مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا (5) الكهف .
? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) آل عمران .
? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) الصف.
? {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) الأحزاب .
? اللهم صلى على محمدٍ و على آل محمدٍ كما صليت على آل إبراهيم فى العالمين إنك حميد مجيد وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على آل إبراهيم فى العالمين إنك حميدٌ مجيد(1).
? أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُل محدثةٍ بِدْعَةٌ وكل بدعةٍ ضَلالَةٌ(2)وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.(3)
__________
(1) البخاري و مسلم .
(2) رواه مسلم .
(3) هذه الزيادة عند النسائي .(1/1)
? وروى ابن ماجة فى صحيحه(1)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ الْكَلامُ وَالْهَدْيُ فَأَحْسَنُ الْكَلامِ كَلامُ اللَّهِ وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ أَلا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدِثَاتِ الأمور فَإِنَّ شَرَّ الأمور مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ أَلا لا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الأمد فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ أَلا إِنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ أَلا أَنَّمَا الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ أَلا إِنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ أَلا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ لا يَصْلُحُ بِالْجِدِّ وَلا بِالْهَزْلِ وَلا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ ثُمَّ لا يَفِي لَهُ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارَ وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ صَدَقَ وَبَرَّ وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ كَذَبَ وَفَجَرَ أَلا وَإِنَّ الْعَبْدَ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا(2).
__________
(1) صحيح رواه الشيخان البخاري و مسلم .
(2) قوله ( إنما هما اثنتان ) أي إنما الكتاب والسنة اللذين وقع التكليف بهما اثنتان لا ثالث معهما حتى يثقل عليكم الأمر ويتفرق و المقصود النهي عن ضم المحدثات إليهما كأنه قيل المقصود بقاؤهما اثنتان ..قوله ( ألا إنما الشقي إلخ ) المعنى إن ما قدر الله تعالى عليه في أصل خلقته أن يكون شقيا فهو الشقي في الحقيقة لا من عرض له الشقاء بعد ذلك وهو إشارة إلى شقاء الآخرة لا شقاء الدنيا قوله ( من وُعظ ) على بناء المفعول أي من وفقه الله تعالى للاتعاظ فرأى ما جرى على غيره بالمعاصي من العقوبة فتركها خوفا من أن يناله مثل ما نال غيره . قوله ( كفر ) أي من شأن الكفر . قوله (وسبابه فسوق ) أي من شأن الفسقة وليس المراد أن مرتكب القتال كافر ومرتكب السباب فاسق .
قوله ( أن يهجر أخاه ) يفهم منه إباحة الهجر إلى ثلاث وهو رخصة لأن طبع الآدمي على عدم تحمل المكروه ثم المراد حرمة الهجران إذا كان الباعث عليه وقوع تقصير في حقوق الصحبة والأخوة وآداب العشرة وذلك أيضا بين الأجانب وأما بين الأهل فيجوز إلى أكثر للتأديب فقد هجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نساءه شهرا وكذا إذا كان الباعث أمرا دينيا فليهجره حتى ينزع من فعله وعقده ذلك فقد أذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في هجران الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله قالوا وإذا خاف من مكالمة أحد ومواصلته ما يفسد عليه دينه أو يدخل عليه مضرة في دنياه يجوز له مجانبته والحذر منه فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذيه . قوله ( لا يصلح ) لا يحل أو لا يوافق شأن المؤمن بالجد أي بطريق الجد قوله ( ولا يعد الرجل صبيه ) أي صغيره .
قوله ( ثم لا يفي له ) ظاهره أنه عطف على لا يعد وهو نفي بمعنى النهي .
قوله ( يهدي إلى الفجور ) من الهداية قيل لعل الكذب بخاصيته يفضي بالإنسان إلى القبائح والصدق بخلافه . (والبر ) قيل هو اسم جامع للخير وقيل هو العمل الصالح الخالص من كل مذموم قال ابن العربي إذا تحرى الصدق لم يعص الله لأنه إن أراد أن يفعل شيئا من المعاصي خاف أن يقال أفعلت كذا فإن سكت لم يأمن الريبة وإن قال لا كذب وإن قال نعم فسق وسقطت منزلته وانتهكت حرمته . قوله ( حتى يكتب عند الله ) الظاهر أن المراد كتابته في ديوان الأعمال ويحتمل أن المراد إظهاره بين الناس بوصف الكذب .} من شرح سنن ابن ماجة للسندي .(1/2)
? و روى الإمام مالك فى الموطأ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّه )(1).
? وروى البخاري و مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ(2).
__________
(1) الشرح من المنتقى شرح موطأ مالك ( قوله صلى الله عليه وسلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما على سبيل الحض على تعلمها أو التمسك بهما والاقتداء بما فيهما ، وبين صلى الله عليه وسلم الأمرين فقال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يريد والله أعلم ما سنه وشرعه , وأنبأنا عن تحليله وتحريمه وغير ذلك من سننه , وهذا فيما كان فيه كتاب أو سنة , وما لم يكن فيه كتاب ولا سنة فمردود إليهما ومعتبر.
والمعنى و الله أعلم أن الحكم بالكتاب والسنة مقدم فيما فيه كتاب أو سنة , وما عدم ذلك فيه اجتهد العالم فيه بالرأي والقياس والرد إلى ما ثبت بالكتاب والسنة , وأما الجاهل فلا يتعرض لذلك فإنه متكلف بما لا يعلم وبما لم يُكَلَفَهُ , ويوشك أن لا يوفق ) .
(2) قال الإمام النووي فى شرح مسلم (قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي الرواية الثانية :
( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) الرد هنا بمعنى المردود , ومعناه : فهو باطل غير معتد به .
وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام , وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات .
وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين للبدع بأنهم لم يحدثوها بمعنى لم يخترعوها و لكن اخترعها غيرهم , فإذا قلت له الرواية الأولى يقول : أنا ما أحدثت شيئا ، فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات , سواء أحدثها الفاعل , أو أحدثها غيره .
وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات , وإشاعة الاستدلال به .(1/3)
? و روى مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ يَقُول قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ(1)كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لا يُضِلُّونَكُمْ وَلا يَفْتِنُونَكُمْ .
? عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ واثنتان وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ الْجَمَاعَةُ(2). ( أخرجه ابن ماجة و أحمد).
__________
(1) دجال : مموه يخلط الحق بالباطل.
(2) الجماعة : المتمسكون بكتاب الله وسنة نبيه .( قال الترمذي الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث ) .وروي ابن ماجة [ ما اجتمعت أمتي على ضلالةٍ ] وأصله عند أحمد و الترمذي و أبو داود و الدارمي .(1/4)
? قال تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) }آل عمران(1).
__________
(1) اعتصموا : تمسكوا . بحبل الله : بعهد الله و دينه ، و ذكر ابن كثير فى تفسيره بحبل الله يعنى كتاب الله ، بدليل ما رواه الطبراني ( عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ) . فألف : جمع بالمحبة . شفا : حافة . أنقذكم : أنجاكم(1/5)
? عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )(1).
__________
(1) رواه الترمذي و أبو داود وهذا لفظه وابن ماجه و مالك وأحمد و الدارمي .
والشرح من شرح سنن ابن ماجه للسندي قوله ( سهل الله له ) هو إما كناية عن التوفيق للخيرات في الدنيا أو عن إدخال الجنة بلا تعب في الآخرة قوله ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها ) يحتمل أن يكون على حقيقته وإن لم يشاهد أي تضعها لتكون وطاء له إذا مشى أو تكف أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم أو أن يكون بمعنى التواضع تعظيما لحقه ومحبة للعلم قوله ( رضا ) أي إرضاء اً لصاحب العلم قوله ( يستغفر له ) - إذا لحقه ذنب ومجازاة -على حسن صنيعه بإلهام من الله تعالى إياهم ذلك وذلك لعموم نفع العلم فإن مصالح كل شيء ومنافعه منوطة به والحيتان في الماء جمع حوت وفي رواية في البحر قوله ( كفضل القمر ) فإن كمال العلم كمال يتعدى آثاره إلى الغير وكمال العبادة كمال غير متعد آثاره فشابه الأول بنور القمر والثاني بنور سائر الكواكب وفيه تنبيه على أن كمال العلم ليس للعالم من ذاته بل تلقاه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كنور القمر فإنه مستفاد من نور الشمس ثم المراد بالعالم من غلب عليه الاشتغال بالعلم مع اشتغاله بالأعمال الضرورية وبالعابد من غلب عليه العبادة مع اطلاعه على العلم الضروري وأما غيرهما فبمعزل عن الفضل،كمن قال " كن عالماً أو متعلماً و لا تكن الثالث فتهلك ". ( لم يورثوا ) و المعنى لم يتركوا ميراثاً إلا العلم ( أخذ بحظ ) أخذ نصيب ( وافر ) تام .(1/6)
? قال تعالى فى سورة التحريم ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون(6).
? أما بعد فهذا قبس من هدي النبوةِ مكونٌ من شرح مختصر لبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من فتح الباري بشرح صحيح البخاري و شرح الإمام يحي بن شرف النووي لصحيح مسلم . إلا القليل النادر من الشروح فمن غيرهما وأشرت له فى حينه .
? وهذه الأحاديث من الأحاديث الجامعة لأسس الدين _ و التي ينبغي لكل مسلم أن يلم بها إلماماً جيداً ، نصاً ومعناً وعملاً ويعلمها أهله و ذويه و مَنْ تحت رعايته _ وكلها لفظاً و رواية للإمام البخاري إلا ما ندر فلفظه لمسلم رغم رواية البخاري له لفائدة أو زيادة مرجوة وينوه عليه فى حينه.
? وهذه الأحاديث برواية الإمام البخاري ، واتفق معه فى تخريجها الإمام مسلم عدا ثمانية أحاديث هي أرقام ( 21،38،43،45،50،57،63،67) من هذا الكتاب .
? واخترت من الآراء رأي الجمهور ، و ما رجحه الإمام يحي بن شرف النووي فى شرحه لمسلم ، و الحافظ أحمد ابن حجر العسقلاني فى فتح الباري بشرح صحيح البخاري على الترتيب.
? و فى تخريج أحاديث الشرح لم أذكر كل من أخرجوا الحديث من الأئمة ، بل إننى اكتفيت بتخريج البخاري أو مسلم للحديث لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله ، فإن كان الحديث عند غيرهما تأكدت من صحته ثم اكتفيت بصاحب اللفظ مع بعض من رواه من أصحاب الكتب تأنيساً للقارئ .
? و اعلم أن أصح الأحاديث ما اتفق عليه الشيخان البخاري و مسلم ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم . وهذا رأي جمهور علماء المسلمين .
? و ما كان من توفيق فمن الله وما كان من تقصير فمن نفسي ومن الشيطان .
? و أسأل الله العلي القدير أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم و أن يجعله فى ميزان حسناتي يوم ألقاه و صدقة جارية ينتفع بها المسلمون إلي يوم الدين .(1/7)
? { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19) } النمل .
والله الموفق وهو الهادى إلى سواء السبيل .
مدينة العاشر من رمضان
فى غرة المحرم من عام 1424
من الهجرة النبوية الشريفة .
1.عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. (مسلم).
الشرح : -
1- أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث , وكثرة فوائده وصحته , قال الشافعي وآخرون : هو ثلث الإسلام , وقال الشافعي : يدخل في سبعين بابا من الفقه،وقال آخرون:هو ربع الإسلام.
2- لفظة ( إنما ) موضوعة للحصر , تثبت المذكور , وتنفي ما سواه .
3- فتقدير هذا الحديث : أن الأعمال تحسب بنية , ولا تحسب إذا كانت بلا نية .
4- -قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإنما لامرئ ما نوى ) قالوا : فائدة ذكره بعد إنما الأعمال بالنية , بيان أن تعيين المنوي شرط , فلو كان على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة , بل يشترط أن ينوي كونها ظهرا أو غيرها , ولولا اللفظ الثاني(1)لاقتضى الأول(2)صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك .
__________
(1) يقصد " وإنما لامرئ ما نوي .
(2) يقصد إنما الأعمال بالنية .(1/8)
5- قوله صلى الله عليه وسلم:( فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) معناه : من قصد بهجرته وجه الله وقع أجره على الله , ومن قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظه ولا نصيب له في الآخرة بسبب هذه الهجرة ، وأصل الهجرة الترك،والمراد هنا ترك الوطن .
6- وذكر المرأة مع الدنيا يحتمل وجهين : أحدهما : أنه جاء أن سبب هذا الحديث أن رجلا هاجر ليتزوج امرأة يقال : لها أم قيس , فقيل له : مهاجر أم قيس . والثاني : أنه للتنبيه على زيادة التحذير من ذلك،وهو من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على ميزته.والله أعلم
2.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .
الشرح : -
1. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) معناه من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل . وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها . وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إلى اليد لما ذكرناه . والله تعالى أعلم .
2. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده .) المسلم: معناه المسلم الكامل(1)وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة , على التفضيل لا للحصر .
__________
(1) بدليل رواية الترمذي فى تعريف المسلم والمؤمن (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . أي المسلم حقاً والمؤمن حقاً .والله أعلم .(1/9)
3. قال السيوطي فى شرح سنن النسائي ( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ) قيل الألف واللام فيه للكمال نحو زيد الرجل أي الكامل في الرجولية قال الخطابي(1)المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق الناس(2)، وقال غيره يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه من التنبيه بالأدنى على الأعلى .
3.عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ .
الشرح : -
1. قوله : ( عن أبيه ) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب .
2. قوله : ( مر على رجل ) ومر بمعنى اجتاز .
3. وقوله " يعظ " أي " يعاتب أخاه في الحياء " يقول : إنك لتستحي , حتى كأنه يقول : قد أضر بك الحياء.فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " دعه " أي اتركه على هذا الخلق الطيب , ثم زاده في ذلك ترغيباً لحكمه بأنه من الإيمان .
4. و معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان من ارتكاب المعاصي, فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه لأنه قام مقام الإيمان فى المنع من ارتكاب المعاصي .
5. وقد قال بعض السلف : خف الله على قدر قدرته عليك . واستحى منه على قدر قربه منك .والله أعلم.
__________
(1) الإمام الخطابي هو رائد شراح صحيح البخاري ولد عام 319 من الهجرة النبوية الشريفة .
(2) الناس : تشمل المسلم وغير المسلم .(1/10)
4.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ .
الشرح : -
1. وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر , ولا هو منافق يخلد في النار ; فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال .
2. ومعناه أن هذه الخصال خصال نفاق , وصاحبها شبيه بالمنافق في هذه الخصال , ومتخلق بأخلاقهم . فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه , وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ,
3. ويكون نفاقه في حق من حدثه , ووعده , وائتمنه , وخاصمه , وعاهده من الناس , لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر .
4. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار .
5. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كان منافقا خالصا ) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال .
5. سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَلَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ .
الشرح : -(1/11)
1. ومعنى الحديث : أن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيرا بكل حال , فأما أن يستشهد فيدخل الجنة , وإما أن يرجع بأجر , وإما أن يرجع بأجر وغنيمة .
2. (ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله ) أي : خلفها وبعدها .
3. قوله : ( لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل ) فيه : فضيلة الغزو والشهادة , وفيه : تمني الشهادة والخير , وفيه : أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين(1).
4. وفى الحديث : ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المسلمين والرأفة بهم , وأنه كان يترك بعض ما يحبه للرفق بالمسلمين , وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها . وفيه : مراعاة الرفق بالمسلمين , والسعي في زوال المكروه والمشقة عنهم .
__________
(1) 17 فرض الكفاية : هو ما طلب الشارع حصوله من جماعة المكلفين ، لا من أفرادها ، لأن مقصود الشارع إيجاد الفعل لا ابتلاء المكلف ، فإذا فعله البعض سقط الفرض عن الباقين ، فكأن التارك بهذا الاعتبار فاعلاً ، و إذا لم يقم به أحدٌ أثم جميع القادرين ، على عكس الفرض العيني فالمقصود به تحصيل الفعل و لكن من كل مُكلف .
من أمثلة فرض الكفاية : الجهاد ، القضاء ، الإفتاء ، التفقه فى الدين ، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و نحو ذلك مما هو مطلوب لمصلحة الأمة المسلمة . للاستزادة راجع الوجيز فى أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان .(1/12)
6. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الْإِيمَانُ قَالَ الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ قَالَ مَا الإِسْلَامُ قَالَ الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ قَالَ مَا الإِحْسَانُ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .
قَالَ مَتَى السَّاعَة ؟ ُقَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّهَا وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآيَةَ(1)ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ .
الشرح : -
__________
(1) قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان (34) .(1/13)
1. قوله : (بارزا) أي ظاهرا لهم غير محتجب عنهم ولا ملتبس بغيره ، والبروز الظهور ، وقد وقع في رواية أبي فروة عند أبى داود و النسائي , إن أوله(1): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو , فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه , قال : فبنينا له دكانا(2)من طين كان يجلس عليه . انتهى . واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه .
2. قوله : ( فأتاه رجل ) أي ملك في صورة رجل ,
3. قوله (قال : الإيمان أن تؤمن بالله إلخ ) دل الجواب أنه علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن معنى لفظه , وإلا لكان الجواب : الإيمان التصديق .
4. قوله : ( وملائكته ) الإيمان بالملائكة هو التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله تعالى ( عباد مكرمون ) وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظراً للترتيب الواقع , لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول .
5. قوله : ( وكتبه ) والإيمان بكتب الله التصديق بأنها كلام الله وأن ما تضمنته حق .
6. قوله : ( وبلقائه ) قيل إنها مكررة لأنها داخلة في الإيمان بالبعث , والحق أنها غير مكررة , فقيل المراد بالبعث القيام من القبور , والمراد باللقاء ما بعد ذلك , وقيل اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا , والبعث بعد ذلك .
7. قوله : ( ورسله ) والإيمان بالرسل التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله.
8. قوله ( وتؤمن بالبعث ) المراد بالإيمان به والتصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار .
__________
(1) أوله : يقصد أول بروز المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
(2) دكان : هنا بمعنى مقعد أو دكة للجلوس .(1/14)
9. ( فائدة ) : زاد الإسماعيلي في مستخرجه ومسلم فى بعض رواياته (وتؤمن بالقدر خيره وشره ) وزاد " وحلوه ومره من الله " والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها , ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد , فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته , هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية , وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين ,
10. ( تنبيه ) : ظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر , وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله , ولا اختلاف , لأن الإيمان برسول الله المراد به الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه , فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك . والله أعلم .
11. المراد بالعبادة الطاعة مطلقا .
12. وليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك , بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين,وقد تبين ذلك بقوله في آخره " يعلم الناس دينهم " .
