحاربت بدلاً عنها الأناشيد"
أو أغفل الشاعر أو الكاتب علامات التنصيص. كما هو الأمر في قول عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته "نبوخذ نصر":
"من أين، من أين تجيء؟ أيها المدثّر
هذا أوان السيل/ قم فأنذر
وهذا حديث ربك/ الأرض التي أنت عليها... دنست/ فطهر".
أما الإضاءات المتبادلة المصاغة داخلياً في حوار، فهي لدى باختين على نوعين، الأسلبة، والتنويع، وهنا، "لايكون هناك توحيد مباشر للغتين داخل ملفوظ واحد. وإنما هي لغة واحدة محينة وملفوظة، إلا أنها مقدمة على ضوء الأخرى. وهذه اللغة الثانية تظل خارج الملفوظ ولاتتحين أبداً(53). وتتميز (الأسلبة عن الأسلوب المباشر، بذلك الوعي اللساني (عند المؤسلب المعاصر وعند قرائه"(54)، الذي يعاد على ضوئه خلق الأسلوب المؤسلب ومن خلاله يكتسب دلالة وأهمية جديدتين"، ويمكن أن نستشهد بمقطع من قصيدة "أغنية حب" لصلاح عبد الصبور على الأسلبة، حيث نجد لغة وأسلوب معاصرين تماماً، ولكن أسلوب "نشيد الإنشاد" في التوراة يطل واضحاً من بين كلمات الأغنية:
"وجه حبيبي خيمةٌ من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان
جيد حبيبي مقلع من رخام(1/72)
نهدا حبيبي طائران توأمان أزغبان
حضن حبيبي واحة من الكروم والعطور"
فالشاعر لم يضمن أو يقتبس أية صورة من نشيد الإنشاد، ولكنه، أسلوبياً يحاكيه، "وينسج من ظلاله وأصدائه أغنية تنفتح على بعد أسطوري ولغة رائعة الشفافية"(55).
والفرق بين الأسلبة و(التنويع) -وهو النوع الثاني من الإضاءة المصاغة في حوار داخلي- فيقوم على أن الوعي اللساني للمؤسلب يعمل في "المادة الأولية للغة موضوع الأسلبة. فيضيئها، ويدخل إليها اهتماماته (الأجنبية) لكنه لايدخل إليها مادته الأجنبية المعاصرة والأسلبة بهذا المعنى، يجب أن يحافظ عليها من البداية إلى النهاية، لكن إذا دخلت إليها المادة اللسانية المعاصرة (كلمة، شكل، صيغة، جملة...) فإنها تشتمل عندئذ على خلل أو خطأ أو مفارقة، عصرية.. غير أن "عدم الانضباط" هذا قد يكون مقصوداً ومنظماً: إذ يستطيع الوعي اللساني المؤسلب، ليس فقط إضاءة اللغة موضوع الأسلبة، بل يستطيع أن يدمج فيها مادته التيماتيكية واللسانية، في هذه الحالة، لايعود الأمر يتعلق بأسلبة بل بتنويع (غالباً ما يصبح تهجيناً) (56)".
ومعنى هذا أن النصوص المناصصة التي عرضنا لها آنفاً مثل نص السياب في أغنية شهر آب:
"وعلى الأثداء من النمر
شرق يتسلل ملء الغاب من الشجر"
ينطوي على أسلبة واضحة لوحده -أي البيت- لكنه ما إن يوضع في سياقه من القصيدة، التي موضوعها غير موضوع قصيدة المتنبي، حتى يصبح (تنويعاً) وكذلك الأمر مع المقطع الذي اقتطعناه من قصيدة (يوسف الصائغ)، فالبرغم من كونه أسلبة (نقيضة) لنشيد الإنشاد فإن إدخال الشاعر لثيمة معاصرة (هي هزيمة حزيران عام 1967) على المادة الأولية للغة هذا السفر، يحيل الأسلبة إلى تنويع، ومن ثم إلى تهجين واضح بين لغة وأسلوب التوراة ولغة الشاعر المعاصر وأسلوبه في ملفوظ واحد.
لنقرأ هذه الجملة الشعرية، ومرجعها النصي في نشيد الإنشاد:
"فبيت حبيبي تعب
وسريره من خشب القارب
أهمله الصيادون،(1/73)
ونقعه الماء قروناً"
وفي نشيد الإنشاد يرد على لسان "شموليت" مايلي:
"ها أنت جميل ياحبيبي وحلو وسريرنا أخضر، جوائز بيتنا أرز وروافدنا سروٌّ"(57).
نحن إزاء عملية قلب لمعنى التوراة ولكن بأسلوب التوراة نفسه، أما النمط الآخر من الإضاءة المصاغة داخلياً في حوار فهي الأسلبة البارودية وتصور العالم الغيري الحقيقي لا بمساعدة اللغة المشخصة باعتبارها وجهة نظر منتجة، وإنما عن طريق فضحها وتحطيمها"(58).
على أن باختين تحدث عن التداخلات النصية وأنماطها في الرواية لافي الشعر، وهذا لايعني أن الشعر لايعرف التهجين أو الأسلبة أو التنويع، ولكن في الرواية تأخذ هذه الحوارات أو التعالقات النصية طابعاً أسلوبياً من خلال خلفية التعدد اللغوي: ففي الرواية، الأسلبة "تستتبع إلقاء نظرة على لغات الآخرين وعلى وجهات نظرهم ومنظوراتهم الدلالية والغيرية، وعلى هذا النحو يتبدى أحد الاختلافات الأساسية، بين أسلبة الرواية وأسلبة الشعر"(59).
إذ تنغلق لغة الشاعر وصوته الخاص على هذه التعددية لتميتها، فلا يعود هناك سوى الصوت المونولوجي للشاعر.
ويمكن أن نجد مصداقية ذلك في العديد من قصائد الأقنعة أو الشخصيات حتى وإن كان القناع الذي يرتديه الشاعر -شاعراً أيضاً، ففي قصيدة الشاعر أمل دنقل (من أوراق أبو نؤاس) لانستشعر صوت الشاعر أبي نؤاس ولا لغته، يقول دنقل:
"... وأمي خادمة فارسية
يتناقل سادتها قهوة الجنس وهي تدير الحطب
يتبادل سادتها النظرات لأردافها
عندما تنحني لتضيء اللهب
يتندر سادتها الطيبون بلهجتها الأعجمية!".
إن اللغة هنا، لغة واحدة. هي لغة الشاعر المعاصر، أما لغة القناع فلا وجود لها إطلاقاً. وتنعدم الصياغة الحوارية الداخلية بين لغة الشاعر المعاصر ولغة الشاعر أبي نؤاس، حين يتحدث الشاعر عما اشتهر به الشاعر القديم وهو وصف الخمرة:
"مات من أجل جرعة ماء
فاسقني ياغلام صباح مساء
اسقني ياغلام
علني بالمدام
أتناسى الدماء"(1/74)
وفي شعر الشاعر حميد سعيد على سبيل المثال، العديد من قصائد الشخصية(60)، كقصيدة (سحيم) وفاطمة برناوي، ووجه عمار بن ياسر، ورسالة من الصحراء، والمهدي بن بركة وإشراقات ابن بركة، وغيرها ولكن صوت الشاعر يظل المهيمن على هذه القصائد وحتى عندما يتعلق الأمر بشاعر معروف مثل (لوركا) فإن خطاب الشاعر، لايفصح إلا عن لغة واحدة هي لغة الشاعر المعاصر:
"كان يعرفهم.. ويصنفهم.. ويفرق شاراتهم
يتمادى.. يوزعهم في قصائده
يتمادى... يخلع تيجانهم
يتمادى... يقدمها لعبة لحبيبته الغجرية".
هل تحلمين بتاج يقدمه سائح أجنبي"
في مقالته "أصوات الشعر" الثلاثة، يميز اليوت بين ثلاثة أصوات في الشعر، نستطيع تسمية الأول بالصوت الغنائي، يقابله من الطرف الآخر الصوت الموضوعي، وهو صوت الشاعر وهو يحاول خلق شخصية درامية ينطقها بكلماته، وبين الصوتين أو الطرفين يقع الصوت الثالث، وهو الصوت الخاص بقصيدة القناع أو المونولوج الدرامي. وفي هذه القصيدة، إما أن يتغلب صوت الشاعر نفسه، فنستمع إليه. أو صوت الشخصية التي يتكلم الشاعر باسمها.
وفي هذا النمط من القصائد عموماً، تتراجع النزعة الغنائية والذاتية المسرفة، مخلية الطريق أمام الموضوعية مقتربة بها -أي القصائد- من الأجناس الموضوعية، كالدراما والقصة، وصرنا نحن القراء نستمع في قصيدة القناع الأكثر تطوراً من ناحية فنية. صوت القناع ونغمته ولغته تتوحد مع لغة الشاعر في ملفوظ واحد. لقد أظهرت دراسة الناقد محيي الدين صبحي، لقصيدة (عذاب الحلاج) أن الشاعر البياتي، وضع نفسه في "جو مصطلح ذلك المتصوف واستخدم فيها كلمات الحلاج نفسه"(61) ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر. قول الشاعر: "يامسكري بحبه/ محيري في قربه" وهو من قول الحلاج:
"يامن أسكرني بحبه وحيرني في ميادين قربه". وقول الشاعر:
"توحدت
تعانقت
وباركت أنت أنا"
من قول الحلاج: "ياهو أنا وأنا هو، لافرق بين إنيتي وهويتك إلا الحديث والقدم".(1/75)
كما أظهر الناقد خلدون الشمعة أن قصيدة (عين الشمس أو تحولات محيي الدين بن عربي) حافلة بكلمات محيي الدين بن عربي، في (شرح ترجمان الأشواق) مع تحوير بسيط تقتضيه الضرورة الشعرية بحيث تتم المطابقة بين الأنا الدرامية والأنا التاريخية (أي الشاعر وقناعه) على نحو يمكن تقريه في الحضور التسجيلي (الوثائقي) لصوت ابن عربي"(62).
ولايمكن لأحد، أن ينكر أن خطاب الشاعر في قصيدة القناع يتعالق مع خطاب الآخر، أي القناع. وبصورة كثيفة، لاتعرفها القصيدة الغنائية أو قصيدة الصوت الأول، وتنطوي على أسلبة واضحة لخطاب الآخر.
وإذا عمد الشاعر إلى إظهار هذه التعددية، فإن الشعر يتحطم عندئذٍ ويتحول إلى نثر كما يرى (باختين) نفسه، ويمكن أن نقف على الفرق بين الأسلبة في الشعر وفي النثر الروائي، ومن خلال (رواية عراقية) عرفت بتعدد اللغات الاجتماعية، بصورة لايدانيها فيه أي عمل روائي آخر، حتى للكاتب نفسه. إذ يرد على لسان الراوي في رواية (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان مايلي عن شخصية سليمة الخبازة:
"شافت الجسر الحديدي الذي لم يهتز أو يتأرجح بها مثل جسر الكاظم. وكانت السيارات رايحة جاية. وشافت الصالحية، وأبو حصان فيصل. وركبت سيارة أم العانة، ومرت بجادات عريضة. وحدائق وأسواق. وأناس بعدد النمل- وكانت تحسب كل بيت مهيب جامعاً، وكل حشد من الناس سوق هرج-... حتى داخت وأوشكت أن تفرغ ما في معدتها.. واختلط عليها كل شيء وأصبح رأسها مثل صندوق الولايات(63)".
وباستثناء الجملة التي وضعتها بين عارضتين -وكانت تحسب- فإن هذه اللغة، ليست لغة الكاتب وإنما لغة الشخصية نفسها، وحتى العبارة التقويمية بين العارضين، والتي يبدو وكأنها لغة الكاتب، هي لغة الجمهور، أو فئة اجتماعية، وقد قام الكاتب بأسلبة اللغتين. وهما في الحقيقة لغة واحدة لفئة اجتماعية واحدة تعيش في قاع المجتمع، وتميزت الجملة التقويمية بأسلبة بارودية ساخرة.(1/76)
لكن آراء باختين تعود إلى نهاية العشرينات ومنتصف الثلاثينات من هذا القرن (28-1935) وبين هذا التاريخ ونهاية القرن العشرين حقبة طويلة، خضع فيها الشعر الغنائي للمزيد من التطورات، وقد لاحظنا بعض الشعراء -الذين اطلعوا على هذا الرأي في الشعر والرواية حتماً -يحاولون تضييق المسافة بين الشعر والرواية، ولعل قصيدة القناع أو المونولوج الدرامي تقف بين نصبين هما الشعر الغنائي من جهة، والنثر القصصي من جهة، والمشكلة التي تواجهنا هنا، أوعلى وجه الدقة: السؤال الذي يواجهنا هو: إلى أي مدى استطاعت القصيدة الغنائية ولاسيما قصيدة القناع أن تنفتح على التعددية اللسانية وعلى (اللغات) الاجتماعية. كما هو الأمر في الرواية؟ وإلى أي حدّ استطاعت القصيدة (الغنائية) عموماً أن تغادر لغتها وحدانية الصوت إلى لغة بوليفونية متعددة الأصوات، بخاصة بعد أن اقتربت من الشعر الموضوعي وبكلمة أدق، من الأجناس الموضوعية إلى حد كبير؟
إن قصيدة القناع شأن قصيدة الموت الأول للشاعر، بعيدة التعددية اللسانية التي تحفل بها الرواية النثرية، إن الشاعر وتحت ضغط الوزن والإيقاع ولغته الخاصة الموحدة يمحق أية تعددية لسانية أو اجتماعية. ولنقرأ هذا المقطع من (المحاكمة) في (عذاب الحلاج)(64).
"بحت بكلمتين للسلطان
قلت له: جبان
قلت لكلب الصيد كلمتين
ونمت فيها ليلتين
حلمت فيهما بأني لم أعد لفظين
توحّدت
تعانقت
وباركت أنت أنا"(1/77)
وسنلاحظ أن الشاعر المعاصر يدخل اهتماماته المعاصرة لا لغته وكلماته حسب والحديث عن توحد (أنت والأنا) يبتعد عن دلالته لدى الصوفي الكبير، ليأخذ معنى معاصراً، وهي وحدة الفكر والشعور، ووحدة الهوية والخلاص من الاغتراب ونحن هنا، ومثلما لاحظنا على الكثير من التعالقات النصية السابقة إزاء إضاءة مصاغة في حوار، داخلياً، عن طريق آلية (التنويع)، وفي الشعر، لايسلم حتى النظام الدرامي من هيمنة صوت الشاعر، وعظمة شكسبير كما يقول اليوت، تنبع من كلماته التي وضعها على لسان شخصياته، والتي ماكان يمكن أن تكون الكلمات نفسها لو أن شاعراً آخر غير شكسبير أنطقها ووضع الكلمات على ألسنتها. ولقد أشار باختين إلى أن التعدد اللساني (لغات اجتماعية، أيديولوجية أخرى) يمكن إدماجها داخل الأجناس الشعرية الدقيقة، وأساساً من خلال الشخصيات، لكن هنا، يكون التعدد اللغوي متوضعاً، إنه مقدم إجمالاً وكأنه شيء... إنه الإشارة المشخصة للشخصية وليس الكلام الذي يشخص" في حين أن موضوع النثر الروائي الأساسي هو الإنسان المتكلم.
التناص والقارئ(1/78)
للحديث عن القارئ في النص المناصص لابد من التوفر على قراءات نقدية لمثل هذه النصوص، والواقع أن إشارات عديدة ترد في ثنايا الدراسات النقدية إلى السرق والانتحال، ولعل كتاب "أدونيس منتحلاً...." لكاظم جهاد يعد مثالاً لهذه القراءات، وقد عمد الناقد إلى استنباط معيار واضح للتناص وللسرق، فإما أن يذيب المؤلف نص الآخر في نصه ويبدعه من جديد أو يأخذه كماهو فيعد انتحالاً وسرقاً، والمعروف أن الموروث البلاغي والنقدي العربي القديم يعرف الانتحال بأن يعمد الشاعر إلى معنى صاحبه ولفظه كله أو أكثره فيأخذهما ولا يخالفه إلا في روي القصيدة، أو يأخذ المعنى وأكثر اللفظ، أما إذا كان في النص الجديد زيادة في اللفظ أو المعنى أو فيهما كليهما، كان أبلغ من الأول "لاختصاصه بحسن السبك أو الإيضاح أو زيادة المعنى وهو مقبول ممدوح"(65)، والناقد لايقوم بتطبيق آليات التناص التي عرضها في كتابه بصورة وافية، على شعر أدونيس، بل يضع قصائد الشاعر في مقابل النصوص التي أخذ منها، ليثبت تهمة الانتحال على الشاعر.
وطبيعي أن يحدث هذا مادام الناقد يتهم الشاعر بالانتحال. ويقدم د.عبد الواحد لؤلؤة في مقاله "التناص مع الشعر الغربي" قائمة طويلة بمرجعيات (السياب) النصية، التي غالباً ماكان السياب يشير إليها في هوامشه سيما في ديوانه (أنشودة المطر)، وبدا وهو يشير إلى المرجعيات النصية لشعر أدونيس متحفظاً في قبول مصطلح الانتحال أو السرقة: فهو يقول مشيراً إلى ذلك: "التناص مع الشعر الفرنسي مسألة غير واردة في شعر أونيس، إلا في حدود كونها صورة للثقافة بمعناها الأشمل" ويضيف عن أدونيس قوله: "لو وضع من الهوامش في شعره قدر ماوضع السياب مثلاً لكفى نفسه تعليقات كثيرة. ولوجدنا الدراسات النقدية تتناول شعره من نواحي إبداعية أخرى غير ملاحقة (السرقات الأدبية)(66).(1/79)
وإذا كانت تهمة الانتحال والسرق لاتقتصر على خطاب أدونيس الشعري، بل تطال خطابه النقدي، فإن نقاداً ودارسين آخرين يشاركون الناقد جهاداً هذا الرأي، أعني (تناصه النقدي)، إذ يتهم هؤلاء الدارسون، كما فعل الشاعر سامي مهدي في كتابه "أفق الحداثة -وحداثة النمط" بالتستر على مصادر آرائه وأفكاره النقدية، ومحاولة إخفاء هذه المصادر، وإضفاء طابع الشخصانية عليها(67)، سيما فيما يخص أفكاره عن قصيدة النثر وعن الحداثة.
إن مقال لؤلؤة حول التناص يفتقر إلى تشخيص الكيفيات التي تم بها التناص، وإلى دراسة آليات وديناميكيات احتواء خطاب المؤلف لخطاب الآخر السابق عليه، وهو بهذا يظل أقرب إلى الدراسات المقارنة منه إلى التداخلات النصية.
ويحقق الناقد عبد الله إبراهيم في مقاله "تناص الحكاية في القصة القصيرة" بعض التقدم على طريق دراسة التناص وآلياته، لقد حاول الناقد أن يقف على المرجعيات النصية في محتوى وإحداث قصص (الحكماء الثلاثة) لمحمد خضير، و(قلاع الورق) لمحمود جنداري، و(تماهي الأحزان) للطفية الدليمي، كما حاول أن يقف على التناص في الشكل أو ما أسماه بـ (البنية السردية) في قصة (الحارس والأميرة، لأحمد خلف، ولكن الناقد برغم إشاراته العديدة إلى مفاصل التناص البنائية والدلالية، فإنه يحقق على صعيد الدلالة مالايحققه على صعيد البنية، مشيراً في الوقت نفسه إلى فكرة (ليتش) في كتابه (النقد التفكيكي) عن استحالة دراسة عملية التناص دراسة تستوفي لامحدودية الثراء والتنوع فيها(68).(1/80)
على العكس من باختين -الذي يقابل بين خطاب ينطوي على التناص وآخر لاينطوي عليه، وهو يعلم أن "بعد التناص بعد كلي الوجود"(69)، وأن كلمة (آدم) وحدها، بريئة وعذراء -فإن تودورف يعارض بين النص الذي تغيب فيه الإحالة إلى خطاب سابق عليه يدعوه (أحادي القيمة، وآخر يقوم بهذا الاستحضار بشكل صريح نسبياً، ويدعوه خطاباً متعدد القيم(70)، وبهذا يكون لدينا على صعيد القراءة، نوعان من التناص، أحدهما صريح أو ظاهر والآخر خفي أو مستتر.
وإذا ماعدنا إلى تقسيم فولشينوف/ باختين للتناص إلى خطي وتصويري، فسنجد الثنائية نفسها، فمن شأن الخطي، حتى وإن غابت الإحالة فيه أن يكشف تعالق النص مع خطابات الآخرين، حينما لايفعل مؤلف النص سوى إحاطة هذا الخطاب بخطوط من عنده، ولا يضفي عليها إلا سمات فقيرة جداً تماماً مثلما يفعل الشاعر حين يضع بين معقوفتين شعراً أو بيتاً أو أبياتاً من شعر غيره في قصيدته، أما الآخر، التصويري، فهو من النوع المستتر والخفي، لكونه -أي التناص، يصهر خطاب الآخر ويذيبه ويبثه داخل خطاب جديد، إلا في حالة واحدة، هي أن يصرح مؤلف النص أو الخطاب بصورة أو بأخرى بتعالق خطابه مع خطابات أخرى سابقة عليه.
وقد أطلق د.محمد مفتاح على الخطاب الذي تغيب فيه الإحالة تسمية التناص العشوائي، أما الذي ينطوي على إحالة صريحة فقد أسماه بـ "التناص الواجب"، لأنه يدفع ويوجه القارئ نحو مظانه، فكأنه إجباري يرغمه على العودة إلى خطاب الآخر الذي يكمن أو يتعالق مع الخطاب الذي يقرأه.(1/81)
وفي كل هذه الحالات أو الثنائيات، فإن نمطاً من التعالق النصي -وهو مادعوناه بالتناص اللاشعوري أو اللاواعي، وهو واقع لامحالة في الشكل وفي المضمون وفي الأساليب واللغات التي استخدمها مؤلفون سابقون لاحصر لهم، طوال التأريخ -يبقى معتمداً على ذاكرة القارئ نفسه، وعلى ثقافته وسعتها، وعلى المواثيق الثقافية المشتركة بين المؤلف والقارئ، وهو لايمكن إلا أن يكون (عشوائياً) أو مستتراً.
وبين الظاهر أو الصريح، والمستتر، يمكن لقارئ الأدب أن يستنبط نوعاً ثالثاً هو ماسندعوه نصف المستتر، وهو النوع الذي يلمح له المؤلف تلميحاً لاتصريحاً، وغالباً مايتم هذا التلميح في عنوانات النصوص وبطريقة مموهة كما سنرى في بعض قصص محمد خضير وعلى هذا فإن التناص، يقسم من حيث القراءة والقارئ إلى ثلاثة أنواع هي:
1-الظاهر أو الصريح، ويكون التناص ظاهراً، عندما تكون النصوص التي تتداخل في نص أو خطاب المؤلف جزءاً من الموروث الثقافي الجمعي لجماعة بشرية معينة، كالنصوص الدينية، والأساطير المحلية، والأمثال والأقوال السائرة، كما يكون صريحاً عندما يشير المؤلف صراحة إلى الخطابات أو النصوص التي ضمنها في خطابه، ومع ذلك فإن (الظاهر) يبقى نسبياً وغير مطلق، وأظننا أشرنا إلى تضمين أو أسلبة الطيب صالح لآيات من التوراة، لم تشر إليها أي من القراءات الكثيرة التي توفرت لروايته (موسم الهجرة إلى الشمال)، وغالباً مايكون الظاهر في التناص الخطي أو الخطابات المهجنة، ولكن الصريح يكون في الخطي والتصويري، وسأستشهد على التصويري بأسلبة الشاعر سامي مهدي (لدالية المعري) التي يبدأها(71):
"[تستوطني] دالية المعري في كل يوم
فأمشي بخفة ويقظة
لئلا أرفس جمجمة أحد الأسلاف"
وإلى هنا والقصيدة تنتمي إلى (الأسلبة) حيث لغة الشاعر تضيء لغة المعري خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.(1/82)
لكن الشاعر، المحدث، لايكتفي بإخفاء شاعر من عصر آخر ويكتفي بإضاءتها في ملفوظة حسب، بل ويدخل على مادة الشاعر اهتماماته الثمياتيكية، ويضفي على هذه المادة سمات نوعية جديدة (وأجنبية) على لغة الشاعر القديم، لنكون إزاء نسق (التنويع) لا الأسلبة:
"وأرتقي أول سلم يصادفني
ولكن التفاحة تباغتني
تنط من يدي كضفدع
وتتقافز على درجات السلم
وإذ أنظر إليها بدهشة أرى
وأكتشف أن السلم الذي ارتقيته
مصاطب من عظام".
وهكذا، فإن ارتقاء الإنسان في سلم الحضارة والمدنية، منذ خطواته الأولى وهو يغادر الطبيعة إلى النظام الرمزي وإلى الثقافة، ثم وهو يخضع هذه الطبيعة ويرتقي علماً ومعرفة وثقافة وعمراناً وحضارة، هذا الإنسان يدفع ثمن هذا الارتقاء من جماجم وعظام ملايين البشر وهكذا لايعود معنى دالية المعري ذاته، بل تدخله اهتمامات الشاعر المعاصرة.
وتعد قصيدة القناع والشخصية أمثلة واضحة على التناص الظاهر، لأنها إما أن تشير إلى اسم القناع في عنوان القصيدة أو تذكرها في المتن. وسواء تحدثت بصوت القناع أم تحدثت عن القناع بلغة الشاعر المعاصر. وغيبت صوت القناع فإنها توجه القارئ وتشير له إلى مرجعيات النص.
2-التناص المستتر، وغالباً مايكون التناص في هذا النوع من (نسق) التناص التصويري، الذي يعمد فيه المؤلف إلى تذويب خطابات أو أجزاء من خطابات الآخرين في نصه أو خطابه. بعد أن يضفي عليها سمات جديدة غنية وسواء أكان التناص هنا واعياً وقصدياً أم كان لاشعورياً، فإن الأمر يعتمد في القراءة على ذاكرة القارئ وثقافته، كما سبق وأشرنا إلى بيت الشاعر السياب "وعلى الأكتاف من النمر، شرق يتسلل ملء الغاب من الشجر" الذي ذكرناه في صدر هذا البحث مثال على هذا النمط من التناص.(1/83)
3-نصف المستتر، وهذا النوع من التناص يقوم على أن يلمح المؤلف في خطابه، سواء كان التلميح -في عنوان النص أم في متنه- وينثر بعض العلامات التي ترشد قارئاً (معيناً) إلى مرجعيات النص ومظانه، ويعتمد هذا النمط على ذاكرة القراء وعلى وجود قسط وميثاق مشترك، من التقاليد الأدبية والسنن الثقافية بين المؤلف وقرائه. وتعد قصة "الصرخة 1972"، لمحمد خضير مثالاً على هذا التناص الذي يتوجه إلى قارئ جديد، بما يقوم به المؤلف من خرق للسنن الأدبية والثقافية، ولذا فإن القراءات التي توفرت لهذا النص لم تستطع كشف التناص التشكيلي فيه. إذ بينما كشفت هذه القراءات عن لوحة هنري روسو (ساحرة الأفاعي) وتمثال جياكو ميتي المذكورين في المتن، ظلت لوحة الفنان المكسيكي "سيكيروس، (صدى صرخة) وتناص القصة معها، في منأى عن القراء حتى قام المؤلف نفسه، بالكشف عنها، حين نشر (سيناريو) معداً عن القصة ذكر فيه لوحة الفنان المكسيكي.
وفيما يخص تناص القصة -الفيلم فقد استطاعت قراءات معينة أن تكشف عن التداخلات النصية في قصص الكاتب، كاللفظة التوليفية المعروفة في فيلم (الإضراب) لايزنشتين. التي ركب فيها مذبحة العمال في الأوديسا على مشهد حيوانات ذبيحة في المجزر -والتي وضعها الكاتب، بعد أن صهرها وذوبها بصورة خلاقة- في قصته (حكاية الموقد) فالراوي يصف الزوجة وهي تنظر في وجوه أولادها بعد أن يئسوا من عودة الأب -الجندي الغائب- وهي تراهم يرتدون جلود الأغنام وينظرون إليها بعيون الجاموس "رأت الجاموس ينزل للماء والأغنام تسلخ في باحات الأضرحة والمزارات والبيوت الغنية.... رأت الأمخاخ ونخاعات العظام ونظرة العين الأخيرة المذبوحة"(71).(1/84)
وقد وجدنا في عنوان قصة "المملكة السوداء" للقاص مايلمح إلى مرجعية النص، إذ انطوت هذه القصة على أسلبة مضادة (نقيضه) لقصة الجحيم لدى دانتي، كما يمكن للقارئ أن يجد مؤشرات واضحة في القصة على هذه المرجعية. فالدار التي يقصدها بطل القصة (علي) تتكون من طابقين ويهيمن عليها اللون الأسود. كذلك الجحيم لدى دانتي تتكون من طابقين الجحيم العليا والجحيم الدنيا. واللون الأسود الداكن يغلب عليهما. وعلى باب الجحيم كتبت عبارة بلون داكن: "أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل" وفي المملكة السوداء، قام المؤلف بأسلبة عبارة دانتي بلغة معاصرة هي لغة القاع الاجتماعي، فقد كتب على باب الدار "أيها الداخل للحوش اقرأ السلام"، إن العمة المحتضرة في الطابق الأعلى من الدار تشبه في مصيرها مصير أولئك الخالدين في الحلقة الأولى من الجحيم: "ليس لهؤلاء في الموت أمل، وحياتهم العمياء شديدة الضعة".
لقد قصد (علي) دار عمته، عله يظفر بشيء من حاجات والده الذي مات قبل أن تكتحل عيناه برؤيته. مات بعد أن تزوج من امرأة أخرى غير أمه، وبعد أن هجرها وعاش مع عمته في الدار التي يقصدها، وظفر بصورة مموهة لوالده من الدار وقد (نسي ملامح وجه أبيه في الصورة وقد سحقتها أزماناً حيوانات المملكة السوداء... كما ضاع صوت أبيه... الخ).
قصة المملكة السوداء، أسلبة دنيوية معاصرة لنص أدبي ديني قديم، وماتقوله القصة يقلب رؤية دانتي: ليس الجحيم في العالم الآخر، الجحيم في هذه الدنيا، وهو حياة أولئك الذين يعيشون في القاع تتآكلهم الهوة الفاصلة مابين حاجاتهم الروحية والإنسانية وبين ضعة الحياة التي يحيونها.(1/85)
ويمكن القول إن التناص الصريح أوالظاهر لايتطلب جهداً عقلياً من القارئ، وهو يخاطب قارئاً استهلاكياً، ويتطلب قراءة استهلاكية محضة، بينما يتطلب النوعان (المستتر ونصف المستتر) قراءة إنتاجية وقارئاً منتجاً، ذا عقل مفتوح على شفرات النص الجديد، وعلى الثقافات القومية والعالمية القديمة منها والحديثة، وعلى الأجناس الأدبية، والفنون كلها، قراءة تنتج النص بما تضعه وتقترحه لملء فراغات هذا النص.
(((
( المصادر والمراجع
1-انظر: الأدب المقارن، محمد غنيمي هلال، دار النهضة للطباعة والنشر، مصر، ص23.
2-انظر: المبدأ الحواري، دراسة في فكر ميخائيل باختين، ترجمة فخري صالح، دار الشؤون الثقافية العامة.
3-مشكلة التناص في النقد الأدبي المعاصر، محمد ديوان مجلة الأقلام، العددان 4، 5، مايس-حزيران، ص47.
4-الشعرية: تزفطان تودورف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال المغرب، ص41.
5-نظرية المنهج الشكلي -نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، ص47.
6-نفسه.
7-المبدأ الحواري، ص84.
8-انظر: أدونيس منتحلاً، دراسة في الاستحواذ الأدبي وارتجالية الترجمة، كاظم جهاد مكتبة مدبولي، ص35.
9-انظر: السرد في القصيدة الغنائية الحديثة، د.شجاع العاني، مجلة الأقلام، العددان 4، 5 نيسان -أيار 1994، ص69.
10-انظر المبدأ الحواري، ص82.
11-انظر: الخطاب الروائي، ميخائيل باختين، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، ص66.
12-نفسه، ص66.
13-انظر: (في اللسانيات يبدأ المرء بالكلمات والقواعد النحوية وينتهي بالجمل إما في (عبر اللسانيات) فيبدأ بالجمل وسياق النص وينتهي بالتلفظات) المبدأ الحواري، ص76.
14-انظر: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص) د. محمد مفتاح، دار التنوير، ص119-125.
15- انظر: أدونيس منتحلاً، ص79.
16-انظر: تحليل الخطاب الشعري، ص ص123-124.
17-نفسه، ص 129.(1/86)
18-أدونيس منتحلاً، ص31.
19- انظر: في أصول الخطاب النقدي الجديد، تزفتان تودورف وآخرون، ترجمة أحمد المديني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ص105.
20-نفسه، ص ص108-109
21-المبدأ الحواري، ص82.
22-أدونيس منتحلاً، ص35.
23-في أصول الخطاب النقدي الجديد، ص107.
24-انظر: دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، دار المعرفة -بيروت- لبنان 1981، ص201-202. وانظر أيضاً ص ص274-275.
25-انظر: مشكلة التناص في النقد الأدبي المعاصر، الأقلام 4، 5، 6/1995، ص47
26-انظر: علم النص، جوليا كريسطيفا، ترجمة فريد الزاهي، عبد الجليل ناظم، دار توبقال، المغرب، ص79.
27-نفسه، ص 79-81.
28-أدونيس منتحلاً، ص 38
29-أدونيس منتحلاً، ص38
30-أنظر: علوم البلاغة، أحمد مصطفى المراغي، ص ص242-243.
31-نفسه، ص241.
32-المبدأ الحواري، ص91.
33-نفسه، ص92.
34-نفسه، ص92.
35-انتظريني عند تخوم البحر، شعر يوسف الصائغ، مطبعة الأديب، بغداد -الورقة الأولى.
36-ديوان عبد الوهاب البياتي، ج2، دار العودة -بيروت، ص185.
37-ت.س. اليوت، الشاعر والقصيدة. د.عبد الواحد لؤلؤة، ص43.
38-ديوان عبد الوهاب البياتي، ص245.
39-انظر: النظرية الرومانتيكية -سيرة أدبية- كولردج.
40-موسم الهجرة إلى الشمال، رواية الطبيب صالح -دار العودة- بيروت، ص45.
41-التوراة، سفر أشعياء، الاصحاح الثاني، الآيات 2، 3، 4.
42-نفسه، الاصحاح الحادي عشر، الآيات، 1، 9.
43-انظر: موسم الهجرة إلى الشمال بين عطيل وميرسو: محيي الدين صبحي، في (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) دار العودة -بيروت، ص40.
44-البحث عن معنى. د.عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص69.
45-شبح قايين بين ايديث ستويل وبدر شاكر السياب، قراءة تحليلية، مقارنة د.علي البطل، دار الأندلس، ص121.
46-أغنية في شهر آب، بدر شاكر السياب، ديوان أنشودة المطر.(1/87)
47-انظر: شرح ديوان المتنبي، عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، ج4، ص386.
48-علوم البلاغة، ص344.
49-انظر المبدأ الحواري، ص99و ص102.
50-الخطاب الروائي، ص120.
51-نفسه، ص120.
52-نفسه، ص122.
53-نفسه، ص122.
54-الحداثة، السلطة، النص، كمال أبو ديب مجلة فصول مجلد 4، عدد3، إبريل- مايو يونيه 1984، ص57.
55-الخطاب الروائي، ص123.
56-التوراة، سفر نشيد الإنشاد، الاصحاح الأول، الآية 16، 17.
57-الخطاب الروائي، ص123.
58-نفسه، ص123-124.
59-انظر: دوواين حميد سعيد، شواطئ لم تعرف الدفء طفولة الماء، مملكة عبد الله، وانظر: أيضاً اللغة الشعرية، دراسة في شعر حميد سعيد، محمد كنوني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1997، ص ص307-315.
60-الرؤيا في شعر البياتي، محيي الدين صبحي، دار الشؤون الثقافية العامة، ص140.
61-الشمس والعنقاء، خلدون الشمعة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1974، ص206.
62-النخلة والجيران، رواية غائب طعمة فرحان، دار الرواد للطباعة، ص63، وقد برع كل من غائب في العراق ويوسف ادريس في مصر، والطبيب صالح في السودان، في مثل هذه الأسلبة وفي تضمين كلام الشخصيات داخل كلام الراوي.
63-انظر: القصيدة كاملة في الجزء الثاني من ديوان الشاعر، ص7.
64-علوم البلاغة، ص343.
65-التناص مع الشعر الغربي، عبد الواحد لؤلؤة، مجلة الأقلام العدد 10-11-12/1994، والقوسان الكبيران من وضع صاحب المقال نفسه.
66-انظر: أفق الحداثة وحداثة النمط، سامي مهدي، دار الشؤون الثقافية العامة، ص157.
67-انظر: المخيّل السردي، عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، ص ص17-60.
68-المبدأ الحواري، ص85.
69-انظر: الشعرية، ص40.
70-حنجرة طرية، سامي مهدي، دار الشؤون الثقافية العامة، 1993، ص ص62-63.(1/88)
71-انظر مقال محمد خضير ومغامرة القصة العراقية في كتابنا (في أدبنا القصصي المعاصر" وفصل المؤثرات السينمية في أدب محمد خضير، في هذا الكتاب، ومجلة أسفار العدد 17/18 صيف 1994، والجحيم لدانتي اليجري، ترجمة حسن عثمان -دار المعارف بمصر.
(((
في القصة والرواية
التغريب وانفتاح النص
في قص ما بعد الحداثة
في العشرينات من هذا القرن، وفي أحضان ثورة 1919 القومية في مصر نشأت المدرسة الحديثة في القصة المصرية على يد كل من محمود تيمور وعيسى عبيد وطاهر لاشين(1)، وفي أحضان ثورة العشرين الوطنية في العراق نشأت القصة العراقية على يد محمود أحمد السيد. إلا أن مصطلح الحداثة الذي أطلقه يحيى حقي على القصة التي كتبها جيل العشرينات ظل يطلق على أجيال عديدة لاحقة، بينما خصص مصطلح الحداثة لوصف القصة العراقية التي كتبها كل من نزار سليم وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي في الخمسينيات من هذا القرن. بالرغم من أن محمود السيد كتب القصة الحديثة منذ نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات التي شهدت ظهور قصاصين محدثين كأنور شاؤول ويوسف مكمل ويوسف متي وبالرغم من النضج الفني والحداثة الفنية التي اتسمت بها أقاصيص السيد في تلك الحقبة، ولا سيما مجموعته القصصية "في ساع من الزمن" الصادر عام 1935.
ولا أريد أن أقف لأناقش هذا الأمر مطولاً، إذ يمكن القول بوجود حداثات متعددة، وأن ثمة ما هو مشترك بين هذه الحداثات. إلا أن إطلاق مصطلح الحداثة على جيل الستينيات من القصاصين العرب، سواء في مصر أو العراق أو أي قطر عربي آخر، فيه من الخلل الشيء الكثير، والنقاد المصريون لا يجمعون على ذلك، فعلى حين وصفت التيارات الجديدة في القصة المصرية بالحداثة لدى بعض النقاد، نجد بعض النقاد يتردد في إطلاق هذا المصطلح مستبدلاً به مصطلح "القصة الجديدة"(2) ليميز هذه القصة الجديدة عن الاتجاهات الحديثة التي شهدتها القصة المصرية قبل الستينيات.(1/89)
والحقيقة أن الكثير من الظواهر الفنية التي اتسمت بها القصة الستينية لا تنتمي إلى الحداثة بقدر ما تنتمي إلى "ما بعد الحداثة postmodemty". وعلى الرغم من أن استراتيجيات ما بعد الحداثة غير مستقرة تماماً حتى يومنا هذا، فإن العودة إلى الماضي وإلى التاريخ، والتقطيع السردي، والتغريب، والعجائبي والسحري، وتأمل النص لذاته وإقحام الهامش، وتداخل الأجناس الأدبية والفنية والاحتفال بالعلمي والمعرفي والمعرفة الملغزة، وانفتاح النص على كل ذلك من جهة، وعلى القراءة من جهة أخرى، كلها ظواهر فنية تلتقي مع استراتيجيات ما بعد الحداثة.
وعلى هذا يمكن القول إن النص ما بعد الحداثوي نشأ في الأدب العربي مع جيل الستينات، وصحيح أن هذه النشأة كانت غامضة وملتبسة في العقد الستيني، لكن السبعينات وما بعدها شهدت تبلوراً واضحاً لكل هذه الاستراتيجيات في القص، ولكن الذي حقق كل ذلك هو جيل الستينات. وأن أسهم معهم فيما بعد قصاصون ينتمون إلى العقود اللاحقة، وهو أمر طبيعي جداً.
منذ زمن ليس بالقصير تلح علي فكرة أن الدعوة إلى أدب جديد، وأدب للكتابة كما دعاه بارت، وما يتحقق من هذا الجديد إن هو إلا امتداد واستمرار، وتطوير أحياناً لما بدأه الكاتب والشاعر المسرحي الألماني بريخت، ذلك أن ما تقدم ذكره من ظواهر واستراتيجيات يبدو على وفاق تام مع استراتيجيات(2) مسرح بريخت وبسكاتور وما حققاه من تغريب في مسرحهما. كما وجدت أن التغريب في النص القصصي يؤدي إلى انفتاح النص، وأن العكس صحيح في غالب الأحيان ومن هنا جاء عنوان هذه الدراسة القصيرة.(1/90)
بدءاً ساحدّ التغريب مؤقتاً بأنه "كل خروج ما هو مألوف في ثقافة جماعة بشرية معينة، بحيث يؤدي إلى ارباك قناعات المتلقي وخلخلة مسلماته ويدفعه إلى إعادة النظر فيها". ومن المعروف أن مفهوم التغريب هو وليد الشكلانية الروسية والشكلانيين الجيك والبولندين، الذين أبانوا بأن الشيء حين ينقل من متواليته في الواقع إلى متوالية جديدة في الفن، يصبح غرائبياً، فحين يقول بودلير: "الجثة كانت قدماها في الفضاء مثل امرأة شبقة" فإنه يكسب الجثة بكلماته التي يشكلها بها من جديد، دلالة جديدة، وغريبة، وهنا تكمن وظيفة الفن فالرؤية الفنية الجديدة للشيء -الجثة (هنا)، هي التي تحمينا من الأتمتة والصدأ الذي يهدد تصورنا للحب والكراهية والتمرد والتصالح والإيمان والجحود"(4) حسب تعبير ياكبسون، أي أنها تجدد رؤيتنا للأشياء والمفاهيم في هذا العالم، تلك الرؤية التي واتتني تغلف رؤيتنا الواقعية للأشياء بالأتمتة والصدأ والابتذال والتفاهة والعقم.
وينتج عن هذا المفهوم، أن المادة في الواقع غير المادة في الفن، وما ندعوه واقعياً في الفن هو مجرد وهم، إذ ينبغي "تجريد .. الشيء من تشاركاته العادية" لكي يصبح عنصراً في متوالية فنية كما يقول شكلوفسكي، أي يصبح مبيناً، فلا يعود نفس ذلك الشيء أو العنصر في الواقع.(1/91)
وبالرغم من أن الشكلانيين يوجهون ضربة للمفاهيم الكلاسيكية عن الفن، التي يعد الإيهام بالواقع مطلباً أساسياً ومشتركاً فيها، فإن جذور هذا الفهم الجديد للفن قائمة لدى الكلاسيكيين والواقعيين والرومانسيين، إذ يتطلب الفن لدى الكلاسيكيين "المدهش" ولدى الواقعيين (الخاص). وقد جهد شاتوبريان الرومانسي ليبرهن في "عبقرية المسيحية" بأن (المدهش) الذي يصبح مادة للأدب موجود في الكتاب المقدس، ويقترب مفهوم الخاص الذي ينبغي أن يرتبط بالعام لدى الواقعيين، من الاستثنائي، ومن هنا كان احتفال لوكاش وتمجيده لتلك الشخصيات التي قلما نجد في الواقع مثيلاً لها: هاملت لدى شكسبير، وفاوست لجوته، ودونكيخوته لسرفانتس!
أعود إلى مسرح بريخت الملحمي وما عرف به من تغريب، لأشير إلى ما أكده تيري ايغلتن من أن "رولان بارت" كان بطلاً قديماً لمسرح بريخت في فرنسا، وأنه نشر مقالاً حماسياً عن هذا المسرح عام 1964 وتضمنه كتابه (مقالات نقدية) وإلى إشاراته -أي ايغلتن- إلى أن مفهوم بارت للغة والأدب، والكلمة التي تلمح إلى وجودها المادي، في الوقت الذي تنقل فيه معنى، هي حفيدة اللغة الغربية [كذا] للشكلين والتركيبين الجيكيين وللكلمة الشاعرية لياكبسون التي تتباهى بكيانها اللغوي الواضح"(5) وهكذا يكون مسرح بريخت الملحمي، وسيطأ لنقل المفاهيم التي نادى بها الشكلانيون إلى الأدباء والنقاد في غرب أوربا، بعد أن أصبحت الوسائل التغريبية للشكلانيين "أدوات شعرية وسينمائية ومسرحية لغرض عدم تطبيع.. المجتمع"(6) وتغريبه، ولدى العديد من الأدباء والفنانين في جمهورية فايمار الألمانية في العشرينات من هذا القرن.(1/92)
إذا كان مفهوم التغريب يعود إلى العشرينات من هذا القرن، فإن التغريب نفسه يعود إلى أبعد من ذلك. وإلى القرن التاسع عشر، ذلك أن رواية (تريستام شاندي) تعد من أقدم النصوص التي عرفت نوعاً من التغريب بات شائعاً في النصوص الروائية اليوم، إذ يقع التأكيد في هذه الرواية على شكل الرواية، بحيث يصبح هذا الشكل عمق الرواية ذاته، كما أوضح شكلوفسكي(6) الذي أعاد لها هو وغيره من الشكلانيين -الاعتبار بعد أن عاملها النقد طويلاً على أنها مجرد ثرثرة فارغة، ومن الطبيعي أن النص حين يتأمل ذاته، يكسرني ذات الوقت جدار الوهم ويزيحه من أمام أبصار القراء.
وقد توافق مع مسرح بريخت في ألمانيا، صدور رواية "مزيفو النقود" لاندريه جيد في فرنسا، ويبدو أن جيد لم يكن يقصد إلى تغريب موضوعة الرواية بقدر ما كان يهدف إلى كتابة رواية جديدة على غرار السمفونية، متأثراً ببعض اللوحات الفنية التي كانت تضم مرآة داخلية تعكس المشهد المرسوم، وجد فيها جيد تقنية من شأنها توطيد النسب والعلاقات في الرواية(8)، ومن هنا فإن جيد يجعل كاتب الرواية -ادوار- الذي يدون مذكرات يسرد فيها قصة كتابته للرواية. واحداً من شخصيات الرواية، وبسبب هذا فقد اختزل "التغريب" إلى حده الأدنى.
لقد باتت كتابة نصوص قصصية تتأمل ذاتها، وتهدم جدار الوهم من أمام القارئ مشركة إياه في مغامرة الكتابة، وشائعة في عالم (القصة والرواية اليوم وسنعرج على بعض النصوص الروائية والقصصية في الأدب العربي الحديث. من تلك التي تحفل بمثل هذا التغريب، عارضين لأبسط أنواع التغريب أولاً ثم أنواعه الأكثر تعقيداً. )
وبدءاً ينبغي أن نميز بين نمطين من التغريب، أحدهما ينبع من نزعة تعليمية إصلاحية يحفل بها القصص الواقعي، دون أن يكون للقاص قصدية في التبعيد أو التغريب الذي عرفه المسرح الملحمي، وآخر ينبغ من منهج فني وتعبيري واعٍ ومقصود للتغريب(1/93)
لقد عدّ القاص المصري ادوار الخراط ما في قصص يحيى الطاهر عبد الله من نزوع إلى التعليم تغريباً وعدّ هذا التغريب نابياً ويجور على أثمن ما في موهبة القاص، قائلاً: "وسوف يعود الكاتب.. إلى الأسلوب التبعيدي والواقعي (البريختي ربما) في أغنية العاشق إيليا"(9). والقارئ لقصص عبد الله يجد فيها فعلاً هذا التبعيد البريختي الماثل في أسلوب القاص ولغته الشعرية، وفي أساليب التكرار لديه، إلا أن القص الواقعي حافل أيضاً بالتعليم، ويكفي أن نقرأ أي قصة من قصص يوسف إدريس لنرى كيف تتحول إلى دراسة تشريحية لجسد الشخصية أو دراسة سيكولوجية للنفس البشرية، وقلّ مثل ذلك على القاصة العراقية لطفية الدليمي، التي تتحول لديها أحياناً، الفكرة المجردة إلى أحداث وشخصيات ومعادلات خيالية ذات طابع مجازي، وقد عمدت إلى ذكر القاصين لكون التعليم لديهما يأتي مندغماً في النسيج الفني، غير ناب، ولا يتحول إلى وعظ ممل، بل ويشد القارئ أحياناً(10).
على أننا قد نجد عند إدريس بعض القصص التي يتحول التعليم فيها إلى منحى تبعيدي بريختي واضح دون أن يكتمل، إذ يعمد القاص إلى تأكيد الإيهام لا نفيه كما هو الأمر في قصة (أكان لا بد يالي لي أن تضيء النور)، فالراوي يخبرنا بأنه يروي لنا نكتة، وهو ظاهر وبائن للقارئ، ولكنه لا يلبث أن يخبرنا بأن النكتة (واقعة حدثت) ليعيدنا إلى الإيهام بالواقع بعد أن أبعدنا عنه، يقول الراوي: "في البدء كانت النكتة وفي النهاية ربما أيضاً تكون. والنكتة في النكتة أنها ليست نكتة، ولكنها واقعة حدثت لأهل النكتة، صناعها المهرة، رواتها العتاة"(10). ومن المعروف أن القص التقليدي الكلاسيكي. يلجأ إلى تأكيد الإيهام بوسائل كهذه، إذ يخبرنا الراوي بأنه سمع ما يقصه علينا من راو آخر، أو أنه وجد ما يقصه علينا في مذكرات خاصة لشخص ما(11).(1/94)
ومثال التبعيد القائم على التعليم، وعلى منهج فني واعٍ وعلى قصدية واضحة ما فعله القاص أحمد المديني في روايته "وردة للوقت المغربي" ففيها يقدم الراوي مروية عن منظورات متعددة، تليها رواية للحدث باسم المؤلف نفسه، مذيل بعبارة حصرت بين معقوفتين هي: "وهو غير المؤلف"(12) والمعروف أن النقد الكلاسيكي لم يكن يميز بين الراوي الذي هو كائن من ورق وبين المؤلف وهو ذات إنسانية حقيقية، إلا أن البحث الفلسفي الحديث، أسفر عن وجود ذات معرفية لا تختلف مع الذات الواقعية حسب، بل وقد تتناقض معها، كما أسفر النقد الحديث، عن أن الراوي هو ليس المؤلف، بل الذات الثانية للمؤلف كما أوضح الناقد واين بوث. إن وضع مثل هذه العبارة أمام عيني القارئ الذي اعتاد على استهلاك أنماط قصصية ونقدية تقليدية، من شأنه أن يهز قناعات هذا القارئ ويخلخلها، مباعداً بين القارئ وبين النص، ومانعاً إياه من الاندماج بشخصياته وأحداثه، ومفيضاً الطريق أمام أنساق ثقافية جديدة ليسلكها القارئ!
إذا كان القاص الكلاسيكي يعمد إلى تأكيد الإيهام في صدر أو مقدمة القصة، فإن القصاصين الجدد يعمدون إلى تصدير نصوصهم القصصية بما ينفي الإيهام ويؤكد للقارئ إنه إزاء عمل فني خيالي لا صلة له بالواقع، كما فعل الروائي جبرا إبراهيم جبرا في البحث عن وليد مسعود بين أشخاصها وأسمائهم وبين أناس حقيقيين أو أسمائهم، فلن يكون ذلك إلا من محض الصدفة وخالياً من كل قصد"(13)، ويعد هذا التبعيد من أبسط الأنواع، ذلك أن القارئ ما إن يتجاوز الملاحظة -العتبة هذه حتى يقع أسير الإيهام، إذ ليس ثمة ما يمنع القارئ من التماهي مع شخصيات الرواية.
وربما أراد الروائي أن يناهض الأفكار الواقعية عن الرواية، التي تقول بأن عالمها يفيض ويتداخل مع العالم الواقعي، مقتبساً مثل هذا التغريب من بعض الكتاب الإنجليز الذين عرفوا به كـ "جون فاولز" وغيره.(1/95)
وأعمق من هذا التغريب أو التبعيد، أن يكون الإعلان عن خيالية العمل ولا واقعيته صادراً عن الراوي وفي المروي نفسه، كما فعل القاص محمد خضير في واحدة من أفضل قصصه عن الحرب. وعلى وفق هذا التغريب البريختي، فإن الراوي يعلن في بدء مرويه مخاطباً القارئ بأنه إنما يقرأ حكاية: "لكل مساءٍ حكاية، حكاية واحدة في أول المساء.."(14). ويواصل الراوي حكايته الخاصة بالتناوب مع الحكاية الخرافية التي ترويها الجدة أم عباس لعائلة الجندي الغائب، والتي تنتهي بموت بطلها إرهاصاً بموت الجندي الغائب- الحاضر في القصة. ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، إذ يعود صوت الراوي ليرتفع من جديد وبصورة أشد وضوحاً، مخاطباً القارئ بكلمات هي أقرب ما تكون إلى مقطع من قصيدة نثر:
"في الظلام يأتي المختلس الزاني
في الظلام يأتي الميت المصاب في القلب بشظية
في الظلام يأتي الحلم الدموي.
(من يود الاحتجاج؟ من يود السخرية؟ من يود الانتظار حتى المساء التالي، لسماع حكاية أخرى أمام الموقد؟)(15).
إن اقتحام الراوي لمرويه بمثل هذه الغنائية والخطابية، في هذه القصة وغيرها من قصص الكاتب هو ما جعل بعض النقاد العرب عاجزين عن فهم إبداع القاص وتقنياته الجديدة(16).
وواضح أن مثل هذا التبعيد من شأنه أن يفتتح النص القصصي الموضوعي على الغنائي، هذا فضلاً عن أشكال التغريب الأخرى لدى محمد خضير، والتي من أبسط أشكالها استخدام مفردات وألفاظ غير عربية تلفت انتباه القارئ وتغريه لما فيها من غرائبية كما هو الأمر مع مفردة "بصرياثا" التي استخدمها القاص لأكثر من مرة، سيما في نصه الكبير المفتوح" "بصرياثا" و"طيبوثة" في تاج لطيبوثة، وهما مفردتان آراميتان من شأنهما أن تدفعا القارئ إلى التفكير وتبعده عن الإيهام.(1/96)
وثمة وسيلة للتبعيد استخدمها القاص العراقي وارد بدر السالم، في قصته (انفجار دمعة) التي يروي فيها القاص مذكراته في أيام الحرب، وبالرغم من الطابع التسجيلي والبيوغرافي للقصة، فإن القاص يعمد إلى تقطيع سرد الأحداث باستخدام أبيات من الشعر لشعراء عالميين معروفين، أو عبارات نثرية لكتاب عالميين معروفين للقراء. ومن شأن هذه اللافتات الأدبية أن توقف اندماج القارئ بالشخصية والأحداث، وتستحثه على التفكير في هذه اللافتات، سيما حين تكون اللافتة سؤالاً ملغزاً(17) يحتاج إلى الكثير من إعمال الفكر والعقل.
إذا كانت الحداثة تحاول -عبثاً- إلغاء الماضي وأساليبه الأدبية وابتكار أساليب أدبية مما لا يتقيد بأنماط سائدة ولا معايير مطردة"(18)، فإن ما بعد الحداثة تعود إلى كل حقب التاريخ بروح متهكمة وساخرة، وإلى الأساليب التي عرفها الأدب في الماضي وفي القرن التاسع عشر، إلى شتيرن، ورابيله، وبورج، بل وإلى هوميروس في الماضي السحيق، بحيث يصرح "امبرتو إيكو" بخشيته من أن يسمع بأن هوميروس ينتمي إلى ما بعد الحداثة(19). وبفعل هذه العودة أصبح تأمل النص لذاته أسلوباً شائعاً في الرواية، وقد ظفر الأدب العربي بعدد من الروايات والقصص التي تتأمل ذاتها سأقتصر هنا على ذكر روايتين وقصة طويلة قصيرة واحدة.(1/97)
كتابة "رواية ما ليست في الواقع إلا ضرباً من حب الذات؟ يحب الروائي أن يتجلى في مرآة الوجود، فيبدأ في خلق شخصياته"(20) هكذا يتأمل الراوي وهو -كاتب الرواية- نفسه في "سابع أيام الخلق" لعبد الخالق الركابي، معيداً على أسماعنا أسطورة نرسيس الذي لا يخلو فنان خالق منه: نحن نكتب لكي لا نكون هامشيين ثانويين في هذا الوجود، الذي نريد تأكيد وجودنا فيه. ولا يقتصر هذا التأمل على الراوي نفسه. بل يمتد إلى عمله وعالمه الذي يتشكل من كلمات وحسب "لقد أسدلت الستائر دول مدينة الأسلاف. مدينة الاسمنت والحجر، لافتح بمداد قلمي آلاف الستائر والنوافذ على مدينة الأسلاف الأخرى، مدينة الحروف والكلمات، التي أعاد تشييدها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة. هؤلاء الرواة الستة"(21) وهكذا فالكتابة لاحقة بالقص الشفاهي، والراوي لا يخبر القارئ بأن عمله خيالي، ومدينته خيالية، وهي غير مدينة الواقع، بل يعد بأنه سيفصح عما يقوم به في الصفحات التالية. ولا يقتصر التغريب على ما يقدمه الراوي من معلومات عن عمله وإعلانه بأنه ليس حقيقياً بل من حروف وكلمات، بل أن هيكلة وبناء الرواية يسهم وإلى حد كبير في فصل القارئ عن الحدث وعن التماهي مع شخصياته الخيالية، شاحذاً قدراته العقلية، ومثقفاً لها في الوقت نفسه، لفك رموز هذا النص الذي بني على أساس علوم العرفان لا سيما فلسفة محيي الدين بن عربي المتصوف والفنان، العالم مكتوب في رق الوجود لدى ابن عربي، والقرآن صورة عن هذا العالم، وكما أن للوجود ظاهراً وباطناً كذلك للقرآن ظاهر وباطن، وهكذا عمد الكاتب إلى أن يقيم مدينته، مدينة الحروف والكلمات على أعمدة من الحروف نفسها، فتوزعت أجزاء الرواية على سبعة حروف تكوّن بمجموعها كلمة (الرحمن)، والأجزاء السبعة هذه مساوية لأيام الخلق السبعة، كما وردت في الديانات السماوية أو في أساطير الخلق والتكوين السابقة عليها.(1/98)
ويسهم في التبعيد أيضاً أن الراوي يترك اليوم الأخير، حرف النون صفحة بيضاء، وتحت عبارة (كتاب الكتب- سفر النون) في وسط الصفحة، عبارة "تمت الرواية" إشارة إلى أن هذا الكون الصغير، الكون الروائي قد اكتمل نهائياً في اليوم السابع من أيام الخلق -وقد أنهى الكاتب الرواية كما ينهي بحثاً علمياً أو معرفياً حين ذيلها بأسماء المصادر والمراجع التي أفاد منها، وبينها بعض مؤلفات ابن عربي، وعبد الكريم الجيلي، وكتاب ألف ليلة وليلة.
إن هذه النهاية للرواية تعيد إلى الأذهان محاولات القاص العراقي محيي الدين زنكنة لكتابه رواية جديدة تتجاوز المنجز والمتحقق في الرواية العربية، وهذه المحاولات حافلة الحبيبة"(24)، وفضلاً عن الابتهال فإن قص ما بعد الحداثة يستعيد بعض التقنيات من القص الكلاسيكي. والتي كانت إلى وقت قريب تعد من عيوب القص الكلاسيكي وأعني بها مخاطبة الراوي للقارئ خارج العمل الفني، وهو غير المروي له داخل الحكاية، كما هو الأمر في قصص طاهر عبد مسلم، التي يتميز بعضها بأشكال من التغريب، كالإشارة مثلاً إلى أن مرجعيات أحداث قصصه، ليس الواقع وإنما الأعمال الفنية، سيما السرود السينمائية والتلفزيونية(25).
لقد أشرنا قبل قليل إلى وسيلة، من وسائل التغريب، باتت شائعة في القص العربي الجديد، وهي قطع الإيهام عن طريق الهوامش، ولقد رأينا ضرباً من ذلك في التوثيق التاريخي في قصة القاص المصري محمد مستجاب، على أن الهامش في بعض القصص يؤدي إلى قطع الإيهام ومن ثم التبعيد، دون أن يشير بالضرورة إلى مرجعيات تاريخية أو معرفية كما هو الأمر في قصة القاص أحمد خلف (بئر الآبار)(25) التي تنازع السرد فيها ثلاثة هوامش تستغرق مساحة فضائية وزمانية ليست بالقليلة إذا ما قيست بالمتن وبالرغم من أن الراوي يشير إلى دراسات علمية وأبحاث، إلا أنها دراسات وهمية يختلقها الراوي(1/99)
لقد أشرنا في مقدمة هذا البحث أن ثمة تفاعلاً واضحاً بين التغريب أو التبعيد وانفتاح النص القصصي، وأن أحدهما قد يؤدي إلى الآخر، إلا أننا واجدون بعض القصص التي تنفتح على مادة قصصية أصلاً، دون أن يقصد مؤلفوها إلى تغريب ماداتهم أو موضوعاتهم القصصية، أود أن أشير هنا إلى قصته "خطط مسائية لحرب غير منتهية "(27) للقاص لؤي حمزة التي تنفتح على الملصق وتروي القصة حكاية الضجة التي تقيمها إدارة مستشفى والتحقيقات الغريبة التي يجريها شخوص يرتدون أزياء عسكرية، لمجرد أن إدارة المستشفى تكتشف نشرة دوائية يساعد الدواء المذكور فيها على معالجة العقم وتنشيط الباه وقد ألصقها أحد المرضى على جدران المرحاض. وقد صورت هذه النشرة الدوائية (الحقيقة) ووضعت داخل النص القصصي!.
يمكن أن نلخص كل ما سبق إلى نتيجة مفادها، أن نص ما بعد الحداثة القصصي يلغي ويقصي ما عرفه القص الكلاسيكي من إيهام ويباعد ما بينه وبين المتلقي ويغرب موضوعاته وشكله إلى حد بعيد. وقد يصل أحياناً، إلى حد اجتثاث الشعور ويبقى على مخاطبة العقل لدى القارئ مستبدلاً اللذة والمتعة الذهنية بالمتعة النفسية التي عرفها القص الكلاسيكي، وهو بسبب ذلك ونتيجة له أيضاً نص مفتوح، مفتوح على كل الأجناس الأدبية، وعلى الفنون التشكيلية والسينما والموسيقى(28)، وهو مفتوح على الماضي والتاريخ بأحداثه وشخصياته التي غالباً ما يتخذ منها موضوعات من خلال الوثائق التاريخية وتفسيرها(28)، فضلاً عن أنه مفتوح على الأساليب الأدبية لهذا الماضي، وهو مفتوح على المعرفة الإنسانية بكل حقولها وتقنياتها، وعلى التوثيق العلمي وعلى الهامش وهو بعد كل ذلك مفتوح على التيارات والأساليب الأدبية العالمية، سيما أساليب ما بعد الحداثة، فماذا يعني ذلك على صعيد القراءة.(1/100)
إن نص ما بعد الحداثة القصصي، لا يستنسخ أو يعيد إنتاج نصوص تقليدية قديمة بالرغم من أنه يعود إلى الماضي لاستلهام الأساليب في هذه النصوص، بل هو يستفيد منها لخلق نص جديد يتجاوز البنية النصية القائمة وهو بانفتاحه على المعرفة الإنسانية وبخروجه على الوعي القار الجاهز، يتطلب قراءة منفتحة هي الأخرى، قراءة منتجة للنص ولدلالاته من خلال إعادة تركيب النص واكتشاف آلياته وعناصره(29) وكيفية عملها ومن شأن كل ذلك أن يسهم في تطوير القراءة والقارئ وتغير وعيه، إن المسافة التي يضعها النص الجديد بينه وبين القارئ، من شأنها أن تجعل من هذا القارئ ناقداً يتجه نقده، لا إلى النص والبنى النصية، بل يتجاوزها إلى البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي أنتجت البنية النصية التقليدية.
(((
( المصادر والمراجع
1-انظر: فجر القصة المصرية، يحيى حقي، الهيأة العربية العامة للكتاب ص77
2-انظر: ملامح مشتركة في الإنتاج القصصي المصري، فتحي إبراهيم، مجلة جاليري، اكتوبر 1969- ص83.
3-انظر: الحداثة وما بعد الحداثة، تحرير بيتربروكر، ترجمة عبد الوهاب علوب، مراجعة د. جابر عصفور، المجمع الثقافي، أبو ظبي ص68.
4-قضايا الشعرية، رومان ياكبسون، ترجمة محمد الولي، ومبارك حنون، دار توبقال للنشر ص20.
5-مقدمة في النظرية الأدبية، يترى ايغلتن، ترجمة إبراهيم جاسم العلي، مراجعة عاصم إسماعيل الياس، دار الشؤون الثقافية العامة -بغداد 1992 ص148.
6-انظر: بناء القصة القصيرة والرواية، شكلوفسكي، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية ص122.
7
8-انظر: قضايا الرواية الحديثة، جان ريكاردو، ترجمة صياح الجهيم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1977/ ص263.
9-الدف والصندوق: يحيى الطاهر عبد الله، وزارة الثقافة والإعلام- بغداد، المقدمة.(1/101)
10-انظر قصة يوسف إدريس في مجموعته: بيت من لحم وانظر على سبيل المثال قصة: البحث عن شجرة الحكمة للقاصة العراقية لطفية الدليمي في مجموعتها القصصية (موسيقى صوفية).
11-انظر: نظرية المنهج الشكلي: ص196.
12-وردة للوقت المغربي، المعهد الديني، دار النشر المغربية- الدار البيضاء ص18.
13-انظر البحث عن وليد مسعود، رواية جبرا إبراهيم جبرا، مكتبة الشرق الأوسط المقدمة.
14-المملكة السوداء، قصص محمد خضير، وزارة الثقافة والإعلام بغداد 1973 ص113.
15-نفسه ص129
16-انظر على سبيل المثال مقال غالب هلسا "الانتظار بدون جدوى" مجلة، الأقلام العدد 10 1977.
17-انظر: انفجار دمعة، قصص وارد بدر السالم، دار الشؤون الثقافية- بغداد 1994 ص43.
18-انظر: النقد والحداثة، عبد السلام المسدى، دار الطليعة- بيروت ص13.
19-انظر مقال أمبر توايكو في الحداثة وما بعد الحداثة، م. س ص354
20-سابع أيام الخلق، رواية عبد الخالق الركابي- دار الشؤون الثقافية ص8.
21-نفسه ص8
22-نجمة أغسطس، رواية صنع الله إبراهيم، منشورات دار الكتاب العرب- دمشق 1974 ص27
23-ديروط الشريف ونعمان عبد الحافظ، محمد مستجاب، مكتبة مدبولي- القاهرة ص43.
24-رؤيا خريف -محمد خضير، مؤسسة عبد الحميد شومان، شركة الشرق الأوسط للطباعة 1995-ص29.
25-انظر صعود القمر، قصص طاهر عبد مسلم، دار الشؤون الثقافية- بغداد 1993- ص51
26-انظر: خريف البلدة، أحمد خلف، دار الشؤون الثقافية، 1995- ص ص17-22
27-انظر: على دراجة في الليل، قصص لؤي حمزة عباس- دار زمنه عمان الأردن 1997- ص45
28-انظر على سبيل المثال قصة "الصرخة" لمحمد خضر في مجموعة (في درجة 45 مئوي) وقصة موسيقى صوفية للقاصة لطفية الدليمي في المجموعة المسماة باسمها.
29-انظر: الحداثة وما بعد الحداثة ص376.
(((
الكتابة بالكاميرا(1/102)
دراسة في اللغة السينمية في أدب محمد خضير(1)
لم تكن القصص القليلة التي نشرها القاص محمد خضير قبل "المملكة السوداء" سوى تمرينات أولية على كتابة قصة ذات ملامح مختلفة عما كان يكتب وينشر من قصص آنذاك وقد أهمل القاص هذه القصص رافضاً أن يضمها إلى مجموعته القصصية الأولى، التي أطلق عليها اسم "المملكة السوداء" والتي صدرت عام 1973م، وعلى الرغم من ذلك فإن تلك القصص ولا سيما قصته "البطات البحرية" التي فازت عام 1966م بجائزة الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية. "والنداء" التي نشرت في العدد الأول من مجلة الفكر الحي عام 1968م -انطوت على مفاتيح أساسية أصبحت فيما بعد ثوابت واضحة في المنهج الفني والفكري للقاص. بالرغم من أن القاص نفسه، يرفض أن يوصف بأنه ذو منهج محدد، ويزعم أنه يستبدل "الوعي الفني" بالمنهج الفني".
إن تلك الواقعية الشعبية الماثلة في وصف البيئة والأجواء المحلية والشعبية، وفي وصف شخصية القاع الاجتماعي وتصويرها تصويراً واقعياً وغرائبياً في الآن نفسه، والعبور من خلال اليومي والعارض إلى الثابت والجوهري في النفس البشرية، تصبح ملامح أساسية في القصة الجديدة التي سيكتبها محمد خضير، وستصبح المفردات التي تتردد كثيراً في قصص القاص الأولى، مثل سحري وسري، وثوابت أساسية في منهج فني جديد، يجمع بين ما هو واقعي شعبي وما هو سحري غرائبي. وفي (علي) بطل "المملكة السوداء".. الطفل، الباحث عن ملامح أبيه في ماتركه من أشياء بسيطة بعد أن مات دون أن تكتحل عيناه برؤيته، يمكن أن نلمح شيئاً من بطل "النداء" اليتيم الذي سحره جمال كائنات الهور وطيوره، بحيث يذرف الدموع، لمجرد أنه لمس هذا الجمال وشوهه، عندما حاول الإمساك بطائر "البجع".
__________
(1) * محمد خضير قاص عراقي أصدر عدة مجموعات قصصية هي 1-المملكة السوداء 1973 -2-في درجة 45مئوي 1978-3-رؤيا خريف 1997 كما أصدر كتاباً بعنوان بصرياثا يعد رواية مفتوحة(1/103)
لقد كانت تلك القصص إرهاصات أولية بحساسية جديدة، وقصة عراقية جديدة توشك أن تولد، ولن تكون تلك القصة استمراراً لما يكتبه أبناء جيله من قصص أو تطويراً، بل ستكون بمثابة القطيعة النهائية مع تلك القصص وذلك الجيل الذي غالباً ما اصطلحنا عليه بـ "جيل الستينات" هذه القصة الجديدة لا تدير ظهرها للواقع المحلي وللشخصية الشعبية المحلية، بل على العكس من ذلك تمثل عودة إليهما، لكن قراءتها لهذا الواقع، لن تكون قراءة أفقية بل ستصبح قراءة أفقية وعمودية معاً. ومن خلال العابر واليومي والمألوف، سيحفر النص القصصي ليصل إلى العمق البئري لهذا الواقع حيث توق الإنسان وأشواقه، وهمومه الأزلية. وسيصبح هذا الواقعي اليومي المألوف، حين يأسره النص القصصي، واقعاً آخر، تخرج فيه الأشياء من متوالياتها في الواقع لتدخل متوالية أخرى هي متوالية النص القصصي الذي يقوم على تغريب هذه الأشياء، بحيث لا يعود هذا النص مجرد استنساخ لهذا الواقع أو رصد سطحي له، بل تغريب له سيتغير المنهج، ولكن الرؤية -بالرغم من أنها لا تنفصل عن المنهج- ستظل غالباً الرؤية الواقعية النقدية، وستتحول النعوت من مثل سحري وسري، والمسميات مثل (روح الأشياء) من مجرد لافتات على جدار النص وفي جسمه ومن دلالاتها على منهج فني يوشك أن يولد إلى منهج فني متكامل تتحول فيه تلك النعوت والأسماء إلى مفاهيم تجد تجسيدها الفني والخيالي في هذا المنهج.(1/104)
وسيجد القاص الذي تسعفه ثقافة عميقة ورصينة في الأدب العالمي -كمال منهجه القائم على الواقعي-والسحري المدهش في آن واحد. في رافدين أساسيين أولهما: فكري أو أيديولوجي ماثل في الموروث الإسلامي الذي شهد في مراحل تاريخية معينة، مؤثرات من ديانات أخرى، استطاعت أن توظف في داخله ولأغراضها الخاصة، جوانب سحرية وصوفية غنوصية(2)، وثانيهما: فني ماثل في اللغة السيمية وفي المصورة -الأداة الواقعية والسحرية معاً، وسيتعانق هذان الرافدان في قصص الكاتب، ليتخلق منهما قصّ جديد، يقوم في أحد جوانبه الأساسية على اقتناص ما في الوجه البشري من سحر آسر وما في الحياة الغنية الثرية، من وجوه وجوانب سحرية ومدهشة، ولعل قصة "الشفيع" هي خير ما يمثل هذا العناق بين الرافدين المذكورين(3).
وسيجد قاص مثل محمد خضير -يعذبه مثل هذا السحر الآسر، في وجه يطفو فوق إناء لبن وسط الجماهير أو في وجه منزو في مقهى شعبي، أو وجه يجده في الطرق خارج المدن أو قطارات الليل أو غابات النخيل(4)- في فن السينما القدرة على التقاط مثل هذا السحر ومن المعروف أن مخرجين كباراً في السينما مثل جريفث وإيزنشتين ودارير، وفقوا في أسر مثل هذا السحر في الوجه الإنساني، باستخدامهم الرائع للمصورة (الكاميرا). ومن المعروف أن الروس وفقوا -كما لم يوفق أحد- في اكتشاف الإنسان من خلال قناع وجهه العاري على حد تعبير بيراندللو -عن طريق السينما(5).(1/105)
لقد كان ظهور هذا المنهج الفني على يد محمد خضير ضرورة أملتها المعطيات الجديدة في المجتمع العراقي، وفقدان المناهج الفنية القديمة كل إمكاناتها: فلقد تلاشى التيار السردي التقليدي القديم الذي ساد القصة في الأربعينيات والخمسينات وفقد التيار التحليلي الذي ولد في الخمسينيات على يد كل من عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي كل إمكانياته بعد أن انحدر على يد كتاب الستينات إلى درك الذاتية المغلقة والانثيالات غير المنضبطة للذاكرة، والمفردة المنغومة والعبارة الشعرية.
لقد اتخذت المؤثرات السينمية في أدب محمد خضير أشكالاً مختلفة وسارت في خط تصاعدي مستمر، بحيث يمكن أن تميز مراحل عديدة في هذا التأثير، وفي مدى الاستجابة له والاستفادة منه، وسنعمد هنا إلى تفحص هذه المراحل وسماتها الفنية بغية الإمساك بالموثر السينمي- من خلال دراستنا لبعض القصص الممثلة لهذا التأثير لدى القاص. مع ملاحظة أن هذه المراحل متداخلة فيما بينها، فبينما يعمد القاص في مرحلة معينة إلى كتابة نصوص قصصية تعتمد الوصف السينمي بدرجة عالية تلتقي فيها مؤثرات واضحة من الرؤية الجديدة -بحيث لا يعود القارئ يسمع بل يرى وحسب. قد يعود القاص إلى كتابة قصة تالية بمنهجه الفني في مراحله الأولى. وكأننا إزاء ثابت ومتحول في منهج القاص أو كأننا أمام لحن رئيس وألحان متنوعة في سمفونية واحدة.
الواقعية الموضوعية بالوصف السينمي
لقد دعا البيريس هذه الواقعية بالواقعية الجديدة، وتابعه في ذلك بعض النقاد العرب، حين أطلق بعضهم هذا المصطلح على أسلوب في القصة نشأ في الستينات من هذا القرن في بعض الأقطار العربية، مقابل الواقعية الاجتماعية الوثائقية التي سادت القصة العربية في الأربعينات والخمسينات من هذا القرن(6) وكان من أبرز رواده محمد خضير وسركون بولص ومحمد كامل عارف في العراق وصنع الله إبراهيم وإبراهيم اصلان في مصر، ومحمد زفزاف وخناثه بنونه وغيرهما في المغرب.(1/106)
ويعود ظهور الواقعية الجديدة هذه في كل من الولايات المتحدة وأوروبا إلى تأثير السينما فعلى الضد من واقعية بلزاك، اكتشف الأدباء الإسبان والإيطاليون في أوربا "واقعية جديدة -تحت تأثير بعض الروائيين الأمريكيين الذين رسموا بنهج فنية جديدة، قفا الولايات المتحدة الأمريكية كما اكتشفها الروائيون الجدد في البلدان الحديثة -المتخلفة غالباً(7) لقد تبنى بعض الروائيين الأمريكيين مثل همنغواي وكالدويل ودوس باسوس وداشيل همت وشتاينبك -تحت تأثير السينما- أسلوب الواقعية الموضوعية وليس في أدب كالدويل غير المحاورات والأحداث، الأعمال والتصرفات. إن الروائيين الأمريكيين لا يقدمون لنا مشاعر شخوصهم وأفكارهم بل الوصف الموضوعي لأعمالهم واختزالاً لكلامهم(8). وبكلمة موجزة محضراً لسلوكهم أمام موقف معين، على حد تعبير الناقدة الفرنسية كلود ادموندماني(9).
إن أهم ما يحققه هذا الأسلوب هو الغياب الظاهري للراوي، هذا الغياب الذي يترتب عليه ظهور أو بروز وجهة نظر القارئ. لقد كان التحليل حتى عام 1920م يبيح للراوي على وفق الرؤيا من الخلف، أن يلج أفكار شخصياته الأكثر خفاء ويعلق عليها ويشرحها، أما في الواقعية الجديدة، فقد اختفى صوت الراوي وأسلوبه واختفت الرؤية المجاوزة وغدت الرؤية مجموعة من الأحداث الموضوعية التي اختيرت بمهارة وقطعت في نقل محايد للواقع إن الأسلوب يقوم هنا على الوصف الخالي من التعليقات الذي أسمته كلودا أدموندماني "عين الكاميرا": رؤية لا يتدخل فيها المؤلف حيث لا يقال فيها إلا ما يمكن أن يلحظه مصور سينمائي موضوعي أو تسجله مسجلة صوت.(1/107)
ولقد اقترن رفض الأسلوبية ومحو الراوي لدى هؤلاء الروائيين، بميل عارم نحو تصوير المحرومين وإذا كان الكاتب الاجتماعي الوثائقي يعمد إلى خيانة هؤلاء المحرومين عن طريق الأسلوب، فإن الواقعيين الجدد قد عملوا على خلق أسلوب قصصي جديد يسمح بمنح الإحساس العنيف بحياة الجماعات البشرية المتخلفة، وهكذا كان شخوص هؤلاء الكتاب الأثيرين هم عياري الولايات المتحدة والفلاحين في إيطاليا وإسبانيا والهنود الخلاسيين في أمريكا اللاتينية(1).
وإذا ما عدنا إلى القاص العراقي محمد خضير وجدنا هذا الأسلوب يستجيب لمتطلبات رؤيته ومنهجه الفني، ذلك أن وجوه الحياة الشعبية والمحلية المختلفة، وإنسان القاع أو الطبقات الشعبية هذه التي تعد موضوعات أثيره لدى القاص تنسجم إلى حد بعيد وأسلوب الواقعية الجديدة.
وعلى الرغم من ظهور إرهاصات هذا التيار في القصة العراقية. في الثلاثينات، وعلى يد بعض القصاص العراقيين مثل يوسف مكمل(11) وفي بعض قصص ذو النون أيوب في مجموعة "قصص من فينا" وروايته "اليد والأرض والماء" 1948 إلا أن ظهوره كتيار واضح في القصة العراقية تأخر إلى الستينات، بقدر ما تأخر اللقاء بين القصة العربية والعراقية والقصة الأمريكية.(1/108)
وفضلاً عن محو الراوي والرؤية المجاوزة وأسلوب أوبيان المؤلف، فإن هذا الأسلوب، يحقق لقاص مثل محمد خضير ذلك المناخ السحري والغرائبي الذي يضفيه القاص على أجوائه الشعبية والناس البسطاء لديه. لقد وصف تودوروف الرؤية من الخارج التي ترتبط بأسلوب الواقعية الجديدة. بأنها ذات إمكانات جمالية محدودة وأنها "لا توجد.. بشكلها الخاص، وسيكون أي عمل يتبعها حتى النهاية عملاً غير مفهوم(12) وقد أشار تودوروف إلى أن هذا العامل يكمن وراء هيمنة هذه الرؤية في الروايات البوليسية ولا سيما لدى داشيل همت، ولسنا هنا بحاجة إلى مناقشة فكرة تودوروف حول الإمكانات الجمالية لهذه الرؤية أو الرد عليها، فقد حذف هو نفسه الفقرة الخاصة بها فيما بعد، في كتابة "الشعرية" إلا أن الشق الثاني من عبارته ينطوي على مغزى واضح ولا سيما فيما يخص القاص محمد خضير، فهذا الأسلوب وهذه الرؤية لا يمحوان وجهة نظر الراوي ويحلان محلها وجهة نظر القارئ حسب، بل وسيكون من شأنهما تلغيز الواقع وأسطرته وتغريبه، وهو أمر رئيس ومهم في منهج القاص العراقي، الذي يقوم كما أسلفنا على المعانقة بين الواقعي العادي والسحري المدهش.(1/109)
لقد وصف القاص نفسه أسلوب الوصف الخارجي المباشر بأنه يحقق حضوراً مجسماً للعالم وهو كأسلوب موضوعي سيحد من تجاوز القاص أو تدخله في صميم أحداث القصة، وسيحل محل الطريقة السردية التي ينوب فيها القاص عن جميع شخصياته، وبعدئذ فهو سيلغي الحدود المفتعلة بين واقع القصة وبين الواقع الخارجي(13). وعن الوصف السينمي يقول القاص، لتحقيق درجة متقدمة من التركيز الجمالي، فإننا بحاجة إلى عين ميكانيكية كالكاميرا، أي عين سينمائية تحقق الرؤية السينمائية للأشياء على حد تعبير المخرج السوفيتي فيرتوف، وبعد أن يشير القاص إلى رأي قائد الأوركسترا العالمي الشهير (فون كاريان)- عن تصوير أوركستراه أثناء العزف تصويراً تلفزيونياً والقائل بضرورة الانتقال بصرياً إلى كافة دقائق العزف وإقحام المشاهد في عملية الخلق الفني للعازفين- يضيف قائلاً: "هذا الرأي الذي نقلته ذو أهمية خاصة في مجالات الخلق القصصي لتناظر زوايا الالتقاط الإبداعي في كل من السينما والقصة"(14).(1/110)
إن مسألة تحقيق الرؤية السينمائية في القصة تثير إشكالات عديدة على نحو ما ترتبط فيما بينها، أي أنها إشكالية ويعود ذلك لاختلاف الأدوات، الذي ينجم عنه أيضاً اختلاف بين في طرق التلقي، فبينما تعد كل الفنون، ووسائل لاتصال الجماهيري رمزية فإن السينما هي فن غير رمزي "فالأدب والمسرح والرسم والموسيقى والخطابة والبانتوميم.. هي فنون تعبر عن الواقع بعدد من الإشارات أو الرموز أو المواد ذات الطبيعة الرمزية. ولكنها شيء مختلف عن الواقع الذي تعبر عنه، أما السينما فهي الفن الوحيد الذي يعبر عن الواقع بالواقع نفسه(15) وإذا شئنا استخدام مصطلحات السيمولوجيا، فإن الألفاظ في اللغة هي رموز اعتباطية أما الرموز في السينما فهي ذات طبيعة أيقونية حية، هي حد تعبير "بازوليني"(16) وهذا الأمر هو ما أشار إليه القاص في حديثه عن وظائف الوصف في القصة، عندما قال عنه أي عن الوصف: "فهو سيلغي الحدود المفتعلة بين واقع القصة وبين الواقع الخارجي".
وفضلاً عن هذا الفرق الأساس، فإن ثمة فروقاً أخرى منها أن الوصف السينمي أو العين السينمية تتحرك في الزمان والمكان معاً(17) على حين تتحرك العين الإنسانية في الوصف القصصي في المكان فقط. ومنها أيضاً أن القصة بفعل نظام السطر الكتابي تخضع إلى الحد من الأشياء الموضوعة في الوقت الذي تستطيع فيه المصورة السينمائية أن تقدم وصفاً اشتمالياً للأشياء دون أن تخضع لما هو مدون.(1/111)
وإذا كانت الكتابة تحاول الارتفاع بالوصف إلى مستوى الوصف السينمي، عن طريق بعض التقنيات الحديثة فإن من غير الممكن ردم الهوة بين فنين، أدوات أحدهما رمزية، وأدوات الآخر واقعية، فنحن نتلقى الصورة في الوصف القصصي عن طريق الكلمة المكتوبة أو الصوت وعن طريق الراوي، وتجري أثناء القراءة عملية تحويل الانطباعات السمعية إلى بصرية أي أن صوت الراوي حتى عندما يستحيل إلى مجرد وصاف فإن الصوت هو وسيلة أو أداة الخطاب، بينما الصورة البصرية هي الوسيلة الأساسية في الخطاب السينمي، يتضافر معها الصوت كعامل مساعد.
إن حلّ بعض عناصر هذه الإشكالية سيتم تحت تأثير السينما بالخروج عن القوانين التقليدية للفن القصصي، لقد ميز الشكلانيون الروس، ولا سيما توما شفسكي بين نمطين من الحوافز في المتن الحكائي حوافز ديناميكية، وأخرى قارة، وتعد الأولى حوافز مركزية بالنسبة للمتن الحكائي لكنها قد تصبح غير ذلك في المبنى الحكائي. إذ قد يقع التأكيد على الحوافز القارة أحياناً(19)، إلا أن ذلك لا يشكل قانوناً عاماً، إذ قد تظل الحوافز الديناميكية، أو ما أسماه رولان بارت (الوظائف الاستبدالية في المبنى الحكائي مركزية أما الحوافز القارة والوظائف الثانوية بتعبير بارت فتظل ثانوية.
في قصص محمد خضير نحن إزاء وضع جديد للحوافز أو الوظائف فالأشياء الموصوفة ليست قارة وإنما في حالة حركة ويترتب التغيير في الحدث القصصي على هذه الحركة التي تتوحد فيها الحوافز الديناميكية بالحوافز القارة لدى القاص.(1/112)
وفضلاً عن هذا الوصف السينمي للأشياء الذي تتحرك فيه العين في الزمان وهنا يلتقي الخطاب القصصي مع الخطاب السينمي لا يعود الوصف إلى القصة مجرد وسيلة لموضعة الأحداث، ولا مجرد وسيلة لإحداث تأثير معين عن طريق خلق أو وصف بعض المرئيات، بل يصبح الوصف والسرد أداة واحدة، ويصبح الراوي وصافاً وراوياً في آن واحد؟ ولا تعود الكلمة مجرد رمز يشير إلى معنى، بل تصبح الألفاظ هي الأشياء ذاتها.
لقد عبر المؤثر السينمي عن نفسه بأشكال عديدة في قصص محمد خضير وتجلت الأبجدية السينمية في أكثر من صورة، ولعل ما أشرنا إليه من خصائص سينمية في الوصف هي مجرد شكل من أشكال هذا التأثير ولكي نقف على صورة واضحة لهذا الأمر، ينبغي أن تتفحص بعض النصوص القصصية للكاتب.(1/113)
في قصة "الأسماك" يختار القاص امرأة ذات ملامح اجتماعية غير واضحة ولا محدودة، أما ملامحها السيكولوجية، فتتحدد بالحاجة إلى الذكر والحنين إلى الإخصاب، وقد اختار القاص من بين النساء، اعتقاداً منه، كما يشير هو نفسه -بأن المرأة "هي أفضل البؤر الاجتماعية التي تتجمع عندها موروثات البيولوجيا العراقية، وأنماط السلوك الاجتماعي. بالإضافة إلى أنها وسط اجتماعي حساس يجتذب إليه إشعاعات الشعور الجماعي ومن ثم يعكسها في جو القصة، وسط اهتماماتها، بتاريخها الأنثوي الملئ بالظلام والطقوس(1)فهي بالتالي -أي المرأة التي يصفها القاص بـ "امرأة العالم الأسفل" قادرة على إشاعة الروح المحلية الجماعية في القصة، ويقود القاص بطلته هذه في رحلة إلى الماضي البعيد، وهي تجلس في شرفة مطلة على نهر -يؤدي دور الأم التي تهدهد الطفل ليغفو (الدلول)(2)- وتتم العودة إلى العالم البدائي الوثني الأول، وهي في حالة نصف الوعي يأسرها النهر (الدلول) وفي الوقت الذي تحيط فيه المرأة ثلاثة صناديق، داخلها أنواع عديدة من الأسماك، أسماك سجينة كالمرأة السجينة في شرفتها تماماً "وأعمق فأعمق في مياه كالقار تسبح سمكة واحدة عمياء متخطبة، سمكة سوداء لها وجه آدمي مألوف، سمكة الآلام والعبودية، والانحطاط الجسدي المؤبد في الأعماق المظلمة.. ولا تجد الفتاة السجينة من سبيل للخروج من هذا الجحيم إلا بالعودة إلى أيام الصفاء والنقاء والخلق الأولى -إلى التوحد بالطبيعة عبر طقوس وأساطير وأديان الماضي، ولن تتيح هذه العودة للأنثى السجينة تواقعاً جسدياً حسب، بل وستتيح لها العودة إلى مكانتها الأولى لدى الشعوب البدائية، إذ هي رمز الخصب والنماء وسر الكون واستمراره "سمكة جنيناً" طفلة ذات وجه متناسق مليح..
__________
(1) * هذا لا يعني طبعاً أننا نتفق وهذه الرؤية ذات الأصول الفرويدية.
(2) ** تطلق على أغنيات خاصة بتنويم الطفل وغالباً ما تبدأ بـ "دللول -يا بني دللول".(1/114)
وستشفين كالزجاج، وتغذين بؤرة مطلقة تخترقك وتتحلل فيك الأنوار.. الخ..".
وتنطوي السمكة على أكثر من دلالة، فهي رمز للأنثى، السجينة في الشرفة، وهي في الوقت نفسه رمز للعضو التناسلي للذكر، وفي لحظات العناق بين النوم واليقظة والحلم والواقع، تتم في الطبيعة عمليات جنسية كثيرة، تحقق رغبة الفتاة في المواقعة "يضيق المجرى أكثر وأكثر، وتنغلق عليه أوراق شجيرات الموز، ضفتان معشبتان بغزارة، طيور رمادية صغيرة.. سكون ثقيل، عتمة زرقاء خفيفة.. ثم تتباعد الضفتان".
وكما تروي الأشياء وحركتها الأحداث في القصة، فإن النهاية هي أيضاً تروي من خلال الوصف السينمي، وبلقطة دالة، إذ تظهر أسماك ميتة تطفو على سطح النهر الذي ينحسر، ويظهر أربعة صبيان عرايا "متقاربين في العمر نحيلين، ذوي شعور قصيرة، ووجوه شاحبة، تبرز أضلع صدورهم أعلى بطون ضامرة.. قالت الفتاة ولم يسمع الصبيان صوتها: "إن النهر يضيق بها، لا بد أن شيئاً لوث الماء وجعلها تختنق وتطفو".
إن كون اللقطة الأخيرة، دخيلة على أحداث القصة، يسمح لنا بالقول إننا إزاء توليف تعبيري متواز، بين مشهد الفتاة وهي سجينة رغباتها تتوق إلى الإخصاب، وبين مشهد الصبيان ضامري البطون، وكأننا إزاء لقطة شبيهة باللقطة التي تصور طفلاً حزيناً إلى جانب مشاهد إبادة القمح في فيلم "جوريس ايفنس" "بحيرة زيودرسي" الذي يصور أحداثاً تقع إبان الأزمة الرأسمالية الكبرى عام 1930.
إن رواية الأحداث في القصة تتم عبر تداعي وحركة الأشياء الموصوفة في الخارج -الطبيعة، وفي لا وعي الفتاة السجينة، ولا يتم الوصف في المكان حسب، كما هو الأمر في الوصف التقليدي- بل يتم في الزمان والمكان على غرار الوصف السينمي. وبالرغم من أن القارئ يدرك العناصر المكونة لمأساة الفتاة فإنه لا يستطيع أن يصل إلى دلالة واضحة للنص القصصي، ولا سيما ما تنطوي عليه نهاية القصة من دلالات متباينة وكثيرة.(1/115)
2-التقنيات السينمية والتناص الأدبي السينمي.
إن الإشارة إلى التوليف التعبيري في نهاية "الأسماك" تقودنا إلى التوليف السينمي، الذي استخدمه القاص في قصصه بصورة واسعة، وإلى تضمين بعض قصصه نصوصاً أو لقطات سينمية، ولعل قصة "حكاية الموقد" التي سبقت "الأسماك" في الظهور تشكل مثلاً جيداً على استخدام القاص لتقنيات السرد الفيلمي، ولا سيما التوليف التناوبي، ونسق التناوب من الأنساق المعروفة قديماً في بناء الحكاية، فقد قال بروب في وصفه لتركيب الخرافة "إن المقطع يمكن أن يتلو مقطعاً آخر مباشرة، بيد أنهما يجوز أن يتشابكا، وذلك حينما يتوقف التطور المبدوء تاركاً المكان لإدراج مقطع آخر".
وقد قدّم بروب في الترسيمة الخاصة بتركيب الخرافة أنموذجين للتناوب، أحدهما بسيط والآخر معقد. إلا أن التناوب في القصة الحديثة، هو في رأينا، منقطع عن جذوره القديمة في الحكاية الخرافية، وأن القصة استلهمت هذا النسق من السينما ووجدت فيه نسقاً ذا إمكانيات جمالية كبيرة.
ويعد نسق التناوب من الأنساق النادرة جداً في القصة العربية، وقد دفع ذلك أحد النقاد العرب إلى القول وهو يشير إلى نسقي "التتابع" و"التضمين" وهذا النمط أقل استعمالاً من النمطين السابقين، ولكنه موجود عثرنا عليه في قصة للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني"(22) ولم يذكر الناقد اسم القصة، وهي قصة (الشاطئ) التي نشرت ضمن مجموعة "عالم ليس لنا" وفيها تروي قصتان، إحداهما قصة امرأة ترويها بنفسها إلى راهب داخل كنسية، والأخرى قصة قطة تقاوم الريح والبرد والأمطار في خارج الكنسية"(23).(1/116)
ولعل من المفيد، أن نشير هنا، إلى أن هذا النسق في بناء الحكاية، كان وراء الطاقة الجمالية العالية التي انطوت عليها رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صالح. وإذا كان الجمال لدى "فورستر" يرتبط أولاً وأخيراً بالحبكة، وما تنطوي عليه من سرّ وغموض، يتخلق منهما التشويق(24). فإن نسق التناوب أشد أنساق البناء خلقاً للسرّ والغموض وما يترتب عليهما من تشويق، وفي ذلك يقول ريكاردو "أن الراوي الذي يعلق الحادث ليتناول حادثاً معاصراً له والعكس وبالعكس.. يجعل القارئ أثناء ب ينتظر بفارغ الصبر ح ويتشوق أثناء ح إلى د إنه أبداً راضٍ وغير راضٍٍ تتمة ذاك تلازم هذا"(25). هذا فضلاً عن الوظيفة الأيديولوجية التي يؤديها التوليف، التعبيري منه خاصة، علماً أن التوليف التناوبي في القصة، هو في معظمه توليف تعبيري. إذ لا تحتاج القصة بفعل نظام السطر الكتابي إلى التوليف الروائي الذي يعد وسيلة السينما في قص حكاية عن طريق اللقطات طبقاً لشروط معينة في التسلسل والزمن"(26).(1/117)
والحكاية في قصة "حكاية الموقد" هي حكاية جندي يلتحق بجبهة قتال غير معروفة، وينتظره في داره البسيطة التي تقع بالقرب من إحدى محطات القطار زوجة صغيرة وطفل، وأمه المقعدة طريحة الفراش، وفي كل ليلة يمارس هؤلاء طقس الانصات إلى أصوات القطارات التي تتوقف في المحطة، حتى إذا وصل آخر قطار، أدركوا أن غائبهم لن يأتي، وتشاركهم في الطقس جارتهم العجوز التي تروي لهم كل ليلة حكاية، وهم يتحلقون حول إبريق الشاي في الموقد، وحكاية الليلة، ليلة الحكاية! شبيهة بحكاية الغائب في العائلة. وكان يا ما كان.. كان ثمة سلطان مرضت ابنته الوحيدة وعزّ شفاؤها، فأعلن أنه يمنحها زوجة لمن يشفيها، وتقدم رجل في أسمال شحاذ يقود وراءه ديكاً ذا ريش ملون، وحين أذن له الملك بمباشرة علاج ابنته، أشار إلى الديك، فصاح مرات، وإذا الفتاة تشفى. وبعد فترة من زواج الشحاذ بالأميرة، يكشف الشحاذ عن أنه ابن ملك أيضاً، وأنه يروم العودة إلى بلاده، وحين تسأله الأميرة عما إذا كان سيعود أم لا، يقترح عليها أن تراقب الديك الذي يتركه لديها، فإذا ما سقطت ريشاته الزاهية، حتى فقدها جميعاً، فإنه غير عائد. وتبدأ الريشات بالتساقط حتى إذا سقطت آخر ريشة ملونة عن جسم الديك مرّ آخر قطار دون أن يصل الجندي الغائب.
وعلى الرغم من أن القصتين تنتهيان نهاية واحدة وفي وقت واحد. فإن حكاية ابنة السلطان يمكن عدها حكاية مضمنة في القصة الأصلية. ويمكن عدّ الأخيرة قصة نرجسية تتمرى في القصة الصغيرة التي تؤدي وظيفة الأرصاد. ذلك أننا ونحن نستمع إلى حكاية ابنة السلطان، نرتجف هلعاً كلما سقطت ريشة جديدة من جسم الديك. ونحس بأن ثمة حادثاً أليماً سيقع. هو موت الجندي، ومن هنا فإن القصة المضمنة التي أخذت نسق التناوب. تسبغ على القصة إيقاعاً درامياً حاداُ، بما يبعثه وقع الزمن فينا من توقع قلق وخوف.(1/118)
والقصة الأصلية يرويها راوٍ بضمير الغائب، أي رواية موضوعية، لكن رؤيته للأحداث رؤية داخلية، إن صوته الصاخب في بداية القصة، الذي يشعرنا بأننا إزاء قصة شبيهة بمسرحية برختية، لا يلبث أن يندمج في صوت الزوجة، بينما تروي الحكاية المضمنة الجارة العجوز، بالتناوب مع الراوي، وكما تبدأ القصة بداية هتافية صاخبة، بأن تعرض عملية تلفظها بصورة واضحة، تنتهي كذلك نهاية، يتدخل فيها الراوي، بشكل يجعلنا نعتقد أن القاص كتب قصته تحت تأثير المسرح البريختي. تقول النهاية: "في الظلام يأتي المختلس الزاني، في الظلام يأتي المصاب في القلب بشظية". في الظلام يأتي الحلم الدموي (من يود الاحتجاج؟ من يود السخرية؟ من يود الانتظار حتى المساء التالي لسماع حكاية أخرى أمام الموقد؟).
وإذا كنا قد قررنا سابقاً، أن رؤية القاص في معظم قصصه هي رؤية واقعية نقدية، فإن من الواضح أن واقعية القاص في (حكاية الموقد) تكاد -بما تؤمي إليه من فعل جسور- أن تتجاوز هذه الواقعية إلى واقعية أخرى أكثر إشراقاً.
والقصة تعيد إلى الأذهان التوليف التناوبي في عدد من الأفلام، كفيلم (التعصب) وفيلم المطاردة وفيلم (المدرعة بوتمكن) للمخرج (ايزنشتين)، الذي يعتبر من أشهرها، حيث التناوب المتزامن بين مشاهد المدينة والأحداث التي تدور على ظهر المدرعة(27).(1/119)
وفضلاً عن التوليف الذي قام تركيب الأحداث في القصة عليه، فإن ثمة توليفاً تعبيرياً آخر من نوع التوليف المتوازي، يوظفه القاص توظيفاً أيديولوجياً. وهذا التوليف ماثل في ما أسميناه بـ (التناص السينمي) إذ يعمد القاص إلى تركيب لقطة، هي اللقطة نفسها التي استخدمها المخرج (ايزنشتين) في فيلمه (الاضراب) في توليف شهير ركب فيه مذبحة العمال على يد البوليس ومشهد حيوانات (ذبيحة في المجزر)، فالأم، أو الزوجة الصغيرة، ما إن تنتهي حكاية ابنة السلطان ويمر في المحطة آخر قطار يأمل أفراد العائلة أن يصل فيه الغائب، وما إن تيأس الزوجة صغيرة السن من وصوله، حتى يجرّ طفليها إلى فراش النوم بعد أن تنظر في وجوه المتحلقين حول الموقد، والظل الذي يتركه ضوء الفانوس الضئيل على وجوههم:
يقول الرازي: "اعتبرت الأم الطقس الحنظلي منتهياً، وشاهدت بقع الظل التي غفلها ضوء الفانوس تسيل، وتعتم الوجوه، وتنقط من الأنوف والآذان.. ورأتهم كلهم مرتدين جلود الأغنام ينظرون إليها بعيون الجاموس (رأت ينزل الماء، والأغنام تسلخ في باحات الأضرحة والمزارات أو البيوت الغنية، رأت ما تحتويه البطون والأمعاء، رأت الأمخاخ ونخاعات العظام، ونظرة العين الأخيرة المذبوحة، ورأت المخاط السائل والدم المشرب في التراب: رأت الخدعة وحد السكين).(1/120)
وثمة توليفات أخرى ماثلة في تركيب القاص للقّطات لصورة الغائب المعلقة فوق إطار باب الدار على مشهد الموقد والمتحلقين حوله لسماع الحكاية، وهي توليفات، تعد هي الأخرى، أرصاداً ينبئ بنهاية القصة، ففي لقطة من وجهة نظر الزوجة نسمع صوت الراوي الذي يرن فيه صوتها وهو يقول: "من يراه هكذا بشعره العاري المنثور كذيل حصان على جزء من جبهته الواسعة، سيعتقد أنه معلق من شعره، من شعرة واحدة متوترة. متى ستنقطع هذه الشعرة فتزول تلك الحياة المستورة؟ تليها لقطة ثانية من وجهة نظر الكادر نبصر فيها صاحب الصورة المجمدة خلف الزجاج والإطار الورقي، وكأنه يتحرك ويشارك العائلة طقوسها: "هناك لطخة تغطي موضع فم رجل الصورة، ربما كان مرد هذه الوساخة أن البصمة خلف الزجاج كانت تشرب وتأكل، ولكنها لا تغسل فمها إثر ذلك الخ.." تليها لقطة ثالثة من وجهة نظر الكادر أيضاً، تشكل لحظة التنوير في القصة، وتقول ما سكت عنه الراوي أي موت الغائب، "لا أحد يلاحظ اهتزاز الصورة وترنح ظلها. متهيئاً للانزلاق خارج شريط الإطار، وماجت أرض الغرفة الصغيرة وانقطع ذوبان الأم الصغيرة في أجواف الموقد.. وتوقف القطار في المحطة. كانوا يرتجفون أيضاً وذبلت فتيلة الفانوس وكان الموقد كصحراء ملتهبة) وبهذا الوصف المسرود والصورة السردية، نعرف نحن القراء أن ربّ العائلة الغائب، لن يصل أبداً إن الوصف لوجه الزوجة الصغيرة، التي تروي الأحداث من وجهة نظرها، هو وصف سينمي، إذ يوضع هذا الوجه في لقطات عدة، إلى جانب الأشياء المكونة للدار أو إلى جانب نار الموقد، لتتخلق من ذلك دلالة الوصف. ولنذكر هنا العبارة الأخيرة في النص المقتبس.. فوجه الأم يوضع جنباً إلى جنب مع الموقد الذي يبدو كصحراء ملتهبة، ليعبر عن أقصى حالات الغضب.(1/121)
إن هذا الوصف للوجه البشري، ليذكرنا بتجربة "كوليشوف" المشهورة، التي تبين أن نفس المنظر الكبير لوجه الممثل "موسجوكين" غير المكترث يمكنها أن تعبر على التوالي -عن الرغبة، وعن الحب الأبوي، وعن الألم، تبعاً لوضعها بعد صورة طبق حساء، أو طفل يلعب، أو نعش"(28).
ومع أن القاص يستخدم زوايا التصوير الاستثنائية، ولا سيما اللقطة الأولى إلى وجه الغائب ومن وجهة نظر الزوجة أي من أسفل إلى أعلى في غير دلالتها السيكولوجية، فإنه يوظف هذه الزوايا، أحياناً ليكسبها دلالة سيكولوجية، ومثال ذلك "الكادر المضطرب" الذي يستخدم القاص ليتصور الحاجة السيكولوجية لبطل قصة "تقاسيم على وتر الرباب" الذي عاد من الجبهة في الأردن وقد أصيب بجرح أعاقه وأعطبه جنسياً، فهو أي البطل، يتناول الرباب من يد زوجته ليعزف عليها بعد أن أخبرها بأنه لم يعد يصلح لشيء. والراوي لا يخبرنا عما يعتمل داخله وهو يواجه الرغبة الحيية لزوجته في الاتصال الجنسي، بل يعمد إلى استخدام زوايا التصوير السينمي، لنقرأ الداخل من الخارج، إن البطل يجد صعوبة في العزف على ربابه ولكنه يقاوم تصلب الوتر حتى إذا التف الوتران ألفا عواءً كعواء صفارات الانذار، وضجت الغرفة بهدير قوي كهدير الطائرات في هبوطها السريع القاصف، ويلي ذلك هذا الكادر المضطرب: "انفجر ضوء المصباح، وتهدمت البيوت اليابانية في وسائد السرير، وتناثرت الأوراق المرسومة على أثواب المرأة والطفلين والتوت حواجز السرير ثم انقذفت في أرجاء الغرفة".
تسجل قصة "القطارات الليلية" مرحلة جديدة في استخدام اللغة السينمية، وقد كتبت اللوحة الأولى من القصة التي تتكون من ثلاث لوحات، والمعنونة "قطار خارج السكك" كتب بطريقة السيناريو، واستخدم القاص فيها كلمة لقطة قبل كل مشهد يصفه على غرار "والآن لقطة داخل القطار. مقاعد صقيلة خالية" "ولقطة في عربة أخرى الخ.." كما استخدم القاص فيها التوليف التناوبي أيضاً.(1/122)
إذ ركب القاص مشهداً للجندي وزوجته في قاعة السينما، على مشاهد لقطار حلمي يجري على سكة حديد في فيلم يعرض على الشاشة، ويبدو القطار الحلمي الذي لا يضم سوى جندي وزوجته وكأنه مرآة للجندي وزوجته اللذين يجلسان وحيدين في قاعة للسينما لمشاهدة الفيلم. ويبدو أن التناوب هنا يهدف إلى إبراز الدلالة فمن خلال الوصف للمشهد على الشاشة، ووصف المشهد في القاعة تولد هذه الدلالة، ويذكرنا هذا الأمر بالاستعارة البنيوية القائمة على المجاورة، ولا سيما في الرواية الجديدة -أو (رواية اللا رواية): ففي رواية (الغيرة) لـ "آلن روب جرييه" تتولد غيرة الزوج من المقابلة بين المشاهد التي يصف فيها الراوية -الوصاف زوجته، والمشاهد التي ستتناوب معها، ويصف فيها (فرانك) عشيق الزوجة، ومن خلال الصلة بين الفقرتين المتناوبتين تتولد غيرة الزوج(29).
وإذا كنا بصدد التناص الأدبي السينمي، فإن الوصول إلى دلالة واضحة للنص لا يتم بدون قراءة المضمر والغائب الدلالي، وإن لا تقتصر هذه القراءة على الصريح والحاضر الدلالي حسب، ذلك أن عدداً من النصوص السيمية الأدبية معاً، ماثلة في ذاكرة قارئ هذا النص.(1/123)
تشير عبارات الراوي، الذي يروي القصة، والراوي الآخر الذي يعقب على لقطات الفيلم المعروض على الشاشة، إلى أن قطار الشاشة هذا شبيه بالقطار الذي نسمع دويه -مع صفارات الانذار، على حين يجري مشهد الحب في غرفة بفندق في فيلم "انجمار برجمان" الشهير "الصمت" فهو أي القطار، رمز لضجيج الحضارة الآلية الراهنة وصخبها، وللحرب التي قد تحدث في أية لحظة لتدمر الحضارة نفسها بنفسها: "أسرع بالخروج كي يتفادى انهيار الحديد مع الصوت القوي الذي سيعود ليطيح بالشاشة، والصالة التي يجلس فيها الجندي وزوجته منفردين، ليست سوى صورة لمدينة من مدن حضارتنا المعاصرة، حيث الصخب والضجيج لا يتيحان للإنسان الاستمتاع (بموسيقى الظلام الخفيفة إلا مرات قليلة في حياته خارج المدن، بين المحطات الصحراوية المقفرة) بعيداً عن حواجز "الضباب والزجاج وشاشات السينما، وسط الإحساس الحاد بالوحدة لدى البشر، وبانسلاخ الفرد عن الجماعة البشرية:
"لم يحضر أحد غيرنا أهو فيلم ممل؟ وحيث البرد والتفتت في العواطف البشرية الفرد "إني أشعر بالبرد" في ظل حضارة يغزو معدنها الرئيس: الحديد، السماء "وهذا ما يجعله يتحرك على حافة السماء المدرعة".
وكما أسلفنا فإن قراءة النص التي تستثمر ما يقال لتصل إلى ما يسكت عنه، تكشف عن أن رؤية الأرض الخراب الأليوتية، ماثلة في النص وإن كلمات اليوت في العديد من قصائده، ولا سيما الأرض الخراب، المضمرة في النص تكاد تنافس القول الصريح فيه. ولنر إلى هذا المقطع من الحوار بين الجندي وزوجته:
-أتشعر بحركة تحت قدميك.
-أية حركة؟
-فئران تحت مقاعد السينا.
إن فئران اليوت في الأرض الخراب تحضر حالاً في ذهن القارئ للنص إذ يقول(30):
"فأرة انسلت بهدوء بين العشب
تجر بطنها الهزيل على الضفة
ويقول أيضاً:
"أفكر أننا في زقاق الفئران
حيث فقد الموتى عظامهم"(1/124)
كما تعيد إلى الأذهان، صورة قطيع الكلاب الوهمي في الضباب "قطيع مبعثر من الكلاب التي تحلق وتنتشر كالدخان الأبيض" قول اليوت:
"الضباب الأصفر يحك ظهره بزجاج النافذات
الدخان الأصفر يحك بوزه بزجاج النافذات
ويمط لاحساً بلسانه عبر زوايا المساء".
وإذا ما تركنا النصوص الأدبية الغائبة -ولكنها ماثلة في النص، وعدنا إلى النص الفيلمي أو السينمي، وجدنا أن قطار الفيلم الذي تصفه الزوجة بالقطار المجنون يعيد إلى الأذهان أيضاً تجربة المخرج (جان ميتري) في فيلمه "الباسفيك 231" الذي حاول فيه المخرج مستخدماً الصور السينمائية، أن يجد معادلاً بصرياً لسيمفونية بالاسم نفسه للموسيقار السويسري (ارثور هوينجر) والذي أثار نقاشات عريضة حول إمكانية إعادة إنتاج نص فني معين، من خلال فن آخر، ولا سيما نص زماني كالموسيقى إلى نص فني زماني، لكنه بصري ومكاني في الآن نفسه، إذ حاول المخرج أن يجد تجسيداً مادياً مصوراً للأصوات الموسيقية، التي تتميز بأنها -على عكس الفنون المادية- لا يمكن أن تجد تجسيداً موضوعياً، كما يرى (هيغل)(32). ولا نستبعد أن القاص الذي يمتلك ثقافة سينمية رصينة قد الهمه جان مترى هذا، يعبر هو أيضاً، عن فكرته في الحضارة الراهنة، بأن يجد تجسيداً خيالياً لها في حركة قطار على شاشة.(1/125)
في اللوحة الثانية من القصة "القطار الثاني إلى بغداد" يستقبل بطل القصة القطار إلى بغداد، ويتسلم في محطة القطار رسالة من امرأة ملثمة اعتادت أن تسلم الجنود رسائل لا عنوان عليها إلى زوجة الغائب في جبهة القتال. ولا يستطيع البطل معرفة ملامح وجهها رغم أنها تكشف عنه للحظة. وفي اللوحة الثالثة (قطار اسمه اليقظة) يعود الجندي في إجازته التالية، فيخفق في معرفة المرأة ذات الملامح المموهة، وهو يبحث عنها لإعادة الرسالة التي لم يجد صاحبها، مما يدفعه إلى فتح الرسالة، وهو مع زوجته في غرفتهما الوحيدة فيجد فيها ورقة بيضاء خالية من الكتابة. وتعكس المرآة المثبتة في خزانة الملابس صورة الورقة البيضاء، إلى جانب صورة مروحة منضدية وضعت على منضدة بجانب سرير الجندي وزوجته وصورة لأسد هائج في سجادة الحائط المثبتة فوق رأسيهما عند حافة السرير.
هنا أيضاً، لا بد من استثمار الغائب الدلالي في القراءة لكي نصل إلى الدلالة التي أودعها القاص في الأشياء والمكان "أي في رموز ذات طبيعة أيقونية تقترب فيه القصة من لغة السينما والوصف السينمي إلى حد بعيد، وإذا ما جاز لنا عدّ المرأة، صورة للجندي وزوجته وللعالم من حولهما، أمكننا أن نبصر نصاً غائباً، ولكنه ماثل في الرموز الأيقونية هذه، وهو مقولة شكسبير الشهيرة في "ماكبث" وأن نرتب هذه الرموز الأيقونية ودلالتها على وفق مقولة شكسبير وكالاتي:
الحياة المرأة.
حكاية يرويها معتوه. رسالة ترسل بها امرأة معتوهة وهي لا تعني شيئاً خالية من الكتابة سوى الصخب والعنف، المروحة (الآلة) والأسد الهائج(1/126)
ولقد أتاح المكان في هذا النص القصصي اقتناص تلك الوجوه الأثيرة لدى القاص المتواجدة في الأماكن المعزولة، بما تنطوي عليه من سحر، سامحاً للقاص خلق العديد من الإيقاعات البصرية في القصة، وبينها وجه المرأة الملثمة الذي يبصره الجندي وهو يعوم في إناء من اللبن "وجوه بدوية ملتحية تغطيها كوفيات حمراء البقع، وجوه قرمزية معلقة ومعصبة، وجوه شاحبة ونازفة، ووجوه جنود انتهت إجازاتهم، لمحها الجندي تقف في طرف من ساحة المحطة تحت مصباح، ورأسها الملثم يعوم في إناء كبير من اللبن، محاطة بالرؤوس القلقة".
وقد تثير هذه القراءة للنص القصصي، مسألة الرؤية التي أشرنا إليها سابقاً، وعما إذا كانت قد تغيرت بتغير المنهج الفني للقاص وعما إذا كان القاص قد عبر عن رؤية اليوتية لعصره. والواقع أن اللوحة الأولى والقطار على الشاشة والقاعة التي وصفناها بأنها واحدة من مدن حضارتنا الحديثة. تصبح في نهاية اللوحة مجرد شبح مخيف، فالجندي في القطار على الشاشة يغادر القطار لدى توقفه في محطة باحثاً عن الطعام فلا يجد لقمة واحدة، في حين يحصل الجندي وزوجته المشاهدين لقطار الفيلم على طعامهما بعد خروجهما من قاعة العرض. فضلاً عن أن الحوار الدائر بينهما يشير إلى ما ذكرناه، إذ يخرج الجندي مع زوجته التي تقول "إننا وحدنا نشاهد هذا القطار المجنون" فيجيبها هو
"ها هو ذا شارع حقيقي وحدائق آمنة".
فتقول المرأة:
"كأني كنت مقرفصة في سرادب. هنا أدفأ من الخارج".
إن القطار الحلمي المجنون على الشاشة، لم يكن سوى كابوس عابر، يجسد مخاوفنا من مستقبل غير آمن، بفعل موازين الرعب الذرية القائمة في عالمنا اليوم. مما يدفعنا إلى القول بأن واقعية القاص التي اتسمت بالكثير من ملامح الواقعية الفانتازية أو السحرية، تظل هي من حيث الرؤية والموقف، واقعية نقدية.
***(1/127)
لم تكن قصص الأسماك والتابوت والقطارات الليلة، سوى توطئة لقصص تالية أمعن فيها القاص في الوصف واقترب فيه من الوصف في الرواية الجديدة، الذي يعد امتداداً للوصف لدى كل من كافكا وفلوبير فضلاً عن المؤثرات السينمائية في خلقه ويعد الوصف في الكثير من الأعمال الروائية المعاصرة سباقاً معاكساً للمعنى، بل ويذهب بعض منظري الرواية الجديدة، إلى أن بلوغ الوصف معنى واضحاً يعدّ انتحاراً له(32).
وتمثل قصص المجموعة الثانية للقاص (في درجة 45 مئوي) الصادرة 1978، هجرة في المكان من الصحراء إلى المدينة، والعنوان الذي وضعه القاص لقصته الأولى (تاج لطيبوثة) ينطوي على المفهوم الذي استخدم فيه القاص كلمة طيبوثة الآرامية بديلاً عن (طيبة) العربية -على دلالة مهمة على صعيد المنهج الفني للقاص، وما يمكن تسميته بـ (الإغراب) لديه.
ولقد ضمت المجموعة واحدة من أشهر قصص الكاتب، هي قصة "الصرخة" التي نشرت عام 1972، وهي قصة تحل فيها العين مكان الأذن والرؤية مكان السماع بصورة تامة وكلية، وتخلو من الشخصيات البشرية، باستثناء الكتلة الصغيرة التي تطلق الصرخة والتي تشبه حيواناً أو طفلاً بشرياً.(1/128)
إن تكرار وصف الشيء من زواياه المختلفة، الذي بدأه كافكا وطوّره كتاب الرواية الجديدة. يجد تجسيده ماثلاً في "الصرخة" عبر وسيلة يقتبسها القاص من فن الرسم، وذلك بأن يجعل من مرآتين مثبتين على جانبي غرفة القيادة في سيارة وسيلة لإعادة وصف الأشياء نفسها، بعد أن صورتها العين المصورة الموضوعة في غرفة القيادة وراء زجاجة هذه الغرفة، ومن المعروف أن بعض اللوحات الفنية لبعض الرسامين، تتضمن مرآة صغيرة داخل المكان الذي يجري فيه المشهد المرسوم على غرار لوحة "الوصيفات" لفلاسكين وبعض لوحات "ميلمنغ" وكنتين اميزيس(34)، وفضلاً عن هذه الوسيلة ثمة مؤثرات واضحة من الرسم ماثلة في استخدام الألوان لتصوير الأجواء الحزينة والدائمة في المدينة التي تدور فيها أحداث القصة، التي تبدأ بقول الراوي "كطقس أي فجر أو ضحى يوم كالأيام السابقة، مطفأ وشاحب بلون الرماد أو الصخر أو الفضة أو الألمنيوم العتيق، ما تزال سماء متماسكة بلون الصخر أو الفضة أو الألمنيوم العتيق، تمطر منذ خمسة عشر يوماً، وكان الجميع قد انسحبوا إلى داخل الجدران) (وفي مثل هذا الجو، وتحت نديف الثلج المتساقط من السماء كان (أيونا) بطل قصة تشيخوف الشهيرة "الشقاء" يقف ومهرته حزيناً لموت ابنه الوحيد، وفي مثل هذا الجو الماطر، تموت كاترين صديقة بطل "وداعاً للسلاح" لهمنغواي).(1/129)
في مثل هذا الجو الماطر، تتحرك ناقلة كبيرة تستخدم في الدعاية لسيرك متنقل في شوارع مدينة مهجورة تماماً. وقد وضع على جانب صندوقها الأيسر مشهدٌ باناروميُ للسيرك ضمّ اسوداً وحيوانات أخرى، على حين وضعت على الجانب الأيسر منه لوحة "هنري روسو" (ساحرة الأفاعي) في حين ضمت اللوحة الكائنة خلف الصندوق صوراً لقرود عديدة ويتم وصف المدينة وشوارعها ومنازلها بعين كائنة وراء غرفة القيادة، تلتقط مظاهر الأشياء من أمام ومن خلال مرآتي السيارة المثبتتين إلى جانبي غرفة القيادة، اللتين تعكسان الأشياء وحركتها إلى الخلف بسبب حركة السيارة إلى أمام. وتقوم العين الراصدة بتوليفات عديدة بين مظاهر المدينة الطبيعية وبين لوحة (ساحرة الأفاعي) ومحتوياتها، بحيث تظهر هذه اللقطات التوليفة هذه المحتويات ولا سيما الأفاعي، وكأنها تخرج من نهر المدينة الحقيقي، تتجه إلى الساحرة التي تظهر وكأنها أيضاً خارجة من النهر ومتجهة إلى المدينة تلحقها أفاعيها.(1/130)
وبفعل معوقات مرورية تتحرك السيارة حركة مروحية وكأنها مروحة، ثم تكشف طريقاً لتدلف في طريق لا نهائي، أرضي وفضائي في آن واحد، ثم تستدير وتعود لتدخل مرآباً مليئاً ببقايا الحديد وهياكل السيارات المحطمة، والبراميل إلا أن السيارة، وهي تتقدم تفاجأ، بكتلة صغيرة، تميزها حركتها عن قطع الحديد، وتتراجع الكتلة التي تشبه حيواناً أو طفلاً بشرياً، أمام زحف السيارة مختبئة تحت أحد البراميل. ثم لا تلبث أن تظهر، لتواجه نفير بوق السيارة، بصرخة حادة من فمها الواسع يصاحبها انشطار رأس الكتلة إلى رؤوس متعددة متطايرة في الهواء، وشبيهة بالرأي الأصل(1)-على غرار فقاعات الصابون، مما يدفع سيارة السيرك إلى التراجع إلى خلف، الذي يؤدي إلى اصطدامها بجدار مرتفع من البراميل، تتساقط براميله لتحيط بالسيارة ثم تدفنها.
في كل قصص الكاتب التي تحدثنا عنها حيث الآن، بشر يفعلون ويتكلمون، وتقترن العين بالأذن والرؤية بالسماع، وفي صوت الراوي أو كلامه، نجد أحياناً عبارات تقويمية، تشكل معالم أو صوىً أمام القارئ كقوله على سبيل المثال في حكاية الموقد "اعتبرت الأم الصغيرة الطقس الحنظلي منتهياً" لكننا هنا إزاء عين مبصرة لا يصحبها صوت كما هو الأمر في السينما الناطقة، والصوت الوحيد الذي نسمعه هو صوت الراوي الذي استحال هنا، وصافاً. ومع أن ثمة عبارة مهمة تصب في الحقل الدلالي للنص هي قول الراوي "تتراجع سيارة السيرك، بوحوشها، فتصطدم بجدار من البراميل، فإن الدلالة النهائية للنص تظل غامضة، وكل ما يفضي إليه النص من دلالة، هو تراجع البربرية والوحشية أمام الحياة، مما يجعلنا نتساءل عما إذا كانت القصة هي قصة عن عصرنا وحضارتنا؟
__________
(1) * كشف القاص نفسه فيما بعد، في سيناريو نشره في مجلة "أسفار" بعنوان الصرخة إنه استوحى صورة هذا الكائن من لوحة (صدى صرخة) للفنان المكسيكي "سيكيروس" ينظر الفصل الخاص ببلاغة التناص حيث تحدثنا عن ذلك.(1/131)
إنه تأويل يسوغه اندفاع السيارة في طريق فضائي، على غرار ما نجده في القطارات الليلية، إذ يجري قطار الشاشة على سماء مدرعة، أهي قصة عن الإعلام في العالم الثالث، إن ذلك مسوغ أيضاً بقرائن لفظية في النص، ففي حركة السيارة المروحية لا تدور حول مساحات قمامة مسيجة داخل شوارع المدينة حسب، بل وتظهر في المنعطفات التي تمر بها لوحات وإشارات مرورية تشير إلى "وجود مدارس ومستشفيات وسكك حديد وجسور مع أنه ليس هناك ما يدل على وجودها" في حين تشير لوحات أخرى إلى "سجون وملاجئ ومنشآت مزعومة" أهي رؤيا؟! أهي نبوءة؟! أم هي كل هذا وذاك؟! ليؤول كل قارئ النص كما يشتهي، فنحن (ومنذ فن الأسماك) و(القطارات الليلة) و(التابوت) إزاء نص جديد، تعوم فيه الدالات، وتصبح الدلالات متعددة بتعدد القراءات، ونحن بإزاء نص ترقص فيه هذه الدالات وينأى فيه النص عن الانساق الذهنية والثقافية التقليدية المعروفة، وعن أنساق التلقي التقليدي أيضاً. نص مفتوح للعب الشفرات من جهة، وللتناص الذي لا يقتصر على نصوص أدبية عالمية رفيعة معروفة، بل وعلى نصوص من كل الفنون غير فنون القول والكلام.(1/132)
إن النص المضمن هنا، يثير من جديد إشكالية إنتاج نص فني كاللوحة، إنتاجاً أدبياً، سيما وأن هذا التضمين أو التناص يتعلق بواحدة من لوحات رسام كانت لوحاته موضوعاً لفيلم سينمي أخرجه جون بوال بعنوان (نزهة ساحرة) قام فيه بنزهة بالكاميرا أمام لوحات روسو، وعلى الحدائق والطرق الريفية والمزارع والغابات فيها، وقد منحت حركات الترافيلنج والبانوراما للكاميرا للمشاهد الإحساس بأنه أمام نزهة ساحرة بالفعل إلا أن الفيلم كان مصيره الإخفاق، مثلما كان مصير فيلم جان ميتري الاخفاق- بالرغم من أن هذا الأخير حاز على جائزة المونتاج في مهرجان كان السينمائي عام 1949 والجائزة الأولى في مهرجان ريودي جانيرو الدولي للأفلام القصيرة عام 1950- إذ أن فيلم "جون برال" جعل من "ذلك الفنان الذي يعد واحداً من أكثر رسامي فرنسا حساسية مجرد مصور فوتوغرافي للطبيعة"(35) على حد تعبير بول وارن، ويعود ذلك إلى الفروق بين فن مكاني كالرسم وفن زماني مكاني كالسينما، بالرغم من أن كليهما يستخدم رموزاً أيقونية أحدها على حد تعبير بازوليني سالف الذكر -حية- والآخر أي الرسم، ميتة، إذا صحّ التعبير، فكيف إذا ما كان الأمر يتعلق بإعادة إنتاج لوحة فنية إنتاجاً أدبياً؟ صحيح أن الأدب والرسم نظامان رمزيان، إلا أن أحدهما مكاني والآخر زماني، فضلاً عن الرموز التي يستخدمها الرسم أيقونيه، والرموز اللغوية اعتباطية، وبالإضافة إلى كل هذا وذاك، فإن الأدب ليس نظاماً رمزياً أولياً كالرسم أو كاللغة بمعنى من المعاني، كما يقول تودوروف وإنما هو نظام ثانوي يستخدم نظاماً موجوداً قبله هو اللغة(37). وحتى عندما يصبح فن الرسم تجريدياً كاللغة، فإن العلاقة بين الدال والمدلول فيه -أي رمزيته- تصبح إشارية، لا اعتباطية كاللغة.(1/133)
على أن هذا لا يمنع من القول إن الوصف في النص القصصي، والذي يتم في المكان والزمان معاً، واستخدام القاص للمستحدثات السينمية مثل "المزج" وغيره، قد مكن القاص من منح لوحة الرسام (روسو) حياة، ويبث فيها حركة، ويجعل من المكان فيها زماناً في الآن نفسه.
وأيّاً كان تأويلنا للنص، فإن رؤية القاص هنا، لم تتغير وظلت هي الرؤية الواقعية، بالرغم من أن المنهج الفني تغير إلى حد بعيد، وبالرغم من أن القصة تبدو وكأنها تطرد الإنسان وتحلّ الأشياء محله، إلا أن الإنسان، ماثل فيها، على أشد ما يكون، في الكتلة الحيوانية أو البشرية، وفي ذلك الفم الذي يطلق صرخته الإنسانية النبيلة، بوجه البربرية والهمجية والدمار.
-الخروج على نظام السطر الكتابي وآخر إمكانات الوصف السينمي:
لقد كانت السينما ولمرحلة طويلة البديل المصور للأدب المطبوع.