13. فإن قيل : لم لم يذكر الحج ؟ الرد بأنه ذكر فى بعض الروايات الأخرى(1).
14. قوله : ( الإحسان ) إحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود , وأشار في الجواب إلى حالتين : أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله " كأنك تراه " أي وهو يراك , والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل , وهو قوله " فإنه يراك " . وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته .
__________
(1) ارجع لفتح الباري للاستزادة .(1/15)
15. ( فائدة ) : زاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع قول السائل " صدقت " عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة , وفي رواية كهمس " فعجبنا له يسأله ويصدقه " . قال القرطبي : إنما عجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلا من جهته , وليس هذا السائل ممن عٌرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه , ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه لأنه يخبره بأنه صادق فيه , فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك . والله أعلم .
16. قوله : ( متى الساعة ) أي متى تقوم الساعة ؟ والمراد يوم القيامة .
17. قوله : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل) قال النووي : يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه , ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته , بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه . وقال القرطبي مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة , لأنهم قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث , فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها , بخلاف الأسئلة الماضية فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها , ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن .
18. " و سأخبرك عن أشراطها " قال القرطبي : علامات الساعة على قسمين : ما يكون من نوع المعتاد , أو غير المعتاد . والمذكور هنا هو العلامات المعتادة . وأما الغير مثل طلوع الشمس من مغربها فتلك مقاربة ليوم القيامة .والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك . والله أعلم .
19. قوله : ( إذا ولدت الأمة ربها ) وفي رواية " ربتها " بتاء التأنيث أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام . وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه(1), ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع حدوثها دليل على فساد الأحوال مستغربة .
__________
(1) الكلام للعلامة ابن حجر فى الفتح .(1/16)
20. ومحصلة الحديث الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا والسافل عاليا , وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى أن تصير الحفاة ملوك الأرض .
21. قوله : ( رعاةُ الإبلِ البهم ) البهم يجوز ضم الميم على أنها صفة الرعاة ويجوز الكسر على أنها صفة الإبل يعني الإبل السود , وقيل إنها شر الألوان عندهم , وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل فقيل " خير من حمر النعم "
22. ووصف الرعاة بالبُهم قال القرطبي : يحمل على أنهم سود الألوان لأن السواد غالب ألوانهم . و المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به , وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان . ومنه الحديث الآخر " لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع " ومنه " إذا وُسد الأمر - أي أسند - إلى غير أهله فانتظروا الساعة " وكلاهما في الصحيح .
23. قوله : ( في خمس ) جاء عن ابن مسعود قال : أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء سوى هذه الخمس وهي المذكورة فى سورة لقمان الآية (34)(1).
24. قوله ( جاء يعلم الناس ) أراد أن تعلموا هذه الأسس لأنكم لم تسألوا عنها .
__________
(1) 23 (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير(34)(1/17)
25. قال القرطبي : هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة , لما تضمنه من جمل علم السنة . وقال القاضي عياض : اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح , ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال , حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه . قلت : ولهذا أشبعت القول في الكلام عليه , مع أن الذي ذكرته وإن كان كثيرا لكنه بالنسبة لما يتضمنه قليل , فلم أخالف طريق الاختصار.والله الموفق(1).
7. سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ.
الشرح : -
__________
(1) ما زال الكلام للعلامة ابن حجر فى الفتح .(1/18)
1- أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث , وكثرة فوائده , وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام . قال جماعة : هو ثلث الإسلام , وأن الإسلام يدور عليه , وعلى حديث : " الأعمال بالنية "(1), وحديث : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(2).
__________
(1) الحديث الأول من هذا الكتاب .
(2) رواه الترمذي عن مالك و أخرجه ابن ماجه فى الفتن و أخرجه أحمد. وشرحه صاحب تحفة الأحوذي فقال { قوله : ( من حسن إسلام المرء ) أي من جملة محاسن إسلام الإنسان وكمال إيمانه ( تركه ما لا يعنيه ) قال ابن رجب الحنبلي في كتاب جامع العلوم والحكم في شرح هذا الحديث ما لفظه : معنى هذا الحديث أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل , واقتصاره على ما يعنيه من الأقوال والأفعال , ومعنى يعنيه أنه يتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلبه , والعناية شدة الاهتمام بالشيء , يقال عناه يعنيه : إذا اهتم به وطلبه , وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها , فإن هذا كله لا يعنيه المسلم إذا كمل إسلامه .
قال الغزالي : وحد ما يعنيك أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال ولا مال . ومثاله أن تجلس مع قوم فتحكي معهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار , وما وقع لك من الوقائع , وما استحسنته من الأطعمة والثياب , وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم , فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تتضرر , وإذا بالغت في الاجتهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة , ولا اغتياب لشخص , ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى , فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك , ومحاسب على عمل لسانك , إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير , لأنك لو صرفت زمان الكلام في الذكر والفكر , ربما ينفتح لك من نفحات رحمة الله تعالى ما يعظم جدواه , ولو سبحت الله بنى لك بها قصر في الجنة . وهذا على فرض السلامة من الوقوع في كلام المعصية , وأن لا تسلم من الآفات التي ذكرناها انتهى .
وقد حسنه الإمام النووي لأن رجال إسناده ثقات. وكذلك ابن عبد البر .( انتهى مختصرا ) } .(1/19)
2- قيل سبب عظم موقع هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها , وأنه ينبغي ترك المشتبهات , فإنه سبب لحماية دينه وعرضه , وحذرا من مواقعة الشبهات , وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى , ثم بين أهم الأمور , وهو مراعاة القلب فقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة . . إلى آخره ) فبين صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد , وبفساده يفسد باقيه .
3- وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين ) فمعناه : أن الأشياء ثلاثة أقسام :..
? حلال بين واضح لا يخفى حله , كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم(1)وبيضه وغير ذلك من المطعومات , وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات , فيها حلال بين واضح لا شك في حله .
? وأما الحرام البين فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح , وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك .
? وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة , فلهذا لا يعرفها كثير من الناس , ولا يعلمون حكمها,وأما العلماء فيختلفون فيها إختلافاً كبيراً فيكون الورع تركها .
4- قوله صلى الله عليه وسلم : ( فقد استبرأ لدينه وعرضه ) أي : حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي , وصان عرضه عن كلام الناس فيه .
__________
(1) لأن غير مأكول اللحم يحرم أكل وشرب ما ينتجه من لبنٍ وبيضٍ وسمنة وما شابهه .(1/20)
5- قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه ) معناه : أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى(1)يحميه عن الناس , ويمنعهم من دخوله , فمن دخله أوقع به العقوبة , ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه , ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه , أي : المعاصي التي حرمها الله , كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة , وأكل المال بالباطل , وأشباه ذلك من المحرمات , فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة , ومن قاربه كاد أن يقع فيه , فمن احتاط لنفسه لم يقاربه , ولا يتعلق بشيء يقربه من المعصية , فلا يدخل في شيء من الشبهات .
6- قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) والمضغة : القطعة من اللحم , سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها , قالوا : المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد , مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب .
7- وفي هذا الحديث : تأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد .
8- قوله صلى الله عليه وسلم :( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) يحتمل وجهين :
? أحدهما : أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام , وإن لم يتعمده , وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير .
? والثاني : أنه يعتاد التساهل , ويتمرن عليه , ويجسر على شبهة ثم شبهة أغلظ منها , ثم أخرى أغلظ , وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا , وهذا نحو قول السلف : المعاصي بريد الكفر , أي تسوق إليه . عافانا الله تعالى من الشر .
9- قوله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن يقع فيه ) أي :يقترب من الوقوع فيها .
__________
(1) حمى : بكسر الحاء وفتح الميم أي مكان يمنع عنه الناس ويكون له حرس يحميه .(1/21)
8. سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ .
الشرح : -
1- قوله صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) فيه : فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه , وسببه أنه قائد إلى تقوى الله تعالى .
2- قوله صلى الله عليه وسلم : (وإنما أنا قاسم) , وفي الرواية الأخرى : ( إنما أنا خازن) ويعطي الله معناه : أن المعطي حقيقة هو الله تعالى ولست أنا معطيا , وإنما أنا خازن على ما عندي , ثم أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به , فالأمور كلها بمشيئة الله تعالى وتقديره والإنسان مُصرَف مَربُوب(1).
9. عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ .
الشرح : -
__________
(1) أي أن للإنسان رب يصرف له أموره كلها .(1/22)
1. ( الغيث ) فهو المطر . وأما ( العشب والكلأ والحشيش ) فكلها أسماء للنبات , لكن الحشيش مختص باليابس , والعشب والكلأ مختصان بالرطب.
2. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (فكان منه نقية قبلت الماء ) وهو بمعنى طيبة .
3. وأما ( الأجادب ) فبالجيم و الدال المهملة من الجدب الذي هو ضد الخصب .
4. وأما ( القيعان ) فبكسر القاف جمع القاع , وهو الأرض المستوية , وقيل : الملساء , وقيل : التي لا نبات فيها , وهذا هو المراد في هذا الحديث كما صرح به صلى الله عليه وسلم .
5. . والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم ( فقه في دين الله ) مضموم القاف على المشهور.
6. أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث , ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع , وكذلك الناس .
? فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيى بعد أن كان ميتا , وينبت الكلأ , فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها , وكذا النوع الأول من الناس , يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه , ويعمل به , ويعلمه غيره , فينتفع وينفع(1).
? والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها , لكن فيها فائدة , وهي إمساك الماء لغيرها , فينتفع بها الناس والدواب , وكذا النوع الثاني من الناس , لهم قلوب حافظة , لكن ليست لهم أفهام ثاقبة , ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام , وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به , فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم , أهل للنفع والانتفاع , فيأخذه منهم , فينتفع به , فهؤلاء نفعوا بما بلغهم .
__________
(1) ألا تحب يا أخي المؤمن أن تكون من هذا الصنف من الناس و هو أن تتعلم العلم الشرعي و النافع من علوم الدنيا وتعمل به وتعلمه للناس فتفوز بسعادة الدارين .(1/23)
? والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها , فهي لا تنتفع بالماء , ولا تمسكه لينتفع بها غيرها , وكذا النوع الثالث من الناس , ليست لهم قلوب حافظة , ولا أفهام واعية , فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به , ولا يحفظونه لنفع غيرهم . والله أعلم .
7. وفي هذا الحديث أنواع من العلم منها :- ضرب الأمثال , ومنها فضل العلم والتعليم ، وشدة الحث عليهما , وذم الإعراض عن العلم . والله أعلم .
10. عن عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ .
الشرح : -
1. قوله : ( قلت للزبير ) أي ابن العوام وهو ابن عمة رسول الله و أحد المبشرين بالجنة.
2. قوله : ( أما إني لم أفارقه ) أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة , وكذا لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة . وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال , لأن لازم الملازمة السماع , ولازم السماع عادةً التحديث , لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره , ولهذا أتى بقوله : " لكن " .(1/24)
3. قوله : ( من كذب علي ) كذا رواه البخاري ليس فيه " متعمدا " وأخرجه ابن ماجه من طريقه وزاد فيه " متعمدا ". وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو : - الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ , والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر , لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ , والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله , فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع , فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار , فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث . وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت , أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان . رضي الله عنهم .
4. قوله : ( فليتبوأ ) أي فليتخذ لنفسه منزلاً , يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا , وهو أمر بمعنى الخبر أيضا , أو بمعنى التهديد , أو بمعنى التهكم , أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك ، فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه , أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء .(1/25)
11. سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ لَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا .(1)
الشرح : -
1. قوله : ( ذكر لي ) لم يسم أنس من ذكر له لأن معاذا إنما حدث به عند موته بالشام , وأنس إذ ذاك بالمدينة فلم يشهده .
2. قوله : ( من لقي الله ) أي من لقي الأجل الذي قدره الله يعني الموت . كذا قاله جماعة , ويحتمل أن يكون المراد البعث أو رؤية الله تعالى في الآخرة .
__________
(1) 31 روي هذا الحديث بصيغ عدة منها ما رواه أحمد عن البخاري قال ( حدثنا إسماعيل حدثنا يونس عن حميد بن هلال عن هصان بن الكاهن قال دخلت المسجد الجامع بالبصرة فجلست إلى شيخ أبيض الرأس واللحية فقال حدثني معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( قال ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله يرجع ذاكم إلى قلب موقن إلا غفر الله لها ) قلت له أنت سمعته من معاذ فكأن القوم عنفوني قال لا تعنفوه ولا تؤنبوه دعوه نعم أنا سمعت ذاك من معاذ يدبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إسماعيل مرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت لبعضهم من هذا قال هذا عبد الرحمن بن سمرة حدثنا عبد الأعلى عن يونس عن حميد بن هلال عن هصان بن الكاهن قال وكان أبوه كاهنا في الجاهلية قال دخلت المسجد في إمارة عثمان بن عفان فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية يحدث عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث)(1/26)
3. قوله : ( لا يشرك به ) اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء , ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم , إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك , أو هو مثل قول القائل : من توضأ صحت صلاته , أي مع سائر الشرائط . فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به .
4. قوله :"دخل الجنة " أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده.
5. وفي بعض الروايات (فأخبر بها معاذ عند موته تأثما،) و معنى التأثم التحرج من الوقوع في الإثم, وإنما خشي معاذ من الإثم المرتب على كتمان العلم , وقد وقع لأبي أيوب الأنصاري مثل ذلك , ففي المسند أن أبا أيوب غزا الروم فمرض(1), فلما حضرته الوفاة قال : سأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذه ما حدثتكموه , سمعته يقول : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " .
__________
(1) كان ذلك في غزو المسلمين للقسطنطينية بقيادة زيد ابن معاوية ومات أبو أيوب في هذه الغزوة ودفن تحت سور القسطنطينية ولم يقدر فتحها فى ذلك الوقت .(1/27)
6. لم يكن المقصود من المنع التحريم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس , فلقيه عمر فدفعه وقال : ارجع يا أبا هريرة , ودخل على أثره فقال : يا رسول الله لا تفعل , فإني أخشى أن يتكل الناس , فخلهم يعملون . فقال : فخلهم . أخرجه مسلم(1).
__________
(1) 33 و رواية مسلم هي ( حدثني أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة والربيع الجدول فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو هريرة فقلت نعم يا رسول الله قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس ورائي فقال يا أبا هريرة وأعطاني نعليه قال اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فكان أول من لقيت عمر فقال ما هاتان النعلان يا أبا هريرة فقلت هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي فقال ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاء وركبني عمر فإذا هو على أثري فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا هريرة قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي قال ارجع فقال له رسول الله يا عمر ما حملك على ما فعلت قال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم ) .(1/28)
فكأن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " أخاف أن يتكلوا " كان بعد قصة أبي هريرة , فكان النهي للمصلحة لا للتحريم .
7. قوله : ( لا ) هي للنهي ليست داخلة على " أخاف " , بل المعنى لا تبشر . ثم استأنف فقال : " أخاف " . وفي رواية كريمة " إني أخاف " بإثبات التعليل , وللحسن بن سفيان في مسنده عن عبيد الله بن معاذ عن معتمر " قال : لا , دعهم فليتنافسوا في الأعمال , فإني أخاف أن يتكلوا " .
12. عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ .
الشرح : -
1. قوله : ( فغسل كفيه ثلاث مرات ) هذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة ، وهو كذلك باتفاق العلماء .
2. وقوله : ( ثم تمضمض واستنثر ) الاستنثار هو : إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق.
? و المضمضة: كمالها أن يجعل الماء في فمه ثم يديره فيه ثم يمجه , وأما أقلها فأن يجعل الماء في فيه , ولا يشترط إدارته على المشهور الذي قاله الجمهور ,(1/29)
? و الاستنشاق فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه , ويستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما فيكره ذلك ; لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما "(1),. و الأفضل: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق منها , وبه جاءت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما .
? واتفقوا على أن المضمضة مقدمة على الاستنشاق.
3 هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء ,
4 وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة , وعلى أن الثلاث سنة,
__________
(1) رواه أصحاب السنن ، ولفظ الترمذي (عن لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ قَالَ أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قوله ( أخبرني عن الوضوء ) أي كماله ( قال أسبغ الوضوء ) بضم الواو أي أتم فرائضه وسننه ، ( وخلل بين الأصابع ) أي أصابع اليدين والرجلين ،
( وبالغ في الاستنشاق ) بإيصال الماء إلى باطن الأنف ، ( إلا أن تكون صائما ) فلا تبالغ لئلا يصل إلى باطنه فيبطل الصوم .(1/30)
5 واختلف العلماء في مسح الرأس فذهب الشافعي في طائفة إلى أنه يستحب فيه المسح ثلاث مرات كما في باقي الأعضاء , وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والأكثرون إلى أن السنة مرة واحدة ولا يزاد عليها . والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة , وفي بعضها الاقتصار على قوله : ( مسح ) , واحتج الشافعي بحديث عثمان رضي الله عنه الآتي في صحيح مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ) وبما رواه أبو داود في سننه ( أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا ) وبالقياس على باقي الأعضاء وأجاب عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز . وواظب صلى الله عليه وسلم على الأفضل والله أعلم .
6 وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين واستيعاب جميعهما بالغسل , وأجمعوا على وجوب مسح الرأس , واختلفوا في قدر الواجب فيه ; فذهب الشافعي في جماعة إلى أن الواجب ما يطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة , وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه , وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - في رواية : الواجب ربعه , واختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق ومذهب مالك والشافعي وأصحابهما أنهما سنتان في الوضوء والغسل , وذهب إليه من السلف الحسن البصري والزهري والحكم وقتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي والليث بن سعد .
7 واتفق الجمهور على أنه يكفي في غسل الأعضاء في الوضوء والغسل جريان الماء على الأعضاء . ولا يشترط الدلك. والله أعلم .
8 واتفق الجمهور على وجوب غسل الكعبين والمرفقين. والله أعلم .
9 واتفق العلماء على أن المراد بالكعبين : العظمان الناتئان بين الساق والقدم وفي كل رجل كعبان.
10 قوله صلى الله عليه وسلم : ( نحو وضوئي ) ولم يقل ( مثل ) ; لأن حقيقة مماثلته صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره , والمراد بالغفران : الصغائر دون الكبائر .
11 وفيه : استحباب صلاة ركعتين فأكثر عقب كل وضوء وهو سنة مؤكدة .(1/31)
12 وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحدث فيهما نفسه ) , فالمراد لا يحدث شيء من أمور الدنيا وما لا يتعلق بالصلاة , ولو عرض له حديث فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عن ذلك وحصلت له هذه الفضيلة إن شاء الله تعالى ; لأن هذا ليس من فعله , وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر , والله تعالى أعلم .