وقدمت لملايين المتفرجين في العالم قصصاً على درجة عالية من النجاح والتوفيق، أقيمت من قطع صغيرة من المعطيات المصورة الصقت كل منهما بالأخرى بحيث تتقدم إلى أمام، على غرار الكتابة، أي أن السرد القصصي والسرد الفيلمي يتشابهان من حيث أن كليهما يتكون من أجزاء صغيرة، تلتحم ببعضها أفقياً، ولذلك فإن الجمهور الذي اعتاد على التهجئة في الكتابة المطبوعة وقراءة الألفاظ والجمل الواحدة بعد الأخرى بطريقة أفقية، وجد أنه ليس غريباً في صالات العرض السينمي. وقد أدى ذلك إلى نشوء (العقلية الأدبية) القائمة على المرئيات، وعلى التحليل التي تمسك بالواقع قطعة قطعة، كما وجد أن الإنسان الغربي هو منذ أن اخترع جوتنبرغ الطباعة، مونتر دفعته المطبعة على طريق التقدم العلمي، والتقني، ولكن خسر في مقابل ذلك الكثير من روحه.(1/134)
وفي الوقت الذي بدأت فيه المذاهب النقدية الحديثة، تدعو إلى الخروج على الأدب التقليدي وإلى الكتابة الأفقية والعمودية في آن واحد، وراحت تدعو إلى قراءة جديدة للنص تقوم على المرور بالمستويات الأفقية والعمودية للنص معاً، وفي الوقت الذي بدأت فيه هذه المذاهب تميز بين نص القراءة ونص الكتابة الذي يشارك فيه القارئ في إبداع النص، راح علم الاتصالات يدعو إلى قيام وسائل اتصال باردة تبث رسائل غير مكتملة بذاتها.
ويتعين على المتلقي لها أن يشارك في حل رموزها، والعودة بإنسان العصر الحديث إلى وسائل الاتصال الشفاهية التي عرفتها المجتمعات البدائية، واستخدام الحواس كلها في عملية التلقي، كما هو الأمر لدى الإنسان البدائي، ولقد وفق المخرجون السينميون والكتاب والأدباء، في النصف الثاني في القرن العشرين، في إنتاج نصوص أدبية وسينمية ترفض التسلسل المنطقي والهرمي للقصة والسينما الكلاسيكية، وتسير في كل اتجاه، محطة الحبكة القصصية(38). خارجه بذلك على نظام السطر والتجزئة الذي وجد ماكلوهان -أنه ينمي الأفكار المتسلطة والتعصب الأيديولوجي(39).
وكان أحد أشكال الخروج على السطر الأفقي في القصة، الكتابة بطريقة عمودية، بحيث تقسم صفحة الكتاب أفقياً أو عمودياً إلى قسمين، والتوليف بين القسمين في القراءة. وهذا النمط من التوليف هو توليف روائي الغرض منه رواية قصة واحدة وحدث واحد، بحيث لا تسير العين في حركة أفقية وحسب وإنما في حركة عمودية على غرار حركة عين الإنسان البدائي عندما يتحدث ويسمع.(1/135)
وعلى الرغم من أن القصة والسينما يشتركان في هذه الثورة على الأشكال والحساسيات التقليدية ويقدمان أعمالاً طليعية ذات حساسية جديدة، فإن تحطيم نظام السطر الأفقي في الكتابة، هو بصورة أو بأخرى، محاولة لمجاراة السينما في الوصف، أن القصة أو الرواية تعالج سطراً هو سطر الكتابة الذي "لا يسمح" في البدء بغير عرض تعدادي، على حين أن السينما تعالج شريطاً أو بالأحرى عدداً من الأشرطة المتراكبة الصورة، الحوار، الموسيقى، الضجيج السينمائي المصطنع، وعلى الأقل شريط الفيلم الذي يسمح دفعة واحدة بإعداد عروض إجمالية"(40) ومن هنا وجد بعض منظري الوصف أو الرواية الجديدة أن ثمة قانوناً للوصف يحكم كلاً من الفنين. فالقلة -قلة الأشياء الموصوفة هي واجبة في الكتابة، بينما هي جائزة في السينما، إذ الأصل في الأخيرة، الكثرة لا القلة.(1/136)
ويمكن وضع محاولة محمد خضير في "منزل النساء" في هذا الاتجاه، فقد خرج النص على نظام السطر الأفقي، إلى نظام السطرين، إذ يروي جزء من الأحداث في الجزء العلوي من صفحة الكتاب وجزء آخر يروي في الجزء أو النصف الأسفل، بحيث لا تتحرك العين عند القراءة أفقياً وحسب، بل وعمودياً أيضاً، ولم يكن هذا النمط من الخروج على نظام الكتابة جديداً إذ أن محاولات عديدة من هذا النوع جرت في القصة العالمية، بل إن ثمة تجربة مشابهة في الأدب القصصي العربي الحديث يرجع تأريخها إلى عام 1954، إذ ضمت مجموعة قصصية عربية هي (السمفونية الناقصة) قصة كتبت بسطرين، أفقيين، بأن قسمت الصفحة أفقياً إلى قسمين. يروي السارد في كل جزء منهما جزءاً من أحداث القصة، وقد ضمّ أحد أعداد مجلة الآداب الأجنبية عام 1975 قصة كتبت بنظام السطرين العمودي، بعنوان "موبيس المتعري" تمرين طوبولوجي(41)، للكاتب الإنكليزي غابريل جوزيفيشي، مع تعقيب للمترجم يوسف يوسف، وتروي القصة حكاية (موبيس) الذي يتعرى في ملهى ليلي، بدوافع ميتافيزيقية، خالعاً عنه المجتمع، ليركّز في ذاته، ليكتشف أن الحقيقية الداخلية مرعبة، فيقدم على الانتحار، وهذا الجزء من الأحداث يروى في الجزء العلوي من الصفحة، أما الجزء السفلي، فيختص بتجربة البطل الاجتماعية، واكتشافه أن الحقيقة الاجتماعية هي اللامعقول، وانتهائه إلى العزلة عن المجتمع. ومن الواضح أن تقسيم الأحداث، على هذه الصورة يجعل من الحقيقة الاجتماعية جذراً للحقيقة الذاتية، ومن العامل الاجتماعي عاملاً ودافعاً في صياغة الوضع السيكولوجي للبطل.(1/137)
وكما يحدث في كل إبداع القاص محمد خضير، فإن المؤثرات الخارجية، لا تعبر عن نفسها في تجريب اعتباطي بهدف التجريب نفسه، بل يتم تطويع هذه المؤثرات لتصبح عنصراً من عناصر منهج القاص ورؤيته، فقصة منزل النساء كتبت بالطريقة نفسها ولكن القاص يخصص الجزء أو النصف الأعلى للحقائق الخارجية، بينما خصص الجزء الأسفل لما هو ذاتي، داخلي، إن الجزء العلوي هو الجزء العائم من جبل الجليد، لدى القاص في حين خصص الجزء السفلي للجزء غير المرئي من هذا الجبل.
وتبعاً لهذا التقسيم كتبت القصة بأسلوبين مختلفين، فالقص في الجزء العلوي، يتم بلغة تقريرية باردة وصلدة، وبأسلوب الوصف الخارجي المباشر، أما الجزء السفلي، فيتم سرد الأحداث فيه بلغة غنائية، تنسجم والرواية الذاتية بضمير المتكلم، وفي الجزء العلوي الذي يروى بضمير الغائب، وتكون فيه رؤية الراوي للشخصية والأحداث رؤية خارجية لا عمق أو نفاذ لها نهائياً، نجد وصفاً سطحياً دقيقاً للزقاق وللدور الواقعية فيه، بشرفاتها المسننة والمتعرجة، ثم وصفاً رقيقاً وسطحياً لدار كبيرة تضمّ عدة غرف، وتتكون من عدة طوابق وتضمّ نساء عديدة، كما يتم وصف بطل القصة الذي يتقدم في الزقاق نحو منزل النساء، باحثاً عن واحدة من سكان هذه الدار، والقارئ لا يعرف في هذا الجزء هوية الشخصية، ولا هوية النساء اللواتي يقطن المنزل.(1/138)
أما في الجزء السفلي- الذي يروي الأحداث فيه رواية ذاتية، وبضمير المتكلم، ورؤية الراوي فيه هي الرؤية الداخلية وهي ذات عمق كبير فيعرفنا على اسم وهوية البطل، واسم الفتاة صديقته والعناصر الاجتماعية والسيكولوجية المكونة للشخصية، كما نطلّع على معلومات عن الدار ومالكتها وعن نمط الحياة فيها، وشخصيات النساء اللواتي يقطن فيها، وهن زوجات جنود وسجناء وبحاره ومطلقات وأرامل، نساء كلهن -كما هو أمرهن في جميع قصص الكاتب -في الانتظار وفي الجزء العلوي يجد البطل فتاته في خزان الماء في الماء، أما في الجزء الأسفل، فنكتشف إصابتها بمرض الروماتيزم وإن نصائح النساء في المنزل، دفعها إلى أن ترقد في الخزان لكي تشفى من المرض كما نعرف معلومات ذات طبيعة -بيوغرافية- عن حياتها منذ الطفولة وحتى لحظة لقائها بـ (علي) بطل القصة، الذي نعرف عنه معلومات شبيهة أيضاً.
إن التهجين بين أسلوبين، هو أسلوب معروف في كتابة القصة أيضاً، ولعل رواية القاص المصري صنع الله إبراهيم (نجمة أغسطس 1975) التي بنيت بناءٌ شبيهاً بالسد العالي، والمواد المكونة له، كتبت بأسلوبين أيضاً هما الوصف الخارجي المباشر، وأسلوب السرد الذاتي، وقد أطلقتا على مثل هذا الأسلوب الهجين مصطلح أسلوب الصخر والرمل(42) مشتقين هذه التسمية من الراوية المذكورة نفسها(30).(1/139)
نشر محمد خضير عدة قصص، بعد صدور مجموعته التي تم ذكرها في هذا البحث، وكان بعض هذه القصص ينتمي في المنهج والرؤية والأسلوب إلى قصص المجموعتين وإلى قصص القسم الأول من (المملكة السوداء) على وجه التخصص، إلا أن مرحلة لاحقة، شهدت توجه محمد خضير في كتابة القصة نحو منهج فني جديد، يلتقي فيه مع (بورخس) الأرجنتيني و(كالغينو) الإيطالي وغيرهما من كتاب القصة الجديدة في أمريكا اللاتينية، وفي أوربا، وتعد قصة (رؤيا البرج) أهم قصة جسّد فيها رؤاه في هذه المرحلة وليس من شأن هذه الدراسة تناول قصص هذه المرحلة بسبب أنها ما تزال في بداياتها(1).
(((
( المصادر والمراجع:
1-البدايات: محمد خضير، مجلة الأديب المعاصر، ع 4 آذار 1973 ص46
2-نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب ط4- 1985- ص36-37
3-انظر حديث القاص نفسه عنها في "البدايات" ص49.
4-البدايات ص45.
5-اللغة السينمائية مارسيل مارتن، ترجمة سعد مكاوي، مراجعة فريد المزاوي الدار المصرية للتأليف والترجمة 1962- ص9 وص268.
6-فن القصة القصيرة في المغرب، في النشأة والتطور والاتجاهات، أحمد المديني، ودار العودة ببيروت ص396.
7-تاريخ الرواية الحديثة ر.م البيريس، ترجمة جورج ساللم، منشورات عويدات بيروت لبنان 1967 ص366.
8-عصر الرواية الأمريكية كلود ادموند مني، منشورات دوسوى 1948 نقلاً عن تأريخ الرواية ص371.
9-نفسه ص371
10-نفسه ص372
11-في أدبنا القصصي المعاصر د. شجاع مسلم العاني. دار الشؤون الثقافية العامة 1989 ص25
12-الانشائية الهيكلية تزفتان تودروف: ترجمة مصطفى التواتي، مجلة الثقافة الأجنبية ع3 خريف 1982. ص13 وانظر الشعرية ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة -دار توبقال للنشر - المغرب ص52-3
13-البدايات، ص52
__________
(1) * ظهرت هذه القصص فيما بعد ضمن مجموعة قصصية بعنوان (رؤيا خريف) صدرت في الأردن 1997.(1/140)
14-البدايات، ص53
15-السينما بين الوهم والحقيقة بول وارن ترجمة علي الشوباشي، الهيئة المصرية العامة لكتاب 1972- ص7
16-نفسه ص8
17-انظر مجلة المعرفة السورية، ع82 ص105 نقلاً عن (البدايات)
18-قضايا الرواية الحديثة، جان ريكاردو، ترجمة وتعليق صياح الجهيم، دمشق 1971- ص128
19-توماشفسكي، نظرية الأغراض/ في نظرية المنهل الشكلي نصوص الشكلانيين الروس ترجمة إبراهيم الخطيب مؤسسة الأبحاث العربية -بيروت لبنان ص185
20-البدايات صفحة 49
21-موفولوجية الخرافة، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ص96-97
22-مسألة القصة من خلال بعض النظريات الحديثة، الرشيد الغزي، مجلة الحياة الثقافية، تونس العدد الأول اكتوبر 1977- ص99
23-غسان كنفاني، المجموعة الكاملة، المجلد الثاني، مجموعة عالم ليس لنا دار الطليعة بيروت 1962- ص535-543.
24-أركان القصة: أ.م فورستر، ترجمة كمال عياد جاد، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع القاهرة 1960 ص105-106.
25-قضايا الرواية الحديثة ص258
26-اللغة السينمائية ص135
27-اللغة السينمائية ص1985
28-نفسه ص24
29-المكان في الرواية الجديدة، يوسف اليوسف، مجلة الآداب الأجنبية ع4 نيسان 1979- ص190
30-ت. . اليوت، ترجمات من الشعر الحديث(1) دار مجلة سقر ص 134-137
31-نفسه ص98
32-السينما بين الوهم والحقيقة ص26
33-قضايا الرواية الحديثة ص166
34-نفسه ص263-264
35-السينما بين الوهم والحقيقة ص9
36-الشعرية ص31
37-السينما بين الوهم والحقيقة ص105
38-نفسه ص37
40-قضايا الرواية الحديثة ص128
41-غابريل جوز بيفيتشي، المتعري -تمرين وطوبولوجي، ترجمة يوسف اليوسف مجلة الآداب الأجنبية العدد 2 تشرين أول 1975.
42-انظر -البناء الفني في الرواية العربية في العراق د. شجاع العاني دار الشؤون الثقافية- بغداد 1994 ص
(((
قراءة جديدة في قصة(1/141)
"مجنونان"(1)
لا شكّ أن الأعمال الأدبية الرفيعة تتحدى الزمن وتستعصي عليه، بحيث تبدو وكأنها مستقلة عن التاريخ ومناقضة له في كثير من الأحيان، ولا تشكل مثل هذه الأعمال مادة للقراءة لدى أجيال وعصور عديدة حسب، بل وتشكل، أيضاً، موضوعات دائمة للنقد الأدبي، وهي تتجدد بتجدد النقد ونظمه ومناهجه ومصطلحاته، وسواء أكان الأمر يتعلق بقراءة القارئ العادي، أم بقراءة الناقد، فإن من شأن ذلك توالد وتعدد النص الأدبي بتعدد الأجيال والعصور والقراءات، إذ أن كل قراءة، حتى وإن كانت خاطئة، هي بمثابة نص أدبي جديد يولد من النص الأصلي(1).
وعلى العكس من النص الأدبي الرفيع فنياً، فإن النصوص الأدبية الهابطة فنياً لا تستطيع أن تمدّ في حياتها لأبعد من الحقبة الزمنية التي أنتجتها، حتى وإن أتيح لنص من مثل هذه النصوص شهرة وذيوعاً في تاريخ الأدب أو النقد بسبب من خطأ أو قصور رؤية لدى ناقد أو باحث أدبي أو أكثر، عمل على دفع مثل هذا النص إلى دائرة الشهرة والذيوع.
وعلى عكس المألوف والمعروف، أردت في هذا البحث، أن أتناول نصاً أدبياً لا يرقى إلى مصافٍ فني رفيع، لكن هذا العمل دفع إلى دائرة الشهرة والذيوع في عدد من الدراسات الأدبية والأكاديمية، هي أقرب إلى تاريخ الأدب منها إلى النقد، في وقت لا يملك فيه أصحاب تلك الدراسات من حجة أو برهان، غير احتكامهم إلى ذوقهم الفردي وانطباعهم الشخصي، بعيداً عن الموضوعية والعلمية والأناة النقدية! وهذا العمل هو قصة "مجنونان" لعبد الحق فاضل الصادرة عام 1939م.
__________
(1) * قصة مجنونان قصة طويلة قصيرة للقاص العراقي عبد الحق فاضل، صدرت عام 1939 وعدها بعض النقاد "رواية" فنية، ذات أثر كبير فيما صدر بعدها من روايات.(1/142)
وهنا، ينشأ اعتراض أو سؤال قد يبدو وجيهاً لأول وهلة، وهو أن الباحث الأدبي والناقد محدودان بحدود عصرهما، وما يشيع فيه من نقد ومناهج نقدية وأجهزة اصطلاحية خاصة بهذه المناهج. أفلا يبدو إذن الطلب من مؤرخ الأدب أو الناقد أن يكون ذا رؤية نقدية أبعد مدى من حدود عصره نوعاً من التعسف؟ إن النظرة المتأنية تثبت أن البصيرة النقدية النافذة التي يمتلكها الناقد أو مؤرخ الأدب الذي يتميز بحسٍ نقدي سليم، لا تستطيع أن تأسرها مناهج النقد ونظمه ومذاهبه، فعلى الرغم من كل ما حققه النقد الأدبي الحديث في عصرنا، من انجازات، فليس بوسع أحد أن يزعم أن الناقد الحديث ذو باع أطول من سلفه الناقد القديم، وإنما يكمن كل تفوق الناقد الحديث في الأساليب والمناهج حسب(2).
وهذه القراءة هي قراءة لنص أدبي معاصر، تفيد من النقد الجديد وأدواته الإجرائية ومصطلحاته الدقيقة، لتثبت -وعلى عكس ما ذهب إليه عدد من الباحثين- أن "مجنونان" ليست سوى نص أدبي هجين، يومئ إلى عدم معرفة مؤلفه بالصيغة الأدبية، وبأنه لا يختلف كثيراً عن تلك القصص البدائية التي ألفها كتاب عراقيون في بداية العقد الثاني من القرن العشرين -مثل (الرواية الإيقاظية) لسليمان فيضي 1919م- الذين نهجوا فنياً لا يميز بين الحكي والتمثيل، مستلهمين هذا النهج من أعمال قصصية عربية تحاول تحديث فن المقامة في الأدب العربي القديم، ولا سيما "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي.
وفي الوقت نفسه، فإن هذه القراءة، تعد من جانب آخر، قراءة في الخطاب النقدي في العراق، في عدد من الدراسات الأكاديمية، التي تعد- كما أسلفنا- أقرب إلى تأريخ الأدب منها إلى النقد الأدبي، وبكلمة أدق إلى المناهج النقدية الحديثة المنظمة.(1/143)
نشر القاص العراقي عبد الحق فاضل قصة "مجنونان" عام 1939م وأشار في إحدى طبعاتها وفي حديثه عنها في كتابه (قصصي) إلى أنه كتبها في عام 1936م وقد حاولت أن أجد تفسيراً مناسباً لهذه الملاحظة الغريبة وغير المعهودة في الآثار الأدبية، فتوصلت إلى نتيجة مفادها، أن القاص أراد بهذه الملاحظة أن ينفي تأثره الواضح بالنصوص القصصية لتوفيق الحكيم، ولاسيما قصته "عصفور من الشرق" الصادرة عام 1938م، والتي يمكن للقارئ الحصيف أن يلمس التشابه الأيديولوجي الواضح بينها وبين "مجنونان"، ولا سيما التشابه الكبير بين ملامح (محسن) الفكرية في (عصفور من الشرق) وصادق شكري في "مجنونان"، وإن كان يحمد للمؤلف تواضعه واعترافه بحدود قدراته الفنية والفكرية عند كتابته لها حين قال "كتبت (مجنونان) في أيام المراهقة الفكرية وأنا طالب في كلية الحقوق"(2).(1/144)
ولقد بالغ بعض الباحثين في تقييم هذا العمل وأهميته الفنية، بحيث لم يضعه في مكانة رفيعة في الأدب العراقي الحديث، بل وفي "الأدب العربي الحديث"(4). ومن الواضح أن الباحث د. عبد الإله أحمد، هو أول من حاول الإعلاء من شأن هذه القصة، بدوافع يتضح من حديثه عنها أنها غير فنية، كما أنه أطلق عليها مصطلح "رواية"، وتابعه في أحكامه وفي المصطلح، كل من الدكتور عمر الطالب، والدكتور يوسف عز الدين، بينما تميز عبد القادر حسن الأمين- الذي سبقهم في وضع أول دراسة أكاديمية عن القصص العراقي الحديث، بأكثر من عقد من الزمن -بنفاذ بصيرة وبموضوعية في حديثه عن هذا العمل، وتقييمه له، مصطلح (قصة) لا (رواية)! كما سبقهم في ذكر الثغرات الكثيرة فيها. كالمصادفات الكثيرة التي اعتمدت عليها أحداث القصة، والمفاجأت التي لا تقل عنها، وافتقاد القصة إلى الصدق الفني لغرابة أحداثها وشخوصها عن المجتمع والبيئة العراقيين، فضلاً عن أنه انفرد عنهم جميعاً في تشخيصه الصائب لطبيعة المكان المسرحي الضيق الذي تدور فيه أحداث الرواية، وغياب الفضاء الروائي، ولعل ذلك ينطوي على شاهد واضح على ما قلناه عن بصيرة الناقد الحق ونفاذها وكسرها لطوق المناهج النقدية وأجهزتها الاصطلاحية.
ولبيان التناقضات والاضطراب الكبير، الذي وقع فيه هؤلاء الدارسون، اخترت أن أعمد إلى طريقة تكشف كل ذلك، وتتمثل في اقتطاع النصوص الخاصة بهذا العمل لديهم، ثم تقطيع هذه النصوص إلى أجزاء يعارض ويناقض بعضها بعضاً، وهي نصوص تختص بتقييم العمل وبسرده وحبكته وشخصياته وأحداثه، وعلاقة الشخصيات والأحداث بمرجعيتها الخارجية.
بعد أن يلخص عبد القادر حسن أمين القصة، ويبين أحداثها التي لا ينبع الكثير منها من الضرورة بل من المصادفة، يشير إلى المفاجآت في هذه الأحداث قائلاً: "حب المفاجأة- كما يخيل إليّ- متمكن من نفس المؤلف حتى دفعه إلى ركوب هذا المركب الخشن"(5).(1/145)
وبعد أن يشير إلى الاستطراد في الحوار والافتعال فيه، يصدر الباحث حكمه على العمل قائلاً "... وذلك مما يقلل من أهمية القصة، ويوهن عامل التشويق في قراءتها. ومع هذا فقد استطاع المؤلف أن يرسم شخصية [كذا] صادق وصفية، وأن يصور صراع الحب والكبرياء بلغة يغلب عليها الصفاء"(6).
أما الباحث عبد الإله أحمد فيشير إلى أن
"مضمون الرواية يستند إلى فكرة
ذهنية ذات طابع فلسفي عميق مما
يذكرنا بالروايات الذهنية في الأدب
الأوربي الحديث، وبأدب توفيق
الحكيم الذي أقامه على قضايا
ذهنية"(7) ثم يسوق الباحث هذا التقييم للعمل ومؤلفه(.. ولقد وفق في أن يخلق عملاً روائياً كبيراً يناقش فيه
فكرة ذهنية عميقة طرافتها تخفف من
هذه الهنات التي شوهت بناءها، مما
أحل الرواية مكانة رفيعة في الأدب
العراقي، إن لم نقل في الأدب العربي
الحديث خصوصاً إذا لاحظنا زمن
كتابتها"(8).
أما مصطلح (رواية) فهو ما سنناقشه بعد حين، وأما الفكرة الذهنية العميقة فهي ثنائية الرجولة والأنوثة التي عرف بها توفيق الحكيم والتي يعتنقها بطل الرواية صادق شكري وملخصها: أن المرأة لعبة الأطفال، وأنها تفكر بقلبها في حين يشعر الرجل بعقله، وأنها لا جمال لها إلا من بعيد، وأن عيوبها أكثر من محاسنها، وأن الرجل يسبغ عليها من خياله سحراً فإذا دنا منها بدت عارية لا قيمة لها ولا جمال.. إن لم تكن بشعة.. وإن هذه الفروق بين الرجل والمرأة هي قوام اتصالهما وانجذابهما إلى بعضهما(9)- الخ..(1/146)
ولسنا ندري ما الطابع الفلسفي العميق في هذه الأفكار ولا الطرافة بعد أن نقلها المؤلف نقلاً أميناً من توفيق الحكيم الذي عرف بعدائه للمرأة، ولسنا ندري أيضاً كيف نسي الباحث التناقض البين بين أفكار صادق عن المرأة وبين دافعه لحب صفية، وهي المرأة الصحفية المتحررة التي تمارس العمل الاجتماعي، كما الرجل تماماً! ولا كيف تجاهل- حين وصف الفكرة بالعمق وبأنها فلسفية- هذا التصور اللاتاريخي للمرأة عند الكاتب ولا الطابع الرجعي (غير العميق) لهذه الأفكار، وكان الأحرى بالباحث أن تذكره القصة لا بالروايات الذهنية في الأدب الأوربي، بل بالأدب الأوربي الكولونيالي، أدب البعثات والحملات والاستكشافات والفتوحات الاستعمارية، الذي جسد ثنائية الرجل والمرأة بصورة بيّنة، فليس (من قبيل الصدفة أن يكون نعت "البكر" و"العذراء" قد أطلقا على قارات.. بكاملها، وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن يكون مالك العبيد والمستكشف والفاتح والمستعمر والمستوطن قد سمي بـ "الرجل الأبيض")(10).
وبالرغم من هذا الطابع الأيديولوجي المغرق في رجعيته ولا تاريخيته لأفكار صادق، فإن الباحث يسوق تعليلاً غريباً لظاهرة لا وجود لها أصلاً، ولم يستطع توثيقها، وهو قوله أن سلوك بطلي القصة "المجنونين" كان -أولعله كان- من "الأسباب الرئيسة في قربهما من نفوس القراء الشباب الذين وجدوا في سلوكهما تمرداً على جمود هذه البيئة، كانوا يطمحون إلى أن يمارسوا مثيله"(11) وبين صدور القصة وصدور كتاب الباحث "نشأة القصة وتطورها في العراق" ثلاثون عاماً، ولا نعرف ما مظاهر إعجاب الشباب فيها قبل هذه الأعوام الثلاثين، وهو لا يشير في هوامشه إلى أي مرجع أو حتى مقال صغير كتب عنها، كما أن سلفه الأمين لم يشر إلى مثل ذلك، مما يدل دلالة واضحة على أن القصة لم تترك عند صدورها وطوال العقود الثلاثة التي تلته أي أثر على القراء.(1/147)
وقد جاء كتاب مؤلف القصة نفسه (قصصي) الصادر عام 1984م ليؤكد هذه الحقيقة!
وإذا ما تركنا الباحث إلى باحث آخر هو الدكتور عمر الطالب، وجدنا تقييماً شبيهاً إذ يقول الباحث عن مؤلف القصة، التي يعدها هو أيضاً، رواية: "يعد عبد الحق فاضل أبرز من وضع الرواية في العراق على الصراط الفني من المخضرمين، وأول من أعطاها شكلها الذي يجب أن تأخذه كنوع أدبي" ثم يضيف قائلاً "وتعد رواية مجنونان التي ظهرت عام 1939م أول رواية فنية كتبت في العراق قبل الحرب العالمية الثانية"(12). وسنرى أيضاً، كيف يناقض الباحث قوله حين يتحدث عن عناصر الرواية من سرد وحبكة وشخصيات، وعن عيوبها.
أما الباحث الدكتور يوسف عز الدين، فقد كرر مثل هذا التقييم الإيجابي للقصة وعدها رواية، ودرسها في فصل خاص تحت عنوان "الرواية العربية" من الواضح أنه يعني به الرواية الفنية. قال الباحث:
هذه الرواية واضحة الهدف الفني،
كتبت لتكون رواية، فليس فيها مقدمة
ولا تداخل مصطنع أو انتقال غير
فني.. ويمكن وضعها في مكانة
خاصة من درجات تطور الفن
الروائي.. فهي علاقة واضحة في
المسيرة الفنية للرواية الفنية للكثير
من جوانبها وطريقة سردها
وحبكتها"(13).
ويبدو أن الباحث لم يقل أكثر من نقل آراء وأحكام سلفه عبد الإله أحمد، إذ هو يشير في هوامشه إشارة عامة إلى كتابي الأمين وأحمد.
إذا ما عدنا إلى هذه الأحكام، وجدنا أن الأمين انفرد بإطلاق مصطلح (قصة) على "مجنونان" لعبد الحق فاضل، بينما عدها كل من الباحثين الثلاثة عبد الإله أحمد وعمر الطالب ويوسف عز الدين (رواية) فما مدى صحة ذلك؟!(1/148)
إن تفحص العمل الأدبي الذي بين أيدينا يشير إلى أنه لا يخضع لقوانين الرواية، وإلى أننا لا يمكن أن نطلق عليها هذا المصطلح إلا بتجوز، فهي قصة شخصيتين تصارع أحدهما الأخرى صراعاً يقوم في الأساس على ثنائية الرجل- المرأة، يعني أن الصراع فيها جنسي لا تاريخي، ولا شيء يشير في هذه (القصة الطويلة القصيرة) إلى أنها كالعمل الروائي الذي "يفيض ويتداخل مع العالم التجريبي وإن كان متميزاً بكونه قائماً بذاته ومفهوماً بذاته"(14) لا شيء فيها يشير إلى فن ذي طابع اجتماعي عبقرية في الامتصاص والتسجيل، على عكس القصة القصيرة ذات الطبيعة الشعرية، التي تتجسد عبقريتها في النحت والتشكيل(15)، وإذا ما أردنا أن نوجز الأمر قلنا أن "فنان الرواية فيه شيء من الباحث الاجتماعي أو من المؤرخ أو من العالم النفسي أو من هؤلاء جميعاً"(16) وليس ثمة ما يشير، في الرواية، إلى أن كاتبها يتميز بشيء من ذلك، ولقد بلغ من انحسار الأحداث وانقطاعها عن البيئة الاجتماعية، أن المكان في الرواية، هو الغرفة الصغيرة التي يتحاور فيها اثنان، إنه المكان المسرحي الضيق لا المكان ولا الفضاء الذي تتميز به الرواية.(1/149)
وقد آن أن نقرر أن "مجنونان" تنتمي إلى قالب القصة الطويلة القصيرة الذي يجمع بين خصائص الرواية والقصة القصيرة، ففي الرواية يكون المجتمع مركز الصورة ومحورها، أما في القصة الطويلة القصيرة، فإن المجتمع يتراجع ليصبح خلفية الصورة وإطارها أما المركز فهو الفرد البشري أو بصورة أقرب إلى الصواب: مأساة الفرد البشري. ويمكن أن نوضح هذه الفروق عندما نعمد إلى الموازنة بين أعمال نجيب محفوظ في المرحلة الاجتماعية وأعماله في المرحلة التي دعاها الناقد العربي محمود أمين العالم بـ "المرحلة الفلسفية" بين الثلاثية أو خان الخليلي أو زقاق المدق التي تؤرخ للمجتمع المصري تأريخاً فنياً، وبين اللص والكلاب أو الطريق أو الشحاذ، التي تتناول مأساة الفرد المصري لا المجتمع، دون أن تتخلى عن الإطار الذي تنبع منه هذه المأساة، وهو المجتمع المصري نفسه. ويبدو أن مؤلف "مجنونان" نفسه كان أكثر دقة وصواباً في استخدام "المصطلح" ففي حديثه الذي يربو على ثماني عشرة صفحة، لم يطلق مصطلح الرواية على (مجنونان) ولو لمرة واحدة بل استخدم ولأكثر من مرة مصطلح (قصة).(1/150)
وقبل أن ننتقل من الحكم الذي شارك فيه الباحثون الثلاثة، إلى حيثيات هذا الحكم، لا بد أن نشير إلى أمر اتفق فيه كل الذين كتبوا عن (مجنونان) وتكرر كثيراً في النقد الأدبي التقليدي أو في الدراسات الأدبية الأكاديمية في العراق: ذلك هو مدى صلة الشخصيات والأحداث بالواقع، فلقد أجمع هؤلاء الباحثون -منطلقين من موقف أفلاطوني في الفن- على أن بطلي الرواية وما يقومان به من أفعال، غريب كل الغرابة عن المجتمع والبيئة العراقيين، وإذا ما عدنا إلى النص الذي اقتبسناه من كتاب نظرية الأدب قبل قليل وجدنا أن عالم الرواية، أو عالم الأدب بعامة، هو عالم يتميز بكونه (قائماً بذاته ومفهوماً بذاته) وإن تداخل مع العالم التجريبي وهذا الفهم للنص الأدبي يمتد من أرسطو حتى نقاد الأدب المعاصرين، إذ ليس من الضروري لكي يكون العمل الأدبي واقعياً أو صادقاً، أن تكون أحداثه قد وقعت بالفعل أو أن شخصياته موجودة في الواقع، ولقد فضل أرسطو المحتمل غير الواقع الف مرة على الواقع غير المحتمل، ولقد سبق له أن "قال بوضوح إن المحتمل ليس علاقة بين الخطاب ومرجعه (أي علاقة صدق) وإنما هو علاقة بين الخطاب وما يعتقد القراء أنه صحيح، فالعلاقة تقوم هنا بين العمل وبين خطاب مبثوث يمتلك كل فرد من أفراد مجتمع ما بعضاً منه"(17).(1/151)
إن شخصيتي القصة الرئيستين، لا تبدوان غريبتين لأنهما غير موجودتين في المجتمع العراقي، في تلك الحقبة من التاريخ، التي ظهرت فيها القصة، بل لأن المؤلف لم يكن قادراً على إقناعنا بهما، فالشخصية في اللحظة التي تغادر فيها الواقع إلى القصة أو الرواية تبدأ بالحياة طبقاً لقوانين العمل الفني نفسه، وتكون هذه الشخصية مقبولة أو (صادقة) بقدر ما يستطيع العمل الفني أن يقنعنا بها. إنْ أحداً لا يستطيع أن يؤكد وجود شخصيات دون كيخوته أو هاملت أو فاوست وجوداً واقعياً وتاريخياً بحيث تتطابق فيه مع وجودها الفني، وعلى العكس فإن هذه الشخصيات التي تبدو غريبة عن مرجعيّاتها الواقعية التاريخية، عدّت نماذج واقعية، بل عدها المنظرون الواقعيون ورواد المنهج السوسيولوجي في النقد، ولا سيما لوكاش نماذج للبطولة التي تجمع بين الخاص والعام بصورة يبدو فيها العام وكأنه شديد الخصوصية، ويبدو فيها الخاص وكأنه عام شديد العمومية، وبكلمة، نماذج للبطولة في الأدب الواقعي، في أبرز نماذجه العظيمة.
ويجب أن نسارع للإشارة إلى أن د. عبد الإله أحمد، حاول في كتابه التالي (الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية) أن يصحح موقفه، بعد أن أدرك خطأ موقفه السالف، حين وصف مثالية القاص "بأنها مثالية فكرية لا واقعية، تحاول أن ترسم صورة لما يريد القاص أن يكون لا ما هو كائن في واقعه فعلاً" وواضح أن الباحث ينطلق هنا من الموقف الأرسطي القائل بأن الأدب لا يصور ما هو كائن فعلاً، وإنما ما يمكن أن يكون إلا أنه هنا يحاول أن يبرر للمؤلف إخفاقه الفني، في أنه لم يستطع أن يقنع قراءه بصدق أحداثه وشخصياته، إذ يضيف الباحث قوله بأن "القاص في هذه المثالية الفكرية لم ينفصل عن الواقع، فقد استطاع أن يحلق بخيال قارئه إلى عالم ليس مستحيلاً على واقعه أن يحققه"(18).(1/152)
ونعود الآن، بعد أن تناولنا تقييم القصة لدى الباحثين الثلاثة إلى حيثيات هذا التقييم أو الحكم الإيجابي الذي أسبغوه على القصة، لنقف على الاضطراب والتناقض الكبيرين في هذا الأمر، من خلال النصوص التي التمس القارئ في أن يصفح لي تسجيلها رغم ما فيها من إطالة:
1- فالحبكة المحكمة، والسرد المتدفق، والتحليل النفسي العميق.. والنفس الطويل، والحوار الذي يدار بقدرة مسرحية باهرة.. كل ذلك قاده إلى أن يكتب عملاً روائياً بديعاً"..
2- ورغم أن الحركة تبدو بطيئة في بداية الرواية، مما يثير السأم والملل، فإن المؤلف سرعان ما يعود إلى طبعه وتدفقه الأسلوبي".
"نشأة القصة وتطورها ص ص310-311".
3- وهذه الفكرة الذهنية.. هي التي جعلت من أحداث هذه الرواية غير ممكنة الوقوع في العراق.. كما أن في الرواية أحداثاً طارئة وشخوصاً لا ضرورة لها في مجرى الحدث وحذفها لن يضير الرواية في شيء".
"نشأة القصة وتطورها ص314".
وإذا ما تركنا كتاب نشأة القصة وتطورها في العراق للدكتور عبد الإله أحمد إلى كتاب الدكتور عمر الطالب "الأدب القصصي في العراق جـ 1 الرواية العربية في العراق" وجدنا هذه الأقوال المتضاربة عن الشكل القصصي وعناصره من سرد وأحداث وشخصيات وحبكة:
1-"والشكل القصصي الذي اختاره لمضمونه ليس رداء فضفاضاً يمكن أن يدرج الكاتب تحته كل ما يريد أن يقول، بل جاءت روايته على نحو يتلاشى فيها السرد والحوار والحبكة والتحليل" "الرواية العربية في العراق ص269".
2-وعن الحرية والضرورة يقول عن مؤلف القصة:
... (.. مما قاده أن يكتب الرواية التي تخضع للصفة الفنية أكثر من خضوعها للطبع والارتجال، فالتدفق والنظام يمتزجان فيها امتزاجاً تاماً".
"الرواية العربية في العراق ص270".
3-وعن الحبكة، جاء قوله:
... "والحبكة القصصية عند الكاتب محكمة وهو يرسم حدثه بمهارة لالغو فيها ولا فضول".
"الرواية العربية ص270".
4-لكنه يضيف مباشرة قوله:(1/153)
... "غير أن الحركة تبدو بطيئة في بداية الرواية مما يثير السأم، ولكن المؤلف سرعان ما يعود إلى طبعه ويشد تدفقه الأسلوبي القارئ بعد صفحات قليلة من بدء الرواية" "ص270"
ثم: "وتفسد حبكته أحياناً بعض الإضافات والزيادات والاستطرادات مما يبعث السأم في النفس" (ص271) ولسنا بحاجة إلى القول إلى إن هذه الأحكام لا تخرج عن أحكام الباحث عبد الإله أحمد صالح، بل هي تكرار لها ليس إلاّ. ولكننا نقف على توصيف لبناء الشخصيات هو أشدّ اضطراباً وتناقضاً من كل ما مرْ ذكره، وذلك عندما يقول الباحث عن مؤلف "مجنونان": "... ولم تعد الشخصية عنده معلقة في الفراغ كما كانت عند محمود السيد وكما هي عند ذنون أيوب.. بل أصبح لها ثقلها الواقعي والأرض التي ترتكز عليها" "الرواية العربية ص272".
ثم لا يلبث أن يقول وبعد صفحة واحدة ما يلي:
"وفي تصويره لشخصيتي (صفية وسميرة) ضرب من الخيال فلا يعقل أن تتصرف فتاة تصرف صفية وسميرة مثل دعوة صفية لصادق في بيتها.. واعترافها له بأنها تحبه ولم يمض على تعارفهما عن طريق المصادفة عندما استقلا العربة معاً غير يوم واحد"(ص273).
وهكذا إذن: سرد متدفق، لكنه بطيء في بداية الرواية التي تستغرق ثلاثة فصول، وحيكة محكمة، ولكن ثمة أحداثاً وشخصيات طارئة، ونظاماً وتدفقاً، ولكن المفاجأت والمصادفات كثيرة جداً، وشخصيات لها ثقلها الواقعي والأرض التي ترتكز عليها، ولكن هذه الشخصيات من صنع الخيال ولا وجود لها واقعاً وتأريخاً!! ولست أرى ما يبرر الإطالة وذكر آراء الباحث د. يوسف عز الدين لأنها، هي أيضاً، مجرد تكرار لبعض آراء عبد الإله أحمد وعبد القادر حسن أمين.(1/154)
إن قراءتنا للخطاب النقدي في عدد من الدراسات الأكاديمية. حول قصة "مجنونان" لا تكشف عن اضطراب هذا الخطاب وعجزه المنهجي والاصطلاحي في معاينة النص الأدبي حسب، بل ويكشف أيضاً عن الهوة الخطيرة والأحكام المتسرعة التي يمكن أن ينزلق إليها النقد الانطباعي، والطابع الذاتي غير الموضوعي الذي يتسم به هذا النقد الذي تعتمد عليه دراساتنا الأكاديمية، على الرغم من كل ما يحاول أن يرتديه من ثياب الموضوعية والتاريخية، إذ من شأن هذا النقد الذي تحفل به دراساتنا الأكاديمية- التي هي أقرب إلى تأريخ الأدب من النقد كما أسلفنا- أن يتنكر، كما يقول لانسون "في ثياب التاريخ والقضايا المنطقية وهو يوحي بمذاهب عامة تتخطى المعرفة الدقيقة، بل وتتلقفها"(19). ولكي نقف على مظاهر العجز والذاتية واللاتاريخية في هذا النقد لا بد من أن نقوم بقراءة جديدة في قصة "مجنونان" تحاول معاينة النص القصصي الذي بين أيدينا، معاينة متأنية ودقيقة، محاولين من ثم الوصول إلى تقييم نقدي موضوعي للنص، بعيداً عن أسر الذاتية والانطباعية السهلة والهشة:
1-السرد والقصة المتخيلة أو الخطاب والتخييل:(1/155)
لا يستهل السرد أو الخطاب القصصي، القصة المتخيلة في (مجنونان) في بدايتها أو وسطها. بل من نهايتها، بل ومن نقطة تقع بعد نهاية الحدث الرئيس للقصة، فنحن نقف في الفصل الأول علىمشهد يجمع بين صادق شكري وسميرة فائق، وعدد من الموظفين، في غرفة فوزي المحامي، وقد جاءوا لتهنئة فوزي بترقيته الوظيفية الجديدة، ويدور بين هذه الشخصيات حوار يبرز فيه صادق شكري شخصية نرجسية مهيمنة ورئيسية. يصفه صديقه عندما يقدمه للمهنئين بقوله "هاكم مجنوناً" ونعرف أن سميرة كانت على علاقة سابقة بصادق شكري، ثم انقطعت هذه العلاقة بعد أن طلب إليها الأخير أن تعده أخاً لها! والطابع الحواري للمشهد في الفصل الأول وطبيعة هذا الحوار الذي يتسم بالقصر، والمكان المسرحي الضيق الذي يدور فيه، يعدان منذ البداية، بأن القصة ستكون درامية، إذ من شأن الحوار، إذا ما كان كثيراً وقصيراً أن تكون القصة أو الرواية دراماتيكية ومتوترة(20)، وأحداث الفصل الثاني تدور في غرفة صادق شكري وفي داره الخاصة ويعتمد على الحوار بين صادق شكري وأمه. أما الفصل الثالث فهو الذي يكشف فيه الراوي عن اليأس والإحباط اللذين أصيب بهما صادق وانكماشه عن الحياة الاجتماعية، ولجوئه إلى العزلة في داره، بعد أن أخفق في قصة حب جرت أحداثها قبل عام ونصف، ولكن هذا الإخفاق ينطوي على نجاح سنعرفه عندما ننتهي من قراءة الحكاية التي يبدأ الراوي بروايتها منذ الفصل الرابع، مقدماً لروايته إياها في نهاية الفصل الثالث.(1/156)
إن الإيقاع البطيء للسرد، الذي أشار إليه معظم الباحثين الذين درسوا القصة، لا ينجم عن تقنيات السرد واستخدام تقنية المشهد وهيمنته، سيّما وأن هذه الفصول تعتمد على الحوار المسرحي، بل ينجم عن الهوة بين الأحداث في هذه الفصول وبقية فصول الرواية، إذ لا علاقة بينها وبين أحداث قصة الحب التي تروى منذ الفصل الرابع، وعلى الرغم من أن ثمة صلة بين الوحدة السردية في هذه الفصول والوحدة السردية الكبرى في الفصول اللاحقة، ماثلة في شخصيات كل من صادق شكري وفوزي وسميرة، فإن الفصول الثلاثة هذه تشكل قصة لا ترتبط بالفصول التالية إلا على وفق نسق النضد المعروف في فن المقامة العربي القديم، وفي أشكال القص البدائية الأولى، فنحن إذن إزاء قصتين وحبكتين لا قصة واحدة وحبكة واحدة! وليس عجيباً أن تجتمع قصتان في قصة واحدة، فهو أمر مألوف في أنساق بنائية معروفة كالنضد أو التضمين أو التناوب، وهذه الأنساق التي نجدها في أكثر أشكال القص بدائية وفي القصص الشعبي، هي أنساق مألوفة في القص الحديث أيضاً، ولكن أهمية ذلك تنحصر في توظيف القصة الثانية أو القصص (إن وجدت أكثر من قصتين) معنوياً وجمالياً ففي كتابات إميل حبيبي ولا سيما (سداسية الأيام الستة) محاولة لإحياء نسق النضد الذي عرفت به المقامة العربية القديمة، وفي قصص عربية حديثة نقف على أكثر من قصة في النص القصصي الواحد، فالقصة الثانية إما أن توظف لإبراز التقابل والتناظر بين قصتين كما هو الأمر في قصة مصطفى سعيد وقصة الراوي في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وفي قصة الأستاذ الجامعي منصور عبد السلام وقصة البائع الجوال الياس نخلة في قصة عبد الرحمن منيف (الأشجار واغتيال مرزوق) أو توظف القصة الثانية لإبراز التشابه بينها وبين القصة الأصلية، وتنشأ عندئذ ما يسميه جان ريكاردو بـ "القصة النرجسية"، كما هو الأمر في قصة (المخاض) لغائب طعمه فرمان التي تتشابه وقصة نوري السائق(1/157)
وهي القصة الثانية داخل القصة الرئيسة، أو قصة صلاح التي تتشابه وقصة جلجامش في الملحمة المعروفة، في قصة عبد الرحمن الربيعي (الأنهار). وباستثناء "الأشجار واغتيال مرزوق" التي تروي فيها القصتان بالتتابع، فإن القصص المشار إليها، يتخلق من تضافر القصتين فيها، نسق يعد من أجمل أنساق البناء والسرد هو نسق التناوب، وإن اختلط في الروايتين الأخيرتين بنسق آخر هو نسق التضمين.
إلا أن الأمر في (مجنونان) خلاف ذلك، فالقصة الثانية في الفصول الثلاثة الأولى لا توظف معنوياً أو فنياً، بل تظل فائضة وزائدة، كما أن الإشارة إلى نهاية القصة الأصلية في الفصل الثالث حرم السرد من أي ارتداد أو استرجاع للماضي وهو أمر يجعل من الشخصيات موضوعات لا ذوات.(1/158)
وفي الفصول الثلاثة نقف على طبيعة الراوي والرؤية ونوعيتهما، فالراوي يروي القصة بعد أن تمت أحداثها لا بأن يتابعها ويرويها حسب وقوعها لحظة بلحظة، ومعنى ذلك أن الراوي يقف خلف الأحداث، ومن المعروف عن الرواية من الخلف أنها أكثر أشكال الرؤى بدائية، وإن كانت معروفة في القص الحديث، ولا سيما الكلاسيكي منه، هذه الرؤية لا نلبث أن نقف على طبيعتها من خلال القص، فهي رؤية داخلية، ودرجة نفاذها شديدة، والراوي يمتلك فيها امتيازات كبيرة، ونحن نقف على معرفة الراوي التي تتجاوز معرفة الشخصيات وتخترق الحجب والأستار وتتنبأ بالمستقبل، في العديد من الفصول والوحدات السردية، فحين تخبر أم صادق ولدها -وهو الراوي -بأنها باعت المغسلة التي جلبها إلى جارتها، يعقب الراوي على ذلك قائلاً "والواقع أنها استدعت جارتها.. وعرضت عليها المغسلة فشكرتها وأخبرتها أن لديهم واحدة مثلها وليست في حاجة إليها" ويخبرنا بأن أمه وضعت هذه المغسلة وأخفتها في السرداب. دون أن يعلمنا عن كيفية حصوله على هذه المعلومات. وفي الفصل السادس يستهل الراوي الفصل بحديث انفعالي عن الحب وسحره، لا صلة له بالأحداث وهكذا فالراوي في مجنونان ليس "كلي العلم" حسب، بل هو من النوع الذي اصطلح عليه الناقد فريدمان بـ "الراوي كلي العلم المقتحم للقصة"(21) أما درجة نفاذ رؤيته العميقة، فسوف نتحدث عنها في موضعها من البحث، وقد أصبح هذا النوع من الرواة من مخلفات الماضي، وشهد القص الحديث تطوراً كبيراً في هذا المجال، بل أن التطور الأكثر خطورة وأهمية في القص، في القرن العشرين، هو اختفاء الراوي ورؤيته في القص وظهور القارئ، بحيث بات عصرنا يدعى بعصر القارئ.(1/159)
وسواء أعَدَدنا الفصل الأول هو بمثابة الافتتاحية في القصة أم الفصل الرابع، فإن هذه الافتتاحية تخرج على الافتتاحية المألوفة في القص التقليدي، وفي الرواية على وجه الخصوص، إذ ثمة طريقة معروفة تبدأ بها تسع من عشر روايات، كما يقول برسي لبوك "مشهد افتتاحي. استعادة الأحداث الماضية، ثم خلاصة"(22). وقد يقال إن هذا الخروج ربما كان تطويراً للأشكال التقليدية المعروفة، وأن "مجنونان" قصة اعتمدت المسرحة لا المشهد القصصي، وأن من شأن هذه المسرحية أن تغيّب الراوي، لصالح القارئ ووجهة نظره وأن القاص كان يهدف إلى خلق نهج موضوعي في القص، والتساؤل عن كل ذلك أمر مشروع، إلا أن الأمر كما سنرى ليس كذلك، فإلى جانب المسرحة وفي صميمها يوجد الراوي كلي العلم المقتحم للقصة، والحوار يحاط أو يسبق بمشخصات مسرحية توضع بين قوسين، مما يدل دلالة واضحة على افتقار المؤلف إلى المعرفة بصنعة الرواية وصنعة المسرحية معاً، وأساليب القص المعروفة وتقنياته.
2-الحبكة:
إن ثلاثة من الباحثين الذين تناولوا "مجنونان" بالدراسة، وصفوا حبكتها، كما رأينا -بأنها محكمة، بينما لم يشر سلفهم الأمين إلى الحبكة أية إشارة. فما هي الحبكة؟ إن فورستر يعرف الحبكة بأنها: "سلسلة من الحوادث يقع فيها التأكيد على الأسباب"(23) بينما يقع التأكيد في الحكاية على التسلسل الزمني حسب. أما الشكلانيون الروس فقد ميّزوا بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي بدلاً من الحكاية والحبكة، والتأكيد على الأسباب يقع لديهم، كما التسلسل الزمني في المتن الحكائي، أما المبنى الحكائي، فلا يتميز إلا بما يطرأ على المتن لأغراض جمالية بحتة جعلها فورستر مرتبطة بالحبكة. أما الحبكة فهي لديهم صراع المصالح بين الشخصيات وما يفضي إليه كل صراع من استعدادات ومواقف تفضي بدورها إلى جولة أخرى من الصراع، ولذا جعلوا الحبكة مختصة بالشكل الدرامي(24).(1/160)
وخصائص الحبكة وعلاقتها بالحدث من جهة، والشخصيات من جهة أخرى، تختلف باختلاف نوع الرواية، فهي حسب ادوين موير، في رواية الحدث غيرها في رواية الشخصيات، وهي في الرواية الدرامية غيرها في النوعين المذكورين، وإذا كنا قد قررنا أن قصة (مجنونان) تعد، منذ فصولها الأولى بأنها تكون درامية، فما هي خصائص الحبكة في مثل هذا النوع من القص.
تتميز الرواية الدرامية كما يرى موير بـ (اعتمادها الصارم على قانون السببية) وفي مثل هذا النوع من الرواية تختفي الهوة بين الشخصيات والأحداث من جهة والحبكة من جهة أخرى، ويحل محلها "التماثل بين الحدث والشخصيات.. وقد نستطيع أن نقول أن أي تغير في الموقف يتضمن دائماً تغيراً في الشخصيات، كما أن كل تغير درامي ونفسي، خارجي أو داخلي في كليهما، بسبب معلوم أو غير معلوم ينتج أو يتشكل من شيء فيهما معاً، ومن تلك الزاوية تنفرد الرواية الدرامية من رواية الحدث ورواية الشخصية"(25). فهل يمكن القول إن هذه الخصائص موجودة في حبكة "مجنونان"؟(1/161)
إن الباحثين المشار إليهم سابقاً، يعترفون، بأن مصادفات واستطرادات تفسد الحبكة فيها، فكيف يمكن أن نصفها إذن بالإحكام؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من تفحص خصيصة أخرى من خصائص الحبكة الدرامية، سيما وأن الباحث د. عمر الطالب وصف الرواية بأنها فنية "فالتدفق والنظام يمتزجان فيها امتزاجاً تاماً" وصحيح أن السير التلقائي والمنطقي للأحداث هو الطابع المميز لحبكة الرواية الدرامية، وأن كلا العاملين "المنطقي والتلقائي أو الضرورة والحرية على قدرٍ متساوٍ ومن الأهمية في الحبكة الدرامية، فخطوط الحدث لا بد لها أن تخطط، ولكن الحياة تفرقها دائماً وتحولها دائماً عن مجراها.. وإذا بني الموقف بدون اعتبار لابتكار الحياة الحر فإن النتيجة تكون آلية" إلا أن ابتكار الحياة الحر، والحرية شيء، والمصادفة البحتة شيء آخر، فالمصادفة قد تقع في الحياة، ولكنها في الفن لا بد أن تكون نابعة من ضرورة. وإذا ما وضعنا كل ذلك بالحسبان، وجدنا أن حبكة "مجنونان" حبكة مهلهلة تماماً. بل إن خيوط الحدث تنسج بدءاً من مصادفة، وهي مصادفة تقع في الوقت الذي تخرج فيه الأحداث عن نطاقها المكاني الضيق، عندما يلتقي صادق بصفية في عربة يتنافسان على استئجارها وركوبها في شارع لا ملامح له!!
وفضلاً عن الإحكام في الحبكة التي أشار إليها الباحثون، فإن كلاً من د. عبد الإله أحمد ود. عمر الطالب يشيران إلى ميزة أخرى في مجنونان هي التحليل النفسي للشخصيات، إلا أن هذا التحليل ليس سوى وهم، فالجزء أو قل القصة الأصلية التي تبدأ منذ الفصل الرابع، تعتمد على المسرحة أو المنهج الموضوعي كلياً، بحيث أن هذه القصة لا يميزها عن المسرحية سوى بعض الوحدات السردية القليلة والقصيرة التي تفتتح فيها الفصول، أو تحيط بالحوار، ويقودنا هذا الأمر إلى مسألة مهمة لا بد من معاينتها في مجنونان وهي الصراع الواضح بين القص أو الحكي والتمثيل أو المسرحة.(1/162)
3-"مجنونان" بين القص والتمثيل:
في كل عمل قصصي روائي ممتاز لا بد من تضافر أساليب السرد، وبدون مثل هذا التضافر- الذي نجده في الأعمال الروائية الرفيعة المعروفة- لا يمكن أن يتخلق عمل قصصي جيد، ويعد التناوب بين المشهد التصويري، والدراما أو المسرحة أبرز مظاهر التضافر في العديد من الروايات التي تميزت بالإحكام في الصيغة الفنية، كما أوضح "لبوك" في كتابه "صنعة الرواية" وفي التناوب بين هذين الشكلين من القصص، يقول لبوك ".. ولكن كل روائي بالطبع يستعمل كلا [كذا] الطريقتين، وأن ميزة الروائي تبرز بكل وضوح في سيطرته على الطريقتين وكيف يقود القصة إلى المشهد، وكيف يلتقطها منه وقد عادت قصة أغنى وأكثر امتلاءً من السابق، ثم يتقدم بسردها"(26).
وإذا ما عدنا إلى "مجنونان" وجدنا اضطراباً بيّناً في استخدام أساليب القص، يدل دلالة واضحة على أن مؤلف القصة الشاب لم يكن ليدرك في حينه الفرق بين القصة والمسرحية، ولا الفروق المعروفة بين تقنيات القص وأساليبه.
ففي الفصول الثلاثة الأولى- التي عددنا قصة ثانية مستقلة عن القصة الأصلية- يقوم الفصلان الأول والثاني على الدراما والمسرحة والحوار، بينما يهيمن المشهد كلياً على الفصل الثالث، حتى إذا بدأ الراوي رواية أحداث القصة الأصلية، هيمنت المسرحة كلياً على العمل. وعلى الرغم من أن المسرحة تعد عنصر قوة إذا ما قيست بالمشهد التصويري، فإن استخدام أسلوب واحد وهيمنته دون ضرورة، يتحول إلى عامل هدم بدلاً من أن يكون عامل قوة. وفي ذلك يقول لبوك: "إن الدراما هي أعلى مصباح عند الكاتب الذي هو بمثابة الورقة البيضاء أو الدهان الأبيض عند المصمم، إذا أسرف في استعماله، دونما حاجة، فإن ذلك يعني تبديد قوته في وقت تكون فيه تلك القوة ضرورية"(27).(1/163)
إن ما يدعم زعمنا بأن المؤلف ليس على دراية بهذا الأمر -بحيث يختلط لديه القص بالتمثيل والقصة بالمسرحة- كثير في القصة، وأول هذه الأدلة على ذلك، أن المؤلف يحيط الحوار في القصة بمشخصات مسرحية يضعها بين أقواس في العديد من صفحات القصة(28). وهو بذلك يعيد إلى الأذهان الرواية الإيقاظية لسليمان فيضي، وما فيها من خلط بين الأنواع وأساليبها كما أسلفنا.
وما يؤكد هذا الزعم أن القصة الممسرحة هذه، تفتقر إلى الفضاء والمكان الروائي، وتدور أحداثها وفصولها في أماكن مسرحية ضيقة ومعزولة: غرفة صادق، وغرفة صفية، ومقهى، غرفة وزير، قاعة البرلمان. وقد استطاع الباحث الأمين بحساسيته النقدية، أن يلمس هذا الأمر، وإن كان لا يملك المصطلحات النقدية التي تسعفه آنذاك، وعلى الرغم من أن الأمين هو أول باحث درس القصة العراقية، وفي منتصف الخمسينات. وقد وصف الأمين ظاهرة انعدام المدى أو الفضاء نهائياً في القصة بقوله وهو يتحدث عن الاستطراد في حديث الراوي عن فلسفة الحب في الفصل العاشر "وخلت الرواية، مرة واحدة من الاتساق بين فصولها ومظاهر الحياة الخارجية.. وكان الفصل. ككل فصل في الرواية غرفة ذات أربعة جدران، ليس فيها أكثر من شخصين يتحدثان، وذلك مما يقلل من أهمية القصة ويوهن عامل التشويق في قراءتها".
ومن مظاهر المسرحة أيضاً، أن المكان المسرحي الضيق نفسه، لا يحظى بوصف تفصيلي روائي، بل يأتي هذا الوصف باهتاً ومسرحياً أيضاً، فإذا ما وصف الراوي المكان قال "وإذا منزل يدل على جاه وسعة، وإذا غرفتها ومكتبتها، أنيقة مزينة بأثاث فاخر وصور فنية مختارة"(29).(1/164)
وقد ينشأ اعتراض مفاده أن الرواية الدرامية تتميز بضيق المكان، وأن في المكان الضيق، والضيق وحده ينشأ الصراع. ولكن الأعمال القصصية والروائية التي تنتمي إلى هذا اللون لا تقول ذلك، فالمكان في "الشيخ والبحر" لهمنغواي، هو البحر على سعته، وهو كذلك في (موبي ديك) لملفيل، وهو فضاء مدينة القاهرة في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ على سبيل المثال، إن ضيق المكان في الرواية يعني أن "المنظر لا يكاد يتغير، أي لا فرار منه، وسبب عزل المنظر في الرواية الدرامية واضح جداً، ففي المساحة المغلقة وحدها يمكن للصراع أن ينشأ وينمو وينتهي في حتمية”(30).
على أن عدم إدراك المؤلف للأساليب ووظائفها ودلالاتها، يتضح في مسألة هي أكثر أهمية وأكثر خطورة من كل ما ذكرناه، ويتجلى ذلك في التناقض البيّن، بين المنهج الموضوعي أو الدراما وبين الراوي كلي العلم المقتحم للقصة، والذي تتميز رؤيته الداخلية للشخصيات بأنها ذات نفاذ عميق في داخل الشخصيات، وامتيازات عريضة لا يقرها القص الحديث.
بينما المفروض أن يختص الراوي في الدراما أو المنهج الموضوعي، وهو أمر معروف منذ أفلاطون وأرسطو اللذين تحدثا عن الفرق بين السرد والتمثيل وعن ظاهرة الأصوات فيهما(31).
وفي مشهد من مشاهد القصة نقف على هذه الرؤية النافذة للراوي، عندما يقول عن صفية، ناسجاً كلامها في كلامه "فلتقل له تلك الكلمة الخالدة البليغة.. "أحبك" ولئن كانت العادة أن الرجل هو الذي يبدأ الضرب على هذا الوتر.. فلأن المرأة ضعيفة، وهي لا تعترف بهذا الضعف ولا تحسه في نفسها.(1/165)
إنه رجل، وإنها أيضاً رجلة! أجل إنها رجلة!" فمن الذي يقرر ذلك، بالطبع أنه ليس صفية الأنثى، أياً كانت درجة ثقافتها، بل إنه الراوي الذي ينوب عن المؤلف، إن هذا الأمر يعيد إلى الأذهان الهجوم العنيف الذي شنه سارتر على فرانسوا مورياك، لأنه وضع على لسان "تيريز ديكورو" بطلة رواية (الوالدة) مثل هذه العبارة، بل واخف حدة بكثير عندما يقول الراوي على لسان ديكورو: "سمعت الساعة تدق السادسة.. لا، لأن ذلك ليس من عادات هذه اليائسة الحذرة". وقد تساءل سارتر قائلاً "من يحكم على تيريز هكذا بأنها يائسة حذرة، ليس من الممكن أن تكون هي، كلا أنه السيد مورياك.. ان سجل ديكورو بين أيدينا ونحن نصدر حكمنا.." ويعقب سارتر على هذه الرؤية للراوي، التي تشبه رؤية الخالق، والتي زالت من القص قائلاً "أما بالنسبة إلى نظرة الله التي تخترق المظاهر دون أن تتوقف عندها فلا وجود البتة للرواية... إن الله ليس فناناً، ولا السيد مورياك"(32).
ونعود الآن إلى مسألة التحليل النفسي الذي ذكرناها قبل حين لنقول، إن المنهج في القص يجب ألا يفهم على أنه الحوار حسب، إذ مع الحوار ينعدم التحليل النفسي للشخصيات الذي كان دائماً عامل تفوق الرواية أو القصة على المسرحية، وفي ذلك يقول مؤلف نظرية الأدب "ينبغي ألا نفكر بالمنهج الموضوعي وكأنه يقتصر على الحوار والأخبار عن السلوك، فمثل هذا الاقتصار قد يضع الرواية موضع منافسة مباشرة وغير متساوية مع المسرح، ذلك أن انتصارها كان دائماً يعود إلى تقديم الحياة النفسية التي لا يستطيع المسرح أن يتناولها إلا تناولاً سريعاً"(33).(1/166)
ليس عجيباً أن تعد مجنونان للمسرح وتمثل في طهران عام 1949م كما يذكر مؤلفها(34)، فنحن إزاء قصة، يمكن تحويلها إلى مسرحية وإعدادها للمسرح ببساطة، وبمجرد نزع الوحدات السردية القليلة المحيطة بالحوار. إن مجنونان التي تقوم حبكتها على حبكة درامية شبيهة بحبكة كوميديا الأخطاء في المسرح، وذلك عن طريق سوء الفهم الذي تقع فيه صفية عندما يخبرها صادق شكري المعروف لديها بأنه (صدقي) مخفياً شخصيته الحقيقية، وعلى الرغم من أن شهادة المؤلف على نفسه قد لا تعني أو تضيق شيئاً ذا بال، فليس ثمة أفضل من أن يختتم الباحث هذا البحث بعبارة المؤلف التي افتتح فيها حديثه عن قصته: "كتبت مجنونان في أيام المراهقة الفكرية" وبقولته المتواضعة في نهاية حديثه عنها "لو كتبت القصة الآن، بعد كل فوات الأوان هذا لما كتبتها بنفس طريقة ذلك القاص القليل التجربة" إنه لقليل التجربة حقاً، وأنه لمتواضع كثيراً أيضاً.