13 وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث , والمراد بالثلاث المستوعبة للعضو, وأما إذا لم تستوعب العضو إلا بغرفتين فهي غسلة واحدة , ولو شك هل غسل ثلاثا أم اثنتين ؟ جعل ذلك اثنتين وأتى بثالثة,هذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من أصحابنا(1).
13. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ .
الشرح : -
1. قولها : ( كان صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره إذا تطهر , وفي ترجله إذا ترجل , وفي انتعاله إذا انتعل ) هذه قاعدة مستمرة في الشرع , وهي إن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال , وتقليم الأظفار , وقص الشارب , وترجيل الشعر وهو مشطه , ونتف الإبط , وحلق الرأس , والسلام من الصلاة , وغسل أعضاء الطهارة , والخروج من الخلاء , والأكل والشرب , والمصافحة , واستلام الحجر الأسود , وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن(2)فيه .
2. وأما ما كان بضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط(3)والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف وما أشبه ذلك , قيستحب التياسر فيه , وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها . والله أعلم .
__________
(1) إذا قال الأمام النووي أصحابنا فقصده الشافعية كما وضح فى مقدمة كتابه شرح مسلم .
(2) 36 استخدام اليد اليمني
(3) تمخط : أخرج المخاط من أنفه .(1/32)
3. وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة , لو خالفها فاته الأفضل , وصح وضئؤه , عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا لبستم أو توضأتم فابدؤا بأيامنكم(1)" . فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين , ومخالفته مكروهة أو محرمة , وقد انعقد إجماع على أنها ليست محرمة , فوجب أن تكون مكروهة .
4. ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن , وهو الأذنان والكفان والخدان بل يطهران دفعة واحدة , فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع(2)ونحوه ; قدم اليمين . والله أعلم .
14. عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ .
الشرح : -
1. قوله : ( كل شراب أسكر ) أي كان من شأنه الإسكار سواء حصل بشربه السكر أم لا .
2. قال الخطابي(3): فيه دليل على أن قليل المسكر وكثيره حرام من أي نوع كان .
3. ووجه احتجاج البخاري به في هذا الباب(4)أن المسكر لا يحل شربه , وما لا يحل شربه لا يجوز الوضوء به اتفاقا , والله أعلم .
15. عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ .
الشرح : -
__________
(1) رواه أبو داود و أحمد ، وقال أحمد بميامنكم .
(2) مقطوع اليد ( إحدى اليدين فلا يستطيع غسل الأعضاء المذكورة دفعة واحدة ) .
(3) الإمام الخطابي هو رائد شراح صحيح البخاري ولد عام 319 هجرية .
(4) أي فى باب الوضوء .(1/33)
1. قوله : ( كان إذا اغتسل ) أي شرع في الإغتسال .
2. قوله : ( بدأ فغسل يديه ) يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر , ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم(1), ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام " قبل أن يدخلهما في الإناء " رواه الشافعي و الترمذي(2), وزاد أيضا " ثم يغسل فرجه " , وهي زيادة جليلة , لأن بتقديم غسل الفرج يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل .
3. قوله : ( كما يتوضأ للصلاة ) الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل .
__________
(1) يقصد ما رواه البخاري و مسلم (عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر ومن استجمر[يعني الاستنجاء ] فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ).
(2) 43 و رواية الترمذي هي (حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثم غسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة ثم يشرب شعره الماء ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وهو الذي اختاره أهل العلم في الغسل من الجنابة أنه يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفرغ على رأسه ثلاث مرات ثم يفيض الماء على سائر جسده ثم يغسل قدميه والعمل على هذا عند أهل العلم وقالوا إن انغمس الجنب في الماء ولم يتوضأ أجزأه وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق )(1/34)
4. قوله : ( أصول الشعر ) أي شعر رأسه , " يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر , ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك " وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء , وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به . ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر ملبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله . والله أعلم .
5. قوله : ( ثلاث غرف ) غرفة للجانب الأيمن و أخرى للأيسر و ثالثة على أم الرأس .
6. قوله : ( ثم يفيض ) أي يسيل , والإفاضة الإسالة .
7. قوله : ( على جلده كله ) هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعدما تقدم , وهو يؤيد أن الوضوء سنة مستقلة قبل الغسل .
8. واستدل بهذا الحديث على استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل , ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه ولكن يجوز تأخيرها لما رواه مسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره " ثم أفاض على سائر جسده , ثم غسل رجليه".
? ويحمل قوله في رواية أبي معاوية المذكورة " ثم غسل رجليه " أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق قوله في حديث الباب " ثم يفيض على جلده كله " وهو المعتمد . والله أعلم .(1/35)
16. سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِه(1)ِ .
الشرح : -
1. قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه يناجي ربه ) إشارة إلى إخلاص القلب وحضوره وتفريغه لذكر الله تعالى وتمجيده وتلاوة كتابه وتدبره .
2. يبزقن : مضارع بزق ، وتعنى تفل – بصق – تف .
17. حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ.
الشرح : -
__________
(1) وسبب ذلك ما رواه البخاري و مسلم و اللفظ للبخاري { عن نافع عن ابن عمر أنه قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد وهو يصلي بين يدي الناس فحتها ثم قال حين انصرف إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يتنخمن أحد قبل وجهه في الصلاة ) و ما رواه النسائي و ابن ماجة ( عن أنس بن مالك قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد فغضب حتى احمر وجهه فقامت امرأة من الأنصار فحكتها وجعلت مكانها خلوقا ( نوع من الطيب أصفر اللون ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحسن هذا } .(1/36)
1. قوله : ( أعطيت خمسا ) ذلك كان في غزوة تبوك(1)وهي آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2. قوله : ( لم يعطهن أحد قبلي ) ظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله , وهو كذلك ,
3. قوله : ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها , أما ما دونها فلا , لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر " فالظاهر اختصاصه به مطلقا , وإنما جعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه , وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر،وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال .
4. قوله : ( وجعلت لي الأرض مسجدا ) أي موضع سجود , لا يختص السجود منها بموضع دون غيره , ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب وفيه " ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه " .
__________
(1) كانت غزوة تبوك فى شهر رجب سنة تسع من الهجرة وكانت فى حرٍ شديد.غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الروم على الحدود الشمالية لجزيرة العرب فلما سمعوا بمجيئه صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى البلاد داخل حدودهم { هنا يتضح قول النبي نصرت بالرعب مسيرة شهر}.ومكث الرسول الكريم بضع عشرة ليلة دون قتال وجاء أمراء البلدان المجاورة يعاهدونه ويعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، وآب إلى المدينة فوصلها فى رمضان .(1/37)
5. قوله : ( وطهورا ) استدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره , لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية , والحديث إنما سيق لإثباتها . واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث كالماء(1)لاشتراكهما في هذا الوصف . وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض .
6. قوله : ( فأيما رجل ) صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ووجد شيئا من أجزاء الأرض فإنه يتيمم به .
7. قوله : ( فليصل ) عرف مما تقدم أن المراد فليصل بعد أن يتيمم .
8. قوله : ( وأحلت لي الغنائم ) كان من تقدم على ضربين , منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم , ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته .قيل : المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء , والأول أصوب وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا.
__________
(1) روى الترمذي و أبو داود وغيرهما (عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ ) قَال الترمذي وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ إِذَا لَمْ يَجِدَا الْمَاءَ تَيَمَّمَا وَصَلَّيَا وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَ إِسْحَاقُ .(1/38)
9. قوله : ( وأعطيت الشفاعة ) المراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف(1)
__________
(1) 47 روي البخاري و مسلم و اللفظ للبخاري ( حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة فقال يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة فقال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا إلى ربك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأقول أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأخرجه فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة فقال هيه فحدثناه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع فقال هيه فقلنا لم يزد لنا على هذا فقال لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا قلنا يا أبا سعيد فحدثنا فضحك وقال خلق الإنسان عجولا ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم حدثني كما حدثكم به قال ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله )(1/39)
, ولا خلاف في وقوعها . وكذا جزم النووي وغيره ..
10. وقع فى رواية مسلم قوله صلى الله عليه وسلم ( وبعثت إلى كل أحمر وأسود ) وفي الرواية الأخرى : ( إلى الناس كافة ) قيل : المراد بالأحمر : البيض من العجم وغيرهم , وبالأسود : العرب ; لغلبة السمرة فيهم وغيرهم من السودان . وقيل : المراد بالأسود : السودان , وبالأحمر : من عداهم من العرب وغيرهم . وقيل : الأحمر : الإنس , والأسود : الجن , والجميع صحيح , فقد بعث إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً .
11. ( لطيفة هامة ) :
*أول حديث أبي هريرة هذا الذى عند مسلم " فضلت على الأنبياء بست " فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة وزاد خصلتين وهما " وأعطيت جوامع الكلم , وختم بي النبيون " فتحصل منه
ومن حديث جابر سبع خصال .
* ولمسلم أيضا من حديث حذيفة " فضلنا على الناس بثلاث خصال : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة " وذكر خصلة الأرض كما تقدم . قال : وذكر خصلة أخرى , وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي وهي " وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة(1)من كنز تحت العرش " . يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به , ورفع الخطأ والنسيان , فصارت الخصال تسعا .
* ولأحمد من حديث علي " أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله : أعطيت مفاتيح الأرض , وسميت أحمد , وجعلت أمتي خير الأمم " وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة .
? وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه " فضلت على الأنبياء بست : غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وجعلت أمتي خير الأمم , وأعطيت الكوثر , وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه " وذكر اثنتين مما تقدم .
? وله من حديث ابن عباس رفعه " فضلت على الأنبياء بخصلتين : كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم " قال ونسيت الأخرى .
__________
(1) البقرة 285،286.(1/40)
? قلت : فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة . ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع . وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة .
12. وفي حديث الباب من الفوائد :-
? مشروعية تعديد نعم الله , وإلقاء العلم قبل السؤال , وأن الأصل في الأرض الطهارة , وأن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك . وأما حديث " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فضعيف أخرجه الدارقطني.
? واستدل به العلماء على إظهار كرامة الآدمي : لأن الآدمي خلق من ماء وتراب , وقد ثبت أن كلا منهما طهور , ففي ذلك بيان كرامته , والله تعالى أعلم بالصواب .
18. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا مَا تَقُولُ ذلك يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ قَالُوا لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا قَالَ فَذلك مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا .
الشرح : -
1. قوله ( أرأيتم ) أي أخبروني هل يبقى .
2. قوله ( لو أن نهرا ) التقدير لو ثبت نهر صفته كذا لما بقي كذا , والنهر ما بين جنبي الوادي , سمي بذلك لسعته , وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه .
3. قوله ( ما تقول ) المعنى ما تقول يا أيها السامع؟
4. قوله ( يُبقى ) بضم أوله على الفاعلية .
5. قوله ( من درنه ) زاد مسلم " شيئا " والدرن الوسخ , وقد يطلق الدرن على الحبوب الصغيرة التي تحصل في بعض الأجساد وليس هذا مقصود الحديث و الله أعلم.
6. وقال ابن العربي : وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ويطهره الماء الكثير فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تبقى له ذنبا إلا أسقطته , انتهى .(1/41)
7. وظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة , لكن قال ابن بطال : يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة , لأنه شبه الخطايا بالدرن والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات , انتهى . وهو مبني على أن المراد بالدرن في الحديث الحب المذكور , والظاهر أن المراد به الوسخ , لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتنظف .
19. عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ .
الشرح : -
1. قوله ( فنظر إلى القمر ليلة ) زاد مسلم " ليلة البدر " وكذا للبخاري من وجه آخر
2. . قوله ( لا تضامون ) بضم أوله مخففا , أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ ، والمراد نفى الازدحام .
3. قوله ( فإن استطعتم أن لا تغلبوا ) فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له .
4. و قوله ( فافعلوا ) أي عدم الغلبة , وهو كناية عما ذكر من الاستعداد .(1/42)
5. قوله ( قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) زاد مسلم " يعني الفجر و العصر " قال : وخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم . قلت : وعرف بهذا مناسبة إيراد حديث " يتعاقبون "(1)عقب هذا الحديث فى صحيح البخاري .
6. قوله ( فافعلوا ) قال الخطابي : هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين .
7. . قوله ( ثم قرأ ) وظاهره أنه النبي صلى الله عليه وسلم , لكن لم أر ذلك صريحا , وحمله عليه جماعة من الشراح , ووقع عند مسلم " ثم قرأ جرير " أي الصحابي.
8. قال العلماء : ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات , وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك , فهما أفضل الصلوات , فناسب أن يجازي المحافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى . والله أعلم .
20. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً .
الشرح(2): -
1. قوله : ( صلاة الجماعة تفضل ) أي تزيد في الثواب .
2. ( على صلاة الرجل وحده ) أي منفردا .
3. ( بسبع وعشرين درجة ) المراد بالدرجة الصلاة فتكون صلاة الجماعة بمثابة سبع وعشرين صلاة .
__________
(1) 49 ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون )
(2) الشرح من تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي .(1/43)
21.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ وَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلاثًا فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ(1)ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَافْعَلْ ذلك فِي
__________
(1) 51 و أعلم أن قراءة الفاتحة واجبة فى كل ركعة سواءاً فى السرية أو الجهرية لما رواه البخاري و مسلم و أصحاب الكتب كلهم و جمعه الترمذي قال ( عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني أراكم تقرءون وراء إمامكم قال قلنا يا رسول الله إي والله - قال فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها - قال وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو قال أبو عيسى حديث عبادة حديث حسن وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب - قال وهذا أصح والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق يرون القراءة خلف الإمام – انتهي كلام الإمام الترمذي(1/44)
صَلَاتِكَ كُلِّهَا .
الشرح : -
1. هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة .
2. وليعلم أولا أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن .
3. وفي هذا الحديث دليل على أن الإقامة قبل الصلاة ليست واجبة .
4. وفيه وجوب الطهارة , واستقبال القبلة , وتكبيرة الإحرام , والقراءة51
5. وفيه دليل على وجوب الاعتدال عند الركوع , والجلوس بين السجدتين .
6. ووجوب الطمأنينة في الركوع والسجود , والجلوس بين السجدتين , وهذا مذهبنا(1)ومذهب الجمهور .
7. وأما الاعتدال من الركوع(2)فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء يجب الطمأنينة فيه كما يجب في الجلوس بين السجدتين .
8. وفيه وجوب القراءة في الركعات كلها وهو مذهبنا ومذهب الجمهور كما سبق .
9. وفيه أن المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه يستحب له أن يذكره له ويكون هذا من النصيحة لا من الكلام فيما لا يعني , وموضع الدلالة أنه قال : علمني يا رسول الله أي علمني الصلاة فعلمه الصلاة , واستقبال القبلة , والوضوء , وليسا من الصلاة لكنهما شرطان لها .
__________
(1) يقصد مذهب الشافعية.
(2) ورد فى ذلك فى أثار كثيرة منها ما رواه مسلم { عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء } .وما رواه عن {حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا قَالَ فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ } .(1/45)
10. وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته وإيضاح المسألة وتلخيص المقاصد والاقتصار في حقه على المهم دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها .
11. وفيه استحباب السلام عند اللقاء , ووجوب رده , وأنه يستحب تكراره إذا تكرر اللقاء , وإن قرب العهد , وأنه يجب رده في كل مرة , وأن صيغة الجواب وعليكم السلام أو وعليك بالواو , وهذه الواو مستحبة عند الجمهور .
12. وفيه أن من أخل ببعض واجبات الصلاة لا تصح صلاته , ولا يسمى مصليا بل يقال : لم تصل .
22.عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى .
الشرح : -
1. قوله : ( ويتطهر ما استطاع من الطهر ) والمراد به المبالغة في النظافة , ويؤخذ ذلك من عطف الطُهر على الغسل . والمراد بالطهر النظافة بأخذ الشارب والظفر والعانة.
2. قوله : ( ويدهن ) المراد به إزالة شعث الشعر به وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة.
3. قوله : ( أو يمس من طيب بيته ) " أو " بمعنى الواو , وإضافته إلى البيت تؤذن بأن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا ويجعل استعماله له عادة فيدخره في البيت .
4. قوله : ( ثم يخرج ) زاد في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة " إلى المسجد " ولأحمد من حديث أبي الدرداء " ثم يمشي وعليه السكينة " .
5. قوله : ( فلا يفرق بين اثنين ) أي لم يتخط أحدا ولم يؤذه "
6. قوله : ( ثم يصلي ما كتب له ) أي تطوعاً قبل صعود الإمام على المنبر .
7. قوله : ( ثم ينصت إذا تكلم الإمام ) زاد في رواية " حتى يقضي صلاته ".(1/46)
8. قوله : ( غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) المراد بالأخرى التي مضت , بينه ابن خزيمة في روايته عن الليث ولفظه " غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها " , ولابن حبان عن أبي هريرة " غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها " وزاد ابن ماجه في رواية أخرى عن أبي هريرة " ما لم يغش الكبائر " ونحوه لمسلم
9. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا كراهة التخطي يوم الجمعة وكان مالك يقول : لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر .
? وفيه مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله " صلى ما كتب له " ثم قال " ثم ينصت إذا تكلم الإمام " فدل على تقدم ذلك على الخطبة .
? وتبين بمجموع ما ذكرنا أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو . ووقع في حديث عبد الله بن عمرو " فمن تخطى أو لغا كانت له ظهرا(1).
? ودل التقييد بعدم غشيان الكبائر على أن الذي يكفر من الذنوب هو الصغائر والله أعلم .
__________
(1) انفرد به أبو داود ولفظه ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ إِنْ كَانَ لَهَا وَلَبِسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ ثُمَّ لَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ وَلَمْ يَلْغُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا ،وَمَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا ) .(1/47)
23.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ .
الشرح : -
1. قوله صلى الله عليه وسلم : ( ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له ) هذا الحديث من أحاديث الصفات , وفيه مذهبان مشهوران ومختصرهما :-
أ) الأول وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين : أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى , وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد , ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق , وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق.
ب) والثاني : مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي : أنها تتأول(1)على ما يليق بها بحسب مواطنها . فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما :
ب-1 ) تأويل الإمام مالك وغيره . معناه : تنزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال : فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره .
ب-2 ) والثاني : أنه على الاستعارة , ومعناه : الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف . والله أعلم .
24.عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ مَا هَذَا الْحَبْلُ قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ.
الشرح : -
__________
(1) تأول : بضم التاء بمعنى تفسر بضم التاء .(1/48)
1. قوله : ( دخل النبي صلى الله عليه وسلم ) زاد مسلم في روايته " المسجد " .
2. قوله : ( بين الساريتين ) أي اللتين في جانب المسجد , وكأنهما كانتا معهودتين للمخاطب , لكن في رواية مسلم " بين ساريتين " بالتنكير .
3. قوله : ( قالوا هذا حبل لزينب ) هي أم المؤمنين بنت جحش, وزاد مسلم " فقالوا لزينب تصلي " .
4. قوله : ( فإذا فترت ) أي كسلت عن القيام في الصلاة , ووقع عند مسلم بالشك " فإذا فترت أو كسلت " .
5. قوله : ( فقال صلى الله عليه وسلم لا ) يحتمل النفي أي لا يكون هذا الحبل أو لا يحمد , ويحتمل النهي أي لا تفعلوه , وسقطت هذه الكلمة(1)في رواية مسلم .
6. قوله : ( نشاطه ) بفتح النون أي مدة نشاطه .
7. قوله : ( فليقعد ) يحتمل أن يكون أمرا بالقعود عن القيام فيستدل به على جواز افتتاح الصلاة قائما والقعود في أثنائها . ويحتمل أن يكون أمرا بالقعود عن الصلاة أي بترك ما كان عزم عليه من التنفل , ويمكن أن يستدل به على جواز قطع النافلة بعد الدخول فيها , وقد ذكر البخاري في " باب الوضوء من النوم " في كتاب الطهارة حديث " إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ " وهو من حديث أنس أيضا , ولعله طرف من هذه القصة. وفيه حديث عائشة أيضا " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم " وفيه " لئلا يستغفر فيسب نفسه وهو لا يشعر "(2).
8. وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة , والنهي عن التعمق فيها , والأمر بالإقبال عليها بنشاط .
__________
(1) يقصد كلمة ( لا ).
(2) نص الحديث كما رواه البخاري (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ ) .(1/49)
9. وفيه إزالة المنكر باليد واللسان لمن استطاع . وجواز تنفل النساء في المسجد .
10. واستدل به على كراهة التعلق في الحبل وما شابهه في الصلاة .
25.عن أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ .
الشرح : -
1. قوله صلى الله عليه وسلم : (فلا يجلس حتى يركع ركعتين) . فيه : استحباب تحية المسجد بركعتين . وهي سنة بإجماع المسلمين.
2. وفيه : التصريح بكراهة الجلوس بلا صلاة وهي كراهة تنزيه(1).
3. وفيه استحباب التحية في أي وقت دخل , وهو مذهب الشافعي , وبه قال جماعة , وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي , وأجاب أصحابنا(2): أن النهي إنما هو عما لا سبب له ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر , فخص وقت النهي وصلى به ذات السبب , ولم يترك التحية في حال من الأحوال , بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين , مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية , فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن ; لأنه قعد وهي مشروعة قبل القعود ; ولأنه كان يجهل حكمها , ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية ، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم عليه الصلاة و السلام هذا الاهتمام.
4. ولا يشترط أن ينوي التحية , بل تكفيه ركعتان من فرض أو سنة راتبة أو غيرهما.
5. وأما المسجد الحرام فأول ما يدخله الحاج يبدأ بطواف القدوم فهو تحيته, ويصلي بعده ركعتي الطواف .
__________
(1) كراهة التنزيه لا يأثم تاركها بعكس كراهة التحريم يأثم تاركها .
(2) يقصد الشافعية .(1/50)
26.عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ .
الشرح : -
1. قوله : ( عن عائشة ) هي بنت أبى بكرٍ الصديق أم المؤمنين .
2. لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم " أي في مرضه الذي مات فيه " ولمسلم(1)من حديث جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يُتوفى بخمس وزاد فيه :
" فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " . ولمسلم (عن أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) .
__________
(1) روى مسلم (حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ .(1/51)
3. وفائدة ذكر زمن النهي الإشارة إلى أنه من الأمر المحكم الذي لم يُنسخ(1)لكونه صدر في آخر حياته صلى الله عليه وسلم .
4. قوله : ( رأينها ) أي هما ومن كان معهما , تلك الكنيسة كانت تسمى مارية(2).
5. ( أم حبيبة ) أي رملة بنت أبي سفيان الأموية أم المؤمنين ( وأم سلمة ) أي هند بنت أبي أمية المخزومية أم المؤمنين ، وهما من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانتا ممن هاجر إلى الحبشة .
6. قوله : ( وصوروا فيه تلك الصور ) إنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم , ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها , فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك.
7. وفي الحديث دليل على تحريم التصوير .
8. وفي الحديث جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب , ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وبين لهم,وذم فاعل المحرمات كذلك.
9. وأن الاعتبار في الأحكام بالشرع(3)لا بالعقل .
10. وفيه :- كراهية الصلاة في المقابر سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه(4).
__________
(1) النسخ : فى اللغة الإزالة والنقل ، و شرعاً هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه . و يسمى هذا الدليل بالناسخ . و يسمى الحكم الأول بالمنسوخ . ويسمى رفع الحكم بالنسخ . ذكره الدكتور عبد الكريم زيدان فى كتابه ( الوجيز فى أصول الفقه ) صفحة 388 .
(2) مارية أو ماريا تعنى مريم .
(3) 61 أي بما شرعه الله و رسوله .
(4) ما زال الكلام للشيخ ابن حجر فى الفتح .(1/52)
27.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلا " لا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" الآيَةَ.
الشرح : -
1. قوله : ( مثل له أي صير ماله على صورة شجاع , ووقع في رواية زيد بن أسلم عند مسلم " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهر " ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال اجتماع الأمرين معا , فالرواية التي معنا توافق الآية التي ذكرها وهي " سيطوقون مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ." ورواية زيد بن أسلم توافق قوله تعالى (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (الآية 35 من سورة التوبة ).
2. قال البيضاوي : خص الجنب والجبين والظهر لأنه جمع المال , ولم يصرفه في حقه , لتحصيل الجاه والتنعم بالمطاعم والملابس , أو لأنه أعرض عن الفقير وولاه ظهره , أو
لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة لاشتمالها على الأعضاء الرئيسة . وقيل : المراد بها الجهات الأربع التي هي مقدم البدن ومؤخره وجنباه , نسأل الله السلامة .
3. والمراد بالشجاع - الحية الذكر , وقال القرطبي : الأقرع من الحيات الذي ابيض رأسه من السم , ومن الناس الذي لا شعر برأسه .(1/53)
4. قوله : ( له زبيبتان ) وهما الزبدتان اللتان في الشدقين يقال تكلم حتى زبد شدقاه أي خرج الزبد منهما , وقيل هما النكتتان السوداوان فوق عينيه , وقيل نقطتان يكتنفان فاه , وقيل هما في حلقه بمنزلة زنمتي العنز , وقيل لحمتان على رأسه مثل القرنين , وقيل نابان يخرجان من فيه .
5. قوله : ( يطوقه ) أي يصير له ذلك الثعبان طوقا .
6. قوله : ( ثم يأخذ بلهزمتيه ) فاعل يأخذ هو الشجاع , والمأخوذ يد صاحب المال كما وقع مبينا في رواية أبي هريرة بلفظ " لا يزال يطلبه حتى يبسط يده فيلقمها فاه " .
7. قوله : ( بلهزمتيه ) وقد فسر في الحديث بالشدقين , وفي الجامع : هما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان .
8. قوله : ( ثم يقول : أنا مالك , أنا كنزك ) وفائدة هذا القول الحسرة والزيادة في التعذيب حيث لا ينفعه الندم , وفيه نوع من التهكم .
9. قوله : ( ثم تلا ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) الآية 180 من سورة آل عمران { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
10. وفي تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية دلالة على أنها نزلت في مانعي الزكاة , وهو قول أكثر أهل العلم بالتفسير.(1/54)
28.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا .
الشرح : -
1. قوله : ( الصيام جنة ) والجنة بضم الجيم الوقاية والمقصود الستر من النار , وبهذا جزم ابن عبد البر .
2. قوله : ( فلا يرفث ) أي الصائم , والمراد بالرفث هنا الكلام الفاحش , وهو يطلق أيضاً على الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقا , ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها .
3. قوله : ( ولا يجهل ) أي لا يفعل شيئا من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك، قال القرطبي : لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر , وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم .
4. قوله : ( وإن امرؤ قاتله أو شاتمه ) أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم ، فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله " إني صائم " .
5. وفائدة قوله " إني صائم " أنه يمكن أن يكف عنه بذلك .
6. قوله : ( والذي نفسي بيده ) أقسم على ذلك تأكيدا .
7. قوله : ( لخلوف المراد به تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام .
8. قوله : ( أطيب عند الله من ريح المسك ) ورجح النووي أن المعنى الخلوف أكثر ثوابا عند الله من المسك المندوب إليه في الجُمع ومجالس الذكر , و قال الخطابي : طيبه عند الله رضاه به وثناؤه عليه .
9. قوله : ( يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) المراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب ,(1/55)
10. قوله : ( الصيام لي) فنرى(1)والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب . وقال القرطبي : لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه ,
11. المراد بقوله " وأنا أجزي به " قال القرطبي : معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله , إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير .
29.عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ .
الشرح : -
1. ( ينسأ ) أي يؤخر .
2. و ( الأثر ) الأجل , لأنه تابع للحياة في أثرها .
3. و ( بسط الرزق ) توسيعه وكثرته , وقيل : البركة فيه .
4. وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور , وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص , { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } وأجاب العلماء بأجوبة الصحيح منها :
*أن هذه الزيادة بالبركة في عمره , والتوفيق للطاعات , وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة , وصيانتها عن الضياع في غير ذلك .
*والثاني أنه(2)بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ , ونحو ذلك , فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون , وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك , وهو من معنى قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت} فبالنسبة إلى علم الله تعالى , وما سبق به قدره لا زيادة بل هي مستحيلة , وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة , وهو مراد الحديث .
__________
(1) و الكلام للعلامة ابن حجر في الفتح .
(2) أي التأخير فى الأجل .(1/56)
30.عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ .
الشرح : -
1. قوله : ( إياكم والجلوس ) تحذير .
2. قوله : ( الطرقات ) هي جمع طريق ، وهو الشارع أو السِكة أو الممر أو السبيل أو الدرب .
3. قوله : ( قالوا ما لنا من مجالسنا بد(1) القائل ذلك هو أبو طلحة الأنصاري , وهو بين من روايته عند مسلم .
4. قوله : ( فإذا أبيتم إلا المجالس ) " إلا " حرف استثناء , و المجالس بمعنى الجلوس .
5. وقد تبين من سياق الحديث أن النهي عن ذلك للتنزيه لئلا يضعف الجالس عن أداء الحق الذي عليه , وأشار بغض البصر إلى السلامة من التعرض للفتنة بمن يمر من النساء وغيرهن , وبكف الأذى إلى السلامة من احتقار الناس والغيبة ونحوها , وبرد السلام إلى إكرام المار , وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى استعمال جميع ما يشرع وترك جميع ما لا يشرع .
__________
(1) بُد : بضم الباء بمعنى مفر أو محيص .(1/57)
6. و من حق الطريق إماطة الأذى عن الطريق لما رواه البخاري ومسلم (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ سلامي(1)مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الأَذَى(2)عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ . وما رواه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ).
31.عن أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ .
الشرح : -
1. قوله : ( أي الناس أفضل ) وفي رواية للحاكم " أي الناس أكمل إيمانا " وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به ثم حصل هذه الفضيلة , وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية(3).
2. الحديث يظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى , ولما فيه من النفع المتعدي.
__________
(1) سُلامي : هو عظمةُ الإصبع .
(2) و الأذى كل ما يتأذى منه الناس .
(3) يقصد ما على المؤمن من طاعات فرضها الله عليه .(1/58)
3. وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام, وهو مقيد بوقوع الفتن .
4. قوله : ( مؤمن في شعب ) في رواية لمسلم " رجل معتزل" .
5. قوله : ( يتقي الله ) في حديث ابن عباس " معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس "(1)
6. وللترمذي عن أبي هريرة " أن رجلا مر بشعب(2)فيه عين عذبة , فأعجبه فقال : لو اعتزلت , ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعل , فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما "
7. وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك .
8. وأما اعتزال الناس أصلا فقال الجمهور : محل ذلك عند وقوع الفتن, ويؤيد ذلك {عن أبي هريرة مرفوعا " يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه , ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير "} أخرجه مسلم .
9. قال ابن عبد البر : إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس , فكل موضع بَعُدَ على الناس فهو داخل في هذا المعنى .
__________
(1) رواه الترمذي ومالك و الدارمي والنسائي ولفظ النسائي (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بخير الناس منزلا قلنا بلى يا رسول الله قال رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله عز وجل حتى يموت أو يقتل وأخبركم بالذي يليه قلنا نعم يا رسول الله قال رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس وأخبركم بشر الناس قلنا نعم يا رسول الله قال الذي يسأل بالله عز وجل ولا يعطي به ) .
(2) شِعب : وادى بين جبلين .(1/59)
32.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ يُصَلُّونَ .
الشرح : -
1. ومعنى ( يتعاقبون ) تأتي طائفة بعد طائفة .
2. وأما اجتماعهم في الفجر والعصر فهو من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين وتكرمة لهم أن جعل اجتماع الملائكة عندهم ومفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم واجتماعهم على طاعة ربهم , فيكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير .
3. ويؤخذ من الحديث المحافظة على الصلوات عامة وصلاة الصبح و صلاة العصر خاصة(1).
4. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ ) فهذا السؤال على ظاهره , وهو تعبد منه لملائكته , كما أمرهم بكتب الأعمال , وهو أعلم بالجميع . قال القاضي عياض رحمه الله : الأظهر وقول الأكثرين : أن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكتاب قال : وقيل : يحتمل أن يكونوا من جملة الملائكة بجملة الناس غير الحفظة(2).
33.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ .
الشرح : -
__________
(1) راجع الحديث التاسع عشر من هذا الكتاب ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ) .
(2) الكلام للإمام النووي فى شرح مسلم .(1/60)
1. ( أن تجعل لله نداً ) الند المثل أي مثله .
2. و قوله صلى الله عليه وسلم : ( مخافة أن يطعم معك ) أي يأكل وهو معنى قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) أي فقر .
3. وقوله صلى الله عليه وسلم ( أن تزاني حليلة جارك ) وهي زوجته ; سميت بذلك لكونها تحل له , وقيل : لكونها تحل معه . ومعنى تزاني أي تزني بها برضاها , وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني , وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا , وأعظم جرما لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه , وعن حريمه , ويأمن بوائقه , ويطمئن إليه , وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح .
4. أما أحكام هذا الحديث ففيه : -
? أن أكبر المعاصي الشرك وهذا ظاهر لا خفاء فيه .
? وأن أكبر الكبائر بعد الشرك القتل . والله أعلم .
34.عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا .
الشرح : -
1. قوله : ( مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة ) هو نبات ثمرته حلوة المذاق طيبة الرائحة كالتفاح .(1/61)
2. قوله : ( طعمها طيب وريحها طيب ) قيل خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة , وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه , ثم قيل : الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة لأنه يتداوى بقشرها, ويستخرج من حبها دهن له منافع وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين , وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن , وفيها أيضا من المزايا كبر حجمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها , وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم , ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات .
3. ووقع في رواية شعبة عن قتادة " المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به " وهي زيادة مفسرة للمراد وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة .
4. قوله : ( ولا ريح فيها ) في رواية شعبة " لها " .
5. قوله : ( ومثل الفاجر الذي يقرأ ) في رواية شعبة " ومثل المنافق " في الموضعين .
6. قوله : ( ولا ريح لها ) في رواية شعبة " وريحها مر " واستشكلت هذه الرواية من جهة أن المرارة من أوصاف الطعوم فكيف يوصف بها الريح ؟ وأجيب بأن ريحها لما كان كريها استعير له وصف المرارة .
7. وفي الحديث : -
? فضيلة حاملي القرآن .
? وضرب المثل للتقريب الفهم .
? وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه .(1/62)
35.أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
الشرح : -
1. قوله ( جاء ثلاثة رهط ) وقع في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون
2. وربما كانوا أكثر من ثلاثة ويؤيد ذلك ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه " قدم المدينة , فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله , ويجاهد الروم حتى يموت , فلقى ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك , وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم , فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها " يعني بسبب ذلك .
3. قوله ( يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ) في رواية مسلم عن علقمة " في السر " .(1/63)
4. قوله ( كأنهم تقالوها ) بتشديد اللام المضمومة أي استقلوها , أي رأى كل منهم أنها قليلة .
5. قوله ( فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له والمعنى أن من لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل , بخلاف من حصل له , لكن قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بلازم , فأشار إلى هذا بأنه أشدهم خشية وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية , وأشار بقوله صلى الله عليه وسلم " أفلا أكون عبدا شكورا " .
6. قوله ( فقال أحدهم أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا فلا أتزوج أبدا) أكد المصلي ومعتزل النساء بالتأبيد ولم يؤكد الصيام لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد , ووقع في رواية مسلم " فقال بعضهم لا أتزوج النساء , وقال بعضهم لا آكل اللحم , وقال بعضهم لا أنام على الفراش , وظاهره مما يؤكد زيادة عدد القائلين . لأن ترك أكل اللحم أخص من مداومة الصيام , واستغراق الليل بالصلاة أخص من ترك النوم على الفراش . ويمكن التوفيق بضروب من التجوز .
7. قوله ( فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم ) في رواية مسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا ؟ ويجمع بأنه منع من ذلك عموما جهرا مع عدم تعيينهم وخصوصا فيما بينه وبينهم رفقا بهم وسترا لهم .
8. قوله ( إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ) فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره , فاعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فأنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه
9. قوله ( لكنى ) استدراك من شيء محذوف دل عليه السياق أي أنا وأنتم بالنسبة إلي العبودية سواء , لكن أنا أعمل كذا .(1/64)
10. قوله ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) المراد بالسنة الطريقة , والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره , والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني , ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه , وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل .
11. وقوله (فليس مني ) له حكمان : -
? الأول إن كانت الرغبة(1)بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فمعنى " فليس منى " أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة.
? الثاني إن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى فليس مني ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر .
12. وفي الحديث دلالة على : -
? فضل النكاح والترغيب فيه ,
? وفيه تتبع أحول الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء .
? وأن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا.
? وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين ,
? وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة أو الاستحباب .
? وفيه أيضا إشارة إلى أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية(2).