(((
( هوامش:
1-انظر: دائرة الإبداع مقدمة في أصول النقد. د. شكري محمد عياد، دار الياس العصرية القاهرة 1986 ص137- وص 159
2-انظر: النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ستانلي هايمن، ترجمة د. إحسان عباس ود. محمد يوسف نجم دار الثقافة- بيروت 1958- حـ 1 ص12
3-انظر: قصصي، عبد الحق فاضل، منشورات دار الثقافة- بغداد 1984 ص60
4-نشأة القصة وتطورها في العراق: عبد الإله محمد، م شفيق- بغداد 1969- ص315.
5-القصص في الأدب العراقي الحديث، عبد القادر حسن أمين، مطبعة المعارف: ص195.
6-نفسه: ص196
7-نشأة القصة وتطورها في العراق ص313
8-نفسه ص315
9-انظر (مجنونان) قصة، ط 1958- ص ص124-130
10-انظر: شرق وغرب، رجولة وأنوثة -جورج طرابيشي. دار الطليعة، بيروت 1977- ص8
11-نشأة القصة وتطورها في العراق، ص313
12-الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث، الجزء الأول: الرواية العربية في العراق، م النعمان - النجف الأشرف 1971 ص ص 267-268(1/167)
13-الرواية في العراق، تطورها وأثر الفكر فيها. د. يوسف عز الدين، معهد البحوث والدراسات العربية 1973 ص222
14-نظرية الأدب، أوستن دارين، رينيه ويلك، ترجمة محيي الدين صبحي. م. خالد الطرابيشي- دمشق 1972- ص278
15-انظر: القصة القصيرة في مصر، دراسة في تأصيل فن أدبي د. شكري محمد عياد -معهد البحوث والدراسات العربية 1967-1968 ص38
16-نفسه ص38
17-الشعرية، تزفيطان طودوروف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال المغرب ص36
18-الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية د. عبد الإله أحمد. دار الحرية للطباعة والنشر 1977 جـ 1- ص348
19-لانسون وماييه: منهج البحث في اللغة والأدب. النقد المنهجي عند العرب، محمد مندور، دار نهضة مصر للطبع والنشر ص396
20-انظر: نظرية الأدب: عدد من الباحثين السوفيت، ترجمة د. جميل نصيف التكريتي- دار الرشيد للنشر- بغداد 1980 ص40
21-انظر the theory of the nowel Ed. Phlilpsteviok -Now york london 1957, p 119.
22-صنعة الرواية: بيرسي لوبوك، ترجمة: عبد الستار جواد، دار الرشيد بغداد 1980 ص69
23-أركان القصة أ. م. فورستر، ترجمة كمال عياد جاد، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع 1960 ص105
24-انظر: نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية ص179- ص185
25-بناء الرواية، ادوين موير، ترجمة إبراهيم الصيرفي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر 1965 ص42
26-صنعة الرواية ص115
27-نفسه: ص115
28-انظر مجنونان (قصة) ص ص 50-53-89-93 على سبيل المثال
29-نفسه ص41
30-بناء الرواية ص56
31-انظر، الجمهورية، لأفلاطون، وكتاب فن الشعر لأرسطو
32-أدباء معاصرون، جان بول سارتر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الاداب ص43
33-نظرية الأدب، أوستن، وويلك ص292
34-انظر. مجنونان ص67
(((
شخصية البطل في
القصة العراقية القصيرة(1/168)
يواجه الناقد أو الباحث في موضوع البطل أو الشخصية في القصة القصيرة مشكلات عديدة، ذلك لأنه يجد نفسه مفتقراً إلى الدراسات النقدية النظرية والتطبيقية في النقد العالمي والنقد العربي، التي تعينه على اقتحام مثل هذا الموضوع، والخروج بنتائج واضحة فيه، على العكس من الشخصية أو البطل في الرواية، الذي يمتلك رصيداً من الدراسات النقدية الأكاديمية وغير الأكاديمية، مما جعل الدراسات الأكاديمية في النقد الأدبي العربي الحديث تتجه وتقتصر على الرواية(1) دون القصة القصيرة(2). وعلى الرغم من أن معظم الدراسات التي تناولت البطل أو الشخصية في الرواية العراقية والعربية. لا تسعف الباحث بأن تزوده بإطار نظري واضح -لكونها تعمد إلى تجزئة العناصر المكونة للنص الأدبي وعزلها عن بعضها- فإن الباحث أو الدارس لهذا الموضوع في الرواية، لا يجد الصعوبة نفسها التي يجدها الناقد أو الدارس له في القصة القصيرة بسبب أن الرواية -التي تعد الفن الأساس في النثر الحديث -هي فن اجتماعي، ليس من الصعب على الباحث فيه- إذا ما كان منهجه اجتماعياً أو سوسيولوجياً- أن يتبين الوشائج التي تشد بنية البطل أو الرواية إلى بنية اجتماعية موازية لها، في مرحلة من مراحل تاريخ المجتمع المعني بدراسة الرواية فيه.(1/169)
على أن الدارس ما إن ينتقل من الرواية إلى القصة القصيرة، سرعان ما يجد نفسه أمام مشكلات وتساؤلات عديدة. تقف في طريق المنهج الاجتماعي أو السوسيولوجي المذكور، حين يجد أن بعض النقاد يقررون أن القصة القصيرة "تبقى بحكم طبيعتها الثابتة بعيدة عن الجماعة ورومانتيكية وفردية ومتابية"(3) وإذا ما تجاوزنا مسألة فردية القصة القصيرة إلى البطل فيها، وجدنا هؤلاء النقاد ينفون عن السرد الحديث، رواية كان أم قصة قصيرة فكرة البطل والبطولة، مشيرين إلى "أن القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، وإنما لها بدلاً من ذلك "مجموعة من الناس المغمورين.. هذه الجماعة المغمورة تغير شخصيتها من كاتب إلى كاتب، ومن جيل إلى جيل، فقد تكون الموظفين العموميين عند جوجول أو الخدم عند ترجنيف، أو العاهرات عند موباسان، أو الأطباء والمدرسين عند تشيكوف أو الريفيين عند شيروود أندرسون، وهي دائماً تبحث عن مخرج"(4).
وإذا ما تركنا آراء النقاد هؤلاء، إلى المدارس أو المناهج النقدية الأكثر حداثة. وجدنا الأمر أشد صعوبة، فالمذاهب النقدية الحديثة كالشكلانية والبنيوية، لا تعد الشخصيات في العمل القصصي ذواتاً أو كيانات سيكولوجية، بل مجرد ممثلين لهم وظائف محددة في البنية السردية، وقد حدد فلاديمير بروب في "مورفولوجية الخرافة" عدد هذه الشخصيات ووظائفها التي تؤديها في الحكاية الروسية العجيبة(5) وتابعه في ذلك الناقد البنيوي جريماس، الذي اختزل الشخصيات السبع إلى ست شخصيات وضعها في ثلاثة متقابلات(6) هي: فاعل -مفعول به+ مرسل- مرسل إليه +مساعد- عائق.
ولا يمكن الإفادة من هذا المنهج في دراسة البطل أو البطولة، إلا في حدود معينة، كما أن الرواية أكثر استجابة له من القصة القصيرة، التي تفتقر في حالات كثيرة -بل في كل الحالات- إلى العديد من هذه الأدوار.(1/170)
ومع أننا نتفق مع العديد من آراء الناقد فرانك أوكونور، حول البطل والبطولة في السرد الحديث، وفي الفروق التي يضعها بين الرواية والقصة القصيرة -ولا سيما ما يخص فردية القاص في القصة القصيرة وكونه فناناً مأزوماً على عكس اجتماعية وشمولية الفنان كاتب الرواية -فإننا نأخذ على الناقد لا تاريخية منهجه، التي تفضي إلى تعميم أحكامه بصدد القصة القصيرة، ذلك أن مسألة البطل والبطولة سواء في الرواية أم القصة القصيرة، هي مسألة متحركة غير ثابتة، تخضع شأنها شأن العناصر الأخرى في البنية القصصية التاريخية التي تنشأ فيها هذه البنية، وإذا كانت الرواية الحديثة، على عكس القصص الديني والملحمي القديم -قد انتهت إلى اللابطولة، ولا سيما في مراحلها الأخيرة، فإن القصة القصيرة لم تكن تفتقر إلى البطل دائماً، كما يشير الناقد، ومن الملاحظ أن آراء الناقد تنطبق على القصة القصيرة الحديثة حسب. وإن البطولة والرؤية والمنظور في العمل السردي القصير يخضع كما أشرنا للوضع الاجتماعي والتاريخي الذي ينشأ فيه العمل، ويمكن أن نلاحظ بهذا الصدد أن كاتب القصة القصيرة، يصبح فناناً اجتماعياً في المراحل التي يشهد فيه مجتمعه انعطافات كبيرة ويكون على وشك التغيير، مما يؤدي إلى اندماج الفنان -الفرد المازوم. في الكلية الجوهرية للأمة، ويتحول هذا الكاتب إلى فنان مأزوم، ويصير إلى الفردية، عندما يعيش هذا المجتمع أزمة شاملة وحادة وينسلخ الفرد الكاتب عن الأمة، بحيث لا تعود القوانين أو الأعراف أو التقاليد أو الأديان التي تحكم فيها هاجساً مهماً من هواجس الكاتب.
ونحن لا نفترض هذا الرأي افتراضاً ولا نطلقه جزافاً: بل لقد توصلنا إليه بعد استقراء ومعاينة، لا للبطل والبطولة في القصة العراقية حسب وإنما للقصة العربية القصيرة، ولبنية هذه القصة بكل عناصرها المكونة لها، والعلاقات التي تقيمها هذه العناصر فيما بينها، وفي مختلف المراحل التاريخية.(1/171)
وإزاء التساؤلات التي طرحناها حتى الآن، والصعوبات التي أشرنا إليها، وتلك التي ستثار خلال هذا البحث، نجد في المنهج السوسيولوجي إطاراً نظرياً ملائماً لدراسة شخصية البطل في القصة العراقية القصيرة، وهو المنهج الذي يقوم على دراسة النص الأدبي في علاقته بالمجتمع وبالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الكاتب، وبرؤية هذه الطبقة للعالم، وإن كان التحليل السوسيولوجي لا يستفيد كل جوانب العمل الفني وأحياناً لا يتوصل حتى إلى ملامسته. إن هذا التحليل ما هو إلا خطوة أولى لا بد منها للوصول إلى العمل الفني، والشيء الأساسي هو العثور على الطريق التي من خلالها عبر الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه عبر الحساسية الفردية للمبدع داخل العمل الأدبي أو الفني الذي نحن بصدد دراسته"(7) كما يقول لوسيان غولدمان.
يعد البطل من أكثر العناصر أو الوحدات أهمية في بناء القصة، ذلك أن "الشخصية البشرية هي الموضوع المركزي والمهم مبدئياً للفن، وحتى في الحكاية، حيث يعتبر الموضوع الصفة الاستيتيكية الأساسية، فإن الصياغة النهائية للصنف الأدبي ترتبط بصياغة البطل(8)، ولكن بالرغم من ذلك فإن هذا العنصر في البنية القصصية، لا تكتمل دراسته إلا بدراسة الوحدات والعناصر المركزية الأخرى في هذه البنية، كما أن دراسة هذه البنية ككل لا يتحقق إلا بدراسة الجوانب الفكرية والجمالية والبيوغرافية فيها، بالرغم من أن الجانب الأخير، من الصعوبة بمكان التوفر على دراسته. بسبب العدد الكبير من القصاصين ومن القصص التي تجري الإشارة إليها في هذا البحث.
وبغية استكمال التحليل السوسيولوجي للبطل وصورته في القصة العراقية القصيرة، ينبغي الانطلاق من السؤال الثاني وهو من هو الكاتب، وإلى أي طبقة اجتماعية ينتمي وما هي الطبقات الاجتماعية التي يخاطبها ويتوجه إلى وجداناتها؟(1/172)
لقد نشأت القصة العراقية في مرحلة حديثة نسبياً، تحت تأثير التيارات الفكرية والثقافية التي بدأت تطرق أبواب المجتمع العراقي منذ نهاية القرن التاسع عشر تلك التيارات التي عملت الصحافة والأدب التركيان على تعريف العراقيين بها، كما أسهمت الصحافة المصرية التي كانت تصل إلى القطر، في بدايات القرن العشرين في إيصال هذه الثقافات إلى المجتمع العراقي. وغالباً ما يشار إلى الانقلاب الدستوري في الدولة العثمانية عام 1908م على أنه بداية النهضة أو اليقظة الفكرية الحديثة في المجتمع العراقي، ويستشهد مؤرخو الأدب الذين يجعلون من هذا التاريخ بداية للنهضة الفكرية الحديثة، بالنشاط الثقافي الواسع الذي أعقب إعلان الدستور العثماني(9)، ولكنهم يتجاهلون العوامل أو العامل الرئيس وغير المباشر في هذه النهضة، وهو نهوض طبقة تجارية جديدة في المجتمع العراقي، هي التي تصدت لقيادة الحركة أو النهضة الثقافية الحديثة في هذا المجتمع، وقد كان لدخول الرأسمال الأوربي إلى العراق والخليج العربي منذ القرن السابع، وتفتيت الملكيات الاقطاعية الكبيرة الذي أعقب الاحتلال العسكري الثالث للعراق، فضلاً عن اصلاحات مدحت باشا- كان لكل ذلك أثره في قيام هذه الطبقة الجديدة التي استطاعت أن تقيم أشكالاً تنظيمية ذات صفة طبقية واضحة، وأن تؤدي دوراً ملموساً في الحركة الدستورية التي قادت إلى اعلان الدستور العثماني عام 1908، التي أحاطت بالسلطان عبد الحميد، وأن تسهم بقسط وافر في الثورة العربية إبان الحرب الأولى، وأن تنبري لقيادة ثورة "العشرين" الوطنية، وصياغة أهدافها العامة. وأن تنشط في الدعوة إلى التعليم والتصنيع وإلى تحرير المرأة(10).(1/173)
لقد أدى هذا النشاط إلى خلق طبقة من القراء، كما أدى إلى نشوء الطباعة والصحافة، وقد تضافر كل ذلك، مع المؤثرات الثقافية والفكرية الغربية الحديثة ليسهم في نشوء أجناس وأشكال أدبية جديدة، لم يكن يعرفها الأدب العربي القديم. كالقصة والمقالة والمسرحية، وإن كانت بعض هذه الأجناس غير مقطوعة الصلة بالتراث العربي القديم، ولا سيما بفن "المقامة". وينتمي القاص والكاتب العراقي إلى الشرائح المثقفة والفقيرة من هذه الطبقة، التي حملت لواء الدعوة إلى التجديد في الأدب العربي، وخلق أشكال وأجناس أدبية جديدة، شبيهة بتلك الأشكال والأجناس التي عرفها أدب الغرب(11). وكان من الطبيعي أن يتوجه الكاتب في هذه المرحلة إلى جماهير القراء من هذه الطبقة، في مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية ارتفاعاً عالياً، وتقتصر معرفة القراءة والكتابة على أبناء هذه الطبقة نفسها.
من جهة أخرى فإن طبقة العمال، هي الأخرى، قد بدأت تتكون حول الصناعة النفطية وفي المشاريع سكك الحديد وفي ميناء البصرة، الذي قاد عماله أول اضراب عمالي في العراق عام 1918م.(12)
لقد تزامن ظهور القصة العراقية الحديثة مع ثورة العشرين الوطنية، ولقد وجد القاص والكاتب العراقي آنذاك، في وضع فرض عليه الاندماج في المؤسسة الاجتماعية، مولياً هذه المؤسسة ومشاغلها اهتمامه الأول، ناسياً في خضم ذلك همومه الذاتية، ولم تكن الكتابة آنذاك لتنفصل عن أشكال الكفاح والنضال من أجل الاستقلال والتغيير الاجتماعي، بل إن بعض القصاصين والكتاب، مثل محمود السيد، الذي يعد رائد القصة في العراق، والكاتب حسين الرحالّ كانوا في طليعة من أقدموا على تكوين تجمعات سياسية وطنية، وإنشاء صحافة وطنية تتولى نشر الأفكار والقيم الجديدة بين القراء، وكان لهم ما أرادوا حين صدرت أول جريدة عراقية تهتم بقضايا الفكر والمجتمع عام 1924م، فاتحة بذلك باباً جديداً(13) وتلك هي صحيفة "الصحيفة".(1/174)
لقد وجد القاص نفسه، إزاء عقد غير مكتوب بينه وبين المجتمع، أو أمام ما أسماه بعض النقاد بـ الوظيفية" كأول مقوم من مقومات استراتيجية الكتابة، وهي لا تكاد تميز أو تمسح إلا بفروق ضئيلة من حيث خصائص التعبير بين المواضيع والأغراض والأنواع"(14). وباستثناء بعض المحاولات القصصية في الثلاثينات، فقد استمر هذا الوضع طوال الأربعينات وحتى مرحلة الحداثة في القصة العراقية التي بدأت في الخمسينات من هذا القرن، وطوال العقود الثلاثة، كانت القصة تقترب لدى الكثير من القصاصين من فن المقالة، بل إن بداية نشوء السرد القصصي في العراق كانت تفتقر إلى التمييز الدقيق بين هذا السرد وبين فن المسرحية، وقد اتضح هذا الخلط في محاولة سليمان فيضي الموسومة بـ الرواية الإيقاظية 1919م". كان على القارئ العراقي أن ينتظر بداية العقد الخامس من هذا القرن، لكي يتغير منظور الكتابة السردية، ولكي تتغير العلاقات القائمة بين الوحدات المكونة لهذا السرد، ولكي يصبح هذا السرد أو القص سرداً، لنفوس مأزومة، وأفراد مأزومين، ينتمون إلى الطبقة المتوسطة أحياناً وإلى قاع المجتمع في كثير من الأحيان.
على أن ذلك لم يمنع من ظهور تيار ذاتي واسع في القصة العراقية، استمر إلى مرحلة ما بعد الحرب الثانية، وهو التيار الرومانسي، الذي نشأ تحت تأثير القصص الرومانسية المترجمة، وكتابات المنفلوطي وجبران الرومانسية، بالرغم من أن هذا التيار يلتقي مع التيار الوظيفي الاجتماعي في النزوع إلى "التلقين" والوعظ ويتجاهل الفروق الفنية بين المقالة أو السرد القصصي.(1/175)
وعلى الرغم من أن رائد القصة العراقية، محمود أحمد السيد بدأ رومانسياً، وإن كتاباته السردية الأولى (في سبيل الزواج- مصير الضعفاء- النكبات) لم تكن تخرج عن الاطار الرومانسي، المشبع بالموروث الحكائي الشعبي العربي، فإنه استطاع في مرحلة تالية أن يطور أدواته ومفاهيمه الفنية بحيث قاده ذلك- وتحت تأثير قراءاته المستمرة للقصة من خلال الأدب التركي- إلى محاولات جديدة للتنميط والنمذجة، والموازنة بين الموضوع والشخصية في سرده القصصي، ولقد كتب بعد عام من نشره روايته القصيرة" جلال خالد 1928"، مشيراً إلى هذا الفهم الجديد للفن القصصي: "كنت أقصد بكتابة هذه القصة الموجزة... إلى دراسة نفسية شاب عراقي، في العشرين من عمره، من هذا الشباب المتحمس الذي ظهر بعد الحرب الكبرى وحدوث الثورة في الحجاز، يتطلب الاستقلال للبلاد العربية، وإعادة المجد القديم(15). ولكن هذا لا يعني أن السيد قد وفق في ذلك إذ على الرغم من أنه حاول تصوير تجربته الذاتية في هذه الرواية، فإن السيد لم يوفق في نقل الكتابة القصصية من مجرد عملية استنساخ للمجتمع ولما هو خارجي إلى كتابة قصصية إبداعية تضع قوانين الإبداع الفني في المقام الأول، فقد كانت العناصر التحليلية وما يحيط بها من وقائع مفتعلة إلى حد كبير. إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن السيد قد خطا خطوة جديدة إلى أمام على طريق بناء النموذج- لا سيما وأنه استطاع أن يخلق شخصية مركبة تجمع بين سيرته الذاتية، وبين سيرة صديق حسين الرحال، وكانا كلاهما، قد سافرا إلى الهند، وأقاما فيها، واتصلا بالزعيم الهندي الوطني سوامي"(16) وتعلما منه الكثير من الأفكار الاجتماعية الجديدة، التي حفلت بها رواية "جلال خالد".(1/176)
وفي مقدمته لمجموعته القصصية "في ساع من الزمن 1935" يشير السيد إلى هذا الفهم الجديد للفن القصصي ولعملية بناء النموذج، وإلى أن السرد القصصي لا ينقل الواقع نقلاً حرفياً، بل يعيد تركيب هذا الواقع، وإن الشخصية القصصية في القصة لا تطابق الشخصية في الواقع، بل يتم تركيبها من جزئيات الواقع؛ فقد جاء في هذا التقديم قول القاص: "ليس في هذه الصور المختارة... ما هو واقع من أوله إلى آخره، بهذا التسلسل المنطقي والاطراد المعروضين في حوادثها، وليس في هؤلاء الأشخاص الذي يظهرون فيها من عاش بالاسم الذي أسميته، وفي المحل الذي أحللته فيه، وحي الحياة التي ألبستها واستقرت له عناصرها وأسبابها، على أن الأجزاء التي تآلفت منها كل صورة منها لم تقتبس إلا من حياتنا الواقعة(17)... الخ وعلى الرغم من المصطلح الذي استخدمه القاص هو "الصورة" بديلاً للقصة، وما يوحي به من امكانية أو احتمال نقل الواقع نقلاً فوتغرافياً، فإن بعض النماذج أو الشخصيات التي صورها القاص تشهد على هذه النقلة في أدوات القاص ومنظوره ورؤياه، ففي واحدة من أفضل قصص المجموعة هي قصة "بداي الفايز" استطاع القاص أن يصوغ شخصية ذات ملامح اجتماعية وفكرية جديدة وأن يضع في هذا النموذج، شيئاً من الاستثناء، يمايز بينه وبين الواقع، فـ (بداي) لا يثأر لأخيه بأن يقتل غريمه (جسام)، بعد أن عيّره رئيس عشيرته وذكره بمقتل أخيه على يديه، بل يعيد غمد خنجره بعد أن استله لقتل جسام، حين رأى ما يحيق من خطر بأطفاله، ويهرع وقد لثم وجهه إلى حمل طفليه وانقاذهما من الموت غرقاً، ليفصح له بعد انقاذهما عن شخصيته قائلاً:(1/177)
اذهب الآن!... مع السلامة.. خلصت.. ولكن لا تنس أن لك ساعة أخرى" أن هذه القصة، لا تستنسخ الواقع، بل تنقده وتتخطاه، بما تقترحه من تغيير اجتماعي، وربما استطعنا بسبب ذلك، وبسبب ما تلهمه وما تشير إليه من اتجاه ثوري واضح، أن نعدها فاتحة "الواقعية الجديدة" في الأدب العربي الحديث في العراق، وأن نؤرخ بها لظهور هذه المدرسة فيه.
لقد شهدت الثلاثينات نوعاً من التغيير في العلاقة بين القاص والمجتمع أو المؤسسة الاجتماعية، ولم يكن السيد هو الوحيد الذي كان يجهد من أجل تطوير أدواته القصصية ووضع السرد القصصي على طريق الحداثة، فقد تهيأ للقصة العراقية في هذا العقد عدد من القصاصين الذين مثلوا تياراً جديداً في هذه القصة، دعاه بعض الدارسين بـ "الاتجاه الفردي الذاتي" وعده تباشير تيار جديد في القصة العراقية، استأثر باهتمام عدد غير قليل من كتاب القصة بعد الحرب"(18).(1/178)
لقد كانت الثلاثينات مرحلة هدوء نسبي قياساً للعشرينات.. التي شهدت الثورة العراقية على المحتلين الإنكليز. وقبلها الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، وللأربعينات التي أذكت فيها الحرب العالمية الثانية روح الكفاح والنضال الوطني ضد المستعمر- بالرغم من أن الثلاثينات شهدت ظهور العديد من التنظيمات والتجمعات السياسية الوطنية(19). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن هذه المرحلة هي مرحلة اكتشاف القاص العراقي للقصة الروسية وما فيها من نزعة تحليلية(20)، ولا سيما كتابات تولستوي التي اطلع معظم القصاصين العراقيين عليها من خلال الأدب والصحافة التركية، بحيث أن السيد راح يعرض للقراء قصته المعروفة "البعث" ويدعو في مقالاته إلى نقل وتحليل وتلخيص نماذج من القصص الشرقية الروسية والتركية الصينية واليابانية، وقد فعل هو ما دعا الأدباء إليه فعرض على القراء بواسطة النقل والتلخيص والتحليل نماذج مما رأى تقديمه إلى بيئتنا من الأدب الروسي الذي بهر به، والأدب التركي الذي هزه فيه نزوعه إلى الحرية"(21).(1/179)
لقد تحولت القصة إلى سرد لمشاعر شخصيات وأبطال مأزومين بفعل الواقع الاجتماعي والثقافي، أو بفعل قوانين كونية، كما هو الأمر في قصة "يوسف متي" "سخرية الموت" التي تحكي الأزمة النفسية والصراع النفسي المرير لدى رجل، كاد أن يزهق روح طفله المريض الذي لا أمل في شفائه، حتى إذا دنا منه ولمس جبينه وجده جثة هامدة. لقد كان التيار التحليلي يولد في القصة العراقية القصيرة على يد كل من "يوسف متي" وعبد الوهاب الأمين- الذي أسهمت ترجماته في القصة في نشوء مثل هذا التيار إلى جانب كتاباته القصصية القليلة- تحت تأثير القصة الغربية الحديثة، ولا سيما الروسية منها، في نفس الوقت الذي كانت فيه ملامح تيار آخر تنضح في جهود قاص آخر هو "يوسف مكمل"(23)، تيار يقوم على الوصف الخارجي المباشر، ويلتقي هذان التياران في هدفهما الفني، وهو إبعاد شخصية القاص عن عمله القصصي، والقضاء على نزعة "التلقين" والوعظ التي عرفت بها القصة العراقية، حتى منتصف الثلاثينات.
لقد تغيرت ملامح وسمات البطل على يد كتاب الثلاثينات، فلم يعد نمطاً عاماً يقترحه الوضع الاجتماعي، ولا مجرد شاهد على هذا الوضع الذي تتبع موضوعات الكاتب منه- ولا تعيين له. بل أصبح الوحدة المركزية والمحورية في القص، ولم يكن هذا التحول ليتم بمعزل عن التحول العام في فن القاص، وفي منظوره وموضوعه ورؤيته.(1/180)
على أننا يجب ألا نبالغ في حجم وقيمة هذا التحول، ذلك أن الجهود الفنية الحديثة في الثلاثينات. كانت قليلة ومبعثرة، بحيث أن أحداً من هؤلاء القصاصين الجدد لم يجمع قصصه في مجموعة قصصية، باستثناء "عبد الوهاب الأمين" أما "يوسف متي" فإن قصصه لم تطبع في مجموعة قصصية إلا بعد موته(23) لقد كان على القارئ أن ينتظر حتى ما بعد الحرب الثانية لكي تثمر هذه البذور البسيطة، وليصبح الخط الفاصل بين الموضوعات والطرائق القديمة في القص، والطرائق الحديثة واضحاً، وإن لم يكن هذا الخط يشكل قطيعة نهائية مع الماضي، بل تعديلاً له، لصالح عملية الإبداع الفني، وعلى حساب استراتيجية القص الرئيسة التي دعوناها بـ "الوظيفية" متأثرين بخطى نقاد آخرين في ذلك.(1/181)
لقد ظل الاتجاه الذي يقوم على نسخ الواقع الاجتماعي، هو المهيمن على الكتابة القصصية طوال الثلاثينات والأربعينات، وبالرغم من أن ذو النون أيوب- وهو أبرز القصاصين في هذه المرحلة وأكثرهم انتاجاً- اشتق بعض أسماء مجموعاته القصصية من شخصيات هذه القصص وأبطالها، فإن الموضوع الشخصية البشرية. هو الوحدة المهيمنة على القص لديه، وباستثناء ما عده التكرلي فلتات عارضة منه(23) (ولعله يعني قصة الجريمة والعقاب) -فإن ذو النون كان يختار موضوعاً لقصصه ثم يضع شخصية فيه، لا العكس. وحسب أيوب، لكي يصدر أو يرسم صورة للفساد الإداري والسياسي في جهاز التعليم، أن يخلق أو يحكي حادثة عن مدرس رشح ليشغل منصباً عالياً جزاء لتفانيه في عمله واخلاصه فيه، لا يلبث أن يكتشف أن غيره حل في هذا المنصب، ويعرف من "البيك المثقف" بطل القصة أن ضغوط مسؤول كبير كانت وراء هذا التغير. فالقاص يزيح شخصية المدرس عن البطولة ليتسنمها "البيك" وهو ما لا يكلف القاص أن يجهد فنياً في تحليل الأزمة النفسية ومشاعر الاحباط لدى البطل الجدير بتسنم مرتبة البطولة(23) ومع أن القاص يشير إلى بقايا القيم الأصلية التي تتصارع والقيم المتدهورة في نفس البطل، فإنه يمر على هذا الصراع مروراً سريعاً، بحيث تبدو الشخصية وحدة ثانوية وهامشية إلى جانب الموضوع الذي يصبح الوحدة المركزية المهيمنة في القص. هذا فضلاً عن التلقين والوعظ الأخلاقي لدى القاص، وتجاهله لخصائص الجنس القصصي الذي يكتب فيه، وللفروق بينه وبين حس آخر هو فن المقالة، وليس عجيباً أن يطلق القاص "عبد الملك نوري" على القصة لدى أيوب مصطلح "المقاصة" قائلاً أن "ذو النون أيوب يسرد الواقع في أقاصيصه سرداً سطحياً وهو لا يتعمق وراء ظواهر الواقع، ولا يغور إلى الحس الإنساني المشترك". ومن هنا كانت شخوصه، كما وصفها الأستاذ عبد القادر حسن أمين، وتابعه في ذلك د.(1/182)
عمر الطالب، "دمى" صاغها الكاتب لتحقيق هدف أو فكرة معينة"(26).
وبالرغم من أن السرد القصصي في العراق، شهد تطوراً ملحوظاً في مرحلة ما بعد الحرب الثانية، وفي نهاية الأربعينات، ولا سيما على يد شاكر خصباك في مجموعته "صراع"، ثم "عهد جديد"، وشالوم درويش في مجموعته "بعض الناس" وظهر التغيير في شخصيات القصة التي صار القاص يتعامل معها، باعتبارها كائنات إنسانية في الدرجة الأولى، لا مجرد شواهد وتعينات أو تجسيدات لواقع اجتماعي حسب، على الرغم من ذلك فإن رياح التغيير التي أحدثت انعطافاً كبيراً في مجرى القصة العراقية.(1/183)
وفي كل الوحدات الأساسية المكونة للبنية القصصية، كانت قد هبت في الخمسينات، ولقد عزا معظم النقاد والدارسين هذا التغيير الكبير، أو ما دعي بنزعة الحداثة" إلى جهود عبد الملك نوري القصصية، وإلى جهود فؤاد التكرلي من بعده، إلا أننا، خلافاً لهذا الرأي(27)، نعتقد بأن جهود قاص آخر، هو "نزار سليم" في مجموعته "أشياء تافهة" كان لها هي الأخرى دورها الكبير في وضع القصة العراقية على طريق الحداثة، فلأول مرة، يبحث القاص عن موضوعات لقصصه في ما هو مألوف وتافه، ولم يعد بطل القصة مشغولاً بهاجس اجتماعي أو سياسي كبير، بل أصبح هذا البطل يتكشف، وتتكشف أبعاده السيكولوجية والاجتماعية من خلال الأشياء المغرقة في عاديتها؛ كالفأر في قصة "الفأر" التي تشغل بطلها حركة فأر في غرفته، وجد فيه شبهاً بالفتاة التي بدأ يقيم معها علاقة حب، أو عقب السيكارة وهو يخترق ليطل منها البطل على تجربة كاملة وقعت في الماضي في قصة "عقب سيجارة" أو الأرق والتفكير بالربح وبتغيير الوضع الاجتماعي، الذي يأمل بطل القصة تحقيقه من خلال بطاقة نصيب في قصة "نصيب". لقد تغيرت إذن الرؤيا والمنظور والموضوع ولم يعد القاص يكرس نفسه لقضية اجتماعية أو سياسية، يحشو بها رأس القارئ بطريقة وعظية تلقينية مملة، ولم يعد القاص ملحقاً بالمؤسسة الاجتماعية؛ فلقد تقدمت الشخصية إلى مقدمة الصورة، وتراجع الموضوع إلى خلفيتها، وما عاد الوضع الاجتماعي ليشكل سوى اطار لهذه الصورة، ولم يكن هذا التحول في القصة وفي العلاقة بين وحدتها الأساسية يسيراً، فلقد تحولت الرؤيا والمنظور والموضوع والحدث والشخصية، ونتيجة لهذا التحول الكبير والخطير أصبحت الشخصية القصصية وأزماتها وصراعاتها النفسية الوحدة الأساسية في البنية القصصية.(1/184)
وقد تضافرت جهود فنية متعددة في هذه المرحلة من أجل أن تضع القصة على طريق الحداثة، وقد استطاع القاص العراقي في الخمسينات، أن يحقق درجة عالية من التوازن بين حاجات التغيير الاجتماعي وبين النضج الداخلي للعمل القصصي وأدواته"(28) ولقد كان هذا التوازن وهذا النضج هدفين وضعهما القاص عبد الملك نوري نصب عينيه: لقد كانت القضايا الجمالية هاجساً رئيساً لدى عبد الملك، وكان يحاول أن يجسد في قصصه التركيب المفقود بين الكتابة الإبداعية وحاجات المجتمع والتغيير الاجتماعي و "كان يعيش تناقضاً بين أفكاره عن الإنسانية الاشتراكية، وبين الأدب الذي يجب أن ينتج لخدمتهما، والذي يرى أنه لا يمكن تقنيته بسهولة"(29) على حد تعبير القاص فؤاد التكرلي، وهكذا كانت القصص الأولى التي نشرها عبد الملك و لاسيما قصة (جيف معطرة) التي نشرها عام 1949 تبدو -والقول للتكرلي -وكأنها نيزك أضاء بشدة سماءها السوداء(30) هذا في وقت كان أيوب ورفاقه ما زالوا منكبين على قرع طبول القصص الاجتماعية الساذجة، كما يقول التكرلي أيضاً، لقد كانت جهود نوري الفنية منصبة على تصوير الشخصية البشرية من الداخل، مستعيناً بأحدث التقنيات الفنية آنذاك، وكان نوري ينزل الشخصية من عليائها، تماماً كما كان سليم ينزل الموضوع والحدث من عليائه: فلقد اهتم بالشخصيات الصغيرة المضطهدة والمشوهة والمريضة، وراح يعمل مبضعه في تشريح هذه الشخصيات التي كان يختارها من قاع المجتمع، ويرينا العالم من خلالها، فالإنسان لم يكن لدى نوري كـ(شيء في العالم) كما يرى التكرلي الذي يتحفط بعض الشيء في هذا الرأي(31) إلا أن التناقض الذي لم يستطع حله نوري، هو أن العالم الداخلي لأبطاله لم يكن على تلك الصلة المتحركة بالعالم الخارجي، ولعل هذا الأمر هو الذي أراد أن يقوله ولم يوفق في قوله، هو الذي وفق في أن يجعل العالم الداخلي لشخصياته، وحركة النفس أو الذهن لديها، استجابة سيكولوجية لمنبهات(1/185)
خارجية وبكلمة؛ فإن فهم التكرلي للعلاقة بين الإنسان والعالم الخارجي، يتسم بأنه فهم مادي، على حين أن فهم عبد الملك نوري لهذه العلاقة يتسم بالمثالية، وأنه لأمر غريب حقاً أن يكون نوري مثالياً وهو الذي جهد لكي يضع مضامينه الاجتماعية الثورية في شكل فني ناضج ومتقدم، وأن يكون التكرلي، وهو أبعد ما يكون عن الموضوعات الاجتماعية، مادياً في فهمه لعلاقة الإنسان بالعالم، وقد وضع الناقد عبد القادر حسن أمين يده على شيء من ذلك عندما أشار إلى أن ما يصدم القارئ في "نشيد الأرض" لأول وهلة قلة الحركة، فالأبطال فيه جامدون يعيشون في عالم اللاوعي، يطلقون لخيالهم العنان يسبح في عوالم بعيدة أو قريبة الخ.."(33).(1/186)
إن هذا التحول من العالم الخارجي، إلى الشخصية القصصية، من الخارج إلى الداخل ومن الاستنساخ إلى الإبداع، لم يكن ليتم بدون مؤثرات ثقافية وفنية خارجية، فضلاً عن التراكم المعرفي لدى القاص العراقي، وغالباً ما يشار إلى جيمس جويس ودستويفسكي وسارتر وكامو، على أنهم أساتذة الفن القصصي لدى نوري، لكن الحقيقة التي ينبغي الإشارة إليها، أن نوري نفسه قد أبدى إعجابه بدستويفسكي، وقد كتب لصديقه التكرلي متسائلاً: أي نبّي هذا المعتوه كان، أحقاً تحس في شخصياته شيئاً من روح الأنبياء، أنهم أبطال نقائص وعاهات وجرائم، وأبطال حقيقيون". لقد كانت الثلاثينات بدء اكتشاف القاص العراقي للقصة الروسية ولتولستوي بصورة خاصة، أما الخمسينات، فقد كانت مرحلة اكتشاف دستويفسكي وفي الوقت الذي كان فيه نوري يحاول أن يقدم أبطالاً شبيهين بأبطال دستويفسكي "أبطال نقائص وعاهات" كان بعض النقاد مثل نهاد التكرلي، يعكفون على كتابة مقالات صحفية يعرضون فيها ويحللون شخصيات دستويفسكي، وبالرغم من أن نوري استعار بعض أدواته من جويس وكامو وسارتر، فإن عالمه هو عالم دستويفسكي، وهو عالم ينصب فيه الاهتمام بدرجة رئيسة، على الشخصية البشرية، ولم يكن التكرلي، بالرغم من كل ما أضافه إلى جهود عبد الملك، ليخرج عن هذا العالم.
لقد واصل التكرلي الطريق الذي بدأها سلفه نوري، وقد أتاح استقلال القاص الفكري، له أن يخلق انعطافاً حاداً في فنية القصة بما أحدثه من تغيير في الرؤيا والمنظور، فلقد انتصر التكرلي- الذي عاب على نوري أن تكون شخصياته كأشياء في العالم مع بعض التناقضات حسب عبارته- انتصر للشخصية على العالم، منضوياً تحت لواء قصص عالمي أهم أعلامه دستويفسكي وسارتر وكامو وكافكا(33).(1/187)
ولكي يكشف عن هذه الشخصيات وعن العالم فيها وخارجها راح في قصصه ينمي الصراع بينها وبين هذا العالم منتهياً به إلى الذروة التي تتكشف فيها بطولة الإنسان وهو يصارع قوانين اجتماعية وكونية جبارة، كان الإنسان عند نوري يخضع لها ويتحطم تحت وطأتها بسرعة. أما عند التكرلي، فهو يكسر ويتحطم تحت وطأة هذه القوى الجبارة، ولكن بعد صراع بطولي عنيف، ولذا قيل عن الإنسان في أدب التكرلي، إنه مركبة آلام قد يضيع في خضمها الهدف"(34) كما قيل أيضاً إن فن التكرلي ينصب على الإنسان أكثر مما ينصب على غيره(35). على أن هذا لا يعني أن فن التكرلي كان يتنكر للمجتمع وللقضايا الاجتماعية، وصحيح أن قصص التكرلي هي من نمط قصص الشخصيات، قبل أن تكون قصص الواقع اليومي أو الهم الاجتماعي، أو همّ القضية السياسية" إلا أن التكرلي وفق أكثر مما وفق أي قاص آخر في إيجاد نمط من التركيب بين الاجتماعي والفردي، والخارجي والداخلي وبين الوظيفية أو فعل الاستنساخ والإبداع الفني، فلقد أفاد من النهج التحليلي لتقديم قصة فنية جديدة، ذات مستويات عديدة، قصة لا تسفر عن دلالة اجتماعية أو سياسية بصورة مباشرة، ولكنها تشير بالضرورة إلى هذه الدلالة، فضلاً عن المستوى الإنساني العام، ويشير أحد النقاد إلى هذه المستويات، وهو بصدد الحديث عن فن التكرلي وعن قصة "موعد النار" إلى أن القصة "تتراوح بين مستويين: ظاهري قائم بنفسه قد يقتنع به الكاتب الاجتماعي وخفي بعيد يرتفع به الخط الرئيسي للأحداث إلى مستوى التعبير عن تجربة بشرية معمقة تضغط وتكثف في (لقطه) وتتسع لتصبح الكاظمية والجرح والنار وعبور النهر رموزاً إنسانية كبيرة.(1/188)
ويضيف الناقد إلى ذلك قوله إن القاص حقق "في قصصه القليلة ركني الأدب العظيم: الموسيقى الفكرية المنبعثة من أغوار بعيدة، وتمام اتقان الصنعة القصصية"(37) وإلى جانب التيار الذي يمثله كل من عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي.كان ثمة تيار آخر يعد استمراراً للتيار الوظيفي- إذا صحت التسمية- وقد استطاع كتاب هذا التيار أن يحققوا شيئاً مما حققه نوري والتكرلي، وإن ظل الهاجس الاجتماعي والسياسي، أساسياً في أعمالهم القصصية، كما ظل الموضوع هو الموضوع الاجتماعي والاتجاه هو الاتجاه الواقعي، ويمثل هذا التيار كل من غائب طعمة فرمان، وعبد الرزاق الشيخ علي، ومهدي عيسى الصقر وغيرهم.
وقد أعقب جيل الخمسينات جيل آخر دعاه بعض الدارسين بـ الجيل الضائع، ويضم كلاً من نزار عباس- وهو أكثرهم انتاجاً- وجاسم الجوي، وجيان، وكان هؤلاء الكتاب يترسمون خطى نوري والتكرلي فيما يكتبون، ولكنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا الكثير إلى ما حققه الكاتبان المذكوران.
كانت الستينات بمثابة القطيعة النهائية مع الموروث القصصي العراقي الحديث، والتحول بصورة نهائية نحو الذات. وانحلت كل الأواصر بين الكاتب والمجتمع، لتصبح القصة "بيوغرافيا" الكاتب نفسه، لقد نشأ جيل الستينات في ظروف سياسية غاية في التعقيد، أسهمت في تعقيد إحساسه بالاحباط والهزيمة والخيبة، مما دفعه إلى مراجعة الكثير من القيم والمسلمات والتمرد عليها، بحثاً عن قيم وآفاق وتجارب جديدة ورغم أن تجربة قصاصي الستينات لا يمكن أن تحصر ضمن سمة واحدة، فإن المسار الرئيسي لهذه التجربة اتسم بهيمنة الهم الفردي خلافاً للجيل السابق الذي كان يهيمن عليه الهم الجماعي".(1/189)
ولقد دفعت هذه الظروف المحلية بالقاص، إلى الاستجابة لمؤثرات فكرية وفنية معينة، دفعته إلى الايغال في التجريب والذاتية واستخدام المفردة الشعرية المنغومة، واستحالت القصة لدى بعض القصاصين إلى مجرد مناجاة نفسية طويلة، لقد حلت شخصية القاص نفسه، وسيرته الخاصة محل الشخصيات البسيطة والمسحوقة التي كان يختارها القاص من بين الشرائح البرجوازية، ومن الطبقات الشعبية المسحوقة. وهيمنت مشكلات المثقف البرجوازي الصغير بصورة نهائية على القص؛ لقد تحولت القصة إلى "... مأساة المثقف البرجوازي المسجون في ذاته... إلى سرد شخصي ومشاهدات جبرية للحياة التي يعيشها مثقف منعزل وأصبح الوعي الطبقي المسلط على العلاقات الاجتماعية وعياً ميتافيزيقياً مسلطاً على الدوافع الداخلية للبطل(39).
لقد نشأت الشخصية السلبية في القصة العراقية، وأصبحت موضوعات الجنس والهجرة والسكر، هي الموضوعات الأثيرة لدى الكاتب، يطرحها حلولاً لأزمة بطله البرجوازي المهزوم، على الرغم من أن لغة القص وأدواته تحولت هي الأخرى، باتجاه شخصية البطل في القصة. واتحد صوت الراوي بصوت الشخصية عبر المفردة والعبارة الشعرية واقتربت القصة من القصيدة الغنائية إلى حد بعيد، على الرغم من ذلك إن شخصيات القاص "الغيرية" لدى بعض القصاصين تشيأت وأصبحت أشياء لاذوات إنسانية، تستوي والسكر والرحلة؛ ولا سيما الشخصية النسوية، التي باتت تصور على أنها موضوع جنسي بحت ويعد أدب عبد الرحمن الربيعي أنموذجاً لهذا القص الجديد(40) لقد انتهت عملية التركيب بين الذات والمجتمع، الأنا والأخر، الاستنساخ والإبداع الفني - التي توصل إليه القاص في الخمسينات، وتغيرات المعادلة لصالح الذاتي والجمالي على حساب الموضوعي والاجتماعي.(1/190)
وفي الوقت الذي طغى فيه التجريب والشكلية وارتفع صوت الذات وحلت العناصر السيرية للكاتب محل العناصر الموضوعية الخارجية، لدى معظم قصاصي هذا الجيل مثل جليل القيسي وعبد الرحمن الربيعي وجمعة اللامي وموسى كريدي وأحمد خلف وعائد خصباك وعبد الستار ناصر، في الوقت نفسه كان عدد محدود من القصاصين يحاولون تطوير أفضل ما ورثوه من قصص الخمسينات، مثل غازي العبادي، وموفق خضر، ويوسف الحيدري، وخضير عبد الأمير وفهد الأسدي، وقد توج هذا الاتجاه في القصة بظهور قاص عراقي كبير هو محمد خضير.
لقد تلقف محمد خضير ما بدأه "سركون بولص" الذي كان يمثل تياراً مضاداً للتيار التحليلي، هو تيار الوصف الخارجي المباشر. وعلى العكس من أبناء جيله راح محمد خضير بما يمتلكه من معرفة واسعة وعريضة يطور أسلوباً جديداً يقوم على الجمع بين الواقعي والمدهش. مستخدماً الموروث الشعبي والفانتاز، ليصور شخصياته التي تعد امتداداً للشخصية القصصية في الخمسينات؛ معيداً إلى القصة العراقية القصيرة ذلك التركيب الذي توصلت إليه في الخمسينات.(1/191)
كان أبطاله من الجنود والباعة، وأبناء الفلاحين والعمال والعاملات في المدن، وعلى غرار القصة التي كتبها التكرلي، وكان الهم الاجتماعي المباشر يختفي في قصصه لتبرز الهموم الإنسانية الكبرى، وكان توق الإنسان إلى الطمأنينة والاستقرار، وإلى السعادة المفقودة والمنتظرة، هي ما يشغل بال شخصيات القاص التي تحلم باستمرار في تحقيق كل ذلك، وسط واقع يضغط عليهم بقسوة ووحشية، لقد أفاد القاص محمد خضير من السرد السينمي في إثراء أسلوبه الخاص، واستطاع أن يقتنص ما في الوجه الإنساني من سحر، على نحو لم يوفق فيه إلا كبار مخرجي السينما مثل "جريفت وايز نشتاين"(41) وبعيداً عن التلقين والوعظ والمباشرة، راح القاص يصور آلام وآمال الإنسان "الشعبي" في مجتمعه، مرتفعاً بها إلى ما هو إنساني عام ليصبح الإنسان في قصصه هو الإنسان بأشواقه وعذاباته وتساؤلاته في زمان ومكان.
لقد أصبح هذا التيار تياراً واسعاً في القصة العراقية، فقد تبنى أسلوب محمد خضير العديد من الكتاب الشباب في السبعينات، إلا أن هذا الجيل ما زال في طور الاكتمال وهذا ما يمنعنا من المجازفة بدراسته، والتريث انتظاراً لما قد يحققه هذا الجيل من انجازات فنية جديدة.
(((
( الهوامش
1- من تلك الدراسات: صورة البطل في الرواية العراقية د. صبري مسلم، والبطل المعاصر في الرواية العربية و د. أحمد ابراهيم الهواري، والبطل في الرواية الفلسطينية د. أحمد أبو مطر وشخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة د. عبد السلام محمد الشاذلي، وبناء الشخصية الرئيسية في روايات نجيب محفوظ د. بدري عثمان.
2- نستثني من ذلك: الشخصية العمالية في القصة العراقية: لرزاق ابراهيم حسن، والمرأة في القصة العراقية لشجاع مسلم العاني.
3- فرانك أكونور: الصوت المنفرد، ترجمة د. محمود الربيعي، الهيئة المصرية للتأليف والترجمة 1969 ص6.
4- نفسه ص13(1/192)
5- انظر فلاديمير بروب: مورفولوجية الخرافة، ترجمة ابراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ص 83-84.
6- ترنس هوكز: البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطة، سلسة المائة كتاب ص 84-85.
7- لوسيان غلدمان (مشترك) البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ترجمة محمد برادة (مشترك) مؤسسة الأبحاث العربية ص 31.
8- عدد من الباحثين السوفيت المختصين بنظرية الأدب والأدب العالمي: نظرية الأدب ترجمة د. جميل نصيف التكريتي، دار الرشيد للنشر 1980ص120.
9- انظر: على سبيل المثال: عبد الإله أحمد نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939 ص ص 16-19
10- انظر: شجاع مسلم العاني: المرأة في القصة العراقية، دار الحرية للطباعة 1972 ص77.
11- انظر محمود أحمد السيد: هياكل الجهل ص 227 والقلم المكسور ص 257 في المؤلفات الكاملة، اعداد وتقديم د. علي جواد الطاهر ود. عبد الاله أحمد، دار الحرية للطبعة 1978.
12- رزاق ابراهيم حسن: الشخصية العمالية في القصة العراقية، دار الحرية للطباعة 1977 ص 14.
13-HANNA. BATATU: the old soceal Classes And the Revolu tionary Mvement of traq. princeton Univevsity press - princeton- New jersey, P 394
14- أحمد المديني: مدخل إلى قراءة البطل في القصة المغربية، مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 34 بيع 1985 ص 68.
15- محمود أحمد السيد المؤلفات الكاملة ص ص 359
16- HANNA. BATATU. P400
17- محمود أحمد السيد: نفسه ص ص 457-458.
18- عبد الاله أحمد: نفسه ص 165.
19- انظر: عبد الرزاق المطلك: تاريخ الأحزاب في العراق، رسالة ماجستير في جامعة القاهرة.
20- في مقابلة لي مع عبد الوهاب الأمين عام 1966، أشار إلى أنه تأثر بتولستوي.
21- محمود أحمد السيد: المؤلفات الكاملة، المقدمة ص9.
22- قصص يوسف متى، جمعها وطبعها على نفقة وزارة الإعلام الناقد سليم السامرائي.(1/193)
23- فؤاد التكرلي: تشيد الأرض لعبد الملك نوري، مجلة الأديب، ع.1 (نقلاً عن د. محسن الموسوي، نزعة الحداثة في القصة العراقية- مرحلة الخمسينات، المكتبة العالمية 1984 ص 165.
24- انظر قصة "البيك المثقف" في الآثار الكاملة لأدب ذي النون أيوب. م1 ص15.
25- عبد الملك نوري: صور خاطفة من حياتنا الأدبية، نقلاً عن د. الموسوي: نفسه ص 124.
26- انظر: عبد القادر حسن أمين: القصص في الأدب العراقي الحديث، مطبعة المعارف- بغداد 1965 ص72و د. عمر محمد الطالب: القصة القصيرة الحديثة في العراق، دار الكتب للطباعة والنشر جامعة الموصل ص 118.
27- انظر د. محسن الموسوي: نفسه ص 47
28- فاضل ثامر: مدارات نقدية، في إشكالية النقد والحداثة والإبداع. دار الشؤون الثقافية العامة 1986 ص 321
29- فؤاد التكرلي، مجموعة ذيول الخريف لعبد الملك نوري، دار الشؤون العامة، المقدمة ص7.
31- فؤاد التكرلي: نشيد الأرض لعبد الملك نوري، نفسه ص 170.
32- عبد القادر حسن أمين: نفسه ص ص 121-122.
33- فؤاد التكرلي، نفسه ص 170.
34- د. علي جواد الطاهر: في القصص العراقي المعاصر، نقد ومختارات، منشورات المكتبة المصرية صيدا- بيروت 1967 ص22
35- نفسه ص 23
36- فاضل ثامر: نفسه ص 344
37- عبد الجبار عباس، مرايا على الطريق، سلسلة الكتب الحديثة -35- وزارة الإعلام ص 136
38- فاضل ثامر: نفسه ص 324
39- سعاد رشيد، مجلة الكلمة، الحلقة السادسة 1968 ص 135
40- انظر: د. أفنان القاسم: عبد الرحمن مجيد الربيعي والبطل السلبي في القصة العربية المعاصرة. عالم الكتب
40- انظر ذلك بالتفصيل في : شجاع العاني: محمد خضير ومغامرة القصة العراقية مجلة الأديب المعاصر- 4، 1973 ص 86 وما بعدها
(((
رواية الرجع البعيد :
الرؤية والبناء(1/194)
بعد أكثر من ثلاثة عقود، أمضاها القاص الكبير فؤاد التكرلي في كتابة القصة القصيرة، أصدر روايته الأولى "الرجع البعيد -1980" فجاءت شامخة شموخ "موعد النار" و "القنديل المنطفئ" وأقاصيص الكاتب الأخرى، التي تشهد على أن القاص شديد الإحساس بالمسؤولية إزاء فنه القصصي، وإن هذا الإحساس الشديد بالمسؤولية الفنية، ربما كان السبب الأول وراء قلة القصص التي نشرها القاص طوال أكثر من ربع قرن من الزمن.
وتشكل رواية "الرجع البعيد" تحدياً واضحاً للقارئ والناقد معاً، فهذا العمل الفني، الذي يعد تجسيداً للحداثة بكل معانيها ودلالاتها، هو أبعد ما يكون عن الأنساق الذهنية والبنائية التقليدية التي اعتادها القارئ أو الناقد، ولذلك فإن عملية التلقي لمثل هذا النص الروائي تتطلب من القارئ جهداً ومشاركة كبيرين، لا تحتاجهما الأنساق البنائية والذهنية في النصوص التقليدية، بحيث يمكن القول، إن هذه الرواية لا تمنح نفسها للقارئ، من خلال قراءة واحدة، بل تتطلب قراءات متعددة كيما يقف القارئ على المستويات العديدة التي ينطوي عليها النص القصصي.(1/195)
ويمكن أن نوضح مزاعمنا هذه، إذا ما تذكرنا تقسيم رولان بارت للأدب، في كتابه النقدي اس/ زت 1970، إلى نوعين أو نمطين من الأدب: إلى ما "يعطي القارئ دوراً ووظيفة واسهاماً لينجزه، وإلى ما يجعل القارئ خاملاً فائضاً متروكاً مع لا شيء أكثر من الحرية البائسة لتقبل النص أو لرفضه جاعلاً منه ذلك الرمز المناسب ولكن الواهن للعالم البرجوازي أي إلى مستهلك خامل لدور المؤلف بوصفه منتجاً" وهذا النمط الأخير من الأدب هو ما يدعوه بارت بالأدب القرائي أو الأدب للقراءة، والمرور فيه من الدال إلى المدلول واضح لا يحتاج إلى أي إسهام يبذله القارئ. وفي مقابل الأدب للقراءة ثمة النوع الآخر من الأدب فهو الأدب الكتابي أو الأدب للكتابة، والنصوص التي تنتمي إلى هذا النوع من الأدب هي على العكس من الأدب للقراءة لا تفترض شيئاً "ولا تعترف بانتقال ميسور وسهل من الدال إلى المدلول فهي مفتوحة لـ "لعب" الشفرات التي نستعملها لتقريرها الدالات التي تسير في النصوص القرائية وترقص في النصوص الكتابية(1) إن نص النشوة، كما يسميه بارت الذي يُربك القارئ ويزلزل قناعاته التاريخية والحضارية والنفسية، كما يزلزل قيمه وذوقه المألوفين.
وفي الوقت الذي يقتصر فيه النص القرائي التقليدي على شفرة واحدة، يتعامل معها القارئ هي الشفرة "التأويلية" وهي في الرواية شفرة سرد أحداث الحكاية التي يترتب على ترتيبها في الحكاية التشويق والغموض أو السر، الذي لا يلبث القارئ أن يكتشفه بعد أن يكشف عنه النص،
أما النصوص الكتابية فإنها تنطوي على شفرات عديدة على القارئ أن يتعامل معها، كشفرة الدالات، والشفرة الرمزية والشفرة التخمينية، والشفرة الحضارية(2).(1/196)
وقد يتساءل بعضهم عن سبب زعمنا أن هذا النص الحديث، يشكل تحديداً للناقد أيضاً، الجواب على ذلك يكمن في مسألتين مهمتين، أولاهما أن عملية النقد ليست سوى قراءة مسلحة بشيء من الخبرة والحصافة اللتين لا تمتلكهما قراءة القارئ العادي، أما ثانية المسألتين فهي خاصة بالنقد الأدبي في العراق، وتخلف هذا النقد عن الحركة النقدية في بعض الأقطار العربية الأخرى، التي أتيح لنقادها اطلاع مباشر وعريض على المناهج الجديدة في النقد الأدبي الحديث، وهو أمر ما زالت تفتقر له -ولشديد الأسف- الحركة النقدية في العراق، ومن هنا كان افتقار الناقد العراقي إلى الكثير من المهارات التي يمتلكها شقيقه أو زميله العربي، وخاصة في مصر وأقطار المغرب العربي، ولكي نقف على أسرار البناء في رواية "الرجع البعيد" وعلى مظاهر الحداثة، في هذا البناء، نرى أن نبدأ هذه الدراسة النقدية، بدراسة الزمن وأبنيته في الرواية، هذه الأبنية التي تشكل بأنساقها الحديثة، أكثر مظاهر الحداثة الفنية في الرواية، ثم يلي ذلك، الحديث عن الوصف وبناء المكان في الرواية، ثم الحديث عن بناء المنظور فيها.
السرد وبناء الأزمنة(1/197)
يميز النقاد مظهرين من مظاهر القص، هما السرد والقصة المتخيلة التي يرويها مدخلاً عليها الكثير من التعديل والتغيير، وفي الوقت الذي يميز فيه "فورستر" بين "الحكاية" التي تتميز بالتسلسل الزمني و "الحبكة" التي تضيف إلى التسلسل الزمني ارتباط الأسباب بالنتائج فضلاً عن الغموض والسر الكامنين فيها، وما يخلقانه من عناصر تشويق- في نفس الوقت فإن الشكليين الروس. وخاصة توماشفسكي يميز بين "المتن الحكائي" الذي يعني "مجموع الأحداث المتصلة في ما بينها، والتي يقع أخبارنا بها خلال العمل، إن المتن الحكائي يمكن أن يعرض بطريقة عملية... حسب النظام الطبيعي، بمعنى النظام الوقتي والسببي للأحداث" إن المتن الحكائي لا يستلزم لدى الشكليين "علاقة زمنية، ولكن أيضاً علاقة سببيّة" بمعنى أن المتن الحكائي لا يستلزم -كالحكاية عند فورستر- تسلسلاً زمنياً حسب، بل يستلزم عنصر السببية أيضاً، أما المبنى الحكائي فهو يتألف من نفس الأحداث التي يتألف منها المتن الحكائي، لكنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا(3).
ويرى "تودوروف" أن الاختلاف بين نظام الأحداث ونظام الكلام بديهي ولكنه لم ينل حظه كاملاً من النظرية الأدبية إلا عندما اعتمده الشكليون الروس كقرينة من القرائن الأساسية لإقامة تعارض المتن (نظام الأحداث) والمبنى (نظام الخطاب) وفي نفس الوقت يشير الناقد إلى أن المظهر الزمني للسرد أو "الأخبار يسمح لنا بالانتقال من الخطاب إلى التخيل، وتطرح قضية الزمن بسبب وجود زمنيتين تقوم بينهما علاقات معينة: زمنية العالم المقدِّم وزمنية الخطاب المقدّم له"(4) (بكسر الدال).(1/198)
ومن الملاحظ أن التنافر بين ترتيب الأحداث في المتن الحكائي، وترتيبها في المبني الحكائي، وما يترتب على هذا الترتيب من تغيير في الأنساق البنائية لزمن الأحداث- هذا التنافر بات شديداً في القصة الحديثة، على العكس من أشكال القص التقليدية القديمة، التي لم تكن تنطوي على مثل هذا التنافر الشديد(5).
إن العلاقة بين السرد وما يسميه "ريكاردو" في كتابه -قضايا الرواية الحديثة- بالقصة المتخيلة، أو الخطاب والتخيل، كما يسميها تودوروف، هذه العلاقة تتخذ حسب رأي جيرار جينيت أربعة أشكال. أما تودوروف فقد أجملها في ثلاثة أشكال هي "القص المفرد حيث يستحضر خطاب واحد حدثاً واحداً بعينه، ثم القص المكرر حيث تستحضره عدة خطابات حدثاً واحداً بعينه، وأخيراً الخطاب المؤلف حيث يستحضره خطاب واحد جمعاً من الأحداث (المتشابهة)..."(6) أما النوع أو الشكل الرابع ليس إلا وجهاً آخر للقص المفرد.(1/199)
ويهمنا هنا أن نشير إلى السارد "المكرر" الذي يترتب عليه نسق بنائي خاص للزمان في رواية الرجع البعيد، فالتكرار في السرد ينشأ "عن عمليات مختلفة: عن استعادة الشخصية ذاتها للحكاية نفسها استعادة ملازمة، أو عن وجوه متكاملة من قص عدة شخصيات للحدث نفسه (مما يخلق وهما مجسادياً، أو عن القص المتناقض لشخصية أو عدة شخصيات تشككنا في الواقع أو في المحتوى الحقيقي لحدث بعينه"(7) ويمكن هنا أن تثار مشكلة خاصة بمصطلح المتكرر، فالتكرار يحدث فعلاً عندما تقوم الشخصية باستعادة نفس الأحداث، ومثاله في رواية الرجع البعيد، استعادة مدحة لحدث رؤية الكلب المدهوس. أو استعادته للأحداث الخاصة باكتشافه لعيب "منيرة" بعد زواجه منها، أو استعادة لأحداث أو وحدات معينة من الأحداث، أبرزها أن يتكرر سرد واقعة طرق باب الدار وظهور شابين مسلحين يطلبان جهاز تلفزيون أو راديو مرتين في الجزء الثاني من الفصل الثاني عشر، فقد ورد سرد الحدث بهذه الصورة في الحالة الأولى: "تكررت الطرقات.. قام من مكانه شاعراً ببعض الاضطراب. صرت الباب الثقيلة. كانا شابين مسلحين ملتحيين سألاه بصراحة وإيجاز عما إذا كان لديهم جهاز تلفزيون أو راديو. أجابهما بالنفي ص 356" ثم يسرد الحدث ثانية من وجهة نظر نفس الشخصية بالصورة التالية، ومر الشابان الملتحيان، وأخبرهما بما أرادا فعادت للحاج هلوسته التركية اللامترابطة ص 364".(1/200)
لقد سقنا هذا الحديث، وهذه الاقتباسات، لكي نبرهن على حقيقة مفادها، أن روايتين لحدث واحد، لا يمكن أن تكونا متطابقتين أبداً، فكيف إذا ما كان التكرار في السرد ناشئاً عن اختلاف في وجهات النظر؟! وإذا ما كان سرد الحدث الواحد، يتم أكثر من مرة من خلال وجهات نظر متعددة؟ لكل هذا فإني سأميز هنا بين نمطين من السرد المتكرر، نمط يقوم على رواية الأحداث أو استعادتها من وجهة نظر واحدة، أو من قبل شخصية واحدة، ونمط يقوم على التكرار الناشئ عن الاختلاف في وجهات النظر وهو ما سأدعوه بـ "السرد المتعدد" الذي يسري أيضاً على التعددية الناشئة بسبب تناقض شخصية أو عدة شخصيات تشككنا في الواقع أو في المحتوى الحقيقي لحدث بعينه على حد تعبير تودوروف هذا التناقض الذي نجد مثالاً له في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" عندما تختلف الروايات وتختلف الشخصيات وتتناقض بخصوص شخصية "مصطفى سعيد".
إن مصطلح "المتعدد" هو مصطلح خاص بالعلاقة بين السرد والقصة والمتخيلة،! من حيث نظام الأحداث أما عندما نتكلم عن التعددية في السرد من زاوية زمنية خالصة فإن مصطلح "السرد المتعدد" يصبح بدوره غير دقيق وعلينا استخدام مصطلح آخر بديلاً له.
يتم القص باستخدام الفعل الماضي، وغالباً ما يبدأ القص أو السرد، بعد أن تكون أحداث الرواية قد وقعت وانتهت بكاملها، إلا أن الزمن الماضي في القص يصبح حاضراً والقارئ يعيش الأحداث وهو يقرأها، وكأنها تحدث في الحاضر ولكن القص يتحرك ويتذبذب بين ثلاثة أزمنة، فهو في الوقت الذي يتجه من الحاضر إلى المستقبل، يعود في ارتدادات سريعة إلى الماضي الذي قد يكون ماضياً قريباً أو ماضياً عميقاً، ينأى في العمق أحياناً، إلى آناء بعيدة كطفولة الشخصية أو صباها.(1/201)
وقد يقع هذا الماضي بعد بدء أحداث الرواية، أو قبل بدء هذه الأحداث ويطلق على العودة إلى الماضي مصطلح "الاسترجاع" ويتنوع هذا الاسترجاع بتنوع الماضي ومدى عمقه، فيكون داخلياً آناً، وخارجياً آناً آخر وداخلياً وخارجياً في آنٍ ثالث فيدعى عندئذ بالاسترجاع المزجي.(8)
ومع أن السرد يتحرك بين هذه الأزمنة الثلاثة، فيمكن أن نتصور نمطاً من السرد يتحرك من الحاضر باتجاه المستقبل، دون أن يرتد إلى الماضي، أو أن هذا الارتداد يكون بحدود ضيقة جداً، وهذا السرد الذي يمكن أن ندعوه بـ "السرد الأفقي" أو الخطي هو أشد أنواع السرد بدائية ومن شأنه أن يلغي ذاكرة الشخصية القصصية ويحولها من ذات إلى موضوع، كما يرى ميشيل بوتور.
أما النوع الآخر من السرد- وهو السرد الذي يقوم عليه بناء الرجع البعيد- فهو السرد الذي لا يتذبذب بين الأزمنة الثلاثة حسب، بل وتتكرر فيه العودة إلى الماضي باستمرار، بسبب التعددية في السرد التي تجعل القارئ يرى حدثاً معيناً أو مجموعة من الأحداث من وجهة نظر أكثر من شخصية من شخصيات الرواية، ومن شأن هذه العودة إلى الماضي في مثل هذا السرد. والحركة الدائبة بينه وبين المستقبل، مروراً بالحاضر أن يتخلق سرد شبيه في حركته الزمنية بحركة اللولب بحيث يمكن أن نصطلح عليه بـ "السرد اللولبي". وهذا النمط من السرد، هو أشد أنواع السرد حداثة، وقد نشأ بتأثير الموسيقى السمفونية، بالرغم من أن الكتاب الانكليز، استخدموا السرد المكرر في رواياتهم في القرن الثامن عشر.(1/202)
وتنطوي رواية الرجع البعيد التي تهيمن اللولبة على سردها، على مفهوم نسبي للزمن وبلاستيكي للعالم، فثمة زمن عام لأحداث الرواية يكون في مجموعه عاماً أو أقل، لكن هذا الزمن العام للأحداث، هو فضاء تطفو فيه، كما الأجرام السماوية، أزمنة خاصة عديدة، هي أزمنة الشخصيات وهذا المفهوم النسبي الفردي للزمن، يتردد على لسان أكثر من شخصية، إذ تقول منيرة: "وفي كل الأحوال: خلال الزمان الإنساني للفرد، لا يليق أن ننسى طبيعة المعايشة بين البشر ص 222" ويشير الراوي إلى هذا المفهوم للزمن لدى "حسين" وهو يتحدث عن النشاط النفسي، الذي يعقب السكر قائلاً: "كان يشعر أنه على وشك أن يصل قمته المعهودة، قمة زمنه الحقيقي، حين يختلط الفرح بالعالم والانذهال بالحياة ص90".
وتتميز رواية "الرجع البعيد" عن الروايات الأخرى، التي بنى فيها السرد بناء لوليباً، تتميز بكثرة الوحدات السردية المكررة، وإذا كان من الصعب إحصاء وجدولة هذه الوحدات السردية، فحسبنا أن نشير إلى أن أكثر هذه الوحدات تكرراً، هي الوحدة الخاصة بمجيء "عدنان" من بعقوبة، لغرض مقابلة خالته "منيرة" وهو يحمل أمر نقلها إلى بغداد، ورفض منيرة استقبال عدنان الذي سبق له أن أقدم على اغتصابها، ونحن نرى هذا الحدث- الذي يثير الشكوك لدى العديد من أفراد العائلة- نراه من وجهات نظر متعددة، ويتكرر ظهوره في أكثر من فصل من فصول الرواية.
بحيث يصبح أكثر الوحدات تواتراً في التكرر، وبحيث يبدو وكأنه اللحن الرئيسي في سمفونية موسيقية، بينما تبدو الأحداث الأخرى- باستثناء الوحدات السردية المكررة الأخرى- بمثابة التنويع على اللحن الرئيسي.(1/203)
وثمة خاصية أخرى تميز بها سرد "الرجع البعيد"، فمن المعتاد في الروايات ذات السرد اللولبي أو السمفوني، أن نرى الحدث، من وجهات نظر مختلفة ولكن وفق نسق التتابع، وفي رواية أخرى كنا سنرى مجيء عدنان، من وجهة نظر أكثر الشخصيات صلة بهذا الحدث "منيرة" ثم تلي ذلك رؤى أخرى لهذا الحدث من وجهة نظر شخصيات أخرى لكن ما يحدث في رواية التكرلي- وهو ما يعزز الطابع الفردي والنسبي للزمن- أن يجري الأمر على العكس من الأنساق التقليدية، ضمن هذا السرد الحديث، فالحدث نراه مع كريم من وجهة نظر (عمة مدحة) التي تروي الحدث محملة إياه ريبتها وشكوكها، وكل ما تتمتع به حاسة الشم لدى الأنثى، ثم نراه من وجه نظر الطفلة "سناء" التي رافقت منيرة إلى الباب الخارجي للدار عند مجيء عدنان، وشهدت انهيار منيرة خلف باب الدار بسبب طرقات عدنان الغليظة عليها، ثم ترى الحدث أخيراً، من وجهة نظر منيرة نفسها، التي ترويه رواية ذاتية بضمير المتكلم. مع أن أحداثاً أخرى يتكرر سردها في الرواية ويتعدد وفق نسق آخر، كحادث مجيء والد "فؤاد" ليسأل كريم عن اللحظة التي مات فيها ولده، وسقوط كريم من ثم في نهاية المجاز المظلم- هذا الحادث الذي نراه أول الأمر من خلال رواية كريم نفسه له، ثم نراه من خلال رواية شخصيات أخرى للأحداث -وبالرغم من ذلك فإن النسق الذي رتب وفقه سرد حدث مجيء عدنان، جعل الرواية وكان سرد الأحداث فيها يبدو مقلوباً، والقارئ لأول وهلة يعتقد أن السارد يروي الأحداث من نهايتها لا من بدايتها
ومن وجهة نظر ثانية، فإن التعددية واللولبة في سرد الأحداث، لا تعدّان نسقاً مهيمناً على أحداث الرواية ككل، بل هما يكونان نسقاً مهيمناً على الفصول نفسها، وخاصة تلك الفصول التي يرويها كريم، أو التي تروى من وجهة نظر مدحة أو غيرهما من الشخصيات الأشد بروزاً في الرواية.(1/204)
ولكي نقف على طبيعة هذا البناء سنشير باختصار إلى حدث يسرد سرداً متعدداً، وإلى بناء الزمن في فصل من فصول الرواية، هو القسم الثاني من الفصل الثاني عشر الذي يمثل الساعات الأخيرة في حياة "مدحة".
أما الحدث الذي يتكرر أو يتعدد سرده، فهو حادث عودة كريم إلى الدار بعد موت فؤاد إثر حادث دهس، فنحن نرى كريم من وجهة نظر أمه في الفصل الأول من الرواية، والراوي يروي الحادث ومن وجهة نظرها، على هذه الصورة: "وكان عبد الكريم جالساً على سرير نومه دون سترة، وهو ينظر بذهول واستغراب إلى بنطلونه ويديه، رفع عينيه إليه أول دخولها، انبأتها نظراته بما يضطرم في داخله من قلق واضطراب. كان خائفاً، مرتبكاً، مستنجداً، سحبت بقعة كبيرة داكنة على القسم الأعلى من بنطلونه وأطراف ثوبه الأبيض، راعتها نظراته وما انطبع على وجهه، أسرعت إليه فركعت قربه على الأرض، ثم يلي ذلك ذكر الراوي لصراخ الأم ص22.
هذا الحدث نراه من وجهة نظر أخرى هي وجهة نظر "مدحة" بعد مئة صفحة في الرواية، وهذه رؤية مهمة لأنها تشير إلى بعض الخصائص الفنية لهذا النمط من الرواية الدرامية، التي يطلق بعض النقاد عليها تسمية رواية الأفكار، يقول الراوي وهو يسرد الحدث من وجهة نظر مدحة:
"وكان عبد الكريم يحرك، ذراعيه، بشكل عشوائي لا غاية منه، وفي نظراته تساؤل وضياع، آلمه ذلك فجأة، أمسك بذراعيه يهدئه ويحاول أن يعيد إليه تماسكه.. حين اقتحم عليهم والده الغرفة كالعاصفة الهوجاء... ثم ارتمى عليهم.
احتضن أبوه عبد الكريم وأخذ يهزه ويقبله. دخلت مديحة الغرفة آنذاك مولولة وفي عينيها أثار النوم.. ابتعد قليلاً عن الجمع الضاج، اطمأن أن أخاه لم يكن جريحاً، وبقي يراقبهم بسكون. العائلة اللامقدسة تعيش هلوسة المشاركين الوجدانية الحزينة لقد توارثت أعياد النواح، تلك سمة ديموتها منذ الماضي السحيق في التفاهة والعقم ص 115".(1/205)
ومن الواضح أن رؤية مدحة للحدث، هي غير رؤية أمه وأبيه ففضلاً عن المعلومات الجديدة، التي يضيفها الراوي في سرده للحدث من وجهة نظر مدحة، والماثلة في دخول أبيه ومشاركته في النواح والهلوسمة يتضمن، كلاماً تقويمياً يرد في صورة الأسلوب غير المباشر الحر، أو ما تسميه الناقدة دوريت كون بـ "الحوار المسرود"، وهو قوله "العائلة اللامقدسة" مضمناً كلامه عنوان كتاب شهير بعد نفي صفة القداسة، فثمة تناص حاضر في قوله، ماثل في ذكره بهذه الصورة كتاب "العائلة المقدسة" الشهير، وهذا النمط من الكلام التقويمي، وخروج السارد عن وظيفته في الأخبار، إلى وظائف عديدة لعل الوظيفة الأيديولوجية، هي أشدها ظهوراً هذا الكلام التقويمي- من شأنه أن يخلق سرداً ذا إيقاع بطيء، تغور فيه الحكاية، تحت وطأة التحليل والتأمل كما سنرى.
لقد أشرنا إلى أن نسق بناء الزمن، بالنسبة للسرد في الرواية كلها، يسود ويهيمن في معظم فصول الرواية أيضاً، بحيث يكون الفصل الواحد من هذه الفصول صورة للرواية، كما قررنا أن نصف هذا البناء وأنساقه في فصل من فصول الرواية، هو الفصل ما قبل الأخير في قسمه الثاني.
وتدور أحداث الفصل في زمن يمكن تقديره بست وثلاثين ساعة من يومي الجمعة والسبت وهما الثامن والتاسع من شباط من عام 1963، وهذه الساعات، التي قد تزداد أو تنقص قليلاً هي: كما أشرنا، الساعات الأخيرة في حياة مدحة، التي تسبق خروجه من الحي ومحاولة عبوره الشارع إلى خارج الحي المحاصر، وسقوطه من ثم بعد أن أصيب بطلق ناري.(1/206)
ومع أن أحداث الفصل تبدأ منذ يوم الجمعة، فإن السارد لا يستهل الأحداث من لحظة معينة في ذلك اليوم، بل من الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم السبت في الوقت الذي كان مطر حزين يتساقط فيه، منبئاً، مع ظهور صورة الكلب المدهوس في ذاكرة مدحة من جديد، ورؤيته لامارات الموت على وجهه وهو ينظر في المرآة هلوسة (الحاج) بلغته التركية مستذكراً رفاقه الموتى في الحرب الأولى ويبدأ الراوي سرده هذا بقوله: "أدركوا بشكل مبهم، هو والعجوز عطية والحاج، أن شيئاً ما قد انتهى، كان المطر يتساقط بحزن والساعة تشير إلى ما بعد الثالثة والنصف، والانفجارات مختلفة الأصداء تتردد دون انقطاع ص 353".
ثم يلي ذلك نسق زمني دعاه بعض النقاد بـ "النسق الزمني الهابط" بالعودة إلى مساء يوم الجمعة، ويروي الراوي أحداث المساء مذكراً بأن الحاج العجوز بدأ برواية قصته الطويلة منذ ذلك المساء "آخذاً على نفسه أن يحكي لغير أحد قصة حياته الطويلة، بدأ بها ليلة أمس فجأة ولم ينته منها.. وأمس أيضاً بعد العصر حينما استيقظ لم يجد حسين مكانه".
وتشكل القصة التي يرويها الرجل العجوز بالتركية "نسقاً زمنياً عارضاً" أطلق عليه موريس أبو ناضر خطا تسمية "النسق الزمني المتقطع(9) وتابعه في ذلك آخرون.
والحقيقة أن زمن القصص المضمنة ليس متقطعاً، وإنما يحدث التقطع في زمن القصة الأصلية إذ يؤدي القصة المضمنة إلى توقف السرد وتعليق زمن القصة الأصلية ومن هنا، فإن تسمية زمن القصة المضمنة بالمتقطع خطأ، والصواب أن تسميه بالزمن العارض أو "النسق الزمني العارض".(1/207)
وبعد الارتداد السريع إلى أحداث مساء الجمعة. تتم العودة إلى مساء السبت، وإلى النسق الزمني الصاعد: "أراد أن يصعد إلى غرفته غير أنه فضل أن يبقى معهما، مثلما يفعل الآن يتطلع إلى المطر الحزين يتساقط مع غروب الشمس" وفي هذه اللحظة يتطابق زمن السرد مع زمن الحكاية فالراوي يسرد الأحداث في نفس اللحظة التي يعيشها أو يحياها. ثم تلي ذلك ارتداد إلى الجمعة، ثم عودة إلى صباح السبت إذ لم يستيقظ مدحة، رغم الأصوات الراعدة إلا في الحادية عشرة صباحاً ويتضمن سرد الأحداث سرداً مكرراً لأحداث ظهيرة السبت، كظهور الشابين الملتحيين المسلحين وطرقهما على باب الدار وسؤالهما عن جهاز تلفزيون أو مذياع.
وهكذا يهيمن السرد اللولبي على الفصل (وعلى الكثير من الفصول الأخرى) عبر أنماط عديدة من الأنساق الزمنية الصاعدة والهابطة والمعترضة أو العارضة، حتى نهاية أحداث الفصل.
لقد ترتب على سيولة الزمن ونسبيته في الرجع البعيد، أن يعمد القاص إلى تأخير ما حقه التقديم، وتقديم ما حقه التأخير من فصول الرواية فقد جعل القاص الفصل الثاني عشر في جزءين، وروى الأول منهما وفق تسلسله الطبيعي في الرواية، ثم روى الفصل الثالث عشر، قبل أن يختتم الرواية بالقسم الثاني من الفصل الثاني عشر، الذي يتوج بتكشف النبوءة وموت مدحة موتاً شبيهاً بموت الكلب المدهوس الذي رآه ذات يوم، والذي ظلت صورته تتكرر في ذاكرته، مشكلة إرصاداً واضحاً لنهاية أحداث الرواية واختتام الرواية بهذا الجزء يعمق من الطابع الدرامي للأحداث، ويكشف عن الزمن في حركته السريعة العاصفة كشفاً صريحاً، ويترك أثراً عميقاً لدى القارئ..(1/208)
ولقد دفع هذا التقديم والتأخير في فصول الرواية، والإشارات العديدة إلى الزمن وإلى الساعة ودقاتها، كقول الراوي "كانت الشمس على التينة العالية حمراء ذابلة" الذي يعيد إلى الأذهان قول كونتن في "الصخب والعنف" لوليم فولكنر عندما سقط ظل عارضة الشباك على الستائر، كانت الساعة ما بين السابعة والثامنة (10) وقول كريم وهو يتحدث عن الموت: "ولكني أعتقد أني أخلط في الترتيب الزمني لأفكاري" وغير ذلك من إشارات إلى دقات الساعة، فضلاً عن رؤيا مدحة التي يرى فيها نفسه يحمل خنجراً ويمزق بعض أجزاء جسد منيرة، ثم بكاؤه بعد أن يستيقظ من نومه ويتذكر رؤياه، هذا البكاء الذي يعيد هو أيضاً إلى الأذهان محاولة كونتن قتل كادي وإخفاقه وبكاءه وهو يضع سكينته على رقبة كادي محاولاً تنفيذ القتل، كل ذلك فضلاً عن تقديم الفصل الذي يرويه بنجي وتاريخه 7 نيسان 1928 على الفصل الثاني الذي يرويه كونتن وتاريخ 2 حزيران 1910- كل ذلك دفع بعضهم إلى القول بوجود مؤثرات كثيرة من رواية الصخب والعنف في الرجع البعيد(11).(1/209)
ومن المؤكد أن الدراسة أو النقد المقارن للعمل الأدبي، من شأنه أن يعمق معرفتنا بالأثر الأدبي، ويثقف من إحساسنا بالجمال ويكشف العناصر الجمالية في هذا العمل، ولكن من الصعب جداً إثبات مؤثرات معينة جرى انتقالها من أدب أمة إلى أدب أمة أخرى، أو من أثر فني معين ينتمي إلى لغة معينة إلى أثر آخر، خاصة عندما يكون الكاتب الذي وقع عليه التأثير ذا شخصية فنية أصلية ترفض الاقتباس، وتميل إلى هضم المؤثرات وتمثلها، وخلقها بصورة جديدة. ولكي نستطيع اكتشاف هذه المؤثرات في أدب التكرلي، ينبغي أن نمعن النظر في كل أعماله القصصية، لا في الرواية حسب، ولقد سبق للتكرلي أن كتب أقصوصة شهيرة هي "الطريق إلى المدينة" يخفق فيها البطل "عبود" في قتل أخته البلهاء، التي مارست الزنا دون أن تدري ما هي فاعلة بنفسها وحين يقدم عبود على قتلها غسلاً للعار، بضغوط من أسرته وحين يشهر خنجره ليطعنها، ينهار باكياً حين تسأله أخته البلهاء ببراءة عن سبب محاولته طعنها وقتلها وقد كتب القاص هذه القصة ونشرها، قبل ترجمة الصخب والعنف إلى العربية، ولا ندري ما إذا كان القاص قد أطلع عليها عن طريق قراءتها في لغتها الأصلية أو في ترجمتها الفرنسية..(1/210)
على أن تأثير فولكنر إن وجد. فهو لا يعدو ذلك، إلى أبعد منه، ذلك أن عالم التكرلي يختلف كثيراً عن عالم فولكنر، ولعل هذا العالم الخاص للكاتب، أقرب في ملامحه إلى دوستويفسكي منه إلى فولكنر ولقد اقتطع الباحث الذي أشار إلى أثر الصخب والعنف، بعض النصوص بطريقة تجعلها وكأنها تشير إلى الإحساس بالزمن، مما يجعلها قريبة من الصخب والعنف التي عدها بعض النقاد رواية عن الزمن، وعدوا الزمن بطلها. كما فعل جان بول سارتر، ونحن إذا ما عدنا إلى بعض هذه النصوص المقتطعة وخاصة قول كريم بأنه يخلط في الترتيب الزمني لأفكاره، وتفحصنا النص كاملاً، استطعنا أن نجد له دلالة أخرى غير دلالته الزمنية المباشرة، وأن نجد له مصدراً آخر غير الصخب والعنف.. وكامل النص هو "ولكني أعتقد في أني أخلط في الترتيب الزمني لأفكاري لأني أتذكر جيداً أني كنت أداور هذه الفكرة عن الأرض التي ستبرد وعن الموت، أثناء رجوعي بعد الانتهاء من الامتحان وليس قبله. لم تشغل مخيلتي، في وقفتي تحت الشمس الحارة قرب الجدار.
غير صورة أو ربما فكرة مصورة عن شخص ينصت إلى حشرجته، يستمع إلى نفسه يحتضر، هكذا... يحتضر ولو للحظة، لثانية، لعشر من الثانية تسمع أذناه صوت موته، فنائه أو ذلك الذي يصطدم في داخله، في مكان من وعيه يصدم شيء بآخر.. كلك.. ثم تغمره الظلمات ص 157 إن ميتافيزيقا الكاتب تصنع أسلوبه كما يقول سارتر وميتافيزيقا التكرلي في المرتبة الأولى "هي الموت الزمن".
وعندما نضع النص الذي نقلناه بالرغم من طوله، إلى جانب كلمات الأمير مويشكين بطل رواية "الأبله" لدستويفسكي، عن اللحظة الأخيرة في حياة المحكوم بالإعدام، نكتشف الشبه الشديد بينها وبين كلمات كريم، كما نكتشف أن مفهوم التكرلي للزمان والمكان وهو ما سنشير إليه لاحقاً -هو نفس مفهوم دوستويفسكي يقول الأمير مويشكين عن اللحظة الأخيرة في حياة المحكوم بالإعدام، عندما ينفذ فيه الحكم:
...(1/211)
وهو في خلال هذا يلاحظ ويتذكر كل شيء، وثمة نقطة لا يمكن أن ينساها.. وبسبب هذه النقطة لا يستطيع أن يفقد وعيه، وتستمر هذه الحالة حتى الربع الأخير من الثانية الأخيرة.
أي عندما توضع عنق الشقي فوق الخشبة، ثم ينصت فينظر ويعلم، تلك هي النقطة أن يعلم أنه الآن فقط سيموت، وهو ينصت لصرير الحديد فوق رأسه.. ولو كنت في موضعه لأنصت، يقيناً، إلى ذلك الصرير، ولسمعته أيضاً، ومن المحتمل أن لا تستغرق فترة الانصات أكثر من عشر ثانية، ولكن الإنسان قطعاً سيسمع هذا الصوت ثم تصورن أن بعض الناس يقولون أن الرأس حين يطير، يشعر في تلك اللحظة أنه يطير.. تصورن لو أن الإحساس استمر ولو خمس ثوان بعد ذلك؟(12) بالرغم من أن رواية الرجع البعيد، تنتمي في سردها المتعدد، وفي سارديها المتعددين، إلى نمط من الرواية أطلق البعض عليه تسمية "الرباعية" وتعد رواية الخصب والعنف واحدة من هذه الرباعيات. على الرغم من ذلك، فإن أنساق بناء الزمن في الرجع البعيد قريبة من الأنساق الزمنية لدى دستويفسكي وخاصة في روايته "الأبله".
* زمن السرد من حيث السرعة والبطء
إن العلاقة بين السرد والقصة المتخيلة، أو الخطاب والتخيل، تتخذ أشكالاً وتقنيات مختلفة، وتتراوح هذه التقنيات بين "المشهد" الذي يتطابق فيه السرد مع الحكاية، ويعد أشد أشكال السرد بطئاً، وبين "الحدف" أو الثغرة" التي تعد أكثر وأشد أشكال السرد سرعة، بينما تعد "الخلاصة" شكلاً من أشكال تسريع السرعة، بالرغم من أنها أقل سرعة من الثغرة، أما "الوقفة" فهي الشكل الذي يتوقف فيه زمن السرد مخلياً الطريق أمام الوصف أو التحليل..(1/212)
فإذا كان الأسلوب غير المباشر، الذي يلخص زمراً من الأحداث من شأنه أن يؤدي إلى تسارع الحكاية فإن من شأن التحليل".. الذي تتجه فيه العلاقة إلى أن تنقلب، فإن الحكاية تغور" كما يقول جان ريكاردو(13) وبالرغم من أن لكل تقنية من هذه التقنيات السردية وظيفتها الخاصة فإن مراحل معينة في تاريخ الرواية، أو مذاهب أدبية معينة، تهيمن فيها بعض هذه التقنيات بينما تهيمن تقنيات أخرى في مراحل أو مذاهب أخرى.. فالأدب الطبيعي الذي يعمد أصحابه إلى نقل الواقع نقلاً فوتوغرافياً من شأنه طبعاً أن يغلب المشهد، في حين أن الرواية الانطباعية التي نشأت منذ بدايات القرن العشرين شهدت نشوء نوع من السرد يقوم على تجاوز اللحظات الميتة في الأحداث، على التكيف الشديد للزمن..(1/213)
ومن الواضح، ونحن بصدد دراسة الرجع البعيد، أننا إزاء نمط من الرواية، تختلف تقنيات السرد فيها عن تلك التقنيات المعروفة في الرواية الواقعية أو الطبيعية، وكذلك الانطباعية، ذلك أن الرجع البعيد، تنتمي إلى نمط من الرواية دعاها بعض النقاد، مثل فردريك هوفمان بـ "رواية الأفكار" مشتقاً هذه التسمية من رواية "الألحان المتقابلة" لالدوس هكسلي ويشير هوفمان إلى أن هذه الرواية هي "شكل قصصي خاص بعصر قلق أي عصر لم تثبت فيه المعايير تثبيتاً لا محيد عنه ولا تغير له"(14) ويشير هوفمان إلى أن كون هذه الرواية رواية أفكار لا يعني أن الشخصيات فيها هي مجرد أبواق أو لافتات للأفكار، بل هي رواية أو دراما الأفكار المتشخصة. ومما يبرهن على صحة هذه المقولة أن التكرلي وهو قاص شخصيات بالدرجة الأولى، استطاع أن يطوع هذا الشكل الدرامي ليكون شكلاً خاصاً بالأفكار والشخصيات في آن واحد. وليس عجيباً أن تكون بعض شخصيات الرجع البعيد تجسيداً لأفكار وأيديولوجيات معينة، كان يكون كل من كريم وحسين تجسيداً لفكرة العبث واللاجدوى، وإن اختلفت دوافعهما لدى الاثنين، فبينما تنشأ فكرة اللاجدوى بدافع فكرة الموت لدى كريم، تنشأ لدى حسين بدوافع أخرى، هي نفس تلك الدوافع التي تحدث عنها كامو مشيراً إلى أنها قد تفاجئ المرء في شارع أو في مطعم، فضلاً عن أنها ناشئة لدى حسين، عن عجز وسلبية في مواجهة الحياة بكل واقعيتها، أما مدحة فهو تجسيد لفكرة "الأنانية المنظمة" وهي فكرة المعروف عنها أنها نشأت في المجتمعات الرأسمالية، وواكبت نشوء التراكم الرأسمالي في هذه المجتمعات.(1/214)
ولكن هذه الفكرة التي بشر بها في المجتمع الروسي الناقد والروائي تشير نشيفسكي ورد عليها دستويفسكي محاولاً دحضها، تدحض أخيراً لدى مدحة، عندما يثور على أنانيته وعجزه، وعلى القيم الموروثة الظالمة ويقرر العودة إلى زوجته منيرة، تماماً كما تدحض فكرة "السوبرمان" لدى راسكو لنيكوف الذي ينتهي بفعل تجربته إلى الفضيلة، بعد محاولته تجاوز الفرد الإنساني، من أجل الوصول إلى الإنسان السوبرمان الذي بشر به نيتشه.
وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تكون "منيرة" مجرد شخصية بشرية عادية من شخصيات الرواية، فالهالة التي تحيط بها، والانجذاب الذي يشد العديد من أفراد العائلة إليها وخاصة مدحة وكريم وسناء. والظلم الذي يقع عليها.
كل ذلك يجعل منها رمزاً لفكرة ما، كما أشار بعض النقاد(15).
ونعود إلى الخصائص الفنية لرواية الأفكار التي تنتمي إليها الرجع البعيد لنشير إلى أن الرواة فيها، سواء أكانوا رواة موضوعيين أم ذاتيين مشاركين في الأحداث، لا يقتصرون في الإخبار والابلاغ على الأحداث حسب، بل إن الأخبار والأحداث تقدم مصحوبة بتأملات وأفكار الشخصية ورؤيتها للأحداث وللعالم، وتؤدي هذه الخاصية إلى جملة من الخصائص الفنية، أبرزها أن تغور الحكاية تحت وطأة التأمل والتحليل، وأن تهيمن إلى حد كبير تقنية "الوقفة" وأن يسود الإيقاع البطيء على السرد في الرواية..
وإذا كان هذا التحليل للأحداث والتأمل للعالم ولكثير من الظواهر الكونية والاجتماعية. يعبر عن نفسه بسهولة في الرواية أو السرد الذاتي، أي عندما تكون الشخصيات المشاركة في الأحداث، هي التي تروي هذه الأحداث، كشخصية كريم، وشخصية منيرة، بحيث تبدو الفصول التي ترويها هذه الشخصيات. وخاصة الفصول الخاصة بكريم فصولاً للأفكار والتأملات أكثر منها فصولاً للإبلاغ..(1/215)
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للشخصيات الساردة، فإن من شأن الرواية أو السرد الموضوعي للأحداث، ومن شأن السارد الموضوعي المبنى للمجهول، أن يستخدم تقنيات معينة "ليفكر" الأحداث ويجعل الشخصية التي تروي الأحداث من وجهة نظرها تتأمل الأحداث والعالم. ومن هنا كان الاستخدام الواسع، لما يسمى بالفرنسية بـ "الأسلوب غير المباشر الحر" أو تسمية الناقدة الانكليزية دوريت كون بـ "الحوار المسرود أو المروي" بصورة واسعة في الفصول التي تروى. من وجهتي نظر مدحة وحسين بصورة خاصة، فضلاً عن استخدام القاص لأشكال الحوار الصامت الأخرى.
كالحوار الصامت المباشر والحوار الصامت غير المباشر..
وفضلاً عن التأمل والتحليل اللذين من شأنهما أن يجعلا الإيقاع البطيء إيقاعاً مهيمناً على السرد، فإن واقعية القاص التي تصبح واقعية تسجيلية، في ما يخص بعض الأحداث والشخصيات، تصبح عاملاً مساعداً في هيمنة هذا الإيقاع على السرد، وتتجلى هذه الواقعية التسجيلية في تلك الحوارات والأقوال المكرورة الصادرة عن جدة وعمة مدحة ونداءاتهما الوضيعة في طلب الطعام، تلك النداءات التي تجعل من الطابق الثاني الذي تقطنان فيه، مكاناً شبيهاً بالحلقة الثانية في جحيم دانتي، التي تضم كل أولئك الذين اتسمت حياتهم بالضعة، والتي كتب على بابها بلون داكن "أيها الداخلون أطرحوا عنكم كل أمل"، والواقع أن ما يمنع هذا التفسير أو الفهم للأحداث والشخصيات، إن منيرة وأمها تشاركان العجوزين السكن في الطابق الثاني، تلكما العجوزان اللتان يصبح الراوي معهما مجرد مصورة "كاميرا" ومسجلة صوت، تسجل كل ما يصدر عنهما من كلام.(1/216)
على أن القص في الرجع البعيد، يتسم من جهة ثانية، بالكثير من خصائص القص في الرواية الانطباعية ورواية تيار الوعي، إذ غالباً ما يتم القفز على فترات عريضة أزمان ميتة دون ذكر هذه الأزمنة، وأكثر هذه الفجوات أو الثغرات التي لا يشير إليها السرد. هي الفترة الواقعة بين الفصل الأول والفصل الثاني وهي فجوة زمنية عريضة نسبياً، ويؤدي هذا الأمر إلى الحد من البطء الذي يتسم به إيقاع السرد، ومن تضخم وهيمنة "الوقفة" الناشئة في الرواية عن التحليل والتأمل وفلسفة الأحداث..
التنبؤ والإرصاد وزمن السرد
برغم من بعض النقاد، كادوين موير، يرى أن العالم الخيالي للرواية الدرامية، يقع في الزمان، فإن الواضح على رواية الرجع البعيد أنها تستمد دراميتها لا من الزمن حسب، بل ومن المكان أيضاً، إذ تقوم على رؤية التناقضات رؤية متجاورة في المكان، ولقد أشار الناقد باختين إلى أن الرؤية الدرامية للروائي الكبير دستويفسكي، تكمن في رؤيته للتناقضات في المكان، وفي ذلك يقول: "إن أهم سمة أو صفة للرؤية الفنية عند دستويفسكي، لا تتمثل في الشكل، بل التعايش وفي التأثير المتبادل. لقد رأى عالمه وأدركه بالدرجة الأولى في المكان لا في الزمان، ومن هنا ميله العميق للشكل الدرامي(16).
ويتفق هذا الأمر مع إشارة الناقد هوفمان، إلى أن رواية الأفكار، تجد في الأماكن الضيقة والمحدودة أماكن ملائمة للتعبير المتنوع عن التعدد الثقافي والفكري فغرفة الضيوف والحفلة والعشاء.. هي البؤر البنيوية المفضلة لمثل روايات الأفكار هذه(17) ومن الواضح أن المكان في الرجع البعيد يلبي حاجة الرواية الدرامية إلى المكان المسرحي الضيق الذي من شأنه أن يظهر المتناقضات والصراع بينهما، إذ تجري معظم أحداث الرواية في دار شرقية تقع في محلة باب الشيخ، وإن امتدت هذه الأحداث لتشمل أحياء وأماكن أخرى من مدينة بغدد.(1/217)
على أن عنصر الزمان يؤدي دوراً كبيراً في خلق درامية الرجع البعيد، ويتم ذلك من خلال التنبؤ والإرصاد في الرواية ففي الأعمال الدرامية الرفيعة "يتملكنا إحساس بأن النهاية معروفة، وبعبارة أخرى يواتينا الهام بأن شيئاً محدداً سيقع، وهذا وحده هو الذي يفصح عن المستقبل"(18) كما يقول أدوين موير، على أن هذا الإحساس لا ينبع من فراغ، فهو غالباً ما ينبني على نبوءة صريحة أو مقنعة تؤدي وظيفة الإرصاد في العمل الدرامي.. وقد عرفت العديد من الروائع العالمية عنصر النبوءة أو الإرصاد، ولعل أقدم هذه الأعمال المسرحية مسرحية "أوديب" لسوفكلس. التي تنطوي علي النوعين من الإرصاد الصريح والمقنع، والنوع الأول يأخذ شكل نبوءة تبلغها الآلهة إلى لايوس عن طريق الكهنة. كما تبلغها هذه الآلهة مرة أخرى إلى أوديب نفسه عندما يهرب من كورنثا إلى طيبة في محاولة منه لتفادي قدره.
أما الإرصاد المقنع فيتم عن طريق النبوءة المقنعة الكامنة في لغز أبي الهول، فلم يكن حل اللغز كاملاً في جواب أوديب:
الإنسان، بل كان ينبغي أن تكون الإجابة "أوديب" لأنه هو الذي مشى في طفولته على أربع، وفي شبابه على اثنتين، وسيتوكأ على ابنته "أنتيغون" متخذاً منها عصا في شيخوخته(19)(1/218)
ويتم الإرصاد في حالات أخرى عن طريق قصة مصغرة تزرق في مكان ما من السرد، بحيث تتنازع القصتان الأصلية والطارئة على السرد. ومن الأعمال التي عرفت القصة المرصدة مسرحية هاملت عندما يقوم هاملت بتمثيل مشهد مقتل أبيه -بصب السم في أذنه على مرأى من عمه وأمه، في المشهد الثاني من الفصل الثالث من المسرحية تمثيلاً -كوميدياً - وقد عرفت بعض روايات دستويفسكي وخاصة رواية الأبله مثل هذا الإرصاد، إذ يقوم مويشكين في بداية أحداث الرواية، بسرد وقائع قصة شاهدها في مدينة ليون، وتتعلق بإعدام رجل، حكم عليه بالإعدام، ويظل الحديث عن الإعدام، والموت عن طريق المقصلة طوال الصفحات المئة الأولى من الرواية، مما يجعل الشخصيات في الرواية، والقارئ معاً، يتنبأون بالجريمة التي توشك أن تقع وهذا أمر يبعث في الحدث على حد تعبير موير- انفعالاً اليما يكاد يشبه انفعال الرجل الذي حكم عليه بالإعدام، ذلك الذي روى دستويفسكي قصته ببراعة. وفي اللحظة التي تتحقق فيها نبوءة الشخصيات والقارئ، بان، روجوجين، سيقتل ناستاسيا، في هذه اللحظة "يبدو كأن الزمن الذي عبرته يطير طيراً يتحول وينتهي بنفس الطعنة(20)
وإذا كان الزمن في الخبرة البشرية لا الزمن الخارجي أو الفيزياوي، هو الزمن المهم في الرواية(21) فإن مثل هذا الإرصاد يخلق نوعاً من الزمن النفسي أو السيكولوجي الذي من شأنه أن يترك أثره في تسريع الحكاية وتغيير إيقاع السرد من البطء إلى السرعة..(1/219)
فبالرغم من الإيقاع البطيء في رواية الأبله، فإن إحساس القارئ بسرعة السرد ينجم من خوفه أن شيئاً ما، مخيفاً، سيقع. وهذا التسريع للحكاية، الذي يشير إليه موير يؤكده باختين على الرغم من أنه يرى أن رؤية دستويفسكي لتناقضات عصره هي رؤية في المكان لا في الزمان يؤكده حين يقول عن دستويفسكي أنه يحاول "... أن يركز في لحظة واحدة أكبر قدر ممكن من التنوع، ومن هنا محاولة دستويفسكي تتبع المبدأ الدراماتيكي لوحدة الزمن في الرواية، ومن هنا أيضاً السرعة الرهيبة للحدث "حركة عاصفة" من هنا أيضاً ديناميكية دستويفسكي(23)
وفي رواية "الرجع البعيد" تؤدي وظيفة الإرصاد، قصة صغيرة جداً، بل وحدة سردية صغيرة، هي تلك التي تتعلق برؤية "مدحة" لكلب فارق الحياة، بعد أن دهسته سيارة وهو يحاول عبور الشارع "رآه فجأة، بدت له العينان الساطعتان أولاً، كان ممدداً وسط الشارع على القير الأسود الحائل، كلباً هرماً لا لون له.. كانت عيناه السوداوان تنبضان بإشعاع غريب لا مثيل له. كتلتا سواد.. تصرخان تستغيثان ص 107" إلا أن ذكر الحادث لا ينتهي بسرده سرداً مفرداً لمرة واحدة، بل يتكرر سرد الحدث أكثر من مرة عن طريق استعادة مدحة له عبر حواراته الداخلية الصامتة، وتقترن عينا الكلب لديه بعيون الأحبة "وعيون الأحبة والكلاب؟ إلى الجحيم بها" ثم يتكرر ظهور الكلب المدهوس في رؤيا من رؤياه، إذ نرى فيما يرى النائم نفسه على طريق خارجي في مدينة أوربية، وهو يسأل فتى "رث الثياب" لم نأتي هنا إذا كانت الكلاب تموت على قارعة الطريق أيضاً؟
كان ضيق الصدر تتماوج في نفسه رغبة عارمة في البكاء...
عينا الكلب المحتضر تنفثان دموعاً تجري بسكون".(1/220)
ولا ينتهي سرد قصة الكلب، التي تؤدي وظيفة الإرصاد والترميز معاً، عند هذا الحد، إذ يستعيد مدحة صورته مرة أخرى -بعد أن أصبحنا كقراء على يقين من أن موتاً شبيهاً بموت الكلب لا محالة واقع -ليتأكد لنا إحساسنا بأن الموت الذي توقعناه، على وشك أن يقع، وأن الضحية هو مدحة نفسه، ففي الجزء الأول من الفصل الثاني عشر، وفي الوقت الذي يسمع دوي المدافع، ويحاصر الحي الذي يلجأ إليه مدحة- والذي تقع فيه غرفة "حسين" زوج أخته مديحة- تعود صورة الكلب المحتضر إلى ذاكرة مدحة، فإذا القدر الذي كان يحاور ويناور حتى الآن يصبح وشيك الوقوع. ففي الوقت الذي يرى مدحة في أحد أحلام نومه أنه يطعن زوجته منيرة ويمزق جسدها، يرى مدحة وهو ينظر في المرآة وجه قتيل لا قاتل، وضحية لا جزار، يقول الراوي لا يبدو على وجهه مطلقاً أن بمقدوره أن يكون قاتلاً في الحلم في الحقيقة، وهذان الخطان اللذان يحيطان بأنفه وفمه، وتلك الإعوجاجة الخفية في شفتيه، هم بالأحرى، مع الانطباع السري لما تبعثه عيناه إمارات شخص يورد مورد الهلاك.
اخترقت ظهره قشعريرة سريعة، سيماهم في وجوههم ثم أضاءت ذهنه، لحظة، صورة خاطفة لعيني الكلب المدهوس العينان الجمرتان، أشارتا الاستغاثة الأخيرة ص 302".
وينتصر مدحة إلى كل أفكار الظلام فيه، وينتصر للحياة، ويقرر العودة إلى زوجته، إلى أنثاه، منيرة بعد أن غفر لها، وصفح عنها، ولكن حين يحاول الخروج من الحي المحاصر، يخفق ويموت برصاصة تخترق فخذه الأيمن.
وهو يعبر الشارع راكضاً، تماماً، كما مات الكلب وهو يحاول عبور الشارع أيضاً، ومن هنا الدلالة العميقة لهذا الرمز فضلاً عن وظيفة الإرصاد التي يؤديها!!(1/221)
"بدا الشارع المبلل وأرضه المبلطة بالقير كان يركض بثقة وهو يتطلع إلى الأفق وإلى انفتاح السماء فوقه. لم يسمع صوت الإطلاقات النارية أمسك بموضع الألم المهول في فخذه فتبللت أصابع يده بسائل دافيء.. ثم عرف قبل أن يفترسه الألم الرهيب في صدره وكتفه، إنه لم ينجح. وتلوى جسده الملوث بالطين والدماء يرتجف بشكل مروع على أسفلت الشارع الخالي ص374".
وفي موت مدحة يتعانق ما هو اجتماعي بما هو كوني على نحو يندر أن نجد له مثيلاً في الرواية العربية باستثناء بعض روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ- موت يذكرنا على نحو ما. بموت بطل رواية "الفهد" للكاتب الإيطالي لامبيدوزا
أزمنة أخرى
ثم أزمان داخلية وخارجية أخرى، يجب تحديدها أو الحديث عنها..
كزمن الكتابة والزمن الواقعي الذي تستغرقه الأحداث، فضلاً عن الزمن التاريخي الذي تشير إليه هذه الأحداث.
ولقد ذكر الكاتب زمن الكتابة على الصفحة الأخيرة، بصورة مباشرة، وهو زمن يمتد من شباط 1966 وحتى أيلول من عام 1977. أما الزمن التاريخي للأحداث التي تناولتها الرواية، فثمة إشارات عديدة إلى أنها تقع عام 1962 وأشهر هذه الإشارات ما يرد على لسان مدحة في حوار صامت وبصيغة الأسلوب غير المباشر الحر، حين يقول... "يجب أن نحدد المجتمع الذي ننتمي إليه، لا فائدة من التعميم، إنه المجتمع العراقي في سنة 1962، وأنه مجتمع اللااستقرار، مجتمع اللامستقبل ص 117"..(1/222)
أما الزمن الواقعي الذي تستغرقه الأحداث، فيمكن تحديده بصورة تقريبية، ففي بدء أحداث الرواية. يشار إلى ذهاب كريم لغرض القراءة مع فؤاد، كما يشار إلى أن هذه المراجعة لدروسهما، مبكرة جداً عن وقت الامتحانات النهائية، وإذا ما علمنا أن الامتحانات النهائية تجرى عادة في أواخر مايس من كل عام، أدركنا أن لقاء كريم وفؤاد يتم في أواخر نيسان أو أول مايس، وإذا ما أدركنا أن زمن الفصل الثالث عشر. وهو الفصل الأخير في الرواية- هو أواسط نيسان من عام 1963 أصبح معلوماً لدينا..
إن الزمن الواقعي للأحداث يستمر عاماً كاملاً أو أقل بقليل..
الوصف وبناء المكان(1/223)
شهد القرن العشرون، تغيراً واسعاً في العلاقة بين الوصف والسرد في الرواية، فلم يعد الوصف مجرد عنصر تابع للسرد، بل تبوأ، ولا سيما في الرواية الجديدة، مكانة رفيعة، بحيث صرنا نسمع مصطلحاً جديداً، إلى جانب مصطلح "الراوي أو السارد" هو مصطلح "الوصاف" وبعد أن كان الوصف مجرد حلية للأسلوب لدى الكلاسيكيين، وبعد أن كان رمزاً لحقيقة اجتماعية وفلسفية وأخلاقية لدى "بلزاك" أصبح في الرواية الجديدة هدفاً في ذاته، ولقد طور فلوبير -بعد بلزاك- الوصف وطرائقه الفنية، وتابعه في ذلك الكتاب الطبيعيون من بعده(23) ولقد تلقف رواد الرواية الجديدة، دعوة فلوبير إلى النثر الخالص، وطرائقه الفنية في الوصف، كما تلقفوا ما أبدعه "كافكا" من طرائق في هذا الوصف! ليصوغوا نظرية وطرائق جديدة في الوصف، تنحت ملامحها الأساسية من الإصرار على رفض الكلمة ذات الطابع الإيحائي والتشبيهي، والاكتفاء بما هو بصري في الوصف، وبالنظرة التي تكتفي بقياس كل شيء ووضعه في مكانه وتحديده. ومن فلوبير حتى كافكا، نستطيع كما يقول جرييه أن نجد خيطاً ذا بقية أن ذلك الحب العميق للوصف الذي حركهما لكتابة الرواية، نجده اليوم في الرواية الجديدة، فعبر طبيعة الأول، والهلوسة الميتافيزيقية للثاني، ترتسم العناصر الأولى لأسلوب واقعي من نوع غير معروف في طريقه لان يولد(24).(1/224)
على أن بين فلوبير، ولآلئ نثره الفنية، التي تضاهي قصائد الشعراء البرناسيين، والمدرسة الجديدة في الرواية، مرحلة شهدت نشوء الرواية الانطباعية، أو رواية تيار الوعي، التي اختصرت المسافات بين السرد والوصف ودمجتهما معاً في ضمير الشخصية القصصية، فلم نعد نجد مقاطع وصفية مستقلة في الرواية عن السرد، بل نحن لا نستطيع أن نستخرج -على سبيل المثال- بضعة أسطر من "مسرد اللوي" تصف "لندن" أو المباني أو الحوانيت فيها، ولا أشكالها أو مواضعها(25) ففي الوقت الذي تضاءلت فيه أهمية وصف العالم الخارجي وصفاً مستقلاً عن السرد، لم تعد الأشياء تبدو أو تتراءى لنا من خلال العين الموضوعية للراوي، بل صارت تتراءى من خلال عيني الشخصية نفسها، وصرنا ندرك العالم من خلال وعي هذه الشخصية، لقد أصبح الوصف في الرواية الانطباعية، وفي المدارس الروائية التي أعقبتها، انطباعياً. إن كاتباً مثل فولبير، يصف الأماكن والمناظر ومن ثم يضع فيها مأساة إنسانية، أما هذا الديكور.. فليس له وجود لدى مالرو: لأن الأوصاف تعيشها ضمائر الشخصيات، بدلالة أعمالهم(26)، كما يقول البيريس، وهذا الأسلوب الجديد في الوصف، هو ما أطلقت عليه الناقدة "ألوريل برنتن" فيما بعد، مصطلح "الإدراك المتمثل" وهو عنصر مهم في أسلوب قصص عام أسمته الناقدة "الكلام و الفكر المتمثل"! وينهض هذا الأسلوب في الأساس، على غياب الراوي ورؤيته للأحداث والعالم من الرواية، غياباً ظاهرياً، وبروز صوت ورؤية الشخصية القصصية(27).(1/225)
لقد سقنا هذه المقدمة، لنخلص إلى القول، بأن الوصف في رواية الرجع البعيد، هو من النمط الانطباعي الذاتي، الذي يرى فيه القارئ الأشياء من خلال عيني الشخصية، ويدرك فيه العالم من خلال وعي وإدراك الشخصية لا الراوي، وهذا الأسلوب في الوصف، ينسجم مع الوحدة الأسلوبية التركيبية في الرواية، التي يغيب فيها الراوي الموضوعي إلى حد بعيد، وتظهر الشخصية القصصية ورؤيتها للأحداث، وصوتها المعبر عن هذه الرؤية، وهو ما سنفصل فيه القول في حديثنا عن بناء المنظور في الرواية.
وتبدو الأشياء، بموجب هذا الأسلوب، نسبية وغير مطلقة، وتتلون بعواطف ومشاعر الشخصية، في اللحظة التي تقع فيها عين الشخصية، على هذه الأشياء ويمكن أن نقف على جوهر هذا الأسلوب، حين تقف على رؤية كل من مديحة، ومدحة للغرفة التي يقيم فيها مدحة، بعد هربه من منيرة واقامته في الغرفة التي يقيم فيها حسين، إن الاهتمامات التي يفصح عنها الوصف من خلال عيني مديحة، هي اهتمامات أنثوية ! والعين التي تبصر هي عين الأنثى، مديحة: "جالت بعينيها في الغرفة حولها، كانت خالية بشكل غريب، عارية جرداء، رأت على الأرض أثار قيء يابسة، وأعقاب سجائر منتشرة في كل مكان ص 156".
إن هذا العري للغرفة، وما يلوثها من قيء وسجائر، لا تراه عين مدحة، بل تتلون رؤية هذه العين بمخاوف مدحة من الموت وشيك الوقوع، فتصبح جدران الغرفة، وما أحدثته فيها عوامل الطبيعة، لوحة تجسد كل مخاوف مدحة، من هذا القادم الرهيب:- استنارت الغرفة وبدا الحائط.. كان الشرخ الأسود الذي يخرقه من الأعلى إلى الأسفل يظهر أشد عمقاً الآن.. وبقع الرطوبة مثل سهوب ضربها زلزال، فشق أرضها دون رحمة، وأفنى الحياة عليها. عملاق مجنون يحمل منجله ويتراكض ليقطع رقاب الأطفال- يفني كل أثر للحياة.. هذا هو الفناء حقاً".(1/226)
ويتظافر هذا الوصف للمكان مع السرد، ليخلق هذا الكشف الصريح للزمن، الذي سبق أن تحدثنا عنه، وفي التسريع من حركة الزمن خالقاً ذلك الجسر بين بداية الأحداث ونهايتها التي ستشهد موت مدحة، بين النبوءة التي كانت جنيناً في بداية الأحداث. وبين اقتراب تحقق هذه النبوءة، وما يترتب عليه من حركة عاصفة للزمن.
ومع أن الأحداث في رواية الرجع البعيد، تروي في إطارها المكاني، لا الزماني حسب، بحيث نقف على المكان والأشياء التي تحيط بالسرد وتموضعه، ليؤدي الوصف وظيفته التوثيقية والإيهامية معاً، مع كل ذلك، فإن الوصف في الرواية، هو من النوع المختزن الذي لا يستفيد ولا يستقصي كل عناصر الموصوف أو أحواله، بحيث لا يمكن للقارئ -وهو ما تشارك فيه الرجع البعيد الرواية الانطباعية- أن يقف على فترة طويلة في الوصف، شبيه بذلك الوصف الذي عرف به فلوبير والطبيعيون من بعده.(1/227)
وإذا ما تركنا الوصف وأنواعه ووظائفه في الرواية إلى المكان، وجدنا أن المكان يتسم بنفس السيولة التي يتسم بها الزمان في الرواية، ووجدنا أن رؤية الكاتب للمكان- وهي الرؤية التي نعتناها بالبلاستيكية- هي الرؤية نفسها للمكان، والراوي يشير إلى هذه الرؤية لدى مدحة، حين يقول: "ليس هناك لو تأملنا زمان ومكان، إنهما موجودان بحدود رخوة، فهو مثلاً، حين يسير في شارع الرشيد بعد الثامنة مساء، إنما يسير خلال الزمان والمكان ص 229". والكاتب يقترب في رؤيته للمكان والزمان من "الظاهراتية" ومن مقولتها في المتصل الزماني والمكاني، التي ترى أن الزمان لا وجود له دون المكان، وأن الزمان حادث بسبب الحركة في المكان وفي الأشياء، ويترتب على هذه الرؤية، القول بأن المكان لا الزمان هو المبدأ الأول لنشاط الكاتب الروائي، فالمتغير، كما يرى رواد الرواية الجديدة، ليس الزمان، بل نحن والظواهر، الروح وما يحده من كائنات، على حد تعبير ميشيل بوتور(28) فقد عبر المفكر الروسي برديائف عن هذه الرؤية للمكان بقوله: "وتخطئ الواقعية الساذجة حين تتصور الزمان إطاراً يشمل تحولات الوجود ويحتمها، والواقع أن الزمان لا يجلب التغيير.. وإنما التغيير هو الذي يجلب الزمان" ثم يضيف قائلاً بأن الزمان ليس إلا حالة من حالات الأشياء(29) كما يشير غاستون باشلار، إلى هذا المعنى، عندما يقول: "في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني(30)..(1/228)
لقد أشرنا في صدر هذه الدراسة، إلى أن مفهوم أو رؤية الكاتب للزمان والمكان قريبة من رؤية الكاتب دستويفسكي، ولقد سبق للكاتب والفنان الكبير أن عبر عن هذه الرؤيا للمكان والزمان، وعن ما يسمى بـ "المتصل الزماني المكاني" عندما أشار إلى واحدة من أكثر الحقائق رسوخاً، عبرت عنها حكمة الإنسان البدائي، الذي كان يستخدم كلاً من الزمان والمكان لقياس أحدهما بوساطة الآخر حيث أشار -أي دستويفسكي في روايته الأبله، إلى هذه الحقيقة، من خلال حديث الأمير "ميشكين" عن إحساس المحكوم بالإعدام بالزمن، وذلك حين أوقظ هذا المحكوم عليه من نومه بصورة مفاجئة وأخبره بأن موعد إعدامه قد تقرر أن يكون في الساعة الخامسة من ذلك الصباح، يقول الأمير "ميشيكين".
".. وأعتقد أنه أيضاً قد شعر بأن أمامه عمراً كاملاً وهو في طريقه إلى هناك، ومن المحتمل أنه قال لنفسه، وهو في طريقه أوه، أنه لا يزال لدي وقت طويل، لا يزال أمامي من الحياة ثلاثة شوارع، فعندما نجتاز هذا الشارع، فسوف يتبقى شارع ثان، ثم الشارع الذي يقع فيه المخبر على اليمين، ومتى سنصل إليه؟ إنه عمر طويل طويل."(31)(1/229)
تدور أحداث رواية الرجع البعيد، في دار شرقية تقليدية، مكونة من طابقين، وتقع في محلة باب الشيخ في مدينة بغداد، ومن هنا تنبع المسرحة في الرواية، فهذا المكان الضيق هو أحد المستلزمات البنيوية للرواية الممسرحية أو الدرامية، وبكلمة أدق، هو أحد مستلزمات رواية الأفكار الممسرحة، إذ لا يمكن أن يقيم الكاتب حواراً فكرياً بين شخصياته، ما لم يعمد إلى مسرحة المكان، الذي من شأنه أن يخلق صراعاً بين الأفكار، كما أن من شأنه في الوقت نفسه، أن يخلق ألفة حميمة بين المكان وساكنيه ولا تتضح هذه الإلفه للمكان، بقدر ما تتضح لدى "مدحة" في رواية الرجع البعيد فعلى الرغم من أنه يعتنق فلسفة ذرائعية يدعوها بـ "الأنانية المنظمة"، وعلى الرغم من أنه يقف ضد التقاليد البالية التي تؤمن بها عائلته، يفكر للخلاص منها، فإن ما يشده إلى موطنه، هو البيت وأواصر الإلفة التي تربطه إلى هذا البيت: "هل سيكون في مقدوره مفارقة هذه الخرائب، إنها معجونة بدمه، خرائب الحجارة والبشر ص 197" ويؤكد قول مدحة هذا، حقيقتين، أولهما أن الإحساس بالألفة إزاء المكان، كلما كان هذا المكان أكثر بساطة، وثانيتهما، أن حس المكان في النفس البشرية وهو حس أصيل، ينبع من الحياة الجماعية التي يحياها الفرد في البيت، حيث يكون جزءاً من جماعة بشرية، غير منسلخ عنها، هي العائلة أو ما يماثلها، ومن المعروف أن اغتراب الإنسان في حضارتنا الحديثة، نشأ بسبب انسلاخ الإنسان عن الجماعة البشرية، وما ولده ذلك من إحساس بالعزلة والوحدة.(1/230)
ولا يتضح هذا المعنى للألفة، بقدر ما يتضح من خشية معظم أفراد العائلة من "المجاز" الذي يربط بين البيت والعالم الخارجي، ففي الوقت الذي يعد البيت آمناً يسبغ حمايته على جميع شخصيات الرواية يبدو الخارج آمناً أيضاً، لأنه يعيد الفرد إلى الجماعة البشرية، في الوقت الذي يثير "المجاز" بظلمته، مخاوف كل من منيرة وسناء وأم مدحة ولأمر ما جعل الكاتب المجاز مكاناً يفتقر إلى الضوء ويغمره الظلام والأشباح، بحيث تبدي "منيرة" التي اشتق الكاتب اسمها من الضياء خوفها من ظلمة المجاز تشاركها في ذلك "سناء" التي اشتق اسمها من النار والضياء أيضاً، وفي ذلك تقول منيرة "وظلمة المجاز الطويل تخيفني دائماً ص 197" والخوف هذا لا يقتصر على منيرة وسناء، بل يعد أمراً مشتركاً بين أفراد العائلة، إذ يقول الراوي واصفاً دخول أم مدحة، والصغيرة سناء إلى الدار "دفعتا الباب الكبير.. وانفتحت عليهما ضجة البيت، تنفست الصعداء، وهي تطرق بقدميها طابوق الحوش المتحجر، وتراقب الصغيرة تسرع نحو المطبخ القريب ص8".(1/231)
يتكون البيت من أجزاء عدة وتتلون مشاعر ساكنيه، بحسب الجزء الذي يقيمون فيه، ولقد اهتمت الفلسفة الحديثة وعلم النفس بثنائية القبو العليا وفي ذلك يقول باشلار.. "الحالم يبني ويعيد بناء الجزء الأعلى من البيت، وحجرة السطح.. وكما قلت فإننا حين نحلم بالارتفاع فإننا في المنطقة العقلانية للمشاريع الذهنية الرفيعة، أما بالنسبة للقبو، فإن الحالم يحفر ويحفر حتى يجعل أعماقه نابضة بالحيوية" ولا يختلف باشلار هنا عن كارل يونغ الذي يعد القبو بمثابة العقل الباطنة، وحجرة السطح بمثابة العقل الظاهر، والواقع أن هذه الرؤيا للقبو والعلية تفتقر إلى الرصانة وإلى العلمية وهو ما تثبته رواية الرجع البعيد، فبخلاف ما يقول باشلار ويونغ، وعلى العكس مما ذهب إليه بعض النقاد(33) من أن السطح ليس له حضور في الرجع البعيد فإن السطح في الرجع البعيد يسهم إلى حد بعيد في صياغة أفكار الشخصيات وأخيلتها وحياتها.(1/232)
فالسطح - وهو النظير الشرقي للعلية- لا يعد مكاناً للمشاريع العقلية، كما هو الأمر لدى باشلار، ولا معادلاً للعقل الظاهر، كما هو الأمر عند يونغ، بل يصبح مكاناً للأحلام وتنشيط المخيلة الشعرية، لدى ساكني الدار ويشكل السطح ثنائية بذاتها، فهو مكان للعزلة والانفراد بالنفس من جهة، وهو مكان -ولا سيما في الدار الشرقية- يسمح باندماج الفرد بالجماعة البشرية من جهة ثانية، ومن هنا، ومن هذه الثنائية تنبع أهمية "السطح" في رواية الرجع البعيد، فكريم على سبيل المثال، يشعر بالسرور بفكرة نوم العائلة على السطح وفي ذلك يقول "سررت بفكرة الصعود إلى السطح كأنني سأشارك فيها، إلا أن دواراً خفيفاً تملكني فارجعني إلى السرير، وجعلني أعيد التفكير في المسألة ص 25" ومن الواضح أن وراء السرور، دوافع نابعة من أن ذلك سيتيح لكريم الاندماج بأفراد العائلة ولا سيما بـ "منيرة"، لكن مرضه يحول بينهم وبين استمرار هذا الشعور الفرح، أما المعنى الثاني الذي يجسده السطح، أي معنى الخلوة والتأمل والأحلام فنجده في قول الراوي عن مدحة "كان الهواء صافياً وليس في السطح أحد غيره.. أراحه أن يكون هنا في هذه اللحظة متروكاً لنفسه يتأمل.. والحيطان الترابية، خبأت بؤسها تحت الظلام ص 133" وليس عجيباً أن يكون أعلى مكان في البيت مكاناً للأحلام الرفيعة لدى أبرز شخصيات الرواية، كشخصية مدحة، الذي يصبح السطح لديه مكاناً شعرياً إيحائياً بحيث تبدو الأسرة وأغطيتها البيض وكأنها خيام في صحراء.(1/233)
والواقع، أن هذا المعنى الشعري الإيحائي للمكان، لا يقتصر على السطح حسب، بل يشمل أجزاء الدار الأخرى أو تشكل بفعل الظلام والنور لوحات وصوراً تتفتق عنها مخيلة مدحة وترشح بثقافته الفنية والأدبية، كما هو الأمر في الصورة التي تخلقها الأعمدة الخشبية في الحوش أو فناء البيت: "كانت ظلال الأعمدة الخشبية تترامى على الحيطان العالية، وأغصان الزيتونة منكمشة على نفسها، سحرته تلك الأضواء المنشطرة والظلال الطويلة التي أحاطته وسط الحوش، استدار حول نفسه ثم استدار مرة أخرى مثل الطواحين العمالقة، عمالقة دون كيشوت، عمالقة باب الشيخ" ومدحة لا يرى في الأضواء والظلال المنشطرة عمالقة رائعة سرفانتس، بل "أعمدة معبد روماني متهدم ص 135" أيضاً.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن رواية الرجع البعيد، هي من الروايات العراقية القلائل التي تناولت "السطح"، فهي ثاني رواية بعد رواية "ضجة في الزقاق" لغانم الدباغ- تطرق هذا الموضوع، كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن المكان في الرجع البعيد، لا ينحصر أو يقتصر على البيت الشرقي الذي أشرنا إليه، بل يمتد هذا المكان إلى شوارع وحانات ومناطق أخرى معروفة في مدينة بغداد، ويرتبط هذا الأمر بطبيعة هذه الرواية التي تجمع بين أشكال وأنماط عديد من الرواية، وتجتمع فيها أكثر من مدرسة أو مذهب أدبي معين(33) فهي الرواية درامية، وهي رواية أفكار، وهي رواية شخصيات وهي رواية شمولية واقعية في الوقت نفسه، ومن هنا يأتي هذا الجمع بين المكان الضيق، الذي نجده في الرواية الدرامية والمكان الواسع أو المفتوح الذي نجده في رواية الشخصيات، أو الرواية الواقعية عامة.(1/234)
على أننا يجب ألا نغفل عن حقيقة مهمة، هي أن المكان هو نظام وجود الأشياء. ولقد تحدثنا حتى الآن عن مكان مجرد من الأشياء -وهو ما اقترح تسميته بـ "المدى" تمييزاً له عن مصطلح بـ "المكان"- وعلى الرغم من أن رواية الرجع البعيد تمتلك الرواية الواقعية والطبيعية كما أسلفنا، فإن وصف الأشياء الذي عرفت به هذه الرواية يكاد يكون غائباً، فهي في هذا المجال بالذات، أقرب إلى الرواية الانطباعية منها إلى الواقعية أو الطبيعية، إن الأشياء لا تجد فيها اهتماماً في التصوير، وإذا ما تم ذلك أحياناً، فإن هذا الوصف لا يرد مستقلاً عن السرد، كما أنه يتسم بالاختزال الشديد كهذا الوصف لمحتويات غرفة مدحة: "نظر إلى مكتبته الصغيرة والكتب المصفوفة بإهمال والأثاث القليل والسجادة على أرض الغرفة والجدران البيضاء غير المصبوغة وستائر الشباك الحائلة غير المكواة شعر بوخزة في قلبه ص 110" ومن الواضح على هذا الوصف لمكونات المكان أنه لا يتم عن طريق عين الراوي، بل عن طريق عين الشخصية نفسها، كما أنه يرد ملتحماً بالسرد، ولا يهتم بذكر كل مظاهر وأحوال الشيء الموصوف، بل يقتصر على ماتراه الشخصية فيه من هذه المظاهر، وهذا اللون من الوصف، أي الوصف الذاتي والملتحم نشأ بنشوء الرواية الانطباعية والرواية والوعي والحوار الصامت وهذه الرواية التي انتقلت فيها العين التي ترى، والوعي الذي يصور، من الأشياء المحيطة بالإنسان من الخارج إلى داخل الإنسان نفسه.