__________
(1) الرغبة : الإعراض . والمقصود هنا أن يكون الإعراض بسبب فهم خاطئ لبعض النصوص . [ وهذا يدعونا للجد فى تعلم سنة الحبيب وعلوم ديننا الحنيف كي لا نضل ونخرج عن سنةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم ] .
(2) ولما لا وقد ذكرنا فى المقدمة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم [وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ] .(1/65)
13. واعلم أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط , والله أعلم .
36.عن عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ .
الشرح : -
1. قال أهل اللغة : المعشر هم الطائفة الذين يشملهم وصف , فالشباب معشر , والشيوخ معشر , والأنبياء معشر , والنساء معشر , وهكذا .
2. والشباب : جمع شاب ، والشاب هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة .
3. وأما ( الباءة ) الفصيح المشهور( الباءة ) بالمد والهاء ، وأصلها في اللغة : الجماع , مشتقة من المباءة وهي المنزل, ثم قيل لعقد النكاح : باءة ; لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا .
4. المراد هنا بالباءة مؤن النكاح , سميت باسم ما يلازمها وتقديره : من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج , ومن لم يستطعها فليصم ; ليدفع شهوته .. والله أعلم .
5. وأما ( الوجاء ) فبكسر الواو وبالمد , وهو قطع الخصيتين , والمراد هنا : أن الصوم يقطع الشهوة , ويقطع شر المني , كما يفعله الوجاء .(1/66)
6. وفي هذا الحديث : الأمر بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه , وهذا مجمع عليه , لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب , فلا يلزم التزوج ولا التسري , سواء خاف العنت أم لا , هذا مذهب العلماء كافة , ولا يعلم أحد أوجبه إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر , ورواية عن أحمد فإنهم قالوا : يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى , قالوا : وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة , ولم يشرط بعضهم خوف العنت(1).
37.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ .
الشرح : -
1. . قوله ( تنكح المرأة لأربع ) أي لأجل أربع .
2. قوله (ولحسبها ) أي شرفها , والحسب في الأصل الشرف بالآباء وبالأقارب , مأخوذ من الحساب , لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها فيحكم لمن زاد عدده على غيره .
3. وقد وقع عند سعيد بن منصور " على دينها ومالها وعلى حسبها ونسبها " وذكر النسب على هذا تأكيد , ويؤخذ منه أن الشريف النسيب يستحب له أن يتزوج نسيبة إلا إن تعارض نسيبة غير دينة وغير نسيبة دينة فتقدم ذات الدين , وهكذا في كل الصفات .
4. قوله ( وجمالها ) يؤخذ منه استحباب تزوج الجميلة إلا إن تعارض الجميلة الغير دينة والغير جميلة الدينة , نعم لو تساوتا في الدين فالجميلة أولى , ويلتحق بالحسنة الذات الحسنة الصفات , ومن ذلك أن تكون خفيفة الصداق .
__________
(1) العنت : الضرر و المشقة والمعنى هنا الخوف من الوقوع فى الزنا والعياذ بالله . ارجع لتفسير الآية 25 من سورة النساء .(1/67)
5. قوله ( فاظفر بذات الدين ) في حديث جابر " فعليك بذات الدين " والمعنى أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء لا سيما فيما تطول صحبته فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية .
6. قوله ( تربت يداك ) أي لصقتا بالتراب وهي كناية عن الفقر وهو خبر بمعنى الدعاء , لكن لا يراد به حقيقته , وبهذا جزم صاحب " العمدة " , وقيل فيه تقدير شرط أي وقع لك ذلك إن لم تفعل ورجحه ابن العربي .
7. قال القرطبي : معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هي التي يرغب في نكاح المرأة لأجلها , فهو خبر عما في الوجود من ذلك لا أنه وقع الأمر بذلك بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كل من ذلك لكن قصد ذات الدين أولى . والله أعلم .
38.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ .
الشرح : -
1. قوله : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين ) قال الطبري المعنى لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس .(1/68)
2. قلت : وكذا في الكلام والمشي , فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد , فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس , لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار(1).
3. وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك , وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والتعود على ذلك بالتدريج , فإن لم يفعل وتمادى شمله الذم , ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به , وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين .
__________
(1) أعلم يرحمك الله أن الإسلام حدد مواصفات عامة للزي الشرعي للمرأة المسلمة ذكرها الشيخ محمد عطية خميس فى كتابه فقه النساء فى الصلاة صفحة 53 وهي : 1. استيعاب جميع البدن إلا ما استثنى . 2. أن لا يكون زينة فى نفسه . 3. أن يكون سميكاً لا يشف عما تحته . 4. أن يكون فضفاضاً غير ضيق . 5. أن لا يكون مبخراً مطيباً بالروائح . 6. أن لا يشبه لباس الرجال . 7. أن لا يشبه لباس الكافرات . 8. أن لا يكون لباس شهرة .ثم تناول الشيخ كل وصف الشرح وعرض الأدلة على صحته فمن شاء فليرجع إليه فهو كتاب قيم .(1/69)
4. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة(1)ما ملخصه : ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء , لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها , لا التشبه في أمور الخير والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه الله سبحانه وتعالى , وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات(2)
__________
(1) هو من شيوخ الحافظ ابن حجر .
(2) روى البخاري ومسلم (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ) ورويا (عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ قَالَتْ فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا ) ..قال أبو داود وتفسير الواصلة التي تصل الشعر بشعر النساء والمستوصلة المعمول بها والنامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه والمتنمصة المعمول بها والواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد والمستوشمة المعمول بها ، وقال النووي والمتفلجة هي التي تبرد أسنانها ليتباعد بعضها عن بعض قليلاً و تحسنها و يسمى الوشر والنامصة التي تأخذ من شعر حاجب غيرها و ترققه ليصير حسناً .(1/70)
بقوله " المغيرات خلق الله " .
5. واستدل به على أنه يحرم على الرجل لبس الثوب المكلل باللؤلؤ , وهو واضح لورود علامات التحريم وهو لعن من فعل ذلك .
39.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا .
الشرح : -
1. قوله : ( إياكم والظن ) قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا , بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به , وكذا ما يقع في القلب بغير دليل , وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها , وما لا يقدر عليه لا يكلف به , ويؤيده حديث " تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها " وقد تقدم شرحه . وقال القرطبي : المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها , ولذلك عطف عليه قوله " ولا تجسسوا " وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع , فنهى عن ذلك ,
2. وهذا الحديث يوافق قوله تعالى ( اجتنبوا كثيرا من الظن , إن بعض الظن إثم , ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ) فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن , فإن قال الظان أبحث لأتحقق , قيل له ( ولا تجسسوا ) فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) .(1/71)
3. وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث , مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن , فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به , فيكون الجازم به كاذبا ; وإنما صار أشد من الكاذب لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه , بخلاف هذا فإن صاحبه يزعم أنه مستند إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه , وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض.
4. قوله : ( فإن الظن أكذب الحديث ) قد استشكلت تسمية الظن حديثا , وأجيب بأن المراد بالظن هنا عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا , ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا .
5. قوله : ( ولا تحسسوا ولا تجسسوا ) إحدى الكلمتين بالجيم والأخرى بالحاء , قيل بالجيم البحث عن عوراتهم وبالحاء استماع حديث القوم , وهذا رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين . وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر , وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي .
6. ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما , أو بامرأة ليزني بها , فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه , نقله النووي عن " الأحكام السلطانية " للماوردي واستجاده , وأن كلامه : ليس للمحتسب(1)أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة(2).
__________
(1) المحتسب : هو ولي الأمر من رجال شرطة و القضاء المكلفين بحماية عورات المسلمين .
(2) والكلام للحافظ ابن حجر فى فتح الباري .(1/72)
7. قوله : ( ولا تحاسدوا ) الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا , فإن سعى كان باغيا , وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نُظر : فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور , وإن كان المانع له من ذلك التقوى ففد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها .
8. قوله : ( ولا تدابروا ) قال الخطابي : لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه , وقد فسره مالك في " الموطأ " بأخص منه فقال ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام , يدبر عنه بوجهه . وكأنه أخذه من بقية الحديث " يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا , وخيرهما الذي يبدأ بالسلام "(1)فإنه يُفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم و لفظه (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ ) .(1/73)
9. قوله : ( وكونوا عباد الله إخوانا ) زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن أبي هريرة " كما أمركم الله ", وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم , كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء , ومعنى كونوا إخوانا اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتا ونفيا , قال القرطبي : المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة , ولعل قوله في الرواية الزائدة " كما أمركم الله " الإشارة إلى قوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة ) فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين , فهو بمعنى الأمر ,
10. قال ابن عبد البر : تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي , والحسد له على ما أنعم به عليه , وأن يعامله معاملة الأخ النسيب , وأن لا ينقب عن معايبه , ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب , وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك .
11. وهو حديث عظيم اشتمل على جمل من الفوائد والآداب المحتاج إليها .
40.عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ
الشرح : -
1. قوله : ( كل أمتي معافى ) بمعنى عفا الله عنه .
2. قوله : ( إلا المجاهرين ) كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن.
3. وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به.(1/74)
4. والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به . والنكتة في التعبير بفاعل(1)إرادة المبالغة , ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي , وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول .
5. قوله : ( وإن من المجاهرة ) يقال جهر وأجهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قوله أولا " إلا المجاهرون " . وأعلم أن في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين , وفيه ضرب من العناد لهم , وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف , لأن المعاصي تذل أهلها , ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا , وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه , فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة , والذي يجاهر يفوته جميع ذلك .
6. قوله : ( البارحة ) هي أقرب ليلة مضت من وقت القول. وورد في الأمر بالستر في الأمر حديث ليس على شرط البخاري وهو حديث ابن عمر رفعه " اجتنبوا هذه القاذورات(2)التي نهى الله عنها , فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله " الحديث أخرجه الحاكم , وهو في " الموطأ " من مرسل زيد بن أسلم .
7. أن الحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر .
8. وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه , فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره , ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه .
__________
(1) جاهر : على وزن فاعل .
(2) القاذورات : سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاصي بالقاذورات تنفيراً للمؤمنين منها .(1/75)
41.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا .
الشرح : -
1. قوله : ( إن الصدق(1)يهدي ) يهدي من الهداية وهي الدلالة المُوصلة إلى المطلوب.
2. قوله : ( إلى البِر ) أصله التوسع في فعل الخير , وهو اسم جامع للخيرات كلها , ويطلق على العمل الخالص الدائم .
3. قوله : ( وإن البر يهدي إلى الجنة ) مصداقه في كتاب الله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم ) .
4. قوله : ( حتى يكون صديقا ) المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق .
5. قوله : ( وإن الكذب يهدي إلى الفجور ) أصل الفجر الشق , فالفجور شق ستر الديانة , ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي , وهو اسم جامع للشر .
__________
(1) الصدق : الحقيقة ، الصراحة ، و الإخلاص . والكذب هو الباطل والزور و البهتان . وقد حذرنا المصطفي صلى الله عليه وسلم من الكذب فى أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم (عن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال ألا وقول الزور قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) .(1/76)
6. قوله : ( وإن الرجل ليكذب حتى يكتب ) المراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض , وقد ذكره مالك بلاغا عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه " لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين ".
7. قال النووي قال العلماء : في هذا الحديث :-
? حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به .
? وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه , فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به .
42. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ
..الشرح(1): -
1. ( فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) قال النووي في الأذكار : اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقب عطاسه الحمد لله ولو قال الحمد لله رب العالمين لكان أحسن فلو قال الحمد لله على كل حال كان أفضل.
2. ( وليقل أخوه أو صاحبه ) : شك من الراوي , والمراد بالأخوة أخوه الإسلام .
3. ( ويقول هو ) : أي العاطس .
4. ( ويصلح بالكم ) أي حالكم .
__________
(1) الشرح من عون المعبود شرح سنن أبي داود .(1/77)
43. حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ .
وروىِ مِثْلَهُ إِلَّا قَوْلَهُ( وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ ) فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْحَرْفَ فِي الْحَدِيثِ وَجَعَلَ مَكَانَهُ وَإِنْشَادِ الضَّالِّ.
وروىَ( إِبْرَارِ الْقَسَمِ) مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ .
وروى(ُوَرَدِّ السَّلَامِ وَقَالَ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ حَلْقَةِ الذَّهَبِ ).
وروى(1)( وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ )مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. ( مسلم ).
الشرح : -
1. أما عيادة المريض فسنة بالإجماع , وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه , والقريب والأجنبي.
2. وأما اتباع الجنائز فسنة بالإجماع أيضا , وسواء فيه من يعرفه وقريبه وغيرهما.
3. وأما تشميت العاطس فهو أن يقول له : يرحمك الله , قال الليث : التشميت ذكر الله تعالى على كل شيء , ومنه قوله للعاطس : يرحمك الله . وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق وهو سنة على الكفاية إذا فعل بعض الحاضرين سقط الأمر عن الباقين , وشرطه أن يسمع قول العاطس : الحمد.
__________
(1) كل هذه الروايات رواها مسلم عقب الحديث.(1/78)
4. وإما إبرار القسم فهو سنة أيضا مستحبة متأكدة وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف ضرر أو نحو ذلك , فإن كان شيء من هذا لم يبر قسمه كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم : ( أصبت بعضا وأخطأت بعضا ) فقال : أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني فقال : ( لا تقسم ) ولم يخبره(1).
5. وأما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية , وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه , ولم يخف ضررا .
6. وأما إجابة الداعي فالمراد به الداعي إلى وليمة ونحوها من الطعام .
__________
(1) هذا جزء من حديث صحيح رواه البخاري ومسلم ولفظه (عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل فقال أبو بكر يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اعبرها قال أما الظلة فالإسلام وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت قال النبي صلى الله عليه وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال فو الله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت قال لا تقسم ) .
و الرجال خلف النبي هم أبى بكر وعمر وعثمان الذي انقطع به لقتله ثم علي رضي الله عنهم أجمعين .(1/79)
7. وأما إفشاء السلام فهو إشاعته وإكثاره , وأن يبذله لكل مسلم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : ( وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ). وأما رد السلام فهو فرض بالإجماع فإن كان السلام على واحد كان الرد فرض عين عليه , وإن كان على جماعة كان فرض كفاية في حقهم , إذا رد أحدهم سقط الحرج عن الباقين.
8. وأما إنشاد الضالة فهو تعريفها .
9. وأما خاتم الذهب فهو حرام على الرجل بالإجماع , وكذا لو كان بعضه ذهبا وبعضه فضة حتى قال أصحابنا : لو كانت سن الخاتم ذهبا , أو كان مموها بذهب يسير , فهو حرام لعموم الحديث الآخر في الحرير والذهب ( إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)(1).
10. وأما لبس الحرير والإستبرق والديباج والقسي, وهي أنواع من الحرير , فكله حرام على الرجال , سواء لبسه للخيلاء أو غيرها , إلا أن يلبسه للحكة(2)فيجوز في السفر والحضر , وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير وجميع أنواعه , وخواتيم الذهب , وسائر الحلي منه , ومن الفضة , سواء المزوجة , وغيرها , والشابة والعجوز والغنية والفقيرة هذا الذي ذكرناه من تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير وعن ابن الزبير تحريمه عليهما , ثم انعقد الإجماع على إباحته للنساء , وتحريمه على الرجال والله أعلم .
11. أما الصبيان فقال أصحابنا(3): يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم .
__________
(1) وواه ابن ماجة و معناه عند النسائي و أبو داود و الترمذي و أحمد و لفظه (سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيرًا بِشِمَالِهِ وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ فَقَالَ إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ ) .
(2) الحكة : مرض جلدي .
(3) يقصد الشافعية .(1/80)
12. وأما قوله : ( وعن المياثر هو جمع مئثرة بكسر الميم , وهي وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج , وكان من مراكب العجم , ويكون من الحرير , ويكون من الصوف وغيره . وقيل : أغشية للسروج , تتخذ من الحرير . وقيل : هي سروج من الديباج . وقيل : هي شيء كالفراش الصغير تتخذ من حرير تحشى بقطن أو صوف , يجعلها الراكب على البعير تحته فوق الرحل . وثير أي وطيء لين .
13. قال العلماء : فالمئثرة إن كانت من الحرير كما هو الغالب فيما كان من عادتهم فهي حرام , لأنه جلوس على الحرير , واستعمال له , وهو حرام على الرجال , سواء كان على رحل أو سرج أو غيرهما . وإن كانت مئثرة من غير الحرير فليست بحرام , ومذهبنا أنها ليست مكروهة أيضا , فإن الثوب الأحمر لا كراهة فيه , سواء كانت حمراء أم لا . وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء . وحكى القاضي عن بعض العلماء كراهتها لئلا يظنها الرائي من بعيد حريرا .
14. وأما القسي فهو بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة , وهذا الذي ذكرناه من فتح القاف , هو الصحيح المشهور , وبعض أهل الحديث يكسرها و القسي فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه . كذا هو لفظ رواية مسلم . وفي رواية البخاري ( فيها حرير أمثال الأترج ) , قال أهل اللغة وغريب الحديث : هي ثياب مضلعة بالحرير , تعمل بالقس بفتح القاف , وهو موضع من بلاد مصر , وهو قرية على ساحل البحر قريبة من تنيس . وقيل : هي ثياب كتان مخلوط بحرير , وقيل : هي ثياب من القز , وأصله القزي بالزاي منسوب إلى القز , وهو رديء الحرير , فأبدل من الزاي سين . وهذا القسي إن كان حريره أكثر من كتانه فالنهي عنه للتحريم , وإلا فالكراهة للتنزيه .
15. وأما الإستبرق فغليظ الديباج ( الحرير ) . والديباج والإستبرق حرام لأنهما من الحرير والله أعلم .(1/81)
44. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ قَالَ زَكَرِيَّاءُ قَالَ مُصْعَبٌ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ زَادَ قُتَيْبَةُ قَالَ وَكِيعٌ انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ .
الشرح : -
1. قد أشار صلى الله عليه وسلم إلى عدم انحصارها فيها بقوله : " من الفطرة ". والله أعلم .
2. وأما الفطرة ; فقد اختلف في المراد بها هنا ; فقال أبو سليمان الخطابي(1): ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة , وكذا ذكره جماعة غير الخطابي قالوا : ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم , وقيل : هي الدين , ثم إن معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء , وفي بعضها خلاف في وجوبه كالختان والمضمضة والاستنشاق , ولا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال الله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } والإيتاء واجب , والأكل ليس بواجب . والله أعلم .
3. ( فالختان )(2)واجب عند الشافعي وكثير من العلماء , وسنة عند مالك وأكثر العلماء , وهو عند الشافعي واجب على الرجال والنساء جميعا , ثم إن الواجب في الرجل أن يقطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى ينكشف جميع الحشفة , وفي المرأة يجب قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج .
4. واستحباب أن يختن في اليوم السابع من ولادته والله أعلم .
__________
(1) رائد شراح صحيح البخاري 315 مولده هجريه.
(2) روى أحمد (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ ) .(1/82)
5. وأما ( الاستحداد ) فهو حلق العانة , سمي استحدادا لاستعمال الحديدة وهي الموسى , وهو سنة , والمراد به نظافة ذلك الموضع , والأفضل فيه الحلق , ويجوز بالقص والنتف.
6. والمراد ( بالعانة ) الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه , وكذاك الشعر الذي حوالي فرج المرأة , ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر , فيحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما .
7. وأما وقت حلقه فالمختار أنه يضبط بالحاجة وطوله , فإذا طال حلق , وكذلك الضبط في قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار . وأما حديث أنس المذكور في الكتاب ( وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة لا يترك أكثر من أربعين ليلة ) فمعناه لا يترك تركا يتجاوز به أربعين لا أنهم وقت لهم الترك أربعين . والله أعلم .
8. وأما ( تقليم الأظفار ) فسنة ليس بواجب , وهو تفعيل من القلم وهو القطع , ويستحب أن يبدأ باليدين قبل الرجلين فيبدأ بمسبحة يده اليمنى , ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها إلى آخرها ثم يعود إلى الرجلين اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر اليسرى . والله أعلم .
9. أما ( نتف الإبط ) فسنة بالاتفاق , والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه , ويحصل أيضا بالحلق و بالنورة , وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال : دخلت على الشافعي - رحمه الله - وعنده المزين يحلق إبطه فقال الشافعي : علمت أن السنة النتف , ولكن لا أقوى على الوجع , ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن .(1/83)
10. وأما ( قص الشارب ) فسنة أيضا مخالفة للكفار و المشركين، ويستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن ، وهو مخير بين القص بنفسه وبين أن يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة ولا حرمة بخلاف الإبط والعانة . وأما حد ما يقصه فالمختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله , وأما روايات ( أحفوا الشوارب ) فمعناها : أحفوا ما طال على الشفتين . والله أعلم .
11. وأما ( إعفاء اللحية ) فمعناه توفيرها وهو معنى ( أوفوا اللحى ) في الرواية الأخرى , وكان من عادة الفرس قص اللحية(1)فنهى الشرع عن ذلك , وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحا من بعض : منها حلق اللحية(2). والله أعلم .
12. وأما ( الاستنشاق ) فتقدم بيان صفته واختلاف العلماء في وجوبه واستحبابه .
13. وأما ( غسل البراجم ) فسنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء ( البراجم ) بفتح الباء وبالجيم جمع برجمة بضم الباء والجيم وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها . قال العلماء : ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وهو الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع , وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف , وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار ونحوهما . والله أعلم .
__________
(1) كانت عادة الفرس قص اللحية وليس حلقها فنهى رسول الله عن ذلك .
(2) لقد اكتفيت بذكر خصلة واحدة منهم و من أراد التوسع فليرجع لفتح الباري فى شرح هذا الحديث.
وقد ذكر الشيخ سيد سابق فى فقه السنة اتفاق الأئمة على وجوب إطلاق اللحية والواجب يأثم تاركه ويثاب فاعله .(1/84)
14. وأما ( انتقاص الماء ) فهو بالقاف والصاد المهملة , وقد فسره وكيع في الكتاب بأنه الاستنجاء , وقال أبو عبيدة وغيره : منها انتقاص البول بسبب الماء في غسل مذاكيره , وقيل : هو الانتضاح , وقد جاء في رواية ( الانتضاح ) بدل انتقاص الماء قال الجمهور : الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس , وقيل : هو الاستنجاء بالماء .
15. وأما قوله : ( ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ) , فهذا شك منه فيها , قال القاضي عياض : ولعلها الختان المذكور مع الخمس(1), وهو أولى . والله أعلم . فهذا مختصر ما يتعلق بالفطرة والله أعلم .
45.حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
الشرح : -
__________
(1) رواه البخاري و مسلم (عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الفطرة خمس الختان و الاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط ) .(1/85)
1. قوله ( سيد الاستغفار )(1)قال الطيبي : لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد , وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج , ويرجع إليه في الأمور .
2. قوله ( أن يقول ) أي العبد
3. قوله ( وأنا عبدك ) قال الطيبي : يجوز أن تكون مؤكدة , ويجوز أن تكون مقدرة , أي أنا عابد لك , ويؤيده عطف قوله " وأنا على عهدك " .
4. قوله ( وأنا على عهدك ) قال الخطابي : يريد أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك . ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتظر وعدك في المثوبة والأجر . واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن عين الواجب من حقه تعالى .
5. وفي قوله " ما استطعت " إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله . ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم , فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم .
6. قوله ( أبوء لك بنعمتك علي ) معناه أعترف .
__________
(1) حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الاستكثار من الاستغفار فى أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم (عن أبي بردة قال سمعت الأغر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة) ، فإن كان النبي وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر فى اليوم مائة مرة فكم نحتاج نحن ،. نسأل الله العفو و العافية .(1/86)
7. قوله ( وأبوء لك بذنبي ) أي أعترف أيضا , وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني . وقال الطيبي : اعترف أولا بأنه أنعم عليه , ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام , ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها , ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس . قلت : ويحتمل أن يكون قوله " أبوء لك بذنبي " أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه , لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا .
8. قوله ( فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له , وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل(1)وفيه " العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه".
9. قوله ( من قالها موقنا بها ) أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها .
10. قوله ( ومن قالها من النهار ) في رواية النسائي " فإن قالها حين يصبح " وفي رواية عثمان بن ربيعة"(2)لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح , أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي " .
11. قوله ( فهو من أهل الجنة ) في رواية النسائي " دخل الجنة " وفي رواية عثمان بن ربيعة " إلا وجبت له الجنة " .
__________
(1) حديث الإفك يقصد به الحديث الذي ذكر فيه افتراء المنافقين على السيدة عائشة إفكاً وزوراً فبرأها الله من فوق سبع سماوات فى سورة النور .
(2) لفظه عند الترمذي (عن عثمان بن ربيعة عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ألا أدلك على سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي وأعترف بذنوبي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح إلا وجبت له الجنة ولا يقولها حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي إلا وجبت له الجنة ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .(1/87)
12. قال ابن أبي جمرة(1): جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار , ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية , والاعتراف بأنه الخالق , والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه , والرجاء بما وعده به , والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه , وإضافة النعماء إلى موجدها , وإضافة الذنب إلى نفسه , ورغبته في المغفرة , واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو , انتهى ملخصا .
13. أيضا : من شروط الاستغفار صحة النية , والتوجه والأدب .
46عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ.
*وفى رواية لمسلم ( وَإِنْ أَصْبَحَ أَصَابَ خَيْرًا. ) .
الشرح : -
1. قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أخذت مضجعك ) معناه : إذا أردت النوم في مضجعك , فتوضأ والمضجع : بفتح الميم .
2. وفي هذا الحديث : ثلاث سنن مهمة مستحبة , ليست بواجبة :
? إحداها : الوضوء عند إرادة النوم , فإن كان متوضئا كفاه ذلك الوضوء ; لأن المقصود النوم على طهارة ; مخافة أن يموت في ليلته , وليكون أصدق لرؤياه , وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه , وترويعه إياه .
? الثانية النوم على الشق الأيمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن .
__________
(1) من شيوخ الحافظ ابن حجر .(1/88)
? والثالثة : ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله .
3. قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أسلمت وجهي إليك ) وفي الرواية الأخرى :
( أسلمت نفسي إليك) أي : استسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك . قال العلماء : الوجه والنفس هنا بمعنى الذات كلها .
4. ومعنى ( ألجأت ظهري إليك ) أي : توكلت عليك , واعتمدتك في أمري كله , كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده .
5. وقوله : ( رغبة ورهبة ) أي : طمعا في ثوابك , وخوفا من عذابك .
6. قوله صلى الله عليه وسلم : ( مت على الفطرة ) أي : الإسلام .
7. ( وإن أصبحت أصبت خير ) أي : حصل لك ثواب هذه السنن , واهتمامك بالخير , ومتابعتك أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .(1/89)
8. قوله : ( فرددتهن لأستذكرهن , فقلت : آمنت برسولك الذي أرسلت , قال : قل آمنت بنبيك الذي أرسلت )(1)
__________
(1) ما الفرق بين النبي والرسول ؟ ذكر الشيخ الصابوني فى كتابه النبوة و الأنبياء ، أن النبي هو : إنسان من البشر أوحى الله تعالى إليه بشرع ، لكنه لم يكلف بتبليغه . أما الرسول فهو : إنسان من البشر أوحى الله تعالى إليه بشرع و أمر بتبليغه . فالرسالة إذن أعلى من النبوة ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول ..روى أحمد (عن أبي أمامة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد جالسا وكانوا يظنون أنه ينزل عليه فأقصروا عنه حتى جاء أبو ذر فاقتحم فأتى فجلس إليه فأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر هل صليت اليوم قال لا قال قم فصل فلما صلى أربع ركعات الضحى أقبل عليه فقال يا أبا ذر تعوذ من شر شياطين الجن والإنس قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين قال نعم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ثم قال يا أبا ذر ألا أعلمك من كنز الجنة قال بلى جعلني الله فداءك قال قل لا حول ولا قوة إلا بالله قال فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله قال ثم سكت عني فاستبطأت كلامه قال قلت يا نبي الله إنا كنا أهل جاهلية وعبدة أوثان فبعثك الله رحمة للعالمين أرأيت الصلاة ماذا هي قال خير موضوع من شاء استقل ومن شاء استكثر قال قلت يا نبي الله أرأيت الصيام ماذا هو قال فرض مجزئ قال قلت يا نبي الله أرأيت الصدقة ماذا هي قال أضعاف مضاعفة وعند الله المزيد قال قلت يا نبي الله فأي الصدقة أفضل قال سر إلى فقير وجهد من مقل قال قلت يا نبي الله أيما نزل عليك أعظم قال الله لا إله إلا هو الحي القيوم آية الكرسي قال قلت يا نبي الله أي الشهداء أفضل قال من سفك دمه وعقر جواده قال قلت يا نبي الله فأي الرقاب أفضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها قال قلت يا نبي الله فأي الأنبياء كان أول قال آدم عليه السلام قال قلت يا نبي الله أو نبي كان آدم قال نعم نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه ثم قال له يا آدم قبلا قال قلت يا رسول الله كم وفى عدة الأنبياء قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جما غفيرا ) رقمه عند أحمد 21257.(1/90)
و سبب إنكاره صلى الله عليه وسلم ورده اللفظ , فقيل : إنما رده
9. لأن ( آمنت برسولك ) هذا ذكر ودعاء , فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه , وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف , ولعله أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات , فيتعين أداؤها بحروفها , وهذا القول حسن .
47. سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .(1/91)
(1)
الشرح : -
1. قوله : ( أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك ) معناه أمرنا الله تعالى بقوله تعالى : {صلوا عليه وسلموا تسليما }(2)صلى الله عليه وسلم فكيف نلفظ بالصلاة ؟ وفي هذا أن من أُمر بشيء لا يفهم مراده يسأل عنه ليعلم ما يأتي به . قال القاضي : ويحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة , ويحتمل أن يكون في الصلاة , قال : وهو الأظهر , قلت : وهذا ظاهر اختيار مسلم .
2. قوله : ( فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ) معناه كرهنا سؤاله مخافة من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كره سؤاله وشق عليه .
__________
(1) أعلم أن من لزم الصلاة على النبي كفاه الله هم الدنيا و الآخرة و غفر له [عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي فَقَالَ مَا شِئْتَ قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ ) رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
(2) الآية 56 من سورة الأحزاب .(1/92)
3. قوله صلى الله عليه وسلم : ( والسلام كما قد علمتم ) معناه قد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام علي فأما الصلاة فهذه صفتها , وأما السلام فكما علمتم في التشهد وهو قولهم : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .
4. وقوله : ( علمتم ) أي علمتكموه . وكلاهما صحيح .
5. قوله صلى الله عليه وسلم : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم , وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم ) قال العلماء معنى البركة(1)الزيادة من الخير والكرامة , وقيل : الثبات على ذلك , من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على الأرض , ومنه بركة الماء , وقيل : التزكية والتطهير من العيوب كلها .والله أعلم .
48. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .
الشرح : -
1. قوله ( من الكسل والهرم )الهرم هو الزيادة فى كبر السن.
__________
(1) البركة : يُمن ، صلاة ، خير ، نعمة وكلها جائز.(1/93)
2. قوله ( و المأثم والمغرم ) والمراد الإثم والغرامة , وهي ما يلزم الشخص أداؤه كالدين . وفسر صلى الله عليه وسلم سبب التعوذ" إنه من غرم حدث فكذب ووعد فأخلف"(1).
3. قوله ( ومن فتنة القبر ) هي سؤال الملكين , وعذاب القبر.
4. قوله ( ومن فتنة النار ) هي سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ , وإليه الإشارة بقوله تعالى ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ) .
5. قوله ( ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر ) قال الغزالي : فتنة الغنى الحرص على جمع المال وحبه حتى يكسبه من غير حله وبمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه , وفتنة الفقر يراد به الفقر المدقع الذي لا يصحبه خير ولا ورع حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة , ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب , ولا في أي حالة تورط . وقيل المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها , وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى ولا عكسه .
6. قوله ( وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ) في رواية وكيع " ومن شر فتنة المسيح الدجال ".
__________
(1) رواه البخاري وغيره ولفظه (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا يَتَعَوَّذُ مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَتَعَوَّذُ مِنْ الْمَغْرَمِ قَالَ إِنَّهُ مَنْ غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ ).(1/94)
7. قوله ( اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد إلخ) وحكمة العدول عن الماء الحار إلى الثلج والبرد مع أن الحار في العادة أبلغ في إزالة الوسخ الإشارة إلى أن الثلج والبرد ماءان طاهران لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال , فكان ذكرهما آكد في هذا المقام , أشار إلى هذا الخطابي . وقال الكرماني : وله توجيه آخر وهو أنه جعل الخطايا بمنزلة النار لكونها تؤدي إليها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدا في إطفائها , وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه وهو الثلج ثم إلى أبرد منه وهو البرد بدليل أنه قد يجمد ويصير جليدا , بخلاف الثلج فإنه يذوب .
49. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ . ( مسلم ) .
الشرح : -
1. قوله ( خفيفتان على اللسان إلخ ) قال الطيبي الخفة مستعارة للسهولة , شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات فلا يشق عليه , , وأما الثقل فعلى حقيقته لأن الأعمال تتجسم عند الميزان , والخفة والسهولة من الأمور النسبية .
2. وفي الحديث حث على المواظبة على هذا الذكر وتحريض على ملازمته , لأن جميع التكاليف شاقة على النفس . وهذا سهل ومع ذلك يثقل في الميزان كما تثقل الأفعال الشاقة فلا ينبغي التفريط فيه(1).
__________
(1) وروى البخاري ترغيباً فى هذا الذكر (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) .(1/95)
3. وقوله " حبيبتان إلى الرحمن " مثنى حبيبة وهي المحبوبة , والمراد أن قائلها محبوب لله , ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم , وخص الرحمن من الأسماء الحسنى للتنبيه على سعة رحمة الله , حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الجزيل , ولما فيها من التنزيه والتحميد والتعظيم .
4. وفي الحديث جواز السجع في الدعاء إذا وقع بغير كلفة .
50. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ .
الشرح : -
1. قوله ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ قوله " نعمتان " مثنى نعمة وهي الحالة الحسنة , وقيل هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير .
2. والغبن(1)يكون في البيع وفي الرأي , وعلى هذا فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس ولم يحمد رأيه في ذلك .
3. قال الطيبي : ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال , فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال , فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن , فالصحة والفراغ رأس المال , وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان , ومجاهدة النفس وعدو الدين , ليربح خيري الدنيا والآخرة وقريب منه قول الله تعالى ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) الآيات(2). وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح .
4. وقوله في الحديث " مغبون فيهما كثير من الناس " كقوله تعالى ( وقليل من عبادي الشكور ) فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية .
__________
(1) الغبن : الظلم ، و البغي .
(2) الآيات من آخر سورة الصف .(1/96)
5. وقال القاضي وأبو بكر بن العربي : اختلف في أول نعمة الله على العبد فقيل الإيمان , وقيل الحياة , وقيل الصحة , والأول أولى فإنه نعمة مطلقة , وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية , ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس أي يذهب ربحهم أو ينقص , فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن , وكذلك إذا كان فارغا فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ فإنه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة .
51. أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ .
الشرح : -
1. قوله ( كنا نرى ) بضم النون أوله أي نظن , ويجوز فتحها من الرأي أي نعتقد .
2. قوله ( ألهاكم التكاثر ) خرج على لفظ الخطاب لأن الله فطر الناس على حب المال والولد فلهم رغبة في الاستكثار من ذلك , ومن لازم ذلك الغفلة عن القيام بما أمروا به حتى يفجأهم الموت .
3. وفي حديث الباب ذم الحرص والشره ومن ثم آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة باليسير والرضا بالكفاف .
4. ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك ولا بد لكل أحد منه , فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .(1/97)
52. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا .
وقد رواه البخاري كذلك فى كتاب الإيمان باب الدين يسر (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَ أَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ ) .
الشرح : -(1/98)
1. قوله ( لن ينجي أحدا منكم عمله ) قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال , فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال , وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها . ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى ( سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال , وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث , والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون , وليس المراد بذلك أصل الدخول . ثم قال : ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية , والتقدير ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم , لأن اقتسام منازل الجنة برحمته , وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك , ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله , وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم . وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية , فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة كل ذلك لم يستحقه العامل بعمله . وإنما هو بفضل الله وبرحمته .
2. قوله ( قالوا ولا أنت يا رسول الله ) ؟ قال الكرماني : إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى . وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ " لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار , ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى " .
3. قوله ( إلا أن يتغمدني الله ) و في رواية " إلا أن يتداركني " .(1/99)
4. قوله ( برحمة ) و في رواية " بفضلٍ ورحمة " وفي رواية " بفضل رحمته " قال أبو عبيد : المراد بالتغمد الستر , وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد(1)وسترته به .
5. قال الرافعي : في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات لأنه إنما عمل بتوفيق الله , وإنما ترك المعصية بعصمة الله , فكل ذلك بفضله ورحمته .