رؤيا العالم وبناء المنظور(1/235)
يعد بناء المنظور عنصراً مهماً في البنية القصصية، وتنبع أهمية هذا العنصر من كونه يحدد وإلى حد كبير الطرائق والأساليب التي يسلكها القاص في بناء المادة التي بين يديه، والأدوات الفنية المستخدمة في هذا البناء، والنسب والعلاقات بين هذه الأدوات، وبين العناصر المختلفة في البنية القصصية، ذلك "أننا في الأدب لا نواجه أحداثاً أو أموراً في شكلها الخام، وإنما نواجه أحداثاً معروضة بطريقة ما(34) كما يقول تودوروف، وهذه الطريقة، إنما يحددها منظور القاص الذي تحدده رؤيا القاص للعالم، ففي الأدب كما يقول لوكاش. تحكم "إلى أين" المضمون والانتقاء ونسبة العناصر المختلفة، وقد يشبه العمل.. الحياة في مراعاته للتابع السببي، ولكنه لن يكون أكثر من سفر أخبار تعسفي إذا لم يكن هناك قلب لهذا الاتجاه، فالمنظور هو ما يحدد دلالة كل عنصر فني"(35) ويمكن القول بناء على كل هذا وانطلاقاً منه، إن رؤيا القاص للعالم، التي تحدد منظور الكاتب وبناءه"(36) لا يقتصر أثرها على عنصر معين أو أداة معينة في بناء النص القصصي، وإنما يمتد ويشمل هذا البنية بكاملها، بما في ذلك القضايا والمسائل الجمالية في العمل الفني.(1/236)
وتعد رواية "الرجع البعيد" ذات أهمية خاصة واستثنائية في مجال الدراسة السوسيولوجية على الرغم من الوشائح الكثيرة التي تربط هذه الرواية بأعمال الكاتب- القصصية الأخرى، هذا في الوقت الذي يعد فيه هذا العمل الروائي عملاً شخصياً بصورة أكبر من أعماله القصصية الأخرى، إذ كلما كان العمل كبيراً كلما كان شخصياً، لأن الفردية الاستثنائية والقوية، هي وحدها القادرة على أن تفكر وتعيش رؤية للكون حتى منتهى عواقبها" كما يقول لوسيان جلدمان، الذي يضيف إلى ذلك قوله: "كلما كان العمل تعبيراً صادراً عن مفكر أو عبقري كلما أمكن فهمه في ذاته بدون أن يلجأ المؤرخ إلى سيرة الكاتب أو إلى نواياه، ذلك أن الشخصية الأكثر قوة هي التي تتطابق بكيفية أفضل مع حياة الفكر، أي مع القوى الجوهرية للوعي الاجتماعي في مظاهره الفعالة والمبدعة)(37). ولعل الاستنثائية الفردية التي يتحدث عنها جلدمان، لا تظهر في أعمال أي من القصاصين والروائيين العراقيين، مثلما تظهر في أعمال التكرلي، ولا سيما روايته التي نحن بصدد دراستها بسبب ما يتميز به بناء النموذج لدى القاص من سمات ملامح خاصة يفتقر إليها القصاصون الأخرون.
المنظور الأيديولوجي
لكي نقف على رؤيا العالم لدى الكاتب. وعلى المنظور الأيديولوجي لديه، لا بد من أن نعرض لدراسة العديد من الإشارات الواردة في النص الروائي! بدءاً بالعنوان الذي يؤدي دوراً استراتيجياً في بناء المنظور الأيديولوجي لدى الكاتب، وانتهاء بأصغر العناصر الرمزية الدالة، مروراً بما تفصح عنه الشخصيات القصصية من خلال أقوالها وسلوكها من دلالات على هذا المستوى.(1/237)
وفي رواية "الرجع البعيد" يشتق عنوان الرواية من حادث اغتصاب "عدنان" "لمنيرة" وما أدى إليه من نتائج كان موت "مدحة" المأساوي من أبرزها، أو من هذا الموت نفسه أو من كلا الأمرين، إذ بالرغم من أن الحب المحرم هو من أكثر الموضوعات شيوعاً في أدب التكرلي- بل لعله الموضوع الوحيد في هذا الأدب- فإن مثل هذا الحب وما ينتهي إليه من سفاح يكتسب هنا في الرواية دلالات رمزية واضحة. ويؤكد هذا الاعتقاد ويقويه أن "منيرة" - التي يشتق اسمها من النور- تشكل عامل جذب مركزي بالنسبة لمعظم شخصيات الرواية مثل مدحة وكريم وعدنان وبل وتتمتع بهذه الجاذبية بالنسبة للشخصيات النسوية أيضاً كشخصية "مديحة" هذه الجاذبية والرتبة المركزية التي تتبؤها الشخصية من جهة، وسلوك "عدنان" الطائش، وأفكاره الاجتماعية والسياسية المعلنة من جهة أخرى يجعلان لحادث السفاح دلالة غير دلالته التقليدية أي خرق التابو الاجتماعي- ويجعل من شخصية منيرة حلقة في سلسلة النساء المغدورات في الرواية العراقية والعربية(38)، بكل ما يحمله هذا الغدر من أبعاد رمزية.
ويعيد حادث السفاح إلى الذهن تلك الذكرى البعيدة عن الإنسان البدائي في أقدم عصوره وأشدها همجية، يوم كان الأب يطرد أبناءه من العشيرة ليستأثر بالأناث. فيدفع ذلك الأبناء أو بعضهم إلى أن يثوروا على هذا الوضع مرتكبين ما يعده فرويد أول جريمة وأكبرها في التاريخ(39).(1/238)
وفي الوقت الذي نجد فيه مسوغات عديدة لهذا التفسير، نجد أيضاً ومن جانب آخر، أن مصائر الشخصيات والرؤية المأساوية التي ينطوي عليها النص الروائي، تسوغان تفسيراً ثانياً يكمن في أن الذي يهيمن على هذا النص هو "الموت" إذ يموت "فؤاد" الذي يعيد إلى الأذهان بطل أقصوصة العيون الخضر - ثم يموت "مدحة" أبرز شخصيات الرواية وأشدها تفاعلاً مع الحياة، وتنتهي أحداث الرواية و "حسين" على فراش الموت، بينما يتركنا القاص مع "الرجل العجوز" الذي اختبأ "مدحة" في بيته، وقد حاصرته ذكريات موت رفاقه في الحرب الأولى فراح يهذي بها بلغته التركية، التي يوردها القاص بنفس اللغة، وكأنها النذير بموته الوشيك الذي سبقه إليه "مدحة".
ونخلص من كل ذلك إلى أن العنوان ينطوي على "تناص" واضح طرفه الغائب هو الموروث الديني، فقد وردت عبارة "الرجع البعيد" في القرآن الكريم إذ وردت في الآية الثانية من سورة (ق) في قوله تعالى "إذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد".
وإذا ما تركنا العنوان ووظيفته الاستراتيجية في بناء المنظور الأيديولوجي في الرواية، وحاولنا استجلاء العناصر الأخرى التي تسهم في صياغة هذا المنظور، وجدنا أن الخصائص التي تتسم بها هي الخصائص نفسها التي تتسم بها قصص الكاتب القصيرة على مستوى الوحدات الأساسية في البنية القصصية. وفي مجال الموضوع نجد أن فكرة العبث واللاجدوى التي تتردد أصداؤها في العديد من قصص الكاتب القصيرة، هي الفكرة المركزية في الرواية، كما أن عجز الشخصيات وسلبيتها في مواجهة الواقع التي نجد في تلك القصص القصيرة نجدها ماثلة هنا وبصورة أوضح، "فكريم" يسقط صريعاً لفكرة العبث واللاجدوى بعد موت صديقه فؤاد، و "حسين" يتخلى عن أسرته ويسلك سلوكاً رخيصاً بدافع فكرة العبث بالرغم من أن تناوله ومأخذه لهذه الفكرة يعد سطحياً إذا ما قورن بكريم -ومدحة يعيش بهدي من فكرته الذرائعية الأنانية "الأنانية المنظمة".(1/239)
وإذا كانت فكرة العبث واللاجدوى، لا تحتاج إلى جهد كبير للوقوف على أصولها في الفكر الغربي الحديث، فإن فكرة "الأنانية المنظمة" لدى "مدحة"- وهي فكرة غريبة بعض الشيء على المجتمع العراقي في المرحلة التي تدور فيها أحداث الرواية- تحتاج إلى وقفة قصيرة، للوقوف على أصولها الغربية. ذلك أن ورود هذه التسمية لأفكار مدحة وسلوكه يعزز من اعتقادنا الذي أشرنا إليه في صدر هذه الدراسة عند حديثنا عن الإرصاد والتنبؤ في الرواية، وهو الاعتقاد القائل بوجود مؤثرات واضحة من أدب دستويفسكي في أدب التكرلي، إذ أن من المعروف أن هذه الفكرة كانت موضوعاً لرواية تشيرنشيفسكي "ما العمل" وإن دستويفسكي ناقش هذه الفكرة ورد عليها في بعض رواياته(40).(1/240)
ولا يعني وصفنا للفكرة بالغرابة، إن التجسيد السلوكي لها غير موجود، وإنما عنينا عدم وجودها مدركاً عقلياً واضحاً حسب. أما الفكرة- السلوك، فهي ولا شك ليست بالغريبة في مرحلة بدأ المجتمع العراقي ينتقل فيها من علاقات الانتاج شبه الاقطاعية إلى علاقات إنتاج رأسمالية، وهي العلاقات التي أنتجت الفلسفة الذرائعية البراغماتية في الغرب كما أنها أنتجت هذه الفلسفة التي نادى بها تشرنشيفسكي في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد تطوراً واضحاً في هذه العلاقات- هذا فضلاً عن الملامح وأوجه الشبه العديدة بين "مدحة" وبين بعض أبطال دستويفسكي، ولا سيما "راسكو لنيكوف" بطل الجريمة والعقاب، فكلاهما يؤمن بفكرة سلبية ضارة بالمجتمع، وكلاهما ينتهي في تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ إلى الإخفاق، وإلى انتصار البطل في كلتا الروايتين إلى الفضيلة بعد هذا الاخفاق، وفي حالة "مدحة" تثبت الأحداث أن موته الخاص الذي ينجم عن حالة عامة لا دخل له فيها، عقم أفكاره عن الأنانية المنظمة، وعن استقلال الفرد عن المجتمع والتاريخ، وقبل أن تثبت الأحداث خطل أفكاره هذه، يتغلب هو على أفكاره بصدد "منيرة" ولا عذريتها، ويتخطى القيم التقليدية الموروثة، وتنتصر لديه الحياة على أفكار الموت والظلام، ولكن بعد فوات الأوان فقد كان الموت يتربص به، في أن يخرج من موضعه المحاصر فيه ليعود إلى أنثاه منيرة حتى يسقط مضرجاً بدمه وسط الشارع الذي يفصل بين عالمين، وهو يحاول العبور من عالم السلبية والعجز والاستسلام للمألوف إلى عالم المبادرة الفردية والعقل والعدل.
وبالرغم من أن رواية "الرجع البعيد" هي -كما أسلفنا- رواية أفكار، وأن الشخصية فيها تعبير عن فكرة، فإن التعبير عن هذه الأفكار لا يتم لدى التكرلي، بصورة تلقينية مباشرة كما هو الأمر في الرؤيات أو النصوص الرديئة والمتوسطة، وإنما تجد الفكرة تجسيدها في الفعل المعيش..(1/241)
والشخصيات لا تفكر بمعزل عن سلوكها وأفعالها اليومية وإنما تعيش هذه الأفكار وتتخطاها حين تتخطاها وتتجاوزها تخطي وتجاوز معايشة أيضاً، و ما يحدث لكل من مدحة وكريم، كما أن شخصيات الرواية لا تقف في تفكيرها عند الحدود السطحية للأحداث ومجراها، وإنما تنأى عمقاً لتصل إلى الدوافع البئرية العميقة لهذه الأحداث، كما تنأى في الزمان والمكان لتصل إلى ما هو إنساني عام في كل زمان ومكان، "فمدحة" على سبيل المثال. لا يقف في تأمله لظاهرة الحروب والاقتتال بين الجماعات البشرية عند الدوافع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعروفة، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة معرفة كنه القوة التي تقود شعوباً وأمماً وجماعات وتدفعها لتقطع مسافات وأراضي شاسعة ولكي تحترب مع أمم وشعوب وجماعات أخرى، كما أنه لا يقف عند الحدود الواقعية للأحداث التي تصنع موته، بل تتجاوزها لمعرفة كنه القوة التي تصنع موته على الصورة التي تكهن بها، هذا الموت الذي يتعانق فيه الاجتماعي بالكوني على نحو فريد، وهذا ما يرتفع بأدب التكرلي إلى مستوى إنساني رفيع، وبالإنسان فيه إلى مستوى الإنسان في كل زمان ومكان.
إن التكرلي الذي يهتم بالفرد البشري ومصيره أكثر من اهتمامه بالفكرة ذاتها، لا يتناول الظاهرة المعينة في إطارها وعلاقاتها الجدلية المتشابكة حسب، بل يبحث فيما وراء ذلك عن "اللغز" الإنساني المحيّر؛ هذا اللغز الذي يدفع عبد الرضا" بطل أقصوصته الجميلة "موعد النار" على سبل المثال لكي يتحمل ويعاني عذابات الوجود من أجل زيارة ضريح، والأمر نفسه يتكرر مع "مدحة" وإن كان كفاحه ومعاناته من أجل الانتصار على أفكار الموت والظلام ومن أجل الحياة لا يرتفعان إلى مستوى كفاح ومعاناه بطل موعد النار.
إن هذا "اللغز" المخبوء فيما وراء الواقع في أدب التكرلي يجعلنا نطلق على واقعيته مصطلح "الواقعية الميتافيزيقية".(1/242)
ومن المهم أن نسارع فندفع عن التكرلي تهمة السلبية والعجز الملصقة بشخوصه، ولا سيما وأنها قد ترددت في هذه الدراسة أيضاً، ذلك أن شخصيات التكرلي وإن بدت عاجزه وسلبية ومشوهة أحياناً، فهي لا تهزم بسهولة، بل تصمد وتكافح ببسالة ضد شرطها الاجتماعي والكوني كفاحاً يذكرنا بأبطال التراجيديا الإغريقية- حتى إذا تحطمت تحت وطأة قوى اجتماعية وكونية عاتية لا يستطيع منها فكاكاً، اكتسب شرف الكفاح والنضال دون هوادة ضد هذه القوى. والكفاح الذي يخوضه "مدحة" من أجل الخروج من حصاره والعودة إلى "منيرة" يعد تجسيداً لهذا الاخفاق البطولي في أدب التكرلي، ويستوي هذا الكفاح والتخطي والتجاوز الذي يمارسه "مدحة" مع ذلك الكفاح الذي يخوضه "كريم" للانتصار على أفكار الموت لديه، لا سيما بعد موت "مدحة" ولا يتجلى هذا الانتصار بقدر ما يتجلى في موقفه من "حسين" الذي يجد في الموت من حوله دافعاً للتفاؤل!
إن القول بعجز الشخصية وسلبيتها لدى التكرلي، وتصوير ذلك على أنه مثلبة من مثالب القص لديه، يتجاهل قانوناً رئيساً من قوانين النوع الروائي. ذلك القانون الذي صاغه "هيغل" عندما أشار إلى أن البطل في التعليم الرأسمالي يبدأ ماجناً عربيداً ثم لا يلبث أن ينتهي إلى أحد أمرين فأما الامتثال للآلية الاجتماعية، وأما الوحدة والعزلة(41). ومن هنا يمكن القول بأن وصف البنية القصصية لدى التكرلي بأنها بنية اخفاق (42) هو وصف صائب تماماً، وإن كانت هذه الحقيقة ليست خاصة بالتكرلي وحده، وإنما هي خاصية الرواية والنوع كله في ظل الانتاج الرأسمالي. ويترتب على ذلك أن يصبح البحث عن سمات البنية الاخفاق هذه وعما يميزها عن غيرها ومن البنى الروائية المخفقة ضرورياً، إذ هنا، وفي هذه وحده تكمن أصالة القاص وتفرده، وهنا يكمن عالمه الخاص أيضاً.(1/243)
لقد أشرنا إلى فكرة "الموت" هي الفكرة المهيمنة على الرواية، ويمكن أن يقودنا ذلك إلى استخلاص حقيقة مفادها أن رؤيا العالم لدى الكاتب هي رؤيا مأساوية فاجعة.
وبالرغم من أن القاص ينتمي إلى جيل الخمسينات الذي حفل نتاجه الأدبي برؤى مستقبلية متفائلة، فإن الرؤيا المأساوية هذه كانت امتياز القاص التكرلي الذي كان استثناءً في جيله، مما يدفع بالناقد والدارس إلى تفحص الجوانب الأخرى في أدبه، ولا سيما الجوانب البيوغرافية للوقوف على جوهر هذه الرؤية والعوامل الصانعة لها. على أن الرجع البعيد تتناول مرحلة زمنية هي الستينات. وعلى الرغم من أن رؤيا القاص للعالم فيها هي ذات الرؤيا الفاجعة والمأساوية، فإنه يمكن القول بأن رؤيا القاص هنا هي رؤيا طبقة اجتماعية في مرحلة الستينات من هذا القرن، وهي على وجه الدقة ورؤيا الشرائح والفئات الفقيرة والمثقفة من هذه الطبقة، التي عاشت آمالاً سياسية واجتماعية عريضة في الخمسينات، لكنها ما لبثت أن أصيبت بخيبة عريضة وعميقة، عندما تعرضت الثورات التحررية في المنطقة إلى نكسات كثيرة، وتحولت في معظم أقطارها إلى أنظمة دكتاتورية فردية تنكرت لأبسط مظاهر الديمقراطية، وعجزت عن إنجاز مهامها التاريخية. فكان ذلك مقدمة للهزيمة التي منيت بها بعض هذه الأنظمة، ولا سيما في مظهرها العسكري وكان من أبرز هذه الهزائم نكسة 1967، التي ولدت مناخاً جديداً في الثقافة والفكر العربيين، كان الإحباط والخيبة والكآبة الأيديولوجية من أبرز مظاهره.
بناء المنظور في مستواه التعبيري(1/244)
لقد حاولنا حتى الآن دراسة الأنساق الأسلوبية في السرد والزمن وفي الوصف والمكان في رواية "الرجع البعيد" هذه الأنساق تصب جميعاً في الوحدة الأسلوبية للرواية، ولا سيما في بناء المنظور الذي أشرنا إلى أنه يرتبط ارتباطاً قوياً برؤيا الكاتب للعالم. فالانساق الأسلوبية لا تفسر بضروراتها الجمالية حسب، كما هو الأمر لدى الشكلانيين الروس والبنيويين الانشائيين(43)، بل تفسر بارتباطها بالحياة وبالحوافز الخارجية المستعارة منها؛ فالنسق في رأينا ليس شيئاً جمالياً خالصاً بل هو تمثيل وتعبير عن رؤيا الكاتب لأي أمر حياتي يتعامل معه وأن "الحياة والنسق ليسا قابلين في الحقيقة للفصل، فالنسق هو الطريقة التي تتطور بها الحياة" كما يقول أرنولدكتل(44) ويمكن أن نشير بهذا الصدد إلى أحد أنساق السرد في الرواية وهو نسق "التناوب" في رواية أحداث الرواية أو بعضها، وفي رواية القصص المضمنة في الرواية، ذات العلاقة بالشخصيات التي تروي هذه القصص، كما يحدث في رواية "أبو شاكر" لقصة وقعت له في منطقة سامراء، وتناوب هذا السرد مع سرد قصة وقعت "لحسين" في الكويت، وتسرد القصة الأولى "سرداً منطوقاً" في الحين نفسه الذي تروي فيه القصة الثانية سرداً صامتاً، عن طريق الارتداد.(1/245)
إن هذا النسق لا يعد أشد جمالاً من نسق التتابع والتضمين! وإنما ينطوي أيضاً على نزعة حوارية واضحة، واعترافاً بالآخر وبوجهة نظره، وبتعدد وجهات النظر أو أشكال الوعي بالنسبة للأحداث، وينطبق هذا بصورة أخرى على "السرد المتعدد" الذي نرى فيه القصة الواحدة من خلال وجهات نظر متعددة، وهو ما أسلفنا القول فيه، ويمكن أن ندلل على صحة رأينا بما فعله بعض الروائيين العرب الذين استخدموا نسق "التناوب" فقد استخدم نسق التناوب في الرواة والساردين "لا السرد" عبد الرحمن منيف في روايته شرق المتوسط، عندما وجد أن الحقيقة يمكن أن تدرك بصورة أفضل عندما يكتب جميع أبطال الرواية الأحداث ويسجلونها كما رأوها، وهكذا تناوب على سرد الأحداث كل من (رجب وأنيسة أخته) بدلاً من أن يقتصر السرد على (رجب) وحده، فلم يكن هذا الخروج على نسق التتابع مجرد خروج أوحته الحوافز والدوافع الجمالية، بل المكان الحافز الأول فيه، هو الوصول إلى الحقيقة التي تتسم بتعدد الأوجه وبتعدد أشكال وعي الناس لها كما يشير الروائي نفسه إلى ذلك، وقد أدى هذا الهدف إلى كتابة رواية عربية حوارية متعددة الأصوات (بوليفونيه) كان يمكن أن تكون رواية مونولوجية لو اقتصرت على صوت البطل وحده في سرد الأحداث، ولا يتناقض قولنا بأن النسق لا ينفصل عن الحياة، مع استشهادنا بقول سارتر بأن ميتافيزيقا الكاتب تصنع أسلوبه، ذلك أن السؤال الاجتماعي هو الذي يفتق السؤال الكوني ويصوغه ويحكم حجمه ومداه.(1/246)
وقبل أن نقرر شكل الرواية والرؤية في "الرجع البعيد" ينبغي أن نشير إلى مسألة مهمة هي رؤية القاص للإنسان والعالم والعلاقة بينهما، إن "رواية الأفكار" التي تنتمي الرجع البعيد إليها،(54) تنهض على أساس الأفكار المتشخصة. ومعنى هذا أن الرواية تمثل امتداداً لقصص التكرلي القصيرة التي تعد قصص شخصيات وإن حفلت الرواية بمدلولات اجتماعية وسياسية قد لانجدها في قصص الكاتب القصيرة(46). وقد اعتمد الكاتب أسلوباً في تصوير الشخصية البشرية يقوم على رؤية العالم من خلال الشخصية لا العكس، وهو أمر ينتمي فيه القاص إلى التيار القصصي السيكولوجي الذي يعد كل من سارتر وكافكا ودستويفسكي أبرز أعلامه(47).
إلا أن هذا المنهج الفني شهد شيئاً من التغيير في الرواية فمن الواضح أن رؤية الكاتب هذه تسود مع الشخصيات الرئيسة والمحورية التي تتنسم بمجموعها مرتبة البطولة في الرواية والمكونة من مدحة، كريم، منيرة، حسين لكن هذه الرؤية للإنسان والعالم تختفي في الفصول الخاصة بشخصيات المستوى أو المحور الثاني (الأب والأم والأخت والعمة والجدة)، والواقع أن الرؤية الأولى (أي العالم من خلال الإنسان) لا تصلح إلا مع الشخصيات المثقفة التي تمتلك قدرة على المغامرة الفكرية وعلى التأمل والتفلسف، أما الشخصيات الثانوية -وهي شخصيات مسطحة محدودة الأبعاد- فلا يمكن التعامل معها إلا على أساس الرؤية الثانوية، وهي الرؤية التي تسود القص الواقعي والطبيعي.(1/247)
وإذا كان وعي الشخصية بالعالم، ودرجته يصوغان رؤية القاص لهذه الشخصية، فإن شكل الراوي ورؤيته لشخصياته ينبعان بدورهما من هذه الرؤية، وهكذا فإن الشخصيات الثرية والمستديرة وذات الأبعاد المتعددة، تصور وفق أسلوب يقوم على أحد أمرين، فأما أن تقوم الشخصية نفسها بسرد الأحداث سرداً ذاتياً وبضمير المتكلم، فنكون إزاء الراوي الممسرح.(1/248)
أو تسرد الأحداث سرداً موضوعياً وعن طريق الراوي الموضوعي وبضمير الشخص الثالث، ولكنه الشخص الثالث الذاتي كما يسميه الناقد "آلان وارن فريدمان"(48) الذي يحبس نفسه على منظور الشخصية، فينشأ عندئذ ما يسميه أو سبنسكي "المنظور والذاتي" في القص(49) ولا يسود هذا المنظور في القص في الفصول الخاصة بالشخصيات المحورية بل يسود أيضاً في الفصول الخاصة بالشخصيات الثانوية، أي أن المنظور في القص السائد في الرواية، هو المنظور الذاتي، والفرق بين الشخصيات الرئيسية أو المحورية والثانوية في هذا الأمر، إن الراوي يتيح لأصوات شخصياته الرئيسة مجالاً للظهور أوسع بكثير مما يتيحه للشخصيات الثانوية، عن طريق استخدام الأسلوب غير المباشر الحر" والحوار الصامت بنوعيه المباشر وغير المباشر، وهكذا، ففي الوقت الذي يروى فيه (كريم) الأحداث بضمير المتكلم ويمسرح أفكاره للقارئ، وفي الوقت الذي تروي فيه منيرة قسماً من الفصل التاسع الخاص بروايتها للأحداث، يروي راوٍ موضوعي بضمير الشخص الثالث، الأحداث من وجهة نظر مدحة وحسين لكن الراوي الذي يرى شخصياته رؤية مجاورة من الداخل، لا يصبح منظوره ذاتياً بأن يحبس نفسه على منظور الشخصية! كما يفعل مع الشخصيات الثانوية حسب بل يكاد يختفي من القص، ومن عملية التلفظ، عندما يتيح للشخصية ورؤيتها وصوتها الظهور بصورة واسعة عن طريق الأساليب والتقنيات المذكورة كما هو الأمر في هذا النص الذي يرن فيه صوت الراوي وصوت الشخصية معاً، وتجتمع فيه أشكال من الحوار الصامت المروي أو المسرود لتستحضر صوت الشخصية: "كانت أمه تناديه بإلحاح وهي رافعة وجهها الأبيض إليه أشار إليها. لا يعلم عنه شيئاً خابره؟ لم يخابره، تأكل بمفردك؟ ولم لا. غسل اليدين والوجه يزيل الأوساخ والتراب... اسقوني نقيع الزبيب إن الحب أنهك فؤادي. الأخ المغرم لا ينسى أن يقوي قلبه ص 108".(1/249)
ومن الواضح أن العبارة الأولى في النص هي عبارة الراوي، تمليها عبارة "خابره؟ لم يخابره" وهي عبارة الشخصية منسوجة، في كلام الراوي، ثم تليها حوار صامت مباشر (غسل اليدين.. الخ) لا يؤدي الراوي أي وظيفة في قيادة القارئ إلى داخل الشخصية.
إن هذا المنهج في القص ينسجم وأحدث التطورات الفنية في الرواية، ذلك أن محاولة إلغاء الراوي هي من أبرز السمات التي ميزت هذه التطورات "حتى لقد قيل بأن التغيير الأكثر أهمية في عصرنا - والذي له مغزىً بالنسبة للرواية هو اختفاء المؤلف" كما يشير الناقد سي وين بوث(50).
ولا يؤدي الحد من امتيازات الراوي -وهو كبير في الرجع البعيد- إلى ظهور ورؤى وأصوات الشخصيات حسب، بل. يؤدي أيضاً إلى ظهور القارئ الذي لا يعود متلقياً لوجهة نظر الراوي وصوته الخاصين، بل تصبح وجهة نظره الخاصة هي الماثلة في تعامله مع النص، ويتحول من مجرد متلقٍ خامل إلى مبدع للنص ولقد دفعت التحولات الأخيرة في القص الكثير من النقاد إلى القول بأن عصرنا أصبح عصر القارئ. إذ إن "إمحاء المؤلف التدريجي على هذا النحو يظهر القارئ على أنه خالق الأثر. لقد تحول القارئ إلى إنسان فعال له الدور الأول في عملية الإبداع الأدبي كما تحول عصرنا إلى عصر القارئ" كما يقول الناقد الإسباني جوزيه ماريا كاستيلا(51).
إن بناء المنظور في مستواه التعبيري، كما هو في مستواه العقائدي يقوم على التعددية، فليس ثمة بطل أو شخصية رئيسة مهيمنة تجري القص من وجهة نظرها، وليس ثمة فكرة من أفكار الشخصيات تسود أو تهيمن وتقمع الأفكار الأخرى لبقية الشخصيات، بل هناك شخصيات عدة تقف على خط البطولة الرئيس ثم يليها عدة شخصيات أخرى، تقف على خط موازٍ لها هو خط البطولة الثانوية.(1/250)
ولا تتميز أية شخصية من هذه الشخصيات بحق أن تجرح أو تعدل أو أي منظور من منظورات الشخصيات الأخرى، بل تشترك الشخصيات في جميعها في هذا الحق وفي حوار حر مفتوح وتتفاضل المنظورات المختلفة من دون انحياز من جانب القاص أو الراوي لأيّ من هذه الشخصيات.
وإذا كان تعدد الأصوات والرؤى هو السمة الفنية الأكثر حداثة في الرواية العربية، وإذا كانت رواية الرجع البعيد ليست الرواية الوحيدة أو الأولى على طريق هذا النهج الفكري والفني- فإن هذه الرواية تميزت بتوزيع دور البطولة فيها على أكثر من شخصية محورية، متجاوزة بذلك بعض أشكال القص متعدد الأصوات الذي يغتال هذه التعددية ويقضي عليها بدوافع النرجسية والتضخيم من شخصية البطل أو الشخصية الرئيسة، خالقاً بذلك شكلاً خاصاً من التعددية، هو في حقيقته صيغة من صيغ القص المونولوجي أو المنفرد الصوت ليس إلا.
لقد تضافر القص المتعدد والمنظور الذاتي في السرد وأشكال الحوار الصامت، والأسلوب غير المباشر الحر في خلق هذه التعددية في الرواية، وفضلاً عن ذلك فإن كثيراً من العناصر والتقنيات الفنية الأخرى قد أسهمت في خلق النزعة الحوارية الواضحة في الرواية.(1/251)
ومن مظاهر الحوارية وتعدد الأصوات في الرواية، تعدد القصص ورواية أو سرد عدد من الشخصيات لقصص ذاتية وبضمير المتكلم، ومن مظاهرها أيضاً التناوب في سرد هذه القصص بين شخصية أو أكثر، كما أشرنا من قبل. ونسق التناوب هذا لا يجري في سرد القصص الذاتية سرداً منطوقاً أو صامتاً أو بهما معاً؛ وإنما يجري أيضاً في الحوار "المزدوج" وهو حوار يقوم على ظهور صوتين معاً، أحدهما منطوق والآخر صامت، ويتضافر الصامت منه مع المنطوق في كشف الشخصية وإظهار صوتها بصورة أوضح مما يجري في الحوار المنطوق لوحده أو الصامت لوحده وجدير بالإشارة هنا أن القاص استخدم أساليب فنية حديثة في سرده لأحداث القصة الأصلية أو الكبرى وتعامل مع هذا السرد تعاملاً ذكياً، مثل المستحدثات السينمائية كالمونتاج المكاني والزماني (أو التناوب والتزامن) والقطع، والاختفاء التدريجي، لا سيما في سرد القصص الذاتية سرداً منطوقاً وصامتاً معاً كما هو الأمر في سرد (أبو شاكر وحسين) لمثل هذه القصص، أما التعامل الذكي مع السرد فنجده في تحول القص في الفصل التاسع من القص على لسان منيرة وبضمير المتكلم، إلى ضمير الغائب عند دنوها من حادث اغتصابها، وينسجم ذلك والوضع السيكولوجي لدى منيرة التي يمنعها المحرم الاجتماعي(52) والخجل من رواية قصة السفاح مما دفعها إلى التوقف عن السرد مخلية السبيل أمام ضمير الشخص الثالث بحيث يبدو والسفاح وكأنه يحدث (للآخر) لا لها.(1/252)
ومن مظاهر التعددية أيضاً، التعددية اللسانية، فالقص يتناسب مع كلام الشخصية في كثير من الأحيان، وترد في كلام الراوي مفردات وألفاظ الشخصية نفسها، لاسيما عندما يجتمع كلام الراوي والشخصية مكوناً بناء لسانياً واحداً ولكنه ينطوي على صوتين معاً عبر الأسلوب غير المباشر الحر، وقد بلغ من حرص المؤلف على التعددية اللسانية، أنه لم يلجأ إلى أسلبة كلام الشخصيات، فجاءت الرواية حافلة بلهجات عراقية عديدة بل إن حرصه على هذه التعددية في الصوت منعه من ترجمة حديث الرجل العجوز باللغة التركية، إلى اللغة العربية التي هي لغة القارئ أيضاً.
ومع أننا قد لا نتفق مع هذا النهج في النقل الحرفي والتسجيلي للواقع فيما يخص الحوار وكلام الشخصيات، فإن ذلك لا يمنعنا من القول بأن هذه التعددية اللسانية والصوتية كانت أحد العناصر في خلق رواية متعددة الأصوات، تعد بحق واحدة من أبرز الاسهامات على طريق الحداثة في أدبنا الروائي العربي الحديث.
(((
( الهوامش
1- انظر: البنيوية وعلم الإشارة، ترنس هوكز، ترجمة مجيد الماشطة، مراجعة د. ناصر رشيد حلاوي، دار الشؤون الثقافية العامة ص ص 104-105.
2- نفسه ص ص 106-109
3- نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية ص 180
4- الشعرية: تزفتان تودوروف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة دارتو بقال للنشر- المغرب ص 47
5- انظر مدخل إلى نظرية القصة: سمير المرزوقي وجميل شاكر، ديوان المطبوعات الجزائرية، تونس ص ص 77-78
6- الشعرية ص 49
7- الشعرية ص 49
8- انظر بناء الرواية -دراسة ثلاثية نجيب محفوظ، د. سيزا أحمد قاسم.
9- انظر الألسنية والنقد الأدبي في النظرية والممارسة، موريس أبو ناضر، دار النهار- بيروت ص ص 86-89
10- الصخب والعنف، وليم فوكنر، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب ط ص 126(1/253)
11- انظر الرواية العراقية وتأثير الرواية الأمريكية فيها، ونجم عبد اللَّه دار الشؤون الثقافية 1987 ص ص 209-210 ومجلة الأقلام ع 4 نيسان 1986 ص ص 90-94
12-الأبله، دستويفسكي، ترجمة حسين القباني، سلسلة الألف كتاب ص 99.
13- قضايا الرواية الحديثة، جان ريكاردو، ترجمة صيّاح الجهم، دمشق 1977 ص 253
14- انظر: أشكال الرواية الحديثة، تحرير واختيار وليام فان أكونور، ترجمة نجيب المانع ص 259
15- انظر: من رواية الصوت الواحد إلى الرواية متعددة الأصوات، فاضل ثامر، جريدة الثورة في 21/11/1987
16- قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي، ترجمة د. جميل نصيف التكريتي، دار الشؤون الثقافية ص 41
17- انظر أشكال الرواية الحديثة ص ص 264-271
18- بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي ص 77
19- انظر قضايا الرواية الحديثة
20- انظر بناء الرواية، أدوين موير، ترجمة إبراهيم الصرفي
21- انظر بناء الرواية د. سيزا أحمد قاسم
22- قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي ص 42
23- انظر تاريخ الرواية الحديثة، البيريس، ترجمة جورج سالم ص ص 52-53
24- نحو رواية جديدة آلان روب جرييه، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى ص 23
25- انظر بناء الرواية د. سيزا أحمد قاسم ص 81
26- تاريخ الرواية ص 277
27- انظر: عن اللغة والتكنيك في القصة والرواية، نموذج تحليلي من يوسف إدريس، مجلة فصول (الأسلوبية) ع1 أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1984 ص 135
28- انظر: الرواية الفرنسية الجديدة، يوسف اليوسف، الآداب الأجنبية ع4 نيسان 979 ص 192
29- العزلة والمجتمع نيقولاي برديائف، ترجمة فؤاد كامل ص ص 121-122
30- جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا ص 46
31- الأبله، ص 98
32- انظر إشكالية المكان في النص الروائي، ياسين النصير ص 62
33- انظر: الرجع البعيد: د. علي جواد الطاهر، مجلة الأقلام ع4 نيسان(1/254)
34- الإنشائية الهيكلية، تزفتان تودوروف، ترجمة مصطفى التواني، مجلة الثقافة الأجنبية ع3 خريف 1982 ص 12
35- معنى الواقعية المعاصرة، جورج لوكاش، ترجمة أمين العيوطي، دار المعارف بمصر 1971 ص 69
36- البنيوية التكوينية: لوسيان جلدمان وآخرون، ترجمة (مشترك) مؤسسة الأبحاث العربية ص 24
37- نفسه ص 19
38- انظر الرواية العراقية من رواية الصوت الواحد إلى الرواية متعددة الأصوات، فاضل ثامر، جريدة الثورة.
39- انظر موسى والتوحيد. سيجموند فرويد ترجمة جورج طرابيشي ص 137
40- انظر دستويفسكي دراسة لرواياته العظمى، ريتشارد بيس، ترجمة عبد الحميد الحسن 1976 ص 33
41- انظر: سوسيولوجيات الرواية، ميشيل زيرافا، ترجمة جمال شحيد- مجلة الآداب الأجنبية ع4 نيسان 1975
42- انظر: مدارات نقدية في أشكالية النقد والحداثة والإبداع، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة 1986 ص 356
43- انظر شكلوفسكي، بناء القصة القصيرة والرواية، نظرية المنهج الشكلي ص ص 112-152
44- مدخل إلى الرواية الانكليزية ارندلد كتل، ترجمة هاني الراهب، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي- دمشق 1977 ص 31
45- انظر أشكال الرواية الحديثة، وليام فان أكونور، ترجمة نجيب المانع
46- انظر مدارات نقدية ص 34
47- نشيد الأرض، فؤاد التكرلي، مجلة الأديب، أكتوبر 1954 نقلاً عن د. محسن جاسم الموسوي؛ نزعة الحداثة في القصة العراقية ص 170-171
48- الرواية الحديثة المتباينة الوجوه، شكلاً ووظيفة، ترجمة محيي الدين صبحي، الآداب الأجنبية ع2 تشرين أول 1977 ص 17
49- انظر بناء الرواية، سيزا قاسم ص 134
50- Norman Fridman: Point of view> in (Theory of Novel, phillp stevic, ad) New york, And London, Macmillan, P. 108
51- انظر، تاريخ الرواية ص 44
52- انظر الإنسان في الرجع البعيد، دراسة أسلوبية، د. محسن جاسم الموسوي مجلة الفكر العربي المعاصر ع 18، 19 شباط، آذار 1982 ص232.
((((1/255)
أساليب السّرد والبناء
في الرواية العربيّة الجديدة
دراسة أسلوبية
الحديث عن السرد في الرواية، يعني الحديث في الوقت نفسه عن الراوي وعن وجهات النظر أو ما يسمى (بالرؤى) في الحكاية، تلك الظاهرة الفنية التي أعارها النقد في القرن العشرين أهمية لم تكن لها من قبل، بسبب صلتها الشديدة بمستويات العبارة، وبالطريقة التي يعرض فيها الكاتب أحداثه.
ويذهب معظم النقاد، الذين تناولوا هذا الموضوع، إلى أن القيمة الأساس للعمل الروائي تكمن في (الرؤى). فقد اعتبر برسي لوبوك "مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب في صنعة الرواية محكوم بالسؤال عن وجهة النظر، السؤال عن علاقة القصة بها".
وأكد فرانك كرمود هذا المعنى بقوله: "فإذا تابعت الحديث عن السرد القصصي بشكل حسن فهذا يعني أنك ستحسن الحديث عن الرواية"(2) أما تزفتان تودوروف فيضع الرؤى في المرتبة الأولى من الأهمية في العمل الأدبي، إذ يقول: "ففي الأدب لا نواجه أحداثاً أو أموراً في شكلها الخام. وإنما نواجه أحداثاً معروضة بطريقة ما وتتحدد جميع مظاهر أي شيء بالرؤية التي تقدم لنا عنه".(3)
ويعتبر كتاب "الزمن والرواية" لجن بويون، أحد الاسهامات النقدية البنيوية المهمة في دراسة هذا المظهر من العمل الأدبي، بعد دراسات لوبوك وبوث. وقد صنف بويون (الرؤى) إلى ثلاثة أنواع، هي:(4)
1- الرؤية من الخلف: وتتميز بأن الشخصية فيها، لا تخفي شيئاً عن الراوي، فهو يعرفها معرفة تامة ويخترق جمجمتها ويتنبأ بأفكارها.
2- الرؤية مع: وتسمى أيضاً بالرؤية (المجاورة) وتتميز بأن معرفة الراوي فيها تساوي معرفة الشخصية عن نفسها.
3- الرؤية من الخارج، وتقتصر معرفة الراوي فيها على وصف أفعال الشخصية، ولكنه يجهل أفكارها ولا يحاول أن يتنبأ بها.(1/256)
ويطلق على الراوي في الرؤية من الخلف مصطلح "كلي العلم" أو "كلي الوجود". إلا أن الناقد "فريدمان" يرفض هذه التسمية، بسبب محدودية معرفة أو وجود هذا الراوي ويصطلح عليه بـ "الراوية المتنوع" ويحدد خصائصه بأنه "لا يقيم في كل مكان في وقت واحد: بل يكون مرة هنا ومرة هناك، ينظر الآن في هذا العقل أو ذاك، ويتحرك صوب فرص مواتية أخرى فهو مقيد بالزمان ومقيد بالمكان، ويضيف الناقد واصفاً هذا النوع من الرواة، بأنه (لا يكون في الأغلب شديد التعمق، ولكن لا بد له من أن يكون متنوع المهارات، خفيفاً في نقلاته المجازية لأن تحوله المسرحي جزئي، وهو يستدعى مثلما يستدعى لاعب الدمى الماهر النشيط، ويتلاعب بعدد من الشخصيات على التوالي، وغالباً ما تكون عديدة في وقت واحد، كما أنه يحتفظ لنفسه بدور على المسرح مع البقية".(5)
ويشير الناقد نفسه، إلى أن هذا الراوي، لا يمكن أن يوجد في رواية الصعاليك أو الرواية الانطباعية أو رواية الشخصية المكثفة. بل يوجد في الروايات التأريخية، روايات المشاهد الشاملة، والرواية الواقعية أو الطبيعية.(1/257)
وعلى حين يطلق مصطلح "المشارك" على الراوي في الرؤية المجاورة، فإن الناقد يضيف نوعاً (ثالثاً) يسميه (بالشخص الثالث الذاتي) ويحدد خصائص هذا الراوي بأن يصفه بأنه بعيد عن أن يكون كلي العلم.. فهو يرى ويحس بعيني وحواس شخصية واحدة يحبس نفسه على منظور منفرد، باتساق كثير أو قليل، بالمقارنة مع الرواية المتعدد نجد أن صوت الشخص الثالث الذاتي يلعب دوراً أكثر تحديداً لكنه أكثر نفاذاً، إنه لا يمسرح نفسه ولكنه من جهة أخرى يضبط عمليات التحول إلى الداخل في شخصية أو أكثر من الشخصيات المركزية ثم يضيف الناقد قائلاً: - وإذن فالشخص الثالث الذاتي يمثل من الناحية البنيوية نوعاً من الواسطة بين الراوية (المتنوع) والذي -ببقائه محدود المعرفة في العمق- يحول المنظور واللهجة والمسافة حسبما يقتضي هدفه، وبين وحدة الصوت الشديدة الكامنة في رواية البطل الواحد.(6)
أما تودوروف فيقسم الرؤى إلى قسمين كبيرين هما:(7) الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج ثم يعمد إلى تقسيمات أخرى داخل كل نوع ليحصل على ضروب عديدة من الرؤى داخل الرؤية الواحدة.(1/258)
وتقسيم تودوروف للرؤى إلى نوعين، قريب من تقسيم الناقد الشكلي الروسي توماشفسكي الذي يرى أن هناك نوعين من القصة هما، القصة الذاتية، والقصة الموضوعية "في الأولى نتابع السرد من خلال عيني الراوي، أما في الثانية فالراوية يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء"(8) على أنه ينبغي ملاحظة ما في مصطلحي الناقدين من تناقض، فالقصة أو الرؤية الذاتية لدى توماشفسكي تتضمن الرؤية من الخارج عند تودوروف، على حين يسمى تودوروف بالرؤية من الداخل ما أسماه الأول بالقصة أو الرواية الموضوعية، فالمعروف مثلاً أن الراوي في الأسلوب الذي يطلق عليه بالواقعية الموضوعية، في الرواية الأمريكية، يكون بمثابة عدسة الكاميرا التي تلتقط أفعال الشخصية بشكل محايد، وبهذا تكون رؤيته للأحداث رؤية خارجية لدى تودوروف على حين يطلق توماشفسكي عليها مصطلح " الرؤية الذاتية" لأننا نرى الأحداث من خلال عيني الراوي. وقد تكون الرؤية خارجية، حتى وإن استخدام الراوي ضمير المتكلم، في مثل هذه الروايات كما هو الأمر مثلاً في قصة القاص العربي المصري صنع اللَّه ابراهيم (تلك الرائحة) وروايته (نجمة أغسطس).
لقد شهدت الرواية العربية خلال العقدين الأخيرين تحولات واضحة في أساليب السرد، كانت مظهراً من مظاهر تحول أكبر في بنية الرواية العربية، إلا أن الأساليب الروائية الناجمة عن هذا التحول لم تنل ما تستحقه من الدراسة النقدية، وما كتب من هذه الدراسات اقتصر - وتحت تأثير النظرية البنيوية في النقد- على الجوانب الشكلية، إذ لم تحفل هذه الدراسات القليلة بأية محاولة لدراسة الدلالة الاجتماعية الكامنة وراء هذه التحولات في الأساليب الروائية.(9).(1/259)
ونحن إذ نحاول هنا دراسة بعض مظاهر التحول والتطور في أساليب الرواية العربية -وبخاصة أشكال السرد ووظائفه- فإننا ننطلق من النظرة الاجتماعية للأدب التي ترى أن أصول أية بنية أدبية، ومؤلفها الأول في أبرز مظاهرها الجمالية، هو "المركب التاريخي والاجتماعي والنفسي والذهني، الذي يمثل الكاتب أحد شهوده، فالكاتب لا يؤسس شكلاً بل يكشفه".(10).
لقد انحسرت الرواية التاريخية، أو رواية المشهد الشامل، ذات الوصف الملحمي للحياة، والتي يطلق عليها أدوين موير "رواية الشخصية" لتفسح الطريق أمام قالب روائي جديد في الأدب العربي، هو قالب القصة القصيرة الطويلة، مواكبة بذلك الرواية العالمية، إذ من الواضح أن كتاب الرواية اليوم يميلون إلى كتابة روايات قصيرة "لكنهم ما إن يكتبوها حتى يجدوا مهمتهم قد قصرت عن الاكتمال، ومن ثم يكتبونها من زاوية أو رؤية مختلفتين، وأحياناً يكتبونها مرة بعد مرة، والنتيجة هي الرواية الحديثة المتباينة الوجوه".(11) إلا أن هذا التطور في الرواية العربية لم ينشأ بفعل هذه المؤثرات العالمية فحسب، بل جاء تلبية لحاجة أفرزها التطور في المجتمعات العربية التي أنجبت فن الرواية.
وما يقال عن الرواية الحديثة متباينة الوجوه، حقيقة تنطبق إلى حد كبير على الرواية العربية، إذ يمكن -على سبيل المثال- اعتبار روايات نجيب محفوظ القصيرة في مرحلته الفلسفية التي بدأت بـ "أولاد حارتنا" كاللص والكلاب والسمان والخريف، والطريق والشحاذ، يمكن اعتبارها رواية واحدة متباينة الوجوه، ويمكن اعتبار أبطالها بطلاً واحداً، نوقشت مشكلاته من زوايا عديدة وانفردت كل رواية بمناقشة المشكلة من زاوية معينة.(1/260)
وفضلاً عن تباين الوجوه في الرواية العربية الجديدة، فإن دراسة هذه الأعمال الروائية تظهر أن الرواية الجديدة. هي في الغالب رواية درامية تقترب في الكثير من خصائصها الفنية من التراجيديا الشعرية، والفرق الأساسي بين الرواية الدرامية الجديدة والرواية الاجتماعية القديمة -كثلاثية محفوظ مثلاً- إن الفعل، لا الحادثة هو أساس هذه الرواية، وفي الفعل، كما يقول هيغل "كل شيء يقود إلى الملامح الداخلية للشخصية" أما في حالة الحادثة فيضيف هيغل: "فحتى الجانب الخارجي يكتسب شرعيته التي لا يمكن منازعته عليها.. إن مهمة الأدب القصصي تتركز في أن تؤدي.. إلى أن تمنح الظروف الخارجية، وظواهر الطبيعة، وغير ذلك من المصادفات، نفس تلك الحقوق التي يطالب بها المجال الداخلي".(12)
ولعل خير ما توصف به الرواية الدرامية الجديدة، قول كوزينوف في محاولته تحديد خصائص الأدب الدرامي "وفي الأدب الدرامي يجري التشبث بالسعي الأساسي والمركزي الخاص بالشخصية البشرية. وهذا ما يجعله قريباً فعلاً من التصوير الكرافيكي الذي يقدم المحيط العام والمظهر الأساسي للهيئة البشرية والذي يكتفي فقط بالإشارة إلى الخلفية والظرف المحيط".(13) إن الحياة الداخلية، والمأساة الشخصية لكل من عيسى الدباغ وسعيد مهران، وصابر الرحيمي، وعمر الحمزاوي، هي الأساس ومركز الصورة في روايات نجيب محفوظ في المرحلة التي أشرنا إليها -أما الظرف الاجتماعي الصانع للحياة الباطنة وللمآسي الشخصية فهو خلفية واطار الصورة فحسب، ولهذا السبب تصبح لغة السرد وكلام الشخوص في هذه الروايات لغة وكلاماً حافلين بالصور الشعرية، بل إن أعمال نجيب محفوظ في هذه المرحلة، تكاد تصبح على حد تعبير الناقد محمود أمين العالم "قصائد درامية، بل يكاد يكون بعض فصول روايات الشحاذ مثلاً، قصيدة من قصائد الشعر المعاصر، بناء ومعنى وتجربة وإيقاعاً داخلياً وإن خلت من الوزن والبحر والتفعيلة والقافية".(14)(1/261)
ومن الطبيعي في الرواية التي يكون مركزها الفرد، أن يشحب المكان والزمان الفيزياوي، ويختفي الوصف - الذي من شأنه أن يوقف حركة الزمن في السرد - إلى حد كبير، على حين يبرز الزمن الداخلي أو السيكولوجي للشخصية، يقول الناقد غالي شكري عن اللص والكلاب: تبدأ اللص والكلاب "في لحظة نموذجية هي لحظة خروج سعيد مهران من السجن، وهي لحظة منحوتة من الزمان الداخلي للشخصية"(15) ذلك أن قيم الرواية الدرامية، كما يقول أدوين موير، هي قيم فردية، أما قيم الرواية الاجتماعية، أو رواية المشهد الشامل فهي اجتماعية، وفي الأولى نرى أفراداً يتحركون من بداية إلى نهاية، أما في الثانية فنرى شخصيات تعيش في مجتمع وكلا هذين النموذجين من الرواية لا يتعارضان ولا يتمم أحدهما الآخر، بل هما طريقان متميزان في رؤية الحياة: الفرد في الزمان والمجتمع في المكان.(16) ويكفي أن نقرأ المشهد الأول من "بين القصرين" ثم نقرأ نفس المشهد في "اللص والكلاب" لنقف على الفروق الفنية بين الرواية الاجتماعية والرواية الدرامية. ففي الأولى لا يصف الكاتب لحظة استيقاظ (أمينة) فحسب، بل يعمد إلى لقطة بانورامية للمكان، فالغرفة والجدران والأعمدة والفرش والسقف، والملامح الفيزيائية للشخصية، ثم الشرفة، وشارعي النحاسين وبين القصرين اللذين تقع عند لقائهما الدار، والمقاهي والحوانيت وعربات اليد ومصابيحها ومآذن قلاوون وبرقوق وهي تلوح كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم.(17) وكل ذلك يجد لنفسه مكاناً في الوصف الدقيق لمفردات المكان ومكوناته، أما في اللص والكلاب فالعبارات الأولى في المشهد تحدد الحالة السيكولوجية للبطل وترسم أهم السمات الفنية في أسلوب الرواية: "مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بذلته الزرقاء وحذاءه المطاط وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً..(1/262)
"(18) وسوف نلتقي بمفردات الوحدة، والعزلة والنفي وهي تتردد كنغمة طوال صفحات الرواية.
وما دمنا بصدد الحديث عن أدب نجيب محفوظ الروائي، فجدير بالذكر أن أهم الخصائص التعبيرية في المرحلة الفنية التي تحدثنا عنها، تضاؤل السرد واعتماد الحوار والحوار الباطني كوسيلتين أساسيتين في التعبير. وصحيح أن الثلاثية حافلة هي أيضاً بالحوار الباطني، إلا أن الأمر هنا اختلف كلياً، إذ أصبح الحوار والحوار الباطني هما أساس الأسلوب الجديد.
أما السرد والرؤية القصصية فقد تغيرا لينسجما مع الموضوعات والمضامين الجديدة ومع الشكل الروائي الجديد الذي ينصب الاهتمام فيه على الفرد، لا المجتمع، كما هو الأمر في مرحلة الثلاثية. لقد اختفى الراوي "كلي العلم" الذي يمسك بالأحداث من الخلف، ويتنبأ بأفكار الشخصية، بل ويتدخل أحياناً مفسراً وشارحاً ومعللاً للأحداث وكان من الطبيعي أن تختفي الرؤية (من الخلف) في الرواية الدرامية الجديدة، ذلك أن من شأن هذه الرواية أن تسود فيها وجهة نظر القارئ "فليس ثمة النفاذ إلى ما وراء الشخوص والكشف عن أفكارهم"(19) كما يقول بيرسي لوبوك.
وإذا حاولنا تحديد نوع الراوي والرؤية القصصية في هذه المرحلة وجدنا أن الرؤية أصبحت رؤية "مجاورة" على حين أصبح الراوي ما يصطلح عليه فريد مان "بالشخص الثالث الذاتي" الذي يحبس نفسه على منظور واحد ويرى ويحس بعين وحواس شخصية واحدة ويضبط عمليات التحول من الخارج إلى الداخل في الشخصية المركزية.
نقرا في اللص والكلاب على سبيل المثال "ودار على الميدان في سرعة طبيعية والضجة تلاحق حواسه، ولكنها استقرت في أعصابه حتى بعد انقطاعها عن حواسه، ولفه ذهول شامل فساق السيارة بلا وعي/ القاتل هناك، رؤوف علوان، الخائن الرفيع الممتاز الخ.."(20).(1/263)
إن الذي يتلفظ بالعبارة هنا هو الراوي والشخصية معاً، ومن الواضح أن الراوي يعرف الشخصية من الداخل ويتطابق معها، على حين يتم الانتقال إلى داخل الشخصية، وعن طريق الحوار الباطني المباشر (القاتل هناك الخ..) بدون تدخل من الراوي إذ لا يقوم بتنظيم الحوار وقيادة القارئ، بل يتوقف عن الرواية ليترك الشخصية تتحدث من الداخل وهذا هو الفرق الوحيد بين راوي نجيب محفوظ والشخص الثالث الذاتي الذي يقوم هو بضبط عملية التحول، كما يصفه "فريدمان".
ومن الجدير بالذكر أن الحوار الباطني في (اللص والكلاب) هو من نمط (المباشر) ولم يخرج المؤلف عنه إلى استخدام "غير المباشر" واستخدام ضمير الغائب والمخاطب إلا نادراً، على حين استخدم المؤلف النمطين من الحوار الباطني في (الشحاذ)، مما خلق أسلوباً علمياً ساعد كثيراً في كشف وتصوير العالم الباطني لشخصية عمر الحمزاوي، وهو أسلوب يختلط فيه صوت الراوي بصوت الشخصية إلى حد يصبح معه فصل أحد الصوتين عن الآخر، من الصعوبة بمكان، نقرأ في (الشحاذ):
" في ضوء الشمس تبدت أنيقة وقوراً.. ونظرتها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها، ولكنها غريبة، غرابة مستحدثة لم ترها عينك من قبل. امرأة رجل آخر رجل الأمس الذي لم يعرف التعب أو الفتور، ولكن ما علاقتها بهذا الرجل المريض بغير مرض"(21) إن استخدام ضمير الغائب في الحوار الباطني يتيح للشخصية أن ترى نفسها وهي تتحرك تماماً كما في الأحلام حيث نكون مشاهدي الأحداث المشدودين إليها وصانعيها في نفس الوقت.(1/264)
إذا كنا قد خصصنا نجيب محفوظ بالجزء الأكبر من حديثنا حتى الآن، فذلك لما يمثله هذا الكاتب للرواية العربية ولأساليبها من أهمية كبيرة، وليس من أغراض هذا البحث أن يتحرى مسألة الراوي والرؤية القصصية في النماذج التي سنعرض لها في دراستنا، تحرياً دقيقاً. إذ أن العمل الروائي الواحد قد يحفل- بما يمكن خلقه من رؤى متنوعة ومولدة ناجمة عن اقتران نمطين أو أكثر من الرؤى- بأكثر من رؤية، بحيث يحتاج معه العمل الروائي الواحد إلى دراسة موسعة. إن هدف هذا البحث دراسة أهم الأساليب الروائية الجديدة القائمة أساساً على تنوع الرؤى دراسة عامة محاولاً استنباط دلالة هذه الأساليب وعلاقتها بالبنية الاجتماعية التي أنجبتها.
وبما أن هذا هو هدفنا فإننا سنكتفي -عند دراسة النماذج الروائية- بتقسيم توماشفسكي للرؤية إلى موضوعية وذاتية يدفعنا إلى ذلك، من جهة أخرى، أن الرؤى الثلاث التي أشرنا إليها قد اختزلت إلى حد كبير، فالراوي "كلي العلم" قد اختفى ولم يعد مستساغاً اليوم تدخل الراوي في الأحداث أو ما يسميه تودوروف بـ "الكلام التقويمي" في الرواية، كما أن الرؤية الثالثة التي اصطلح عليها "الرؤية من الخارج" اقتصر وجودها على عدد قليل من الروايات في الأدب العربي.(1/265)
لقد نشأت "الرؤية من الخارج" في القصة العربية، تحت تأثير كتاب الرواية الأمريكية، وبخاصة همنغواي الذي ترجمت معظم أعماله إلى العربية، إن هذا الأسلوب الذي يكون الراوي فيه بمثابة (كاميرا) تلتقط حركات الشخصية، وآلة التسجيل تسجل كلماتها والذي يطلق عليه (عين الكاميرا) تارة (والواقعية الموضوعية) تارة أخرى، أو (جبل الجليد الغائم) تارة ثالثة، والذي اشتهر به كتاب الرواية الأمريكيون-كدائيل هامت، وجون دوس باسوس، وهمنغواي- شاع في الأدب العربي لدى كتاب القصة القصيرة، كمحمد خضير ومحمد زفزاف، وإبراهيم أصلان أكثر من شيوعه في الرواية، وباستثناء قصة صنع الله إبراهيم المعروفة "تلك الرائحة"(22) وروايته "نجمة أغسطس" فإن معظم الآثار الأدبية التي كتبت بهذا الأسلوب، تقع في دائرة القصة القصيرة لا الرواية، علماً أن القصتين تقترن فيهما الرؤية من الخارج مع الرؤية من الداخل لتكون أسلوباً متميزاً يقوم على سرد الأحداث في أكثر من مستوى زمني واحد.
وبهذا تكون الرؤية (المجاورة) أو المصاحبة، هي الرؤية القصصية السائدة اليوم في أساليب السرد، في الرواية العربية الجديدة، وهي رؤية أكثر رقياً من الرؤية من (الخلف) أو الرؤية (المجاورة) كما اصطلح البعض عليها.(1/266)
لقد عبرت الرؤية الدرامية عن نفسها في الرواية العربية الجديدة، بطرق أو أساليب عديدة، أبرزها شيوع الرؤية الداخلية الذاتية واستخدام ضمير المتكلم في سرد الأحداث، في كثير من الروايات العربية، وثانيهما استخدام الرؤية الذاتية إلى جانب الموضوعية لتحقيق الرواية ذات الأصول المتعددة، ولخلق ظاهرة جديدة في الرواية العربية وأساليبها، هي ظاهرة "تكافؤ السرد" إذ يعمد معظم كتاب الرواية اليوم إلى رؤية الأحداث من منظورات وزوايا مختلفة، بل ومتناقضة أحياناً من شأنها أن تخلق تشويشاً معيناً يتطلب من القارئ أن يقحم نفسه في العملية الإبداعية، وهي بهذا أي الرواية تقترب من المسرح الملحمي، كما تقترب مما يسميه الناقد البنيوي بارت "بالنص المقابل للكتابة" وإن لم تحققه بصورة كاملة.
وبما أن هذه الدراسة القصيرة لا تهدف إلى استقصاء أنواع الرؤى في نماذج روائية عديدة، بشكل دقيق تحتاج معه إلى دراسة مطولة، رأينا أن نشير إلى شيوع استخدام ضمير المتكلم في سرد الأحداث وفق رؤية ذاتية- والذي لا يمكن أن يعتبر عودة إلى الرومانسية بقدر ماهو تعبير عن رؤية درامية للحياة، مجرد إشارة، وأن تخصص هذه الدراسة لأحداث الأساليب الروائية الجديدة في الأدب العربي والذي يقوم على استخدام أكثر من رؤية في سرد الأحداث خالقاً بذلك أسلوباً جديداً في الرواية العربية.(1/267)
ويتم تحقيق "التكافؤ السردي" في الرواية العربية الجديدة بطريقتين، الأولى أن تشترك معظم شخصيات الرواية، وبخاصة الرئيسة منها في سرد الأحداث. كل من وجهة نظرها الخاصة ومن زاوية معينة، كما هو الأمر في (ميرامار) لنجيب محفوظ (والأشجار واغتيال مرزوق) لعبد الرحمن منيف، أو أن تقترت الرؤية الموضوعية للأحداث، عن طريق الشخص الثالث، أو الشخص الثالث الذاتي بالرؤية الذاتية عن طريق سماح الكاتب لبعض شخصيات الرواية، وبخاصة تلك التي تتسم بالذاتية، أو تمتلك حياة داخلية خصبة بأن تروي الأحداث من وجهة نظرها الذاتية، لتضاف إلى رؤية الراوي الموضوعي، كرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، (والبحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا و"الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي. وفي الحالتين نحصل على رؤى ذاتية وموضوعية متعددة للأحداث، إذ أن من شأن الرؤية الذاتية لكل شخصية، أن تصبح بالنسبة للشخصيات الأخرى، رؤية موضوعية.(1/268)
ولعل الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ هو من أوائل من ابتكر هذا الأسلوب الجديد في روايته (ميرمار) حيث يلتقي في بنسيون سيدة إغريقية الوفدي السابق (عامر وجدي) والإقطاعي الذي وضعت أمواله تحت الحراسة "طلبة مرزوق" والشاب الذي ينحدر من أسرة ارستقراطية ويحاول أن يوظف بضعة الأفدنة من الأرض التي بقيت له بعد الثورة، في مشروع جديدة (حسني علام) والثوري المرتد والخائن لرفاقه (منصور باهي)، عضو الاتحاد الاشتراكي (سرحان البحيري) الذي استطاع بانتهازيته أن يتسلق المراتب الحزبية والوظيفية، يلتقي كل هؤلاء ويفترقون في صراعهم مع وحول (زهرة) الفلاحة خادم البنسيون، وعلى حين يتفرد عامر وجدي الوفدي القديم برواية الفصل الأول والأخير من الرواية ويستبعد طلبة مرزوق، الإقطاعي الذي يرى أن الثورة أخذت أمواله فئة اجتماعية معينة وأخذت حرية الجميع وأن أمريكا هي البديل للنظام، من رواية الأحداث، يروي كل من حسني علام وسرحان البحيري ومنصور باهي فصلاً من فصول الرواية. مما يتيح لنا أن نرى الأحداث من منظورات وزوايا رؤية متعددة.