6. قوله : ( ولن يشاد الدين أحدُ إلا غلبه ) المعنى لا يتشدد أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب .
7. قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة , فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع(2)في الدين ينقطع , وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة , بل منع الإفراط المؤدى إلى الملال , أو المبالغة في التطوع المفضى إلى ترك الأفضل , أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة , أو إلى أن خرج الوقت المختار , أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة , وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة , وخير دينكم اليسرة " .
8. وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية , فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع , كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضى به استعماله إلى حصول الضرر .
__________
(1) الغمد : هو جراب السيف .
(2) متنطع : متشدد ، كما قال صلى الله عليه وسلم ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلاثًا) رواه مسلم .وقال النووي فى شرحه (قوله صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ) أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . ) .(1/100)
9. قوله ( سددوا ) في رواية عند مسلم " ولكن سددوا " ومعناه أي الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط , قال أهل اللغة : السداد التوسط في العمل ، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور(1)نفي فائدة العمل , فكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب أي اتباع السنة من الإخلاص(2)وغيره(3)ليقبل عملكم فينزل عليكم الرحمة .
10. قوله ( وقاربوا ) أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه ، و لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا.
11. قوله : ( و أبشروا ) أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل , والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره , وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما .
12. قوله : ( واستعينوا بالغدوة ) أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة . والغدوة بالفتح سير أول النهار , وقال الجوهري : ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس .
13. ( والروحة ) بالفتح السير بعد الزوال .
14. (الدلجة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل , وقيل سير الليل كله , ولهذا عبر فيه بالتبعيض فقال وشئ من الدلجة , ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار .
__________
(1) يقصد نفي دخول الجنة بالأعمال .
(2) الإخلاص : هو تجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب . ذكره الإمام الغزالي فى الإحياء .
(3) وغيره : أعلم يرحمك الله أن العمل المقبول يجب أن يتوافر فيه الإخلاص فى النية ( لحديث إنما الأعمال بالنيات ) ، و كذلك يجب موافقته للسنة
( لحديث من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) رد أي باطل مردود عليه غير مقبول . بالإضافة إلى استكمال متطلبات العمل نفسه من شروط و أركان وواجبات وسنن إلى أخر ذلك و الله أعلم .(1/101)
15. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر , وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه , لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع , وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة . وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة , وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة .
16. وقوله " القصد القصد " بالنصب فيهما على الإغراء , والقصد الأخذ بالأمر الأوسط . أي الزموا الطريق الوسط المعتدل . واللفظ الثاني للتأكيد .
17. وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة, وعبر بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة .
18. ووقفتُ(1)على سبب لهذا الحديث : فأخرج ابن ماجه من حديث جابر قال " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي على صخرة فأتى ناحية فمكث ثم انصرف فوجده على حاله فقام فجمع يديه ثم قال : أيها الناس عليكم القصد , عليكم القصد " .
__________
(1) الكلام للحافظ ابن حجر فى الفتح .(1/102)
53. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ(1)
__________
(1) أعلم يرحمك الله أننا محاسبون بما نقول مصداقاً لقوله تعالى فى سورة ق { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(16)إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(17)مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)..ومصدقاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ ثُمَّ تَلَا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَ إِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ) رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
و أعلم أن ذنوب اللسان كثيرة ، منها [ قول الزور ، الفحش ، التنابز بالألقاب ، الغيبة ، النميمة ، الهمز ، اللمز ، السباب ، الاختيال ، القذف ، التعيير ]، وغيرها كثير فاحذرها .و للاستزادة و استوضاح ما سبق عليك بكتب الرقائق و التهذيب مثل المستخلص فى تزكية الأنفس للشيخ سعيد حوى ، و مختصر منهاج القاصدين ، وغيرها .(1/103)
بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ .
الشرح : -
1. قوله ( لا يلقي لها بالا ) أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئا , وهو من نحو قوله تعالى ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم )(1)وقد وقع في حديث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ " إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة " وقال في السخط مثل ذلك .
2. قوله ( يُهْوِى ) قال عياض : المعنى ينزل فيها ساقطا . وقد رُوي بلفظ " ينزل بها في النار " لأن درجات النار إلى أسفل , فهو نزول سقوط . ورواه الترمذي بلفظ " لا يرى بها باسأ يهوى بها في النار سبعين خريفا "
__________
(1) { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } النور (15)(1/104)
54. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً .
الشرح : -
1. قوله ( فيما يروى عن ربه ) هذا من الأحاديث القدسية(1)
2. قوله ( إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات ) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير قال الله إن الله كتب , ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عن فعل الله تعالى
3. (وقوله كتب ) أي أمر الحفظة أن تكتب ،وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رفعه قال : " قالت الملائكة : رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة , وهو أبصر به(2), فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها " .
__________
(1) الحديث القدسي : هو ما يرويه المصطفى عن ربه معناً بأي لفظٍ شاء . والقرآن : لفظه ومعناه لله سبحانه وتعالى .
والحديث الشريف : لفظه ومعناه للنبي صلى الله عليه وآله و سلم و إن كان لا ينطق عن الهوى .
(2) أبصر به : صيغة مفاضلة أي أن الله أبصرُ بعبده من الملائكة وهو للتقريب إلى أذهاننا إذ لا وجه لمقارنته - سبحانه وتعالى - بخلقه .(1/105)
4. قوله ( فمن هم ) المراد بالهم هنا العزم . ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل . لما رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه " ومن هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها " .
5. قوله ( كتبها الله له ) أي للذي هم بالحسنة ( عنده ) أي عند الله ( حسنة كاملة ) قال النووي : أشار بقوله " عنده " أي عند الله إلى مزيد الاعتناء به , وبقوله " كاملة " إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها , وعكس ذلك في السيئة فلم يصفها بكاملة بل أكدها بقوله " واحدة " إشارة إلى تخفيفها مبالغة في الفضل والإحسان . ومعنى قوله : " كتبها الله " أمر الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ : " إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها " .
6. وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك , ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني قال : " ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا , فيقول يا رب إنه لم يعمله , فيقول إنه نواه " وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة وبالحسنة رائحة طيبة , وأخرج ذلك الطبري
7. قوله ( فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات ) أي إذا هم بحسنة فإن كتبت له حسنة عملها كملت له عشرة, وكذا السيئة إذا عملها لا تكتب واحدة للهم وأخرى للعمل بل تكتب واحدة فقط .(1/106)
8. وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة }(1)الآية , وقوله { اجتنبوا كثيرا من الظن }(2)وغير ذلك.
55. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .
الشرح : -
1. قوله ( أُحِل ) أي أنزل .
__________
(1) سورة النور (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(19).
(2) سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(12) .(1/107)
2. قوله ( رضواني ) بكسر أوله وضمه , وفي حديث جابر قال " رضواني أكبر " وفيه تلميح بقوله تعالى( ورضوان من الله أكبر)(1)لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة , وكل من علم أن سيده راض عنه كان أقر لعينه وأطيب لقلبه من كل نعيم لما في ذلك من التعظيم والتكريم .
3. وفي هذا الحديث أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه .
56. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ .
الشرح : -
1. وفي رواية : ( ما من مولود يولد إلا وهو على الملة ) وفي رواية ( ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه قالوا : يا رسول الله , أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ) ، وفي رواية : ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا , ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وفي حديث عائشة عند مسلم : (عن عائشة أم المؤمنين قالت توفي صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا) .
__________
(1) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) التوبة (72) .(1/108)
2. أجمع من يعتد به من علماء المسلمين(1)على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة ; لأنه ليس مكلفا . وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا , وأجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع , كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله أعطه إني لأراه مؤمنا( قال أو مسلما)(2)الحديث . ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة , فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ)(3)وغير ذلك من الأحاديث . والله أعلم .
__________
(1) هذا نص كلام الشيخ يحي بن شرف النووي في شرح مسلم .
(2) رواه البخاري و مسلم ولفظ البخاري (عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ أَوْ مُسْلِمًا فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ أَوْ مُسْلِمًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ يَا سَعْدُ إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ).
(3) رواه البخاري .(1/109)
3. وأما أطفال المشركين فالصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة , ويستدل له بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة , وحوله أولاد الناس قالوا : يا رسول الله , وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " رواه البخاري في صحيحه . ومنها قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ , وهذا متفق عليه . والله أعلم .
4. وأما الفطرة المذكورة في هذه الأحاديث قيل : هي ما أخذ عليه في أصلاب آبائهم .
5. ومعناه أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام , فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا،وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا وهذا معنى ( يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) , أي يحكم له بحكمهما في الدنيا . فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما , فإن كانت سبقت له سعادة أسلم , وإلا مات على كفره . وإن مات قبل بلوغه فهل هو من أهل الجنة أم النار أم يتوقف فيه فالأصح أنه من أهل الجنة
6. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( كما تنتجون البهيمة ) معناه كما تلد البهيمة بهيمة .
7. (جدعاء ) وهي مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء . ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها , وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها.
57. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ.
الشرح : -(1/110)
1. ومن أحسن تعريفات الكبيرة قول القرطبي في المفهم(1)" كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة " وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو اللعن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث الصحيحة والحسنة ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة.
2. قوله ( الكبائر الإشراك بالله إلخ ) ذكر هنا ثلاثة أشياء بعد الشرك وهو العقوق وقتل النفس واليمين الغموس , المراد بالكبائر في الحديث أكبر الكبائر , وقد ورد من وجه آخر عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بلفظ " من أكبر الكبائر " .
__________
(1) كتاب المفهم شرح صحيح مسلم للشيخ أحمد بن فرح القرطبي .(1/111)
3. ( قوله واليمين الغموس ) سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها فى النار ، وهي زور وبهتان . وهيئتها أن يقسم زوراً ليقتطع بالقسم حق غيره فيعتدى بذلك عليه(1).
4. واستدل به الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة لها.
5. ونقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن "لا كفارة في اليمين الغموس " .
6. وأجاب من قال بالكفارة كالحكم وعطاء والأوزاعي ومعمر والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا , والذي يجب عليه هو : - الرجوع إلى الحق ورد المظلمة .فإن لم يفعل فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي بل تنفعه في الجملة .
__________
(1) رواه البخاري (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ فَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ قُلْتُ لا قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) آل عمران .(1/112)
7. ومن حجة الشافعي قول النبي في الحديث {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ}(1)فأمر من تعمد الحنث أن يكفر فيؤخذ منه مشروعية الكفارة لمن حلف حانثا .
58. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَلا أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً قَالُوا أَلا شَهْرُنَا هَذَا قَالَ أَلا أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً قَالُوا أَلا بَلَدُنَا هَذَا قَالَ أَلا أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً قَالُوا أَلا يَوْمُنَا هَذَا قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ أَلا نَعَمْ قَالَ وَيْحَكُمْ أَوْ وَيْلَكُمْ لا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ .
الشرح : -
1. قوله ( ألا أي شهر تعلمونه ؟ ) هو بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف افتتاح للتنبيه لما يقال , وقد كررت في هذه الرواية سؤالا و جوابا .
2. وقوله في هذه الرواية " أي يوم تعلمونه أعظم حرمة ؟ قالوا : يومنا هذا " وكان ذلك يوم النحر .
3. وقوله صلى الله عليه وسلم : " ويحكم أو قال ويلكم " هما كلمتان استعملتهما العرب بمعنى التعجب والتوجع . ( ويح ) لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له .
( ويل ) للذي يستحقها , ولا يترحم عليه . والله أعلم .
4. قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وأظهر الأقوال وهو اختيار القاضي عياض رحمه الله . أنه فعل كفعل الكفار .
__________
(1) صحيح رواه مسلم و الترمذي ومالك .(1/113)
5. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفارا ) معناه بعد فراقي من موقفي هذا , وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع , أو يكون بعدي أي خلافي أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به , أو يكون تحقق صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته .
6. وقوله ( في حجة الوداع ) سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم , وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها , فقال صلى الله عليه وسلم : " لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ الْغَائِبَ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ الشَّاهِدِ "(1).
__________
(1) وهو أمر من الحبيب لأمته بنشر حديثه صلى الله عليه وسلم فرب مبلغ أوعى من سامع . بل ورغبا الحبيب أمته فى نشر السنة فقال (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمُْ .) رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود ) و نضر تعنى : البريق و حسن الوجه ، يُغل : لا يصيب القلب حقد أو شحناء إذا تمسك بهذه الثلاثة المذكورة .(1/114)
59. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا .
الشرح : -
1. قوله ( أن قريشا ) والمراد بهم هنا من أدرك القصة التي تذكر بمكة .
2. قوله ( أهمتهم المرأة ) أي جلبت إليهم هماً أو صيرتهم ذوي هم بسبب ما وقع منها , يقال أهمني الأمر أي أقلقني ,
3. وسبب همهم ذلك خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص في الحدود , وكان قطع السارق معلوما عندهم قبل الإسلام , ونزل القرآن بقطع السارق فاستمر الحال فيه ,
4. قوله ( المخزومية ) نسبة إلى مخزوم, ومخزوم أخو كلاب بن مرة الذي نسب إليه بنو عبد مناف(1).
5. قال ابن عبد البر في " الاستيعاب " : فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد هي التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها لأنها سرقت حليا فكلمت قريش أسامة فشفع فيها وهو غلام . الحديث .
__________
(1) أعلم أن بني عبد مناف هم قوم النبي لأن نسبه ( محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر و هو قريش وقريش ينتهي إلى عدنان و عدنان ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ) .(1/115)
6. قصة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح , فظهر تغاير القصتين وأن بينهما أكثر من سنتين
7. قوله ( فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي يشفع عنده فيها أن لا تقطع إما عفوا وإما بفداء , وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود ولفظه بعد قوله أعظمنا ذلك " فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : نحن نفديها بأربعين أوقية , فقال : تطهر خير لها "(1)
__________
(1) الحديث عند ابن ماجه (عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمْنَا ذَلِكَ وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَجِئْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُكَلِّمُهُ وَقُلْنَا نَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُطَهَّرَ خَيْرٌ لَهَا فَلَمَّا سَمِعْنَا لِينَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيْنَا أُسَامَةَ فَقُلْنَا كَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ مَا إِكْثَارُكُمْ عَلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَعَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَاءِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ نَزَلَتْ بِالَّذِي نَزَلَتْ بِهِ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا ) ..(1/116)
وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف(1)الذي زنى بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة . ووجدت لحديث مسعود هذا شاهدا عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو " أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قومها : نحن نفديها " .
8. قوله ( من يجترئ عليه ) والجرأة هي الإقدام بإدلال , والمعنى لا يجترئ عليه أحد لمهابته , لكن أسامة له عليه إدلال فهو يجسر على ذلك . ووقع في حديث مسعود بن الأسود بعد قوله تطهر خير لها " فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة ".
__________
(1) قصة العسيف أي الأجير ذكرها البخاري فى صحيحه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَ الْعَسِيفُ الأَجِيرُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأُمِرَ أُنَيْسٌ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا ) .(1/117)
9. قوله ( حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بكسر الحاء بمعنى محبوب.
10. قوله ( فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية " فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها ) فأفادت هذه الرواية أن الشافع يشفع بحضرة المشفوع له ليكون أعذر له عنده إذا لم تقبل شفاعته .
11. قوله ( فقال : أتشفع في حد من حدود الله ) بهمزة الاستفهام الإنكاري لأنه كان سبق له منع الشفاعة في الحد قبل ذلك , زاد يونس وشعيب " فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله ".
12. قوله ( ثم قام فخطب ) في رواية فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا " .
13. قوله ( إنما ضل من كان قبلكم ) في رواية " إنما هلك بنو إسرائيل ".
14. قوله ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ) هذا من الأمثلة التي صح فيها أن لو حرف امتناع لامتناع(1)وكان الليث بن سعد رحمه الله يقول عقب هذا الحديث : قد أعاذها الله من أن تسرق " وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا , وإنما خص صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته بالذكر لأنها أعز أهله عنده , ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها , فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف وترك المحاباة في ذلك .
15. وفي حديث عبد الله ابن عمرو عند أحمد أنها قالت(2)" هل لي من توبة يا رسول الله ؟ فقال : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " .
16. وفي هذا الحديث من الفوائد :-
? منع الشفاعة في الحدود ، قال أبو عمر بن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان , وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته . وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عُرف بأذى الناس ومن لم يُعرف , فقال : لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا , وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام .
? وفيه دخول النساء مع الرجال في حد السرقة .
__________
(1) أي امتنعت الزهراء من السرقة فامتنع القطع .
(2) يقصد السارقة .(1/118)
? وفيه قبول توبة السارق .
? ومنقبة لأسامة .
? وفيه ما يدل على أن فاطمة عليها السلام عند أبيها صلى الله عليه وسلم في أعظم المنازل.
? وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه .
? وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل .
? وفيه أن من حلف على أمر لا يتحقق أنه يفعله أو لا يفعله لا يحنث كمن قال لمن خاصم أخاه : والله لو كنت حاضرا لهشمت أنفك , خلافا لمن قال يحنث مطلقا .
? وفيه جواز التوجع لمن أقيم عليه الحد بعد إقامته عليه وقد حكى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بنت سفيان أن امرأة أسيد بن حضير أوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعاما وأن أسيدا ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كالمنكر على امرأته فقال : رَحِمتها رحِمَها الله .
? وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولا سيما من خالف أمر الشرع .
60. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ .
الشرح : -
1. قول ( اجتنبوا السبع الموبقات ) أي المهلكات , والمراد بالموبقة هنا الكبيرة .(1/119)
2. ومن أحسن تعريفات الكبيرة قول القرطبي في المفهم(1)" كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة " وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو اللعن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث الصحيحة والحسنة ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة.
3. وأما ( المحصنات الغافلات ) والمراد بالمحصنات هنا العفائف , وبالغافلات(2)الغافلات عن الفواحش , وما قذفن به . وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام : العفة , والإسلام , والنكاح , والتزويج , والحرية .
4. وأما عده صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من الكبائر فدليل صريح لمذهب العلماء كافة في كونه كبيرة إلا ما حكي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : ليس هو من الكبائر . والله أعلم .
5. وأما عده صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر فهو دليل لمذهبنا الصحيح المشهور . ومذهب الجماهير أن السحر حرام من الكبائر ، فِعْلهُ ، وتعلُمهُ ، وتَعْلِيمه .
61. عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ .
الشرح : -
1. قوله ( لأنصر هذا الرجل ) هو علي بن أبي طالب وكان الأحنف تخلف عنه في وقعة الجمل .