ولعل بناء الرواية على هذا الشكل يسهم في إبراز المضمون الذي أراد أن يقوله الكاتب، إذ أن استبعاد مرزوق من الرواية يعود إلى انتمائه إلى مجتمع ماقبل الثورة الذي سقط سياسياً واقتصادياً وايديولوجياً على حين جاء استبعاد زهرة من رواية الأحداث لكونها رمزاً وليس حقيقة،(23)، ولعل الكاتب كنى بها عن مصر الفلاحة، كما أن انفراد عامر وجدي برواية الفصل الأول والأخير ينبئ بتعاطف الكاتب مع الوفد أكثر من تعاطفه مع أي تيار سياسي آخر.
وفي الوقت الذي نرى فيه الأحداث من وجهة نظر ذاتية في كل فصل، إذ نراها من خلال عيني الراوي تصبح وجهة النظر وزاوية الرؤية الذاتية هي بمثابة رواية موضوعية بالنسبة للشخصيات الأخرى في الرواية، وبهذا يتاح للقارئ أن يرى الأحداث رؤية موضوعية عن طريق رؤيته لها بطرق متعددة ومن جوانبها المختلفة.(1/269)
إلا أن محاولة محفوظ هذه لم تفلح في أن تحقق النجاح إذ جاءت وكأنها أربع قصص مستقلة يجمعها مكان واحد وتتشابك في بعض أحداثها، مما دفع بعض النقاد إلى القول بأن شكل الرواية كان مجرد شكل خارجي فحسب، يحاول أن يصوغ أفكارها الجوهرية التي تتمثل أساساً في التوازي والتصادم... بين الواقع الخارجي، والوجدان الداخلي للنفس البشرية.(24).
وجدير بنا ونحن نتحدث عن مثل هذا الأسلوب، أن نذكر محاولة غائب طعمة فرمان في روايته "خمسة أصوات" التي جاءت شبيهة بميرامار بعض الشيء واختلفت عنها في أشياء كثيرة. فالرواي في خمسة أصوات هو "المتنوع" والرؤية موضوعية إلا أن المؤلف سمى فصول روايته بأسماء أبطالها، وأفرد لكل شخصية أكثر من فصل مما جعل الرواية تحقق الالتحام في فصولها، على حين تخفق في أن تقدم أو تضيف جديداً إلى الرواية العربية. والعلة في ذلك في رأينا أن أحداث خمسة أصوات تقع قبل التغير لابعده كما في ميرامار، وأن شخصياتها جميعاً تنتمي إلى شريحة اجتماعية واحدة، وتتجانس سياسياً وأيديولوجياً، ولا تختلف إلا في بعض الأمور الخاصة والذاتية، وفي مجتمع تتحقق فيه الوحدة لا الانقسام، وهو على وشك تحقيق التغيير، تصبح الرؤية الموضوعية لا الرؤية الذاتية، هي الرؤية المناسبة للأحداث.
على أن الرواية التي حققت إضافة كبيرة في (أسلوبها السردي)، وتركت أثرها الكبير في الرواية العربية، هي رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" وهي رواية درامية تسلك طريق الرواية الذاتية، إذ أن الراوي هوأحد شخصياتها بل هو الشخصية الثانية في الرتبة الروائية بعد شخصية (مصطفى سعيد)، بطلها.(1/270)
ولعل أحد أسباب جمال السرد في هذه الرواية، وما يحققه من تشويق، ناجم عن أن الراوي لا يروي الأحداث دفعة واحدة من البداية إلى النهاية، بل يعمد إلى تقطيع هذه الأحداث إلى نتف تظهر من خلال المنلوج والتداعي. فنحن في الفصل الأول منها نتعرف على الراوي وعلى مصطفى سعيد وعلى بعض الشخصيات الرئيسة الأخرى، وفي الفصل الثاني يروي (مصطفى سعيد) مأساته للراوي، ولا يظهر مصطفى سعيد، بعد ذلك إلا من خلال وعي الراوي وهو يتابع سرد أحداث القصة. إن المؤلف لا يضيء نقطة من الأحداث، حتى يتركها إلى غيرها: "فنصبح مع المؤلف كأننا نسير في سرداب مظلم يضيء مصباحه اليدوي في أي مكان شاء فنرى قطعة من الأحداث، ثم يعاودنا الظلام والضياع بالنسبة لهذه القطعة، لأنه يحلو له أن يضيء غيرها، فإذا أضفنا أنه بدأ بنا من آخر السرداب، ثم بدأ بداية أخرى من وسطه، ثم عاد إلى البداية، ثم إلى الوسط، أدركنا مدى التشويق الكامن في طريقة السرد".(25).
وينشأ التكافؤ السردي، وما يترتب عليه من (تشويش) عن طريق إسهام معظم شخصيات الراوية في الحديث عن مصطفى سعيد أحاديث متضاربة يصبح معها مصطفى سعيد أكذوبة وحقيقة، واقعاً وأسطورة في آن واحد، فالرواي لا يعرف مصطفى سعيد من خلال روايته هو لأحداث مأساته، ولا من خلال جده ومن خلال الفلاح محجوب، بل يقابل بعد موت مصطفى شخصيات عديدة، تروي عنه كل من زاويتها الخاصة.(1/271)
فالراوي يقابل موظفاً متقاعداً وهو في القطار في طريقه إلى الخرطوم، ويصف الموظف سعيداً بأنه ابن الانكليز المدلل، وأنه لا أصل له(26) ثم يقابل الراوي رجلاً إنكليزياً يزعم بأنه لا يدري شيئاً عن صحة ماقيل عن الدور الذي لعبه مصطفى سعيد في مؤامرات السياسة الإنكليزية في السودان، ويضيف قائلاً: "إن مصطفى سعيد لم يكن اقتصادياً يركن إليه.. كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاديين الغابانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم"ويضيف قائلاً: "(27) يظهر أنه كان زير نساء يخلق لنفسه أسطورة من نوع ما، الرجل الأسود الوسيم المدلل في الأوساط البوهيمية، كما كان يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينات وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر....
وكان أيضاً من الأثيرين عند اليسار الإنكليزي"..
ويصفه شاب يحاضر في الجامعة، (28) كان زميلاً للراوي في إنكلترا والتقى مرات عديدة به، يصف سعيداً بأنه مليونير يعيش كاللوردات في الريف الإنكليزي، وأنه لعب دوراً خطيراً في مؤامرات الإنكليز في السودان في أواخر الثلاثينات. على حين يصفه وزير من تلاميذه بأنه "كان رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير أفريقيا.... ياله من رجل كانت له صلاة واسعة، يا إلهي ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذباب".(29) وحين يرد الراوي على زميله الشاب ليصحح معلوماته عن مصطفى سعيد، يسأل الشاب الراوي بذعر "هل أنت ابنه؟" وهو يسأل هذا السؤال رغم معرفته الأكيدة بالراوي بأنه ليس ابناً لمصطفى سعيد، فيعلق الراوي على ذلك بقوله: "والمكان، تبدو له الأشياء هو الآخر، غير حقيقية، يبدو له كل شيء محتملاً".(29).(1/272)
وليست الشخصيات وحدها هي التي تروي عن مصطفى سعيد، بل تسهم في رواية الأحداث والرسائل كرسائل مسز روبنسن إلى الراوي، والوثائق التي وجدت في مكتبه وبضمنها جوازه ومذكراته التي بدأ بكتابتها، ومؤلفاته العديدة،ـ كل ذلك يسهم في أن يكشف شخصية ثرية وفنية كشخصية مصطفى سعيد، شخصية في غناها وثرائها وفي تعدد أبعادها تبدو وكأنها حلم وليس حقيقة، بحيث أن الراوي نفسه تخطر له أحياناً فكرة مزعجة مفادها:"أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً وإنه فعلاً أكذوبة أو طيف، أو حلم، أو كابوس ألم بأهل القرية... ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه"(30).
وليس السرد وحده هو الذي يسهم في "تشويش" صورة مصطفى سعيد بل ويتضافر ترتيب الأحداث في الرواية، معه، ليخلق هذه الصورة المشوشة والمتناقضة كما تبدو للوهلة الأولى، ذلك أن أحداث الرواية في بعض أجزائها لا تنجم عن قانون السببية أو العلة والمعلول، أي أنها ليست سبباً ونتيجة بشكل مباشر كما هو الأمر في (الحبكة) ولكن عن سببية سيكولوجية وعن خاصية في الطباع، فنحن لا نجد تفسيراً واضحاً لغياب عاطفتي البنوة والأمومة بين سعيد وأمه، ولا نعرف دافعاً لذلك الاندفاع نحو المأساة لدى سعيد:"وما أكثر ما سألت نفسي ما الذي يربطني بها، لماذا لا أتركها وأنجو بنفسي؟ ولكنني كنتُ أعلم أن لا حيلة لي، وأن لا مفر من وقوع المأساة.(31)
إن الوظيفة التي يؤديها مثل هذا الأسلوب في السرد، كامنة في كلمات الراوي بصدد زميله: "إذ تبدو له الأشياء في لحظة غير حقيقية ويبدو وكل شيء محتملاً" إن الحقيقة في مثل هذه الرواية ذاتية متعددة ومتباينة الوجوه، بتعدد وتباين طرق النظر إليها.(1/273)
وأخلاقية هذه الرواية مضادة للأخلاقية الإطلاقية، وفكرها مضاد للأفكار المطلقة، وليس عجيباً أن يقدم مصطفى لقصة حياته التي أراد أن يكتبها، فلم يكتب غير الإهداء بقوله: (32) "إلى الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد، ويرون الأشياء أما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية...."، وكأنه أحس بأن في قصته المأساوية مايفند هذه الرؤية القاصرة عن فهم الحقيقة.
وفي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق"، لعبد الرحمن منيف، يروي عبد السلام منصور، الأستاذ الجامعي الذي فصل من عمله لأسباب سياسية، قصة فصله، وتشرده بحثاً عن عمل، ومماطلة السلطات في منحه جواز سفر لثلاث سنوات وفي القطار يلتقي بشخصية شعبية بدائية تشبه إلى حد بعيد شخصية (زوربا) في رواية الكاتب اليوناني كازنتزاكي، ويروي عبد السلام منصور قصته من الداخل بطريقة ذاتية، مستخدماً ضمير المتكلم ويقتصر دوره ومنذ الفصل الخامس من القسم الأول على توجيه الأسئلة لـ(الياس) والتعليق على روايته للأحداث مما جعل هذا القسم شبيهاً بالريبورتاج الصحفي. وفي الوقت الذي يستعين فيه القاص على كشف وتصوير شخصية منصور باستخدام التداعي والمونولوج المباشر وغير المباشر، فإن رواية الياس تتم عن طريق السرد بضمير المتكلم،دون استخدام التداعي أو المونولوج، وبطريقة هي أحياناً "أقرب إلى التقرير العفوي البسيط بكل مافيه من ملامح الأداء الشعبي".(33).(1/274)
ويقدم الكاتب للقسم الثاني من الأحداث بفصل تكون رواية الأحداث فيه موضوعية عن طريق الشخص الثالث، إلا أنه يعود إلى إكمال رواية الأحداث بنفس الأسلوب السابق لنرى إلى جانب حياته جوانب من حياة الياس نخلة، التي سبق أن رواها بنفسه مما يتيح لنا رؤية قصة الياس نخلة رؤية موضوعية ومن خلال منصور وبهذا تقترب الرواية من بناء "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث تتضافر الرؤيتان الذاتية والموضوعية في عرض الأحداث، رغم الفوارق الفنية الكبيرة، إذ ظلت "الأشجار" تبدو وكأنها قصتان لا قصة واحدة(34) تتشابك أحداثهما في نقاط محددة فحسب شأنها شأن "ميرامار" لنجيب لنجيب محفوظ.
وينجح الكاتب في تلافي هذا الصدع في روايته "شرق المتوسط، التي تقوم على نفس البناء السردي، حيث يشترك في رواية أحداثها، بطلها السياسي المرتد "رجب اسماعيل، وأخته "أنيسة" حيث يروي كل منهما ثلاثة فصول من الأحداث بالتعاقب. ويكشف القاص عن رغبته في كتابة رواية تشكل إضافة فنية وتحقق قيمة جمالية جديدة، إذ يكتب (رجب) إلى أخته أنيسة قائلاً: "أريد أن نكتب معاً رواية... لو كتب عادل بعض الأشياء وتركناها على بساطتها وصدقها.. ولو كتب حامد، ولو كتبت أنت، ثم أكتب أنا بعد ذلك... فإن ما نكتبه معاً سيكون شيئاً جديداً وجميلاً"، ثم يضيف مبيناً ميزة هذه الطريقة"... وطبيعي أيضاً أن ننظر من زوايا مختلفة، هذه الزوايا المختلفة ضرورية لكي نرى الشيء من جميع جوانبه".(35).(1/275)
بين "موسم الهجرة إلى الشمال" والبحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا أكثر من سبب وأكثر من وشيجة، وقد تركت الأولى بصمات واضحة على الثانية(36) في محاولة للكاتب خلق شخصية روائية شبيهة "بمصطفى سعيد" وتقوم رواية جبرا على فكرتين أساسيتين أولهما تقع في الخلط بين فكرة النمط وفكرة النموذج. إذ تقول إحدى شخصيات الرواية مبررة ما في شخصية (وليد) من خروج على المألوف يقترب بها من الأسطورة:(ليس هناك نموذجي ولاسيما عندما يكون شخصاً غير عادي كوليد"(37). وثانيهما، أن أصالة الإنسان تكمن في دخيلة ذهنه في خلايا دماغه، وأن النظرة السوسيولوجية تطمس القدرة على رؤية ما في الفرد من أصالة وتميز:"إن النظرة السوسيولوجية، تفسد الخيال من أساسه يدربونك عشر سنوات على رؤية الإنسان كظاهرة مجتمعية وإذا أنت في النهاية تفقد القدرة على رؤيته كإنسان متميز كإنسان مستوحد".(38)
وتقوم رؤية جبرا على (استخدام الرؤية الموضوعية والذاتية معاً في سرد الأحداث والكاتب يموضع أحداثه عن طريق الراوي الأول في الرواية الدكتور جواد حسني الأستاذ الجامعي الذي يقوم بكتابة بحث عن وليدمسعود يدفعه للبحث مع الشخصيات الأخرى عن هوية وليد ومصيره كماتتموضع الأحداث عن طريق إسهام معظم شخصيات الرواية التي لها علاقة بوليد في رواية الأحداث على حين نحصل على رؤية ذاتية لوليد من خلال رواية وليد لبعض فصول الرواية رواية ذاتية داخلية يستخدم فيها التداعي-وبخاصة في حديثه الذي تركه في شريط على آلة التسجيل في السيارة قبل اختفائه- بحيث تتاح للقارئ رؤية وليد رؤية ذاتية وموضوعية ومن منظورات مختلفة. وتأتي النهاية المفتوحة للرواية إذ يخضع مصير وليد لاحتمالات عديدة منسجمة مع هذا البناء للسرد.(1/276)
ويطلق الكاتب على هذا الأسلوب الفني في بناء الرواية مصطلح "المرايا" إذ يتساءل د.جواد حسني عن شخصيات الرواية وهي تروي الأحداث قائلاً: "عمن هم في الحقيقة يتحدثون؟ عن رجل شغل في وقت ما عواطفهم وأذهانهم أم عن أنفسهم، عن أوهامهم وإحباطاتهم وإشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الذي يطل من أعماقها، أم أنه هو المرآة ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما ربما هم أنفسهم لا يعرفونها" وهكذا يتاح لشخصيات الرواية أن تكشف نفسها للقارئ، وهي تتحدث عن وليد على حين نرى وليداً من خلال وعيها.
ولابد من الإشارة -وقد أشرنا إلى تأثير موسم الهجرة إلى الشمال على رواية البحث عن وليد مسعود- إلى الفروق الفنية بين العملين، إذ ينتصر في الأولى الفن والصدق الفني على الأيديولوجية في تصوير الواقع، على حين تنتصر الأيديولوجية على الفن في رواية جبرا، فنرجسية الكاتب وانحيازه الأيديولوجي، وتعاطفه الشديد مع بعض الشخصيات وحرمانه لبعض شخصياته الأخرى من هذا التعاطف ومحاولة لتصويرها بأسلوب تهكمي ساخر واعتماده في كشف وتصوير شخصياته على الحوار والمناقشات الطويلة بين شخصياته، جعل من القاص قاص السماع لا الرؤية، وجعل من الرواية بناءً فنياً جميلاً، لكن بلا مضمون يرتقي إلى مستوى هذا البناء. لقد حرم الكاتب شخصياته "من أن تقول أي شيء يفضح خفاياها ومؤكد أن المؤلف لو لم ينقذ أحاديثهم تلك بسرده الطلي الرشيق، بتفجير بعض المواقف الدرامية... بتمرسه على نحت الصورة الروائية والأداء الروائي البارع، لما بقي لنا سوى أن "نتفرج" عليهم غير متعاطفين ماداموا لا يظهرون لنا بكامل تجربتهم التاريخية".(39).(1/277)
وتختلف "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي التي تصور أربعة أجيال(40) من أسرة بغدادية عن كل الأعمال التي ناقشناها، في أنها تطمح إلى أن تكون رواية كلاسيكية، رغم أن أحداثها لا تبتعد كثيراً عن الدار، بحيث تكون مشهداً شاملاً للمجتمع العراقي في المرحلة التي تقع فيها الأحداث، ورغم استخدام الكاتب للكلام) لا (اللغة) في حوارها.
وفضلاً عما تحفل به الرواية من نزعة تسجيلية وطبيعية، فإن معظم شخصيات الرواية هي شخصيات سلبية مهزومة، تواجه الواقع بسلوك مريض، كما هو الأمر مع شخصيتي (كريم) الذي تشل إرادة الحياة والعمل فيه رؤيته لصديقه (فؤاد) وهو يموت تحت عجلات مركبة، وحسني الذي يتخلى عن زوجته وابنتيه ويفصل من عمله فيبحث عن عمل في بلد غير بلده، ثم يعود إلى بلده، ليسقط في مستنقع العدمية ويغرق في السكر والإدمان عليه. وفي نفس الوقت تقتصر حيوات النسوة العجائز في الطابق الأعلى من الدار على النوم، والطعام، وإصدار نداءات الجوع بشكل دائم، بحيث تذكرنا حياتهن الوضيعة هذه بتلك الحيوات الوضيعة في (جحيم) دانتي، ورغم أن شخصية (مدحت) هي الشخصية التي تأسر القارئ، لأنها الشخصية الأكثر إيجابية، إلا أن منطق الشخصية وفلسفتها البراغماتية، تحد إلى حد كبير من إيجابيتها وفاعليتها. ولا تتأتى سلبية كريم و(حسين) وسلوكهما المرضي، نتيجة لعوامل قاهرة، تدفع القارئ إلى التعاطف معهما، بل تغرق الشخصيتان في سلوكهما المرضي هذا بفعل صدمة نفسية ناجمة عن (المصادفة). وهي في الحالتين (مصادفة) لا تنبع من الضرورة، مما جعل الشخصيتين تبدوان زائدتين وسلوكهما غير مبرر وأحاديثهما الكثيرة وإن ارتدت رداءً فلسفياً- باعثة على الضجر.(1/278)
والكاتب هو أيضاً يستخدم الرؤيتين الموضوعية والذاتية معاً في كشف وتصوير شخصياته، فالراوي في معظم فصول الرواية هو (المنوع) باستثناء الفصول الخاصة (بكريم) التي تقدمها فيها الأحداث من وجهة نظره وتروى بضمير المتكلم، على حين يتضافر الأسلوبان في تقديم وتصوير شخصية(منيرة) التي تبدأ في الفصل التاسع من الرواية، رواية الأحداث رواية ذاتية وبضمير المتكلم، حتى إذا دنا سرد الأحداث من حادث السفاح لجأ الكاتب- وبلغة سينمية- إلى موضعة الأحداث، وتحول ضمير الحاضر إلى الغائب (والأنا) القائل إلى (هو) الرائي ليتحول القارئ بدوره من (السماع) إلى الرؤية البصرية للأحداث.
إن المعنى الكامن وراء موضعة الأحداث، هو عجز الشخصية، بفعل التابو الاجتماعي، والتحريمات الأخلاقية الاجتماعية، ولاسيما بين الطبقات الوسطى(41) عن الحديث عن أمر كهذا، ومن جهة أخرى، تجعل هذه الموضعة القارئ يرى الأحداث بشكل أفضل. وتذكرنا هذه الالتفاتة الفنية من قبل الكاتب بنجيب محفوظ في الثلاثية، واستخدامه لأدواته التعبيرية بشكل يتناسب وينسجم مع الخصائص الاجتماعية والسيكولوجية للشخصية إذ لم يستخدم الكاتب المونولوج في كشف شخصية أمينة من الداخل وتصوير عالمها الباطني إلا بعد وفاة زوجها أحمد عبد الجواد.
إن الرواية كناية عن عمل فكري في المرتبة الأولى، وهي في المرتبة الثانية، صياغة جمالية لهذا العمل الفكري، ومعطيات الواقع هي التي تقترح نوعية هذا العمل وصياغته الجمالية. والرواية الدرامية هي رؤية في الحياة، وهي رؤية (للفرد في الزمان) كما يقرر ادوين موير، وقيم هذه الرواية، قيم فردية، على عكس الرواية الاجتماعية التي تقوم على قيم اجتماعية، على رؤية (الفرد في مجتمع) فما الذي يجعل الرؤية الدرامية للحياة تتقدم وتصبح في مركز الصورة على حين تتراجع الرؤية الاجتماعية إلى خلفية هذه الصورة؟(1/279)
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في مضامين الروايات التي تحدثنا عنها والروايات جميعاً تتناول عملية التغيير الاجتماعي، والمشكلات الناجمة عنه. وقد يقول قائل إن بعض روايات نجيب محفوظ في المرحلة الفلسفية التي تحدثنا عنها كالطريق والشحاذ، تطرح وتعالج مشكلات ميتافيزيقية، وهذا صحيح، إلا أن المشكلات الكونية والميتافيزيقية في هذه الروايات "تتلبس مضمونها العيني بوصفها مشكلة اجتماعية في الجوهر والأساس، مشكلة انتماء إلى العالم والتزام به ومشاركة في صياغته"(42). بل إن التساؤلات الكونية والميتافيزيقية فيها نابعة عن التغيير الاجتماعي نفسه.
وعلى حين تقف بعض هذه الروايات عند حدود الواقعية النقدية(كاللص والكلاب) و(الطريق) فإن البعض الآخر يتجاوزها إلى واقعية أكثر إشراقاً بما فيها من إيمان بالمستقبل، وبالعلم والثورة والتغيير الاجتماعي، وبما تلهمه من اتجاه ثوري.(1/280)
إن أكثر روايات هذه المرحلة التصاقاً بما هو اجتماعي، وبعملية التغير الاجتماعي، هي اللص والكلاب وميرامار، وكلاهما تنتهي بالجريمة وتعنينا رواية اللص والكلاب أكثر من غيرها لكونها بنية دالة بالنسبة للتغير الاجتماعي، أكثر من غيرها أيضاً، ولقد بين بعض الباحثين باستخدام جدول الناقد البنيوي كريماس أنها بنية سقوط اقتصادي وأيديولوجي(43)، إذ يتخلى الجميع تدريجياً عن (مهران) باستثناء نور وطرزان. ونحن نتفق مع الرأي القائل بأن الرمز في (اللص وا لكلاب) هو "مزيد من الواقع"، هو تكثيف الواقع وتركيزه". إن هجرة (رؤوف علوان) الطبقية وتخليه عن تلميذه (سعيد مهران) وعن أفكاره الثورية عن العدالة الاجتماعية هي هجرة موازية وشبيهة بهجرة الطبقة الاجتماعية التي قادت التغيير، ولذلك كان سعيد مهران وهو يكافح من أجل العدالة الاجتماعية، وضد القوى الصانعة لمأساته ضمير الملايين: "الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين.. أنا روحك التي ضحيت بها ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك.. وأن أفهم اليوم كثيراً مما أغلق عليّ فهمه من كلماته القديمة ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة مظلمة بلا نصير".(45)
وفي الشحاذ نجد المفارقة واضحة بين مرض عمر الحمزاوي المحامي الثري الذي حقق كل مايحلم به من ثروة وملكية وبين النظام الاجتماعي، إذ يدور هذا الحوار بين عمر وطبيبه.
"-وها أنت تبحث عن الحب المفقود، خبرني أما زلت تذكر أيام السياسة والإضراب والمدينة الفاضلة؟..
- طبعاً. وقد ولت جميعاً ولم يبق إلا سوء السمعة.
- ومع ذلك فقد تحقق حلم كبير- أعني الدولة الاشتراكية".
ثم يصف الطبيب مرض عمر المرتد عن ماضيه السياسي والأيديولوجي قائلاً:-
"أجل إنه مرض برجوازي.. ليس بك من مرض".(46).(1/281)
وفي (موسم الهجرة إلى الشمال) يشير محجوب الفلاح إلى خلو القرية من الخدمات التعليمية والصحية، رغم كل الشعارات العريضة التي ترفعها الفئة الحاكمة حول ذلك ويقول محجوب للراوي واصفاً التغيير بقوله: "الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه... الدينا تتغير حين يصير أمثالي وزراء في الحكومة"،(47) ويتلو ذلك حديث للراوي عن مؤتمر انعقد حول التعليم، يكشف فيه التناقض الفاضح بين الفكر والممارسة، النظرية والتطبيق، الشعارات والسلوك العملي للفئة الحاكمة، لنقف على شتى أنواع الفساد في صفوف هذه الفئة التي تتحدث باسم العمال والفلاحين.
أما (الأشجار واغتيال مرزوق) فتؤكد مثل هذا المعنى على لسان منصور عبد السلام الأستاذ الجامعي، الذي سرح من عمله لأسباب سياسية"، أما الذين توهم أنه علق مشانقهم فمازالوا في أماكنهم.. هل نزل منصور عبد السلام تحت الأرض؟ هل تعب فوقها مثل الخلد الأعمى؟ لا يستطيع أن يتذكر، ولكنه متأكد أن ثورة لم تقع رغم الضجة الكبيرة التي يراها في كل شيء حوله". ولا تتعرض هذه الروايات لعملية التغيير ومصيرها، وتخلي الفئات الاجتماعية التي قادتها عن تحقيق العدالة الاجتماعية، بل وتصف أساليب القمع والإرهاب الذي تمارسه هذه السلطات في تحقيق أهدافها الخاصة من التغيير، إن ثمة علاقة واضحة بين انتقال قرية(الطيبة) العربية من اقتصاد الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد السوق، وبين اغتراب عبد السلام والياس نخلة من جهة، وانتهاء الأول إلى الجنون، وبين اغتيال مرزوق الذي أسهم في الثورة وفي انتقال السلطة إلى الفئة الجديدة من جهة أخرى.(1/282)
وإذا كان منصور عبد السلام الذي انتهى إلى عدمية شبيهة بعدمية بتشورين بطل ليرمنتوف في رواية (بطل من هذا الزمان)،(48)، إذا كان قد انتهى إلى أن يطلق الرصاص على نفسه في المرآة، فإن بطل (شرق المتوسط) يمرض ثم يفقد بصره على يد جلاديه ويموت بعد أيام من رميه فاقداً لبصره على عتبة داره، بل يبلغ الأمر بهؤلاء الجلادين بأن يقدموا على سجن (حامد) زوج أخته أنيسة، الذي تكفله بعد خروجه من السجن، ويجعلوا منه رهينة لكي يعود (رجب) إلى الوطن بعد أن رفض أن يكون عيناً لهم على أبناء وطنه في الخارج.
وتناقش رواية جبرا "البحث عن وليد مسعود" مشكلة التغيير في المجتمعات الزراعية، حيث يقف التخلف والغيبية عائقين أمام هذا التغيير الذي يتطلب حالة قصوى من العقلانية إذ يتساءل (وليد) عن الهدف من التكنولوجيا قائلاً:"ماهو الهدف النهائي لذلك كله؟ هل هو تهيئة الرفاه المادي للجميع؟.. أو لن يكون ذلك ذريعة لتمرير أهداف خاصة لفئات تعطي الخبز للفم بيد، وتسلط المقرعة على العقل باليد الأخرى، كما حصل في فترات كثيرة من التاريخ".(49).
ويصف وليد العنف والعسف والقمع الذي وجده على الأرض العربية بعد هجرته من فلسطين، بأنه لا يقل ضراوة عما وجده عند اعتقاله من قبل السلطات الصهيونية في الأرض المحتلة. وبصدد حرية الفكر وغيابها، وتحريم كل النشاطات الفكرية بحجة أنها سلفية أو أنها لا تنتمي إلى الأرض تقول إحدى شخصيات الرواية: "لنشرب نخب المحرقة الكبرى القادمة، يوم يصبح اللامثقفون الوطنيين الوحيدين".(50)(1/283)
أما رواية (الرجع البعيد) فهي لا تطرح موضوع مصادرة حرية الإنسان وحقوقه بشكل مباشر بل تقول ماقالته الروايات الأخرى عن طريق بنائها وأحداثها ومصائر هذه الأحداث وإن كنا نجد في استرجاع) كريم لحادث التحقيق معه في موت صديقه فؤاد إشارات واضحة إلى موضوع العنف "كان ضابط البوليس.. يقف كالطاووس بعينين ملتهبتين ويتخذ شكل أحد ضباط الجستابو مرة وهيئة رجل من رجال محاكم التفتيش الإسبان مرة أخرى". (51) وينبغي فهم محاولة مدحت للخروج من الحصار، في مستواها الرمزي لا الواقعي، ذلك أن هذه المحاولة اقترنت بتخطيه وتجاوزه لكل القيم الاجتماعية الموروثة ولكل "قذارات أجداده وتفاهاتهم وعقدهم وجنون حبهم للشرف والقتل"،(52). ولكن مدحت الذي يقرر الخروج من غرفة (حسين) والعودة إلى زوجته (منيرة) يسقط ويموت برصاص الجنود المحاصرين للحي وبفعل قوانين كونية واجتماعية عاتية لا ترحم، شأنه شأن معظم أبطال التكرلي الذين يناضلون بقوة ضد هذه القوانين لكنهم لا يلبثون أن يسقطوا ضحايا لها. وليس عجيباً أن يعمد الكاتب إلى اختتام روايته بهذا الجزء من الفصل (12-الزخم والبقاء) رغم أنه ليس الأخير من حيث التسلسل الزمني لأحداث الرواية، ذلك أن كفاح مدحت البطولي للخروج من الحصار نحو الحياة، ومايكمن فيه من دلالة رمزية، وموته الذي يتعانق فيه مصيره الكوني بمصيره الاجتماعي- على نحو يندر له مثيل في الرواية العربية- هو مايمنح للرواية قيمتها الفكرية والفنية.(1/284)
لقد أجبنا على السؤال الذي طرحناه حول انتصار الرؤية الفردية الدرامية للحياة على الرؤية الاجتماعية، إجابة غير مباشرة بأن عرضنا لمضامين هذه الروايات التي تتناول جميعها مشكلات التغيير الاجتماعي وما نجم عنه من مشكلات وتناقضات جديدة، ولكي نجيب على سؤالنا إجابة تامة لابد من المقارنة بين هذه المرحلة التأريخية التي دفعت بهذه الرؤية إلى المقدمة وبين مراحل سابقة من التاريخ شهدت انتصار الرؤية الملحمية للحياة تارة، والرؤية الدرامية والغنائية تارة أخرى.(1/285)
إن المراحل الأولى لظهور فن الرواية الحديث، شبيهة إلى حد كبير بتلك المرحلة التي نشأ فيها فن الملحمة لدى الشعوب البدائية، والتي تسمى بمرحلة الديمقراطية العسكرية، ففي كلتا الحالتين تكسر المجموعات والسلالات البشرية أطواق الحياة الضيقة، لتخرج إلى حياة أوسع، تتيح للشاعر(1)ذلك الوصف الملحمي التفصيلي للحياة، كما تتيح للفرد بروز (أناه) بعد أن كان منصهراً في الجماعة البشرية، وكلتا المرحلتين في التاريخ القديم والحديث شهدتا اندماج هذه (الأنا) بالكلية الجوهرية للأمة وحالاتها وطرق تفكيرها، (53) ولقد كانت هذه الحالة (الملحمية) من انسجام الفرد مع الأمة وانسجام الإحساس مع الإرادة، التربة الخصبة التي نشأ فيها فن الملحمة قديماً، كما كانت مثل هذه الحالة- التي ولدت مع خروج التاجر الجوال إلى الحياة الأوسع بعد أن حطمت قواقع الحياة الضيقة- التربة الملائمة التي ولد فيها فن الرواية الحديث ولم يكن ظهور الدول المركزية في الحالة الأولى يؤدي إلى موت واختفاء العناصر المثيولوجية في الملحمة، بل كان يؤدي إلى موت الملحمة نفسها مفسحاً الطريق للأدب الدرامي من جهة، والغنائي من جهة أخرى. أما في التاريخ الحديث فإن قيام مثل هذه الدول، أدى إلى موت الرواية (الملحمية) الكلاسيكية، ومافيها من رؤية اجتماعية مفسحاً الطريق أمام الأدب الدرامي والرؤية الدرامية للحياة من جهة، وللأدب أو الشعر الغنائي من جهة أخرى. ولقد استمرت المرحلة الأولى حتى بداية العقد الثاني من القرن العشرين ثم تلتها مرحلة أنجبت بنية روائية يضمحل فيها البطل ويتلاشى لتحل المؤسسات أو العائلة محله واستمرت حتى نهاية الحرب الثانية، لتحل محلها بنية روائية يتلاشى فيها الإنسان وتحل الأشياء محله كما هو الأمر في الرواية الجديدة.
__________
(1) كلمة "الشاعر"، مستعملة هنا بمعناها الأرسطي.(1/286)
وفي المجتمع العربي، وفي أجزائه الأكثر تطوراً والتي أنجبت فن الرواية كانت مرحلة مابعد الحرب الثانية، وما نشأ فيها من تحلل لقوى اجتماعية قديمة ونشوء قوى اجتماعية جديدة تصدرت قيادة المجتمع والتغيير الاجتماعي كانت المرحلة التي أنجبت الرواية ذات الرؤية الاجتماعية والمشهد الشامل، إلا أن التغيير الذي وقع بعد الخمسينات أدى إلى قيام دول شديدة المركزية في هذه المجتمعات تركت مؤسساتها الشاملة والكاملة آثاراً سلبية خطيرة على الفرد، مما أصبح ينوء به من ثقل باهظ تضعه هذه المؤسسات على كاهله. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار البنية الزراعية المتخلفة لهذه المجتمعات أدركنا حجم الهيمنة الكبيرة لهذه المؤسسات وما تؤدي إليه هذه الهيمنة من مصادرة للكائن البشري ولحقوقه وخاصة في تلك المجتمعات التي نهضت فيها الدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وقامت بنيتها الاقتصادية على أساس غير رأسمالي لتنتهي إلى ظهور طبقات مستغلة جديدة بعد أن أزاحت الطبقات المستغلة القديمة. إن هذه العوامل وما أدت إليه من إحساس عال بالفردية ومن اغتراب وتحطيم لوحدة الإنسان والمجموعة البشرية. أدى إلى تراجع الرؤية الاجتماعية في الرواية وازدهار الرؤية الدرامية. وقد عبرت هذه الرؤية الدرامية، وهذا الإحساس بالفرد عبرا عن نفسيهما في أساليب السرد وبناء الرواية كما رأينا. إن الرواية الجديدة لا تناضل ضد اغتراب الإنسان عن طريق مضامينها فحسب بل هي تناضل ضد كل العناصر الصانعة لاغتراب الإنسان عن طريق بنائها وأساليب السرد فيها أيضاً بما تمنحه هذه الأساليب وهذا البناء، من اهتمام عال بالفرد وبرؤيته الخاصة، وللحقائق من دلالات بعيدة عن الإطلاق.
(((
( الهوامش
1 - برسي لوبوك صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، دار الرشيد، بغداد، ص 225.
2 - فرانك كرمود الرواية والسرد، ترجمة: محيي الدين صبحي- مجلة الآداب الأجنبية العدد 3 السنة الرابعة، ص 172.(1/287)
3 -تزفنان تودوروف: الإنشائية الهيكلية، ترجمة: مصطفى التواني، الثقافة الأجنبية، العدد 3، 1982، ص 12.
4 - نفسه، وانظر: د.صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية 1978، ص 337-338، وانظر حسين الواد، البنية القصصية في رسالة الغفران، الدار العربية للكتاب 1977، ص 67.
5 - 6- الان واران فريدمان: الرواية الحديثة المتباينة الوجوه شكلاً ووظيفة، ترجمة محيي الدين صبحي، الآداب الأجنبية، العدد 2 تشرين أول 1977، ص 17.
7- تزفان تودوروف: نفسه.
8- د. موريس أبو ناصر: الألسنية والنقد الأدبي في النظرية والممارسة، دار النهار- بيروت هامش ص 129.
9- نفسه، انظر على سبيل المثال، الفصل الخاص (بالشحاذ)، لنجيب محفوظ.
10- انظر: ميشيل زيرافا: الرواية والمجتمع: ترجمة جمال شحيد، مجلة الآداب الأجنبية، العدد الرابع، نيسان 1975، ص 180، وانظر أيضاً محمد رشيد ثابت: البنية القصصية ومدلولها في حديث عيسى بن هشام، الدار العربية للكتاب 1975، ص 301.
11- الان وارن فريدمان: نفسه، ص4.
12- عدد من الباحثين السوفييت المختصين بنظرية الأدب العالمي، ترجمة: د.جميل نصيف التكريتي، دار الرشيد، 1980، ص 88.
13- نفسه، ص 90.
14- محمود أمين العالم: تأملات في عالم نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة، 1970، ص 96.
15- غالي شكري: المنتمي دراسة في أدب نجيب محفوظ- القاهرة 1944، ص 258.
16- ادوين موير: بناء الرواية ترجمة إبراهيم الصيرفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص 92.
17- الرواية- دار العلم- بيروت، ص 5.
18- الرواية - ط- دار مصر- ص7.
19- لوبوك: نفسه، ص 214.
20- الرواية، ص 78.
21- الرواية: دار مصر للطباعة، ص 40.
22- نشرت في مجلة شعر اللبنانية العدد 30 صيف 1968.
23- محمود أمين العالم نفسه ص 132.
24- نفسه، ص 133.(1/288)
25- محيي الدين صبحي: (موسم الهجرة إلى الشمال بين عطيل وميرسو) في كتاب (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) أعداد أحمد سعيد محمدية، دار العودة، بيروت، ص 74.
26-27-28-29- الرواية دار العودة، ص 55-57-59-112.
30- الرواية، ص60.
31- الرواية، ص 50.
32- الرواية، ص164.
33- صدقي اسماعيل، مقدمة الأشجار واغتيال مرزوق- دار العودة- 1973، ص 9.
34- انظر شجاع مسلم العاني، عبد الرحمن منيف روائياً- مجلة الأقلام 7 نيسان، 1980، ص 100.
35- عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 113.
36- انظر عبد الجبار عباس، البحث عن وليد مسعود الأقلام 52 شباط 1979، ص 79.
37- الرواية، دار الآداب، بيروت 1978، ص 348.
38- الرواية، ص82.
39- انظر عبد الجبار عباس، نفسه.
40- أشار بعض الباحثين إلى أنها تصور ثلاثة أجيال مهملاً جيل الأطفال (سها وسناء)، حيث يقدم الكاتب الأحداث من وجهة نظر الأخيرة في الفصل السادس، انظر مقال د.محسن جاسم الموسوي. الفكر العربي المعاصر، العددان 18-19، شباط. آذار، 1982، ص 232، وقد ورد اسم الناقد خطأ (محمد) بدلاً من محسن.
41- انظر: د. محسن جاسم الموسوي، نفسه، ص 232.
42-انظر: جورج طرابيشي، الله في رحلة نجيب محفوظ، ط2، دار الطليعة، بيروت، ص 52-64.
43- د. سامي سويدان، اللص والكلاب، لنجيب محفوظ، دراسة سينمائية، مجلة الفكر العربي المعاصر العددن 18-19، شباط، آذار 1982، ص 220.
44- غالي شكري، المنتمي، دراسة في أدب نجيب محفوظ، القاهرة، 1964. ص 258.
45- الرواية، ص 139.
46-الرواية، ص 9-12.
47-الرواية، ص 103.
48-انظر: شجاع مسلم العاني، نفسه، ص 101.
49- انظر: الرواية، ص 44.
50-الرواية، ص355.وللاستزادة راجع الصفحات 248، 354.
51-الرواية، دار ابن رشد، بيروت، 1980، ص26.
52-الرواية، ص303.
53-الرواية، عدد من الباحثين السوفييت، نفسه، ص140.
(((
في النقد الأدبي الحديث
"النص" في(1/289)
النقد الأدبي الحديث في العراق
لعلنا لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن الحديث عن النقد الأدبي العربي الحديث في العراق، حديث محفوف بجملة من المخاطر، وأولها أن هذا النقد لم يدرس دراسة علمية موضوعية كما حدث للنثر الفني عموماً ولاسيما القصة والرواية، أو للشعر الحديث. ولاسيما حركة الشعر الحر، التي حظيت بالكثير من الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية، والدراسات المحدودة التي وضعت عن هذا النقد، لا تسعف الباحث بشيء، سيما إذا ما كان الحديث عن النقد الأكثر حداثة، وعن أثر اللسانيات في هذا النقد، إذ أن الدراسات، وبخاصة الأكاديمية منها، انصبت على النقد -وبخاصة نقد الشعر- في مرحلة لا تتجاوز الخمسينات من هذا القرن.
ويعني هذا البحث "بالنص" أو أن شئنا الدقة بـ "النقد النصي" في العراق، الذي نشأ تحت تأثير اللسانيات، والذي لم تظهر بواكيره إلا في أواسط الثمانينات من هذا القرن، ولكي نقف على حد دقيق لهذا النقد أو المنهج في النقد لابد من أن نقف على تعريف "النص" نفسه، لدى رواد هذا المنهج في النقد الغربي الحديث، ولعل أشهر هذه التعاريف، هو تعريف رولان بارت القائل بأنه "السطح الظاهري للنتاج الأدبي، نسيج الكلمات المنظومة في التأليف والمنسقة بحيث تعرض شكلاً ثابتاً ووحيداً ما استطاعت إليه سبيلاً"(1)، ويطلق "بول ريكور" مصطلح "النص" على "كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة"(2) ويمكن القول بعد هذا، إن النقد النصي، هو ذلك النقد الذي يعنى بالكلام أو الخطاب الأدبي نفسه، ويهمل عوامل نشوء هذا النص الاجتماعية والنفسية، كما يهمل من ناحية أخرى، عملية التلقي لدى القارئ والعوامل التي تتحكم بها وتوجهها.(1/290)
ومن المعروف أن الأدب يتكون من عناصر كلامية وأخرى غير كلامية وتتشكل الأخيرة من عنصرين هما الباحث والمتلقي، ومن الملاحظ أيضاً، أن كل عصر من العصور الأدبية يركز اهتمامه على أحد العناصر الثلاثة، ويهمل أو يكاد العنصرين الآخرين: فقد انصب جهد أرسطو على النص أو المحكى وطرق المحاكاة، كما انصب اهتمام، أستاذه أفلاطون على الشيء نفسه، وإن اهتم كلاهما بالمتلقي، الأول في نظريته عن التطهير في التراجيديا، وعن مسألة الاحتمال والمحتمل في الأدب، والثاني في حديثه عن التأثير الضار للشعر في السامع وإثارته للعواطف الضارة في جمهور السامعين، وفي طرق انتقال التأثير من المنشد إلى جمهور السامعين.(2).(1/291)
وعلى حين سار الكلاسيكيون المحدثون على نهج أرسطو والإغريق، في التنظير للنص الأدبي، ولا جناسه، وللفرق بين جنس وآخر، اهتمت الرومانسية بالباث أو المبدع اهتماماً كبيراً، دون أن تهمل النص وبخاصة القصيدة، فقد "اعتنى الرومانسيون بالإنشاء الأدبي ووصلوا بينه وبين منابعه. إلا أنهم خرجوا في ذلك على الترسيمة القديمة خروجاً ظاهراً، فقد استبدلوا الفرد وانفعالاته ومشاعره بالطبيعة، والتعبير أو الخلق بـ(المحاكاة) وحفت بمفهوم الخلق في مصطلحهم مفاهيم ثانوية من قبيل الوحي والإلهام والعبقرية".(4)، على أن الرومانسيين، لم يهملوا في غمرة اهتمامهم بالمبدع، النص، بل كان له، ولجنس الشعر منه خاصة اهتمام كبير، تجلى بشكل خاص في دراسات كوليردج عن القصيدة الغنائية والشعر والخيال، بل إن آراء ونظريات كوليردج مهدت لظهور النظريات الحديثة في النص، إذ يعد أول من قال وأشار إلى أن جنس النص لا يتوقف على الكلمات والعناصر الأدبية، وإنما على العلاقات القائمة بين هذه العناصر، حين قال بأن "القصيدة تحتوي على نفس العناصر التي يحتوي عليها التأليف النثري، ولهذا فالاختلاف بينهما لابد أن يكون اختلافاً في ضمَّ بعضها إلى بعض، نتيجة لاختلاف الهدف المطروح"(5) وقد كان لأفكاره عن الوحدة العضوية أبعد الأثر في النقد الأدبي الحديث.(1/292)
ومع نشوء المذهبين الواقعي والطبيعي، تراجع الاهتمام بالنص تراجعاً كبيراً، وصار اهتمام النقد والنقاد ينصب على عوامل نشوء النص، الاجتماعية منها خاصة، على الرغم من أن مفهوم "الانعكاس" الذي جاءت به المدرسة الواقعية له صلة قوية بنظرية "المحاكاة"، لدى الإغريق، وكل مافعله الواقعيون هو أنهم استبدلوا "المجتمع" بـ "الطبيعة" في نظرية المحاكاة، وليس لدارس أو ناقد الأدب وفق هذا المنهج، ولاسيما إذا ماكان ذا فهم آلي للانعكاس إلا أن ينقل لغة الآثار أو النصوص الأدبية. إلى آثار علم الاجتماع(7). وقد رافق هذا المفهوم وسبقه، منهج في النقد يهتم بصلة النص بالمبدع، وتجسد ذلك في أعمال "سنت بيف" ثم بلغ هذا الاتجاه قمته، بعد نشوء النظريات الحديثة في علم النفس، ولاسيما لدى فرويد، وكان النقص الخطير الذي عانى منه هذا المنهج، هو النقص نفسه الذي عانى منه النقد الواقعي، إذ سرعان ما يتحول الاهتمام بالنص المدروس، إلى الاهتمام بالمبدع وأعصابه وأمراضه العقلية والسيكولوجية.
وقد عرف النقد العربي الحديث، كل هذه المناهج وتفاعل معها وأخذ منها، فكانت كتابات العقاد ودراساته عن أبي نؤاس وابن الرومي في محاولته لتطبيق المنهج النفساني في دراسة الأدب، تلتها محاولات "محمد خلف الله" على هذا الطريق، وكانت دراسات "حسين مروة" و"محمود أمين العالم"، في محاولتهما لتطبيق النظرية الاجتماعية في الأدب، وحين بدأ المنهج الأسطوري والطوطمي في النقد يطرق أبواب النقد العربي، شمر له بعض النقاد أذرعهم، فكانت محاولات "ريتا عوض"(8) لتطبيق هذا المنهج في دراسة الشعر العربي، مستلهمة أصول هذا المنهج، لدى أبرز رواده "نورثروب فراي" و"كارل يونغ" وغيرهما. هذا فضلاً عن المنهج التاريخي السائد في الجامعات والمدارس العربية، الذي يعنى بشرح النص وتفسيرها في ضوء الأوضاع التأريخية والاجتماعية، والذي مايزال سائداً في هذه الجامعات إلى يومنا هذا.(1/293)
ولقد شهدت بدايات القرن العشرين أول عودة إلى النص ودراسته من الداخل. تجلت في حركة الشكلانيين الروس والبولنديين. ثم تلت هذه الحركة حركة شكلية مشابهة نشأت في انكلترا وأمريكا في الثلاثينات والأربعينات. واتخذت الحركة أسماء عديدة لها منها حركة أو مدرسة "النقد الجديد" كما أطلق على أصحابها من النقاد تسمية "النقاد الجدد" و"الأرسطيين الجدد"، وكانت البنيوية في شقها الإنشائي آخر حركة نقدية تسترفد هذه المؤثرات الشكلية في دراسة الأدب، وتستثمر كشوفات علم اللغة الحديث، ولاسيما لدى سوسير. فضلاً عن مؤثرات فلسفية معروفة(9)- لتنعطف بالنقد الأدبي الحديث انعطافاً حاداً وخطيراً، بأن تكتفي بدراسة النص الأدبي، مقصية عنه طرفيه الآخرين "الباث والمتلقي" معتبرةً إياه بنية مغلقة مكتفية بذاتها.(1/294)
وبالرغم من أن النقد البنيوي أو الألسني، لم يطرق باب النقد العربي الحديث، إلا في النصف الثاني من السبعينات،(10) فإن معرفة الناقد العربي بهذا الاتجاه في النقد، ومحاولته لاستثمارها في النقد التطبيقي، ترجع إلى أواسط الأربعينات، فقد وردت أول إشارة لهذا المنهج في النقد في كتاب محمد مندور "في الميزان الجديد"(11)، وفي معرض حديثه عن نظرية "عبد القاهر الجرجاني" في النظم، وهو يرد الأستاذ محمد خلف الله في دعواه لاستخدام علم النفس في دراسة الأدب، حين قال: "الأدب فن لغوي كما قلت، فمنهجه هو المنهج الفقهي الفني، كما فهمه عبد القاهر الجرجاني، وطبقه في دلائل الإعجاز، ثم أردف مشيراً إلى أصول هذا المنهج في أوروبا، إذ قال: "منهج عبد القاهر يستند إلى نظرية في اللغة، أرى فيها ويرى معي كل من يمعن النظر، أنها تماشي ما وصل إليه علم اللسان الحديث من آراء، ونقطة البدء نجدها في آخر "دلائل الإعجاز" حيث يقرر المؤلف مايقرر علماء اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقات..."(12)، ثم يشير مندور إلى أن الجرجاني يلحق "بأكبر مدرسة حديثة في تحليل اللغة، أعني مدرسة العالم السويسري أثبت، رأس علم اللسان الحديث، فرديناند دي سوسير.. ثم اللغوي الفرنسي الذائع الصيت انتوان مييه"(13)، وغفر الله لمندور زلته حين جعل الجرجاني لاحقاً لا سابقاً.
وقد انطلق معظم الذين تبنوا المنهج البنيوي فيما بعد، من النقطة نفسها التي انطلق فيها مندور، وهي وجود مثل هذا المفهوم للغة والأدب في تراثنا العربي القديم، ولاسيما في نظرية الجرجاني للنظم وضرورة التخلي في دراسة الأدب عن العلوم الإنسانية والاقتصار على علوم اللغة والأدب فيها.(1/295)
لقد بقيت صيحة مندور بلا صدى، حتى عام 1962، وهو العام الذي أصدرت فيه الشاعرة العراقية نازك الملائكة كتابها "قضايا الشعر المعاصر" حاولت فيه التنظير لحركة شعرية جديدة، كانت من روادها هي حركة الشعر الحر، ومن الواضح أن نازك الملائكة تستمد الكثير من مفاهيمها النظرية عن القصيدة الشعرية وعن الأدب ووظيفته وعوامل تطوره من حركة النقاد الجدد في انكلترا وأمريكا، الذين تتلمذت عليهم، ومن الواضح أيضاً، أنها تتفق في كثير من المسائل التي تطرحها والشكلانيين الروس. بالرغم من أنها وقفت موقفاً وسطاً بين المفهوم أو النظرية الاجتماعية والشكلانيين في الأدب، وإن لم تطلع على نتاجاتهم بصورة مباشرة.
على أن أهم مايميز بحث الملائكة هو محاولتها البحث عن أنساق شكلية وبنيوية للقصيدة الحرة(14)، وهي في موقفها من الشكل، وفي تعريفها (للهيكل) في القصيدة تعيد إلى الأذهان موقف أرسطو من الشكل، كما تعيد وإلى حد كبير موقف كولردج ومفهومه للقصيدة ولوحدتها العضوية، وذلك حين وصف "هيكل" القصيدة بأنه "أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيراً فيها ووظيفته الكبرى أن يوحدها ويلمها داخل حاشية متميزة"(15)، والواقع أن دراسة الملائكة تعدّ من أولى المحاولات الجادة في مجال الكشف عن بنية القصيدة العربية، وبالرغم من هذه الدراسة تحتاج إلى مراجعة وتعديل وضبط المصطلحات طبقاً للغة النقدالحديثة، إلا أنه يظل من أوائل البحوث الذكية المتمرسة التي ألقت الضوء على قضية البنية الشعرية واجتهدت في وصفها بما تملكه من وسائل منهجية"(16).(1/296)
على أن ما دعوناه بـ "النقد النصي" الذي نشأ في العراق، في الثمانينات، لم ينشأ بتأثير كتاب نازك الملائكة- وإن ترك هذا الكتاب أثراً كبيراً في نقد الشعر، وإنما نشأ بتأثير مباشر من الدراسات النقدية العربية التي تأثرت بدورها بالألسنية، وبالمنهج البنيوي وعلى عكس ماحصل في أقطار عربية أخرى، حيث تدرج فيها هذا النقد في مراحل بدأت بتحسس الأزمة في النقد وبضرورة التغيير، ثم بعرض الكتب الأجنبية ثم بترجمة هذه الكتب فالتنظير والتطبيق، فإن هذا النقد في العراق نشأ تحت تأثير الكتاب النقدي العربي الوافد إلى العراق من لبنان ومصر وتونس والمغرب، وعلى الرغم من وصول بعض الدراسات النقدية البنيوية إلى العراق في أواخر السبعينات مثل "البنية القصصية ومدلولها الاجتماعي في حديث عيسى بن هشام لمحمد رشيد ثابت، و"البنية القصصية في رسالة الغفران لحسين الواد 1977، و"نظرية البنائية في النقد الأدبي، د.صلاح فضل 1978، وجدلية الخفاء والتجلي، د.كمال أبو ديب 1979، فإن تأثير هذه الدراسات لم يظهر جلياً إلا في منتصف الثمانينات، كما أن بعض العروض التي قدمت في الصحافة الأدبية العراقية، والتي كان كتابها من العرب لا من العراقيين(18)، لم تترك أثراً واضحاً في حينه، ولقدهيمن على الساحة الأدبية والنقدية ثلاثة تيارات أو مناهج رئيسة هي:-المنهج التاريخي الذي يسود في الجامعات العراقية ولدى معظم أساتذتها، والمنهج السوسيولوجي الذي نشط تحت تأثير مؤلفات "لوكاش" المترجمة إلى العربية في الستينات، هذا النقد أو المنهج الذي يعد أصلح للنقد الأدبي حين يؤخذ لتفسير نشأة الأصول الاجتماعية الأدبية.. لا حين يؤخذ أداةً لتقويم الآثار الأدبية، كما يقول ديفيد ديتشز(19).(1/297)
وعلى الرغم من معرفة معظم النقاد العراقيين، لآخر رواد هذا المنهج "لوسيان جلدمان" ولآخر ما وصلت إليه النظرية الاجتماعية أو المنهج السوسيولوجي في الأدب، فإن النقد السوسيولوجي في العراق مايزال بعيداً عن النقد المنهجي المنظم، وإلى جانب هذين التيارين ثمة منهج ثالث يمثل مكاناً واسعاً في حركة النقد الحديث في العراق، وأعني به المنهج الانطباعي أو التأثري.
ولقد انقسم النقاد العراقيون في مواقفهم من "النقد النصي" هذا إلى شيع عديدة، وانقسمت مواقفهم من هذا المنهج الجديد في النقد. ويمكن إجمال هذه المواقف في أربعة اتجاهات رئيسة هي:(1/298)
1 - موقف تقليدي: يرفض المناهج الحديثة في النقد. ويرفض الحوار معها رفضاً تاماً، ويمثل هذا الاتجاه معظم أساتذة الجامعات العراقية، الذين ينهجون في دراساتهم النقدية نهجاً تأريخياً تفسيرياً، يضاف إليهم بعض النقاد العراقيين من خارج الجامعات، ويمكن عدّ الناقد عبد الجبار عباس واحداً من أبرز النقاد الذين يمثلون هذا الاتجاه. فقد راح يجاهر، في مواجهة المناهج الجديدة في النقد وإنكارها، بأنه ناقد انطباعي، كما يمكن أن نضم إلى هذا الاتجاه موقف الدكتور علي جواد الطاهر الذي ينكر على النقاد العراقيين تطرفهم في تبني هذه المناهج، ويرى أن هذه المناهج -التي روّجت لها بعض المؤسسات الغربية والعربية ولاسيما مجلتا "الفكر العربي المعاصر" و"العرب والفكر العالمي"(20)، اللتان يصدرهما معهد الإنماء العربي، واللتان تبنتا هذه المذاهب "على وجه من وجوه الاستماتة. وكأنها الوجه الآخر للوجه القومي الذي تريد أن تعرف به، ومجلة "فصول" في مصر- إفرازات المجتمع الاستهلاكي الغربي وأنهما -البنيوية والسيميولوجية- ليستا بريئتين من الأيديولوجية الرأسمالية. ولا أريد أن أطمس هنا خصوصية الناقد الطاهر الذي يؤمن، بمشروعية التأثر أو الإمكانات النقدية التي يمتلكها هو والناقد عبد الجبار عباس وتميزهما عن أستاذة الجامعات المذكورين- وإنما أضع موقفيهما ضمن هذا الموقف لأني أصنّف هذه المواقف والاتجاهات، لا علىأساس القول المعلن حسب، وإنما على أساس التطبيق في الدراسة النقدية أيضاً.
2 - الاتجاه أو الموقف الذي يتبنى المناهج النقدية الجديدة ولاسيما البنيوية والسيمولوجية بصورة تامة ويعتنقها كأيديولوجية. وعلى هذا الموقف الناقدان، د.مالك المطلبي، والناقد سعيد الغانمي، والعديد من النقاد الشباب.(1/299)
3 - الموقف الذي يعد وسطاً بين الاتجاهين السابقين. الذي يتنكر للبنيوية كأيديولوجية، ويفيد منها بعض مفاهيمها الإجرائية، وعلى هذا الموقف، معظم النقاد العراقيين مثل فاضل تامر، ومحسن الموسوي، وحاتم الصكر، وعبد الله إبراهيم، وياسين النصير، وشجاع العاني.
***
إن هذه الدراسة، لا تعد مكتملة، مالم تشفع بدراسة بعض النماذج التطبيقية في النقد العراقي الحديث، وبما أن أصحاب الاتجاه أو الموقف الأول لا يمتلكون مثل هذه النماذج، فقد رأينا أن نعرض بالوصف والتحليل لبعض هذه النماذج لدى أصحاب الاتجاهين الثاني والثالث.
في صدر مقالة "غريب عن الخليج"، يشير الدكتور مالك المطلبي إلى منهجه في دراسة قصيدة السياب قائلاً:
"سنحاول في هذه الدراسة التطبيقية في نص من نصوص بدر شاكر السياب الإفادة من المنهج البنيوي في الأدب في رصد جزء من نتائج السياب الشعري ومحاولة إعادة قراءته، بغية المساهمة في تحرير دهشتنا الشعرية، من أسر الانطباعات الذاتية المبهمة، والقراءة الأفقية التي تنتج معنى لغوياً حسب، أي تنتج موضوعاً لا بناء وتستدر "محتوى" خالصاً لا محتوى متشكلاً، كما تسعى هذه المحاولة، إلى تجنب أسر "التفسير" الذي يأخذ بمبدأ الإحالة إلى الخارج، حتى لا يعود النص إلى نقطة انطلاق كائنة في بعثرة أجزائها".(21).
ومن الواضح أن الناقد يشير إلى المستويات العديدة في النص الأدبي، وضرورة الإمساك بهذه المستويات عن طريق القراءة العمودية للنص، فضلاً عن القراءة الأفقية، كما يشير إلى رفضه فهم النص في ضوء الواقع الخارجي، وعدّه إياه بنية مغلقة مكتفية بذاتها.(1/300)
وبعد هذه المقدمة، يقابل الناقد بين قصيدتي السياب، "غريب على الخليج"، و"أنشودة المطر"، مقدماً وصفاً للبنية اللغوية وللمظهر اللفظي في كلٍ منهما وفي كل حركة من حركاتهما منتهياً من ذلك إلى دلالة كل قصيدة. ويخلص الناقد إلى أن القصيدتين تتقابلان لا من حيث الألفاظ والضمائر وإنما من حيث الدلالة أيضاً، وأن البنية فيهما تقوم على التصادم بين الجفاف والخصب، الصحراء والماء، الفرد والجماعة، الطبيعة والثقافة، وهكذا يصل الناقد إلى استخلاص عدة ثنائيات في القصيدتين، ليخلص إلى القول -بـ"إننا إزاء نسق يربط الفرد بالموت والجماعة بالحياة، وإن هذا النسق يعمل وفق حركة (استشعارية) بوجود الصحراء والبئر في آن واحد)(22). خالصاً من كل ذلك إلى القول بأن القصيدتين هما بمثابة مقطعين من قصيدة واحدة تنتمي إلى ما أسماه بـ "المائيات" في الكل الشعري للسياب. وبصرف النظر عن إمكانية دراسةقصيدتي السياب بدون إحالة إلى الواقع الخارجي الذي أنجبهما، وهو مرحلة الخمسينات في العراق، هذا الواقع الحاضر حضوراً قوياً في القصيدتين، فإن مايدعو إلى الاستغراب هو وضع القصيدتين جنباً إلى جنب للوصول إلى الثنائيات الأساسية فيهما وكأنهما قصيدة واحدة، مع أن هذه الثنائيات موجودة في كل نص على حدة، وكان بإمكان الناقد الوصول إلى هذه الحقيقة لا بالمقابلة بين القصيدتين وإنما باستحضار العلاقات الغيابية(23)، التي لا يمكن الوصول إلى الدلالة بدونها. في كل قصيدة من القصيدتين، وفضلاً عن ذلك فإن الملاحظ الناقد أنه يهمل -مع أنه يدرس نصاً شعرياً- عامل الموسيقى، الذي يسهم هو الآخر في إنتاج دلالة النص.(1/301)
على أن الناقد لا يلتزم بهذا المنهج النصي الصارم في كل دراساته النقدية فهو يعمد على سبيل المثال إلى الاستعانة بالروايات التأريخية وبالوثائق في دراسة قصيدة "للمنخل اليشكري" بعنوان "حفريات في نص جاهلي"، وإن أشار إلى أن هذا الاستخدام ليس الغرض منه تثبيت الوقائع الخارجية المحيطة بالنص، "فذلك أمر لا يمت إلى النقد أو الأدب بأية صلة، لكن استخدامه ها هنا، من أجل تعزيز قراءة النص أو من أجل إضاءة بعض البقع الداكنة فيه وهو يحتجب وراء الزمان"، بكلمة أن الناقد لا ينطلق من الخارج إلى النص، بل يبدأ من النص ينتهي إلى الخارج ليصل إلى القول بأن اليشكري "يتأرجح بين عمود المدينة وعمود الصحراء، إذ ملنا إلى صياغة فلسفية، قلنا إننا بإزاء ذات منقسمة في وجود منقسم"(24).(1/302)
وعلى عكس المطلبي، يعمد سعيد الغانمي، الذي عرف بترجماته في حقل الألسنية. إلى دراسة المستوى التشكيلي الصوتي إلى جانب المستوى الدلالي. معتمداً في ذلك على دراسة علاقات الغياب والحضور بحيث يضع عبارة "الغياب الماثل" عنواناً لدراسته لقصيدة الشاعر عبد الرحمن طهمازي، "البرعم والرعد"، وفي ذلك يقول: "إن هذه القراءة يجب أن تستثمر المكبوت والغائب الدلالي، تماماً كما تستثمر المكبوت والحاضر الدلالي، أي أن تتجاوز مايقال إلى مايسكت عن قوله، بحيث يكون السكوت عنه ضرباً من القول المضمر الذي ينافس القول الصريح(25)، وبعد أن يقسم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع يصف التركيبة النحوية والصوتية لكل مقطع ليصل إلى المظهر اللفظي المعجمي، باحثاً عن دلالة الألفاظ المركزية في القصيدة مثل كلمة "عارف" في قول الشاعر: "العارف انفرطت مفاصله وطغى عليه ما أرادا" محاولاً الوصول إلى دلالة الألفاظ عن طريق علاقاتها التبادلية والتتابعية أوعلاقات الغياب والحضور. معيداً إلى الأذهان التراكيب الأدبية التي وردت فيها هذه الألفاظ إن في الشعر أوالنثر العربي القديم، ليصل إلى نتيجة مفادها أن الشاعر يستعيد جهازاً اصطلاحياً من المتصوفة "ليقتحم التصور الصوفي" للعالم ويهدده من الداخل"(26). ولكنه مثل زميله الناقد المطلبي يقدم لعمله بإقصاء أنا الشاعر عن القصيدة وهو ما اعتدنا عليه حين نتحدث عن القصيدة، واصفاً عمله النقدي بـ "القراءة" التي تضرب عن أنا الشاعر صفحاً إلى "أنا الشعر المحايث للقصيدة"(27).(1/303)
أما الفريق الآخر، من النقاد العراقيين، وهم النقاد الذين يفيدون من البنيوية بعض المفاهيم الإجرائية، ويرفضونها كأيديولوجية ويصفها بعضهم مثل الناقد فاضل ثامر بالوصف الذي يطلقه غارودي عليها أي "فلسفة موت الإنسان"(28) فإني سأعرض لنماذج من نقودهم التطبيقية بحسب قربهم أو بعدهم من هذه المناهج، وأبدأ بالناقد الشاب الواعد عبد الله إبراهيم، الذي أعده أقرب أعضاء هذا الفريق إلى "النقد النصي" في دراساته التطبيقية، وسأستثني من هذا العرض أبعدهم عن هذا المنهج، وأعني به الناقد "ياسين النصير" الذي اقتصر نشاطه في هذا الميدان على بعض المقالات التي استلهم فيها بعض مصطلحات الشكلانيين الروس وحاول تطبيقها على القصيدة الشعرية مثل "المتن الحكائي" و"المبنى الحكائي".
في دراسته الموسومة بـ "البناء الفني لرواية الحرب في العراق- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة، يصف عبد الله إبراهيم منهجه النقدي الذي يقوم على الجمع بين المقتربين النقديين الخارجي والداخلي، وبعد أن يصف كلاً منهما بأنه بمفرده يقوم على مبدأ مصادرة النص الأدبي وتجريده من خصوصيته، يقول:
"إن نظرة عميقة إلى هذين المقتربين النقديين، وهما يتجاذبان الأدب، تفسيراً وتحليلاً تقود الباحث إلى موقف خاص مغاير لهما، لكنه يستفيد من بعض طروحاتهما، وذلك للاقتراب إلى النص الأدبي دون انغلاق وتعصب، "ويدعو الناقد منهجه المهجن هذا بـ "منهج الاستقراء الفني"(29).(1/304)
وفيما أفاد الناقد في دراسته لابنية السرد والزمان والمكان من كشوفات الشكلانيين والبنيويين، أفاد من المنهج السوسيولوجي في دراسته للشخصية الروائية، معتمداً في دراسته لها على الفكر الفني لرواد المنهج السوسيولوجي، ولاسيما لوكاش وجلدمان في فصل عنوانه "بناء الشخصية في رواية الحرب"، وهو الأمر الذي يتناقص مع ماذهب إليه البنيويون من أن الشخصيات في العمل القصصي مجرد عوامل تؤدي وظائف معينة لا ذوات سيكولوجية.(1/305)
وبالرغم من أن الباحث يكاد يصل إلى تصورات المنهج السوسيولوجي نفسها، القائلة بأن النص الأدبي هو صياغة فكرية للواقع، أولاً، وصياغة جمالية ثانياً، حين يصف النص الأدبي بأنه "خليط من مكونات فكرية وفنية تتمازج فيما بينها"، فإنه يخفق في تطبيق منهجه الذي أشار إليه في المقدمة، حين يدرس أنساق السرد وأبنيته، بأن يعد هذه الأنساق مجرد عمل جمالي بحت مكرراً قول موريس أبو ناضر: "إن اللعب بالأزمنة داخل القصة.. عمل جمالي بحت لا يؤثر على الأحداث من حيث الماهية والوجود وإنما من حيث الصياغة والترتيب"- وهو أيضاً ما ذهبت إليه الباحثة سيزا قاسم حين وصفت بناء الرؤى في الرواية الحديثة واختفاء الراوي مجرد عمل جمالي بحت- ومن الغريب أن ناقداً مثل عبد الله إبراهيم. قام بتقديم عرض لكتاب الناقد جوزيف فرانك "السرد المكاني" في جريدة الثورة، لا يفيد من كشوفات هذا الناقد ومن سابقه في دراسة ظاهرة الزمان والمكان في الأدب الحديث والمضمون الأيديولوجي الذي ينطوي عليه الانتقال من السرد الزماني إلى السرد المكاني إذ يتم تحويل "العالم الزمني التأريخي إلى عالم لا زمني من الأساطير، وهذا العالم الأسطوري اللازمني هو بالذات مايشكل المضمون العام للأدب الحديث، وهو الذي يجد تعبيره الجمالي المناسب في الشكل المكاني(30). إن الخيال الموضوعي التأريخي الذي كان مصدر فخر الإنسان، في العصر الحديث، والذي تعهده بحرص منذ عصر النهضة، يتحول كما يقول الناقد عنه هؤلاء الكتاب (جويس، بروست) إلى خيال أسطوري خال من الزمان التاريخي لا يرى أعمال زمن معين وحوادثه إلا كمجرد تجسيد لنماذج خالدة. هذا فضلاً عن عدم الإفادة من المقترب الخارجي السوسيولوجي بخاصة- الذي يرى فيما يرى بأن النسق الجمالي لا ينفصل عن الحياة نفسها "فالنسق هو الطريقة التي تتطور بها الحياة"(31).(1/306)
ومع ذلك فإن دراسة الناقد تعد بحق واحدة من أفضل الدراسات النقدية في الأدب العراقي الحديث، وعلامة بارزة في تطور الحركة النقدية في العراق منهجاً ومصطلحاً.
ويعد الناقد ثامر من أبرز النقاد العراقيين الذين ينتمون إلى المنهج السوسيولوجي في النقد وبعد كتابه "معالم جديدة في أدبنا المعاصر"، أصدر كتابه الثاني "مدارات نقدية: في إشكالية النقد والحداثة والإبداع 1986" الذي طوّر فيه مفاهيمه النقدية، وأفاد من كشوفات البنيويين الإنشائيين، وهو يصف منهجه النقدي أو رؤيته النقدية بأنها "تشكل تضامراً جدلياً للمنظورات والمقاربات الخارجية والداخلية، السوسيولوجية والشعرية، ثم يشير إلى رؤيته الجديدة هذه تلتقي مع المنهج البنيوي التركيبي أو التكويني ومع المنهج البنيوي الإنشائي الذي يمثله كل من بارت وتودوروف وجريماس.(32).
ولعل دراسة الناقد المطولة عن القاص العراقي فؤاد التكرلي خير مايمثل الناقد ومنهجه، فهو في هذا المقال الموسوم بـ "القصة العراقية" وعالم فؤاد التكرلي. ملامح بنية الإخفاق وبنية السرد، يصر على أن التحليل الشامل للبنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع العراقي خلال الخمسينات ذو فائدة كبيرة في إضاءة هذه النقلة التجديدية في القصة العراقية، إلا أن الناقد لا يقدم تحليلاً شاملاً للبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه المرحلة من تطور المجتمع على وفق المنهج السوسيولوجي الذي يرى أنه وحده القادر على فهم وإضاءة تحليله لبنية الإخفاق لدى التكرلي. بل يقدم شذرات من المعلومات عن هذه المرحلة، ثم يقرر أن الخمسينات شهدت ظهور مجموعة من البنى القصصية منها بنية التفاؤل (أو الانتصار) وبنية، "الإخفاق" وبنية الكتابة القصصية البريئة.(1/307)
ومع أن مقدمات الناقد ومقولته بأن "التقنيات والأساليب الشكلية إنما هي محصلة رؤيوية تكشف عن موقف القاص تجاه الإنسان والكون والواقع، فإنه يخفق في تفسير وجود بنية الإخفاق لدى التكرلي جنباً إلى جنب مع بنية التفاؤل أو الانتصار كما أسماها. بل هو سرعان ما يكتشف التبسيط الشديد في تقسيمه هذا للبنى القصصية، عندما يستدرك مشيراً إلى رأي "فرانك اكونور" القائل بأن القصة تمنحنا الإحساس بـ "الوعي الحاد باستيحاش الإنسان" ونحن لو تفحصنا قصص الخمسينات، ولدى أكثر القصاصين واقعية لما ظفرنا ببنية "انتصار"، ولوجدنا أن ثمة بنية إخفاق تتفاوت في الدرجة من قاص إلى آخر، ذلك أننا في فن القصة إزاء فن إشكالي البطل فيه يصارع دوماً قيماً منهارة وفي نفسه قيم أصيلة من الماضي، وقد صاغ هيكل قانون هذا الجنس الأدبي عندما أشار إلى أن البطل في الثقافة أو التعليم الرأسمالي يبدأ ماجناً أول الأمر. ثم لا يلبث أن ينتهي إلى أحد أمرين، أما الامتثال للآلية الاجتماعية، وأما العزلة والوحدة(33).
وإذا كان الناقد قد حاول استجلاء بعض مظاهرالبنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع العراقي في الخمسينات في دراسته هذه، فإنه في دراسات أخرى ينطلق من الأيديولوجي لا من السوسيولوجي. وهو مافعله في مقالة عن "الرواية العراقية، من رواية الصوت الواحد إلى الرواية متعددة الأصوات"(34). متأثراً بآراء باختين في كتابه "قضايا الإبداع الفني عند دستويفسكي"، بصورة خاصة، والواقع، أن غياب المنهج السوسيولوجي المنظم من النقد العراقي الحديث، لا يعد ظاهرة لدى الناقد فاضل ثامر أو غيره من النقاد السوسيولوجيين، بل هو ظاهرة عامة تصوغها ظروف خاصة بحركة النقد في القطر، تمنع شيوع هذا المنهج وتطوره واكتمال أدواته.(1/308)
أما الناقد حاتم الصكر، فإنه يشير في كتابه "الاصابع في موقد الشعر.موقد الشعر" إلى أن منهجه هو منهج النص، أي ذلك المنهج الذي يعتمد على التحليل والتأويل احتكاماً إلى معطيات النص ومايمكن أن يتركه في نفس قارئه، إلا أنه لا يلبث أن يضيف بأنه يفيد من المقترب الخارجي أيضاً في دراسة النص "فنحن نستفيد من السيرة والعوامل النفسية والاجتماعية في إضاءة كثير من زوايا النص المعتمة. إلا أن الحكم دوماً هو النص باعتباره بنية متكاملة تعطي موقفاً أو تحدد حالة".
والشاعر لا يفيد من مناهج النقد التي ذكرها مجتمعة لإضاءة عتمة النص في كل مستوياته خالقاً بذلك منهجاً تكاملياً، بل يلجأ إلى استخدام هذه المناهج منفردة في دراسة العديد من القصائد الشعرية، إن موضوع القصيدة هو الذي يقترح على الناقد منهجه، فعندما تكون القصيدة على صلة بحياة الشاعر نفسه، يكون منهج الناقد هو منهج "السيرة" كما فعل الناقد في دراسته لقصيدة السياب "جيكورامي" ذاهباً إلى أن النص يمكن أن يكون وثيقة تأريخية في دراسة حياة الشاعر في لحظة من لحظات انفعاله. وحين يكون موضوع القصيدة اجتماعياً أو على صلة بالمجتمع كما هو الأمر في قصيدة "طوق الياسمين" لنزار قباني، يكون منهج الناقد هو المنهج الاجتماعي الذي يؤكد على صلة النص بالوضع الاجتماعي، إذ يقول الناقد الصكر: "لقد كانت مرحلة كتابة طوق الياسمين متأججة سياسياً واجتماعياً وفنياً، فهي مرحلة الانتقال من طور التحرر الوطني في مسيرة الأقطار العربية، التي شهدت نضوج الوعي بالاستقلال والحرية. وهي مرحلة الاصطدام اجتماعياً بين قيم متناقضة...
وحين تكون الأسطورة مادة الشاعر وأداته في بناء قصيدته ومضمونه في الوقت نفسه يقترب الناقد في منهجه لدراسة القصيدة من المنهج الأسطوري أو الطوطمي في دراستها كما فعل مع قصيدة الشاعر حسب الشيخ جعفر عن السياب "الخطوات" في مقالة "خطوات الموت في ذاكرة الشاعر"(37).(1/309)
على أن الشاعر لا يكتفي بدراسة مضامين القصائد، حين يكون مقتربه إلى القصيدة خارجياً، بل غالباً مايشفع دراسته للمضامين بدراسة الأشكال الفنية. وهو يتميز عن معظم النقاد بأنه لا يكتفي بالوصف أو باستخلاص الدلالة من العمل الفني. بل ويلجأ إلى التقويم أيضاً، وإلى الكشف عما يعدّه أخطاء لغوية أو عروضية في القصيدة، كما فعل عندما أشار إلى الأخطاء اللغوية في قصيدة "طوق الياسمين"، لنزار قباني.
لقد وصف أحد الباحثين، وهو الدكتور أحمد مطلوب منهج الصكر بأنه "منهج يأخذ من القديم بعض وسائله ومن الجديد بعض أدواته ولقي هذا النقد قبولاً حسناً لأنه لا يقبل النص بالإحصاء لا يرهقه بالإشارات"(38)، وقد ساعد الناقد على الجمع بين المناهج القديمة الموروثة والمناهج الحديثة في النقد، أنه متخصص في نقد الشعر، الذي نمتلك فيه تراثاً نقدياً واسعاً، على عكس النثر الحديث الذي لا يسعف الناقد المتخصص فيه مثل هذا الموروث في نقد الشعر لدى العرب. ويقتصر النقد فيه على المناهج الأوروبية الحديثة التي واكبت نشأة الفنون النثرية الحديثة في أدبنا بعد النهضة العربية الحديثة.
ولا يختلف منهج الناقد في كتابه الثاني "مواجهات الصوت القادم"، عن منهجه في كتابه الأول، ويمكن القول إن منهج حاتم الصكر هو "اللامنهج" وأن لكل قصيدة لديه منهجها الخاص الذي تقترحه عليه ومع ذلك فإن الناقد ينتمي إلى جيل لا يمكن معه الحكم على منهجه النقدي بصورة نهائية. فضلاً عن كونه ناقداً دائم التطوير لأدواته.(1/310)
أما الناقد محسن الموسوي الذي ينتمي إلى هذا الفريق من النقاد العراقيين، فإنه أكثرهم بعداً عن التأثير بالمنهج أو المناهج النقدية الحديثة كالشكلانية والنبيوية والسيمولوجية، وإن كشفت دراساته عن اهتمام واضح بالنص، ذلك أن توصيف النص الأدبي القصصي يتم لديه بأدوات النقد القصصي التقليدي. وبمنهج ومصطلح تقليديين، إن مفردات مثل الحبكة، الحدث، الشخصيات، هي المفردات الأكثر تردداً في أعماله النقدية، وإن استعار لبعض دراساته وأعماله النقدية عنوانات توحي بالحداثة، كدراسته عن رواية الرجع البعيد. التي اختار لها عنواناً متناقضاً ومزدوجاً، يشير إلى اهتمامات الناقد النصيّة والفكرية أو المضمونية في آن واحد وهو:
"الإنسان في الرجع البعيد- دراسة أسلوبية"(39)، ودراسته عن رواية غائب طعمة فرمان "ظلال على النافذة"، التي اختار لها عنوان "امتثال أم مغامرة؟ بنية الانهيار في ظلال على النافذة، وفي الأولى ينصب اهتمام الناقد على العناصر الفنية للنص القصصي من سرد وزاوية نظر وشخصيات، فضلاً عن اهتمامه الشديد بوصف نمو الحدث وتطوره مستخدماً في ذلك مقولة أن الحركة في الحدث تتطلب اضطراباً أو نقصاناً، مما يؤدي بدفع الحدث إلى أمام لفرض التوازن أو سد النقص، وهي مقولة عرفها دارسو القصص الشعبي، قبل أن يستثمرها بعض النقاد البنيويين، أما في دراسته لرواية، ظلال، فالناقد يلتقظ عبارة "الانهيار الجليدي" والتي ترد كثيراً على لسان أحد أبطال الرواية "ماجد" ليجعل منها العبارة المتحكمة أو المهيمنة في حقل الدلالة، ليقرر أن الرواية "تفصح عن مضمون آثار التغيير المديني على البنية التقليدية للمجتمع، وهو المضمون الذي شغل غائب مترادفاً أو مختلطاً بالإحباط السياسي"(40).(1/311)
ومع إدراك الناقد لهذه الحقيقة، فإنه لا يشير، إلى العلاقة بين النص وسياقه الاجتماعي، أو إلى مصائر الشخصيات والأحداث التي تشير إلى مصائر واتجاهات التطور في المجتمع الذي أنجبها، بل يلجأ عوضاً عن ذلك إلى عبارة "الانهيار الجليدي"، التي يطلقها المثقف البرجوازي "ماجد" على علاقته بالخادم "زهرة" التي ترمز إلى فئة اجتماعية معينة وإلى فكرها السياسي والاجتماعي، وموقف ماجد منه وذوبان الحواجز النفسية بينه وبين هذا الفكر والفئات السياسية والتنظيمية التي تعتنقه!...
إن وصف الناقد لبنية الرواية، بأنها بنية انهيار هو وصف صائب تماماً، بل إن هذه البنية هي المهيمنة في روايات الكاتب بدءاً "بالنخلة والجيران" التي تنتهي بمقتل شخصية العامل "صاحب" المغدورة، إلى "القربان" التي تنتهي "باحتراق" زنوبة، وسط العرس الذي يرفل في أضوائه أبناء محلتها، إلى "ظلال على النافذة"، التي تستمر فيها الشخصية المغدورة في "حسيبة" التي تنتهي بفعل الاضطهاد إلى بيت الدعارة.
ورغم أن الناقد يقدم وصفاً لبناء الرواية، ولطرق السرد وللرؤى فيها، إلا أنه، هنا أيضاً، يستخدم منهجاً ومصطلحاً تقليدياً مؤكداً على مصطلح "الحبكة" السببية أو المنطقية وتفككها في الرواية، وعلى المكان الملغوم فيها وهو ما تختلف فيه -كما يرى- مع الرواية الواقعية، وكما تختفي الإشارة إلى العلاقة بين هذه البنية والمجتمع الذي أنجبها فإن "الدلالة" هي أيضاً غائبة عن الدراسة.(1/312)
ومثل عنوان دراسته عن الرجع البعيد، فإن العنوان الأول في دراسة الناقد على الظلال يظل غامضاً ملتبساً، بل إن عملية التوصيف لبناء الرواية هي ذاتها غامضة وتفتقر إلى الوضوح لافتقارها إلى مصطلح نقدي واضح ودقيق، ولعل الناقد يرى في رواية يقوم بناؤها على تعدد الرؤى والأصوات، وفي انتقال القاص من السرد الزماني إلى السرد المكاني، ومن الحبكة المنطقية- وهي حبكة أوضح بارت أنها لا توجد حقيقة إلا في الخطبة القضائية- إلى حبكة يمتزج فيها المنطق والسببية بالسايكولوجيا، لعله رأى في كل ذلك امتثالاً من الروائي أو مغامرة يقدم عليها!!..
**
إن دراستنا لهؤلاء النقاد ولنماذج من أعمالهم النقدية لا تعني بأي حال أنهم الممثلون لحركة النقد الحديث في العراق، فقد اضطررت إلى تجنب ذكر بعض النقاد لابتعادهم عن المنهج "النصي" في النقد، أو لحداثة عهدهم في استخدامه أو لعدم امتلاكهم لموقف معلن عنه، وقد آثرت أيضاً أن أشير إلى بعض النقاد الشبان مثل محمد صابر عبيد وعواد علي ومحمد جبير وباقر جاسم، مجرد إشارة بسبب حداثة تجربتهم النقدية وقصر عمرها وانتمائهم إلى جيل من النقاد لا يزال في طور التكوين.
* أعد هذا البحث خصيصاً للمؤتمر الثالث للنقد الأدبي المنعقد في جامعة اليرموك في الأردن للفترة بين 24-26 تموز 1989.
(((
( المصادر والمراجع
1 - رولان بارت: نظرية النص، ترجمة وتعليق محمد خيري البقاعي مجلة العرب والفكر العالمي، ع3، صيف 1988، ص 89.
2 بول ريكور: النص والتأويل ترجمة منصف عبد الحق، نفسه ص 37.
3 - من المعروف أن أفلاطون ضمن آراءه هذه في كتابه "الجمهورية" وفي محاورته "لايون" كما أن آراء أرسطو يضمها كتابه "فن الشعر".
4 - حسين الواد، من قراءة النشاة إلى قراءة التقبل. مجلة فصول، م5 ع1، أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر 1984، ص 110.(1/313)
5 - كوليردج: النظرية الرومانتيكية في الشعر- سيرة ذاتية أدبية لكولردج. ترجمة عبد الحكيم حسان، دار المعارف بمصر 1971، ص ص 247.
6 - نفسه، ص ص -248-250.
7 - حسين الواد: نفسه، ص 111.
8 - انظر ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث- مؤسسة الأبحاث العربية.
9 - عن المؤثرات الفلسفية في نشوء البنيوية انظر: حوليات كلية الآداب- جامعة الكويت: الحولية الأولى (في الفلسفة) للدكتور فؤاد زكريا ص7.
10 - انظر في ذلك توفيق الزيدي أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث من خلال بعض نماذجه.
11 - يشير د.غالي شكري في كتابه عن الناقد محمد مندور أن زوجة مندور قد أخبرته بأن كتابه في الميزان الجديد طبع عام 1943 م أو 1944.
12- د. محمد مندور: في الميزان الجديد، دار نهضة مصر للطبع والنشر الفجالة- القاهرة ص ص 176-177.
13 - نفسه، ص 178.
14 - كنّا قد أشرنا إلى ذلك في مقالة لنا في صحيفة الثورة نشرناه عام 1986 بعنوان نازك الملائكة والبحث عن أنساق بنيوية، كما أشرنا إلى دور محمد مندور في حلقة متابعة من أن المقال بعنوان (البدايات.. محمد مندور).
15 - نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين ص 235.
16 - د.صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1987، ص 482.
17 - انظر حول هذه المراحل: توفيق الزيدي، أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث من خلال بعض نماذجه الدار العربية للكتاب 1984، ص ص 16-35.
18 - يشير توفيق الزيدي إلى عرض لمقالين لكل من رولان بارت وتودوروف بقوله لقد اتبع العراقيون هذا المنهج الموضوعي في العرض، مشيراً بذلك إلى مجلة الأقلام التي قدمت فيها هذين العرضين سامية أحمد أسعد وهي غير عراقية انظر الزيدي ص 20.
19- ديفيد يتشز: مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ترجمة: د.محمد يوسف نجم، مراجعة، د.إحسان عباس، دار صادر بيروت 1967، ص 573.(1/314)
20- انظر علي جواد الطاهر، عن البنيوية ومالفَّ لفُّها، جريدة الثورة في 14/5/1989 وانظر حديثه عنها في مجلة الأقلام ع8/ آب 1989، ص 71.
21- انظر مالك المطلبي، "غريب على الخليج"- أنشودة المطر، الأقلام ع 211/12/1988، ص ص 18-12.
22- عن علاقات الحضور والغياب انظر: تزفيطان طودورف: الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة- دار توبفال- للنشر- المغرب- ص31.
23- د. مالك المطلبي: الصعلوك، حفريات في نص جاهلي، الأقلام ع 6، حزيران 69، ص 75.
24- سعيد الغانمي، نص ونقد "الغياب الماثل"، الأقلام ع2، شباط 1989، ص 67.
25- نفسه، ص67.
26- نفسه ص 70.
27-انظر فاضل ثامر: ما الذي يبقى من البنيوية: مغالطة الفصل بين الجمالي والأيديولوجي ج الثورة 23/1/1988.
28- عبد الله إبراهيم: البناء الفني في رواية الحرب- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة دار الشؤون الثقافية- بغداد ص ص 15-16.
29- جوزيف فرانك: الشكل المكاني في الأدب الحديث: في كتاب "النقد"- أسس النقد الأدبي الحديث-مارك شورر- جوزيف مايلز، جوردن ماكنزي - ترجمة السيدة هيفاء هاشم مراجعة، د.نجاح عطار، مطابع وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي دمشق 1966، ص 276.
30- ارنولد كتل: مدخل إلى الرواية الإنكليزية ترجمة: هاني الراهب. وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1977، ص 31.
31- فاضل ثامر: نحو رؤية سوسيو-شعرية في ندوة اتجاهات- النقد المعاصر في العراق- كلية التربية جامعة الموصل، من 18-21 آذار ص 365.
32- انظر: ميشيل زيرافا، سوسيولوجيات الرواية، ترجمة جمال شحيد، مجلة الآداب الأجنبية ع نيسان 1975.
33- انظر فاضل ثامر: الرواية العراقية من رواية الصوت الواحد إلى الرواية متعددة الأصوات (7) الستينات والبداية الناضجة للرواية متعددة الأصوات جريدة الثورة 31/10/1987 وانظر الحلقات السابقة عليها واللاحقة لها أيضاً.(1/315)
34- حاتم الصكر: الأصابع في موقد الشعر- دار الشؤون الثقافية بغداد، ص 300.
35- نفسه، ص 326.
36- حاتم الصكر: خطوات الموت في ذاكرة الشاعر، جريدة الجمهورية 26-آذار-1987.
37- د. أحمد مطلوب: منطلقات نقدية في (ندوة اتجاهات النقد الأدبي الحديث في العراق- قسم اللغة العربية- كلية التربية- جامعة الموصل 1989، ص 2.
38- د. محسن الموسوي: الإنسان في الرجع البعيد- دراسة أسلوبية- الفكر العربي المعاصر ع 18-19 شباط وآذار 1982.
39- د. محسن الموسوي: امتثال أم مغامرة، بنية الانهيار في رواية ظلال على النافذة الأقلام، ع 3 آذار، 1988، ص 4.
(((
البحث عن مركز دراسة
في التفكيك في النقد العربي الحديث
تعود الإشارات الأولى في النقد العربي الحديث إلى التفكيك إلى أواسط الثمانينات من هذا القرن، ويعد الناقد العربي السعودي "عبد الله الغذامي" من أوائل الذين أشاروا إلى هذا النهج، في كتابه المعروف: "الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية- قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر"(1) الصادر عام 1985م، ثم أصدر الناقد كتابه التالي: "تشريح النص- مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة"، عام 1986، وإذا كان الناقد، الذي أطلق مصطلح (التشريحية) على هذا المنهج، قد اكتفى في كتابه الأول بالحديث العام، مكتفياً بما يتقبله الوسط الثقافي العربي منه آنذاك(2)، فإن كتابه الثاني، كان أقرب إلى المنهج البنيوي والدراسة اللسانية في تناوله للنص الشعري المعاصر، منه إلى المقترب التفكيكي أو التشريحي، والغريب في الأمر أن الناقد الذي تحدث عن هذا المنهج في كتابه الأول حديثاً يتسم بالكثير من العمومية، لم يؤسس لدراسته التالية بحديث نظري عن المنهج أو المقترب الذي اختاره عنواناً لكتابه بل قدّم بدلاً من ذلك، حديثاً يتضمن رؤيته "للحداثة" بعنوان: "بين يدي الخطاب- الحداثة وإشكالية الرؤية"(3).(1/316)
ويبدو أن مصطلح التفكيك قد فهم لدى بعض النقاد والدارسين العرب، على أنه مرادف للتحليل، فقد أصدر الباحث والناقد الجزائري عبد الملك مرتاض كتابين نقديين اشتغل فيهما على وفق المنهج البنيوي والتحليل اللساني للأدب، لكنه وضع عنواناً ثانياً لكل منهما يشير إلى المقترب التشريحي والكتاب الأول هو "بنية الخطاب الشعري- دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية 1986" وهي دراسة لقصيدة الشاعر اليماني، عبد العزيز المقالح، أما الكتاب الثاني فهو دراسة لقصة "جمال البغدادي.". من قصص "ألف ليلة وليلة" بعنوان ألف ليلة وليلة، دراسة سيمائية تفكيكية لحكاية حمّال بغداد 1989م".(1/317)
إن قراءة سريعة للمنجز النقدي العربي منذ منتصف الثمانينات حتى اليوم، تكشف عن حقيقة أن هذا المنهج ظل في منأى عن التطبيق العلمي الدقيق في النقد العربي الحديث بينما حفلت الصحافة الأدبية المتخصصة بالحديث عنه في أطره النظرية، ويعود ذلك في رأينا إلى عاملين رئيسين، أولهما عامل يتصل بآليات هذا المنهج وإجراءاته التي تتسم بالصعوبة والدقة لاسيما في مجال التطبيق، وثانيهما ماينطوي عليه من أثر أيديولوجي ويبدو أن المثقف العربي والأنتلجينسيا العربية غير مستعدين لقبوله، بحيث أننا واجدون بعض الدراسات النقدية التفكيكية تعلن مقدماً تخليها عن الهدف الأيديولوجي (الحقيقي) لهذا المنهج، مستخدمة أدوات وآليات هذا المنهج لا بهدف تهديم المركز أو نقضه، بل من أجل الإمساك، بالمركز وتثبيته كما فعل الناقد العراقي مالك المطلبي في دراسته الموسومة بـ "بنية البياض- قراءة في المملكة السوداء"، (4) على أننا واجدون في الوقت نفسه، عدداً يسيراً من النقاد العرب- على رأسهم الناقد العربي "كمال أبو ديب"، والشاعر أدونيس- ممن أفادوا من الحركة التفكيكية جوهرها الأيديولوجي، محاولين من خلالها الانقضاض على المراكز، المعرفية والثقافية والاجتماعية والسياسية، دونما حاجة إلى استخدام آليات هذا المنهج وأدواته وإجراءاته التي عرفت لدى منظري هذه الحركة، سيما لدى رائدها جاك دريدا.(1/318)
لقد أشار الباحث "علي الشرع" بحق، إلى أن بعض النقاد من الحداتثين العرب، استخدموا التفكيك باسم الحداثة والحداثوية، مشيراً إلى أدونيس وأبو ديب بشكل خاص قد أضاف الباحث أن أدونيس؛ كان يدرك جوهر الحركة التفكيكية حيث أشار إلى نشوء ثقافة جديدة يفترض نقد الموروث وتشكيكه وحين قال إن "أعظم مافي الفكر الغربي اليوم هو تفكيك الغرب، هيدجر هو المفكك الأعظم(5)، وحين قال: "يبدأ الفكر العربي الإسلامي بتفكيك ذاته أو لا يكون"(6). والحقيقة أن أدونيس في معظم أحاديثه عن الحداثة، وفي نقده للحداثة العربية، غالباً ما أشار إلى أن "الحداثة هي بالضرورة انشقاق وهدم"(6)، للنظام المعرفي القائم بأكمله، وأن هذا الانشقاق والهدم والنظام المعرفي التقليدي لا يمكن أن يتما إلا عبر "الجهر بتفكيك هذا النظام وتجاوزه، هو الجهر بنهاية المطلق، دون هذا الجهر والسير فكرياً بمقتضياته، لا يمكن... أن يكون في المجتمع العربي حداثة ولا فكر حديث"(7).
ولكي نقدم صورة واضحة لهذا المنهج في النقد العربي الحديث، لابد من الوقوف على المفاهيم الأساسية لهذا المنهج وآلياته وإجراءاته. وقد عرف عن ديريدا رائد هذا المنهج الذي لاقت أراؤه رواجاً لدى بعض النقاد الأمريكيين وبخاصة باول دي مان، وهارولد بلوم، وجيفري هارتمان، وهللس ميلر- أنه يعمد إلى استراتيجية جديدة في القراءة من شأنها تجزئة الالفاظ والفرضيات والحجج التناقضية التي تنطوي عليها هذه الألفاظ والفرضيات، ويهدف... من ذلك إلى تفكيك تقليد الميتافيزيقا الغربية بأسرها.. وما ينطوي عليه هذا الزعم بوجود معنى موحد له هوية أو تطابق ذاتي.(1/319)
ولكي يهدم ديريدا الميتافيزيقا الغربية، والتمركز المنطقي الذي عرفته الحضارة الغربية وخطابها الخاص بها، الخارج من قاموس خارج بدوره من اللاهوت مباشرة، فإنه يدفع هذا الخطاب، وما عرف به من مفاهيم "الأصل" و"الهوية" باتجاه الاختلاف الذي يعدل من أجله المفردة الفرنسية. التي تدل عليه، وبالتضاد مع الأزواج المفهومية أو المفاهيم المزدوجة التي يتمحور حولها الفكر الغربي والتي تحيل إلى طوابق وعلاقات متراتبة... يقترح ديريدا ويدفع إلى العمل سلسلة من الكلمات مزدوجة المعاني تحمل في ذاتها قوة على الخلخلة والتفكيك، عملت الميتافيزيقيا على الحط من أحد معانيها دائماً، ولعل استخدام هذه الألفاظ المتضادة في المعنى وما تعود عليه من قراءة للخطاب الغربي، هو مادفع وليم راي صاحب كتاب "المعنى الأدبي" إلى إطلاق مصطلح "النقد الجدل"(9) على هذا النقد.
ولفهم معنى "الاختلاف" لدى ديريدا، لابد من العودة إلى العالم اللغوي دي سوسير، الذي يرى أن مصدر المعنى في اللغة هو الاختلاف، فلفظة (قارب) على سبيل المثال، تعطينا المفهوم أو الشيء المعبر عنه، (قارب) لأنها تفصل نفسها عن الإشارة اللغوية (خندق) وعن ملايين الإشارات الأخرى في اللغة، فالمعنى هو حاصل الفرق بين إشارتين، ولكنه أيضاً حاصل الفرق بين مجموعة من إشارات أخرى: معطف وخبز وسهم وإلى آخره.. المعنى دوران لعبة.(1/320)
المعنى دوران لا نهاية له، من الإشارات ويضيف "تيري ايغلتن" قائلاً لنفرض أن ماقلناه بأسلوب آخر، وهو أن المعنى غير موجود في الإشارة اللغوية مادام معنى الإشارة اختلافها عن الأشياء الأخرى، فإن معناها أيضاً وبتعبير آخر غائب عنها، المعنى إذا شئت مبعثر ومنتشر عبر كل سلسلة الإشارات ليس من السهولة تثبيته فهو ليس موجوداً بصورة كاملة في أية إشارة لوحدها، بل إنه يمثل حالة من الوجود والغياب المستمرين"(10). وعن طريق هذه الاستراتيجية الجديدة في القراءة، التي تسدد ضربة قاتلة للنظريات التقليدية في المعنى ينتج (الإرجاء) الذي يشير إليه الفعل "يختلف".... ففي الوقت الذي يشير إلى التمييز أو عدم التساوي، أو التفرد... يعبر من ناحيةأخرى عن تداخل العوامل المؤثرة في عملية التأخر أو التباعد... أو الإطالة التي تؤجل المعنى حتى (فيما بعد)... أي ماهو ممكن ولكنه غير ممكن في الوقت الحالي"(7)
وتأسيساً على كل ذلك، فإن قولنا، على سبيل المثال "ضرب محمدٌ زيداً" هو جملة تامة المعنى يصح السكوت عليها، من جهة نظر اللغويين التقليديين، لكنها لاتعود مع ديريدا والتفكيكيين كذلك، إذ لا يتضح معنى الفعل (ضرب) فوراً، بل يعلق بانتظار إشارات أو ألفاظ أخرى، إذ يمكن أن تكون الجملة السابقة "ضرب محمدٌ زيداً مثلاً في الكرم"، أو ضرب محمد زيداً في أم مشروعاته التجارية"، وما يعنيه كل هذا، يقول "ايغلتن" هو أن اللغة مسألة أقل ثباتاً مما تصورها التركيبيون الكلاسيكيون(11).
من المفردات مزدوجة المعنى الأخرى التي استخدمها ديريدا الأثر التي تشير إلى إمحاء الشيء وبقائه قائماً في الباقي من علاماته، فيكون تبعاً لهذا، بمثابة القناة التي ترتبط بالنصوص والعلامات السابقة، والتيه في علامات جديدة(12).(1/321)
إن كل عنصر في اللغة لا يتمتع بحد ذاته بقيمة، وإنما يستمد قيمته مما يميزه ويوجهه داخل نسق من التعارضات ولما كان كل عنصر يتحدد بعلاقته بالعناصر الأخرى ويشاكله في تكميلها، فيجب أن تكون لعبة الاختلافات هذه التي تؤسسه (مُحَلة) فيه من قبل.. وهذا مايدعوه ديريدا "بالأثر...."، ويعرفه كما يلي: "إن كل عنصر يتأسس انطلاقاً من الأثر الذي تتركه فيه العناصر الأخرى في السلسلة أو النسق... عبر لعبة الآثار والاختلافات والإحالات المتبادلة تنشأ تفضية.. ومسافة وانزياحات وفواصل.. وهذا النسيج هو ما يدعوه دريدا.. الكتبة أو وحدة الكتابة وعنصرها النسيج يرينا أن ثمة في كل شيء كتابة بما في ذلك الكلام المنطوق(13). ومن هنا فإنه إذا كان الكلام هو الجوهر والأولي والأصيل في الحضارة الغربية من أفلاطون حتى شتراوس، وإذا كانت الكتابة هي (العقار) بمعنى السم، فإن الكتابة لدى ديريدا تصبح هي الأصل والجوهر، وهي (العقار) لا بالمعنى الذي أراده أفلاطون في حواره مع (فيدروس) وإنما، على الضد من ذلك، بمعنى (الشفاء). وهكذا يقلب ديريدا المركزية الصوتية من خلال المفردة المتضادة العقار أو "الفارماكون"(14).
وعلى وفق هذه الاستراتيجية الجديدة في القراءة فإن (الملحق أو الزيادة أو الهامش) الذي يشير إلى مانضيفه سداً لنقص أو تطفلاً على المتن. يصبح ذا فعالية عالية بحيث يقلب نظام مايضاف إليه ويحل محله أحياناً. ومن المعروف أن ديريدا طبق هذا الاستراتيج في قراءته لفرويد، فأرانا أنه..."أي نص فرويد على أهميته لا يضم مفردة أساسية واحدة ليست مشتقة من القاموس الميتافيزيقي"(15).(1/322)
وإذا أكتفي بهذا العرض السريع للأطر النظرية للمنهج التفكيكي في النقد، أود أن أشير إلى أنني أستوحي عنوان هذا المقال من النقود التطبيقية في النقد العربي الحديث التي أفادت منه -أي المنهج- كما أنني سأتكفي بعرض أو دراسة بنموذجين لهذا النقد من ثلاثة نماذج، كنت قد أشرت لهما في بداية هذا المقال، وأول هذين النموذجين، مقال الناقد العربي "كمال أبو ديب"، (الحداثة، السلطة، النص)، وثانيهما مقال الناقد العراقي مالك المطلبي(1)"بنية البياض-قراءة في المملكة السوداء"، المنشور في كتاب "مرآة السرد- قراءة في أدب محمد خضير الذي اشترك الناقد وعبد الرحمن طهمازي في وضعه.
يقدم الناقد أبو ديب المقالة بملاحظة منهجية، يميز فيها بين الحداثة والحداثوية، معرفاً الحداثة بأنها في أبسط صورة لها وعي ضدي للزمن، ووعي ضدي للذات في الزمن ثم يضيف الناقد بأنها -أي الحداثة تعني التغيير بوصفه حركة تقدم إلى أمام، وكل تقدّم إلى أمام يعني انفصاماً عن الماضي، وكل انفصام عن الماضي يعني التوتر والقلق والمغامرة:"ومن هذا الوعي الضدي للزمن، يأتي كون الحداثة، بدءاً رفضاً واعياً للسلطة، فإذا يقي الحداثة نفسها في إطار الزمن، فإنها تصبح علاقة لا بالماضي فقط، بل بالآخر، الآخر بما هو عالم قائم فيتشكل، جاهز للأجوبة، مكتمل اللغة، في سلام مع نفسه ومع العالم، والحداثة اختراق لهذا السلام مع النفس، ومع العالم، وطرح للأسئلة القلقة التي لا تطمح إلى الحصول على إجابات نهائية، بقدر ما يفتنها قلق التساؤل وحمى البحث. الحداثة هي جرثومة الاكتناه الدائب، القلق المتوتر، إنها حمى الانفتاح".
__________
(1) مالك المطلبي: لساني وناقد وشاعر عراقي، له : الشرط في اللغة العربية، دراسة في شعر نازك والبياتي، و"جيال الثلاثاء" شعر (والمملكة السوداء- بينة بياض) بالاشتراك مع الشاعر العراقي عبد الرحمن طهمازي والعديد من الأبحاث، والمقالات في النقد الأدبي.(1/323)
بعد هذا التقديم النظري، الذي لا يشير من قريب أو من بعيد إلى التفكيك يعمد الناقد أو الباحث إلى كشف تجليات ومظاهر الحداثة في أعمال عدد من الحداثويين العرب سيما الشعراء، كالبياتي والسياب وأدونيس وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمود درويش مكتفياً بإشارات عابرة إلى بعض الروايات العربية (كالسفينة) لجبرا إبراهيم جبرا.
الحداثة العربية تبدأ إذن، لدى الناقد، منذ الخمسينات من هذا القرن، بل ومنذ أن كتب السياب والبياتي قصائدهما الحرة الأولى، وتبدو هذه الحداثة، وتتجلى في انقطاعها المعرفي أو قطعيتها المعرفية مع السلطة، كل سلطة بما هو نظام قائم، السلطة السياسية وسلطة النموذج، وسلطة اللغة وسلطة التابو الاجتماعي والديني، وسلطة الانغلاق بكل أشكاله، انغلاق النص والانغلاق على الآخر، والانغلاق على النوع الأدبي أو الجنس.(1/324)
سلطة (الشكل- الطقس) ويخلص الباحث إلى نتيجة يضعها في صيغة سؤال "هل يمكن القول إذن أن مسار الحداثة في الكتابةالعربية يتشكل في تناسب طردي مع تاريخ السلطة، وتناسب عكسي مع تاريخ الحرية؟ كلما ازدادت حدة القمع وشمولية السلطة، زادت حدة انكباب المبدع على النص وتفجيره من الداخل، وكلما ضاق أفق الحرية في العالم الخارجي تنامى بعد الحرية في التعامل مع النص من الداخل)(16). وكأني بالناقد الذي يأخذ على المنهج السوسيولوجي أو الاجتماعي في النقد العربي عدم اكتماله ونضجه العلمي وبقائه أسيراً للأيديولوجية والذي تمنى في مكان آخر، ولو أن بنية الرواية العربية، درست على وفق هذا المنهج دراسة شبيهة بدراسة لوسيان جلدمان للرواية الغربية، كأني به هنا-مع استعادة لمصطلح البنية- يحاول أن يصل إلى مالم يصل إليه النقد الاجتماعي العربي، في تعامله مع الرواية العربية. ومع أن حديث الناقد يتصل بالقصيدة الغنائية لا بالرواية العربية-فإن كلامه- والحق يقال- صائب تماماً بالنسبة لهذه الرواية سيما في أشكالها التجريبية الجديدة وفي الرواية متعددة الأصوات.(1/325)
وفي حديث الناقد عن الحداثة بوصفها انقطاعاً معرفياً عن الماضي، وفي عموم حديثه عنها، لا يشير إلى التفكيك، بل يبدو، لاسيما في أول نص اقتبسته هنا منه. أقرب إلى البنيوية منه إلى التفكيك ومابعد البنيوية لاسيما إلى رولان بارت وحديثه عن الكتابة في درجة الصفر، وعن الأدب للكتابة، إلا أن مصطلحين من مصطلحات التفكيك يردان هنا، أولهما (المركز) الذي تردد أكثر من مرة في ثنايا المقال النقدي وثانيهما الهامش، فهو يصف الحداثة بأنها الحنين إلى اكتشاف وحدة نظام في العالم ضمن بنية ثقافية أكثر ما يسمها الانهيار والتفتت- انعدام النظام وتهاوي المركز)(17)، ويقول أيضاً: "وهكذا عبرت الحداثة عن مرحلة تجسيد الرؤيا الجماعية، في مجتمع يملؤه الطموح إلى المستقبل أفضل، وعن امتلاك مركز شعوري وتصوري مشترك، إلى مرحلة فقدان المركز وانهيار الإجماع"(18).
في دراسة أبو ديب التي نحن بصددها ، يتم تفكيك الخطاب الأدبي العربي التقليدي من الخارج لا من الداخل بمعنى أن الناقد يواجه هذا الخطاب بالخطاب الحداثوي في الأدب العربي الحديث، سيما الشعري منه، ويعمد من ثم إلى نقض المركز، بل المراكز في الخطاب التقليدي، من خلال اللامركز والتفتت والبحث عن المراكز في الخطاب الحداثوي الجديد، وعلى العكس من ديريدا واستراتيجيته التي تقوم على نقض التمركز العقلي والمنطقي والصوتي الغربي من خلال ميتافيزيقيا هذا التمركز نفسه، ويصدق ذلك على كل أجزاء المقال الطويل للناقد العربي، باستثناء مواضع قليلة، أو موضع واحد تحركت فيه آلية الهامش والمهمش لتنقض على المركز: وفي هذا البحث قد تفاجأ بلغة تكمن مطوية في ثنايا جسد الماضي، في الهوامش الثانوية منه... هكذا يكتشف أدونيس النفري مثلاً، ويعود البياتي إلى الخيام. وعبد الصبور إلى الحلاج، وشعراء آخرون إلى نماذج مشابهة في هامشيتها الثقافية، وفي طبيعتها القربانية"(19).(1/326)
بقي أن نقول هنا إن الناقد الأدبي الذي يأخذ أو يؤاخذ المنهج الاجتماعي في النقد العربي، على أحكامه التي يصفها بأنها "ذات مصادر ايديولوجية صرف بعيدة عن المنهج العلمي الصارم" كان طوال حديثه يتنفس هواء مشبعاً بالأيديولوجية، وأنه كان قريباً من المنهج الاجتماعي نفسه، بالرغم من إشارته الأخيرة في ذيل المقال القائلة:"الآن قمنا بنقلة حادة من داخل النص إلى خارجه، فلنتوقف. ها أنذا أتوقف"(20).(1/327)
إذا كانت الملاحظة المنهجية التي قدم بها أبو ديب لموضوعه لا تأتي على ذكر التفكيك من قريب أو بعيد، فإن هوامش عمل الناقد د.مالك المطلبي ومقدمته التي وضعها بالاشتراك مع عبد الرحمن طهمازي، تشير صراحة إلى التفكيك ولكنها تنزه الدراسة من الأيديولوجي لحساب ماهو فني وعلمي فهي -أي الدراسة- "محاولة للقبض على مركز بنية المملكة السوداء(المركز وليس الانزياح عن المركز) من خلال التعارض... الذي يستند إلى مفهوم الغياب والحضور عند ديريدا بمقتضاه المنهجي (الأداتي) وليس بهدفه الأيديولوجي (الحقيقي)"(21). وعلى الضد من أبو ديب الذي كان المرجع والخارج ماثلاً على طول وعرض حديثه، فإن المطلبي يعلن أنه ليس لنا في نص أدبي، أن نناقشه انطلاقاً من سياق (مرجع) أو (مبدأ) أو (أصل) أو (أولي) إن كل ما يترتب فيه هو منبته"(22). والناقد في مقدمته، يعلن قطييعته المعرفية، لا مع الخطاب القصصي التقليدي، بل ومع الخطاب النقدي الحديث أيضاً، مضمناً هذه المقدمة وهو يعلن هدفه من الدراسة، عبارة "تاريخ لتحولاته الداخلية"(23)، أي -سرد المملكة- وهي العبارة نفسها التي ترد في حديث "ديريدا" عن مسرح "ارتو" التي تعني إقامة خطاب نقدي يتجاوز الثنائيات الميتافيزيقية الغربية، ويأخذ العمل ضمن قوته، لا بمعنى إرادة القوة، وإنما بمعنى طاقة العمل وحركياته الجوانية وما يدعوه ديريدا نفسه(بتأريخه الداخلي)(24)، على أن الناقد لا يتخلى عن ثنائيات الفلسفة الكلاسيكية الغربية هذه، بل هو يستعين بهذه الثنائيات منذ الحركة الإجرائية الأولى، أعني فرضيته الأولى عن الكتابة (سواد-بياض) التي تتشابه لديه مع ثنائية زخرفية/ فراغ وهي الفرضية التي سيصل من خلالها إلى تفكيك المعنى وإزاحة المركز بالرغم من تمسكه بهذا المركز على المستوى الفني للقاص، الذي تقوم نواته على الحركة- الانشطار- التكرار تماماً كالزخرف الذي هو لدى الناقد (فن الفراغ)(25).(1/328)
في تحليله للعنوان، يجرد الناقد كلمة (السوداء) التي توصف بها المملكة، من دلالالتها ويقطعها عن أية مرجعية، فعن طريق ثنائية(حضور/غياب)، "يصبح السواد بعلاقة غيابه بياضاً، وليس سواداً، كما تشير إليه العلاقة المأساوية للحضور"(26)، ويعزز الناقد قوله هذا بأن استدعاء هذا الغياب لا يتم ميكانيكياً بل بفعل محفزات تعمل في خلايا النص، يكتشف فيما بعد أنها كامنة في الماء والسطوح الهشة، أو فيما أسماه الناقد بـ "الهش" الذي تنتهي إليه حيوات السرد في قصص، المملكة.
يقوم الناقد بقراءة عمودية ذكية ومثقفة للنص كما فعل شتراوس في قراءاته لأسطورة أوديب، ويضعها في حزم عمودية متجاوزاً بذلك قراءات أفقية هشة وسريعة سابقة عليه، لأنه بدلاً من العثور على المعنى الأعمق- كما دعا بارت وشتراوس نفسهما -يعمد إلى تشغيل آلية الأرجاء- فسرد المملكة يقود إلى نتيجة مفادها، تطابق السرد ومكوناته مع المرجعيات الخارجية -"حيث ترتد المرجعيات الشخصية والفضائية إلى الواقع، ففضاء المملكة يشكله الحدث اليومي للنزل والحارات وغرف الإيجار، والأمكنة فيها جاهزة للعيان، النجف والبصرة والميناء والسماوة والناصرية ومحطة سكك بغداد"(26). وكلها أماكن تأريخية واقعية غير الناقد الذي يبصر في كل هذا أنظمة رمزية دالة ومجسدة للواقع يرجئ المعنى قائلاً، غير أن هذه ليست سوى معان جانبية، والضغط على الغشاء الأسود وحده هو الذي يجعلنا باتجاه المركز في قعر القاع"(27).
ويتضافر على هذا الإرجاء ما أسماه الناقد بـ "الانتماء الأسطوري لزمن السرد"، حيث الزمن التأريخي لا يلبث في قصص المملكة، أن يتحول مع بداية كل قصة إلى زمن أسطوري، مسجلاً درجة الصفر في الزمن، والهش الذي يجده الناقد ماثلاً في (بنية الماء وبنية الخشب).(1/329)
بعد قراءاته للسرد والزمن وللشخوص، يقدم الناقد قراءة عمودية أيضاً، للوصف والمكان، أو ما أسماه بالوحدات السردية، الواصفة، مستعيناً بالسيموطيقيا، وبتقسيم "بيرس" المعروف للعلاقة بين العلامة والمعنى:"ليقسم التكوينات الوصفية إلى ثلاث تمظهرات أساسية ايقوني وإشاري ورمزي ليخلص إلى نتيجة مفادها أن مزدوجة أبيض/ أسود (أي بياض/كتابة) تقع ضمن نسق مكاني هو:
أبيض/ أعلى.
أسود/ أسفل.
ويكرر الناقد مقولته التي بدأ بها لعبته النقدية فالسواد عبر مجاله النسوي لا يستدعي مدلوله (المأساوي)، (أي مرجعه)، بل غائبه البياض، وهنا أيضاً وبعد أن يجد الناقد أن التجاذب داخل الدال المزدوج (أبيض/أسود) مغرٍ لاكتشاف رؤية القاص محمد خضير (وسأسمح لنفسي هنا بأن أشير لقصة أمنية القرد التي تتكون من طابقين، الغرفة فوق حيث الشمس والنور، والحمام أسفل السلم (الماء والظلام) حيث تنزل إحدى الفتاتين للاستحمام، بينماتظل الأخرى في الغرفة، ويغرينا ذلك بأن نعثر على دلالة ومعنى، حيث الغرفة فوق والحمّام أسفل السلم يجسدان رمزين للواقع، أحدهما (التأريخ-فوق) وثانيهما (اللبيدو-تحت). إلا أن الناقد يرجئ المعنى هنا أيضاً، لكي يجهز على أي معنى.
فالناقد يقوم بعملية قلب هنا أيضاً:"إن السواد/ البياض يكرران لعبة (الزخرف) عن طريق الكتابة. فإذا وضعنا مزدوجة زخرفية/ فراغ فإن الأسود هو الفراغ الذي يتخلل الأجسام، وعليه كان يجب أن يكون البياض تحت السواد في مزدوجة السرد غير أن الكتابة تحاول إخفاء نسقها عبر ضرب من القلب لتمدنا بالطاقة الفنية السواد؛ في المملكة هو البياض، هو المحيط المبهم الذي تتجه إليه الحيوات، التي تنفذ من شقوق وفجوات السطح الهش. إن العلاقة بين أعلى /أسفل في السرد علاقة استدعاء وليست علاقة معنى"(28).(1/330)
الكتابة إذن زخرف أي (فراغ) والمعنى مرجأ إلى ما لا نهاية: "في ما نخط بالطباشير على اللوحة السوداء تكون الهيمنة دائماً للمسحة. إنها (الشيء) الذي له سلطة أن نكتب إلى ما لا نهاية وتلك هي رؤية المملكة السوداء... وآليتها".(29).
ويجد الناقد هذه الزخرفة على أتمها في قصة الأرجوحة، إذ تقوم الأرجوحة بزخرفة الفراغ في حركة الذهاب، لتمحوها في حركة الإياب، "كأن قلماً ثبت بيد الأرجوحة، وهي تكتب، وممحاة ثبتت بيدها الأخرى وهي تمحو"(30). وليست الأرجوحة فحسب، بل وشخوصها (حليمة) و(المساعد) في حال غوص في أثر فكرة (الوجود في الفراغ)، وما يقوله الناقد بصدد الأرجوحة، يكرر قوله في التقدمة": "... أما المغزى فإنه سيكف بعد أن يلفظ، وأما المتن فقائم ومتجدد وهو يغرينا دائماً بالتقدم نحوه"(31)، وهكذا فالمعنى يُمحى من الأثر، ليظل الأثر قائماً في علاماته.
لقد أشرنا آنفاً إلى أن الناقد،لا يتنكر لثنائيات الفلسفة الكلاسيكية الغربية، بل يعمد إلى استخدامها في إطاره مقتربه التفكيكي، ونذكر هنا أن هذا الأمر ليس غريباً على المنهج ولا على رائده ديريدا الذي يعمد الى استراتيجية يظل بموجبها داخل الأفق الميتافيزيقي الغربي نفسه، والعمل على قلب مراتبيته بحيث يصبح الأعلى أسفل، والأسود أبيض... الخ.
"وهذه الحركة تجد في نظر ديريدا تبريرها في كونها داخل المقابلات الفلسفة الكلاسيكية لا نجد أمام تعايش سلمي ومقابلة حيادية، إنما أمام عمل عنف"(31)...(1/331)
هذان إذن- نموذجان للنقد التفكيكي العربي الحديث. وكلاهما يبحثان عن مركز، الأول من خلال الخطاب الشعري الحداثوي، والثاني من خلال النص القصصي لمحمد خضير، الذي يجد في آليته القائمة على الحركة -انشطار تكرار، خرقاً، بل أهم خرق للقص الكلاسيكي العربي حققه سرد خضير، فهما إذن يبحثان عن مركز من خلال التفتيت وانهيار المركز التقليدي أو الكلاسيكي، كل بطرائقه ووسائله المختلفة، الأول يفيد من التفكيك فكرته وأيديولوجيته ويأخذ، منه بحذر ليصل لا إلى تفكيك الخطاب الأدبي العربي التقليدي والقائم حسب، بل وتفكيك كل المراكز الصانعة لهذا الخطاب، من نظم أو مؤسسات معرفية واجتماعية ودينية وسياسية، بكلمة أراد تفكيك السلطة بكل أشكالها، أما الثاني، فإنه يتنكر لمثل هذا الهدف منذ البداية، ويقف عند حدود النص. إن جوهر عمل ديريدا هو سياسي يرمي إلى خلخلة نظام معين من التفكير،وراءه تراكيب ومؤسسات سياسية واجتماعية، ومع ذلك إن أتباعه من النقاد الأمريكين، عمدوا -كما يعترف هو نفسه إلى ضمان انغلاق المؤسسات والنظم التي تخدم المصالح الأمريكية(32)، بمعنى أن استراتيجية القراءة الجديدة التي يقترحها ديريدا يمكن أن تفضي إلى طريقين، ليسا فقط مختلفين، بل ومتناقضين تماماً، ولعل القارئ يجد ذلك واضحاً فيما اخترناه من نماذج تطبيقية لهذا المنهج.
(((
( الهوامش :
1- الخطيئة والتكفير، د. عبد الله محمد الغذامي، النادي الأدبي، الثقافي، 5،9.
2- انظر: التفكيكية والنقاد الحداثيون العرب، على الشرع دراسات، م16، ع3/1989، ص 208.
3- انظر: تشريع النص- الدكتور عبد الله محمد الغذامي مقاربات تشريحياً، دار الطليعة للطباعة والنشر- بيروت ص 7-11.
4- انظر: مرآة السرد، قراءة في أدب محمد خضير، د. مالك المطلبي وعبد الرحمن طهمازي، الهوامش.
5- التفكيكية والنقاد الحداثيون العرب، علي الشرع، مجلة دراسات م-1 ع3/ 1989، ص 212-213.(1/332)
6- 7- النص القرآني وآفاق الكتابة، أدونيس دار الأدب- بيروت، ص 108.
8- الكتابة والاختلاف جاك ديريدا ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، المغرب، ص 27.
9- انظر المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيك، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار المأمون، ص 1162.
10/أ - مقدمة في النظرية الادبية، تيري ايغلتين، ترجمة جاسم ابراهيم العلي، دار الشؤون الثقافية- ص 139-140.
10/ب- اللااختلاف المرجأ، جاك ديريدا، ترجمة هدى شكري عياد، مجلة فصول م6، ع3/1986، ص 52.
11 - نفسه، ص 141.
12 - انظر الكتابة والاختلاف، المقدمة ص 28.
13 - نفسه، ص 32-33.
14- انظر: مفهوم "الكتابة" عند جاك ديريدا، الكتابة والتفكيك، محمد علي الكردي، مجلة فصول، م14، ع2، صيف 1995، ص 235.
15- الحداثة، السلطة، النص- كمال أبو ديب، مجلة فصول م4/ع3 ابريل/ مايو/ يونيه 1984، ص 35.
16- نفسه، ص 31.
17- 18- نفسه، ص 39.
19- نفسه، ص 41.
20- نفسه، ص61.
21- مرآة السرد، قراءة في أدب محمد خضير، دار الخريف للطباعة والنشر، ط/أولى، 1990، ص الهوامش.
22- نفسه، ص الهوامش.
23- نفسه، ص
24- الكتابة والاختلاف- المقدمة ص 29.
25- مرآة السرد، ص 11.
26- 27- نفسه، ص 21.
28- نفسه، ص 5.
29- نفسه، ص 5.
30- نفسه، ص 8.
31- نفسه، ص
32- الكتابة والاختلاف، المقدمة، ص 29.
33- مقدمة في النظرية الأدبية، ص 159.
* من المفيد الإشارة هنا إلى أن القاص يقلب هذا المزدوج فتصبح الغرفة فوق مكاناً للجنس والكبت الجنسي، بينما يصبح الحمّام مكاناً للتصعيد بمعناه الفرويدي!.
بيان بأهم المصطلحات
1 - التغريب ... : مصطلح عرف به المسرح الملحمي ومعناه هدم الجدار الرابع أو جدار الوهم في المسرح، ويطلق على عملية محو الإيهام في العمل الأدبي أياً كان جنسه.(1/333)
2 - التناص ... : تداخل النصوص أو تعالقها، أو علاقة نصوص لاحقة بنصوص سبقتها، ولا يقتصر هذا التعالق على النصوص الأدبية، بل يمكن أن يكون بين الأدب والسينما أو الفنون التشكيلية أو الموسيقى.
3 - الحداثة ... : مدرسة في الأدب والفن يختلف الدارسون في تحديد نشأتها فبعضهم يعد سنة 1831 بدء قيامها وبعضهم يعد بودلير 1860 أول من دشن الحداثة في الشعر والبعض الآخر يرى أنها نشأت عام 1905م. وعلى العموم فإن الحداثة تعني السخط على التقاليد الأدبية القديمة والتبرم منها.
4 - التوليف ... : مصطلح سينمي معناه أن يقحم المخرج لقطة خارجة عن قصة الفيلم تقوم على التشابه أو المغايرة، الغرض منها إحداث صدمة سيكلوجية في نفس المشاهد تؤدي بدورها إلى إحداث أثر أيديولوجي لديه.
... مثال ذلك اللقطة التي يخرج فيها الجمهور من صالة العرض في إحدى دور السينما في فيلم شارلي شابلن "الأزمنة الحديثة"، تليها لقطة لقطيع من الأغنام أو الماشية.
5 - التفكيك أوالتشريح ... : منهج في النقد الجديد، يقوم على نقض أي تمركز منطقي داخل النصوص الفلسفية أو الأدبية، والغرض منه لدى رواده الأوائل نقض التمركز المنطقي داخل الفكر والثقافة الغربيتين منذ أفلاطون حتى ليفي شتراوس، أبرز أعلامه: جاك دريدا الفرنسي الجنسية والجزائري النشأة، وأبرز النقاد التفكيكيين هم النقاد الأمريكيون: بول ديمان، وهارت مان، وهللس ملر وغيره...
(((((
الفهرس
مقدمة ...
في الشعر الحديث ...
بنية التجاور والانقطاع في قصيدة الحداثة ...
سرد الشعر وشعرية السرد دراسة في القصيدة السردية الحديثة ...
في القصة والرواية ...
التغريب وانفتاح النص في قص ما بعد الحداثة ...
الكتابة بالكاميرا دراسة في اللغة السينمية في أدب محمد خضير ...
الواقعية الموضوعية بالوصف السينمي ...
2-التقنيات السينمية والتناص الأدبي السينمي. ...
الخروج على نظام السطر الكتابي وآخر إمكانات الوصف السينمي ...
قراءة جديدة في قصة "مجنونان" ...(1/334)
1-السرد والقصة المتخيلة أو الخطاب والتخييل: ...
2-الحبكة: ...
3-"مجنونان" بين القص والتمثيل: ...
شخصية البطل في القصة العراقية القصيرة ...
رواية الرجع البعيد : الرؤية والبناء ...
أساليب السّرد والبناء في الرواية العربيّة الجديدة ...
في النقد الأدبي الحديث ...
"النص" في النقد الأدبي الحديث في العراق ...
البحث عن مركز دراسة في التفكيك في النقد العربي الحديث ...
بيان بأهم المصطلحات ...
(((
هذا الكتاب
قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر دراسة ترصد حركة تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر، بدءاً من مطلع هذا القرن، مروراً بالثلاثينيات منه إلى زمننا تقريباً، وهي قراءات تبدأ بالنص الرومانسي في نموذجين منه، لتنتهي بالنص الحداثي في ثلاثة من نماذجه.
وهي قراءات تعتمد أولاً وأخيراً على الجهد التطبيقي، وإن كانت لا تهمل الجهد التنظيري في مفتتح القراءات، وهدفها الكشف عن الدلالات المغيبة أو المسكوت عنها في هذه النصوص.
(((
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
قراءات في الأدب والنقد :.دراسة/ شجاع مسلم العاني-
دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999- 256ص ؛ 25سم..
1- 809 ع ا ن ق ... ... ... ... 2-العنوان
3 - العاني
ع -170/2/2000 ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
دراسات نقدية في القصيدة المعاصرة. وفي الرواية وفي التفكيكية والتناص. والنص والأسلوبية. وقضايا أخرى في النقد العربي المعاصر. وهي تشي بفكر نقدي عميق وموسوعي، حيث لا يكتفي الباحث بتحليل الشكل وحسب إنما يستخدمه للولوج إلى أعماق النصوص المدروسة فيشبعها بحثاً وتنقيباً وحفراً. بحيث يخرج القارئ بفائدة عميقة وثرية تمكنه من فهم النص، بل وتحثه على قراءته مرة أخرى.
(((1/335)