__________
(1) كتاب المفهم شرح صحيح مسلم للشيخ أحمد بن فرح بالقرطبي .
(2) الغافلات جمع غافلة ، والغافلة هي الساهية .(1/120)
2. قوله ( في النار ) أي إن أنفذ الله عليهما ذلك لأنهما فَعَلا فِعْلاً يستحقان أن يعذبا من أجله.
3. وقوله " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " قال الخطابي : هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا ,فأما من قاتل أهل البغي أو دفع المعتدى فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له في القتال شرعا.
62. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ .
الشرح(1): -
1. هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام . قال العلماء رحمهم الله : معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل , ورسوله صلى الله عليه وسلم , وإيثارا ذلك على عرض الدنيا , ومحبة العبد ربه - سبحانه وتعالى ; بفعل طاعته , وترك مخالفته , وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2. قال القاضي رحمه الله : هذا الحديث بمعنى حديث: ( ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربا , وبالإسلام دينا , وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا )(2)وذلك أنه لا يصح المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة وحب الآدمي في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكراهة الرجوع إلى الكفر إلا لمن قوي بالإيمان يقينه , واطمأنت به نفسه , وانشرح له صدره , وخالط لحمه ودمه . وهذا هو الذي وجد حلاوته .
3. قال : والحب في الله(3)من ثمرات حب الله .
4. قال بعضهم : المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه ; فيحب ما أحب , ويكره ما كره .
__________
(1) والشرح للإمام النووي .
(2) رواه مسلم
(3) أعلم أن الحب فى الله و البغض فى الله من لوازم الإيمان .(1/121)
5. و أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب , ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان , ويستحسنه كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا , وقد يكون لإحسانه إليه , ودفعه المضار والمكاره عنه . وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن , وكمال خلال الجلال , وأنواع الفضائل , وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم , ودوام النعم , والإبعاد من الجحيم . وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق الله تعالى , فإن الخير كله منه سبحانه وتعالى . قال مالك وغيره : المحبة في الله من واجبات الإسلام . هذا كلام القاضي رحمه الله .(1/122)
6. ومن محبته صلى الله عليه وسلم(1)نصرة سنته , والذب عن شريعته , وتمني حضور حياته ; فيبذل ماله ونفسه دونه . قال : وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك , ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد , وولد , ومحسن , ومفضل . ومن لم يعتقد هذا , واعتقد سواه , فليس بمؤمن . هذا كلام القاضي رحمه الله . والله أعلم .
7. و اعلم أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ; لأن به صلى الله عليه وسلم استُنقذنا من النار , وهُدينا من الضلال .
8. قوله (وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ) واعلم أن الحب فى الله و البغض فى الله من أهم أسس الدين .
9. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( يعود أو يرجع ) فمعناه يصبح أي أنه يكره أن يصبح كافراً كما يكره أن يلقى به فى النار . والله أعلم .
__________
(1) ومن محبته صلى الله عليه وسلم كثرة صلاتك عليه روى مسلم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يُرَى الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرَى فِي وَجْهِكَ بِشْرًا لَمْ نَكُنْ نَرَاهُ قَالَ أَجَلْ إِنَّ مَلَكًا أَتَانِي فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ لَكَ أَمَا يُرْضِيكَ أَنْ لا يُصَلِّيَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَلا يُسَلِّمَ عَلَيْكَ إِلا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا قَالَ قُلْتُ بَلَى . ) . ألا يكفيك أنك عندما تصلى على النبي تشترك مع الملأ الأعلى فى الصلاة عليه (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) الأحزاب (56) . الْبِشْرُ : السرور .(1/123)
63. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ .
الشرح : -
1. قوله (وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ) زاد في نسخة "بالله" . قوله ( ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره ) في رواية " فإنها لن تضره " ,
2. فحاصل ما ذكر من أبواب الرؤيا الصالحة ثلاث أشياء : أن يحمد الله عليها , وأن يستبشر بها , وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره .
3. وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء : أن يتعوذ بالله من شرها , ومن شر الشيطان , وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا , ولا يذكرها لأحد أصلا .
4. ووقع عند البخاري عن أبي هريرة خامسة وهي الصلاة ولفظه " فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل "(1)
__________
(1) 130حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَقُولُ هَذِهِ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ حَدِيثُ النَّفْسِ وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ وَبُشْرَى مِنْ اللَّهِ فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلَا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ .(1/124)
5. وزاد مسلم سادسة وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه فقال " عن جابر رفعه إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق على يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " .
6. وفي الجملة فتكمل الآداب ستة الأربعة الماضية والصلاة والتحول ,
7. ورأيت(1)في بعض الشروح . ذكر سابعة وهي قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك مستندا فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة " ولا يقربنك شيطان فحسن ".
8. وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور :
? فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح وهي مشروعة عند كل أمر يكره .
? وأما الاستعاذة من الشيطان فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه كما تقدم .
? وأما التفل فقال عياض : أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا , وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها . قلت : والتثليث للتأكيد.
? وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث للمباشر للرقية المقارن للذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء
? وقال القرطبي في " المفهم " : الصلاة تجمع ذلك كله , لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء واستعاذ قبل القراءة ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه .
__________
(1) وما زال الكلام للشيخ ابن حجر فى الفتح .(1/125)
9. وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك قال : " بلغني أن خالد بن الوليد قال : يا رسول الله إني أروع(1)في المنام فقال : قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعذابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون "(2).
__________
(1) أُروع : بالبناء للمجهول يأتيني ما يُفزعني أثناء نومي .
(2) وشرحه من المنتقى ( قوله صلى الله عليه وسلم قل أعوذ بكلمات الله التامة وصفها ) بالتمام على الإطلاق يحتمل - والله أعلم - أن يريد به أنه لا يدخلها نقص وإن كان كلمات غيره يدخلها النقص و يحتمل أن يريد بذلك الفاضلة يقال فلان تام وكامل أي فاضل ويحتمل أن يريد به الثابت حكمها قال : الله عز وجل : " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " . وقوله صلى الله عليه وسلم
( من غضبه ) قال : القاضي أبو بكر بن العربي غضب الباري تعالى إرادته عقوبة من غضب عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم (وعقابه ) راجع إلى معنى غضبه. وقوله صلى الله عليه وسلم (وشر عباده ) يحتمل أن يريد به أن شر عذابه ما كان في الآخرة على وجه الانتقام والغضب وما كان في الدنيا من الأمراض والآلام على سبيل التكفير لا يوصف بذلك ويحتمل أن يريد به أن عذابه كله مما يوصف بالشر وأن ما كان في الدنيا من الأمراض والآلام مما يكفر به الخطايا لا يوصف بأنه عذاب . ( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم ( ومن همزات الشياطين) قال : قوم معناه أن تصيبني بشر .وقوله صلى الله عليه وسلم (وأن يحضرون) من قولهم موضع محتضر يصاب الناس فيه
(
أي أعوذ بك ربى أن يكونوا حاضرين مكاني هذا الذى أنا فيه ) . وسئل مالك عمن به لمم ( أي من الجن ) فقيل له إن شئت أن تقتل صاحبك فقال : لا علم لي بهذا وهذا من الطب قال : وكان معدن ( أي منجم يستخرج منه أحد المعادن ) لا يزال يصاب فيه إنسان من قِبل الجن ( أي أن الجان يصيب من يدخل المكان ) فشكوا ذلك إلى زيد بن أسلم فأمرهم بالأذان يؤذن كل إنسان ويرفعون أصواتهم ففعلوا فانقطع ذلك عنهم .(1/126)
10. وقال القرطبي في " المفهم " : ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا يعني ما كان فيه تهويل أو تخويف أو تحزين هو المأمور بالاستعاذة منه لأنه من تخيلات الشيطان , فإذا استعاذ الرائي منه صادقا في التجائه إلى الله وفعل ما أمر به من التفل والتحول والصلاة أذهب الله عنه ما به وما يخافه من مكروه ذلك ولم يصبه منه شيء .
11. وقيل بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي بتناول ما يتسبب به الشيطان وما لا تسبب له فيه , وفعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه كما جاء أن الدعاء يدفع البلاء والصدقة تدفع ميتة السوء وكل ذلك بقضاء الله وقدره .
12. وأما ما يرى أحيانا مما يعجب الرائي ولكنه لا يجده في اليقظة ولا ما يدل عليه فإنه يدخل في قسم آخر وهو ما كان الخاطر به مشغولا قبل النوم ثم يحصل النوم فيراه فهذا قسم لا يضر ولا ينفع(1).
64. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
الشرح(2): -
1. و فى الحديث أن كل من كان تحت رعايته شيء فهو مطالب بالعدل فيه , والقيام بمصالحه في دينه ودنياه و متعلقاته .
2. قوله : ( ألا ) للتنبيه .
__________
(1) وهو ما سماه الرسول حديث النفس [ هامش 125 ] .
(2) من تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي .(1/127)
3. ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما أؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه .
4. والرعية كل من شمله حفظ الراعي ونظره .
5. (فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) فيمن ولي عليهم .
6. ( ومسئول عن رعيته ) هل راعي حقوقهم أو لا .
7. ( والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول رَعِيَّتِهِ ) هل وفاهم حقهم من نحو نفقة وكسوة وحسن عشرة .
8. (والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده) المرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده أي بحسن تدبير المعيشة والنصح له والشفقة والأمانة وحفظ نفسها وماله وأطفاله و أضيافه. ( وهي مسئولة عنهم ) أي عن بيت زوجها هل قامت بما عليها أو لا .
9. (وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ) بحفظه والقيام بما يستحقه عليه من حسن خدمته ونصحه .
10. قال الخطابي : اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذكر في التسمية أي في الوصف بالراعي ومعانيهم مختلفة , فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم , ورعاية الرجل أهله سياسة لأمرهم وإيصالهم حقوقهم , ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك , ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمته .(1/128)
11. ( ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) قال الطيبي في هذا الحديث : إن الراعي ليس مطلوبا لذاته وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك , فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه , وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه , فإنه أجمل أولا ثم فصل وأتى بحرف التنبيه مكررا . قال والفاء في قوله : ألا فكلكم جواب شرط محذوف , وختم بما يشبه الفذلكة إشارة إلى استيفاء التفصيل . وقال غيره : دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد , فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلا ونطقا واعتقادا , فجوارحه وقواه وحواسه رعيته , ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعيا أن لا يكون مرعيا باعتبار آخر .
12. أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما من راع إلا يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم أضاعه .
13. وأخرج ابن عدي و الطبراني في الأوسط عن أنس مثل حديث ابن عمر المذكور وزاد في آخره فأعدوا للمسألة جوابا , قالوا وما جوابها ؟ قال أعمال البر(1). ذكره الحافظ في الفتح وقال حديث حسن .
__________
(1) البر : اسم جامع لجميع أعمال الخير .(1/129)
65. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى(1).
__________
(1) *و عن الأمر بطاعة الرسول ، قال تعالى فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) } . قال القرطبي [ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ] أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي . وقال تعالى فى سورة النساء { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80)}. و حفيظاً : أي حافظاً لهم من الوقوع فى المعصية . و قال جل و علا فى سورة الحشر { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7) } .
*و روى البخاري و مسلم عن أبى هريرة (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ ) . قال السندي فى شرح هذا الحديث قوله ( من أطاعني ) يريد أنه مبلغ عن الله فمن أطاعه فيما بلغ فقد أطاع الآمر الحقيقي ومثله المعصية وهذا مضمون قوله تعالى ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) لكن الآية تفيد كذلك أنه ليس على الرسول وبال معصية من عصي إذ ليس عليه إلا البلاغ لا الحفظ من المعصية .
*و منه الحديث الذى بين أيدينا ، و الآيات و الأحاديث فى ذلك أكثر من أن تحصر .(1/130)
الشرح : -
1. قوله ( كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى ) أي امتنع و رفض.
2. وظاهر الحديث أن العموم مستمر لأن كلا من الحاضرين حينئذٍ لا يرفض و لا يمتنع عن دخول الجنة ولذلك قالوا " ومن يأبى " فبين لهم أن إسناد الامتناع إليهم عن دخول الجنة تعبيراً عن الامتناع عن سنته وهو عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم . فمن رفض إتباع السنة فقد رفض دخول الجنة .
3. والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان كافرا فهو لا يدخل الجنة أصلا وإن كان مسلما فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل إلا من شاء الله تعالى .
66. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ .
الشرح : -
1. قال النووي فى قوله صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع إلخ ) السنن بفتح السين والنون وهو الطريق .
2. والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم , والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات , لا في الكفر .
3. وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم .
4. قوله ( جحر ) بضم الجيم وسكون المهملة , و " الضب " الحيوان المعروف.
5. قوله ( قال فمن ) هو استفهام إنكار والتقدير : فمن غير اليهود و النصارى !!!.
6. وقد أخرج الطبراني " لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه ".
7. قال ابن بطال : أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم , وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر , والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس , وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس .(1/131)
67. عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلا اللَّهُ وَلا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلا اللَّهُ وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ .
الشرح : -
1. " لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله " ما ينقص من الخلقة وما يزداد فيها .
2. وقال الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة استعار للغيب مفاتيح اقتداء بما نطق به الكتاب العزيز ( وعنده مفاتح الغيب )(1)وليقرب الأمر على السامع لأن أمور الغيب لا يحصيها إلا عالمها وأقرب الأشياء إلى الاطلاع على ما غاب الأبواب , والمفاتيح أيسر الأشياء لفتح الباب فإذا كان أيسر الأشياء لا يعرف موضعها فما فوقها أحرى أن لا يعرف قال والمراد بنفي العلم عن الغيب الحقيقي فإن لبعض الغيوب أسبابا قد يستدل بها عليها لكن ليس ذلك حقيقيا قال فلما كان جميع ما في الوجود محصورا في علمه شبهه المصطفى بالمخازن واستعار لبابها المفتاح وهو كما قال تعالى ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ).(2)
__________
(1) سورة الأنعام [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) ] .
(2) سورة الحجر [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) ] .(1/132)
3. قال والحكمة في جعلها خمسا الإشارة إلى حصر العوالم فيها ففي قوله ( وما تغيض الأرحام ) إشارة إلى ما يزيد في النفس وينقص وخص الرحم بالذكر لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ومع ذلك فنفى أن يعرف أحد حقيقتها فغيرها بطريق الأولى .
4. وفي قوله ولا يعلم متى يأتي المطر إشارة إلى أمور العالم العلوي وخص المطر مع أن له أسبابا قد تدل بجري العادة على وقوعه لكنه من غير تحقيق .
5. وفي قوله " ولا تدري نفس بأي أرض تموت " إشارة إلى أمور العالم السفلي مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ولكن ليس ذلك حقيقة بل لو مات في بلده لا يعلم في أي بقعة يدفن منها ولو كان هناك مقبرة لأسلافه بل قبر أعده هو له .
6. وفي قوله " ولا يعلم ما في غد إلا الله " إشارة إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث وعبر بلفظ غد لتكون حقيقته أقرب الأزمنة وإذا كان مع قربة لا يعلم حقيقة ما يقع فيه مع إمكان الأمارة والعلامة فما بعد عنه أولى .
7. وفي قوله " ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " إشارة إلى علوم الآخرة فإن يوم القيامة أولها وإذا نفى علم الأقرب انتفى علم ما بعده .
8. فجمعت الآية أنواع الغيوب وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة وقد بين بقوله تعالى في الآية الأخرى وهي قوله تعالى ( فلا يظهر على غيبه أحدا , إلا من ارتضى من رسول )(1)أن الاطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوفيق من الله .
__________
(1) سورة الجن { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) } .(1/133)
68. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.
الشرح : -
1. قوله عز وجل :[ أنا عند ظن عبدي بي]. قيل : المراد به الرجاء والأمل فى العفو.
2. قوله تعالى : { وأنا معه حين يذكرني } أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية . وأما قوله تعالى : }وهو معكم أينما كنتم { فمعناه بالعلم والإحاطة .
3. قوله تعالى : [ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ] أي إذا ذكرني خاليا أثابه الله , وجازاه عما عمل بما لا يطلع عليه أحد .
4. قوله تعالى : } وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم { أي ذكره الله في خلائق من الملائكة , وهم خيرا من جميع المخلوقات إلا الأنبياء(1).
5. قوله تعالى : { وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا , وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا , وإن أتاني يمشي أتيته هرولة } هذا الحديث من أحاديث الصفات , ويستحيل إرادة ظاهره , ومعناه من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة , وإن زاد زدت , فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة , أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها , ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود , والمراد أن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه .و الله أعلى و أعلم .
__________
(1) شرح النووي بتصرف للاختصار.(1/134)
69. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ .
الشرح(1): -
1. قال النووي قال العلماء : محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له , وهدايته , وإنعامه عليه , ورحمته وبغضه إرادة عقابه , أو شقاوته , ونحوه وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين : أحدهما استغفارهم له , وثناؤهم عليه , ودعاؤهم . والثاني أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين , وهو ميل القلب إليه , واشتياقه إلى لقائه . وسبب حبهم إياه كونه مطيعا لله تعالى , محبوبا له .
2. ومعنى ( يوضع له القبول في الأرض ) أي الحب في قلوب الناس , ورضاهم عنه , فتميل إليه القلوب , وترضى عنه .
3. " قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في تعبيره عن كثرة ا إحسان الله إلى عبده بالحب تأنيس العباد وإدخال المسرة عليم لأن العبد إذا سمع عن مولاه أنه يحبه حصل على أعلى السرور عنده وتحقق بكل خير , ثم قال وهذا إنما يتأتى لمن في طبعه فتوة ومروءة وحسن إنابة كما قال تعالى ( وما يتذكر إلا من ينيب )(2)وأما من في نفسه رعونة وله شهوة غالبة فلا يرده إلا الزجر بالتعنيف والضرب .
__________
(1) الشرح من الفتح عدا النقطتان الأولى والثانية من شرح النووي لصحيح مسلم .
(2) سورة غافر آية 13 .(1/135)
4. قال : وفي تقديم الأمر بذلك لجبريل قبل غيره من الملائكة إظهار لرفيع منزلته عند الله تعالى على غيره منهم ,
5. قال ويؤخذ من هذا الحديث الحث على توفية أعمال البر على اختلاف أنواعها فرضها وسنتها .
6. ويؤخذ منه أيضا كثرة التحذير من المعاصي و البدع لأنها مظنة السخط وبالله التوفيق.
70. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الشرح :
1. ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو لائق بهم(1).
2. أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره . فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن في أدائها : وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل .
3. أو أن أفضل ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق .
4. أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة .
**********************
__________
(1) من تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي .(1/136)